كتاب : العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف : ابن رشيق القيرواني

باب في فضل الشعر
العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم؛ لفضل اللسان على اليد، والبعد عن امتهان الجسد؛ إذ خروج الحكمة عن الذات، بمشاركة الآلات؛ إذ لا بد للإنسان من أن يكون تولى ذلك بنفسه، أو احتاج فيه إلى آلة أو معين من جنسه.
وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور. ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهراً في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبه إذا كان منثوراً لم يؤمن عليه، ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب، ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدراً وأغلى ثمناً، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثوراً تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله، والواحدة من الألف، وعسى أن لا تكون أفضله، فإن كانت هي اليتيمة المعروفة، والفريدة الموصوفة؛ فكم في سقط الشعر من أمثالها ونظرائها لا يعبأ به، ولا ينظر إليه، فإذا أخذه سلك الوزن، وعقد القافية؛ تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وبناته، واتخذ اللابس جمالاً، والمدخر مالاً فصار قرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل الرءوس، يقلب بالألسن، ويخبأ في القلوب، مصوناً باللب، ممنوعاً من السرقة والغضب.
وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيداً محفوظاً، وأن الشعر أقل، وأكثر جيداً محفوظاً؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور.
وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا.
وقيل: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون؛ فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.
ولعل بعض الكتاب المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر؛ لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، وبلغ في الحاجة، والذي عليه في ذلك أكثر مما له؛ لأن الله تعالى إنما بعث رسوله أمياً غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك، حين استوت الفصاحة، واشتهرت البلاغة؛ آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازاً للمتعاطين، وجعله منثوراً ليكون أظهر برهاناً لفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون قادراً على ما يحبه من الكلام، وتحدى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك، كما قال الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " فكما أن القرآن أعجز الشعراء وليس بشعر، كذلك أعجز الخطباء وليس بخطبة، والمترسلين وليس بترسل، وإعجازه الشعراء أشد برهاناً، ألا ترى كيف نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم؟ فقالوا: هو شاعر، لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، وأنه يقع منه ما لا يلحق، والمنثور ليس كذلك، فمن ههنا قال الله تبارك وتعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " أي: لتقوم عليكم الحجة، ويصح قبلكم الدليل، ويشهد لذلك رواية يونس عن الزهري أنه قال: معناه ما الذي علمناه شعراً، وما ينبغي له أن يبلغ عنا شعراً.
وقال غيره: أراد وما ينبغي له أن يبلغ عنا ما لم نعلمه، أي: ليس هو ممن يفعل ذلك؛ لأمانته ومشهور صدقه. ولو أن كون النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر غض من الشعر لكانت أميته غضاً من الكتابة، وهذا أظهر من أن يخفي على أحد.

واحتج بعضهم بأن الشعراء أبداً يخدمون الكتاب، ولا تجد كاتباً يخدم شاعراً، وقد عميت عليهم الأنباء، وإنما ذلك لأن الشاعر واثق بنفسه. مدل بما عنده على الكاتب والملك؛ فهو يطلب ما في أيديهما ويأخذه، والكاتب بأي آية يفضل الشاعر فيرجو ما في يده؟ وإنما صناعته فضلة عن صناعته، على أن يكون كاتب بلاغة، فأما كاتب الخدمة في القانون وما شاكله فصانع مستأجر، مع أنه قد كان لأبي تمام والبحتري قهارمة وكتاب، وكان من عميان الشعراء كتاب أزمة كبشار وأبي علي البصير، وكان ابن الرومي من أكبر كتاب الدواوين، فغلب عليه الشعر؛ لأنه غلاب. وكما تجد من يمدح السوقة في الشعراء فكذلك تجد للسوقة كتاباً، وللتجار الباعة، في زمننا هذا وقبله.
ولما أهجم بهذا الرد، وأورد هذه الحجة، لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين، وحاز الفضيلتين، فهما نقطتان من بحره، ونوارتان من زهره، وسيرد في أضعاف هذا الكتاب من أشعاره ما يكون دليلاً على صدق ما قلته، إن شاء الله تعالى.
ومن فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة؛ فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهاراً للممدوح، كل ذلك حرص على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور، والكاتب لا يفعل ذلك إلا أن يفعله منظوماً غير منثور، وهذه مزية ظاهرة وفضل بين.
ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسن الكذب، واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل إلى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه، فأرسل إليه أخوه " ويحك إن النبي صلى الله عليه وسلم أوعدك لما بلغه عنك، وقد كان أوعد رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وإن من بقيء من شعراء قريش كابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقتل من جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجائك، فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متنكراً، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد أتى مستأمناً تائباً، أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن، فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمنه رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشد كعب قصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيه مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم ... أذنب، ولو كثرت في الأقاويل
فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته، فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم. وقال العتبي بعشرين ألفاً، وهي التي يتوارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد تبركاً بها.
وذكر جماعة منهم عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي الشاعر أنه أعطاه مع البردة مائة من الإبل، قال: وقال الأحوص يذكر عمر بن عبد العزيز عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم كعباً، وقد توقف في عطاء الشعراء:
وقبلك ما أعطى هنيدة جلة ... على الشعر كعباً من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والأصائل
واعتذر حسان بن ثابت من قوله في الإفك بقوله لعائشة رضي الله عنها في أبيات مدحها بها:
حصان رزان ما تزن بريبةٍ ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
يقول فيها:
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
ثم يقول:
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل

فاعتذر كما تراه مغالطاً في شيء نفذ فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد، وزعم أن ذلك قول امرئ ماحل، أي: مكايد، فلم يعاقب لما يرون من استخفاف كذب الشاعر، وأنه يحتج به ولا يحتج عليه.
وسئل أحد المتقدمين عن الشعراء فقال: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم.
حكى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري أن كعب الأحبار قال له عمر بن الخطاب وقد ذكر الشعر: يا كعب، هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوماً من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب.
وقيل: ليس لأحد من الناس أن يطري نفسه ويمدحها، في غير منافرة، إلا أن يكون شاعراً، فإن ذلك جائز له في الشعر، غير معيب عليه.
وقال بعضهم وأظنه أبا العباس الناشئ العلم عند الفلاسفة ثلاث طبقات: أعلى، وهو ما غاب عن الحواس فأدرك بالعقل أو القياس، وأوسط، وهو علم الآداب النفيسة التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون، وأسفل، وهو العلم بالأشياء الجزئية والأشخاص الجسيمة، فوجب إذا كانت العلوم أفضلها ما لم تشارك فيه الجسوم أن يكون أفضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات، وإذا كانت اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم من لحنه لا محالة، فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل. هذا معنى الكلام المنقول عنه مختصراً وليس نصاً.
فإن قيل في الشعر: إنه سبب التكفف، وأخذ الأعراض، وما أشبه ذلك؛ لم يلحقه من ذلك إلا ما يلحق المنثور.
ومن فضائله أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقييد العلوم والأشياء النفيسة والطبيعية التي يخشى ذهابها، فكيف ظنك بالعرب الذي هو فخرها العظيم وقسطاسها المستقيم؟ وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به، مسقطة لمروءته، ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتكسوه جلالة الحكمة.
فأما قيامه وجلوس اللحون فلأن هذا متشوف إليه، يحب إسماع من بحضرته أجمعين، بغير آلة ولا معين، و لا يمكنه ذلك إلا قائماً أو مشرفاً، وليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك الخطيب، وصاحب اللحون لا يمكنه القيام لما في حجره كرامة منه على القوم، على أن منهم من كان يقوم بالدف والمزهر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً " وقيل " لحكمة " : فقرن البيان بالسحر فصاحة منه صلى الله عليه وسلم، وجعل من الشعر حكماً؛ لأن السحر يخيل للإنسان ما لم يكن للطافته وحيلة صاحبه وكذلك البيان يتصور فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق؛ لرقة معناه، ولطف موقعه، وأبلغ البيانين عند العلماء الشعر بلا مدافعة، وقال رؤبة:
لقد خشيت أن تكون ساحراً ... راوية مراً ومراً شاعراً
فقرن الشعر أيضاً بالسحر لتلك العلة، ويروي أيضاً لقد حسنت بسين مضمومة غير معجمة، ونون، والتاء مفتوحة.

باب في الرد علي من يكره الشعر
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه " ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب " ، وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر فيه كلام حسن وقبيح، فخذ الحسن واترك القبيح، ويروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه، وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: الشعر ميزان القول، ورواه بعضهم: الشعر ميزان القوم.
وروى ابن عائشة يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: " الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في بواديها، وتسل به الضغائن من بينها " وأنشد ابن عائشة قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:

قلدتك الشعر يا سلامة ذا ... فايش، والشيء حيث ما جعلا
والشعر يستنزل الكريم كما ... ينزل رعد السحابة السبلا
ويروى عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: مر الزبير بن العوام رضي الله عنه بمجلس لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحسان ينشدهم، وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره، فقال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ لقد كان ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه إذا أنشده.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك، فقال عمر: صدقت.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مر من قبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب.
وقال معاوية رحمه الله: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
ويروى أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك، فقال له علي: خط حاجتك في الأرض، فإني أرى الضر عليك، فكتب الأعرابي على الأرض إني فقير فقال له علي: يا قنبر؛ ادفع إليه حلتي الفلانية، فلما أخذها مثل بين يديه فقال:
كسوتني حلة تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به ... فكل عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال علي: يا قنبر، أعطه خمسين ديناراً، أما الحلة فلمسألتك، وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنزلوا الناس منازلهم " وقيل لسعيد بن المسيب: إن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكاً أعجمياً.
وقال ابن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه.
وسئل في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء فقال:
نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم قام فأم الناس، وقيل: بل أنشد:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت
وقال الزبير بن بكار: سمعت العمري يقول: رووا أولادكم الشعر؛ فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل.
وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة.
وكان ابن عباس يقول: إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً.
وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرة الرواية للشعر. يقال: إنها كانت تروي جميع شعر لبيد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين " .
وكان أبو السائب المخزومي على شرفه، وجلالته، وفضله في الدين والعلم يقول: أما والله لو كان الشعر محرماً لوردنا الرحبة كل يوم مراراً. والرحبة: الموضع الذي تقام فيه الحدود، يريد أنه لا يستطيع الصبر عنه فيحد في كل يوم مراراً ولا يتركه.

فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فهو غلط، وسوه تأول؛ لأن المقصودين بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، ومسوه بالأذى، فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا " يريد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل " ، وقال لحسان بن ثابت " اهجهم يعني قريشاً فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس، وألق أبا بكر يعلمك تلك الهنات " فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم شعراء يثيبهم على الشعر، ويأمرهم بعمله، ويسمعه منهم.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً " فإنما هو من غلب الشعر على قلبه، وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فروضه، ومنعه من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والشعر غيره مما جرى هذه المجرى من شطرنج وغيره سواء. وأما غير ذلك ممن يتخذ الشعر أدباً وفكاهة وإقامة مروءة فلا جناح عليه وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين، والجلة من الصحابة والتابعين، والفقهاء المشهورين، وسأذكر من ذلك طرفاً يقتدي به في هذا الباب، إن شاء الله تعالى.

باب في أشعار الخلفاء والقضاة والفقهاء
من ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا: واسمه عبد الله ابن عثمان، ويقال: عتيق لقب له قال في غزوة عبيدة بن الحارث، رواه ابن إسحاق وغيره:
أمن طيف سلمى الدمائث ... أرقت، أوامر في العشيرة حادث؟؟
ترى من لؤي فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه، وقالوا: لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهروا هرير المجحرات اللواهث
فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها في الفروع الأثائث
فأولى برب الراقصات عشية ... حراجيج تخدى في السريح الرثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف ... يردن حياض البئر ذات النبائث
لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الطوامث
تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا يرأف الكفار رأف ابن حارث
فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث
فإن شعثوا عرضي على سوء رأيهم ... فإني من أعراضهم غير شاعث
ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة ويروى للأعور الشني:
هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها
ومن شعره أيضاً وقد لبس برداً جديداً فنظر الناس إليه وقد روى لورقة بن نوفل في أبيات:
ولا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان؛ إذ تجرى الرياح له ... والجن والإنس فيما بينها ترد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوماً كما وردوا
ومن شعره أيضاً رضي الله عنه:

توعدني كعب ثلاثاً يعدها ... ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي خوف الموت؛ إني لميت ... ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب
ومن شعر عثمان بن عفان رضي الله عنه:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضها حتى يضر بها الفقر
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر
ومن شعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان مجوداً ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه:
ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيها حمر النحور دوامي
وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند في الكلاع وحمير ... وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هم هم ... إذا ناب دهر جنتي وسهامي
فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام
فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام
فلو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان: ادخلوا بسلام
وهو القائل بصفين أيضاً:
لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قلت قدمها حضين تقدما
فيوردها في الصف حتى يرد بها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
فهؤلاء الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم: ما منهم إلا من قال الشعر، وخامسهم الحسن بن علي رحمه الله، وهو القائل وقد خرج على أصحابه مختضباً رواه المبرد:
نسود أعلاها، وتأبى أصولها، ... فليت الذي يسود منها هو الأصل
ومن شعر معاوية بن أبي سفيان رحمة الله عليه ما رواه ابن الكلبي عن عبد الرحمن المدني، قال: لما حضرت معاوية الوفاة جعل يقول:
إن تناقش يكن نقاشك يار ... ب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب رءوف ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
وروى في غير موضع واحد:
فقدت سفاهتي، وأزحت غيي ... وفي على تحلمي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحدق المراض
ومن قوله ايضاً، وهو لائق به، دال على صحة ناقله:
إذا لم أجد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم! ؟
خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد ... حباك على حرب العداوة بالسلم
وأما يزيد بن معاوية فمن بعده فكثير شعرهم مشهور.
ومن شعر الحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد عاتبه أخوه الحسن رحمه الله في امرأته:
لعمرك إنني لأحب داراً ... تحل بها سكينة والرباب
أخبهما وأبذل جل مالي ... وليس للائمي عندي عتاب
وليس من بني عبد المطلب رجالاً ونساء من لم يقل الشعر، حاشا النبي صلى الله عليه وسلم: فمن ذلك قول حمزة بن عبد المطلب رحمه الله يذكر لقاءه أبا جهل وأصحابه في قصيده تركت أكثرها اختصاراً:
عشية صاروا جاشدين وكلنا ... مراجله من غيظ أصحابه تغلي
فلما تراءينا أناخوا فعقلوا ... مطايا وعقلنا مدى غرض النبل
وقلنا لهم: حبل الإله نصيرنا ... وما لكم إلا الضلالة من حبل
فثار أبو جهل هنالك باغياً ... فخاب، ورد الله كيد أبي جهل
وما نحن إلا في ثلاثين راكباً ... وهم مائتان بعد واحدة فضل
وأما العباس فكان شاعراً مغلقاً حسن التهدي: من ذلك قوله رحمه الله يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي ... بوادي حنين والأسنة تشرع
وقولي إذا ما النفس جاشت لها قدى ... وهام تدهدى والسواعد تقطع
وكيف رددت الخيل وهي مغيرة ... بزوراء تعطى باليدين وتمنع
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
ومن شعر عبد الله بن عباس رضي الله عنه:
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الليل والليل عاكر

وباكرني في حاجة لم يجد بها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه من مقامه ... وزايله هم طروق مسامر
وكان له فضل علي بظنه ... بي الخير؛ إني للذي ظن شاكر
ومن شعر جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين رضي الله عنه قوله يوم مؤتة وفيه قتل رحمة الله عليه:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... علي إذا لاقيتها ضرابها
وشعر أبي سفيان بن الحارث مشهور في الجاهلية والإسلام. فأما أبو طالب ومن شاكله فلم أذكر لهم شيئاً، خلا بيتين لعبد الله بن عبد المطلب أنشدهما القاضي أبو الفضل، وهما:
وأحور مخضوب البنان محجب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها
بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... فلست مريداً ذاك طوعاً ولا كرهاً
وكانت فاطمة رضي الله عنها تقول الشعر، رويت لها أشياء كثيرة.
ثم نرجع إلى الخلفاء المرضيين: قال عمر بن عبد العزيز، رواه الأوزاعي عن محمد بن كعب:
أيقظان أنت اليوم أم أنت حالم؟ ... وكيف يطيق النوم حيران هائم؟
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... جفونا لعينيك الدموع السواجم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم، والردى لك لازم
وتشغل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ومما أثبته حماد الرواية من شعره:
إنه الفؤاد عن الصبا ... وعن انقيادك للهوى
فلعمر ربك إن في ... شيب المفارق والجلا
لك واعظاً لو كنت تت ... عظ اتعاظ ذوي النهى
حتى متى لا ترعوي؟ ... وإلى متى؟ وإلى متى؟
بلى الشباب وأنت إن ... عمرت رهن للبلى
وكفى بذلك زاجراً ... للمرء عن غي، كفى
ومن شعره أيضاً أنشده ابن داود القياسي في كتابه:
ولولا النهى ثم التقى خشية الردى ... لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
صبا ما صبا فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ومن قول عبد الله بن الزبير قوله وقد ولي الحرمين مدة، ودعي بأمير المؤمنين ما شاء الله حتى قتل، رحمة الله عليه وقد روي لعبد الله بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء :
لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا
وما لقيت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
ومن قوله المشهور عنه:
وكم من عدو قد أراد مساءتي ... بغيب، ولو لاقيته لتندما
كثير الخنا حتى إذا ما لقيته ... أصر على إثم وإن كان أقسما
وحسبك من القضاة شريح بن الحارث: كان شاعراً مجوداً، وقد استقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إلى مؤدب ولده وقد وجده وقت الصلاة يلعب بجرو كلب، وأودع الأبيات رقعة وأنفذها مع ولده مختومة إلى المؤدب :
ترك الصلاة لأكلب يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرجس
فليأتينك غدوة بصحيفة ... كتبت له كصحيفة المتلمس
فإذا هممت بضربه فبدرة ... وإذا بلغت به ثلاثاً فاحبس
واعلم بأنك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرعني أعز الأنفس
فهذا شريح، وهلم جرا إلى حيث شئت، ومن الفقهاء عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال في امرأة من هذيل قدمت المدينة ففتن بها الناس ورغبوا فيها خاطبين:
أحبك حباً لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبك يا أم الوليد مولهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد
ويعلم وجدي قاسم بن محمد ... وعروة ما أخفي بكم وسعيد
ويعلم ما ألقى سليمان علمه ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
متى تسألي عما أقول تخبري ... فلله عندي طارف وتليد

هؤلاء الستة الذين ذكرهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير بن العوام، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله صاحب هذا الشعر هو سابعهم، وهم فقهاء المدينة، وأصحاب الرأي الذين هم عليهم المدار.
وقد كان جماعة من أصحاب مالك بن أنس يرون الغناء بغير آلة جائزاً، وهو مذهب جماعة من أهل مكة والمدينة، والغناء حلة الشعر إن لم يلبسها طويت، ومحال أن يحرم الشعر من يحل الغناء به.
وأما محمد بن إدريس الشافعي فكان من أحسن الناس افتناناً في الشعر، وهو القائل:
ومتعب العيس مرتاحاً إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق مفرقه ... لو كان يعلم غيباً مات من كمد
من كان لم يؤت علماً في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد
ومن قوله أيضاً في غير هذا المعنى:
الجد يدني كل شيء شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق
فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً فأورق في يديه فصدق
وإذا سمعت بأن محروماً أتى ... ماء ليشربه فجف فحقق
وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى برزق ضيق
ولربما عرضت لنفسي فكرة ... فأود منها أنني لم أخلق
وهذا باب لو تقصيته لاحتمل كتاباً مفرداً ولكني طبقت المفصل، وذكرت بعض المشاهير من الناس.

باب من رفعه الشعر، ومن وضعه
إنما قيل في الشعر " إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السرى " لأمر ظاهر غاب عن بعض الناس فتأوله أشد التأويل، وظنه مثلبة وهو منقبة، وذلك أن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم.. وكاشتهار عرابة الأوسي بشعر الشماخ بن ضرار، وقد بذل له في سنة شديدة وسق بعير تمراً، فقال:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
حتى صار ذلك مثلاً سائراً، وأثراً باقياً، لا تبلى جدته، ولا تتغير بهجته، وقدح ذلك في مروءة الشماخ، وحط من قدره؛ لسقوط همته عن درجة مثله من أهل البيوتات وذوي الأقدار.
فأما من صنع الشعر فصاحة ولسنا، وافتخاراً بنفسه وحسبه، وتخليداً لمآثر قومه، ولم يصنعه رغبة ولا رهبة، ولا مدحاً ولا هجاء، كما قال واحد دهرنا وسيد كتاب عصرنا أبو الحسن أحسن الله إليه وإلينا فيه:
وجدت طريق البأس أسهل مسلكاً ... وأحرى بنجح من طريق المطامع
فلست بمطر ما حييت أخا ندى ... ولا أنا في عرض البخيل بواقع
فلا نقص عليه في ذلك، بل هو زائد في أدبه، وشهادة بفضله، كما أنه نباهة في ذكر الخامل، ورفع لقدر الساقط، وإنما فضل امرؤ القيس وهو من هو لما صنع بطبعه، وعلا بسجيته، عن غير طمع ولا جزع.
حكي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لو أن الشعراء المتقدمين ضمنهم زمان واحد ونصبت لهم راية فجروا معاً علمنا من السابق منهم، وإذ لم يكن فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي، قيل: ولم؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة.
وقال علي بن الجهم في مدح المتوكل:
وما الشعر مما أستظل بظله ... ولا زادني قدراً، ولا حط من قدري
ثم قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فذكر أنه لا يستظل بظل الشعر، أي: لا يتكسب به، وأنه لم يزده قدراً لأنه كان نابه الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال ولا حط من قدري فأحسن الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول: ليس الشعر ضعة في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئاً له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرض أن يجعل نفسه راغباً ولا مجتدياً.

قال الطائي في هذا المعنى لمحمد بن عبد الملك الزيات، على ما كان فيه من الكبر والإعجاب، وهو حينئذ الوزير الأكبر:
لقد زدت أوضاحي امتداداً، ولم أكن ... بهيماً ولا أرضى من الأرض مجهلا
ولكن أياد صادفتني جسامها ... أغر فوافت بي أغر محجلا
فطمع بنفسه إلى حيث ترى، وجعل الغرة من كسبه وهي في الوجه مشهورة والتحجيل من زيادات الممدوح، وهو في القوائم.
وقد سبق إلى هذا المعنى أبو نخلة السعدي فقال يمدح مسلمة بن عبد الملك:
وأحييت من ذكري، وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وقد حكى أن امرأ القيس نفاه أبوه لما قال الشعر، وغفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعاً، ومتهتكاً، شبب بنساء أبيه، وبدأ وبهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة؛ فهذه العلة، وقد جاوزت كثيراً من الناس ومرت عليهم صفحاً.
وأما تفسير القول الآخر في السري والدني؛ فإنه إذا بلغت بالدنى نفسه، وطمحت به همته إلى أن يصنع الشعر الذي هو أخو الأدب، وتجارة العرب، تكافأ به الأيادي، ويحل به صدر النادي، ويرفع صوته على من فوقه، ويزيده في القدر على ما استحقه فقد صار سرياً، على أن القائل، فإن كان المقول له فذلك أعظم مزية، وأشرف خطة ومنزلة، وإذا انحطت بالسري همته، وقصرت مروءته، إلى أن يصنع الشعر ليتكسب به المال ويكافئ به الأيادي دون غيره وهو يعلم أنه أبقى من المال، وأنفس ذخائر الرجال، وأنه إن خاطب به من فوقه فقد رضي بالضراعة، وإن خاطب به كفأه ونظيره فقد نزل عن المساواة، وإن خاطب به من دونه سقط جملة ذلك على أن يكون شعره مزحاً أو عتاباً، وأما أن يكون هجاء فأبقى لخزيه وأضل لسعيه.
وسأذكر ممن رفعه أو ممن وضعه ما قال أو قيل فيه من الشعر بعض من ذكر الناس؛ لئلا أخلي الكتاب من ذلك، وإن كنت حريصاً على الإيجاز والاختصار.
فممن رفعه ما قال من القدماء الحارث بن حلزة اليشكري، وكان أبرص، فأنشد الملك عمرو بن هند قصيدته:
آذنتنا ببينها أسماء
وبينه وبينه سبعة حجب؛ فما زال يرفعها حجاباً فحجاباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه، وأمثاله كثير.
ومن المخضرمين حسان بن ثابت رحمه الله، لم تكن له ماتة ولا سابقة في الجاهلية والإسلام إلا شعره، وقد بلغ من رضا الله عز وجل ورضا نبيه عليه الصلاة والسلام ما أورثه الجنة.
ومن الفحول المتأخرين الأخطل واسمه غياث بن غوث، وكان نصرانياً من تغلب بلغت به الحال في الشعر إلى أن نادم عبد الملك بن مروان، وأركبه ظهر جرير بن عطية بن الخطفي، وهو تقي مسلم، وقيل: أمره بذلك بسبب شعر فاخره فيه بين يديه وطول لسانه، حتى قال مجاهراً: لعنة الله عليه، لا يستتر في الطعن على الدين والاستخفاف بالمسلمين:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست منادياً أبداً بليل ... كمثل العير " حي على الفلاح "
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد قبل منبلج الصباح
وهذه غاية عظيمة ومنزلة غريبة حملت من المسامحة في الدين على مثل ما نسمع والملوك ملوك بزعمهم. وهجا الأنصار ليزيد بمن معاوية، لما شبب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بعمته فاطمة بنت أبي سفيان وقيل: بل بأخته هند بنت معاوية قيل: ولولا شعره لقتل دون أقل من ذلك.. وقد رد على جرير أقبح رد، وتناول من أعراض المسلمين وأشرافهم، ما لا ينجو مع مثله علوي، فضلاً عن نصراني.
ومن المحدثين أبو نواس، كان نديماً للأمين محمد بن زبيدة طول خلافته.. ومسلم بن الوليد صريع الغواني، اتصل بذي الرياستين ومات على جرجان وكان تولاها على يديه.. والبحتري، كان نديماً للمتوكل لا يكاد يفارقه، وبمحضره قتل المتوكل. وكثير ممن أكتفي بهؤلاء عن ذكره.
وقد خطب أبو الطيب هذه الرتبة إلى كافور الإخشيدي، فوعده بها وأجابه إليها، ثم خافه لما رأى من تحامله وكبره، واقتضاه أبو الطيب مراراً، وعاتبه فما وجد عنده راحة.. فمن ذلك قوله يقتضيه:

وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وقوله يقتضيه أيضاً ويعاتبه من قصيدة مشهورة:
ولي عند هذا الدهر حق يلطه ... وقد قل إعتاب وطال عتاب
ثم قال بعد أبيات:
أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب
أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب
وما شئت إلا أن أذل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا
فهؤلاء رفعهم ما قالوه من الشعر؛ فنالوا الرتب، واتصلوا بالملوك، وليس ذلك ببدع للشاعر ولا عجيب منه. وقد كنت صنعت بين يدي سيدنا من أمر العالي زاده الله علواً:
الشعر شيء حسن ... ليس به من حرج
أقل ما فيه ذها ... ب الهم عن نفس الشجي
يحكم في لطافة ... حل عقود الحجج
كم نظرة حسنها ... في وجه عذر سمج
وحرقة بردها ... عن قلب صب منضج
ورحمة أوقعها ... في قلب قاس حرج
وحاجة يسرها ... عند غزال غنج
وشاعر مطرح ... مغلق باب الفرج
قربه لسانه ... من ملك متوج
فعلموا أولادكم ... عقار طب المهج
وطائفة أخرى نطقوا في الشعر بألفاظ صارت لهم شهرة يلبسونها، وألقاباً يدعون بها فلا ينكرونها: منهم عائد الكلب، واسمه عبد الله بن مصعب، كان والياً على المدينة للرشيد، لقب بذلك لقوله:
مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم، ويمرض كلبكم فأعود؟!
والممزق، واسمه شاس بن نهار، لقب بقوله لعمرو بن هند:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق
وقد تمثل بهذا البيت عثمان بن عفان رضي الله عنه في رسالة كتب بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولقب مسكين الدرامي واسمه ربيعة، من ولد عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن درام بقوله:
أنا مسكين لمن أبصرني ... ولمن حاورني جد نطق
فلما سمي مسكيناً قال:
وسميت مسكيناً وكانت لجاجة ... وإني لمسكين إلى الله راغب
وإني امرؤ لا أسأل الناس مالهم ... بشعري، ولا تعمى علي المكاسب
وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب، وسرعة ولوجه في آذانهم، وتعلقه بأنفسهم.
ومنهم من سمي بلفظة من شعره لشناعتها، مثل النابغة الذبياني واسمه زياد بن عمرو وسمي نابغة لقوله:
فقد نبغت لنا منهم شئون
وأما الجعدي واسمه قيس بن عبد الله فإنما نبغ بالشعر بعد أربعين سنة فسمي نابغة لذلك.
وجران العود، سمي بذلك لقوله:
عمدت لعود فالتحيت جرانه ... وللكيس خير في الأمور وأنجح
خذا حذراً يا خلتي فإنني ... رأيت جران العود قد كان يصلح
يخاطب امرأتيه، وقد تركتاه ونشزتا عليه؛ فلزمه هذا الاسم وذهب اسمه كرهاً.
كذلك أبو العيال، لا يعرف له اسم غير هذا؛ ولقوله:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ... من المال؛ يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
أمثالهم ممن ذكره المؤلفون لا يحصون كثرة، وليسوا من هذا الباب في شيء؛ لأن غلبة هذه الأسماء عليهم ليست شرفاً لهم ولا ضعة، وإنما هي من جهة الشناعة فقط، ولكن الكلام ذو شجون.

