كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان على مجنبتي المثنى بشير وبسرين أبي رهم، وعلى مجردته المعنى، وعلى الرجل مسعود، وعلى الطلائع قبل ذلك اليوم النسير، وعلى الردء مذعور؛ وكان على مجنبتي مهران ابن الآزاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه. ولما خرج المثنى طاف في صفوفه يعهد إليهم عهده، وهو على فرسه الشموس - وكان يدعى الشموس من لين عريكته وطهارته، فكان إذا ركبه قاتل ؛ وكان لا يركبه إلالقتال ويدعه ما لم يكن قتال - فوقف على الرايات راية راية يخضضهم، ويأمرهم بأمره، ويهزمهم بأحسن ما فيهم، تحضيضاً لهم، ولكلهم يقول: إني لأرجو ألا تؤتى العرب اليوم من قبلكم ؛ والله ما يسرني اليوم لنفسي شئ إلا وهو يسرني لعامتكم ؛ فيجيبونه بمثل ذلك. وأنصفهم المثنى في القول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب ؛ فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولاً ولا عملاً. ثم قال: المكروه والمحبوب ؛ فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا. ثم قال: إني مكبر ثلاثاً فتهيئوا ؛ ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبير أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبير ؛ وركدت حربهم ملياً، فرأى المثنى خللاً في بعض صفوفه، فأرسل إليهم رجلاً، وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم، فقالوا : نعم، واعتدلوا، وجعلوا قبل ذلك يرونه وهو يمد لحيته لما يرى منهم ؛ فاعتنوا بأمر لم يجئ به أحد من المسلمين يومئذ فرمقوه، فرأوه يضحك فرحاً والقوم بنو عجل . فلما طال القتال واشتد ، عمد المثنى إلى أنس بن هلال، فقال: يا أنس، إنك امرؤ عربي، وإن لم تكن على ديننا ؛ فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لأبن مردي الفهر مثل ذلك فأجابه. فحمل المثنى على مهران ؛ فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم ، واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل ، لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم، لا المشركون ولا المسلمون، وارتث مسعود يومئذ وقواد من قواد المسلمين ؛ وقد كان قال لهم: إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ؛ فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف ؛ الزموا مصافكم ، وأغنوا غناء من يليكم. وأرجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام من التغلبيين نصراني مهراني واستوى على فرسه، فجعل المثنى سلبه لصاحبه خيله ؛ وكذلك إذا كان المشرك في خيل رجل فقتل وسلب فهو للذي هو أمير على من قتل ؛ وكان له قائدان: أحدهما جرير والآخر ابن الهوبر ؛ فاقتسما سلاحه.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه محفز بن ثعلبة ؛ قال: جلب فتية من بني تغلب أفراساً، فلما التقى الزحفان يوم البويب، قالوا: نقاتل العجم مع العرب، فأصاب أحدهم مهران يومئذ، ومهران على فرس له ورد مجفف بتجفاف أصفر، بين عبينيه هلال، وعلى ذنبه أهلة من شبه، فاستوى على فرسه، ثم انتمى: أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان ؟ فأتاه جرير وابن الهوبر في قومهما فأخذ برجله فأنزلاه.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، أن جريراً والمنذر اشتركا فيه فاختصما في سلاحه، فتقاضيا إلى المثنى، فجعل سلاحه بينهما والمنطقة والسوارين بينهما، وأفنوا قلب المشركين.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، قال: والله إن كنا لنأتي البويب، فنرى فيما بين موضع السكون وبني سليم عظاماً بيضاً تلولاً تلوح من هامهم وأوصالهم ؛ يعتبر بها. قال: وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحزرونها مائة ألف، وما عفى عليها حتى دفنها أدفان البيوت.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة ؛ قالا: وقف المثنى عند ارتفاع الغبار ؛ حتى أسفر الغبار، وقد فنى قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضاً، فملا رأوه وقد أزوال القلب، وأفنى أهله، قويت المجنبات - مجنبات المسلمين - على المشركين ، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون من القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل عليهم من يزحرهم، ويقول: إن المثنى يقول: عاداتكم في أمثالهم ؛ انصروا الله ينصركم ؛ حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطئ الفرات مصعدين ومصوبين، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوهم جثاً؛ فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمة منها. ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ - وكان صرع قبل الهزيمة، فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دنف - قال: يا معشر بكر بن وائل، ارفعوا رايتكم، رفعكم الله لا يهولنكم مصرعي. وقاتل أنس بن هلال النمري يومئذ حتى ارتث، ارتثه للثنى، وضمه وضم مسعوداً إليه. وقاتل قرط بن جماح العبدي يومئذ حتى دق قناً ، وقطع أسيافاً. وقتل شهر براز من دهاقين فارس صاحب مجردة مهران.
قال: ولما فرغوا جلس المثنى للناس من بعد الفراغ يحدثونه، وكلما جاء رجل فتحدث قال له: أخبرني عنك ؛ فقال له قرط بن جماح: قتلت رجلاً فوجدت منه رائحة المسك، فقلت : مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو صاحب الخيل شهر براز، فوالله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئاً.
فقال: المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام ؛ والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد على من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد على من ألف من العجم ؛ إن الله أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم ؛ فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا سواد ولا قسي فج ، ولا نبال طوال، فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها، كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت.
وقال ربعي وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها، قلت: تترسوا بالمجان، فإنهم شادون عليكم ؛ فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة ؛ فأجابوني والله ؛ فوفى الله كفالتي.
وقال أبن ذي السهمين محدثاً: قلت لأصحابي: إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الرعب ؛ فما ذكره إلا لفضل عنده ؛ اقتدوا برايتكم، وليحم راجلكم خيلكم، ثم احملوا فما لقول الله من خلف ؛ فأنجز الله لهم وعده، وكان كما رجوت.
وقال عرفجة محدثاً: حزنا كتبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون الله تعالى قد أذن في غرقهم وسلى عنا بها مصيبة الجسر، فلما دخلوا في حد الإحراج، كروا علينا، فقاتلناهم قتالاً شديداً حتى قال بعض قومي: لو أخرت رايتك ؟ فقلت: على إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته، فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد فيه الروح.
وقال ربعي بن عامر بن خالد: كنت مع أبي يوم البويب - قال وسمى البويب يومي الأعشار - أحصى مائة رجل، قتل كل رجل منهم عشرة في المعركة يومئذ، وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب في بني كنانة من أصحاب التسعة ، وعرفجة في الأزاد من أصحاب التسعة.
وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم إلى شاطئ الفرات، ضفة البويب الشرقية ؛ وذلك أن المثنى بادرهم عند الهزيمة الجسر، فأخذه عليهم، فأخذوا يمنة ويسرة، وتبعهم المسلمون إلى الليل، ومن الغد إلى الليل، وندم المثنى على أخذه بالجسر، وقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعة ؛ حتى أحرجتهم ؛ فإني غير عائد ؛ فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت منى زلة لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع. ومات أناس من الجرحى من أعلام المثنى، المسلمين منهم خالد بن هلال ومسعود بن حارثة فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن ؛ وقال: والله إنه ليهون على وجدى أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجرعوا ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوز الذنوب.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقد كان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نزل مهران غنماً ودقيقاً وبقراً، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم ؛ وهم بالحيرة. وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات الذين بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة، فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش وبشروهن بالفتح، وقالوا: هذا أوله، وعلى الخيل التي أتتهم بالنزل النسير ؛ وأقام في خيله حامية لهم، ورجع عمرو بن عبد المسيح فبات بالحيرة. وقال المثنى يومئذ: من يتبع الناس حتى ينتهي إلى السبب؟ فقام جرير بن عبد الله في قومه، فقال: يا معشر بجيلة، إنكم وجميع من شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة والبلاء سواء، وليس لأحد منهم في هذا الخمس غداً من النفل مثل الذي لكم منه ؛ ولكم ربع خمسه نفلا من أمير المؤمنين؛ فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه، ونية إلى ما ترجون فإنما تنتظرون إحدى الحسنين: الشهادة والجنة أو الغنيمة والجنة.
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستقتلوا من منهزمة يوم الجسر، ثم قال: أين المستبسل بالأمس وأصحابه ! انتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب، وابلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به ، فهو خير لكم وأعظم أجراً ؛ واستغفروا الله أن الله غفور رحيم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن حمزة بن علي بن محفز، عن رجل من بكر بن وائل، قال: كان أول الناس انتدب يومئذ للمثنى واتبع آثارهم المستبسل وأصحابه ؛ وقد كان أراد الخروج بالأمس إلى العدو من صف المسلمين واستوفز واستنتل ، فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ؛ ثم أخرجهم في آثار للقوم، واتبعهم بجيلة وخيول من المسلمين تغذ من كل فارس، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب، ولم يبق في العسكر جسرى إلا خرج في الخيل، فأصابوا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئاً كثيراً فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية، وبعث بثلاثة أرباع مع عكرمة، وألقى الله الرعب في قلوب أهل فارس. وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى، وكتب عاصم وعصمة وجرير: إن الله عز وجل قد سلم وكفى، ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شئ ؛ فتأذن لنا في الإقدام؛ فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهل ساباط منهم واستباحوا القربات دونها ؛ وراماهم أهل الحصن بساباط عن حصنهم، وكان أول من دخل حصنهم ثلاثة قواد: عصمة، وعاصم، وجرير ؛ وقد تبعهم أوزاع من الناس كلهم. ثم انكفؤا راجعين إلى المثنى.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية بن الحارث، قال: لما أهلك الله مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها، لا يخافون كيداً، ولا يلقون فيها مانعاً، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم ؛ واعتصموا بساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة.
وكانت وقعة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة قتل الله عليه مهران وجيشه، وأفعموا جنبتى البويب عظاماً، حتى استوى وما عفى عليها إلا التراب أزمان الفتنة، وما يثار هنالك شئ إلا وقعوا منها على شئ ؛ وهو ما بين السكون ومر هبة وبنى سليم ؛ وكان مغيضاً للفرات أزمان الأكاسرة بصب في الجوف. وقال الأعور العبدي الشنى:
هاجت لأعور دار الحي أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس خفانا
وقد أرانا بها واشمل ومجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه ... حتى أبادهم مثنى ووحداناً
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في أمر جرير وعرفجة والمثنى وقتال المثنى مهران غير ما قص سيف من أخبارهم ؛ والذي قال في أمرهم ما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما انتهت إلى عمر بن الخطاب مصيبة أصحاب الجسر، وقدم عليه فلهم ؛ قدم عليه جرير بن عبد الله البجلي من اليمن في ركب من بجيلة، وعرفجة بن هرثمة - وكان عرفجة يومئذ سيد بجيلة، وكان حليفاًي لهم من الأزد - فكلمهم عمر، فقال لهم: إنكم قد علمتم ما كان حليفاً لهم من إخوانكم بالعراق ؛ فسيروا إليهم وأنا أخرج إليكم من كان منكم في قبائل العرب فأجمعهم إليكم. قالوا: نفعل يا أمير المؤمنين، فأخرج لهم قيس كبة وسحمة وعرينة ؛ وكانوا في قبائل بني عامر بم صعصعة، وأمر عليهم عرفجة بن هرثمة، فغضب من ذلك جرير بن عبد الله البجلي، فقال لبجلية: كلموا أمير المؤمنين، فقالوا له: استعملت علينا رجلاً ليس منا، فأرسل إلى عرفجة، فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال: صدقوا يا أمير المؤمنين، لست منهم، ولكني رجل من الأزد، كنا أصبنا في الجاهلية دماً في قومنا، فلحقنا بجلية فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك. فقال له عمر: فاثبت على منزلتك، ودافعهم كما يدافعونك. قال: لست فاعلاً ولا سائراً معهم ؛ فسار عرفجة إلى البصرة بعد أن نزلت، وترك بجلية، وأمر عمر على بجيلة جرير بن عبد الله، فسار بهم مكانه إلى الكوفة، وضم إليه عمر قومه من بجلية، فأقبل جرير حتى إذا مر قريباً من المثنى بن حارثة، كتب إليه المثنى أن أقبل إلى ، فإنما أنت مدد لي. فكتب إليه جرير: إني لست فاعلاً إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين ؛ أنت أمير وأنا أمير.
ثم سار جرير نحو الجسر، فلقيه مهران بن باذان - وكان من عظماء فارس - عند النخيلة، قد قطع إليه الجسر، فاقتتلا قتالاً شديداً، وشد المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران فطعنه، فوقع عن دابته، فاقتحم عليه جرير فاختر رأسه فاختصما في سلبه اصطلحا فيه فأخذ جرير السلاح، وأخذ المنذر بن حسان منطقته.
قال: وحدثت أن مهران لما لقى جريراً قال:
إن تسألوني عنى فإني مهران ... أنا لمن انكرني ابن باذان
قال: فأنكرت ذلك حتى حدثني من لا أتهم من أهل العلم أنه كان عربياً نشأ مع أبيه باليمن إذ كان عاملا لكسرى. قال: فلم أنكر ذلك حين بلغني.
كتب المثنى إلى عمر يمحل بجرير، فكتب عمر إلى المثنى: إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - يعني جريراً. وقد وجه عمر سعد بن بي وقاص إلى العراق في ستة آلاف، أمره عليهم ؛ وكتب إلى المثنى وجرير بن عبد الله أن يجتمعا إلى سعد بن أبي وقاص، وأمر سعداً عليهما ؛ فسار سعد حتى نزل شراف ، وسار المثنى وجرير حتى نزلا عليه، فشتا بها سعد، واجتمع إليه الناس، ومات المثنى بن حارثة رحمه الله.
خبر الخنافس
رجع الحديث إلى حديث سيف. كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ومخر المثنى السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية، وأرسل جريراً إلى ميسان، وهلال بن علفة التيمي إلى دست ميسان، وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبي وبالكلج الضبي وبعرفجة البارقي ؛ وأمثالهم في قواد المسلمين ؛ فبدأ فنزل أليس - قرية من قرى الأنبار - وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخر ؛ وغزاة أليس الآخر، وألز رجلان بالمثنى : أحدهما أنباري والآخر حيري يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنباري فدله على الخنافس، وأما الحيري فدله على بغداد. فقال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها؟ فقالوا: بينهما أيام، قال: أيهما أعجل؟ قالوا: الخنافس سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى ؛ حتى إذا ظن أنه موافيها يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بن وبرة، وعلى ربيعة السليل بن قيس وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على بدئه حتى يطرق داهاقين الأنبار طروقاً في أول النهار يومه، فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد ؛ وأتوه بالأدلاء على بغداد ؛ فكان وجهه إلى سوق بغداد، فصبحهم والمسلمون يمخرون السواد والمثنى والأنبار، ويشنون الغارات فيما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات وجسور مثقف إلى عين التمر وما والاها من الأرض في أرض الفلاليج والعال.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن مخفر، عن أبيه، قال: قال رجل من أهل الحيرة للمثنى: ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى والسواد، وتجتمع بها في كل سنة مرة ومعهم فيها الأموال ؛ كبيت المال ؛ وهذه أيام سوقهم، فإن أنت قدرت أن تغير عليهم وهم لا يشعرون أصبت فيها مالاً يكون غناء للمسلمين ؛ وقووا به على عدوهم دهرهم، قال: وكم بين كسرى وبينها؟ قال بعض يوم أو عامة يوم، قال: فكيف لي بها؟ قالوا: نأمرك إن أردتها أن تأخذ طريق البر، حتى تنتهي إلى الخنافس، فإن الأنبار سيضربون إليها، ويخبرون عنك فيأمنون، ثم تعوج على أهل الأنبار فتأخذ الدهاقين بالأدلاء، فتسير سواد ليلتك من الأنبار حتى تأتيهم صبحاً فتصبحهم غارة.
فخرج من أليس حتى أتى الخنافس، ثم عاج حتى رجع على الأنبار، فلما أحسه صاحبها تحصن وهو لا يدري من هو ؛ وذلك ليلاً ؛ فلما عرفه نزل إليه فأطعمه المثنى، وخوفه واستكتمه، وقال: إني أريد أن أغير فابعث معي الأدلاء إلى بغداد، حتى أغير منها إلى المدائن. قال: انا أجئ معك، قال: لا أريد أن تجئ معي، ولكن ابعث من هو أدل منك فزودهم الأطعمة والأعلاف وبعث معهم الأدلة، فساروا حتى إذا كانوا بالنصف، قال لهم المثنى: كم بيني وبين هذه القرية؟ قالوا: أربعة أو خمسة فراسخ. فقال لأصحابه: من ينتدب للحرس؟ فانتدب له قوم فقال لهم: أذكوا حرسكم، ونزل وقال: أيها الناس، أقيموا واطعموا وتوضئوا وتهيؤا. وبعث الطلائع فحسبوا الناس ليسبقوا الأخبار، فلما فرغوا أسرى إليهم آخر الليل، فعبر إليهم، فصبحهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف فقتل، وأخذوا ما شاءوا، وقال المثنى: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ولا تأخذوا من المتاع إلا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته. وهرب أهل الأسواق، وملأ السلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شئ، ثم خرج كاراً حتى نزل بنهر السيلحين بالأنبار ؛ فنزل وخطب الناس، وقال: أيها الناس، انزلوا وقضوا أوطاركم، وتأهبوا للسير، واحمدوا لله وسلوه العافية، ثم انكشفوا قبيضاً . ففعلوا، فسمع همساً فيما بينهم: ما أسرع القوم في طلبنا! فقال: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا في الأمور وقد روها ثم تكلموا ؛ إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد ؛ ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تنتشر عليها؛ يوماً إلى الليل ولو طلبكم المحامون من رأى العين ما أدركوكم وأنتم على العراب حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم، ولو أدركوكم لقاتلتهم لأثنتين: التماس الأجر ورجاء النصر ؛ فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعد منكم ؛ وسأخبركم غنى وعن انكماشي والذي أريد بذلك ؛ إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أوصانا أن نقلل العرجة ، ونسرع الكرة في الغارات، ونسرع في غير ذلك الأوبة. وأقبل بهم ومعهم أدلاؤهم يقطعون بهم الصحارى والأنهار ؛ حتى انتهى بهم إلى الأنبار ؛ فاستقبلهم دهاقين الأنبار بالكرامة، واستبشروا بسلامته، وكان موعده الإحسان إليهم إذا استقام لهم من أمرهم ما يحبون.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار سرح المضارب العجلي وزيداً إلى الكباث، وعليه فارس العناب التغلبي، ثم خرج في آثارهم، فقدم الرجلان الكباث، وقد ارفضوا وأخلوا الكباث، وكان أهله كلهم من بني تغلب فركبوا آثارهم يتبعونهم، فأدركوا أخرياتهم وفارس العناب يحميهم، فحماهم ساعة ثم هرب، وقتلوا في أخرياتهم وأكثروا، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار والخليفة عليهم فرات بن حيان فلما رجع إلى الأنبار سرح فرات بن حيان وعتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي ؛ فلما دنوا من صفين، افترق المثنى وفرات وعتيبة، وفر أهل صفين وعبروا الفرات إلى الجزيرة، وتحصنوا، وأرمل المثنى وأصحابه من الزاد، حتى أقبلوا على رواحلهم إلا مالا دياف وحوران، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بني تغلب خفراء، بد منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها ثم أدركوا عيراً من أهل واخذوا العير وكان ظهيراً فاضلاً وقال لهم: دلوني فقال أحدهم آمنوني على أهلي ومالي، وأدلكم على حتى من تغلب غدوت من عندهم اليوم ؛ فآمنه المثنى وسار معه يومه، حتى إذا كان العشى هجم على القوم، فإذا النعم صادرة عن الماء، وإذا القوم جلوس بأفنية البيوت، فبث غارته، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية ؛ واستاقوا الأموال، وإذا هم بنو ذي الرويحلة ؛ فاشترى من كان بين المسلمين من ربيعة السبايا بنصيبه من الفئ، وأعتقوا سبيهم ؛ وكانت ربيعة لا تسبى إذ العرب يتسابون في جاهليتهم.
وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا الشط ؛ شاطئ دجلة، فخرج المثنى، وعلى مقدمته في غزواته هذه بعد البويب كلها حذيفة بن محصن الغلفاني، وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف بن النعمان ومطر الشيبانيات، فسرح في أدبارهم حذيفة واتبعه ؛ فأدركوهم بتكريت دوينها من حيث طلبوهم يخوضون الماء، فأصابوا ما شاءوا من النعم، حتى أصاب الرجل خمساً من النعم، وخمساً من السبي، وخمس المال ؛ وجاء به حتى ينزل على الناس بالأنبار ؛ وقد مضى فرات وعتيبة في وجوههما ؛ حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا بطائفة منهم في الماء، فناشدوهم فلم يقلعوا عنهم، وجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمرون الناس، وينادونهم: تغريق بتحريق - يذكرونهم يوماً من أيامهم في الجاهلية أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضة من الغياض - ثم انكفئوا راجعين إلى المثنى، وقد غرقوهم.
ولما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافى بها البعوث والسرايا، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة، فنزل بها. وكانت تكون لعمر رحمه الله العيون في كل جيش، فكتب إلى عمر بما كان في تلك الغزاة، وبلغه الذي قال عتيبة وفرات يوم بني تغلب والماء ؛ فبعث إليهما فسألهما، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه أنه مثل، فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام، فصدقهما وردهما حتى قد ما على المثنى.
ذكر الخبر عما هيج أمر القادسيةكتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة، عن عزيز بن مكنف التميمي ثم الأسيدي، وطلحة بن الأعلم الحنفي، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس العجلي، وزياد بن سرجس الأحمري، عن عبد الرحمن بن ساباط الأحمري، قالوا جميعاً: قال أهل فارس لرستم والفيرزان - وهما على أهل فارس، أين يذهب بكما! لم يبرح الإختلاف حتى وهنتما أهل فارس واطعمتما فيهم عدوهم ! وإنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي، وأن تعرضاها للهلكة ؛ ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن ؛ والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه، قال: قال أهل فارس لرستم والمسلمون يمخرون السواد: ما تنتظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك! والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم يا معاشر القواد! لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم. والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فقال الفيرزان ورسم لبوران ابنة كسرى: اكتبي لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم. ففعلت، ثم أخرجت ذلك إليهم في كتاب، فأرسلوا في طلبهن فلم يبق منهن امرأة إلا أتوابها، فأخذوهن بالرجال ووضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عندهن منهم أحد، وقلن - أو من قال منهن: لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى، وأمه من أهل بادوريا. فأرسلوا إليها فأخذوها به، وكانت قد أنزلته في أيام شيرى حين جمعهن في القصر الأبيض، فقتل الذكور، فواعدت أخواله، ثم دلته إليهم في زبيل فسألوها عنه وأخذوها به، فدلتهم عليه، فأرسلوا إليه فجاءوا به فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرةى أو موضع ثغر، فسمى جند الحيرة والأنبار والمسالح والأبلة. وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد ؛ من كان له منهم عهد ومن لم يكن له منهم عهد، فخرج المثنى على حاميته حتى نزل بذى قار، وتنزل الناس بالطف في عسكر واحد حتى جاءهم كتاب عمر: أما بعد ؛ فاخرجوا من بين ظهري الأعاجم، وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحداً ولا مضر ولا حلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا اجتلبتموه ؛ فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجد إذ جد العجم ؛ فلتلقوا جدهم بجدكم.
فنزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى - وغضى حيال البصرة - فكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو والعنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معه إلى سلمان، فكانوا في أمواه الطف من أولها إلى آخرها مسالح بعضهم ينظر إلى بعض ؛ ويغيث بعضهم بعضاً إن كان كون، وذلك في ذي العقدة سنة ثلاث عشرة.
حدثنا السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: كان أول ما عمل به عمر حين بلغه أن فارس قد ملكوا يزدجرد، أن كتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجة إلى الحج، وحج سنواته كلها: لا تدعا أحداً له سلاح، أو فرس، أو نجدة، أو أرى إلا انتخبتموه، ثم وجهتموه إلى، والعجل العجل! فمضت الرسل إلى من أرسلهم إليهم مخرجة إلى الحج، ووافاه أهل هذا الضرب من القبائل التي طرقها على مكة والمدينة، فأما من كان من أهل المدينة على النصف ما بينه وبين العراق فوافاه بالمدينة مرجعه من الحج، وأما من كان أسفل من ذلك فانضموا إلى المثنى، فأما من وافى عمر فإنهم أخبروه عمن وراءهم بالحث.
وقال أبو معشر، فيما حدثنى الحارث، عن ابن سعد، عنه. وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: الذي حج بالناس سنة ثلاث عشرة عبد الرحمن بن عوف.
وقد حدثني المقدمى ، عن إسحاق الفروى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: استعمل عمر على الحج عبد الرحمن بن عوف في السنة التي ولى فيها، فحج بالناس، ثم حج سنية كلها بعد ذلك بنفسه.
وكان عامل عمر في هذه السنة - على ما ذكر - على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى عمان واليمامة حذيفة بن محصن على البحرين العلاء بن الخضرمي الشأم أبو عبيدة بن الجراح، وعلى فرج الكوفة وما فتح من أرضها المثنى بن حارثة.
وكان على القضاء - فيما ذكر - على بن أبي طالب. وقيل: لم يكن لعمر في أيامه قاض.
ثم دخلت سنة أربع عشرة
ذكر ابتداء أمر القادسية
ففي أول يوم من المحرم سنة أربع عشرة - فيما كتب إلى به السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد يإسنادهم - خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صراراً، فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد ؛ أيسير أم يقيم. وكانوا إذا ارادوا أن يسألوه عن شئ رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف ؛ وكان عثمان يدعى في إمارة عمر رديفاً - قالوا: والرديف بلسان العرب الرجل الذي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيسهم - وكانوا إذا لم يقدر هذان على علم شئ مما يريدون، ثلثوا بالعباس، فقال عثمان لعمر: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه، فأخبرهم الخبر. ثم نظر ما يقول الناس، فقال العامة: سر وسر بنا معك ؛ فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: استعدوا وأعدوا فإني سائر إلا أن يجئ رأى هو أمثل من ذلك . ثم بعث إلى أهل الرأى، فاجتمع إليه وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأعلام العرب، فقال: أحضروني الرأي فإني سائر. فاجتمعوا جميعاً، وأجمع ملؤهم على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي من الفتح، فهو الذي يريد ويريدون ؛ وإلا أعاد رجلاً وندب جنداً آخر ؛ وفي ذلك ما يغيظ العدو، ويرعوى المسلمون، ويجئ نصر الله بإنجاز موعود الله. فنادى عمر: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه، وأرسل إلى على عليه السلام، وقد استخلفه على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة وقد بعثه على المقدمة، فرجع إليه، وجعل على المجنبتين الزبير وعبد الرحمن بن عوف، فقام الناس فقال: إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله؛ فألف بين القلوب، وجعلهم فيه إخواناً، والمسلمون فيما بينهم كالجسد لا يخلو منه شئ من شئ أصاب غيره ؛ وكذلك يحق على المسلمين أن يكونوا أمرهم شورى بينهم وبين ذوى الرأى منهم؛ فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ؛ ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً لهم. بأيها الناس، إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً، وقد أحضرت هذا الأمر ؛ من قدمت ومن خلفت. وكان على عليه السلام خليفته على المدينة، وطلحة على مقدمته بالأعوص ؛ فأحضرهما ذلك.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد العزيز، قال: لما انتهى قتل أبي عبيد ابن مسعود إلى عمر، واجتماع أهل فارس على رجل من آل كسرى، ونادى في المهاجرين والأنصار ؛ وخرج حتى أتى صراراً، وقدم طلحة بن عبيد الله حتى بأتي الأعوص، وسمى لميمنته عبد الرحمن بن عوف، ولميسرته الزبير بن العوام، واستخلف علياً رضى الله عنه على المدينة، واستشار الناس، فكلهم أشار عليه بالسير إلى فارس، ولم يكن استشار في الذي كان حتى نزل بصرار ورجع طلحة، فاستشار ذوى الرأي فكان طلحة ممن تابع الناس، وكان عبد الرحمن ممن نهاه، فقال عبد الرحمن: فما فديت أحداً بأبي وأمي بعد النبي صلى الله عليه وسلم قبل يومئذ ولا بعده ؛ فقلت: يا بأبي وأمي، اجعل عجزها بي وأقم وابعث جنداً، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه إن يهزم جيشك ليس كهزيمتك ؛ وإنك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبداً وهو في ارتياد من رجل ؛ وأتى كتاب سعد علىحفف كشورتهم ؛ وهو على بعض صدقات نجد، فقال عمر: فأشيروا على برجل، فقال عبد الرحمن: وجدته، قال: من هو ؟ قال: الأسد في براثنه ؛ سعد بن مالك ؛ ومالأه أولو الرأى.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة ، عن أبيه، قال: كتب المثنى إلى عمر بإجتماع فارس على يزد جرد وببعوثهم، وبحال أهل الذمة. فكتب إليه عمر ؛ أن تنح إلى البر، وادع من يليك، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم ؛ حتى يأتيك أمري.
وعاجلتهم الأعاجم فزاحفتهم الزحوف ، وثار بهم أهل الذمة ؛ فخرج المثنى بالناس حتى ينزل الطف، ففرقهم فيه من أوله إلى آخره، فأقام ما بين غضى إلى القططقانة مسالحه، وعادت مسالح كسرى وثغوره، واستقر أمر فارس وهم في ذلك هائبون مشفقون، والمسلمون متدفقون قد ضروابهم كالأسد ينازع فريسته ثم يعادود الكر ؛ وأمراؤهم يكفكفونهم بكتاب عمر وأمداد المسلمين.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: قد كان أبو بكر استعمل سعداً على صدقات هوازن بنجد، فأقره عمر، وكتب إليه فيمن كتب إليه من العمال حين استنفر الناس أن ينتخب أهل الخيل والسلاح ممن له رأى ونجدة. فرجع إليه كتاب سعد بمن جمع الله له من ذلك الضرب ؛ فوافق عمر وقد استشارهم في رجل، فشاروا عليه به عند ذكره.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: كان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوزان، فكتب إليه عمر فيمن كتب غليه بانتخاب ذوى الرأى والنجدة ممن كان له سلاح أو فرس، فجاءه كتاب سعد: إني قد انتخبت لك ألف فارس مؤذ كلهم له نجدة ورأى، وصاحب حيطة يحوط حريم قومه، ويمنع ذمارهم، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم، فشأنك بهم. ووافق كتابه مشورتهم، فقالوا: قد وجدته، قال: فمن؟ قالوا: الأسد عادياً، قال: من؟ قالوا: سعد، فانتهى إلى قولهم فأرسل إليه، فقدم عليه، فأمره على حرب العراق وأوصاه. فقال: يا سعد، سعد بنى وهيب ؛ لا يغرنك من الله أن عز وجل لا يمحو السيئ ؛ ولكنه يمحو السيئ بالحسن ؛ فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته ؛ فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء ؛ الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمة فإنه الأمر. هذه عظتى إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ؛ وكنت من الخاسرين.
