كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري
قال أبو جعفر: وفيها قدم وفد زبيد على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن معد يكرب في أناس من بني زبيد، فأسلم، وكان عمرو بن معد يكرب قد قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس؛ إنك سيد قومك اليوم؛ وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول، إني نبي؛ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه؛ فإن كان نبياً كما يقول؛ فإنه لا يخفى عليك. إذا لقيناه اتبعناه ؛ وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه ذلك قيس بن مكشوح وسفه رأيه.
فركب عمرو بن معد يكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقه وآمن به؛ فلما بلغ ذلك قيساً أوعد عمراً، وتحفظ عليه ، وقال: خالفني وترك رأيي! فقال عمرو في ذلك:
أمرتك يوم ذي صنعا ... ء أمراً بادياً رشده
أمرتك باتقاء الل ... ه والمعروف تاتعده
خرجت من المنى مثل ال ... حمار أعاره وتده
تمناني على فرس ... عليه جالساً أسده
على مفاضة كالنه ... ى أخلص ماءه جدده
ترد الرمح مثنى ال ... سنان عوائراً قصده
فلو لا قيتني لاقي ... ت ليثاً فوقه لبده
تلاقي شنبثاً شثن ال ... براثن ناشزاً كتده
يسامي القرن إن قرن ... تيممه فيعتضده
فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده
فيدمغه فيحطمه ... فيخضمه فيزد رده
ظلوم الشرك فيما أحد ... رزت أنيابه ويده
متى ما يغد أو يغدى ... به فقبوله برده
فيخطر مثل خطر الفح ... ل فوق جرانه زبده
فأمسى يعتريه من ال ... بعوض ممنعاً بلده
فلا تتمننى وتمن ... غيري ليناً كتده
وبوئنىله وطناً ... كثيراً حوله عدده
قال: فأقام عمرو بن معد يكرب في قومه من بني زبيد؛ وعليهم فروة ابن مسيك المرادي، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو فقال حين ارتد:
وجدنا ملك فروة شر ملك ... حماراً ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ... ترى الحولاء من خبث وغدر
قدوم فروة بن مسيك المرادي وقد كان قدم على رسول الله في هذه السنة - أعني سنة عشر - قبل قدوم عمرو ابن معد يكرب، فروة بن مسيك المرادي مفارقاً لملوك كنده. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال: قدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة ، ومعانداً لهم ؛ وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ؛ حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له الرزم ؛ وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك ، ففضحهم يومئذ ، وفي ذلك يقول فروة بن مسيك :
فإن نغلب فغلابون قدماً ... وإن نهزم فغير مهزمينا
وإن نقتل فلا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حيناً فحينا
فبيناه يسر به ويرضى ... ولو لبست غضارته سنينا
إذ انقلبت به كرات دهر ... فألقى للأولى غبطوا طحينا
ومن يغبط بريب الدهر منهم ... يجد ريب الزمان له خؤونا
فلو خلد الملوك إذاً خلدنا ... ولو بقي الكرام إذا بقينا
فأفني ذا كم سروات قومي ... كما أفني القرون الأولينا
ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة قال :
لما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها
يممت راحلتي أؤم محمداً ... أرجو فواضلها وحسن ثرائها
قال : فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله - فيما بلغني - : يا فروة ، هل ساءك ما أصاب قومك يومك يوم الرزم ؟ فقال : يا رسول الله ، ومن ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الرزم ؛ لا يسوءه ذلك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً . فاستعمله رسول الله على مراد وزبيد ومذحج كلها ؛ وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، وكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا أبو أسامة ، قال : أخبرنا مجالد ، قال : حدثنا عامر ، عن فروة بن مسيك ، قال : قال رسول الله : أكرهت يومك ويوم همدان ؟ فقلت : إي والله ! أفنى الأهل والعشيرة ؛ فقال : أما إنه خير لمن بقي .
قدوم الجارود في وفد عبد القيس وفيها قدم وفد عبد القيس ، فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي ، أخو عبد القيس في وفد عبد القيس وكان نصرانياً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسن ، قال : لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه ؛ فعرض عليه الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه ، فقال : يا محمد ، إني قد كنت على دين ؛ وإني تارك ديني لدينك ؛ فتضمن لي ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه . قال : فأسلم وأسلم معه أصحابه ، ثم سألوا رسول الله الحملان ؛ فقال : والله ما عندي ما أحملكم عليه ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ؛ أفنتبلغ عليها إلى بلادنا ؟ قال : إياكم وإياها ؛ فإنما ذلك حرق النار . قال : فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه - وكان حسن الإسلام صلباً على دينه - حتى هلك ؛ وقد أدرك الردة ، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور ، المنذر ابن النعمان بن المنذر ، أقام الجارود فشهد شهادة الحق ودعا إلى الإسلام ، فقال : يأيها الناس ؛ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنهى من لم يشهد .
وقد كان رسول الله بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبدي ، فأسلم فحسن إسلامه ؛ ثم هلك بعد وفاة رسول الله ، وقبل ردة أهل البحرين ، والعلاء أمير عنده لرسول الله على البحرين .
قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة وفيها قدم وفد بني حنيفة ؛ حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة ؛ فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب ، فكان منزلهم في دار ابنة الحارث ؛ امرأة من الأنصار ، ثم من بني النجار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني بعض علمائنا من أهل المدينة ، أن بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول الله جالس في أصحابه ، ومعه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب ، كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله : لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك !
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة ، قال : كان حديث مسيلمة على غير هذا ؛ زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم ؛ فلما أسلموا ذكروا له مكانه ، فقالوا : يا رسول الله ؛ إنا قد خلفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظهما لنا . قال : فأمر له رسول الله بمثل ما أمر به للقوم ؛ وقال : أما إنه ليس بشركم مكاناً ، يحفظ ضيعة أصحابه ؛ وذلك الذي يريد رسول الله . قال : ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله ؛ فلما انتهى إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم ، وقال : إني قد أشركت في الأمر معه ، وقال لوفده : ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني : ((أما إنه ليس بشركم مكاناً)) ! ما ذلك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت معه ؛ ثم جعل يسجع السجعات ، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن : ((لقد أنعم الله على الحبلي ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق محشى)) ، ووضع عنهم الصلاة ؛ وأحل لهم الخمر والزنا ، ونحو ذلك . فشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي ، فأصفقت بنو حنيفة على ذلك ، فالله أعلم أي ذلك كان .
قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة قال أبو جعفر : وفيها وفد كندة ؛ رأسهم الأشعث بن قيس الكندي ؛ فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن شهاب الزهري ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث ابن قيس في ستين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول الله مسجده ، وقد رجلوا جممهم ، وتكحلوا ، عليهم جبب الحبرة ؛ قد كففوها بالحرير ؛ فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ألم تسلموا ؟ قالوا : بلى ، قال : فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟ قال : فشقوه منها فألقوه ، ثم قال الأشعث : يا رسول الله ؛ نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار ، فتبسم رسول الله ، ثم قال : ناسبوا بهذا النسب العباس ابن عبد المطلب وربيعة بن الحارث . قال : وكان ربيعة والعباس تاجرين ؛ فكانا إذا ساحا في أرض العرب فسئى من هما ؟ قالا : نحن بنو آكل المرار ؛ يتعززان بذلك ؛ وذلك أن كندة كانت ملوكاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ، ولا ننتفي من أبينا . فقال الأشعث بن قيس : هل عرفتم يا معشر كندة ! والله لا أسمع رجلاً قالها بعد اليوم إلا ضربته حده ثمانين .
قال الواقدي : وفيها قدم وفد محارب وفيها قدم وفد الرهاويين .
وفيها قدم وفد العاقب والسيد من نجران ، فكتب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح .
قال : وفيها قدم وفد عبس .
وفيها قدم وفد صدف ، وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع .
قال : وفيها قدم عدي بن حاتم الطائي ، في شعبان .
وفيها مات أبو عامر الراهب عند هرقل ، فاختلف كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة في ميراثه ، فقضى به لكنانة بن عبد ياليل . قال : هما من أهل المدر ، وأنت من أهل الوبر .
قدوم رفاعة بن زيد الجذامي قال : وفيها قدم وفد خولان ، وهم عشرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبيبي ؛ فأهدى لرسول الله غلاماً ، وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول الله إلى قومه كتاباً ، في كتابه : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد ؛ إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى الله وإلى رسوله ؛ فمن أقبل فمن حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين. فلما قدم رفاعة على قومه ، أجابوا وأسلموا، ثم ساروا إلى الحره؛ حرة الرجلاء فنزلوها .
فحدثنا ابن حميد ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن رجال من جذام كانوا بها علماء، أن رفاعة بن زيد، لما قدم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام ، فاستجابوا له، لم يلبث أن أقبل دحيه بن خليفة الكلبي من عند قيصر صاحب الروم، حين بعثه رسول الله ومعه تجارة له؛ حتى إذا كان بواد من أوديتها، يقال له: شنار؛ أغار على دحية الهنيد بن عوض وابنه عوص بن الهنيد ، الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأصابا كل شيء كان معه؛ فبلغ ذلك نفراً من بني الضبيب قوم رفاعة ممن كان أسلم وأجاب ، فنفروا إلى الهنيد وابنه ، فيهم من بني الضبيب النعمان بن أبي جعال، حتى لقوهم ، فاقتتلوا ، وانتمى يومئذ قرة بن أشقر الضفاري ثم الضليعي ، فقال : أنا ابن لبنى ؛ ورمى النعمان بن أبي جعال بسهم فأصاب ركبته ، فقال حين أصابه : خذها وأنا ابن لبنى - وكانت له أم تدعى لبنى - قال : وقد كان حسان بن ملة الضبيبي قد صحب دحية بن خليفة الكلبي قبل ذلك ؛ فعلمه أم الكتاب ؛ فاستنقذوا ما كان في يد الهنيد وابنه عوص ، فردوه على دحية ؛ فسار دحية حتى قدم على رسول الله ، فأخبره خبره ، واستسقاه دم الهنيد وابنه ؛ فبعث إليهم رسول الله زيد بن حارثة - وذلك الذي هاج غزوة زيد جذاماً ، وبعث معه جيشاً - وقد وجهت غطفان من جذام كلها ووائل ومن كان من سلامان وسعد بن هذيم حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله ؛ فنزلوا بالحرة ؛ حرة الرجلاء ، ورفاعة بن زيد بكراع ربة ولم يعلم ، ومعه ناس من بني الضبيب وسائر بني الضبيب بواد من ناحية الحرة مما يسيل مشرقاً ، وأقبل جيش زيد بن حارثة من ناحية الأولاج ؛ فأغار بالفضافض من قبل الحرة ، وجمعوا ما وجدوا من مال وأناس ، وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين من بني الأحنف ، ورجلاً من بني خصيب ؛ فلما سمعت بذلك بنو الضبيب والجيش بفيفاء مدان ، ركب حسان بن ملة على فرس لسويد بن زيد يقال لها العجاجة ، وأنيف بن ملة على فرس لملة ، يقال لها رغال ، وأبو زيد بن عمرو على فرس له يقال لها شمر ؛ فانطلقوا حتى إذا دنوا من الجيش ، قال أبو زيد لأنيف بن ملة : كف عنا وانصرف ؛ فإنا نخشى لسانك ، فانصرف فوقف عنهما ، فلم يبعدا منه ؛ فجعل فرسه تبحث بيدها وتوثب ؛ فقال : لأنا أضن بالرجلين منك بالفرسين ؛ فأرخى لها حتى أدركهما ؛ فقالا له : أما إذ فعلت ما فعلت ، فكف عنا لسانك ولا تشأمنا اليوم ، وتواطئوا ألا يتكلم منهم إلا حسان بن ملة ؛ وكانت بينهم كلمة في الجاهلية ؛ قد عرفوها ؛ بعضهم من بعض ؛ إذا أراد أحدهم أن يضرب بسيفه قال : " ثوري " .
فلما برزوا على الجيش أقبل القوم يبتدرونهم ؛ فقال حسان : إنا قوم مسلمون ؛ وكان أول من لقيهم رجل على فرس أدهم بائع رمحه يقول معرضه : كأنما ركزه على منسج فرسه جد وأعتق ؛ فأقبل يسوقهم ، فقال أنيف : " ثوري " ، فقال حسان : مهلاً ! فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال له حسان : إنا قوم مسلمون ، فقال له زيد : فاقرأ أم الكتاب ، فقرأها حسان ، فقال زيد بن حارثة : نادوا في الجيش ، إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر ؛ و إذا أخت لحسان ابن ملة - وهي امرأة أبي وبر بن عدي بن أمية بن الضبيب - في الأساري . فقال له زيد : خذها ، فأخذت بحقويه ، فقالت أم الفزر الضليعية : أتنطلقون ببناتكم ، وتذرون أمهاتكم ! فقال أحد بني خصيب : إنها بنو الضبيب ! وسحرت ألسنتهم سائر اليوم ؛ فسمعها بعض الجيش ؛ فأخبر بها زيد بن حارثة ؛ فأمر بأخت حسان ؛ ففكت يداها من حقويه ، فقال لها : اجلسي مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه ؛ فرجعوا ؛ ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه ، فأمسوا في أهليهم ؛ واستعتموا ذوداً لسويد بن زيد ؛ فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد ؛ وكان ممن ركب إلى رفاعة تلك الليلة أبو زيد بن عمرو وأبو شماس بن عمرو ، وسويد بن زيد ، وبعجة بن زيد ، وبرذع بن زيد ، وثعلبة بن عمرو ، ومخرية بن عدي ، وأنيف بن ملة ، حسان بن ملة ؛ حتى صبحوا رفاعة ابن زيد بكراع ربة بظهر الحرة على بئر هنالك من حرة ليلى ، فقال له حسان بن ملة : إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام يجررن أساري قد غرها كتابك الذي جئت به ! فدعا رفاعة بن زيد بجمل له ؛ فجعل يشكل عليه رحله ؛ وهو يقول :
هل أنت حي أو تنادي حيا ثم غدا وهم معه بأمية بن ضفارة أخي الخصيبي المقتول مبكرين من ظهر الحرة ، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال ؛ فلما دخلوا انتهوا إلى المسجد ، ونظر إليه رجل من الناس ، فقال لهم : لا تنيخوا إبلكم فتقطع أيديهن ، فنزلوا عنها وهن قيام ؛ فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم ، ألاح إليهم بيده : أن تعالوا من وراء الناس ؛ فلما استفتح رفاعة بن زيد المنطق قام رجل من الناس ، فقال : إن هؤلاء يا نبي الله قوم سحرة ؛ فرددها مرتين ؛ فقال رفاعة : رحم الله من لم يجزنا في يومنا هذا إلا خيراً ! ثم دفع رفاعة كتابه إلى رسول الله الذي كان كتبه له ، فقال : دونك يا رسول الله قديماً كتابه ، حديثاً غدره . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ يا غلام وأعلن ؛ فلما قرأ كتابهم واستخبرهم فأخبروه الخبر ، قال رسول الله : كيف أصنع بالقتلى ؟ ثلاث مرات ؛ فقال رفاعة : أنت يا رسول الله أعلم ، لا نحرم عليك حلالاً ، ولا نحل لك حراماً ؛ فقال أبو زيد بن عمرو : أطلق لنا يا رسول الله من كان حياً ، ومن كان قد قتل فهو تحت قدمي هاتين . فقال رسول الله : صدق أبو زيد ، اركب معهم يا علي ، فقال علي : يا رسول الله ؛ إن زيداً لن يطيعني ، قال : خذ سيفي ، فأعطاه سيفه ، فقال علي : ليس لي راحلة يا رسول الله أركبها ، فحمله رسول الله على جمل لثعلبة بن عمرو ، يقال له المكحال ؛ فخرجوا ، فإذا رسول لزيد بن حارثة على ناقة من إبل أبي وبر ، يقال لها الشمر ؛ فأنزلوا عنها ، فقال : يا علي ما شأني ؟ فقال له علي : ما لهم عرفوه فأخذوه . ثم ساروا حتى لقوا الجيش بفيفاء الفحلتين ، فأخذوا ما في أيديهم من أموالهم ؛ حتى كانوا ينزعون لبد المرأة من تحت الرحل وفد بني عامر بن صعصعة حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر ؛ فيهم عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر ، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ؛ وكان هؤلاء الثلاثة رءوس القوم وشياطينهم .
فقدم عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به ؛ وقد قال له قومه : يا عامر ؛ إن الناس قد أسلموا فأسلم ؛ قال : والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ؛ أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ! ثم قال لأريد : إذا قدمت على الرجل فإني شاغل عنك وجهه ؛ فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف ؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل : يا محمد خالني ؛ قال : لا والله حتى تؤمن بالله وحده ، قال : يا محمد خالني ، قال : وجعل يكلمه فينتظر من أربد ما كان أمره به ، فجعل أربد لا يحير شيئاً ، فلما رأى عامر ما يصنع أربد ، قال : يا محمد خالني ، قال : لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له . فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما والله لأملأنها عليك خيلاً حمراً ورجالاً ، فلما ولى قال رسول الله : اللهم اكفنى عامر بن الطفيل ، فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد : ويلك يا أربد ! أين ما كنت أوصيتك به ! والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف على نفسي عندي منك ، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً . قال : لا تعجل علي لا أبا لك ! والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك ، أفأضربك بالسيف ! قال عامر بن الطفيل :
بعث الرسول بما ترى فكأنما ... عمداً نسن على المقانب غارا
ولقد وردن بنا المدينة شزباً ... ولقد قتلن بجوها الأنصارا
وخرجوا راجعين إلى بلادهم ؛ حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله ؛ وإنه في بيت امرأة من بني سلول ؛ فجعل يقول : يا بني عامر ؛ أغدة كغدة البكر ؛ وموت في بيت امرأة من بني سلول ! ثم خرج أصحابه حين واووه ؛ حتى قدموا أرض بني عامر ؛ فلما قدموا أتاهم قومهم ، فقالوا : ما وراءك يا أربد ؟ قال : لا شيء ؛ والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله ؛ فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين ، معه جمل له يبيعه ؛ فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما . وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه .
قدوم زيد الخيل في وفد طيئ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ ؛ فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم ، فلما انتهوا إليه كلموه ؛ وعرض عليهم رسول الله الإسلام فأسلموا فحسن إسلامهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن رجال من طيئ : (( ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل ؛ فإنه لم يبلغ فيه كل ما فيه )) . ثم سماه زيد الخير ؛ وقطع له فيداً وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك . فخرج من عند رسول الله راجعاً إلى قومه ، فقال رسول الله : إن ينج زيد من حمى المدينة ! سماها رسول الله باسم غير الحمى وغير أم ملدم فلم يثبته - فلما انتهى من بلاد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى ؛ فمات بها ، فلما أحس زيد بالموت قال :
أمر تحل قومي المشارق غدوة ... وأترك في بيت بفردة منجد
ألا رب يوم لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يجهد
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معها من كتبه التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرقتها بالنار .
كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه وفي هذه السنة كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى أنه أشرك معه في النبوة . حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان مسيلمة بن حبيب الكذاب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ؛ فإني قد أشركت في الأمر معك ؛ وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون .
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن شيخ من أشجع قال ابن حميد : أما علي بن مجاهد فيقول : عن أبي مالك الأشجعي ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي ، عن أبيه نعيم - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرآ كتاب مسيلمة: فما تقولان أنتما ؟ قالا : نقول كما قال ؛ فقال : أما والله لولا أم الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما .
ثم كتب إلى مسيلمة : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . سلام على من اتبع الهدى ؛ أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . قال : وكان ذلك في آخر سنة عشر .
قال أبو جعفر : وقد قيل : إن دعوى مسيلمة ومن ادعى النبوة من الكذابين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كانت بعد انصراف النبي من حجه المسمى حجة الوداع ؛ ومرضته التي مرضها التي كانت منها وفاته صلى الله عليه وسلم . حدثنا عبيد الله بن سعيد الزهري ، قال : حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني سيف بن عمر - وكتب بذلك إلى السري يقول : حدثنا شعيب ابن إبراهيم التميمي ، عن سيف بن عمر التميمي الأسيدي - قال : حدثنا عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع الأنصاري ، عن عبيد مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي مويهبة مولي رسول الله ، قال : لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ما قضى حجة التمام ، فتحلل به السير ، وطارت به الأخبار لتحلل السير بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قد اشتكى ؛ فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة ؛ وجاء الخبر عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وثب طليحة في بلاد بني أسد بعد ما أفاق النبي ، ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي توفاه الله فيه .
خروج الأمراء والعمال على الصدقات
قال أبو جعفر : وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع البلاد التي دخلها الإسلام عمالاً على الصدقات . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات ، على كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ؛ فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ؛ فخرج عليه العنسي وهو بها ، وبعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت على صدقتها ، وبعث عدي بن حاتم على الصدقة ؛ صدقة طئ وأسد ، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة ، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم ، وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين ، وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ، ويقدم عليه بجزيتهم ..
