كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري
وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإنّ فينا هشاماً ننحاز إليه؛ فقال داود بن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ: حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجرّاح ومن معه فما ضرّ المسلمين كثير ضرّ، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حيّ قيوم؛ وأمير المؤمنين حيّ وجنود المسلمين كثير. فقال داود: أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة ونيران الأتراك متفرّقة؛ فقال الأصبغ: هم في مضيق. ودنوا فسمعوا نهيق الحمير، فقال داود: أما علمت أنّ الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ: أصابوها بالأمس؛ ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين؛ فقال داود: نسرّح فارسين فيكبّران؛ فبعثا فارسين؛ فلما دنوا من العسكر كبّرا، فأجابهما العسكر بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال؛ ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه؛ فقام إبراهيم بن عاصم مبادراً.
قال: وأقبل أسد من الختّل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بن عاصم بالسبي وما أصاب. فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بن زحر وعبد الرحمن بن خنفر الأزديّان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النّطفة، واجعلها وراء ظهرك. فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه. فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعاً يخوضه النّاس، وفي موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كلّ رجل شاة، وحمل هو بنفسه شاة؛ فقال له عثمان بن عبد الله بن مطرف ابن الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخرط مما تخاف؛ وقد فرّقت الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوّك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر الناس بالاستعداد. فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء؛ الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه؛ وخاض الناس. ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع سباخة فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدّهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر - ويقال كانت المسلحة على الأزد وبني تميم فانكشفوا، وكض أشد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه. أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي. قال: وأقبل خاقان، فظنّ المسلمون أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر؛ فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند - وهو يومئذ أصبهبذ نسف - أن يسير في الصفّ حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق؛ حتى انتهى إلى الأشتيخن، فقال: بلى يطاق، لأنّا خمسون ألف فارس؛ فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة ردّ بعضنا عن بعض الماء فذهب جريته. قال: فضربوا بكوساتهم فظنّ أسد ومن معه أنه منهم وعيد، فأقحموا دوابّهم، فجعلت تنخر أشدّ النخير؛ فلما رأى المسلمون اقتحام الترك ولّوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر الرّجل دابّته، ولا يعرف بعضهم بعضاً؛ فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان خارجاً، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك؛ فأدبروا، وبات أسد؛ فلما أصبح - وقد كان عبّأ أصحابه من الليل تخوّفاً من غدر خاقان وغدوّه عليه، ولم ير شيئاً - دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل العافية، قال: ما هذه عافية، بل هي بليّة، لقينا خاقان أمس فظفر بنا وأصاب من الجند والسلاح؛ فما منعه منّا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعاً فيها. فارتحل فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلاماً من أعلام الإشكند، في بشر قليل. فسار والدوابّ مثقلة، فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل العافية، قال: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بليّة وذهاب الأنفس والأموال. فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس: أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية؛ وما عسى أن يكون ذهاب المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بن سيار مطرق، فقال أسد: مالك يا بن سيار مطرقاً لا تتكلم! قال: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت قحمة لا بدّ من قطوعها. فقبل رأيه وسار يومه كلّه.
قال: ودعا أسد سعيداً الصغير - وكان فارساً مولى باهلة. وكان عالماً بأرض الختل - فكتب كتاباً إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد؛ فإنّ خاقان قد توجّه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل؛ فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك؛ وإن أنت لحقت بالحارث فعلى أسد مثل الذي حلف، إن لم يبع امرأتك الدلاّل في سوق بلخ وجميع أهل بيتك. قال سعيد: فادفع إليّ فرسك الكميت الذنوب قال: لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم. فدفعه إليه. فسار على دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه فلما حاذى الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم؛ فتحوّل على فرس أسد، فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع - يقال عشرون رجلاً - حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقاً؛ فأتاهم وهم قيام عليه؛ فأمر أهل السغد بقتالهم؛ فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلاً، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلاً فجعل ينظر العورة، ووجّه القتال، قال: وهكذا كان يفعل؛ ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة. فلما صعد التلّ رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة. فدعا بعض قوّاد الترك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم؛ فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم؛ وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم. ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامّة أصحابه، واحتووا على أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء؛ فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجّب من كفتهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد.
قال: وكان أسد قد أغذّ السير، فأقبل حتى وقف على التّلّ الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير؛ قتل يومئذ بركة بن خوليّ الراسبي وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة. وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت زوجها، فبكى اسد معها حتى علا صوتهن ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري.
قال: وكان مصعب بن عمرو الخزاعيّ ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا، فلا تعرّضوا لهم. وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بن سريج فأمره فنادى: يا أسد؛ أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد كان لك عن الختل مندوحة؛ وهي أرض آبائي وأجدادي. فقال أسد: كان ما رأيت؛ ولعلّ الله أن ينتقم منك. قال كورمغانون - وكان من عظماء الترك: لم أر يوماً كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أصبت أموالاً عظيمة، ولم أر عدواً أسمج من أسراء العرب؛ يعدو أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه.
وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد؛ فلما أشرف على الظهر، ورأى المسلمين الترك امتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا، فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم.
قال: فأردف كلّ رجل منهم وصيفاً أو وصيفة، ثم اقبلوا إلى عسكر أسد عند مغيب الشمس. قال: وسار أسد بالنّاس، حتى نزل مع الثقل. وصبحوا أسداً من الغد؛ وذلك يوم الفطر، فكادوا يمنعونهم من الصلاة. ثم انصرفوا ومضى أسد إلى بلخ؛ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم تفرّق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي هذه الغزاة قيل له بالفارسية:
أز ختلان آمديه ... بروتباه آمديه
آبار باز آمديه ... خشك نزار آمديه
قال: وكان الحارث بن سريج بناحية طخارستان؛ فانضمّ إلى خاقان؛ فلمّا كان ليلة الأضحى قيل لأسد: غنّ خاقان نزل جزّة، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب الناس، وقال: إن عدوّ الله الحارث بن سريج استجلب طاغيته ليطفىء نور الله، ويبدّل دينه، والله مذلّه إن شاء الله. وإن عدوّكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله. وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله؛ وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربّكم، وأخلصوا له الدعاء. ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكّون في الفتح، ثم نزل عن المنبر. وضحّى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك. قال: والله لأخرجنّ؛ فإما ظفر وإما شهادة.
ويقال: أقبل خاقان، وقد استمدّ من وراء النهر وأهل طخارستان وجيغويه الطخاريّ بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفاً، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة؛ عليها أبو العوجاء بن سعيد العبديّ، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء، فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان. فكتب أبو العوجاء إلى أسد بمسيرهم. قال: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده. وقال آخرون: تأخذ في طريق زمّ، وتسبق خاقان إلى مرو.
وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم؛ فوافق قولهم رأي أسد وما كان عزم عليه من لقائهم. ويقال: إن خاقان حين فارق أسداً، ارتفع حتى صار بأرص طخارستان عند جبغويه، فلمّا كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبثّ الغارات؛ وذلك أن الحارث بن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند؛ فقال البختريّ ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بثّ الخيول حتى تنزل الجوزجان. فلما بثّ الخيل، قال له البحتريّ: كيف رأيت رأيي؟ قال: وكيف رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بن أبي روّاد عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل خراسان وأهل الشأم سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بن عليّ، وأمره ألاّ يدع أحداً يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة. فقال له نصر بن سيار الليثيّ والقاسم بن بخيت المراغيّ من الأزد وسليم بن سليمان السلميّ وعمرو بن مسلم بن عمرو ومحمد بن عبد العزيز العتكيّ وعيسى الأعرج الحنظلي والبختريّ بن أبي درهم البكريّ وسعيد الأحمر وسعيد الصغير مولى باهلة: أصلح الله الأمير؛ ائذن لنا في الخروج، ولا تهجّن طاعتنا. فأذن لهم ثم خرج فنزل باباً من أبواب بلخ وضربت له قبة؛ فازتان، وألصق إحداهما بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طوّلهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس: ادعوا الله؛ وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمّن الناس على دعائه؛ فقال: نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله، ثلاث مرات. ثم نادى مناديه: برئت ذمّة الله من رجل حمل امرأة ممّن كان من الجند، قالوا: إنّ أسداً إنما خرج هارباً، فخلف أم بكر أم ولده وولده؛ فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟ فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بن الحارث البكريّ - وزياد جالس - فقطّب أسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم عليّ. فأضرب ظهره وبطنه. فقال زياد: إن كانت لي فهي حرة، لا والله أيّها الأمير ما معي امرأة، فإنّ هذا عدوّ حاسد.
وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قال لمسعود بن عمرو الكرمانيّ، وهو يومئذ خليفة الكرمانيّ على الأزد: ابغني خمسين رجلاً ودابّة أخلفهم على هذه القنطرة، فلا تدع أحداً ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود: ومن أين أقدر على خمسين رجلاً! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه، فقام إليه قوم فكلموه فكفّ عنه؛ فلما جاز القنطرة نزل منزلاً، فأقام فيه حتى أصبح؛ وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بن زيد: ليأتمر الأمير على المقام يومه حتى يتلاحق الناس. قال: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة لنا إلى المتخلّفين، ثم ارتحل، وعلى مقدّمته سالم بن منصور البجليّ في ثلثمائة، فلقي ثلثمائة من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم معه، وهرب بقيّتهم، فأتى به أسد. قال: فبكى التركيّ، قال: ما يبكيك؟ قال: لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قال: كيف؟ قال: لأنه قد فرّق جنوده فيما بينه وبين مرو.
قال: وسار أسد؛ حتى نزل السدة - قرية ببلخ - وعلى خيل أهل العالية ريحان بن زياد العامريّ العبدليّ من بني عبد الله بن كعب. قال: فعزله، وصيّر على أهل العالية منصور بن سالم، ثم ارتحل من السدة، فنزل خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقّار بن ذعير، فتطيّر من اسمه واسم أبيه، فقال: ردّوه، قال: إني مقتول بجرأتي على الترك، قال: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارّة استقبله بشر بن رزين - أو رزين بن بشر - فقال بشارة ورزانة؛ ما وراءك يا رزين؟ قال: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قال: قل للمقدام بن عبد الرحمن يطاول رمحي، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد ابن المثنى واريته؛ ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته. أنّ رهجاً ساطعاً طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث، فقال: ألم تزعم أن أسداً ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ، قال الحارث: هذا اللصّ الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي. فبعث خاقان طلائع، فقال: انظروا هل ترون على الإبل سريراً وكراسيّ؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنّهم عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرّة والكراسيّ، وهذا أسد قد أتاك. فسار أسد غلوة فلقيه سالم بن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله. فقال المجشّر بن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك؛ فضرب وجه دابته، وقال: لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يأهل الصباح، انزلوا، فنزلوا وقرّبوا دوابّهم، وأخذوا النبل والقسيّ. قال: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة.
قال: وقال عمرو بن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلّى الغداة، فمرّ بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان. قال: وقصور الجوزجان إذ ذاك ذليلة. قال: وأتاه المقدام بن عبد الرحمن بن نعيم الغامديّ في مقاتلته وأهل الجوزجان - وكان عاملها - فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بن الجوزجان: سر معي؛ وكان على التعبئة القاسم بن بخيت المراغيّ؛ فجعل الأزد وبني تميم والجوجان بن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بن عمرو الخزاعيّ، وأهل قنسرين عليهم صغراء بن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة، عليهم يحيى بن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهرانيّ، وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرىء من حمير؛ وعلى المقدّمة منصور بن مسلم البجليّ، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد.
قال: وعبّى خاقان الحارث بن سريج وأصحابه وملك السغد وصاحب الشاش وخرا بغرة أبا خانا خرّة، جد كاوس وصاحب الختل وجبغويه، والترك كلهم ميمنة. فلمّا التقوا حمل الحارث ومن معه من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل الشأم؛ فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد؛ فشدت عليهم الميمنة - وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان - فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث والأتراك، وحمل الناس جمعياً، فقال أسد: اللهمّ إنهم عصوني فانصرهم؛ وذهب الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم النّاس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم؛ فاستاقوا أكثر من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة. وأخذ خاقان طريقاً غير الجادّة في الجبل، والحارث بن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر. ويقال: لما واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع، فقال رجل من بني قيس بن ثعلبة: يأهل الشأم؛ أهكذا رأيكم، إذا حضر الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون. وأقبل خاقان في قريب من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوى: إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رأيت من أهل الجوزجان مولياً فاقتله. وقال الجوزجان لعثمان بن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي وطرقها؛ فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قال: ما هو؟ قال: تتبعني؛ قال: نعم؛ فأخذ طريقاً يسمّى ورادك، فأشرفوا على طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف. وقد شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصارف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا، ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على الطوقات، وولّى خاقان مدبراً منهزماً، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بن سريج. قال: ولم يعلم الناس أنه خاقان، ووجد عسكر الترك مشحوناً من كلّ شيء من آنية الفضة وصنّاجات الترك. وأراد الخصيّ أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرّك، فأخذوا خفّها وهو من لبود مضرب.
قال: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين.
قال: وأقام أسد خمسة أيام. قال: فكانت الخيول التي فرّق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي:
لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيراً مرة ونقضا ... من الأمير أسد وأمضى
أفضى إلينا، الخير حين أفضى ... وجمع الشمل وكان رفضا
ما فاته خاقان إلا ركضا ... قد فض من جموعه ما فضا
يا بن سريج قد لقيت حمضاً ... حمضاً به يشفى صداع المرضى
قال: وارتحل أسد، فنزل جزّة الجوجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هارباً منه. وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشأم وأهل العراق، فاستعمل عليهم جعفر بن حنظلة البهرانيّ، فساروا ونزلوا مدينة تسمّى ورد من أرض جزّة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر - ويقال: أصابهم الثلج - فرجعوا. ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاريّ، وانصرف البهرانيّ إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم؛ وكان الترك قد بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع؛ فلما صار ببلخ أمر الناس بالصّوم لافتتاح الله عليهم.
قال: وكان أسد يوجّه الكرمانيّ في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون الرّجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك؛ ومضى خاقان إلى طخارستان العليا، فأقام عند جبغويه الخزلخيّ تعززاً به، وأمر بصنيعة الكوسات، فلما جفّت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده؛ فلما ورد شروسنة، تلقّاه خرابغره أبو خاناخره، جدّ كاوس أبي أفشين باللعانين، وأعدّ له هدايا ودوابّ له ولجنده - وكان الذي بينهما متباعداً - فلما رجع منهزماً أحب أن يتخذ عنده يداً، فأتاه بكلّ ما قدر عليه. ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرّق براذين في قوّاد الترك، فلاعب خاقان يوماً كورصول بالنّرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الترقشيّ، فطلب منه التدرجة، فقال: أنثى، فقال: الآخر ذكر؛ فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرنّ يد كورصول؛ وبلغ كورصول، فتنحّى وجمع جمعاً من أصحابه، فبيت خاقان فقتله؛ فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجرّداً، فأتاه زريق بن طفيل الكشانيّ وأهل بيت الحموكيين - وهم من عظماء الترك - فحمله ودفنه، وصنع به ما يصنع بمثله إذا قتل. فتفرّقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشّاش؛ فعند ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها. قال: فلم يسلم من خيل الترك التي تفرّقت في الغارات إلا زرّ بن الكسيّ، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان، وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بن وصّاف العجليّ على فرس، فسار حتى نزل الشبورقان. قال: وفيها إبراهيم بن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد حتى قدم على خالد بن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدّقه، وقال للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامّة الكبرى إذا كان صادقاً؛ ولا أراه صادقاً، اذهب فعده ثم سله عمّا يقوله وأتني بما يقول. فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشاماً. قال: فدخل عليه أمر عظيم؛ فدعا به بعد، فقال: من القاسم بن بخيت منكم؟ قال: ذلك صاحب العسكر، قال: فإنه قد أقبل، قال: فإن كان قد أقبل فقد فتح الله على أمير المؤمنين - وكان أسد وجّهه حين فتح الله عليه - فأقبل القاسم بن بخيت، فكبّر على الباب، ثم دخل يكبر وهشام يكبّر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير المؤمنين؛ وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر؛ وهي واحدة عندهم. قال: فحسدت القيسيّة أسداً وخالداً؛ وأشاروا على هشام أن يكتب إلى خالد بن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بن حيّان، فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بن حيّان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق؛ فإنك لا تقول غير الحقّ إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك. قالوا: إذاً لا يأخذ شيئاً، قال: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وكذا، وجهزه.
فسار فقدم على هشام بن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال: غزونا الختل، فأصبنا أمراً عظيماً، وأنذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة قريباً من خلم، فانتهى الناس إلى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدوّ؛ فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراريّ من ذراريّ المسلمين، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم. ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم الظّفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان؛ فأجلي عنه - وهشام متكىء فاستوى جالساً عند ذكره عسرك خاقان - فقال ثلاثاً: أنتم استبحتم عسكر خاقان! قال: نعم، قال: ثمّ ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا. قال هشام: إن أسداً لعضيف، قال: مهلاً يا أمير المؤمنين؛ ما أسدٌ بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قال: إن يزيد بن المهلب أخذ من أبي حيّان مائة ألف درهم بغير حقّ؛ فقال له هشام: لا أكلفك شاهداً، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردّها عليه من بيت مال خراسان؛ وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها؛ فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيّان على كتاب الله وفرائضه. ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقاً أعطى مائة ألف درهم.
وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بن الأشهب بن عتبة الحنظليّ. قال: فأوفد أسد إلى خالد بن عبد الله وفداً في هزيمته يوم سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام، فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهنديّ الأسديّ لأسد يذكر وقعة سان:
أبا منذر رمت الأمور فقستها ... وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته ... برأيك إلا مثل رأي البهائم
أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ... عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله مذ حج راكبولا عمر البطحاء بعد المواسم
فكم من قتيل بين سان وجزة ... كثير الأيادي من ملوك قماقم
تركت بأرض الجوزجان تزوره ... سباع وعقبان لحز الغلاصم
وذي سوقة فيه من السيف خطة ... به رمق حامت عليه الحوائم
فمن هارب منا ومن دائن لنا ... أسير يقاسي مبهمات الأداهم
فدتك نفوس من تميم وعامر ... ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ... جلائبه ترجو احتواء المغانم
قال: وكان السبل أوصى عند موته ابنّ السائجيّ حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم؛ فإني ملك ولست بملك؛ إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتلمون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى تردّه إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كلّ حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم. فقال له ابن السائجيّ: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من ردّ الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قال: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم؛ إني قد جرّبت قوّتكم بقوّتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعاً، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضاً، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم.
قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجي الذي أخبر أسد بن عبد الله بمسير خاقان إليه، فكره محاربة أسد.
ذكر الخبر عن مقتل المغيرة بن سعيد ونفر معهوفي هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم.
ذكر الخبر عن مقتلهم: أما المغيرة بن سعيد، فإنه كان - فيما ذكر - ساحراً. حدثنا ابن حميد، قال: حدّثنا جرير، عن الأعمش، قال: سمعت المغيرة بن سعيد، يقول: لو أردت أن أحيي عاداً أو ثموداً وقروناً بين ذلك كثيراً لأحييتهم. قال الأعمش: وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور؛ أو نحو هذا من الكلام.
وذكر أبو نعيم، عن النّضر بن محمد، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب العلم؛ فكان عندنا، فأمرتُ جاريتي يوماً أن تشتري لي سمكاً بدرههمين، ثم انطلقت أنا والبصريّ إلى المغيرة بن سعيد، فقال لي: يا محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قال أفتحبّ أن أخبرك لم سماك أهلك محمداً؟ قلت: لا، قال: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكاً بدرهمين. قال: فنهضنا عنه. قال أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد القسريّ فقتله وصلبه.
وذكر أبو زيد أن أبا بكر بن حفص الزهريّ، قال: أخبرني محمد بن عقيل، عن سعيد بن مرادابند، مولى عمرو بن حريث، قال: رأيت خالداً حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طناً فكع عنه وتأنّى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طناً فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بياناً آخرهم فقدم إلى الطنّ مبادراً فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه.
قال أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبياناً أرسل إلى مالك بن أعين الجهنيّ فسأله فصدّقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به - وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان - قال:
ضربت له بين الطريقين لا حباً ... وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
وألقيته في شبهة حين سالني ... كما اشتبها في الخط سين وشينها
فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
قال أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، قال: خرج المغبرة بن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسريّ بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل، فقال:
أخالد لا جزاك الله خيراً ... وأير في حرامك من أمير
تمنى الفخر في قيس وقسر ... كأنك من سراة بني جرير
وأمك علجة وأبوك وغد ... وما الأذناب عدلاً للصدور
جرير من ذوي يمن أصيل ... كريم الأصل ذو خطر كبير
وأنت زعمت أنك من يزيد ... وقد أدحقتم دحق العبور
وكنت لدى المغيرة عبد سوء ... تبول من المخافة للزئير
وقلت لما أصابك: أطعموني ... شراباً ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السن ليس بذي نصير
خبر مقتل بهلول بن بشروفي هذه السنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل
ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن بهلولاً كان يتألّه، وكان له قوت دانق، وكان مشهوراً بالبأس عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلاً بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية - وهي من السواد - فكلّمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك؛ فمضى بهلول في حجّه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدعوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلاً، وأمّروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألاّ يمرّوا بأحد إلا أخبروه أنّهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجّههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرّون بعامل إلا أخبروه بذلك. وأخذوا دوابّ من دوابّ البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخلّ فأعطى خمراً، قال بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال؛ فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد؛ فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره؛ فننشدك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد؛ ويبني البيع والكنائس، ويولى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات؛ لعلنا نقتله فيريح الله منه. قال: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده؛ وأرجو أن أقتل هذا الذي قال لي ما قال وأدرك خالداً فأقتله؛ وإن تركت هذا وأتيت خالداً شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قال الله عز وجل: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة " ، قالوا: أنت ورأيك. فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هراباً، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت؛ وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط حتى أتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشأم من بني القين في جيش قد وجهوا مدداً لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة؛ فإنّ من قتل منهم رجلاً أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشأم، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند - وكان الخروج إلى أرض الهند شاقاً عليهم - فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا. فتوجه القيني إليهم في ستمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبّأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا - وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد - وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه؛ فأنفذه. فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله.
وولّى أهل الشأم مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا باب الكوفة، وبهلول وأصحابه يقتلونهم. فأما الشاميون فإنهم كانوا على خيل جياد ففاتوه؛ وأما شرط الكوفة فإنه لحقهم، فقالوا: اتق الله فينا فإنا مكرهون مقهورون؛ فجعل يقرع رءوسهم بالرمح، ويقول: الحقوا! النّجاء النّجاء! ووجد البهلول مع القينيّ بدرة فأخذها.
وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي البهلول، فخرجوا إليه يريدون اللحاق به فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: من قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا، وهذا يقول: أنا؛ حتى عرفهم؛ وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم مالاً لقتلهم من قتلوا. فقال بهلول لأهل القرية: أصدق هؤلاء، هم قتلوا النفر؟ قالوا: نعم؛ وخشي بهلول أنهم ادّعوا ذلك طمعاً في المال، فقال لأهل القرية: انصرفوا أنتم؛ وأمر بأولئك فقتلوا، وعاب عليه أصحابه فحاجّهم، فأقرّوا له بالحجّة.
وبلغت هزيمة القوم خالداً وخبر من قتل من أهل صريفين، فوجّه قائداً من بني شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم؛ فلقيهم فيما بين الموصل والكوفة، فشدّ عليهم البهلول، فقال: نشدتك بالرحم! فإني جانح مستجير! فكفّ عنه؛ وانهزم أصحابه، فأتوا خالداً وهو مقيم بالحيرة ينتظر، فلم يرعه إلا الفلّ قد هجم عليه؛ فارتحل البهلول من يومه يريد الموصل؛ فخافه عامل الموصل، فكتب إلى هشام: إنّ خارجة خرجت فعاثت وأفسدت؛ وأنه لا يأمن على ناحيته، ويسأله جنداً يقاتلهم به؛ فكتب إليه هشام: وجّه إليهم كثارة بن بشر - وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه - فكتب إليه العامل: إن الخارج هو كثارة.
قال: ثم قال البهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئاً - يعني خالداً - وما خرجت إلا لله، فلم لا نطلب الرأس الذي يسلط خالداً وذوي خالد! فتوجّه يريد هشاماً بالشام، فخاف عمال هشام موجدته إن تركوه يجوز بلادهم حتى ينتهي إلى الشأم، فجند له خالد جنداً من أهل العراق، وجنّد له عامل الجزيرة جنداً من أهل الجزيرة، ووجه إليه هشام جنداً من أهل الشأم؛ فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم - ويقال: التقوا بالكحيل دون الموصل - فأقبل بهلول، فنزل على باب الدير، فقالوا له: تزحزح عن باب الدير حتى نخرج إليك، فتنحّى وخرجوا؛ فلما رأى كثرتهم وهو في سبعين جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل عليهم فقال: أكلّكم يرجو أن يقتلنا ثم يأتي بلده وأهله سالماً؟ قالوا: إنا نرجو ذلك إن شاء الله، فشدّ على رجل منهم فقتله، فقال: أما هذا فلا يأتي أهله أبداً؛ فلم يزل ذلك ديدنه حتى قتل منهم ستة نفر؛ فانهزموا، فدخلوا الديّر فحاصرهم، وجاءتهم الأمداد فكانوا عشرين ألفاً، فقال له أصحابه: ألا نعقر دوابّنا، ثم نشدّ عليهم شدة واحدة؟ فقال: لا تفعلوا حتى نبلي الله عذراً ما استمسكنا على دوابّنا، فقاتلوهم يومهم ذلك كله إلى جنح العصر حتى أكثروا فيهم القتل والجراح.
ثم إن بهلولا وأصحابه عقروا دوابّهم وترجّلوا، وأصلتوا لهم السيوف، فأوجعوا فيهم؛ فقتل عامة أصحاب بُهلول وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، وحمل عليه رجل من جديلة قيس يكنى أبا الموت، فطعنه فصرعه، فوافاه من بقي من أصحابه، فقالوا له: ولّ أمرنا من بعدك من يقوم به، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيبانيّ، فإن هلك دعامة فأمير المؤمنين عمرو اليشكري، وكان أبو الموت إنما ختل البهلول. ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاّهم، فقال رجل من شعرائهم:
لبئس أمير المؤمنين دعامة ... دعامة في الهيجاء شر الدعائم
وقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولاً، ويذكر أصحابه:
بدلت بعد أبي بشر وصحبته ... قوماً عليّ مع الأحزاب أعواناً
كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلاناً
يا عين أذري دموعاً منك تهتانا ... وابكى لنا صحبةً بانوا وإخوانا
خلّوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا
قال أبو عبيدة: لما قتل بهلول خرج عمرو اليشكريّ فلم يلبث أن قتل. ثم خرج العنزي صاحب الأشهب - وبهذا كان يعرف - على خالد في ستّين، فوجّه إليه خالد السمط بن مسلم البجليّ في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات. فشدّ العنزيّ على السّمط، فضربه بين أصابعه فألقى سيفه، وشلّت يده. وحمل عليهم فانهزمت الحروريّة فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم، فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
قال أبو عبيدة: ثم خرج وزير السختيانيّ على خالد في نفر؛ وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمرّ بقرية إلا أحرقها، ولا أحد إلا قتله؛ وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجّه إليه خالد قائداً من أصحابه وشرطاً من شرط الكوفة، فقاتلوه وهو في نفير؛ فقاتل حتى قتل عامة أصحابه، وأثخن بالجراح؛ فأخذ مؤتثاً، فأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، وتلا عليه آيات من القرآن. فأعجب خالداً ما سمع منه، فأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان لا يزال يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشاماً وسعي به إليه، وقيل: أخذ حرورياً قد قتل وحرق وأباح الأموال، فاستبقاه فاتّخذه سميراً. فغضب هشام، وكتب إلى خالد يشتمه، ويقول: لا تستبق فاسقاً قتل وحرق، وأباح الأموال؛ فكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت لما كان يسمع من بيانه وفصاحته. فكتب فيه إلى هشام يرقق من أمره - ويقال: بل لم يكتب ولكنه كان يؤخّر أمره ويدفع عنه - حتى كتب إليه هشام يؤنبه ويأمره بقتله وإحراقه؛ فلما جاءه أمر عزيمة لا يستطيع دفعه بعث إليه وإلى نفر من أصحابه كانوا أخذوا معه؛ فأمر بهم فأدخلوا المسجد، وأدخلت أطنان القصب فشدّوا فيها، ثم صبّ عليهم النفط، ثم أخرجوا فنصبوا في الرّحبة. ورموا بالنّيران؛ فما منهم أحد إلا من اضطرب وأظهر جزعاً، إلا وزيراً فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وفي هذه السنة غزا أسد بن عبد الله الختل. وفيها قتل أسد بدرطرخان ملك الختل.
ذكر الخبر عن غزوة أسدالختل هذه الغزوة وسبب قتله بدرطرخان ذكر عليّ بن محمد عن أشياخه الذين ذكرناهم قبل أنهم قالوا: غزا أسد ابن عبد الله الختل وهي غزوة بدرطرخان، فوجه مصعب بن عمرو الخزاعي إليها، فلم يزل مصعب يسير حتى نزل بقرب بدرطرخان؛ فطلب الأمان على أن يخرج إلى أسد. فأجابه مصعب، فخرج إلى أسد فطلب منه أشياء فامتنع، ثم سأله بدرطرخان أن يقبل منه ألف ألف درهم، فقال له أسد: إنك رجل غريب من أهل الباميان، اخرج من الختل كما دخلتها. فقال له بدرطرخان: دخلت أنت خراسان على عشرة من المحذفة، ولو خرجت منها اليوم لم تستقلّ على خمسمائة بعير؛ وغير ذلك أني دخلت الختل بشيء فاردده عليّ حتى أخرج منها كما دخلتها. قال: وما ذاك؟ قال: دخلتها شاباً فكسبت المال بالسيف، ورزق الله أهلاً وولداً، فاردد عليّ شبابي حتى أخرج منها؛ هل ترى أن أخرج من أهلي وولدي! فما بقائي بعد أهلي وولدي! فغضب أسد.
قال: وكان بدرطرخان يثق بالأمان، فقال له أسد: أختم في عنقك؛ فإني أخاف عليك معرّة الجند، قال: لست أريد ذلك؛ وأنا أكتفي من قبلك برجل يبلغ بي مصعباً. فأبى أسد إلاّ أن يختم في عنقه، فختم في رقبته ودفعه إلى أبي الأسد مولاه، فسار به أبو الأسد، فانتهى إلى عسكر المصعب عند المساء. وكان سلمة بن أبي عبد الله في الموالي مع مصعب، فوافى أبو الأسد سلمة، وهو يضع الدرّاجة في موضعها، فقال سلمة لأبي الأسد: ما صنع الأمير في أمر بدرطرخان؟ فقصّ الذي عرض عليه بدرطرخان وإباء أسد ذلك، وسرحه معه إلى المصعب ليدخله الحصن. فقال سلمة: إن الأمير لم يصب فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم؛ إنما كان ينبغي له أن يقبض ما عرض عليه أو يحبسه فلا يدخله حصنه؛ فإنا إنما دخلناه بقناطر اتّخذناها، ومضايق أصلحناها؛ وكان يمنعه أن يغير علينا رجاء الصلح؛ فأما إذ يئس من الصلح فإنه لا يدع الجهد. فدعه الليلة في قبّتي؛ ولا تنطلق به إلى مصعب؛ فإنه ساعة ينظر إليه يدخله حصنه.
قال: فأقام أبو الأسد وبدرطرخان معه في قبّة سلمة، وأقبل أسد بالناس في طريق ضيّق، فتقطّع الجند، ومضى أسد حتى انتهى إلى نهر وقد عطش - ولم يكن أحد من خدمه - فاستسقى؛ وكان السغديّ بن عبد الرحمن أبو طعمة الجرميّ معه شاكريّ له، ومع الشاكريّ قرن تبتي؛ فأخذ السغديّ القرن؛ فجعل فيه سويقاً، وصبّ عليه ماء من النهر، وحركه وسقى أسداً وقوماً من رؤساء الجند، فنزل أسد في ظلّ شجرة، ودعا برجل من الحرس، فوضع رأسه في فخذه، وجاء المجشّر بن مزاحم السلميّ يقود فرسه حتى قعد تجاهه حيث ينظر أسداً، فقال أسد: كيف أنت يا أبا العدبسّ؟ قال: كنت أمس أحسن حالاً منّي اليوم، قال: وكيف ذاك؟ قال: كان بدرطرخان في أيدينا وعرض ما عرض؛ فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شدّ يده عليه؛ لكنه خلّى سبيله؛ وأمر بإدخاله حصنه لما عنده - زعم - من الوفاء. فندم أسد عند ذلك، ودعا بدليل من أهل الختّل ورجل من أهل الشأم نافذ، فاره الفرس فأتى بهما، فقال للشاميّ: إن أنت أدركت بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم، فتوجّها حتى انتهيا إلى عسكر مصعب؛ فنادى الشأميّ: ما فعل العلج؟ قيل: عند سلمة، وانصرف الدّليل إلى أسد بالخبر، وأقام الشاميّ مع بدرطرخان في قبة سلمة، وبعث أسد إلى بدرطرخان فحوّله إليه فشتمه، فعرف بدرطرخان أنه قد نقض عهده، فرفع حصاة فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد الله؛ وأخذ أخرى فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد محمد صلى الله عليه، وأخذ يصنع كذلك بعهد أمير المؤمنين وعهد المسلمين؛ فأمر أسد بقطع يده، وقال أسد: من هاهنا من أولياء أبي فديك؟ رجل من الأزد قتله بدرطرخان ، فقام رجل من الأزد فقال: أنا، قال: اضرب عنقه؛ ففعل. وغلب أسد على القلعة العظمى، وبقيت قلعة فوقها صغيرة فيها ولده وأمواله، فلم يوصل إليهم، وفرق أسد الخيل في أودية الختل.