ولما أراد أن يسرحه دعاه، فقال: إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتى فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير، واستفتح به. واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر ؛ فالصبر على ما أصابك أو نابك ؛ يجتمع لك خشية الله. واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته ؛ وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة ؛ وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء ؛ منها السر، ومنها العلانية ؛ فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس ؛ فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم ؛ وإن الله إذا أحب عبداً حببه ؛ وإذا أبغض عبداً بغضه. فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن بشرع معك في أمرك. ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين. فخرج سعد بن أبي وقاص من المدينة قاصداً العراق في أربعة آلاف ؛ ثلاثة ممن قدم عليه من اليمن والسراة ؛ وعلى أهل السروات حميضة بن النعمان بن حميضة البارقى ؛ وهم بارق وألمع وغامد وسائر إخوانهم ؛ وفي سبعمائة من أهل السراة، وأهل اليمن ألفان وثلاثمائة ؛ منهم النخع بن عمرو، وجميعهم يومئذ أربعة آلاف ؛ مقاتلهم وذرارتهم ونساؤهم ؛ وأتاهم عمر في عسكرهم ؛ فأرادهم جميعاً على العراق، فأبوا إلا الشأم، وأبى إلا العراق، فسمح نصفهم فأمضاهم نحو العراق، وأمضى النصف الآخر نحو الشأم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن حنش النخعي، عن أبيه وغيره منهم، أن عمر أتاهم في عسكرهم ؛ فقال: إن الشرف فيكم يا معشر النخع لمتربع ، سيروا مع سعد. فنزعوا إلى الشأم، وأبى إلا العراق، وأبوا إلا الشأم؛ فسرح نصفهم إلى الشأم ؛ فسرح نصفهم إلى الشأم ونصفهم إلى العراق.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمستنير وحنش؛ قالوا: وكان فيهم من حضرموت والصدف ستمائة ؛ عليهم شداد بن ضمعج، وكان فيهم ألف وثلثمائة من مذحج، على ثلاثة رؤساء: عمرو بن معد يكرب على بني منبه، وأبو سبرة بن ذؤيب على جعفى ومن في حلف جعفى من إخوة جزء وزبيد وأنس الله ومن لفهم، ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء وجنب ومسلية في ثلثمائة ؛ هؤلاء شهدوا من مذحج فيمن خرج من المدينة مخرج سعد منها، وخرج معه من قيس عيلان ألف بشر بن عبد الله الهلالي.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن ابراهيم، قال: خرج أهل القادسية من المدينة، وكانوا أربعة آلاف ؛ ثلاثة آلاف منهم من أهل اليمن وألف من سائر الناس.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وسهل، عن القاسم، قالوا: وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، ثم قام في الناس خطيباً، فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول، ليحيى به القلوب ؛ فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله؛ من علم شيئاً فلينتفع به ؛ وإن للعدل أمارات وتباشير ؛ فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، وأما التباشير فالرحمة وقد جعل الله لكل أمر باباً ويسر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الإعتبار ومفتاحه الزهد. والإعتبار. ذكر الموت بتذكر الأموات، والإستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأديه الحق إلى كل أحد له حق. ولا تصانع في ذلك أحداً، واكتف بما يكفيك من الكفاف ؛ فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شئ. إني بينكم وبين الله ؛ وليس بيني وبينه أحد ؛ وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهوا شكاتكم إلينا ؛ فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع. وأمر سعداً بالسير، وقال: إذا انتهت إلى زرود فانزل بها ؛ وتفرقوا فيما حولها، واندب من حولك منهم، وانتخب أهل النجدة والرأى والقوة والعدة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن رجل، قال: مرت السكون مع أول كندة مع حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج في أربعمائة ؛ فاعترضهم ؛ فإذا فيهم فتية دلم سباط مع معاوية بن حديج، فأعرض عنهم، ثم أعرض، ثم أعرض ؛ حتى قبل له: مالك ولهؤلاء! قال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إلى منهم. ثم أمضاهم، فكان بعد يكثر أن يتذكرهم بالكراهية، وتعجب الناس من رأى عمر. وكان منهم رجل يقال له سودان بن حمران، قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه ؛ وإذا منهم حليف لهم يقال له خالد بن ملجم ، قتل علي بن أبي طالب رحمه الله ؛ وإذا منهم معاوية بن حديج ؛ فنهض في قوم منهم يتبع قتلة عثمان يقتلهم ؛ وإذا منهم قوم يقرون قتلة عثمان.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، عن ماهان، وزياد بإسناده، قالوا: وأمد عمر سعداً بعد خروجه بألفى يماني وألفى نجدي مؤد من غطفان وسائر قيس، فقدم سعد زرود في أول الشتاء، فنزلها وتفرقت الجنود فيما حولها من أمواه بني تميم وأسد، وانتظر اجتماع الناس، وأمر عمر، وانتخب من بني تميم والرباب أربعة آلاف ؛ ثلاثة آلاف تميمي وألف ربي ؛ وانتخب من بني أسد ثلاثة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبي وقاص وبين المثنى بن حارثة، وكان المثنى في ثمانية آلاف ؛ من ربيعة ستة آلاف من بكر بن وائل، وألفان من سائر ربيعة أربعة آلاف ممن كان النحت بعد فصول خالد زأربعة آلاف كانوا معه ممن بقي يوم الجسر وكان معه من أهل اليمن ألفان من بحيلة، وألفان من قضاعة وطيئ ممن النتخبوا إلى ما كان قبل ذلك ، على طيئ عدي بن حاتم، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله، فبينا الناس لذلك سند يرجو أن عليه عليه المثنى، والمثى يرجو أن يقدم عليه سعد، مات المثنى من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر، انتفضت به؛ فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصية، وسعد يومئذ بزرود، ومع بشير يومئذ وجوه أهل العراق، ومع سعد وفود أهل العراق الذين كانوا قدموا على عمر، منهم فرات بن حيان العجلي وعتيبة، فردهم مع سعد.
كتب إلى السسرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بإسناده، وزياد عن ماهان، قالا: فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية، فمن قال: اربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف فلاجتماعهم يزرود، ومن قال: تسعة آلاف فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفاً فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف. وأمر سعداً بالإقدام، فأقام ونهض إلى العراق وجموع الناس بشراف، وقدم عليه مع قومه شراف الأشعث بن قيس في ألف وسبعمائة من أهل ؛ فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفاً، وجميع من قسم عليه فئ القادسية نحو من ثلاثين ألفاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد، عن جرير، قال: كان أهل اليمن ينزعون إلى الشأم ؛ وكانت مضر تنزع إلى العراق، فقال عمر: أرحامكم أرسخ من أرحامنا! ما بال مضر لا تذكر أسلافها من أهل الشأم! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سعد بن المرزبان، عمن حدثه، عن محمد بن حذيفة بن اليمان، قال: لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، وكانت العرب في جاهليتها تسمى فارس الأسد ولاروم الأسد.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: قال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ؛ فلم يدع رئيساً، ولا ذا رأي، ولا ذا شرف، ولا ذا سطة ولا خطيباً ؛ ولا شاعراً ؛ إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان عمر قد كتب إلى سعد مرتحله من زرود؛ أن ابعث إلى فرج الهند رجلاً ترضاه يكون بحياله، ويكون ردءاً لك من شئ إن أتاك من تلك التخوم ؛ فبعث المغيرة بن شعبة في خمسمائة ؛ فكان بحيال الأبلة من أرض العرب ؛ فأتى غضياً، ونزل على جرير ؛ وهو فيما هنالك يومئذ. فلما نزل سعد بشراف، كتب إلى عمر بمنزله وبمنازل الناس فيما بين غضى إلى الجبانة، فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس وعرف عليهم، وأمر على أجنادهم، وعبهم، ومرو رؤساء المسلمين فليشهدوا، وقدر هم وهم شهود ؛ ثم وجههم إلى اصحابهم، وواعدهم القادسية ؛ واضمم إليك المغيرة بن شعبة في خيلة ؛ والتب إلى بالذي يستقر عليه أمرهم.
فبعث سعد إلى المغيرة ؛ فانضم إليه وغلى رؤساء القبائل، فأتوه، فقدر الناس وعباهم بشراف، وأمر أمراء الأجناد، وعرف العرفاء ؛ فعرف على كل عشرة رجلاً، كما كانت العرافات أزمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء، وأمر على الرايات رجالاً من أهل السابقة، وعشر الناس، وأمر على الأعشار رجالاً من الناس لهم وسائل في الإسلام، وولى الحروب رجالاً، فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وطلائعها ورجلها وركبانها، فلم بفصل إلا على تعبية، ولم بفصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه ؛ فأما أمراء التعبية، فاستعمل زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحوية بن مرثد بن معاوية بن معن بن مالك بن أرثم بن جشم بن الحارث الأعرج ؛ وكان ملك هجر قد سوده في الجاهلية، ووفده على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدمه، ففصل بالمقدمات بعد الإذن من شراف ؛ حتى انتهى إلى العذيب، واستعمل على الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة ؛ فكانوا عرافة، واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط بن شرحبيل الكندي - وكان غلاماً شاباً، وكان قد قاتل أهل الردة، ووفى الله ، فعرف ذلك له، وكان قد غلب الأشعث على الشرف فيما بين المدينة ؛ إلى أن اختلطت الكوفة وكان أبوه ممن تقدم إلى الشأم مع أبي عبيدة بن الجراح - وجعل خليفة خالد أبن عرفطة، وجعل عاصم بن عمرو التيمي ثم العمري على الساقة، وسواد بن مالك التيمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة، وعلى الرجل حمال بن مالك الأسدي، وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي، فكان أمراء التعبية يلون الأمير، والذين يلون أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رءوس القبائل وقالوا جميعاً: لا يستعين أبو بكر في الردة ولا على الأعاجم بمرتد، واستنفرهم عمر ولم يول منهم أحداً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعمرو بإسنادهم، وسعيد بن المرزبان، قالوا: بعث عمر الأطبة، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباص وقسمة الفئ، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي ؛ قال : والترجمان هلال الهجري والكاتب زياد بن أبي سفيان. فملا فرغ سعد من تعبيته، وعد لكل شئ من أمره جماعاً ورأساً، كتب بذلك إلى عمر، وكان من أمر سعد فيما بين كتابه إلى عمر بالذي جمع عليه الناس وبين رجوع جوابه ورحله من شراف إلى القادسية قدوم المعنى بن حارثة وسلمى بنت خصفة التيمية ؛ تيم اللات، إلى سعد بوصية المثنى، وكان قد أوصى بها، وأمرهم أن يعجلوها على سعة بزرود، فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر ؛ وذلك أن الآزاذمرد بن الآزاذبه بعثه إلى القادسية، وقال له : ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك . فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيداً . فملا انتهى إلى المعنى خبره، اسرى المعنى من ذي قار حتى بيته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار، وخرج منها هو وسلمى إلى سعد بوصية المثنى بن حارثة ورأيه، فقدموا عليه وهو بشراف، يذكر فيها أن رأيه لسعد ألا يقاتل عدوه وعدوهم - يعني المسلمين - ومن أهل فارس ؛ إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم ؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم ؛ وإن تكن الأخرى فاءوا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم ؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم.
فلما انتهى إلى سعد رأى المثنى ووصيته ترحم عليه، وأمر المعنى على عمله، وأوصى بأهل بيته خيراً، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها ؛ وكان في الأعشار كلها بضعة وسبعون بدرياُ، وثلثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة، فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة، في جميع أحياء العرب. وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأى المثنى ؛ وقد كتب إلى أبي عبيدة مع كتاب سعد ؛ ففصل كتاباهما إليهما، فأمر أبا عبيدة في كتابه بصرف أهل العراق وهم ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم ؛ وكان كتابه إلى سعد: أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ؛ وتوكل على الله، واستعن به على أمرك كله ؛ واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع - وإن كان سهلا - كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه ؛ إلا أن توافقوا غيضاً من فيض، وإذا لقيم القوم أو أحد منهم فابدءوهم الشدة والضرب ، وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم ؛ فإنهم خدعة مكرة ؛ أمرهم غير أمركم ؛ إلا أن تجادوهم، وإذا انتهت إلى القادسية - والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لما دتهم، ولما يريدونه من تلك الآصل ؛ وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر، وأنهار ممتنعة - فتكون مسالحك على أنقابها ، ويكون الناس بين الحجر والمدر علىحافات الحجر وحافات المدر، والجزاع بينهما ؛ ثم الزم مكانك فلا تبرحه ؛ فإنهم إذا أحسوك أنغضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم ؛ فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم لقتاله ونويتم الأمانة؛ رجوت أن تنصروا عليهم ؛ ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم ؛ فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم ؛ ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل ؛ حتى يأتى الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.
وكتب إليه أيضاً باليوم الذي يرتحل فيه من شراف: فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.
ثم قدم عليه كتاب جواب عمر: أما بعد، فتعاهد قبلك، وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما ؛ والصبر الصبر ؛ فإن المعونة تأتى من الله على قدر النية ؛ والأحر على قدر الحسنة. والحذر الحذر على من أنت عليه وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، واكتب إلى أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم ؛ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم ؛ فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنى أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه، ولا تدل بشئ .واعلم أن الله قد وعدكم. وتوكل لهذا الأمر بما لا خلف له ؛ فاحذر أن تصرفه عنك، ويستندل بكم غيركم.
فكتب إليه سعد بصفة البلدان: إن القادسية بين الخندق والعتيق، وإن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين ؛ فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض ؛ يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ؛ وما عن يمين القادسية إلى الولجة فيض من فيوض مياههم. وإن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلى ألب لأهل فارس قد خفوا لهم، واستعدوا لنا . وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال منهم ؛ فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا ؛ ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم ؛ وأمر الله بعد ماض؛ وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا ؛ فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.
فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك ؛ واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن ؛ فإنه خرابها إن شاء الله.
وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، ويدعون له معه، وللمسلمين عامة، فقدم زهرة سعد حتى عسكر بعذيب الهجانات، ثم خرج في أثره حتى ينزل على زهرة بعذيب الهاجنات، وقدمه، فنزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنظرة ؛ وقديس يومئذ أسفل منها بميل.
كتب إلىالسرى، عن شعيب، عن سيف، عن القعقاع بإسناده، قال:وكتب عمر إلى سعد: إني قد أقى في روعى أنكم إذا لقيم العدو هزكتمزهم، فاطرحوا الشك، وآثروا التقية عليه؛ فإن لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان أو قرفة بإشارة أو بلسان، فكان لا يدري الأعجمي ما كلمه به، وكان عندهم أماناً ؛ فأجروا ذلك له مجرى الأمان. وإياكم والضحك ؛ والوفاء الوفاء! فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر الهلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم، وإقبال ريحكم. واعلموا أنى أحذركم أن تكونوا شيئاً على المسلمين وسبباً لتوهينهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن مسلم العكلى والمقدام بن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بن أبي كرب العكلى - وكان في المقدمات أيام القادسية - قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل ؛ فلما نزل علينا بعذيب الهاجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الحوية في المقامات، فلما رفع لنا العذيب - وكان من مسالحهم - استبناً على بروجه ناساً، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلاً أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل ، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلاً، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد ؛ وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه. وقال: إن أفلت الربئ أتاهم الخبر. فلحقه بالخندق فطعنه فجد له فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحاً ونشاباً وأسفاطاً من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون. ثم بث الغازات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي - وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس - فسروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأٌاموا كميناً حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، وإذا هم لم يشعروا بهم ؛ وإنما ينتظرون ذلك العين لا يريدنهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين ؛ وإذا أخت آزاذ مردبن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين - وكان من أشرف العجم - فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا ؛ فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم مالا يدري قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعداً بعذيب الهجانات بما أفاء الله على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعاً، ووضع سعد بالعذيب خيلاً تحوط الحريم، وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ونزل سعد القادسية، فنزل بقديس، ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم ؛ وبعث بخبر سرية يكبر، وبنزوله قديساً، فأقام بها شهراً، ثم كتب إلى عمر: لم يوجه القوم غلينا أحداً، ولم يسندوا حرباً إلى أحد علمناه، ومتى ما يبلغنا ذلك نكتب به ؛ واستنصر الله، فإنا بمنحاة دنيا عريضة ؛ دونها بأس شديد ؛ قد تقدم إلينا في الدعاء إليهم، فقال: (ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد).
وبعث سعد في مقامه ذلك إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أنى ميسان فطلب غنماً أو بقراً فلم يقدر عليها، وتحصن منه من في الأفدان، ووغلوا في الآجام، ووغل حتى أصاب رجلاً على طف أجمة، فسأله واستد له على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم ؛ وإذا هو راعى ما في تلك الأجمة، فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء ؛ فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أياماً ؛ وبلغ ذلك الحجاج في زمانه، فأرسل إلى نفر ممن شهدها أحدهم نذير بن عمرو والوليد بن عبد شمس وزاهر، فسألهم فقالوا: نعم، نحن سمعنا ذلك، ورأيناه واستقناها، فقال: كذبتم! فقالوا: كذلك ؛ إن كنت شهدتها وغبنا عنها، فقال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك ؟ قالوا: آية تبشير يستدل بها على رضا الله، وفتح عدونا ؛ فقال: والله ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء، قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم ؛ فأما ما رأينا فإنا لم نر قوماً قط أزهد في دنيا منهم، ولا أشد لها بغضاً؛ ما اعتد على رجل منهم في ذلك اليوم بواحدة من ثلاث ؛ لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول ؛ وكان هذا اليوم يوم الأباقر ؛ وبث الغازات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما كانوا يستكفون به زماناً، وبعث سعد عيوناً إلى أهل الحيرة وإلى صلوبا، ليعلموا له خبر أهل فارس ؛ فرجعوا إليه بالخبر ؛ بأن الملك قد ولى رستم بن الفرخزاذ الأزمنى حربه، وأمره بالعسكرة. فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به ؛ واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالاً من أهل المنظرة والرأى والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجاً عليهم ؛ واكتب إلى كل يوم. ولما عسكر رستم بساباط كتبوا بذلك إلى عمر.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة، عن بن سيرين، وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، قالا: لما بلغ سعداً فصول رسم إلى ساباط، أقام في عسكره لاجتماع الناس ؛ فأما إسماعيل فإنه قال: كتب إليه سعد أن رستم قد ضرب عسكره بساباط دون المدائن وزحف إلينا ؛ وأما أبو ضمرة فإنه قال: كتب إليه أن رستم قد عسكر بساباط، وزحف إلينا بالخيول والفيول وزهاء فارس، وليس شئ أهم إلى ولا أنا له أكثر ذكراً منى لما أحببت أن أكون عليه ؛ ونستعين بالله، ونتوكل عليه، وقد بعثت فلاناً وفلاناً وهم ما وصفت.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد بإسنادهما، وسعيد بن المرزبان ؛ أن سعد بن أبي وقاص حين جاءه أمر عمر فيهم، جمع نفراً عليهم نجار، ولهم آراء، ونفراً لهم منظر ؛ وعليهم مهابة ولهم آراء ؛ فأما الذين عليهم نجار لهم آراء ولهم اجتهاد فالنعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وحملة بن جوية الكناني وحنظلة بن الربيع التميمي وفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة بن البناش بن حبيب ؛ وأمامن لهم منظر لأجسامهم ؛ وعليهم مهابة ولهم آراء ؛ فعطارد بن حاجب والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معد يكرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة ؛ فبعثهم دعاة إلى الملك.
حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية، ومعه الناس، قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو نحو من ذلك، والمشركين ثلاثون ألفاً أو نحو ذلك: فقالوا لنا: لا يدى لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا، قال: قلنا: لا نرجع؛ وما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا، ويقولون: دوك دوك ، ويشيهونها بالمغازل. قال: فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا: ابعثوا إلينا رجلاً منكم، عاقلاً يبين لنا ما جاء بكم ؛ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، فعبر إليهم، فقعد مع رستم على السرير، فنخروا وصاحوا، فقال: إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم، قال رستم: صدقت، ماجاء بكم؟ قال: إنا كنا قوماً في شر وضلالة ؛ فبعث الله فينا نبياً، فهدانا الله به ورزقنا على يديه ؛ فكان مما رزقنا حبة زعمت تنبت بهذا البلد ؛ فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عن هذه، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة، فقال رستم: إذاً نقتلكم، فقال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار ؛ أو أديتم الجزية. قال: فلما قال: أديتم الجزية، نخروا وصالحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم، فقال المغيرة: تعبرون غلينا أو نعبر إليكم؟ فقال رستم: بل نبد إليكم، فاستأخر المسلمون حتى عبر منهم من عبر، فحملوا عليهم فهزموهم.
قال حصين: فحدثني رجل منا يقال له عبيد بن جحش السلمى، قال: لقد رأيتنا وإنا لنطأ على ظهور الرجال، ما مسهم سلاح، قتل بعضهم بعضاً، ولقد رأينا أصبنا جراباً من كافور، فحسبناه ملحاً لا نشك أنه ملح ؛ فطبخنا لحماً، فجعلنا نلقه في القدر فلا نجد له طعماً، فمر بنا عبادي معه قميص فقال: يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم ؛ فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه، هل لكم أن تأخذوا هذا القميص به؟ فأخذناه منه، وأعطيناه منا رجلاً يلبسه، فجعلنا نطيف به ونعجب منه، فلما عرفنا الثياب، إذا ثمن ذلك القميص درهمان. قال: ولقد رأيتني أقرب إلى رجل عليه سواران من ذهب، وسلاحه، فجاء فما كلمته حتى صربت عنقه.
قال: فانهزموا حتى انتهوا إلى الصراة ؛ فطلبناهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن ؛ فكان المسلمون بكوثى وكان مسلحة المشركين بدير المسلاخ، فأتاهم المسلمون فالتقوا، فهزم المشركون حتى نزلوا بشاطئ دجلة، فمنهم من عبر من كلواذى، ومنهم من عبر من أسفل المدائن، فحصروهم حتى ما يجدون طعاماً يأكلونه، إلا كلابهم وسنانيرهم. فخرجوا ليلاً، فلحقوا بجلولاء فأتاهم المسلمون ؛ وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة، وموضع الوقعة التي ألحقهم منها فريد. قال أبو وائل: فبعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على أهل الكوفة، ومجاشع بن مسعود على أهل البصرة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، وطلحة عن المغيرة، قالوا: فخرجوا من العسكر حتى قدموا المدائن احتجاجاً ودعاة ليزدجرد، فطووا رستم، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد، فوقفوا على خيول عروات، معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه يستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقوله لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفي أيديهم سياط دقاق، وفي أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فأدخلوا عليه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن بنت كيسان الضبية، عن بعض سبايا القادسية ممن حسن إسلامه، وحضر هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب. قال: وثاب إليهم الناس ينظرون إليهم ؛ فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضها بعضاً. وجلع أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم ؛ فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس ؛ وكان سيئ الأدب، فكان أول شئ دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان - وكان على الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال: البرد، فتطير وقال بردجهان، وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فقال: ما تسمون هذه الحذية؟ فقال: النعال، فعاد لمثلها، فقال: ناله ناله في أرضنا ، ثم سأله عن الذي في يده فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم الله! وكان تطيره على أهل فارس، وكانوا يجدون من كلامه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم ؛ ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان، فقال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ؛ فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين؛ فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ؛ وبدأ بهم وفعل ؛ فدخلوا معه جميعاً على وجهين: مكروه عليه فاغتبط ؛ وطائع أتاه فازداد ؛ فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كما عليه من العداوة والضيق ؛ ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء ؛ فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ؛ وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم ؛ وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم ؛ قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى فيكفونناكم . لا تغزون فارس ولا تطعمون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم ؛ وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فأسكت القوم. فقام المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدى، فقال أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم ؛ وهم أشراف يستحيون من الأشراف ؛ وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك؛ فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك ؛ إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأنا ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ؛ فنرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأل من طعامنا ؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك ؛ فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً، نعرف نسبة، ونعرف وجهه ومولده ؛ فأرضه خير أرضنا، وحسبة خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا ؛ وقبيلته خير قبائلنا ؛ وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي فيها أصدقنا وأحملنا ؛ فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصثديق له واتباعه ؛ فصار فيما بيننا وبين رب العالمين ؛ فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله ؛ فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شئ، وكل شئ هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شئ، وإلى يصير كل شئ، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري ؛ دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوا مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من نأوأه ؛ فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ؛ وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجى نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أأستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ؛ لا شئ لكم عندي، وقال : ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن ؛ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنى مرسل إليكم رستم حتى يدفيكم ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو - وافتأت ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملينه، فقال : أكذاك؟ قالوا: نعم فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها ؛ ثم انجذب في السير، فأتوا به سعداً وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله. ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبر الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم.
وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهناً، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا على وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جواباً منهم ؛ وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمراً ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته تراباً فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء أتقى بغيره ؛ وأنا لا أعلم .
قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه.
وخرج رستم من عنده كئيباً غضبان - وكان منجماً كاهناُ - فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته : إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا ، وإن أعجزوه سلبكم الله أرضكم وأبناءكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ماكان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا؟ فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظاً. وأغاروا بعدما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكاً، وسار سواد بن مالك التيمي إلى النجاف والفراض إلى جنبها، فاستاق ثلثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكاً، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبى ؛ وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذ مرد بن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السليحين ؛ حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زماناً ؛ فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام الحم يوم الأباقر ويم الحيتان. وبعث مالك بن ربيعة بم خالد التيمي ؛ تيم الرباب، ثم الواثلي ومعه المساور بن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى ؛ فأغاروا على الفيوم ؛ فأصابا إبلاً لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس. وأخصبوا، وأغار على النهرين عمرو بن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلى - وهي اليوم نهر زياد - حتى أتوا بها العسكر.
وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران. وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشئ. وكان مقام سعد بها شهرين وشيئاً حتى ظفر.
وقال - والإسناد الأول - : وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غض، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم ؛ وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب، وعبد الله بن زيد يسانده ؛ الرباب بينهما، وجزء بن معاوية وابن النابغة يسانده ؛ سعد بينهما، والحصين بن نيار والأعور بن يشامة يسانده على عمرو، والحصين بن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم. وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضى وجميع تلك الفرق.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: وعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وإن فعل العرب مذ نزلوا القادسية لا يبقى عليه شئ؛ وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ؛ وليس فيما هنالك أنيس إلا في الحصون، وقد ذهب الدواب وكل شئ لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف، وأعانهم عليه، وهيجوه على بعثه رستم.
ولما بدا ليزدجرد أن يرسل رستم أرسل إليه، فدخل عليه، فقال له: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه ؛ وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم ، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم مثله منذ ولى آل أردشير. فأراه أن قد قبل منه، وأثنى عليه.
فقال له الملك: قد أحب أن أنظر فيما لديك لأعرف ما عندك، فصف لي العرب وفعلهم منذ نزلوا القادسية، وصف لي العجم وما يلقون منهم.
فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت. فقال: ليس كذلك ؛ إني إنما سألتك رجاء أن تعرب صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عنى ؛ إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوى إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شئ اختطفه، فلما أبصرته الطير لم تنهض من مخافته ؛ وجعلت كلما شذ منها طائر اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته ؛ وأشد شئ يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحداً ؛ وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت ؛ فهذا مثلهم ومثل الأعاجم ؛ فاعمل على قدر ذلك. فقال له رستم: أيها الملك، دعني ؛ فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي ؛ ولعل الدولة أن تثبت بي فيكون الله قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب ؛ فإن الرأى فيها والمكيدة أنفع من بعض الظفر. فأبى عليه، وقال : أي شئ بقى! فقال رستم: إن للأناة في الحرب خير من العجلة، والأناة اليوم موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فلج وأبى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرسل ليرى موضعاً لإعفائه وبعثه غيره، ويجتمع إليه الناس. وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك. ولما كثرت الإستغاثة على يزدجر من أهل السواد على يدى الآزاذ به جشعت نفسه واتقى الحرب برستمر، وترك الرأي - وكان ضيفاً لجوجاً - فاستحث رستم، فأعاد عليه رستم القول، وقال: أيها الملك ؛ لقد اضطرني تضييع الرأى إلى إعظام نفسي وتزكيتها ؛ ولو أجد من ذلك بداً لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وأهلك وملكك ؛ دعنى أقم بعسكري وأسرح الجالنوس ؛ فإن تكن لنا فذلك ؛ وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بداً ولا حيلة صبرنا لهم ؛ وقد وهنا هم وحسرناهم ونحن جامون. فأبى إلا أن يسير.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى الضبى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم بساباط، وجمع آله الحرب وأداتها بعث على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفاً، وقال: ازحف زحفاً، ولا تنجذب إلا بأمري ؛ واستعمل على ميمنته الهرمزان، وعلى ميسرته مهران بن بهران الرازي، وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم ليشجع الملك: إن فتح الله علينا القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم، إلى أن يقبلوا المسالمة أو يرضوا بما كانوا يرضون به. فلما قدمت وفود سعد على الملك، ورجعوا من عنده رأى رستم فيما يرى النائم رؤيا فكرهها، وأحس بالشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب، . وسأل الملك أن يمضى الجالنوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال : إن غناء الجالنوس كغنائي، وإن كان إسمي أشد عليهم من إسمه، فإن ظفر فهو الذي نريد، وإن تكن الأخرى وجهت مثله، ودفعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما ؛ فإني لا أزال مرجواً في أهل فارس، ما لم أهزم ينشطون، ولا أزال مهيباً في صدرور العرب ؛ ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم ؛ فإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم. فبعث مقدمته أربعين ألفاً ؛ وخرج في ستين ألفاً، وساقته في عشرين ألفاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم ؛ قالوا: وخرج رستم في عشرين ومائة ومائة ألف، كلهم متبوع، وكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف، وخرج من المدائن في ستين ألف متبوع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع.