حجة الوداع فلما دخل ذو القعدة من هذه السنة - أعني سنة عشر - تجهز النبي إلى الحج ، فأمر الناس بالجهاز له . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ؛ عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ؛ حتى إذا كان بسرف ، وقد ساق رسول الله معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدى ، وحضت ذلك اليوم ؛ فدخل علي وأنا أبكي ؛ فقال : مالك يا عائشة ؟ لعلك نفست ! فقلت : نعم ، لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر ، قال : لا تفعلي ؛ لا تقولن ذلك ؛ فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج ؛ إلا أنك لا تطوفين بالبيت . قالت : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ؛ فحل كل من كان لا هدى معه ، وحل نساؤه بعمرة ؛ فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير ، فطرح في بيتي ، قلت : ما هذا ؟ قالوا : ذبح رسول الله عن نسائه البقر ؛ حتى إذا كانت ليلة الحصبة ، بعثني رسول الله مع أخي عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأقضي عمرتي من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى نجران ، فلقيه بمكة ؛ وقد أحرم ؛ فدخل علي على فاطمة ابنة رسول الله ، فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا ابنة رسول الله ؟ قالت : أمرنا رسول الله أن نحل بعمرة ؛ فأحللنا ، قال : ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول الله : انطلق فطف بالبيت ، وحل كما حل أصحابك ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أهللت بما أهللت به ؛ قال : ارجع فاحلل كما حل أصحابك ، قال : قلت : يا رسول الله ، إني قلت حين أحرمت : اللهم إني أهللت بما أهل به عبدك ورسولك ؛ قال : فهل معك من هدى ؟ قال : قلت : لا ، قال : فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله ؛ حتى فرغا من الحج ، ونحر رسول الله الهدى عنهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، قال : لما أقبل علي بن أبي طالب من اليمن ليلقي رسول الله بمكة تعجل إلى رسول الله ، واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل ، فكسا رجالاً من القوم حللاً من البز الذي كان مع علي بن أبي طالب ؛ فلما دنا جيشه ؛ خرج علي ليلقاهم ؛ فإذا هم عليهم الحلل ، فقال : ويحك ما هذا ! قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، فقال : ويلك ! انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول الله . قال : فانتزع الحلل من الناس ، وردها في البز ؛ وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب ابن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد ، قال : شكا الناس علي بن أبي طالب ، فقام رسول الله فينا خطيباً ، فسمعته يقول : يأيها الناس ؛ لا يشكوا علياً ، فو الله إنه لأخشى في ذات الله - أو في سبيل الله - من أن يشكي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، قال : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ؛ فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ؛ وخطب الناس خطبته التي بين للناس فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ ثم قال : أيها الناس ، اسمعوا قولي ؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، بهذا الموقف أبداً . أيها الناس ؛ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ؛ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وحرمة شهركم هذا ؛ وستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم . وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن كل رباً موضوع ، ولكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا . وإن ربا العباس بن عبد الطلب موضوع كله ، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعاً في بني ليث ، فقتلته بنو هذيل - فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .
أيها الناس ؛ إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ؛ ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم .
أيها الناس : " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله " ، ويحرموا ما أحل الله ؛ وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ؛ و " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم " ، ثلاثة متوالية ؛ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .
أما بعد أيها الناس ؛ فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين يفاحشة مبينة ؛ فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ؛ فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي ؛ فإني قد بلغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ؛ كتاب الله وسنة نبيه .
أيها الناس ، اسمعوا قولي فإني قد بلغت ، واعقلوه . تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ؛ فلا تظلموا أنفسكم . اللهم هل بلغت ! قال : فذكر أنهم قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله : اللهم أشهد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : كان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله وهو على عرفة ، ربيعة بن أمية بن خلف ، قال : يقول له رسول الله : قل : أيها الناس ؛ إن رسول الله يقول : هل تدرون أي شهر هذا ! فيقولون : الشهر الحرام ، فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا . ثم قال : قل : إن رسول الله ، يقول : أيها الناس ؛ فهل تدرون أي بلد هذا ؟ قال : فيصرخ به ، فيقولون : البلد الحرام ، قال : فيقول : قل : إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة بلدكم هذا . ثم قال : قل : أيها الناس ، هل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال لهم ، فقالوا : يوم الحج الأكبر ، فقال : قل : إن الله حرم عليكم أموالكم ودماءكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، أن رسول الله حين وقف بعرفة ، قال : هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف . وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة : هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف . ثم لما نحر بالمنحر ، قال : هذا المنحر ، وكل مني منحر ؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج وقد أراهم مناسكهم ، وعلمهم ما افترض عليهم في حجهم في المواقف ورمى الجمار والطواف بالبيت ، وما أحل لهم في حجهم وما حرم عليهم ؛ فكانت حجة الوداع وحجة البلاغ ؛ وذلك أن رسول الله لم يحج بعدها .
ذكر جملة الغزوات
قال أبو جعفر : وكانت غزواته بنفسه ستاً وعشرين غزوة ؛ ويقول بعضهم : هن سبع وعشرون غزوة ؛ فمن قال : هي ست وعشرون ، جعل غزوة النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وغزوته من خيبر إلى وادي القرى غزوة واحدة ؛ لأنه لم يرجع من خيبر حين فرغ من أمرها إلى منزله ؛ ولكنه مضى منها إلى وادي القرى ؛ فجعل ذلك غزوة واحدة . ومن قال : هي سبع وعشرون غزوة ، جعل غزوة خيبر غزوة ، وغزوة وادي القرى غزوة أخرى ؛ فيجعل العدد سبعاً وعشرين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ستاً وعشرين غزوة . أول غزوة غزاها ودان ؛ وهي غزوة الأبواء ، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى ، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر ، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل فيها صناديد قريش وأشرافهم ، وأسر فيها من أسر ، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ؛ ماء لبنى سليم ، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم غزوة غطفان إلى نجد ؛ وهي غزوة ذي أمر ؛ ثم غزوة بحران ؛ معدن بالحجاز من فوق الفرع ، ثم غزوة أحد ، ثم غزوة حمراء الأسد ، ثم غزوة بني النضير ، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل ، ثم غزوة بدر الآخرة ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة الخندق ، ثم غزوة بني قريظة ، ثو غزوة بني لحيان من هذيل ، ثم غزوة ذي قرد ، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة ، ثم غزوة الحديبية - لا يريد قتالاً ، فصده المشركون - ثم غزوة خيبر ؛ ثم اعتمر عمرة القضاء ، ثم غزوة الفتح ؛ فتح مكة ، ثم غزوة حنين ، ثم غزوة الطائف ، ثم غزوة تبوك . قاتل منها في تسع غزوات : بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حشمة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ستاً وعشرين غزوة . ثم ذكر نحو حديث ابن حميد ، عن سلمة .
قال محمد بن عمر : مغازي رسول الله معروفة مجتمع عليها ، ليس فيها اختلاف بين أحد في عددها ؛ وهي سبع وعشرون غزوة ؛ وإنما اختلفوا بينهم في تقديم مغزاة قبل مغزاة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري ، عن محمد بن ثابت الأنصاري ، قال : سئل ابن عمر : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سبعا وعشرين غزوة ، فقيل لابن عمر : كم غزوت معه ؟ قال : إحدى وعشرين غزوة ؛ أولها الخندق ، وفاتني ست غزوات ، وقد كنت حريصاً ، قد عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كل ذلك يردني فلا يجيزني حتى أجازني في الخندق .
قال الواقدي : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة ، ذكر من ذلك التسع التي ذكرتها عن ابن إسحاق ؛ وعد معها غزوة وادي القرى ، وأنه قاتل فيها فقتل غلامه مدعم ، رمى بسهم . قال : وقاتل يوم الغابة ، فقتل من المشركين ، وقتل محرز بن نضلة يؤمئذ .
ذكر جملة السرايا والبعوث
واختلف في عدد سراياه صلى الله عليه وسلم ، حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه - فيما بين أن قدم المدينة وبين أن قبضه الله - خمساً وثلاثين بعثاً وسرية : سرية عبيدة بن الحارث إلى أحياء من ثنية المرة ، وهو ماء بالحجاز ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية العيص - وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة - وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز ، وغزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة ، وغزوة زيد ابن حارثة القردة ؛ ماء من مياه نجد ، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع ، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة ، وغزوة أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق ، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر ، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن ، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث - الكديد ، وأصاب بلملوح ، وغزوة علي بن أبي طالب إلى بني عبد الله بن سعد من أهل فدك ، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمى أرض بني سليم ؛ أصيب بها هو وأصحابه جميعاً ، وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة ، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطناً ؛ ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد قتل فيها مسعود بن عروة ، وغزوة محمد بن مسلمة ؛ أخي بني الحارث إلى القرطاء من هوازن ، وغزوة بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك ، وغزوة بشير بن سعد أيضاً إلى يمن وجناب ؛ بلد من أرض خيبر - وقيل يمن وجبار ؛ أرض من أرض خيبر ، وغزوة زيد بن حارثة الجموم ؛ من أرض بني سليم ، وغزوة زيد بن حارثة أيضاً جذام من أرض حسمي - وقد مضى ذكر خبرها قبل - وغزوة زيد بن حارثة أيضاً وادي القرى ، لقي بني فزارة .
وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين : إحداهما التي أصاب الله فيها يسير بن رزام - وكان من حديث يسير بن رزام اليهودي أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إليه رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه ؛ منهم عبد الله بن أنيس حليف بني سلمة ، فلما قدموا عليه كلموه وواعدوه وقربوا له ، وقالوا له : إنك إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك ؛ فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود ؛ فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره وردفه حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم يسير بن رزام على سيره إلى رسول الله ، ففطن له عبد الله ابن أنيس وهو يريد السيف ؛ فاقتحم به ؛ ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه يسير بمخرش في يده من شوحط ، فأمه في رأسه ، وقتل الله يسيرا ؛ ومال كل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلاً واحداً أفلت على راحلته ؛ فلما قدم عبد الله ابن أنيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه .
وغزوة عبد الله بن عتيك إلى خيبر ؛ فأصاب بها أبا رافع ؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه - فيما بين بدر وأحد - إلى كعب بن الأشرف فقتلوه ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي - وهو بنخلة أو بعرنة - يجمع لرسول الله ليغزوة ، فقتله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبد الله بن أنيس ، قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنه بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني - وهو بنخلة أو بعرنة - فأته فاقتله ، قال : قلت : يا رسول الله ؛ انعته لي حتى أعرفه ، قال : إذا رأيته أذكرك الشيطان ! إنه آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة . قال : فخرجت متوشحاً سيفي حتى دفعت إليه وهو في ظعن يرتاد لهن منزلاً حيث كان وقت العصر ؛ فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة ، فأقبلت نحوه ، وخشيت أن تكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة ، فصليت وأنا أمشي نحوه ، أومي برأسي إيماء ؛ فلما انتهيت إليه قال : من الرجل ؟ قلت : رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل ؛ فجاءك لذلك ، قال : أجل ، أنا في ذلك ؛ فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته ؛ ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه . فلما قدمت على رسول الله وسلمت عليه ورآني ، قال : أفلح الوجه ! قال : قلت : قد قتلته . قال : صدقت ! ثم قام رسول الله فدخل بيته ، فأعطاني عصا ، فقال : أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس . قال : فخرجت بها على الناس ، فقالوا : ما هذه العصا ؟ قلت : أعطانيها رسول الله ، وأمرني أن أمسكها عندي ، قالوا : أفلا ترجع إلى رسول الله فتسأله لم ذلك ؟ فرجعت إلى رسول الله ، فقلت : يا رسول الله ، لم أعطيتني هذه العصا ؟ قال : آية ما بيني وبينك يوم القيامة ؛ إن أقل الناس المتخصرون يومئذ ؛ فقرنها عبد الله بسيفه ، فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه ، ثم دفنا جميعاً .
ثم رجع الحديث إلى حديث عبد الله بن أبي بكر . قال : وغزوة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام ، وغزوة كعب بن عمير الغفاري بذات أطلاح من أرض الشأم ، فأصيب بها هو وأصحابه ، وغزوة عيينة بن حصن بني العنبر من بني تميم ؛ وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم ؛ فأغار عليهم ؛ فأصاب منهم ناساً ، وسبى منهم سبياً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عائشة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ؛ إن علي رقبة من بني إسماعيل ، قال : هذا سبى بني العنبر يقدم الآن فنعطيك إنساناً فتعتقينه . قال ابن إسحاق : فلما قدم سبيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فيهم وفد من بني تميم ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ منهم ربيعة بن رفيع ، وسبرة بن عمرو ، والقعقاع بن معبد ، ووردان بن محرز ، وقيس بن عاصم ، ومالك بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، وحنظلة بن درام ، وفراس بن حابس . وكان ممن سبى من نسائهم يومئذ أسماء بنت مالك ، وكأس بنت أرى ، ونجوة بنت نهد وجميعة بنت قيس ، وعمرة بنت مطر .
ثم رجع إلى حديث عبد الله بن أبي بكر . قال : وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث - أرض بني مرة ؛ فأصاب بها مرداس بن نهيك ؛ حليفاً لهم من الحرقة من جهينة ، قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة : من لك بلا إله إلا الله ! وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل ، وغزوة ابن أبي حدرد وأصحابه إلى بطن إضم ، وغزوة ابن أبي حدرد الأسلمى إلى الغابة ، وغزوة عبد الرحمن ابن عوف .
وبعث سرية إلى سيف البحر ، وعليهم أبو عبيدة بن الجراح ؛ وهي غزوة الخبط .
حدثني الحارث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : قال محمد ابن عمر : كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانياً وأربعين سرية .
قال الواقدي : في هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً في رمضان ، فبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة فهدمها .
قال : وفيها قدم وبر بن يحنس على الأنباء باليمن ، يدعوهم إلى الإسلام فنزل على بنات النعمان بن بزرج فأسلمن ، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم ، وإلى مركبود وعطاء ابنه ، ووهب بن منبه ، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه .
قال : وفيها أسلم باذان ، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه .
قال أبو جعفر : وقد خالف في ذلك عبد الله بن أبي بكر من قال : كانت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ستاً وعشرين غزوة ، من أنا ذاكره : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا زهير ؛ عن أبي إسحاق ، عن زيد بن أرقم ، قال : سمعت منه أن رسول الله غزا تسع عشرة غزوة ، وحج بعد ما هاجر حجة ، لم يحج غير حجة الوداع . وذكر ابن إسحاق حجة بمكة .
قال أبو إسحاق : فسألت زيد بن أرقم : كم غزوت مع رسول الله ؟ قال : سبع عشرة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ؛ أن عبد الله بن يزيد الأنصاري خرج يستسقي بالناس ، قال : فصلى ركعتين ثم استسقى . قال : فلقيت يومئذ زيد بن أرقم ، قال : ليس بيني وبينه غير رجل - أو بيني وبينه رجل - قال : فقلت : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : تسع عشرة غزوة ، فقلت : كم غزوت معه ؟ قال : سبع عشرة غزوة ، فقلت : فما أول غزوة غزا ؟ قال : ذات العسير - أو العشير .
وزعم الواقدي أن هذا عندهم خطأ ؛ حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق الهمداني ، قال : قلت لزيد بن أرقم : كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سبع عشرة غزوة ، قلت : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : تسع عشرة غزوة . قال الحارث : قال ابن سعد : قال الواقدي : فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن جعفر ، فقال : هذا إسناد أهل العراق ؛ يقولون هكذا ؛ وأول غزوة غزاها زيد بن الأرقم المريسيع ؛ وهو غلام صغير ، وشهد مؤتة رديف عبد الله بن رواحة ؛ وما غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث غزوات أو أربعا .
وروى عن مكحول في ذلك ما حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا ابن عمر ، قال : حدجثني سويد بن عبد العزيز ، عن النعمان بن المنذر ، عن مكحول ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة ؛ قاتل من ذلك في ثمان غزوات أولهن بدر وأحد والأحزاب وقريظة .
قال الواقدي : فهذان الحديثان : حديث زيد بن الأرقم وحديث مكحول جميعاً غلط .
ذكر الخبر عن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا زيد بن الحارث ، عن سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل أن يحج ، فبلغ ذلك عائشة ، فقالت : اعتمر رسول الله أربع عمر ؛ قد علم ذلك عبد الله بن عمر ، منهن عمرة مع حجته .
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، قال : سمعت ابن عمر يقول : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر . فبلغ عائشة ، فقالت : لقد علم ابن عمر أنه اعتمر أربع عمر ، منها عمرته التي قرن معها الحجة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ؛ فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة ، فقلنا : كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أربعاً ؛ إحداهن في رجب ، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه ، فسمعنا استنان عائشة في الحجرة ، فقال عروة بن الزبير : يا أمه ، يا أم المؤمنين ، أما تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ! فقالت : وما يقول ؟ قال : يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر : إحداهن في رجب ، فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! ما اعتمر النبي عمرة إلا وهو شاهد ، وما اعتمر في رجب .
ذكر الخبر عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن منهن عاش بعده ومن منهن فارقه في حياته ، والسبب الذي فارقه من أجله ، ومن منهن مات قبله .
فحدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا هشام بن محمد ، قال : أخبرني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة ؛ دخل بثلاث عشرة ، وجمع بين إحدى عشرة ، وتوفي عن تسع .
تزوج في الجاهلية ؛ وهو ابن بضع وعشرين سنة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي ؛ وهي أول من تزوج ، وكانت قبله عند عتيق بن عابد ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم ؛ وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن معيص بن لؤي . فولدت لعتيق جارية ، ثم توفي عنها وخلف عليها أبو هالة بن زرارة بن نباش بن زرارة بن حبيب بن سلامة بن غذي بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم ؛ وهو في بني عبد الدار بن قصى . فولدت لأبي هالة هند بن أبي هالة ؛ ثم توفي عنها فخلف عليها رسول الله ، وعندها ابن أبي هالة هند ، فولدت لرسول الله ثمانية : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، وعبد الله ، وزينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة .
قال أبو جعفر : ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتها على خديجة حتى مضت لسبيلها ؛ فلما توفيت خديجة تزوج رسول الله بعدها ؛ فاختلف فيمن بدأ بنكاحها منهن بعد خديجة ، فقال بعضهم : كانت التي بدأ بنكاحها بعد خديجة قبل غيرها عائشة بنت أبي بكر الصديق . وقال بعضهم : بل كانت سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر . فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرة لا تصلح للجماع ؛ وأما سودة فإنها كانت امرأة ثيباً ، قد كان لها قبل النبي صلى الله عليه وسلم زوج ؛ وكان زوجها قبل النبي السكران بن عمرو بن عبد شمس ، وكان السكران من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها ؛ فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة .
قال أبو جعفر : ولا خلاف بين جميع أهل العلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بسودة قبل عائشة .
ذكر السبب الذي كان في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسودة والرواية الواردة بأولاهما كان عقد عليها رسول الله عقدة النكاح :
حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عائشة ، قالت : لما توفيت خديجة ، قالت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص ، امرأة عثمان بن مظعون وذلك بمكة : أي رسول الله ، ألا تزوج ؟ فقال : ومن ؟ فقالت : إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً ، قال : فمن البكر ؟ قالت : ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر ، قال : ومن الثيب ؟ قالت : سودة بنت زمعة بن قيس ، قد آمنت بك واتبعتك على ما أنت عليه . قال : فاذهبي فاذكريهما على . فجاءت فدخلت بيت أبي بكر ، فوجدت أم رومان ؛ أم عائشة ، فقالت : أى أم رومان ؟ ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ! قالت : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة ، قالت : وددت ! انتظري أبا بكر ، فإنه آت ، فجاء أبو بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة ! أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة ، قال : وهل تصلح له ، إنما هي ابنة أخيه ! فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت له ذلك ، فقال : ارجعي إليه ، فقولي له : أنت أخي في الإسلام ، وأنا أخوك ، وابنتك تصلح لي ؟ فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له ، فقال : انتظريني حتى أرجع ، فقالت أم رومان : إن المطعم بن عدي كان ذكرها على ابنه ، ولا والله ما وعد شيئاً قط فأخلف . فدخل أبو بكر على مطعم ، وعنده امرأته أم ابنه الذي كان ذكرها عليه ، فقالت العجوز : يا بن أبي قحافة ، لعلنا إن زوجنا ابننا ابنتك أن تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه ! فأقبل على زوجها المطعم ، فقال : ما تقول هذه ؟ فقال : إنها تقول ذاك . قال : فخرج أبو بكر ، وقد أذهب الله العدة التي كانت في نفسه من عدته التي وعدها إياه ، وقال لخولة : ادعي لي رسول الله ، فدعته فجاء فأنكحه ؛ وهي يومئذ ابنة ست سنين . قالت : ثم خرجت فدخلت على سودة فقلت : أي سودة ، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة ! قالت : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله يخطبك عليه ، قالت : فقالت : وددت ! ادخلي علي أبي فاذكري له ذلك ، قالت : وهو شيخ كبير قد تخلف عن الحج ، فدخلت عليه ، فحييته بتحية أهل الجاهلية ، ثم قلت : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة ، قال : كفء كريم ؛ فماذا تقول صاحبته ؟ قالت : تحب ذلك ، قال : ادعيها إلى ، فدعيت له ، فقال : أي سودة ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبك وهو كفء كريم ، أفتحبين أن أزوجكه ؟ قالت : نعم ، قال : فادعيه لي ، فدعته ، فجاء فزوجه ، فجاء أخوها من الحج ؛ عبد بن زمعة ، فجعل يحثى في رأسه التراب ، فقال بعد أن أسلم : إني لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول الله سودة بنت زمعة ؟ قال : قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فنزل أبو بكر السنح في بني الحارث بن الخزرج ، قالت : فجاء رسول الله فدخل بيتنا ، فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء ، فجاءتني أمي وأنا في أرجوحة بين عذقين يرجح بي ، فأنزلتني ثم وفت جميمة كانت لي ، ومسحت وجهي بشيء من ماء ، ثم أقبلت تقودني ، حتى إذا كنت عند الباب وقفت بي حتى ذهب بعض نفسي ، ثم أدخلت ورسول الله جالس على سرير في بيتنا . قالت : فأجلستني في حجره ، فقالت : هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك ؟ ووثب القوم والنساء ، فخرجوا ، فبنى بي رسول الله في بيتي ، ما نحرت جزور ولا ذبحت على شاة ، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين ، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا علي بن نصر ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث - وحدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثني أبي - قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، أنه كتب إلى عبد الملك ابن مروان : إنك كتبت إلى في خديجة بنت خويلد تسألني : متى توفيت ؟ وإنها توفيت قبل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين أو قريباً من ذلك ، ونكح عائشة متوفي خديجة ، كان رسول الله رأى عائشة مرتين ، يقال له : هذه امرأتك ، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة بعد ما قدم المدينة وهي يوم بني بها ابنة تسع سنين .