ومن ههنا عظم الشعر، وتهيب أهله، خوفاً من بيت سائر تحدى به الإبل، أو لفظة شاردة يضرب بها المثل، ورجاء في مثل ذلك؛ فقد رفع كثيراً من الناس ما قيل فيهم من الشعر بعد الخمول والإطراح، حتى افتخروا بما كانوا يعيرون به ووضع جماعة من أهل السوابق والأقدار الشريفة حتى عيروا بما كانوا يفتخرون به.
فمن رفعه ما قيل فيه من الشعر بعد الخمول الملحق، وذلك أن الأعشى قدم مكة وتسامح الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة وقيل: بل أم فقالت له: إن الأعشى قدم، وهو رجل مفوه، مجدود في الشعر ما مدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه وأنت رجل كما علمت فقيراً خامل الذكر ذو بنات، وعندنا لقحة نعيش بها فلو سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة ونحرت له واحتلت لك فما تشتري به شراباً يتعاطاه؛ لرجوت لك حسن العاقبة، فسبق إليه المحلق، فأنزله ونجر له، ووجد المرأة قد خبزت خبزاً وأخرجت نحياً فيه سمن وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسية، قدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها، فلما جرى فيه الشراب وأخذت منه الكأس سأله عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى: كفيت أمرهن، وأصبح بعكاظ ينشد قصيدته:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
ورأى المحلق اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
ترى القوم فيها شارعين، وبينهم ... مع القوم ولدان من النسل دردق
لعمري قد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ... كما زان متن الهندواني رونق
فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى الملحق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته؛ لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف.
وكذلك بنو أنف الناقة، كانوا يفرقون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم يسأل: ممن هو؟ فيقول: من بني قريع، فيتجاوز جعفراً أنف الناقة بن قريع بن عوف بن مالك ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن نقل الحطيئة واسمه جرول بن أوس أجدهم وهو بغيض بن عامر بن لؤي بن شماس بن جعفر أنف الناقة من ضيافة الزبرقان بن بدر إلى ضيافته وأحسن إليه فقال:
سيري أمام فإن الأكثرين حصاً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أباً
قوم هم الأنف، والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنباً؟
فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة.
وإنما سمي جعفر أنف الناقة لأن أباه قسم ناقة جزوراً ونسيه، فبعثته أمه ولم يبق إلا رأس الناقة، فقال له أبوه: شأنك بهذا، فأدخل أصابعه في أنف الناقة وأقبل يجره، فسمي بذلك.
ومثل هاتين القصتين قصة عرابة الأوسي مع الشماخ، وقد تقدم ذكرها.
وممن وضعه ما قيل فيه الشعر حنى انكسر نسبه، وسقط عن رتبته، وعيب بفضيلته بنو نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب، إذا سئل أحدهم: ممن الرجل؟ فخم لفظه ومد صوته وقال: من بني نمير، إلى أن صنع جرير قصيدته التي هجا بها عبيد بن حصين الراعي، فسهر لها، وطالت ليلته إلى أن قال:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فأطفأ سراجه ونام وقال: قد والله أخزيتهم آخر الدهر، فلم يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت، حتى إن مولى لباهلة، كان يرد سوق البصرة ممتاراً فيصيح به بنو نمير: يا جواذب باهلة، فقص الخبر على مواليه، وقد ضجر من ذلك، فقالوا له: إذا نبزوك فقل لهم:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
ومر بهم بعد ذلك فنبزوه، وأراد البيت فنسيه، فقال: غمض وإلا جاءك ما تكره، فكفوا عنه ولم يعرضوا له بعدها.
ومرت امرأة ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها، فقالت:

قبحكم الله يا بني نمير! ما قبلتم قول الله عز وجل: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ولا قول الشاعر "
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وهذه القصيدة تسميها العرب الفاضحة، وقيل: سماها جرير الدماغة، تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة، ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر نمير، وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة.
والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر، وكان فحاشاً عياباً بذياً سباباً لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمي بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه وقد وضع الطعام بين يدي النعمان، وتقدم الربيع وحده ليأكل معه على عادته، فقام لبيد فقال مرتجلاً:
يا رب هيجا هي خير من دعة ... نحن بني أم البنين الأربعه
ونحن خير عامر بن صعصعه ... المطعمون الجفنة المدعدعه
والضاربون الهام تحت الخيضعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
فقال النعمان: ولمه؟ فقال:
إن استه من برص ملمعه
فقال النعمان: وما علينا من ذلك؟ فقال:
إنه يولج فيها إصبعه
يولجها حتى يواري أشجعه ... كأنما يطلب شيئاً أودعه
ويروي أطمعه فرفع النعمان يده عن الطعام، وقال: ما تقول يا ربيع؟ فقال: أبيت اللعن كذب الغلام، فقال لبيد: مره فليجب، فقال النعمان: أجبه يا ربيع، فقال: والله لما تسومني أنت من الخسف أشد علي مما عضهني به الغلام، فحجبه بعد ذلك، وسقطت منزلته، وأراد الاعتذار، فقال النعمان:
قد قيل ما قيل إن حقاً وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟؟
وبنو العجلان، كانوا يفخرون بهذا الاسم لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم به النجاشي فضجروا منه، وسبوا به، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: وما قال؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر بن الخطاب: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا: إنه قال:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر رضي الله عنه: ليتني من هؤلاء، أو قال: ليت آل الخطاب كذلك، أو كلاماً يشبه هذا، قالوا: فإنه قال:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ذلك أقل للسكاك، يعني الزحام، قالوا: فإنه قال:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا: فإنه قال:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: ما أسمع ذلك، فقالوا: فاسأل حسان بن ثابت، فسأله فقال: ما هجاهم ولكن سلح عليهم، وكان عمر رضي الله عنه أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحد بالشبهات، فلما قال حسان ما قال سجن النجاشي، وقيل: إنه حده.
وهذه جملة كافية، ونبذة مقنعة، فيما قصدت إليه من هذا الباب.

باب من قضى له الشعر ومن قضى عليه
أنشد النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدة يقول فيها:
علونا السماء عفة وتكرماً ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجل إن شاء الله، فقضت له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وسبب ذلك شعره.
وأنشده حسان بن ثابت حين جاوب عنه أبا سفيان بن الحارث بقوله:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فقال له: جزاؤك عند الله الجنة يا حسان، فلما قال:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
قال له: وقاك الله حر النار، فقضى له بالجنة مرتين في ساعة واحدة، وسبب ذلك شعره.

ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علائة أقاما عند هرم بن قطبة بن سنان سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، إلى أن قدم الأعشى وكانت لعامر عنده يد فقال:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
حكمتموه فقضى بينكم ... أزهر مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى في شعره وكان في رأي هرم على قول أكثر الناس خلاف ذلك.
وإلى هذا وأشباهه أشار أبو تمام الطائي بقوله في صفة الشعر:
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم
وكانت لرجل شهادة عند أبي دلامة، فدعاه إلى تبليغها عند القاضي بن أبي ليلى، فقال له: إن شهادتي لا تنفعك عنده، فقال الرجل: لا بد من شهادتك، فشهد عند القاضي وانصرف وهو يقول:
إذا الناس غطوني تغطيت دونهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
فقضى القاضي على الخصم بشهادة أبي دلامة، وقبض المشهود له المال، وغرمه القاضي للمشهود عليه تحرجاً من ظلمه، ويقال: إنما شهد لطبيب عالج ولده من علة به، وأمره أن يدعي على من شاء بألف درهم، ففعل الطبيب وشهد أبو دلامة، وهذا أشبه بمجونه من الأول.
وذكر العتبي أن رجلاً من أهل المدينة ادعى حقا على رجل، فدعاه إلى ابن حنطب قاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة، فلما ولي قال القاضي: ماشهادته له إلا كشهادته عليه، فلما جاء زنقطة القاضي قال له: فداك أبي وأمي، أحسن والله الشاعر حيث يقول:
من الحنطبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا
فأقبل القاضي على الكاتب، فقال: كبير ورب السماء، ما أحسبه شهد إلا بالحق فأجز شهادته.
وخاصم جرير بن الخطفي الحماني الشاعر إلى قاضي اليمامة، فقال في أبيات رجز بها:
أعوذ بالله العلي القهار ... من ظلم حمان وتحويل الدار
فقال الحماني مجيباً له:
ما لكليب من حمى ولا دار ... غير مقام أتن وأعيار
قب البطون داميات الأظفار ويروي قعس الظهور داميات الأظفار فقال جرير: مقام أتنى وأعياري لا أريد غيره، وقد اعترف به، فقال القاضي: هي لجرير، وقضى على الحماني بشعره الذي قال.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحسن البصري، فجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا فنصيب المرأة من العدو وهي ذات زوج أفتحل لنا من قبل أن يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: قد قلت أنا مثل هذا في شعري، فقال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً لمن يبني بها لم تطلق
فقال الحسن: صدق، فحكم بظاهر قوله، وما أظن الفرزدق والله أعلم أراد الجهاد في العدو المخالف للشريعة، لكن أراد مذهب الجاهلية في السبايا. كأنه يشير إلى العزة وشدة البأس.
وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يتعجب من قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... أداء أو نفار أو جلاء
وسمي زهير قاضي الشعراء بهذا البيت، يقول: لا يقطع الحق إلا الأداء، أو النفار وهو الحكومة أو الجلاء وهو العذر الواضح ويروي يمين أو نفار وهذه الثلاث على الحقيقة هي مقاطع الحق كما قال، على أنه جاهلي، وقد وكدها الإسلام.

باب شفاعات الشعراء، وتحريضهم
قال عبد الكريم: عرضت قتيلة بنت النضر بن الحارث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فاستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه، وقد كان قتل أباها، فأنشدته:
يا راكباً أن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة، وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن قصيدة ... ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه، وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
قسراً يقاد إلى المنيه متعباً ... رسف المقيد وهو عانٍ موثق

أمحمد ها أنت نجل نجيبةٍ ... من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت، وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من قتلت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته.
ولما قتل الحارث بن أبي شمر الغساني المنذر بن ماءٍ السماء وهو المنذر الأكبر، وماء السماء أمه أسر جماعة من أصحابه، وكان فيمن أسر شاس بن عبدة في تسعين رجلاً من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه علقمة بن عبدة الشاعر صاحب امرئ القيس، وهو معروف بعلقمة الفحل، فقصد الحارث ممتدحاً بقصيدته المشهورة التي أولها:
طحا بك قلب بالحسان طروب ... بعيد الشباب عصر خان مشيب
فأنشده إياها، حتى إذا بلغ إلى قوله:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
إليك أبيت اللعن كان وجيفها ... بمشتبهات هولهن مهيب
هداني إليك الفرقدان ولا حب ... له فوق أعلام المتان علوب
فلا تحرمني نائلاً على جنايةٍ ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وفي كل حيً قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشاس من نداك ذنوب
فقال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شاساً أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم.
وكان لأمية بن حرثان ولد اسمه كلاب، هاجر إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله عنه، فقال أمية:
سأستعدي على الفاروق رباً ... له عمد الحجيج إلى بساق
إن الفاروق لم يردد كلاباً ... على شيخين هامهما زواقي
فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بإشخاص كلاب، فما شعر أمية إلا به يقرع الباب.
وما زالت الشعراء قديماً تشفع عند الملوك والأمراء لأبنائها وذوي قرابتها، فيشفعون بشفاعتهم، وينالون الرتب بهم.
ودخل العماني الشاعر وهو أبو العباس محمد بن ذؤيب الفقيمي على الرشيد، فأنشده أرجوزة يقول فيها:
قل للإمام المقتدي بأمه ... ما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه
فقال الرشيد: ما رضيت أن أسميه وأنا قاعد حتى أقوم على رجلي، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما أردت قيام جسم لكن قيام عزم، فأمر الرشيد بإحضار القاسم ولده، ومر العماني في إنشاده يهدر، فلما فرغ قال الرشيد للقاسم: أما جائزة هذا الشيخ فعليك، وقد سألنا أن نوليك العهد، فأجبناه.
وشفع الطائي للواثق عند أبيه المعتصم في أن يوليه العهد، فقال:
فاشدد بهارون الخلافة؛ إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار
بفتى بني العباس والقمر الذي ... حفته أنجم يعرب ونزار
كم العمومة والخئولة مجه ... سلفاً قريش فيه والأنصار
هو نوء يمن منكم وسعادة ... وسراج ليل فيكم ونهار
فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضى البرية هديه والباري
ليسير في الآفاق سيرة رأفة ... ويسوسها بسكينة ووقار
فالصين منظوم بأندلس إلى ... حيطان رومية فملك ذمار
ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار
واستعطف مالك بن طوق لقومه بني تغلب وكانوا أفسدوا في الطرق، فخافوه واستشفعوا بأبي تمام فقال في قصيدة مشهورة يخاطب بها مالكاً:
ورأيت قومك والإساءة منهم ... جرحى بظفر للزمان وناب
هم صيروا تلك البروق صواعقاً ... فيهم، وذاك العفو سوط عذاب
فأقل أسامة جرمها، واصفح لها ... عنه، وهب ما كان للوهاب
رفدوك في يوم الكلاب، وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كلاب
وهم بعين أباغ راشوا للوغى ... سهميك عند الحارث الحراب
وليالي الثرثار والحشاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب
فمضت كهولهم، ودبر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب
لا رقة الحضر اللطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب

فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النفوس وقلة الآداب
لك في رسول الله أعظم أسوة ... وأجلها في سنة وكتاب
أعطى المؤلفة القلوب رضاهم ... كرماً، ورد أخائذ الأحزاب
فذكر أصحاب الأخبار أن هذه القصيدة وقعت من مالك أجل موقع فأجزل ثوابه عليها، وقبل شفاعته، ورد القوم إلى رتبتهم ومنزلتهم، من بعد اليأس المستحكم، والعداوة الشديدة.
وكان أبو قابوس الشاعر رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة منقطعاً إلى البرامكة، فلما أوقع الرشيد بجعفر صنع أبو قابوس أبياتاً وأنشدها الرشيد يشفع عنده للفضل بن يحيى:
أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك، أيها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا
أرى سبب الرضا عنه قوياً ... على الله الزيادة والتمام
نذرت علي فيه صيام شهر ... فإن تم الرضا وجب الصيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أما والله لولا خوف واشٍ ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وما أبصرت قبلك يا بن يحيى ... حساماً قده السيف الحسام
عقاب خليفة الرحمن فخر ... لمن بالسيف عاقبه الحمام
وقد اختلط هذا الشعر بشعرين في وزنه ورويه ومعناه: أحدهما لأشجع السلمي، والآخر لسليمان أخي صريع، فالناس فيه مختلفون، وهذه صحته. فانظر إلى تجاسره على مثل هذا الأمر العظيم من الشفاعة والرثاء.
واستعطف أبو الطيب سيف الدولة لبني كلاب وقد أغار عليهم فغنم الأموال وسبى الحريم، فأتى بعضهم أبا الطيب يسأله أن يذكرهم له في شعره، ويشفع فيهم فقال في قصيدة له مشهورة يخاطبه:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
فإنهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لنائبة أجابوا
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
وهذا من أفعال الشعراء قديم مشهور. وقد افتخر به البحتري فقال في قصيدة له طويلة:
إن أبق أو أهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وغنيت ندمان الخلائف: نابها ... ذكرى، وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل، فأنجحوا طلباتي
وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة
وكان أبو عزة كثيراً ما يستنفر المشركين، ويحرض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأسر يوم بدر، وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه الفقر والعيال، فرق له، وخلى سبيله بعد أن عاهده ألا يعين عليه بشعره، فأمسك عنه مدة، ثم عاد إلى حاله الأولى، فأسر يوم أحد، فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بمثل خطابه الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمداً مرتين " ثم قتله صبراً، وقال: " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين " .
وقال أوس بن حجر يغري النعمان بن المنذر ببني حنيفة؛ لأن شمر بن عمرو السحيمي قتل المنذر، وهو حينئذ مع الحارث بن أبي شمر الغساني، وقال ابن جنى: إنما قتل ابن النعمان:
نبئت أن بني حنيفة أدخلوا ... أبياتهم تامور قلب المنذر
ويروى أن بني سحيم فغزاهم النعمان، وقتل فيهم وسبى، وأحرق نخلهم، ويقال: إنما أغرى بهم عمرو بن هند.
ودخل سديف بن ميمون على أبي العباس السفاح، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وابناه، وفي رواية أخرى سليمان بن مروان وولدان له، وفي رواية ثالثة إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، فأنشده سديف:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن بين الضلوع داءً دويا

فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ قاتلك الله. ونهض أبو العباس فوضع المنديل في عنق سليمان، وقتل من ساعته.
ودخل شبل بن عبد الله بن علي، وأنشده قصيدة له يقول فيها محرضاً على بني أمية، وعنده منهم ثمانون رجلاً:
أقصهم أيها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس
دلها أظهر التودد منها ... ولها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربها من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أمسى ... ثاوياً بين غربة وتناسي
فلما سمع بذلك تنكر، وأمر بهم فقتلوا، وألقى عليهم البساط، وجلس للغذاء وإن بعضهم يسمع أنينه لم يمت بعد، حكى ذلك جماعة من المؤلفين، واختلفوا في رواية الشعر وحده؛ فأكثر الروايات موضع البيت الأول:
لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وأواس
ويروي وغراس وبعضها على ما في النسخة، ولا أدري كيف صحة ذلك، وعبد الله لم يكن يدعى بالخلافة، اللهم إلا أن يكون ذلك حين أراد خلع المنصور. وأكثر الناس يروي هذه الأبيات لسديف بن ميمون يخاطب أبا العباس السفاح، غير أن في الرواية الأولى:
نعم شبل الهراس مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
وهو يشهد لما روي أولاً.
وحكى غيرهم قال: دخل العبدي الشاعر على عبد الله بن علي بفلسطين، وقد دعي به، وعنده من بني أمية اثنان وثمانون رجلاً، والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه مصلاه، قال العبدي: فاستنشدني عبد الله بن علي فأنشدته قولي:
وقف المتيم في رسوم ديار
وهو مصغ مطرق حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار
وبنو أمية دوحة ملعونة ... ولهاشم في الناس عود نضار
أأمي مالك من قرار فالحقي ... بالجن صاغرة بأرض وبار
ولئن رحلت لترحلن ذميمة ... وكذا المقام بذلة وصغار
قال: فرفع الغمر رأسه إلي، وقال: يا بن الزانية ما دعاك إلى هذا؟ وضرب عبد الله بقلنسوة كانت على رأسه الأرض، وكانت العلامة بينه وبين أهل خراسان، فوضعوا عليهم العمد حتى ماتوا، وأمر بالغمر فضربت عنقه صبراً.
وكان ابن حزم أميراً على المدينة، فتحامل على الأحوص الشاعر تحاملاً شديداً، فشخص إلى الوليد بن عبد الملك، فأنشده قصيدة يمتدحه فيها، فلما بلغ إلى قوله كالذي يشتكي ابن حزم وظلمه:
لا ترثين لحزمي ظفرت به ... يوماً ولو ألقي الحزمي في النار
الناخسين لمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار
فقال له الوليد:
صدقت والله، لقد غفلنا عن حزم وآل حزم، ثم كتب عهداً لعثمان بن حيان المري على المدينة، وعزل ابن حزم، وأمر باستئصال أموالهم، وإسقاطهم جميعاً من الديوان.
ولما وثب إبراهيم بن المهدي على المأمون اقترض من التجار مالاً كثيراً، فكان فيه لعبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار، فلما لم يتم أمره لوى التجار أموالهم، فصنع محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون، منها قوله:
تذكر أمير المؤمنين قيامه ... بأيمانه في الهزل منه وفي الجد
إذا هز أعواد المنابر باسته ... تغنى بليلى أو بمية أو هند
ووالله ما من توبة نزعت به ... إليك، ولا ميل إليك، ولا ود
وكيف بمن قد بايع الناس، والتقت ... ببيعته الركبان غوراً إلى نجد!؟
ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادي بها بين السماطين عن بعد
وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد؟
وعرضها على إبراهيم وهو حينئذ خامل الذكر لم يتعلق بعد بالخدمة تعلقاً ينفع فسأله إبراهيم كتمانها، واستحلفه على ذلك، وأدى مال أبيه دون سائر التجار، ومثل ذلك كثير لو تقصي لطال به الكتاب.

باب احتماء القبائل بشعرائها

كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج: فممن حمى قبيلته زياد الأعجم، وذلك أن الفرزدق هم بهجاء عبد القيس، فبلغ ذلك زياداً وهو منهم، فبعث إليه: لا تعجل وأنا مهد إليك هدية، فانتظر الفرزدق الهدية، فجاءه من عنده:
فما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحاً أراه في أديم الفرزدق
ولا تركوا عظماً يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرق
سأكسر ما أبقوا له من عظامه ... وأنكت مخ الساق منه وانتقي
فأنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فلما بلغته الأبيات كف عما أراد، وقال: لا سبيل إلى هجاء هؤلاء ما عاش هذا العبد فيهم.
وهجا عبد الله بن الزبعري السهمي بني قصي، فرفعوه برمته إلى عتبة بن ربيعة؛ خوفاً من هجاء الزبير بن عبد المطلب، وكان شاعراً مفلقاً شديد العارضة مقذع الهجاء، فلما وصل عبد الله إليهم أطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه، فقال:
لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها
فرد جناة الشر؛ إن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها
فإن قصياً أهل مجد وعزة ... وأهل فعال لا يرام قديمها
هم منعوا يومي عكاظ نساءنا ... كما منع الشول الهجان قرومها
وكان الزبير غائباً بالطائف، فلما وصل إلى مكة وبلغه الخبر قال:
فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم سمال أو طمار ... بها ودك كما دسم الحميت
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت
وهجا رجل من بني حرام الفرزدق، فجاء به قومه يقودونه إليه، فقال الفرزدق:
ومن يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمن الهجاء بنو حرام
هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائد مثل أطواق الحمام
وهجا الأحوص بن محمد الأنصاري رجلاً من الأنصار يقال له ابن بشير وكان مكثراً فاشترى هدية، ووفد بها على الفرزدق مستجيراً به، فأجاره، ثم قال: أين أنت من الأحوص بن محمد؟ فقال: هو الذي أشكو، فأطرق الفرزدق ساعة ثم قال: أليس الذي يقول:
ألا قف برسم الدار فاستنطق الرسما ... فقد هاج أحزاني وذكرني نعمى
قال: بلى، قال: والله لا أهجو شاعراً هذا شعره، فاشترى ابن بشير أنفس من الهدية الأولى وقدم بها على جرير، فاستجاره فأجاره، ثم قال له: ما فعل ابن عمك الأحوص بن محمد؟ قال: هو صاحبي الذي هجاني، قال: أليس القائل:
تمشى بشتمي في أكاريس مالك ... يشيد به كالكلب إذ ينبح النجما
قال: بلى، قال: والله لا أهجو شاعراً هذا شعره، فاشترى أكثر من الهديتين وأهداها إلى الأحوص وصالحه.
ولهذا وأمثاله قال جرير لقومه يعاتبهم في قصيدة خاطب فيها أباه وجده الخطفي ممتناً عليهم بنفسه:
بأي نجاد تحمل السيف بعد ما ... قطعت القوى من محمل كان باقياً؟
بأي سنان تطعن القرن بعد ما ... نزعت سناناً من قناتك ماضياً؟
ألا لا تخافا نبوتي في ملمة ... و خافا المنايا أن تفوتكما بيا
فقد كنت ناراً يصطليها عدوكم ... وحرزاً لما ألجأتم من ورائيا
وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا
وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض جاري انتقاليا
جريء الجنان لا أهاب من الردى ... إذا ما جعلت السيف من عن شماليا
وليست لسيفي في العظام بقية ... ولا السيف أشوى وقعة من لسانيا
وهذا الباب اكثر من أن يستقصى، ورغبتي في الاختصار، وإنما جئت منه ومن سواه بلمحة تدل على المراد، وتبلغ في ذلك حد الاجتهاد.

باب من فأل الشعر وطيرته

تفاءل حسان بن ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة فقال في كلمته المشهورة يخاطب بذلك مشركي أهل مكة ويتوعدهم:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأعنة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخمر النساء
ورأيت من يستحسن يلطمهن من لطمت الخبزة إذا نفضت عنها الرماد، فلما كان يوم الفتح أقبل النساء يمسحن وجوه الخيل، وينفضن الغبار عنها بخمرهن، فقال قائل: لله در حسان إذ يقول، وأنشد الأبيات. وروى قوم أن الناس أمروا بالسير إلي كداء تفاؤلاً بهذا البيت ليصح؛ فكان الأمر كما قال.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل، ولا يتطير، ويحب الاسم الحسن، وقال: " ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد " قيل له: فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: " إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ " .
ومن مليح ما وقع في التفاؤل ما حكى محمد بن الجراح، وذلك أن أبا الشمقمق شخص مع خالد بن يزيد بن مزيد، وقد تقلد الموصل، فلما مر ببعض الدروب اندق اللواء، فاغتم خالد لذلك وتطير منه، فقال أبو الشمقمق:
ما كان مندق اللواء لطيرةٍ ... تخشى، ولا سوء يكون معجلا
لكن هذا العود أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فسري عن خالد، وكتب صاحب البريد بخبر ذلك إلى المأمون، فزاده ديار ربيعة، وأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.
وبغى جماعة من الكتاب على موسى بن عبد الملك، فأمر المتوكل بحبسه، قال: فرأيت في النوم قائلاً يقول:
أبشر فقد جاءت السعود ... أباد أعداءك المبيد
لم يظفروا بالذي أرادوا ... بل يفعل الله ما يريد
ووقف المتوكل منهم على أمر أوجب إيقاعه بهم، وأمر بإطلاقي وإعادتي إلى أشرف رتبة.
ولا بد من ذكر ما يتطير منه في باب غير هذا.
وقال قيس المجنون:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
فما مات حتى برص، ورأى في منامه قائلاً يقول له: هذا ما تمنيت. ويقال: إن المؤمل بن أميل لما قال:
شف المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر
نام ذات ليلة صحيحاً، فأصبح مكفوف البصر.
وتطير أبو الهول على جعفر بن يحيى البرمكي، فقال:
أصبحت محتاجاً إلى ضرب ... في طلب العرف من الكلب
إذا شكا صب إليه الهوى ... قال له: مالي وللصب
أعنى فتى يطعن في ديننا ... يشب معه خشب الصلب
فكان من أمر جعفر ما كان.
وكان ابن الرومي كثير الطيرة: ربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً بسوء ما يراه ويسمعه، حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده فأعلم بحاله في الطيرة، فبعث إليه خادماً اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك فأنت ناقص، ومنكوس اسمك لا بقا..
وابن الرومي القائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان. وله فيه احتجاجات وشعر كثير.

باب في منافع الشعر ومضاره
قد أكثر الناس في هذا الفن، ولا بد مع ذلك أن آتي منه بنبذ يقتضيها ترسيم الكتاب وحق التأليف، وليست علي مطالبة، ولا قبلي حجة، في ذكر مضاره بعد منافعه أو معها؛ إذ كانت الرغبة في تحسين الحسن ليتزيد منه، وتقبيح القبيح لينتهى عنه.
وقد فرط في أول الكتاب من قول عائشة رضي الله عنها وقول سواها من الصحابة ومن التابعين رحمة الله عليهم ورضوانه في الشعر ما فيه كفاية: من أنه كلام يحسن فيه ما يحسن في الكلام،ويقبح منه ما يقبح في الكلام وبقدر حسنه وقبحه يكون نفعه وضرره، والله المتعال.
حكى أبو العباس المبرد أن المأمون سمع منشداً ينشد قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
أأترك إن قلت دراهم خالد ... زيارته؟ إني إذاً للثيم
فقال: أو قد قلت دراهم خالد؟ احملوا إليه مائتي ألف درهم، فدعا خالد بعمارة، فقال: هذا مطر من سحابك، ودفع إليه عشرين ألفاً.
ووجد أبو جعفر المنصور على أحد الكتاب وأمر به ليضرب، فقال:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا

فخلى سبيله إعجاباً ببديهته.
وحمل بعض العمال إلى يزيد بن معاوية مالاً جليلاً، فقطع عليه قسيم الغنوي فأخذه، وأمر يزيد بطلبه، فلما حصل بين يديه قال: ما حملك على الخروج علينا وأخذ مال يحمل إلينا؟ قال: إذنك يا أمير المؤمنين أعزك الله، قال: ومتى أذنت لك؟ قال: حين قلت وأنا أسمعك:
اعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا
كالسيد لم ينقب البيطار سرته ... ولم يدجه ولم يقطع له لببا
حتى تصادف مالاً أو يقال فتى ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
فعصيت عواذلي، واسهرت ليلي، وأعلمت جوادي، فأصبت مالاً قال: قد سوغناكه فلا تعد.
وكان جميل بن محفوظ وأبو دهمان من عمال يحيى بن خالد، فوفد عليهما مرةً أبو الشمقمق واسمه مروان بن محمد فأكرمه أبو دهمان وأساء إليه جميل، فقال:
رأيت جميل الأزد قد عق أمه ... فناك أبو دهمان أم جميل
وتناظرا بعد ذلك في مال بين يدي يحيى بن خالد، فاستعلى جميل على أبي دهمان في الخطاب، فقال له أبو دهمان: احفظ الصهر الذي جعله بيننا أبو الشمقمق، فضحك يحيى بن خالد حتى فحص الأرض برجليه، وترك المال الذي تشاجرا فيه.
وأتى مصعب بن الزبير بأسارى من أصحاب المختار، فأمر بقتلهم بين يديه، فقام إليه أسير منهم فقال: أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك المليح الذي يستضاء به فأتعلق بك وأقول: يا رب، سل مصعباً فيم قتلني، فاستحيا مصعب وأمر بإطلاقه، فقال: أيها الأمير، اجعل ما وهبت من حياتي في خفض ودعةٍ من العيش، قال: قد أمرت لك بثلاثين ألف درهم، قال: أشهدك أيها الأمير أن شطر هذا المال لعبد الله بن قيس الرقيات، قال: ولم ذلك؟ قال: لقوله:
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
فضحك مصعب وقال: اقبض ما أمرنا لك به، ولابن قيس عندنا مثله، فما شعر عبد الله بن قيس إلا وقد وافاه المال.
وحكى عن ابن شهاب الزهري قال: دعاني يزيد بن عبد الملك، وقد مضى شطر الليل، فأتيته فزعاً وهو على سطح، فقال: لا بأس عليك اجلس؛ فجلست واندفعت جاريته حبابة تغني:
إذا رمت عنها سلوةً قال شافع ... من الحب: ميعاد السلو المقابر
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة حبً يوم تبلى السرائر
قال: لمن هذا الشعر؟ فقلت: للأحوص، قال: ما فعل الله به؟ قلت: محبوس بدهلكٍ، فكتب من ساعته بإطلاقه، وأمر له بأربعمائة دينار، وقدم إليه فأحسن جائزته.
وممن ضره الشعر وكل من عند الله عز وجل وبمشيئته ومقدوره علي بن العباس بن جريج الرومي: كان ملازماً لأبي الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، مخصوصاً به، فاتصل ذلك بعبيد الله وسمع هجاءه، فقال لولده أبي الحسين: أحب أن أرى ابن روميك هذا، فجمع بينهما فرأى رجلاً لسانه أطول من عقله، فأشار عليه بإبعاده، فقال: أخافه، قال: لم أرد إقصاءه ولكن بيت أبي أبي حية النميري:
فقلنا لها في السر نفديك لا يرح ... صحيحاً وإلا تقتليه فألممي
فحدث أبو القاسم ابن فراس بما كان من أبيه وكان ابن فراس من أشد الناس عداوة لابن الرومي فقال له: أنا أكفيكه، فسم له لوزينجة فمات، وسبب ذلك كثرة هجائه وبذاءته.
ودعبل بن علي الخزاعي: كان هجاء للملوك، جسوراً على أمير المؤمنين، متحاملاً، لا يبالي ما صنع، حتى عرف بذلك، وطار اسمه فيه، فصنع على لسانه بكر بن حماد التاهرتي، وقيل: غيره ممن كان دعبل يؤذيه ويهاجيه:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... كرام إذا عدوا، وثامنهم كلب
وقال قوم:

بل صنعها دعبل نفسه، وكان المعتصم يعرف بالثامن وبالمثمن أيضاً، فبلغه ذلك، فأمر بطلبه، ففر منه إلى بلد بالسودان بناحية المغرب وهي التي تعرف الآن بزويلة بني الخطاب فمات بها وهنالك قبره، وإلى جانبه قبر عبد الله ابن شيخنا أبي عبد الله محمد بن جعفر النحوي رحمه الله، هكذا يروى أصحابنا. وأما شعر البحتري فيشهد بخلاف هذا، وذلك أنه رثي دعبلاً وأبا تمام حبيباً الطائي فقال في أبيات هجا فيها الخثعمي الشاعر:
جدث على الأهواز يبعد دونه ... مسرى النعي، ورمة بالموصل
فالذي بالموصل أبو تمام حبيب لا شك لأنه مات بها وهو يتولى البريد للحسن بن وهب، وكان يعنى به كثيراً، والآخر دعبل، ورأيت من يرويه:
شلو بأعلى عقر قوف تلفه ... هوج الرياح، ورمة بالموصل
والأول أعرف وأشبه بالصواب.
ووالبة بن الحباب: ذكر أن الرشيد أو غيره سأل من القائل:
ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح
في القلب يجرح دائباً ... فالقلب مكلوم النواح
فقال له بعض من حضر من العلماء: ذلك والبة بن الحباب يا أمير المؤمنين، وأين تذهب عن معرفته؟ والله ما رأيت أرق منه شعراً، ولا أطيب نادرة، ولا أكثر رواية، ولا أجزل معرفة بأيام العرب منه، فقال: لم يمنعني منه إلا بيتا شعر قالهما وهما:
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسيا
ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسيا
أتحب أن ينكحنا لا أم لك؟ قال: فغسلت أثوابي عرقاً من شدة الحياء.
ويزيد ابن أم الحكم الثقفي: عهد له الحجاج على فارس، فأتاه يودعه، فقال له: أنشدني، وقدر أنه يمدحه، فأنشده:
وأبى الذي سلب ابن كسرى راية ... بيضاء تخفق كالعقاب الطائر
فاسترد العهد منه، وقال لحاجبه: إذا رده عليك فقل له: أورثك أبوك مثل هذا؟ فقال له الحاجب ذلك، فقال يزيد: قل للحجاج:
وورثت جدي مجده وفعاله ... وورثت جدك أعنزاً بالطائف
وبمثل هذا السبب غضب سليمان بن عبد الملك على الفرزدق، وذلك أنه استنشده لينشده فيه أو في أبيه، فأنشده مفتخراً عليه:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوارذات الحقائب
إذا استوضحوا ناراً يقولون: ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
فتبين غضب سليمان، وكان نصيب حاضراً فأنشده:
أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أو شال ومولاك قارب
قفوا خبروني عن سليمان؛ إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
فقال: يا غلام، أعط نصيباً خمسمائة دينار، وألحق الفرزدق بنار أبيه، فخرج الفرزدق مغضباً يقول:
وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
وممن ضره الشعر وأهلكه سديف؛ فإنه طعن في دولة بني العباس بقوله لما خرج محمد بن الحسن بالمدينة على أبي جعفر المنصور في أبيات له:
إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا ... بعد التباعد والشحناء والإحن
وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فينا كأحكام قوم عابدي وثن
فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إن الخلافة فيكم يا بني الحسن
فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن يدفنه حياً، ففعل، ويقال: إن الأبيات لعبد الله بن مصعب نسبت إلى سديف وحملت عليه فقتل بسببها، وذلك أشد.
وأحمق الشعراء عندي من أدخل نفسه في هذا الباب أو تعرض له، وما للشاعر والتعرض للحتوف؟ وإنما هو طالب فضل، فلم يضيع رأس ماله؟ لا سيما وإنما هو رأسه، وكل شيء يحتمل إلا الطعن في الدول، فإن دعت إلى ذلك ضرورة مجحفة فتعصب المرء لمن هو في ملكه وتحت سلطانه أصوب، وأعذر له من كل جهة وعلى كل حال، لا كما فعل سديف.
وأبو الطيب لما فر ورأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فكر راجعاً فقتل، وكان سبب ذلك هذا البيت..
وكان كافور الإخشيدي قد وعد أبا الطيب بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاظمه في شعره وسموه بنفسه خافه، وعوتب فيه، فقال: يا قوم، من ادعى النبوة مع محمد صلى الله عليه وسلم لا يدعي المملكة مع كافور؟! حسبكم.
وزعم أبو محمد عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي أن أبا الطيب إنما سمي متنبئاً لفطنته، وقال غيره: بل قال: أنا أول من تنبأ بالشعر، وادعى النبوة في بني القصيص.
والأخبار في هذا النوع كثيرة جداً، وإنما جئت بأقربها عهداً، وأشهرها في كتب المؤلفين، مما يليق بالموضع ذكره.