قال: وقدم أسد مرو، وعليها أيوب بن أبي حسان التميمي. فعزله واستعمل خالد بن شديد، ابن عمه. فلما شخص إلى بلخ بلغه أنّ عمارة بن حريم تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فكتب إلى خالد بن شديد احمل عمارة على طلاق ابنة يزيد؛ فإن أبي فاضربه مائة سوط؛ فبعث إليه فأتاه وعنده العذافر بن زيد التميميّ، فأمره بطلاقها، ففعل بعد إباء منه؛ وقال عذافر: عمارةوالله فتى قيس وسيّدها، وما بهاعليه أبّهة؛ أي ليست بأشراف منه. فتوفّي خالد بن شديد، واستخلف الأشعث بن جعفر البجلي.
ظهور الصحارى بن شبيب الخارجيّ
وفيها شرى الصحارىّ بن شبيب، وحكم بجبل.
ذكر خبره
ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن الصحاريّ بن شبيب أتى خالداً يسأله الفريضة، فقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة! فودّعه ابن شبيب، ومضى، وندم خالد وخالف أن يفتق عليه فتقاً، فأرسل إليه يدعوه، فقال: أنا كنت عنده آنفاً؛ فأبوا أن يدعوه، فشدّ عليهم بسيفه، فتركوه فركب وسار حتى جاوز واسطاً، ثم عقر فرسه وركب زورقاً ليخفي مكانه، ثم قصد إلى نفر من بني تيم اللات بن ثعلبة، كانوا بجبل، فأتاهم متقلداً سيفاً فأخبرهم خبره وخبر خالد، فقالوا له: وما كنت ترجو بالفريضة! كنت لأن تخرج إلى ابن النصرانية فتضربه بسيفك أحرى. فقال: إني والله ما أردت الفريضة، وما أردت إلا التوصّل إليه لئلا ينكرني، ثم أقتل ابن النصرانيّة غيلة بقتله فلاناً - وكان خالد قبل ذلك قد قتل رجلاً من قعدة الصفرية صبراً - ثم دعاهم الصحاريّ إلى الوثوب معه فأجابه بعضهم، وقال بعضهم: ننتظر؛ وأبى بعضهم وقالوا: نحن في عافية، فلما رأى ذلك قال:
لم أرد منه الفريضة إلا ... طمعاً في قتله أن أنالا
فأريح الأرض منه وممن ... عاث فيها وعن الحق مالا
كل جبار عنيد أراه ... ترك الحق وسن الضلالا
إنني شارٍ بنفسي لربيّ ... تارك قيلا لديهم وقالا
بائع أهلي ومالي أرجو في جنان الخلد أهلاً ومالا
قال: فبايعه نحو من ثلاثين، فشرى بجبل، ثم سار حتى أتى المبارك. فبلغ ذلك خالداً، فقال. قد كنت خفتها منه. ثم وجه إليه خالد جنداً، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالاً شديداً، ثم انطووا عليه فقتلوه وقتلوا جميع أصحابه.
قال أبو جعفر: وحجّ بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحجّ معه ابن شهاب الزهريّ في هذه السنة.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله القسريّ، وعامل خالد علىخراسان أخوه أسد بن عبد الله.
وقد قيل: إن أخا خالد أسداً هلك في هذه السنة، واستخلف عليها جعفر بن حنظلة البهرانيّ.
وقيل: إن أسداً أخا خالد بن عبد الله إنّما هلك في سنة عشرين ومائة.
وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
ثم دخلت سنة عشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتاحه - فيما ذكر - سندرة، وغزوة إسحاق بن مسلم العقيليّ وافتتاحه قلاع تومانشاه وتخريبه أرضه، وغزوة مروان بن محمد أرض الترك.خبر وفاة أسد بن عبد الله القسريّ
وفيها كانت وفاة أسد بن عبد الله في قول المدائنيّ.
ذكرالخبر عن سبب وفاته
وكان سبب ذلك أنه كانت به - فيما ذكر - دبيلة في جوفه؛ فحضر المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين؛ فكان ممن قدم عليه إبراهيم بن عبد الرحمن الحنفيّ عامله على هراة وخراسان، ودهقان هراة؛ فقدما بهدية قومت بألف ألف؛ فكان فيما قدما به قصران: قصر منفضة وقصرمن ذهب، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على السرير، وأشاراف خراسان على الكراسيّ،فوضعا القصرين؛ ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج المرويّ والقوهيّ والهرويّ وغير ذلك؛ حتى امتلأ السماط؛ وكان فيما جاء به الدّهقان أسداً كرة من ذهب؛ ثم قام الدهقان خطيباً، فقال: أصلح الله الأمير! إنا معشر العجم؛ أكلنا الدنيا أربعمائة سنة؛ أكلناها بالحلم والعقل والوقار؛ ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبيّ مرسل؛ وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يده، والذي يليه رجل تمت مروته في بيته فإن كان كذلك رجيَ وعظم، وقود وقدم؛ ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي؛ فإذا كان كذلك قود وقدم؛ وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة الذين أكلنا الدنيا بهم أربعمائة سنة فيك أيها الأمير؛ وما نعلم أحداً هو أتم كتخدانية منك؛ إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك؛ فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدّى على صغير ولا كبير، ولا غني ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز؛ فيجيء الجائي من المشرق والآخر من المغرب؛ فلا يجدان عيباً إلا أن يقولا: سبحان الله ما أحسن ما بني! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف، معه الحارث ابن سريج فهزمته وفللته، وقتلت أصحابه، وأبحت عسكره. وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنّا ما ندري أيّ المالين أقرّ لعينك؟ أمالٌ قدم عليك، أم مال خرج من عندك! بل أنت بما خرج أقرّ عيناً. فضحك أسد، وقال: أنت خير دهاقين خراسان وأحسنهم هديّة. وناوله تفاحة كانت في يده؛ وسجد له دهقات هراة، وأطرق أسد ينظر إلى تلك الهدايا؛ فنظر عن يمينه، فقال: يا عذافر بن يزيد، مر من يحمل هذا القصر الذهب، ثم قال: يا معن بن أحمر رأس قيس - أو قال قنسرين - مر بهذا القصر يحمل، ثم قال: يا فلان خذ إبريقاً، ويا فلان خذ إبريقاً، وأعطى الصحاف حتى بقيت صحفتان، فقال: قم يا بن الصيداء، فخذ صحيفة، قال: فأخذ واحدة فرزنها فوضعها، ثم أخذ الأخرى فرزنها، فقال له أسد: مالك؟ قال: آخذ أرزنهما، قال: خذهما جميعاً؛ وأعطى العرفاء وأصحاب البلاء؛ فقام أبو اليعفور - وكان يسير أمام صاحب خراسان في المغازي - فنادى: هلم إلى الطريق، فقال أسد: ما أحسن ما ذكرت بنفسك! خذ ديباجتين، وقام ميمون العذاب فقال: إليّ، إلى يساركم، إلى الجادة؛ فقال: ما أحسن ما ذكرت نفسك! خذ ديباجة، قال: فأعطى ما كان في السمّاط كلّه، فقال نهر بن توسعة:
تقلون إن نادي لروعٍ مثوب ... وأنتم غداة المهرجان كثير
ثم مرض أسد، فأفاق إفاقة فخرج يوماً، فأتى بكمثرى أول ما جاء، فأطعم الناس منه واحدة واحدة؛ وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة، فانقطعت الدبيلة، فهلك. واستخلف جعفراً البهرانيّ، وهو جعفر بن حنظلة سنة عشرين ومائة فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيّار في رجب سنة إحدى وعشرين ومائة، فقال ابن عرس العبديّ:
نعى أسد بن عبد الله ناع ... فريع القلب للملك المطاع
ببلخ وافق المقدار يسرى ... وما لقضاء ربك من دفاع
فجودي عين بالعبرات سحاً ... ألم يحزنك تفريق الجماع!
أتاه حمامه في جوف صيغ ... وكم بالصيغ من بطل شجاع!
كتائب قد يجيبون المنادي ... على جرد مسومة سراع
سقيت الغيث إنك كنت غيثاً ... مريعاً عند مرتاد النجاع
وقال سليمان بن قتة مولى بني تيم بن مرة - وكان صديقاً لأسد:
سقى الله بلخاً، سهل بلخ وحزنها ... ومروى خراسان السحاب المجمعا
وما بي لتسقاه ولكن حرفة ... بها غيبوا شلواً كريماً وأعظما
مراجم أقوام ومردى عظيمة ... وطلاب أوتار عفرناً عثمثما
لقد كان يعطى السيف في الروع حقه ... ويروى السنان الزاغبي المقوما
أمر شيعة بنى العباس بخراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجّهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن عليّ بن العباس سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
ذكر الخبر عن سبب توجيههم سليمان إلى محمد: وكان السبب في ذلك موجدة كانت من محمد بن عليّ على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم، كانت لخداش الذي ذكرنا خبره قبل وقبولهم منه ما روى عليه من الكذب؛ فترك مكاتبتهم؛ فلما أبطأ عليهم كتابه، اجتمعوا فذكروا ذلك بينهم؛ فأجمعوا على الرِّضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم، ويخبره عنهم، ويرجع إليهم بما يردّ عليه؛ فقدم - فيما ذكر - سليمان بن كثير على محمد بن عليّ وهو متنكر لمن بخرسان من شيعته، فأخبره عنهم، فعنفهم في إتّباعهم خداشاً وما كان دعا إليه، وقال: لعن الله خداشاً ومن كان على دينه! ثم صرف سليمان إلى خراسان، وكتب إليهم معه كتاباً، فقدم عليهم، ومعه الكتاب مختوماً، ففضوا خاتمه فلم يجدوا فيه شيئاً، إلا: بسم الله الرحمن الرحيم ، فلفظ ذلك عليهم وعلموا أن ما كان خداش أتاهم به لأمره مخالف.
وفي هذه السنة وجّه محمد بن عليّ بكير بن ماهان إلى شيعته بخراسان بعد منصرف سليمان بن كثير من عنده إليهم، وكتب معه إليهم كتاباً يعلمهم أن خداشاً حمل شيعته على غير منهاجه. فقدم عليهم بكير بكتابه فلم يصدقوه واستخفوا به؛ فانصرف بكير إلى محمد بن عليّ ؛ فبعث معه بعصى مضببة بعضها بالحديد وبعضها بالشّبه؛ فقدم بها بكير وجمع النقباء والشيّعة، ودفع إلى كلّ رجل منهم عصاً، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته، فرجعوا وتابوا.
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن أعماله التي كان ولاه إياها كلَّها.
ذكر سبب عزل هشام خالداً: قد قيل في ذلك أقوال، نذكر ما حضرنا من ذلك ذكره؛ فمما قيل في ذلك: إن فروخ أبا المثنى كان قد تقبّل من ضياع هشام بن عبد الملك بموضوع يقال له رستاق الرّمان أو نهر الرّمان - وكان يدعي بذلك فروخ الرّمانيّ - فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطيّ: ويحك! اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فرّوخ، فخرج فزاد عليه ألف ألف درهم؛ فبعث هشام رجلين من صلحاء أهل الشأم، فحازا الضياع، فصار حسان أثقل على خالد من فرّوخ؛ فجعل يضربه، فيقول له حسان: لا تفسدني وأنا صنيعتك! فأبى إلاّ الإضرار به، فلما قدم عليه بثق البثوق على الضّياع. ثم خرج إلى هشام، فقال: إن خالداً بثق البثوق على ضياعك. فوجّه هشام رجلاً، فنظر إليها ثم رجع إلى هشام فأخبره، فقال حسان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار، قال: فجعّل لي الألف وأقول ما شئت، قال: فعجّلها له وقال له: بك صيبًّا من صبيان هشام؛ فإذا بكى فقل له: اسكت؛ والله لكأنك ابن خالد القسريّ الذي غلّته ثلاثة عشر ألف ألف. فسمعها هشام فأغضى عليها. ثم دخل عليه حسان بعد ذلك، فقال له هشام إدن مني فدنا منه، فقال: كم غلة خالد؟ ثلاثة عشر ألف ألف، قال: فكيف لم تخبرني بهذا! قال: وهل سألتني؟ فوقرت في نفس هشام، فأزمع على عزله.
وقيل: كان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنت بدون مسلمة بن هشام؛ فإنّك لتفخر على النناس بثلاث لا يفخر بمثلها أحدٌ: سكرت دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولى سقايةٌ بمكة، ولي ولاية العراق.
وقيل: إنما أغضب هشاماً على خالد أن رجلاً من قريش دخل على خالد فاستخف به وعضه بلسانه، فكتب إلى هشام يشكوه، فكتب هشام إلى خالد:
أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين - وإن كان أطلق لك يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه، للّذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن تدبيرك - لم يفرشك غرة أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تحد إليه بصرك؛ فكيف بك وقد بسطت على غرتهم بالعراق لسانك بالتوبيخ؛ تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره؛ زعمت بالنصفة منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ في اللفظ عليه في مجلس العامة، غير متحلحل له حين رأيته مقبلاً من صدر مهادك الذي مهد له الله، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصةً، مساوين بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين؛ حتى حللت هضبةً أصبحت تنحو بها عليهم متفخراً. هذا إن لم يدهده بك قلة شكرك متحطّماً وقيذاً. فهلاّ - يابن مجرشة قومك - أعظمت رجلهم عليك داخلاً، ووسعت مجلسه إذ رأيته إليك مقبلاً، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرماً، ثم فاوضته مقبلاً ببشرك، إكراماً لأمير المؤمنين، فإذا اطمأن به مجلسه نازعته بحييّ السرار، معظماً لقرابته، عارفاً لحقّه؛ فهو سن البيتين ونابهم، وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرتهم. وبالله يقسم أمير المؤمنين لك لولا ما تقدم من حرمتك وما يكره من شماتة عدوك بك لوضع منك ما رفع؛ حتى يردّك إلى حال تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك. وما أقربني من أن أجعلك تابعاً لمن كان لك تبعاً؛ فانهض على أيّ حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه، من ليل أو نهار، ماشياً على قدمك بمن معك من خولك حتى تقف على باب ابن عمرو صاغراً، مستأذناً عليه، متنصّلا إليه؛ أذن لك أو منعك؛ فإن حركته عواطف رحمة احتملك، وإن احتملته أنفة وحمية من دخولك عليك فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل؛ ثم أمرك بعد إليه؛ عزل أو ولىّ، انتصر أو عفا؛ فلعنك الله من متكل عليه بالثقة؛ ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشرف ألفاظك؛ التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق، وأقدم وأقوم. وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمّه بما كتب به إليك من إنكاره عليك، ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه، مفوضاً ذلك إليه مبسوطة فيه يده، محموداً عند أمير المؤمنين على أيّهما آتى إليك موفقاً إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى ابن عمرو:
أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك ، وفيهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامة محتقراً لقدرك، مستصغراً لقرابتك من أمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه، تعظيماً لأمير المؤمنين وسلطانه، وتمسكاً بوثائق عصم طاعته، مع مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه، وإكثابه عليك عند إطراقك عنه، مرويّاً فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوّه من خموله؛ وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذنّابي وطائشة أحلامها، صمت من غير إفحام، بل بأحلام تخف بالجبال وزناً. وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه، وتوقيرك سلطانه وشكره؛ وقد جعل أمر خالد إليك في عزلك إياه أو إقراره؛ فإن عزلته أمضى علك إياه. وإن أقررته فتلك منَّه لك عليه لا يشكرك أمير المؤمنين فيها. وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله إليه، يأمره بإتيانك راجلاً على أيّة حال صادفه كتاب أمير المؤمنين فيها، وألفاه رسوله الموجّه إليه من ليله أو نهاره حتى يقف ببابك؛ أذنت له أو حجته، أقررته أو عزلته، وتقدم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك على رأسه عشرين سوطاً إلا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته؛ فأيّهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برّك وعظم حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقاً، وإليه حبيباً، فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد. فكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك مبتدئاً ومجيباً ومحادثاً وطالباً؛ ما عسى أن ينزل بك أهلك من أهل بيت أمير المؤمنين، من حوائجهم التي تعقد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلة إمكان الخروج لإنزالها به؛ غير متحشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه، على قدر قرابتهم وأديانهم وأنسابهم، مستمنحاً ومسترفداً، وطالباً مستزيداً تجد أمير المؤمنين إليك سريعاً بالبرّ لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حقّ قرابته، وعليه يتوكل، وبه بثق. والله وليّه ومولاه. والسلام.
وقيل: إنّ خالداً كان كثيراً ما يذكرهشاماً، فيقول: ابن الحمقاء. وكانت أم هشام تستحمق، وقد ذكرنا خبرها قبل.
وذكرنا أنه كتب إلى هشام كاتباً غاظه، فكتب إليه هشام: يابن أمّ خالد؛ قد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف؛ فيابن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفاً، وأنت من بجلية القليلة الذليلة! أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش؛ يشد يديك إلى عنقك.
وذكر أن هشاماً كتب إليه: قد بلغني قولك: أنا خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز؛ ما أنا بأشرف الخمسة. أما والله لأردّنك إلى بغلتك وطيلسانك الفيروزيّ.
وذكر أن هشاماً بلغه أنه يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين! فظهر الغضب في وجهه.
وقيل: إن هشاماً قدم عليه رجل من أهل الشأم، فقال: إني سمعت خالداً ذكر أمير المؤمنين بما لا نتطلق به الشفتان؛ قال: قال: الأحول؟ قال: لا، بل قال أشدّ من ذلك، قال: فما هو؟ قال: لا أقوله أبداً، فلم يزل يبلغه عنه ما يكره حتى تغير له.
وذكر أن دهقاناً دخل على خالد، فقال: أيّها الأمير، إن غلة ابنك قد زادت على عشرة آلاف ألف؛ ولا آمن أن بيلغ هذا أمير المؤمنين فيستكثره. وإن الناس يحبون جسدك، وأنا أحب جسدك وروحك؛ قال: إن أسد بن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، فأنت أمرته؟ قال: نعم، قال: ويحك! دع ابني، فلربما طلب الدرهم فلم يقدر عليه.
ثم عزل هشام - لما كثر عليه ما يتصل به عن خالد من الأمور التي كان يكرهها - على عزله؛ فلما عزم على ذلك أخفى ما قد عزم له عليه من أمره.
ذكر الخبر عن عمل هشام في عزل خالدحين صحّ عزمه على عزله
ذكر عمر أن عبيد بن جنّاد حدثّه أنه سمع أباه وبعض الكتبة يذكر أن هشاماً أخفى عزل خالد، وكتب إلى يوسف بخطّه - وهو على اليمن - أن يقبل في ثلاثين من أصحابه. فخرج يوسف حتى صار إلى الكوفة، فعرّس قريباً منها، وقد ختن طارق - خليفة خالد على الخراج - ولده؛ فأهدى له ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة؛ سوى الأموال والثياب وغير ذلك؛ فمرّ العاس بيوسف وأصحابه، ويوسف يصلي ورائحة الطيب تنفح من ثيابه، فقال: ماأنتم؟ قالوا: سفار؛ قال فأين تريدون؟ قالوا بعض المواضع، فأتوا طارق وأصحابه، فقالوا: إنا رأينا قوماً أنكرناهم، والرأي أن نقتلهمم، فإن كانوا خوارج استرحنا منهم؛ وإن كانوا يريدونكم عرفتم ذلك فاستعددتم على أمرهم. فنهوهم عن قتلهم؛ فطافوا؛ فلما كان في السَّحر وقد انتقل يوسف وصار إلى دور ثقيف، فمرّ بهم العاسّ، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: سفّار قال فأين تريدون؟ قالوا بعض المواضع، فأتوا طارقاً وأصحابه، فقالوا: قد صاروا إلى دور ثقيف والرأي أن نقتلهم، فمنعوهم وأمر يوسف بعض الثقفييّن، فقال: اجمع لي من بها من مضر ففعل، فدخل المسجدمع الفجر، فأمر المؤذّن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الإمام؛ فانتهره فأقام، وتقدّم يوسف فقرأ: " إذا وقعت الواقعة " ، و " سأل سائل " ، ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما، فأخذوا وإنّ القدور لتغلي.
قال عمر: قال عليّ بن محمد، قال: قال الربيع بن سابور مولى بني الحريش - وكان هشام جعل إليه الخاتم مع الحرس: أتى هشاماً كتاب خالد فغاظه، وقدم عليه في ذلك اليوم جندب مولى يوسف بن عمر بكتاب يوسف، فقرأه ثم قال لسالم مولى عنبسة بن عبد الملك: أجبه عن لسانك، وكتب هو بخطّه كتاباً صغيراً، ثم قال لي: ائتني بكتاب سالم - وكان سالم على الديوان - فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغّير، ثم قال لي: اختمه ففعلت، ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعدٍّ طوره، ويسأل فوق قدره؛ ثم قال لي مزق ثيابه. ثم أمر به فضرب أسواطاً، فقال: أخرجه عني وادفع إليه كتابه. فدفعت إليه الكتاب، وقلت له: ويلك! النجاء! فارتاب بشير بن أبي ثلجة من أهل الأردنّ، وكان خليفة سالم وقال: هذه حيلة؛ وقد ولّى يوسف العراق؛ فكتب إلى عامل لسالم على أجمة سالم، يقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوّب اليمانيّ؛ فإذا أتاك فالبسه واحمد الله، وأعلم ذلك طارقاً. فبعث عياض إلى طارق بن أبي زياد بالكتاب، وندم بشير على كتابه، وكتب إلى عياض: إن أهلك قد بادا لهم في إمساك الثوب فلا تتكل عليه؛ فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول؛ ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الخبر فكتب بهذا. وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط؛ فسار يوماً وليلة، فصبحهم، فرآه داود البربري - وكان على حاجة خالد وحرسه وعلى ديوان الرسائل - فأعلم خالداً، فغضب، وقال: قدم بغغير إذن؛ فأذن له، فلمّا رآه قال: ما أقدمك؟ قال: أمرٌ كنت أخطأت فيه؛ قال: وما هو؟ قال: وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزّيه عنه، وإنما كان ينبغي لي أن آتيه ماشياً. فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك، قال: أردت أن أذكر للأميرأمراً أسرُّه، قال: ما دون داود سرّ قال: أمر من أمري، فغضب داود وخرج، وأخبر طارق خالداً، قال: فما الرأي؟ قال تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك. قال: فبئس الرجل أنا إذاً إن ركبت إليه بغير إذنه، قال: فشيء آخر، قال: وما هو؟ قال: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشأم، فأستأذنه لك؛ فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه، قال: ولا هذا، قال: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهدك مستقبلا، قال: وما يبلغ ذاك؟ قال: مائة ألف ألف، قال: ومن أين آخذ هذا! والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قال:أتحمل أنا وسعيد بن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزينيّ وأبان بن الوليدعشرين ألف ألف؛ وتفّرق الباقي على العمال، قال: إني إذاً للئيم، أن كنت سوغت قوماً شيئاً ثم أرجع فيه، فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال؛ وهي عند تجار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربصون بنا فنقتل، ويأكلون تلك الأموال. فأبى خالد فودعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا؛ ومضى.
ودخل داود، فأخبه خالد بقول طارق، فقال: قد علم أنك لا تخرج بغير إذن؛ فأراد أن يختلك ويأتي الشأم، فيتقبل بالعراق هو وابن أخيه سعيد بن راشد. فرجع طارق إلى الكوفة، وخرج خالد إلى الحمة.
قال: وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال له: ما وراءك؟ قال:الشرّ، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان. ففضّ الكتاب فقرأه، فلما اتنهى إلىآخره قرأ كتاب هشام بخطه: أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بذاك أحد؛ وخذ ابن النصرانيّة وعمّاله فافشنى منهم؛ فقال يوسف: انظروا دليلاً عالماً بالطريق، فأتى بعدةّ، فاختار منهم رجلاً وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصّلت فشيَّعه؛ فلما أراد أن ينصرف سأله: أين تريد؟ فضربه مائة سوط، وقال: يابن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقرّ بي منزل، فسار، فكان إذا أتى إلى طريقين سأل، فإذا قيل: هذا إلى العراق، قال: أعرق، حتى أتي الكوفة.
قال عمر: قال عليّ عن بشر بن عيسى، عن أبيه، قال: قال حسان النبطيّ: هيأت لهشام طيباً، فإني لبين يديه وهو ينظر إلى ذلك الطِّيب إذ قال لي: يا حسان، في كم يقدم القادم من العراق إلى اليمن؟ قال: قلت: لا أدري، فقال:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً
قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء كتاب يوسف من العراق قد قدمها؛ وذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة.
قال عمر: قال عليّ: قال سالم زنبيل: لما صرنا إلى النجَّف قال لي يوسف: انطلق فأتني بطارق؛ فلم أستطيع أن آبى عليه، وقلت في نفسي: من لي بطارق في سلطانه! ثم أتيت الكوفة، فقلت لغلمان طارق: استأذنوا لي على طارق، فضربوني فصحت له: ويلك يا طارق! أنا سالم رسول يوسف، وقد قدم على العراق. فخرج فصاح بالغلمان، وقال: أنا آتيه.
قال: وروى أن يوسف قال لكيسان: انطلق فأتني بطارق؛ فإن كان قد أقبل فاحمله على إكاف، وإن لم يكن أقبل فأت به سحباً. قال: فأتيته بالحيرة دار عبد المسيح - وهو سيد أهل الحيرة - فقلت له: إن يوسف قد قدم على العراق؛ وهو يأمرك أن تشد طارقاً وتأتيه به؛ فخرج هو وولده غلمانه حتى أتوا منزل طارق - وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعاء لهم سلاح وعدة - فقال لطارق: إن أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم، ثم طرت على وجهك. فذهب حيث شئت. قال: فأذن لكسان، فقال أخبرني عن الأمير، يريد المال؟ قال: نعم قال: فأنا أعطيه ما سأل؛ وأقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضرباً مبرحاً - يقال خمسمائة سوط - ودخل الكوفة، وأرسل عطاء بن مقدّم إلى خالد بالحمّة.
قال عطاء: فأتيت الحاجب فقلت: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل وهو متغير الوجه فقال له خالد: مالك؟ قال: خير قال: ما عندك خير، قال: عطاء بن مقدّم، استأذن لي على أبي الهيثم، فقال: ائذن له فدخلت: فقال: ويل أمها سخطة؟ قال: فلم أستقرّ حتى دخل الحكم بن الصلت، فقعد معه، فقال له خالد: ما كان ليلى على أحد هو أحب إليّ منكم.
وخطب يوسف بالكوفة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني بأخذ عمال ابن النصرانّية وأن أشفيه منهم وسأفعل وأزيد والله يا أهل العراق؛ ولأقتلن منافقيكم بالسيف وجناتكم بالعذاب وفسّاقكم. ثم نزل ومضى إلى واسط وأتى بخالد وهو بواسط.
قال عمر: حدثني الحكم بن النضّر: قال سمعت أبا عبيدة يقول: لما حبس يوسف خالداً صالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم قال: ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء. وأخبر أصحاب خالد خالداً، فقال: قد أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم، فارجعوا. فجاءوا فقالوا: إنا أخبرنا خالداً فلم يرض بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه، فقال: أنتم أعلموصاحبكم؛ فأما أنا فلا أرجع عليكم؛ فإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: قإنا قد رجعنا، قال: وقد فعلتم؟ قالوا: نعم، قال: فمنكم أتى النقض؛ فوالله لا أرضى بتسعة آلاف ألف ولامثليها ولا مثلها، فأخذ أكثر من ذلك. وقد قيل: إنه أخذ مائة ألف ألف.
وذكر الهيثم بن عديّ، عن ابن عياش، أن هشاماً أزمع على عزل خالد، وكان سبس ذلك أنه اعتقد بالعراق أموالاً وحفر أنهاراً؛ حتى بلغت غلته عشرين ألف ألف؛ منها نهر خالد، وكان يغلّ خمسة آلاف ألف وباجوّى وبارمان والمبارك والجامع وكورة سابور والصّلح، وكان كثيراً ما يقول: إنني والله مظلوم؛ ما تحت قدميّ من شيء إلا وهو لي - يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد.
قال الهيثم بن عديّ: أخبرني الحسن بن عمارة، عن العريان بن الهيثم، قال: كنت كثيراً ما أقول لأصحابي: إنّي أحسب هذا الرجل قد تخلّى منه؛ إن قريشاً لا تحتمل هذا ونحوه؛ وهم أهل حسد، وهذا يظهر ما يظهر، فقلت له يوماً: أيها الأمير؛ إنّ الناس قد رموك بأبصارهم، وهي قريش وليس بينك وبينها إلّ، وهم يجدون منك بداً؛ وأنت لا تجد منهم بداً؛ فأنشدك الله إلا ما كتبت إلى هشام تخبره عن أموالك، وتعرض عليه منها ما أحبّ؛ فما أقدرك على أن تتخذ مثلها؛ وهو لا يستفسدك؛ وإن كان حريصاً على ذلك فلعمري لأن يذهب بعض ويبقى بعض خير من أن تذهب كلها؛ وما كان يستحسن فيما بينك وبينه أن يأخذها كلها، ولا آمن أن يأتيه باغ أو حاسد فيقبل منه؛ فلأن تعطيه طائعاً خير من أن تعطيه كارهاً. فقال: ما أنت بمتهم؛ ولا يكون ذلك أبداً. قال: فقلت أطعني واجعلني رسولك، فوالله لا يحلّ عقدة إلا شددتها، ولا يشدّ عقدة إلا حللتها. قال: إنّا والله لا نعطي على الذلّ، قال: قلتُ: هل كانت لك هذه الضياع إلا في سلطانه؟ وهل تستطيع الامتناع منه إن أخذها؟؟! قال: لا، قلت: فبادره، فإنه يحفظها لك ويشكرك عليها؛ ولو لم تكن له عندك يد إلاّ ما ابتدأك به كنت جديراً أن تحفظه، قال: لا والله لا يكون ذلك أبداً، قال: قلت فما كنت صانعاً إذا عزلك وأخذ ضياعك فاصنعه، فإنّ إخوته وولده وأهل بيته قد سبقوا لك، وأكثروا عليه فيك، ولك صنائع تعود عليهم بما بدا لك، ثم استدرك استتمام ما كان منك إلى صنائعك من هشام. قال: قد أبصرت ما تقول وليس إلى ذلك سبيل. وكان العريان يقول: كأنكم به قد عزل، وأخذ ما له وتجنى عليه ثم لا ينتفع بشيء. قال: فكان كذلك.
قال الهيثم: وحدّثني ابن عيّاش، أنّ بلال بن أبي بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتّب هشام عليه: إنّه حدث أمر لا أجد بداً من مشافهتك فيه؛ فإن رأيت أن تأذن لي؛ فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفاً. فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت. فركب هو وموليان له الجمّازات؛ فسار يوماً وليلة، ثم صلى المغرب بالكوفة؛ وهي ثمانون فرسخاً، فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصّب، فقال: أبا عمرو، أتعبت نفسك، قال: أجل، قال: متى عهدك بالبصرة؟ قال: أمس، قال: أحق ما تقول! قال: هو والله ما قلت، قال: فما أنصبك؟ قال: ما بلغني من تعتّب أمير المؤمنين وقوله، وما بغاك به ولده وأهل بيته؛ فإن رأيت أن أتعرّض له وأعرض عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحبّ وأنفسنا به طيّبة، ثم أعرض عليه مالك، فما أخذ منه فعلينا العوض منه بعد. قال: ما أتّهمك وحتى أنظر؛ قال: إني أخاف أن تعاجل، قال: كلا، قال: إن قريشاً من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك قال: يا بلال؛ إني والله ما أعطي شيئاً قسراً أبداً. قال أيها الأمير، أتكلم؟ قال: نعم، قال: إن هشاماً أعذر منك، يقول: استعملتك. وليس لك شيء، فلم تر من الحق عليك أن تعرض عليّ بعض ما صار إليك؛ وأخاف أن يزيّن له حسان النّبطيّ ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة. قال: أنا ناظر في ذلك فانصرف راشداً. فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بهذا الرجل قد بعث إليه رجل بعيد أتيّ، به حمز، بغيض النفس سخيف الدين، قليل الحياء، يأخذه بالإحن والترات. فكان كما قال.
قال ابن عياش: وكان بلال قد اتخذ داراً بالكوفة، وإنما استأذن خالداً لينظر إلى داره، فما نزلها إلاّ مقيّداً، ثم جعلت سجناً إلى اليوم.
قال ابن عيّاش: كان خالد يخطب فيقول: إنكم زعمتم أنّي أغلي أسعاركم؛ فعلى من يغليها لعنة الله! وكان هشام كتب إلى خالد لا تبيعنّ من الغلاّت شيئاً حتى تباع غلاّت أمير المؤمنين حتى بلغت كيلجة درهماً.
قال الهيثم، عن ابن عياش: كانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة ثم عزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة.
وفي هذه السنة قدم يوسف بن عمر العراق والياً عليها، وقد ذكرت قبل سبب ولايته عليها.
وفي هذه السنة ولّى خراسان يوسف بن عمر جديع بن عليّ الكرمانيّ وعزل جعفر بن حنظلة.