رجع الخبر إلى خبر هشام بن محمد . ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر - واسمه عتيق بن أبي قحافة ، وهو عثمان - ويقال عبد الرخمن بن عثمان - بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهي ابنة سبع سنين ؛ وجمع إليها بعد أن هاجر إلى المدينة وهي ابنة تسع سنين في شوال ؛ فتوفي عنها وهي ابنة ثمان عشرة ، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها ، ثم تزوج رسول الله حروف حفصة بنت عمر بن الخطاب ابن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرط بن كعب - وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي ابن سعد بن سهم . وكان بدرياً ، شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم تلد له شيئاً ، ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ؛ وكانت قبله عند أبي سلمة ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ؛ وشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فارس القوم ، فأصابته جراحة يوم أحد فمات منها ؛ وكان ابن عمة رسول الله ورضيعه ، وأمه برة بنت عبد المطلب ولدت له عمر ، وسلمة ، وزينب ، ودرة ؛ فلما مات كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة تسع تكبيرات ، فلما قيل : يا رسول الله ، أسهوت أم نسيت ؟ قال : لم أسه ولم أنس ؛ ولو كبرت على أبي سلمة ألفاً كان أهلاً لذلك ؛ ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة بخلفه في أهله . فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأحزاب سنة ثلاث ، وزوج سلمة بن أبي سلمة ابنة حمزة بن عبد المطلب .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام المريسيع جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بن حبيب بن مالك بن جذيمة - وهو المصطلق بن سعد بن عمرو - سنة خمس ، وكانت قبله عند مالك بن صفوان ذي الشفر بن أبي سرح بن مالك بن المصطلق ؛ لم تلد له شيئاً ؛ فكانت صفية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع ، فأعتقها وتزوجها ، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عتق ما في يده من قومها ، فأعتقهم لها .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ؛ وكانت عند عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد - وكانت من مهاجرات الحبشة هي وزوجها ، فتنصر زوجها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها ؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوجها من نبيكم ، ففعل وأمهرها أربعمائة دينار . ويقال : بل خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان ، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها ، فساق عنه النجاشي ، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب ابن يعمر بن صبرة ؛ وكانت قبله عند زيد بن حارثة بن شراحيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم تلد له شيئاً ، وفيها أنزل الله عز وجل : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك " إلى آخر الآية فزوجها الله عز وجل إياه ، وبعث في ذلك جبريل ؛ وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : أنا أكرمكن ولياً ، وأكرمكن سفيراً .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير ؛ وكانت قبله تحت سلام بن مشكم بن الحكم بن حارثة بن الخزرج بن كعب بن الخزرج ؛ وتوفي عنها وخلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب عنقه صبراً ، فلما تصفح النبي صلى الله عليه وسلم السبي يوم خيبر ، ألقى رداءه على صفية ، فكانت صفيه يوم خيبر ؛ ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت فأعتقها ؛ وذلك سنة ست .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن ابن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال ؛ وكانت قبله عند عمير ابن عمرو ، من بني عقدة بن غيرة بن عوف بن قسى - وهو ثقيف - لم تلد له شيئاً ، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف في عمرة القضاء ؛ زوجها إياه العباس ابن عبد المطلب ؛ فتزوجها رسول الله .
وكل هؤلاء اللواتي ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجهن إلى هذا الموضع ، توفي رسول الله وهن أحياء ، غير خديجة بنت خويلد .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني كلاب بن ربيعة ؛ يقال لها النشاة بنت رفاعة ، وكانوا حلفاء لبني رفاعة من قريظة . وقد اختلف فيها ، وكان بعضهم يسمى هذه سنا وينسبها ، فيقول : سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية . وقال بعضهم : هي سبا بنت أسماء بن الصلت من بني حرام من بني سليم . وقالوا : توفيت قبل أن يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونسبها بعضهم فقال : هي سنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سمال بن عوف السلمي .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الشنباء بنت عمرو الغفارية . وكانوا أيضاً حلفاء لبني قريظة ، وبعضهم يزعم أنها قرظية ، وقد جهل نسبها لهلاك بني قريظة ، وقيل أيضاً إنها كنانية ، فعركت حين دخلت عليه ؛ ومات إبراهيم قبل أن تطهر ، فقالت : لو كان نبياً ما مات أحب الناس إليه ؛ فسرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم غزية بنت جابر من بني أبي بكر بن كلاب ، بلغ رسول الله عنها جمال وبسطة ، فبعث أبا أسيد الأنصاري ، ثم الساعدي ، فخطبها عليه ، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم - وكانت حديثة عهد بالكفر - فقالت : إني لم أستأمر في نفسي ، إني أعوذ بالله منك ؟؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : امتنع عائذ الله . وردها إلى أهلها ؛ ويقال : إنها من كندة .
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان بن الأسود ابن شراحيل بن الجون بن حجر بن معاوية الكندي ، فلما دخل بها وجد بها بياضاً فمتعها وجهزها وردها إلى أهلها ؛ ويقال : بل كان النعمان بعث بها إلى رسول الله فسرحته ، فلما دخلت عليه استعاذت منه أيضاً ، فبعث إلى أبيها ، فقال له : أليست ابنتك ؟ قال : بلى ، قال لها : ألست ابنته ؟ قالت : بلى ، قال النعمان : عليكها يا رسول الله ، فإنها وإنها ... وأطنب في الثناء فقال : إنها لم تيجع قط ، ففعل بها ما فعل بالعامرية ، فلا يدري : ألقو لها أم لقول أبيها: " إنها لم تيجع قط " .
وأفاء الله عز وجل على رسوله ريحانة بنت زيد ، من بنت قريظة .
وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مارية القبطية ، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية ، فولدت له إبراهيم بن رسول الله .
فهؤلاء أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهن ست قرشيات .
قال أبو جعفر : وممن لم يذكر هشام في خبره هذا ممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوجه من النساء : زينب بنت خزيمة - وهي التي يقال لها أم المساكين - من بني عامر بن صعصعة ، وهي زينب بنت خزيمة بن الحارث ابن عبد الله ابن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وكانت قبل رسول الله عند الطفيل بن الحارث بن المطلب ، أخي عبيدة بن الحارث ، توفيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
وقيل إنه لم يمت عند رسول الله في حياته من أزواجه غيرها وغير خديجة وشراف بنت خليفة ، أخت دحية بن خليفة الكلبي ، والعالية بنت ظبيان .
حدثني ابن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : تزوج رسول اله صلى الله عليه وسلم العالية ؛ امرأة من بني أبي بكر كلاب فمتعها ، ثم فارقها ، وقتيلة بنت قيس ابن معد يكرب أخت الأشعث بن قيس ، فتوفى عنها قبل أن يدخل بها ، فارتدت عن الإسلام مع أخيها ، وفاطمة بنت شريح .
وذكر عن ابن الكلبي أنه قال : غزية بنت جابر ، هي أم شريك ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زوج كان لها قبله ؛ وكان لها منه ابن يقال له شريك ، فكنيت به ، فلما دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم وجدها مسنة ، فطلقها ، وكانت قد أسلمت ؛ وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن إلى الإسلام .
وقيل : إنه تزوج خولة بنت الهذيل بن هبيرة بن قبيصة بن الحارث ؛ زوى ذلك عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
وبهذا الإسناد أن ليلى بنت الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر ابن الحارث بن الخزرج ، أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مول ظهره الشمس ، فضربت على منكبه ، فقال : من هذه ؟ قالت : أنا ابنة مبارى الريح ، أنا ليلى بنت الخطيم ، جئتك أعرض عليك نفسي فتزوجني ، قال : قد فعلت ، فرجعت إلى قومها ، فقالت : قد تزوجني رسول الله ، فقالوا : بئسما صنعت ! أنت امرأة غيرى ؛ والنبي صاحب نساء ، استقيليه نفسك ، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : أفلني ، قال : قد أقلتك .
وبغير هذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عمرة بنت يزيد ، امرأة من بني رؤاس بن كلاب .
ذكر من خطب النبي صلى الله عليه وسلم من النساء ثم لم ينكحهن منهن أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمها هند ، خطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتزوجها ؛ لأنها ذكرت أنها ذات ولد .
وخطب ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر صعصعة إلى ابنها سلمة بن هشام بن المغيرة ، فقال : حتى أستأمرها ، فأتاها فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم خطبك ، فقالت : ما قلت له ؟ قال : قلت له حتى أستأمرها ! قالت : وفي النبي يستأمر ! ارجع فزوجه ؛ فرجع فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه أخبر أنها قد كبرت .
وخطب - فيما ذكر - صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري ، وكان أصابها سباء ، فخيرها ، فقال : إن شئت أنا وإن شئت زوجك ، قالت : بل زوجي ؛ فأرسلها .
وخطب أم حبيب بنت العباس بن عبد المطلب ، فوجد العباس أخاه من الرضاعة ، أرضعتهما ثويبة .
وخطب جمرة بنت الحارث بن أبي حارثة ، فقال أبوها - فيما ذكر : بها شيء ، ولم يكن بها شيء ، فرجع فوجدها قد برصت .
ذكر سراري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مارية بنت شمعون القبطية ، وريحانة بنت زيد القرظية . وقيل : هي من بني النضير . وقد مضى ذكر أخبارهما قبل .
ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد ، وقد ذكرنا خبره فيما مضى .
وثوبان - مولي رسول الله ، فأعتقه ، ولم يزل معه حتى قبض ، ثم نزل حمص وله بها دار وقف ؛ ذكر أنه توفي سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية . وقال بعضهم : بل كان سكن الرملة ، ولا عقب له .
وشقران - وكان من الحبشة ، اسمه صالح بن عدي ؛ اختلف في أمره . قد ذكر عن عبد الله بن داود الخريبي أنه قال : شقران ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه . وقال بعضهم : شقران من الفرس ، ونسبه فقال : هو صالح بن حول ابن مهر بود .
نسب شقران مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول من نسبه إلى عجم الفرس . زعم أنه صالح بن حول بن مهر بوذ بن آذر جشنس بن مهربان بن فيران بن رستم بن فيروز بن ماي بن بهرام بن رشتهري ، وزعم أنهم كانوا من دهاقين الري .
وذكر عن مصعب الزبيري أنه قال : كان شقران لعبد الرحمن بن عوف . فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أعقب ؛ وأن آخرهم مؤبا ، رجل كان بالمدينة من ولده ، كان له بالبصرة بقية .
ورويفع - وهو أبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اسمه أسلم . وقال بعضهم : اسمه إبراهيم . واختلفوا في أمره ؛ فقال بعضهم : كان للعباس بن عبد المطلب ، فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه رسول الله . وقال بعضهم : كان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر فورثه بنوه ، فأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم منه ، وقتلوا يوم بدر جميعاً ؛ وشهد أبو رافع معهم بدراً ، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه رسول الله .
وابنه البهى - اسمه رافع .
وأخو البهى عبيدة الله بن أبي رافع - وكان يكتب لعلي بن أبي طالب ، فلما ولى عمرو بن سعيد المدينة دعا البهى ، فقال : من مولاك ؟ فقال : رسول الله ، فضربه مائة سوط ، وقال : مولى من أنت ! قال : مولى رسول الله ، فضربه مائة سوط ؛ فلم يزل يفعل به ذلك كلما سأله : مولى من أنت ؟ قال : مولى رسول الله ؛ حتى ضربه خمسمائة سوط ، ثم قال : مولى من أنت ؟ قال : مولاكم ، فلما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال البهى بن أبي رافع :
صحت ولا شلت وضرت عدوها ... يمين هراقت مهجة ابن سعيد
هو ابن العاصى مراراً وينتمي ... إلى أسرة طابت له وجدود
وسلمان الفارسي - وكنيته أبو عبد الله من أهل قرية أصبهان ؛ ويقال : إنه من قرية رامهرمز ؛ فأصابه أسر من بعض كلب ، فبيع من بعض اليهود بناحية وادي القرى ؛ فكاتب اليهودى ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى عتق . وقال بعض نسابة الفرس : سلمان من كورس أبور ، واسمه مابه بن بوذخشان بن ده ديره .
وسفينة - مواى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لأم سلمة فأعتقته ؛ واشترطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، قيل : إنه أسود ؛ واختلف في اسمه ، فقال بعضهم : اسمه مهران ، وقال بعضهم : اسمه رباح ، وقال بعضهم : هو من عجم الفرس ؛ واسمه سبيه بن مارقيه ، وأنسة . يكني أبا مسرح ، وقيل : أبا مسروح . كان من مولدي السراة ؛ وكان يأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس ، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : أصله من عجم الفرس ؛ كانت أمه حبشية وأبوه فارسياً . قال : واسم أبيه بالفارسية كردوى ابن أشرنيده بن أدوهر بن مهرادر بن كحنكان من بني مهجوار بن يوماست .
وأبو كبشة - واسمه سليم ، قيل إنه كان من مولدي مكة ، وقيل : من مولدي أرض دوس ، اتباعه رسول اله صلى الله عليه وسلم فأعتقه ، فشهد مع رسول الله بدراً وأحداً والمشاهد . توفي في أول يوم استخلف فيه عمر بن الخطاب ، سنة ثلاث عشرة من الهجرة .
وأبو مويهبة - قيل : إنه كان من مولدي مزينة ، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه .
ورباح الأسود - كان يأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفضالة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل - فما ذكر - الشأم .
ومدعم - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عبداً لرفاعة ابن زيد الجذامي ، فوهبه لرسول الله ، فقتل بوادي القرى ، يوم نزل بهم رسول الله ، أتاه سهم غرب فقتله .
وأبو ضميرة - كان بعض نسابة الفرس زعم أنه من عجم الفرس ، من ولد كشتاسب الملك ، وأن اسمه واح بن شيرز بن بيرويس بن تاريشمه ابن ماهوش بن باكمهير .. وذكر بعضهم أنه كان ممن صار في قسم رسول الله في بعض وقائعه ، فأعتقه ، وكتب له كتاباً بالوصية ؛ وهو جد حسين بن عبد الله بن أبي ضميرة ، وأن ذلك الكتاب في أيدي ولد ولده وأهل بيته ، وأن حسين بن عبد الله هذا قدم على المهدي ومعه ذلك الكتاب ، فأخذه المهدي فوضعه على عينيه ، ووصله بثلثمائة دينار .
ويسار - وكان فيما ذكر نوبياً ؛ كان فيما وقع في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فأعتقه ؛ وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله .
ومهران - حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان له خصى يقال له مابور - كان المقوقس أهداه إليه مع الجاريتين اللتين يقال لإحداهما مارية ، وهي التي تسرى بها والأخرى سيرين وهي التي وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت ، لما كان من جناية صفوان بن المعطل عليه ، فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن بن حسان . وكان المقوقس بعث بهذا الخصى مع الجاريتين اللتين أهداهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليوصلهما إليه ، ويحفظهما من الطريق حتى تصلا إليه . وقيل : إنه الذي قذفت مارية به ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأمره بقتله ، فلما رأى علياً وما يريد به تكشف حتى تبين لعلى أنه أجب لا شيء معه مما يكون مع الرجال ، فكف عنه علي . وخرج إليه من الطائف - وهو محاصر أهلها - أعبد لهم أربعة ، فأعتقهم صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكرة .
ذكر من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحياناً ، وأحياناً علي بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد ، وأبان بن سعيد ، والعلاء بن الحضرمي .
قيل : أول من كتب له أبي بن كعب ؛ وكان إذا غاب أبي كتب له زيد بن ثابت .
وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ثم ارتد عن الإسلام ، ثم راجع الإسلام يوم فتح مكة .
وكتب له معاوية بن أبي سفيان ، وحنظلة الأسيدي .
أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، قال : أول فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس اتباعه بالمدينة من رجل من بني فزارة بعشر أواق ، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس ، فسماه رسول الله السكب ؛ وكان أول ما غزا عليه أحد ، ليس مع المسلمين يومئذ فرس غيره ، وفرس لأبي بردة بن نيار ، يقال له ملاوح .
حدثني الحارث ، قال : أخبرنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : سألت محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن المرتجز ، فقال : هو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت ؛ وكان الأعرابي من بني مرة .
حدثني الحارث قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا أبي بن عباس بن سهل ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس : لزاز ، والظرب ، واللخيف ؛ فأما لزاز فأهداه له المقوقس ، وأما اللخيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء ؛ فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب ، وأما الظرب فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامي . وأهدى تميم الدارى لرسول الله فرساً يقال له : الورد ، فأعطاه عمر ؛ فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده ينباع .
وقد زعم بعضهم أنه كان له مع ما ذكرت من الخيل فرس يقال له اليعسوب .
ذكر أسماء بغال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : كانت دلدل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم أول بغلة رئيت في الأسلام ، أهداها له المقوقس وأهدى له معها حماراً يقال له عفير ؛ فكانت البغلة قد بقيت حتى كان زمن معاوية .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : دلدل أهداها له فروة بن عمرو الجذامي .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن زامل بن عمرو ، قال : أهدى فروة بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها فضة ؛ فوهبها لأبي بكر ، وحماره يعفور ؛ فنفق منصرفه من حجة الوداع .
ذكر أسماء إبله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : كانت القصواء من نعم بني الحريش ، ابتاعها أبو بكر وأخرى معها بثمانمائة درهم ، وأخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة ؛ فكانت عنده حتى نفقت ؛ وهي التي هاجر عليها ؛ وكانت حين قدم رسول الله المدينة رباعية ، وكان اسمها القصواء والجدعاء والعضباء .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني ابن أبي ذئب ، عن يحيى بن يعلى ، عن ابن المسيب ، قال : كان اسمها العضباء ؛ وكان في طرف أذنها جدع .
ذكر أسماء لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال أخبرنا محمد بن عمر ن قال : حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح ، وهي التي أغار عليها القوم بالغابة ، وهي عشرون لقحة ، وكانت التي يعيش بها أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن فيها لقاح غزار : الحناء ، والسمراء ، والعريس ، والسعدية ، والبغوم ، واليسيرة ، والريا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني هارون بن محمد ، عن أبيه ، عن نبهان ؛ مولى أم سلمة ، قال : سمعت أم سلمة ، تقول : كان عيشنا مع رسول الله اللبن - أو قالت أكثر عيشنا - كانت لرسول الله لقاح بالغابة كان قد فرقها على نسائه ، فكانت فيها لقحة تدعى العريس ؛ وكنا منها فيما شئنا من اللبن ، وكانت لعائشة لقحة تدعى السمراء غزيرة ، لم تكن كلقحتى ، فقرب راعيهن اللقاح إلى مرعي بناحية الجوانية ، فكانت تروح على أبياتنا فنؤتى بهما فتحلبان ، فتوجد لقحته أغزر منهما بمثل لبنهما أو أكثر .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا عبد السلام بن جبير ، عن أبيه ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقائح تكون بذي الجدر ، وتكون بالجماء ، فكان لبنها يؤوب إلينا ؛ لقحة تدعى مهرة ، أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل وكانت غزيرة ؛ وكانت الريا والشقراء ابتاعهما بسوق النبط من بني عامر ، وكانت بردة ، والسمراء ، والعريس ، واليسيرة ، والحناء ، يحلبن ويراح إليه بلبنهن كل ليلة ؛ وكان فيها غلام للنبي صلى الله عليه وسلم اسمه يسار ، فقتلوه .