كتب إلى السرى عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما أبى الملك إلا السير، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس أهل بلادهم: من رستم إلى البندوان مرزبن الباب، وسهم أهل، الذي كان لكل كون يكون، فيفض الله به كل جند عظيم شديد، ويفتح به كل حصن حصين، ومن يليه ؛ فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم، وقارعكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأي مدافتهم ومطاولتهم حتى تعود سعود هم نحوساً ؛ فأبى الملك.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن رجل ؛ أن يزدجرد لما أمر رستم بالخروج من ساباط، كتب إلى أخيه بنحو من الكتاب الأول، وزاد فيه: فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، وحسنت الزهرة ، واعتل الميزان، وذهب بهرام ؛ ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا. وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسير إليهم أنا بنفسي. فأنا سائر إليهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلى، فأرسل إليه فقال: ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحواً من علمه، فثقل عليه مسيره لعلمه، وخف على الملك لما غره منه، وقال: إني أحب أن تخبرني بشئ أراه أطمئن به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندي: أخبره، فقال: سلنى، فسأله فقال: أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شئ في فيه ها هنا - وخط دارة - فقال العبد: صدق، والطائر غراب، والذي في فيه درهم. وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب فقال: صدق ولم يصب ؛ هو عقيق، والذي في فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا. ينزو الدرهم فيستقر ها هنا - ودور دارة أخرى - فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه الدرهم في الخط الأول، فنزا فاستقر في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث خطأه ؛ فأتيا ببقرة نتوج ؛ فقال الهندي: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء ، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها، فإذا هي ذنبها بين عينيها، فقال جابان: من ها هنا أتى زرنا، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه، وكتب جابان إل جشنسماه: إن أهل فارس قد زال أمرهم، وأديل عدوهم عليهم، وذهب ملك المجوسية، وأقبل ملك العرب، وأديل دينهم ؛ فاعتقد منهم الذمة، ولا تخلبنك الأمور، والعجل العجل قبل أن تؤخذ!فلما وقع الكتاب إليه خرج جشنسماه إليهم حتى أتى المعنى ؛ وهو في خيل بالعتيق، وأرسله إلى سعد، فاعتقد منه على نفسه وأهل بيته ومن استجاب له ورده، وكان صاحب أخبارهم. وأهدى للمعنى فالوذق ، فقال لأمرأته: ما هذا؟ فقالت: أظن البائسة امرأته أراغت العصيدة فأخطأتها، فقال المعنى: بؤساً لها! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا أجد بداً من الإنقياد. وأمر الجالنوس حتى قدم الحيرة ؛ فمضى واضطرب فسطاطه بالنجف، وخرج رستم وأمر الجالنوس حتى ينزل بكوني، وكتب إلى الجالنوس والآززاذ مرد: أصيبا لي رجلاًمن العرب من جند سعد فركبا بأنفسهما طليعة فأصابا رجلاً، فبعثا به إليه وهو بكوثى فاستخبره، ثم قتله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما فصل رستم، وأمر الجالنوس بالتقدم إلى الحيرة، أمره أن يصيب له رجلاً من العرب، فخرج هو والآزاذ مرد سرية في مائة ؛ حتى انتهيا إلى القادسية، يفأصابا رجلاً دون قنطرة القادسية فاختطفاه، فنفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم. فملا انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم، وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود الله، قال: وما هو؟ قال: ارضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: في موعود الله أن من قتل منا قبل ذلك أدخله الجنة. وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك، فنحن على يقين . فقال رستم: قد وضعنا إذاً في أيديكم ؛ قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها ؛ فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس ؛ وإنما تحاول القضاء والقدر! فاستشاط غضباً ؛ فأمر به فضربت عنقه، وخرج رستم من كوثى ؛ حتى ينزل ببرس، فغضب أصحابه الناس أموالهم ووقعوا على النساء، وشربوا الخمور. فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه ما يلقون في أموالهم وأبنائهم. فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل فارس، والله لقد صدق العربي ؛ والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم. إن الله كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان ؛ فأما إذ تحولتم عن ذلك إلى هذه الأعمال، فلا أرى الله إلا مغيراً ما بكم، وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم. وبعث الرجال ؛ فلقطوا له بعض من يشكى فأتى بنفر، فضرب أعناقهم، ثم ركب ونادى في الناس بالرحيل، فخرج ونزل بحيال أهل دير الأعور، ثم انصب إلى المطاط؛ فعسكر مما يلي الفرات بحيال أهل النجف بحيال الخورنق إلى الغريين، ودعا بأهل الحيرة، فأوعدهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا اثنتين: أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا. فسكت.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، والمقدام الحارثى عمن ذكره، قالا: دعا رستم أهل الحيرة وسرادقه إلى جانب الدير، فقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيوناً لهم علينا، وقويتموهم بالأموال! فاتقوه بابن بقيلة، وقالوا له: كن أنت الذي تكلمه، فتقدم، فقال: أما أنت وقولك: إنا فرحنا بمجيئهم . فماذا فعلوا؟ وبأى ذلك من أمورهم نفرح ! إنهم ليزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا ؛ وإنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار. وأما قولك: إنا كنا عيوناً لهم، فما الذي يحوجهم إلى أن نكون عيوناً لهم، وقد هرب أصحابكم منهم، وخلوا لهم القرى! فليس يمنعهم أحد من وجه ارادوه ؛ إن شاءوا أخذوا يميناً أو شكالاً. وأما قولك: إنا قويناهم بالأموال ؛ فإنا صانعناهم بالأموال عن أنفسنا ؛ وإذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى وأن نحرب ، وتقتل مقاتلتنا - وقد عجز منهم من لقيهم منكم - فكنا نحن أعجز ؛ ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم ؛ وأحسن عندنا بلاء، فامنعونا منهم لكن لكم أعواناً؛ فإنما نحن بمنزلة علوج السواد، عبيد من غلب. فقال رستم: صدقكم الرجل.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: رأى رستم بالدير أن ملكاً جاء حتى دخل عسكر فارس، فختم السلاح أجمع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وأصحابه ؛ وشاركهم النضر بإسناده، قالوا: ولما اطمأن رستم أمر الجالنوس أن يسير من النجف، فسار في المقدمات، فنزل فيما بين النجف والسيلحين، وارتحل رستم، فنزل النجف - وكان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه منها إلى أن لقى سعداً أربعة أشهر، ولا يقدم ولا يقاتل - رجاء أن يضجروا بمكانهم، وأن يجهدوا فينصرفوا، وكره قتالهم مخافة أن يلقى ما لقى من قبله . وطالهم لولا ماجعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه ؛ حتى أقحمه ؛ فملا نزل رستم النجف عادت عليه الرؤيا، فرأى ذلك الملك ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وعمر، فأخذ الملك سلاح أهل فارس، فختمه، ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر. فأصبح رستم، فازداد حزناً، فملا رأى الرفيل ذلك رغب في الإسلام ؛ فكانت داعيته إلى اٌسلام، وعرف عمر أن القوم سيطاولونهم، فعهد إلى سعد وإلى المسلمين أن ينزلوا حدود أرضهم، وأن يطالوهم أبداً حتى ينغضوهم، فنزلوا القادسية، وقد وطنوا أنفسهم على الصبر والمطاولة، وأبى الله إلا أن يتم نوره، فأقاموا واطمأنوا، فكانوا يغيرون على السواد، فانتسفوا ما حولهم فحووه وأعدوا للمطاولة؛ وعلى ذلك جاءوا، أو يفتح الله عليهم . وكان عمر يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون؛ فلما رأى ذلك الملك ورستم وعرفوا حالهم، وبلغهم عنهم فعلهم؛ علم أن القوم غير منتهين، وأنه إن أقام لم يتركوه ؛ فرأى أن يشخص رستم، ورأى رستم أن ينزل بين العتيق والنجف، ثم يطالولهم مع المنازلة، ورأى أن ذلك أمثل ما هم فاعلون ، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم ، أو تدور لهم سعود.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف والجالنوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالنوس، والهرمزان ومهران على مجنبتيه، والبيرزان على ساقته وزاد بن بهيش صاحب فرات سريا على الرجالة ؛ وكنارى على المجردة ؛ وكان جنده مائة وعشرين ألفاً ، وستين ألف متبوع مع الرجل الشاكرى، ومن الستين ألفاً خمسة عشر ألف شريف متبوع، وقد تسلسلوا وتقارنوا لتدور عليهم رحى الحرب.
كتب إلى السرى، عن شعيب،عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بن طريف، قال: قال الناس لسعد: لقد ضاق بنا المكان؛ فأقدم، فزبر من كلمه بذلك، وقال: إذا كفيتم الرأى، فلا تكلفوا؛ فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأى، فاسكتوا ما سكتنا عنكم وبعث طليحة وعمراً في غير خيل كالطليعة، وخرج سواد وحمضية في مائة مائة ؛ فأغاروا على النهرين ؛ وقد كان سعدنها هما أن يمنعا، وبلغ رستم، فأرسل إليهم خيلاً، وبلغ سعداً أن خيله قد وغلت: فدعا عاصم بم عمرو وجابراً الأسدي، فأرسلهما في آثارهما يقتصانها، وسلكا طريقهما، وقال لعاصم: إن جمعكم قتال فأنت عليهم، فلقيهم بين النهرين وإصطيميا ؛ وخيل أهل فارس محتوشتهم، يريدون تخلص ما بين أيديهم؛ وقد قال سواد لحمضية: أختر؛ إما أن تقيم لهم وأستاق الغنيمة، أو أقيم لهم وتستاق الغنيمة. قال: أقم لهم ونهنههم عنى، وأنا أبلغ لك الغنيمة ؛ فأقام لهم سواد ، وانجذب حمضية، فلقيه عاصم بن عمرو، فطن حمضية أنها خيل للأعاجم أخرى، فصد عنها منحرفاً ؛ فلما تعارفوا ساقها ؛ ومضى عاصم إلى سواد - وقد كان أهل فارس تنقذوا بعضها - فلما رأت الأعاجم عاصماً هربوا، وتنقذ سواد ما كانوا ارتجعوا ؛ فأتوا سعداً بالفتح والغنائم والسلامة ؛ وقد خرج طليحة وعمرو ؛ فأما طليحة فأمره بعسكر رستم، وأما عمرو فأمره بعسكر الجالنوس ؛ فخرج طليحة وحده، وخرج عمرو في عدة، فبعث قيس بن هبيرة في آثارهما ؛ فقال: إن لقيت قتالاً فأنت عليهم - وأراد إذلال طليحة لمعصيته، وأما عمرو فقد أطاعه - فخرج حتى تلقى عمراً، فسأله عن طليحة، فقال: لا علم لي به، فلما انتهينا إلى النجف من قبل الجوف، قال له قيس: ما تريد؟ قال: أريد أن أغير على أدنى عسكرهم ؛ قال: في هؤلاء! قال: نعم، قال: لا أدعك والله وذاك! أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال: وما أنت وذاك! قال: إني أمرت عليك ؛ ولو لم أكن أميراً لم أدعك طليحة إذا اجتمعتم، فقال عمرو: والله يا قيس؛ إن زماناً تكون على فيه أميراً لزمان سوء! لأن أرجع عن دينكم هذا إلى ديني الذي كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلى من أن تتأمر على ثانية. وقال: لئن عاد صاحبك الذي بعثك لمثلها لنفارقنه ؛ قال: ذاك إليك بعد مرتك هذه، فرده؛ فرجعا إلى سعد بالخبر. وبأعلاج وأفراس، وشكاكل واحد منهما صاحبه ؛ أما قيس فشكا عصيان عمرو، وأما عمرو، فشكا غلظة قيس، فقال سعد: يا عمرو، الخبر والسلامة أحب إلى من مصاب مائة بقتل ألف، أتعمد إلى حلبة فارس فتصاد مهم بمائة إن كنت لأراك أعلم بالحرب مماأرى. فقال: إن الأمر لكما قلت ؛ وخرج طليحة حتى دخل عسكرهم في ليلة مقمرة، فتوسم فيه، فهتك أطناب بيت رجل عليه، واقتاد فرسه، ثم خرج حتى مر بعسكر ذي الحاجب، فهتك علىرجل آخر بيته، وحل فرسه ثم دخل على الجالنوس عسكره فهتك على آخر بيته، وحل فرسه، ثم دخل على الجالنوس ؛ فهتك على آخر بيته، وحل فرسه ثم حتى أتى الحرارة وخرج الذي كان بالنجف، والذي كان في عسكر ذي الحاجب فاتبعه الذي كان في عسكر الجالنوس، فكان أولهم لحاقاً به الجالنوس ثم الحاجبي، ثم النجفى ؛ فأصاب الأولين، وأسر الآخر. وأتى به سعداً فأخبره، وأسلم ؛ فسماه سعد مسلماً ؛ ولزم طليحة ؛ فكان معه في تلك المغازى كلها.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي، قال: كان عمر قد عهد إلى سعد جين بعثه إلى فارس ؛ ألا يمر بماء من المياه بذي قوة ونجدة ورياسة إلا أشخصه ؛ فإن أبي انتخبه، فأمره عمر، فقدم القادسية في أثنى عشرألفاً من أهل الأيام، وأناس من الحمراء استجابوا للمسلمين، فأعانوهم ؛ أسلم بعضهم قبل القتال، وأسلم بعضهم غب القتال، فأشركوا في الغنيمة، وفرضت لهم فرائض أهل القادسية: ألفين ألفين ؛ وسألوا عن أمنع قبائل العرب، فعادوا تميماً ؛ فلما دنا وستم، ونزل النجف بعث سعد الطلائع ؛ وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس ؛ فخرجت الطلائع بعد اختلاف ؛ فلما أجمع ملأ الناس أن الطليعة من الواحد إلىالعشرة سمحوا فأخرج سعد طليحة في خمسة، وعمرو بن معد يكرب في خمسة ؛ وذلك صبيحة قدم رستم الجالنوس وذا الحاجب ؛ ولا يشعرون بفصولهم من النجف ؛ فلم يسيروا إلا فرسخاً وبعض آخر ؛ حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملئوها، فقال بعضهم: ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم ؛ وهو يرى أن القوم بالنجف ؛ فأخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم! فقال عمرو لأصحابه: صدقتم، وقال طليحة لأصحابه: كذبتم؛ ما بعثتم لتخبروا عن السرح، وما بعثتم إلا للخبر قالوا: فما تريد؟ قال: أريد أن أخاطر القوم أو أهلك، فقالوا: أنت رجل في نفسك غدر ؛ ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن؛ فاجع بنا فأبى . وأتى سعداً الخبر برحيلهم ؛ فبعث قيس بن هبيرة الأسدي، وأمره على مائة، وعليهم إن هو لقيهم. فانتهى إليهم وقد افترقوا، فلما رآه عمرو قال: تجلدوا له، أروه أنهم يريدون الغارة ؛ فردهم، ووجد طليحة قد فارقهم فرجع بهم. فأتوا سعداً، فأخبروه بقرب القوم، ومضى طليحة، وعارض المياه على الطفوف ؛ حتى دخل عسكر رستم، وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم ؛ فلما أدبر الليل، خرج وقرأتي أفضل من توسم في ناحية العسكر،فإذا فرس له لم ير في خيل القوم مثله، وفسطاط أبيض لم ير مثله ؛ فانتضى سيفه، فقطع مقود الفرس، ثم ضمه إلى مقود فرسه، ثم حرك فرسه، فخرج يعدو به، ونذر به الناس والرجل، فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول، وعجل بعضهم أن يسرج، فخرجوا في طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند، فلما غشيه وبوأ له الرمح ليطعنه عدل طليحة فرسه، فندر الفارسي بين يديه، فكر عليه طليحة، فقصم ظهره بالرمج، ثم لحق له آخر، ففعل به مثل ذلك، ثم لحق به آخر؛ وقد رأى مصرع صاحبيه - وهما ابنا عمه - فازداد حنقاً، فلما لحق بطليحة، وبوأ له الرمح، عدل طليحة فرسه، فندر الفارسى أمامه، وكر عليه طليحة أن يركض ؛ ودعاه إلى الإسار، فعرف الفارسي أنه قاتله فاستأسر، وأمره طليحة أن يركض بين يديه؛ ففعل . ولحق الناس فرأوا فارسى الجند قدقتلا وقد أسرى الثالث، وقد شارف طليحة عسكرهم، فأحجموا عنه، ونكسوا، وأقبل طليحة حتى غشى العسكر، وهم على تعبية، فأفرغ الناس، وجوزوه إلى سعد ؛ فلما انتهى إليه، قال: ويحك ما وراءك! قال: دخلت عساكرهم وجستها منذ الليلة، وقد أخذت أفضلهم توسماً، وما أدري أصبت أم أخطأت ! وها هو ذا فاستخبره. فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسي، فقال له الفارس: أتؤمننى على دمى إن صدقتك؟ قال: نعم، الصدق في الحرب أحب إلينا من الكذب، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي ؛ باشرت الحروب وغشيتها، وسمعت بالأبطال ولقيتها ؛ منذ أنا غلام إلى أن بلغت ما ترى، ولم أر ولم أسمع بمثل هذا ؛ أم رجلاً قطع عسكرين لا يجترى عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفاً ، يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون ؛ فلم يرض أم يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند ؛ وهتك أطناب بيته فأنذروه، فأنذرنا به، فطلبناه، فأدركه الأول وهو فارس الناس، يعدل ألف فارس فقتله، فأدركه الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته، ولا أظن أنني خلقت بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين، وهما ابنا عمي، فرأيت المونت فاستأسرت. ثم أخبره عن أهل فارس ؛ بأن الجند عشرون ومائة ألف، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم . وأسلم الرجل وسماه سعد مسلماً، وعاد إلى طليحة، وقال: لا والله، لا تهزمون ما دمتم على ما أرى من الوفاءوالصدق والإصلاح والمؤاساة ؛ لا حاجة لي في صحبة فارس ؛ فكان من أهل البلاء يومئذ.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بنطريف، قال: قال سعد لقيس بن هبيرة الأسدي: اخرج يا عاقل، فإنه ليس وراءك من الدنيا شئ تحنو عليه حتى تأتينى بعلم القوم. فخرج وسرح عمرو بن معد يكرب وطليحة ؛ فلما حاذى القنطرة لم يسر إلا يسيراً حتى لحق، فانتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم، فإذا رستم قد ارتحل من النجف، فنزل منزل ذي الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل ذو الحاجب منزله، والجالنوس منزله، والجالنوس يريد طيزنا باذ ؛ فنزل بها، وقدم تلك الخيل. وإن ما خمل سعداً على إرسال عمرو وطليحة معه لمقالة بلغته عن عمرو، وكلمة قالها لقيس بن هبيرة قبل هذه المرة، فقال: قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين. فأنشب القتال، وطاردهم ساعة. ثم إن قيساً حمل عليهم، فكانت هزيمتهم، فأصاب منهم اثني عشر رجلاً، وثلاثة أسراء، وأصاب أسلاباً، فأتوا بالغنيمة سعداً وأخبروه الخبر ؛ فقال: هذه بشرى إن شاء الله ؛ إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم ؛ فلهم أمثالهم، ودعا عمرا وطليحة، فقال: كيف رأيتما قيساً؟ فقال طليحة: رأيناه أكمانا ، وقال عمرو: الأمير أعلم بالرجال منا. قال سعد: إن الله تعالى أحياناً بالإسلام وأحيا به قلوباً كانت ميتة، وأمات به قلوباً كانت حية، وإني أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على الإسلام ؛ فتموت قلوبكما وأنتما حيان ؛ الزما السمع والطاعة والإعتراف بالحقوق ؛ فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد ؛ وشاركهم المجالد وسعيد بن المرزبان، قالوا: فلما أصبح رستم من الغد من يوم نزل السيلحين قدم الجالنوس وذا الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل من دون القنطرة بحيال زهرة، ونزل إلى صاحب المقدمة، ونزل ذو الحاجب؛ منزله بطرنا باذ، ونزل رستم منزل ذي الحلجب بالحرارة ثم قدم ذا الحاجب فلما انتهى إلى العتيق تياسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقاً، وارتحل الجالنوس فنزل عليه وعلى مقدمته - أعني سعداً - زهرة بن الحوية، وعلى مجنبتيه عبد الله بن المعتم، وشرحبيل بن السمط الكندي، وعلى مجردته عاصم بن عمرو، وعلى المرامية فلان، وعلى الرجل فلان، وعلى الطلائع سواد بن مالك، وعلى مقدمة رستم الجالنوس، وعلى مجنبتيه الهرمزان ومهران وعلى مجردته ذو الحاجب، وعلى الطلائع البيرزان، وعلى الرجالة زاذ بن بهيش. فملا انتهى رستم إلى العتيق، وقف عليه بحيال عسكر سعد ؛ ونزل الناس ؛ فما زالوا يتلاحقون وينزلولهم فينزلون ؛ حتى أعتموا من كثرتهم ؛ فبات بها تلك الليلة والمسلمون ممسكون عنهم.
قال سعيد بن المرزبان: فلما أصبحوا من ليلتهم بشاطئ العتيق غدا منجم رستم على رستم برؤيا أريها من الليل، قال: رأيت الدلو في السماء ؛ دلواً أفرغ ماؤه، ورأيت السمكة ؛ سمكة في ضحضاح من الماء تضطرب، ورأيت النعائم والزهرة تزدهر، قال: ويحك! هل أخبرت أحداً؟ قال: لا، قال: فاكتمها.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان رستم منجماً، فكان يبكي مما يرى ويقدم عليه، فلما كان بظهر الكوفة رأى أن عمر دخل عسكر فارس، ومعه ملك ، فختم على سلاحهم، ثم حزمه ودفعه إلى عمر.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم - وكان قد شهد القادسية - قال : كان مع رستم ثمانية عشر فيلاً، ومع الجالنوس عشر فيلا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي ؛ قال: كان مع رستم يوم القادسية ثلاثون فيلا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن رجل ، قال: كان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا ؛ منها فيل سابور الأبيض ؛ وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها.
كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، معه في القلب ثمانية عشر فيلاً، ومعه المجنبتين خمسة عشر فيلا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد وطلحة وعمرو وزياد، قالوا: فلما أصبح رسم من ليلته التي باتها بالعتيق، أصبح راكباً في خيله، فنظر إلى المسلمين، ثم صعد نحو القنطرة، وقد حزر الناس، فوقف بحيالهم دون القنظرة ؛ وأرسل إليهم رجلاً ؛ إن رستم يقول لكم: أرسلوا إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، وانصرف فأرسل زهرة إلى سعد بذلك ؛ فأرسل إليه المغيرة بن شعبة، فأخرجه زهرة إلى الجالنوس ؛ فأبلغه الجالنوس رستم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم على العتيق وبات به، أصبح غادياً على التصفح والحزر ، فساير العتيق نحو خفان ؛ حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة ؛ فتأمل القوم ؛ حتى أتى على شئ يشرف منه عليهم ؛ فلما وقف على القنطرة راسل زهرة، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول فيما يقول : انتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا ؛ فكنا نحسن جوارهم، ونكف الأذى عنهم، ونوليهم المرافق الكثيرة، نحفظهم في أهل باديتهم ؛ فنزعيهم مراينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شئ من أرضنا ؛ وقد كان لهم في ذلك معاش - يعرض لهم بالصلح ؛ وإنما يخبره بصنيعهم، والصلح يريد ولا يصرح - فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر ؛ وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا ؛ إنما طلبنا وهمتنا الآخرة ؛ كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم. ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم ؛ وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز. فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شئ إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى. قال: ما أحسن هذا ؟ وأي شئ أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. قال: حسن، وأي شئ أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا؟ ثم قال له رستم : أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه ؛ ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون؟ قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبداً إلا في تجارة أو حاجة . قال: صدقني الله، أما إن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولن إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم. وعادوا أشرافهم. فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون ؛ نطيع الله في السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا. فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وأنفوا ، فقال: ابعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبنا ؟ فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة، فكان إسلامي ؛ وكنت له عديداً. وفرض لي فرائض أهل القادسية.
كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله. قالوا: وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبلي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الوائلى ومذعور بن عدي العجلي، والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي - وكان من دهاة العرب - فقال: إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم ؛ فما عندكم؟ قالوا جميعاً: نتبع ما تأمرنا به، وننتهي غليه ؛ فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شئ نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس؛ فكلمناهم به. فقال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا، فقال ربعي بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتهم جميعاً يروا أنا قد احتفلنا بهم؟ فلا تزدهم على رجل ؛ فمألئوه جميعاً على ذلك، فقال: فسرحوني، فسرحه، فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره، فاحتسبه الذين على القنطرة، وأرسل إلى رستم لمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس ، فقال: ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم يتركوا شيئاً، ووضع لرستم سرير الذهب، وألبس زينته من النماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعي يسير على فرس له رباء قصيرة، معه سيف له، غمدة لفلفه ثوب خلق، ورمحه مغلوب بقدمعه حجفة من جلود البقر ؛ على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله. فلما غشى الملك، وانتهى إليه وإلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحملها على البساط، فلما استوت عليه، نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه ؛ وإنما أرواه التهاون وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم ، وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته؛ وكان أكثر العرب شعرة، ومعجرته نسعة بعيره ؛ ولرأسه أربع ضفائر؛ قد قمن قياماً، كأنهن قرون الوعلة. فقالوا: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت. فأخبروا رستم ؛ فقال: ائذنوا له؛ هل هو إلا رجل واحد؟ فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط ؛ فما ترك لهم نمرقه ولا بساطاً إلا أفسده وتركه منهتكاً مخرقاً ؛ فملما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه، فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العبادة إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه حتى نفضي إلى موعود الله قال: وما موعود الله: قال الجنة لمن مات على قتال من أبي لمن بقي فقال رستم: قد سمعت مقالتكمورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه أبداً ؛ فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا! قال: نعم، كم أحب إليكم؟ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وأراد مقاربته ومدافعته، فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئتمتنا، ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء، فنقبل ونكف عنك ؛ وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجاً منعناك ؛ أو المنابذة في اليوم الرابع ؛ ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا ؛ أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ؛ ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض ؛ يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، ما تورن؟ هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شئ من هذا وتدع دينك لهذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم لا تنظرو إلى الثبات ؛ ولكن انظروا ؛ ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة ؛ إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني
فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار. فقال القوم: اغمد ، فغمده ؛ ثم رمى ترساً ورموا حجفته، فخرق ترسهم، وسلمت حجفته، فقال: يا أهل فارس ؛ إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب ؛ وإنا صغرناهن. ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل ، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل ؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي ؛ فقولا لملككم: أله الحاجة أم لي؟ فإن قال: لي ؛ فقد كذب ؛ ورجعت وتركتكم ؛ فإن قال: له، لم آتكم إلا على ما أحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال: انزل، قال: لا أفعل، فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس ؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء ؛ فهذه نوبتي. قال: ما جاء بكم؟ قال: إن الله عو وجل من علينا بدينه، وأرانا آياته، حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث ؛ فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة فقال: أو الموادعة إلى يوم ما؟ فقال: نعم، ثلاثاً من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه، فقال: ويحكم ! ألا ترون إلى ما أرى! جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به ؛ فهو في يمن الطائر، وذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا ؛ فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا ؛ حتى أغضبهم وأغضبوه. فلما كان من الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلاً، فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة.؟ فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار. فقال القوم: اغمد ، فغمده ؛ ثم رمى ترساً ورموا حجفته، فخرق ترسهم، وسلمت حجفته، فقال: يا أهل فارس ؛ إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب ؛ وإنا صغرناهن. ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل ، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل ؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي ؛ فقولا لملككم: أله الحاجة أم لي؟ فإن قال: لي ؛ فقد كذب ؛ ورجعت وتركتكم ؛ فإن قال: له، لم آتكم إلا على ما أحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال: انزل، قال: لا أفعل، فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس ؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء ؛ فهذه نوبتي. قال: ما جاء بكم؟ قال: إن الله عو وجل من علينا بدينه، وأرانا آياته، حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث ؛ فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة فقال: أو الموادعة إلى يوم ما؟ فقال: نعم، ثلاثاً من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه، فقال: ويحكم ! ألا ترون إلى ما أرى! جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به ؛ فهو في يمن الطائر، وذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا ؛ فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا ؛ حتى أغضبهم وأغضبوه. فلما كان من الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلاً، فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة.
كتب إلى السرى، عن سيف، عن سيف، عن أبي عثمان النهدي. قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئاً من شارتهم، تقوية لتهاونهم ؛ فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم ؛ حتى يمشي عليهم غلوة ؛ وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي ؛ حتى جلس معه على سريره وووسادته ؛ فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوا ومغثوه . فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام ؛ ولا أرى قوماً أسفه منكم! إنا معشر العرب سواء ؛ ولا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه ؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ؛ وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر فيكم فلا نصفه، نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموين اليوم، علمت أن أمركم لا يستقم فيكم مضمحل، وأنكم مغلوبون ؛ وأن ملكاً لا يقول على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقال السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه ؛ قاتل الله أولينا، ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة ! فمازحه رستم ليمحو ما صنع، وقال له: يا عربي ؛ إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك ؛ فالأمر على ماتحب من الوفاء وقبول الحق ؛ ما هذه المغازل التي معك؟ قال: ما ضر الجمرة ألا تكون طويلة ! ثم راماهم. وقال: ما بال سيفك رثاً! قال: رث الكسوة ، حديد المضربة . ثم عاطاه سيفه، ثم قال له رستم: تكلم أم أتكلم؟ فقال المغيرة: أنت الذي بعثت إلينا، فتكلم. فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم، فحمد قومه، وعظم أمرهم وطوله. وقال: لم نزل متمكنين في البلاد، ظاهرين على الأعداء، أشرافاً في الأمم ؛ فليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين، أو الشهر والشهرين ؛ للذنوب ؛ فإذا انتقم الله فرضى رد إلينا عزنا، وجمعنا لعدونا شر يوم هو آت عليهم. ثم إنه لم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمراً منكم ؛ كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا نراكم شيئاً ولا نعدكم، وكنتم إذا قطحت أرضكم، وأصابتكم السنة استغثتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بالشئ من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنتعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلاد، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل رجل منكم بوقر تمر وبثوبين، وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهى أن أقتلكم ولا آسركم.
فتكلم المغيرة بن شعبة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله خالق كل شئ ورازقه ؛ فمن صنع شيئاً فإنما هو الذي يصنعه هو له . وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك ؛ من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا ؛ فنحن نعرفه، ولسنا ننكره ؛ فالله صنعه بكم ؛ ووضعه فيكم وهو له دونكم ؛ وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة واختلاف القلوب ؛ فنحن نعرفه ؛ ولسنا ننكره ؛ والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول ؛ ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليها ؛ ولو يزل أهل رخاتها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولوكنتم فيما آتاكم الله ذوى شكر، كان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ؛ ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر ؛ كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه ؛ أو كنتم تعرفوننا به ؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً....ثم ذكر مثل الكلام الأول ؛ حتى انتهى إلى قوله: وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبد تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا فالسيف إن أبيت! فنخر نخرة، واستشاط غضباً، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غداً حتى أقتلكم أجمعين.