باب تعرض الشعراء
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر، قليل التعرض لأهله: استعداه رهط تميم بن أبي بن مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت؛ فراراً من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان على علمه بالشعر أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وإن اعتل فيه بما اعتل، وقد مضت الحكاية.
وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان ثم قضى على الحطيئة بالسجن، وقيل: بل سجنه لمواقفته إياه وقوله: إن لكل مقام مقالاً، فقال له: أتهددني؟ امضوا به إلى السجن، فسجنه في حفرة من الأرض.
وسئل أبو عبيدة: أي الرجلين أشعر: أبو نواس، أم ابن أبي عيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا؟؟!! وقيل: إن أول من لقب قريشاً على شرفها، وبعد ذكرها في العرب سخينة لحساء كانت تتخذه في الجاهلية عند اشتداد الزمان خداش بن زهير حيث يقول:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم
فذهب ذلك على أفواه الناس، حتى كان من التمازح به ما كان بين معاوية بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد
يريد وطب اللبن، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير يا شدة ما شددنا... البيت وحتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك الأنصاري: أترى الله نسي قولك؟ يعني:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً، كما قال دعبل الخزاعي:
لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتاً مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت
وقال رجل لابن الرومي يمازحه: ما أنت والشعر؟ لقد نلت منه حظاً جسيماً وأنت من العجم، أراك عربياً في الأصل أو مدعياً في الشعر! قال: بل أنت دعي؛ إذ كنت تنتسب عربياً ولم تحسن من ذلك شيئاً، وله يقول من أبيات:
إياك يا بن بويب ... أن يستشار بويب
قد تحسن الروم شعراً ... ما أحسنته العريب
وهذا مثل قول الصيني الشاعر لبعض الأعراب وقد أنشد عبد الله بن طاهر بحضرته شعراً، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ فقال: من العجم، قال: ما للعجم والشعر؟ أظن عربياً نزا على أمك، قال: فمن لم يقل منكم الشعر معشر العرب فإنما نزا على أمه أعجمي!! فسكت الأعرابي.
وأنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال:
وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... وداراهم مداراة جميله
إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإن كذبوا فليس لهن حيله
والأبيات لأبي الدلهان. ولأمر ما قال طرفة:
رأيت القوافي تتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الإبر
وقال امرؤ القيس:

وجرح اللسان كجرح اليد. ومع ذلك كله فلا ينبغي للشاعر أن يكون شرساً، ولا حرجاً عريضاً؛ لما يدل به من طول لسانه وتوقف الناس عن مخاشنته.
فهذا الفرزدق كان شاعر زمانه ورئيس قومه، لم يكن في جيله أطرف منه نادرة، ولا أغرب مدحاً، ولا أسرع جواباً: اجتاز بنسوة وهو على بغلة فهمزها فحبقت، فتضاحكن، وكان عريضاً، فقال: ما يضحككن وما حملتني أنثى قط إلا فعلت مثل هذا؟ قالت إحداهن: فما صنعت التي حملتك تسعة أشهر؟ فانصرف خجلاً.
ومر به رجل فيه لين، فقال له: من أين أقبلت عمتنا؟ فقال: نفاها الأغر بن عبد العزيز، فكأن الفرزدق صب عليه الماء؛ لأنه عرض له بقول جرير فيه حين نفاه عمر بن عبد العزيز من المدينة:
نفاك الأغر بن عبد العزيز ... وحقك تنفى من المسجد
وكان الفرزدق مرة ينشد، والكميت صبي، فأجاد الاستماع إليه، فقال له: يا بني أيسرك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أرى به بدلاً، ولكن يسرني أنك أمي، فأفحمه حتى غص بريقه، وزعم قوم أن هذه الحكاية إنما وقعت مع كثير.
ومر يوماً بمضرس الفقعسي، وهو غلام حديث السن، ينشد الناس شعره فحسده على ما سمعه منه، فقال له بعد كلام طويل فيه تعريض وتصريح: أدخلت أمك البصرة؟ وفهم عنه مضرس ما أراد، فقال: كلا ولكن أبي! ورجع إلى إنشاده فاستحيا الفرزدق، حكى ذلك شيخنا أبو عبد الله، وإنما أراد الفرزدق أنها إن دخلت البصرة فقد وقعت عليها فأنت ابني، قال مضرس: بل أبي وقع على أمك.
ومثل هذا بعينه عرض للفرزدق مع الحطيئة؛ فإن الحطيئة قال له وقد سمعه ينشد شعراً أعجبه: أنجدت أمك؟ قال: بل أنجد أبي!! ونظم ذلك جرير، ونعاه عليه، وادعى أنه صحيح فقال:
كان الحطيئة جار أمك مرة ... والله يعلم شأن ذاك الجار
من ثم أنت إلى الزناء بعلة ... بأشر شيخ في جميع نزار
لا تفخرن بغالب ومحمد ... وافخر بعبس كل يوم فخار
وكان يزعم أن الحطيئة جاور لينة بنت قرطة فأعجبته فراودها فوقع عليها وزوجها أخوها العلاء غالباً أبا الفرزدق وقد تبين حملها فولدت الفرزدق على فراشه.
واحتذى هذا الحذو سواء أبو السمط مروان الأصغر بن أبي الجنوب بن مروان أبي حفصة فقال يهجو علي بن الجهم بن بدر:
لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعرٍ ... وهذا علي بعده بصنع الشعرا
ولكن أبي قد كان جاراً لأمه ... فلما تعاطى الشعر أوهمني أمرا
والشاعر أولى من كف منطقه، وأقال عثرات اللسان؛ لما رزق من القدرة على الكلام، والعفو من القادر أحسن، وبه أليق " ولمن انتصر بعد ظلمه فاؤلئك ما عليهم من سبيل؛ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " .

باب التكسب بالشعر والأنفة منه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنهاكم عن قيل وقال، وعن كثرة السؤال، وإضاعة المال، وعقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات " .
وكانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يد لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها، كما قال امرؤ القيس بن حجر يمدح بني تيم رهط المعلى:
أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام
لأن المعلى أحسن إليه وأجاره حين طلبه المنذر بن ماء السماء، لقتله بني أبيه الذين قتل بدير مرينا، فقيل لبني تيم " مصابيح الظلام " من ذلك اليوم لبيت امرئ القيس. وقال أيضاً لسعد بن الضباب:
سأجزيك الذي دافعت عني ... وما يجزيك عني غير شكري
فأخبره أن شكره هو الغاية في مجازاته كما قدمت.
حتى نشأ النابغة الذبياني؛ فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته أو من سار إليه من ملوك غسان، فسقطت منزلته، وتكسب مالاً جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك.
وتكسب زهير بن أبي سلمى بالشعر يسيراً مع هرم بن سنان.

فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجراً يتجر به نحو البلدان، وقصد حتى ملك العجم فأثابه وأجزل عطيته علماً بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استهجنه واستخف به، لكن احتذى فعل الملوك ملوك العرب.
وأكثر العلماء يقولون: إنه أول من سأل بشعره، وقد علمنا أن النابغة أسن منه وأقدم شعراً، وقد ذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر مع ما فيه من قبح: من مجاعلة الحاجب، ودس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك.
وذكر أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لم خضع النابغة للنعمان؟ فقال: رغب في عطائه وعصافيره.
وأما زهير فما بلغه الطائي قط معرفة باجتداء من يمدحه، ويدلك على ذلك ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة زهير حين سألها: ما فعلت حلل هرم بن سنان التي كساها أباك؟ قالت: أبلاها الدهر، قال: لكن ما كساه أبوك هرماً لم يبله الدهر، وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، قال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل، قال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
ثم إن الحطيئة أكثر من السؤال بالشعر، وانحطاط الهمة فيه، والإلحاف، حتى مقت وذل أهله وهلم جرا، إلى أن حرم السائل وعدم المسئول.
إلا بقايا من أناس بهم ... إلى سبيل المكرمات يهتدى
كالسيد أبي الحسن أحسن الله إلى الدنيا ببقائه. وأما أكثر من تقدم فالغالب على طباعهم الأنفة من السؤال بالشعر، وقلة التعرض به لما في أيدي الناس، إلا فيما لا يزرى بقدر ولا مروءة كالفلتة النادرة والمهمة العظيمة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته.
ألا ترى أن لبيد بن ربيعة لما بعث إليه الوليد بن عقبة مائة من الإبل ينحرها كعادته عند هبوب الصبا، وقد أسن وأقل، وكان يطعم الناس ما هبت الصبا، قال لابنته: اشكري هذا الرجل فإني لا أجد نفسي تجيبني، ولقد أراني لا أعيا بجواب شاعر، فقالت هذه الأبيات:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا
أغر الوجه أبيض عبشمياً ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا
وعرضتها عليه فقال: لقد أجدت لولا أنك استعدت، كراهية في قولها:
فعد إن الكريم له معاد ويروى: لولا أنك استزدت.
وقالوا: كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب؛ لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة، وتهيبهم عند شاعر غيرهم من القبائل؛ فلا يقدم عليهم خوفاً من شاعرهم على نفسه وقبيلته، فلما تكسبوا به وجعلوه طعمة وتولوا به الأعراض وتناولوها صارت الخطابة فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقر نفسه وقارها، وعرف لها مقدارها، حتى قبض تقي العرض مصون الوجه، ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة، فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر.
فقد حكى عن ابن ميادة أنه مدح أبا جعفر المنصور بكلمته التي يقول فيها:
فوجدت حين لقيت أيمن طائر ... ووليت حين وليت بالإصلاح
وعفوت عن كسر الجناح ولم يكن ... لتطير ناهضة بغير جناح
قوم إذا جلب الثناء إليهم ... بيع الثناء هناك بالأرباح
وأتاه راعي إبله بلبن فشرب ثم مسح على بطنه وقد عزم على الرحلة فقال: سبحان الله أأفد على أمير المؤمنين وهذه الشربة تكفيني؟!! وصرف وجهه عن قصده، فلم يفد عليه، هذا على أنه ساقة الشعراء، فأنت ترى كبر نفسه، وبعد همته.
على أن عبد الله بن عمر على جلالته، والحسن البصري، وعكرمة، ومالك بن أنس المدني وجملة من أهل العلم غير هؤلاء، كانوا يقبلون صلات الملوك.
وقد سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن مال السلطان، فقال: لحم طير زكي.

والشعراء في قبولها مال الملوك أعذر من المتورعين وأصحاب الفتيا؛ لما جرت به العادة قبل الإسلام وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أيام المنصور الذي أنف ابن ميادة أن يفد عليه.
وهكذا يروى عن جميل بن عبد الله بن معمر أنه ما مدح أحداً قط إلا ذويه وقراباته، وأنه صحب الوليد بن عبد الملك في سفر، فكلفه أن يرجز به، وظن أنه يمدحه فأنشأ يقول:
أنا جميل في السنام من معد ... في الذروة العلياء والركن الأشد
فقال له الوليد: اركب لا حملت.
وزعم محمد بن سلام الجمحي أنه مدح عبد العزيز بن مروان بقوله في شعره:
أبا مروان أنت فتى قريش ... وكهلهم إذا عد الكهول
توليه العشيرة ما عناها ... فلا ضيق الذراع ولا بخيل
كلا يوميه بالمعروف طلق ... وكل بلائه حسن جميل
وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وكان يشبه به من المولدين العباس بن الأحنف، فإنه ممن أنف عن المدح تظرفاً، وقال فيه مصعب الزبيري: العباس عمر العراق، يريد أنه لأهل العراق كعمر بن أبي ربيعة لأهل الحجاز، استرسالاً في الكلام، وأنفة عن المدح والهجاء، واشتهر بذلك، فلم يكن يكلفه إياه أحد من الملوك ولا الوزراء، وقد أخذ صلة الرشيد وغيره على حسن التغزل ولطف المقاصد في التشبيب بالنساء.
وهذا باب قد احتذاه الكتاب في زماننا هذا إلا القليل، وقوم من شعراء وقتنا أنا ذاكرهم في كتاب غير هذا، إن شاء الله.
وعلى كل حال فإن الأخذ من الملوك كما فعل النابغة، ومن الرؤساء الجلة كما فعل زهير؛ سهل وخفيف.
فأما الحطيئة فقبح الله همته الساقطة على جلالة شعره وشرف بيته، وقد كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عاراً، فضلاً عن العامة وأطراف الناس.
قال ذو الرمة يهجو مروان بن أبي حفصة بذلك، ويفتخر عليه بأنه لا يقبل إلا صلة الملك الأعظم وحده، هكذا رواه عبد الكريم وأنشده ابن عبد ربه أيضاً:
عطايا أمير المؤمنين ولم تكن ... مقسمة من هؤلا وأولائكا
وما نلت حتى شبت إلا عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا
وأنشد له أو لغيره:
وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت، ولا كسب مأثم
ولكن عطاء الله من كل رحلة ... إلى كل محجوب السرادق خضرم
وقال صاحب الكتاب: والذي أعرف أن سلم بن عمرو الخاسر كتب إلى مروان بن أبي حفصة:
من مبلغ مروان عني رسالة ... مغلغلة لا تنثني عن لقائكا
حباني أمير المؤمنين بنفحة ... ثمانين ألفاً طأطأت من حبائكا
ثمانين ألفاً نلت من صلب ماله ... ولم تك قسماً من أولى وأولائكا
فأجابه مروان عن ذلك فقال:
أسلم بن عمرو قد تعاطيت خطة ... تقصر عنها بعد طول عنائكا
وإني لسباق إذا الخيل كلفت ... مدى مائة أو غاية فوق ذلكا
فدع سابقاً إن عاودتك عجاجة ... سنابكه أوهين منك سنابكا
رأيت أمرأ نال السها فحسدته ... فلم يبق إلا أن تموت بدائكا
طلبت من المهدي شطر حبائه ... فقال لك المهدي لست هنالكا
فما أعولت أم على ابن، ولا بكى ... على يوسف يعقوب مثل بكائكا
عضضت على كفيك حتى كأنما ... رزئت الذي أعطيت من صلب مالكا
حبيت بأوقار البغال، وإنما ... سراب الضحى ما تدعي من حبائكا
وما نلت حتى شبت إلا عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا
وما عبت من قسم الملوك لشاعر ... به خص عفواً من أولى وأولائكا
وأقسم لولا ابن الربيع ورفده ... لما ابتلت الدلو التي في رشائكا
ومن قول مروان أيضاً:
قد حبيت بألف ألف لم تكن ... إلا بكف خليفة ووزير
ما زلت آنف أن أؤلف مدحة ... إلا لصاحب منبر وسرير
ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
وقال آخر فيما يناسب هذا ويشاكله، ويشد على يد من تمذهب به أو اعتقده:

وإذا لم يكن من الذل بد ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا
وافتخر بشار بن برد فقال:
وإني لنهاض اليدين إلى العلا ... قروع لأبواب الهمام المتوج
ويروى وإني لسوار اليدين أي: مرتفع.

باب تنقل الشعر في القبائل
ذكر أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتاب الطبقات، وغيره من المؤلفين، أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل بن ربيعة واسمه عدي، وقيل: امرؤ القيس وإنما سمي مهلهلاً لهلهلة شعره، أي: رقته وخفته، وقيل: لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله:
لما توقل في الكراع شريدهم ... هلهلت أثأر جابراً أو صنبلا
ويروى لما توعر في الكلاب هجينهم قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري: يعني بقوله هجينهم امرأ القيس بن حمام الذي ذكره امرؤ القيس في شعره حيث يقول:
عوجا على الطل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حمام
وكان مهلهل تبعه يوم كلاب ففاته ابن حمام بعد أن تناوله مهلهل بالرمح، وقد كان ابن حمام أغار على بني تغلب مع زهير بن جناب فقتل جابراً وصنبلاً، ويروي " لأننا " بمعنى لعلنا، وهي لغة فيما زعم بعض المؤلفين، والذي كنت أعرف " لعننا " بالعين ونونين، وكذلك أعرف " ابن جذام " بذال معجمة، كذا روى الجاحظ وغيره، ويروى " خذام " بالخاء والذال المعجمتين. وكان مهلهل أول من قصد القصائد، قال الفرزدق بن غالب: ومهلهل الشعراء ذاك الأول وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي الشاعر، وجد عمرو بن كلثوم الشاعر أبو أمه.
ومنهم المرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، وعمرو بن قميئة ابن أخيه، ويقال: إنه أخوه، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل: ربيعة بن سفيان، وهذا أعرف.
ومنهم سعد بن مالك الذي يقول:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
ولا أدري هل هو أبو عمرو بن قميئة الشاعر والمرقش الأكبر أم لا؟؟ وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس وهو خال طرفة، واسمه جرير بن عبد المسيح والأعشى واسمه ميمون بن قيس بن جندل وخاله المسيب بن علس واسم المسيب زهير ثم تحول الشعر في قيس فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب لأنهم ينسبون في عبد الله بن غطفان، واسم أبا سلمى ربيعة، ولبيد، والحطيئة، والشماخ واسمه معقل بن ضرار وأخوه مزرد، واسمه جزء بن ضرار، وقيل: بل اسمه يزيد وجزء أخوهما: وكان المزرد شريراً يهجو ضيوفه، وهجا قومه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
تعلم رسول الله أنا كأنما ... أفأنا بأنمار ثعالب ذي صحل
تعلم رسول الله لم أر مثلهم ... أجر على الأدنى وأحرم للفضل
ومنهم خداش بن زهير.
ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم، حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه، وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان الأصمعي يقول: أوس أشعر من زهير، ولكن النابغة طأطأ منه، وكان زهير راوية أوس، وكان أوس زوج أم زهير.
وسئل حسان بن ثابت رضي الله عنه: من أشعر الناس؟ فقال: أرجلاً أم حياً؟ قيل: بل حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل. قال ابن سلام الجمحي: وأشعر هذيل أبو ذؤيب غير مدافع، وحكى الجمحي قال: أخبرني عمر بن معاذ المعمري قال: في التوراة مكتوب أبو ذؤيب مؤلف زورا، وكان اسم الشاعر بالسريانية، فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فأعجب منه وقال: قد بلغني ذلك، وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء لساناً وأعذبهم أهل السروات، وهن ثلاث وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن: فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة في السراة الوسطى، وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد أزد شنوءة وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد، وقال أبو عمرو أيضاً: أفصح الناس علياً تميم وسفلي قيس، وقال أبو زيد: أفصح الناس سافلة العالية وعالية السافلة، يعني عجز هوازن، قال:

ولست أقول قالت العرب إلا ما سمعت منهم، وإلا لم أقل قالت العرب... وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها، ولغتهم ليست بتلك عنده.
وقوم يرون تقدمة الشعر لليمن: في الجاهلية بامريء القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانيء وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودعبل، وكلهم من اليمن، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين: حبيب والبحتري، ويختمون الشعر بأبى الطيب، وهو خاتمة الشعراء لا محالة وكان ينسب في كندة، وهي رواية ضعيفة، وإنما ولد في كندة بالكوفة فيما حكى ابن جنى، وإلا فكان غامض النسب، فيقولون: بديء الشعر بكندة يعنون امرأ القيس وختم بكندة يعنون أبا الطيب وزعم بعض المتأخرين أنه جعفي، وقوم منهم الصاحب بن عباد يقولون: بديء الشعر بملك وختم بملك، يعنون امرأ القيس وأبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان، وقال آخرون: بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ بها، يريدون مهلهلا وأبا فراس، وأشعر أهل المدر بإجماع من الناس واتفاق حسان بن ثابت... وقال أبو عمرو بن العلاء: ختم الشعر بذي الرمة، والرجز برؤية بن العجاج، وزعم يونس أن العجاج أشعر أهل الرجز والقصيد، وقال: إنما هو كلام فأجودهم كلاماً أشعرهم، والعجاج ليس في شعره شيء يستطيع أحد أن يقول: لو كان في مكانه غيره لكان أجود، وذكر أنه صنع أرجوزته: قد جبر الدين الإله فجبر فيها نحو مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، قال: ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها.. وقال أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء... وقال غيره: أول من طول الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحاً؛ لأنه إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك... وكان أبو عبيدة يقول: افتتح الشعر بامريء القيس، وختم بابن هرمة، ولم أرى أنقد من الذي قال: أ شعر الناس من أنت في شعره...وأنشد مروان بن أبي حفصة يوماً جماعة من الشعراء، وهو يقول في واحد بعد واحد: هذا أشعر الناس، فلما كثر ذلك عليه قال: الناس أشعر الناس.

باب في القدماء والمحدثين
كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق، فجعله مولداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين.
قال الأصمعي: جلست إلى ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم، ليس النمط واحدا: ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع، هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: كالأصمعي، وابن الأعرابي أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم من قبلهم وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون، ثم صارت لجاجة.
فأما ابن قتيبة فقال: لم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوماً دون قوم، بل جعل الله ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره.
ومما يؤيد كلام ابن قتيبة كلام علي رضي الله عنه " لولا أن الكلام يعاد لنفد " فليس أحدنا أحق بالكلام من أحد، وإنما السبق والشرف معا في المعنى على شرائط نأتي بها فيما بعد من الكتاب إن شاء الله. وقول عنترة هل غادر الشعراء من متردم يدل على أنه يعد نفسه محدثاً، قد أدرك الشعر بعد أن فرغ الناس منه ولم يغادروا له شيئاً، وقد أتى في هذه القصيدة بما لم يسبقه إليه متقدم، ولا نازعه إياه متأخر. وعلى هذا القياس يحمل قول أبى تمام وكان إماماً في هذه الصناعة غير مدافع :
يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر

فنقض قولهم " ما ترك الأول للآخر شيئاً " وقال في مكان آخر فزاده بياناً وكشفاً للمراد:
فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول: إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين: ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة علية وإن خشن.
وسمعت القاضي أبا الفضل جعفر بن أحمد النحوي وقد سئل عن ذي الرمة وأبي تمام فأجاب بجواب يقرب معناه من هذا لم أحفظه.
وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع وقد ذكر أشعار المولدين: إنما تروى لعذوبة ألفاظها، ورقتها، وحلاوة معانيها، وقرب مأخذها، ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار، وذكر الوحوش والحشرات ما رويت؛ لأن المتقدمين أولى بهذه المعاني، ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما تكتب أشعارهم لقربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام، فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب: يستميل أمة من الناس إلى استماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان.. وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنى الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت: يعرض عنه إلا من عرف فضل صنعته، على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات، وإنما يجعل معلماً للمطربات من القينات: يقومهن بحذقه، ويستمتع بحلوقهن دون حلقه، ليسلمن من الخطأ في صناعتهن، ويطربن بحسن أصواتهن.
وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من أحسن ماوقع، إلا إن أوله من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعن عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحة السقم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كأنت في الحكم؟؟
وإذا وصفت الشيء متعباً ... لم تخل من غلط ومن وهم
ولم أر في هذا النوع أحسن من فضل أتى به عبد الكريم بن إبراهيم فإنه قال: قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت مالا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد مالا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء، وحد الاعتدال، وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره: كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم، ونوادر حكاياتهم، قال: والذي أختاره أنا التجويد والتحسين الذي يختاره علماء الناس بالشعر، ويبقى غابره على الدهر، ويبعد عن الوحشي المستكره، ويرتفع عن المولد المنتحل، ويتضمن المثل السائر، والتشبيه المصيب، والاستعارة الحسنة.
قال صاحب الكتاب: وأنا أرجو أن أكون باختيار هذا الفضل وإثباته ههنا داخلاً في جملة المميزين، إن شاء الله؛ فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه كالذي لفظه سائر في كل أرض، معروف بكل مكان، وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقاً سفساقاً، ولا بارداً غثاً، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشياً خشناً ولا أعرابياً جافياً، ولكن حال بين حالين..
ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولاً عنهم؛ إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الإتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حوكاً، وأحسن ديباجة.

باب المشاهير من الشعراء
والشعراء أكثر من أن يحاط بهم عدداً، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم، وسار شعرهم، وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في أزمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقل ما يجتمع على واحد، إلا ما روى عن عن النبي صلى الله عليه وسلم في امرئ القيس أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار يعني شعراء الجاهلية والمشركين. قال دعبل بن علي الخزاعي: ولا يقود قوماً إلا أميرهم.. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس بن عبد المطلب رحمه الله وقد سأله عن الشعراء:

امرؤ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معانٍ عورٍ أصح بصر.
قال عبد الكريم: خسف لهم من الخسيف وهي البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثيراً، وجمعها خسف، وقوله افتقر أي: فتح، وهو من الفقير، وهو فم القناة، وقوله عن معان عور يعني أن امرأ القيس من اليمن، وأن اليمن ليست لهم فصاحة نزارٍ، فجعل لهم معاني عوراً فتح منها امرؤ القيس أصح بصر.. قال: وامرؤ القيس يماني النسب، نزاري الدار والمنشأ، وفضله علي رضي الله عنه بأن قال: رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة.
وقد قال العلماء بالشعر: إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه قيل أول من لطف المعاني، واستوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقرب مأخذ الكلام؛ فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه.
روى الجمحي أن سائلاً سأل الفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح، قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول:
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب:
ويلمها من هواء الجو طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب.
وسئل ليبد: من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل، قيل: ثم من؟ قال: الشاب القتيل، قيل: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل يعني نفسه .
وكان الحذاق يقولون: الفحول في الجاهلية ثلاثة، وفي الإسلام ثلاثة متشابهون: زهير والفرزدق، والنابغة والأخطل، والأعشى وجرير.
وكان خلف الأحمر يقول: الأعشى أجمعهم. وقال أبو عمرو بن العلاء: مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره. وكان أبو الخطاب الأخفش يقدمه جداً لا يقدم عليه أحداً.
وحكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وزاد قوم: وجرير إذا غضب.
وقيل لكثير أو لنصيب : من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يقدم النابغة؛ ويقول: هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً.
وسئل الفرزدق مرة: من أشعر العرب؟ فقال: بشر بن خازم؛ قيل له: بماذا؟ قال بقوله:
ثوى في ملحد لا بد منه ... كفى بالموت نأياً واغترابا
ثم سئل جرير فقال: بشر بن خازم، قال: بماذا؟ قال: بقوله:
رهين بلى، وكل فتىً سيبلى ... فشقي الجيب وانتحبي انتحاباً
فاتفقا على بشر بن أبي خازم كما ترى.
وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل.. فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة، والحارث بن حلزة، وأثبت الأعشى، والنابغة.
وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة؛ فلذلك يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء، وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته.
وقال الجمحي في كتابه: سأل عكرمة بن جرير أباه جريراً: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ قال: ما أردت إلا الإسلام فإذ ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم، قال: قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة الشعر في يده، قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر، قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: دعني فإني نحرت الشعر نحراً وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعر شعراء الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلاً طرفة، وأما شعراء الوقت فالفرزدق أفخرهم، وجرير أهجاهم، والأخطل أوصفهم.