وقيل: إنّ يوسف لما قدم العراق أراد أن يولّي خراسان سلم بن قتيبة، فكتب بذلك إلى هشام، ويستأذنه فيه، فكتب إليه هشام: إنّ سلم بن قتيبة رجل ليس له بخراسان عشيرة؛ ولو كان له بها عشيرة لم يقتل بها أبوه.
وقيل إن يوسف كتب إلى الكرمانيّ بولاية خراسان مع رجل من بني سليم وهو بمرو؛ فخرج إلى الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسداً وقدومه خراسان، وما كانوا فيه من الجهد والفتنة، وما صنع لهم على يديه. ثم ذكر أخاه خالداً بالجميل، وأثنى عليه؛ وذكر قدوم يوسف العراق، وحثّ الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قال: غفر الله للميت - يعني أسداً - وعافى الله المعزول، وبارك للقادم. ثم نزل.
وفي هذه السنة عزل الكرمانيّ عن خراسان، ووليها نصر بن سيار بن ليث بن رافع بن ربيعة بن جريّ بن عوف بن عامر بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وأمّه زينب بنت حسان من بني تغلب.
ذكر الخبر عن سبب ولاية نصر بن سيّار خراسان
ذكر عليّ بن محمد عن شيوخه أن وفاة أسد بن عبد الله لما انتهت إلى هشام بن عبد الملك استشار أصحابه في رجل يصلح لخراسان؛ فأشاروا عليه بأقوام، وكتبوا له أسماءهم؛ فكان ممن كتب له عثمان بن عبد الله بن الشخير ويحيى بن حضين بن المنذر الرقاشيّ ونصر بن سيار الليثيّ وقطن بن قتيبة بن مسلم والمجشّر بن مزاحم السلميّ أحد بني حرام؛ فأما عثمان بن عبد الله ابن الشخير، فقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له: المجشّر شيخ هم، وقيل له: ابن حضين رجل فيه تيه وعظمة، وقيل له: قطن بن قتيبة موتور؛ فاختار نصر بن سيّار؛ فقيل له: ليست له بها عشيرة، فقال هشام: أنا عشيرته. فولاّه وبعث بعهده مع عبد الكريم بن سليط بن عقبة الهفانيّ؛ هفان بن عديّ بن حنيفة. فأقبل عبد الكريم بعهده، ومعه أبو المهند كاتبه مولى بنى حنيفة، فلما قدم سرخس ولا يعلم به أحد، وعلى سرخس حفص بن عمر بن عباد التيميّ أخو تميم بن عمر، فأخبره أبو المهند، فوجه حفص رسولاً، فحمله إلى نصر، ونفذ ابن سليط إلى مرو، فأخبر أبو المهند الكرمانيّ، فوجّه الكرمانيّ نصر بن حبيب بن بحر بن ماسك بن عمر الكرمانيّ إلى نصر بن سيار، فسبق رسول حفص إلى نصر بن سيار؛ فكان أوّل من سلم عليه بالإمرة، فقال له نصر: لعلك شاعر مكار! فدفع إليه الكتاب. وكان جعفر بن حنظلة ولّى عمرو بن مسلم مرو، وعزل الكرماني وولّى منصور بن عمر أبرشهر، وولّى نصر بن سيار بخاري، فقال جعفر ابن حنظلة: دعوت نصراً قبل أن يأتيه عهده بأيام؛ فعرضت عليه أن أولّية بخارى، فشاور البختريّ بن مجاهد، فقال له البختريّ، وهو مولى بني شيبان: لا تقبلها، قال: ولمَ؟ قال: لأنك شيخ مضر بخراسان؛ فكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها؛ فلما أتاه عهده بعث إلى البختري فقال البختري لأصحابه: قد ولى نصر بن سيار خراسان؛ فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: أنّى علمت؟ قال: لما بعثت إليّ، وكنت قبل ذلك تأتيني، علمت أنك قد وليت.
قال: وقد قيل إنّ هشاماً قال لعبد الكريم حين أتاه خبر أسد بن عبد الله بموته. من ترى أن نولّي خراسان، فقد بلغني أنّ لك بها وبأهلها علماً؟ قال عبد الكريم: قلت: يا أمير المؤمنين؛ أما رجل خراسان حزماً ونجدة فالكرمانيّ؛ فأعرض بوجهه، وقال: ما اسمه؟ قلت: جديع بن عليّ، قال: لا حاجة لي فيه؛ وتطيّر، وقال: سم لي غيره، قلت: اللسن المجرّب يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ أبو الميلاء، قال: ربيعة لا تسد بها الثغور - قال عبد الكريم: فقلت في نفسي: كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر - فقلت: عقيل بن معقل الليثيّ، إن اغتفرت هنةً، قال: ما هي؟ قلت: ليس بالعفيف، قال: لا حاجة لي به، قلت: منصور بن أبي الخرقاء السلميّ، إن اغتفرت نكره فإنه مشئوم، قال: غيره، قلت: المحشّر بن مزاحم السلميّ، عاقل شجاع، له رأي مع كذب فيه، قال: لا خير في الكذب، قلت: يحيى بن حضين، قال: ألم أخبرك أنّ ربيعة لا تسدّ بها الثغور! قال: فكان إذا ذكرت له ربيعة، واليمن أعرض. قال عبد الكريم: وأخرّت نصراً وهو أرجل القوم وأ؛زمهم وأعلمهم بالسياسة، فقلت: نصر بن سيار الليثيّ، قال: هو لها، قلت: إن اغتفرت واحدة؛ فإنه عفيف مجرّب عاقل، قال: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قليلة، قال: لا أبا لك، أتريد عشيرة أكثر مني! أنا عشيرته.
وقال آخرون: لما قدم يوسف بن عمر العراق قال: أشيروا عليّ برجل أولّه خراسان، فأشاروا عليه بمسلمة بن سليمان بن عبد الله ابن خازم وقديد بن منيع المنقريّ ونصر بن سيّار وعمرو بن مسلم ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم ومنصور بن أبي الخرقاء وسلم بن قتيبة ويونس بن عبد ربّه وزياد بن عبد الرحمن القشيريّ؛ فكتب يوسف بأسمائهم إلى هشام، وأطرى القيسية، وجعل آخر من كتب اسمه نصر بن سيار الكنانيّ، فقال هشام: ما بال الكنانيّ آخرهم! وكان في كتاب يوسف إليه: يا أمير المؤمنين، نصر بخراسان قليل العشيرة. فكتب إليه هشام: قد فهمت كتابك وإطراءك القيسيّة. وذكرت نصراً وقلة عشيرته، فكيف يقلّ من أنا عشيرته! ولكنك تقيّست عليّ، وأنا متخندف عليك؛ ابعث بعهد نصر؛ فلم يقلّ من عشيرته أمير المؤمنين؛ بله ما إن تميماً أكثر أهل خراسان. فكتب إلى نصر أن يكاتب يوسف بن عمر، وبعث يوسف سلماً وافداً إلى هشام؛ وأثنى عليه فلم يوله، ثم أوفد شريك بن عبد ربه النميريّ، وأثنى عليه ليولّيه خراسان، فأبى هشام.
قال: وأوفد نصر من خراسان الحكم بن يزيد بن عمير الأسديّ إلى هشام، وأثنى عليه نصر، فضربه يوسف ومنعه من الخروج إلى خراسان؛ فلما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة استعمل الحكم بن يزيد على كرمان، وبعث بعهد نصر مع عبد الكريم الحنفيّ - ومعه كاتبه أبو المهند مولى بني حنيفة - فلما أتى سرخس وقع الثلج، فأقام ونزل على حفص بن عمر بن عباد التيميّ، فقال له: قدمت بعهد نصر على خراسان؛ قال: وهو عامل يومئذ على سرخس - فدعا حفص غلامه، فحمله على فرس وأعطاه مالاً، وقال له: طر واقتل الفرس؛ فإن قام عليك فاشتر غيره حتى تأتي نصراً. قال: فخرج الغلام حتى قدم على نصر ببلخ، فيجده في السوق، فدفع إليه الكتاب، فقال: أتدري ما في هذا الكتاب؟ قال: لا، فأمسكه بيده، وأتى منزله، فقال الناس: أتى نصراً عهده على خراسان، فأتاه قوم من خاصته، فسألوه فقال: ما جاءني شيء، فمكث يومه، فدخل عليه من الغد أبو حفص بن عليّ، أحد بني حنظلة - وهو صهره؛ وكانت ابنته تحت نصر، وكان أهوج كثير المال؛ فقال له: إنّ الناس قد خاصوا وأكثروا في ولايتك؛ وأقرأه الكتاب، فقال: ما كان حفص ليكتب إليك إلا بحق، قال: فبينا هو يكلمه إذ استأذن عليه عبد الكريم، فدفع غليه عهده، فوصله بعشرة آلاف درهم. ثم استعمل نصر على بلخ مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل وشاح ابن بكير بن وشاح على مرو الروذ، والحارث بن عبد الله بن الحشرج لعى هراة، وزياد بن عبد الرحمن القشيري على أبرشهر، وأبا حفص بن عليّ ختنه على خوارزم، وقطن بن قتيبة على السغد. فقال رجل من أهل الشأم من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه! قال: بلى، التي كانت قبل هذه. فلم يستعمل أربع سنين إلا مضرياً، وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبل ذلك مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية. فقال سوار بن الأشعر:
أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار
لما أتى يوسفاً أخبار ما لقيت ... اختار نصراً لها؛ نصر بن سيار
وقال نصر بن سيار فمن كره ولايته:
تعز عن الصبابة لا تلام ... كذلك لا يلم بك احتمام
أأن سخطت كبيرة بعد قرب ... كلفت بها واشرك السقام!
ترجّى اليوم ما وعدت حديثاً ... وقد كذبت مواعدها الكرام
ألم تر أن ما صنع الغواني ... عسير لا يريع به الكلام
أبت لي طاعتي وأبى بلائي ... وفوزي حين يعترك الخصام
وإنا لا نضيع لنا ملماً ... ولا حسباً إذا ضاع الذمام
ولا نغضي على غدر وإنا ... نقيم على الوفاء فلا نلام
خليفتنا الذي فازت يداه ... بقدح الحمد والملك الهمام
نسوسهم به ولنا عليهم ... إذا قلنا مكارمه جسام
أبو العاصي أبوه وعبد شمس ... وحرب والقماقمة الكرام
ومروان أبو الخلفاء عال ... عليه المجد فهو لهم نظام
وبيت خليفة الرحمن فينا ... وبيتاه المقدس والحرام
ونحن الأكرمون إذا نسبنا ... وعرنين البرية والسنام
فأمسينا لنا من كل حي ... خراطيم البرية والزمام
لنا أيد نريش بها ونبري ... وأيد في بوادرها السمام
وبأس في الكريهة حين نلقى ... إذا كان النذير بها الحسام
قال: وأتى نصراً عهده في رجب من سنة عشرين ومائة، وقال له البختريّ: اقرأ عهدك واخطب الناس؛ فخطب الناس فقال في خطبته: استمسكوا أصحابنا بجدتكم، فقد عرفنا خيركم وشركم.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل، كذلك حدّثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وقد قيل: إن الذي حجّ بهم فيها سليمان بن هشام.
وقيل: حج بهم يزيد بن هشام.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق كله يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار - وقيل جعفر بن حنظلة - وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلميّ من قبل يوسف بن عمر، وعلى قضائها عامر بن عبيدة الباهليّ، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائةذكر الخبر عمّا كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة مسلمة بن هشام بن عبد الملك الرّوم، فافتتح بها مطامير. وغزوة مروان بن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، فافتتح قلاعه وخرّب أرضه، وأذعن له بالجزية، في كلّ سنة ألف رأس يؤدّيه إليه، وأخذ منه بذلك الرّهن، وملّكه مروان على أرضه.
وفيها ولد العباس بن محمد.
ذكر الخبر عن ظهور زيد بن عليّ
وفيها قتل زيد بن عليّ بن حسين بن عليّ بن أبي طالب في قول الواقديّ في صفر؛ وأما هشام بن محمد فإنه زعم أنه قتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، في صفر منها.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وأموره وسبب مخرجه: اختلف في سبب خروجه؛ فأما الهيثم بن عديّ فإنه قال - فيما ذكر عنه، عن عبد الله بن عياش - قال: قدم زيد بن عليّ ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب وداود بن عليّ بن عبد الله بن عباس على خالد بن عبد الله وهو على العراق، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة؛ فلما ولّى ابن يوسف بن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالداً ابتاع من زيد بن عليّ أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرّحهم إليه ففعل، فسألهم هشام فأقرّوا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيداً عن الأرض فأنكرها، وحلفوا لهشام فصدّقهم.
وأما هشام بن محمد الكلبيّ، فإنه ذكر أن أبا مخنف حدّثه أن أوّل أمر زيد بن عليّ كان أنّ يزيد بن خالد القسريّ ادّعى مالاً قبل زيد بن عليّ ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب وداود بن عليّ بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، فكتب فيهم يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك - وزيد بن عليّ يومئذ بالرصافة يخاصم بني الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن عمر بن عليّ يومئذ مع زيد بن عليّ - فلما قدمت كتب يوسف ابن عمر على هشام بن عبد الملك بعث إليهم فذكر لهم ما كتب به يوسف ابن عمر إليه مما ادّعى قبلهم يزيد بن خالد، فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم إليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بن عليّ: أنشدك الله والرّحم أن تبعث بي إلى يوسف بن عمر! قال: وما الذي تخاف من يوسف بن عمر؟ قال: أخاف أن يعتدى عليّ، قال له هشام: ليس ذلك له، ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بن عمر: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين يزيد بن خالد القسريّ، فإن هم أقروا بما ادّعى عليهم فسرح بهم إليّ، وإن هم أنكروا فسله بيّنة، فإن هو لم يقم البيّنة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو؛ ما استودعهم يزيد بن خالد القسريّ وديعة، ولا له قبلهم، شيء! ثم خلّ سبيلهم.
فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدّى كتابك، ويطول علينا، قال: كلا، أنا باعث معكم رجلاً من الحرس يأخذه بذلك؛ حتى يعجّل الفراغ، فقالوا: جزاك الله والرحم خيراً؛ لقد حكمت بالعدل. فسرح بهم إلى سوسف، واحتبس أيوب بن سلمة؛ لأن أمّ هشام بن عبد الملك ابنة هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ. وهو في أخواله، فلم يؤخذ بشيءٍ من ذلك القرف.
فلما قدموا على يوسف، أدخلوا عليه، فأجلس زيد بن عليّ قريباً منه، وألطفه في المسأة، ثم سألهم عن المال، فأنكروا جميعاً، وقالوا: لم يستودعنا مالاً، ولا له قبلنا حق، فأخرج يوسف يزيد بن خالد إليهم، فجمع بينه وبينهم، وقال له: هذا زيد بن عليّ، وهذا محمد بن عمر بن عليّ وهذا فلان وفلان الذين كنت ادّعيت عليهم ما ادّعيت، فقال: مالي قبلهم قليل ولا كثير، فقال يوسف: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين! فعذّبه يومئذ عذاباً ظنّ أنه قد قتله، ثم أخرجهم إلى المسجد بعد صلاة العصر، فاستحلفهم فحلفوا له، وأمر بالقوم فبسط عليهم؛ ما عدا زيد بن عليّ فإنه كف عنه فلم يقتدر عند القوم على شيء. فكتب إلى هشام يعلمه اعلحال. فكتب إليه هشام: أن استحلفهم، وخلّ سبيلهم. فخلّى عنهم فخرجوا فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بن عليّ بالكوفة.
وذكر عبيد بن جنّاد، عن عطاء بن مسلم الخفّاف أنّ زيد بن عليّ رأى في منامه أنه أضرم في العراق ناراً، ثم أطفأها ثم مات. فهالته، فقال لابنه يحيى: يا بنيّ، إني رأيت رؤيا قد راعتني، فقصّها عليه. وجاءه كتاب هشام بن عبد الملك بأمره بالقدوم عليه، فقدم، فقال له: الحق بأميرك يوسف، فقال له: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين، فوالله ما آمن إن بعثتني إليه ألاّ أجتمع أنا وأنت حيّين على ظهر الأرض بعدها، فقال: الحق بيوسف كما تؤمر؛ فقدم عليه.
وقد قيل: إن هشام بن عبد الملك إنما استقدم زيداً من المدينة عن كتاب يوسف بن عمر؛ وكان السبب في ذلك - فيما زعم أبو عبيدة - أن يوسف بن عمر عذّب خالد بن عبد الله، فادّعى خالد أنه استودع زيد بن عليّ وداود بن عليّ ابن عبد الله بن عباس ورجلين من قريش: أحدهما مخزومي والآخر جمحي مالاً عظيماً، فكتب بذلك يوسف إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله إبراهيم بن هشام - وهو عامله على المدينة - يأمره بحملهم إليه. فدعا إبراهيم بن هشام زيداً وداود، فسألهما عما ذكر خالد، فحلفا ما أودعهما خالد شيئاً، فقال: إنكما عندي لصادقان؛ ولكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان، فلا بدّ من إنفاذه. فحملهما إلى الشأم، فحلفا بالأيمان الغلاظ ما أودعهما خالد شيئاً قط. وقال داود: كنت قدمت عليه العراق، فأمر لي بمائة ألف درهم، فقال هشام: أنتما عندي أصدق من ابن النصرانية، فاقدما على يوسف، حتى يجمع بينكما وبينه فتكذّباه في وجهه.
وقيل: إن زيداً إنما قدم على هشام مخاصماً ابن عمّه عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ، ذكر ذلك عن جويرية بن أسماء، قال: شهدت زيد بن عليّ وجعفر بن حسن بن حسن يختصمان في ولاية وقوف عليّ، وكان زيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن؛ فكان جعفر وزيد يتبالغان بين يدي الوالي إلى كلّ غاية، ثم يقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفاً. فلما مات جعفر قال عبد الله: من يكفينا زيداً؟ قال حسن بن حسن بن حسن: أنا أكفيكه، قال: كلا، إنا نخاف لسانك ويدك؛ ولكنى أنا، قال: إذن لا تبلغ حاجتك وحجتك، قال: أما حجتي فسأبلغها؛ فتنازعا إلى الوالي - والوالي يومئذ عندهم فيما قيل إبراهيم بن هشام - قال: فقال عبد الله لزيد: أتطمع أن تنالها وأنت لأمة سندية! قال: قد كان إسماعيل لأمة؛ فنال أكثر منها؛ فسكت عبد الله، وتبالغا يومئذ كل غاية؛ فلما كان الغد أحضرهم الوالي، وأحضر قريشاً والأنصار، فتنازعا، فاعترض رجل من الأنصار، فدخل بينهما، فقال له زيد: وما أنت والدخول بيننا، وأنت رجل من قحطان! قال: أنا والله خير منك نفساً وأباً وأماً. قال: فسكت زيد، وانبرى له رجل من قريش فقال: كذبت، لعمر الله لهو خير منك نفساً وأباً وأماً وأولاً وآخراً، وفوق الأرض وتحتها، فقال الوالي: وما أنت وهذا! فأخذ القرشيّ كفاً من الحصى، فضرب به الأرض وقال: والله ما على هذا من صبر، وفطن عبد الله وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله ليتكلم فطلب إليه زيد فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعانا على مثله؛ وإني أشده الله ألاّ أنازعه إليك محقاً ولا مبطلاً ما كنت حياً. ثم قال لعبد الله: انهض يا بن عمّ؛ فنهضا وتفرّق الناس.
وقال بعضهم: لم يزل زيد ينازع جعفر بن حسن ثم عبد الله بعده؛ حتى ولّى هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم المدينة، فتنازعا، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال: يا بن الهندكيّة! فتضاحك زيد، وقال: قد فعلتها يا أبا محمد! ثم ذكر أمّه بشيء.
وذكر المدائنيّ أن عبد الله لما قال ذلك لزيد قال زيد: أجل والله، لقد صبرت بعد وفاة سيّدها فما تعتّبت بابها إذ لم يصبر غيرها. قال: ثم ندم زيد واستحيا من عمته؛ فلم يدخل عليها زماناً، فأرسلت إليه: يا بن أخي، إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده.
وقيل: إن فاطمة أرسلتْ إلى زيد: إن سبّ عبد الله أمك فاسبب أمه؛ وأنها قالت لعبد الله: أقلت لأم زيد كذا وكذا؟ قال: نعم، قالت: فبئس والله ما صنعت! أما والله لنعم دخيلة القوم كانت!
فذكر أن خالد بن عبد الملك، قال لهما: اغدوا علينا غداً، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما. فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل: كذا وقائل كذا؛ قائل يقول قال زيد كذا، وقائل يقول: قال عبد الله كذا. فلما كان الغدُ جلس خالد في المجلس في المسجد، واجتمع الناس، فمن شامت ومن مهموم، فدعا بهما خالد، وهو يحبّ أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً؛ ثم أقبل على خالد فقال له: يا خالد؛ لقد جمعت ذرّية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر؛ قال خالد: أما لهذا السفيه أحد! فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن أبي تراب وابن حسين السفيه، ما ترى لوالٍ عليك حقاً ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطانيّ، فإنا لا نجيب مثلك، قال: ولم ترغب عني! فوالله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمّي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، أفذهبت الأحساب! فوالله إنه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: كذبت والله أيها القحطانيّ؛ فوالله لهو خير منك نفساً وأباً وأماً ومحتداً، وتناوله بكلام كثير؛ قال القحطانيّ: دعنا منك يا بن واقد؛ فأخذ ابن واقد كفاً من حصىً؛ فضرب بها الأرض، ثم قال له: والله ما لنا على هذا صبر، وقام. وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص؛ فكلّما رفع إليه قصّة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك؛ فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبداً، وما أسأل مالاً؛ إنما أنا رجل مخاصم؛ ثم أذن له يوماً بعد طول حبس.
فذكر عمر بن شبّة، عن أيوب بن عمر بن أبي عمرو، قال: حدّثني محمد بن عبد العزيز الزهريّ قال: لما قدم زيد بن عليّ على هشام بن عبد الملك أعلمه حاجبه بمكانه، فرقي هشام إلى علية له طويلة، ثم أذن له، وأمر خادماً أن يتبعه، وقال: لا يرينك، واسمعما يقول. قال: فأتعبته الدرجة - وكان بادناً - فوقف في بعضها، فقال: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذلّ، فلما صار إلى هشام قضى حوائجه، ثم مضى نحو الكوفة، ونسي هشام أن يسأل الخادم حتى مضى لذلك أيام، ثم سأله فأخبره، فالتفت إلى الأبرش. فقال: والله ليأتينّك خلعه أول شيء، وكان كما قال.
وذكر عن زيد أنه حلف لهشام على أمر؛ فقال له: لا أصدقك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله لم يرفع قدر أحد عن أن يرضى بالله، ولم يضع قدر أحد عن ألا يرضى بذلك منه، فقال له هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها، ولست هناك وأ،ت ابن أمة! فقال زيد: إن لك يا أمير المؤمنين جواباً، قال: تكلم، قال: ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبيّ ابتعثه؛ وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وولد خيرهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة مثلك؛ فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر؛ وما على أحد من ذلك جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت أمه أمة. فقال له هشام: اخرج، قال: أخرج ثم لا تراني إلاّ حيث تكره، فقال له سالم: يا أبا الحسين؛ لا يظهرنّ هذا منك.
رجع الحديث إلى حديث هشام بن محمد الكلبيّ عن أبي مخنف. قال: فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد بن عليّ، وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور. وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية. فأقام بالكوفة، فجعل يوسف بن عمر يسأل عنه، فقال: هو هاهنا، فيبعث إليه أن اشخص، فيقول: نعم؛ ويعتل له بالوجع. فمكث ما شاء الله، ثم سأل أيضاً عنه فقيل له: هو مقيم بالكوفة بعد لم يبرح، فبعث إليه، فاستحثه بالشخوص، فاعتل عليه بأشياء يبتاعها، وأخبره أنه في جهازه، ورأى جد يوسف في أمره فتهيأ ، ثم شخص حتى أتى القادسيّة. وقال بعض الناس: أرسل معه رسولاً حتى بلّغه العذيب، فلحقته الشيعة، فقالوا له: أين تذهب عنا ومعك مائة ألف رجل من أهل الكوفة، يضربون دونك بأسيافهم غداً وليس قبلك من أهل الشأم إلا عدّة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نحو مذحج أو همدان أو تميم أو بكر نصبت لهم لكفتكهم بإذن الله تعالى! فننشدك الله لما رجعت؛ فلم يزالوا به حتى ردّوه إلى الكوفة.
وأما غير أبي مخنف؛ فإنه قال ما ذكر عبيد بن جناد، عن عطاء بن مسلم، أن زيد بن عليّ لما قدم على يوسف، قال له يوسف: زعم خالد أنه قد أودعك مالاً، قال: أنّى يودعني مالاً وهو يشم آبائي على منبره! فأرسل إلى خالد، فأحضره في عباءة، فقال له: هذا زيد، زعمت أنك قد أودعته مالاً، وقد أنكر؛ فنظر خالد في وجههما، ثم قال: أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا! وكيف أودعه مالاً وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قال: فشتمه يوسف، ثم ردّه.
وأما أبو عبيدة، فذكر عنه، أنه قال: صدّق هشام زيداً ومن كان يوسف قرفه بما قرفه به، ووجههم إلى يوسف، وقال: إنهم قد حلفوا لي، وقبلت أيمانهم وأبرأتهم من المال، وإنما وجهت بهم إليك لتجمع بينهم وبين خالد فيكذبوه. قال: ووصلهم هشام؛ فلما قدموا على يوسف أنزلهم وأكرمهم، وبعث إلى خالد فأتى به، فقال: قد حلف القوم، وهذا كتاب أمير المؤمنين ببراءتهم، فهل عندك بيّنة بما ادعيت؟ فلم تكن له بينة، فقال القوم لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: غلّظ عليّ العذاب فادّعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم. فأطلقهم يوسف، فمضى القرشيان: الجمحي والمخزومي إلى المدينة؛ وتخلّف الهاشميّان: داود بن عليّ وزيد ابن عليّ بالكوفة.
وذكر أن زيداً أقام بالكوفة أربعة أشهر أو خمسة ويوسف يأمره بالخروج، ويكتب إلى عامله على الكوفة وهو يومئذ بالحيرة يأمره بإزعاج زيد، وزيد يذكر أنه ينازع بعض آل طلحة بن عبيد الله في مال بينه وبينهم بالمدينة، فيكتب العامل بذلك إلى يوسف، فيقرّه أيماً، ثم يبلغه أنّ الشيعة تختلف إليه؛ فيكتب إليه أن أخرجه ولا تؤخّره؛ وإن ادّعى أنه ينازع فليجر جراً، وليوكل من يقوم مقامه فيما يطالب به؛ وقد بايعه جماعة منهم سلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسيّ ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ وحجيّة بن الأجلح الكنديّ وناس من وجوه أهل الكوفة؛ فلما رأى ذلك داود ابن عليّ قال له: يا بن عمّ، لا يغرنّك هؤلاء من نفسك؛ ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم. فقال: يا داود، إنّ بني أمية قد عتوا وقست قلوبهم؛ فلم يزل به داود حتى عزم على الشخوص، فشخصا حتى بلغا القادسية.
وذكر عن أبي عبيدة، أنه قال: اتّبعوه إلى الثعلبيّة وقالوا له: نحن أربعون ألفاً، إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلّف معنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلّظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي. فيحلفون له، فيقول داود بن عليّ: يا بن عمّ، إن هؤلاء يغرّونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعزّ عليهم منك؛ جدّك عليّ بن أبي طالب حتى قتل! والحسن م بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه، وجرّحوه! أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين، وحلّفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه وأسلموه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه! فلا تفعل ولا ترجع معهم. فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، فقال: زيد لداود: إن علياً كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرانه بأهل الشأم، وإن الحسين قاتله يزيد بن معاوية والأمر عليهم مقبل؛ فقال له داود: إني لخائف إن رجعت معهم ألاّ يكون أحد أشد عليك منهم، وانت أعلم. ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
وقال عبيد بن جنّاد. عن عطاء بن مسلم الخفاف، قال: كتب هشام إلى يوسف أن أشخص زيداً إلى بلده، فإنه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلا أجابوه، فأشخصه، فلما كان بالثعلبية - أو القادسية - لحقه المشائيم - يعني أهل الكوفة - فردوه وبايعوه، فأتاه سلمة بن كهيل، فأستاذن عليه، فأذن له، فذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقه فأحسن. ثم تكلم زيد فأحسن، فقال له سلمة: اجعل لي الأمان، فقال: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي الأمان! وإنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه، ثم قال: لك الأمان، فقال: نشدتك بالله، كم بايعك؟ قال: أربعون ألفاً، قال: فكم بايع جدّك؟ قال: ثمانون ألفاً، قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلثمائة، قال: نشدتك الله أنت خير أم جدّك؟ قال: بل جدي، قال: أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك؟ قال: بل القرن الذي خرج فيهم جدّي، قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدّك! قال: قد بايعوني، ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم، قال: أفتأذن لي أن أخرج من البلد؟ قال: لمَ؟ قال: لا آمن أن يحدث في أمرك حدث فلا أملك نفسي، قال: قد أذنت لك، فخرج إلى اليمامة، وخرج زيد فقتل وصلب. فكتب هشام إلى يوسف يلومه على تركه سلمة ابن كهيل يخرج من الكوفة، ويقول: مقامه كان خيراً من كذا وكذا من الخيل تكون معك.
وذكر عمر عن أبي إسحاق - شيخ من أهل أصبهان حدّثه - أن عبد الله ابن حسن كتب إلى زيد بن عليّ: يا بن عمّ؛ إن أهلّ الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هوج في الرخاء، جزع في اللقاء؛ تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعدة في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوّة؛ ولقد تواترت إليّ كتبهم بدعوتهم، فصمّمت عن ندائهم؛ وألبست قلبي غشاءً عن ذكرهم؛ يأساً منهم واطراحاً لهم؛ وما لهم مثل إلا ما قال عليّ بن أبي طالب: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم.
وذكر عن هشام بن عبد الملك، أنه كتب إلى يوسف بن عمر في أمر زيد بن عليّ: أما بعد فقد علمت بحال أهل الكوفة في حبهم أهل هذا لابيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم؛ لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم، ووظفوا عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن؛ حتى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها إلى الخروج، وقد قدم زين بن عليّ على أمير المؤمنين في خصومة عمر بن الوليد، ففصل أمير المؤمنين بينهما، ورأى رجلاً جدلاً لسناً خليقاً بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه، وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلى به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوّة الحادّة لنيل الفّلج؛ فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخلّه والمقام قبلك؛ فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه، وحلاوة منطقه، مع ما يدلي به من القرابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدهم ميلاً إليه؛ غير متئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم؛ وبعض التحامل عليه فيه أذى له، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء والأمن للفرقة أحب إليّ من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم؛ والجماعة حبل الله المتين، ودين الله القويم وعروته الوثقى؛ فادع إليك أشارف أهل المصر، وأوعدهم العقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال؛ فإن من له عقد أو عهد منهم سيبطىء عنه، ولا يخفّ معه إلاّ الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة؛ استلذاذاً للفتنة؛ وأولئك ممن يستعبد إبليس؛ وهو يستعبدهم. فبادهم بالوعيد. وأعضضهم بسوطك، وجرّد فيهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السفلة. والعم أنك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاض على جماعة، ومشمر لدين الله؛ فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الذي تأوي غليه، وضغوك الذي تخرج منه الثقة بربك، والغضب لدينك، والمحاماة عن الجماعة، ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذي أمرهم الله بالدخول فيه، والتشاح عليه؛ فإن أمير المؤمنين قد أعذر إليه وقضى من ذمامه، فليس له منزىً إلى ادعاء حقّ هو له ظلمة من نصيب نفسه، أو فيء، أو صلة لذي قربى، إلا الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضل ؛ ولهم أمر، ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذب عنه، فإنه لا يحب أن يرى في أمته حالاً متفاوتاً نكالاً لهم مفنياً؛ فهو يستديم النظرة، ويتأتى للرشاد، ويجتنبهم على المخاوف، ويستجرّهم إلى المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد الشفيق على ولده، والرّاعي الحدب على رعيته.
واعلم أنّ من حجّتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم، وأعطية ذرّيتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم؛ فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله؛ فإنه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغى؛ وقد أوقعهم الشيطان، ودلاّهم فيه، ودلّهم عليه؛ والعصمة بتارك البغي أوْلى؛ فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيته، ويسأل إلهه ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسداً، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز؛ إنه سميع قريب.
رجع الحديث إلى حديث هشام. قال: فرجع زيد إلى الكوفة، فاستخفى، قال: فقال له محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب حيث أراد الرجوع إلى الكوفة: أذكّرك الله يا زيد لمّا لحقت بأهلك؛ ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك إلى ما يدعونك إليه؛ فإنهم لا يفون لك؛ فلم يقبل منه ذلك، ورجع.
قال هشام: قال أبو مخنف: فأقبلت الشيعة لما رجع إلى الكوفة يختلفون إليه، ويبايعون له، حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهراً؛ إلاّ أنه قد كان منها بالبصرة نحو شهرين، ثم أقبل إلى الكوفة، فأقام بها، وأرسل إلى أهل السواد وأهل الموصل رجالاً يدعون إليه.