فانصرف المغيرة ؛ وخلص رستم تألفا بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا! ألم يأتكم الأولان فحسراكم واستحرجاكم، ثم جاءكم هذا، فلم يختلوفا، وسلكوا طريقاً واحجداً، ولزموا أمراً واحداً ؛ هؤلاء والله الرجال ؛ صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا، فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم ؛ لئن كانوا صادقين ما يقول لهؤلاء شئ! فلجوا وتجلدوا وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ؛ وإن هذا منكم رئاء ؛ فازدادوا لجاجة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فأرسل مع المغيرة رجلاً. وقال له: إذا قطع القنطرة، ووصل إلى أصحابه، فناد: إن الملك كان منجماً قد حسب لك ونظر في أمرك، فقال: إنك غداً تفقأ عينك . ففعل الرسول، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر ؛ ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين، لتمنيت أن الأخرى ذهبت أيضاً. فرآهم يضحكون من مقالته، ويتعجبون من بصيرته ؛ فرجع إلى الملك بذلك، فقال: أطيعوني يا أهل فارس ؛ وإني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم. وكانت خيولهم تلقى على القنطرة لا تلقى إلا عليها، فلا يزالون يبدءون المسلمين، والمسلمون كافون عنهم الثلاثة الأيام؛ لا يبدءونهم ؛ فإذا كان ذلك منهم صدوهم ورد عوهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان ترجمان رستم عن أهل الحيرة يدعى عبود.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي وسعيد بن المرزبان، قالا: دعا رستم بالمغيرة، فجاء ححتى جلس على سريره، ودعا رستم ترجمانه - وكان عربياً من أهل الحيرة، يدعى عبود - فقال له المغيرة: ويحك يا عبود! أنت رجل عربي ؛ فأبلغه عنى إذا أنا تكلمت كما تبلغي عنه. فقال له رستم مثل مقالته، وقال له المغيرة مثل ومقالته، إلى إحدى ثلاث خلال: إلى الإسلام ولكم فيه مالنا وعليكم فيه ما علينا ؛ ليس فيه تفاضل بيننا، أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون. قال: ما صاغرون؟ قال: أن يقوم الرجل منكم على رأس أحدنا بالجزية يحمده أن يقبلها منه ... إلى آخر الحديث؛ والإسلام أحب إلينا منهما.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن شقيق، قال: شهدت القادسية غلاماً بعدما احتملت ؛ فقدم سعد القادسية في اثنى عشر ألفاً ؛ وبها أهل الأيام، فقدمت علينا مقدمات رستم، ثم زحف إلينا في ستين ألفاً، فملا أشرف رستم على العسكرقال: يا معشر العرب، ابعثوا إلينا رجلاً يكلمنا ونكلمه ؛ فبعث إليه المغيرة بن شعبة ونفراً، فلما أتوا رستم جلس المغيرة على السرير، فنخر أخو رستم، فقال المغيرة: لا تنخر ؛ فما زادني هذا شرفاً ولا نقص أخاك. فقال رستم: يا مغيرة، كنتم أهل شقاء، حتى بلغ ؛ وإن كان لكم أمر سوى ذلك، فأخبرونا. ثم أخذ رستم سهماً من كنانته، وقال: لا تروا أن هذه المغازل تغنى عنكم شيئاً ؛ فقال المغيرة مجيباً له، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : فكان مما رزقنا الله على يديه حبة تنبت في أرضكم هذه ؛ فلما أذقناها عيالنا، قالوا: لا صبر لما عنها، فجئنا لنطعمهم أو نموت. فقال رستم: إذاً تموتون أو تقتلون، فقال المغيرة: إذاً يدخل من قتل منا الجنة، ويدخل من قتلنا منكم النار، ويظفر من بقى منا بمن بقى منكم ؛ فنحن نخيرك بين ثلاث خلال ...إلى آخر الحديث فقال رستم: لا صلح بيننا وبينكم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعاً، وحبس الثلاثة ، فخرجوا حبى أتوه ليعظموا عليه استقباحاً، فقالوا له: إن أميرنا يقول لك: إن الجوار يحفظ الولاة، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك، العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه، ونرجع إلى أرضنا، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض ؛ إلا أن داركم لكم، وأمركم فيكم ؛ وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا ؛ وكنا لكم عونا على أحد إن ارادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم ؛ ولا يكونن هلاك قومك على يديك، فإنه ليس بينك وبين أن تغبط به إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك ؛ فقال: إني قد كلمت منكم نفراً، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام، وسأضرب لكم مثلكم تبصروا. إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة، وقشف في الهيئة، لا تمتنعون ولا تنتصفون، فلم نسئ جواركم، ولم ندع مواساتكم، تقحمون المرة بعد المرة، فنميركم ثم نردكم ، وتأتوننا أجراء وتجاراً، فنحسن إليكم ؛ فلما تطاعمتم بطعامنا، وشربتم شرابنا، وأظلكم ظلنا، وصفتم لقومكن ؛ فدعوتموهم، ثم أتيتمونا بهم، وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلباً، فقال: وما ثعلب ! فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعن عليه سد عليهن صاحب الكرم الحجر الذي كن يدخلن منه، فقتلهن، وقد علمت أنا الذي حملكم على حملكم علىهذا الحرص والطمع والجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا، وامتاروا حاجتكم، ولكم العود كلما احتجتم، فإني لا أشتهي أن أقتلكم.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عمارة بن القعقاع الضبى، عن رجل من يربوع شهدها، قال: وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا، ثم كان مصيركم القتل والهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى ؛ وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئاً أصيب بعضهم ونجا بعضهم ؛ وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جردان ألفت جرة فيها حب ، وفي الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع، فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، فضاق عليه الحجر، ولم يطق الخروج، فشكا القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقلن له: ما أنت بخارج منها حتى تعود كماكنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقى في الخوف، حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله. فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: وقال: لم يخلق الله خلقاً أولع من ذباب ولا أضر ؛ ما خلاكم يا معشر العرب ؛ ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ؛ وسأضرب لكم مثلكم: إن الذباب إذا رأى العسل طار، وقال: من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهنهه أحد إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب وقال: من يخرجني وله اربعة دراهم؟ وقال أيضاً: إنما مثلكم مثل ثعلب دخل حجراً وهو مهزول ضعيف إلى كرم، فكان فيه يأكل ما شاء الله، فرآه صاحب الكرم، ورأى ما به، فرحمه، فملا طال مكثه في الكرم وسمن، وصلحت حاله، وذهب ما كان به من الهزال أشر، فجعل يبعث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل، فاشتد على صاحب الكرم، فقال: لا أصبر على هذا من أمر هذا، فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه، فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم، فملا رأى أنهم غير مقلعين عنه، ذهب ليخرج من الحجر الذي دخل منه، فنشب. أتسع عليه وهو مهزول، وضاق عليه وهو سمين ؛ فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم، فلم يزل يضربه حتى قتله، وقد جئتم وأنتم مهازيل ؛ وقد سمنتم شيئاً من سمن ؛ فانظروا كيف تخرجون! وقال أيضاً: إن رجلا وضع سلا، وجعل طعامه فيه ؛ فأتى الجرذان ، فخرجوا سله، فدخلوا فيه فأراد سده، فقيل له: لا تفعل، إذاً يخرقنه، ولكن انقب بحياله ؛ ثم اجعل فيها قصبة مجوفة، فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها، فلكما طلع عليكم جرذ قتلموه. وقد سددت عليكم ؛ فإياكم أن تقتحموا القصبة، فلا يخرج منها أحد إلا قتل، وما دعاكم إلى ما صنعتم ؛ ولا أرى عدد ولا عدة!
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما وزياد معهما، قالوا فتكلم القوم فقالوا: أما ما ذكرتم من سوء حالنا فيما مضى، وانتشار أمرنا، فلما تبلغ كنهه! يموت الميت منا إلى النار، ويبقى الباقي منا في بؤس؛ فبينا نحن في أسوإ ذلك ؛ بعث الله فينا رسولاً من أنفسنا إلى الإنس والجن، رحمة رحم بها من أراد رحمته، ونقمة ينتقم بها من رد كرامته ؛ فبدأ بنا قبيلة قبيلة، فلم يكن أحد أشد عليه ؛ ولا أشد إنكاراً لما جاء به، ولا أجهد على قتله ورد الذي جاء به من قومه، ثم الذين يلونهم، حتى طابقناه على ذلك كلنا، فنصبنا له جميعاً، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى، فأعطى الظفر علينا، فدخل بعضنا طوعاً، وبعضنا كرهاً، ثم عرفنا جميعاً الحق والصدق لما أتانا به من الآيات المعجزة ؛ وكان مما أتانا به من عند ربنا جهاد الأدنى فالأدنى، فسرنا بذلك فيما بيننا، نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا يخرم عنه ولا ينقض ؛ حتى اجتمعت العرب على هذا، وكانوا من اختلاف الرأى فيما لا يطيق الخلائق تألفيهم. ثم اتيناكم بأمر ربنا، نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره ، وننتجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وحكمه؛ فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله ؛ وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى ؛ فإن فعلتم وإى فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا ؛ فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم، ولقتالكم بعد أحب من صلحكم. وأما ما ذكرت من رثائتنا وقلتنا فإن أداتنا الطاعة، وقتالنا الصبر . وأما ما ضربتم لنا من الأمثال، فإنكم ضربتم للرجال والأمور الجسام وللجد الهزل؛ ولكنا سنضرب مثلكم، وإنما مثلكم مثل رجل غرس أرضاً، واختار لها الشجر والحب، وأجرى إليها ألأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقومون على جناتها، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم ؛ فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم ؛ استعتبهم فكابروه، فدعا إليها غيرهم، وأخرجهم منها ؛ فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولاً لهؤلاء يملكونهم ؛ ولا يملكون عليهم؛ فيسمونهم الخسف أبداً ؛ والله أن لو لم يكن ما نقول لك حقاً، ولم يكن إلا الدنيا، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبر جكم من صبر، ولقارعناكم حتى نغلبكم عليه.
فقال رستم: أتعبرون إلينا أن نعبر إليكم؟ فقالوا: بل عبروا إلينا، فخرجوا من عنده عشياً، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم: شأنكم والعبور ؛ فأرادوا القنظرة، فأرسل إليهم: لا ولا كرامة ! أما شئ قد غلبناكم عليه فلم نرده عليكم ؛ تكفلوا معبراً غير القناطر، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم.
يوم ارماثكتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع وعن الحكم، قالا: لما أراد رستم العبور أمر بسكر العتيق بحيال قادس، وهو يومئذ أسفل منها اليوم مما يلي عين الشمس، فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقاً، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ورأى رستم من الليل أن ملكاً نزل من السماء، فأخذ قسى أصحابه، فختم عليها، ثم صعد بها السماء ؛ فاستيقظ مهموماً محزوناً فدعا خاصته فقصها عليهم،وقال إن الله ليعظنا، لو أن فارس تركوني أتعظ ! أما ترون النصر قد رفع عنا ، وترون الريح مع عدونا، وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق، ثم هم يريدون مغالبة بالجبرية! فعبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الأغمش، قال: لما كان يوم السكر، لبس رستم درعين ومغفراً وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج، فأتى به فوثب ؛ فإذا هو عليه لم يمسه ولم يضع رجله في الركاب، ثم قال: غداً ندقهم دقاً، فقال له رجل: إن شاء الله، فقال: وإن لم يشأ!
كتب إلى السرى، بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال رستم: إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد أيذكرهم موت كسرى ثم قال لأصحابه: قد خشيت أن تكون هذه سنة القدود ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم، وجلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة، وعبى في القلب ثمانية وسبعةعشرة فيلاً، عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته والبيرزان بينه وبين ميسرته، ويقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين ؛ وكان يزدجرد وضع رجلاً على باب إيوانه، إذ سرح رستم، وأمره بلزومه وإخباره، وآخر حيث يسمعه من الدار، وآخر خارج الدار، وكذلك على كل دعوة رجلاً ؛ فلما نزل رستم، قال الذي بساباط: قد نزل، فقاله الآخر... حتى قاله الذي على باب الإيوان ؛ وجعل بين كل مرحلتين على كل دعوة رجلاً ؛ فكلما نزل وارتحل أو حدث أمر قاله ؛ فقاله الذي يليه، حتى يقوله الذي يلي باب الإيوان ؛ فنظم ما بين العتيق والمدائن رجالاً، وترك البرد، وكان ذلك هو الشأن .
وأخذ المسلمون مصافهم، وجعل زهرة وعاصم بين عبد الله وشرحبيل، ووكل صاحب الطلائع بالطرد، وخلط بين الناس في القلب والمجنبات، ونادى مناديه: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله يأيها الناس ؛ فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد. وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس، به حبون ، فإنما هو على وجهه في صدره وسادة، هو مكب عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه، إلى خالد بن عرفطة، وهو أسفل منه ؛ وكان الصف إلى جنب القصر، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهداً مشرفاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد الهمداني، عن أبيه عن أبي نمران، قال لما عبر رستم تحول زهرة والجالنوس جهل سعد الزهرة مكان ابن السمط وجعل رستم الجالنوس مكان الهرمزان، وكان بسعد عرق على الناس، فاختلف عليه الناس، فقال: احملوني، وأشرفوا بي على الناس والد ما قبل وكان إنما هو مكب فاستخلف خالد بن عرفطة على الناس، فاتقوا به، فأكب مطلعاً عليهم، والصف في أصل حائط قديس ؛ يأمر خالداً فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس، فهم بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم! فحسبهم - ومنهم أبو محجن الثقفي - وقيدهم في القصر، وقال جرير: أما إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً ، وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سنت به سنة يؤخذ بها من بعدي.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: إن سعداً خطب من يليه يومئذ ؛ وذلك يوم الإثنين في المحرم سنة أربع عشرة، بعد ما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك ؛ وليس لقوله خلف، قال الله جل ثناؤه : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج ؛ فأنتم تطعمون منها، وتأكلون منها، ونقتلون أهلها، يوتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع ؛ وأنتم وجوه العرب وأعيانهم، وخيار كل قبيلة ، وعز من وراءكم فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك احداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم.
وقام عاصم بن عمرو في المجردة ح فقال: إن هذه بلاد قد أحل الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منهم منذ ثلاث سنين مالا ينالون منكم، وأنتم الأعلون والله معكم ؛ إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم؛ وإن خرتم وفشلتم فالله لكم من ذلك جار وحافظ، لم يبق هذا الجمع منكم باقية ؛ مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك . الله الله! اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها خمر ولا وزر يعقل إليه، ولا يمتنع به! اجعلوا همكم الآخرة.
وكتب سعد إلى الرايات: إني قد استخلف عليكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبون، فإني مكب على وجهي وشخصي لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمري، ويعمل برأي فقرى على الناس فزادهم خيراً، وانتهوا إلى رأيه، وقبلوا منه وتحاثوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن حلام، عن مسعود، قال: وخطب أمير كل قوم أصحابه، وسير فيهم، وتحاضوا على الطاعة والصبر تواصوا ؛ ورجع كل أمير إلى موقفه بمن والاه من أصحابه عند المواقف ؛ ونادى منادى سعد بالظهر، ونادى رستم: باد شهان مرندر، أكل عمر كبدى أحرق الله كبده! علم هؤلاء حتى علموا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، قال: حدثنا سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، قال: لما نزل رستم النجف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ند منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع غليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحداً منهم يأكل شيئاً إلا يمصوا عيداناً لهم حين يمسون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا . فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد اذن مؤذن سعد الغداة ، فرآهم يتحشحشون ، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم ؟ قال: أما ترون إلى عدوكم ق نودى فيهم فتحشحشوا لكم! قال عينه: ذلك إنما تخشخشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية، وهذا تفسيره بالعربية: أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل، فلما عبروا توافقوا، وأذن نؤذن سعد للصلاة، فصلى سعد ، وقال رستم: أكل عمر كبدي! كتب إلى السرى، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وأرسل سعد الذين انتهى إليهم رأى الناس، والذين انتهت إليهم نجدتهم وأصناف الفضل منهم إلى الناس، فكان منهم من ذوي الرأى النفر الذين أتوا رستم المغيرة، وحذيفة، وعاصم ؛ وأصحابهم ؛ ومن أهل النجدة طليحة، وقيس الأسدي، وغالب، وعمرو بن معد يكرب وأمثالهم ؛ ومن الشعراء الشماخ والحطيئة، وأوس ين مغراء، وعبدة بن الطبيب ؛ ومن سائر الأصناف أمثالهم. وقال قبل أن يرسلهم: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم عند مواطن البأس ؛ فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروهم وحرضوهم على القتال، فساروا فيهم. فقال قيس بن هبيرة الأسدي: أيها الناس، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عادته ؛ فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم ؛ وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء والأرض الفقر، والظراب الخشن، والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.
وقال غالب: ايها الناس، احمدوا الله على ما أبلاكم، وسلوه يزدكم، وادعوه يجبكم ؛ يا معاشر معد ؛ ما علتكم اليوم وأنتم في حصونكم - يعنى الخيل أ ومعكم من لا يعصكم يعنى السيوف؟ اذكروا حديث الناس في غد ؛ فإنه بكم غداً يبدأ عنده، وبمن بعدكم يثنى.
وقال ابن الهذيل الأسدي: يا معاشر معد، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله وغضبوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
وقال بسرين أبي رهم الجهنى: احمدوا الله، وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وىمنتم بنبيه ورسله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ ولا يكونن شئ بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتى من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم.
وقال عاصم بن عمرو: يا معاشر العرب ؛ إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم الأعيان من العجم ؛ وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. لا تحدثوا اليوم أمراً تكونون به شيئاً على العرب غداً.
وقال ربيع بن البلاد السعدي: يا معاشر العرب، قاتلوا للدين والدنيا ؛ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقي ، وإن عظك الشيطان عليكم الأمر، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل.
وقال ربعي بن عامر: إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر الراحة، فعودوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعودوها الجزع فتعتادوه.
وقام كلهم بنحو من هذا الكلام، وتوائق الناس، وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم، وفعل أهل فارس فيما بينهم مثل ذلك، وتعاهدوا وتواصوا ؛ واقتربوا بالسلاسل ؛ وكان المقتربون ثلاثين ألفاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: إن أهل فارس كانوا عشرين ومائة ألف، معهم ثلاثون فيلاً، مع كل فيل أربعة آلاف.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن حلام، عن مسعود بن خراش، قال: كان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس، الخندق من ورائهم. فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق. ومعهم ثلاثون ألف مسلسل، وثلاثون فيلا تقاتل، وفيلة عليها الملوك وقوف لا تقاتل. وأمر سعد الناس أن يقرءوا على الناس سورة الجهاد، وكانوا يتعلمونها.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال سعد: الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئاً حتى تصلوا الظهر ، فإذا صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة، فكبروا واستعدوا. واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم، واعلموا أنما أعطيتموه تأييداً لكم. ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا ولتستتم عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم؛ وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن مصعب بن سعد مثله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء، عن أبي إسحاق، قال: ارسل يعد يوم القادسية في الناس: إذا سمعتم التكبير فشدوا شسوع نعالكم، فإذا كبرت الثانية فتهيئوا، فإذا كبرت الثالثة فشدوا النواجذ على الأضراس واحملوا.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد يإسنادهم، قالوا: لما صلى سعد الظهر أمر الغلام الذي كان ألزمه عمر إياه - وكان من القراء - أن يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون يتعلمونها كلهم، فقرأ على الكتيبة الذين يلونه سورة الجهاد، فقرئت في كل كتبية، فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: لما فرغ القراء كبر سعد، فكبر الذين يلونه تكبيرة، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتحشحش الناس، ثم ثنى فاستتم الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم، فاعتروا الطعن والضرب، وخرج غالب بن عبد الله الأسدي وهو يقول:
قد علمت واردة المسائح ... ذات اللبان والبنان الواضح
أنى سمام البطل المشايح ... وفارج الأمر المهم الفادح
فخرج إليه هرمز - وكان من ملوك الباب، وكان متوجاً - فأسره غالب أسراً، فجاء سعداًن فأدخل، وانصرف عالب إلى المطاردة، وخرج عاصم ابن عمرو وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أنى أنى امرؤ لا من تعبيه السبب ... مثلى على مثلك يغريه العتب
فطارد رجلاً من أهل فارس، فهرب منه اتبعه، حتى إذا خالط صفهم التقى بفارس معه بغلة، فترك الفارس البغل، واعتصم بأصحابه فمحوه، واستاق عاصم البغل والرحل، حتى أفضى به إلى الصف، فإذا هو خباز الملك وإذا الذي معه لطف الملك الأخبصة والعسل المعقود، فأتى به سعداً، ورجع إلى موقفه، فلما نظر فيه سعد، قال: انطلقوا به إلى أهل موقفه، وقال: إن الأمير قد نفلكم هذا فكلوه، فنفلهم إياه. قالوا: وبينا الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة، إذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد انهدوا، إنما سميتم نهداً لتفعلوا، فبعث إليه خالد بن عرفطة: والله لتكفن أو لأولين عملك غيرك. فكف.
ولما تطاردت الخيل والفرسان خرج رجل من القوم ينادى: مرد ومرد، فانتدب له عمرو بن معد يكرب وهو بحياله، فبارزه فاعتنقه، ثم جلد به الأرض فذبحه، ثم التفت إلى الناس، فقال: إن الفارسي إذا فقد قوسه فإنما هو تيس. ثم تكتتب الكتائب من هؤلاء وهؤلاء.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: مر بنا عمرو بن معد يكرب وهو يحضض الناس بين الصفين، وهو يقول: إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى مزراقه، فإنما هو تيس ؛ فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم، فوقف بين الصفين فرمى بنشابة، فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه فحمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته، فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه ؛ ثم ألقاه. ثم قال: هكذا فاصنعوا بهم ! فقلنا: يا أبا ثور، من يستطيع أن يصنع كما تصنع! وقال بعضهم غير إسماعيل: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج عليه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم ؛ أن الأعاجم وجهت إلى وجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلاً .
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: كانت - يعني وقعة القادسية - في المحرم سنة أربع عشرة في أوله. وكان قد خرج من الناس إليهم، فقال له أهل فارس: أحلنا، فأحالهم على بجيلة، فصرفوا إليهم ستة عشر فيلاً كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما تكتتبت الكتائب بعد الطراد حمل أصحاب الفيلة عليهم، ففرقت بين الكتائب، فابذعرت الخيل ؛ فكادت بجلية أن تؤكل ؛ فرت عنها خيلها نفاراً، وعمن كان معهم في مواقفهم ، وبقيت الرجالة من أهل المواقف، فأرسل سعد إلى بني أسد: ذببوا عن بجيلة ومن لافها من الناس ؛ فخرج طليخحة بن خويلد وحمال بني مالك وغالب بن عبد الله والربيل بن عمرو في كتائبهم، فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها ؛ وإن على كل فيل عشرين رجلاً.
كتب إلى السرى،عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بن طريف، أن طليحة قام في قومه حين استصرخهم سعد، فقال : يا عشيرتاه ؛ إن المنوه بإسمه، الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحداً أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم ؛ ابتدءوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة ؛ فإنما سميتم أسداً لتفعلوا فعله ؛ شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة ! أي فرى يفرون ! وأي قرن يغنون ! هل يوصل إلى مواقفهم ! فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله! شدوا عليهم باسم الله ! فقال المعرور بن سويد وشقسيق. فشدوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حسبنا الفيلة عنهم ؛ فأخرت ، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه ؛ فما لبثه طليحة أن قتله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقام الأشعث بن قيس فقال: يا معشر كندة ؛ لله دربني أسد! أي فرى يفرون ! وأي هذ1 يهذون عن موقفهم منذ اليوم ! أغنى كل قوم ما يليهم ؛ وأنتم تنتظرون من يكفيكم البأس ! أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم العرب منذ اليوم، وإنهم ليقتلون ويقاتلون ؛ وأنتم جثاة على الركب تنظرون! فوثب إليه عدد منهم عشرة ؛ فقالوا: عثر الله جدك ! إنك لتؤبسنا جاهداً ، ونحن أحسن الناس موقفاً! فمن أين خذلنا قومنا العرب وأسأنا إسوتهم فها نحن معك. فنهد ونهدوا، فأزالوا الذين بإزائهم ؛ فلما رأى أهل فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد رموهم بحدهم وبدر المسلمين الشدة عليهم ذو الحاجب والجالنوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم ؛ وقد كبر سعد الرابعة فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة على الخيول ؛ فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلح فرسانها على الرجل يشمسون بالخيل؛ فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد ، وتلح فرسانها على الرجل يشمسون بالخيل ؛ فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بني تميم ؛ ألستم أصحاب الإبل والخيل ! أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة! قالوا: بلى والله ؛ ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة ، فقال لهم: يا معشر الرماة ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل، وقال: يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها ؛ وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد ؛ واقبل أصحاب عاصم على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وذباذب توابيتها، فقطعوا وضنها ، وارتفع عواؤهم ؛ فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أعرى، وقتل أصحابها، وتقابل الناس ونفس عن أسد، وردوا فارس عنهم إلى مواقفهم ؛ فاقتتلوا حتى غربت الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ؛ ثم رجع هؤلاء وهؤلاء ؛ وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة ؛ وكانوا ردءاً للناس ؛ وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم ؛ وهذا يومها الأول وهو يوم أرماث.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن، عن القاسم، عن رجل من بني كنانة، قال: حالت المجنبات ودارت على أسد يوم أرماث فقتل تلك العشية منهم خمسمائةو رجل ؛ فقال عمرو بن شأس الأسدى:
جلبنا الخيل من أكناف نيق ... إلى كسرى فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقسام شجواً ... وبالحقوين أياماً طوالا
وداعية بفارس قد تركنا ... تبكىكلما رأت الهلالا
قتلنا رستما وبنية قسراً ... تثير الخيل فوقهم الهيالا
تركنا منهم حيث التقينا ... فئاماً ما يريدون ارتحالا
وفر البيرزان ولم يحامى ... وكان على كتيبته وبالا
ونجى الهرمزان حذار نفس ... وركض الخيل موصلة عجلا
يوم أغواث
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان سعد قد تزوج سلمى بنت خصفة ؛ امرأة المثنى بن حارثة قبله بشراف، فنزل بها القادسية، فلما كان يوم أرمات،ث وجال الناس، وكان لا يطيق جلسة إلا مستوفزاً أو على بطنه ؛ جعل سعد يتململ ويحول جزعاً فوق القصر ؛ فملا رأت ما يصنع أهل فارس، قالت: وامثنياه ولا مثنى للخيل لايوم! - وهي عند رجل قد أضجره ما يرى من أصحابه وفي نفسه - فلطم وجهها، وقال: اين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى! - يعنى أسداً وعاصماً وخيله - فقالت: أغيرة وجبناً! قال: والله لا يعذروني اليوم أحد إذا أنت لم تعذريني وأنت ترين ما بي، والناس أحق ألا يعذرونى! فتعلقها الناس ؛ فلما ظهر الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه ؛ وكان غير جبان ولا ملوم. ولما أصبح القوم من الغد أصبحوا على تعبية، وقد وكل سعد رجالاً بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث ؛ فأما الرثيث فأسلم إلى النساء يقمن عليهم إلى قضاء الله عز وجل عليهم ؛ وأما الشهداء فدفنوهم هنالك على مشرق - وهو واد بين العذيب وبين عين الشمس في عدوتيه جميعاً ؛ الدنيا منهما إلى العذيب والقصوى منهما من العذيب - والناس ينتظرون بالقتال حمل الرثيث الأموت ؛ فلما استقلت بهم الإبل وتوجهت بهم نحو العذيب طلعت نواصى الخيل من الشأم - وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر - فلما قدم على أبي عبيدة كتاب عمر بصرف أهل العراق أصحاب خالد ؛ ولم يذكر خالداً ضن بخالد فحبسه وسرح الجيش ؛ وهم ستة آلاف؛ خمسة آلاف من ربيعة ومضر وألف من أفناء اليمن من أهل الحجاز ؛ وأمر عليهم هاشم بن عتيبة بن أبي وقاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، فجعله أمامه ؛ وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن هبيرة بن عبد يغوث المرادي - ولم يكن شهد الأيام، أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق وصرف معهم - نوعلى المجنة الأخرى الهزهاز بن عمرو العجلي، وعلى الساقة أنس بن عباس. فانجذب القعقاع وطوى وتعجل، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشاراً ؛ وهم ألف فكلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا في آثارهم عشرة، فقدم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، فقال: يأيها الناس ؛ إني قد جئتكم في قوم ؛ والله أن لو كانوا بمكانكم، ثم أحسوكم حسدوكم حظوتها، وحاولوا أن يطيروا دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: من أنت؟ قال: أنا بهمن جاذويه، فنادى: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! فاجتلدا، فقتله القعقاع، وجعلت خيله ترد قطعاً، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس ؛ وكأن لم يكن بالأمس مصيبة ؛ وكأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع ، وانكسرت الأعاجم لذلك. ونادى القعقاع أيضاً: من يبارز؟ فخرج إليه رجلان: أحدهما البيرزان والآخر البندوان ؛ فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أخو بني تيم اللات، فبارز القعقاع البيرزان، فضربه فأذرى رأسه ، وبارزا بن ظبيان البندوان، فضربه فأذرى رأسه، وتوردوهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول: يا معاشر المسلمين، باشروهم بالسيوف، فإنما يحصد الناس بها فتواصى الناس، نوتشايعوا إليهم، فاجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئاً مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، كانت توابيتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان الغد.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية ؛ فقالت لبنيها: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا ، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين أهل فارس ؛ والله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم ؛ انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره. فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بني! فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال ؛ ما كلم منهم رجل كلماً ؛ فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فأزر القعقاع يومئذ ثلاثة نفر من بني يربوع رياحيين، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمين، ويحمل ويحملون، واليربوعيون: نعيم بن عمرو بن عتاب، وعتاب بن نعيم بن عتاب ابن الحارث بن عمر بن همام، وعمرو بن شيب بن زنباع بن الحارث بن ربيعة ؛ أحد بني زيد. وقدم ذلك اليوم رسول لعمر بأربعة أسياف وأربعة أفراس يقسمها فيمن انتهى إليه البلاء، إن كنت لقيت حرباً. فدعا حمال بن مالك والربيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسي - وكلهم من بني أسد - وعاصم بن عمرو التميمي ؛ فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع ابن عمرو واليربوعيين فحملهم على الأفراس ؛ فأصاب ثلاثة من بني يربوع ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال في ذلك الربيل بن عمرو:
لقد علم الأقوام أنا أحقهم ... إذا حصلوا بالمرهفات البواتر
وما فتئت خيلي عشية أرمثوا ... يذودون رهواً عن جموع العشائر
لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ... وقد أفلحت أخرى الليالي الغوابر
وقال القعقاع في شأن الخيل:
لم تعرف الخيل العراب سواءنا ... عشية أغواث بجنب القوادس
عشية رحنا بالرماح كأنها ... على القوم ألوان الطيور الرسارس
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن سليم بن عبد الرحمن السعدي، عن أبيه، قال: كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة، فلما قدم القعقاع قال: يأيها الناس، اصنعوا كما أصنع، ونادى : من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، ثم البيرزان فقتله، ثم خرج الناس من كل ناحية، وبدأ الحرب والطعان، وحمل بنو عم القعقاع يومئذ ؛ عشرة عشرة من الرجالة، على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم تحميهم ، وأمرهم أن يحملوا على خيلهم بين الصفين يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين. فلما رأى ذلك الناس استنوا بهم، فلقى فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وحمل رجل من بني تميم ممن كان يحمى العشيرة يقال له سواد، وجعل يتعرض للشهادة، فقتل بعد ما حمل، وأبطأت عليه الشهادة ؛ حتى تعرض لرستم يريده، فأصيب دونه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء بن زياد، والقاسم بن سليم عن أبيه، قالا: خرج رجل من أهل فارس، ينادى : من يبارز؟ فبرز له علباء بن جحش العجلى، فنفحه علباء، فأسحره ، ونفحه الآخر فأمعاه، وخرا ؛ فأما الفارسي فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج إدخالها فلم يتأدت له حتى مر به رجل من المسلمين، فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه ، ثم زحف صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعاً من مصرعه، إلى صف فارس، وقال:
أرجو بها من ربنا ثواباً ... قد كنت ممن أحسن الضرابا
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: وخرج رجل من أهل فارس فنادى: من يبارز؟ فبرز له الأعراف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه فأخذوه، فغبر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه ؛ وقال في ذلك:
وإن يأخذوا بزى فإني مجرب ... خروج من الغماء محتضر النصر
وإني لحام من وراء عشيرتي ... ركوب لآثار الهوى محفل الأمر
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: فحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة ؛ كلما طلعت قطعة حملة، وأصاب فيها، وجعل يرتجز ويقول:
أزعجهم عمداً بها إزعاجاً ... أطعن طعناً صائباً ثجاجا
أرجو به من جنة أفواجاً كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة ؛ كلما حمل حملة قتل فيها، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني، وقال في ذلك القعقاع:
حبونه جيلشة بالنفس ... هدارة مثل شعاع الشمس
في يوم أغواث فليل الفرس ... أنخش بالقوم أشد النخس
حتى تفيض معشري ونفسي وبارز الأعور بن قطبة شهر براز سجستان، فقتل كل واحد منهما صاحبه، فقال أخوه في ذلك:
لم ار يوما " ً كان أحلى وأمر ... من يوم أغواث إذا افتر الثغر
من غير ضحك كان أسوا وأبر كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد ؛ وشاركهم ابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف النهار ؛ فلما عدل النهار تزاحف الناس ؛ فاقتتلوا بها صتيتا حتى انتصف الليل ؛ فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، والنصف الأول يدعى السواد. ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث في القادسية الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم ؛ وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم ؛ فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد بات الناس على مثل ما بات عليه القوم ليلة أرماث ؛ ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا حتى تفايئوا. فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الإنتماء فلا توقظني، فإنهم أقوياء على عدوهم ؛ وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقطنى، فإنهم على السواء فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني ؛ فإن انتماءهم عن السوء.