ذكر أسماء منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني زكرياء بن يحيى ، عن إبراهيم بن عبد الله ، من ولد عتبة بن غزوان ، قال : كانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً : عجوة ، وزمزم ، وسقيا ، وبركة ، وورسة ، وأطلال ، وأطراف .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد ، قال : حدثني أبو إسحاق ، عن عباد بن منصور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع أعنز منائح ، يرعاهن ابن أم أيمن .
ذكر أسماء سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف : سيفاً قلعياً ، وسيفاً يدعى بتاراً ، وسيفاً يدعى الحتف ؛ وكان عنده بعد ذلك المخذم ورسوب ، أصابهما من الفلس . وقيل إنه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومعه سيفان ، يقال لأحدهما : القضيب ، شهد به بدراً ، وسيفه ذو الفقار غنمه يوم بدر ، كان لمنبه بن الحجاج .
ذكر أسماء قسيه ورماحه صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أرماح وثلاث قسى : قوس الروحاء ، وقوس شوحط ؛ تدعى البيضاء ، وقوس صفراء تدعى الصفراء من نبع .
ذكر أسماء دروعه صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع درعين ؛ درع يقال لها السعدية ، ودرع يقال لها فضة .
حدثني الحارث ، قال : حدثني ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن عمر ، عن جعفر بن محمود ، عن محمد بن مسلمة ، قال : رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين : درعه ذات الفضول ودرعه فضة ، ورأيت عليه يوم خيبر درعين : ذات الفضول والسعدية .
ذكر ترسه صلى الله عليه وسلم حدثني الحارث ، قال : حدثنا ابن سعد ، قال : أخبرنا عتاب بن زياد ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر ، قال : سمعت مكحولا يقول : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترس فيه تمثال رأس كبش ، فكره رسول الله مكانه ، فأصبح يوماً وقد أذهبه الله عز وجل .
ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عبد الرحمن - يعني المسعودي - عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن أبي موسى ، قال : سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء ، منها ما حفظنا . قال : أنا محمد ، وأحمد ، والمقفي ، والحاشر ، ونبي التوبة والملحمة .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري ، قال : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي أسماء ؛ أنا محمد ، وأحمد ، والعاقب ، والماحي . قال الزهري : العاقب : الذي ليس بعده أحد والماحي : الذي يمحو الله به الكفر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال ، أخبرنا سفيان ابن حين ، قال : حدثني الزهري ، عن محمد بن بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا محمد ، وأحمد ، والماحي ، والعاقب ، والحاشر ؛ الذي يحشر الناس على قدمي . قال يزيد : فسألت سفيان : ما العاقب ؟ قال : آخر الأنبياء .
ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم حدثني ابن المنني ، قال : حدثني ابن أبي عدي ، عن المسعودي ، عن عثمان بن عبد الله بن هرمز ، قال : حدثني نافع بن جبير ، عن على أبن أبي طالب ،قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير ، ضخم الرأ س واللحية ، شثن الكفين والقدمين ، ضخم الكراديس مشربا " وجهه الحمرة ، طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفؤا كانمأ ينحط من صبب ،لم أر قبله ولا بعده مثله ؛ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا مجمع بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الله بن عمران ، عن رجل من الأنصار - لم يسمه - أنه سأل علي بن أبي طالب وهو في مسجد الكوفة محتب بحمالة سيفه ، فقال : انعت لي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له علي : كان رسول الله أبيض اللون مشرباً حمرة ، أدعج سبط الشعر ، دقيق المسربة ، سهل الخدين ، كث اللحية ، ذا وفرة ؛ كأن عنقه إبريق فضة ؛ كان له شعر من لبتة إلى سرته يجري كالقضيب ؛ لم يكن في إبطه ولا صدره شعر غيره ، شثن الكف والقدم ؛ إذا مشى كأنما ينحدر من صبب ؛ وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر ، وإذا التفت التفت جميعاً ؛ ليس بالقصير ولا بالطويل ، ولا العاجز ولا اللئيم ؛ كأن العرق في وجهه اللؤلؤ ؛ ولريح عرقه أطيب من المسك ؛ لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن المقدمي ، قال : حدثنا يحيى بن محمد بن قيس الذي يقال له أبو زكير ، قال : سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين ؛ فأقام بمكة عشراً وبالمدينة عشرآ ، وتوفي على رأس ستين ؛ ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء ؛ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل البائن ، ولا القصير ؛ ولم يكن بالأبيض الأمهق ؛ ولا الآدم ، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط .
حدثني ابن المثنى قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن الجريري ، قال : كنت مع أبي الطفيل نطوف بالبيت ؛ فقال : ما بقي أحد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري ؛ قال : وقلت : أرأيته ؟ قال : نعم ، قلت : كيف كان صفته ؟ قال : كان أبيض مليحاً مقصداً .
ذكر خاتم النبوة التي كانت به صلى الله عليه وسلم حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الضحاك بن مخلد ، قال : حدثنا عزرة بن ثابت ، قال : حدثنا علباء ، قال : حدثنا أبو زيد ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا زيد ، ادن مني امسح ظهري - وكشف عن ظهره - قال : فمسست ظهره ، ثم وضعت أصبعي على الخاتم فغمزتها ، قال : قلت : وما الخاتم ؟ قال : شعر مجمع كان على كتفيه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا بشر بن الوضاح أبو الهيثم ، قال : حدثنا أبو عقيل الدورقي عن أبي نضرة ، قال : سألت أبا سعيد الخدري عن الخاتم التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال كانت بضعة ناشزة .
ذكر شجاعته وجوده صلى الله عليه وسلم
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حماد بن واقد ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس ، وأسمح الناس ، وأشجع الناس ؛ لقد كان فزع بالمدينة ، فانطلق أهل المدينة نحو الصوت ، فإذا هم قد تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس عري لأبي طلحة ، ما عليه سرج ، وعليه السيف . قال : وقد كان سبقهم إلى الصوت ، قال : فجعل يقول : يأيها الناس ، لم تراعوا ، لم تراعوا ! مرتين ، ثم قال : يا أبا طلحة ، وجدناه بحراً ؛ وقد كان الفرس يبطأ ، فما سبقه فرس بعد ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس ، وأجود الناس ؛ كان فزع بالمدينة فخرج الناس قبل الصوت ، فاستبرأ الفزع على فرس لأبي طلحة عري ، ما عليه سرج ، في عنقه السيف . قال : وجدناه بحراً - أو قال : وإنه لبحر .
ذكر صفة شعره صلى الله عليه وسلم وهل كان يخضب أم لا حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا حريز بن عثمان ، قال أبو موسى : قال معاذ : وما رأيت من رجل قط من أهل الشأم أفضله عليه ، قال : دخلنا على عبد بن بسر ، فقلت له من بين أصحابي : أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أشيخا كان ؟ قال : فوضع يده على عنفقته ، وقال : كان في عنفقته شعر أبيض .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي جحيفة ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنفقته بيضاء ، قيل : مثل من أنت يومئذ يا أبا جحيفة ؟ قال : أبري النبل وأريشها .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا خالد ابن الحارث ، قال : حدثنا حميد ، قال : سئل أنس : أخضب رسول الله ؟ قال : فقال أنس : لم يشتد برسول الله الشيب ، ولكن خضب أبو بكر بالحناء والكتم ، وخضب عمر بالحناء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، قال : سئل أنس : هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لم يرمن الشيب إلا نحو من تسع عشرة أو عشرين شعرة بيضاء في مقدم لحيته . قال : إنه لم يشن بالشيب ، فقيل لأنس : وشين هو ! قال : كلكم يكرهه ؛ ولكن خضب أبو بكر بالحناء والكتم ، وخضب عمر بالحناء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : لم يكن الشيب الذي بالنبي صلى الله عليه وسلم عشرين شعرة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد ابن سلمة ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال : ما كان في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيب إلا شعرات في مفرق رأسه ؛ وكان إذا دهنه غطاهن.
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : دخلت زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجت إلينا شعراً من شعر رسول الله مخضوباً بالحناء والكتم .
حدثنا ابن جابر بن الكردي الواسطي ، قال : حدثنا أبو سفيان ، قال : حدثنا الضحاك بن حمرة ، عن غيلان بن جامع ، عن إياد بن لقيط ، عن أبي رمثة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم؛ وكان يبلغ شعره كتفيه أو منكبيه - الشك من أبي سفيان .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إبراهيم - يعني ابن نافع - عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم هانئ ، قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ضفائر أربع .
ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله الذي توفي فيه وما كان منه قبيل ذلك لما نعيت إليه نفسه صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً " . قد مضى ذكرنا قبل ما كان من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه - في حجته التي حجها المسماة حجة الوداع ، وحجة التمام ، وحجة البلاغ - مناسكهم ووصيته إياهم ، بما قد ذكرت قبل في خطبته التي خطبها بهم فيها .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من سفره ذلك بعد فراغه من حجه إلى منزله بالمدينة في بقية ذي الحجة ، فأقام بها ما بقي من ذي الحجة والمحرم والصقر .
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ذكر الأحداث التي كانت فيها قال أبو جعفر : ثم ضرب في المحرم من سنة إحدى عشرة على الناس بعثاً إلى الشأم ، وأمر عليهم مولاه وابن مولاه أسامة بن زيد بن حارثة ، وأمره - فيما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة - أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون .
فينا الناس على ذلك ابتدئ صلى الله عليه وسلم شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها إلى ما أراد به رحمته وكرامته في ليال بقين من ضفر ، أو في أول شهر ربيع الأول .
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري ، قال : حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرنا سيف بن عمر ، قال : حدثنا عبد الله بن سعيد بن ثابت ابن الجزع الأنصاري ، عن عبيد بن حنين مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبي مويهبة مولى رسول الله ، قال : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ما قضى حجة التمام ، فتحلل به السير ، وضرب على الناس بعثاً ، وأمر عليهم أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشأم الأرض بالأردن ، فقال المنافقون في ذلك ، ورد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لخليق لها - أي حقيق بالإمارة - وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل ؛ وإن كان لخليقاً لها " . فطارت الأخبار بتحلل السير بالنبي صلى الله عليه وسلم أن النبي قد اشتكى ، فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة ؛ وجاء الخبر عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم . ثم وثب طليحة في بلاد أسد بعد ما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي قبضه الله تعالى فيه .
حدثنا ابن سعد ، قال : حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرنا سيف ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفاه الله به في عقب المحرم .
وقال الواقدي : بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه لليلتين بقيتا من صفر .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثنا سيف ابن عمر ، قال : حدثنا المستنير بن يزيد النخعي ، عن عروة بن غزية الدثيني ، عن الضحاك بن فيروز بن الديلمى ، عن أبيه ، قال : إن أول ردة كانت في الإسلام باليمن كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي ذي الخمار عبهلة بن كعب - وهو الأسود - في عامة مذحج . خرج بعد الوداع ؛ كان الأسود كاهناً شعبا ذا ، وكان يريهم الأعاجيب ، ويسبى قلوب من سمع منطقه ، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خبان ؛ وهي كانت داره ، وبها ولد ونشأ ؛ فكاتبته مذحج ، وواعدته نجران ؛ فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعد بن العاص وأنزلوه منزلهما ، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد ، فأجلاه ونزل منزله ؛ فلم ينشب عبهلة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها ، وكتب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ونزوله صنعاء ؛ وكان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسيك ، ولحق بفروة من تم على الإسلام من مذحج ، فكانوا باأحسية ، ولم يكاتبه الأسود ولم يرسل إليه ، لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه ، وصفا له ملك اليمن .
حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرني عمي يعقوب ، قال : حدثني سيف ، قال : حدثنا طلحة بن الأعلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب بعث أسامة فلم يستتب لوجع رسول الله ولخلع مسيلمة والأسود ؛ وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة ، حتى بلغه ؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك الشأن وانتشاره ، لرؤيا رآها في بيت عائشة : فقال : إني رأيت البارحة - فيما يرى النائم - أن في عضدي سوارين من ذهب ؛ فكرهتهما فنفختهما ، فطارا ، فأولتهما هذين الكذابين - صاحب اليمامة وصاحب اليمن - وقد بلغني أن أقواماً يقولون في إمارة أسامة ! ولعمري لئن قالوا في إمارته ، لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله ! وإن كان أبوه لخليقاً للإمارة ، وإنه لخليق لها ؛ فأنفذوا بعث أسامة . وقال : لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد !
فخرج أسامة فضرب بالجرف ؛ وأنشأ الناس في العسكر ، ونجم طليحة وتمهل الناس ، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستتم الأمر ؛ ينظرون أولهم آخرهم ، حتى توفي الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم .
كتب إلى السرى بن يحيى ، يقول : حدثنا شعيب بن إبراهيم التميمي ، عن سيف بن عمر ، قال : حدثنا سعيد بن عبيد أبو يعقوب ، عن أبي ماجد الأسدي ، عن الحضرمي بن عامر الأسدي ، قال : سألته عن أمر طليحة ابن خويلد ؛ فقال : وقع بنا الخبر بوجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغنا أن مسيلمة قد غلب على اليمامة ، وأن الأسود قد غلبب على اليمن ؛ فلم يلبث إلا قليلاً حتى ادعى طليحة النبوة ، وعسكر بسميراء ، واتبعه العوام ؛ واستكثف أمره ؛ وبعث حبال ابن أخيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الموادعة ، ويخبره خبره . وقال حبال : إن الذي يأتيه ذو النون ؛ فقال : لقد سمى ملكاً ، فقال حبال : أنا ابن خويلد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قتلك الله وحرمك الشهادة ! وحدثني عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي يعقوب ، قال : أخبرنا سيف ، قال : وحدثنا سعيد بن عبيد ، عن حريث بن المعلي : أن أول من كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر طليحة سنان بن أبي سنان ، وكان على بني مالك ؛ وكان قضاعي بن عمرو على بني الحارث .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، قال : أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل ، قال : فأرسل إلى نفر من الأبناء رسولاً ، وكتب إليهم أن يحاولوه ، وأمرهم أن يستنجدوا رجالاً - قد سماهم - من بني تميم وقيس ؛ وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ، ففعلوا ذلك ؛ وانقطعت سبل المرتدة ، وطعنوا في نقصان وأغلقهم ، واشتغلوا في أنفسهم ، فأصيب الأسود في حياة رسول الله، وقبل وفاته بيوم أو بليلة ، ولظ طليحة ومسيلمة وأشباهم بالرسل ؛ ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله عز وجل والذب عن دينه ، فبعث وبربن يحنس إلى فيروز وجشيش الديلمي وداذويه الإصطخري ؛ وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي القلاع وذي ظلم ، وبعث الأفرع بن عبد الله الحمير إلى ذي زود وذي مران ، وبعث فرأت بن حيان اعجلي إلى قمامة بن أسال ، وبعث أياد بن حنظل التميمة ثم اعمري إلى قيس بن عاصم والبر قان بن بدر ، وبعث سلسل بن شرحبيل إلى سبرة العنبري ووكيع الدارمي وإلى عمرو بن المحجوب العامري ، وإلى عمرو بن الخفاجي من بني عامر ، وبعث ضرار بن الأزور الأسدي إلى عوف الزرقاني من بني الصيداء وسنان الأسدي ثم الغنمي ، وقضاعي الدئلي ، وبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى ابن ذي اللحية وابن مشيمصة الجبيري .
وحدثت عن هشام بن محمد ، عن أبي مخنف ، قال : حدثنا الصقعب ابن زهير ، عن فقهاء أهل الحجاز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجع وجعه الذي قبض في آخر صفر في أيام بقين منه ؛ وهو في بيت زينب بنت جحش .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد ، عن محمد ابن إسحاق ، عن عبد الله بن عمر بن علي ، عن عبيد ين جبير ، مولي الحكم ابن أبي العاص ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل ، فقال لي : يا أبا مويهبة ، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع ؛ فانطلق معي ، فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم ، قال : السلام عليكم أهل المقابر ؛ ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى . ثم أقبل علي فقال : يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة ، فاخترت لقاء ربي والجنة . قال : قلت : يأبي أنت وأمي ! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة . فقال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة ، ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف فبدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجعه الذي قبض فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال :حدثنا محمد ابن إسحاق .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا علي بن مجاهد ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي ، وأنا أقول : وارأساه ! قال : بل أنا والله يا عائشة وارأساه ! ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك ، وصليت عليك ، ودفنتك ! فقلت : والله لكأني بك لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك ، قالت : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتتام به وجعه ؛ وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة ، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي ، فأذن له .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين من أهله : أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماه الأرض ، عاصباً رأسه حتى دخل بيتي .
قال عبيد الله : فحدثت هذا الحديث عنها عبد الله بن عباس ، فقال : هل تدري من الرجل ؟ قلت : لا ، قال : علي بن أبي طالب . ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع.
ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به الوجع ؛ فقال : أهريقوا على من سبع قرب من آبار شتى ؛ حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم ، قالت : فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : حسبكم ، حسبكم ! .
فحدثني حميد بن الربيع الخراز ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : حدثنا الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن إياس الليثي ؛ ثم الأشجعي ، عن القاسم بن يزيد ، عن عبد الله بن قسيط ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن أخيه الفضل بن عباس ، قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه ، فقال : خذ بيدي يا فضل ، فأخذت بيده ؛ حتى جلس على المنبر ، ثم قال : ناد في الناس . فاجتمعوا إليه ، فقال : أما بعد أيها الناس ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ؛ وإنه قد دنا منى حقوق من بين أظهركم ، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقيد منه ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه ؛ ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني ، ؛ ألا وإن أحبكم إلى من أخذ مني حقاً إن كان له ، أو حللني فلقيت الله وأنا أطيب النفس ؛ وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مراراً .
قال الفضل : ثم نزل فصلى الظهر ، ثم رجع فجلس على المنبر ، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ؛ إن لي عندك ثلاثة دراهم ، قال : أعطه يا فضل ، فأمرته فجلس . ثم قال : أيها الناس ، من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة . فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله ، قال : ولم غللتها ؟ قال : كنت إليها محتاجاً ، قال : خذها منه يا فضل . ثم قال : يأيها الناس ، من خشى من نفسه شيئاً فليقم أدع له . فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إني لكذاب ، إني لفاحش ، وإني لنؤوم ؛ فقال : اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً ، وأذهب عنه النوم إذا أراد . ثم قام رجل فقال : والله يا رسول ا لله ، إني لكذاب وإني لمنافق ، وما شيء - أو إن شيء - إلا قد جنيته . فقام عمر بن الخطاب ، فقال : فضحت نفسك أيها الرجل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بن الخطاب ، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ، اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً وصير أمره إلى خير .
فقال عمر كلمة . فضحك رسول الله ، ثم قال : عمر معي وأنا مع عمر ، والحق بعدي مع عمر حيث كان .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن أيوب بن بشير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه ؛ حتى جلس على المنبر ؛ ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد ، واستغفر لهم ؛ وأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله . قال : ففهمها أبو بكر ، وعلم أن نفسه يريد ؛ فبكى ، وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رسلك يا أبا بكر ! انظروا هذه الأبواب الشوارع اللافظة في المسجد فسدوها ؛ إلا ما كان من بيت أبي بكر ؛ فإني لا أعلم أحداً كان أفضل عندي في الصحبة يداً منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلي ، أن رسول الله قال يومئذ في كلامه هذا : فإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ؛ ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده .
وحدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثني عمي عبد الله ابن وهب ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي النضر ، عن عبيد بن حنين ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على المنبر ، فقال : إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عند الله ؛ فاختار ما عند الله ؛ فبكى أبو بكر ثم قال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله ! قال : فتعجبنا له ، وقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله عن عبد يخير ، ويقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ! قال : فكان رسول الله هو المخير ؛ وكان أبو بكر أعلمنا به ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر ؛ ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ؛ ولكن أخوة الإسلام ؛ لا تبق خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر .
حدثني محمد بن عمر بن الصباح الهمداني ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا مسلم بن جعفر البجلي ، قال : سمعت عبد الملك ابن الأصبهاني عن خلاد الأسدي ، قال : قال عبد الله بن مسعود : نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر ؛ فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة ، فنظر إلينا وشدد ، فدمعت عينه ، وقال : مرحباً بكم ! رحمكم الله ! آواكم الله ! حفظكم الله ! رفعكم الله ! نفعكم الله ! وفقكم الله ! نصركم الله ! سلمكم الله ! رحمكم الله ! قبلكم الله ! أوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلفه عليكم ، وأؤديكم إليه ؛ إني لكم نذير وبشير ، لا تعلوا على الله في عباده وبلاده ؛ فإنه قال لي ولكم : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " . وقال : " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " . فقلنا : متى أجلك ؟ قال : قد دنا الفراق ، والمنقلب إلى الله ، وإلى سدرة المنتهى . قلنا : فمن يغسلك يا نبي الله ؟ قال : أهلي الأدنى فالأدنى ، قلنا : ففيم نكفنك يا نبي الله ؟ قال : في ثيابي هذه إن شئتم ؛ أو في بياض مصر ، أو حلة يمانية ، قلنا : فمن يصلي عليك يا نبي الله ؟ قال : مهلاً غفر الله لكم ، وجزاكم عن نبيكم خيراً ! فبكينا وبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إذا غسلموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا ، على شفير قبري ، ثم اخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي على جليسي وخليلي جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها ، ثم ادخلوا على فوجاً فوجاً ، فصلوا علي وسلموا تسليماً ، ولا تؤذوني بتزكية ولا برنة ولا صيحة ، وليبدأ بالصلاة على رجال أهل بيتي ، ثم نساؤهم ، ثم أنتم بعد . أفرئوا أنفسكم مني السلام ؛ فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة . قلنا : فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله ؟ قال : أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم .
حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان ابن أبي مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! قال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه ، فقال : ائتوني أكتب كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً . فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع - فقالوا : ما شأنه ؟ أهجر ! استفهموه ؛ فذهبوا يعيدون عليه ، فقال : دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ؛ وأوصي بثلاث ؛ قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم ؛ وسكت عن الثالثة عمداً - أو قال : فنسيتها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس ! ثم ذكر نحو حديث أحمد بن حماد ، غير أنه قال : ولا ينبغي عند نبي أن ينازع .
حدثنا أبو كريب وصالح بن سمال ، قال : حدثنا وكيع ، عن مالك ابن مغول ، عن طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! قال : ثم نظرت إلى دموعه تسيل على خديه كأنها نظام اللؤلؤ . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتوني باللوح والدواة - أو بالكتف والدواة - أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده . قال : قالوا : إن رسول الله يهجر .
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثني عمي عبد الله ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله ابن كعب بن مالك ؛ أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئاً ، فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب ، فقال : ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا ! وإني أرى رسول الله سيتوفي في وجعه هذا ؛ وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت ؛ فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر ؟ فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا . قال علي : والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً ؛ والله لا أسألها رسول الله أبداً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : خرج يومئذ علي بن أبي طالب على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ؛ غير أنه قال في حديثه : أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب ؛ فانطلق بنا إلى رسول الله ؛ فإن كان هذا الأمر فينا علمنا ، وإن كان في غيرنا أمرنا فأوصى بنا الناس ؛ وزاد فيه أيضاً : فتوفى رسول الله حين اشتد الضحى من ذلك اليوم .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبي ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرغوا على من سبع قرب من سبع آبار شتى ، لعلى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم .
قال محمد ، عن محمد بن جعفر ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : : فصببنا عليه من سبع قرب ، فوجد راحة ، فخرج فصلى بالناس ، وخطبهم ، واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ، ثم أوصى بالأنصار خيراً ، فقال : أما بعد يا معشر المهاجرين ، إنكم قد أصبحتم تزيدون ، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها التي هي عليها اليوم ، والأنصار عيبتي التي أويت إليها ، فأكرموا كريمهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم . ثم قال : إن عبداً من عباد الله قد خير بين ما عند الله وبين الدنيا فاختار ما عند الله ؛ فلم يفقهها إلا أبو بكر ؛ ظن أنه يريد نفسه ، فبكى ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلك يا أبا بكر ! سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر ؛ فإني لا أعلم امرأً أفضل يداً في الصحابة من أبي بكر .
حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا موسى بن أبي عائشة ، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة ، عن عائشة ، قالت : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ، فقال : لا تلدوني ! فقلنا : كراهية المريض الدواء . فلما أفاق قال : لا يبقى منكم أحد إلا لد ؛ غير العباس فإنه لم يشهد كم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في حديثه الذي ذكرناه عنه ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل بيته ، وتتام به وجعه حتى غمر ، واجتمع عنده نساء من نسائه : أم سلمة ، وميمونة ، ونساء من نساء المؤمنين ؛ منهن أسماء بنت عميس ، وعنده عمه العباس بن عبد المطلب ، وأجمعوا على أن يلدوه ، فقال العباس : لألدنه ، قال : فلد ، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من صنع بي هذا ؟ قالوا : يا رسول الله ، عمك العباس ، قال : هذا دواء أتى به نساء من نحو هذه الأرض - وأشار نحو أرض الحبشة - قال : ولم فعلتم ذلك ؟ فقال العباس : خشينا يا رسول الله أن يكون بك وجع ذات الجنب ، فقال : إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به ، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمى . قال : فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ عقوبة لهم بما صنعوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة ، أن عائشة حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا : خشينا أن يكون بك ذات الجنب ، قال : إنها من الشيطان ؛ ولم يكن الله ليسلطها علي .
حدثت عن هشام بن محمد ، عن أبي مخنف ، قال : حدثني الصقعب ابن زهير ، عن فقهاء أهل الحجاز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل في وجعه الذي توفي فيه حتى أغمى عليه ؛ فاجتمع إليه نساؤه وابنته وأهل بيته والعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وجميعهم ؛ وإن أسماء بنت عميس قالت : ما وجعه هذا إلا ذات الجنب ، فلدوه ، فلددناه ، فلما أفاق ، قال : من فعل بي هذا ؟ قالوا : لدتك أسماء بنت عميس ؛ ظنت أن بك ذات الجنب . قال : أعوذ بالله أن يبليني بذات الجنب ؛ أنا أكرم على الله من ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن عبيد بن السباق ، عن محمد بن أسامة بن زيد ، عن أبيه أسامة ابن زيد ، قال : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة ، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أصمت فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على ، فعرفت أنه يدعو لي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما أسمعه ، وهو يقول : إن الله عز وجل لم يقبض نبياً حتى يخيره .
حدثنا أبو كيب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا يونس بن عمرو ، عن أبيه ، عن الأرقم بن شرحبيل ، قال : سألت ابن عباس : أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قلت : فكيف كان ذلك ؟ قال : قال رسول الله : ابعثوا إلى علي فادعوه ، فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ! وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ! فاجتمعوا عنده جميعاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انصرفوا ، فإن تك لي حاجة أبعث إليكم ؛ فانصرفوا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آن الصلاة ؟ قيل : نعم ، قال : فأمروا أبا بكر ليصلى بالناس ، فقالت عائشة : إنه رجل رقيق ، فمر عمر ، فقال : مروا عمر ، فقال عمر : ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد ، فتقدم أبو بكر ، ووجد رسول الله خفة ، فخرج ، فلما سمع أبو بكر حركته تأخر ، فجذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه ، فأقامه مكانه ، وقعد رسول الله ، فقرأ من حيث انتهى أبو بكر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، قال : و حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع ، قالا : حدثنا الأعمش ، وحدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه ، أذن بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ، فقلت : إن أبا بكر رجل رقيق ، وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق ! قال : فقال : مروا أبا بكر يصلى بالناس ، فقلت مثل ذلك ، فغضب ، وقال : إنكن صواحب يوسف - وقال ابن وكيع : " صواحبات يوسف " - مروا أبا بكر يصلى بالناس ، قال : فخرج يهادي بين رجلين وقدماه تخطان في الأرض ؛ فلما دنا من أبي بكر ، تأخر أبو بكر ؛ فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قم في مقامك ، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى إلى جنب أبي بكر جالساً . قالت : فكان أبو بكر يصلى بصلاة النبي ، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر . اللفظ لحديث عيسى بن عثمان .
حدثت عن الواقدي ، قال : سألت ابن أبي سبرة : كم صلى أبو بكر بالناس ؟ قال : سبع عشرة صلاة ، قلت : من أخبرك ؟ قال أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وحدثنا ابن أبي سبرة ، عن عبد المجيد بن سهيل ، عن عكرمة ، قال : صلى بهم أبو بكر ثلاثة أيام .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن موسى بن سرجس ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت ، وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ، ثم يمسح وجه باماء ثم يقول : اللهم أعني على سكرة الموت ! حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن موسى بن سرجس ، عن القاسم بن محمد عن عائشة ، قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت . ثم ذكر مثله ؛ إلا أنه قال : أعني على سكرات الموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، قال : لما كان يوم الاثنين ، اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر ، وفتح الباب ، فخرج رسول الله ؛ حتى قام بباب عائشة ، فكاد المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ؛ فرحا به ، وتفرجوا . فأشار بيده : أن اثبتوا على صلاتكم ، وتبسم رسول الله فرحاً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه نلك الساعة ؛ ثم رجع وانصرف الناس ، وهم يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه ، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه إلى الصبح ؛ وأبو بكر يصلي بالناس ؛ فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرج الناس ، فعرف أبو بكر أن الناس لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكص عن مصلاه ، فدفع رسول الله في ظهره ، وقال : صل بالناس . وجلس رسول الله إلى جنبه ؛ فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر ؛ فلما فرغ من الصلاة ، أقبل على الناس وكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد ؛ يقول : يأيها الناس ، سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ! وإني والله لا تمسكون على شيئاً ؛ إني لم أحل لكم إلا ما أحل لكم القرآن ، ولم أحرم عليكم إلا ما حرم عليكم القرآن . فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه ، قال له أبو بكر : يا بني الله ؛ إني أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب ، واليوم يوم ابنة خارجة ، فآتيها . ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع في حجري ، فدخل على رجل من آل بكر في يده سواك أخضر . قالت : فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يده نظراً عرفت أنه يريده ، فأخذته فمضغنه حتى ألنته ، ثم أعطيته إياه ؛ قالت : فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله ، ثم وضعه ؛ ووجدت رسول الله يثقل في حجري . قالت : فذهبت أنظر في وجهه ، فإذا نظره قد شخص ، وهو يقول : بل الرفيق الأعلى من الجنة ! قالت : قلت : خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ! قالت : وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : سمعت عائشة تقول : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وفي دوري ؛ ولم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهى وحداثة سني أن رسول الله قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة ؛ وقمت ألتدم مع النساء ، وأضرب وجهي .
ذكر الأخبار الواردة باليوم الذي توفي فيه رسول الله ومبلغ سنه يوم وفاته قال أبو جعفر : أما اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار فيه أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، غير أنه اختلف في أي الأثانين كان موته صلى الله عليه وسلم ؟ فقال بعضهم في ذلك ما حدثت عن هشام بن محمد بن السائب ، عن أبي مخنف ، قال : حدثنا الصقعب بن زهير ، عن فقهاء أهل الحجاز ، قالوا : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار يوم الاثنين ، لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول ، وبويع أبو بكر يوم الاثنين في اليوم الذي قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الواقدي : توفي يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، ودفن من الغد نصف النهار حين زاعت الشمس ، وذلك يوم الثلاثاء .
قال أبو جعفر : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بالسنح وعمر حاضر . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب ، فقال : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي وأن رسول الله والله ما مات ؛ ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فغاب عن قومه أربعين ليلة ؛ ثم رجع بعد أن قيل قد مات ؛ والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات .
قال : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ؛ فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ؛ ورسول الله مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجهه ، ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن يصيبك بعدها موتة أبداً . ثم رد الثوب على وجهه ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ! فأنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه ، وتركوا عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ؛ إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ؛ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . ثم تلا هذه الآية : " وما محمد إلا رسول قد خلت من فبله الرسل.... " إلى آخر الآية . قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر يومئذ . قال : وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم .
قال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ؛ ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله قد مات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي معشر زياد بن كليب ، عن أبي أيوب ، عن إبراهيم ، قال : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر غائباً ، فجاء بعد ثلاث ، ولم يجترئ أحد أن يكشف عن وجهه ؛ حتى اربد بطنه ؛ فكشف عن وجهه ، وقبل بين عينيه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ! طبت حياً وطبت ميتاً ! ثم خرج أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات . ثم قرأ : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " . وكان عمر يقول : لم يمت ؛ وكان يتوعد الناس بالقتل في ذلك .
فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : منا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : منا الأمراء ومنكم الوزراء .
ثم قال أبو بكر : إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : عمر أو أبا عبيدة ، إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم فقالوا : أبعث معنا أميناً فقال : لأبعثن معكم أميناً حق أمين ؛ فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ؛ وأنا أرضى لكم أبا عبيدة . فقام عمر ، فقال : أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم ! فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار - أو بعض الأنصار ؛ لا نبايع إلا علياً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب ، قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقن عليكم أو لنخرجن إلى البيعة . فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه .
حدثنا زكرياء بن يحيى الضرير ، قال : حدثنا أبو عوانة ، قال : حدثنا داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في طائفة من المدينة ، فجاء فكشف الثوب عن مجهه فقبله ، وقال : فداك أبي وأمي ! ما أطيبك حياً وميتاً ! مات محمد ورب الكعبة ! قال : ثم انطلق إلى المنبر ، فوجد عمر ابن الخطاب قائماً يوعد الناس ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي لم يمت ؛ وإنه خارج إلى من أرجف به ، وقاطع أيديهم ، وضارب أعناقهم ، وصالبهم . قال : فنكلم أبو بكر ، قال : أنصت . قال : فأبى عمر أن ينصت ، فتكلم أبو بكر ، وقال : إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " . " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ... " ؛ حتى ختم الآية ، فمن كان يعبد محمداً فقد مات إلهه الذي كان يعبده ، ومن كان يعبد الله لا شريك له ، فإن الله حي لا يموت .
قال : فخلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : ما علمنا أن هاتين الآيتين نزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذ ؛ إذ جاء رجل يسعى فقال : هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلة بني ساعدة ، يبايعون رجلاً منهم ، يقولون : منا أمير ومن قريش أمير ، قال : فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم ؛ فأراد عمر أن يتكلم ، فنهاه أبو بكر ، فقال : لا أعصى خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مرتين .
قال : فتكلم أبو بكر ، فلم يترك شيئاً نزل في الأنصار ، ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره . وقال : لقد علمتم أن رسول الله قال : لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . قال : فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء . قال : فقال عمر : ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك ؛ فقال أبو بكر : بل أنت يا عمر ، فأنت أقوى لها منى . قال : وكان عمر أشد الرجلين ، قال : وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر وقال : إن لك قوتى مع قوتك . قال : فبايع الناس واستثبتوا للبيعة ، وتخلف على والزبير ، واخترط الزبير سيفه ، وقال : لا أغمده حتى يبايع على ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فقال عمر : خذوا سيف الزبير ، فاضربوا به الحجر . قال : فانطلق إليهم عمر ، فجاء بهما تعباً ، وقال : لتبايعان وأنتما طائعان ، أو لتبايعان وأنتما كارهان ؟! فبايعا .
حديث السقيفة حدثني علي بن مسلم ، قال : حدثنا عباد بن عباد ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، قال : حدثنا عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف القرآن ، قال : فحج عمر وحججنا معه ، قال : فإني لفي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن ابن عوف ، فقال : شهدت أمير المؤمنين اليوم ، وقام إليه رجل فقال : إني سمعت فلاناً يقول : لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلاناً . قال : فقال أمير المؤمنين : إنى لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم . قال : قلت : يا أمير المؤمنين ؛ إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ؛ وإنهم الذين يغلبون على مجلسك ، وإنى لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها ، ولا يضعوها على مواضعها ، وأن يطيروا بها كل مطير ؛ ولكن أمهل حتى تقدم المدينة ، نقدم دار الهجرة والسنة ، وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ، فتقول ما قلت متمكناً فيعوا مقالنك ، ويضعوها على مواضعها . فقال : والله لأقومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة .
قال : فلما قدمنا المدينة ، وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن ؛ فوجدت سعيد بن زيد قد سبقنى بالتهجير ، فجلست إلى جنبه عند المنبر ، ركبتى إلى ركبته ؛ فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج ، فقلت لسعيد وهو مقبل : ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم تقل قبله . فغضب وقال : فأى مقالة يقول لم تقل قبله ! فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذنون ، فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإنى أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها ، من وعاها وعقلها وحفظها ، فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ، ومن لم يعها فإنى لا أحل لأحد أن يكذب علي . إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ؛ وكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله ورجمنا بعده ، وإنى قد خشيت أن يطول بالناس زمان ، فيقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وقد كنا نقول : لا ترغبوا عن آبائكم ؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم . ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً ! فلا يغرن امرأً أن يقول : إن بيعة أبى بكر كانت فلتة ؛ فقد كانت كذلك ؛ غير أن الله وقى شرها ؛ وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبى بكر ! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، ونخلفت عنا الأبصار بأسرها ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ؛ فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار . قالا : فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم . فقلنا : والله لنأتينهم ، قال : فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة . قال : وإذا بين أظهرهم رجل مزمل ، قال : قلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم ، فحمد الله ، وقال : أما بعد ، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا ؛ وقد دفت إلينا من قومكم دافة قال : فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر . وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحد ، وكان هو أوقر منى وأحلم ؛ فلما أردت أن أتكلم ، قال: على رسلك ! فكرهت أن أعصيه ؛ فقام فحمد الله وأثنى عليه ، فما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت ؛ إلا قد جاء به أو بأحسن منه . وقال : أما بعد يا معشر الأنصار ؛ فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل ؛ وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ؛ وهم أوسط العرب داراً ونسباً ، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم . فأخذ بيدى وبيد أبي عبيدة بن الجراح . وإني والله ما كرهت من كلامه شيئاً غير هذا الكلمة ؛ إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر . فلما قضى أبو بكر كلامه ، قام منهم رجل ، فقال : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ؛ منا أمير ومنكم أمير ؛ يا معشر قريش .
قال :فارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط ، فلما أشفقت الختلاف ، قلت لأبي بكر : ابسط يدك أبايعك ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، وبايعه الأنصار . ثم نزونا على سعد ، حتى قال قائلهم : قتلتم سعد بن عبادة ! فقلت : قتل الله سعداً ! وإنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نتابعهم على ما نرضى ، أو نخالفهم فيكون فساد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : إن أحد الرجلين اللذين لقوا من ؟ الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة ، عويم بن ساعدة والآخر معن بن عدى ؛ أخو بنى العجلان ، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنهقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من الذين قال الله لهم : " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم المرء منهم عويم بن ساعدة ! وأما معن فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله ، وقالوا : والله لوددنا أنا متنا قبله ؛ إنا نخشى أن نفتتن بعده . فقال معن بن عدي : والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتاً كما صدقته حياً . فقتل معن يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب .
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري ، قال : أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرني سيف بن عمر ، عن الوليد بن عبد بن أبي ظبية الجلي ، قال : حدثنا الوليد بن جميع الزهري ، قال : قال عمرو بن حرث لسعيد ابن زيد : أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، فال : فمتى بويع أبو بكر ؟ قال : يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة . قال : فخالف عليه أحد ؟ قال : لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد ، لولا أن الله عز وجل ينقذهم من الأنصار . قال : فهل قعد أحد من المهاجرين ؟ قال : لا ، تتابع المهاجرون على بيعته ، من غير أن يدعوهم .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف ، عن عبد العزيز بن ساه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : كان على في بيته إذ أتى فقيل له : قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء ، عجلاً ، كراهية أن يبطئ عنها ، حتى بايعه . ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله ، ولزم مجلسه .
حدثنا أبو صالح الضرار ، قال : حدثنا عبد الرزاق بن همام ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك ، وسهمه من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : أما آني سمعت رسول الله يقول : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال . وآني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته . قال : فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها على ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر . وكان لعلى وجه من الناس حياة فاطمة ، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ؛ فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفيت .
قال معمر : فقال رجل للزهري : أفل يبايعه على ستة أشهر ! قال : لا ؛ ولا أحد من بني هاشم ؛ حتى بايعه علي . فلما رأى على انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر ، فأرسل إلى أبي بكر : أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد ، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر ، فقال عمر : لآتتهم وحدك ، قال أبو بكر : ولله لآتينهم وحدي ، وما عسى أن يصنعوا بي ! قال : فانطلق أبو بكر ، فدخل على علي ، وقد جمع بنى هاشم عنده ، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك ، ولا نفاس عليك بخير ساقه الله إليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً ، فاستبددتم به علينا . ثم ذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم . فلم يزل علي يقول ذلك حتى بكى أبو بكر .
فلما صمت علي تشهد أبو بكر . فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ؛ فه الله لقرابة رسول الله أحب إلى أن أصل من قرابتي ؛ وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير ؛ ولكني سمعت رسول الله يقول : ((لا نورث ؛ ما تركنا فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال)) ؛ وإني أعوذ بالله لا أذكر أمراً صنعه محمد رسول الله إلا صنعته فيه إن شاء الله .
ثم قال علي : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ، ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر ، ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر ، وذكر فضيلته وسابقته ، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه . قالت : فأقبل الناس إلى علي فقالوا : أصبت وأحسنت ، قالت : فكان الناس قريباً إلى علي حين قارب الحق والمعروف .