قال: وتزوج حيث قدم الكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلميّ، أحد بني فرقد، وتزوج ابنة عبد الله بن أبي العنبس الأزديّ. قال: وكان سبب تزوّجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت ترى رأي الشيعة، فبلغها مكان زيد، فأتته لتسلّم عليه - وكانت امرأة جسيمة جميلة لحيمة، قد دخلت في السنّ، إلا أن الكبر لا يستبين عليها - فلمّا دخلت على زيد بن عليّ فسلمت عليه ظنّ أنها شابة، فكلمته فإذا أفصح الناس لساناً، وأجمله منظراً، فسألها عن نسبها فأنتسبت له، وأخبرته ممن هي، فقال لها: هل لك رحمك الله أن تتزوجيني؟ قالت: أنت والله - رحمك الله - رغبة لو كان من أمري التزويج، قال لها: وما الذي يمنعك؟ قالت: يمنعني من ذلك أني قد أسننت، فقال لها: كلاّ قد رضيت، ما أبعدك من أن تكوني قد أسننت! قالت: رحمك الله، أنا أعلم بنفسي منك؛ وبما أتى عليّ من الدهر؛ ولو كنت متزوجة يوماً من الدهر لما عدلت بك؛ ولكن لي ابنة أبوها ابن عمي؛ وهي أجمل مني، وأنا أزوّجكها إن أحببت، قال: رضيت أن تكون مثلك، قالت له: لكن خالقها ومصورها لم يرض أن يجعلها مثلي، حتى جعلها أبيض وأوسم وأجسم، وأحسن مني دلاً وشكلاً. فضحك زيد، وقال لها: قد رزقت فصاحة ومنطقاً حسناً، فأين فصاحتها من فصاحتك؟ قالت: أما هذا فلا علم لي به؛ لأني نشأت بالحجاز، ونشأت ابنتي بالكوفة، فلا أدري علّ ابنتي قد أخذت لغة أهلها. فقال زيد: ليس ذلك بأكره إليّ، ثم واعدها موعداً فأتاها فتزوّجها، ثم بنى بها فولدت له جاريةً. ثم إنها ماتت بعد؛ وكان بها معجباً.
قال: وكان زيد بن عليّ ينزل بالكوفة منازل شتى، في دار امرأته في الأزد مرة، ومرة في أصهاره السلميين، ومرة عند نصر بن خزيمة في بني عبس، ومرة في بني غبر. ثم إنه تحوّل من بني غبر إلى دار معاوية ابن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ في أقصى جباّانة سالم السلوليّ، وفي بني نهد وبني تغلب عند مسجد بني هلال بن عامر، فأقام يبايع أصحابه؛ وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس: " إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدّفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردّ الظالمين، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا " ، أتبايعون على ذلك فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله، لتفينّ بيعتي ولتقاتلنّ عدوّي ولتنصحنّ في السرّ والعلانية؟ فإذا قال: نعم مسح يده على يده، ثم قال: اللهمّ اشهده. فمكث بذلك بضعة عشر شهراً؛ فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيّؤ، فجعل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ لو يتهيّأ، فشاع أمره في الناس.
ذكر الخبر عن غزوة نصر بن سيّار ما وراء النهر
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرّتين، ثم غزا الثالثة، فقتل كور صول.
ذكر الخبر عن غزواته هذه:
ذكر عليّ عن شيوخه، أن نصراً غزا من بلخ ما وراء النهر من ناحية باب الحديد؛ ثم قفل إلى مرو، فخطب الناس، فقال: ألا إن بهرامسيس كان مانحج المجوس، يمنحهم ويدفع عنهم، ويحمل أثقالهم على المسلمين؛ ألا إنّ اشبداد بن جريجور كان مانح النصارى؛ ألا إن عقيبة اليهوديّ كان مانح اليهود يفعل ذلك. ألا إني مانح المسلمين، أمنحهم وأدفع عنهم، وأحمل أثقالهم على المشركين؛ ألا إنه لا يقبل مني إلا توفّى الخراج على ما كتب ورفع. وقد استعملت عليكم منصور بن عمر بن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم. فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقل عليه في خراجه، وخفّف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك إلى المنصور بن عمر، يحوّله عن المسلم إلى المشرك. قال: فما كانت الجمعة الثانية؛ حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم، كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحوّل ذلك عليهم، وألقاه من المسلمين. ثم صنّف الخراج حتى وضعه مواضعه، ثم وظّف الوظيفة التي جرى عليها الصلح. قال: فكاانت مرو يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج أيام بني أميّة. ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم قفل، ثم غزا الثانية إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين قطوع النهر نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفاً، استأجر كلّ رجل منهم في كلّ شهر بشقّة حرير؛ الشقة يومئذ بخمسة وعشرين درهماً، فكانت بينهم مراماة، فمنع نصراً من القطوع إلى الشاش. وكان الحارث بن سريج يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم؛ فكان بإزاء نصر، فرمى نصراً؛ وهو على سريره على شاطىء النهر بحسبان، فوقع السهم في شدق وصيف لنصر يوضّئه. فتحوّل نصر عن سريره، ورمى فرساً لرجل من أهل الشأم فنفق. وعبر كورصول في أربعين رجلاً، فبيّت أهل العسكر، وساق شاء لأهل بُخارى، وكانوا في الساقة، وأطاف بالعسكر في ليلة مظلمة؛ ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكسّ وأشروسنة، وهم عشرون ألفاً، فنادى نصر في الأخماس: ألا لا يخرجنّ أحد من بنائه، وأثبتوا على مواضعكم. فخرج عاصم بن عمير وهو على جند أهل سمرقند. حتى مرّت خيل كورصول، وقد كانت الترك صاحت صيحة. فظن أهل العسكر أن الترك قد قطعوا كلّهم. فلما مرّت خيل كورصول على ذلك حمل على آخرهم، فأسر رجلاً؛ فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة، فجاءوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبراً، وعليه رانا ديباج فيهما حلق، وقباء فرند مكفف بالديباج، فقال له نصر: من أنت؟ قال: كورصول، فقال نصر: وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوّى بها جندك، وخلّ سبيلي! فقال نصر لمن حوله من أهل الشأم وأهل خراسان: ما تقولون؟ فقالوا: خلّ سبيله، فسأله عن سنّه، قال: لا أدري، قال: كم غزوت؟ قال: اثنتين وسبعين غزوة، قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم، قال: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك. وقال لعاصم بن عمير السغديّ: قم إلى سلبه فخذه؛ فلما أيقن بالقتل، قال: من أسرني؟ قال نصر وهو يضحك: يزيد بن قرّان الحنظليّ - وأشار إليه - قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه - أو قال: لا يستطيع أن يتمّ بوله - فكيف يأسرني! فأخبرني من أسرني؛ فإني أهلٌ أن أقتل سبع قتلات، قيل له: عاصم بن عمير، قال: لست أجد مسّ القتل إذ كان الذي أسرني فارساً من فرسان العرب. فقتله وصلبه على شاطىء النهر. قال: وعاصم بن عمير هو الهزارمرد، قتل بنهاود أيام قحطبة.
قال: فلما قتل كورصول تخدّرت الترك وجاءوا بأبنيته فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وجردّوا وجوههم. وطفقوا يبكون عليه؛ فلما أمسى نصر وأراد الرحلة، بعث إلى كورصول بقارورة نفط، فصبّها عليه، وأشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه. قال: وكان ذلك أشدّ عليهم من قتله.
وارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس، قال: فقال عنبر بن برعمة الأزدي: كتب يوسف بن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشاش - يعني الحارث بن سريج - فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش، فخرّب بلادهم، واسب ذراريّهم؛ وإياك وورطة المسلمين.
قال: فدعا نصر الناس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: ما ترون؟ فقال يحيى بن حضين: امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير، فقال نصر: يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة؛ فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت: أقول مثلها. سر يا يحيى، فقد وليتك مقدّمتي؛ فأقبل الناس على يحيى يلومونه، فقال نصر يومئذ: وأيّ ورطة أشدّ من أن تكون في السفر وهم في القرار! قال: فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بن سريج فنصب عرّادتين تلقاء بني تميم؛ فقيل له: هؤلاء بنو تميم، فنقلهما فنصبهما على الأزد - ويقال: علي بكر بن وائل - وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترك، فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه، فأمر نصر بن سيار برأس الأخرم، فرمى به في عسكرهم بمنجنيق، فلما رأوه ضجوا ضجة عظيمة، ثم ارتحلوا منهزمين، ورجع نصر، وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك، فقال أبو نميلة صالح بن الأبّار:
كنا وأوبة نصر عند غيبته ... كراقب النوء حتى جاده المطر
أودى بأخرم منه عارض برد ... مسترجف بمنايا القوم منهمر
وأقبل نصر فنزل سمرقند في السنة التي لقي فيها الحارث بن سريج، فأتاه بخارا خذاه منصرفاً؛ وكانت المسلحة عليهم، ومعهم دهقانان من دهاقين بخارى، وكانا أسلما على يدي نصر، وقد أجمعا على الفتك بواصل بن عمرو القيسي عامل بخارى وببخاراخذاه يتظلّمان من بخاراخذاه، - واسمه طوق شياده - فقال بخاراخذاه لنصر: أصلح الله الأمير! قد علمت أنهما قد أسلما على يديك، فما بالهما معلّقي الخناجر عليهما! فقال لهما نصر: ما بالكما معلقي الخناجر وقد أسلمتما! قال: بيننا وبين بخاراخذاه عداوة فلا نأمنه على أنفسنا. فأمر نصر هارون بن السياوش مولى بني سليم - وكان يكون على الرابطة - فاجتذبهما فقطعهما، ونهض بخارخذاه إلى نصر يسارّه في أمرهما، فقالا: نموت كريمين؛ فشدّ أحدهما على واصل ابن عمرو فطعنه في بطنه بسكين، وضربه واصل بسيفه على رأسه؛ فأطار قحف رأسه فقتله، ومضى الآخر إلى بخارخذاه - وأقيمت الصّلاة، وبخارخذاه جالس على كرسيّ - فوثب نصر، فدخل السرادق، وأحضر بخارخذاه، فعثر عند باب السرادق فطعنه، وشدّ عليه الجوزجان بن الجوزجان، فضربه بجرز كان معه فقتله، وحُمل بخاراخذاه فأدخل سرادق نصر، ودعا له نصر بوسادة فاتّكأ عليها، وأتاه قرعة الطبيب، فجعل يعالجه وأوصى إلى نصر، ومات من ساعته، ودفن واصل في السرادق، وصلى عليه نصر. وأما طوق شياده فكشطوا عنه لحمه، وحملوا عظامه إلى بخارى.
قال: وسار نصر إلى الشاش، فلما قدم أشروسنة عرض دهقانها أباراخرّه مالاً، ثم نفذ إلى الشاش، واستعمل على فرغانة محمد بن خالد الأزدي، وجهه إليها في عشرة نفر، وردّ من فرغانة أخاجيش فيمن كان معه من دهاقين الختل وغيرهم، وانصرف منها بتماثيل كثيرة، فنصبها في أشروسنة.
وقال بعضهم: لما أتى نصر الشاش تلقّاه قدر ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب؛ واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وقد كانوا أحسوا بمجيئه، فأحرقوا الحشيش وحبسوا الميرة. ووجّه نصر إلى وليّ عهد صاحب فرغانة في بقية سنة إحدى وعشرين ومائة، فحاصروه في قعلة من قلاعها، فغفل عنهم المسلمون، فخرجوا على دوابّهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدّهقان، وأسروا منهم أسراء، وحمل ابن الدهقان المقتول على ابن المثنى، فختله محمد بن المثنىّ، فأسره، وهو غلام أمرد، فأتى به نصراً، فضرب عنقه.
وكان نصر بعث سليمان بن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما. قال سليمان: فقدمت عليه فقال لي: من أنت؟ قلت: شاكريّ خليفة كاتب الأمير، قال: فقال: أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا، فقيل له: قم، قال: قلت ليس بي مشي، قال: قدّموا له دابة يركبها، قال: فدخلت خزائنه، فقلت في نفسي: يا سليمان، شمت بك إسرايل وبشر بن عبيد؛ ليس هذا إلاّ لكراهة الصحل، وسأنصرف بخفّي حنين. قال: فرجعت إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قلت: سهلاً كثير الماء والمرعى؛ فكره ما قلت له، فقال: ما علمك؟ فقلت: قد غزوت غرشستان وغور والختّل وطبرستان، فكيف لا أعلم! قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قلت: رأيت عدة حسنة؛ ولكن أما علمت أن صاحب الحصار لا يسلم من خصال! قال: وما هن؟ قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه وأحبهم إليه وأوثقهم في نفسه أن يثب به يطلب مرتبته، ويتقرّب بذلك، أو يفنى ما قد جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت. فقطّب وكره ما قلت له وقال: انصرف إلى منزلك، فانصرفت فأقمت يومين، وأنا لا أشكّ في تركه الصلح، فدعاني فحملتُ كتاب الصّلح مع غلامي، وقلت له: إن أتاك رسولي يطلب الكتاب فانصرف إلى المنزل، ولا تظهر الكتاب، وقل لي: إني خلفت الكتاب في المنزل. فدخلت عليه، فسألني عن الكتاب، فقلت: خلّفته في المنزل. فقال: ابعث من يجيئك به، فقبل الصلح، وأحسن جائزتي، وسرّح معي أمّه، وكانت صاحبة أمره.
قال: فقدمت على نصر؛ فلما نظر إليّ قال: ما مثلك إلا كما قال الأوّل: فأرسل حكيماً ولا توصه فأخبرته، فقال: وفقت، وأذن لمه عليه، وجعل يكلمها والترجمان يعبّر عنها، فدخل تميم بن نصر، فقال للترجمان: قل لها: تعرفين هذا؟ فقالت: لا، فقال: هذا تميم بن نصر، فقالت: والله ما أرى له حلاوة الصغير، ولا نبل الكبير.
قال أبو إسحاق بن ربيعة: قالت لنصر: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزيرٌ يباثّه بكتاب نفسه وما شجر في صدره من الكلام، ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتماً فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه - تعني البرذون - وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين وقع بها من الأرض عاش بها.
ثم دخل تميم بن نصر في الأزفلة وجماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان، هذا تميم بن نصر، قالت: ما له نبل الكبار ولا حلاوة الصغار.
ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بن قتيبة، قال: فحيّته، وسألت عنه؛ وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء؛ لا يصلح بعضكم لبعض. قتيبة الذي وطّن لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك! فحقك أن تجلسه هذا المجلس، وتجلس أنت مجلسه.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزوميّ - كذلك قال أبو معشر، حدّثني بذلك أحمد بن ثابت. عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكذلك قال الواقديّ وغيره.
وكان عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة محمد بن هشام، وعامله على العراق كلّه يوسف بن عمر، وعامله على أذربيجان وأرمينية مروان بن محمد، وعلى خراسان نصر بن سيّار، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من أحداث
خبر مقتل زيد بن عليّ فمن ذلك مقتل زيد بن عليّ.ذكر الخبر عن ذلك
ذكر هشام عن أبي مخنف، أنّ زيد بن عليّ لما أمر أصحابه بالتأهب للخروج والاستعداد، أخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة فيما أمرهم به من ذلك، فانطلق سليمان بن سراقة البارقيّ إلى يوسف بن عمر، فأخبره خبره، وأعلمه أنه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر. وإلى رجل من بني تميم يقال له طعمة؛ ابن أخت لبارق؛ وهو نازل فيهم. فبعث يوسف يطلب زيد بن عليّ في منزلهما فلم يوجد عندهما، وأخذ الرجلان، فأتيَ بهما، فلما كلمهما استبان له أمر زيد وأصحابه. وتخوّف زيد بن عليّ أن يؤخذ، فتعجّل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة. قال: وعلى أهل الكوفة يومئذ الحكم بن الصلت، وعلى شرطه عمرو بن عبد الرحمن، رجل من القارة؛ وكانت ثقيف أخواله؛ وكان فيهم ومعه عبيد الله بن العباس الكنديّ، في أناس من أهل الشأم، ويوسف بن عمر بالحيرة. قال: فلما رأى أصحاب زيد بن عليّ الذين بايعوه أنّ يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد، وأنه يدسّ إليه، ويستبحث عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرّأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل هذا البيت؛ إلاّ أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم! فقال لهم زيد: إن أشدّ ما أقول فيما ذكرتم أنّا كنا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس أجمعين، وإنّ القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، قد ولّوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم يظلمك هؤلاء! وإن كان أولئك لم يظلموك، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين! فقال: وإنّ هؤلاء ليسوا كأولئك؛ إنّ هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم؛ وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ؛ فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته، وقالوا: سبق الإمام - وكانوا يزعمون أنّ أبا جعفر محمد بن عليّ أخا زيد بن عليّ هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ - وكان ابنه جعفر بن محمد حيّاً، فقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه؛ وهو أحقّ بالأمر بعد أبيه؛ ولا نتبع زيد بن عليّ فليس بإمام. فسمّاهم زيد الرّافضة، فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة حيث فارقوه. وكانت منهم طائفة قبل خروج زيد مرّوا إلى جعفر بن محمد بن عليّ، فقالوا له: إن زيد بن عليّ فينا يبايع؛ أفترى لنا أن نبايعه؟ فقال لهم: نعم بايعوه؛ فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا فجاءوا، فكتموا ما أمرهم به.
قال: واتستتبّ لزيد بن عليّ خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة.
وبلغ يوسف بن عمر أنّ زيداً قد أزمع على الخروج، فبعث إلى الحكم ابن الصلت، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة؛ فأدخلهم المسجد، ثم نادى مناديه: ألا إنّ الأمير يقول: من أدركناه في رحلة فقد برئت منه الذمّة؛ ادخلوا المسجد الأعظم. فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيداً في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ، فخرج ليلاً؛ وذلك ليلة الأربعاء، في ليلة شديدة البرد، من دار معاوية بن إسحاق، فرفعوا الهراديّ فيها النيران، ونادوا: يا منصور أمت، أمت يا منصور. فكلما أكلت النار هردياً رفعوا آخر، فما زالوا كذلك حتى طلع الفجر؛ فلما أصبحوا بعث زيد بن عليّ القاسم التنعيّ ثم الحضرميّ ورجلاً آخر من أصحابه، يناديان بشعارهما، فلما كانوا في صحراء عبد القيس لقيهم جعفر بن العباس الكنديّ، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل الذي كان مع القاسم التنعيّ، وارتُثّ القاسم، فأتى به الحكم فكلمه فلم يردّ عليه شيئاّ، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر؛ فكان أول من قتل من أصحاب زيد ابن عليّ هو وصاحبه. وأمر الحكم بن الصلت بدروب السوق فغلقت، وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة. وعلى أرباع الكوفة يومئذ؛ على ربع أهل المدينة إبراهيم بن عبد الله بن جرير البجليّ، وعلى مذحج وأسد عمرو ابن أبي بذل العبديّ، وعلى كندة وربيعة المنذر بن محمد بن أشعث بن قيس الكنديّ، وعلى تميم وهمدان محمد بن مالك الهمدانيّ ثم الخيوانيّ.
قال: وبعث الحكم بن الصلت إلى يوسف بن عمر، فأخبره الخبر، فأمر يوسف مناديه فنادى في أهل الشأم: من يأتي الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فقال جعفر بن العباس الكنديّ: أنا، فركب في خمسين فارساً، ثم أقبل حتى انتهى إلى جبّانة سالم السَّلوليّ، فاستخبرهم، ثم رجع إلى يوسف بن عمر فأخبره، فلما أصبح إلى تلّ قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس؛ وعلى شرطته يومئذ العباس بن سعيد المزنيّ، فبعث الرّيان بن سلمة الإراشيّ في ألفين ومعه ثلثمائه من القيقاينّة رجلاً معهم النُّشاب.
وأصبح زيد بن عليّ، فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلاً، فقال زيد: سبحان الله! اين الناس! فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون، فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر. وسمع نصر ابن خزيمة النداء، فأقبل إليه، فلقي عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت في خيله من جهينة عند دار الزبير بن أبي حكمة في الطريق الذي يخرج إلى مسجد بني عديّ، فقال نصر بن خزيمة: يا منصور أمت؛ فلم يردّ عليه شيئاً، فشدّ عليه نصر وأصحابه، فقتل عمر بن عبد الرحمن، وانهزم من كان معه، وأقبل زيد بن علىّ من جبّانة سالم حتى انتهى إلى جبّانه الصائديّين، وبها خمسمائة من أهل الشأم، فحمل عليهم زيد بن عليّ فيمن معه فهزمهم. وكان تحت زيد بن عليّ يومئذ برذون أدهم بهيم؛ اشتراه رجل من بني نهد بن كهمس بن مروان النجّاري بخمسة وعشرين ديناراً، فلما قتل زيد بعد ذلك أخذه الحكم بن الصّلت.
قال: وانتهى زيد بن عليّ إلى باب دار رجل من الأزد، يقال له أنس ابن عمرو - وكان فيمن بايعه - فنودي وهو في الدار فجعل بجيب، فناداه زيد يا أنس: اخرج إلىّ رحمك الله، فقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم! قد فعلتموها، الله حسيبكم!
قال: ثم إن زيداً مضى حتى انتهى إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشأم فهزمهم؛ ثم خرج حتى ظهر إلى الجبّانة ويوسف بن عمر على التلّ ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه حزام بن مرة المزنيّ وزمزم بن سليم الثعلبيّ؛ وهما على المجفّفة، ومعه نحو من مائتي رجل؛ والله لو أقبل على يوسف لقتله، والرّيان بن سلمة يتبع أثر زيد بن عليّ بالكوفة في أهل الشأم. ثم إن زيداً أخذ ذات اليمين على مصلّى خالد بن عبد الله حتى دخل الكوفة، وكانت فرقة من أصحاب زيد بن عليّ حيث وجّه إلى الكناسة قد انشعبت نحو جبّانة مخنف بن سليم. ثم قال بعضهم لبعض: ألا ننطلق نحو جبّانة كندة! قال: فما زاد الرّجل على أن تكلم بهذا الكلام. وطلع أهل الشأم؛ فلما رأوهم دخلوا زقاقاً فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فقاتلهم ساعة. ثم إنهم صروعه، فجعلوا يضربونه بأسيافهم؛ فنادى رجل منهم مقنع بالحديد: أن اكشفوا المغفر ثم اضربوا رأسه بعمود حديد؛ ففعلوا، وقتل وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه وقد قتل، وانصرف أهل الشأم؛ وقد اقتطعوا رجلاً، ونجا سائرهم. فذهب ذلك الرجل حتى دار عبد الله بن عوف فدخل أهل الشأم عليه فأسروه، فذهب به إلى يوسف بن عمر فقتله.
قال: وأقبل زيد بن عليّ، وقد رأى خذلان الناس إيّاه، فقال: يا نصر بن خزيمة، أتخاف أ، يكون قد جعلوهها حسينيّة! فقال له: جعلني الله لك الفداء! أما أنا فوالله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتى أموت؛ فكان قتاله يومئذ بالكوفة. ثم إن نصر بن خزيمة قال لزيد بن عليّ: جعلني الله لك الفداء! إن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فامض بنا نحوهم، فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمرّ على دار خالد بن عرفطة. وبلغ عبيد الله ابن العباس الكنديّ إقباله، فخرج في أهل الشأم، وأقبل زيد فالتقوا على باب عمر بن سعد أبي وقّاص، فكعّ صاحب لواء عبيد الله - وكان لواؤه مع سلمان مولاه - فلما أراد عبيد الله الحملة ورآه قد كعّ عنه، قال: احمل يابن الخبيثة! فحمل عليهم، فلم ينصرف حتى خضِّب لواؤه بالدم.
ثم إن عبيد الله برز فخرج إليه واصل الحنّاط، فاضطربا بسيفهما، فقال للأحوال: خذها منّي وأنا الغلام الحنّاط! وقال الآخر: قطع الله يدي إن كلت بقفيز أبداً. ثم ضربه فلم يصنع شيئاً. وانهزم عبيد الله بن العباس وأصحابه، حتى انتهوا إلى دار عمرو بن حريث. وجاء زيد وأصحابه حتى انتهوا إلى باب الفيل؛ فجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب، ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا. وجعل نصر بن خزيمة يناديهم، ويقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل اخرجوا إلى الدين والدنيا؛ فإنكم لستم في دين ولا دنيا. فأشرف عليهم أهل الشأم، فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد - وكان يومئذ جمع كبير بالكوفة في نواحيها، وقيل في جبّانة سالم - وانصرف الرّيان بن سلمة إلى الحيرة عند المساء، وانصرف زيد بن عليّ فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق، فأتاه الرّيان بن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالاً شديداً، فجرح من أهل الشأم وقتل منهم ناس كثير، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزّق؛ حتى انتهوا إلى المسجد؛ فرجع أهل الشأم مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظناً؛ فلما كان من الغد غداة يوم الخميس، دعا يوسف بن عمر الرّيان بن سلمة، فلم يوجد حاضراً تلك الساعة.
وقال بعضهم: بل أتاه وليس عليه سلاحه فأفّف به، وقال له : أفٍّ لك من صاحب الخيل! اجلس. فدعا العباس بن سعيد المزنيّ صاحب شرطته، فبعثه في أهل الشأم، فسار حتى انتهى إلى زيد بن علىّ في دار الرزق، وثمّ خشب للتجار كثير، فالطريق متضايق. وخرج زيد في أصحابه، وعى مجنّبتيه نصر بن خزيمه العبسيّ ومعاوية بن إسحاق الأنصاريّ، فلما رآهم العباس - ولم يكن معه رجال - نادى: يا أهل الشأم، الأرض والأرض! فنزل ناس كثير ممن معه، فاقتتلوا قتالاً شديداً في المعركة. وقد كان رجل من أهل الشأم من بني عبس يقال له نائل بن فروة قال ليوسف بن عمر: والله لئن أنا ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلنيّ، فقال له يوسف: خذ هذا السيف؛ فدفع إليه بسيف لا يمرّ بشيء ألا قطعه. فلما التقى أصحاب العباس بن سعيد وأصحاب زيد واقتتلوا، بصر نائل بن فروة بنصر بن خزيمة، فأقبل نحوه، فضرب نصراً فقطع فخذه، وضربه نصر ضربةً فقتله؛ فلم يلبث نصر أن مات، واقتتلوا قتالاً شديداً.
ثم إن زيد بن عليّ هزمهم وقتل من أهل الشأم نحواً من سبعين رجلاً، فانصرفوا وهم بشرّ حال. وقد كان العباس بن سعيد نادى في أصحابه أن اركبوا؛ فإن الخيل لاتطيق الرجال في المضيق فركبوا، فلما كان العشيّ عبأهم يوسف بن عمر ثم سرحهم، فأقبلوا حتى التقواهم وأصحاب زيد، فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبَّخة، ثم شدّ عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجاله؛ حتى أخذوا على المسناة.
ثم إن زيداً ظهر لهم فيما بين بارق ورؤاس، فقاتلهم هنالك قتالاً شديداً. وصاحب لوائه يومئذ رجل يقال له عبد الصمد بن أبي مالك بن مسروح، من بني العباس بن زيد، حليف العباس بن عبد المطلب، وكان مسروح السعديّ تزوج صفية بنت العباس بن عبد المطلب، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ورجله، فبعث العباس إلى يوسف بن عمر ييعلمه ذلك، فقال له: ابعث إليّ الناشبة، فبعث إليهم سليمان بن كيسان الكلبيّ في القيقانيّة والبخاريّة؛ وهم ناشبة، فجعلوا يرمون زيداً وأصحابه، وكان زيد حريصاً على أن يصرفهم حين انتهوا إلى السّبخة، فأبوا عليه، فقاتل معاويه بن إسحاق الأنصاريّ بين يدي زيد بن عليّ قتالاً شديداً، فقتل بين يديه، وثبت زيد بن عليّ ومن معه حتى إذا جنح الليل رمى بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فتشبث في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه؛ ولا يظن أهل الشأم أنهم رجعوا إلا للمساء والليل.
قال: فحدثني سلمة بن ثابت الليثيّ - وكان مع زيد بن عليّ، وكان آخر من انصرف من الناس يومئذ، هو وغلام لمعاوية بن إسحاق - قال: أقبلت أنا وصاحبي نقصُّ أثر زيد بن عليّ، فنجده قد أنزل؛ وأدخل بيت حرّان ابن كريمة مولى لبعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر.قال سلمة بن ثابت: فدخلت عليه، فقلت له: جعلني الله فداك أبا الحسين! وانطلق أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له شقير مولى بني رؤاس فانتزع النصل من جبهته، وأنا أنظر إليه، فوالله ما عدا أن انتزعه جعل يصيح، ثم لم يلبث أن قضى؛ فقال القوم: أين ندفنه، وأين نواريه؟ فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال بعضهم: بل نحتز رأسه ونضعه بين القتلى، فقال ابنه يحيى: لا والله لا تأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم: لا بل نحمله إلى العباسيّة فندفنه.
قال سلمة: فأشرت عليهم أن ننطلق به إلى الحفرة التي يؤخذ منها الطين فندفنه فيها، فقبلوا رأيي وانطلقنا، وحفرنا له بين حفرتين، وفيه حينئذ ماء كثير؛ حتى إذا نحن أمكنّا له دفناه، وأجرينا عليه الماء، وكان معنا عبد له سندي قال: ثم انصرفنا حتى نأتي جبّانة السيبع، ومعنا ابنه، فلمم نزل بها، وتصدّع الناس عنا، وبقيت في رهط معه لا يكونون عشرة، فقلت له: أين تريد؟ هذا الصبح قد غشيك - ومعه أبو الصّبَّار العبديّ - قال: فقال: النهرين، فظننت أنه يريد أن يتشطّط الفرات ويقاتلهم - فقلت له : لاتبرح مكانك، تقاتلهم حتى تقتل، أو يقضي الله ما هو قاض. فقال لي: أنا أريد نهري كربلاء. فقلت له: فالنجاء قبل الصبح، فخرج من الكوفة، وأنا معه وأبوا الصبّار ورهط معنا، فلما خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذّنين، فصلينا الغداة بالنُّخيلة سراعاً قبل نينوى، فقال لي: إني أريد سباقاً مولى بشر بن عبد الملك بن بشر فأرسع السير، وكنت إذا لقيت القوم أستطعمهم فأطعم الأغرفة فأطعمها إياه، فيأكل ونأكل معه؛ فانتهينا إلى نينوى وقد أظلمنا، فأتينا منزل سابق، فدعوت على الباب، فخرج إلينا فقلت له: أما أنا فآتي الفيّوم، فأكون به؛ فإذا بدا لك أن ترسل إليّ فأرسل. قال: ثم إني مضيت وخلّفته عند سابق؛ فذلك آخر عهدي به.
قال: ثم إنّ يوسف بن عمر بعث أهل الشأم يطلبون الجرحى في دور أهل الكوفة، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار، ويطوفون البيت يتلمسون الجرحى.
قال: ثم دلّ غلام زيد بن عليّ السنديّ يوم الجمعة على زيد، فبعث الحكم بن الصّلت العباس بن سعيد المزنيّ وابن الحكم بن الصّلت، فانطلقا فاستخرجاه، فكره العباس أن يغلب عليه ابن الحكم بن الصّلت، فتركه وسرح بشيراً إلى يوسف بن عمر غداة يوم الجمعة برأس زيد بن علي ّمع الحجاج بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، فقال أبوا الجورية مولى جهينة:
قل للذين انتهكوا المحارم ... ورفعوا الشّمع بصحرا مالم
كيف وجدتم وقعة الأكارم ... يا يوسف بن الحكم بن القاسم
قال: ولما أتى يوسف بن عمر البشير، أمر بزيد فصلب بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ وزياد النهديّ؛ وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بن عباد برأس نصر بن خزيمة، فأمر له يوسف بن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعرييّن برأس معاوية بن إسحاق؛ فقال: أنت قتلته؟ فقال أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته؛ ولكني رأيته فعرفته، فقال: أعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه أن يتم له ألفاً، إلا أنه زعم أنه لم يقتله.
وقد قيل: إن يوسف بن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلاً من بني أمية كتب - فيما ذكر - إلى هشام، إلى يوسف يشتمه ويجهّله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفة يبايع له فألحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن نلم يقبل فقاتله. فكتب يوسف إلى الحكم بن الصّلت من آل أبي عقيلل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي عليه موضعه، فدس يوسف مملوكاً خرسانياً ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم، وأمره أن يلطف لبعض الشّيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حباً لأهل البيت؛ وأن معه مالاً يريد أن يقويهم به؛ فلم يزل المملوك يلقى الشيعة، ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على موضعه، فوجّه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه منهم إلا ثلثمائة أو أقل، فجعل يقول: كان داود ابن عليّ أعلم بكم؛ قد حذرنيّ خذلانكم فلم أحذر!
وقيل إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن فيه - وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء - عبد قصار كان به، فاستعجل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم فاستخرجوه، فقطعوا رأسه، وصلبوا جسده؛ ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زماناً. وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بن معاوية أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوباً حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وقيل: إن حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى يوسف.
فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في أمر يحيى بن زيد: لما قتل زيد عمد رجل من بنى أسد إلى يحيى بن زيد، فقال له: قد قتل أبو، وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها. قال: وكيف لي بذلك؟ قال: تتوارى حتى يكفّ عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف فأتى عبد الملك بن بشر بن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة، وحقّه عليك واجب، قال له: أجل؛ ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى، قال: فقد قتل وهذا ابنه غلاماً حدثاً لا ذنب له؛ وإن علم يوسف بن عمر بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قال: نعم وكرامة. فأتاه به فواراه عنده. فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام عندك، وأعطى الله عهداً؛ لئن لم تأتني به لأكتبنّ فيك إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور؛ أنا أواري من ينازعني سلطاني ويدّعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا عليّ ولا الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر؛ ما كان ليواري مثل هذا، ولا يستر عليه؛ فكفّ عن طلبه؛ فلما سكن الطلبُ خرج يحيى في نفر من الزيديّة إلى خراسان.
وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال: يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقّل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه؛ والله لو أبدى لي صفحته لعقت خصييه كما عرقت خصيَي أبيه.
وذكر عن رجل من الأنصار قال: لما جىء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال:
ألا يا ناقض الميثا ... ق أبشر بالذي ساكا
نقضت العهد والميثا ... ق قدماً كان قدماكا
لقد أخلف إبليس ال ... ذي قد كان منّاكا
قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم:
ألا يا شاعر السوء ... لقد أصبحت أفاكا
أشتم ابن رسول الل ... ه يرضي من تولاكا
ألا صبحك الله ... بخزي ثم مساكا
ويوم الحشر لا شك ... بأن النار مثواكا
وقيل: كان خراش بن حوشب بن يزيد الشيبانيّ على شرط يوسف ابن عمر؛ فهو الذي نبش زيداً، وصلبه، فقال السيد:
بتّ ليلى مسهدا ... ساهر الطرف مقصدا
ولقد قلت قولة ... وأطلت التبلدا
لعن الله حوشباً وخراشاً ومزيدا
ويزيداً فإنه ... كان أعتى وأعندا
ألف ألف وألف أل ... ف من اللعن سرمدا
إنهم حاربوا الإل ... ه وآذوا محمدا
شركوا في دم المطه ... ر زيد تعندا
ثم عالوه فوق جذ ... ع صريعاً مجردا
يا خراش بن حوشب ... أنت أشقى الورى غدا
قال أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بن علي أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال: يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولا أخوف بالذنب. هيهات؟ حبيت بالساعد الأشدّ، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق؛ ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم. أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله؛ إلا حكيم بن شريك المحاربيّ؛ ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم؛ ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم.
وفي هذه السنة قتل كلثوم بن عياض القشيريّ الذي كان هشام بن عبد الملك بعثه في خيول أهل الشأم إلى إفريقيّة؛ حيث وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم.
وفيها ولد الفضل بن صالح ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن عليّ.
وفيها وجّه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام المخزوميّ، كذلك حدّثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكلذلك قال الواقديّ وغيره.
وكانت عمال المصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل؛ إلا أنّ قاضي الكوفة كان - فيما ذكر - في هذه السنة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بن سيار من الصّلح.ذكر الخبر عن ذلك وسببهذكر عليّ بن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرّقت الترك في غارة بعضها على بعض؛ فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كلّ ما أرادوا.
قال: وكانوا سألوا شروطاً أنكرها أمراء خراسان؛ منها ألاّ يعاقب من كان مسلماً وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدّى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضيّة قاض وشهادة العدول؛ فعاب الناس ذلك على نصر، وكلّموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك؟ فأرسل رسولاً إلى هشام في ذلك؛ فلما قدم الرّسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جُرّبت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك. فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبيّ: يا أمير المؤمنين، تألّف القوم واحمل لهم؛ فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل.
وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام بن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بن سيّار.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه: ذكر عليّ عن شيوخه، قال: لما طالت ولاية نصر بن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بن عمر إلى هشام حسداً له: إن خراسان دبرة دبرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرّح إليها الحكم بن الصلت؛ فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودّتنا أهلَ البيت.
فلما أتى هشاماً كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن عليّ السغديّ، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قال: نعم، وأنا صاحب الترك - قال: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك - فقال: أتعرف الحكم بن الصلت؟ قال: نعم، قال: فما وليَ بخراسان؟ قال: وليَ قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفاً، فأسره الحارث بن سريج، قال: ويحك؟ وكيف أفلت منه؟ قال: عرك أذنه، وقفده وخلّى سبيله. قال: فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالاً وبياناً، فكتب إلى يوسف: إنّ الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخلّ الكنانيّ وعمله.
وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، وأوفد مغراء بن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام.
ذكر الخبر عن ذلك وما كان من هشام ويوسف بن عمر فيه:
ذكر أن نصراً وجّه مغراء بن أحمر إلى العراق وافداً، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بن عمر: يا بن أحمر؛ يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم؟ فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه. فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير، فقال: ويحك؟ أخبرني عن خراسان، قال: ليس لك جند يا أمير المؤمنين أحدّ ولا أنجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيلة؛ وعدّة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قال: ويحك؟ فما فعل الكنانيّ؟ قال: لا يعرف ولده من الكبر. فردّ عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتيَ بشبيل بن عبد الرحمن المازنيّ، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قال: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشابّ يخشى سفهه، المجرِّب المجرَّب، قد ولي عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته. فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكأّدوا حتى قدموا بيهق - وقد كتب إلى نصر بقول شبيل - وكان إبراهيم بن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصراً، وأخبره أنه قد وليَ الحكم بن الصّلت بن أبي عقيل خراسان. فقسم له إبراهيم أمر خراسان كله؛ حتى قدم عليه إبراهيم بن زياد رسول نصر؛ فعرف أنّ يوسف قد مكرَ به وقال: أهلكني يوسف.
وقيل: إن نصراً أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بن نعيم الكلبيّ، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، إن هو تنقّص نصراً عند هشام أن يوليه السند. فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قال: لو كان الله متعنا منه ببقيّة؟ فاستوى هشام جالساً، ثم قال: ببقيّة ماذا؟ قال: لا يعرف الرّجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضّعف لأجل كبره. فقام حملة الكلبيّ، فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قال؛ هو هو. فقال هشام: إن نصراً ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر؛ وقد كان يوسف كتب إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بن قتيبة. فكتب إليه هشام: اله عن ذكر الكنانيّ، فلما قدم مغراء على يوسف، قال له: قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام؛ فأمره بالمقام. وكتب إلى نصر: إني قد حوّلت اسمه، فأشخص إليّ من قبلك من أهله.
وقيل: إنّ يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قال: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي! فلم يزل به، فقال: فبم أعيبه؟ أعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قال: عبه بالكبر. فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصراً بأحسن ما يكون، ثم قال في آخر كلامه: لولا...، فاستوى هشام جالساً، فقال: ما لولا! قال: لولا أنّ الدهر قد غلب عليه، قال: ما بلغ به ويحك الدهرّ قال: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو والركوب. فشقّ ذلك على هشام. فتكلّم حملة بن نعيم. فلما بلغ نصراً قول مغراء بعث هارون بن السياوش إلى الحكم بن نميلة، وهو في السرّاجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر عليّ بن محمد، عن الحارث بن أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة: لما وليَ نصر خراسان أدنى مغراء بن أحمر بن مالك بن سارية النميريّ والحكم ابن نميلة بن مالك والحجاج بن هارون بن مالك؛ وكان مغراء بن أحمر النميريّ رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم؛ وكان بعده عكابة بن نميلة، ثم أوفد نصر وفداً من أهل الشأم وأهل خراسان، وصيّر عليهم مغراء؛ وكان في الوفد حملة بن نعيم الكلبيّ، فقال عثمان بن صدقة بن وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان:
خيرني مسلم مراكبه ... فقلت حسبي من مسلم حكما
هذا فتى عامر وسيدها ... كفى بمن ساد عامراً كرما
يعني الحكم بن نميلة.
قال: فتغيّر نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء. قال: وكان أبو نميلة صالح الأبّار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بن زيد بن عليّ بن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان. وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فقال:
قد كنت في همة حيران مكتئباً ... حتى كفاني عبيد الله تهمامي
ناديته فسما للمجد مبتهجاً ... كغرة البدر جلّى وجه إظلام
فاسم برأى أبي ليث وصولته ... إن كنت يوم حفاظ بامرىء سام
تظفر يداك بمن تمت مروته ... واختصه ربه منه بإكرام
ماضي العزائم ليثي مضاربه ... على الكريهة يوم الروع مقدام
لا هذر ساحة النادي ولا مذل ... فيه ولا مسكت إسكات إفحام
له من الحلم ثوباه ومجلسه ... إذا المجالس شانت أهل أحلام
قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف؛ فإن رأيت أن تأذن لراويتي! فأذن له، فأنشده:
فاز قدح الكلبيّ فاعتقدت مغ ... راء في سعيه عروق لئيم
فأبيني نمير ثم أبيني ... ألعبد مغراء أم لصميم
فلئن كان منكم ما يكون ال ... غدر والكفر من خصال الكريم
ولئن كان أصله كان عبداً ما عليكم من غدره من شتيم
وليته ليث وأي ولاة ... بأياد بيض وأمر عظيم!
أسمنته حتى إذا راح مغبو ... طاً بخير من سيبها المقسوم
كاد ساداته بأهون من نه ... قة عير بقفرة مرقوم
فضربنا لغيرنا مثل الكل ... ب ذميماً والذمّ للمذموم
وحمدنا ليثاً ويأخذ بالفض ... ل ذوو الجود والندى والحلوم
فاعلمن يا بني القساورة الغل ... ب وأهل الصفا وأهل الحطيم
أن في شكر صالحينا لما يد ... حض قول المرهق الموصوم
قد رأى الله ما أتيت ولن ين ... قص نبح الكلاب زهر النجوم
فلما فرغ قال نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا. قال: وأهان نصر قيساً وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء:
لقد بغض الله الكرام إليكم ... كما بغض الرحمن قيساً إلى نصر
رأيت أبا ليث يهين سراتهم ... ويدنى إليه كل ذي والث غمر
وحجّ بالناس في هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكذلك قال الواقديّ أيضاً.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة
ذكر الإخبار عما كان فيها من الأحداث
ابتداء أمر أبي مسلم الخراسانيّ فممّا كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفّة يريدون مكّة، وشرّي بكير بن ماهان - في قول بعض أهل السير - أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس من عيسى بن معقل العجليّ.ذكر الخبر عن سبب ذلك وقد اختلف في ذلك؛ فأمّا عليّ بن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بن طلحة السّلميّ حدثه عن أبيه، قال: كان بكير بن ماهان كاتباً لبعض عمّال السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير وخليَ عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجليّ، ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بن معقل: ما هذا الغلام؟ قال: مملوك، قال: تبيعه؟ قال: هو لك، قال: أحبّ أن تأخذ ثمنه، قال: هو لك بما شئت؛ فأعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج، فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان.
وقال غيره: توجّه سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجليّ؛ وهو في الحبس، قد اتهم بالدّعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل؛ حبسهما يوسف بن عمر فيمن حبس من عمّال خالد بن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما؛ فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من السراجين - وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى - فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل.
وفي هذه السنة غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم.
وفيها مات - في قول الواقديّ - محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك حدّثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقديّ.
وحجّ في هذه السنة عبد العزيز بن الحجاع بن عبد الملك معه امرأته أمّ سلمة بنت هشام بن عبد الملك.
وذكر محمد بن عمر أن يزيد مولى أبي الزّناد حدّثه، قال: رأيت محمد ابن هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيرة، ويعتذر فتأبى؛ حتى كان يأيس من قبول هديّته، ثم أمرت بقبضها.
وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة اثنتين وعشرين ومائة وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.خبر وفاة هشام بن عبد الملك ومن ذلك وفاة هشام بن عبد الملك بن مروان فيها، وكانت وفاته - فيما ذكر أبو معشر - لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عنه.
وكذلك قال الواقديّ والمدائنيّ وغيرهما؛ غير أنهم قالوا: كانت وفاته يوم الأربعاء لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر، فكانت خلافته في قول جميعهم تسع عشرة سنة، وسبعة أشهر وأحداً وعشرين يوماً في قول المدائنيّ وابن الكلبيّ، وفي قول أبي معشر: وثمانية أشهر ونصفاً، وفي قول الواقديّ: وسبعة أشهر وعشر ليالٍ.
واختلف في مبلغ سنه، فقال هشام بن محمد الكلبيّ: توفي وهو ابن خمس وخمسين سنة. وقال بعضهم: توفّي وله اثنتان وخمسون سنة.
وقال محمد بن عمر: كان هشام يوم توفّي ابن أربع وخمسين سنة. وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وكان يكنى أبا الوليد.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاتهحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عليّ بن محمد، قال: حدثني شيبة بن عثمان، قال: حدّثني عمرو بن كليع؛ قال: حدّثني سالم أبو العلاء، قال: خرج علينا هشام بن عبد الملك يوماً وهو كئيب، يعرف ذلك فيه، مسترخ عليه ثيابه، وقد أرخى عنان دابته، فسار ساعة ثم انتبه، فجمع ثيابه وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع: ادع الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت منك شيئاً غمّني، قال: وما هو؟ قال: رأيتك قد خرجت على حال غمّني. قال: ويحك يا أبرش! وكيف لا أغتّمّ وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوماً! قال سالم: فرجعت إلى منزلي، فكتبت في قرطاس: " زعم أمير المؤمنين يوم كذا وكذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوماً " . فلمّا كان في الليلة التي استكمل فيها ثلاثة وثلاثين يوماً إذا خادم يدقّ الباب يقول: أجب أمير المؤمنين، واحمل معك دواء الذبحة - وقد كان أخذه مرّة فتعالج فأفاق - فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن فقال لي: يا سالم، قد سكن بعض ما كنت أجد؛ فانصرف إلى أهلك، وخلف الدوائ عندي. فانصرفت، فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ عليه، فقالوا: مات أمير المؤمنين! فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقماً يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوه حتى استعاروا قمقماً من بعض الجيران، فقال بعض من حضر ذلك: إن في هذا لمعتبراً لمن اعتبر. وكان وفاته بالذبحة فلما مات صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
ذكر بعض سير هشام
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عليّ بن محمد، عن وسنان الأعرجيّ، قال: حدّثني ابن أبي نحيلة، عن عقّال بن شيبه، قال: دخلت على هشام، وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان، وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن، فقال: ما لك؟ قلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك أخضر، فجعلت أتأمّل هذا، أهو ذاك أم غيره؟ فقال: هو والله الذي لا إله إلا، هو ذاك، ما لي قباء غيره. وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم. قال: وكان عقّال مع هشام. فأما شبّة أبو عقّال؛ فكان مع عبد الملك بن مروان، وكان عقّال يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشوّ عقلاً.
حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عليّ؛ قال: قال مروان بن شجاع؛ مولى لمروان بن الحكم: كنت مع محمد بن هشام بن عبد الملك، فأرسل إليّ يوماً، فدخلتُ عليه، وقد غضب وهو يتلهف، فقلت: مالك؟ فقال: رجل نصرانيّ شجّ غلامي - وجعل يشتمه - فقلت له: على رسلك! قال: فما أصنع؟ قلت: ترفعه إلى القاضي، قال: وما غير هذا! قلت: لا، قال خصيّ له: أنا أكفيك، فذهب فضربه. وبلغ هشاماً فطلب الخصيّ، فعاذ بمحمد، فقال محمد بن هشام: لم آمرك، وقال الخصيّ: بلى والله لقد أمرتني، فضرب هشام الخصيّ وشتم ابنَه.
وحدثني أحمد، قال عليّ: لم يكن أحد يسير في أيام هشام في موكب إلاّ مسلمة بن عبد الملك. قال: ورأى هشام يوماً سالماً في موكب، فزجره وقال: لأعلمنّ متى سرت في موكب. وكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم، ويقول: حاجتك، ويمنعه أن يسير معه، وكان سالم كأنه هو أمّر هشاماً.
قال: ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو؛ فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلاً.
قال: وكان لهشام بن عبد الملك مولىً يقال له يعقوب، فكان يأخذ عطاء هشام مائتي دينار وديناراً، يفضّل بدينار، فيأخذها يعقوب ويغزو. وكانوا يصيّرون أنفسَهم في أعوان الديّوان، وفي بعض ما يجوّز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم. وكان داود وعيسى ابنا عليّ بن عبد الله بن عباس - وهما لأمّ - في أعوان السّوق بالعراق لخالد بن عبد الله، فأقاما عنده، فوصلهما، ولولا ذلك لم يستطع أن يحبسهما، فصيّرهما في الأعوان، فسمرا، وكانا يسامرانه ويحدّثانه.
قال: فولى هشام بعض مواليه ضيعةً له، فعمرها فجاءت بلغة عظيمة كبيرة ثم عمّرها أيضاً، فأضعفت الغلّة، وبعث بها مع ابنه، فقدم بها على هشام، فأخبره خبر الضّيعة فجزاه خيراً، فرأى منه انبساطاً، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: زيادة عشرة دنانير في العطاء، فقال: ما يخيّل إلى أحدكم أن عشرة دنانير في العطاء إلا بقدر الجوز! لا لعمري لا أفعل.
حدّثني أحمد، قال: حدّثنا عليّ، قال: قال جعفر بن سليمان: قال لي عبد الله بن عليّ: جمعت دواوين بني مروان، فلم أر ديواناً أصحّ ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
حدثنا أحمد، قال: قال عليّ: قال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظراً في أمر أصحابي ودواوينه، ولا أشدّ مبالغة في الفحص عنهم من هشام.
حدّثني أحمد، قال: حدثنا عليّ، قال: قال حماد الأبحّ: قال هشام لغيلان: ويحك يا غيلان! قد أكثر الناس فيك، فنازعنا بأمرك، فإن كان حقاً اتّبعناك، وإن كان باطلاً نزعت عنه، قال: نعم، فدعا هشام ميمون بن مهران ليكلمه، فقال له ميمون: سل؛ فإن أقوى ما تكونون إذا سألتم، قال له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارهاً! فسكت، فقال هشام: أجبه فلم يجبه، فقال له هشام: لا أقالني الله إن أقلتُه؛ وأمر بقطع يديه ورجليه.
حدّثني أحمد، قال: حدّثنا عليّ عن رجل من غنيّ، عن بشر مولى هشام، قال: أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه وضربه، فبكى الشيخ. قال بشر: فقلت له - وأنا أعزّيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضّرب! إنما أبكي لاحتقاره للبربط إذ سماه طنبوراً! قال: وأغلظ رجل لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك! قال: وتفقّد هشام بعض ولده - ولم يحضر الجمعة - فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة! فمنعه الدّابّة سنة.
قال: وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إنّ بغلتي قد عجزت عني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابّة فعل. فكتب إليه: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظنّ أمير المؤمنين أن ذلك من قلة تعهّدك لعلفها، وأنّ علفها يضيع، فتعهد دابتك في القيام عليها بنفسك، ويرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك.
قال: وكتب إليه بعض عمّاله: إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن؛ فليكتب إليّ أمير المؤمنين بوصولها. فكتب إليه: قد وصل إلى أمير المؤمنين الدرّاقن الذي بعثتَ به فأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء.
قال: وكتب إلى بعض عمّاله: قد وصلت الكمأة التي بعثت بها إلى أمير المؤمنين؛ وهي أربعون، وقد تغيّر بعضها، ولم تؤت في ذلك إلا من حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين منها شيئاً فأجد حشوها في الظرف الذي تجعلها فيه بالرمل؛ حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضاً.
حدّثني أحمد، قال: حدثني عليّ، قال: حدّثنا الحارث بن يزيد، قال: حدّثني مولى لهشام، قال: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطيرين ظريفين، فدخلت إليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فاقل: أرسلهما في الدار، قال: فأرسلتهما فنظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، جائزتي، قال: ويلك! وما جائزة طيرين؟ قلت: ما كان، قال: خذ أحدهما، فعدوت في الدار عليهما، فقال: ما لك؟ قلت: أختار خيرهما، قال: أتختار أيضاً خيرهما وتدع شرهما لي! دعهما ونحن نعطيك أربعين درهماً أو خمسين درهماً.
قال: وأقطع هشام أرضاً يقال لها دورين، فأرسل في قبضها؛ فإذا هي خراب، فقال لذويد كاتب كان بالشأم: ويحك! كيف الحيلة؟ قال: ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار، فكتب دورين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، فأخذ شيئاً كثيراً، فلما ولى هشام دخل عليه ذويد، فقال له هشام: دورين وقراها! لا والله لا تلي لي ولاية أبداً، وأخرجه من الشأم.
حدّثني أحمد، قال: حدّثنا عليّ، عن عمير بن يزيد، عن أبي خالد، قال: حدّثني الوليد بن خليد، قال: رآني هشام بن عبد الملك، وأنا على برذون طخارى، فقال: يا وليد بن خليد، ما هذا البرذون؟ قلت: حملني عليه الجنيد، فحسدني وقال: والله لقد كثرت الطخارية، لقد مات عبد الملك فما وجدنا في دوابه برذوناً طخارياً غير واحد، فتنافسه بنو عبد الملك أيهم يأخذه؛ وما منهم أحد إلا يرى أنه إن لم يأخذه لم يرث من عبد الملك شيئاً.
قال: وقال بعض آل مروان لهشام: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف! قال: وقال هشام يوماً للأبرش: أوضعت أعنزك؟ قال: إي والله، قال: لكن أعنزي تأخّر ولادها، فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قال: نعم، أفأقدّم قوماً؟ قال: لا، قال: أفأقدّم خباءً حتى يضرب لنا؟ قال: نعم، فبعث برجلين بخباء فضرب، وغدا هشام والأبرش وغدا الناس، فقعد هشام والأبرش؛ كلّ واحد منهما على كرسيّ، وقدّم إلى كلّ واحد منهما شاة، فحلب هشام الشاة بيده، وقال: تعلم يا أبرش أني لم أبسّ الحلب! ثم أمر بملة فعجنت وأوقد النار بيده، ثم فحصها وألقى الملة، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: يا أبرش، كيف ترى رفقي! حتى نضجت ثم أخرجها، وجعل يقلّبها بالمحراث، ويقول: جبينك جبينك. والأبرش يقول: لبّيك لبيك - وهذا شيء تقوله الصبيان إذا خبزت لهم الملة - ثم تغدّى وتغدّى الناس ورجع.
قال: وقدم علباء بن منظور الليثيّ على هشام، فأنشده:
قالت علية واعتزمت لرحلة ... زوراء بالأذنين ذات تسدر
أين الرحيل وأهل بيتك كلهم ... كل عليك كبيرهم كالأصغر!
فأصاغر أمثال سلكان القطا ... لا في ثرى مال ولا في معشر
إني إلى ملك الشآم لراحل ... وإليه يرحل كل عبد موقر
فلأتركنك إن حييت غنية ... بندى الخليفة ذي الفعال الأزهر
إنا أناس ميت ديواننا ... ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر
فقال له هشام: هذا الذي كنت تحاول، وقد أحسنت المسألة. فأمر له بخمسمائة درهم، وألحق له عيلاً في العطاء.
قال: وأتى هشاماً محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. فقال: ما لك عندي شيء. ثم قال: إيّاك أن يغرّك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين؛ إني قد عرفتك؛ أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلا تقيمنّ وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة، فالحق بأهلك.
قال: ووقف هشام يوماً قريباً من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بن حيان المري، وعثمان قائم يكاد رأسه يوازي رأس أمير المؤمنين وهو يكلمه إذ سمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطاً، ولا تنفضوه نفضاً، فتتفقّأ عيونه، وتتكسر غصونه.
قال: وحجّ هشام، فأخذ الأبرش مخنثين ومعهم البرابط، فقال هشام: احبسوهم وبيعوا متاعهم - وما درى ما هو - وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردّوا عليهم الثمن.
وكان هشام بن عبد الملك ينزل الرصافة - وهي فيما ذكر - من أرض قنسرين. وكان سبب نزوله إياها - فيما حدّثني أحمد بن زهير بن حرب، عن عليّ بن محمد - قال: كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدّون ويهربون من الطاعون، فينزلون البريّة خارجاً عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج؛ فإنّ الخلفاء لا يطعنون؛ ولم نر خليفة طعن، قال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، ابتنى بها قصرين، والرصافة مدينة رومية بنتها الروم.
وكان هشام أحول، فحدثني أحمد، عن عليّ، قال: بعث خالد بن عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بحادٍ فحدا بين يديه بأرجوزة أبي النجم:
والشمس في الأفق كعين الأحول ... صغواء قد همت ولما تفعل
فغضب هشام وطرده.
وحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عليّ بن محمد، قال: حدثنا أبو عاصم الضبيّ، قال: مرّ بي معاوية بن هشام، وأنا أنظر إليه في رحبة أبي شريك - وأبو شريك رجل من العجم كانت تنسب إليه وهي مزرعة - وقد اختبز خبزة، فوقف عليّ، فقلت: الغداء! فنزل وأخرجتها، فوضعتها في لبن، فأكل ثم جاء الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاوية بن هشام، فأمر لي بصلة. وركب وثار بين يديه ثعلب، فركض خلفه، فما تبعه غلوة؛ حتى عثر به فرسه فسقط فاحتملوه ميتاً، فقال هشام: تالله لقد أجمعت أن أرشحه للخلافة، ويتبع ثعلباً! قال: وكانت عند معاوية بن هشام ابنة إسماعيل بن جرير وامرأة أخرى، فأخرج هشام كلّ واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألفاً.
حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا، عليّ، قال: قال قحذم كاتب يوسف: بعثني يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفي، وحبّة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحبّ، فدخلت عليه فدنوت منه، فلم أر وجهه من طول السرير وكثرة الفرش، فتناول الحجر والحبّة، فقال: أكتب معك بوزنهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ هما أجلّ عن أن يكتب بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما! قال: صدقت، وكانت الياقوتة للرائقة جارية خالد بن عبد الله، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار.
حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، قال: حدّثنا حسين بن يزيد، عن شهاب بن عبد ربّه، عن عمرو بن عليّ، قال: مشيت مع محمد بن عليّ إلى داره عند الحمّام، فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين. وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس! ولكن أبي حدّثني عن أبيه، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لن يعمّر الله ملكاً في أمة نبيّ مضى قبله ما بلغ بذلك النبيّ من العمر " .
وفي هذه السنة ولي الخلافة بعد موت هشام بن عبد الملك الوليد بن يزيد ابن عبد الملك بن مروان، وليها يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة في قول هشام بن محمد الكلبيّ.
وأما محمد بن عمر فإنه قال: استُخلف الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين ومائة.
وقال في ذلك عليّ بن محمد مثل قول محمد بن عمر.
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروانذكر الخبر عن بعض أسباب ولايته الخلافة
قد مضى ذكرى سبب عقد أبيه يزيد بن عبد الملك بن مروان له الخلافة بعد أخيه هشام بن عبد الملك؛ وكان الوليد بن يزيد يوم عقد له أبوه يزيد ذلك ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنُه الوليد خمس عشرة سنة، فندم يزيد على استخلافه هشاماً أخاه بعده؛ وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد، قال: الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك! فتوفيَ يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد ابن خمسة عشرة سنة.وولى هشام وهو للوليد مكرّم معظم مقرّب؛ فلم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد بن يزيد مجون وشرب الشراب؛ حمله على ذلك - فيما حدّثني أحمد بن زهير، عن عليّ ابن محمد، عن جويرية بن أسماء وإسحاق بن أيوب وعامر بن الأسود وغيرهم - عبد الصمد بن عبد الأعلى الشبّانيّ أخو عبد الله بن عبد الأعلى - وكان مؤدّب الوليد - واتّخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحجّ سنة تسع عشرة ومائة، فحمل معه كلاباً في صناديق، فسقط منها صندوق - فيما ذكر عليّ بن محمد عمّن سميت من شيوخه - عن البعير وفيه كلب، فأجالوا على لاكريّ السياط، فأوجعوه ضرباً. وحمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمراً، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة؛ ويجلس فيها؛ فخوّفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك؛ فلم يحرّكها. وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشاماً فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة؛ فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك؛ فأبى، فتنكر له هشام وأضرّ به، وعمل سرّاً في البيعة لابنه؛ فأجابه قوم. قال: فكان ممن أجابه خالاه: محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزوميّ، وبنو القعقاع بن خليد العبسيّ وغيرهم من خاصّته.
قال: وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به! فكتب إليه الوليد:
يأيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفاً وممزوجة ... بالسخن أحياناً وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة - وكان يكنى أبا شاكر - وقال له: يعيّرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة! فالزم الأدب واحضر الجماعة.
وولاّه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالاً، فقال مولى لأهل المدينة:
يأيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر
يعرّض بالوليد.
وأمّ مسلمة بن هشام أمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص. فقال الكميت:
إن الخلافة كائن أوتادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
فقال خالد بن عبد الله القسريّ: أنا برىء من خليفة يكنى أبا شاكر؛ فغضب مسلمة بن هشام على خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد ابن عبد الله، كتب أبو شاكر إلى خالد بن عبد الله بعشر هجا به يحيى بن نوفل خالداً وأخاه أسداً حين مات:
أراح من خالد وأهلكه ... رب أراح العباد من أسد
أما أبوه فكان مؤتشباً ... عبداً لئيماً لأعبد قفد
وبعث بالطومار مع رسول على البرييد إلى خالد؛ فظنّ أنه عزاه عن أخيه، ففضّ الخاتم، فلم ير في الطومار غير الهجاء، فقال: ما رأيت كاليوم تعزية! وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه، وكشر عبثه به وبأصحابه وتقصيره به، فلمّا رأى ذلك الوليد خرج وخرج معه ناس من خاصّته ومواليه، فنزل بالأزرق؛ بين أرض بلقين وفزارة، على ماء يقال له الأغدف، وخلف كاتبه عياض ابن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرصافة، فقال له: اكتب إليّ بما يحدث قبلكم. وأخرج معهه عبد الصمد بن عبد الأعلى، فشربوا يوماً فلما أخذ فيهم الشراب، قال الوليد لعبد الصمد: يا أبا وهب، قل أبياتاً، فقال:
ألم تر للنجم إذ شيعا ... يبادر في برجه المرجعا
تحير عن قصد مجراته ... أتى الغور والتمس المطلعا
فقلت وأعجبني شأنه ... وقد لاح إذ لاح لي مطمعا:
لعل الوليد دنا ملكه ... فأمسى إليه قد استجمعا
وكنا نؤمل في ملكه ... كتأميل ذي الجدب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو ... ر طوعاً فكان لها موضعا
وروى الشعر؛ فبلغ هشاماً، فقطع عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكتب إلى الوليد: بلغني عنك أنك اتخذت عبد الصمد خدناً ومحدثاً ونديماً؛ وقد حقق ذلك عندي ما بلغني عنك، ولم أبرئك من سوء، فأخرج عبد الصمد مذموماً مدحوراً. فأخرجه، وقال فيه:
لقد قذفوا أبا وهب بأمر ... كبير بل يزيد على الكبير
فأشهد أنهم كذبوا عليه ... شهادة عالم بهم خبير
وكتب الوليد إلى هشام يعلمه إخراج عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه من منادمته، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه - وكان ابن سهيل من أهل اليمن وقد ولي دمشق غير مرّة، وكان ابن سهيل من خاصّة الوليد - فضرب هشام ابن سهيل وسيّره، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد، وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد، فضربه ضرباً مبرحاً، وألبسه المسوح. فبلغ الوليد، فقال: من يثق بالناس، ومن يصطنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدّمه أبي على أهل بيته فصيّره وليّ عهده، ثم يصنع بي ما ترون؛ لا يعلم أنّ لي في أحد هوىً إلا عبث به، كتب إليّ أن أخرج عبد الصمد فأخرجته إليه، وكتبت إليه أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليّ، فضربه وسيّره، وقد علم رأي فيه، وقد علم انقطاع عياض بن مسلم إليّ، وتحرّمه بي ومكانه مني وأنه كاتبي، فضربه وحبسه، يضارّني بذلك؛ اللهم أجرني منه! وقال:
أنا النذير لمسدي نعمة أبداً ... إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطراً ... وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتشمخون ومنّا رأس نعمتكم ... ستعلمون إذا كانت لنا دولا
انظر فإن كنت لم تقدر على مثل ... له سوى الكلب فاضربه له مثلا
بينا يسمنه للصيد صاحبه ... حتى إذ ما قوى من بعد ما هزلا
عدا عليه فلم تضرره عدوته ... ولو أطاق له أكلا لقد أ:لا
وكتب إلى هشام: لقد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عنّي، ومحو ما محا من أصحابي وحرمي وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتليَ الله أمير المؤمنين بذلك ولا أبالي به منه؛ فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فبحسب العير أن يكون قدر الذئب؛ ولم يبلغ من صنيعي في ابن سهيل واستصلاحه، وكتابي إلى أمير المؤمنين فيه كنه ما بلغ أمير المؤمنين من قطيعتي؛ فإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين عليّ، فقد سبّب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدتّه، ولا صرف شيء عن مواقعه؛ فقدر الله يجري بمقاديره فيما أحبّ الناس أو كرهوا، ولا تأخير لعاجله ولا تعجيل لآجله؛ فالناس بين ذلك يقترفون الآثام على نفوسهم من الله، ولا يستوجبون العقوبة عليه؛ وأمير المؤمنين أحقّ أمته بالبصر بذلك والحفظ له، والله الموفّق لأمير المؤمنين بحسن القضاء له في الأمور.
فقال هشام لأبي الزبير: يا نسطاس، أترى الناس يرضون بالوليد إن حدث بي حدث؟ قال: بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! لا بدّ من الموت؛ أفترى الناس يرضون بالوليد؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ له في أعناق الناس بيعة، فقال هشام: لئن رضي الناس بالوليد ما أظن الحديث الذي رواه الناس: " إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار " ، إلا باطلاً.