فقالوا: ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفييه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل، فأتى سلمى بنت خصفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة ؛ هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنى وتعيرينني البلقاء ؛ فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فقالت: وما أنا وذاك! فرجع يرسف في قيوده، ويقول:
كفى حزناً أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً على وثاقياً
إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت ... مصاريع دونى قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحداً لا أخاليا
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
فقالت سلمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته. وقالت: أما الفرس فلا أعيرها ؛ ورجعت إلى بيتها، فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها ؛ ثم دب عليها ؛ حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ؛ فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم: عرياً ؛ ثم رجع من خلف المسلمين إلى المسيرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فنذر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ؛ وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه. وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء! وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لآ تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا ؛ ولا يذكره الناس ولا يأبهون له ؛ لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج ؛ ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيديه، وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفاً
وأكثرهم دروعاً سابغات ... وأصبهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفاً
وليلة قادس لم بشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شئ حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكتله ولا شربته ؛ ولكني كنت صاحب شراب في الجاهليه، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي ؛ ولذلك حبسني، قلت:
إذا مت فادفنى إلى أصل كرمة ... تروى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننى بالفلاة فإني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وتروى بخمر الحص لحدى فإنني ... أسير لها من عبد ما قد أسوقها
ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة الهدأة، وليلة السواد ؛ حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما مؤاخذك بشئ تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً .
يوم عماسكتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، وابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: فأصبحوا من اليوم الثالث ؛ وهم على مواقفهم ؛ وأصبحت الأعاجم على مواقفهم، وأصبح ما بين الناس كالرجلة الحمراء - يعني الحرة - ميل في عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان من رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف من رثيث وميت. وقال سعد: من شاء غسل الشهداء، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وأقبل المسلمون على قتلاهم فأحزروهم، فجعلوهم من وراء ظهورهم، وأقبل الذين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر، ويبلغون الرثيث إلى النساء، وحخاجب بن زيد على الشهداء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور في اليومين: يوم أغواث، ويم أرماث، بعدوتي مشرق، فدفن ألفان وخمسمائة من أهل القادسية وأهل الأيام، فمر حاجب وبعض أهل الشهادة وولاة الشهداء في أصل نخلة بين القادسية والعذيب، وليس بينهما يومئذ نخلة غيرها، فكان الرثيث إذا حملوا فانتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، ورجل من الجرحى يدعى بجيراً، يقول وهو مستظل بظلها:
ألا اسلمى يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل
ورجل من بني ضبة، أو من بني ثور يدعى غيلان، يقول:
ألا يا سلمى يا نخلة بين جرعة ... يجاورك الجمان دونك والرغل
ورجل من بني تيم الله، يقال له: ربعي سقول:
أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدى ... سقتك الغوادى والغيوث الهواطل
وقال الأعور بن قطبة:
أيا نخلة الركبان لا زلت فانضرى ... ولا يزال في أكناف جرعاتك النخل
وقال عوف بن مالك التيمي - ويقال التيمي تيم الرباب:
أيا نخلة دون العذيب بتلعة ... سقيت الغوادى المدجنات من النخل
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلىالمكان الذي فارقهم فيه من الأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة ، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة ؛ فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجداً، ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد، وأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم ؛ وخلوا بينهم وبين حاجب بن زيد وقتلى المشركين بين الصفين قد أضيعوا، وكانوا لا يعرضون لأمواتهم ، وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين مكيدة فتحها ليشد بها أعضاد المسلمين ؛ فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، وطلعت نواصيها كبر وكبر الناس، وقالوا: جاء المدد، وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها، فجاءوا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلفوا الضرب والطعن، ومددهم متتابع ؛ فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم ؛ وقد طلعوا في سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع في يوميه، فعبى أصحاب سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بن هبيرة بن عبد يغوث - ولم يكن من أهل الأيام ؛ إنما أتى من اليمن اليرموك - فانتدب مع هاشم، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب ؛ كبر وكبر المسلمون ؛ وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم: أول القتال المطاردة ثم المراماة ؛ فأخذ قوسه، فوضع سهماً على كبدره، ثم نزع فيها، فرفعت فرسه رأسها، فخل أذنها، فضحك وقال: واسوأتاه من رمية رجل كل من رأى ينتظره أين ترون سهمي كان بالغاً؟ فقيل: العتيق، فنزقها وقد نزع السهم، ثم ضربها حتى بلغت العتيق، ثم ضربها فأقبلت به تخرقهم، حتى عاد إلى مموقفه، وما زالت مقانبه تطلع إلى الأول، وقد بات المشركون في علاج توابيتهم، حتى أعادوها، وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونها، إذا أرادوا كتيبة دلفوا لها بفيل وأتباعه لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا أطافوا به كان آنس، فكان القتال كذلك، حتى عدل النهار، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديداً ؛ العرب والعجم فيه على السواء، ولا يكون بينهم نقطة إلا تعاورها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرت، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن بقى عنده، فيقوون بهم، وأصبحت عنده للذي لقى بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذي صنع الله للمسلمين بالذي ألهم القعقاع في اليومين وأتاح لهم بهاشم، كسر ذلك المسلمين.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم هاشم بن عتيبة من قبل الشأم، معه قيس بن المكشوح المرادي في سبعمائة بعد فتح اليرموك ودمشق ؛ فتعجل في سبعين، فيهم سعيد بن نمران الهمداني. قال مجالد: وكان قيس بن أبي حازم مع القعقاع في مقدمة هاشم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن جخدب بن جرعت، عن عصمة الوابلي - وكان قد شهد القادسية - قال: قدم هاشم في أهل العراق من الشأم، فتعجل أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفير، منهم ابن المكشوح ؛ فلما دنا تعجل في ثلثمائة، فوافق الناس وهم على مواقفهم، فدخلوا مع الناس في صفوفهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان اليوم الثالث يوم عماس ؛ ولم يكن في أيام القادسية مثله ؛ خرج الناس منه على السواء، كلهم على ما أصابه كان صابراً، وكلما بلغ منهم المسلمون بلغ الكافرون من المسلمين مثله، وكلما بلغ الكافرون من المسلمين بلغ المسلمون من الكافرين مثله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، قال: قدم هاشم بن عتبة القادسية يوم عماس، فكان لا يقاتل إلا على فرس أنثى، لا يقاتل على ذكر ؛ فلما وقف في الناس رمى بسهم، فأصاب أذن فرسه، فقال: واسوأتاه من هذه أين ترون سهمي كان بالغاً لو لم يصب أذن الفرس قالوا: كذا وكذا، فأجال فنزل وترك فرسه، ثم خرج يضربهم حتى بلغ حيث قالوا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وكان في الميمنة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن إسماعيل بن محمد، قال: كنا نرى أنه كان على الميمنة، وما كان عامة جنن الناس إلا البراذع ؛ براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، وعصب من لم يكن له وقاية رءوسهم بالأنساع .
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي كبران الحسن بن عقبة، أن قيس بن المكشوح، قال: مقدمه من الشأم مع هاشم، وقام فيمن يليه، فقال لهم: يا معشر العرب، إن الله قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأصبحتم بنعمة الله إخواناً. دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضاً اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله فتح فارس ؛ فإن إخوانكم من أهل الشأم قد أنجز الله لهم فتح الشأم، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر.
كتب إلى إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام الحارثى، عن الشعبي، قال: قال عمرو بن معد يكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله - لفيل بإزائهم - فلا تدعوني أكثر من جزر جزور؛ فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور ؛ فأنى لكم مثل أبي ثور؟ فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف. فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنتظرون ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة، فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه، وإن سيفه لفي يده يضاربهم، وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه، وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس رجل من أهل فارس، فحركه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إلى عمرو؛ فهم به وأبصره المسلمون، فغشوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدي، عن الأسواد بن قيس، عن أشياخ لهم شهدوا القادسية، قالوا: لما كان يوم عماس خرج رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى: من يبارز؟ فخرج رجل منا يقال له شبر بن علقمة - وكان قصيراً قليلاً دميماً - فقال: يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد ؛ ولم يخرج إليه أحد، فقال: أما والله لولا أن تزدروني لخرجت إليه. فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وحجفته ، وتقدم. فلما رآه الفارسي هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فجلس على صدره،ثم أخذ سيفه ليذبحه مقود فرسه مشدود بمنطقته، فملا استل السيف حاص الفرس حيصة فجذبه المقود، فقبله عنه، فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه ، فجعل أصحابه يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم ؛ فوالله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه. فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعداً، فقال: إذا كان حين الظهر فأتنى، فوافاه بالسلب، فحمد الله سعد وأثنى عليه، ثم قال: إني قد رأيت أن أنحله إياه، وكل من سلب سلباً فهو له، فباعه باثنى عشر ألفاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: ولما رأى سعد الفيلة تفرق بين الكتائب وعادت لفعلها يوم أرماث، أرسل إلى أولئك المسلمة: ضخم، ومسلم، ورافع، وعشنق ؛ وأصحابهم من الفرس الذين أسلموا، فدخلوا عليه، فسألهم عن الفيلة: هل لها مقاتل؟ فقالوا: نعم، المشافر والعيون لا ينتفع بها بعدها. فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابنى عمرو: اكفياني الأبيض - وكانت :لها آلفة له، وكان بإزائهما - وأرسل إلى حمال والربيل: اكفياني الفيل الجرب، وكانت آلفة له كلها، وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم ومحين أصمين لينين ودباً في خيل ورجل فقالا: اكتنفوه لتحيروه، وهما مع القوم، ففعل حمال والربيل مثل ذلك، فلما خالطوهما اكتنفوهما، فنظر كل واحد منهما يمنة ويسرة، وهما يريدان أن يتخبطا، فحمل القعقاع وعاصم، والفيل متشاغل بمن حوله، فوضعا ومحيهما معاً في عيني الفيل الأبيض، وقبع ونفض رأسه، فطرح سائسه ودلى مشفره، فنفحه القعقاع، فرمى به ووقع لجنبه، فقتلوا من كان عليه، وحمل حمال، وقال للربيل: اختر، إما أن تضرب المشفر وأطعن في عينه، أو تطعن في عينه وأضرب مشفره ؛ فاختار الضرب، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه ؛ لا يخاف سائسه إلا على بطانه، فانفرد به أولئك، فطعنه في عينه، فأقعى؛ ثم استوى ونفحه الربيل، فأبان مشفره وبصر به سائسه، فبقر أنفه وجبينه بفأسه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد عن الشعبي، قال: قال رجلان من بني أسد؛ يقال لهما الربيل وحمال: يا معشر المسلمين أي الموت أشد؟ قالوا: أن يشد على هذا الفيل، فنزقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بإزائهما، فطعن أحدهما في عين الفيل، فوطئ الفيل من خلفه، وضرب الآخر مشفره، فضربه سائس الفيل ضربه شائنة بالطبرزين في وجهه ؛ فأفلت بها هو والربيل، وحمل القعقاع وأخوه على الفيل الذي بإزائهما، ففقآ عينه، وقطعا مشفره، فبقي متلدداً بين الصفين ؛ كلما أتى صف المسلمين وخزوه، وإذا أتى صف المشركين نخسوه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان في الفيلة فيلان يعلمان الفيلة، فلما كان يوم القادسية حملوهما على القلب ؛ فأمر بهما سعد القعقاع وعاصماً التميميين وحمالا والربيل الأسديين ؛ فذكر مثل الأول إلا أن فيه: وعاش بعد، وصاح الفيلان صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذي عور، فوثب في العتيق، فاتبعه الفيلة ؛ فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره، فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد ؛ قالوا: فلما ذهبت الفيلة، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظل تزاحف المسلمون، وحماهم فرسانهم الذين قاتلوا أول النهار، فاجتلدوا بها حتى أمسوا على حرد ؛ وهم في ذلك على السواء، لأن المسلمين حين فعلوا بالفيول ما فعلوا، تكتبت كتائب الإبل المجففة ، فعرقبوا فيها ؛ وكفكفوا عنها. وقال في ذلك القعقاع بن عمرو:
حضض قومي مضرحي بن يعمر ... فلله قومي حين هزوا العواليا
وما خام عنها يوم سارت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا
فإن كنت قاتلت العدو فللته ... فإني لألقى في الحروب الدواهيا
فيولا أراها كالبيوت مغيرة ... أسمل أعياناً لها ومآقيا
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما أمسى الناس من يومهم ذلك، وطعنوا في الليل ؛ اشتد القتال وصبر الفريقان، فخرجا علىالسواء إلا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير ؛ لم يكن قتال بليل بعدها بالقادسية.
قال أبو جعفر: كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن جيش ؛ أن سعداً بعث ليلة الهرير طليحة وعمراً إلى مخاضة أسفل من العسكر ليقوما عليها خشية أن يأتيه القوم منها ؛ وقال لهما: إن وجدتما القوم قد سبقوكما إليها فانزلا بحيالهم ؛ وإن لم تجداهم علموا بها، فأقيما حتى بأتيكما أمري كان عمر قد عهد إلى سعد ألايولي رؤساء أهل الردة على مائة - فلما انتهيا إلى المخاضة فلم يريا فيها أحداً، قال طليحة: لو خضنا فأتينا الأعاجم من خلفهم فقال عمرو: لا، بل نعبر أسفل ؛ فقال طليحة: إن الذي أقوله أنفع للناس، فقال عمرو: إنك تدعوني إلى مالا أطيق ، فافترقا، فأخذ طليحة نحو العسكر من وراء العتيق وحده، وسفل عمرو بأصحابهما جميعاً، فأغاروا، وثارت بهم الأعاجم، وخشى سعد منهما الذي كان فبعث قيس ين المكشوح في آثارهما في سبعين رجلاً، وكان من أولئك الرؤساء الذين نهى عنهم أن يوليهم المائة، وقال: إن احقتهم فأنت عليهم. فخرج نحوهم، فلما كان عند المخاضة وجد القوم يكردون عمراً وأصحابه، فنهنه الناس عنه، وأقبل قيس على عمرو ويلومه، فتلاحيا، فقال أصحابه: إنه قد أمر عليك ؛ فسكت ، وقال: يتأمر على رجل قد قاتلته في الجاهلية عمر رجل فرجع إلى العسكر، وأقبل طليحة حتى إذا كان بحيال السكر، كبر ثلاث تكبيرات ؛ ثم ذهب، فطلبه القوم فلم يدروا أين سلك ؟ وسفل حتى خاض، ثم أقبل إلى العسكر، فأتى سعداً فأخبره ؛ فاشتد ذلك على المشركين، وفرح المسلمون وما يدرون ما هو؟ كتب إلى السرى، ع، شعيب، عن سيف، عن قدامة الكاهلي، عمن حدثه، أن عشرة إخوة من بني كاهل بن أسد، يقال لهم بنو حرب ؛ جعل أحدهم يرتجز ليلتئذ، ويقول:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي ... أضربهم بصارم رقراق
إذ كره الموت أبو إسحاق ... وجاشت النفس على التراقي
صبراً عفاق إنه الفراق وكان عفاق أحد العشرة، فأصيب فخذ صاحب هذا الشعر يومئذ، فأنشأ يقول:
صبراً عفاق إنها الأساورة ... صبراً ولا تغررك رجل نادره
فمات من ضربته يومئذ كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، عن حميد بن أبي شجار، قال: بعث سعد طليحة في حاجة فتركها، وعبر العتيق ؛ فدار إلى عسكر القوم ، حتى إذا وقف على ردم النهر كبر ثلاث تكبيرات، فراغ أهل فارس، وتعجبت المسلمون، فكف بعضهم عن بعض للنظر في ذلك، فأرسلت الأعاجم في ذلك، وسأل المسلمون عن ذلك. ثم أنهم عادوا وجدوا تعبية، وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة، والمسلمون على تعبيتهم، وجعل طليحة يقول: لا تعدموا امرأ ضعضعكم. وخرج مسعود بن مالك الأسدي وعاصم بن عمرو التيمي وابن ذي البردين الهلالي وابن ذي السهمين وقيس بن هبيرة الأسدي ؛ وأشباهههم، فطاردوا القوم، وانبعثوا للقتال، فإذا القوم لمة لا يشدون، ولا يريدون غير الزحف ؛ فقدموا صفاً له أذنان، وأتبعوا آخر مثله، وآخر وآخر، حتى تمت صفوفهم ثلاثة عشر صفاً في القلب والمجنبتين كذلك ؛ فملا أقدم عليهم فرسان العسكر راموهم فلم يعطفهم ذلك عن ركوبهم؛ ثم لحقت بالفرسان الكتائب، فأصيب ليلتئذ خالد بن يعمر التيمي، ثم العمري؛ فحمل القعقاع على ناحية التي رمى بها مزدلفاً، فقاموا على ساق، فقال القعقاع :
سقى الله يا خوصاء قبر ابن يعمر ... إذا ارتحل السفار لم يترحل
سقى الله أرضاً حلها قبر خالد ... ذهاب غواد مدجنات تجلجل
فأقسمت لا ينفك سيفى يحسهم ... فإن زحل الأقوام لم أتزحل
فزاحفهم والناس على راياتهم بغير إذن سعد ؛ فقال سعد: اللهم اغفرها له، وانصره قد أذنت له إذ لم يستأذني، والمسلمون على مواقفهم، إلا من تكتب أو طاردهم وهم ثلاثة صفوف، فصف فيه الرجالة أصحاب الرماح والسيوف، وصف فيه الميرامية، وصف فيه الخيول ، وهم أمام الرجالة ، وكذلك الميمنة، وكذلك الميسرة. وقال سعد: إن الأمر الذي صنع القعقاع، فإذا كبرت ثلاثاً فازحفوا، فكبر تكبيرة فتهيئوا، ورأى الناس كلهم مثل الذي رأى والرحى تدور على القعقاع ومن معه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عبد الأعلى، عن عمرو بن مرة، قال: وقام قيس بن هميرة المرادي فيمن يليه، ولم يشهد شيئاً من لياليها إلا تلك الليلة ؛ فقال: إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة، والرأى رأى أميركم ، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجالة، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم ؛ ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة. فتيسروا وانتظروا التكبيرة وموافقة حمل الناس ؛ وإن نشاب الأعاجم لتجوز صف المسلمين.
كتب إلى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عمن حدثه، قال: وقال دريد بن كعب النخعي، وكان معه لواء النخع: إن المسلمين تهيئوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى الله والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سيقه؛ نافسوهم في الشهادة، وطيبوا بالموت نفساً؛ فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا مالآخرة ما أردتم.
كتب إلىالسرى، عن شعيب، عن سيف، عن الأجلح، قال: قال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب ؛ إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت، ولا أسخى أنفسناً عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل، فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، قال: قال حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما نفعل، ولا تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من الفزع. وفعل طليحة وغالب وحمال وأهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والنضر بن السرى، قالا: ونزل ضرار بن الخطاب القرشي، وتتابع على التسرع إليهم الناس كلهم فيها ين تكبيرات سعد حين استبطئوا. فلما كبر الثانية، حمل عاصم بن عمرو حتى انضم إلى القعقاع، وحملت النخع، وعصى الناس كلهم سعداً، فلم ينتظر الثالثة إلا الرؤساء، فلما كبر الثالثة زحفوا فلحقوا بأصحابهم، وخالطوا القوم، فاستقبلوا الليل استقبالا بعد ما صلوا العشاء.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله بن أبي طبية، عن أبيه، قال: حمل ليلة الهرير عامة ؛ ولم ينتظروا بالحملة سعداً، وكان أول من حمل القعقاع، فقال: اللهم اغفرها له وانصره. وقال: واتميماه سائر الليلة ؟ ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا ، فإذا كبرت ثلاثاً فاخملوا. فكبر واحدة فلحقتهم أسد، فقيل: قد حملت أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم ؛ واأساه سائر الليلة؟ ثم قيل؟ ثم قيل: حملت بجلية، فقال: اللهم اغفرها لهم، وانصرهم ؛ وابجيلتاه ؟ ثم حملت الكنود، فقيل: حملت كندة، فقال: واكندتاه ثم زحف الرؤساء بمن انتظر التكبيرة، فقامت حربهم على ساق حتى الصباح، فذلك ليلة الهرير.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن نويرة، عن عنه أنس بن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغاً، بات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء، حتى إذا كان وجه الصبح، انتهى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وأن الغلبة لهم.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الأعور بن بنان المنقري، قال: أول شئ سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشراً وزائداً ... أربعة وخمسة وواحداً
نحسب فوق اللبد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوتن جاهداً
الله ربي، واحترزت عامداً كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الأعور ومحمد عن عمه، والنضر عن ابن الرفيل، قالوا: اجتلدوا تلك الليلة من أولها حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسميت ليلة الهرير.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن مصعب بن سعد، قال: بعث سعد في تلك الليلة بجاداً وهو غلام إلى الصف، إذ لم يجد رسولاً، فقال: انظر ما ترى من حالهم ؛ فرجع فقال: ما رأيت أي بني؟ قال: رأيتهم يلبعون، فقال: أو يجدون! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن جرير العبدي، عن عابس الجعفى، عن أبيه، قال: كانت بإزاء جعفى يوم عماس كتبة من كتائب العجم، عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم، فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل في الحديد فارتدعوا، فقال حميضة: ما لكم؟ قالوا: لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا. فحمل على رجل منهم، فدق ظهره بالرمح، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: ما أراهم إلا يموتون دونكم. فحملوا عليهم فأزالوهم إلى صفهم.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: لا والله ما شهدها من كندة خاصة إلا سبعمائة ؛ وكان بإزائهم ترك الطبرى، فقال الأشعث: يا قوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة، فأزالهم وقتل تركاً، فقال راجزهم:
نحن تركنا في المصطره ... مختضباً من بهران الأبهره
ليلة القادسيةكتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وأصبحوا ليلة القادسية ؛ وهي صبحة ليلة الهرير، وهي تسمى ليلة القادسية، من بين تلك الأيام والناس حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار القعقاع في الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر. فآثروا الصبر على الجزع ؛ فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم، حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح
ولما رات ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث والأشعث بن قيس وعمرو بن معد يكرب وابن ذي السهمين الخثعمى وابن ذي البردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ولا يكونن هؤلاء - لأهل فارس - أجرأ على الموت منكم ؛ ولا اسخى أنفساً عن الدنيا، تنافسوها. فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين يإزائهم وقام في ربيعة رجال، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى ؛ فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم بالجرأة! فكان أول من زال حين قام قائم الظهيرة الهزمزان والبيرزان، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب حين قام قائم الظهيرة، وركد عليهم النقع، وهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق ؛ وهي ذبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علفة الحمل الذي رستم تحته ؛ فقطع حباله، ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به ؛ فأزال من ظهره فقاراً، ويضربه ضربه فنفحت مسكاً، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه ؛ فتناوله وقد عام ؛ وهلال قائم، فأخذ برجله، ثم خرج به إلى الجد ، فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير، ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة ؛ إلى ؛ فأطافوا به وما يحسون السرير ولا يرونه ؛ وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا ، وقام الجالنوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفر الغبار ؛ فأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفاً، وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان، فعوض منها ثلاثين ألفاً وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام فبله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بن سلمة، قال: قتل هلال بن علفة رستم يوم القادسية.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن ابن مخراق، عن أبي كعب الطائي، أبيه قال: أصيب من الناس قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويم القادسية ستة آلاف من المسلمين، فدفنوا في الخندق بحيال مشرق.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما انكشف أهل فارس ؛ فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد، وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة باتباعهم، فنادى زهرة في المقدمات، وأمر القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا، وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداء، فدفن الشهداء ، شهداء ليلة الهرير ويوم القادسية ، حول قديس ألفان وخمسمائة وراء العتيق بحيال مشرق، ودفن شهداء ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شئ لم يجمع قبله ولا بعده مثله ؛ وأرسل سعد إلى هلال، فدعا له، فقال: أين صاحبك؟ قال: رميت به تحت أبغل ؛ قال: اذهب فجئ به، فذهب فجاء به، فقال: جرده إلا ما شئت، فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئاً، ولما رجع القعقاع وشرحبيل قال لهذا: أغد فيما طلب هذا، وقال لهذا: أغد فيما طلب هذا ؛ فعلا هذا، وسفل هذا، حتى بلغا مقدار الحرارة من القادسية، وخرج زهرة بن الحوية في آثارهم، وانتهى إلى الردم وقد بثقوه ليمنعوهم به من الطلب، فقال زهرة: يا بكير، أقدم، فضرب فرسه، وكان يقاتل على الإناث، فقال: ثبي أطلال، فتجمعت وقالت: وثبا وسورة البقرة! ووثب زهرة - وكان عن حصان - وسائر الخيل فاقتحمته، وتتابع على ذلك ثلثمائة فارس، ونادى زهرة حيث كاعت الخيل: خذوا أيها الناس على القنطرة، وعارضونا، فمضى ومضى الناس إلى القنطرة يتبعونه، فلحق بالقوم والجالنوس في آخرهم يحميهم، فشاوله زهرة، فاختلفا ضربتين، فقتله زهرة، وأخذ سلبه، وقتلوا ما بين الحرارة إلى السيلحين، إلى النجف؛ وأمسوا فرجعوا فباتوا بالقادسية.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة، عن شقيق، قال: اقتحمنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أتى الصلاة ؛ وقد أصيب المؤذن، فتشاح الناس في الأذن حتى كادوا أن يجتلدوا بالسيوف، فأقرع سعد بينهم ؛ فخرج سهم رجل فأذن.
ثم رجع الحديث. وتراجع الطلب الذين طلبوا من علا على القادسية ومن سفل عنها، وقد أنى الصلاة وقد قتل المؤذن فتشاحوا على الأذن، فأقرع بينهم سعد، وأقاموا بقية يومهم ذلك وليلتهم حتى رجع زهرة، وأصبحوا وهم جميع لا ينتظرون أحداً من جندهم ؛ وكتب سعد بالفتح وبعدة من قتلوا ومن أصيب من المسلمين، وسمى لعمر من يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: دعاني سعد، فأرسلني أنظر له في القتلى، وأسمى له رءوسهم، فأتيته فأعلمته، ولم أر رستم في مكانه، فأرسل إلى رجل من التيم يدعى هلالاً، فقال: ألم تبلغني أنك قتلت رستم ! قال: بلى، قال: فما صنعت به؟ قال: ألقته تحت قوائم الأبغل، قال: فكيف قتله؟ فأخبره، حتى قال: ضربت جبينه وأنفه. قال: فجئنا به، فأعطاه سلبه، وكان قد تخفف حين وقع إلى الماء، فباع الذي عليه بسبعين ألفاً، وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف لو ظفر بها. وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فقالوا: أيها الأمير ؛ رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره ؛ وكان الضرب قد شوهه ؛ فضحك.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقال الديلم ورؤساء أهل المسالح الذين استجابوا للمسلمين، وقاتلوا معهم على غير الإسلام: إخواننا الذين دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن أصوب منا خير، ولا والله لا يفلح اهل فارس بعد رستم إلا من دخل في هذا الأمر منهم ؛ فأسلموا ؛ وخرج صبيان العسكر في القتلى، ومعهم الأداوى يسقون من به رمق من المسلمين، ويقتلون من به رمق من المشركين، وانحدروا من العذيب مع العشاء. قال: وخرج زهرة في طلب الجالنوس، وخرج القعقاع وأخوة وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم، وأثنى على كل حي خيراً، وذكره منهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، قال: خرج زهرة حتى أدرك الجالنوس ؛ ملكاً من ملوكهم ؛ بين الحرارة والسيلحين، وعليه يارقان وقلبان وقرطان على برذون له قد خضد، فحمل عليه، فقتله. قال: والله إن زهرة يومئذ لعلى فرس له ما عنانها إلا من حبل مضفور كالمقود، وكذلك حزامها شعر منسوج، فجاء بسلبه إلى سعد، فعرف الأسارى الذين عند سعد سلبه، فقالوا: هذا سلب الجالنوس، فقال له سعد: هل أعانك عليه أحد؟ قال: نعم، قال: من ؟ قال: الله، فنفله سلبه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال: كان سعد استكثر له سلبه، فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليه عمر: إني قد نفلت من قتل رجلاً سلبه ؛ فدفعه إليه فباعه بسبعين ألفاً.
وعن سيف، عن البرمكان، والمجالد عن الشعبي، قالك لحق به زهرة، فرفع له الكرة فما يخطئها بنشابة، فالتقيا فضربه زهرة فجد له - ولزهرة يومئذ ذاؤبه وقد سود في الجاهلية، وحسن بلاؤه في الإسلام وله سابقة، وهو يومئذ شاب - فتذرع زهرة ما كان على الجالنوس، فبلغ بضعة وسبعين ألفاً. فلما رجع إلى سعد نزع سلبه، وقال: ألا انتظرت إذني! وتكاتبا، فكتب عمر إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة - وقد صلى بمثل ما صلى به، وقد بقى عليك من حربك ما بقى - تكسر قرنه، وتفسد قلبه! أمض له سلبه، وفضله على أصحابه عند العطاء بخمسمائة.
وعن سيف، عن عبيد، عن عصمة، قال: كتب عمر إلى سعد: أنا أعلم بزهرة منك، وإن زهرة لم يكن ليغيب من سلب سلبه شيئاً ؛ فإن كان الذي سعى به إليك كاذباً فلقاه الله مثل زهرة، في عضديه يا رقان ؛ وإني قد نفلت كل من قتل رجلاً سلبه ؛ فدفعه إليه فباعه بسبعين ألفاً.
وعن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم وعامر، أن أهل البلاء يوم القادسية فضلوا عند العطاء بخمسمائة خمسمائة في أعطياتهم، خمسة وعشرين رجلاً ؛ منهم زهرة، وعصمة الضبى، والكلج. وأما أهل الأيام، فإنه فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية.
وعن سيف، عن عبيدة، عن يزيد الضخم، قال: فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية! فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم. وقيل له في أهل القادسية. لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه! قال: وكيف أفضلهم عليهم على بعد دارهم، وهم شجن العدو، وما سويت بينهم حتى استطبتهم ؛ فهلا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوا بفنائهم مثل هذا!