حدثني محمد بن عثمان بن صفوان الثقفي ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا مالك - يعني ابن مغول - عن ابن الحر ، قال : قال أبو سفيان لعلي : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً ! قال : فقال علي : يا أبا سفيان ، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئاً ! إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً .
حدثني محمد بن عثمان التقفي ، قال : حدثنا أمية بن خالد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، قال : لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ؛ إنما هي بنو عبد مناف ! قال : فقيل له : إنه قد ولى ابنك ، قال : وصلته رحم ! حدثت عن هشام ، قال : حدثني عوانة ، قال : لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان ؛ وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم ! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم ! أين المستضعفان ! أين الأذلان علي والعباس ! وقال : أبا حسن ! ابسط يدك حتى أبايعك ، فأبى علي عليه ، فجعل يتمثل بشعر المتلمس :
ولن يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد
قال : فزجره علي ، وقال : إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ؛ وإنك والله طالما بغيت الإسلام شراً ! لا حاجة لنا في نصيحتك .
قال هشام بن محمد : وأخبرني أبو محمد القرشي ، قال : لما بويع أبو بكر ، قال أبو سفيان لعلي والعباس : أنتما الأذلان ! ثم أنشد يتمثل :
إن الهوان حمار الأهل يعرفه ... والحر ينكره والرسلة الأجد
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمته ... وذا يشج فلا يبكي له أحد
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، قال : لما بويع أبو بكر في السقيفة ؛ وكان الغد ، جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر ؛ فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس ؛ إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي ؛ وما وجدتها في كتاب الله ؛ ولا كانت عهداً عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ؛ حتى يكون آخرنا ؛ وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله ؛ فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له ؛ وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ؛ صاحب رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ؛ فقوموا فبايعوا . فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة .
ثم تكلم أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ، ثم قال : أما بعد أيها الناس ؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ؛ فإن أحسنت فأعينوني ؛ وإن أسأت فقوموني . الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوى عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوى منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله . لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله ؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ؛ فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم . قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله !
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد إسحاق ، عن حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته ؛ وهو عامد إلى حاجة له ، وفي يده الدرة ، وما معه غيري . قال وهو يحدث نفسه ، ويضرب وحشي قدمه بدرته ، قال إذ التفت إلى فقال : يا بن عباس ، هل تدري ما حملني على مقالتي هذه التي قلت حين توفي الله رسوله ؟ قال : قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين ؛ أنت أعلم ، قال : والله إن حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية : " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " ؛ فو الله إني كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ؛ فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت ذكر جهاز رسول اله صلى الله عليه وسلم ودفنه قال أبو جعفر : فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : كان ذلك من فعلهم يوم الثلاثاء ؛ وذلك الغد من وفاته صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام ، وقد مضى ذكر بعض قائلي ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر وكثير بن عبد الله وغيرهما من أصحابه ، عمن يحدثه ؛ عن عبد الله بن عباس ، أن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل ابن العباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين ولوا غسله ، وإن أوس بن خولي أحد بني عوف ابن الخزرج ؛ قال لعلي بن أبي طالب : أنشدك الله يا علي ؛ وحظنا من رسول الله ! وكان أوس من أصحاب بدر ؛ وقال : ادخل ؛ فدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم هم الذين يقبلونه معه ؛ وكان أسامة بن زيد وشقران مولياه هما اللذان يصبان الماء ، وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه من ورائه ، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي يقول : بأبي أنت وأمي ! ما أطيبك حياً وميتاً ! ولم ير من رسول الله شيء مما يرى من الميت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى ابن عباد ، عن أبيه عباد ، عن عائشة ، قالت : لما أرادوا أن يغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه ، فقالوا : والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه ! فلما اختلفوا ألقي عليهم السنة حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدري من هو : أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه ؛ قالت : فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه يصبون عليه الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم .
قال : فكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن جعفر ابن محمد بن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن جده علي بن حسين . قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن علي بن حسين ، قال : فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وبرد حبرة ؛ أدرج فيها إدراجا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن حسين بن عبد الله ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد ابن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة ، وكان يلحد - فدعا العباس رجلين ، فقال لأحدهما : اذهب إلى أبي عبيدة ، وللآخر : اذهب إلى أبي طلحة ؛ اللهم خر لرسولك ؛ قال : فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ؛ وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه ؛ فقال قائل : ندفنه في مسجده ، وقال قائل : يدفن مع أصحابه ؛ فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((ما قبض نبي إلا يدفن حيث قبض)) ؛ فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه ؛ فحفر له تحته ؛ ودخل الناس على رسول الله يصلون عليه أرسالا ؛ حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء ، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ؛ ثم أدخل العبيد ؛ ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ، ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن فاطمة بنت محمد بن عمارة ، امرأة عبد الله - يعني ابن أبي بكر - عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء .
قال ابن إسحاق : وكان الذي نزل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد قال أوس بن خولي : أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله ! فقال له : انزل فنزل مع القوم ؛ وقد كان شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وبني عليه ؛ قد أخذ قطيفة كان رسول الله يلبسها ويفترشها ؛ فقذفها في القبر ، وقال : والله لا يلبسها أحد بعدك أبداً . قال : فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : وكان المغيرة بن شعبة يدعى أنه أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول : أخذت خاتمي فألقيته في القبر ، وقلت : إن خاتمي قد سقط ، وإنما طرحته عمداً لأمس رسول الله ، فأكون آخر الناس به عهداً .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه إسحاق بن يسار ، عن مقسم أبي القاسم ، مولى عبد الله بن الحارث ابن نوفل ، عن مولاه عبد الله بن الحارث ، قال : اعتمرت مع علي بن أبي طالب في زمان عمر - أو زمان عثمان - فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب ، فلما فرغ من عمرته رجع وسكبت له غسلا فاغتسل ؛ فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق ؛ فقالوا ، يا أبا الحسن ؛ جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به ! فقال : أظن المغيرة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالوا : أجل ، عن ذا جئنا نسألك ! قال : كذب ؛ كان أحدث الناس عهداً برسول الله قثم بن العباس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن صالح ابن كيسان ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشند به وجعه ، قالت : فهو يضعها مرة على وجهه ، ومرة يكشفها عنه ، ويقول : قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ! يحذر ذلك على أمته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن صالح ابن كيسان ، عن الزهري ، عن عبيد اله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يترك بجزيرة العرب دينان .
قالت : وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، في اليوم الذي قدم فيه المدينة مهاجراً فاستكمل في هجرته عشر سنين كوامل .
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : كان له يومئذ ثلاث وستون سنة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، قال : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، وبالمدينة عشراً ؛ ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي جمرة ، عن أبيه ، قال : عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ، وأقام بمكة عشراً ، وبالمدينة عشراً ، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين .
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا أبو جمرة الضبعي ، عن ابن عباس ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، وأقام بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه ، وبالمدينة عشراً ، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنى عمي عبد الله ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين .
وقال آخرون : كان له يومئذ خمس وستون .
ذكر من قال ذلك : حدثني زياد بن أيوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن دغفل - يعني ابن حنظلة - أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن خمس وستين سنة .
وقال آخرون : بل كان له يومئذ ستون سنة .
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، عن عروة بن الزبير ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين ، ومات وهو ابن ستين .
حدثنا الحسين بن نصر ، قال : أخبرنا عبيد الله ، قال : أخبرنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، قال : حدثتني عائشة وابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن ، وبالمدينة عشراً .
ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفى فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني ، قال : حدثنا أحمد بن أبي طيبة ؛ قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع ، فأراهم مناسكهم ، فلما كان العام المقبل حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر ؛ وصدر إلى المدينة ، وقبض في ربيع الأول .
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا موسى بن داود ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس ، قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأثنين ، واستنئ يوم الاثنين ، ورفع الحجر يوم الاثنين ، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين .
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، قال : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول في اثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء .
حدثني أحمد بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه دخل عليه فقال لامرأته فاطمة : حدثي محمداً ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن . فقالت : سمعت عمرة تقول : سمعت عائشة تقول : دفن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء ؛ وما علمنا به حتى سمعنا صوت المساحي .
ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفه بني ساعدة
حدثنا هشام بن محمد ، عن أبي محنف ، قال : حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : نولي هذا الأمر بعد محمد عليه السلام سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ؛ فلما اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمه : إني لا أقدر لشكواى أن أسمع القوم كلهم كلامي ؛ ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه ؛ فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله ، فيرفع صوته فيسمع أصحابه ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : يا معشر الأنصار ؛ لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ؛ إن محمداً عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ؛ فما آمن به من قومه إلا رجال قليل ؛ وكان ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ؛ ولا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة ، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة ، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ؛ والجهاد لأعدائه ؛ فكنتم أشد الناس على عدوه منكم ، وأثقله على عدوه من غيركم ؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً ؛ وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً ؛ حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ، ودانت بأسيافكم له العرب ؛ وتوفاه الله وهو عنكم راض ؛ وبكم قرير عين . استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس .
فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، ونوليك هذا الأمر ، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا . ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم ، فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش ، فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ؛ ونحن عشيرته وأولياؤه ؛ فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده ! فقالت طائفة منهم : فإنا نقول إذاً : منا أمير ومنكم أمير ؛ ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً . فقال سعد بن عبادة حين سمعها : هذا أول الوهن ! .
وأتى عمر الخبر ، فأقبل إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلى ، فأرسل إليه : إني مشتغل ؛ فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره ؛ فخرج إليه ، فقال : أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة ؛ وأحسنهم مفالة من يقول : منا أمير ومن قريش أمير ! فمضيا مسرعين نحوهم ؛ فلقيا أبا عبيدة بن الجراح ؛ فتماشوا إليهم ثلاثتهم ، فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة ، فقالا لهم : ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون ، فقالوا : لا نفعل ، فجاءوا وهم مجتمعون . فقال عمر بن الخطاب : أتيناهم - وقد كنت زورت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم - فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق ، فقال لي أبو بكر : رويداً حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت . فنطق ، فقال عمر : فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه .
فقال عبد الله بن عبد الرحمن : فبدأ أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ ثم قال : إن الله بعث محمداً رسولاً إلى خلقه ، وشهيداً على أمته ، ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى ؛ ويزعمون أنها لهم عنده شافعة ، ولهم نافعة ؛ وإنما هي من حجر منحوت ، وخشب منجور ، ثم قرأ : " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " ، وقالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ؛ فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه ، والإيمان به ، والمؤاساة له ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم ؛ وتكذيبهم إياهم ؛ وكل الناس لهم مخالف ، زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم ؛ وإجماع قومهم عليهم ؛ فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول ؛ وهم أولياء وعشيرته ، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ؛ ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ، وأنتم يا معشر الأنصار ، من لا ينكر فضلهم في الدين ، ولاسابقتهم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه ؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم ؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضى دونكم الأمور .
قال : فقام الحباب بن المنذر بن الجموح ، فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ؛ ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العز والثروة ، وأولو العدد والمنعة والتجربة ، ذوو البأس والنجدة ؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون ؛ ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ؛ وينتقض عليكم أمركم ؛ فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم ؛ فمنا أمير ومنهم أمير .
فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم ؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ؛ من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل ، أو متجانف إثم ، ومتورط في هلكة ! فقام الحباب بن المنذر فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ؛ فإن أبوا عليكم ما سألتموه ، فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ؛ فإنه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين ؛ أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ! أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة ؛ فقال عمر : إذاً يقتلك الله ! قال : بل إياك يقتل ! فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ؛ إنكم أول من نصر وآزر ؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير .
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار ؛ إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ؛ ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا ؛ والكدح لأنفسنا ؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا ؛ فإن الله ولى المنة علينا بذلك ؛ ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش ، وقومه أحق به وأولى . وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم ! فقال أبو بكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا . فقالا : لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك ؛ فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وخليفة رسول الله على الصلاة ؛ والصلاة أفضل دين المسلمين ؛ فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك ! ابسط يدك نبايعك .
فلما ذهبا ليبايعاه ، سبقهما إليه بشير بن سعد ، فبايعه ، فناداه الحباب ابن المنذر : يا بشير بن سعد : عقتك عقاق ؛ ما أحوجك إلى ما صنعت ، أنفست على ابن عمك الإمارة ! فقال : لا والله ؛ ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم .
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد ابن حضير - وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ؛ ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر . فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم .
قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثنى أبو بكر بن محمد الخزاعي ، أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك ، فبايعوا أبا بكر ؛ فكان عمر يقول : ما هو إلا أن رأيت أسلم ، فأيقنت بالنصر .
قال هشام ، عن أبي مخنف : قال عبد الله بن عبد الرحمن : فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر ، وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعداً لا تطئوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ! ثم قام على رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تنذر عضدك ، فأخذ سعد بليحة عمر ، فقال : والله لو حصصت منه شعره ما رجعت وفي فيك واضحة ؛ فقال أبو بكر : مهلاً يا عمر ! الرفق ها هنا أبلغ . فأعرض عنه عمر . وقال سعد : أما والله لو أن بي قوة ما ، أقوى على النهوض ، لسمعت منى في أقطارها وسككها زئيراً يجحرك وأصحابك ؛ أما والله إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع ! احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه في داره ، وترك أياماً ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ؛ فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي ، وأخضب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ؛ فلا أفعل ، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم ، حتى أعرض على ربي ، وأعلم ما حسابي .
فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر : لا تدعه حتى يبايع . فقال له بشير بن سعد : إنه قد لج وأبى ؛ وليس بمبايعكم حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ؛ فاتركوه فليس تركه بضاركم ؛ إنما هو رجل واحد . فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه ؛ فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم ؛ فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ابن عمر ، عن سهل وأبي عثمان ، عن الضحاك بن خليفة ، قال : لما قام الحباب ابن المتذر انتضى سيفه ؛ وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ؛ أنا أبو شبل في عريسة الأسد ، يعزى إلى الأسد . فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد ؛ وتتابع القوم على البيعة ؛ وبايع سعد ؛ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ؛ قام أبو بكر دونها . وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعداً ، فقال عمر : قتله الله ! إنه منافق ، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه .
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثني عمي يعقوب ، قال : حدثنا سيف ، عن مبشر ، عن جابر ، قال : قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر : إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة ؛ وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة ، فقالوا : إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ؛ ولكنا أجبرنا على الجماعة ، فلا إقالة فيها ؛ لئن نزعت يداً من طاعة ، أو فرقت جماعة ، لنضربن الذي فيه عيناك .
ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمر - عن أبي ضمرة ، عن أبيه ، عن عاصم بن عدي ، قال : نادى منادي أبي بكر ، من بعد الغد من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتم بعث أسامة ؛ ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف . وقام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يأيها الناس ، إنما أنا مثلكم ؛ وإني لا أدري لعكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق ؛ إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ؛ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها ؛ ألا وإن لي شيطاناً يعتريني ؛ فإذا أتاني فاجتنبوني ؛ لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ؛ وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ؛ فإن استطعتم ألا يمضى هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ؛ ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ؛ فإن قوماً نسوا آجالهم ، وجعلوا أعمالهم لغيرهم ؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم . الجد الجد ! والوحا الوحا ! والنجاء النجاء ! فإن وراءكم طالبا حثيثاً ، أجلاً مره سريع . احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات .
وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه ؛ فأريدوا الله بأعمالكم ، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها ، وخطأ ظفرتم به ، وضرائب أديتموها ، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية ؛ لحين فقركم وحاجتكم . اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا فيمن كان قبلكم . أين كانوا أمس ، وأين هم اليوم ! أين الجبارون ! وأين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب ! قد تضعضع بهم الدهر ، وصاروا رميماً ؛ قد تركت عليهم القالات ؛ الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات . وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها ؛ قد بعدوا ونسى ذكرهم ، وصاروا كلا شيء . ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم ، والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفاً بعدهم ؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ؛ وإن اغتررنا كنا مثلهم ! أين الوضاء الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ! صاروا تراباً ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم ! أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها الأعاجيب ! قد تركوها لمن خلفهم ؛ فتلك مساكنهم خاوية ، وهم في ظلمات القبور ، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم ؛ قد انتهت بهم آجالهم ، فوردوا على ما فدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة فيما بعد الموت . ألا إلا الله لا شريك له ، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً ، ولا يصرف عنه به سوءاً ، إلا بطاعته واتباع أمره . واعلموا أنكم عبيد مدينون ، وإن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته ؛ أما أنه لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة .
حدثني عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السرى ، قال : حدثنا شعيب ، قال : أخبرنا سيف - عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، قال : لما بويع أبو بكر رضى الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه ، قال : ليتم بعث أسامة ؛ وقد ارتدت العرب ؛ إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة ؛ ونجم النفاق ، واشرأبت اليهود والنصارى ، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية ، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم ، وكثرة عدوهم . فقال له الناس : إن هؤلاء جل المسلمين والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك ؛ فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين . فقال أبو بكر : والذي نفس أبي بكر بيده ، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري فنفذته !
حدثني عبيد الله ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن عطية ، عن أبي أيوب عن علي ، وعن الضحاك عن ابن عباس ، قالا : ثم اجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية ، وخرجوا وخرج أهل المدينة في جند أسامة ؛ فحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم ، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما ؛ عن الحسن بن أبي الحسن البصري ، قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم ؛ وفيهم عمر ابن الخطاب ، وأمر عليهم أسامة بن زيد . فلم يجاوز آخرهم الخندق ، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقف أسامة بالناس ، ثم قال لعمر : ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه ؛ يأذن لي أن أرجع بالناس ؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم ؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون . وقالت الأنصار : فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة . فخرج عمر بأمر أسامة ، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة ، فقال أبو بكر ، لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال : فإن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة ؛ فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر ، فقال له : ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب ! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه ! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : امضوا ، ثكلتكم أمهاتكم ! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله ! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم ، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب ، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر ، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، والله لتركبن أو لأنزلن ! فقال : والله لا تنزل ووالله لا أركب ! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة ؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترتفع له ، وترفع عنه سبعمائة خطيئة ! حتى إذا انتهى قال : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ! فأذن له ، ثم قال : يأيها الناس ، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة ؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام ؛ فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها . وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب ؛ فاخفقوهم بالسيف خفقاً . اندفعوا باسم الله ، أفناكم الله بالطعن والطاهون .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - وأخبرنا عبيد الله ، قال : أخبرني عمي ، قال : حدثنا سيف - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : خرج أبو بكر إلى الجرف ، فاستقرى أسامة وبعثه ، وسأله عمر فأذن له ، وقال له : اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ابدأ ببلاد قضاعة ثم إيت آبل ، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده . فمضى أسامة مغذاً على ذي المروة والوادي ، وانتهى إلى ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل ، فسلم وغنم ، وكان فراغه في أربعين يوماً سوى مقامه ومنقلبه راجعاً .
فحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - وحدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - عن موسى بن عقبة ، عن المغيرة بن الأخنس .
وعنهما ، عن سيف ، عن عمرو بن قيس ، عن عطاء الخراساني مثله .
بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع - فيما بلغنا - لباذام حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها ، وأمره على جميع مخالفيها ، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته ، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتى مات باذام ، فلما مات فرق عملها بين جماعة من أصحابه .
فحدثني عبيد الله بن سعد الزهري ، قال : حدثنا عمي ، قال : حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف - قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ابن لوذان الأنصاري السلمى - وكان فيمن بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع عمال اليمن في سنة عشر بعد ما حج حجة التمام : وقد مات باذام ، فلذلك فرق عملها بين شهر بن باذام ، وعامر بن شهر الهمداني ، وعبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والطاهر بن أبي هالة ، ويعلى بن أمية ، وعمر بن حزم ، وعلى بلاد حضر موت زياد بن لبيد البياضى وعكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي ؛ على السكاسك والسكون ومعاوية ابن كندة ، وبعث معاذ بن جبل معلماً لأهل البلدين : اليمن وحضر موت .
حدثني عبيد الله ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - يعني ابن عمر - عن أبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة ، عن عبادة بن قرص بن عبادة ، عن قرص الليثي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة بعد ما قضى حجة الإسلام ، وقد وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجال ، وأفراد كل رجل بحيزه ، ووجه إمارة حضر موت وفرقها بين ثلاثة ، وأفرد كل واحد منهم بحيزه ، واستعمل عمرو بن حزم على نجران ، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورمع وزبيد ، وعامر بن شهر على همدان ، وعلى صنعاء ابن باذام ، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة ، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري ، وعلى الجند يعلى بن أمية . وكان معاذ معلماً يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت ؛ واستعمل على أعمال حضر موت ؛ على السكاسك والسكون عكاشة بن ثور ، وعلى بني معاوية بن كندة عبد الله - أو المهاجر - فاشتكى فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر . وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي ، وكان زياد يقوم على عمل المهاجر ؛ فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت ؛ إلا من قتل في قتال الأسود أو مات ؛ وهو باذام ، مات ففرق النبي صلى الله عليه وسلم العمل من أجله . وشهر ابنه - يعني ابن باذام - فسار إليه الأسود فقاتله فقتله .