وكتب هشام إلى الوليد:
قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع عنك وغير ذلك؛ وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجري عليك؛ ولا يتخوّف على نفسه اقتراف المآثم في الذي أحدث من قطع ما قطع، ومحو من محا من صحابتك، لأمرين: أمّا أحدهما فإيثار أمير المؤمنين إياك بما كان يجري عليك؛ وهو يعلم وضعك له وإنفاقكه في غير سبيله، وأما الآخر فإثبات صحابتك، وإدرار أرزاقهم عليهم؛ لا ينالهم ما ينال المسلمين في كلّ عام من مكروه عند قطع البعوث، وهم معك تجول بهم في سفهك؛ ولأمير المؤمنين أحرى في نفسه للتقصير في القتر عليك منه للاعتداء عليك فيها؛ مع أن الله قد نصر أمير المؤمنين في قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجو به تكفير ما يتخوّف مما سلف فيه منه. وأما ابن سهيل فلعمري لئن كان نزل منك بما نزل، وكان أهلاً أن تسر فيه أو تساء؛ ما جعله الله كذلك؛ وهل زاد ابن سهيل - لله أبوك - على أن كان مغنياً زفاناً، قد بلغ في السفه غايته! وليس ابن سهيل مع ذلك بشر ممن تستصحبه في الأمور التي يكرم أمير المؤمنين نفسه عن ذكرها، مما كنت لعمر الله أهلاً للتوبيخ به؛ ولئن كان أمير المؤمنين على ظنك به في الحرص على فسادك؛ إنك إذاً لغير آلٍ عن هوى أمير المؤمنين من ذلك.
وأما ما ذكرت مما سبب الله لك؛ فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك، واصطفاه له؛ والله بالغ أمره. لقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من رّبه؛ أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاه من كرامته ضراً ولا نفعاً؛ وإن الله ولي ذلك منه؛ وإنه لا بدّ له من مزايلته؛ والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضيّ له منهم. وإنّ أمير المؤمنين من حسن ظنه بربّه لعلي أحسن الرجاء أن يوليه تسبيب ذلك لمن هو أهله في الرضا له به ولهم؛ فإنّ بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره، أو يؤديه شكره؛ إلا بعون منه؛ ولئن كان قدر لأمير المؤمنين تعجيل وفاة، إنّ في الذ يهو مفض إليه إن شاء الله من كرامة الله لخلفاً من الدنيا. ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك، فاربع على نفسك من غلواتها، وارقأ على ظلعك؛ فإن لله سطوات وعيناً؛ يصيب بذلك من يشاء، ويأذن فيه لمن يشاء ممن شاء الله؛ وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه وأرضاها له.
فكتب الوليد إلى هشام:
رأيتك تبني جاهداً في قطيعتي ... لو كنت ذا إرب لهدمت ما تبني
تثير على الباقين مجنى ضغينة ... فويل لهم إن مت من شر ما تجني!
كأني بهم والليت أفضل قولهم ... ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني
كفرت يداً من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمنِّ
قال: فلم يزل الوليد مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام؛ فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة، أرسل إلى أبي الزبير المنذر بن أبي عمرو، فأتاه فقال له: يا أبا الزبير؛ ما أتت عليّ ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة؛ عرضت لي هموم، وحدّثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل؛ الذي قد أولع بي - يعني هشاماً - فاركب بنا نتنفس؛ فركبا، فسارا ميلين؛ ووقف على كثيب، وجعل يشكو هشاماً إذ نظر إلى رهج، فقال: هؤلاء رسل هشام؛ نسأل الله من خيرهم، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان؛ أحدهما مولىً لأبي محمد السفيانيّ، والآخر جردبة.
فلما قربا أتيا الوليد، فنزلا يعدوان حتى دنوا منه؛ فسلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعل جردبة يكرّر عليه السلام بالخلافة، فقال: ويحك! أمات هشام! قال: نعم؛ قال فممّن كتابك؟ قال: من مولاك سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأ الكتاب وانصرفا، فدعا مولى أبي محمد السفيانيّ، فسأله عن كاتبه عياض بن مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين؛ لم يزل محبوساً حتى نزل بهشام أمر الله. فلما صار في حدّ لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان؛ أن احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلنّ أحد منه إلى شيء. وأفاق هشام غفاقةً، فطلب شيئاً فمنعوه فقال: أرانا كنا خزاناً للوليد! ومات من ساعته. وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه؛ فما وجدوا له قمقماً يسخّن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفناً من الخزائن؛ فكفنّه غالب مولى هشام؛ فكتب الوليد إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة، فيحصيَ ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عمّاله وحشمه؛ إلا مسلمة بن هشام؛ فإنه كتب إليه ألاّ يعرض له، ولا يدخل منزله؛ فإنه كان يكثر أن يكلم أبه في الرّفق به، ويكفه عنه. فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به إليه الوليد؛ وكتب إلى الوليد بأخذ بني هشام وحشمه وإحصاء أموال هشام، فقال الوليد:
ليت هشاماً كان حياً يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
ويروى:
ليت هشاماً عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبّعا
كلناه بالصاع الذي كاله ... وما ظلمناه به إصبعا
وما أتينا ذاك عن بدعة ... أحله الفرقان لي أجمعا
فاستعمل الوليد العمّال، وجاءته بيعته من الآفاق؛ وكتب إليه العمّال، وجاءته الوفود؛ وكتب إليه مروان بن محمد: بارك الله لأمير المؤمنين فيما أصاره إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده؛ وكان من تغشى غمرة سكرة الولاية ما حمل هشاماً على ما حاول من تصغير ما عظّم الله من حقّ أمير المؤمنين، ورام من الأمر المستصعب عليه؛ الذي أجابه إليه المدخولون في آرائهم وأديانهم؛ فوجد ما طمع فيه مستصعباً، وزاحمته الأقدار بأشدّ مناكبها. وكان أمير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى أزّره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه الله له أهلاً، ونهض متسقلاً بما حمل منها، مثبتة ولايته في سابق الزبر بالأجل المسمى، وخصّه الله بها على خلقه وهو يرى حالاتهم، فقلّده طوقها، ورمى إليه بأزمّة الخلافة، وعصم الأمور.
فالحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته، ووثائق عرى دينه، وذبّ له عما كاده فيه الظالمون، فرفعه ووضعهم؛ فمن أقام على تلك الخسيسة من الأمور أوبق نفسه، وأسخط ربه، ومن عدلت به التوبة نازعاً من الباطل إلى حقّ وجد الله تواباً رحيماً.
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أني عندما انتهى إليّ من قيامه بولاية خلافة الله، نهضت إلى منبري؛ عليّ سيفان مستعداً بهما لأهل الغشّ، حتى أعلمت من قبلي ما امتنّ الله به عليهم من ولاية أمير المؤمنين، فاستبشروا بذلك، وقالوا: لم تأتنا ولاية خليفة كانت آمالنا فيها أعظم ولا هي لنا أسرّ من ولاية أمير المؤمنين؛ وقد بسطت يدي لبيعتك فجدّدتها ووكدّتها بوثائق العهود وترداد المواثيق وتغليظ الأيمان، فكلهم حسنت إجابتهم وطاعتهم، فأثبهم يا أمير المؤمنين بطاعتهم من مال الله الذي آتاك؛ فإنك أجودهم جوداً وأبسطهم يداً؛ وقد انتظروك راجين فضلك قبلهم بالرّحم الذي استرحموك، وزدهم زيادة يفضل بها من كان قبلك؛ حتى يظهر بذلك فضلك عليهم وعلى رعيّتك؛ ولولا ما أحاول من سدّ الثغر الذي أنا به، لخفت أن يحملني الشوق إلى أمير المؤمنين أن أستخلف رجلاً على غير أمره، وأقدم لمعاينة أمير المؤمنين؛ فإنها لا يعدلها عندي عادل نعمة وإن عظمت؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في المسير إليه لأشافهه بأمور كرهت الكتاب بها فعل.
فلما وليَ الوليد أجرى على زمني أهل الشأم وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم؛ وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة؛ وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام، وزاد الناس جميعاً في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشأم بعد زيادة العشرات عشرة عشرة؛ لأهل الشأم خاصّة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف، وكان وهو ليّ عهد يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلاً، ويطعم من صدر عن الحجّ بمنزل يقال له زيزاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابّهم، ولم يقل في شي يسأله: لا، فقيل له: إن في قولك: أنظر، عدّة ما يقيم عليها الطالب؛ فقال: لا أعوّد لساني شيئاً لم أعتده، وقال:
ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
سيوشك إلحاق معاً وزيادة ... وأعطية منّي عليكم تبرع
محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتّاب شهراً وتطبع
وفي هذه السنة عقد الوليد بن يزيد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده، وجعلهما وليّي عهده؛ أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدّماً على عثمان، وكتب بذلك إلى الأمصار؛ وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بن سيار؛ وكانت نسخة الكتاب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار؛ أما بعد فإني بعثت إليك نسخة كتاب أمير المؤمنين الذي كتب به إلى من قبلي في الذي ولّى الحكم ابن أمير المؤمنين وعثمان ابن أمير المؤمنين من العهد بعده مع عقّال بن شبّة التميميّ وعبد الملك القينيّ، وأمرتهما بالكلام في ذلك؛ فإذا قدما عليك فاجمع لقراءة كتاب أمير المؤمنين الناس، ومرهم فليحشدوا له، وقم فيهم بالذي كتب أمير المؤمنين؛ فإذا فرغت فقمم بقراءة الكتاب، وأذن لمن أراد أن يقوم بخطبة، ثم بايع الناس لهما على اسم الله وبركته، وخذ عليهم العهد والميثاق على الذي نسخت لك في آخر كتابي هذا الذي نسخ لنا أمير المؤمنين في كتابه، فافهمه وبايع عليه، نسأل الله أن يبارك لأمير المؤمنين ورعيّته في الذي قضى لهم على لسان أمير المؤمنين، وأن يصلح الحكم وعثمان، ويبارك لنا فيهما؛ والسلام عليك.
وكتب النضر يوم الخميس للنصف من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة.
بسم الله الرحمن الرحيم. تبايع لعبد الله الوليد أمير المؤمنين والحكم ابن أمير المؤمنين إن كان من بعده وعثمان ابن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم على السمع والطاعة؛ وإن حدث بواحد منهما حدث فأمير المؤمنين أملك في ولده ورعيته، يقدّم من أحبّ، ويؤخر من أحب. عليك بذلك عهد الله وميثاقه؛ فقال الشاعر في ذلك:
نبايع عثمان بعد الولي ... د للعهد فينا ونرجو يزيدا
كما كان إذ ذاك في ملكه ... يزيد يرجى لذاك الوليدا
على أنها شسعت شسعةً ... فنحن نومّلها أن تعودا
فإن هي عادت فأرض القري ... ب عنها ليؤيس منها البعيدا
قال أحمد: قال عليّ عن شيوخه الذين ذكرت: فقدم عقّال بن شبّة وعبد الملك بن نعيم على نصر، وقدما بالكتاب وهو:
أما بعد؛ فإنّ الله تباركت أسماؤه، وجلّ ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار الإسلام ديناً لنفسه، وجعله دين خيرته من خلقه، ثم اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس؛ فبعثهم به، وأمرهم به؛ وكان بينهم وبين من مضى من الأمم، وخلا من القرون قرناً فقرناً؛ يدعون إلى التي هي أحسن، ويهدون إلى صراط مستقيم؛ حتى انتهت كرامة الله في نبوّته إلى محمد صلوات الله عليه؛ على حين دروس من العلم، وعميً من الناس، وتشتيت من الهوى، وتفرّقٍ من السبل، وطموس من أعلام الحقّ؛ فأبان الله به الهدى، وكشف به العمى، واستنقذ به من الضلالة والردى، وأبهج به الدين، وجعله رحمةً للعالمين، وختم به وحيه، وجمع له ما أكرم به الأنبياء قبله؛ وقفّى به على آثارهم؛ مصدّقاً لما نزل معهم، ومهيمناً عليه، وداعياً إليه، وآمراً به؛ حتى كان من أجابه من أمته، ودخل في الدين الذي أكرمهم الله به، مصدّقين لما سلف من أنبياء الله فيما يكذّبهم فيه قومهم، منتصحين لهم فيما ينهونه، ذابّين لحرمهم عما كانوا منتهكين؛ معظمين منها لما كانوامصغّرين؛ فليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد كان يسمع لأحد من أنبياء الله فيما بعثه الله به مكذباً، ولا عليه في ذلك طاعناً، ولا له مؤذياً، بتسفيه له، أو ردٍّ عليه؛ أو جحد ما أنزل الله عليه ومعه، فلم يبق كافر إلا استحلّ بذلك دمه، وقطع الأسباب التي كانت بينه وبينه؛ وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم. ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوّته؛ حين قبض نبيّه صلى الله عليه وسلم، وختم به وحيه لإنفاذ حكمه، وإقامة سنّته وحدوده، والأخذ بفرائضه وحقوقه، تأييداً بهم للإسلام، وتشييداً بهم لعراه؛ وتقويةً بهم لقوى حبله، ودفعاً بهم عن حريمه، وعدلاً بهم بين عباده، وإصلاحاً بهم لبلاده؛ فإنه تبارك وتعالى يقول: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " ، فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه، واستخلفهم عليه منه؛ لا يتعرّض لحقهم أحد إلا صرعه الله، ولا يفارق جماعتهم أحد إلاّ أهلكه الله؛ ولا يستخف بولايتهم، ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم الله منه، وسلطهم عليه، وجعله نكالاً وموعظة لغيره؛ وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها، والأثرة لها؛ والتي قامت السموات والأرض بها؛ قال الله تبارك وتعالى: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " ، وقال عزّ ذكره: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " .
فبالخلافة أبقى الله من أبقى في الأرض من عباده، وإليها صيّره، وبطاعة من ولاّه إياها سعد من ألهمها ونصرها؛ فإن الله عزّ وجلّ علم أن لا قوام لشيء، ولا صلاح له إلا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقه، ويمضي بها أمره، وينكل بها عن معاصيه، ويوقف عن محارمه، ويذبّ عن حرماته؛ فمن أخذ بحظه منها كان لله ولياً ولأمره مطيعاً، ولرشده مصيباً، ولعاجل الخير وآجله مخصوصاً؛ ومن تركها ورغب عنها وحاد الله فيها أضاع نصيبه، وعصى ربّه، وخسر دنياه وآخرته؛ وكان ممن غلبت عليه الشقوة، واستحوذت عليه الأمور الغاوية، التي تورد أهلها أفظع المشارع، وتقودهم إلى شرّ المصارع، فيما يحلّ الله بهم في الدنيا من الذلة والنقمة، ويصيّرهم فيما عندهم من العذاب والحسرة.
والطاعة رأس هذا الأمر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه، وعصمته وقوامه، بعد كلمة الإخلاص التي ميّز الله بها بين العباد. وبالطاعة نال المفلحون من الله منازلهم، واستوجبوا عليه ثوابهم، وفي المعصية مما يحلّ بغيرهم من نقماته، ويصيبهم عليه، ويحق من سخطه وعذابه، وبترك الطاعة والإضاعة لها والخروج منها والإدبار عنها والتبذّل للمعصية بها، أهلك الله من ضلّ وعتا، وعمى وغلا، وفارق مناهج البرّ والتقوى.
فالزموا طاعة الله فيما عراكم ونالكم؛ وألمّ بكم من الأمور، وناصحوها واستوثقوا عليها، وسارعوا غليها وخالصوها، وابتغوا القربة إلى الله بها؛ فإنكم قد رأيتم مواقع الله لأهلها في إعلائه إياهم، وإفلاجه حجّتهم، ودفعه باطل من حادهم وناورأهم وساماهم، وأراد إطفاء نور الله الذي معهم. وخبرتم مع ذلك ما يصير إليه أهل المعصية من التوبيخ لهم والتقصير بهم؛ حتى يؤول أمرهم إلى تبار وصغار، وذلة وبوار؛ وفي ذلك لمن كان له رأي وموعظة عبرة ينتفع بواضحها، ويتمسّك بحظوتها؛ ويعرف خيرة قضاء الله لأهلها.
ثم إن الله - وله الحمد والمنّ والفضل - هدى الأمة لأفضضل الأمور عاقبةً لها في حقن دمائها، والتئام ألفتها، واجتماع كلمتها، واعتدال عمودها، وإصلاح دهمائها؛ وذخر النعمة عليها في دنياها، بعد خلافته التي جعلها لهم نظاماً، ولأمرهم قواماً؛ وهو العهد الذي ألهم الله خلفاءه توكيده والنظر للمسلمين في جسيم أمرهم فيه؛ ليكون لهم عندما يحدث بخلفائهم ثقةً في المفزع وملتجأ في الأمر، ولما للشعث، وصلاحاً لذات البين، وتثبيتاً لأرجاء الإسلام، وقطعاً لنزغات الشيطان؛ يما يتطلع إليه أولياؤه، ويوثبهم عليه من تلف هذا الدين وانصداع شعب أهله، واختلافهم فيما جمعهم الله عليه منه؛ فلا يريهم الله في ذلك إلاّ ما ساءهم، وأكذب أمانيهم، ويجدون الله قد أحكم بما قضى لأوليائه من ذلك عقد أمورهم، ونفى عنهم من أراد فيها إدغالاً أو بها إغلالا، أو لما شدّد الله منها توهيناً، أو فيما تولّى الله منها اعتماداً، فأكمل الله بها لخلفائه وحزبه البر الذين أودعهم طاعته أحسن الذي عوّدهم، وسبّب لهم من إعزازه وأكرامه وإعلائه وتمكينه؛ فأمر هذا العهد من تمام الإسلام، وكمال ما استوجب الله على أهله من المنن العظام؛ ومما جعل الله فيه لمن أجراه على يديه، وقضى به على لسانه، ووفقه لمن ولاه هذا الأمر عنده أفضل الذخر؛ وعند المسلمين أحسن الأثر فيما يؤثر بهم من منفعته، ويتّسع لهم من نعمته، ويستندون إليه من عزّه، ويدخلون فيه من وزره الذي يجعل الله لهم به منعة، ويحرزهم به من كلّ مهلكة، ويجمعهم به من كلّ فرقة، ويقمع به أهل النّفاق، ويعصمهم به من كلّ اختلاف وشقاق. فاحمدوا الله ربكم الرءوف بكم، الصانع لكم في أموركم على الذي دلّكم عليه من هذا العهد؛ الذي جعله لكم سكناً ومعوّلاً تطمئنون إليه، وتستظلون في أفنانه؛ ويستنهج لكم به مثنى أعناقكم، وسمات وجوهكم، وملتقى نواصيكم في أمر دينكم ودنياكم؛ فإنّ لذلك خطراً عظيماً من النعمة؛ وإنّ فيه من الله بلاء حسناً في سعة العافية؛ يعرفه ذوو الألباب والنيات المريئون من أعمالهم في العواقب، والعارفون منار مناهج الرشد؛ فأنتم حقيقون بشكر الله فيما حفظ به دينكم وأمر جماعتكم من ذلك، جديرون بمعرفة كنه واجب حقه فيه، وحمده على الذي عزم لكم منه؛ فلتكن منزلة ذلك منكم، وفضيلته في أنفسكم على قدر حسن بلاء الله عندكم فيه إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله.
ثم إنّ أمير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الأمور أشد اهتماماً وعناية منه بهذا العهد؛ لعلمه بمنزلتهمن أمر المسلمين، وما أراهم الله فيه من الأمور التي يغتبطون بها، ويكرمهم بما يقضي لهم ويختار له ولهم فيه جهده؛ ويستقضي له ولهم فيه إلهه ووليّه؛ الذي بيده الحكم وعند الغيب، وهو على كل شيء قدير. ويسأله أن يعينه من ذلك على الذي هو أرشد له خاصة وللمسلمين عامة.
فرأى أمير المؤمنين أن يعهد لكم عهداً بعد عهد، تكونون فيه على مثل الذي كان عليه من كان قبلكم، في مهلة من انفساح الأمل وطمأنينة النفس، وصلاح ذات البين؛ وعلم موضع الأمر الذي جعله الله لأهله عصمةً ونجاةً وصلاحاً وحياة، ولكل منافق وفاسق يحبّ تلف هذا الدّين وفساد أهله وقماً وخساراً وقدعاً. فولّى أمير المؤمنين ذلك الحكم ابن أمير المؤمنين، وعثمان ابن أمير المؤمنين من بعده، وهما ممّن يرجو أمير المؤمنين أن يكون الله خلقه لذلك وصاغه، وأكمل فيه أحسن مناقب من كان يوليه إياه، في وفاء الرّأي وصحة الدين، وجزالة المروءة والمعرفة بصالح الأمور، ولم يألكم أمير المؤمنين ولا نفسه في ذلك اجتهاداً وخيراً.
فبايعوا للحكم ابن أمير المؤمنين باسم الله وبركته ولأخيه من بعده؛ على السمع والطاعة، واحتسبوا في ذلك أحسن ما كان الله يريكم ويبليكم ويعوّدكم ويعرّفكم في أشباهه فيما مضى، من اليسر الواسع والخير العام، والفضل العظيم الذي أصبحتم في رجائه وخفضه وأمنه ونعمته، وسلامته وعصمته. فهو الأمر الذي استبطأتموه واستسرعتم إليه، وحمدتم الله على إمضائه إياه، وقضائه لكم، وأحدثتم فيه شكراً، ورأيتموه لكم حظاً، تستبقونه وتجهدون أنفسكم في أداء حقّ الله عليكم، فإنه قد سبق لكم في ذلك من نعم الله وكرامته وحسن قسمه ما أنتم حقيقون أن تكون رغبتكم فيه، وحدبكم عليه، على قدر الذي أبلاكم الله، وصنع لكم منه.
وأمير المؤمنين مع ذلك إن حدث بواحد من وليّيْ عهده حدث، أولى بأن يجعل مكانه وبالمنزل الذي كان به من أحبّ أن يجعل من أمته أو ولده، ويقدّمه بين يدي الباقي منهما إن شاء، أو أن يؤخره بعده. فاعلموا ذلك وافهموه.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أن يبارك لأمير المؤمنين ولكم في الذي قضى به على لسانه من ذلك وقدّر منه؛ وأن يجعل عاقتبه عافيةً وسروراً وغبطة؛ فإن ذلك بيده ولا يملكه إلا هو، ولا يرغب فيه إلا إليه، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكتب سمال يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب سنة خمس وعشرين ومائة.
تولية الوليد نصر بن سيار على خراسان وأمره مع يوسف بن عمر وفي هذه السنة ولّى الوليد نصر بن سيار خراسان كلها، وأفرده بها.
وفيها وفد يوسف بن عمر على الوليد، فاشترى نصراً وعماله منه، فردّ إليه الوليد ولاية خراسان.
وفي هذه السنة كتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار يأمره بالقدوم عليه. ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال.
ذكر الخبر عما كان من أمر يوسف ونصر في ذلك: ذكر عليّ عن شيوخه؛ أن يوسف كتب إلى نصر بذلك، وأمره أن يقدم معه بعياله أجمعين، فلما أتى نصراً كتابه، قسّم على أهل خراسان الهدايا وعلى عمّاله، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبداً ولا برذونا فارهاً إلا أعده، واشترى ألف مملوك، وأعطاهم السلاح، وحملهم على الخيل.
قال: وقال بعضهم: كان قد أعد خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذّهب والفضة وتماثيل الظباء ورءوس السّباع والأيايل وغير ذلك؛ فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثّه، فسرّح الهدايا حتى بلغ أوائلها بيهق؛ فكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير، فقال بعض شعرائهم:
فأبشر يا أمين الل ... ه أبشر بتباشير
بإبل يحمل المال ... عليها كالأنابير
بغال تحمل الخمر ... حقائبها طنابير
ودل البربريات ... بصوت البم والزير
وقرع الدف أحياناً ... ونفخ بالمزامير
فهذا لك في الدنيا ... وفي الجنة تحبير
قال: وقدم الأزرق بن قرّة المسمعي من الترمذ أيام هشام على نصر، فقال لنصر: إني أريت الوليد بن يزيد في المنام؛ وهو وليّ عهد، شبه الهارب من هشام، ورأيته على سرير، فشرب عسلاً وسقاني بعضه. فأعطاه نصر أربعة آلاف دينار وكسوة، وبعثه إلى الوليد، وكتب إليه نصر. فأتى الأزرق الوليد، فدفع إليه المال والكسوة، فسر بذلك الوليد، وأطلف الأزرق، وجزى نصراً خيراً، وانصرف الأزرق، فبلغه قبل أن يصل إلى نصر موت هشام، ونصر لا علم له بما صنع الأزرق، ثم قدم عليه فأخبره؛ فلمّا ولى الوليد كتب إلى الأزرق وإلى نصر، وأمر رسوله أن يبتدىء بالأزرق فيدفع إليه كتابه، فأتاه ليلاً، فدفع إليه كتابه وكتاب نصر، فلم يقرأ الأزرق كتابه، وأتى نصراً بالكتابين؛ فكان في كتاب الوليد إلى نصر يأمره أن يتّخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان يقدر عليها، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله بنفسه في وجوه أهل خراسان. فقال رجل من باهلة: كان قوم من المنجّمين يخبرون نصراً بفتنة تكون؛ فبعث نصر إلى صدقة بن وثاب وهو ببلخ - وكان منجماً - وكان عنده. وألحّ عليه يوسف بالقدوم؛ فلم يزل يتباطأ، فوجّه يوسف رسولاً وأمره بلزومه يستحثه بالقدوم، أو ينادي في الناس أنه قد خلع؛ فلما جاءه الرسول أجازه وأرضاه، وتحوّل إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم؛ فلم يأت لذلك إلا يسير حتى وقعت الفتنة، فتحوّل نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بن عبد الله الأسديّ على خراسان، وولىّالمهلب بن إياس العدويّ الخراج، وولىّ موسى بن ورقاء الناجيّ الشاش، وحسان من أهل صغانيان الأسديّ سمرقند، ومقاتل بن علىّ السغُّديّ آمل، وأمرهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستحلبوا الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر؛ لينصرف إليهم بعد خروجه، يعتلّ بذلك، فبينا هو يسير يوماً إلى العراق طرقه ليلاً مولى لبني ليث؛ فلمّا أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسول الوليد؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد كان في مسيري ما قد علمتم، وبعثي بالهدايا ما رأيتم؛ فطرقني فلان ليلاً، فأخبرني أن الوليد قد قتل، وأن الفتنة قد وقعت بالشأم؛ وقدم منصور بن جمهور العراق، وقد هرب يوسف ابن عمر، ونحن في بلاد قد علمتم حالتها وكثرة عدونا. ثم دعا بالقادم فأحلفه إنّ ما جاء به لحقّ! فحلف؛ فقال سلم بن أحوز: أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقاً؛ إنه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتم، فسر ولا تهجِّنا. قال: يا سلم أنت رجل لك علم بالحروب ولك مع ذلك حسن طاعة لبني أمية؛ فأما مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأي أمة هتماء.
ثم قال نصر: لم أشهد بعد ابن خازم أمراً مفظعاً إلاّ كنت المفزع في الرأي فقال الناس: قد علمنا ذلك، فالرأي رأيك.
تولية الوليد بن زيد خاله يوسف الثقفيّ على المدينة ومكة. وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفيّ والياً على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة، فأقامهما للناس بالمدينة. ثم كتب الوليد إليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر، وهو يومئذ عامله علىالعراق؛ فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما؛ وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة عزل يوسف بن محمد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاهما يحيى بن سعيد الأنصاريّ.
غزو قبرس وفيها غزى الوليد بن يزيد أخاه الغمر بن زيد بن عبد الملك، وأمر عليّ على جيش البحر الأسود بن بلال المحاربيّ، وأمره أن يسير إلى قبرس فيخيرهم بين المسير إلى الشأم إن شاءوا، وإن شاءوا إلى الروم، فاختارت طائفة منهم جوار المسلمين، فنقلهم الأسود إلى الشأم؛ واختار آخرون أرض الروم فانتقلوا إليها.
وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن عليّ فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه؛ فقال لهم: أحرّ هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنّه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر، قال: فاشتروه وأعتقوه؛ واعطوا محمد بن عليّ مائتي ألف ألف درهم وكسوة بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمد، فإني أثق به وأوصيكم به خيراً، فقد أوصيته بكم. فصدروا من عنده.
وتوفي محمد بن عليّ في مستهلّ ذي القعدة وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ وكان بين وفاته وبين وفاة أبيه عليّ سبع سنين.وحج بالناس في هذه السنة بن محمد بن يوسف الثقفيّ، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
ذكر الخبر عن مقتل يحيى بن زيد بن عليّ
وفي هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن عليّ بخراسان ذكر الخبر عن مقتله قد مضى ذكرنا قبل أمر مصير يحيى بن زيد بن عليّ إلى خراسان وسبب ذلك؛ ونذكر الآن سبب مقتله؛ إذا كان ذلك في هذه السنة.
ذكر هشام بن محمد الكلبيّ عن أبي مخنف، قال: أقام يحيى بن زيد بن عليّ عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ حتى هلك هشام بن عبد الملك، وولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك.فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن يسار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله الذي كان ينزل؛ حتى أخبره أنه عند الحريش، وقال له: ابعث إليه وخذه أشد الأخذ. فبعث نصر بن سيّار إلى عقيل بن معقل العجليّ، يأمره أن يأخذ الحريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد بن عليّ. فبعث إليه عقيل، فسأله عنه، فقال: لا علم لي به، فجلده ستمائة سوط، فقال له الحريش: والله لو أنه كان تحت قدميّ ما رفعتهما لك عنه؛ فلما رأى ذلك قريش بن الحريش أتى عقيلا، فقال: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه، فأرسل معه فدلّه عليه، وهو في بيت في جوف بيت، فأخذه ومعه يزيد بن عمر والفضل مولى عبد القيس - كان أقبل معه من الكوفة - فأتى به نصر بن سيّار فسحبه، وكتب إلى يوسف بن عمر يخبره بذلك؛ فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بن يزيد، فكتب الوليد إلى نصر بن سيّار، يأمره أن يؤمنه ويخليّ سبيله وسبيل أصحابه، فدعاه نصر ابن سيّار، فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة، وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد، وأمر له بأفلي درهم وبغلين، فخرج هو وأصحابه حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها وعليها عبد الله بن قيس بن عباد، فكتب إليه نصر بن سيّارأن يشخصه عنها، وكتب إلى الحسن بن زيد التميميّ - وكان رأس بني تميم، وكان على طوس - أن انظر يحيى بن زيد، فإذا مرّ بكم فلا تدعه يقيم بطوس حتى يخرج منها، وأمرهما إذا هو مرّ بهما ألاّ يفارقاه حتى يدفعاه إلى عمرو بن زرارة بأبر شهر. فأشخصه عبد الله بن قيس من سرخس، ومرّ بالحسن بن زيد فأمره أن يمضي، ووكل به سرحان بن فروّخ بن مجاهد بن بلعاء العنبريّ أبا الفضل، وكان على مسلحة.
قال: فدخلت عليه، فذكر نصر بن سيّار وما أعطاه؛ فإذا هو كالمستقلّ له؛ فذكر أمير المؤمنين الوليد بن يزيد، فأثنى عليه، وذكر مجيئه بأصحابه معه، وأنه لم يأت بهم إلا مخافة أن يسمّ أو يغمّ، وعرض بيوسف؛ وذكر أنه إياه يتخوّف، وقد كان أراد أن يقع فيه ثم كفّ، فقلت له: قل ما أحببت رحمك الله؛ فليس عليك منى عين؛ فقد أتى إليك ما تستحقّ أن تقول فيه. ثم قال: العجب من هذا الذي يقيم الأحراس أو أمر الأحراس، قال - وهو حينئذ يتفصّح: والله لو شئت أن أبعث إليه؛ فأوتي به مربوطاً. قال: فقلت له: لا والله ما بك صنع هذا؛ ولكن هذا شيء يصنع في هذا المكان أبداّ، لمكان بيت المال. قال: واعتذرت إليه من مسيري معه، وكنت أسير معه على رأس فرسخ، فأقبلنا معه حتى وقعنا إلى عمرو بن زرارة، فأمر بألف درهم، ثم أشخصه حتى انتهى إلى بيهق، وخاف اغتيال يوسف إياه، فأقبل من بيهق - وهي أقصى أرض خراسان، وأدناه من قومس - فأقبل في سبعين رجلاً إلى عمرو بن زرارة، ومرّ به تجار، فأخذ دوابهم، وقال: علينا أثمانها. فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر بن سيّار، فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس وإلى الحسن بن زيد أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة، فهو عليهم، ثم ينصبوا ليحيى بن زيد فيقاتلوه. فجاءوا حتى انتهوا إلى عمرو بن زرارة، واجتمعوا فكانوا عشرة آلف، وأتاهم يحيى بن زيد، وليس هو إلا في سبعين رجلاً، فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة، وأصاب دوابّ كثيرة. وجاء يحيى بن زيد حتى مرّ بهراة، وعليها مغلسّ بن زياد العامريّ، فلم يعرض واحد منها لصاحبه، فقطعها يحيى بن زيد، وسرح نصر بن سيّار سلم بن أحوز في طلب يحيى بن زيد فأتى هراة حين خرج منه يحيى بن زيد فأتبعه فلحقه بالجوزجان بقرية منها، وعليها حماد بن عمرو السّغديّ.
قال: ولحق بيحيى بن زيد رجل من بني حنيفة يقال له أبو العجلان فقتل يومئذ معه، ولحق به الحسحاس الأزدي فقطع نصر بعد ذلك يده ورجاه.
قال: فبعث سلم بن أحوز سورة بن محمد بن عزيز الكنديّ على ميمنته، وحمّاد بن عمرو السغديّ على ميسرته، فقاتله قتالاً شديداً، فذكروا أن رجلاً من عنزة يقال له عيسى، مولى عيسى بن سليمان العنزيّ رماه بنشّابة، فأصاب جبهته.