وعن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، وسعيد بن المرزبان عن رجل من بني عبس، قال: لما زال رستم عن مكانه ركب بغلاً، فلما دنا منه هلال نزع له نشابة، فأصاب قدمه فشكها في الركاب، وقال: بيابه ، فأقبل عليه هلال. فنزل فدخل تحت البغل، فلما لم يصل إليه قطع عليه المال، ثم نزل إليه ففلق هامته.
وعن سيف، عن عبيدة، عن شقيق، قال: حملنا على الأعاجم يوم القادسية حملة رجل واحد، فهزمهم الله، فلقد رأيتني أشرت إلى أسوار منهم فجاء إلى وعليه التام، فضربت عنقه، ثم أخذت ما كان عليه.
وعن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن رجل من بني عبس، قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم ؛ قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعوا الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر الرجلين أحدهما بصاحبه ؛ وكذلك في العدة.
وعن سيف، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عمن شهدها، قال: أبصر سلمان بن ربيعة الباهلي أناساً من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها، وجلسوا تحتها، وقالوا لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم فقتل من كان تحتها وسلبهم. وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية وكان أحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، والآخر عبد الرحمن بن ربيعة ذو النور، ومال على آخرين قد تكتبوا، ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله.
وعن سيف، عن الغصن، عن القاسم، عن البهى، أن الشعبي قال: كان يقال: لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور. فكان موضع المحبس اليوم دار عبد الرحمن بن ربيعة، والتي بينها وبين دار المختار دار سليمان ؛ وإن الأشعث بن قيس استقطع فناء كان قدامها، هو اليوم في دار المختار، فأقطعه فقال له: ما جرأك على يا أشعث؟ والله لئن حزتها لأضربنك بالجنثى - يعنى سيفه - فانظر ما يبقى منك بعد فصدف عنها ولم يتعرض لها.
وعن سيف، عن المهلب ومحمد وطلحة وأصحابه، قالوا: وثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، واستقتلوا واستحيوا من الفرار، فأبادهم الله، فصمد لهم بضعةوثلاثون من رؤساء المسلمين، ولم يتبعوا فاله القوم، فصمد سلمان بن ربيعة لكتبية وعبد الرحمن بن ربيعة ذو النور لأخرى ؛ وصمد لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين. وكان قتال أهل هذه الكتائب، من أهل فارس على وجهين ؛ فمنهم من كذب فهرب، ومنهم من ثبت حتى قتل ؛ فكان ممن هرب من أمراء تلك الكتائب الهرمزان وكان بإزاء عطارد، وأهود وكان بإزاء حنظلة بن الربيع، وهو كاتب النبي صلى الله عليه وسلم وزاد بن بهيش وكان بإزاء عاصم بن عمرو، وقارن وكان بإزاء القعقاع بن عمرو ؛ وكان ممن استقتل شهريار بن كنار وكان بإزاء سلمان. وابن الهربذ وكان بإزاء عبد الرحمن، والفرخان الأهوازي بإزاء يسر بن أبي رهم الجهني، وحشر وشنوم والهمذاني وكان بحيال ابن الهذيل الكاهلي.
ثم إن سعداً أتبع بعد ذلك القعقاع وشرحبيل من صوب في هزيمته أو صعد عن العسكر وأتبع زهرة بن الحوية الجالنوس.
ذكر حديث ابن سحاق:
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومات المثنى بن حارثة، وتزوج سعد بن أبي وقاص امرأته سلمى ابنة خصفة وذلك في سنة أربع عشرة. وأقام تلك الحجة للناس عمر بن الخطاب. ودخل أبو عبيدة بن الجراح تلك السنة دمشق، فشتا بها، فلما أصافت الروم سار هرقل في الروم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلى وعاملة، وتلك القبائل من قضاعة، غسان بشر كثير ؛ ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، فلما نزلها أقام بها، وبعث الصقلار ؛ خصياً له، فسار بمائة ألف مقاتل، معه من أهل أرمينة اثنا عشر ألفاً، عليهم جرحة، ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفاً عليهم جبلة بن الأيهم العساني، وسائرهم من الروم ؛ وعلى جماعة الناس الصقلار خصى هرقل ؛ وسار إليهم المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفاً عليهم أبو عبيدة بن الجراح، فالتقوا باليرموك في رجب سنة خمس عشرة ؛ فاقتتل الناس قتالاً شديداً حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من نساء قريش بالسيوف حين دخل العسكر - منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام - حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام ؛ فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محي بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: قال قائل من المسلمين حين رأى من لخم وجذام ما رأى:
القوم لخم وجذام في الهرب ... ونحن والروم بمرج نضطرب
فإن يعودوا بعدها لا نصطحب حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب ابن كيسان، عن عبد الله بن الزبير، قال: كنت مع أبي الزبير عام اليرموك؛ فلما تعبى المسلمون للقتال، لبس الزبير لأمته، ثم جلس على فرسه، ثم قال لموليين له: احبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل ؛ فإنه غلام صغير. قال: ثم توجه فدخل في الناس ؛ فلما اقتتل الناس والروم نظرت إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس. قال: فأخذت فرساً للزبير كان خلفه في الرحل فركبته، ثم ذهبت إلى أولئك الناس فوقفت معهم ؛ فقلت: أنظر ما يصنع الناس ؛ فإذا أبو سفيان بن حرب في مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح وقوفاً لا يقاتلون ؛ فلما رأوني رأوا غلاماً حدثا، فلم يتقوني. قال: فجعلوا والله إذا مال المسلمون وركبتهم الحرب، للروم يقولون: إيه بلأ صفر ! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون، قالوا: يا ويح بلأ صفر! فجعلت أعجب من قولهم، فلما هزم الله الروم ورجع الزبير، جعلت أحدثه خبرهم. قال: فجعل يضحك ويقول: قاتلهم الله، أبوا إلا ضغناً! ماذا لهم إن يظهر علينا الروم! لنحن خير لهم منهم.
ثم إن الله تبارك وتعالى أنزل نصره، فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع فأصيب من الروم أهل إرمينية والمستعربة سبعون ألفاً، وقتل الله الصقلار وباهان ؛ وقد كان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به، فملا هزمت الروم بعث أبو عبيدة عياض بن غنم في طلبهم، فسلك الأعماق حتى بلغ ملطية، فصالحه أهلها على الجزية، ثم انصرف ، ولما سمع هرقل بذلك بعث إلى مقاتلتها ومن فيها، فساقهم إليه، وأمر بملطية فحرقت. وقتل من المسلمين يوم اليرموك من قريش من بني أمية بن عبد شمس عمرو بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص ؛ ومن بني مخزوم عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد، ومن بني سهم سعيد بن الحارث بن قيس.
قال: وفي آخر سنة خمس عشرة، قتل الله رستم بالعراق ؛ وشهد أهل اليرموك حين فرغوا منه يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، وذلك أن سعداً حين حسر عنه الشتاء، سار من شراف يريد القادسية، فسمع به رستم، فخرج إليه بنفسه ؛ فلما سمع بذلك سعد وقف، وكتب إلى عمر يستمده ؛ فبعث إليه عمر المغيرة بن شعبة الثقفي في أربعمائة رجل مدداً من المدينة، وأمده بقيس بن مكشوح المرادي في سبعمائة، فقدموا عليه من اليرموك، وكتب إلى أبي عبيدة: أن أمد سعد بن أبي وقاص أمير العراق بألف رجل من عندك ؛ ففعل أبو عبيدة، وأمر عليهم عياض بن غنم الفهري ؛ وأقام تلك الحجة للناس عمر بن الخطاب سنة خمس عشرة.
وقد كان لكسرى مرابطة في قصر بني مقاتل، عليها النعمان بن قبيصة ؛ وهو ابن حية الطائي ابن عم قبيصة بن إياس بن حية الطائي صاحب الحيرة ؛ فكان في منظرة له، فلما سمع بسعد بن أبي وقاص سأل عنه عبد الله بن سنان ابن جرير الأسدي ؛ ثم الصيداوى، فقيل له: رجل من قريش، فقال: أما إذ كان قرشياً فليس بشئ ؛ والله لأجاهدنه القتال ؛ إنما قريش عبيد من غلب ؛ والله ما يمنعون خفيراً، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير ؛ فغضب حين قال ذلك عبد الله بن سنان الأسدي، فأمهله حتى إذا دخل عليه وهو نائم، فوضع الرمح بين كتفيه فقتله، ثم لحق بسعد فأسلم. وقال في قتله النعمان بن قبيصة:
لقد غادر الأقوام ليلة أدلجو ... بقصر العبادى ذا الفعال مجدلا
دلفت له تحت العجاج بطعنة ... فأصبح منها في النجيع مرملاً
أقول له والرمح في نغض كتفه ... أبا عامر عنك اليمين تحللا
سقيت بها النعمان كأساً روية ... وعاطيته بالرمح سماً مثملاً
تركت سباع الجو يعرفن حوله ... وقد كان عنها لأبن حية معزلا
كفيت قريشاً إذ تغيب جمعها ... وهدمت للنعمان عزاً مؤثلا
ولما لحق سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة وقيس بن مكشوح فيمن معهما، سار إلى رستم حين سمع به حتى نزل قادس - قرية إلى جانب العذيب - فنزل الناس بها، ونزل سعد في قصر العذيب، وأقبل رستم في جموع فارس ستين ألفاً مما أحصى لنا في ديوانه، سوى التباع والرقيق، حتى نزل القادسية وبينه وبين الناس جسر القادسية، وسعد في منزله وجع، قد خرج به قرح شديد، ومعه أبو محجن بن حبيب الثقفي محبوس في القصر، حبسه في شرب الخمر، فلما أن نزل بهم رستم بعث إليهم أن ابعثوا إلى رجلاً منكم جليداُ أكلمه، فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة، فجاءه وفد فرق رأسه أربع فرق: فرقة من بين يديه إلى قفاه، وفرقة إلى أذنيه، ثم عقص شعره، ولبس برداً له، ثم أقبل حتى انتهى إلى رستم، ورستم من وراء الجسر العتيق مما يلي العراق، والمسلمون من ناحيته الأخرى مما يلي الحجاز فيما بين القادسية والعذيب، فكلمه رستم، فقال: إنكم معشر العرب كنتم أهل شقاء وجهد، وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد، فأكلتم من طعامنا، وشربتم من شرابنا، واستظللتم من طلالنا ؛ فذهبتم فدعوتم أصحابكم، ثم أتيتمونا بهم، وإنما مثلكم مثل رجل كان له حائط من عنب، فرأى فيه ثعلباً واحداً، فقال: ما ثعلب واحد ! فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى الحائط ؛ فلما اجتمعن فيه جاء الرجل فسد الجحر الذي دخلن منه، ثم قتلهن جميعاً. وقد أعلم أن الذي حملكم على هذا معشر العرب الجهد الذي قد أصابكم ؛ فارجعوا عنا عامكم هذا، فإنكم قد شغلتمونا عن عمارة بلادنا، وعن عدونا، ونحن نوقر لكم ركائبكم قمحاً وتمراً، ونأمر لكم بكسوة، فارجعوا عنا عافاكم الله! فقال المغيرة بن شعبة: لا تذكر لنا جهداً إلا وقد كنا في مثله أو أشد منه ؛ أفضلنا في أنفسنا عيشاً الذي يقتل ابن عمه، ويأخذ ماله فيأكله، نأكل الميتة والدم والعظام، فلم نزل كذلك حتى بعث الله فينا نبياً، وأنزل عليه الكتاب، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه منا مصدق، وكذبه منا آخر، فقاتل من صدقه من كذبه، حتى دخلنا في دينه من بين موقن به، وبين مقهور؛ حتى استبان لنا أنه صادق، وأنه رسول من عند الله. فأمرنا أن نقاتل من خالفنا ، وأخبرنا أن من قتل منا على دينه فله الجنة، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه ؛ فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت كانت لك بلادك، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك فالجزية ؛ وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال له رستم: ما كنت أظن أنى أعيش حتى حتى أسمع منكم هذا معشر العرب. لا أمسى غداً حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم. ثم بالعتيق أن يسكر، فبات ليلته يسكر بالبراذع والتراب والقصب حتى أصبح، وقد تركه طريقاً مهيعاً وتعبى له المسلمون، فجعل سعد على جماعة الناس خالد بن عرفطة حليف بني أمية بن عبد شمس، وجعل على ميمنة الناس جرير بن عبد الله البجلي، وجعل على ميسرتهم قيس بن المكشوح المرادي.
ثم زحف إليهم رستم، وزحف إليه المسلمون، وما عامة جننهم - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر - غير براذع الرحال، قد عرضوا فيها الجريد، يترسون بها عن أنفسهم، وما عامة ما وضعوه على رءوسهم إلا أنساع الرحال، يطوى الرجل نسع رحله على رأسه يتقى به، والفرس فيما بينهم من الحديد واليلامق ؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسعد في القصر ينظر، معه سلمى بنت خصفة ؛ وكانت قبله عند المثنى بن حارثة، فجالت الخيل، فرعبت سلمى حين رأت الخيل جالت، فقالت : وامثنياه ولا مثنى لي اليوم !فغار سعد فلطم وجهها، فقالت: أغيرة وجبناً! فلما رأى أبو محجن ما تصنع الخيل حين جالت، وهو ينظر من قصر العذيب وكان مع سعد فيه، قال:
كفى حزناً أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً على وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع دوني لا تجيب المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحداً لا أخا ليا
فكلم زبراء أم ولد سعد - وكان عندها محبوساً، وسعد في رأس الحصن ينظر إلى الناس - فقال: يا زبراء، أطلقينى ولك على عهد الله وميثاقه، لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلى الحديد في رجلى، فأطلقته وحملته على فرس لسعد بلقاء وخلت سبيله، فجعل يشد على العدو وسعد ينظر. فجعل سعد يعرف فرسه وينكرها، فلما أن فرغوا من القتال ؛ وهزم الله جموع فارس، رجع أبو محجن إلى زبراء، فأدخل رجله في قيده، فلما نزل سعد من رأس الحصن رأى فرسه تعرق، فعرف أنها قد ركبت، فسأل عن ذلك زبراء، فأخبرته خبر أبي محجن فخلى سبيله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: وقد كان عمرو بن معد يكرب شهد القادسية مع المسلمين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود النخعي، عن أبيه، قال: شهدت القادسية ؛ فلقد رأيت غلاماً منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار. فقلت: لقد أذل الله أبناء الأحرار؟؟! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي خالد، مولى بجيلة، عن قيس بن ابي حازم البجلي - وكان ممن شهد القادسية مع المسلمين - قال: كان معنا يوم القادسية رجل من ثقيف، فلحق بالفرس مرتداً، فأخبرهم أن بأس الناس في الجانب الذي به بجيلة. قال: وكنا ربع الناس ؛ فوجهوا إلينا ستة عشر فيلا وإلى سائر الناس فيلين، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا مسك الحديد، ويرشفوننا بالنشاب، فكأنه المطر علينا، وقرنوا خيلهم بعضها إلى بعض لئلا يفروا. قال: وكان عمرو بن معد يكرب يمر بنا فيقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسوداً، فإنما الأسد من أغنى شأنه ؛ فإنما الفارس تيس إذا ألقى نيزكه.
قال: وكان أسوار منهم لا يكاد تسقط له نشابة، فقلنا له: يا أبا ثور، اتق ذلك الفارس فإنه لا تقع له نشابة ؛ فتوجه إليه ورماه الفارس بنشابة فأصاب قوسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه، واستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب ويلمقاً من ديباج، وقتل الله رستم، وأفاء على المسلمين عسكره وما فيه، وإنما المسلمون ستة آلاف أو سبعة آلاف، وكان الذي قتل رستم هلال بن علفة التيمي رآه فتوجه إليه، فرماه رستم بنشابة فأصاب قدمه وهو يتبعه، فشكها إلى ركاب سرجه، ورستم يقول بالفارسية: بيابه، أي كما أنت ؛ وحمل عليه هلال بن علفة فضربه فقتله، ثم احتز رأسه فعلقه، وولت الفرس فأتبعهم المسلمون يقتلونهم ؛ فلما بلغت الفرس الحرارة نزلوا فشربوا من الخمر، وطعموا من الطعام، ثم خرجوا يتعجبون من رميهم، وأنه لم يعمل في العرب. وخرج جالنوس فرفعوا له كرة فهو يرميها ويشكها بالنشاب، ولحق بهم فرسان من المسلمين وهم هنالك ، فشد على جالنوس زهرة بن حوية التيمي فقتله، وانهزمت الفرس، فلحقوا بدير قرة وما وراءه، ونهض سعد بالمسلمين حتى نزل بدير قرة على من هنالك من الفرس ؛ وقد قدم عليهم وهم بدير قرة عياض بن غنم في مدده من أهل الشأم، وهم ألف رجل، فأسهم له سعد ولأصحابه مع المسلمين فيما أصابوا بالقادسية، وسعد وجع من قرحته تلك، وقال جرير بن عبد الله:
أنا جرير كنيتي أبو عمرو ... قد نصر الله وسعد في القصر
وقال رجل من المسلمين أيضاً:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
قال: ولما بلغ ذلك من قولهما سعداً، خرج إلى الناس فاعتذر إليهم، ورأاهم ما به من القرح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس، ولم يكن سعد لعمري يجبن ؛ فقال سعد يجيب جريراً فيما قال:
وما أرجو بجلية غير أنى ... أومل أجرهم يوم الحساب
فقد لقيت خيولهم خيولا ... وقد وقع الفوارس في ضراب
وقد دلفت بعرصتهم فيول ... كأن زهاءها إبل جراب
ثم أن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند، واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى وبناته، وخلوا ما سوى ذلك، وأتبعهم سعد الطلب من المسلمين، فبعث خالد بن عرفطة حليف بني أمية، ووجه معه عياض بن غنم في أصحابه، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التيمي ؛ وتخلف سعد لما به من الوجع ؛ فلما أفاق سعد من وجعه ذلك اتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين ؛ حتى أدركهم دون دجلة على بهر سير، فلما وضعوا على دجلة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة، فلم يهتدوا لها ؛ حتى أتى سعداً علج من أهل المدائن، فقال: أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن يمعنوا في السير! فخرج بهم على مخاضة بقطر بل، فكان أول من خاض المخاضة هاشم بن عتبة في رجله، فلما جاز اتبعه خيلة، ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله، ثم أجاز عياض بن غنم نجيلة، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى أجازوا فزعموا أنه لم يهتد لتلك المخاضة بعد.ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط، فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو، فتردد الناس، وجبنوا عنه ؛ فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة، فلما أجاز ألاح للناس بسيفه، فعرف الناس أن ليس به شئ يخافونه ، فأجازوا بهم خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بالناس، حتى انتهوا إلى جاولاء وبها جماعة من الفرسفكانت وقعة جلولاء بها، فهزم الله الفرس، وأصاب المسلمون بها من الفئ أفضل مما أصابوا بالقادسية، وأصيب ابنة لكسرى، يقال لها منجانة ؛ ويقال: بل ابنة ابنة. وقال شاعر ن المسلمين:
يا رب مر حسن مطهم ... يحمل أثقال الغلام المسلم
ينجو إلى الرحمن من جهنم ... يوم جلولاء ويوم رستم
ويم زحف الكوفة المقدم ... ويم لاقى حنيقة مهزم
ثم كتب إلى سعد إلى عمر بما فتح الله بلى المسلمين ؛ فكتب إليه عمر: أن قف ولا تطلبوا غير ذلك. فكتب إليه سعد أيضاً: إنما هي سربة واتخذ للمسلمين دار هجرة ومنزل جهاد، ولا تجعل بيني وبين المسلمين بحراً. فنزل سعد بالناس الأنبار، فاجتووها وأصابتهم بها الحمى، فلم توافقهم، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد أنه لا تصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاة في منابت العشب ؛ فانظر فلاة في جنب البحر فارتد للمسلمين بها منزلا.
قال: فسار سعد حتى نزل كويفة عمرو بن سعد، فلم توافق الناس مع الذباب والحمى. فبعث سعد رجلاً من الأنصار يقال له الحارث بن سلمة - ويقال: بل عثمان بن حنيف، أخابني عمرو بن عوف - فارتاد لهم موضع الكوفة اليوم، فنزلها سعد بالناس، وخط مسجدها، وخط فيها الخطط للناس.
وقد كان عمر بن الخطاب خرج في تلك السنة إلى الشأم فنزل الجابية، وفتحت عليه إيلياء ؛ مدينة بيت المقدس، وبعث فيها أبو عبيدة بن الجراح حنظلة بن الطفيل السلمى إلى حمص، ففتحها الله على يديه، واستعمل سعد بن أبي وقاص على المدائن رجلاً من كندة، يقال له شرحبيل بن السمط ؛ وهو الذي يقول فيه الشاعر:
ألا ليتني والمرء سعد بن مالك ... وربراء وابن السمط في لجة البحر
ذكر أحوال أهل الواد كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: قال رجل منا يوم القادسية مع الفتح:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فبعث بها في الناس، فبلغت سعداً، فقال: اللهم إن كان كاذباً، أو قال الذي رياء وسمعه وكذباً، فاقطع عنى لسانه ويده.
وقال قبيضة: فو الله إنه لواقف بين الصفين يومئذ ؛ إذا أقبلت نشابة لدعوة سعد، حتى وقعت في لسانه فيبس شقة ؛ فما تكلم بكلمة حتى لحق الله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثى، عن أبيه، قال: قال جرير يومئذ:
أنا جرير كنيتي أبو عمرو ... قد نصر الله وسعد في القصر
فأشرف عليه، فقال:
وما أرجو بجيلة غير أنى ... أؤمل أجرها يوم الحساب
وقد لقيت خيولهم خيولاً ... وقد وقع الفوارس في الضراب
فلولا جمع قعقاع بن عمرو ... وحمال للجوا في الكذاب
هم منعوا جموعكم بطعن ... وضرب مثل تشقيق الإهاب
ولولا ذاك ألفيتم رعاعاً ... تشل جموعكم مثل الذباب
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن سليم بن عبد الرحمن السعدي، عن عثمان بن رجاء السعدي، قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم ؛ إنه نزل قصراً غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس، ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برمته ؛ فوالله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بن بشير، عن أم كثير ؛ امرأة همام بن الحارث النخعي، قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوى، ثم أتينا القتلى ؛ فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه؛ وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك ، ونصرفهم به.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية - وهو ابن الحارث - عمن أدرك ذلك ؛ قال: لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأوة يوم القادسية من بجلية والنخع، وكان في النخع سبعمائة امرأة فارغة، وفي بجيلة ألف، فصاهر هؤلاء ألف من أحياء العرب، وهؤلاء سبعمائة، وكانت النخع تسمى أصهار المهاجرين، وبجيلة، وإنما جرأهم على الإنتقال بأثقالهم توطئة خالد، والمثنى بعد خالد، وأبي عبيد بعد المثنى، وأهل الأيام، فلا قوا بأساً بعد ذلك شديداً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وكان بكير بن عبد الله الليثي وعتبة بن فرقد السلمى وسماك بن خرشة الأنصاري - وليس بأبي دجانة - قد خطبوا امرأة يوم القادسية، وكان مع الناس نساؤهم ؛ وكانت مع النخع سبعمائة امرأة فارغة ؛ وكانوا يسمون أختان المهاجرين حتى كان قريباً ؛ فتزوجهن المهاجرون قبل الفتح وبعد الفتح ؛ حتى استوعبهن، فصار إليهن سبعمائة رجل من الأفناء ؛ فلما فرغ الناس خطب هؤلاء النفر هذه المرأة - وهي أروى ابنة عامر الهلالية - هلال النخع ؛ وكانت أختها هنيدة تحت القعقاع بن عمرو التيمي، فقالت لأختها: استشيري زوجك أيهم يراه لنا ! ففعلت ؛ وذلك بعد الوقعة وهم بالقادسية ؛ فقالك القعقاع: سأصفهم في الشعر فانظرى لأختك، وقال:
إن كنت حاولت الداراهم فانكحى ... سماكاً أخا الأنصار أو إبن فرقد
وإن كنت حاولت الطعان فيممى ... بكيراً إذا ما الخيل جالت عن الردى
وكلهم في ذروة المجد نازل ... فشأنكم إن البيان عن الغد
وقالوا: وكانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس في القادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين، وفيما بين الأبلة وأيلة ؛ يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر مايكون من أمرها ؛ حتى إن كان الرجل ليريد الأمر فيقول :لا أنظر فيه حتى أنظرما يكون من أمر القادسية. فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن فأتت بها ناساً من الإنس، فسبقت أخبار الإنس إليهم ؛ قالوا: فبدرت امرأة ليلاً على جبل بصنعاء، لا يدري من هي ؟ وهي تقول:
حييت عنا عكرم ابنة خالد ... وما خير زاد بالقليل المصرد
وحيتك عنى الشمس عند طلوعها ... وحياك عنى كل ناج مفرد
وحيتك عنى عصبة نخعية ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد
أقاموا لكسرى يضربون جنوده ... بكل رقيق الشفرتين مهند
إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكل ... من الموت تسود الغياطل مجرد
وسمع أهل اليمامة مجتازاً يغنى بهذه الأبيات:
وجدنا الأكثرين بني تميم ... غداة الروع أصبرهم رجالاً
هم ساروا بأرعن مكفهر ... إلى لجب فزرتهم رعالا
بحور للأكاسير من رجال ... كأسد الغاب تحبهم جبالاً
تركن لهم بقادس عز فخر ... وبالخيفين أياماً طوالا
مقطعة أكفهم وسوق ... بمردى حيث قابلت الرجالا
قال: وسمع بنجو ذلك في عامة بلاد العرب.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وكتب سعد بالفتح وبعدة من قتلوا وبعدة من أصيب من المسلمين ؛ وسمى لعمر من يعرف مع سعد بن عميله الفزارى، وشاركهم النضر بن السرى عن ابن الرفيل بن ميسور ؛ وكان كتابه: أما بعد ؛ فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام وفي الفجاج ؛ وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان، ورجال من المسلمين لاتعلمهم، الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل ذوى النحل، وهم آساد الناس؛ لا يشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد بن سعيد، قال: لما أتى عمر بن الخطاب نزول رسم القادسية، كان يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتضاف النهار، ثم يرجع إلى أهله ومنزله. قال: فلما لقى البشير سأله من أين ؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني، قال: هزم الله العدو ، وعمر يخب معه ويستخبره والآخر يسير على ناقته ولا يعرفه ؛ حتى دخل المدينة، فإذا الناس يسلمون عليه بإمره المؤمنين، فقال: فهلا أخبرتني رحمك الله، أنك أمير المؤمنين! وجعل عمر يقول: لا عليك يا أخي! كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزيادة، قالوا: وأقام المسلمون في انتظار بلوغ البشير وأمر عمر، يقومون أقباضهم، ويحزرون جندهم، ويرمون أمروهم. قالوا: وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك ودمشق، ورجعوا ممدين لأهل القادسية ؛ فتوافوا بالقادسية من الغد ومن الغد، وجاء أولهم يوم أغواث، وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح، وقدمت أمداد فيها مراد وهمدان، ومن أفناء الناس، فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما يسألونه عما ينبغي أن يسار به فيهم - وهذا الكتاب الثاني بعد الفتح - مع نذير بن عمرو. ولما أتى عمر الفتح قام الناس فقرأ عليهم الفتح ، وقال: إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوى في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل ؛ إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض على الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم واتبعتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبقها إلى بيتي شقيت ؛ ففرحت قليلا، وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.
قالوا: وكتبوا إلى عمر مع أنس بن الحليس: إن أقواماً من أهل السواد أدعوا عهوداً، ولم يقم على عهد أهل الأيام لنا، ولم يف به أحد علمناه إلا أهل بانقياً وبسماً وأهل أليس الآخرة وادعى أهل السواد أن فارس أكرهوهم وحشروهم ؛ فلم يخالفوا إلينا ؛ ولم يذهبوا في الأرض.
كتب مع أبي الهياج الأسدي - يعنى ابن مالك - إن أهل السواد جلوا، فجاءنا من أمسك بعهده ولم يجلب علينا ؛ فتممنا لهم ما كان بين المسلمين قبلنا وبينهم ؛ وزعموا أن أهل السواد قد لحقوا بالمدائن، فأجدث إلينا فيمن تم وفيمن جلا وفيمن ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل، او استسلم ؛ فإنا بأرض رغيبة ، والأرض خلاء من أهلها، وعددنا قليل، وقد كثر أهل صلحنا ؛ وإن عمر لنا وأوهن لعدونا تألفهم. فقام عمر في الناس فقال:إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا بضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع، ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل الطاعة ؛ أصاب أمره، وظفر بحظه، وذلك بأن الله عز وجل يقول: (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا) ، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر ؛ وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئاً، ولم يجل، وفيمن استسلم. فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف لم يزده غابه إلا خيرا، وأن من ادعى فصدق أو وفى فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم ؛ وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال ؛ وأن يخيروا من أقام واستسلم: الجزاء، أو الجلاء، وكذلك الفلاح.
وكتب جواب كتاب أنس بن الحليس: أما بعد ؛ فإن الله جل وعلا أنزل في كل شئ رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر ؛ فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرضى منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا في رخاء، والعدل - وإن رئى ليناً - فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وإن رئى شديداً فهو أنكش للكفر ؛ فمن تم على عهده من أهل السواد، ولم يعن عليكم بشئ ؛ فلهم الذمة، وعليهم الجزية ؛ وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض ؛ فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا ؛ وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وأبلغوا مأمنهم.
وأجابهم في كتاب أبي الهياج: أما من أقام ولم يجل وليس له عهد فلم ما لأهل العهد بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، وكذلك الفلاحون إذا فعلوا ذلك ؛ وكل من ادعى ذلك فصدق فلهم الذمة ؛ وإن كذبوا نبذ إليهم ؛ وأما من أعان وجلا ؛ فذلك أمر جعله الله لكم ؛ فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقيموا لكم في أرضهم، ولهم الذمة وعليهم الجزية ؛ وإن كرهوا ذلك فاقسموا ما أفاء الله عليكم منهم.
فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى عن السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، فتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم وازم عهده ؛ إلا أن خرجوا أثقل ؛ فأنزلوا من ادعى الإستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحين، ولم يدخلوا في الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج معهم، ولم يجبهم إلى واحدة من اثنتين: الإسلام، أو الجزاء، فصارت فيئاً لمن أفاء الله عليه ؛ فهي والصوافى الأولى ملك لمن أفاء الله عليه، وسائر السواد ذمة وأخذوهم بخراج كسرى، وكان خراج كسرى على رءوس الرجال على ما في أيديهم من الحصة والأموال، وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى، ومن صوب معهم وعيال من قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وكا كان للسكك، وما كان لآل كسرى، فلم يتأت قسم ذلك الفئ الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم ؛ لأنه كان متفرقاً في كل السواد، فكان يليه لأهل الفئ من وثقوا به، وتراضوا عليه ؛ فهو الذي يتداعاه أهل الفئ لآعظم السواد؛ وكانت الولاة عند تنازعهم فيها بقسمة بينهم ؛ فذلك الذي شبه على الجهلة أمر السواد، ولكن الحلماء أبوا، فتابع الولاة الحلماء، وترك قول السفهاء. كذلك صنع على رحمه الله، وكل من طلب إليه قسم ذلك فإنما تابع الحلماء، وترك قول السفهاء، وقالوا: لئلا يضرب بعضهم وجوه بعض.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن عامر الشعبي، قال: قلت له: السواد ما حاله؟ قال: أخذ عنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها ؛ فدعوا إلى الصلح والذمة، فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة، عليهم الجزاء، ولهم المنعة، وذلك هو السنة، كذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة، وبقى ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم فيئاً لمن أفاء الله عليه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة وسفيان، عن ماهان، قالوا: فتح الله السواد عنوة - وكذلك كل أرض بينهما وبين نهر بلخ - إلا حصناً، ودعوا إلى الصلح، فصاروا ذمة، وصارت لهم أرضوهم ولم يدخلوا في ذلك أموال آل كسرى ومن اتبعهم، فصارت فيئاً لمن أفاءه الله عليه، ولا يكون شئ من الفتوح فيئاً حتى يقسم ؛ وهو قوله: (ما غنمتم من شيء) ؛ مما اقتسمتم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: عامة ما أخذ المسلمون عنوة فدعوهم إلى الرجوع والذمة، وعرضوا عليهم الجزاء فقبلوه ومنعوهم.
وعن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: قلت له: إن أناساً يزعمون أن أهل السواد عبيد، فقال: فعلام يؤخذ الجزاء من العبيد؟ أخذ السواد عنوة، وكل أرض علمتها إلا حصناً في جبل أو نحوه. فدعوا إلى الرجوع، وقبل منهم الجزاء، وصاروا ذمة ؛ وإنما يقسم من الغنائم ما تغنم ؛ فأما ما لم يغنم وأجاب أهله إلى الجزاء من قبل أن يتغنم، فلهم جرت السنة بذلك.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة، عن عبد الله بن المستورد، عن محمد بن سيرين، قالك البلدان كلها أخذت عنوة إلا حصون قليلة، عاهدوا قبل أن ينزلوا. ثم دعوا - يعنى الذين أخذوا عنوة - إلى الرجوع والجزاء، فصاروا ذمة أهل السواد، والجبل كله أمر لم يزل يصنع في أهل الفئ، وإنما عمل عمر والمسلمون في هذا الجزاء والذمة على إجرايا ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد كان بعث خالد بن الوليد من تبوك إلى دومة الجندل، فأخذها عنوة، وأخذ ملكها أكيدر بن عبد الملك أسيراً، فدعاه إلى الذمة والجزاء، وقد أخذت بلاده عنوة، وأخذ أسيراً؛ وكذلك فعل با بني عريض ، وقد أخذا فادعيا أنهما أوداؤه، فعقد لهما على الجزية والذمة، وكذلك كان أمر يحنه ابن رؤية صاحب أيلة. وليس المعمول به من الأشياء كرواية الخاصة، من روى غير ما عمل به الأئمة العدول المسلمون، فقد كذب وطعن عليهم.
وعن سيف، عن حجاج الصواف، عن مسلم مولى حذيفة، قال: تزوج المهاجرون والأنصار في أهل السواد - يعنى في أهل الكتابين منهم، ولو كانوا عبيداً لم يستحيوا ذلك، ولم يحل لهم أن ينكحوا إماء أهل الكتاب ؛ لأن الله تعالى يقول: (ومن لم يستطع منكم طولاً ...) الآية، ولم يقل: " فتياتهم من أهل الكتابين " .
وعن سيف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بعدما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها. فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني: أحلال أم حرام، وما أردت بذلك! فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم. فقال: الآن ؛ فطلقها.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أشعث، بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: شهدت القادسية مع سعد، فتزوجنا نساء أهل الكتاب، ونحن لا نجد كثير مسلمات، فلما قفلنا ؛ فمنا من طلق، ومنا من أمسك.
وعن سيف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع والجزاء، فأجابوا إليه، فصاروا ذمة، إلا ما كان لآل كسرى، وأتباعهم، فصار فيئاً لأهله، وهو الذي يتحجى أهل الكوفة إلى أن أجهل ذلك، فحسبوه السواد كله، وأما سوادهم ؛ فذلك.
وعن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن إبراهيم بن يزيد النخعى، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع، فن أجاب فعليه الجزية وله الذمة، ومن أبى صار ماله فيئاً، فلا يحل بيع شئ من ذلك الفئ فيما بين الجبل إلى العذيب من أرض السواد ولا في الجبل.
وعن سيف، عن محمد بن قيس، عن الشعبي، بمثله: لا يحل بيع شئ من ذلك الفئ فيما بين الجبل والعذيب.
وعن سيف، عن عمرو بن محمد، عن عامر، قال: أقطع الزبير وخباب وابن مسعود وابن ياسر وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأ ؛ وهم الذين أخذنا عنهم ديننا. وأقطع عمر طلحة وجرير بن عبد الله والربيل بن عمرو، وأقطع أبا مفرزردار الفيل في عدد ممن أخذنا عنهم، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء الله.وكتب عمر إلى عثمان بن حنيف مع جرير: أما بعد ؛ فأقطع جرير ابن عبد الله قدر ما يقوته لا وكس ولا شطط فكتب عثمان إلى عمر: إن جريراً قدم على بكتاب منك تقطعه ما يقوته ما يقوته، فكرهت أن أمضى ذلك حتى أراجعك فيه. فكتب إليه عمر: أن قد صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي وأقطع أبا موسى. وأقطع على رحمه الله كردوس بن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بن غفلة الجعفى.
وعن سيف، عن ثابت بن هريم، عن سويد بن غفلة، قال: استقطعت علياً رحمه الله، فقال: اكتب : هذا ما أقطع على سويداً أرضاً لداذويه ؛ ما بين كذا إلى كذا وما شاء الله.
وعن سيف، عن المستنير، عن ابراهيم بن يزيد، قال: عمر: إذا عاهدتم قوماً فأبرءوا إليهم من معرة الجيوش. فكانوا يكتبون في الصلح لمن عاهدوا: ((ونبرأ إليكن من معرة الجيوش)).
وقال الواقدي: كانت وقعة القادسية وافتتاحها ست عشرة، وكان بعض أهل الكوفة يقول: كانت وقعة القادسية سنة خمس عشرة.
قال: والثبت عندنا أنها كانت في سنة عشرة.
وأما محمد بن إسحاق فإنه قال: كانت سنة خمس عشرة، وقد مضى ذكرى الرواية عنه بذلك
ذكر بناء البصرةقال أبو جعفر: وفي سنة أربع عشرة أمر عمر بن الخطاب رحمه الله - فيما زعم الواقدي - الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك.
وفي هذه السنة - أعني سنة أربع عشرة - وجه عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني وروايته.
وزعم سيف أن البصرة مصرت في ربيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت والحصنين ؛ وجهه غليها سعد بأمر عمر.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عنه. فحدثني عمر بن شبة ؛ قال: حدثنا على بن محمد، عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قتل مهران سنة أربع عشرة في صفر، فقال عمر لعتبة - يعني ابن غزوان - : قد فتح الله جل وعز على إخوانكم الحيرة وما حولها، وقتل عظيم من عظمائها، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس ؛ فإني أريد أن أوجهك إلى أرض الهند ، لتمنع أهل تلك الجيزة من إمداد إخوانهم على إخوانكم، وتقاتلهم ؛ لعل الله أن يفتح عليكم. فسر على بركة الله، واتق الله ما استطعت، واحكم بالعدل، وصل الصلاة لوقتها، وأكثر ذكر الله. فأقبل عتبة في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادي، فقدم البصرة في خمسمائة، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، فنزلها في شهر ربيع الأول - أو الآخر - سنة أربع عشرة، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند فيها حجارة بيض خشن، فنزل الخريبة، وليس بها إلا سبع دساكر؛ بالزابوقة والخيبة وموضع بني تميم والأزد: ثنتان بالخريبة، وثنتان بالأزد، وثنتان في موضع بني تميم وواحدة بالزابوقة. فكتب إلى عمر، ووصف له منزله فكتب إليه عمر: اجمع للناس موضعاً واحداً؛ ولا تفرقهم ؛ فأقام عتيبة أشهراً لا يغزو ولا يلقى أحداً.
وأما محمد بن بشار ؛ فإنه حدثنا، قال: حدثنا صفوان بن عيسى الزهري، قال: حدثنا عمرو بن عيسى أبو نعامة العدوى، قال: سمعت خالد بن عمير وشويساً أبا الرقاد، قالا بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان، فقال له: انطلق أنت ومن معك ؛ حتى إذا كنتم في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم، فأقيموا. فأقبلوا حتى إذا كانوا بالمريد وجدوا هذا الكذان . قالوا: ما هذه البصرة؟ فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فإذا فيه حلفاء وقصب نابتة، فقالوا: هاهنا قوماً معهم راية، وهم يريدونك، فأقبل في أربعة أسوار، فقال: ماهم إلا ما أرى ؛ اجعلوا في أعناقهم الحبال ؛ وأتونى بهم ؛ فجعل عتبة يزحل ، وقال: إني شهدت الحرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حتى إذا زالت الشمس، قال: احملوا ؛ فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين، فلم يبق منهم أحداً إلا صاحب الفرات، أخذواه أسيراً، فقال عتبة بن غزوان: ابغوا لنا منزلاً هو أنزه من هذا - وكان يوم عكاك وومد - فرفعوا له منبراً، فقام يخطب، فقال: إن الدنيا قد تصرمت وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناة. ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم. وقد ذكر لى: لو أن صخرة ألقت من شفير جهنم هوت سبعين خريفاً، ولتملأنه؛ أو عجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ بزحام، ولقد رأيتنى وأنا سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا؛ والتقت بردة فشققتها بينى وبين سعد، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا.
وعن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما توجه عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور من المدائن إلى فرج الهند، نزل على الشاطئ بحيال جزيرة العرب، فأقام قليلاً ثم أرز، ثم شكوا ذلك حتى أمره عمر بأن ينزل الحجر بعد ثلاثة أوطان إذا اجتووا الطين، فنزلوا في الرابعة البصرة - والبصرة كل أرض حجارتها جص - وأمر لهم بنهر يجري من دجلة، فساقوا إليها نهراً للشفة، وكان إيطان أهل البصرة اليوم وإيطال أهل الكوفة اليوم في شهر واحد. فأما أهل الكوفة فكان مقامهم قبل نزولها المدائن إلى أن وطنوها، وأما أهل البصرة فكان مقامهم على شاطئ دجلة. ثم أزروا مرات تحتى استقروا وبدءوا، فخنسوا فرسخاً وجروا معهم نهراً، ثم فرسخاً ثم جروه ثم فرسخاً، ثم جروه ثم أتوا الحجر، ثم جروه، واختطت على نحو من خطط الكوفة، وكان على إنزال البصرة أبو الجرباء عاصم بن الدلف، أحد بني غيلان بن مالك بن عمرو بن تميم.
وقد كان قطبة بن قتادة - فيما حدثني عمر ، قال: حدثنا المدائني عن النضر بن إسحاق السلمى، عن قطبة بن قتادة السدوسي - يغير بناحية الخريبة من البصرة، كما :ان المثنى بن حارثة الشيباني يغير بناحية الحبيرة. فكتب إلى عمر يعلمه مكانه، وأنه لو كان معه عدد يسير ظفر بمن قبله من العجم، فنفاهم من بلادهم. وكانت الأعاجم بتلك الناحية قد هابوه بعد وقعة خالد بنهر المرأة فكتب إليه عمر: إنه أتاني كتابك أنك تغير على من قبلك من الأعاجم، وقد أصيب ووفقت ؛ أقم مكانك، واحذر على من معك من أصحابك حتى يأتيك أمرى. فوجه عمر شريح بن عامر، أحد بني سعد بن بكر إلى البصرة ؛ فقال له : كن ردءاً للمسلمين بهذه الجيزة، فأقبل إلى البصرة ؛ فترك بها قطبة، ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة للأعاجم ؛ فقتلوه، وبعث عمر عتبة بن غزوان.
حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن عبد الملك بن حذيفة ومحمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال: إن عمر قال لعتبة بن غزوان إذ وجهه إلى البصرة: يا عتبة، إني قد استعملتك على أرض الهند، وهي حومة من حومة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، وأن يعينك عليها. وقد كتب إلى العلاء بن الحضرمى أن يمدك بعرفجة بن هرثمة ؛ وهو ذو مجاهدة العدو ومكايدته، فإذا قدم عليك فاستشره وقربه، وادع إلى الله ؛ فمن أجابك فاقبل منه، من أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة. واتق الله فيما وليت، وإياك أن تناوعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك، وقد صبحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، قيالها نعمة ؛ إن لم ترفعك فوق قدرك وتبرطرك على من دونك ! احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية ؛ ولهى أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك، فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إن الناس أسرعوا إلى الله حين رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأراد الله ولا ترد الدنيا، واتق مصارع الظالمين.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا على، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني وأبو مخنف، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: قدم عتيبة بن غزوان البصرة في ثلثمائة، فلما رأى منبت القصب، وسمع نقيق الضفادع قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أنزل أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم ؛ فهذا حيث واجب علينا فيه طاعة إمامنا. فنزل الخربية وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها. وكانت مرفأ السفن من الصين وما دونها، فسار عتيبة فنزل دون الإجانة، فأقام نحوا من شهر، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وجعل قطبة بن قتادة السدوسي وقسامة بن زهير المازني في عشرة فوارس، وقال لهما: كونا في ظهرنا، فتردا المنهزم، وتمنعا من أرادنا من ورائنا ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها ؛ حتى منحهم الله أكتافهم، وولوا منهزمين ؛ حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، فأقاموا أياماً، وألقى الله في قلوبهم الرعب. فخرجوا عن المدينة، وحملوا ما خف لهم، وعبروا إلى الفرات، وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعاً وسلاحاً وسبياً وعيناً، فاقتسموا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وولى عتبة نافع بن الحارث أقباض الأبلة ؛ فأخرج خمسة، ثم قسم الباقي بين أفاءه الله عليه ؛ وكتب بذلك مع نافع بن الحارث.
وعن بشير بن عبيد الله ؛ قال: قتل نافع بن الحارث يوم الأبلة تسعة، وأبو بكر ستة.
وعن داود بن أبي هند، قال: أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم، فأخذ كل رجل درهمين، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين ممن أخذهما من فتح الأبلة في ألفين من العطاء، وكانوا ثلثمائة رجل، وكان فتح الأبلة في رجب، أو في شعبان من هذه السنة.
وعن الشعبي، قال: شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون، فيهم أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، والمغيرة بن شعبة، ومجاشع بن مسعود، وأبو مريم البلوى، وربيعة بن كلدة بن أبي الصلت الثقفي، والحجاج.
وعن عباية بن عبد عمرو، قال: شهدت فتح الأبلة مع عتبة، فبعث نافع بن الحارث إلى عمر رحمه الله بالفتح، وجمع لنا أهل دست ملسان، فقال: عتبة: ارى أن نسير إليهم، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان، فقاتلناه، فانهزم أصحابه وأخذ أسيراً، فأخذ قباؤه ومنطقته، فبعث به عتبة مع أنس ابن حجية اليشكرى.
وعن أبي المليح الهذلي، قال: بعث عتبة أنس بن حجية إلى عمر بمنطقة مرزبان دست ميسان؛ فقال له : كيف المسلمون؟ قال: انثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة، فأتوها.
وعن علي بن زيد، قال: لما فرغ عتبة من الأبلة، جمع له مرزبان دست ميسان، فسار إليه عتيبة فقتله، ثم سرح بما سعود إلى الفرات وبها مدينة ووفد عتبة إلى عمر، وأمر المغيرة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات، فإذا قدم فهو الأمير. فظفر مجاشع بأهل الفرات، ورجع إلى البصرة وجمع الفيلكان ؛ عظيم من عظماء أبز قباذ للمسلمين، فخرج إليه المغيرة بن شعبة، فلقيه بالمرغاب، فظفر به، فكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ قال: مجاشع بن مسعود، قال: لا، تستعمل رجلاً من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث! قال: لا، فأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات عتبة في الطريق، واستعمل عمر المغيرة بن شعبة.
وعن عبد الرحمن بن جوشن، قال: شخص عتبة بعدما ما قتل مرزبان دست ميسان، ووجه مجاشعاً إلى الفرات، واستخلفه على عمله، وأمر المغيرة ابن شعبة بالصلاة حتى يرجع مجاشع من الفرات، وجمع أهل ميسان، فلقيهم المغيرة، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات، وبعث بالفتح إلى عمر.
الطبري، بإسناده عن قتادة، قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف المغيرة الأثقال، فلقى العدو دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم! فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مدداً أتى المسلمين فانكشفوا، وأتبعهم المسلمون فقتلوا منهم عدة.
وعن حارثة بن مضرب، قال: فتحت الأبلة عنوة فقسم بينهم عتبة - ككة - يعنى خبزاً أبيض. وعن محمد بن سيرين مثله.
قال الطبري، وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصري، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.
وعن المثنى بن موسى بن سلمة بن المحبق، عن أبيه، عن جدة، قال: شهدت فتح الأبلة، فوقع لي في سهمي قدر نحاس، فلما نظرت إذا هي ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب أن يصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها وهي عنده نحاس، فإن حلف سلمت إليه ؛ وإلا قسمت بين المسلمين. قال: فحلفت، فسلمت لي.
قال: المثنى: فأصول أموالنا اليوم منها.
وعن عمرة ابنة قيس، قالت: لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة خرج زوجي وابني معهم، فأخذوا الدرهمين ومكوك زبيب ، وإنهم مضوا حتى إذا كانوا حيال الأبلة، قالوا للعدو، نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال: بل اعبروا إلينا فأخذوا خشب العشرة فأوثقوه، وعبروا إليهم، فقال المشركون: لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم. فلما صاروا على لأرض كبروا تكبيرة، ثم كبروا الثانية، فقامت دوابهم على أرجلها، ثم كبروا الثالثة فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض، وجعلنا ننظر إلى رءوس تنذر، ما نرى من يضربها ؛ وفتح الله على أيديهم.
المدائني، قال: كانت عند عتبة صفية بنت الحارث بن كلدة، وكانت أختها أردة بنت الحارث عند شبل بن معبد البجلي، فلما ولى عتبة البصرة انحدر معه أصهاره: أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد ؛ وانحدر معهم زياد ؛ فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسماً يقسم بينهم، فكان زياد قاسمهم ؛ وهو ابن أربع عشرة سنة، له ذؤابة، فأجروا عليه كل يوم درهمين.
وقيل : إن إمارة عتبة البصرة كانت سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة ؛ والأول أصح ؛ فكانت إمارته عليها ستة أشهر.
واستعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة فبقى سنتين، ثم رمى بمارمى ؛ واستعمل أبا موسى، وقيل استعمل بعد عتبة أبا موسى، وبعده المغيرة.
وفيها - أعني أربع عشرة - ضرب عمر ابنة عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه وأبا محجن.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان على مكة عتاب بن أسيد في قوله، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى الشأم أبو عبيدة بن الجراح، وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص - وقيل: العلاء بن الحضرمى - وعلى عمان حذيفة بن محصن.
ثم دخلت سنة خمس عشرةقال ابن جرير: قال بعضهم: فيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة ؛ دلهم عليها ابن بقيلة ؛ قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق، وانحدرت عن الفلاة ! فدلتهم على موضع الكوفة اليوم.
ذكر الوقعة بمرج الروم
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف إليهم من اليرموك ؛ فنزلوا جميعاً على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذارا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله يوم نزل عليه شنس الرومي، في مثل خيل توذرا ؛ إمداداً لتوذرا وردءاً لأهل حمص ؛ فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من توذارا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالداً الخبر أن توذرا قد رحل إلى دمشق، فأجمع رأيه ورأى أبي عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه خالد من ليلته في جريدة ؛ وقد بلغ يزيد بن أبي سفيان الذي فعل ، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون ؛ فأخذهم من خلفهم ، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم؛ فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد ؛ فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب، وقسم ذلك يزيد بن أبي سفيان على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة، وقد قتل خالد توذرا، وقال خالد:
نحن قتلنا شوذرا ... وقبله ما قد قتلنا حيدراً
نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا وقد ناهد أبو عبيدة بعد خروج خالد في أثر توذرا شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم مقتلة عظيمة، وقتل أبو عبيدة شنس، وامتلأ المرج من قتلاهم، فأنتنت منهم الأرض، وهرب من هرب منهم، فلم يفلتهم، وركبوا أكساءهم إلى حمص .
ذكر فتح حمصحكى الطبرى عن سيف، عن كتابه، عن أبي عثمان، قال: ولما بلغ هرقل الخبر بمقتل أهل المرج، أمر أمير حمص بالسير والمضى إلى حمص، وقال: إنه بلغني أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحداً، هذا جل طعامه وشرابه. وارتحل من عسكره ذلك، فأتى الرهاء، وأخذ بعده حتى ينزل عليها، فكانوا يعارون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد ؛ ولقى المسلمون بها برداً شديداً، والروم حصاراً طويلاً، فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ الله عليهم الصبر، وأعقبهم النصر، حتى اضطرب الشتاء، وإنما تمسك القوم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء.
وعن أبي الزهراء القشيرى، عن رجل من قومه، قال: كان أهل حمص يتواصون فيما بينهم، ويقولن: تمسكوا فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون؛ فكانت الروم تراجع، وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم، وإن المسلمين في النعال ما أصيب أصبع أحد منهم، حتى إذا انخنس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين. قالوا: كيف والملك في سلطانه وعزه، ليس بيننا وبينهم شيء فتركهم وقم فيهم آخر فقال ذهب الشتاء وانقطع الرجاء، فما تنتظرون؟ فقالوا: البرسام، فإنما يسكن في الشتاء ويظهر في الصيف، فقال: إن هؤلاء قوم يعانون ؛ ولأن تأتونهم بعهد وميثاق، خير من أن تؤخذوا عنوة ؛ أجيبوني محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين! فقالوا: شيخ خرف، ولا علم له بالحرب.
وعن أشياخ من غسان وبلقين، قالوا أثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص أن زلزل بأهل حمص ؛ وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وإلى ذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة، فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك، ثم كبروا الثانية، فتهافتت منها دور كثيرة وحيطان ؛ وفزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب الله! فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم ؛ فأشرفوا فنادوا: الصلح الصلح! ولا يشعرون المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال الروم وبينانهم ؛ لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام، على كل جريب أبداً أيسروا أو أعسروا. وصالح بعضهم على قدر طاقته ؛ إن زاد ماله زيد عليه، وإن نقص نقص، وكذلك كان صلح دمشق والأردن ؛ بعضهم على شئ إن أيسروا وإن عسروا، وبعضهم على قدر طاقته، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.
وبعث أبو عبيدة السمط بن الأسود بني معاوية، والأشعث بن مئناس في السكون، معه ابن عابس، والمقداد في بلى، وبلالا وخالداً في الجيش، والصباح بن شتير وذهيل بن عطية وذا شمستان، فكانوا في قصبتها. وأقام في عسكره، وكمتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع عبد الله بن مسعود، وقد وفده. وأخبر هرقل ؛ وأنه عبر الماء إلى الجزيرة، فهو بالرهاء ينغمس أحياناً، ويطلع أحياناً. فقدم ابن مسعود على عمر، فرده ، ثم بعثه بعدذلك إلى سعد بالكوفة، ثم كتب إلى أبي عبيدة: أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشأم، فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكانفك ؛ إن شاء الله.
حديث قنسرينوعن أبي عثمان وجارية، قالا: وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم، وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتله لم يقتلوا مثلها، فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربة، فقبل منهم وتركهم. ولما بلغ عمر ذلك قال: أمر خالد نفسه ؛ يرحم الله أبا بكر ؛ هو كل أعلم بالرجال منى، وقد كان عزله والمثنى مع قيامه، وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة ؛ ولكن الناس عظموها، فخشيت أن يوكلوا إليهما. فلما كان من أمره وأمر قنسرين ما كان، رجع عن رأيه، وسار خالد حتى نزل قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم الله إلينا. قال: فنظروا في أمرهم، وذكروا ما لقى أهل حمص ؛ فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخبرها، واتطأت حمص وقنسرين ؛ فعند ذلك خنس هرقل ؛ وإنما كان سبب خنوسه أن خالداً حين قتل ميتاس ومات الروم على دمه، وعقد لأهل الحاضر وترك قنسرين، طلع من قبل الكوفة عمر بن مالك من قبل قرقيسيا، وعبد الله بن المعتم من قبل الموصل، والوليد بن عقبة من بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة، وطووا مدائن الجزيرة من نحو هرقل، وأهل الجزيرة في حران والرقة ونصيبين وذواتها لم يغرضوا غرضهم ؛ حتى يرجعوا إليهم ؛ إلا أنهم خلفوا في الجزيرة الوليد لئلا يؤتوا من خلفهم ؛ فأدرب خالد وعياض مما يلي الشأم، وأدرب عمر وعبد الله مما يلي الجزيرة ؛ ولم يكونوا أدبروا قبله ؛ ثم رجعوا، فهي أول مدربة كانت في الإسلام سنة ست عشرة . فرجع خالد إلى قنسرين فنزلها، وأتته امرأته، فلما عزله قال: إن عمرو ولا أن الشأم حتى إذا صارت بثينة وعسلاً عزلني .
قال أبو جعفر الطبري: ثم خرج هرقل نحو القسطنطينة، فاختلف في حين شخوصة إليها وتركه بلاد الشأم ؛ فقال ابن إسحاق: كان ذلك سنة خمس عشرة ؛ وقال سيف: كان سنة ست عشرة.
ذكر خبر ارتحال هرقل إلى القسطنطينيةذكر سيف عن أبي الزهراء القشيرى، عن رجل من بني قشير، قالوا: لما خرج هرقل من الرهاء واستتبع أهلها، قالوا: نحن ها هنا خير منا معك، وأبوا أن يتبعوه، وتفرقوا عنه وعن المسلمين ؛ وكان أول من أبج كلابها، وأنفر دجاجها زياد بن حنظلة، وكان من الصحابة، وكان مع عمر بن مالك مسانده، ةكان حليفاً لبني عبد بن قصى ؛ وقبل ذلك ما قد خرج هرقل حتى شمشاط ؛ فلما نزل القوم الرهاء أدرب فنفذ نحو القسطنطينية، ولحقه رجل من الروم كان أسيراً في أيدي المسلمين، فأفلت، فقال: له أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: احدثك كأنك تنظر إليهم ؛ فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليرثنى ما تحت قدمي هاتين.
وعن عبادة وخالد، أن هرقل كان كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن في أرض الروم التفت فقال: عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد. فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء، فنزل الرهاء، فلم يزل بها حتى طلع أهل الكوفة وفتحت قنسرين وقتل ميناس، فخنس عند ذلك إلى شمشاط ؛ حتى إذا فصل منها نحو الروم علا على شرف، فالتفت ونظر نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلاماً لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومى أبداً إلا خائفاً، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد ! ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم!
وعن أبى الزهراء وعمرو بن ميمون، قالا: لما فصل هرقل من شمشاط داخلا الروم التفت إلى سورية، فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسلم المفارق، ولا يعود إليك رومى أبداً إلا خائفاً، حتى يولد المولود المشئوم، وليته لم يولد! ومضى حتى نزل القسطنطينية. وأخذ أهل الحصون التي بين اسكندرية وطرسوس معه ؛ لئلا يسير المسلمون لا يجدون بها أحداً، وربما كمن عندها الروم ؛ فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك.
ذكر فتح قيسارية وحصار غزةذكر سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة، عن خالد وعبادة، قالا لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص من فحل، نزل عمرو وشرحبيل على بيسان فافتتحاها، وصالحته الأردن، واجتمع عسكر الروم بأجنادين. وبيسان وغزة، وكتبوا إلى عمر بتفرقهم، فكتب إلى يزيد بأن يدفئ ظهورهم بالرجال، وأن يسرح معاوية إلى قبسارية. وكتب إلى عمرو يأمره بصدم الأرطبون، وإلى علقمة بصدم الفيقار.
وكان كتاب عمر إلى معاوية: أما بعد، فإني قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا مولانا، نعم المولى ونعم النصير)). فانتهى الرجلان إلى ما أمرا به، وسار معاوية في جنده حتى نزل على أهل قيسارية وعليهم أبنى، فهزمه وحصره في قيسارية. ثم إنهم جعلوا يزاحفونه، وجعلوا لا يزاحفونه من مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم. ثم زاحفوه آخر ذلك، وخرجوا من صياصيهم، فاقتتلوا في حفيظة واستماتة، فبغلت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفاً، كملها في هزيمتهم مائة ألف، وبعث بالفتح مع رجلين من بني الضبيب، ثم خاف منهما الضعف، فبعث عبد الله بن علقمة الفراسي وزهير بن الحلاب الخثعمى، وأمرهما أن يتبعاهما ويسبقاهما، فلحقاهما، فطوياهما وهما نائمان. وابن علقمة يتمثل وهي هجيراه:
أرق عيني أخوا جذام ... كيف أنام وهما أمامي!
إذ يرحلان والهجير طامي ... أخو حشيم وأخو حرام
وانطلق علقمة بن مجزز، فحصر الفيقار بغزة، وجعل يراسله، فلم يشفه مما يريد أحد ؛ فأتاه كأنه رسول علقمة، فأمر الفيقار رجلاً أن يقعد له بالطريق، فإذا مر قتله، ففطن علقمة، فقال: إن معى نفراً شركائي في الرأى، فأنطلق فآتيك بهم ؛ فبعث إلى ذلك الرجل: لا تعرض له. فخرج من عنده ولم يعد، وفعل كما فعل عمرو بالأرطبون، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر، فجمع الناس وأباتهم على الفرح ليلاً، فحمد الله وقال: لتحمدوا الله على فتح قيسارية، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يحبس الأسرى عنده، ويقول: ما صنع ميخائيل بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله، ففطمه عن العبث بأسرى المسلمين حتى افتتحها.
ذكر فتح بيسان ووقعه أجنادين
ولما توجه علقمة إلى غزة وتوجه معاوية إلى قيسارية، صمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون، ومر بإزائه، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته، واستخلف على عمل الأردن أبا الأعور، وولى عمرو بن العاص مجنبتيه عبد الله بن عمرو وجناده بن تميم المالكي ؛ مالك بن كنانة، فخرج حتى ينزل علىالروم بأجنادين، والروم في حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون. وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غوراً، وأنكاها فعلاً، وقد كان وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً عظيماً ؛ وكتب عمرو إلى عمر بالخبر ؛ فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تتفرج ! وجعل عمر رحمه الله من لدن وجه أمراء الشأم يمد كل أمير جند ويرميه بالأمداد؛ حتى إذا أتاه كتاب عمرو بتفريق الروم، كتب إلى يزيد أن يبعث معاوية في خيله إلى قيسارية، وكتب إلى معاوية بإمرته على قتال أهل قيسارية؛ وليشغلهم عن عمرو؛ بن حكيم الفراسي ومسروق بن فلان العكي على قتال أهل إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو ؛ وبعث أبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، وكان بإزائهما، ولما تتابعت الأمداد على عمرو، بعث محمد بن عمرو مدداً لعلقمة ومسروق، وبعث عمارة بن عمرو، بن أمية الضمرى مدداً لأبي أيوب، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطه، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمل حصونه حتى عرف ما أراد. وقال أرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه؛ وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله. ثم دعا حرسياً فساره بقتله، فقال: اخرج. فقم مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال: قد سمعت منى وسمعت منك، فأما ما قتله فقد وقع منى موقعاً؛ وأنا واحد من عشرة؛ بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن ورأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير ؛ وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. فقال: نعم، ودعا رجلاً فساره، وقال: اذهب إلى فلان فرده إلى، فرجع إليه الرجل وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك ؛ فخرج عمرو ورأى ألا يعود لمثلها، وعلم الرومى بأنه قد خدعه، فقال: خدعني الرجل ؛ هذا أدهى الخلق. فبلغت عمر، فقال: غلبه عمرو، لله عمرو! وناهده عمرو، وقد عرف مأخذه وعاقبته، والتقوا ولم يجد من ذلك بداً فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالاً شديداً كقتال اليرموك ؛ حتى كثرت القتلى بينهم.