وأما الحطيئة فسئل عن أشعر الناس، فقال: أبو دؤاد حيث يقول:
لا أعد الإقتار عدماً، ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
وهو وإن كان فحلاً قديماً وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه ويروي شعره فلم يقل فيه أحد من النقاد مقالة الحطيئة.
وسأله ابن عباس مرة أخرى، فقال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم
وليس الذي يقول:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟
بدونه، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم، قال ابن عباس: كذلك أنت يا أبا مليكة.
وزعم ابن أبي الخطاب أن أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، ومهلهل. قال: وقال المفضل: سئل الفرزدق فقال: امرؤ القيس أشعر الناس، وقال جرير: النابغة أشعر الناس، وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس، وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس، وقال ذو الرمة: لبيد أشعر الناس، وقال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس، وهذا يدلك على اختلاف الأهواء، وقلة الاتفاق.
وكان ابن أبي إسحاق وهو عالم، ناقد، ومتقدم مشهور يقول: أشعر الجاهلية مرقش، وأشعر الإسلاميين كثير، وهذا غلو مغلوط، غير أنهم مجمعون على أنه أول من أطال المدح..
وسأل عبد الملك بن مروان الأخطل: من أشعر الناس؟ فقال: العبد العجلاني، يعني تميم بن أبي بن مقبل، قال: بم ذاك؟ قال: وجدته في بطحاء الشعر والشعراء على الحرفين، قال: أعرف ذلك له كرهاً.
وقيل لنصيب مرة: من أشعر العرب؟ فقال: أخو تميم، يعني علقمة بن عبدة، وقيل: أوس بن حجر، وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس ما لزهير والنابغة والأعشى في النفوس.
والذي أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً والنابغة، وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً.
وروى ابن سلام يرفعه عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولم كان كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه، ثم قال ابن سلام على عقب هذا الكلام: قال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح.
قال صاحب الكتاب: وإذا قوبل آخر كلام عمر بآخر هذا الكلام تناقض قول المؤلف أعني ابن سلام لأن عمر إنما وصفه بالحذق في صناعته، والصدق في منطقه؛ لأنه لا يحسن في صناعة الشعر أن يعطى الرجل فوق حقه من المدح؛ لئلا يخرج الأمر إلى التنقص والازدراء، كما أخذ ذلك على أبي الطيب وغيره آنفاً، وقد فسد الوقت، ومات أرباب الصناعة، فما ظنك والناس ناس والزمان زمان؟ وسيرد عليك في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله، وقد استحسن عمر الصدق لذاته، ولما فيه من مكارم الأخلاق، والمبالغة بخلاف ما وصف، ويشهد لقول عمر رضي الله عنه في زهير أنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه استحساناً لصدقه ما جاء به الأثر أن رجلاً قال لزهير: إني سمعتك تقول لهرم:
لأنت أشجع من أسامة إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر
وأنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسداً فتحها قط!! فقد خرج لنفسه طريقاً إلى الصدق، وبعداً عن المبالغة.. والذي أعرف أنا أن البيت المتقدم ذكره لأوس بن حجر، والحكاية عنه، ومثلها عن عمران بن حطان الخارجي لما سألته امرأته كيف قلت:
فهناك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامة
وصدر بيت زهير بن أبي سلمى:
ولنعم حشو الدرع أنت إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر
إلا أن تكون الأخرى رواية فلا أبعدها؛ لأن زهيراً كان يتوكأ على أوس في كثير من شعره، وهي رواية الجمحي لا أظن غير ذلك، فأما بيت زهير في هذا المعنى فهو:

ولأنت أشجع حين تتجه ال ... أبطال من ليث أبي أجر
وأما النابغة فقال من يحتج له: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحاً، وهجاء، وفخراً، وصفة.
وقال بعض متقدمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة، قيل له: فأين الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأ القيس بيده لواء الشعراء؟ فقال: بهذا الخبر صح للأعشى ما قلت، وذلك أنه ما من حامل لواء إلا على رأس أمير، فامرؤ القيس حامل اللواء، والأعشى الأمير.
وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي، وإسلامي، ومولد؛ فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرمة، والمولد ابن المعتز. وهذا قول من يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر.
وطائفة أخرى تقول: بل الثلاثة الأعشى والأخطل وأبو نواس. وهذا مذهب أصحاب الخمر وما ناسبها، ومن يقول بالتصرف وقلة التكلف.
وقال قوم: بل الثلاثة مهلهل وابن أبي ربيعة وعباس بن الأحنف، وهذا قول من يؤثر الأنفة، وسهوله الكلام، والقدرة على الصنعة والتجويد في فن واحد، ولولا ذلك لكان شيخ الطبع أبو العتاهية مكان عباس. لكن أبا العتاهية تصرف.
وليس في المولدين أشهر اسماً من الحسن أبي نواس، ثم حبيب والبحتري ويقال: إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز، فطار اسم ابن المعتز حتى صار كالحسن في المولدين وامرئ القيس في القدماء؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يكاد يجهلهم أحد من الناس، ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس.
والاشتهار بالشعر أقسام وحدود، ولولا ذلك لم يكن نصر بن أحمد الخبزرزي أشهر من منصور النمري وكلثوم العتابي وأبي يعقوب الخريمي وأبي سعيد المخزومي.
وفوق هؤلاء كلهم طبقة في السن أشهرهم وأشعرهم بشار بن برد، وليس يفضل على الحسن مولد سواه، وكذا روى الجاحظ وغيره من العلماء... ومن طبقة بشار مروان بن أبي حفصة، وأبو دلامة زند بن الجون الأعرابي، وقيل: زبد، بالباء معجمة بواحدة ساكنة ومتحركة حكاه المرزباني، والسيد الحميري، وسلم الخاسر، وأبو العتاهية، وجماعة يطول بهم الشرح ليس فيهم مثله.
ومن طبقة أبي نواس العباس بن الأحنف، ومسلم بن الوليد صريع الغواني، والفضل الرقاشي، وأبان اللاحقي، وأبو الشيص، والحسين بن الضحاك الخليع، ودعبل، ونظراء هؤلاء ساقتهم دعبل ليس فيهم نظير أبي نواس.
وأما طبقة حبيب والبحتري وابن المعتز وابن الرومي فطبقة متداركة قد تلاحقوا، وغطوا على من سواهم، حتى نسي معهم بقية من أدرك أبا نواس كابن المعذل، وهو من فحول المحدثين وصدورهم المعدودين، غمره حبيب ذكراً واشتهاراً، وكأبي عفان أيضاً، أدرك أبا نواس، ولحق البحتري فستره، وكذلك الجماز، وللجماز يقول أبو نواس:
اسقني يا بن أذين ... من سلاف الزرجون
وديك الجن، وهو شاعر الشام، لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره يحتذى عليها فسرقها، ودعبل ما أصاب مع أبي تمام طريقاً على تقدمه في السن والشهرة، ولم يذكر من أصحاب ابن الرومي وابن المعتز إلا من ذكر بسببهما في مكاتبة أو مناقضة، وأما أبو الطيب فلم يذكر معه شاعر إلا أبو فراس وحده، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه، وكان الصنوبري والخبزرزي مقدمين عليه للسن، ثم سقطا عنه، على أن الصنوبري يسمى حبيباً الأصغر لجودة شعره، ولقيه مرة بالمصيصة أو غيرها فقال له يهزأ به: أنت صاحب بغادين؟ يريد قصيدته:
شربنا في بغادين ... على تلك الميادين
لما فيها من المجون والخلاعة، فقال له الصنوبري: أنت صاحب الطرطبة؟ يريد قصيدته:
ما أنصف القوم ضبه ... وأمه الطرطبه
لما فيها من الركاكة، ولكل كلام وجه وتأويل، ومن التمس عيباً وجده، وقيل: بل قال له: أنت صاحب جاخا؟ قال: نعم، قال: أنت شاعر بلدك، يريد قوله في صفة الوعل:
ذاك أم أعصم كأن مدرياه ... حين عاجا على القذالين جاخا

باب المقلين من الشعراء والمغلبين

ولما كان المشاهير من الشعراء كما قدمت أكثر من أن يحصوا ذكرت من المقلين وأصحاب الواحدة من وسع ذكره في هذا الموضع، ونبهت على بعض المغلبين منهم؛ لما تدعو إليه حلجة التأليف، وتقتضيه عادة التصنيف، غير مفرط ولا مفرط، إن شاء الله.
فمن المقلين في الشعر: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وطرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء، وهي المعلقة:
لخوله أطلال ببرقة تمهد.
وله سواها يسير؛ لأنه قتل صغيراً حول العشرين فيما روى، وأصح ما في ذلك قول أخته ترثيه:
عددنا له ستاً وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداً ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليداً ولا قحما
أنشده المبرد، والقحم: المتناهي في السن. وعبيد بن الأبرص قليل الشعر في أيدي الناس على قدم ذكره، وعظم شهرته، وطول عمره، ويقال: إنه عاش ثلاثمائة سنة، وكذلك أبو دواد، وعبيد الذي أجاب امرأ القيس عن قوله حين قتلت بنو أسد أباه حجراً:
وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
فقال له عبيد وقرعه بقسم من شعره:
فلو أدركت علباء بن قيس ... قنعت من الغنيمة بالإياب
لأن امرأ القيس قد كان قد قال:
وقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقتل عبيداً النعمان بن المنذر يوم بؤسه، وقيل: عمرو بن هند. وعلقمة ابن عبدة حاكم امرأ القيس في شعره إلى امرأته، فحكمت عليه لعلقمة، فطلقها، وتزوجها علقمة فسمي الفحل لذلك، وقيل: بل كان في قومه آخر يسمى علقمة الخصي من ربيعة الجوع.
ولعلقمة الفحل ثلاث قصائد مشهورات إحداهن: ذهبت من الهجران في كل مذهب ويروي في غير مذهب وفي هذه القصيدة وقع الحكم له على امرئ القيس، والثانية قوله: طحا بك قلب في الحسان طروب والثالثة قوله: هل ما علمت وما استودعت مكتوم وأما عدي بن زيد فلقربه من الريف وسكناه الحيرة في حيز النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وإلا فهو مقل، ومشهوراته أربع: قوله:
أرواح مودع أم بكور؟.
وقوله:
أتعرف رسم الدار من أم معبد؟.
وقوله:
ليس شيء على المنون بباقي.
وقوله:
لم أر مثل الفتيان في غير ال ... أيام ينسون ما عواقبها
وقال بعض العلماء وأحسبه أبا عمرو : وعدي في الشعراء مثل سهيل في النجوم: يعارضها ولا يجري معها. هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها، قليلة في أيدي الناس، ذهبت بذهاب الرواة الذين يحملونها.
ومن المقلين المحكمين سلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس: كل أشعارهم قليل في ذاته جيد الجملة.
ويروى عن أبي عبيدة أنه قال: اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وحصين بن الحمام المري، وأما أصحاب الواحدة فطرفة أولهم عند الجمحي، وهو الحكم الصواب.
ومنهم عنترة، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، من أصحاب المعلقات المشهورات، وعمرو بن معدي كرب، صاحب:
أمن ريحانة الداعي السميع.
والأسعر بن أبي حمران الجعفي صاحب المقصورة:
هل بان قلبك من سليمى فاشتفى؟.
وسويد بن أبي كاهل، صاحب:
بسطت رابعة الحبل لنا.
والأسود بن يعفر، صاحب:
نام الخلي فما أحس رقادي
وله شعر كثير، إلا أنه لا ينتهي إلى قصيدته هذه.
وكان امرؤ القيس مقلاً، كثير المعاني والتصرف، لا يصح له إلا نيف وعشرون شعراً بين طويل وقطعة، ولا ترى شاعراً يكاد يفلت من حبائله، وهذه زيادة في فضله وتقديمه.
وأما المغلبون فمنهم نابغة بني جعدة، ومعنى المغلب: الذي لا يزال مغلوباً. قال امرؤ القيس:
فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب
يعني أنه إذا قدر لم يبق، فإذا قالوا: غلب فلان فهو الغالب. وقد غلب على الجعدي أوس بن مغراء القريعي، وغلبت عليه ليلى الأخيلية، قال الجمحي: وقد غلب عليه من لم يكن إليه في الشعر ولا قريباً منه: عقال بن خويلد العقيلي وكان مفحماً بكلام لا بشعر، وهجاه سوار بن أوفى القشيري، وهاجاه وفاخره الأخطل، وله يقول عبيد بن حصين الراعي يتوعده:

فإني زعيم أن أقول قصيدة ... مبينة كالنقب بين المخازم
خفيفة أعجاز المطي، ثقيلة ... على قربها، نزالة بالمواسم
وقد علم الكافة ما صنع جرير بالأخطل والراعي جميعاً، وقيل: إن موت الجعدي كان بسبب ليلى الأخيلية: فر من بين يديها فمات في الطريق مسافراً، والأصح أنها هي التي ماتت في طلبه. قال الجمحي: كان النابغة الجعدي أقدم من الذبياني؛ لأنه أدرك المنذر بن محرق، ويشهد بذلك قوله:
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ... ومن عادة المحزون أن يتذكرا
نداماي عند المنذر بن محرق ... فأصبح منهم ظاهر الأرض مقفرا
والذبياني إنما أدرك النعمان، وقال غيره: إن النابغة الذبياني شفع عند الحارث بن أبي شمر الغساني حين قتل المنذر في أسارى بني أسد فشفعه، وإياه عني علقمة بن عبدة بقوله:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب
قال الجمحي: وكان الجعدي مختلف الشعر، سئل عنه الفرزدق فقال: مثله مثل صاحب الخلقان: ترى عنده ثوب عصب، وثوب خز، وإلى جنبه شملة كساء. وكان الأصمعي يمدحه بهذا، وينسبه إلى قلة التكلف، فيقول: عنده خمار بواف، ومطرف بآلاف بواف: يعني بدرهم وثلث.
ومن المغلبين الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم، وغلبه المخبل السعدي، وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة.
وقال يونس بن حبيب: كان البعيث مغلباً في الشعر، غلاباً في الخطب.
ومنهم تميم بن أبي بن مقبل: هجاه النجاشي فقهره وغلب عليه، حتى استعدى قومه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن من أشكاله في الشعر فيقرن به، وهاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن وأفحمه.
وحدثنا أبو عبد الله محمد بن جعفر، قال: هجا الأعور بن براء بني كعب، ومدح قومه بني كلاب، فأتت بنو كعب تميم بن أبي بن مقبل ينتصرون عليه به، فقال: لا أهجوهم، ولكني أقول فارووا فقد جاءكم الشعر، وقال:
ولست وإن شاحنت بعض عشيرتي ... لأذكر ما الكهل الكلابي ذاكر
فكم لي من أم لعبت بثديها ... كلابية عادت عليها الأواصر
فأتت الأعور بن براء بنو كعب فعنفوه ورجعوا عليه، فقال:
ولست بشاتم كعباً، ولكن ... على كعب وشاعرها السلام
ولست ببائع قوماً بقوم ... هم الأنف المقدم والسنام
وكائن في المعاشر من قبيل ... أخوهم فوقهم وهم كرام
فتسالما، وكان سبب ذلك إغضاء بن مقبل وإعطاؤه المقادة هرباً من الهجاء، وقوم يرون ذلك منه أنفة.
ومن مغلبي المولدين على جلالته، وتقدمه بشار بن برد، فإن حماد عجرد وليس من رجاله، ولا أكفائه هجاه فأبكاه، ومثل به أشد تمثيل.
وعلي بن الجهم: هاجى أبا السمط مروان بن أبي الجنوب فغلبه مروان، وهاجاه البحتري فغلب عليه أيضاً، على أن علياً أقذع منه لساناً، وأسبق إلى ما يريده من ذلك، وأقدم سناً.
ومنهم حبيب: هاجى السراج وعتبة فما أتى بشيء، وهجاه ابن المعذل حين أراد وجهته فقال: أما هذا فقد كفى ناحيته، ولم يقدم عليه، على أن حبيباً أطول منه ذكراً وأبعد صوتاً في الشعر، والذي قال له:
أنت بين اثنتين، تبرز للنا ... س لكلتيهما بوجه مذال
لست تنفك طالباً لوصال ... من حبيب أو راغباً في نوال
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال؟
ورأيت في شعر ابن المعذل في رواية المبرد أن عبد الصمد اجتمع بحبيب عند بعض بني هاشم، فكتب في رقعة هذه الأبيات المذكورة وألقاها إليه، وهاجى دعبلاً فاستطال عليه دعبل أيضاً.

باب من رغب من الشعراء عن ملاحاة غير الأكفاء
منهم الزبرقان بن بدر: لما هجاه المخبل السعدي جاوبه بعتاب؛ لأنه رآه أهلاً لذلك من أجل شرف بيته وجلالته في نفسه، فلما هجاه الحطيئة لم يره مكاناً للجواب، على أنه ابن عمه وجاره في النسب لأنهما جميعاً من مضر، بل استعدى عليه عمر رضي الله عنه فأنصفه.
وسحيم بن وثيل يقول للأحوص والأبيرد بن المعذر وهما شاعران مفلقان، وقال عبد الكريم: الأبيرد ابن أخي الأحوص:
عذرت البزل إن هي خاطرتني ... فما بالي وبال ابني لبون!
فأنت ترى هذا الاحتقار.

ومثل هذا وإن لم يكن من هذا الباب بحتاً قول الفرزدق لعمر بن لجأ لما أعانه الفرزدق على جرير بشعر، وفطن له جرير، فدهش عمر ولم يجد جواباً، فقال الفرزدق حين بلغه ذلك يستضعفه ويستوهن عز
وما أنت إن قرما تميمٍ تساميا ... أخا اليتيم إلا كالوشيظة في العظم
فلو كنت مولى العز أوفى طلابه ... ظلمت ولكن لا بدى لك بالظلم
والفرزدق قال فيه الطرماح من شعر هجا فيه بيوت بني سعد:
واسأل فقيرة بالمروت هل شهدت ... شوط الحطيئة بين الكسر والنضد
أو كان في غالب شعر فيشبهه ... شعر ابنه فينال الشعر من صدد
جاءت به نطفة من شر ماء صرى ... سيقت إلى شر واد شق في بلد
فقال الفرزدق يتهاون بأمره ويستحقره:
إن الطرماح يهجوني لأرفعه ... أيهات أيهات عيلت دونه القضب
" عيلت دونه القضب أي: رفعت عنه القصائد، من قولهم: عالت الفريضة، أي: ارتفعت، والقضيب: القصيدة لأنها تقتضب.
وجرير هجاه بشار بن برد بأشعار كثيرة فلم يجبه، قال بشار: ولم أهجه لأغلبه، ولكن ليجيبني فأكون من طبقته، ولو هجاني لكنت أشعر الناس.
وهجا حماد عجرد بشاراً، فلم يجبه أنفة واحتقاراً، إلى أن قال فيه:
له مقلة عمياء واست بصيرة ... إلى الأير من تحت الثياب تشير
على وده أن الحمير تنيكه ... وأن جميع العالمين حمير
فغضب وهجاه. قال الجاحظ: ما كان ينبغي لبشار أن يضاد حماد عجرد من جهة الشعر؛ لأن حماداً في الحضيض وبشاراً في العيوق، وليس مولد قروي يعدله شعر في المحدث إلا وبشار أشعر منه، ولا نعلم مولداً بعد بشار أشعر من أبي نواس.
وهجا ابن الرومي البحتري، وابن الرومي من علمت، فأهدى إليه تخت متاع وكيس دراهم، وكتب إليه ليريه أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه، وأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط:
شاعر لا أهابه ... نبحتني كلابه
إن من لا أعزه ... لعزيز جوابه
وأبو تمام: هجاه دعبل وغيره من الأكفاء فجاوبهم، وابتدأ بعضهم، ولم يلتفت إلى مخلد بن بكار الموصلي حين قال فيه وكانت في حبيب حبسة شديدة إذا تكلم:
يا نبي الله في الشع ... ر ويا عيسى بن مريم
أنت من أشعر خلق ... الله ما لم تتكلم
وقال فيه أشعاراً كثيرة منها:
انظر إليه وإلى خبثه ... كيف تطايا وهو منشور
ويحك من دلاك في نسبة ... قلبك منها الدهر مذعور
إن ذكرت طاء على فرسخ ... أظلم في ناظرك النور
بل رآه دون المهاجاة والجواب، ولو هجاه لشرفت حاله ونبه ذكره.
وكذلك فعل المتنبي حين بلي بحماقات ابن حجاج البغدادي: سكت عنه اطراحاً واحتقاراً، ولو أجابه لما كان بحيث هو من الأنفة والكبر؛ لأنه ليس من أنداده، ولا من طبقته.
ولما وصل أبو القاسم بن هانئ إلى أفريقية هجاه الشعراء، فقال: لا أجيب منهم أحداً إلا أن يهجوني علي التونسي فإني أجيبه، فلما بلغ قوله علياً قال: أما إني لو كنت ألأم الناس ما هجوته بعد أن شرفني على أصحابي وجعلني من بينهم كفئاً له.
ومن الشعراء من يتزيا بالكبر، ويظهر الأنفة في الجواب عن هجاء من هو مثله أو فوقه خوفاً من الزراية على نفسه، كما وقع من جماعة أعرفهم من أهل عصرنا، وهو يتسرعون إلى أعراض السوقة والباعة، ويستفحلون على الصبيان ومن ليس من أهل الصناعة، ولو كانت لهم أنفة كما يزعمون إلا عن الأكفاء لكانوا عمن لا يحسن شيئاً بالجملة ولا يعد في الخاصة أشد تنزهاً.
ومنهم من لا يهجو كفئاً ولا غيره؛ لما في الهجو من سوء الأثر، وقبح السمعة: كالذي يحكى عن العجاج أنه قيل له: لم لا تهجو؟ فقال: ولم أهجو؟ إن لنا أحساباً تمنعنا من أن نظلم، وأحلاما تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيتم بانياً لا يحسن أن يهدم؟ ثم قال: أتعلمون أني أحسن أن أمدح؟ قالوا: نعم، قال:

أفلا أحسن أن أجعل مكان " أصلحك الله " " قبحك الله " ومكان " حياك الله " " أخزاك الله " . وقد رد ابن قتيبة هذا القول على العجاج بأن الهجاء أيضاً بناء، وليس كل بان لضرب بانياً لغيره. ورده الجاحظ بأن من الشعراء من لا يجيد فناً من الشعر، وإن أجاد فناً غيره، كما يوجد ذلك في كل صناعة. ومعنى الجاحظ وابن قتيبة واحد، وإن اختلف اللفظان، والصواب ما قالا إلا أن يعرف من الشاعر أنف عن قدرة لا تدفع، وبعد تجربة لا تستراب، فحينئذ. وسئل نصيب عن مثل ذلك فقال: إنما الناس أحد ثلاثة: رجل لم أعرض لسؤاله فما وجه ذمه، ورجل سألته فأعطاني فالمدح أولى به من الهجاء، ورجل سألته فحرمني فأنا بالهجاء أولى منه، وهذا كلام عاقل منصف، لو أخذ به الشعراء أنفسهم لاستراحوا واستراح الناس.
وقد كان في زماننا من انتحل هذا المذهب، وهو أبو محمد عبد الكريم بن إبراهيم، لم يهج أحداً قط. ومن أناشيده في كتابه المشهور، لغيره من الشعراء:
ولست بهاج في القرى أهل منزل ... على زادهم أبكي وأبكي البواكيا
فإما كرام موسرون أتيتهم ... فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا
وإما كرام معسرون عذرتهم ... وإما لئام فادخرت حيائيا
وهذا مثل كلام نصيب في المنثور الذي تقدم، وإنما ذكرت هؤلاء لأنهم يمدحون ولا يرضون بالهجاء، وأما من لا يمدح فأحرى أن لا يهجو أحداً، على أن منهم من لم يقل قط إلا هجواً أو شبيهاً به: كيحيى بن نوفل، ذكره دعبل في طبقاته، ونجد له من أهل عصرنا نظراء عدة.

باب في الشعراء والشعر
طبقات الشعراء أربع: جاهلي قديم، ومخضرم، وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث. ثم صار المحدثون طبقات: أولى وثانية على التدريج، وهكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا، فليعلم المتأخر مقدار ما بقي له من الشعر فيتصفح مقدار من قبله لينظركم بين المخضرم والجاهلي، وبين الإسلامي والمخضرم، وأن المحدث الأول فضلاً عمن دونه دونهم في المنزلة، على أنه أغمض مسلكاً وأرق حاشية، فإذا رأى أنه ساقة الساقة تحفظ على نفسه، وعلم من أين يؤتى، ولم تغرره حلاوة لفظه، ولا رشاقة معناه، ففي الجاهلية والإسلام من ذهب بكل حلاوة ورشاقة، وسبق إلى كل طلاوة ولباقة.
قال أبو الحسن الأخفش: يقال: ماء خضرم، إذا تناهى في الكثرة والسعة، فمنه سمي الرجل الذي شهد الجاهلية والإسلام مخضرماً، كأنه استوفى الأمرين، قال: ويقال: أذن مخضرمة، إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام.
وحكى ابن قتيبة عن عبد الرحمن عن عمه، قال: أسلم قوم في الجاهلية على إبل قطعوا آذانها، فسمي كل من أدرك الجاهلية والإسلام مخضرماً، وزعم أنه لا يكون مخضرماً حتى يكون إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدركه كبيراً ولم يسلم، وهذا عندي خطأ؛ لأن النابغة الجعدي ولبيداً قد وقع عليهما هذا الاسم، وأما علي بن الحسين كراع فقد حكى: شاعر مخضرم بحاء غير معجمة مأخوذ من الحضرمة، وهي الخلط؛ لأنه خلط الجاهلية بالإسلام.
وأنشد بعض العلماء ولم يذكر قائله:
الشعراء فاعلمن أربعه ... فشاعر لا يرتجى لمنفعه
وشاعر ينشط وسط المجمعه ... وشاعر آخر لا يجري معه
وشاعر يقال خمر في دعه
وهكذا رويتها عن أبي محمد عبد العزيز بن أبي سهل رحمه الله، وبعض الناس يرويها على خلاف هذا.
وقد قيل: لا يزال المرء مستوراً وفي مندوحة ما لم يصنع شعراً أو يؤلف كتاباً؛ لأن شعره ترجمان علمه، وتأليفه عنوان عقله.
وقال الجاخظ: من صنع شعراً أو وضع كتاباً فقد استهدف؛ فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف.
قال حسان بن ثابت، وما أدراك ما هو؟:
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيساً وإن حمقا
وقال محمد بن مناذر وكان إماماً:
لا تقل شعراً ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعراً فأجد
وقال شيطان الشعراء دعبل بن علي:
سأقضي ببيت يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الروايات حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله
وقالوا:

الشعراء أربعة: شاعر حنذيذ، وهو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره، وسئل رؤبة عن الفحولة، قال: هم الرواة؛ وشاعر مفلق، وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره؛ وشاعر فقط، وهو فوق الرديء بدرجة؛ وشعرور، وهو لا شيء. قال بعض الشعراء لآخر هجاه:
يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مفحم لا أنطق
وقيل: بل هم شاعر مفلق، وشاعر مطلق، وشويعر، وشعرور، والمفلق: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب، وقيل: الفلق الداهية قال الأصمعي: فالشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك امرؤ القيس، ومثل عبد العزى المعروف بالشويعر، وهو الذي يقول:
فنلت به ثأري، وأدركت ثورتي ... إذا ما تناسى ذحله كل غيهب
وهو الضعيف عن طلب ثأره، وروى بالغين معجمة وبالعين غير معجمة.
قال الجاحظ: والشويعر أيضاً صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث، وقيل: اسمه ربيعة بن عثمان، وهو القائل:
وأفلتنا أبو ليلى طفيل ... صحيح الجلد من أثر السلاح
وقال بعضهم: شاعر، وشويعر، وشعرور.
وقال العبدي في شاعر يدعى المفوف من بني ضبة ثم من بني حميس:
ألا تنهى سراة بني خميسٍ ... شويعرها فويلية الأفاعي
فسماه شويعراً، وفالية الأفاعي: دويبة فوق الخنفساء، فصغرها أيضاً تحقيراً له وزعم الحاتمي أن النابغة سئل: من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد جيده، وأضحك رديئه، وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة؛ لأنه إذا أضحك رديئه كان من سفلة الشعراء، إلا أن يكون ذلك في الهجاء خاصة، وقال الحطيئة:
الشعر صعب وطويل سلمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه ... زلت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
وإنما سمي الشاعر شاعراً؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة قيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير..
ولقي رجل آخر فقال له: إن الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وماص بظر أمه، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي.
وقال بعضهم: الشعر شعران: جيد محكك، ورديء مضحك، ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط.
وقد قال ابن الرومي يهجو ابن طيفور:
عدمتك يا ابن أبي الطاهر ... وأطعمت ثكلك من شاعر
فما أنت سخن ولا بارد ... وما بين ذين سوى الفاتر
وأنت كذاك تغثي النفو ... س تغثية الفاتر الخاثر
وقد يجوز أن يكون النابغة أشار فيما حكى عنه الحاتمي من الرديء المضحك إلى هذا النحو.
وقيل: عمل الشعر على الحاذق به أشد من نقل الصخر، ويقال: إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل أهول ما يكون على العالم، وأتعب أصحابه قلباً من عرفه حق معرفته، وأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك ولو كان دونهم بدرجات، وكيف إن قاربوهم أو كانوا منهم بسبب؟ وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة أعني النقد ولا يشقون له غباراً، لنفاذه فيها؛ وحذقه بها، وإجادته لها وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه، والصيرفي يخبر من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضربه، حتى أنه ليعرف مقدار ما فيه من الغش وغيره فينقص قيمته.
وحكى أن رجلاً قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعراً استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه!! فقال له: إذا أخذت درهماً تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء هل ينفعك استحسانك إياه؟.
وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله، وأنشد:
وقد يقرض الشعر البكي لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو لبيب

والشعر مزلة العقول، وذلك أن أحداً ما صنعه قط فكتمه ولو كان رديئاً، وإنما ذلك لسروره به، وإكباره إياه، وهذه زيادة في فضل الشعر، وتنبيه على قدره وحسن موقعه من كل نفس.
وقال الأصمعي على تقدمه في الرواية وميزة بالشعر:
أبى الشعر إلا أن يفيء رديه ... علي، ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أكُ من فرسانه كنت مفحما
وقال عبد الكريم: الشعر أربعة أصناف: فشعر هو خير كله، وذلك ما كان في باب الزهد، والمواعظ الحسنة، والمثل العائد على من تمثل به بالخير، وما أشبه ذلك؛ وشعر هو ظرف كله، وذلك القول في الأوصاف، والنعوت والتشبيه، وما يفتن به من المعاني والآداب؛ وشعر هو شر كله، وذلك الهجاء، وما تسرع به الشاعر إلى أعراض الناس؛ وشعر يتكسب به، وذلك أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل إنسان من حيث هو، ويأتي إليه من جهة فهمه.
وذكر الجمحي في الشعراء المقاحم والثنيان قال: والمقحم: الذي يقتحم سناً إلى أخرى، وليس بالبازل ولا المستحكم، وأنشد لأوس بن حجر:
وقد رام بحري قبل ذلك طامياً ... من الشعراء كل عود ومقحم
قال: والثنيان: الواهن العاجز، وأنشد لأوس بن مغراء:
ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم ... بدؤهم إن أتانا كان ثنيانا
قال غيره: الثنيان: الذي ليس بالرئيس، بل هو دونه، وأنشدوا لنابغة بني ذبيان يخاطب يزيد بن الصعق:
يصد الشاعر الثنيان عني ... صدود البكر عن قرم هجان
قال الجمحي: وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، منها ما تثقفه اليد منها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراوة ولا دنس ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرغها، ومنه البصر بأنواع المتاع وضروبه وصنوفه مع تشابه لونه ومسه وذرعه واختلاف بلاده حتى يرد كل صنف منها إلى بلده الذي خرج منه، وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهدين، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون بهذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار وألفي دينار؛ ولكن لا يجد واصفها مزيداً على هذه الصفة؛ وتوصف الدابة فيقال: خفيف العنان، لين الظهر، جيد الحافر، فتي السن، نقي من العيوب؛ فيكون بخمسين ديناراً أو نحوها، وتكون أخرى بمائتي دينار وأكثر، تكون هذه صفتها، ويقال للرجل والمرأة في القراءة والغناء: إنه لندي الحلق، حسن الصوت، طويل النفس، مصيب اللحن، ويوصف الآخر والأخرى بهذه الصفة وبينهما بون بعيد، يعرف ذلك أهل العلم به عند المعاينة والاستماع، بلا صفة ينتهي إليها ولا علم يوقف عليه، وإن كثرت المدارسة للشيء لتعين على العلم به، وكذلك الشعر يعرفه أهل العلم به.
وسمعت بعض الحذاق يقول: ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هو شيء يقع في النفس عند المميز: كالفرند في السيف، والملاحة في الوجه، وهذا راجع إلى قول الجمحي، بل هو بعينه، وإنما فيه فضل الاختصار.