قال: وقد كان محمد شهد ذلك اليوم، فأمره سلم بتعبئة الناس، فتمارض عليه، فعبّى الناس سورة بن محمد بن عزيز الكنديّ، فاقتتلوا فقتلوا من عند آخرهم. ومرّ سورة بيحيى بن زيد فأخذ رأسه، وأخذ العنزيّ سلبه وقميصه، وغلبه سورة على رأسه.
فلما قتل يحيى بن زيد وبلغ خبره الوليد بن زيد، وكتب - فيما ذكر هشام عن موسى بن حبيب؛ أنه حدثه - إلى يوسف بن عمر: إذا أتاك كتابي هذا، فانظر عجل العراق فأحرقه ثم انسفه في اليمّ نسفاً. قال: فأمر يوسف خراش بن حوشب، فأنزله من جذعه وأحرقه بالنار، ثم رضّه فجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذرّاه في الفرات.
كانت عمّال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
ذكر بقية أخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك فمن ذلك ما كان من قتل يزيد بن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد ابن يزيد.ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف قتل: قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ولما ولي الخلافة وأفضت إليه، لم يزدد في الدي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساّق إلاتمادياً وحداً تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها - فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده، فكرهوا أمره.
وكان من أعظم ما جنىعلى نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه إفساده على نفسه بني عمّيه بني هشام وولد الوليد، ابني عبد الملك بن مروان، مع إفساده على نفسه اليمانية، وهم عظم جند أهل الشأم. ذكر بعض الخبر عن إفساده بني عمّيه هشام والوليد:
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عليّ عن المنهال بن عبد الملك، قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذّات؛ فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد، حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتدّ على بني هشام؛ فضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغربه إلى عمان فحبسه بها؛ فلم يزل بها محبوساًحتى قتل الوليد. قال: وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلمه عمر بن الوليد، فيها فقال: لا أردّها، فقال: إذن تكثير الصّواهل حول عسكر. قال: وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وأراد البيعة لابنيه الحكم وعثمان فشاور سعيد بن بيهس بن صهيب، فقال: لا تفعل؛ فإنهما غلامان لم يحتلما؛ ولكن بايع لعتيق بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فغضب وحبسه حتى مات في الحبس. وأراد خالد بن عبد الله على البيعة لابنيه فأبى، فقال له قوم من أهله: أرادك أمير المؤمنين على البيعة لابنيه فأبيت، فقال: ويحكم! كيف أبايع من لا أصلّي خلفه، ولا أقبل شهادته! قالوا: فالوليد تقبل شهادته مع مجونه وفسقه! قال: أمر الوليد أمر غائب عني ولا أعلمه يقيناً؛ إنما هي أخبار الناس؛ فغضب الوليد على خالد.
قال: وقال عمرو بن سعيد الثققفيّ: أوفدني يوسف بن عمر إلى الوليد فلما قدمت قال لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد - ثم قال: إياك أن نسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بن جبير طلق إن سمعته إذنى ما دمت حياً؛ فضحك. فقال: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: ققد أتخذ مائة جامعة؛ زكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها. ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولاً يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسمعنا الرضا بالوليد؛ حتى حمل الناس على الفتك به.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثّنا عليّ، عن يزيد بن مصاد الكلبيّ، عن عمرو بن شراحيل، قال: سيرنا هشام بن عبد الملك إلى دهلك، فلم نزل بها حتى مات هشام، واستخلف الوليد، فكلم فينا فأبى، وقال: والله ما عمل هشام عملاً أرجى له عندي أن تناله المغفرة به من قتله القدرية وتسييرة إياهم. وكان الوالي علينا الحجاج بن بشر بن فيروز الديلميّ، وكان يقول: لا يعيش الوليد إلا ثمانية عشر شهراً حتى يقتل؛ ويكون قتله سبب هلاك أهل بيته. قال: فأجمع على قتل الوليد جماعة من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة، فأتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغسانيّ ومنصور بن جمهور ويعقوب بن عبد الرحمن وحبال بن عمرو؛ ابن عمّ منصور، وحميد بن نصر اللخميّ والأصبغ بن ذؤالة وطفيل بن حارثة والسّريّ بن زياد بن علاقة، خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم، فقال: لا أسمّي أحداً منكم. وأراد الوليد الحجّ، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخّر الحجّ العام، فقال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدى ما عليه من أموال العراق.
وقال عليّ عن الحكم بن النعمان، قال: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانيّة البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه؛ فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنّه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك؛ لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من قرابة؛ فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشأم وغيرهم من الزّيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضرّ ذلك ببيوت الأموال. قال: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية مالم يحمل من العراق مثله. فقدم - وخالد بن عبد الله محبوس - فلقيه حسان النبطيّ ليلاً، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بدّ ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال: ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت. قال: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة منى، ففرقها على قدر علمك فيهم؛ ففعل. وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له: حسان:لا تغد على الوليد؛ ولكن رح إليه رواحاً؛ واكتب على لسان خليفتك كتاباً إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر. وادخل على الوليد والكتاب معك متحازناً، فأقرئه الكتاب، ومر أبان ابن عبد الرحمن النميريّ يشتري خالداً منه بأربعين ألف ألف. ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلى خالداً وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم،قال: ومن يضمن عنك؟ قال: يوسف، قال: أتضمن عنه؟ ذقال: بل ادفعه إليّ، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء.
قال محمد بن محمد بن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافاً كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفّلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان - يعني أن أخي الفيض ان على عمان، فبعث إليّ بمال جسيم - فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: أحسنت، هو أسير؛ ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذىً.
وقدم الكوفة فقتله في العذاب؛ فقال الوليد بن يزيد - فيما زعم الهيثم بن عديّ - شعراً يوبّخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بن عبد الله.
وأما أحمد بن زهير، فإنه حدّثه عن عليّ بن محمد؛ عن محمد بن سعيد العامريّ، عامر كلب، أنّ هذا الشعر قاله بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرّض عليه اليمانية:
ألم تهتج فتذّكر الوصالا ... وحبلاً كان متصلاً فزالا
بلى فالدمع منك له سجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا
فدع عنك ادّكارك آل سعدى ... فنحن الأكثرون حصىً ومالا
ونحن المالكون الناس قسراً ... نسومهم المذلّة والنكالا
وطئنا الأشعرين بعزّ قيس ... فيا لك وطأة لن تستقالا!
وهذا خالد فينا أسيراً ... ألا منعوه إن كانوا رجالا!
عظيمهم وسيدهم قديماً ... جعلنا المخزيات له ظلالا
فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوباً أسيراً ... يسامر من سلاسلنا الثقالا
ورواه المدائنيّ: " يعالج من سلاسلنا "
وكندة والسكون فما استقالوا ... ولا برحت خيولهم الرحالا
بها سمنا البريّة كل خسف ... وهدمنا السهولة والجبالا
ولكن الوقائع ضعضعتهم ... وجذتهم وردتهم شلالا
فما زالوا لنا أبداً عبيداً ... نسومهم المذلة والسفالا
فأصبحت الغداة عليّ تاج ... لملك الناس ما يبغي انتقالا
فقال عمران بن هلباء الكلبيّ يجيبه:
قفي صدر المطية يا حلالا ... وجذي حبل من قطع الوصالا
ألم يحزنك أن ذوي يمان ... يرى من حاذ قيلهم جلالا
جعلنا للقبائل من نزار ... غداة المرج أياماً طوالا
بنا ملك المملك من قريش ... وأودى جدّ من أودى فزالا
متى تلق السكون وتلق كلباً ... بعبس تخش من ملك زوالا
كذاك المرء ما لم يلف عدلاً يكون عليه منطقه وبالا
أعدوا آل حمير إذ دعيتم ... سيوف الهند والأسل النهالا
وكل مقلص نهد القصيري ... وذا فودين والقب الجبالا
يذرن بكلّ معترك قتيلا ... عليه الطير قد مذل السؤالا
لئن عيرتمونا ما فعلنا ... لقد قلتم وجدّكم مقالا
لإخوان الأشاعث قتلوهم ... فما وطئوا ولا لاقوا نكالا
وأبناء المهلب نحن صلنا ... وقائعهم وما صلتم مصالا
وقد كانت جذام على أخيهم ... ولخم يقتلونهم شلالا
هربنا أن تساعدكم عليهم ... وقد أخطا مساعدكم وفالا
فإن عدتم فإنّ لنا سيوفاً ... صوارم نستجد لها الصقالا
سنبكي خالداً بمهندات ... ولا تذهب صنائعه ضلالا
ألم يك خالد غيث اليتامى ... إذا حضروا وكنت لهم هزالا!
يكفن خالد موتى نزار ... ويثرى حيّهم نشباً ومالا
لو أنّ الجائرين عليه كانوا ... بساحة قومه كانوا نكالا
ستلقى إن بقيت مسومات ... عوابس لا يزايلن الحلالا
فحدثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، قال: فازداد الناس على الوليد حنقاً لما روى هذا الشعر، فقال ابن بيض:
وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ... زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاماً كان حياً يسوسنا ... وكنا كما كنا نرجى ونطمع
وكان هشام استعمل الوليد بن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط؛ فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بن عبد الملك؛ فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان على قنسرين - فعذّبهم، فمات في العذاب الوليد بن القعقاع وعبد الملك بن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بن عبد الله. فأتت اليمانية يزيد بن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بن يزيد الحكميّ، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بن الوليد؛ فإنه سيّد بني مروان؛ فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضيّ على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك. وكانت الشأم تلك الأيام وبيّة، فخرجوا إلى البوادي؛ وكان يزيد بن الوليد متبدّياً، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة.
فحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عليّ، قال: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العبّاس: مهلاً يا يزيد؛ فإنّ في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا. فرجع يزيد إلى منزله، ودبّ في الناس فبايعوه سراً، ودسّ الأحنف الكلبيّ ويزيد بن عنبسة السكسكي وقوماً من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم؛ فدعوا الناس سراً، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره أن قوماً يأتونه يريدونه على البيعة، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنّك وثاقاً، ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جاداً! قال: جعلت فداك! ما أظن ذاك؛ ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعاً. قال: أما والله إني لأظنّه أشأم سخلة في بني مروان؛ ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقاً، وحملته إليه؛ فازجره عن أمره؛ فإنه يسمع إليك. فقال يزيد لقطن: ما قال لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكفّ.
وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس؛ فأتى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالأنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وأنا أسمع ما لا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحاً، أو أسكت مطيعاً؟ قال: كل مقبول منك؛ ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك.
وبلغ مروان بن محمد بأمرينية أنّ يزيد يؤلّب الناس، ويدعو إلى خلع الوليد؛ فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم - وكان سعيد يتألّه: إنّ الله جعل لكل أهل بيت أركاناً يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربّك ركنٌ من أركان أهل بيتك؛ وقد بلغني أن قوماً من سفهاء أهل بيتك قد استنّوا أمراً - إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم - استفتحوا باباً لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم؛ وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجاً، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك؛ لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا؛ وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط إلا بتشتيت كلمتهم؛ وإنّ كلمتهم إذا تشتّتت طمع فيهم عدوهم. وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك وإظهار المتابعة لهم؛ فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب؛ لعلّ الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم؛ فإنّ فيما سعوا فيه تغير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الألفة مشدود، والناس سكون، والثّغور محفوظة؛ فإنّ للجماعة دولة من الفرقة وللسعة دافعاً من الفقر، وللعدد منتقصاً، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلّب مع الزيادة والنقصان؛ وقد امتدّت بنا - أهل البيت - متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها؛ وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة. وقد أمّل القوم في الفتنة أملاً؛ لعل أنفسهم تهلك دون ما أمّلوا، ولكلّ أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم - فأعاذك الله من ذلك - فاجعلني من أمرهم على علم. حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك.
فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه إلى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدّده، فحذّره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدوّنا أراد أن يغري بيننا؛ وحلف له أنه لم يفعل. فصدّقه.
حدّثني أحمد، قال: حدثنا عليّ، قال: قال ابن بشر بن الوليد بن عبد الملك: دخل أبي بشر بن الوليد على عمّي العباس، فكلّمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فكان العباس ينهاه، وأبي يرادّه، فكنت أفرح وأقول في نفسي: أرى أبي يجترىء أن يكلم عمي ويردّ عليه قوله! وكنت أرى أنّ الصواب فيما يقول أبي، وكان الصّواب فيما يقول عمّي، فقال العباس: يا بني مروان؛ إني أظنّ الله قد أذن في هلاككم؛ وتمثّل قائلاً:
إني أعيذكم بالله من فتن ... مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم ... إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم ... فثم لا حسرة تغنى ولا جزع
قال: فلما اجتمع ليزيد أمره وهو مبتدّ، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكراً في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرلحة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام. وقال القوم لمولّى لعباد بن زياد: أما عندك طعام فنشتريه؟ قال: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم. فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا. ثم سار فدخل دمشق ليلاً، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سراً، وبايع أهل المزة غير معاوية بن مصاد الكلبيّ - وهو سيد أهل المزّة - فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بن مصاد ماشياً في نفير من أصحابه - وبين دمشق وبين المزّة ميل أو أكثر - فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية بن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قال: إن في رجلي طيناً، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد. فكلمه يزيد فبايعه معاوية - ويقال هشام بن مصاد - ورجع يزيد إلى دمشق؛ فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود؛ فنزل دار ثابت بن سليمان بن سعد الخشنيّ، وخرج الوليد بن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلاّ في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب - وهو على فرس أبلق - حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطناً، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إنّ يزيد خارج، فلم يصدّق. وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذّنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا - وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل - فلمّا صلّى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضاً فأعنّي عليه وسددني له؛ وإن كان غير ذلك فاصرفه عنّي بموت.
وأقبل في اثني عشر رجلاً، فلمّا كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلاً من أصحابهم، فلمّا كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم؛ فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد؛ ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كلّ من كان يحذره فأخذ. وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيدة - مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك - فأخذه، وأرسل يزيد من ليلته إلى عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف، فأخذه ووجّه إلى الثنيّة إلى أصحابه ليأتوه. وقال للبوّابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا. فتركوا الأبواب بالسلاسل. وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزّان قبضوه، فأصابوا سلاحاً كثيراً، فلما أصبحوا جاء أهل المزّة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النّابغة:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال اعلجمال المصاعب
فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا؛ هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر!
حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عليّ، قال: حدثنا عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني رزين بن ماجد، قال: غدونا مع عبد الرحمن ابن مصاد، ونحن زهاء ألف وخمسمائة؛ فلما انتهينا إلى باب الجابية ووجدناه مغلقاً، ووجدنا عليه رسولاً للوليد، قال: ما هذه الهيئة وهذه العدّة! أما والله لأعلمنّ أمير المؤمنين. فقتله رجل من أهل المزّة، فدخلنا من باب الجابية، ثم أخذنا في زقاق اعلكلبيّين، فضاق عنا، فأخذ ناس منا سوق القمح؛ ثم اجتمعنا على باب المسجد، فدخلنا على يزيد، فما فرغ آخرنا من التسليم عليه؛ حتى جاءت السكاسك في نحو ثلثمائة، فدخلوا من باب الشرقيّ حتى أتوا المسجد، فدخلوا من باب الدرج، ثم أقبل يعقوب ابن عمير بن هانىء العبسيّ في أهل داريّا، فدخلوا من باب دمشق الصغير، وأقبل عيسى بن شبيب التغلبيّ في أهل دومة وحرستا، فدخلوا من باب توما، وأقبل حميد بن حبيب اللخميّ في أهل دبر المران والأرزة وسطرا، فدخلوا من باب الفراديس، وأقبل النضر بن الجرشيّ في أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، فدخلوا من باب الشرقي، وأقبل ربعيّ بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، فدخلوا من باب توما، ودخلت جهينة ومن والاهم مع طلحة بن سعيد، فقال بعض شعرائهم:
فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا ... سكاسكها أهل البيوت الصنادد
وكلب فجاءوهم بخيل وعدة ... من البيض والأبدان ثم السواعد
فأكرم بها أحياء أنصار سنة ... هم منعوا حرماتها كل جاحد
وجاءتهم شعبان والأزد شرعاً ... وعبس ولخم بين حام وذائد
وغسان والحيان قيس وتغلب ... وأحجم عنها كل وان وزاهد
فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها ... قد استوثقوا من كل عات ومارد
حدّثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني قسيم بن يعقوب ورزين بن ماجد وغيرهما، قالوا: وجّه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس أو نحوهم إلى قطن؛ ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف، وقد تحصّن في قصره، فأعطاه الأمان فخرج إليه، فدخلنا القصر، فأصبنا فيه خرجين، في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار. قال: فلما انتهينا إلى المزّة قلت لعبد الرحمن بن مصاد: اصرف أحد هذين الحرجين إلى منزلك أو كليهما، فإنك لا تصيب من يزيد مثلهما أبداً، فقال: لقد عجلت إذاً بالخيانة، لا والله لا يتحدّث العرب أنى أوّل من خان في هذا الأمر، فمضى به إلى يزيد بن الوليد. وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فأمره فوقف بباب الجابية، وقال: من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة. وقال لبني الوليد بن عبد الملك ومعه منهم ثلاثة عشر: تفرّقوا في الناس يرونكم وحضورهم، وقال للوليد بن روح بن الوليد: أنزل الرّاهب، ففعل.
وحدّثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني دكين بن الشّماخ الكلبيّ وأبو علاقة بن صالح السلامانيّ أن يزيد بن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقلّ من ألف رجل، فأمر رجلاً فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟ فانتدب إليه يومئذ ألف وخمسمائة، فعقد لمنصور بن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي على طائفة أخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بن حبيب اللخميّ على طائفة أخرى، وعليهم جميعاً عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة.
وحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم بن الوليد أنّ مولىً للوليد لما خرج يزيد بن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية فأجازه، ووجّهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجّه يزيد بن الوليد إليه عبد الرحمن بن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف - والأغدف من عمّان - فقال بيهس بن زميل الكلابيّ - ويقال قاله يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجّه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره. فقال يزيد بن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وهو ابن عمهنّ، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقال: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر؛ وهم الذين خرجوا عليّ؛ ولكن دلني على منزل حصين، فقال: أرى أن تنزل القرية، قال: أكرهها، قال: فهذا الهزيم، قال: أكره اسمه، قال: فهذا البخراء، قصر النعمان بن بشير، قال: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الرّيف، وهو في مائتين، فقال:
إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد ... نصيحاً ولا ذا حاجة حين تفزع
إذا ما هم هموا بإحدى هناتهم ... حسرت لهم رأسي فلا أتقنع
فمر بشبكة الضحاك بن قيس الفهريّ؛ وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلاً، فساروا معه وقالوا: إنا عزل؛ فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفاً ولا رمحاً، فقال له بيهس بن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قال: إني أخاف الطاعون، قال: الذي يراد بك أشدّ من الطاعون؛ فنزل حصن البخراء.
قال: فندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين، وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بن الوليد بالبرّيّة، فواافاه ثمانمائة، فسار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه، ونزلوا قريباً من الوليد، فأتاه رسول العباس بن الوليد: إني آتيك، فقال الوليد: أخرجوا سريراً، فأخرجوا سريراً فجلس عليه وقال: أعليّ توثّب الرجال، وأنا أثبُ على الأسد وأتخصّر الأفاعي! وهم ينتظرون العباس، فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بن حويّ السكسكي وعلى المقدّمة منصور بن جمهور وعلى الرّجالة عمارة بن أبي كلثم الأزديّ، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بن حصين الكلبيّ يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيّه، فقتله قطريّ مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجّل عبد العزيز، فكرّ أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدّة، وحملت رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بن يزيد عثمان الخشبيّ، قتله جناح بن نعيم الكلبيّ، وكان من أولاد الخشبيّة الذين كانوا مع المختار.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد، فأرسل منصور بن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم. فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدّمت لأنفذن حصينك - يعني درعك - وقال نوح بن عمرو بن حويّ السكسكي: الذي لقي العباس بن الوليد يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي - فعدل به إلى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين؛ لئن أبيت لأضربنّ الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بن عبد الله بن دحية، فقال: من هذا؟ قال: يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم، قال: أما والله إن كان لبغيضاً إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف؛ وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدّمهم مع بنيه، فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية. وقالوا: هذه راية العباس بن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الاشيطان! هلك بنو مروان. فتفرق النّاس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيْه: السنديّ والزّائد، فقاتلهم قتالاً شديداً، فناداهم رجل: اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.
فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال. أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه! فقال له يزيد بن عنبسة السكسكيّ: كلمني، قال له: من أنت؟ قال: أنا يزيد بن عنبسة، قال: يا أخا السكاسكك؛ ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤمن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم! فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله؛ قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت؛ وإن فيما أحلّ لي لسعة عمّا ذكرت. ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفاً، وقال: يوم كيوم عثمان؛ ونشر المصحف يقرأ، فعلوا الحائط، فكان أوّل من علا الحائط يزيد بن عنبسة السكسكي، فنزل إليه وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نحّ سيفك، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة فيهم غير هذه، فأخذ بيد الوليد؛ وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه. فنزل من الحائط عشرة: منصور بن جمهور وحبال بن عمرو الكلبيّ وعبد الرحمن بن عجلان مولى يزيد بن عبد الملك وحميد بن نصر اللخميّ والسريّ بن زياد بن أبي كبشة وعبد السلام اللخميّ، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السريّ على وجهه، وجرّوه بين خمسة ليخرجوه. فصاحت امرأة كانت معه في الدار، فكفّوا عنه ولم يخرجوه، واحتزّ أبو علاقة القضاعيّ رأسه، فأخذ عقباً فخاط الضّربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بن مقبل، وقال أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس - ويزيد يتغدّى - فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بن عنبسة السّكسكيّ، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفّه، وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضاً فسدّدني، وقال ليزيد بن عنبسة: هل كلّمكم الوليد؟ قال: نعم. كلّمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم ذو حسب فأكلّمه! فكلمته ووبّخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.
حدّثني أحمد عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: قال نوح ابن عمرو بن حويّ السكسكيّ: خرجنا إلى قتال الوليد في ليالٍ ليس فيها قمر؛ فإن كنت لأرى الحصى فأعرف أسوده من أبيضه. قال: وكان على ميسرة الوليد بن يزيد الوليد بن خالد، ابن أخي الأبرش الكلبيّ في بني عامر - وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز - فلم تقاتل ميسرة الوليد ميمنة عبد العزيز، ومالوا جميعاُ إلى عبد العزيز بن الحجاج. قال: وقال نوح بن عمرو: رأيت خدم الوليد بن يزيد وحشمه يوم قتل يأخذون بأيدي الرجال، فيدخاونهم عليه.
وحدّثني أحمد عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني المثنّى بن معاوية، قال: أقبل الوليد فنزل اللؤلؤة، وأمر ابنه الحكم والمؤمّل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين ديناراً في العطاء، فأقبلتُ أنا وابن عمتي سليمان بن محمد بن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقرّبني المؤمّل وأدناني. وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلّمه حتى يفرض لك في مائة دينار.
قال المثنىّ: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بن قيس من حمص يخبره أن عمراً قد وجّه إليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بن أبي الجنوب البهرانيّ، فدعا الوليد الضحّاك بن أيمن من بني عوف بن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب - وهو بالغوير - فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة. فلما أصبح أمر الناس بالرّحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خزّ، محتزماً بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بن كيسان في ستة عشر فارساً، ثم سار قليلاً، فتلقّاه بنو النعمان بن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص. ثم أتى البخراء، فضجّ أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلاً فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل! تضعف عليه دوابنا؛ وإنما أرادوا الدراهم.
قال المثنّى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخّر الفسسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أمّ كلثوم بنت عبد الله بن يزيد بن عبد الملك يقال له عمرو بن مرة، فأخبره أنّ عبد العزيز بن الحجاج؛ قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بن عثمان المخراش - وان على شرطه - برجل من بني حارثة بن جناب، فقال له: إنّي كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد أتيتك بالخبر؛ وهذه ألف وخمسمائة قد أخذتها - وحل همياناً من وسطه، وأراه - وقد نزل اللؤلؤة؛ وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قال، فقال: سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجّه منصور بن جمهور، فأخذ شرقيّ القرى - وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء - وكان العباس بن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلاً من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيّره بين أن يأتيه فيكون معه؛ أو يسير إلى يزيد بن الوليد. فاتّهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه فيكون معه، فلقي منصور بن جمهور الرّسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنّك ومن معك؛ فإذا أصبح فليأخذ حيث أحبّ. فأقام العباس يتهيّأ؛ فلما كان في السّحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بن عثمان المخراش، فعبّأ الناس؛ فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس؛ وكان مع أصحاب يزيد بن الوليد كتاب معلّق في رمح، فيه: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يصير الأمر شورى. فاقتتلوا فتقل عثمان الخشبيّ، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلاً، وأقبل منصور بن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل إلى الوليد وهو في فسطاطه؛ ليس بينه وبين منصور أحد. فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بن هبيرة المعافريّ خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سميّ بن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز. وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين؛ قد شدّها تحت لحيته؛ فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء، قدّم رايتك، فقال له: لا أجد متقدّماً، إنها بنو عامر. وأقبل العباس بن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشدّ مولى لسليمان بن عبد الله بن دحية - يقال له التركيّ - على الحارث بن العباس بن الوليد، فطعنه طعنة أذراه عن فرسه؛ فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا. فبعث الوليد بن يزيد الوليد بن خالد إلى عبد العزيز بن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف؛ فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضاً، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد؛ حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة ألاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخصّ رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟ فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد؛ ففعل. وكان على ميمنة الوليد معاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن خالد، فقال لعبد العزيز: أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردنّ والشركة في الأمر على أن أصير معكم؟ قال: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد. وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرّجل بعد الرّجل يدخل من تحت السلسلة. وأتى عبد العزيز عبد السلام بن بكير بن شمّاخ اللخميّ، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قال: فليخرج؛ فلما ولّى قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس. فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض عليّ، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر. قال: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشى، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بن شيبان مولى كنانة بن عمير؛ وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب - أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز - وعبد السلام عن
يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسريّ فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوساً في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليميّ أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتيّ، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له.يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسريّ فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوساً في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليميّ أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتيّ، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له.
قال أحمد: قال عليّ: قال عمرو بن مروان الكلبيّ: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بن الوليد، فسبقت الرأس؛ قدم بها ليلة الجمعة، وأتى برأسه من الغد، فنصبه للناس بعد الصلاة. وكان أهل دمشق قد أجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفّوا. قال: وأمر يزيد بنصب الرأس ، فقال له يزيد بن فروة مولى بني مروان: إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك؛ وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس؛ ويغضب له أهل بيته؛ فقال: والله لأنصبنّه، فنصبه على رمح، ثم قال له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق؛ وأدخله دار أبيه. ففعل، فصاح الناس وأهل الدار ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك؛ فمكث عنده قريباً من شهر، ثم قال له: ادفعه إلى أخيه سليمان - وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه - فغسل ابن فروة الرّأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعداً له! أشهد أنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً؛ ولقد أرادني على نفسي الفاسق. فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل؛ وما كان ليقدر على الامتناع منه.
وحدثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكابيّ، قال: حدثني يزيد بن مصاد عن عبد الرحمن بن مصاد، قال: بعثني يزيد بن الوليد إلى أبي محمد السيفانيّ - وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد والياً على دمشق وأتى ذنبة؛ وبلغ يزيد خبره، فوجّهني إليه - فاتيته، فسالم وبايع ليزيد. قال: فلم نرم حتى رفع لنا شحص مقبل من ناحية البريّة ، فبعث إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيّل أبو كمال المغنّي، على بلغة للوليد تدعى مريم، فأخبر أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه.
حدثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدثني دكين بن شماخ الكلبي ثم العامريّ، قال: رأيت بشر بن هلباء العامريّ يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول:
سنبكي حالداً بمهنّداتٍ ... ولا تذهب صنائعه ضلالا
وحدثني أحمد عن عليّ، عن أبي عاصم الزيّاديّ، قال: ادّعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، فقال: أنا قتلته؛ وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتزّ رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي. واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قال: وقال الحكم بن النعمان مولى الوليد بن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بن جمهور في عشرة؛ فيهم روح بن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين؛ أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس؛ وكان فيمن قدم برأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب؛ فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف. قال: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فجاء قوم بأرؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين؛ ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة!
قال: وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغنيّ وعمرو الوادي؛ فلما تفرق عن الوليد أصحابه، وحصر، قال مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء؛ ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا يقتل أحد قبلي وقبلك؛ فيوضع رأسه بين رأسينا؛ ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال؛ فلا يعيبونه بشيء أشدّ من هذا فهربا.
وقتل الوليد بن يزيد يوم الخميس لليلتين بقيا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، كذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكذلك قال هشام بن محمد ومحمد ابن عمر الواقديّ وعليّ بن محمد المدائنيّ.
واختلفوا في قدر المده التي كان فيها خليفةً؛ فقال أبو معشر: كانت خلافته سنه وثلاثة أشهر، كذلك حدثني بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وقال هشام بن محمد: كانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً.
واختلفوا أيضاً في مبلغ سنه يوم قتل، فقال هشام بن محمد الكلبيّ: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقال محمد بن عمر: قتل وهو ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: قتل وهو ابن اثنتي وأربعين سنة. وقال آخرون: وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وقال آخرون: ابن خمس وأربعين سنة، وقال بعضهم: وهو ابن ست وأربعين سنة.
وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفيّ؛وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجالين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمسّ الدابة بيده.
وكان شاعراً مشروباً للخمر؛ حدثني أحمد؛ قال: حدثنا عليّ، عن ابن أبي الزناد، قال: قال أبي: كنت عند هشام وعنده الزهريّ، فذكر الوليد، فتنقّصاه وعاباه عيباً شديداً، ولم أعرض في شيء مما كنا فيه؛ فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلاً، ثم قام. فلما مات هشام كتب فيّ فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يابن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قال: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهريّ، وهما يعيبانني؟ قلت أذكر ذلك؛ فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائماً على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فإنه نمّ إليّ بما قالا؛ وايم الله لو بقي الفاسق - يعني الزهّريّ - لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. ثم قال يابن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك؛ فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني؛ فجاءوا بلإناء مغطّى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا؛ قال: فما زال علىذلك يتحدّث ويستسقى وصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحاً.
خبر قتل خالد بن عبد الله القسريّ وفي هذه السنة قتل خالد بن عبد الله القسريّ.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك
قد تقدم ذكرنا اللخبر عن عزل هشام إياه عن عماه ووليته العراق وخراسان واستعماله على العراق يوسف بن عمر؛ وكان - فيما ذكر - عمل لهشام على ذلك خمس عسرة سنة غير أشهر؛ وذلك أنه - فيما قيل - ولى العراق لهشام سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة. ولما عزله هشام وقدم عليه يوسف واسطاً أخذه وحبسه بها، ثم شخص يوسف بن عمر إلى الحيرة؛ فلم يزل محبوساً بالحيرة تمام. ثمانية عشر شهراً مع أخيه إسماعيل بن عبد الله وابنيه يزيد بن خالد وابن أخيه المنذر بن أسد بن عبد الله. واستأذن يوسف هشاماً في إطلاق يده عليه وتعذيبه، فلم يأذنن له حتى أكثر عليه واعتلّ عليه بانكسار الخراج وذهاب الأموال، فأذن له مرّة واحدة، وبعث حرسيّاً يشهد ذلك؛ وحلف: لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنّه؛ فدعا به يوسف؛ فجلس على دكان بالحيرة وحضرالناس، وبسط عليه؛ فلم يكلمه واحدة حتى شتمه يوسف فقال: يابن الكاهن - يعني شقّ بن صعب الكاهن - فقال خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي! ولكنك يابن السبّاء، إنما كان أبوك سبّاء خمر - يعني يبيع الخمر - ثم ردّه إلى حبسه، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال إحدى وعشرين ومائة، فنزل خالد في قصر إسماعيل بن عبد الله بدوران، خلف جسر الكوفة، وخرج يزيد بن خالد وحده؛ فأخذ على بلاد طيء؛ حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل والوليد؛ قد جهزهم عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ابن العاص، وبعث بالأثقال إلى قصر بني مقاتل، وكان يوسف قد بعث خيلا، فأخذت الزاد والأثقال والإبل وموالي خالد كانوا فيها، فضرب وباع ما أخذ لهم، ورد بعض الموالي إلى الرقّ، فقدم خالد قصر بني مقاتل؛ وقد أخذ كل شيء لهم، فسار إلى هيت، ثم تحمّلوا إلىالقرية - وهي بإزاء باب الرُّصافة - فأقام بها بقيّة شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرّم وصفر؛ لا يأذن لهم هشام في القدوم عليه؛ والأبرش يكاتب خالداً. وخرج زيد بن عليّ فقتل.
قال الهيثم بن عديّ - فيما ذكر عنه - : وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً؛ حتى كانت همَّة أحدهم قوت عاليه؛ فلما ولى خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأي خالد؛ والدليل على ذلك نزول خالد بالقرية على مدرجة العراق يستنشي أخبارها.