ثم أن أرطبون انهزم في الناس فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين. ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، فانضم علقمة ومسروق ومحمد بن عمرو وأبو أيوب إلى عمرو بأجنادين، وكتب أرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري ؛ أنت في قومك مثلى في قومى ؛ والله لا تفتتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة. فدعا عمرو رجلاً يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يغرب ويتنكر، وقال: استمع ما يقول حتى تخبرني به إذا رجعت إن شاء الله.
وكتب إليه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدى عليك فلاناً وفلاناً - لو زرائه - فأقرئهم كتابي، ولينظروا فيما بيني وبينك.
فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من النفر، فضحكوا وتعجبوا، واقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه ((عمر)) ثلاثة أحرف ؛ فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر.
وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إني أعالج حرباً كئوداً صدوماً وبلاداً ادخرت لك ، فرأيك. ولما كتب عمرو إلى عمر بذلك، عرف أن عمراً لم يقل إلا بعلم، فنادى في الناس، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية. وجميع ما خرج عمر إلى الشأم أربع مرات، فأما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر عنها أن الطاعون مستعر، وأما الرابعة فدخلها على حمار. فاستخلف عليها، وخرج وقد كتب مخرجه أول مرة إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية - ليوم سماه لهم في المجردة - وأن يستخلفوا على أعمالهم. فلقوه حيث رفعت لهم الجابية ؛ فكان أول من لقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول ؛ عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة، فرماهم بها، وقال: سرع ما لفتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي ؛ وإنما شبعتم منذ سنتين ! سرع ما ندت بكم البطنة! وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذاً. وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين لم يتحركا من مكانهما.
ذكر فتح بيت المقدسوعن سالم بن عبد الله، قال: لما قدم عمر رحمه الله الجابية، قال له رجل من يهود: يا أمير المؤمنين ؛ لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء ؛ فبينا عمر بن الخطاب بها ؛ إذ انظر إلى كردوس من خيل مقبل، فلما دنوا منه سلوا السيوف، فقال عمر: هؤلاء قوم يستأمنون، فأمنوهم ؛ فأقبلوا فإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، فلما فتحت عليه دعا ذلك اليهودي، فقيل له: إن عنده لعماً. قال: فسأله عن الدجال - وكان كثير المسألة عنه - فقال له اليهودي: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين! فأنتم والله معشر العرب تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعاً.
وعن سالم، قال: لما دخل عمر الشأم تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق! أنت صاحب إيلياء لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء ؛ وكانوا قد أشجوا عمراً وأشجاهم ؛ ولم يقدر عليها ولا على الرملة، فبينا عمر معسكراً بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف ! فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف ؛ فقال عمر: مستأمنة، ولا تراعوا وأمنوهم ؛ فأمنوهم ؛ وإذا هم أهل إيلياء، فأعطوه واكتتبوا منه على إيلياء وحيزها، والرملة وحيزها ؛ فصارت فلسطين نصفين: نصف مع أهل إيلياء، ونصف مع أهل الرملة؛ وهم عشر كور، وفلسطين تعدل الشأم كله ؛ وشهد ذلك اليهودي الصلح، فسأله عمر عن الدجال ؛ فقال: هو من بني بنيامين ؛ وأنتم والله يا معشر العرب تقتلونه على بضع عشرة ذراعاً من باب لد.
وعن خالد وعبادة، قالا: كان الذي صالح فلسطين العوام من أهل إيلياء والرملة ؛ وذلك أن أرطبون والتذارق لحقاً بمصر مقدم عمر الجابية، وأصبيا بعد في بعض الصوائف .
وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشأم، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشأم، وأن يكون المتولى للعقد عمر بن الخطاب ؛ فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة.
وعن عدى بن سهل، قال: لما استمد أهل الشأم عمر على أهل فلسطين، استخلف علياً، وخرج ممداً لهم، فقال على: أين تخرج بنفسك! إنك تريد عدواً كلباً، فقال: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس ؛ إنكم لو قد فقدتم العباس لا نتقض بكم الشر كما ينتقض أول الحبل.
قال: وانضم عمرو وشرحبيل إلى عمر بالجابية حين جرى الصلح فيما بينهم، فشهد الكتاب.
وعن خالد وعباده، قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية، وكتب لهم فيها الصلح لكل كورة كتاباً واحداً، ما خلا أهل إيلياء.
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ؛ أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شئ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت ؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم مأمنهم ؛ ومن أقام منهم فهو آمن ؛ وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم آمنوا على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ؛ ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شئ حتى يحصد حصادهم ؛ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة.
فأما سائر كتبهم فعلى كتاب لد. بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم ؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا مللها، ولا من صلبهم ولا من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ؛ ولا يضار أحد منهم ؛ وعلى أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل مدائن الشأم، وعليهم إن خرجوا مثل ذلك الشرط إلى آخره. ثم سرح إليهم، وفرق فلسطين على رجلين، فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقممة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء ؛ فنزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي معه.
وعن سالم ، قال: استعمل علقمة بن مجزز على إيلياء وعلقمة بن حكيم على الرملة في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمراً وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إلى الجابية، وافقاً عمر رحمه الله راكباً، فقبلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما .
وعن عبادة وخالد، قالا: ولما بعث عمر بأمان أهل إيلياء وسكنها الجند، شخص إلى بيت المقدس من الجابية، فرأى فرسه يتوجى ، فنزل عنه، وأتى ببرذون فركبه، فهزه فنزل، فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح الله من علمك هذا! ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياماً يوقحه فركبه، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس.
وعن أبي صفية ؛ شيخ من بني شيبان، قال: لما أتى عمر الشأم أتى ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلج به، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علم الله من علمك! هذا من الخيلاء ؛ ولم يركب برذونا قبله ولا بعده. وفتحت إيلياء وأرضها كلها على يديه، ما خلا أجنادين فإنها فتحت على يدى عمرو، وقيسارية على يدي معاوية وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: افتتحت إيلياء وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ست عشرة.
وعن أبى مريم مولى سلامة، قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رحمه الله، فسار من الجابية فاصلاً حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود ؛ ونحن معه، فدخله ثم قرأ سجده داود، فسجد وسجدنا معه.
وعن رجاء بن حيوة، عمن شهد ؛ قال: لما شخص عمر من الجانية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد، قال: ارقبوا لي كعباً، فلما انفرق به الباب، قال: لبيك، اللهم لبيك، بما هو أحب إليك! ثم قصد المحراب ؛ محراب داود عليه السلام، وذلك ليلاً، فصلى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن باٌقامة، فتقدم فصلى بالناس، وقرأ بهم ((ص))، وسجد فيها، ثم قام، وقرأ بهم في الثانية صدر ((بني إسرائيل)) ، ثم ركع ثم انصرف، فقال: على بكعب، فأتى به، فقال: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال:إلى الصخرة، فقال: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك، وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك،بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة مساجدنا صدورها، اذهب غليك، فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أمرنا بالكعبة، فجعل قبلته صدره، ثم قام من مصلاة إلى كناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل ؛ فلما صار إليهم أبرزوا بعضها، وتركوا سائرها، وقال: يا أيها الناس، اصنعوا كما أصنع، وجثا في أصلها، وجثا في فرج من فروج قبائه، وسمع التكبير من خلفه، وكان يكره سوء الرعة في كل شئ فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره فقال: على به فأتى به، فقال: يا أمير المؤمنين ؛ إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: وكيف ؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل، فأديلوا عليهم، فدفنوه، ثم أديلوا فلم يفرغوا ثم أدليت الروم عليهم إلى أن وليت، فبعث الله نبياً على الكناسة، فقال: أبشرى أورى شلم! عليك الفاروق ينقيك مما فيك. وبعث إلى القسطنطينية نبي؛ فقام على تلها، فقال: يا قسطنطينية، ما فعل أهلك ببيتي! أخرجوه وشبهوك كعرشي؛ وتأولوا على، فقد قضيت عليك أن أجعلك جلحاء يوماً ما، لا يأوى إليك أحد، ولا يستظل فيك على أيدي بني القاذر سبأ وودان ؛ فما أمسوا حتى ما بقي شئ.
وعن ربيعة الشامي بمثله ؛ وزاد: أتاك الفاروق في جندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم. وقال في قسطنطينية: أدعك جلحاء بارزة للشمس، لا يأوى إليك أحد، ولا تظلينه.
وعن أنس بن مالك، قال: شهدت إيلياء مع عمر، فبينا هو يطعم الناس يوماً بها أتاه راهبا وهو لا يشعر أن الخمر محرمة، فقال: هل لك في شراب نجده في كبتنا حلالاً إنا حرمت الخمر! فدعاه بها قال: من أي شئ هذا؟ فأخبره أنه طبخه عصيراً، حتى صار إلى ثلثه، فغرف بإصبعه، ثم حركه في الإناء فشطره، فقال: هذا طلاء ؛ فشبهه بالقطران، وشرب منه، وأمروأمراء الأجناد بالشأم به ؛ وكتب في الأمصار: إني أتيت بشراب مما قد طبخ من العصير حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه كالطلاء، فاطبخوه وارزقوه المسلمين.
وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: ولحق أرطبون بمصر مقدم عمر الجابية، ولحق به من أحب ممن أبى الصلح، ثم لحق عند صلح أهل مصر، وغلبهم بالروم في البحر، وبقى بعد ذلك ؛ فكان يكون على صوائف الروم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين فيختلف هو ورجل من قيس يقال له ضريس ؛ فقطع يد القيسى، وقتله القيسى ، فقال:
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها ... فإن فيها بحمد الله منتفعاً
بنانتان وجرموز أقيم به ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعاً
وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعاً
وقال زياد بن حنظلة:
تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذ نحن في عام كثير نزائله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده ... يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صواله ... أتوه وقالوا أنت ممن بواصله
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها ... وعيشاً خصيباً ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئاً حين شالت شوائله
وقال أيضاً:
سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمى صرمة الحي أغيدا
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها ... تريد من الأقوام من كان أنحدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه الشبائك سجدا
وأقبلت الشأم العريضة بالذي ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنا وأحمدا
ذكر فرض العطاء وعمل الديوانوفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواووين، وأعطى العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم، فامتنعوا من أخذه وقالوا: لا نعترف أن يكون أحداً أكرم منا، فقال: إنى إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب ؛ قالوا: فنعم إذاً ، وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشأم ؛ فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب ؛ وقيل: ماتا في طاعون عمواس .
ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له على وعبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب؛ ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف؛ في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر، ومن ولى الأيام قبل القادسية؛ كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف. ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشأم ألفين ألفين؛ وفرض لأهل البلاء البارع منهم ألفين وخمسمائة، ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت دارهأحق بالزيادة، لأنهم كانوا ردءاً للحوق وشجى للعدو، فهلا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار ؟فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم ؛ وهاجر إليهم المهاجرون من بعد ؛ وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفاً ألفاً، ثم فرض للروادف: المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم ؛ ثلثمائة ثلثمائة؛ سوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن والحسين وأباذر وسلمان ؛ وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفاً - وقيل. أثنى عشر ألفاً - وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف عشرة آلاف ؛ إلا من جرى عليها الملك ؛ فقال نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضلنا عليهن في القسمة ؛ فسو بيننا ؛ ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها فلم تأخذ ؛ وجعل نساء أحل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة؛ ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلثمائة ثلثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبان سواء على مائة مائة مسكيناً، وأطعمهم الخبر، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر.
وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، ألفاً يجعلها الرجل في أهله، وألفاً يزودها ، وألفاً يتجهز بها وألفاً يتفرق بها ؛ فمات قبل أن يفعل .
قال أبو جعفر الطبري: كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف ؛ عن محمد وطلحة والمهلب وزيادة والمجالد وعمرو، عن الشعبي ؛ وإسماعيل عن الحسن ، وابى ضمرة عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين، ويحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب، والمستنير بن يزيد عن إبراهيم، وزهرة عن أبى سلمة، قالوا: فرض عمر العطاء حين فروض لأهل الفئ الذين أفاء الله عليهم ؛ وهم أهل المدائن، فصاروا بعد إلى الكوفة، انتقوا عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ودمشق وحمص والأردن وفلسطين ومصر، وقال: الفئ لأهل هؤلاء الأمصار ولمن لحق بهم وأعانهم، وأقام معهم ولم يفرض لغيرهم؛ ألا فبهم سكنت المدائن والقرى، وعليهم جرى الصلح؛ وإليهم أدى الجزاء، وبهم سدت الفروج ودوخ العدو. ثم كتب في إعطاء أهل العطاء أعطياتهم إعطاءاً واحداً سنة خمس عشرة.
وقال قائل: يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال عدة لكون إن كان فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها ؛ وهي فتنة لمن بعدى؛ بل أعد لهم ما أمرنا الله ورسوله طاعة لله ورسوله ؛ فهما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان هذا المال ثمن دين أحدكم هلكتم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد ؛ قالوا: لما فتح الله على المسلمين وقتل رستم، وقدمت على عمر الفتوح من الشأم جمع المسلمين، فقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ فقالوا جميعاً: أما لخاصته فقوته وقوت عياله، لا وكس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وحملانه إلى حجة وعمرته، والقسم بالسوية، أن يعطى أهل البلاء على قدر بلائهم، ويرم أمور الناس بعد ؛ ويتعاهدهم عند الشدائد والنوازل حتى تكشف، ويبدأ بأهل الفئ.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: جمع الناس عمر المدينة حين انتهى إليه فتح القادسية ودمشق، فقال: إني كنت امرأ تاجراً، يغنى الله عيالي بتجارتي وقد شغلتموني بأمركم، فماذا ترون أنه يحل لي من هذا المال ؟ فأكثر القوم وعلى عليه السلام ساكت، فقال: ما تقول يا علي؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك من هذا المال غيره، فقال القوم: القول قول ابن أبي طالب.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن أسلم، قال: رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: ما يحل لك من هذا المال؟ فقال: ما اصلحنى وأصلح عيالي بالمعروف، وحلة الشتاء وحلة الصيف، وراحلة عمر للحج والعمرة، ودابة في حوائجه وجهاده.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما ولى عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كانوا فرضوا له، فكان بذلك ؛ فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم عثمان، وعلى طلحة، والزبير، فقال الزبير: لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه فقال على: وددنا قبل ذلك ؛ فانطلقوا بنا فقال عثمان: إنه عمر! فهلموا فلنستبرئ ما عنده من وراء؛ نأتى حفصة فنسألها ونستكتمها ، فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر، ولا تسمى له أحداً، إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها، فلقيت عمر في ذلك ، فعرفت الغضب في وجهه، وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك، فقال: لو علمت من هم لسؤت وجوهم ؛ أنت بيني وبينهم! أنشدك بالله؛ ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد، ويخطب فيهما للجمع ؛ قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبزة شعير، فصببنا عليها وهي حارة أسفل عكة لنا، فجعلناها هشة دسمة؛ فأكل منها وتطعم منها استطابة لها. قال: فأي مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء لنا ثخين كنا نربعه في الصيف، فنجعله تحتنا ، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه ، قال : يا حفصة؛ فأبلغيهم عني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فوضع الفضول مواضعها؛ وتبلغ بالتزجية ، وإني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها، ولأتبلغن بالتزجية؛ وإنما مثلى ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً ؛ فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ ، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه ، فأفضى إليه ، ثم اتبعه الثالث ، فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق بهما وكان معهما ؛ وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عطية ، عن أصحابه . والضحاك عن ابن عباس ، قال : لما افتتحت القادسية وصالح من صالح من أهل السواد وافتتحت دمشق ، وصالح أهل دمشق ، قال عمر للناس : اجتمعوا فأحضروني علمكم فيما أفاء الله على أهل القادسية وأهل الشأم . فاجتمع رأى عمر وعلي على أن يأخذوا من قبل القرآن ، فقالوا : " ماأفاء الله على رسوله من أهل القرى " - يعنى من الخمس - " فلله وللرسول " ؛ إلى الله وإلى الرسول ؛ من الله الأمر وعلى الرسول القسم " ولذي القربى واليتامى والمساكين.. " الآية ، ثم فسروا ذلك بالآية التي تليها : " للفقراء المهاجرين.. " الآية ، فأخذوا الأربعة أخماس على ما قسم عليه الخمس فيمن بدئ به وثنى وثلث ، وأربعة أخماس لمن أفاء الله عليه المغنم . ثم استشهدوا على ذلك أيضاً : " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " ، فقسم الأخماس على ذلك ، واجتمع على ذلك عمر وعلي ، وعمل به المسلمون بعده ، فبدأ بالمهاجرين ، ثم بالأنصار ، ثم التابعين الذين شهدوا معهم وأعانوهم ، ثم فوض الأعطية من الجزاء على من صالح أو دعى إلى الصلح من جزائه ، مردود عليهم بالمعروف ؛ وليس في الجزاء أخماس ، والجزاء لمن منع الذمة. ووفى لهم ممن ولى ذلك منهم؛ ولمن لحق بهم فأعانهم، إلا أن يؤاسوا بفضلة من طيب أنفس منهم من لم ينل مثل الذي نالوا.
قال الطبري: وفي هذه السنة - أعنى سنة خمس عشرة - كانت وقعات في قول سيف بن عمر، وفي قول ابن إسحاق : كان ذلك في سنة ست عشرة، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل؛ وكذلك ذلك في قول الواقدي.
نذكر الآن الأخبار التي وردت بما كان بين ما ذكرت من الحروب إلى انقضاء السنة التي ذكرت أنهم اختلفوا فيما كان فيها من ذلك: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: عهد عمر إلى سعد حين أمره بالسير إلى المدائن أن يخلف النساء والعيال بالعتيق، ويجعل معهم كثفا من الجند ، ففعل وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم . قالوا : وكان مقام سعد بالقادسية بعد الفتح شهرين في مكاتبة عمر في العمل بما ينبغي ، فقدم زهرة نحو اللسان - واللسان لسان البر الذي أدلعه في الريف ، وعليه الكوفة اليوم ، والحيرة قبل اليوم - والنخيرجان معسكر به ، فارفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم إليه ، فلحق بأصحابه . قالوا : فكان مما يلعب به الصبيان في العسكر وتلقيه النساء عليهم ، وهم على شاطئ العتيق ، أمر كان النساء يلعبن به في زرود وذي قار ؛ وتلك الأمواه حين أمروا بالسير في جمادى إلى القادسية ، وكان كلاماً أبدن فيه كالأوابد من الشعر ؛ لأنه ليس بين جمادى ورجب شئ :
العجب كل العجب ... بين جمادى ورجب
أمر قضاه قد وجب ... يخبره من قد شجب
تحت غبار ولجب خبر يوم برس قال : ثم إن سعدا ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله ، وبعد تقديم زهرة بن الحوية في المقدمات إلى اللسان ، ثم أتبعه عبد الله بن المعتم ، ثم أتبع عبد الله شرحبيل بن السمط ، ثم أتبعهم هاشم بن عتبة ، وقد ولاه خلافته ، عمل خالد بن عرفطة ، وجعل خالداً على الساقة ، ثم أتبعهم وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل الله إليهم ما كان في عسكر فارس من سلاح وكراع ومال ، لأيام بقين من شوال ، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة - والكوفة كل حصباء حمراء وسهلة حمراء مختلطتين - ثم نزل عليه عبد الله وشرحبيل، وارتحل زهرة حين نزلا عليه نحو المدائن ، فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى في جمع فناوشوه فهزمهم، فهرب بصبهري ومن معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم: النخيرجان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم؛ فأقاموا واستعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهري وقد نجا بطعنة، فمات منها.
كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال : طعن زهرة بصبهري في يوم برس ، فوقع في النهر فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل؛ ولما هزم بصبهري أقبل بسطام دهقان برس، فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخير الذين اجتمعوا ببابل.
يوم بابل
قالوا: ولما أتى بسطام زهرة بالخبر عن الذين اجتمعوا ببابل من فلال القادسية، أقام وكتب إلى سعد بالخبر. ولما نزل سعد على من بالكوفة مع هاشم بن عتبة، وأتاه الخبر عن زهرة باجتماع الفرس ببابل على الفيرزان، قدم عبد الله، وأتبعه شرحبيل وهاشماً، ثم ارتحل بالناس، فلما نزل عليهم برس، قدم زهرة فأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشما، واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل، وقد قالوا: نقاتلهم دستاً قبل أن نفترق ، فاقتتلوا ببابل ، فهزموهم في أسرع من لفت الرداء، فانطلقوا على وجوههم؛ ولم يكن لهم همة إلا الإفتراق، فخرج الهرمزان متوجها نحو الأهواز، فأخذها فأكلها ومهرجان قذق، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى ؛ فأخذها وأكل الماهين ، وصمد النخيرجان ومهران الرازي للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر ، ثم قطعا الجس، وأقام سعد ببابل أياماً ، وبلغه أن النخيرجان قد خلف شهريار ؛ دهقانا من دهاقين الباب بكوثى في جمع، فقدم زهرة ثم أتبعه الجنود، فخرج زهرة حتى ينزل على شهريار بكوثى بعد قتل فيومان والفرخان فما بين سورا والدير.
كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان سعد قدم زهرة من القادسية فمضى متشعباً في حربه وجنده، ثم لم يلق جمعاً فهزمهم إلا قدم، فأتبعهم لا يمرون بأحد إلا قتلوه ممن لحقوا به منهم أو أقام لهم، حتى إذا قدمه من بابل قدم زهرة بكير بن عبد الله الليثي وكثير بن شهاب السعدي أخا الغلاق حين عبر الصراة، فيلحقون بأخريات القوم وفيهم فيومان والفرخان؛ هذا ميساني وهذا أهوازي، فقتل بكير الفرخان، وقتل كثير فيومان بسورا. ثم مضى زهرة حتى جاوز سورا، ثم نزل، وأقبل هاشم حتى نزل عليه، وجاء سعد حتى ينزل عليهم، ثم قدم زهرة ، فسار تلقاء القوم، وقد أقاموا له فيما بين الدير وكوثى، وقد التخلف النخيرجان ومهران على جنودهما شهريار، دهقان الباب. ومضيا إلى المدائن، وأقام شهريار هنالك ، فلما التقوا بأكناف كوثى ؛ جيش شهريار وأوائل الخيل ، خرج فنادى: ألا رجل ، ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلى حتى أنكل به! فقال زهرة : لقد أردت أن أبارزك؛ فأما إذ سمعت قولك ، فإني لا أخرج إليك إلا عبداً؛ فإن أقمت له قتلك إن شاء الله ببغيك؛ وإن فررت منه فإنما فررت من عبد، وكايده ؛ ثم أمر أبا نباتة نائل بن جعشم الأعرجي - وكان من شجعان بني تميم - فخرج إليه، ومع كل واحد منهما الرمح، وكلاهما وثيق الخلق؛ إلا أن الشهريار مثل الجمل، فلما رأى نائلا ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى نائل رمحه ليعتنقه، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا، ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما، فوقع على نائل كأنه بيت ، فضغطه بفخذه، وأخذ الخنجر وأراغ حل أزرار درعه، فوقعت إبهامه في فم نائل، فحطم عظمهما، ورأى منه فتوراً، فثاوره فجلد به الأرض، ثم قعد على صدره، وأخذ خنجره، فكشف درعه عن بطنه، فطعنه في بطنه وجنبه حتى مات، فأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه، فذهبوا في البلاد، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد، فأتى به سعداً، فقال سعد: عزمت عليك يا نائل بن جعشم لما لبست سواريه وقباءه ودرعه، ولتركبن برذونه! وغنمه ذلك كله. فانطلق، فتدرع سلبه، ثم أتاه في سلاحه على دابته، فقال: اخلع سواريك إلا أن ترى حرباً فتلبسهما؛ فكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق.
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن محمد وطلحة والمهلب وعمر وسعيد ، قالوا : فأقام سعد بكوثى أياماً ، وأتى المكان الذي جلس فيه إبراهيم عليه السلام بكوثى ، فنزل جانب القوم الذين كانوا يبشرون إبراهيم ن وأتى البيت الذي كان فيه إبراهيم عليه السلام محبوساً ، فنظر إليه وصلى على رسول الله وعلى إبراهيم ، وعلى أنبياء الله صلوات الله عليهم ، وقرأ : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " .
حديث بهرسير في ذي الحجة سنة خمس عشرة في قول سيف
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد والنضر ، عن ابن الرفيل ، قالوا : ثم إن سعداً قدم زهرة إلى بهرسير ، فمضى زهرة من كوثى في المقدمات حتى ينزل بهرسير ، وقد تلقاه شيرزاذ بساباط بالصلح وتأدية الجزاء ، فأمضاه إلى سعد ، فأقبل معه وتبعته المجنبات ، وخرج هاشم ، وخرج سعد في أثره ، وقد فل زهرة كتيبة كسرى بوران حول المظلم ، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط ، ووقف لسعد حتى لحق به ، فوافق ذلك رجوع المقرط . أسد كان لكسرى قد ألفه وتخيره من أسود المظلم ؛ وكانت به كتائب كسرى التي تدعى بوران ، وكانوا يحلفون بالله كل يوم : لا يزول ملك فارس ما عشنا - ، فبادر المقرط الناس حين انتهى إليهم سعد ، فنزل إليه هاشم فقتله ، وسمى سيفه المتن ، فقبل سعد رأس هاشم ، وقبل هاشم قدم سعد ، فقدمه سعد إلى بهرسير ، فنزل إلى المظلم وقرأ : " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال " ، فلما ذهب من الليل هدأة ارتحل ، فنزل على الناس ببهرسير ، وجعل المسلمون كلما قدمت خيل على بهرسير وقفوا ثم كبروا ، فكذلك حتى نجز آخر من مع سعد ، فكان مقامه بالناس على بهرسير شهرين ، وعبروا في الثالث .
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب ، وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد ، وعلى الطائف يعلى بن منية ، وعلى اليمامة والبحرين عثمان ابن أبي العاص ، وعلى عمان حذيفة بن محصن ، وعلى كور الشأم أبو عبيدة ابن الجراح ، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص ، وعلى قضائها أبو قرة ؛ وعلى البصرة وأرضها المغيرة بن شعبة .
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست عشرة
قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة بهر سير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزد جرد بن شهريار.ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهر سيركتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: لما نزل سعد على بهر سير بثّ الخيول، فأغارت على ما بين دجلة إلى عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلاّح، فحسبوا، فأصاب كلّ منهم فلاحا؛ وذلك أنّ كلهم فارس ببهرسير. فخندق لهم، فقال له شيرزاذ دهقان ساباط: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا؛ إنما هؤلاء علوج لأهل فارس لم يجرّوا إليك، فدعهم إلىّ حتى يفرق لكم الرأي. فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم.
وكتب سعد إلى عمر: إنّا وردنا بهر سير بعد الذي لقينا فيما بين القادسيّة وبهر سير، فلم يأتنا أحد لقتال؛ فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام؛ فر رأيك.
فأجابه: إنّ من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فلما جاء الكتاب خلّى عنهم. وراسله الدّهاقين، فدعاهم إلى الإسلام والرجوع، أو الجزاء ولهم الذمّة والمنعة، فتراجعوا على الجزاء والمنعة ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، ومن دخل معهم؛ فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادىّ إلاّ أمن واغتبط بملك الإسلام. واستقبلوا الخراج؛ وأقاموا على بهر سير شهرين يرمونها بالمجانيق ويدبّون إليهم بالدبّابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة.
كتب إلىّ السّرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثيّ، عن أبيه، قال: نزل المسلمون على بهرسير، وعليها خنادقها وحرسها وعدّة الحرب، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاذ المجانيق، فنصب على أهل بهرسير عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرىّ، عن ابن الرّفيل، عن أبيه، قال: فلما نزل سعد على بهرسير، كانت العرب مطيفة بها، والعجم متحصّنة فيها، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في جماعتهم وعدّتهم لقتال المسلمين؛ فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا في رجّالة وناشبة، وتجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصّبر، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم، فكذّبوا وتولوا؛ وكانت على زهرة بن الجويّة درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد! فقال: ولم؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إنّي لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلّه ثم أتاني من هذا الفصم، حتى يثبت فيّ! فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشّابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم؛ فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعوني، فإنّ نفسي معي ما دامت فيّ، لعلّي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد، عن عائشة أمّ المؤمنين، قالت: لما فتح الله عزّ وجلّ وقتل رستم وأصحابه بالقادسيّة وفضّت جموعهم، اتّبعهم المسلمون حتى نزلوا المدائن، وقد ارفضّت جموع فارس، ولحقوا بجبالهم، وتفرّقت جماعتهم وفرسانهم، إلاّ أنّ الملك مقيم في مدينتهم، معه من بقي من أهل فارس على أمره.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بن فلان الهجيمىّ، عن أبيه ومحمد بن عبد الله،عن أنس بن الحليس، قال: بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إنّ الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فبدر الناس أو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو ولا نحن؛ فرجع الرّجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفزّر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحقّ ما أدري ما هو؛ إلاّ أنّ علىّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير؛ وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد؛ فجاءنا فقال: يا أبا مفزّر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهرّاب؛ فحدّثه بمثل حديثه إيّانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم؛ وإنّ مجانيقنا لتخطر عليهم؛ فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلاّ رجل نادى بالأمان فآمنّاه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسوّرها الرّجال، وافتتحناها، فما وجدنا فها شيئا ولا أحدا؛ إلاّ أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأيّ شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: وايله ألا إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم، تردّ علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك؛ ما هذا إلاّ شئ ألقى على في هذا الرجل لننتهي؛ فأرزوا إلى المدينة القصوى.
كتب إلىّ السرىّ عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما دخل سعد والمسلمون بهرسير أنزل سعد الناس فيها، وتحوّل العسكر إليها، وحاول العبور فوجدوهم قد ضمّوا السفن فيما بين البطائح وتكريت. ولما دخل المسلمون بهرسير - وذلك في جوف الليل - لاح لهم الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر؟؟؟! أبيض كسرى؛ هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا. فقال محمد وطلحة: وذلك ليلة نزلوا على بهرسير.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن - يعني بهرسير - وهي المدينة الدّنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير. قال: ثمّ لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد؛ فدخلوها وما فيها أحد.
حديث المدائن القصوى