باب حد الشعر وبنيته

الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء، وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر؛ لأن من الكلام موزوناً مقفى وليس بشعر؛ لعدم القصد والنية، كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما لم يطلق عليه أنه شعر، والمتزن: ما عرض على الوزن فقبله، فكأن الفعل صار له، ولهذه العلة سمي ما جرى هذا المجرى من الأفعال فعل مطاوعة، هذا هو الصحيح، وعند طائفة من أصحاب الجدل أن المنفعل والمفتعل لا فاعل لهما، نحو: شويت اللحم فهو منشوٍ ومشتوٍ، وبنيت الحائط فهو منبنٍ، ووزنت الدينار فهو متزن، وهذا محال لا يصح مثله في العقول، وهو يؤدي إلى ما لا حاجة لنا به، ومعاذ الله أن يكون مراد القوم في ذلك إلا المجاز والاتساع، وإلا فليس هذا مما يغلط فيه من رق ذهنه وصفا خاطره، وإنما جئت بهذا الفصل احتجاجاً على من زعم أن المتزن غير داخل في الموزون، وإذا لم يعرض المتزن على الوزن فيوجد موزوناً فمن أين يعلم أنه متزن؟ وكيف يقع عليه هذا الاسم؟ وقال بعض العلماء بهذا الشأن: بني الشعر على أربعة أركان، وهي: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء.
وقالوا: قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب: فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع.
وقال الرماني علي بن عيسى: أكثر ما تجري عليه أغراض الشعر خمسة: النسيب، والمدح، والهجاء، والفخر، والوصف، ويدخل التشبيه والاستعارة في باب الوصف.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطأة بن سهية: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أشرب، ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن. قال أبو علي البصير:
مدحت الأمير الفتح أطلب عرفه ... وهل يستزاد قائل وهو راغب
فأفنى فنون الشعر وهي كثيرة ... وما فنيت آثاره والمناقب
فجعل الرغبة غاية لا مزيد عليها.
وقال عبد الكريم: يجمع أصناف الشعر أربعة: المديح، والهجاء، والحكمة، واللهو، ثم يتفرغ من كل صنف من ذلك فنون؛ فيكون من المديح المرائي والافتخار والشكر، ويكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ويكون من الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرد وصفة الخمر والمخمور.
وقال قوم: الشعر كله نوعان: مدح، وهجاء؛ فإلى المدح يرجع الرثاء، والافتخار، والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف: كصفات الطلول والآثار، والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق: كالأمثال، والحكم، والمواعظ، والزهد في الدنيا، والقناعة، والهجاء ضد ذلك كله، غير أن العتاب حال بين حالين؛ فهو طرف لكل واحد منهما، وكذلك الإغراء ليس بمدح ولا هجاء؛ لأنك لا تغرى بإنسان فتقول: إنه حقير ولا ذليل، إلا كان عليك وعلى المغري الدرك، ولا تقصد أيضاً بمدحه الثناء عليه فيكون ذلك على وجهه.
والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية: قراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون، وصارت الأعاريض والقوافي كالموازين والأمثلة للأبنية، أو كالأواخي والأوتاد للأخبية، فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر فإنما هو زينة مستأنفة ولو لم تكن لاستغنى عنها.
قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب الوساطة: الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان. وقال: ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمخضرم، والأعرابي والمولد، إلا أني أرى حاجة المحدث إلى الرواية أمس، وأجده إلى كثرة الحفظ أفقر، فإذا استكشفت عن هذه الحال وجدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العربي إلا رواية، ولا طريق إلى الرواية إلا السمع، وملاك السمع الحفظ.
قال دعبل في كتابه:

من أراد المديح فبالرغبة، ومن أراد الهجاء فبالبغضاء، ومن أراد التشبيب فبالشوق والعشق، ومن أراد المعاتبة فبالاستبطاء؛ فقسم الشعر كما ترى هذه الأقسام الأربعة، وكان الرثاء عنده من باب المدح على ما قدمت، إلا أنه جعل العتاب بدلاً منه.
وقال غير واحد من العلماء: الشعر ما اشتمل على المثل السائر، والاستعارة الرائعة، والتشبيه الواقع، وما سوى ذلك فإنما لقائله فضل الوزن.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلت لأعرابي: من أشعر الناس؟ قال: الذي إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مدح رفع، وإذا هجا وضع.
وسئل بعض أهل الأدب: من أشعر الناس؟ فقال: من أكرهك شعره على هجو ذويك ومدح أعاديك، يريد الذي تستحسنه فتحفظ منه ما فيه عليك وصمة، وخلاف للشهوة، وهذا ذوب قول أبي الطيب:
وأسمع من ألفاظه اللغة التي ... يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي
أخذه من قول أبي تمام:
فإن أنا لم يمدحك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد
أتبعه البحتري في ذلك فقال:
ليواصلنك ركب شعري سائراً ... يرويه فيك لحسنه الأعداء
وقال عبد الصمد بن المعذل: الشعر كله في ثلاث لفظات، وليس كل إنسان يحسن تأليفها: فإذا مدحت قلت أنت، وإذا هجوت قلت لست، وإذا رثيت قلت كنت.
وقال بعض النقاد: أصغر الشعر الرثاء؛ لأنه لا يعمل رغبة ولا رهبة.
قال ابن قتيبة: قال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: أنت في مدائحك لمحمد بن منصور كاتب البرامكة أشعر منك في مراثيك له، فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن نعمل اليوم على الوفاء.
قال صاحب الكتاب: ومن هذا المنثور والله أعلم سرق البصير بيته المتقدم في الفتح بن خاقان.
وقيل لبعضهم: ما أحسن الشعر؟ فقال: ما أعطى القياد، وبلغ المراد.
وقال أبو عبد الله وزير المهدي: خير الشعر ما فهمته العامة، ورضيته الخاصة.
وسمعت بعض الشيوخ يقول: قال الحذاق: لو كانت البلاغة في التطويل ما سبق إليها أبو نواس والبحتري.
وقال بعض الحذاق من المتعقبين: أشعر الناس من تخلص في مدح امرأة ورثائها.
وقال ابن المعتز: قيل لمعتوه: ما أحسن الشعر؟ قال: ما لم يحجبه عن القلب شيء.

باب في اللفظ والمعنى
اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى؛ لأنا لا نجد روحاً في غير جسم البتة.
ثم للناس فيما بعد آراء ومذاهب: منهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله غايته ووكده، وهم فرق: قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته، على مذهب العرب من غير تصنع، كقول بشار:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار، وكذلك ما مدح به الملوك يجب أن يكون من هذا النحت.
وفرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر: كأبي القاسم بن هانئ ومن جرى مجراه؛ فإنه يقول أول مذهبته:
أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم ... وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم
وما ذعرت إلا لجرس حليها ... ولا رمقت إلا برى في مخدم

وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد، ما الذي يفيدنا أن تكون هذه المنسوب بها ليست حليها فتوهمته بعد الإصاخة والرمق وقع فرس أو لمع سيف؟ غير أنها مغزوة في دارها، أو جاهلة بما حملته من زينتها، ولم يخف عنا مراده أنها كانت تترقبه!! فما هذا كله؟ وكانت عند أبي القاسم مع طبعه صنعة، فإذا أخذ في الحلاوة والرقة، وعمل بطبعه وعلى سجيته؛ أشبه الناس، ودخل في جملة الفضلاء؛ وإذا تكلف الفخامة، وسلك طريق الصنعة أضر بنفسه، وأتعب سامع شعره. ويقع له من الكلام المصنوع والمطبوع في الأحايين أشياء جيدة، كقوله في المطبوع يصف شجعاناً:
لا يأكل السرحان شلو عقيرهم ... مما عليه من القنا المتكسر
العقير ههنا منهم، أي: لم يمت لشجاعته حتى تحطم عليه من الرماح ما لا يصل معه الذئب إليه كثرة، ولو كان العقير هو الذي عقروه هم لكان البيت هجواً؛ لأنه كان يصفهم بالضعف والتكاثر على واحد. وقوله في المصنوع:
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنضر من ورق الحديد الأخضر
فهذا كله جيد وبديع، وقد زاد فيه على قول البحتري:
حملت حمائله القديمة بقلةً ... من عهد عاد غضة لم تذبل
ويروى:
من عهد تبع
ومنهم من ذهب إلى سهولة اللفظ فعني بها، واغتفر له فيها الركاكة واللين المفرط: كأبي العتاهية، وعباس بن الأحنف، ومن تابعهما، وهم يرون الغاية قول أبي العتاهية:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسروا الأكفان من عاجل
ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شغل شاغل
عيني على عتبة منهلة ... بدمعها المنسكب السائل
يا من رأى قبلي قتيلاً بكى ... من شدة الوجد على القاتل
بسطت كفي نحوكم سائلاً ... ماذا تردون على السائل؟
إن لم تنيلوه فقولوا له ... قولاً جميلاً بدل النائل
أو كنتم العام على عسرة ... منه فمنوه إلى قابل
وقد ذكر أن أبا العتاهية وأبا نواس والحسين بن الضحاك الخليع اجتمعوا يوماً، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية هذه القصيدة، فسلما له وامتنعا من الإنشاد بعده، وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا القصد، وحسن هذه الإشارات؛ فلا ننشد شيئاً، وذلك في بابه من الغزل جيد أيضاً لا يفضله غيره.
ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته: كابن الرومي، وأبي الطيب، ومن شاكلهما: هؤلاء المطبوعون، فأما المتصنعون فسيرد عليك ذكرهم إن شاء الله تعالى.
وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعت بعض الحذاق يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمناً، وأعظم قيمة، وأعز مطلباً؛ فإن المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف، ألا ترى أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة لم يكن للمعنى قدر.
وبعضهم وأظنه ابنوكيع مثل المعنى بالصورة، واللفظ بالكسوة؛ فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس فقد بخست حقها، وتضاءلت في عين مبصرها.
وقال عبد الكريم وكان يؤثر اللفظ على المعنى كثيراً في شعره وتآليفه : الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل، وإنما حكاه ونقله نقلاً عمن روى عنه النحاس.
ومن كلام عبد الكريم: قال بعض الحذاق: المعنى مثال، واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال؛ فيتغير بتغيره، ويثبت بثباته.
ومنه قول العباس بن حسن العلوي في صفة بليغ: معانيه قوالب لألفاظه، هكذا حكى عبد الكريم، وهو الذي يقتضيه شرط كلامه، ثم خالف في موضع آخر فقال: ألفاظه قوالب لمعانيه، وقوافيه معدة لمبانيه، والسجع يشهد بهذه الرواية الأخرى، وهي أعرف.

والقالب يكون وعاء كالذي تفرغ فيه الأواني، ويعمل به اللبن والآجر، وقد يكون قدراً للوعاء كالذي يقام به اللوالك، وتصلح عليه الأخفاف، ويكون مثالاً كالذي تحذى عليه النعال، وتفصل عليه القلانس، فلهذا احتمل القالب أن يكون لفظاً مرة ومعنى مرة.
وللشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة، لا ينبغي للشاعر أن يعدوها، ولا أن يستعمل غيرها، كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها، إلا أن يريد شاعر أن يتظرف باستعمال لفظ أعجمي فيستعمله في الندرة، وعلى سبيل الخطرة، كما فعل الأعشى قديماً، وأبو نواس حديثاً، فلا بأس بذلك، والفلسفة وجر الأخبار باب آخر غير الشعر؛ فإن وقع فيه شيء منهما فبقدر، ولا يجب أن يجعلا نصب العين فيكونا متكئاً واستراحة، وإنما الشعر ما أطرب، وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبنى عليه، لا ما سواه.
ومن ملح الكلام على اللفظ والمعنى ما حكاه أبو منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي، قال: البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني.
وقال غيره: الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار.
وقال أبو عبادة البحتري:
وكأنها والسمع معقود بها ... وجه الحبيب بدا لعين محبه

باب في المطبوع والمصنوع
ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولاً، وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم فليس متكلفاً تكلف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمل، لكن بطباع القوم عفواً، فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف: يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفاً من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك، والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي وتلاحم الكلام بعضه ببعض حتى عدوا من فضل صنعة الحطيئة حسن نسقه الكلام بعضه على بعض في قوله:
فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا
ولا وأبيك ما ظلمت قريع ... ولا برموا لذاك ولا أساءوا
بعثرة جارهم أن ينعشوها ... فيغبر حوله نعم وشاء
فيبنى مجدهم ويقيم فيها ... ويمشي إن أريد به المشاء
وإن الجار مثل الضيف يغدو ... لوجهته وإن طال الثواء
وإني قد علقت بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء
وكذلك قول أبي ذؤيب يصف حمر الوحش والصائد:
فوردن والعيوق مقعد رابئ ال ... ضرباء خلف النجم لا يتتلع
فكرعن في حجرات عذاب بارد ... حصب البطاح تغيب فيه الأكرع
فشربن ثم سمعن حساً دونه ... شرف الحجاب، وريب قرع يقرع
فنكرنه فنفرن فامترست به ... هوجاء هادية وهادٍ جرشع
فرمى فأنفذ من نحوص عائط ... سهماً فخر وريشه متصمع
فبدا له أقراب هادٍ رائغاً ... عنه فعيث في الكنانة يرجع
فرمى فألحق صاعدياً مطحراً ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلع
فأبدهن حتوفهن فهارب ... بدمائه أو بارك متجعجع
فأنت ترى هذا النسق بالفاء كيف اطرد له، ولم ينحل عقده، ولا اختل بناؤه، ولولا ثقافة الشاعر ومراعاته إياه لما تمكن له هذا التمكن.

واستطرفوا ما جاء من الصنعة نحو البيت والبيتين في القصيدة بين القصائد، يستدل بذلك على جودة شعر الرجل، وصدق حسه، وصفاء خاطره؛ فأما إذا كثر ذلك فهو عيب يشهد بخلاف الطبع، وإيثار الكلفة، وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد؛ كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما. وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها: فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم صريع الغواني إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين: كان يبطئ في صنعته ويجيدها.
وقالوا: أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد، وابن هرمة، وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره. ثم أتبعهما مقتدياً بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس. واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز؛ فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به. وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة، وحسن الديباجة، والمعرفة بمدح الملوك. وأما بشار فقد شبهوه بامرئ القيس؛ لتقدمه على المولدين وأخذهم عنه، ومن كلامهم: بشار أبو المحدثين.
وسمعت أبا عبد الله غير مرة يقول: إنما سمي الأعشى صناجة العرب لأنه أول من ذكر الصنج في شعره. قال: ويقال: بل سمي صناجة لقوة طبعه، وحلية شعره، يخيل لك إذا أنشدته أن آخر ينشد معك. ومثله من المولدين بشار بن برد، تنشد أقصر شعره عروضاً وألينه كلاماً فتجد له في نفسك هزة وجلبة من قوة الطبع؛ وقد أشبهه تصرفاً وضرباً في الشعر وكثرة عروض مدحاً وهجاء وافتخاراً وتطويلاً. انقضى كلام أبي عبد الله ورجعنا إلى القول في الطبع والتصنيع.
ولسنا ندفع أن البيت إذا وقع مطبوعاً في غاية الجودة ثم وقع في معناه بيت مصنوع في نهاية الحسن لن تؤثر فيه الكلفة ولا ظهر عليه التعمل كان المصنوع أفضلهما، وإلا أنه إذا توالى ذلك وكثر لم يجز البتة أن يكون طبعاً واتفاقاً؛ إذ ليس ذلك في طباع البشر. وسبيل الحاذق بهذه الصناعة إذا غلب عليه حب التصنيع أن يترك للطبع مجالاً يتسع فيه، وقيل: إذا كان الشاعر مصنعاً بان جيده من سائر شعره: كأبي تمام؛ فصار محصوراً معروفاً بأعيانه، وإذا كان الطبع غالباً عليه لم يبن جيده كل البينونة، وكان قريباً من قريب: كالبحتري ومن شاكله. وقد نص ابن الرومي في بعض تسطيراته على محمد بن أبي حكيم الشاعر حين عاب عليه قوله في الفرس من قصيدة رثى بها عبد الله بن طاهر:
فله شهامة سودنيق باكر ... وحوافر حفر ورأس صنتع
وذكر قول حبيب:
بحوافر حفر وصلب صلب

فحفل به، واعتذر له، وخرج التخاريج الحسان، وذكر أن الحافر المقعب ونحوهما أشرف في اللفظ من الحافر الأحفر، إلا أن الطائي عنده كان يطلب المعنى ولا يبالي باللفظ، حتى لو تم له المعنى بلفظة نبطية لأتى بها، والذي أراه أن ابن الرومي أبصر بحبيب وغيره منا، وأن التسليم له والرجوع إليه أحزم، غير أنني لو شئت أن أقول ولست راداً عليه، ولا معترضاً بين يديه إن المعنى الذي أراده وأشار إليه من جهة الطائي إنما هو معنى الصنعة كالتطبيق والتجنيس وما أشبههما، لا معنى الكلام الذي هو روحه، وإن اللفظ الذي ذكر أنه لا يبالي به إنما هو فصيح الكلام ومستعمله، ويدلك على صحة ما ادعيته على ابن الرومي قوله " إن الحافر الوأب والمقعب أشرف في اللفظ من الحافر الأحفر " ؛ فكلامه راجع إلى ما قلته في الطائي، غير مخالف له، وإن كان في الظاهر على خلافه؛ لينساغ ذلك، إلا أن أكثر الناس على ما قال، وإنما هذا معرض للكلام، لا مخالفة.
وقال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عامياً، ولا ساقطاً سوقياً؛ فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشياً، إلا أن يكون المتكلم به بدوياً أعرابياً؛ فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي.
قال: وأنشد رجل قوماً شعراً فاستغربوه، فقال: والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غرباء.
وعن غيره: أن رجلاً قال للطائي في مجلس حفل وأراد تبكيته لما أنشد: يا أبا تمام، لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ فقال له: وأنت لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟ ففضحه.
ويروى أن هذه الحكاية كانت مع أبي العميثل وصاحبين له خاطباه فأجابهما.
وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل: يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه ويتحرج خوفاً على دينه. وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء: يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي، ولا حيث وقع.
وكان الأصمعي يقول: زهير والنابغة من عبيد الشعر، يريد أنهما يتكلفان إصلاحه ويشغلان به حواسهما وخواطرهما.
ومن أصحابهما في التنقيح وفي التثقيف والتحكيك طفيل الغنوي. وقد قيل: إن زهيراً روى له، وكان يسمى محبراً لحسن شعره.
ومنهم الحطيئة، والنمر بن تولب، وكان يسميه أبو عمرو بن العلاء الكيس.
وكان بعض الحذاق بالكلام يقول: قل من الشعر ما يخدمك، ولا تقل منه ما تخدمه، وهذا هو معنى قول الأصمعي، وسأحلي هذا الباب من كلام السيد أبي الحسن بحلية تكون له زينة فائقة، وأختمه بخاتمة تكسوه حلة رائقة؛ لأوفى بذلك بعض ما ضمنت، وأقضى به حق ما شرطت، إن شاء الله.
فمن ذلك قوله بتاهرت سنة خمس وأربعمائة يتشوق إلى أهله:
ولي كبد مكلومة من فراقكم ... أطامنها صبراً على ما أجنت
تمنتكم شوقاً إليكم وصبوةً ... عسى الله أن يدني لها ما تمنت
وعين جفاها النوم واعتارها البكى ... إذا عن ذكر القيروان استهلت
فلو أن أعرابياً تذكر نجداً فحن به إلى الوطن، أو تشوق فيه إلى بعض السكن؛ ما حسبته يزيد على ما أتى به هذا المولد الحضري المتأخر العصر، وما انحط بهذا التمييز في هواي، ولا أتنفق بهذا القول عند مولاي، ولا الخديعة مما تظن به، ولا فيه، ولكن رأيت وجه الحق فعرفته، والحق لا يتلثم، وما هو في بلاغته وإيجازه إلا كما قال الأحيمر السعدي في وصيته:
من القول ما يكفي المصيب قليله ... ومنه الذي لا يكتفي الدهر قائله
يصد عن المعنى فيترك مانحاً ... ويذهب في التقصير منه يطاوله
فلا تك مكثاراً تزيد على الذي ... عنيت به في خطب أمر تزاوله

باب في الأوزان
الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة، إلا أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيباً في التقفية لا في الوزن، وقد لا يكون عيباً نحو المخمسات وما شاكلها.
والمطبوع مستغن بطبعه عن معرفة الأوزان، وأسمائها، وعللها؛ لنبو ذوقاً عن المزاحف منها والمستكره. والضعيف الطبع محتاج إلى معرفة شيء من ذلك يعينه على ما يحاوله من هذا الشأن.

وللناس في ذلك كتب مشهورة، وتواليف مفردة، وبينهم فيه اختلاف، وليس كتابي هذا بمحتمل شرح ذلك، ولا هو من شرطه؛ فراراً من التكرار والتطويل، ولكني أذكر نتفاً يحتاج إليها، ويكتفي بها من نظر من المتعلمين في هذا الكتاب، إن شاء الله.
فأول من ألف الأوزان وجمع الأعاريض والضروب الخليل بن أحمد فوضع فيها كتاباً سماه العروض استخفافاً، والعروض: آخر جزء من القسم الأول من البيت، وهي مؤنثة، وتثنى وتجمع، إلا أن يكون لهذا الجنس من العلم، والضرب: آخر جزء من البيت من أي وزن كان.
ثم ألف الناس بعده، واختلفوا على مقادير استنباطاتهم، حتى وصل الأمر إلى أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، فبين الأشياء وأوضحها في اختصار، وإلى مذهبه يذهب حذاق أهل الوقت، وأرباب الصناعة: فأول ما خالف فيه أن جعل الخليل الأجزاء التي يوزن بها الشعر ثمانية: منها اثنان خماسيان، وهما: فعولن، وفاعلن، وستة سباعية، وهي: مفاعيلن، وفاعلاتن، ومستفعلن، ومفاعلتن، ومتفاعلن، ومفعولات، فنقص الجوهري منها جزء مفعولات، وأقام الدليل على أنه منقول من " مستفع لن " مفروق الوتد، أي: مقدم النون على اللام؛ لأنه زعم أنه لو كان جزءاً صحيحاً لتركب من مفرده بحر كما تركب من سائر الأجزاء. يريد أنه ليس في الأوزان وزن انفرد به مفعولات، ولا تكرر في قسم منه، وعد الخليل أجناس الأوزان فجعلها خمسة عشر جنساً، على أنه لم يذكر المتدارك، وهي عنده: الطويل، والمديد، والبسيط، في دائرة؛ دائرة ثم الوافر والكامل في دائرة: ثم الهزج، والرجز، والرمل، في دائرة؛ ثم السريع، والمنسرح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمجتث، في دائرة. ثم المتقارب وحده في دائرة.
وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاج اختلاف الناس في ألقاب الشعر؛ فحكى عن الخليل شيئاً أخذت به اختصاراً وتقليداً؛ لأنه أول من وضع علم العروض وفتحه للناس، وغادرت ما سوى ذلك من قول أبي إسحاق الزجاج وغيره لا على أن فيه تقصيراً.
ذكر الزجاج أن ابن دريد أخبره عن أبي حاتم عن الأخفش قال: سألت الخليل بعد أن عمل كتاب العروض: لم سميت الطويل طويلاً؟ قال: لأنه طال بتمام أجزائه، قلت: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط عن مدى الطويل وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن، قلت: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه، قلت: فالوافر؟ قال: لوفور أجزائه وتداً بوتدٍ، قلت: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر، قلت: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب؛ شبه بهزج الصوت، قلت: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام، قلت: فالرمل؟ قال: لأنه شبه برمل الحصير لضم بعضه إلى بعض، قلت: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان، قلت: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته، قلت: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات، قلت: فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من السريع، قلت: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب، قلت: فالمجتث؟ قال: لأنه اجتث، أي: قطع من طويل دائرته، قلت: فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه؛ لأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً.
وجعل الجوهري هذه الأجناس اثني عشر باباً، على أن فيها المتدارك: سبعة منها مفردات، وخمسة مركبات، قال: فأولها المتقارب، ثم الهزج، والطويل بينهما مركب منهما، ثم بعد الهزج الرمل، والمضارع بينهما، ثم بعد الرمل الرجز، والخفيف بينهما، ثم بعد الرجز المتدارك، والبسيط بينهما، ثم بعد المتدارك المديد، مركب منه ومن الرمل، قال: ثم الوافر والكامل، لم يتركب بينهما بحر لما فيهما من الفاصلة.
وزعم أن الخليل إنما أراد بكثرة الألقاب الشرح والتقريب، قال: وإلا فالسريع هو من البسيط، والمنسرح والمقتضب من الرجز، والمجتث من الخفيف؛ لأن كل بيت مركب من مستفعلن فهو عنده من الرجز طال أو قصر، وكل بيت ركب من مستفعلن فاعلن فهو من البسيط طال أو قصر، وعلى هذا القياس سائر المفردات والمركبات عنده. والمتدارك الذي ذكره الجوهري مقلوب من دائرة المتقارب، وذلك أن فعولن يخلفه فاعلن ويخبن فيصير فعلن، وشعر عمرو الجني منه، وهو الذي يسميه الناس اليوم الخبب.

وليس بين العلماء اختلاف في تقطيع الأجزاء، وأنه يراعى فيه اللفظ دون الخط؛ فيقابل الساكن بالساكن، والمتحرك بالمتحرك، ويظهر حرف التضعيف، وتسقط ألف الوصل ولام التعريف إذا لم تظهر في درج الكلام، وتثبت النون بدلاً من التنوين، ويعد الوصل والخروج حرفين، وهذا هو الأصل المحقق؛ لأن الأوزان إنما وقعت على الكلام، والكلام لا محالة قبل الخط؛ لأن الألف صورة هوائية لا مستقر لها، ولأن المضاعف يجعل حرفاً واحداً، ولأن التنوين شكل خفي، وليس في جميع الأوزان ساكنان في حشو بيت إلا في عروض المتقارب؛ فإن الجوهري أنشد، وأنشده المبرد قبله:
ورمنا القصاص وكان التقاص ... فرضاً وحتماً على المسلمين
قال الجوهري: كأنه نوى الوقوف على الجزء، وإلا فالجمع بين ساكنين لم يسمع به في حشو بيت.
قال صاحب الكتاب: إلا أن سيبويه قد أنشد:
كأنه بعد كلال الزاجر ... ومسحه مر عقاب كاسر
بإسكان الحاء وإدغامها في الهاء والسين قبلها ساكنة.
وجميع أجزاء الشعر تتألف من ثلاثة أشياء: سبب، ووتد، وفاصلة؛ فالسبب نوعان: خفيف، وهو متحرك بعده ساكن، نحو: ما، وهل، وبل، ومن، وثقيل، وهو متحركان، نحو: لم، وبم، إذا سألت، وقد أنكره بعض المحدثين: والوتد أيضاً نوعان: مجموع، وهو متحركان بعدهما ساكن، نحو: رمى، وسعى، ومفروق، وهو ساكن بين متحركين، نحو: قال، وباع. والفاصلة فاصلتان: صغرى، وهي ثلاث متحركات بعدها ساكن، نحو: بلغت، وما أشبه ذلك، وكبرى، وهي أربع متحركات بعدها ساكن، نحو: بلغني، وبلغنا، وما أشبه ذلك، وهي تأتي في جزء من الشعر بعينه، وهو: فعلتن، ولا تأتي البتة بإجماع من الناس بين جزءين فتكون حرفين متحركين في آخر جزء ومثلهما في أول جزء آخر يليه، ولا يجتمع في الشعر خمس متحركات البتة.
ومن الناس من جعل الشعر كله من الأوتاد والأسباب خاصة يركب بعضهما على بعض فتتركب الفواصل منهما، وبعض المتعقبين وأظنه الملقب بالحمار يسمي الفاصلتين وتداً ثلاثياً، ووتداً رباعياً، والسبب عنده نوعان: منفصل نحو من، ومتصل نحو لمن؛ فاللام عنده وحدها سبب متصل، والميم والنون سبب هو منفصل لما كان لحركة الميم نهاية وهي النون الساكنة، ولو كانت متحركة لم تكن نهاية.
وأما الزحاف فهو ما يلحق أي جزء كان من الأجزاء السبعة التي جعلت موازين الشعر من نقص أو زيادة أو تقديم حرف أو تأخيره أو تسكينه، ولا يكاد يسلم منه شعر.
ومن الزحاف ما هو أخف من التمام وأحسن، كالذي يستحسن في الجارية من التفاف البدن واعتدال القامة، مثال ذلك مفاعيلن في عروض الطويل التام تصير مفاعلن في جميع أبياته، وهذا هو القبض، وكل ما ذهب خامسه الساكن فهو مقبوض. وفاعلن في عروض البسيط التام وضربه يصير فعلن، وذلك هو الخبن، وكل ما ذهب ثانيه الساكن فهو مخبون. ومفاعلتن في عروض الوافر التام وضربه حذفوا منه التاء والنون وأسكنوا اللام فصار مفاعل، فخلفه فعولن، وهذا هو القطف، وليس في الشعر مقطوف غيره. ويخف على المطبوع أبداً أن يجعل مكان مستفعلن في الخفيف مفاعلن يظهر له أحسن.
ومنه أعني الزحاف ما يستحسن قليله دون كثيره، كالقبل اليسير والفلج واللثغ مثال ذلك قول خالد بن زهير الهذلي لخاله أبي ذؤيب:
لعلك إما أم عمرو تبدلت ... سواك خليلاً شاتمي تستحيرها
فنقص ساكناً بعد كاف سواك؛ وهو نون فعولن، وهذا هو القبض، ومن رواه " خليلاً سواك " قبض الياء من مفاعيلن، وهو أشد قليلاً. ومنه يحتمل على كره، كالفدع والوكع والكزم في بعض الحسان، ومثاله في الشعر كثير وكفاك قول امرئ القيس بن حجر:
وتعرف فيه من أبيه شمائلاً ... ومن خاله، ومن يزيد، ومن حجر
سماحة ذا، وبر ذا، ووفاء ذا، ... ونائل ذا: إذا صحا، وإذا سكر
فهذا أجمع العلماء بالشعر أنه ما عمل في معناه مثله، إلا أنه على ما تراه من الزحاف المستكره، حكى ذلك أبو عبيدة.
ومنه قبيح مردود لا تقبل النفس عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس وسوء التركيب، مثله قصيدة عبيد المشهورة:
أقفر من أهله ملحوب.
فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبة ارتجلها فاتزن له أكثرها.
وقال الأصمعي:

الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه، لا يقدم عليها إلا فقيه.
وينبغي للشاعر أن يركب مستعمل الأعاريض ووطيئها، وأن يستحلى الضروب ويأتي بألطفها موقعاً، وأخفها مستمعاً، وأن يجتنب عويصها ومستكرهها؛ فإن العويص مما يشغله، ويمسك من عنانه، ويوهن قواه، ويفت في عضده، ويخرجه عن مقصده.
وقد يأتون بالخرم كثيراً وهو ذهاب أول حركة من وتد الجزء الأول من البيت وأكثر ما يقع في البيت الأول، وقد يقع قليلاً في أول عجز البيت، ولا يكون أبداً إلا في وتد، وقد أنكره الخليل لقلته فلم يجزه، وأجازه الناس، أنشده الجوهري:
قدمت رجلاً فإن لم تزع ... قدمت الأخرى فنلت القرار
وأنشد أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري لامرئ القيس:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... وابن جريح كان في حمص أنكرا
هكذا روايته، ورواه غيره ولا بن جريح بغير خرم. فإذا اجتمع الخرم والقبض على الجزء فذلك هو الثرم، وهو قبيح. وهذان عيبان تدلك التسمية فيهما على قبحهما؛ لأن الخرم في الأنف، والثرم في الفم، وإنما كانت العرب تأتي به لأن أحدهم يتكلم بالكلام على أنه غير شعر، ثم يرى فيه رأياً فيصرفه إلى جهة الشعر؛ فمن ههنا احتمل لهم وقبح على غيرهم. ألا ترى أن بعض كتاب عبد الله بن طاهر عاب ذلك على أبي تمام في قوله:
هن عوادي يوسف وصواحبه.
على أنه أولى الناس بمذاهب العرب.
ويأتون بالخزم بزاي معجمة وهو ضد الخزم بالراء غير المعجمة، الناقص منهما ناقص نقطة، والزائد زائد نقطة وليس الخزم عندهم بعيب؛ لأن أحدهم إنما يأتي بالحرف زائداً في أول الوزن، إذا سقط لم يفسد المعنى، ولا أخل به ولا بالوزن، وربما جاء بالحرفين والثلاثة، ولم يأتوا بأكثر من أربعة أحرف، أنشدوا عن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى ورضي عنه:
اشدد حياز يمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا
فزاد " اشدد " بياناً للمعنى لأنه هو المراد. قال كعب بن مالك الأنصاري يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه:
لقد عجبت لقوم أسلموا بعد عزهم ... إمامهم للمنكرات وللغدر
فزاد " لقد " على الوزن، هكذا أنشدوه. وأنشد الزجاج وزعم أصحاب الحديث أن الجن قالته:
نحن قتلنا سيد الخزر ... ج سعد بن عباده
رميناه بسهمين ... فلم نخط فؤاده
فزاد على الوزن " نحن " وأنشد الزجاج أيضاً:
بل لم تجزعوا يا آل حرب مجزعاً.
فزاد " بل " وأنشد أيضاً:
يا مطر بن خارجة بن مسلم إنني ... أجفى وتغلق دوني الأبواب
وإنما الوزن " مطر بن خارجة " والياء والألف زائدة.. ومما جاء فيه الخزم في أول عجز البيت وأول صدره، وهو شاذ جداً، قول طرفة:
هل تذكرون إذ نقاتلكم ... إذ لا يضر معدماً عدمه
فزاد في أول صدر البيت " هل " وزاد في أول العجز " إذ " والبيت من قصيدته المشهورة:
أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه
وقال جريبة بن الأشيم أنشده أبو حاتم عن أبي زيد الأنصاري:
لقد طال إيضاعي المخدم لا أرى ... في الناس مثلي من معد يخطب
حتى تأوبت البيوت عشية ... فوضعت عنه كوره تتثاءب
فاللام في " لقد " زائدة، وصاحب هذا الشعر جاهلي قديم، وقالت الخنساء:
أقذىً بعينك أم بالعين عوار ... أم أوحشت إذ خلت من أهلها الدار
فزادت ألف الاستفهام، ولو أسقطتها لم يضر المعنى ولا الوزن شيئاً، وروى أن أبا الحسن بن كيسان كان ينشد قول امرئ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله.
فما بعد ذلك بالواو فيقول:
وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة.
وكأن السباع فيه غرقى عشية.
معطوفاً هكذا؛ ليكون الكلام نسقاً بعضه على بعض وقال عبد الكريم بن إبراهيم: مذهبهم في الخزم أنه إذا كان البيت يتعلق بما بعده وصلوه بتلك الزيادة بحروف العطف التي تعطف الاسم على الاسم والفعل على الفعل والجملة على الجملة، وأخذ الخزم من خزامة الناقة، ومن شأنهم مد الصوت فجعلوه عوضاً من الخزم الذي يحذفونه من أول البيت.
وقد قال غيره:

إنما أسقطوه كأنهم يتوهمون أنه في السكتة؛ فلذلك جعلوه في الوتد المجموع؛ لأن المفروق لو أسقطوا حركته الأولى لبقي أوله ساكناً، ولا يبتدأ بالساكن، فيسقط أيضاً، والسكتة لا تحتمل عندهم إلا حرفاً واحداً؛ وهذا اعتلال مليح بين جداً.
ومن التزحيف في الأوساط الإفعاد، وهو أن تذهب مثلاً نون متفاعلن أو مستفعلن في عروض الضرب الثاني من الكامل، وتسكن اللام، فيصير عروضه كضربه فعلاتن أو مفعولن، كما قال الشاعر، وهذا هو القطع عند أصحاب القوافي:
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار
فجاء هذا على معنى التصريع وليس به؛ فهو عيب، وأقبح منه قول الآخر:
إني كبرت وإن كل كبير ... مما يضن به علي ويقتر
لأنه أتى بالعروض دون الضرب بحرف، لا لتوهم تصريع ولا إشكال، وإنما نذكر مثل هذا ليجتنب إذا عرف قبحه. وجاء منه في الطويل قول النابغة الذبياني:
جزى الله عبساً عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
أنشده النحاس. قول ضباب بن سبيع بن عوف الحنظلي:
لعمري لقد بر الضباب بنوه ... وبعض البنين حمة وسعال
هكذا روايته بالحاء غير معجمة، وهو الصحيح، وبعضهم يرويه غمة بالغين معجمة.
وزعم الجمحي أن الإقعاد لا يجوز لمولد، وقد أتى به البحتري في عروض الخفيف فقال يهجو شاعراً:
ليس ينفك هاجياً مضروباً ... ألف حد ومادحاً مصفوعاً
قياساً على قول الحارث بن حلزة اليشكري:
أسد في اللقاء ذو أشبال ... وربيع إن شنعت غبراء
وابن قتيبة يسمى هذا الزحاف إقواء، وسأذكره في أبواب القوافي إن شاء الله تعالى.
ومن مهمات الزحاف أربعة أشياء: ابتداء، وهو ما كان في أول البيت مما لا يجوز مثله في الحشو: كالثلم في الطويل، والعصب الوافر، والخرم في الهزج؛ وفصل، وهو ما كان ملتزماً في نصف البيت الذي يسمى عروضاً، مثل مفاعلن في عروض الطويل، وفعلن في عروض المديد، وما جرى مجراهما، هذا هو الحقيقة، وأما ما كان من جهة التوسع والمجاز ومعنى التقريب فقد مر ذكرهما آنفاً؛ واعتماد، وهو ما كان من الزحاف الجائز في الحشو ولا مثل الجزء الذي قبل الضرب، كقول امرئ القيس:
أعنى على برق أراه وميض ... يضيء حبياً في شماريخ بيص
فأثبت ياء شماريخ وهي مكان النون من فعولن، وكان الأجود أن يسقطها بالقبض؛ لمكان الاعتماد؛ لأن السبب قد اعتمد على وتدين: أحدهما قبله، والآخر بعده، فقوى قوة ليست لغيره من الأسباب، فحسن الزحاف فيه، والاعتماد في المتقارب سلامة الجزء من الزحاف؛ وغاية، وهو ما كان في الضرب الذي هو جزء القافية ملتزماً مخالفاً للحشو: كالمقطوع والمقصور والمكسوف، والمقطوف، وهذه أشياء لا تكون في حشو البيت..
قالوا: وأكثر الغايات معتل؛ لأن الغاية إذا كانت فاعلاتن أو فعولن أو مفاعيلن فقد لزمها أن لا تحذف سواكن أسبابها؛ لأن آخر البيت لا يكون متحركاً، هذه حقيقة ما ذكر، وأما المجاز والاتساع فكثير...
ويتصل بالغايات أنواع أخر: فمن ذلك معرفة ما يلزمه حرف المد واللين الذي هو الردف مما لا يلزمه ذلك؛ أجمع حذاق أهل العلم من البصريين والكوفيين على أن كل وزن نقص من أتم بنائه حرف متحرك عوض حرف المد واللين من ذلك الحرف فلم يجيء إلا مردفاً بواو أو ياء أو ألف. ولا يحتسب في ذلك بما يقع للزحاف، مثل مفعولن في الخفيف. ألا ترى أنه يعاقب فاعلاتن؟ فهو لا يوجب الردف، فإن ذهب منه أكثر من حرف متحرك أو ما يقوم مقامه، وهو حرف ساكن مع حرف آخر متحرك؛ لم يلزمه الردف، وإذا التقى ساكنان ألزموه الردف: فما سقط فألزم حرف المد فعولن المحذوف في الطويل، لم يعتدوا بالنون لما يدركها من الزحاف فكأنما ذهبت اللام فقط، ومن المديد فاعلاتن المقصور، ومن البسيط فعلن المقطوع. والفرق بين القطع والقصر أن القصر في الأسباب والقطع في الأوتاد، وهما جميعاً ذهاب ساكن من آخر الجزء وحركة متحرك قبله ملاصقة. والردف إنما يكون عوضاً مما بعده لا مما قبله. ومن الكامل فعلات المقطوع، ومن الرجز مفعولن المقطوع، ومن الرمل فاعلاتن المقصور، ومن المتقارب فعولن المقصور.

ومما التقى فيه ساكنان وألزموه الردف مستفعلان المذال في البسيط، وفيه اختلاف: أما من ألزمه الردف فلالتقاء الساكنين، أقاموا المد منهما مقام الحركة؛ وأما من لم يلزمه الردف فلآنه قد تم وزيد على تمامه. والإرداف إنما يأتي عوضاً من النقصان لا من الزيادة. وفي الكامل متفاعلان المذال، وفي الرجز شاذ، أنشده أبو زهرة النحوي في كتاب العروض، وهو:
كأنني فوق أقب سهوقٍ ... جأبٍ إذا عشر صاتي الإرنان
وفي الرمل فاعلاتن وحدها، والقول فيها كالقول في مستفعلان المذال في البسيط، وفاعلات في السريع، وهو مذيل من البسيط عند الجوهري؛ فإما على ما عند من سواه فهو موقوف من مفعولات مطوية أي ساقطة الواو ومفعولات في مشطور السريع أيضاً، وفي منهوك المنسرح يلزمها حرف اللين؛ فعلى هذا إجماع الحذاق، إلا سيبويه فإنه رخص فيه لموافقة الوزن مردفاً وغير مردف، وأنشد قول امرئ القيس:
ولقد رحلت العيس ثم زجرتها ... وهناً وقلت: عليك خير معد
وقول الراجز:
إن تمنع اليوم نساء يمنعن.
بإسكان العين والنون. وكان الجرمي والأخفش يريان هذا غلطاً من قائله، كالسناد والإكفاء، يحكى ولا يعمل به، إلا أن أبا نواس في قوله:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند.
أخذ يقول سيبويه، وهو قليل، والقياس الأول حسن مطرد، وهو المختار. ومن أهم أمور الغايات معرفة ما ينشد الشعر مطلقاً ومقيداً. قال أبو القاسم الزجاجي وغيره من أصحاب القوافي: الشعر ثلاثة وستون ضرباً، لا يجوز إطلاق مقيد منه إلا انكسر الشعر، ما خلا ثلاثة أضرب: أحدهما في الكامل:
أبني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
وهذا هو الضرب السابع يسمى مذالاً، وإن شئت قلت: ولا الكبيرا فأطلقته وهو الضرب السادس منه يسمى المرفل، والضرب الثاني في الرمل وهو قول زيد الخيل:
يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
وهو الضرب الثاني منه، فإن أطلقته صار أول ضرب منه، والضرب الثالث في المتقارب، أنشد الأصمعي وأبو عبيدة:
كأني ورحلي إذا زعتها ... على جمزي جازي بالرمال
غير أن سيبويه أنشد فيما يجوز تقييده وإطلاقه:
صفية قومي ولا تعجزي ... وبكى النساء على حمزة
وهو من المتقارب: إن أطلق كان محذوفاً، وإن قيد كان أبتر. وقد أنشد أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري لعمرو بن شاس، قال: والشعر مقيد
وما بيضة بات الظليم يحفها ... إلى جؤجؤ جاف بميثاء محلال
بأحسن منها يوم بطن قراقر ... تخوض به بطن القطاة وقد سال
لطيفة طي الكشح مضمرة الحشا ... هضيم العناق هونة غير مجبال
تميل على مثل الكثيب كأنها ... نقاً كلما حركت جانبه مال
هذا شيء لم يذكره العروضيون، وهو عندهم مطلق محمول على الإقواء، كما حمل قول امرئ القيس:
أحنظل لو حاميتم وصبرتم ... لأثنيت خيراً صالحاً ولأرضان
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران
عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلابل صفوان
فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بأيمان وأوفى بجيران
إلا الأخفش والجرمي؛ فإنهما يرويان هذا الشعر موقوفاً، ولا يريان فيه إقواء، وهذا عند سيبويه لا بأس به.
وقد صوب الناس قول الخليل في مخالفة هذا المذهب، وأنشد بعض المتعقبين أظنه البازي العروضي:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
بالتقييد على أنه من الضرب المحذوف المعتمد، قال: إلا أنه يدخله عيب لترك حرف اللين، وهو كثير جداً.

وليس الابتداء والفصل والاعتماد والغاية بعلل، ولكنها مواضع العلل؛ فأقيم المضاف إليه مقام المضاف. وأما زحاف الحشو فمن أهمه معرفة المعاقبة والمراقبة: فأما المعاقبة فهي أن يتقابل سببان في جزءين، فهما يتعاقبان السقوط: يسقط ساكن أحدهما لثبوت ساكن الآخر، ويثبتان جميعاً، ولا يسقطان جميعاً، والمعاقبة بين سببي جزءين من جميع الأوزان في أربعة أنواع: المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث، وهو عند الجوهري ضرب من الخفيف، فإذا كان السبب في أول البيت أو كان قبله وتد دخله الزحاف فهو بريء من المعاقبة؛ إذ ليس قبله ما يعاقبه، ولأن الوتد لا يعاقب السبب، فإذا زوحف ثاني الجزء لمعاقبة ما بعده فهو عجز، فإن زوحف أوله لمعاقبة ما قبله وآخره لمعاقبة ما بعده فهما طرفان، وياء مفاعيلن في الطويل والهزج يعاقب نونها، وكذلك سين مستفعلن في الكامل تعاقب فاءها.
والمراقبة: أن يتقابل السببان في جزء واحد فيسقط ساكن أحدهما، ولا يسقطان جميعاً البتة، وكذلك لا يثبتان جميعاً، وهي من جميع الأوزان في المضارع والمقتضب، والجوهري يعد المقتضب من الرجز كما قدمت، فهي من المضارع في سببي مفاعيلن أعني الياء والنون إما أن يأتي مفاعيلن مقبوضاً أو مفاعيلن مكفوفاً، ومن المقتضب في سببي مفعولات أعني الفاء والواو إما أن تخبن فتصير مفاعيل وإما أن تطوى فتصير فاعلات، ولا يجوز أن يكون هذا ولا الذي قبله أعني المضارع سالماً البتة.
والفرق بين المراقبة والمعاقبة أن سببي المعاقبة يثبتان معاً، وأن سببي المراقبة لا يثبتان معاً، وأن المعاقبة في جزءين، إلا ما كان من مفاعيلن في الطويل والهزج ومستفعلن في الكامل وأن المراقبة في جزء واحد.
وسأفرد لباقي الزحاف باباً أذكره فيه مع المشطور إن شاء الله تعالى.
ولست أحمل أحداً على ارتكاب الزحاف إلا ما خف منه وخفي، ولو أن الخليل رحمه الله وضع كتاب العروض ليتكلف الناس ما فيه من الزحاف ويجعله مثالاً دون أن يعلموا أنها رخصة أتت بها العرب عند الضرورة لوجب أن يتكلف ما صنعه من الشعر مزاحفاً ليدل بذلك على علمه وفضل ما نحا إليه.
ولسنا نرى الزحاف الظاهر في شعر محدث، إلا القليل لمن لا يتهم كالبحتري، وما أظنه كان يتعمد ذلك، بل على سجيته؛ لأنه كان بدوياً من قرى منبج، ولذلك أعجب الناس به، وكثر الغناء في شعره؛ استطرافاً لما فيه من الحلاوة على طبع البداوة. وذكر ابن الجراح أنه من أهل قنسرين والعواصم.
وقد ذكرت ما يليق ذكره بهذا الموضع ليعرفه المتعلم إن شاء غير متكلف به شعراً إلا ما ساعده عليه الطبع، وصح له فيه الذوق؛ ولأني وجدت تكلف العمل بالعلم في كل أمر من أمور الدين أوفق، إلا في الشعر خاصة؛ فإن عمله بالطبع دون العروض أجود؛ لما في العروض من المسامحة في الزحاف، وهو مما يهجن الشعر، ويذهب برونقه.

باب القوافي
القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية، هذا على رأي من رأى أن الشعر ما جاوز بيتاً واتفقت أوزانه وقوافيه ويستدل بأن المصرع أدخل في الشعر، وأقوى من غيره، وأما ما قد أراه فقد قدمته في باب الأوزان.
واختلف الناس في القافية ما هي؟ فقال الخليل: القافية من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه من قبله، مع حركة الحرف الذي قبل الساكن، والقافية على هذا المذهب، وهو الصحيح تكون مرة بعض كلمة، ومرة كلمة، ومرة كلمتين، كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عل.
فالقافية من الياء التي بعد حرف الروي في اللفظ إلى نون من مع حركة الميم، وهاتان كلمتان. وعلى وزن هذه القافية قوله:
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل.
فالقافية " مرجل " وهي كلمة، وعلى وزنها قوله:
ويلوى بأثواب العنيف المثقل.
فالقافية من الثاء إلى آخر البيت، وهذا بعض كلمة. وتابعه على هذا أبو عمر الجرمي وأصحابه، وهو قول مضبوط، محقق يشهد بالعلم. وقال الأخفش: القافية آخر كلمة من البيت، واستدل على صحة ذلك بأنه لو قال لك إنسان:

اكتب لي قوافي قصيدة لكتبت له كلمات، نحو: كتاب، ولعاب، وركاب، وصحاب، وما أشبه ذلك، وهو المتعارف بين الناس اليوم، أعني قول الأخفش، وكل كلمة من قوله " عل " وقوله " مرجل " وقوله " المثقل " في شعر امرئ القيس قافية بذاتها عند الأخفش، فعلى هذين القولين مدار الحذاق في معرفة القافية.
ورأي الخليل عندي أصوب، وميزانه أرجح؛ لأن الأخفش إن كان إنما فر من جعله القافية بعض الكلمة دون بعضها فقد نجد من القوافي ما يكون فيها حرف الروي وحده القافية على رأيه، فإن وزن معه ما قبله فأقامهما مقام كلمة من الكلمات التي عدها قوافي كان قد شرك في القافية بعض كلمة أخرى مما قبلها، فإذا جاز أن يشترك في القافية كلمتان لم يمتنع أن تكون القافية بعض كلمة، مثال ذلك ما شاكل قول أبي الطيب:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
فالقافية في البيت الأول على قوله " الكذب " لولا أن الألف فيه ألف وصل نابت عنها لام " إلى " فإن قال: إن القافية في البيت الثاني " يشرق بي " رجع ضرورة إلى مذهب الخليل وأصحابه؛ لأن القافية عند في هذا البيت من الياء التي للوصل وهي ههنا ضمير المتكلم إلى شين " يشرق " مع حركة الياء التي قبلها في أول الكلمة. وإن جعل القافية باء الخفض التي في موضع الروي وياء الضمير التي قامت مقام الوصل رجع إلى قول من جعل القافية حرف الروي وهو خلاف مذهبه، وليس بشيء؛ لأنه لو كان صحيحاً لجاز في قصيدة واحدةٍ فجر، وفجار، وفاجر، وفجور، ومنفجر، وانفجار، ومفجر، ومتفجر، ومفجور، وهذا لا يكون أبداً، إلا أن الفراء يحيى بن زياد قد نص في كتاب حروف المعجم أن القافية هي حرف الروي، واتبعه على ذلك أكثر الكوفيين: منهم أحمد بن كيسان، وغيره، وخالفه من أهل الكوفة أبو موسى الحامض، فقال: القافية ما لزم الشاعر تكراره في آخر كل بيت. وهذا كلام مختصر مليح الظاهر، إلا أنه إذا تأملته كلام الخليل بعينه لا زيادة فيه ولا نقصان.
ومن الناس من جعل القافية آخر جزء من البيت: قال أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي: بعض الناس من العلماء يرى أن القافية حرفان من آخر البيت، وحكى أنهم سألوا أعرابياً وقد أنشد:
بنات وطاء على خد الليل.
ما القافية؟ فقال: " خد الليل " . ولا أدري كيف قال أبو القاسم هذا؟ لأن " خد الليل " كلمتان وليستا حرفين إلا اتساعاً، وهذا هو آخر جزء من البيت على قول من قاله، ولو قال قائل: إن الأعرابي إنما أراد الياء واللام من الليل على مذهب من يرى القافية حرفين من آخر البيت لكان وجهاً سائغاً؛ لأن الأعرابي لا يعرف حروف التهجي فيقول القافية الياء واللام من الليل فكرر اللفظ ليفهم عنه السائل مراده.
ومنهم من جعل القافية في الجزء الآخر من البيت، وقال: لا يسمى بيتاً من الشعر ما دام قسيماً أول.
ومنهم من قال: البيت كله هو القافية؛ لأنك لا تبني بيتاً على أنه من الطويل، ثم تخرج منه إلى البسيط، ولا إلى غيره من الأوزان.
ومنهم من جعل القافية القصيدة كلها؛ وذلك اتساع ومجاز.
وسميت القافية قافية لأنها تقفو إثر كل بيت، وقال قوم: لأنها تقفو أخواتها، والأول عندي هو الوجه؛ لأنه لو صح معنى القول الأخير لم يجز أن يسمى آخر البيت الأول قافية؛ لأنه لم يقف شيئاً، وعلى أنه يقفو أثر البيت يصح جداً، وقال أبو موسى الحامض: هي قافية بمعنى مقفوة، مثل ماء دافق بمعنى مدفوق، وعيشة راضية بمعنى مرضية، فكأن الشاعر يقفوها، أي يتبعها، وهذا قول سائغ متجه.
وسأذكر مما يلزم القافية من الحروف والحركات ما لا غنى عن ذكره في هذا الموضع مجملاً مختصر البيان والإيضاح، إن شاء الله تعالى.
فأقول: إن الشعر كله مطلق ومقيد؛ فالمقيد ما كان حرف الروي فيه ساكناً، وحرف الروي الذي يقع عليه الإعراب، وتبنى عليه القصيدة، فيتكرر في كل بيت وإن لم يظهر فيه الإعراب لسكونه، وليس اختلاف إعرابه عيباً كما هو في المطلق إقواء، وحركة ما قبل الروي المقيد خاصة دون المطلق على رأي الزجاج وأصحابه توجيه، وقال غيره:

في المطلق والمقيد جميعاً يسمى التوجيه، ما لم يكن الشعر مردفاً، ويجوز في التوجيه التغيير؛ فيكون سناداً عند بعض العلماء، وكان الخليل يجيزه على كره من جهة الفتحة، فأما الضمة والكسرة فهما عنده متعاقبتان كالواو والياء في الردف، والفتحة كالألف، وأنشدوا:
أحار بن عمرو كأني خمر.
وفي القصيدة:
وكندة حولي جميعاً صبر.
وفيها:
تحرقت الأرض واليوم قر.
فاختلف التوجيه: بالكسر، والضم، والفتح. وقد سمى ابن قتيبة وأبو عبيدة وغيرهما هذا العيب إجازة، إلا أن منهم من جعل الإجازة اختلاف حركة الروي فيما كان وصله هاء ساكنة خاصة، وأنشدوا:
الحمد لله الذي ... يعفو ويشتد انتقامه
في كرههم ورضاهم ... لا يستطيعون اهتضامه
وأنشد آخرون في مثل ذلك، إلا أن منهم من أطلق الهاء:
فديت من أنصفني في الهوى ... حتى إذا أحكمه مله
آمن ما كنت، ومن ذا الذي ... قبلي صفا العيش له كله؟
وكان ابن الرومي يلتزم حركة ما قبل الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتداراً: صنع ذلك في قصيدته القافية في السوداء، وفي مطولته:
أبين ضلوعي جمرة تتوقد؟.
قال شيخنا أبو عبد الله: الإجازة بالزاي معجمة اختلاف حركات ما قبل الروي، وهو مأخوذ من إجازة الحبل، وهو: تراكب قواه بعضها على بعض، فكأن هذا اختلفت قوى حركاته. وقد حكى ابن قتيبة عن ابن الأعرابي مثل قول أبي عبد الله، وقال: هو مأخوذ من إجازة الحبل والوتر.
والمطلق نوعان: أحدهما: ما تبع حرف رويه وصل فقط. والوصل أحد أربعة أحرف: الياء، والواو، والألف، والهاء، ينفرد كل واحد منها بالقصيدة حتى تكمل؛ فمما وصله ياء:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
فبعد اللام ياء في اللفظ، لا يقوم الوزن إلا بها، ومما وصله واو:
أمن المنون وريبها تتوجع.
فبعد العين في اللفظ واو كذلك، ومما وصله ألف:
أيتها النفس أجملي جزعاً.
فبعد العين ألف ثابتة في الخط، وإنما أثبتوها دون الياء والواو لخفتها مرة وكونها عوضاً عن التنوين مرة، ومما وصله هاء:
أشجاك الربع أم قدمه.
وكل وصل ساكن ما خلا الهاء، فإنها تكون ساكنة ومتحركة، وسيرد عليك ذكرها إن شاء الله تعالى.. وإذا كان ما قبل الواو والياء والهاء ساكناً أو كانت مضاعفة لم تكن إلا حروف روي لا غير؛ لأن الوصل لا يكون ما قبلها ساكناً، ولعله أن المقيد لا وصل له فأما الألف فلا يكون ما قبلها ساكناً لأنها أخف من ذلك؛ وإذا انفتح ما قبل الواو والياء الساكنتين لم يكونا إلا رويا عند سيبويه، وإذا انكسر ما قبلهما أو انضم كنت فيهما بالخيار، وكذلك الألف إذا كانت أصيلة أنت فيها بالخيار. وأما الياء المشددة المكسور ما قبلها مع الياء المشددة المفتوح ما قبلها فرأي القاضي أبي الفضل جعفر بن محمد فيهما أن يكون المكسور ما قبلها ردفاً ويكون المفتوح ما قبلها إما ردفاً لما بقي فيها من المد وإما غير ردف الذهاب أكثر المد منها؛ فتكون على المذهب الأول مثل " قضينا " مع رضينا وهذا سناد، وعلى المذهب الثاني مثل إرداف بيت وترك إرداف الآخر، كقول حسان بن ثابت ولا توصه في بيت، ثم قال في الآخر: ولا تعصه وهذا أيضاً سناد. وله رأي ثالث، وهو أن تكون الياءان لما أدغمت إحداهما في الأخرى صارتا بمنزلة حرف واحد، وصار التزام التشديد اختياراً من الشاعر، وإلا فترك التشديد جائز له. وهذا قول الخليل والأخفش جميعاً، وقد أنكره الجرمي وأبو سعيد السيرافي، وكل هاء تحرك ما قبلها فهي صلة، إلا أن تكون من نفس الكلمة؛ فإنك تكون فيها بالخيار: إن شئت جعلتها روياً، وإن شئت سمحت بها فصيرتها صلة والتزمت ما قبلها فجعلته روياً. وكثيراً ما يسقط الشعراء في هذا النوع، قال أبو الطيب:
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي الندى ويذاع عنك فتكره
وإذا رأيتك دون عرض عارضاً ... أيقنت أن الله يبغي نصره
فغلط في التصريع لأنه التزام فيه الهاء ولولا ذلك لكان البيتان رائيين وسمح بهاء تكره فصيرها صلة وإن كانت من نفس الكلمة. وقد وقع ابن المعتز في مثل حال أبي الطيب فقال:
أفنى العداة إمام ماله شبه ... ولا ترى مثله يوماً ولم تره

ضارٍ إذا انقض لم تحرم مخالبه ... مستوفز لاتباع الحق منتبه
ما يحسن القطر أن ينهل عارضه ... كما تتابع أيام الفتوح له
وقال أيضاً يصف كلاب الصيد في أرجوزة:
إن خرطت من قدها لم ترها ... إلا وما شاءت من الصيد لها
تمسكه عضاً، ولا يدمى به ... غريزة منهن أو تفقها
ووقع بشار بن برد على تقدمه عليهما في مثل ذلك، فقال:
الله صورها وصيرها ... لاقتك أو لم تلقها ترها
نصباً لعينيك لا ترى حسناً ... إلا ذكرت لها به شبها
ولا أعلم أن أحداً من العلماء تسامح في مثل هذا، بل هو عندهم عيب كالإكفاء، وروى بيت بشار نزها بالنون والزاي، جمع نزهة، ولا عيب فيه على هذا. وهاء حمزة وطلحة لا تكون إلا صلة، وإذا تحركت هاء التأنيث كنت فيها بالخيار: إن شئت التزمت ما قبلها وجعلتها كالصلة مجازاً، وإن شئت التزمتها فكانت على حقها روياً. وهذا رأيهم في كاف المخاطب مع التأسيس: إذا شاءوا جعلوها روياً فلم يلتزم ما قبلها، وإن شاءوا جعلوها مقام الصلة والتزموا ما قبلها مجازاً، وهو الأجود؛ لاختيار الشعراء إياه قديماً على اتساعهم في تركه. قال القاضي أبو الفضل: من زعم أن التاء والكاف يكونان وصلاً فإنما حمله على ذلك أنه رأى بعض الشعراء قد لزم في بعض شعره حرفاً لم يفارقه فظن ذلك الحرف روياً. وإنما لم يجز عنده كونهما صلة لأنهما ليس فيهما من مضارعة حروف المد واللين ما في الهاء. وقال من جعل التاء صلة كالهاء: إنها تجيء للتأنيث مثلها، وتكون اسماً كما تكون الهاء اسماء وتزاد كما تزاد، وتزداد الهاء، وإن الهاء تنقلب تاء في درج الكلام، وشبه الكاف بالهاء لأنها حرف إضمار مثلها، وأنها تكون اسماً للمجرور والمنصوب كالهاء.
والنوع الآخر من المطلق ما كان لوصله خروج، ولا يكون ذلك الوصل إلا هاء متحركة، نحو قول الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
فالسين حرف الروي، وحركتها مجرى، وإن شئت إطلاق، كلاهما يقال، والهاء وصل، وحركتها نفاذ، وبعدها في اللفظ ياء هي الخروج، ولو كانت الهاء مضمومة كان الخروج واواً، أو مفتوحة كان الخروج ألفاً. ولا يكون حرف الروي إلا في أحد ثلاثة مواضع: إما متأخراً كقول طرفة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد.
فالدال روي، وإما قبل المتأخر ملاصقاً له كقول عمرو بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا.
فالنون حرف الروي، أو قبل المتأخر بحرف كقول لبيد:
عفت الديار محلها فمقامها.
فالميم حرف الروي، وهذه المواضع المذكورة إنما هي في اللفظ لا في الخط، ولا يكون حرف الروي إذا كان بعده شيء إلا متحركاً؛ لأن المقيد لا شيء بعده، وأنشد بعضهم:
شلت يداً فارية فرتها.
على أن التاء حرف روي، فرد ذلك العلماء بالعلة التي ذكرتها، وقالوا: إنما التزم التاء والراء قبلها اتساعاً، وإلا فالهاء هي الروي.
وكل شعر فلا بد أن يكون: مطلقاً، أو مقيداً، ثم لا بد أن يكون مردفاً أو مؤسساً، أو معرى منهما مجرداً.
فالمردف نوعان: تشترك الياء والواو في أحدهما، ثم قول علقمة الفحل:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
فالياء في مشيب مقام الواو في طروب.
وتنفرد الألف بالنوع الآخر نحو قول امرئ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي.
لا يشركها غيرها، والحركة التي قبل الردف ياء كانت أو واواً أو ألفاً تسمى الحذو، وقد تجر الضمة واواً في اللفظ، والكسرة ياء، وذلك مع هاء الضمير، فتكون ردفاً، وإن لم تثبت في الخط، نحو قول ابن المعتز:
ضمخوا عارضها بال ... مسك في خد أسيل
تحت صدغين يشيرا ... ن إلى وجه جميل
عندي الشوق إليه ... والتناسي عنده لي
ومن المردف ما تكون حركة الحذو فيه مخالفة للردف؛ فيجعل شعراً على جهته؛ فإن دخل مع غيره كان سناداً، وذلك مثل هول وسيل يكونان في قصيدة، ولا يكون معهما سول وفيل.