وحدثني بهذا الحديث السري ، عن شعيب بن إبراهيم ، عن سيف . فقال فيه : عن سيف ، عن أبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة . ثم سائر الحديث بإسناده مثل حديث ابن سعد الزهري .
قال : حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أول من اعترض على العنسى وكاثره عامر بن شهر الهمداني في ناحيته وفيروز ودا ذويه في ناحيتهما ، ثم تتابع الذين كتب إليهم على ما أمروا به .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرني سيف ، قال . وحدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ، قال : فبينا نحن بالجند قد أقمناهم على ما ينبغي ؛ وكتبنا بيننا وبينهم الكتب ، إذ جاءنا كتاب من الأسود : أيها المتوردون علينا ، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفروا ما جمعتم ؛ فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه . فقلنا للرسول : من أين جئت ؟ قال : من كهف خبان . ثم كان وجهه إلى نجران ؛ حتى أخذها في عشر لمخرجه ، وطابقه عوام مذحج . فبينا نحن ننظر في أمرنا ، ونجمع جمعنا ، إذ أتينا فقيل : هذا الأسود بشعوب ، وقد خرج إليه شهر بن باذام ؛ وذلك لعشرين ليلة من منجمه . فبينا نحن ننتظر الخبر على من تكون الدبرة ، إذ أتانا أنه قتل شهراً ، وهزم الأبناء ، وغلب على صنعاء لخمس وعشرين ليلة من منجمه . وخرج معاذ هارباً ، حتى مر بأبي موسى وهو بمأرب ، فاقتحما حضرموت ؛ فأما معاذ فإنه نزل في السكون ؛ وأما أبو موسى فإنه نزل في السكاسك مما يلي المفور والمفازة بينهم وبين مأرب ، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطاهر إلا عمراً وخالداً ؛ فإنهما رجعا إلى المدينة ؛ والطاهر يومئذ في وسط بلاد عك بحيال صنعاء . وغلب الأسود على ما بين صهيد - مفازة حضرموت - إلى عمل الطائف إلى البحرين قبل عدن ، وطابقت عليه اليمن ، وعك بتهامة معترضون عليه ؛ وجعل يستطير استطارة الحريق ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان ؛ وكان قواده قيس بن عبد يغوث المرادي ومعاوية بن قيس لبجنبي ويزيد بن محرم ويزيد بن حصين الحارثي ويزيد بن الأفكل الأزدي . وثبت ملكه واستغلظ أمره ، ودانت له سواحل من السواحل ؛ حاز عثر والشرجة والحردة وغلافقة وعدن ، والجند ؛ ثم صنعاء إلى عمل الطائف ، إلى الأحسية وعليب ؛ وعامله المسلمون بالبقية ، وعامله أهل الردة بالكفر والرجوع عن الإسلام . وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب ، وأسند أمره إلى نفر ؛ فأما أمر جنده فإلى قيس بن عبد يغوث ، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه .
فلما أثخن في الأرض اسنخف بقيس وبفيروز وداذويه ، وتزوج امرأة شهر ؛ وهي ابنة عم فيروز ؛ فبينا نحن كذلك بحضرموت - ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود ، أو يبعث إلينا جيشاً ، أو يخرج بحضرموت خارج يدعى بمثل ما ادعى به الأسود ، فنحن على ظهر ، تزوج معاذ إلى بني بكرة ؛ حي من السكون ، امرأة أخوالها بنو زنكبيل يقال لها رملة ، فحدبوا لصهره علينا ، وكان معاذ بها معجباً ، فإن كان ليقول فيما يدعو الله به : اللهم ابعثني يوم القيامة مع السكون ، ويقول أحياناً : اللهم اغفر للسكون - إذ جاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمجاولته أو لمصاولته ؛ ونبلغ كل من رجا عنده شيئاً من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقام معاذ في ذلك بالذي أمر به ، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر .
حدثنا السري ، قال : أخبرنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - وحدثني عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - قال : أخبرنا المستنير ابن يزيد ، عن عروة بن غزية الدثيني ، عن الضحاك بن فيروز - قال السري : عن جشيش بن الديلمى ، وقال عبيد الله : عن جشنس بن الديلمي - قال : قدم علينا وبر بن يحنس بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يأمرنا فيه بالقيام على ديننا ، والنهوض في الحرب ، والعمل في الأسود : إما غيلة وإما مصادمة ؛ وأن نبلغ عنه من رأينا أن عنده نجدة وديناً . فعلمنا في ذلك ، فرأينا أمراً كثيفاً ، ورأيناه قد تغير لقيس بن عبد يغوث - وكان على جنده - فقلنا : يخاف على دمه ؛ فهو لأول دعوة ؛ فدعوناه وأنبأناه الشأن ، وأبلغناه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكأنما وقعنا عليه من السماء ، وكان في غم وضيق بأمره ؛ فأجابنا إلى ما أحيينا من ذلك ، وجاءنا وبر بن يحنس ، وكاتبنا الناس ودعوناهم ؛ وأخبره الشيطان بشيء ، فأرسل إلى قيس وقال : يا قيس ، ما يقول هذا ؟ قال : وما يقول ؟ قال : يقول : عمدت إلى قيس فأكرمته ؛ حتى إذا دخل منك كل مدخل ، وصار في العز مثلك ، مال ميل عدوك ؛ وحاول ملكك وأضمر على الغدر ؟ إنه يقول : يا أسود يا أسود ؟! يا سوءة يا سوءة ! اقطف قنته ، وخذ من قيس أعلاه ؛ وإلا سلبك أو قطف قنتك . فقال قيس - وحلف به : كذب وذي الخمار ؛ لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي ؛ فقال : ما أجفاك ! أتكذب الملك ! قد صدق الملك ؛ وعرفت الآن أنك تائب مما اطلع عليه منك .
ثم خرج فأتانا ، فقال : يا جشيش ، ويا فيروز ، وياداذويه ؛ إنه قد قال وقلت ؛ فما الرأى ؟ فقلنا : نحن على حذر ؛ فإنا في ذلك ؛ إذ أرسل إلينا ، فقال : ألم أشرفكم على قومكم ، ألم يبلغنى عنكم ! فقلنا : أقلنا مرتنا هذه ، فقال : لا يبلغنى عنكم فأقتلكم ؛ فنجونا ولم نكد ؛ وهو في ارتياب من أمرنا وأمر قيس ؛ ونحن في ارتياب وعلى خطر عظيم ؛ إذ جاءنا اعتراض عامر ابن شهر وذي زود وذي مران وذي الكلاع وذي ظليم عليه ، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر ؛ وكاتبناهم وأمرناهم ألا يحركوا شيئاً حتى نبرم الأمر - وإنما اهتاجوا لذلك حين جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران ؛ إلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب ؛ فثبتوا فتنحوا وانضموا إلى مكان واحد - وبلغه ذلك ، وأحسن بالهلاك ، وفرق لنا الرأى . فدخلت على آذاذ ؛ وهي امرأته ، فقلت : يا ابنة عم ؛ قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك ؛ قتل زوجك ، وطأطأ في قومك القتل ، وسفل بمن بقي منهم ؛ وفضح النساء ؛ فهل عندك من ممالأة عليه ! فقالت : على أي أمره ؟ قلت : إخراجه ، قالت : أو قتله ، قلت : أو قتله ، قالت : نعم والله ما خلق الله شخصاً أبغض إلى منه ؛ ما يقوم لله على حق ، ولا ينتهي له عن حرمة ؛ فإذا عزمتم فأعلموني أخبركم بمأتى هذا الأمر . فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظراني ، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه ، فقال له رجل قبل أن يجلس إلينا : الملك يدعوك ، فدخل في عشرة من مذحج وهمدان ، فلم يقدر على قتله معهم - قال السري في حديثه : فقال : يا عيهلة بن كعب بن غوث ، وقال عبيد الله في حديثه : يا عبهلة بن كعب بن غوث - أمنى تحصن بالرجال ! ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذابة ! إنه يقول : يا سوءة يا سوءة ! إلا تقطع من قيس يده يقطع قنتك العليا ؛ حتى ظن أنه قاتله ؛ فقال : إنه ليس من الحق أن أقتلك وأنت رسول الله ، فمر بي بما أحببت ؛ فأما الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة أن تقتلني - قال الزهري : فإما قتلتني فموتة ، وقال السري : اقتلني فموتة أهون على من موتات أموتها كل يوم - فرق له فأخرجه ، فخرج علينا فأخبرنا وواطأنا ، وقال : اعلموا عملكم ؛ وخرج علينا في جمع ، فقمنا مثولا له ، وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير ، فقام وخط خطاً فأقيمت من ورائه ، وقام من دونها ، فنحرها غير محبسة ولا معقلة ، ما يقنحم الخط منها شيء ، ثم خلاها فجالت إلى أن زهقت ؛ فما رأيت أمراً كان أفظع منه ، ولا يوماً أوحش منه . ثم قال : أحق ما بلغني عنك يا فيروز ؟ وبوأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك فأتبعك هذه البهيمة ، فقال : اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء ؛ فلو لم تكن نبياً ما بعنا نصيبنا منك بشيء ؛ فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة ودنيا ؛ لا تقبلن علينا أمثال ما يبلغك ؛ فإنا بحيث تحب . فقال : اقسم هذه ؛ فأنت أعلم بمن ها هنا ، فاجتمع إلى أهل صنعاء ، وجعلت آمر للرهط بالجزور ولأهل البيت بالبقرة ، ولأهل الحلة بعدة ، حتى أخذ أهل كل ناحية بقسطهم . فلحق به قبل أن يصل إلى داره - وهو واقف على - رجل يسعى إليه بفيروز ؛ فاستمع له ، واستمع له فيروز وهو يقول : أنا قاتله غداً وأصحابه ؛ فاغد علي ، ثم التفت فإذا به ، فقال : مه ! فأخبره بالذي صنع ، فقال : أحسنت ، ثم ضرب دابته داخلاً ، فرجع إلينا فأخبرنا الخبر ، فأرسلنا إلى قيس ؛ فجاءنا ؛ فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتخبرنا بما تأمر ؛ فأتيت المرأة وقلت : ما عندك ؟ فقالت : هو متحرز متحرس ؛ وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت ؛ فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق ؛ فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ؛ فإنكم من دون الحرس ؛ وليس دون قتله شيء . وقالت : إنكم ستجدون فيه سراجاً وسلاحاً . فخرجت فتلقاني الأسود خارجاً من بعض منازله ، فقال لي : ما أدخلك علي ؟ ووجأ رأسي حتى سقطت - وكان شديداً وصاحت المرأة فأدهشته عني ؛ ولولا ذلك لقتلني . وقالت : ابن عمي جاءني زائراً ، فقصرت بي ! فقال : اسكتي لا أبا لك ، فقد وهبته لك ! فتزايلت عني ، فأتيت أصحابي فقلت : النجاء ! الهرب ! وأخبرتهم الخبر ؛ فإنا على ذلك حيارى إذ جاءني رسولها : لا تدعن ما فارقتك عليه ؛ فإني لم أزل به حتى اطمأن ؛ فقلنا لفيروز : ائتها فتثبت منها ؛ فإما أنا
فلا سبيل لي إلى الدخول بعد النهي . ففعل ، وإذا هو كان أفطن مني ؛ فلما أخبرته قالت : وكيف ينبغي لنا أن ننقب على بيوت مبطنة ! ينبغي لنا أن نقلع بطانة البيت ؛ فدخلا فاقتلعا البطانة ، ثم أغلقاه ؛ وجلس عندها كالزائر ؛ فدخل عليها الأسود فاستخفته غيرة ، وأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم ، فصاح به وأخرجه . وجاءنا بالخبر ؛ فلما أمسينا عملنا في أمرنا ؛ وقد واطأنا أشياعنا ، وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين ؛ فنقبنا البيت من خارج ، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة ؛ واتقينا بفيروز ؛ وكان أنجدنا وأشدنا - فقلنا : انظر ماذا ترى ! فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه في مقصورة ؛ فلما دنا من باب البيت سمع غطيطاً شديداً ، وإذا المرأة جالسة ؛ فلما قام على الباب أجلسه الشيطان فكلمه على لسانه - وإنه ليغط جالساً . وقال أيضاً : مالي ولك يا فيروز ! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة ، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل ؛ فأخذ برأسه فقتله ، فدق عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقه ، ثم قام ليخرج ؛ فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله ، فقالت : أين تدعني ! قال : أخبر أصحابي بمقتله ؛ فأتانا فقمنا معه ؛ فأردنا حز رأسه ؛ فحركه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه ؛ فقلت : اجلسوا على صدره ؛ فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره ، وسمعنا بربرة فألجمته بمئلاة ؛ وأمر الشفرة على حلقه فخار كأشد خوار ثور سمعته قط ؛ فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ، ما هذا ! فقالت المرأة : النبي يوحى إليه ! فخمد . ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا ، ليس غيرنا ثلاثتنا : فيروز وداذويه وقيس ؛ فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا ، ثم ينادى بالأذان ، فلما طلع الفجر نادى داذويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، وتجمع الحرس فأحاطوا بنا ، ثم ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس ، فناديتهم : أشهد أن محمداً رسول الله ؛ وأن عبهلة كذاب ! وألقينا إليهم رأسه ، فأقام وبر الصلاة ، وشنها القوم غارةً ؛ ونادينا : يا أهل صنعاء ، من دخل عليه داخل فتعلقوا به ، ومن كان عنده منهم أحد فتعلقوا به . ونادينا بمن في الطريق : تعلقوا بمن استطعتم ! فاختطفوا صبياناً كثيرين ؛ وانتهبوا ما انتهبوا ، ثم مضوا خارجين ؛ فلما برزوا فقدوا منهم سبعين فارساً ركبانا ؛ وإذا أهل الدور والطرق وقد وافونا بهم ؛ وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أن يتركوا لنا ما في أيديهم ، ونترك لهم ما في أيدينا ؛ ففعلوا فخرجوا لم يظفروا منا بشيء ؛ فترددوا فيما بين صنعاء ونجران ، وخلصت صنعاء والجند ، وأعز الله الإسلام وأهله ؛ وتنافسنا الإمارة ؛ وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم ؛ فاصطلحنا على معاذ بن جبل ، فكان يصلى بنا ، وكتبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر ؛ وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم . فأتاه الخبر من ليلته ، وقدمت رسلنا ؛ وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة ؛ فأجابنا أبو بكر رحمه الله .لا سبيل لي إلى الدخول بعد النهي . ففعل ، وإذا هو كان أفطن مني ؛ فلما أخبرته قالت : وكيف ينبغي لنا أن ننقب على بيوت مبطنة ! ينبغي لنا أن نقلع بطانة البيت ؛ فدخلا فاقتلعا البطانة ، ثم أغلقاه ؛ وجلس عندها كالزائر ؛ فدخل عليها الأسود فاستخفته غيرة ، وأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم ، فصاح به وأخرجه . وجاءنا بالخبر ؛ فلما أمسينا عملنا في أمرنا ؛ وقد واطأنا أشياعنا ، وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين ؛ فنقبنا البيت من خارج ، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة ؛ واتقينا بفيروز ؛ وكان أنجدنا وأشدنا - فقلنا : انظر ماذا ترى ! فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه في مقصورة ؛ فلما دنا من باب البيت سمع غطيطاً شديداً ، وإذا المرأة جالسة ؛ فلما قام على الباب أجلسه الشيطان فكلمه على لسانه - وإنه ليغط جالساً . وقال أيضاً : مالي ولك يا فيروز ! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة ، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل ؛ فأخذ برأسه فقتله ، فدق عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقه ، ثم قام ليخرج ؛ فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله ، فقالت : أين تدعني ! قال : أخبر أصحابي بمقتله ؛ فأتانا فقمنا معه ؛ فأردنا حز رأسه ؛ فحركه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه ؛ فقلت : اجلسوا على صدره ؛ فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره ، وسمعنا بربرة فألجمته بمئلاة ؛ وأمر الشفرة على حلقه فخار كأشد خوار ثور سمعته قط ؛ فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ، ما هذا ! فقالت المرأة : النبي يوحى إليه ! فخمد . ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا ، ليس غيرنا ثلاثتنا : فيروز وداذويه وقيس ؛ فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا ، ثم ينادى بالأذان ، فلما طلع الفجر نادى داذويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، وتجمع الحرس فأحاطوا بنا ، ثم ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس ، فناديتهم : أشهد أن محمداً رسول الله ؛ وأن عبهلة كذاب ! وألقينا إليهم رأسه ، فأقام وبر الصلاة ، وشنها القوم غارةً ؛ ونادينا : يا أهل صنعاء ، من دخل عليه داخل فتعلقوا به ، ومن كان عنده منهم أحد فتعلقوا به . ونادينا بمن في الطريق : تعلقوا بمن استطعتم ! فاختطفوا صبياناً كثيرين ؛ وانتهبوا ما انتهبوا ، ثم مضوا خارجين ؛ فلما برزوا فقدوا منهم سبعين فارساً ركبانا ؛ وإذا أهل الدور والطرق وقد وافونا بهم ؛ وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أن يتركوا لنا ما في أيديهم ، ونترك لهم ما في أيدينا ؛ ففعلوا فخرجوا لم يظفروا منا بشيء ؛ فترددوا فيما بين صنعاء ونجران ، وخلصت صنعاء والجند ، وأعز الله الإسلام وأهله ؛ وتنافسنا الإمارة ؛ وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم ؛ فاصطلحنا على معاذ بن جبل ، فكان يصلى بنا ، وكتبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر ؛ وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم . فأتاه الخبر من ليلته ، وقدمت رسلنا ؛ وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة ؛ فأجابنا أبو بكر رحمه الله .
حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - عن أبي القاسم الشنوي ، عن العلاء بن زياد ، عن ابن عمر ، قال : أتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها العنسى ليبشرنا ، فقال : قتل العنسى البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ، قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز ! حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - عن المستنير ، عن عروة ، عن الضحاك ، عن فيروز ، قال : قتلنا الأسود ، وعاد أمرنا كما كان ؛ إلا أنا أرسلنا إلى معاذ ، فتراضينا عليه ؛ فكان يصلى بنا في صنعاء ؛ فو الله ما صلى بنا إلا ثلاثا ونحن راجون مؤملون ، لم يبق شيء نكرهه إلا ما كان من تلك الخيول التي تتردد بيننا وبين نجران ؛ حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتقضت الأمور ؛ وأنكرنا كثيراً مما كنا نعرف ، واضطربت الأرض .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي القاسم وأبي محمد ، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني ، من جند فلسطين ؛ عن عبد الله بن فيروز الديلمي ؛ أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم رسولاً ، يقال له : وبر بن يحنس الأزدى ؛ وكان منزله على داذويه الفارسي ، وكان الأسود كاهناً معه شيطان وتابع له ، فخرج فنزل على ملك اليمن ؛ فقتل ملكها ونكح امرأته وملك اليمن ؛ وكان باذام هلك قبل ذلك ، فخلف ابنه على أمره ، فقتله وتزوجها ، فاجتمعت أنا وداذويه وقيس بن المكشوح المرادي عند وبر بن يحنس رسول نبي الله صلى الله عليه وسلم نأتمر بقتل الأسود . ثم إن الأسود أمر الناس فاجتمعوا في رحبة من صنعاء ، ثم خرج حتى قام في وسطهم ، ومعه حربة الملك ، ثم دعا بفرس الملك فأوجره الحربة ، ثم أرسل فجعل يجري في المدينة ودماؤه تسيل حتى مات . وقام وسط الرحبة ؛ ثم دعا بجزر من وراء الخط فأقامها ، وأعناقها ورءوسها في الخط ما يجزنه . ثم استقبلهن بحربته فنحرهن فتصدعن عنه ؛ حتى فرغ منهن ، ثم أمسك حربته في يده ، ثم أكب على الأرض ، ثم رفع رأسه ، فقال : إنه يقول - يعني شيطانه الذي معه : إن ابن المكشوح من الطغاة ، يا أسود اقطع قنة رأسه العليا . ثم أكب رأسه أيضاً ينظر ، ثم رفع رأسه ، فقال : إنه يقول : إن ابن الديلمى من الطغاة ؛ يا أسود اقطع يده اليمنى ورجله اليمنى ؛ فلما سمعت قوله قلت : والله ما آمن أن يدعو بي ، فينحرني بحربته كما نحر هذه الجزر ؛ فجعلت أستتر بالناس لئلا يراني ، حتى خرجت ولا أدري من حذرى كيف آخذ ! فلما دنوت من منزلي لقيني رجل من قومه ، فدق في رقبتي ، فقال : إن الملك يدعوك وأنت تروغ ! ارجع ؛ فردني ، فلما رأيت ذلك خشيت أن يقتلني . قال : وكنا لا يكاد يفارق رجلا منا أبداً خنجره ، فأدس يدي في خفي ، فأخذت خنجري ، ثم أقبلت وأنا أريد أن أحمل عليه ، فأطعنه به حتى أقتله ، ثم أقتل من معه ، فلما دنوت منه رأى في وجهي الشر ، فقال : مكانك ! فوقفت ، فقال : إنك أكبر من ها هنا وأعلمهم بأشراف أهلها ، فاقسم هذه الجزر بينهم . وركب فانطلق وعلقت أقسم اللحم بين أهل صنعاء ، فأتاني ذلك الذي دق في رقبتي ، فقال : أعطني منها ، فقلت : لا والله ولا بضعة واحدة ؛ ألست الذي دققت في رقبتي ! فانطلق غضبان حتى أتى الأسود ؛ فأخبره بما لقي مني وقلت له . فلما فرغت أتيت الأسود أمشي إليه ، فسمعت الرجل وهو يشكوني إليه ، فقال له الأسود : أما والله لأذبحنه ذبحاً ! فقت له : إني قد فرغت مما أمرتني به ، وقسمته بين الناس . قال : قد أحسنت فانصرف . فانصرفت ، فبعثنا إلى امرأة الملك : إنا نريد قتل الأسود ؛ فكيف لنا ! فأرسلت إلى : أن هلم . فأتيتها ، وجعلت الجارية على الباب لتؤذننا إذا جاء ؛ ودخلت أنا وهي البيت الآخر ، فحفرنا حتى نقبنا نقباً ، ثم خرجنا إلى البيت ، فأرسلنا الستر ، فقلت : إنا نقتله الليلة ، فقالت : فتعالوا ؛ فما شعرت بشيء حتى إذا الأسود قد دخل البيت ؛ وإذا هو معنا ؛ فأخذته غيرة شديدة ، فجعل يدق في رقبتي ، وكفكفته عني ، وخرجت فأتيت أصحابي بالذي صنعت ، وأيقنت بانقطاع الحيلة عنا فيه ؛ إذ جاءنا رسول المرأة ؛ ألا يكسرن عليكم أمركم ما رأيتم ؛ فإني قد قلت له بعد ما خرجت : ألستم تزعمون أنكم أقوام أحرار لكم أحساب ! قال : بلى ، فقلت : جاءني أخي يسلم على ويكرمني ، فوقعت عليه تدق في رقبته ؛ حتى أخرجته ، فكانت هذه كرامتك إياه ! فم أزل ألومه حتى لام نفسه ، وقال : أهو أخوك ؟ فقلت : نعم ، فقال : ما شعرت ؛ فأقبلوا الليلة لما أردتم .