فسكت هشام حتى فرغ من قراءة الكتاب، ثم قال للحكم بن حزن القينيّ - وكان على الوفد، وقد أمره يوسف بتصديق ما كتب به ففعل - فقال له هشام: كذبت وكذب من أرسلك؛ ومهما اتّهمنا خالداً فلسنا نتّهمه في طاعة؛ وأمر به فوجئت عنقه. وبلغ الخبر خالداً فسار حتى نزل دمشق فأقام حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد بن عبد الله؛ وعلى دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القسريّ، وكان متحملا على خالد؛ فلما أدربوا ظهر في دور دمشق حريق؛ كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يقال له أبو العمرّس وأصحاب له؛ فإذا وقع الحريق أغاروا يسرقون. وكان إسماعيل بن عبد الله والمنذر بن أسد بن عبد الله وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم؛ فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويخبره أنه لم يكن قطّ؛ وأنه عمل مولى خالد؛ يريدون الوثوب على بيت المال. فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد؛ الصغير منهم والكبير ومواليهم والنساء؛ فأخذ إسماعيل والمنذر ومحمد وسعيد من الساحل فقدم بهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم؛ وحبس أمّ جرير بنت خالد والرّائقة وجميع النساء والصبيان؛ ثم ظهر على أبي العمّرس؛ فأخذو من كان معه. فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل خراج دمشق إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمّرس ومن كان معه؛ سماهم رجلا رجلا، ونسبهم إلى قبائلهم وأمصارهم، ولم يذكر فيهم أحد من موالي خالد، فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنفه، ويأمره بتخلية سبيل جميع من حبس منهم، فأرسلهم جميعاً واحتبس الموالي رجاء أن يكلمه فيهم خالد إذا قدم من الصائفة. فلما أقبل الناس وخرجوا عن الدّرب بلغ خالداً حبس أهله، ولم يبلغه تخليتهم؛ فدخل يزيد بن خالد في غمار الناس حتى أتى حمص، وأقبل خالد حتى نزل منزله من دمشق، فلما أصبح أتاه الناس، فبعث إلى ابنتيه: زينب وعاتكة؛ فقال: إني قد كبرت وأحببت أن تليا خدمتي؛ فسرّتا بذلك - ودخل عليه إسماعيل أخوه ويزيد وسعيد ابناه، وأمر بالإذن، فقامت ابنتاه لتتنحّيا، فقال: وما لهما تتنحيّان، وهشام في كلّ يوم يسوقهنّ إلى الحبس! فدخل الناس، فقام إسماعيل وابناه دون ابنتيه يسترونهما، فقال خالد: خرجت غازياً في سبيل الله؛ سامعاً مطيعاً، فخلفت في عقبي، وأخذ حرمى وحرم أهل بيتي؛ فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك! فما منع عصابةً منكم أن تقوم فتقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع! أخفتم أن تقتلوا جميعاً! أخافكم الله! ثم قال: مالي ولهشام! ليكفنّ عني هشام أو لأدعونّ إلى عراقيّ الهوى شأميّ الدار حجازيّ الأصل - يعني محمد بن عليّ بن عبد الله ابن عباس - وقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشاماً. فلما بلغه ما قال، قال: خرف أبو الهيثم.
وذكر أبو زيد أن أحمد بن معاوية حدثه عن أبي الخطاب، قال: قال خالد: لئن ساء صحاب الرُّصافة - يعني هشاماً - لننصبنّ لنا الشأمّى الحجازيّ العراقيّ، ولو نخر نخرةً تداعت من أقطارها.
فبلغت هشاماً، فكتب إليه: إنك هذّاءة هذرة، أببجيلة القليلة الذليلة تتهددّني! قال: فوالله ما نصره أحد بيد ولا بلسان إلا رجل من عبس فإنه قال:
ألا إنّ بحر الجود أصبح ساجياً ... أسير ثقيف موثقاً في السلاسل
فأن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
فأقام خالد ويزيد وجماعة أهل بيته بدمشق، ويوسف ملح على هشام يسأله أن يوجّه إليه يزيد. وكتب هشام إلى كلثوم بن عياض يأمره بأخذ يزيد والبعثة به إلى يوسف، فوجه كلثوم إلى يزيد خيلاً وهو في منزله، فشدّ عليهم يزيد، فأفرجوا له، ثم مضى على فرسه، وجاءت الخيل إلى كلثوم فأخبروه، فأرسل إلى خالد الغد من يوم تنحّى يزيد خيلا، فدعا خالد بثيابه فلبسها. وتصارخ النساء، فقال رجل منهم: لو أمرت هؤلاء النسوة فسكتن! فقال: ولم؟ أما والله لولا الطاعة لعلم عبد بني قسر أنه لا ينال هذه منى، فأعلموه مقالتي؛ فإن كان عربياً كما يزعم، فليطلب جده مني، ثم مضى معهم فحبس في حبس دمشق. وسار إسماعيل من يومه حتى قدم الرُّصافة على هشام، فدخل على أبي الزبير حاجبه فأخبره بحبس خالد، فدخل أبو الزبير على هاشم فأعلمه، فكتب إلى كاثوم يعنّفه، ويقول: خليت عمن أمرتك بحبسه، وحبست من لم آمرك بحبسه. ويأمره بتخلية سبيل خالد، فخلاه.
وكان هشام إذا أراد أمراً أمر الأبرش فكتب به إلى خالد، فكتب الأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن عبد الرحمن بن ثويب الضّني - ضنة سعد إخوة عذرة ابن سعد - قام إليك، فقال: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وأنت رحيم، والله حليم وأنت حليم ... حتى عد عشراً؛ وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق عنده ذلك ليستحلنّ دمك؛ فاكتب إليّ بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين.فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلاً من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرِّف ما كان فيه إلى غيره؛ قام إلى عبد الرحمن ابن ثويب، فقال: يا خال أني لأحبّك لعشر خصال: إن الله كريم يحب كل كريم، والله يحبك وأنا أحبك لحبّ الله إياك؛ حتى عدّد عشر خصال؛ ولكن أعظم من ذلك قيام أبن شقي الحميريّ إلى أمير المؤمنين، وقوله: يا أمير المؤمنين، خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك؟ فقال أمير المؤمنين: بل خليفتي في أهلي، فقال ابن شقي: فأنت خليفة الله ومحمد رسوله؛ ولعمري لضلالة رجل من بجيلة إن ضلّ أهون على العامة والخاصّة من ضلال أمير المؤمنين. فأقرأ الأبرش هشاماً كتابه، فقال خرف أبو الهيثم.
فأقام خالد بدمشق خلافة هشام حتى هلك، فلما هلك هشام، وقام الوليد، قدم عليه أشراف الأجناد؛ فيهم خالد؛ فلم يأذن لأحد منهم. واشتكى خالد، فاستاذن له، فرجع إلى دمشق، فأقام أشهراً، ثم كتب إليه الوليد: إنّ أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الألف ألف؛ التي تعلم، فاقدم على أمير المؤمنين مع رسوله؛ فقدم أمره ألاّ يجعلك عن جهاز.
فبعث خالد إلى عدّة من ثقاته؛ منهم عمارة بن أبي كلثم الأزديّ، فأقرأهم الكتاب، وقال: أشيروا عليّ؛ فقالوا: إنّ الوليد ليس بمأمون عليك؛ فالرأي أن تدخل دمشق، فتأخذ بيوت الأموال وتدعو إلى من أحببت؛ فأكثر الناس قومك؛ ولن يختلف عليك رجلان، قال: أو ماذا؟ قالوا: تأخذ بيوت الأموال، وتقيم حتى تتوثّق لنفسك، ققال: أو ماذا؟ قالوا: أو تتوارى. قال: أما قولكم: تدعو إلى من أحببت؛ فإني أكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، وأما قولكم: تتوثّق لنفسك، فأنتم لا تأمنون عليّ الوليد؛ ولا ذنب لي، فكيف ترجون وفاءه لي وقد أخذت بيوت الأموال! وأما التوارى؛ فوالله ما قنّعت رأسي خوفاً من أحد قطّ؛ فالآن وقد بلغت من السنّ ما بلغت! لا، ولكن أمضى وأستعين الله.
فخرج حتى قدم على الوليد فلم يدع به، ولم يكلّمه وهو في بيته؛ معه مواليه وخدمه، حتى قدم برأس يحيى بن زيد من خراسان، فجمع الناس في رواق، وجلس الوليد، وجاء الحاجب فوقف، فقال له خالد: إن حالي ما ترى؛ لا أقدر على المشي؛ وإنما أحمل في كرسيّ، فقال الحاجب: لا يدخل عليه أحد يحمل، ثم أذن لثلاثة نفر، ثم قال: قم يا خالد، فقال: حالى ماذكرت لك، ثم أذن لرجل أو رجلين؛ فقال: قم يا خالد، إن حالى ما ذكرت لك؛ حتى أذن لعشرة، ثم قال: قم يا خالد، وأذن للناس كلهم، وأمر بخالد فحمل على كرسيّه؛ فدخل به والوليد جالس على سريره.والموائد موضوعة،والناس بين يديه سماطان،وشبّة بن عقّال - أو عقال بن شبّة - يخطب، ورأس يحيى بن زيد منصوب، فميل بخالد إلى أحد السماطين، فلما فرغ الخطيب قام الوليد وصرف الناس، وحمل خالد إلى أهله؛ فلما نزع ثيابه جاءه رسول الوليد فردّه، فلما صار إلى باب السرادق وقف فخرج إليه رسول الوليد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: أين يزيد بن خالد؟ فقال: كان أصابه من هشام ظفر، ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله؛ فلما لم يظهر ظننّاه ببلاد قومه من السّراة، وما أوشكه. فرجع إليه الرسول، فقال: لا ولكنك خلفته طلباً للفتنة. فقال خالد للرسول: قد علم أمير المؤمنين أنّا أهل بيت طاعة، أنا وأبي وجدي - قال خالد: وقد كنت أعلم بسرعة رجعة الرسول؛ أنّ الوليد قريب حيث يسمع كلامي - فرجع الرّسول، فقال: يقول لك أمير المؤمنين؛ لتأتينّ به أو لأزهقنّ نفسك. فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا أردت، وعليه درت؛ والله لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما لك عنه؛ فاصنع ما بدا لك! فأمر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه، وقال له: أسمعني صوته، فذهب به غيلان إلى رحله، فعذّبه بالسلاسل، فلم يتكلم، فرجع غيلان إلى الوليد، فقال: والله ما أعذّب إنساناً؛ والله ما يتكلم ولا يتأوّه، فقال: اكفف عنه واحبسه عندك. فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر بمال من العراق، ثم أداروا الأمر بينهم، وجلس الوليد للناس ويوسف عنده؛ فتكلّم أبان بن عبد الرحمن النميريّ في خالد، فقال يوسف: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إنّ يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف؛ فإن كنت تضمنها وإلاّ دفعتك إليه، فقال خالد: ما عهدت العرب تباع؛ والله لو سألني أن أضمن هذا - ورفع عوداً من الأرض - ما ضمنته، فرَ رأيك.
فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه ودرّعه عباءة ولحفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، وزميله أبو قحافة المريّ ابن أخي الوليد بن تليد - وكان عامل هشام على الموصل، فانطلق به حتى نزل المحدثة، على مرحلة من عسكر الوليد. ثم دعا به فذكر أمّه، فقال: وما ذكر الأمهات لعنك الله! والله لا أكلمك كلمة أبداً. فبسط عليه، وعذّبه عذاباً شديداً وهو لا يكلّمه كلمة. ثم ارتحل به حتى إذا كان ببعض الطريق بعث إليه زيد بن تميم القينيّ بشربة سويق حبّ رمّان مع مولى له يقال له سالم النفّاط، فبلغ يوسف فضرب زيداً خمسمائة سوط، وضرب سالماً ألف صوط. ثم قدم يوسف الحيرة فدعا به وبإبراهيم ومحمد ابني هشام فبسط على خالد، فلم يكلمه، وصبر إبراهيم ابن هشام وخرع محمد بن هشام. فمكث خالد يوماً في العذاب، ثم وضع على صدره المضرّسة فقتله من الليل، ودفن بناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرّم سنة ست وعشرين ومائة في قول الهيثم بن عديّ، فأقبل عامر بن سهلة الأشعريّ فعقر فرسه على قبره، فضربه يوسف سبعمائة سوط.
قال أبو زيد: حدّثني أبو نعيم قال: حدّثني رجل، قال: شهدت خالداً حين أتيَ به يوسف، فدعا بعود فوضع على قدميه، ثم قامت عليه الرّجال حتى كسرت قدماه؛ فوالله ما تكلّم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه ثم على صدره حتى مات، فوالله ما تكلم ولا عبس، فقال خلف بن خليفة لما قتل الوليد بن يزيد:
لقد سكنت كلب وأسباق مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد
تركن أمير المؤمنين بخالد ... مكباً على خيشومه غير ساجد
فإن تقطعوا منّا مناط قلادة ... قطعنا به منكم مناط قلائد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد
وإن سافر القسريّ سفرة هالك ... فإن أبا العباس ليس بشاهد
وقال حسان بن جعدة الجعفريّ يكذّب خلف بن خليفة في قوله هذا:
إن امرأً يدعي قتل الوليد سوى ... أعمامه لملىء النفس بالكذب
ما كان إلا امرأ حانت منيته ... سارت إليه بنو مروان بالعرب
وقال أبو محجن مولى خالد:
سائل وليداً وسائل أهل عسكره ... غداة صبّحه شؤبوبنا البرد
هل جاء من مضر نفس فتمنعه ... والخيل تحت عجاج الموت تطرد
من يهجنا جاهلاً بالشعر ننقضه ... بالبيض إنا بها نهجو ونفتئد
وقال نصر بن سعيد الأنصاريّ:
أبلغ يزيد بني كرز مغلفغلة ... أني شفيت بغيب غير موتور
قطعت أوصال قنور على حنق ... بصارم من سيوف الهند مأثور
أمست حلائل قنور مجدعة ... لمصرع العبد قنور بن قنور
ظلّت كلاب دمشق وهي تنهشه ... كأن أعضاءه أعضاء خنزير
غادرن منه بقايا عند مصرعه ... أنقاض شلو على الأطناب مجرور
حكّمت سيفك إذ لم ترض حكمهم ... والسيف يحكم حكماً غير تعذير
لا ترض من خالد إن كنت متئراً ... إلا بكل عظيم الملك مشهور
أسعرت ملك نزال ثم رعتهم ... بالخيل تركض بالشم المغاوير
ما كان في آل قنور ولا ولدوا ... عدلاً لبدر سماء ساطع النّور
ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص وفي هذه السنة بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك؛ الذي يقال له يزيد الناقص؛ وإنما قيل: يزيد الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد ابن يزيد في أعطياتهم؛ وذلك عشرة عشرة، فلما قتل الوليد نقصهم تلك الزيادة؛ وردّ أعطياتهم إلى ما كانت عليه أيام هشام بن عبد الملك.
وقيل: أوّل من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد، حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عليّ بن محمد، قال: شتم مروان بن محمد يزيد بن الوليد فقال: الناقص بن الوليد؛ فسمّاه الناس الناقص لذلك.
ذكر اضطراب أمر بني مروان وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة.
ذكر الخبر عما حدث فيها من الفتن: فكان في ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بن يزيد بعمّان. فحدثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد قال: لما قتل الوليد خرج سليمان بن هشام من السجن، وكان محبوساً بعمّان، فأخذ ما كان بعمّان من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر.
ذكر خلاف أهل حمص وفيها كان وثوب أهل حمص بأسباب العباس بن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بن يزيد.
ذكر الخبر عن ذلكحدّثني أحمد عن عليّ، قال: كان مروان بن عبد الله بن عبد الملك عاملاً للوليد على حمص، وكان من سادة بني مروان نبلاً وكرماً وعقلاً وجمالاً، فلما قتل الوليد بلغ أهل حمص قتله، فأغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله، فقال بعض من حضرهم: مازلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم؛ حتى جاء العباس بن الوليد، فمال إلى عبد العزيز بن الحجاج. فوثب أهل حمص فهدموا دار العباس وانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه فحبسوهم وطلبوه. فخرج إلى يزيد بن الوليد، وكاتبوا الأجناد، ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد؛ فأجابوهم. وكتب أهل حمص بينهم كتاباً؛ ألاّ يدخلوا في طاعة يزيد؛ وإن كان ولياً عهد الوليد حيّين قاموا بالبيعة لهما وإلا جعلوها لخير من يعلمون؛ على أن يعطيهم العطاء من المحرّم إلى المحرّم، ويعطيهم للذرّية. وأمّروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين، فكتب إلى مروان بن عبد الله بن عبد الملك وهو بحمص في دار الإمارة، فلما قرأه قال: هذا كتاب حضره من الله حاضر. وتابعهم على ما أرادوا.
فلما بلغ يزيد بن الوليد خبرهم، وجّه إليهم رسلاً فيهم يعقوب بن هانىء، وكتب إليهم: إنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكنه يدعوهم إلى الشورى. فقال عمرو بن قيس السكونيّ: رضينا بوليّ عهدنا - يعني ابن الوليد بن يزيد - فأخذ يعقوب بن عمير بلحيته، فقال: أيها العشمة، إنك قد فيّلت وذهب عقلك؛ إن الذي تعني لو كان يتيماً في حجرك لم يحلّ لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمّة! فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم.
وكان أمر حمص لمعاوية بن يزيد بن حصين، وليس إلى مروان بن عبد الله من أمرهم شيء، وكان معهم السّمط بن ثابت، وكان الذي بينه وبين معاوية بن يزيد متباعداً. وكان معهم أبو محمد السفيانيّ فقال لهم: لوقد أتيت دمشق، ونظر إليّ أهلها لم يخالفوني. فوجّه يزيد بن الوليد مسرور ابن الوليد والوليد بن روح في جمع كبير، فنزلوا حوّارين، أكثرهم بنو عامر من كلب. ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام فأكرمه يزيد، وتزوّج أخته أم هشام بنت هشام بن عبد الملك، وردّ عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، ووجّهه إلى مسرور بن الوليد والوليد بن روح، وأمرهما بالسمع والطاعة له. وأقبل أهل حمص فنزلوا قرية لخالد بن يزيد بن معاوية.
حدّثني أحمد، قال: حدّثنا عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني عمرو بن محمد ويحيى بن عبد الرحمن البهرانيّ، قالا: قام مروان بن عبد الله، فقال: يا هؤلاء؛ إنكم خرجتم لجهاد عدوّكم والطلب بدم خليفتكم، وخرجتم مخرجاً أرجو أن يعظم الله به أجركم، ويحسن عليه ثوابكم، وقد نجم لكم منهم قرن، وشال إليكم منهم عنق، إن أنتم قطعتموه اتبعه ما بعده، وكنتم عليه أحرى، وكانوا عليكم أهون، ولست أرى المضيّ إلى دمشق وتخليف هذا الجيش خلفكم. فقال السمط: هذا والله العدوّ القريب الدار؛ يريد أن ينقض جماعتكم؛ وهو ممايل للقدرية.
قال: فوثب الناس على مروان بن عبد الله فقتلوه وقتلوا ابنه، ورفعوا رأسيهما للناس؛ وإنّما أراد السّمط بهذا الكلام خلاف معاوية بن يزيد، فلما قتل مروان بن عبد الله ولّوا عليهم أبا محمد السفيانيّ، وأرسلوا إلى سليمان بن هشام: إنا آتوك فأقم بمكانك؛ فأقام. قال: فتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، ومضوا إلى دمشق، وبلغ سليمان مضيّهم، فخرج مغداً، فلقيهم بالسليمانية - مزرعة كانت لسليمان بن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلاً.
قال عليّ: فحدثني عمرو بن مروان بن بشّار والوليد بن عليّ، قالا: لما بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بن الحجاج، فوجّهه في ثلاثة آلاف، وأمره أن يثبت على ثنيّة العقاب، ودعا هشام بن مصاد، فوجّهه في ألف وخمسمائة، وأمره أن يثبت على عقبة السلامة، وأمرهم أن يمدّ بعضهم بعضاً.
قال عمرو بن مروان: فحدّثني يزيد بن مصاد، قال: كنت في عسكر سليمان، فلحقنا أهل حمص، وقد نزلوا السلمانيّة، فجعلوا الزيتون على أيمانهم، والجبل على شمائلهم، والجباب خلفهم؛ وليس عليهم مأتىً إلا من وجه واحد، وقد نزلوا أوّل الليل، فأراحوا دوابّهم، وخرجنا نسري ليتنا كلّها، حتى دفعنا إليهم؛ فلما متع النهار واشتدّ الحرّ، ودوابنا قد كلّت وثقل علينا الحديد، دنوت من مسرور بن الوليد، فقلت له - وسليمان يسمع كلامي: أنشدك الله يا أبا سعيد أن يقدم الأمير جنده إلى القتال في هذه الحال! فأقبل سليمان فقال: يا غلام، اصبر نفسك، فوالله لا أنزل حتى يقضيَ الله بيني وبينهم ما هو قاض. فتقدّم وعلى ميمنته الطفيل بن حارثة الكلبيّ، وعلى ميسرته الطفيل بن زرارة الحبشيّن فحملوا علينا حملةً، فانهزمت الميمنة والميسرة أكثر من غلوتين، وسليمان في القلب لم يزل من مكانه؛ ثم حمل عليهم أصحاب سليمان حتى ردّوهم إلى موضعهم؛ فلم يزالوا يحملون علينا ونحمل عليهم مراراً، فقتل منهم زهاء مائتي رجل، فيهم حرب بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وأصيب من أصحاب سليمان نحو من خمسين رجلاً، وخرج أبو الهلباء البهراني - وكان فارس أهل حمص - فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه حيّة بن سلامة الكلبيّ فطعنه طعنة أذراه عن فرسه، وشدّ عليه أبو جعدة مولىً لقريش من أهل دمشق فقتله، وخرج ثبيت ابن يزيد البهرانيّ، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه إيراك السغديّ؛ من أبناء ملوك السغد كان منقطعاً إلى سليمان بن هشام - وكان ثبيت قصيراً، وكان إيراك جسيماً - فلما رآه ثبيت قد أقبل نحوه استطرد، فوقف إيراك ورماه بسهم فأثبت عضلة ساقه إلى لبده. قال: فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنية العقاب، فشد عليهم، حتى دخل عسكرهم فقتل ونفذ إلينا.
قال أحمد: قال عليّ: قال عمرو بن مروان: فحدّثني سليمان بن زياد الغسانيّ قال: كنت مع عبد العزيز بن الحجاج؛ فلما عاين عسكر أهل حمص، قال لأصحابه: موعدكم التلّ الذي في وسط عسكرهم؛ والله لا يتخلّف منكم أحد إلاّ ضربت عنقه. ثم قال لصاحب لوائه: تقدّم، ثم حمل وحملنا معه؛ فما عرض لنا أحد إلا قتل حتى صرنا على التلّ، فتصدّع عسكرهم، فكانت هزيمتهم، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الملك القسريّ: الله الله في قومك! فكفّ الناس، وكره ما صنع سليمان وعبد العزيز؛ وكاد يقع الشرّ بين الذكوانيّة وسليمان وبين بني عامر من كلب، فكفوا عنهم؛ على أن يبايعوا ليزيد ابن الوليد. وبعث سليمان بن هشام إلى أبي محمد السفيانيّ ويزيد خالد بن يزيد بن معاوية فأخذا، فمرّ بهما على الطفيل بن حارثة، فصاحا به: يا خالاه! ننشك الله والرحم! فمضى معهما إلى سليمان فحبسهما، فخاف بنو عامر أن يقتلهما، فجاءت جماعة منهم؛ فكانت معهما في الفسطاط، ثم وجّههما إلى يزيد بن الوليد معهم. ثم دخل سليمان وعبد العزيز إلى دمشق؛ ونزلا بعذراء. واجتمع أمر أهل دمشق، وبايعوا يزيد بن الوليد، وخرجوا إلى دمشق وحمص وأعطاهم يزيد العطاء، وأجاز الأشراف منهم معاوية بن يزيد بن الحصين والسمط بن ثابت وعمرو بن قيس وابن حُوَيّ والصقرين صفوان؛ واستعمل معاوية بن يزيد بن حصين من أهل حمص، وأقام الباقون بدمشق، ثم ساروا إلى أهل الأردن وفلسطين وقد قتل من أهل حمص يومئذ ثلثمائة رجل.
ذكر خلاف أهل الأردن وفلسطين وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين والأردنّ على عاملهم فقتلوه.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمر يزيد بن الوليد معهم
حدّثني أحمد، عن عليّ بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني رجاء بن روح بن سلامة بن روح بن زنباع، قال: كان سعيد بن عبد الملك عاملاً للوليد على فلسطين، وكان حسن السيرة، وكان يزيد بن سليمان سيّد ولد أبيه، وكان ولد سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين، فكان أهل فلسطين يحبّونهم لجوارهم؛ فلما أتى قتل الوليد - ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بن روح بن زنباع - كتب إلى يزيد بن سليمان: إن الخليفة قد قثتل فاقدم علينا نولّك أمرنا. فجمع له سعيد قومه، وكتب إلى سعيد بن عبد الملك - وهو يومئذ نازل بالسبع: ارتحل عنّا، فإن الأمر قد اضطرب؛ وقد ولينا أرمنا رجلاً قد رضينا أمره. فخرج إلى يزيد بن الوليد، فدعا يزيد ابن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بن الوليد، وبلغ أهل الأردنّ أمرهم، فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك - وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح - وبلغ يزيد أمرهم، فوجّه إليهم سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفيانيّ.
قال عليّ: قال عمرو بن مروان: حدّثني محمد بن راشد الخزاعيّ أنّ أهل دمشق كانوا أربعة وثمانين ألفاً، وسار إليهم سليمان بن هشام. قال محمد بن راشد: وكان سليمان بن هشام يرسلني إلى ضبعان وسعيد ابني روح وإلى الحكم وراشد ابني جرو من بلقين، فأعدهم وأمنّيهم على الدخول في طاعة يزيد بن الوليد، فأجابوا.
قال: وحدّثني عثمان بن داود الخولانيّ، قال: وجهني يزيد بن الوليد ومعي حذيفة بن سعيد إلى محمد بن عبد الملك ويزيد بن سليمان، يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنّيهما، فبدأنا بأهل الأردن ومحمد بن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة منهم؛ فكلّمته فقال بعضهم: أصلح الله الأمير! اقتل هذا القدريّ الخبيث، فكفهم عني الحكم بن جرو القيني. فأقيمت الصلاة فخلوت به، فقلت: إني رسول يزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلاّ على رأس رجل من قومك، ولا درهم يخرج من بيت المال إلاّ في يد رجل منهم؛ وهو يحمل لك كذا وكذا. قال: أنت بذاك؟ قلت: نعم: ثم خرجت فأتيت ضبعان بن روح، فقلت له مثل ذلك، وقلت له: إنه يوليك فلسطين ما بقيَ، فأجابني فانصرفت، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين.
حدّثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: سمعت محمد بن سعيد بن حسان الأردنيّ، قال: كنت عيناً ليزيد بن الوليد بالأردنّ، فلما اجتمع له ما يريد ولاّني خراج الأردنّ، فلما خالفوا يزيد بن الوليد أتيت سليمان بن هشام، فسألته أن يوجّه معي خيلاً، فأشنّ الغارة على طبريّة، فأبى سليمان أن يوجّه معي أحداً، فخرجت إلى يزيد بن الوليد، فأخبرته الخبر، فكتب إلى سليمان كتاباً بخطه، يأمره أن يوجه معي ما أردت؛ فأتيت به سليمان، فوجه معي مسلم بن ذكوان في خمسة آلاف، فخرجت بهم ليلاً حتى أنزلتهم البطيحة، فتفرّقوا في القرى، وسرت أنا في طائفة منهم نحو طبريّة، وكتبوا إلى عسكرهم، فقال أهل طبريّة: علام نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا! ومضوا إلى حجرة يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك، فانتهبوهما وأخذوا دوابّهما وسلاحهما، ولحقوا بقراهم ومنازلهم؛ فلما تفرّق أهل فلسطين والأردنّ، خرج سليمان حتى أتى الصنبرة، وأتاه أهل الأردنّ، فبايعوا ليزيد بن الوليد؛ فلما كان يوم الجمعة وجّه سليمان إلى طبرية، وركب مركباً في البحيرة، فجعل يسايرهم حتى أتى طبريّة، فصلى بهم الجمعة، وبايع من حضر ثم انصرف إلى عسكره.
حدّثني أحمد، قال: حدّثنا عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني عثمان بن داود، قال: لما نزل سليمان الصنبرة، أرسلني إلى يزيد بن الوليد، وقال لي: أعلمه أنك قد علمت جفاء أهل فلسطين والأسود بن بلال المحاربيّ الأردنّ. فأتيت يزيد، فقلت له ما أمرني به سليمان، فقال: أخبرني كيف قلت لضبعان بن روح؟ فأخبرته، قال: فما صنع؟ قلت: ارتحل بأهل فلسطين، وارتحل ابن جرو بأهل الأردنّ قبل أن يصبحا. قال: فليسا بأحقّ بالوفاء منا، ارجع فمرْه ألاّ ينصرف حتى ينزل الرملة، فيبايع أهلها، وقد استعملت إبراهيم بن الوليد على الأردنّ وضبعان بن روح على فلسطين ومسرور بن الوليد على قنسرين وابن الحصين على حمص.
ثم خطب يزيد بن الوليد بعد قتل الوليد، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الناس؛ إني والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا حرصاً على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي؛ إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي؛ ولكني خرجت غضباً لله ورسوله ودينه، داعياً إلى الله وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لمّا هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى، وظهر الجبّار العنيد، المستحلّ لكل حرمة، والرّاكب لكلّ بدعة؛ مع أنه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب؛ وإنه لابنُ عمّي في الحسب، وكفيّي في النسب؛ فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألاّ يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوّته، لا بحولي وقوتي.
أيّها الناس، إنّ لكم عليّ ألا أضع حجراً على حجر، ولا لبنة على لبنة؛ ولا أكري نهراً، ولا أكثر مالاً، ولا أعطيه زوجة ولا ولداً، ولا أنقل مالاً من بلدة إلى بلدة حتى أسدّ ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يعينهم؛ فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه؛ ممن هو أحوج إليه؛ ولا أجمّركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم؛ ولا أغلق بابي دونكم؛ فيأكل قويّكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم؛ وإنّ لكم أعطياتكم عندي في كلّ سنة وأرزاقكم في كلّ شهر؛ حتى تستدرّ المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيتُ لكم بما قلت؛ فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تخلعوني؛ إلا أن تستتيبوني؛ فإن تبت قبلتم مني، فإن علمتم أحداً ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه؛ فأنا أوّل من يبايعه، ويدخل في طاعته.
أيّها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد؛ إنما الطاعة طاعة الله؛ فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية؛ فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه الأفقم يزيد بن هشام. وبايعه قيس بن هانىء العبسيّ، فقال: يا أمير المؤمنين، اتّق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك؛ وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء. فبلغ مروان بن محمد قوله، فقال: ما له قاتله الله ذمّنا جميعاً وذمّ عمر! فلما وليَ موران بعث رجلاً، فقال: إذا دخلتَ مسجد دمشق فانظر قيس ابن هانىء، فإنه طالما صلّى فيه، فاقتله؛ فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيساً يصلي فقتله.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولاها منصور بن جمهور.
ذكر الخبر عن عزل يوسف بن عمر وولاية منصور بن جمهور: ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشأم، ندب - فيما قيل - لولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبيّ، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولاّها منصور بن جمهور.
وأما أبو مخنف، فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بن عبد الملك بوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بن الوليد بن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب. وقدم منصور بن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لأهل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بن نباتة، فطرقه ليلاً فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بن يزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن الوليد بالعراق؛ وفي كورها، وأقام بقيّة رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه.
وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كان منصور بن جمهور أعرابياً جافياً غيلانياً، ولم يكن من أهل الدّين؛ وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحميّة لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق: قد وليتك العراق فسر إليه، واتّق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور؛ فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه. فدخل على يزيد بن الوليد يزيد بن حجرة الغسانيّ - وكان دَيّناً فاضلاً ذا قدر في أهل الشأم، قد قاتل الوليد ديانةً - فقال: يا أمير المؤمنين، أولّيت منصوراً العراق؟ قال: نعم، لبلائه وحسن معونته، قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ليس هناك في أعرابيّته وجفائه في الدين. قال: فإذا لم أولّ منصوراً في حسن معاونته فمن أولّي! قال: تولّى رجلاً من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود؛ ومالي لا أرى أحداً من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قال: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلتُ قيساً؛ فوالله ما عزّت إلا ذلّ الإسلام.
ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانيّة فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرّجل من المضريّة، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشأم، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يحبّ، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بن عبد الله البصريّ ومنصور ابن نصير - وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشأم - فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشأم أرصاداً، وأقام بالحيرة وجلاً. وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع؛ كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان كتاباً: أما بعد، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له؛ وإنّ الوليد بن يزيد بدّل نعمة الله كفراً، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجّله إلى النار! وولي خلافته من هو خير منه، وأحسن هدياً؛ يزيد بن الوليد، وقد بايعه الناس، وولّى على العراق الحارث بن العباس بن الوليد، ووجّهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين؛ فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنّك منهم أحد، فاحبسهم قبلك. وإياك أن تخالف، فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به؛ فاختر لنفسك أو دع.
وقيل إنه لما كان بعين التّمر كتب إلى من بالحيرة من قوّاد أهل الشأم يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله. وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان، وأمره أن يفرّقها على القوّاد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به.
قال حريث بن أبي الجهم: كان مكثي بواسط؛ فما شعرت إلا بكتاب منصور بن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولّى أمره بواسط، فجمعت مواليّ وأصحابي، فركبنا نحواً من ثلاثين رجلاً في السلاح؛ فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث إلا أمر مهم؛ ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بن الوليد.