وقياس المردف في الوصل والخروج وغير ذلك من حروف الروي وحركته جار على ما تقدم في المجرد من الردف، إلا الحذو والتوجيه؛ فإن المقيد يختص بالتوجيه، وهو الروي، والمردف يختص بالحذو، وهو حركة ما قبل الردف، وإن كان المردف مقيداً سقط التوجيه وبقي الحذو؛ لأن الردف قد سد موضع التوجيه.
وقد يلتبس بالمردف ما ليس بمردف فيجتنبه الشعراء، مثل فيهم مع منهم وهو جائز؛ لأن الهاء ليست روياً فتكون الياء ردفاً، وإنما الروي الميم، ويجتنبون منكم مع منهم وذلك جائز لا عيب فيه؛ لما قدمت آنفاً وكان ابن الرومي خاصة من بين الشعراء يلتزم ما لا يلزمه في القافية، حتى أنه لا يعاقب بين الواو والياء في أكثر شعره قدرة على الشعر واتساعاً فيه. والأجود أن يكون الردف والروي جميعاً في كلمة واحدة، فإذا كانا في كلمتين فلا بأس.
والمؤسس من الشعر: ما كانت فيه ألف بينها وبين حرف الروي حرف يجوز تغييره؛ فذلك الحرف يسمى الدخيل، وحركته تسمى الإشباع، ويجوز تغييرها عند الخليل، ولا يجوز عند أبي الحسن الأخفش، مثال ذلك ما أنشده أبو زكريا الفراء:
نهوى الخليط وإن أقمنا بعدهم ... إن المقيم مكلف بالسائر
إن المطي بنا يخدن ضحى غدٍ ... واليوم يوم لبانة وتزاور
وهو جائز غير معيب، وأما القاضي أبو الفضل فرأيه أن حركة الدخيل ما دامت إشباعاً جاز فيها التغيير بالنصب والخفض والرفع؛ فإذا قيد الشعر وصار موضع الإشباع التوجيه لم يجز الفتح مع واحد منهما، واعتل في ذلك بحال المطلق غير المؤسس أن ما قبل رويه جائز تغييره، فإذا قيد لم يجز الفتح فيه إلا وحده، فهو سناد، ويشارك الضم والكسر، وهذا قول واضح البيان، ظاهر البرهان، والناس مجمعون على تغيير الدخيل حتى أن بعضهم لم يسمه لتغيره واضطرابه لكن عده فيما لا يلزم القافية فسكت عنه.
وأما الإشباع فالقول فيه ما قدمت، وإذا كان ألف التأسيس في كلمة وحرف الروي في كلمة أخرى لم يعدوها تأسيساً لبعدها، إلا أن يكون حرف الروي مع مضمر متصل أو منفصل، فإن الشاعر بالخيار: إن شاء جعل الألف تأسيساً، وإن شاء لم يجعلها تأسيساً؛ فالتي لا تكون عندهم تأسيساً قول عنترة:
والناذرين إذا لم ألقهما دمى.
لما كان الاسم ظاهراً، وقد أنشد بعضهم في أبيات اللغز والمعاياة:
أقول لعمرو حين خود رأله ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
وهي: من الوهى، وشم من الشيم للبرق.. وقول الآخر:
أقول لعبد الله لما لقيته ... ونحن بوادي الروم فوق القناطر:
فالقنا: جمع قناة، وطر، أمر من طار يطير، فرخص فيه لما انكسرت حركة دخيله على متعارف الشعر، وهو كلام حسن الظاهر، إلا أنه خلاف لما قال العلماء، والتي تكون تأسيساً لكونها مع المضمر قول الشاعر:
تزيد حسى الكأس السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا
وقول جرير:
فردي جمال الحي ثم تحملي ... فما لك فيهم من مقام ولا ليا
فهذا ضمير متصل، والذي قبله ضمير منفصل..
ومما جاءت الألف فيه غير تأسيس مع المضمر قول الشاعر، وهو من شواهد أبي الفتح عثمان بن جني النحوي:
أيه جاراتك تلك الموصية ... قائلة لا تسقيا بحبليه
لو كنت حبلاً لسقيتها بيه ... أو قاصراً وصلته بثوبيه
فالألف في سقيتها غير تأسيس، فإذا كانت الهاء والكاف التي للمخاطب دخيلاً لم يخلط الشعراء بها غيرها اتساعاً، وإلا فهو جائز. وأنشد الجرمي لعوف ابن عطية ابن الخرع:
فإن شئتما ألقحتما ونتجتما ... وإن شئتما عيناً بعين كما هما
وإن كان عقلاً فاعقلا لأخيكما ... بنات المخاض والفصال المقاحما
ومن المؤسس والمردف ما يلتبس على المبتدئ فلا يميزه إلا عن كلفة وبعد فترة، فأوردت منه ما يكون له مثالاً يستدل به ويعمل عليه إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك تغيير ما قبل الكاف في القافية المؤسسة لأنه دخيل، والكاف روي، والتزامه يعد اتساعاً، فإذا كان موضع الكاف هاء صار الشعر مردفاً موصولاً ولم يجز تغيير ما قبل الهاء، لأنك لو غيرته لكنت قد غيرت حرف الروي، مثال ذلك قول كثير أو غيره:
تراغت لو شك البين بزل جمالك ... ولو شئت ما فجعتني بارتحالك

فالتزم اللام في القصيدة كلها أو في أكثرها؛ اتساعاً، ولو غير كما فعل ذو الرمة في قوله:
أما استحلبت عينيك إلا محلة ... بجمهور حزوي أو بجرعاء مالك
أناخت روايا كل دلو به بها ... وكل سماكي أجش المبارك
لم يكن عيباً؛ لأن الكاف روي وصلتها الياء التي بعدها في اللفظ، والدخيل راء المبارك ولام مالك وقد التزمه كثير كأن القافية عنده لاميه مردفة، فالكاف مقام الهاء صلة على المجاز لا على الحقيقة، وقال كثير في المردف:
على ابن أبي العاص دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها وأذالها
فاللام روي، والألف التي قبلها ردف، والهاء صلة، والألف التي بعدها خروج، ولا يجوز أن يقال لهذه القافية مؤسسة؛ لأن الهاء إذا تحرك ما قبلها وليست من نفس الكلمة لم تكن إلا صلة، وإذا كانت الهاء صلة لم تكن اللام إلا روياً، ولا يجوز تغييرها.
وجميع ما يلحق القوافي من الحروف والحركات ستة أحرف وست حركات، فالأحرف: الروي، والردف، والتأسيس، والوصل، والخروج، والدخيل؛ والحركات: الإطلاق، والحذو، والرس، والتوجيه، والنفاذ، والإشباع، والذي يجتمع منها في قافية واحدة خمسة أحرف، وهي: التأسيس، والروي، والصلة، والخروج، والدخيل؛ وكلها يلزم تكراره بعينه إلا الدخيل، وأربع حركات، وهي: الرس، والإشباع، والإطلاق، والنفاذ، وذلك مثل قول الشاعر:
يوشك من فز من منيته ... في بعض غراته يوافقها
ولا يجتمع في قافية الحذو والرس، كما لا يجتمع الردف والتأسيس، وكذلك لا يجتمع أيضاً التوجيه والإشباع، فيسقط التوجيه إذا كان المؤسس مطلقاً، ويسقط الإشباع إذا كان المؤسس مقيداً.
وقد أنكر الجرمي والأخفش وأصحابهما على الخليل تسمية الرس، وقالوا: لا معنى لذكر هذه الفتحة؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، وإنما احتيج إلى ذكر الحذو قبل الردف لأن الحذو قد يتغير فيكون مرة فتحة قبل ألف ومرة كسرة قبل ياء ومرة ضمة قبل واو.. ومما يجب أن يراعى في هذا الباب الإقواء، والإكفاء، والإيطاء، والسناد، والتضمين؛ فإنها من عيوب الشعر.
فأما الإقواء والإكفاء فاختلف العلماء فيهما وفي اشتقاقهما.. وأما السناد والإيطاء فاتفقوا فيما دون اشتقاقهما.
وعند أكثر العلماء: اختلاف إعراب القوافي إقواء، وهو غير جائز لمولد، وإنما يكون في الضم والكسر، ولا يكون فيه فتح، هذا قول الحامض.. وقال ابن جني: والفتح فيه قبيح جداً، إلا أن أبا عبيدة ومن قال بقوله كابن قتيبة يسمون هذا إكفاء، والإقواء عندهم: ذهاب حرف أو ما يقوم مقامه من عروض البيت، نحو قول الشاعر وهو بجير بن زهير بن أبي سلمى:
كانت علالة يوم بطن حنين ... وغداة أوطاس ويوم الأبرق
واشتقاقه عندهم فيما روى النحاس من أقوت الدار إذا خلت كأن البيت خلا من هذا الحرف. وقال غيره: إنما هو من أقوى الفاتل حبله إذا خالف بين قواه فجعل إحداهن قوية والأخرى ضعيفة، أو ممرة والأخرى سحيلة، أو بيضاء والأخرى سوداء، أو غليظة والأخرى دقيقة، أو انحل بعضها دون بعض أو انقطع، وهذا يسميه الخليل المقعد، وهو من باب الوزن، لا من باب القافية، والجمهور الأول من العلماء على خلاف رأي أبي عبيدة في الإقواء.
وأما الإكفاء فهو الإقواء بعينه عند جلة العلماء: كأبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وهو قول أحمد بن يحيى ثعلب، وأصله من أكفأت الإناء إذا قلبته، كأنك جعلت الكسرة مع الضمة وهي ضدها، وقيل: من مخالفة الكفوة صواحبها، وهي النسيجة من نسائج الخباء تكون في مؤخره، فيقال: بيت مكفأ، تشبيهاً بالبيت المكفأ من المساكن إذ كان مشبهاً به في كل أحواله.. قال الأخفش البصري: الإكفاء القلب، وقال الزجاجي وابن دريد: كفأت الإناء إذا قلبته، وأكفأته إذا أملته، كأن الشاعر أمال فمه بالضمة فصيرها كسرة، إلا أن ابن دريد رواهما أيضاً بمعنى قلبته شاذاً، وقيل: بل من المخالفة في البناء والكلام، يقال أكفأ الباني إذا خالف في بنائه، وأكفأ الرجل في كلامه إذا خالف نظمه فأفسده، قال ذو الرمة:
ودوية قفر ترى وجه ركبها ... إذا ما علوها مكفأ غير ساجع
وقال المفضل الضبي: الإكفاء اختلاف الحروف في الروي، وهو قول محمد بن يزيد المبرد، وأنشد:

قبحت من سالفة ومن صدغ ... كأنها كشية ضب في صقع
فأتى بالعين مع الغين، واشتقاقه عنده من المماثلة بين الشيئين، كقولك فلان كفء فلان، أي: مثله، قال: ومنه كافأت الرجل، كأن الشاعر جعل حرفاً مكان حرف، والناس اليوم في الإكفاء على رأي المفضل، وهو عيب لا يجوز أيضاً لمحدث، ولا يكون إلا فيما تقارب من الحروف، وإلا فهو غلط بالجملة، هذا رأي الأخفش سعيد بن مسعدة، والخليل يسمي هذا النوع: الإجازة.
قال الفراء: الإجازة في قول الخليل: أن تكون القافية طاء والأخرى دالاً، وقال أبو إسحاق النجيرمي: الإجازة بالراء لا غير وهي من الجوار، وهو الموج، قال ابن السكيت: وهو الماء الكثير، وأنشد للقطامي يذكر سفينة نوح عليه السلام:
ولولا الله جار بها الجوار.
قال المهلبي: ورأيته بخط الطوسي والسكري بالراء، وهو قول الكوفيين، فأما البصريون فيقولون الإجازة بالزاي، حكى ذلك ابن دريد..
وقال بعض شيوخنا: الإجازة في القوافي مشتقة من الجوار في السكنى والذمام، ألا ترى أنها فيما تقارب من الحروف، فكأن الحرف جاور الآخر ودخل في ذمامه، وقال قوم: بل هي من الجور، كأن القافية جارت، أي: خالفت القصد، وأجارها الشاعر، أي: صيرها كذلك، وعلى هذا يصح قول النجيرمي.
فإذا تأملنا أقاويل العلماء وجدنا الإجازة بالزاي اختلاف التوجيه، وهو حركة، والإجازة بالراء اختلاف الروي، وهو حرف، وليس هذا من هذا في شيء، فكأن العلماء لم يختلفوا حينئذ؛ لأن التسمية اختلفت باختلاف المسمى.
ومثل الإجازة الإصراف، حكاه شيخنا أبو عبد الله، قال: وهو أن تكون القافية دالاً والأخرى طاءً، والقصيدة مصرفة، ولذلك قال الشاعر:
مقومة قوافيها وليست ... بمصرفة الروي ولا سناد
وأما السناد فأنواع كثيرة: منها وهو المشهور أن يختلف الحذو، وهو حركة ما قبل الردف، فيدخل شرط الألف وهي الفتحة على الياء والواو كقول الفضل بن عباس اللهبي:
واملئي وجهك الجميلا خموشا.
ثم قال:
وبنا سميت قريش قريشا.
وهو كثير جائز للعرب غير جائز للمولدين، ومنها اختلاف الإشباع، كقول النابغة:
يزرن ألالًا سيرهن التدافع.
والقصيدة كلها إشباع، ومنها إرداف قافية وتجريد أخرى، كقول حسان بن ثابت في قافية:
فأرسل حكيماً ولا توصه.
وقال في أخرى:
وشاور لبيباً ولا تعصه.
ومنها تأسيس قافية دون أخواتها، كقول العجاج:
فخندف هامة هذا العالم.
وأول هذه الأرجوزة:
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي.
وكلها غير مؤسسة إلا هذا البيت وحده، ويقال: إن لغته الهمز، فإذا همز لم يكن تأسيساً. ومنها اختلاف التوجيه، نحو قول امرئ القيس بن حجر:
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
ثم قال:
تميم بن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعاً صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
فما قبل الراء في البيت الأول مكسور، وفي الثاني مضموم، وفي الثالث مفتوح، وليس هذا بعيب شديد عندهم.
قال الزجاجي: السناد: كل عيب يلحق القافية، ما خلا الإقواء والإكفاء والإيطاء، وهذا قول فيه بيان واختصار.
وقال علي بن عيسى الرماني: السناد اختلاف ما قبل حرف الروي أو بعده على أي وجه كان الاختلاف: بحركة كان، أو بحرف..
وقال ابن جني: السناد: كل عيب يحدث قبل الروي.
واشتقاق السناد من تساند القوم إذا جاءوا فرقاً لا يقودهم رئيس واحد، وقيل: بل هو من قولهم ناقة سناد إذا كانت قوية صلبة؛ لأن الياء الصلبة أقوى في النطق من الياء اللينة.. وقالوا: بل السناد الناقة المشرفة، كأن إحدى القوافي أشرفت على أخواتها.
وأما الإيطاء فهو أن يتكرر لفظ القافية ومعناهما واحد، كما قال امرؤ القيس في قافية سرحة مرقب وفي قافية أخرى فوق مرقب وليس بينهما غير بيت واحد.. وكلما تباعد الإيطاء كان أخف، وكذلك إن خرج الشاعر من مدح إلى ذم، أو من نسيب إلى أحدهما، ألا ترى إلى قولهم دع ذا و عد عن ذا فكأن الشاعر في شعر آخر، وأقبح من هذا الإيطاء قول تميم بن أبي بن مقبل:
أو كاهتزاز رديني تداوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا

ويروي تذاوقه ثم قال في القصيدة غير بعيد:
نازعت ألبابها لبي بمتصد ... من الأحاديث حتى زدنني لينا
فكرر القافية والمعنى مع أكثر لفظ القسيم، وأشد من ذلك قول أبي ذؤيب في بنيه:
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا، ولكل جنب مصرع
ثم قال في صفة الثور والكلاب:
فصرعنه تحت العجاج فجنبه ... متترب، ولكل جنب مصرع
فكرر ثلث البيت.. وإذا اتفق الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إيطاء عند أحد من العلماء، إلا عند الخليل وحده، فإن يزيد عنده بمعنى الاسم ويزيد بمعنى الفعل إيطاء، وكذلك جون للأبيض والأسود، وجلل للكبير والصغير، وإذا كان أحد الاسمين نكرة والآخر معرفة لم يكن إيطاء، وكذلك ضرب للواحد وضربا للاثنين، ولم تضرب للمذكر ولم تضربي للمؤنث، ومن غلام ومن غلامي مضافاً، كل هذا ليس بإيطاء.. وأما اختلاف الحروف على الاسم كقولك لزيد وبزيد وعلى الفعل كقولك أضرب ويضرب وتضرب في مخاطبة المذكر والحكاية عن المؤنث؛ فكل ذلك إيطاء..
والإيطاء جائز للمولدين، إلا عند الجمحي وحده؛ فإنه قال: قد علموا أنه عيب وقال الفراء: إنما يواطئ الشاعر من عي، وإذا كرر الشاعر قافية للتصريع في البيت الثاني لم يكن عيباً، نحو قول امرئ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب.
ثم قال في البيت الثاني لدى أم جندب واشتقاقه من الموافقة، قال الله عز وجل: " ليواطئوا عدة ما حرم الله " أي: ليوافقوا.. وقال قوم: بل الإيطاء من الوطء، كأن الشاعر أوطأ القافية عقب أختها، كما قال توبة يخاطب بعل ليلى الأخيلية:
لعلك يا تيساً نزا في مريرة ... تعاقب ليلى أن تراني أزورها
علي دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنباً غير أني أزورها
والتضمين: أن تتعلق القافية أو لفظة مما قبلها بما بعدها، كقول النابغة الذبياني:
وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ، إني
شهدت لهم مواطن صالحات ... وثقت لهم بحسن الظن مني
وكلما كانت اللفظة المتعلقة بالبيت الثاني بعيدة من القافية كان أسهل عيباً من التضمين، ويقرب من قول النابغة قول كعب بن زهير:
ديار التي بتت حبالي وصرمت ... وكنت إذا ما الحبل من خلة صرم
فزعت إلى وجناء حرف كأنما ... بأقرابها قار إذا جلدها استحم
وأخف من هذا قول إبراهيم بن هرمة:
إما تريني شاحباً مبتذلاً ... كالسيف يخلق جفنه فيضيع
فلرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع
وليس منه قول متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزعاً مما أصاب فأوجعا
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتىً غير مبطان العشيات أروعا
وربما حالت بين بيتي التضمين أبيات كثيرة بقدر ما يتسع الكلام وينبسط الشاعر في المعاني، ولا يضره ذلك إذا أجاد.
ويجمع القوافي كلها خمسة ألقاب: المتكاوس، وهو: أربع حركات بين ساكنين، وله جزء واحد وهو فعلتن، والفراء لا يعده؛ لأنه عنده من المتدارك؛ لأن فعلتن إنما هي مستفعلن مزاحف السببين؛ والمتراكب، وهو ثلاث متحركات بين ساكنين، ولها جزءان مفاعلتن وفعلن؛ والمتدارك، وهو: حركتان بين ساكنين، وهو نحو مفاعلن ومتفاعلن ومستفعلن وفاعلن؛ والمتواتر وهو: ما توالى فيه متحرك بين ساكنين، نحو مفاعيلن وفاعلاتن وفعلاتن ومفعولن؛ والمترادف، وهو: ما اجتمع في آخره ساكنان نحو فاعلان ومتفاعلان ومستفعلان، وما أشبه ذلك.
ولا يجتمع نوعان من هذه الأنواع في قصيدة، إلا في جنس من السريع؛ فإن المتواتر يجتمع فيه مع المتراكب، إذا كان الشعر مقيداً كقول المرقش في بيت:
وأطراف الأكف عنم.
وفي بيت آخر:
قد قلت فيه غير ما تعلم.

باب التقفية والتصريع
هذا باب يشكل على كثير من الناس علمه، ويلحقه عيب سماه قدامة التجميع، كأنه من الجمع بين رويين وقافيتين، ورأيت من يقول: التخميع بالخاء كأنه من الخمع في الرجل، وسأذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فأما التصريع فهو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه: تنقص بنقصه، وتزيد بزيادته، نحو قول امرئ القيس في الزيادة:

قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان
وهي في سائر القصيدة مفاعلن، وقال في النقصان:
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبورٍ في عسيب يماني
فالضرب فعولن، والعروض مثله لمكان التصريع، وهي في سائر القصيدة مفاعلن كالأولى؛ فكل ما جرى هذا المجرى في سائر الأوزان فهو مصرع.
والتقفية: أن يتساوى الجزءان من غير نقص ولا زيادة، فلا يتبع العروض الضرب في شيء إلا في السجع خاصة، مثال ذلك قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فهم جميعاً مفاعلن، إلا أن العروض مقفى مثل الضرب، فكل ما لم يختلف عروض بيته الأول مع سائر عروض أبيات القصيدة إلا في السجع فقط فهو مقفى.
واشتقاق التصريع من مصراعي الباب، ولذلك قيل لنصف البيت مصراع كأنه باب القصيدة ومدخلها، وقيل: بل هو من الصرعين، وهما طرفا النهار، قال أبو إسحاق الزجاج: الأول من طلوع الشمس إلى استواء النهار، والآخر من ميل الشمس عن كبد السماء إلى وقت غروبها. قال شيخنا أبو عبد الله: وهما العصران. وقال قوم: الصرع المثل، وسبب التصريع مبادرة الشاعر القافية ليعلم في أول وهلة أنه أخذ في كلام موزون غير منثور، ولذلك وقع في أول الشعر، وربما صرع الشاعر في غير الابتداء، وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شيء إلى وصف شيء آخر فيأتي حينئذ بالتصريع إخباراً بذلك وتنبيهاً عليه، وقد كثر استعمالهم هذا حتى صرعوا في غير موضع تصريع، وهو دليل على قوة الطبع، وكثرة المادة، إلا أنه إذا كثر في القصيدة دل على التكلف، إلا من المتقدمين، قال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر؟
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر
فوالى بين ثلاثة أبيات مصرعة في القصيدة، وقد يجعلون أولها:
أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
وقال عنترة العبسي:
أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم كالأصم الأعجم
ثم قال بعد بيت واحد:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
فصرع البيت الأول والثالث والرابع.
وقولنا في شعر امرئ القيس وعنترة وغيرهما مما يستأنف مصرع إنما هو مجاز وجرى على عادة الناس؛ لئلا يخرج عن المتعارف، وإلا فقد بينت ذلك أولاً.
ومن الناس من لم يصرع أول شعره قلة اكتراث بالشعر، ثم يصرع بعد ذلك، كما صنع الأخطل إذ يقول أول قصيدة:
حلت صبيرة أمواه العداد وقد ... كانت تحل وأدنى دارها نكد
وأقفر اليوم ممن حله الثمد ... فالشعبتان فذاك الأبلق الفرد
فصرع البيت الثاني دون الأول.. وقال ذو الرمة أول قصيدة:
أداراً بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق
ثم قال بعد عدة أبيات:
أمن مية اعتاد الخيال المؤرق؟ ... نعم؛ إنها مما على النأي تطرق
وكان الفرزدق قليلاً ما يصرع أو يلقي بالاً بالشعر، كقوله:
ألم تر أني يوم جو سويقة ... بكيت فنادتني هنيدة ماليا
فجاء بمثل هذه القصيدة الجليلة غير مصرعة. وكذلك قوله يرد على جرير:
تكاثر يربوع عليك ومالك ... على آل يربوع فما لك مسرح
وأكثر شعر ذو الرمة غير مصرع الأوائل، وهو مذهب الكثير من الفحول وإن لم يعد فيهم لقلة تصرفه، إلا أنهم جعلوا التصريع في مهمات القصائد فيما يتأهبون له من الشعر، فدل ذلك على فضل التصريع. وقد قال أبو تمام وهو قدوة:
وتقفو إلى الجدوى بجدوى، وإنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرع
فضرب به المثل كما ترى.
والتصريع يقع فيه من الإقواء والإكفاء والإيطاء والسناد والتضمين ما يقع في القافية: فمن الإقواء ما أنشده الزجاجي، وهو قول بعضهم:
ما بال عينك منها الماء مهراق ... سحاً فلا غارب منها ولا راقي
ومن الإكفاء قول حسان بن ثابت، وأنشده الجاحظ:

ولست بخير من أبيك وخالكا ... ولست بخير من معاظلة الكلب
ومن الإيطاء قول عبد الله بن المعتز:
يا سائلاً كيف حالي ... أنت العليم بحالي
ومن السناد قول إسماعيل بن القاسم أبا العتاهية:
ويلي على الأظعان ولوا ... عني بعتبة فاستقلوا
ومن التضمين قول البحتري:
عذيري فيك من لاح إذا ما ... شكوت الحب قطعني ملاما
ومن ابتداء القصائد التجميع، وهو: أن يكون القسيم الأول متهيئاً للتصريع بقافية ما، فيأتي تمام البيت بقافية على خلافها كقول جميل:
يابثن إنك قد ملكت فأسجحي ... وخذي بحظك من كريم واصل
فتهيأت القافية على الحاء، ثم صرفها إلى اللام.
ومثله قول حميد بن ثور الهلالي:
سل الربع أنىّ يممت أم سالم؟ ... وهل عادة للربع أن يتكلما؟!!
فتهيأت له قافية مؤسسة لو شاء، ثم أتت في آخر البيت غير مؤسسة، ويروى أم أسلما فخرج عن التجميع.
ومن أشد التجميع قول النابغة الذبياني:
جزى الله عبساً عبس آل بغيضٍ ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وإنما التجميع فيما شابه الإطلاق، أو قارب ذلك، كقول جميل فيما تقدم وقول حميد، وهو الإكفاء والسناد وفي القوافي، إلا أنه دونهما في الكراهية جداً.. وإذا لم يصرع الشاعر قصيدته كان كالمتسور الداخل من غير باب.
والمداخل من الأبيات: ما كان قسيمه متصلاً بالآخر، غير منفصل منه، قد جمعتهما كلمة واحدة، وهو المدمج أيضاً، وأكثر ما يقع ذلك في عروض الخفيف، وهو حيث وقع من الأعاريض دليل على القوة، إلا أنه في غير الخفيف مستثقل عند المطبوعين، وقد يستخفونه في الأعاريض القصار: كالهزج ومربوع الرمل وما أشبه ذلك.
ومن الشعر غير المصرع ما لا يجوز أن يظن تجميعاً، وذلك نحو قول ذي الرمة واسمه غيلان بن عقبة:
أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم
لأن القافية من عروض البيت غير متمكنة، ولا مستعمل مثلها، وإن كان استعمالها جائزاً لو وقع.
ومن الشعر نوع غريب يسمونه القواديسي، تشبيهاً بقواديس السانية؛ لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضه في الجهة الأخرى، فأول من رأيته جاء به طلحة بن عبيد الله العوني في قوله من قصيدة له مشهورة طويلة:
كم للدمى الأبكار بال ... خبتين من منازل
بمهجتي للوجد من ... تذكارها منازل
معاهد رعيلها ... مثعنجر الهواطل
لما نأى ساكنها ... فأدمعي هواطل
وهو مربوع الرجز تعمد فيه الإقواء وأوطأ في أكثره قصداً كما فعل في البيتين الأولين من هذه.
ومن الشعر جنس كله مصرع، إلا أنه مختلف الأنواع، وأنا منبه عليها إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك الشعر المسمط، وهو: أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرع، ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيماً واحداً من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة، مثال ذلك قول امرئ القيس، وقيل إنها منحولة:
توهمت من هند معالم أطلال ... غفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر رادف
بأسحم من نوء السماكين هطال
وهكذا يأتي بأربعة أقسمة على أي قافية شاء، ثم يكرر قسيماً على قافية اللام، وربما كان المسمط بأقل من أربعة أقسمة كما قال أحدهم:
خيال هاج لي شجنا ... فبت مكابداً حزنا
عميد القلب مرتهنا ... بذكر اللهو والطرب
سبتني ظبية عطل ... كأن رضابها عسل
ينوء بخصرها كفل ... ثقيل روادف الحقب
وربما جاءوا بأوله أبياتاً خمسة على شرطهم في الأقسمة، وهو المتعارف، أو أربعة، ثم يأتون بعد ذلك بأربعة أقسمة، كما قال خالد القناص، أنشده الزجاجي أبو القاسم:
لقد نكرت عيني منازل جيران ... كأسطار رق ناهج خلق فاني
توهمتها من بعد عشرين حجة ... فما أستبين الدار إلا بعرفان

فقلت لها: حييت يا دار جيرتي ... أبيني لنا أنىّ تبدد إخواني
وأي بلاد بعد ربعك حالفوا ... فإن فؤادي عند ظبية جيراني
فجاء بأربعة أبيات كما ترى، ثم قال بعدها:
رما نطقت واستعجمت حين كلمت ... وما رجعت قولاً وما إن ترمرمت
وكان شفائي عندها لو تكلمت ... إلي ولو كانت أشارت وسلمت
ولكنها ضنت علي بتبيان
وهكذا إلى آخرها، وقد جاء هذا الشاعر في قصيدته بخمسة أقسمة مرة واحدة، ولم يعاودها، ولو عاودها لم يضره، وكذلك لو نقص، إلا أن الاعتدال أحسن.
والقافية التي تكرر في التسميط تسمى عمود القصيدة، واشتقاقه من السمط، وهو: أن تجمع عدة سلوك في ياقوتة أو خرزة ما، ثم تنظم كل سلك منها على حدته باللؤلؤ يسيراً، ثم تجمع السلوك كلها في زبرجدة أو شبهها أو نحو ذلك، ثم تنظم أيضاً كل سلك على حدته وتصنع به كما صنعت أولاً إلى أن يتم السمط، هذا هو المتعارف عند أهل الوقت.
وقال أبو القاسم الزجاجي: إنما سمي بهذا الاسم تشبيهاً بسمط اللؤلؤ، وهو سلكه الذي يضمه ويجمعه مع تفرق حبه، وكذلك هذا الشعر لما كان متفرق القوافي متعقباً بقافية تضمه وترده إلى البيت الأول الذي بنيت عليه في القصيدة صار كأنه سمط مؤلف من أشياء مفترقة.
ونوع آخر يسمى مخمساً، وهو: أن يؤتى بخمسة أقسمة على قافية، ثم بخمسة أخرى في وزنها على قافية غيرها كذلك، إلى أن يفرغ من القصيدة، هذا هو الأصل، وأكثروا من هذا الفن حتى أتوا به مصراعين مصراعين فقط، وهو المزدوج، إلا أن وزنه كله واحد وإن اختلفت القوافي، كذات الأمثال، وذات الحلل، وما شاكلهما، ولا يكون أقل من مصراعين، وكل مشطور أو منهوك فهو بيت، وإن قيل مصرع فعلي المجاز، وما سوى ذلك مما لم يأت مثله عن العرب فهو مصاريع ليس ببيت، ولم أجدهم يستعملون في هذه المخمسات إلا الرجز خاصة؛ لأنه وطئ سهل المراجعة، فأما المسمطات فقد جاءت في أوزان كثيرة مختلفة كما قدمت.
ونوعان من الرجز وهما: المشطور، والمنهوك فأما المشطور فما بني على شطر بيت، نحو قول أبي النجم العجلي:
الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل
وأما المنهمك فهو ما بني على ثلث بيت، ونهك بذهاب ثلثيه، أي: أضعف وهذا مثل قول أبي نواس:
وبلدة فيها زور ... صعراء تخطى في صعر
فأشبه بهما مشطور السريع ومنهوك المنسرح، وسيأتيان فيما بعد إن شاء الله تعالى..
وأنشد الزجاجي وزناً مشطراً محير الفصول لا أشك أنه مولد محدث، وهو:
سقى طللاً بحزوى ... هزيم الودق أحوى
عهدنا فيه أروى ... زماناً ثم أقوى
وأروى لا كنود ... ولا فيها صدود
لها طرف صيود ... ومبتسم برود
لأن شط المزار ... بها ونأت ديار
فقلبي مستطار ... وليس له قرار
ستدنيها ذمول ... جلنفعة ذلول
إذا عرضت هجول ... تقصر ما يطول
وهذا وزن ملتبس: يجوز أن يكون مقطوعاً من مربع الوافر، ويجوز أن يكون من المضارع مقبوضاً مكفوفاً، ذكره الجوهري..
وأنشد لبعض المحدثين:
أشاقك طيف مامه ... بمكة أم حمامه
أشاقك: مفاعل، وحقه في أصل الوزن مفاعيلن.
وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقاً صنع شيئاً منها؛ لأنها دالة على عجز الشاعر، وقلة قوافيه، وضيق عطنه، ما خلا امرأ القيس في القصيدة التي نسبت إليه وما أصححها له، وبشار بن برد، قد كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثاً واستهانة بالشعر، وبشر بن المعتمر؛ فقد أنشد الجاحظ له أول مزدوجة، وصنع ابن المعتز قصيدة في ذم الصبوح، وقصيدة في سيرة المعتضد ركب فيها هذا الطريق؛ لما تقتضيه الألفاظ المختلفة الضرورية، ولمراده من التوسع في الكلام، والتملح بأنواع السجع.
وهذا الجنس موقوف على ابن وكيع والأمير تميم بن المعز، ومن ناسب طبعهما من أهل الفراغ وأصحاب الرخص، وقد يقع لبعض الشعراء البيتان والثلاثة لها قافية واحدة يجعلونها معاياة فيتلاقفها العروضيون، كالأبيات التي تروى لابن دريد وسترد في مكانها من سوى هذا الباب، إن شاء الله تعالى.

باب في الرجز والقصيد
قد خص الناس باسم الرجز المشطور والمنهوك وما جرى مجراهما، وباسم القصيد ما طالت أبياته، وليس كذلك؛ لأن الرجز ثلاثة أنواع غير المشطور والمنهوك والمقطع: فأما الأول منها فنحو أرجوزة عبدة بن الطبيب:
باكرني بسحرة عواذلي ... وعذلهن خبل من الخبل
يلمنني في حاجة ذكرتها ... في عصر أزمان ودهر قد نسل
والنوع الثاني نحو قول الآخر:
القلب منها مستريح سالم ... والقلب مني جاهد مجهود
والنوع الثالث قول الآخر:
قد هاج قلبي منزل ... من أم عمرو مقفر
فهذه داخلة في القصيد، وليس يمتنع أيضاً أن يسمى ما كثرت بيوته من مشطور الرجز ومنهوكه قصيدة؛ لأن اشتقاق القصيد من " قصدت إلى الشيء " كأن الشاعر قصد إلى عملها على تلك الهيئة، والرجز مقصود أيضاً إلى عمله كذلك.
ومن المقصد ما ليس برجز وهم يسمونه رجزاً لتصريع جميع أبياته؛ وذلك هو مشطور السريع، نحو قول الشاعر أنشدناه أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي عن أبي علي الحسين بن إبراهيم الآمدي، عن ابن دريد، عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي زيد الأنصاري:
هل تعرف الدار بأعلى ذي القور ... غيرها نأج الرياح والمور
ودرست غير رماد مكفور ... مكتئب اللون مريح ممطور
وغير نؤى كبقايا الدعثور ... أزمان عيناء سرور المسرور
عيناء حوراء من العين الحور
وأنشد أبو عبد الله لابن المعتز:
ومقلة قد بات يبكيها ... فيض نجيع من مآقيها
وكلها طول تمنيها ... بأنجم الليل تراعيها
ومهجة قد كاد يفنيها ... طول سقام ثابت فيها
وبرؤها في كف مبليها ... كما ابتلاها فهو يشفيها
ليس لها من حبها ناصر ... من ذا على الأحباب يعديها
وهذا عند الجوهري من البسيط، والذي أنشد أبو عبد الله على قول الجوهري هو من الرجز، وجعل الجزء الآخر مستفع لن مفروق فيه الوتد، فأسكن اللام؛ لأن آخر البيت لا يكون متحركاً، فخلفه مفعولات.
وأما المنهوك المنسرح صبراً بني عبد الدار فهو عند الجوهري من الرجز، ومثله ويلم سعد سعداً إلا أنه أقصد منه.
فعلى كل حال تسمى الأرجوزة قصيدة طالت أبياتها أو قصرت، ولا تسمى القصيدة أرجوزة إلا أن تكون من أحد أنواع الرجز التي ذكرت، ولو كانت مصرعة الشطور كالذي قدمته؛ فالقصيد يطلق على كل الرجز، وليس الرجز مطلقاً على كل قصيد أشبه الرجز بالشطر.
قال النحاس: القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز، يكون مشتقاً من قرض الشيء أي: قطعه، كأنه قطع جنساً، وقال أبو إسحاق: وهو مشتق من القرض، أي: القطع والتفرقة بين الأشياء، كأنه ترك الرجز وقطعه من شعره.
وكان أقصر ما صنعه القدماء من الرجز ما كان على جزأين، نحو قول دريد بن الصمة يوم هوازن:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
حتى صنع بعض المتعقبين وأظنه علي بن يحيى، أو يحيى، بن علي المنجم أرجوزة على جزء واحد، وهي:
طيف ألم بذي سلم ... بعد العتم يطوي الأكم
جاد بفم وملتزم ... فيه هضم إذا يضم
ويقال: إن أول من ابتدع ذلك سلم الخاسر، يقول في قصيدة مدح بها موسى الهادي:
موسى المطر غيث بكر ... ثم انهمر ألوى المرر
كم اعتسر ثم ايتسر ... وكم قدر ثم غفر
عدل السير باقي الأثر ... خير وشر نفع وضر
خير البشر فرع مضر ... بدر بدر والمفتخر
لمن غبر
والجوهري يسمي هذا النوع المقطع.
وقد رأى قوم أن مشطور الرجز ليس بشعر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت

بكسر التاء، ورواية أخرى بسكونها وتحريك الياء بالفتح قبلها وليس هذا دليلاً، وإنما الدليل في قول النبي صلى الله عليه وسلم عدم القصد والنية؛ لأنه لم يقصد به الشعر ولا نواه؛ فلذلك لا يعد شعراً وإن كان كلاماً متزناً، وإلا فالرجاز شعراء عند العرب وفي متعارف اللسان، إلا أن الليث روى أنهم لما ردوا على الخليل قوله " إن المشطور ليس بشعر " قال: لأحتجن عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا، قال: فعجبنا من قوله حتى سمعنا حجته.. وقد رواه قوم دميت بإسكان الياء والتاء جميعاً ولا يكون حينئذ موزوناً.
والراجز قلما يقصد؛ فإن جمعهما كان نهاية نحو أبي النجم؛ فإنه كان يقصد، وأما غيلان فإنه كان راجزاً ثم صار إلى التقصيد، وسئل عن ذلك فقال: رأيتني لا أقع من هذين الرجلين على شيء، يعني العجاج وابنه رؤبة، وكان جرير والفرزدق يرجزان، وكذلك عمر بن لجأ كان راجزاً مقصداً، ومثله حميد الأرقط، والعماني أيضاً، وأقلهم رجزاً الفرزدق.
وليس يمتنع الرجز على المقصد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وإن صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصد، واسم الشاعر وإن عم المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أو مرسل أو نحو ذلك.

باب في القطع والطول
حدثنا الشيخ أبو عبد الله عبد العزيز بن أبي سهل رحمه الله تعالى، قال: سئل أبو عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال: نعم ليسمع منها، قيل: فهل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها. قال: وقال الخليل بن أحمد: يطول الكلام ويكثر ليفهم، ويوجز ويختصر ليحفظ؛ وتستحب الإطالة عند الإعذار، والإنذار، والترهيب، والترغيب، والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير، والحارث بن حلزة، ومن شاكلهما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع، والطوال للمواقف المشهورات..
ويحكى أن الفرزدق لما وقع بينه وبين جرير ما وقع وحكم بينهما قال بعض الحكام: الفرزدق أشعر؛ لأنه أقواهما أسر كلام، وأجراهما في أساليب الشعر، وأقدرهما على تطويل، وأحسنهما قطعاً، فقدم بالقطع كما ترى.
وقال بعض العلماء: يحتاج الشاعر إلى القطع حاجته إلى الطوال، بل هو عند المحاضرات والمنازعات والتمثل والملح أحوج إليها منه إلى الطوال.
وقال أحد المجودين، وهو محمد بن حازم الباهلي:
أبى لي أن أطيل المدح قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصواب
وإيجازي بمختصرٍ قصيرٍ ... حذفت به الطويل من الجواب
وقيل لابن الزبعري: إنك تقصر أشعارك، فقال: لأن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل، وقال مرة أخرى: يكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة..
وقيل للجماز: لم لا تطيل الشعر؟ فقال: لحذفي الفضول. وقال له بعض المحدثين وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة، وهو القائل:
أقول بيتاً واحداً وأكتفي ... بذكره من دون أبيات
وقيل مثل ذلك لعقيل بن علفة، فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقال الجاحظ: قيل لأبي المهوس: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
وهجا محمد بن عبد الملك الزيات أحمد بن أبي دؤاد بتسعين بيتاً، فقال ابن أبي دؤاد يخاطبه:
أحسن من تسعين بيتاً سدىً ... جمعك معناهن في بيت
ما أحوج الملك إلى مطرة ... تغسل عنه وضر الزيت
غير أن المطيل من الشعراء أهيب في النفوس من الموجز وإن أجاد، على أن للموجز من فضل الاختصار ما ينكره المطيل، ولكن إذا كان صاحب القصائد دون صاحب القطع بدرجة أو نحوها وكان صاحب القطع لا يقدر على التطويل إن حاوله بتةً سوي بينهما؛ لفضل غير المجهود على المجهود، فإنا لا نشك أن المطول إن شاء جرد من قصيدته قطعة أبيات جيدة، ولا يقدر الآخر أن يمد من أبياته التي هي قطعة قصيدة.
ولام قوم الكميت على الإطالة فقال: أنا على الإقصار أقدر، هكذا جاءت الدواية، ولا تكاد ترى مقطعاً إلا عاجزاً عن التطويل، والمقصد أيضاً قد يعجز عن الاختصار، ولكن الغالب والأكثر أن يكون قادراً على ما حاوله من ذلك وبالعجز رمى الكميت.

وكان عبد الكريم بهذه الصفة، لا يكاد يصنع مقطوعاً، ولا أظن في جميع أشعاره خمس قطع أو نحوها.
وكان أبو تمام على جلالته وتقدمه مقصراً في القطع عن رتبة القصائد..
والمشهورون بجودة القطع من المولدين: بشار بن برد، وعباس بن الأحنف، والحسن بن الضحاك، وأبو نواس، وأبو علي البصير، وعلي بن الجهم، وابن المعذل، والجماز، وابن المعتز.
وكانوا يقولون في زمان منصور الفقيه وهو قريب من عصرنا هذا : إياكم ومنصوراً إذا رمح بالزوج، وكان ربما هجا بالبيت الواحد.
ووصف عبد الكريم أبا الطيب؛ فزعم أنه أحسن الناس مقاطيع، ولو قال مقاطع بلا ياء قلنا صدقت ولم نخالفه.
وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس... ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد.. ويستحسنون أن تكون القصيدة وتراً، وأن يتجاوز بها العقد، أو توقف دونه؛ كل ذلك ليدلوا على قلة الكلفة، وإلقاء البال بالشعر.
وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزاً وقطعاً، وأنه إنما قصد على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونيف وخمسون سنة. وذكر ذلك الجمحي وغيره.
وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئاً يسيراً، وكان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى العجاج بعد فافتن فيه؛ فالأغلب العجلي والعجاج في الرجز كامرئ القيس ومهلهل في القصيد.
والشاعر إذا قطع وقصد ورجز فهو الكامل؛ وقد جمع ذلك كله الفرزدق، ومن المحدثين أبو نواس، وكان ابن الرومي يقصد فيجيد، ويطيل فيأتي بكل إحسان، وربما تجاوز حتى يسرف، وخير الأمور أوساطها.. وهو القائل:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... فأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه
؟ 26 باب في البديهة والارتجال البديهة عند كثير من الموسومين بعلم هذه الصناعة في بلدنا أو من أهل عصرنا هي الارتجال، وليست به؛ لأن البديهة فيها الفكرة والتأيد، والارتجال ما كان انهماراً وتدفقاً لا يتوقف فيه قائله: كالذي صنع الفرزدق وقد دفع إليه سليمان بن عبد الملك أسيراً من الروم ليقتله، فدس إليه بعض بني عبس سيفاً كهاماً فنبا حين ضرب به، فضحك سليمان، فقال الفرزدق ارتجالاً في مقامه ذلك يعتذر لنفسه، ويعير بني عبس بنبو سيف ورقاء بن زهير عن رأس خالد بن جعفر:
فإن يك سيف خان أو قدر أبى ... لتأخير نفس حينها غير شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويقطعن أحياناً مناط القلائد
ولو شئت قط السيف ما بين أنفه ... إلى علقٍ دون الشراسيف جاسد
ثم جلس وهو يقول:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
وكالذي يروى عن أبي الخطاب عمرو بن عامر السعدي المعروف بأبي الأسد، وقد أنشد موسى الهادي شعراً مدحه به يقول فيه:
يا خير من عقدت كفاه حجزته ... وخير من قلدته أمرها مضر
فقال له موسى: إلا من يا بائس؟ فقال واصلاً كلامه ولم يقطعه:
إلا النبي رسول الله؛ إن له ... فخراً، وأنت بذاك الفخر تفتخر
ففطن موسى ومن بحضرته أن البيت مستدرك، ونظروا في الصحيفة فلم يجدوه؛ فضاعف صلته.
وأعظم ارتجال وقع قصيدة الحارث بن حلزة بين يدي عمر بن هند؛ فإنه يقال: أتى بها كالخطبة، وكذلك قصيدة عبيد بن الأبرص، وقيل: أفضل البديهة بديهة أمن، وردت في موضع خوف، فما ظنك بالارتجال وهو أسرع من البديهة؟.
وكان أبو نواس قوي البديهة والارتجال، لا يكاد ينقطع ولا يروي إلا فلتة، روى أن الخصيب قال له مرة يمازحه وهما بالمسجد الجامع: أنت غير مدافع في الشعر، ولكنك لا تخطب! فقام من فوره يقول مرتجلاً:
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصحٍ بنصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكولٍ لحيات البلاد شروب
فإن يك باقي سحر فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب
ثم التفت إليه وقال:

والله لا يأتي بمثلها خطيب مصقع فكيف رأيت؟ فاعتذر إليه وحلف إن كنت إلا مازحاً.
وسمعت جماعة من العلماء يقولون: كان مسلم بن الوليد نظير أبي نواس، وفوقه عند قوم من أهل زمانه في أشياء، إلا أن أبا نواس قهره بالبديهة والارتجال، مع تقبض كان في مسلم وإظهار توفر وتصنع، وكان صاحب روية وفكرة لا يبتده ولا يرتجل.
وكان أبو العتاهية فيما يقال أقدر الناس على ارتجال وبديهة؛ لقرب مأخذه، وسهولة طريقته، اجتمع عدة من الشعراء فيهم أبو نواس؛ فشرب أحدهم ماء، ثم قال: أجيزوا: د الماء وطابا فكلهم تلعثم، حتى طلع أبو العتاهية، فقال: فيم أنتم؟ فأنشدوه، فقال وما تروى: حبذا الماء شرابا فأتى بالقسيم رسلاً شبيهاً بصاحبه، وذلك هو الذي أعوز القوم لا وزن الكلام.
وصحب رفقة فسمع زقاء الديوك، فقال لرفيقه:
هل رأيت الصبح لاحا؟
قال: نعم، قال:
وسمعت الديك صاحا.
قال: نعم، قال:
إنما بكى على المغ ... تر بالدنيا وناحا
فاستيقظ رفيقه للكلام أنه شعر فرواه؛ فما جرى هذا المجرى فهو ارنجال.
وأما البديهة فبعد أن يفكر الشاعر يسيراً ويكتب سريعاً إن حضرت آلة، إلا أنه غير بطيء ولا متراخ، فإن أطال حتى يفرط أو قام من مجلسه لم يعد بديهاً.
وقالوا: اجتمع الشعراء بباب الرشيد، فأذن لهم، فقال: من يجيز هذا القسيم وله حكمه؟ فقالوا: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: الملك لله وحده فقال الجماز: وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده
فقال: أحسنت، وأتيت على ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
ومن عجيب ما روي في البديهة حكاية أبي تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم بحضرة أبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي وهو فيلسوف العرب:
إقدام عمرو، في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال له الكندي: ما صنعت شيئاً، شبهت ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت؟ وما قدرهم؟ فأطرق أبو تمام يسيراً، وقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
فهذا أيضاً وما شاكله هو البديهة، وإن أعجب ما كان البديهة من أبي تمام؛ لأنه رجل متصنع، لا يحب أن يكون هذا في طبعه. وقد قيل: إن الكندي لما خرج أبو تمام قال: هذا الفتى قليل العمر؛ لأنه ينحت من قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك.
وقد كان أبو الطيب كثير البديهة والارتجال، إلا أن شعره فيهما نازل عن طبقته جداً، وهو لعمري في سعة من العذر؛ إذ كانت البديهة كما قال فيها ابن الرومي:
نار الروية نار جد منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لسرعتها ... لكنها سرعة تمضي مع الريح
وقال عبد الله بن المعتز:
والقول بعد الفكر يؤمن زيغه ... شتان بين روية وبديه
ومن الشعراء من شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف؛ لقدرته، وسكون جأشه وقوة غريزته: كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي؛ إذ يقول وقد أمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بقتله:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً، إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلى حبيبة ... بباك على الدنيا إذا ما تولت
وهذا شعر لو روي فيه صاحبه حولاً كاملاً على أمن ودعة وفرط شهوة أو شدة حمية لما أتى فوق هذا.
وكذلك عبد يغوث بن صلاءة؛ إذ يقول في كلمة طويلة:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
فيا راكباً إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا
وكانوا قد شدوا لسانه خوفاً من الهجاء، فعاهدهم فأطلقوه لينوح على نفسه، فصنع هذه القصيدة، وعرض عليهم في فدائه ألف ناقة، فأبوا إلا قتله، فقال:
فإن تقتلوني تقتلوني بخيركم ... وإن تطلقوني تحربوني بماليا
وهذه شهامة عظيمة وشدة.
ومن قول طرفة بن العبد لما أيقن بالموت:
أبا منذر كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأين هؤلاء من عبيد بن الأبرص وهو شيخ الصناعة، ومقدم في السن على الجماعة إذ يقول له النعمان يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض، قال: أنشدني قولك:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
فقال: لا، ولكن:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول، على أن في بيت طرفة بعض الضراعة...
وممن وجد نفسه عند إحاطة الموت به تميم بن جميل؛ فإنه القائل بين يدي المعتصم وقد قدم السيف والنطع لقتله:
أرى الموت بين النطع والسيف كامناً ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت
وأي امرئ يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل علي السيف فيه وأسكت
وما حزني أني أموت وأنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم قائل: لا أبعد الله داره ... وآخر جذلان يسر ويشمت
فعفا عنه المعتصم وأحسن إليه، وقلده عملاً.
وعلي بن الجهم هو القائل وقد صلب عرياناً:
لم ينصبوا بالشاذياخ عشية ال ... اثنين مغلولاً ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء عيونهم ... حسناً، وملء قلوبهم تبجيلا
ما ضره أن بز عنه لباسه ... فالسيف أهول ما يرى مسلولا
وهذا من جزل الكلام، لا سيما في مثل ذلك المقام، وكان علي من الفضلاء علماً بالشعر وصناعة له.
حكي عن علي بن يحيى أنه قال: كنت عند المتوكل إذ أتاه رسول برأس إسحاق بن إسماعيل، فقام علي بن الجهم يخطر بين يديه ويقول:
أهلاً وسهلاً بك من رسول ... جئت بما يشفي من الغليل
برأس إسحاق بن إسماعيل
قال المتوكل: قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع.
والشاعر الحاذق المبرز إذا صنع على البديهة قنع منه بالعفو اللين، والنزر التافه؛ لما فيها من المشقة، وهو في الارتجال أعذر.
واشتقاق البديهة من بده بمعنى بدأ، أبدلت الهمزة هاء كما أبدلت في أشياء كثيرة لقربها منها؛ فقد قالوا مدح ومده، ولهنك تفعل كذا بمعنى لأنك، ومثل ذلك كثير.
والارتجال: مأخوذ من السهولة والانصباب، ومنه قيل: شعر رجل، إذا كان سبطاً مسترسلاً غير جعد، وقيل: هو من ارتجال البئر وهو أن تنزلها برجليك من غير حبل.

باب في آداب الشاعر
من حكم الشاعر أن يكون حلو الشمائل، حسن الأخلاق، طلق الوجه، بعيد الغور، مأمون الجانب، سهل الناحية، وطيء الأكناف، فإن ذلك مما يحببه إلى الناس، ويزينه في عيونهم، ويقربه من قلوبهم، وليكن مع ذلك شريف النفس، لطيف الحس، عزوف الهمة، نظيف البزة، أنفاً؛ لتهابه العامة، ويدخل في جملة الخاصة، فلا تمجه أبصارهم، سمح اليدين، وإلا فهو كما قال ابن أبي فنن واسمه أحمد:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وإلى هذا المعنى ذهب الطائي بقوله:
أألوم من بخلت يداه وأغتدي ... للبخل ترباً؟ ساء ذاك صنيعا!!
والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار.
وصاحبه الذي يذم ويحمد ويهجو ويمدح، ويعرف ما يأتي الناس من محاسن الأشياء وما يذرونه، فهو على نفسه شاهد، وبحجته مأخوذ.

وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار، والتلمذة بمن فوقه من الشعراء، فيقولون: فلان شاعر راوية، يريدون أنه إذا كان راوية عرف المقاصد، وسهل عليه مأخذ الكلام، ولم يضق به المذهب، وإذا كان مطبوعاً لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو ماثل بين يديه؛ لضعف آلته: كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعينه الآلة.
وقد سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعراء، فقال: هو الراوية، يريد أنه إذا روى استفحل.
قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة، وقال رؤبة في صفة شاعر:
لقد خشيت أن تكون ساحراً ... راوية مرا ومرا شاعراً
فاستعظم حاله حتى قرنها بالسحر.
وقال الأصمعي: لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ. وأول ذلك أنه يعلم العروض؛ ليكون ميزاناً له على قوله؛ والنحو؛ ليصلح به لسانه وليقيم به إعرابه؛ والنسب وأيام الناس؛ ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو ذم.
وقد كان الفرزدق على فضله في هذه الصناعة يروي للحطيئة كثيراً، وكان الحطيئة راوية زهير، وكان زهير راوية أوس بن حجر وطفيل الغنوي جميعاً، وكان امرؤ القيس راوية أبي دؤاد الإيادي: مع فضل تحيزه، وقوة غريزة، ولا بد بعد ذلك أن يلوذ به في شعره، ويتوكأ عليه كثيراً، وقد نزل أعشى بني قيس بن ثعلبة بين يدي النابغة الذبياني بسوق عكاظ وأنشده فقدمه، وأنشده حسان بن ثابت، ولبيد بن ربيعة؛ فما عابهم ذلك، ولا غض منهم، وكان كثير راوية جميل ومفضلاً له: إذا استنشد لنفسه بدأ بجميل، ثم أنشد ما يراد منه، ولم يكن بدون جرير والفرزدق، بل يقدم عليهما عند جميع أهل الحجاز، وكان أبو حية النميري واسمه الهيثم بن الربيع، وهو من أحسن الناس شعراً، وأنظفهم كلاماً مؤتماً بالفرزدق، آخذاً عنه، كثير التعصب له والرواية عنه.
ولا يستغني المولد عن تصفح أشعار المولدين؛ لما فيها من حلاوة اللفظ، وقرب المأخذ، وإشارات الملح، ووجوه البديع الذي مثله في شعر المتقدمين قليل، وإن كانوا هم فتحوا بابه، وفتقوا جلبابه، وللمتعقب زيادات وافتنان، لا على أن تكون عمدة الشاعر مطالعة ما ذكرته آخر كلامي هذا دون ما قدمته؛ فإنه متى فعل ذلك لم يكن فيه من المتانة وفضل القوة ما يبلغ به طاقة من تبع جادته، وإذا أعانته فصاحة المتقدم وحلاوة المتأخر اشتد ساعده، وبعد مرماه، فلم يقع دون الغرض؛ وعسى أن يكون أرشق سهاماً، وأحسن موقعاً، ممن لو عول عليه من المحدثين لقصر عنه، ووقع دونه، وليجعل طلبه أولاً للسلامة، فإذا صحت له طلب التجويد حينئذ، وليرغب في الحلاوة والطلاوة رغبته في الجزالة والفخامة، وليجتنب السوقي القريب، والحوشي الغريب، حتى يكون شعره حالاً بين حالين كما قال بعض الشعراء:
عليك بأوساط الأمور؛ فإنها ... نجاة، ولا تركب ذلولا ولا صعبا
فأول ما يحتاج إليه الشاعر بعد الجد الذي هو الغاية، وفيه وحده الكفاية حسن التأتي والسياسة، وعلم مقاصد القول؛ فإن نسب ذل وخضع، وإن مدح أطرى وأسمع، وإن هجا أخل وأوجع، وإن فخر خب ووضع، وإن عاتب خفض ورفع، وإن استعطف حن ورجع، ولكن غايته معرفة أغراض المخاطب كائناً من كان؛ ليدخل إليه من بابه، ويداخله في ثيابه، فذلك هو سر صناعة الشعر ومغزاه الذي به تفاوت الناس وبه تفاضلوا..
وقد قيل:

لكل مقام مقال وشعر الشاعر لنفسه وفي مراده وأمور ذاته من مزح، وغزل، ومكاتبة، ومجون، وخمرية، وما أشبه ذلك غير شعره في قصائد الحفل التي يقوم بها بين السماطين: يقبل منه في تلك الطرائق عفو كلامه، وما لم يتكلف له بالاً، ولا ألقي به، ولا يقبل منه في هذه إلا ما طان محككاً، معاوداً فيه النظر، جيداً، لا غث فيه، ولا ساقط، ولا قلق؛ وشعره للأمير والقائد غير شعره للوزير والكاتب، ومخاطبته للقضاة والفقهاء بخلاف ما تقدم من هذه الأنواع.. وسيأتي هذا في موضعه من هذا الكتاب مفصلاً، إن شاء الله تعالى.
والمتأخر من الشعراء في الزمان لا يضره تأخره إذا أجاد، كما لا ينفع المتقدم تقدمه إذا قصر، وإن كان له فضل السبق فعليه درك التقصير، كما أن للمتأخر فضل الإجادة أو الزيادة، ولا يكون الشاعر حاذقاً مجوداً حتى يتفقد شعره، ويعيد فيه نظره، فيسقط رديه، ويثبت جيده، ويكون سمحاً بالركيك منه، مطرحاً له، راغباً عنه؛ فإن بيتاً جيداً يقاوم ألفي رديء.
وقال امرؤ القيس وهو أول من زعموا أنه أختبر له وعلم به أنه يكون أفضل الشعراء والمقدم عليهم:
أذود القوافي عني ذياداً ... ذياد غلام جريء جرادا
فلما كثرن وعنينه ... تخير منهن شتى جيادا
فأعزل مرجانها جانباً ... وآخذ من درها المستجادا
هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها " حراد " بالحاء مكسورة غير معجمة، و " شتى جيادا " بالشين معجمة مفتوحة غير منونة التاء.
فإذا كان أشعر الشعراء يصنع هذا ويحكيه عن نفسه، فكيف ينبغي لغيره أن يصنع؟ وزعم ابن الكلبي أنه امرؤ القيس بن بكر بن امرئ القيس بن الحارث بن معاوية الكندي، وروي " سفي " في موضع " جريء " والسفي: السفيه والخفيف أيضاً، وإليه يرجع اشتقاقه، وزعم غير ابن الكلبي أن الأبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي.
ويقال: إن أبا نواس كان يفعل هذا الفعل؛ فينفي الدني ويبقي الجيد.
وليلتمس له من الكلام ما سهل، ومن القصد ما عدل، ومن المعنى ما كان واضحاً جلياً يعرف بدياً، فقد قال بعض المتقدمين: شر الشعر ما سئل عن معناه، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك، أخذ في ذلك بمذهب زهير، وأوس، وطفيل.
ولا يجوز للشاعر كما يجوز لغيره أن يكون معجباً بنفسه، مثنياً على شعره، وإن كان جيداً في ذاته، حسناً عند سماعه، فكيف إن كان دون ما يظن؟ كقوم أفردوا لذلك أنفسهم، وأفنوا فيه أعمارهم وما يحصلون على طائل، وقد قال الله عز وجل: " فلا تزكوا أنفسكم " اللهم إلا أن يريد الشاعر ترغيب الممدوح أو ترهيبه فيثني على نفسه، ويذكر فضل قصيدته؛ فقد جعلوه مجازاً مسامحاً فيه: كالذي يعرض لكثير من الشعراء في أشعارهم من مدح قصائدهم، على أن أبا تمام يقول:
ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... يأتيك وهو بشعره مفتون
وإن كان أوصف الناس لقصيده، وأكثرهم ولوعاً بذلك، وهذا ما دام شعراً كان محمولاً على ما قدمناه، وإنما المكروه المعيب أن يكون ذلك منثوراً أو تأليفاً مسطوراً: كالذي فعل الناشئ أبو العباس في أشياء من شعره ذكرها في كتابه الموسوم بتفضيل الشعر؛ فشكرها، ونوه بها، ونبه عليها، وفضلها على أشعار الفحول: مثل جرير وغيره، منها قول جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وزعم بعد إقامة ما حسبه برهاناً أن قوله:
لا شيء أعجب من عينيك؛ إنهما ... لا يضعفان القوى إلا إذا ضعفا
خير منه، وأسلم من الاعتراض، وأكثر اختصاراً.
ويجب على الشاعر أن يتواضع لمن دونه، ويعرف حق من فوقه من الشعراء؛ فإن امرأ القيس وكان شديد الظنة في شعره، كثير المنازعة لأهله، مدلاً فيه بنفسه، واثقاً بقدرته لقي التوأم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة، فقال له: إن كنت شاعراً كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقاً هب وهناً
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعاراً
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو شريح
فقال التوأم:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأن هزيمه بوراء غيب
فقال التوأم:

أقسام الكتاب
1 2 3 4