قال الديلمي : فاطمأنت أنفسنا ، واجتمع لنا أمرنا ؛ فأقبلنا من الليل أنا وداذويه وقيس حتى ندخل البيت الأقصى من النقب الذي نقبنا ، فقلت : يا قيس ، أنت فارس العرب ، ادخل فاقتل الرجل ، قال : إني تأخذني رعدة شديدة عند البأس ، فأخاف أن أضرب الرجل ضربة لا تغنى شيئاً ؛ ولكن ادخل أنت يا فيروز ، فإنك أشبنا وأقوانا ، قال : فوضعت سيفي عند القوم ، ودخلت لأنظر أين رأس الرجل ! فإذا السراج يزهر ؛ وإذا هو راقد على فرش قد غاب فيها لا أدري أين رأسه من رجليه ! وإذا المرأة جالسة عنده كانت تطعمه رماناً حتى رقد ، فأشرت إليها : أين رأسه ؟ فأشارت إليه ، فأقبلت أمشي حتى قمت عند رأسه لأنظر ، فما أدري أنظرت في وجهه أم لا ! فإذا هو قد فتح عينيه ؛ فنظر إلي ، فقلت : إن رجعت إلى سيفي خفت أن يفوتني ويأخذ عدة يمتنع بها مني ؛ وإذا شيطانه قد أنذره بمكاني وقد أيقظه ، فلما أبطأ كلمني على لسانه ؛ وإنه لينظر ويغط ، فأضرب بيدي إلى رأسه ، فأخذت رأسه بيد ولحيته بيد ؛ ثم ألوي عنقه فدققتها ؛ ثم أقبلت إلى أصحابي ، فأخذت المرأة بثوبي ، فقالت : أختكم نصيحتكم ! قلت : قد والله قتلته وأرحتك منه . قال : فدخلت على صاحبي فأخبرتهما ، قالا : فارجع فاحتز رأسه وائتنا به ، فدخلت فبربر فألجمته فحززت رأسه ، فأتيتهما به ، ثم خرجنا حتى أتينا منزلنا ؛ وعندنا وبر بن يحنس الأزدي ، فقام معنا حتى ارتقينا على حصن مرتفع من تلك الحصون ؛ فأذن وبر بن يحنس بالصلاة ، ثم قلنا : ألا إن الله عز وجل قد قتل الأسود الكذاب ، فاجتمع الناس إلينا فرمينا برأسه ، فلما رأى القوم الذين كانوا معه أسرجوا خيولهم ؛ ثم جعل كل واحد منهم يأخذ غلاماً من أبنائنا معه من أهل البيت الذي كان نازلا فيهم ؛ فأبصرتهم في الغلس مردفي الغلمان ، فناديت أخي وهو أسفل مني مع الناس : أن تعلقوا بمن استطعتم منهم ؛ ألا ترون ما يصنعون بالأبناء ! فتعلقوا بهم ؛ فحبسنا منهم سبعين رجلاً ، وذهبوا منا بثلاثين غلاماً ، فلما برزوا إذا هم يفقدون سبعين رجلا حين تفقدوا أصحابهم ، فأتونا فقالوا : أرسلوا إلينا أصحابنا ، فقلنا لهم : أرسلوا إلينا أبناءنا ، فأرسلوا إلينا الأبناء ، وأرسلنا إليهم أصحابهم .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن الله قد قتل الأسود الكذاب العنسي ، قتله بيد رجل من إخوانكم ، وقوم أسلموا وصدقوا ؛ فكنا كأنا على الأمر الذي كان قبل قدوم الأسود علينا وأمن الأمراء وتراجعوا ، واعتذر الناس وكانوا حديثي عهد بالجاهلية .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثنى السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ، قال : كان أول أمره إلى آخره ثلاثة أشهر .
وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - وحدثنا عبيد الله قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - عن جابر بن يزيد ، عن عروة ابن غزية ، عن الضحاك بن فيروز ، قال : كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحواً من أربعة أشهر ؛ وقد كان قبل ذلك مستسراً بأمره . حتى بادى بعد .
حدثني عمر بن شبة ، قال : حدثنا علي بن محمد ، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء ، عن مشيختهم ، قالوا : أمضي أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول ، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة ؛ وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر وهو بالمدينة .
وقال الواقدي : في هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - قدم وفد النخع في النصف من المحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأسهم زرارة بن عمرو ، وهم آخر من قدم من الوفود .
وفيها : ماتت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الثلاثاء ، لثلاث خلون من شهر رمضان ؛ وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها . وذكر أن أبا بكر بن عبد الله ، حدثه عن إسحاق بن عبد الله ، عن أبان بن صالح بذلك . وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر ، قال : توفيت فاطمة عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر .
قال : وحدثنا ابن جريج ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : توفيت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر .
قال الواقدي : وهو أثبت عندنا .
قال : وغسلها علي عليه السلام وأسماء بنت عميس .
قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت : صلى عليها العباس بن عبد المطلب .
وحدثنا أبو زيد ، قال : حدثنا علي ، عن أبي معشر ، قال : دخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس .
قال : وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة ، وكان أصابه بالطائف سهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، رماه أبو محجن ، ودمل الجرح حتى انتقض به في شوال ؛ فمات .
وحدثني أبو زيد ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو معشر ومحمد ابن إسحاق وجويرية بن أسماء بإسناده الذي ذكرت قبل ، قالوا : في العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزد جرد .
قال أبو جعفر : وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بن حصن الفزارى . حدثني أبو زيد ، قال : حدثنا علي بن محمد بإسناده الذي ذكرت قبل ، قالوا : أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة من أرض الشأم ؛ وهو الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالمسير إليه ؛ لم يحدث شيئاً ، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ، ويمنعون الزكاة . فلم يقبل ذلك منهم وردهم ، وأقام حتى قدم أسامة بن زيد بن حارثة بعد أربعين يوماً من شخوصه - ويقال : بعد سبعين يوماً - فلما قدم أسامة بن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص - ويقال استخلف سناناً الضمري على المدينة - فسار ونزل بذي القصة في جمادى الأولى ؛ ويقال في جمادى الآخرة ؛ وكان نوفل بن معاوية الديلي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه خارجة بن حصن بالشربة ؛ فأخذ ما في يديه ؛ فرده على بني فزارة ؛ فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر . فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حرب العنسي ؛ وقد كانت حرب العنسي باليمن ؛ ثم حرب خارجة بن حصن ومنظور بن زبان بن سيار في غطفان ، والمسلمون غارون ، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ، ثم هزم الله المشركين .
وحدثني عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن المجالد ابن سعيد ، قال : لما فضل أسامة كفرت الأرض وتضرمت ، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً .
وحدثني عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص ؛ وتوحى مسيلمة وطليحة ، فاستغلظ أمرهما ؛ واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد ، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه ، وقدمت هوازن رجلاً وأخرت رجلاً أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ولفها ؛ فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز ؛ وارتدت خواص من بني سليم ؛ وكذلك سائر الناس بكل مكان .
قال : وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر أمره في الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب ؛ فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر ، وأخبروه الخبر ، فقال لهم أبو بكر : لا تبرحوا حتى تجئ رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر ؛ وانتقاض الأمور . فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتفاض عامة أو خاصة ، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين ، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم بالرسل . فرد رسلهم بأمره ، وأتبع الرسل رسلاً ؛ وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة ؛ وكان أول من صادم عبس وذبيان ، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة .
حدثني عبيد اله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن أبي عمرو ، عن زيد بن أسلم ، قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على قضاعة ، وعلى كلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله ، وعلى القين عمرو بن الحكم ، وعلى سعد هذيم معاوية بن فلان الوائلي .
وقال السري الوالبي : فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب ، وبقي امرؤ القيس على دينه ، وارتد زميل بن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو ، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم . فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بن فلان - وهو جد سكينة ابنة حسين - فسار لوديعة ، وإلى عمرو فأقام لزميل ، وإلى معاوية العذري . فلما توسط أسامة بلاد قضاعة ، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه ؛ فخرجوا هراباً ؛ حتى أرزوا إلى دومة ، واجتمعوا إلى وديعة ، ورجعت خيول أسامة إليه ؛ فمضى فيها أسامه . حتى أغار على الحمقتين ، فأصاب في بني الضبيب من جذام ، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين ؛ وحازهم من آبل وانكفأ سالماً غانماً .
فحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة ؛ إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث ؛ فاجتمعت أسد بسميراء ، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة ، وطيئ على حدود أرضهم . واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة ، وتأشب ، إليهم ناس من بني كنانة ؛ فلم تحملهم البلاد ؛ فافترقوا فرقتين ؛ فأقامت فرقة منهم بالأبرق ، وسارت الأخرى إلى ذي القصة ، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج . وكان على مرة بالأبرق عوف بن فلان بن سنان ، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان ؛ أحد بني سبيع ، وقد بعثوا وفوداً فقدموا المدينة ، فنزلوا على وجوه الناس ، فأنزلوهم ما خلا عباساً فتحملوا بهم على أبي بكر ؛ على أن يقيموا الصلاة ؛ وعلى ألا يؤتوا الزكاة ؛ فعزم الله لأبي بكر على الحق ، وقال : لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه - وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة - فردهم فرجع وفد من يلى المدينة من المرتدة إليهم ، فأخبروا عشائرهم بقلة من أهل المدينة ، وأطمعوهم فيها ؛ وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على أنقاب المدينة نفراً :علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود ؛ وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد ، وقال لهم : إن الأرض كافرة ؛ وقد رأى وفدهم منكم قلة ؛ وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً ! وأدناهم منكم على بريد . وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم ؛ وقد أبينا عليهم ، ونبذنا إليهم عهدهم ، فاستعدوا وأعدوا . فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل ، وخلفوا بعضهم بذي حسي ، ليكونوا لهم ردءاً ، فوافق الغوار ليلا الأنقاب ؛ وعليها المقاتلة ، ودونهم أقوام يدرجون ، فنبهوهم ؛ وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر ، فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ، ففعلوا . وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم ، فانفش العدو ، فاتبعهم المسلمون على إبلهم ؛ حتى بلغوا ذا حسي ؛ فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها ، وجعلوا فيها الحبال ، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل ؛ فتدهده كل نحي في طوله ، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء - فعاجت بهم ما يملكونها ؛ حتى دخلت بهم المدينة ؛ فلم يصرع مسلم ولم يصب ؛ فقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة ابن أوس :
فدى لبنى ذبيان رحلى وناقتي ... عشية يحذى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدى بالرجال فهبنه ... إلى قدر ما إن يزيد ولا يحرى
ولله أجناد تذاق مذاقه ... لتحسب فيما عد من عجب الدهر !
وأنشده الزهري : ((من حسب الدهر)) .
وقال عبد الله الليثي ؛ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة - وهم بنو ذبيان - في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر !
أيورثها بكراً إذا مات بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه ... وهلا خشيتم حس راغية البكر !
وإن التي سالوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى إلى من التمر
فظن القوم القوم بالمسلمين الوهن ، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر ؛ فقدموا عليهم اعتماداً في الذين أخبروهم ، وهم لا يشعرون لأمر اله عز وجل الذي أراده ، وأحب أن يبلغه فيهم ، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ ، فعبى الناس ، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي ، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب ؛ فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد ، فما سمعوا للمسلمين همساً ولا حساً حتى وضعوا فيهم السيوف ، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم ؛ فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار ، وغلبوهم على عامة ظهرهم ؛ وقتل حبال واتبعهم أبو بكر ؛ حتى نزل بذي القصة - وكان أول الفتح - ووضع بها النعمان ابن مقرن في عدد ، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون ؛ فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين ؛ فقتلوهم كل قتلة ؛ وفعل من وراءهم فعلهم . وعز المسلمون بوقعة أبي بكر ، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة ؛ وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة ، وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي :
غداة سعى أبو بكر إليهم ... كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها علياً ... ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضاً :
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا ... ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها ... صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباحها ... وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
ثم لم يصنع إلا ذلك ؛ حتى ازداد المسلمون لها ثباتاً على دينهم في كل قبيلة ، وازداد لها المشركون انعكاساً من أمرهم في كل قبيلة ؛ وطرقت المدينة صدقات نفر : صفوان ، الزبرقان ، عدي ؛ صفوان ، ثم الزبرقان ، ثم عدي ؛ صفوان في أول الليل ، والثاني في وسطه ، والثالث في آخره . وكان الذي بشر بصفوان سعد بن أبي وقاص ، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف ، والذي بشر بعدي عبد الله بن مسعود . وقال غيره : أبو قتادة .
قال : وقال الناس لكلهم حين طلع : نذير ، وقال أبو بكر : هذا بشير ، هذا حام وليس بوان ؛ فإذا نادى بالخير ، قالوا : طالما بشرت بالخير ! وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة . وقدم أسامة بعد ذلك بأيام لشهرين وأيام ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ، وقال له ولجنده : أريحوا وأريحوا ظهركم .
ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر ؛ فقال له المسلمون : ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك ! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ، ومقامك أشد على العدو ؛ فابعث رجلاً ، فإن أصيب أمرت آخر ، فقال : لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي ؛ فخرج في تعبيته إلى ذي حسي وذي القصة ، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه ، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق ؛ فاقتتلوا ، فهزم الله الحارث وعوفاً ، وأخذ الحطيئة أسيراً ، فطارت عبس وبنو بكر ؛ وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً ؛ وقد غلب بني ذبيان على البلاد . وقال : حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله ! وأجلاها . فلما غلب أهل الردة ؛ ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة ؛ وهي كانت منازلهم لينزلوها ، فمنعوا منها فأتوه في المدينة ، فقالوا : علام نمنع من نزول بلادنا ! فقال : كذبتم ، ليست لكم ببلاد ؛ ولكنها موهبي ونقذي ، ولم يعتبهم ، وحمى الأبرق لخيول المسلمين ، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة ، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين ؛ لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات ، فمنع بذلك بعضهم من بعض .
ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة ، وارتحل عن سميراء إليها ، فأقام عليها ؛ وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة :
ويوم بالأبارق قد شهدنا ... على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف ... مع الصديق إذ ترك العتابا
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع وحرام بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : لما قدم أسامة بن زيد خرج أبو بكر واستخلفه على المدينة ، ومضى حتى انتهى إلى الربذة يلقي بني عبس وذبيان وجماعة من بني عبد مناة ابن كنانة ، فلقيهم بالأبرق ، فقاتلهم فهزمهم الله وفلهم . ثم رجع إلى المدينة ، فلما جم جند أسامة ، وثاب من حول المدينة خرج إلى ذي القصة فنزل بهم - وهو على بريد من المدينة تلقاء نجد - فقطع فيها الجند ، وعقد الألوية ، عقد أحد عشر لواء على أحد عشر جنداً ، وأمر أمير كل جند باستنفار من مر به من المسلمين من أهل القوة ، وتخلف بعض أهل القوة لمنع بلادهم .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما أراح أسامة وجنده ظهرهم وجموا ، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم ، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية ، فعقد أحد عشر لواء : عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد ؛ فإذا فرغ سار إلى إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له ، ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة ، وللمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم ، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت ، ولخالد بن سعيد بن العاص - وكان قدم على تفيئة ذلك من اليمن وترك عمله - وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشأم ، ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث ، ولحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا ولعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة ؛ وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما في عمله على صاحبه ، وبعث شرجبيل بن حسنة في أثر عكرمة ابن أبي جهل ، وقال : إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة ، وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة ، ولطريفة بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن ، ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن ، وللعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين .
كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء ففصلت الأمراء من ذي القصة ، ونزلوا على قصدهم ، فلحق بكل أمير جنده ، وقد عهد إليهم عهده ، وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدة .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ؛ وشاركه في العهد والكتاب قحذم ؛ فكانت الكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتاباً واحداً :
بسم الله الرحمن الرحيم . من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة ؛ أقام على إسلامه أو رجع عنه . سلام على من اتبع الهدى ، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى ؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، نقر بما جاء به ، ونكفر من أبي ونجاهده . أما بعد ؛ فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين . فهدى الله بالحق من أجاب إليه ، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه ؛ حتى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً . ثم توفي الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله ، ونصح لأمته ؛ وقضى الذي عليه ، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل ؛ فقال : " إنك ميت وإنهم ميتون " ، وقال : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " ، وقال للمؤمنين : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين " ؛ فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد ؛ حي قيوم لا يموت ؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم ، حافظ لأمره ، منتقم من عدوه ، يجزيه . وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله ، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأن تهتدوا بهداه ، وأن تعتصموا بدين الله ، فإن كل من لم يهده الله ضال ، وكل من لم يعافه مبتلي ، وكل من لم يعنه الله مخذول ، فمن هداه الله كان مهتدياً ، ومن أضله كان ضالاً ؛ قال الله تعالى : " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " ، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به ؛ ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل . وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به ؛ اغتراراً بالله ، وجهالة بأمره ، وإجابة للشيطان ، قال الله تعالى : " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً " . وقال : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " ؛ وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله ؛ فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه ؛ ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ؛ ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه ، وأن يحرقهم بالنار ، ويقتلهم كل قتلة ، وأن يسبى النساء والذرارى ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ؛ فمن اتبعه فهو خير له ، ومن تركه فلن يعجز الله . وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم ؛ والداعية الأذان ؛ فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم ؛ وإن لم يؤذنوا عاجلوهم ؛ وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم ؛ فإن أبوا عاجلوهم ، وإن أقروا قبل منهم ؛ وحملهم على ما ينبغي لهم .
فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود ، وخرجت الأمراء ومعهم العهود :
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام ، وعهد إليه أن يتقى الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته ، وأمره بالجد في أمر الله ، ومجاهدة من تولى عنه ، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام ؛ فإن أجابوه أمسك عنهم ، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ؛ ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم ، فيأخذ ما عليهم ، ويعطيهم الذي لهم ؛ لا ينظرهم ، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم ؛ فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف ؛ وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله ؛ فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل ؛ وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به ، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان ؛ وحيث بلغ مراغمه ،لا يقبل من أحد شيئاً أعطاه إلا الإسلام ؛ فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ، ومن أبى قاتله ؛ فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران ، ثم قسم ما أفاء الله عليه ، إلا الخمس فإنه يبلغناه ، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد ، وألا يدخل فيهم حشواً حتى يعرفهم ويعلم ما هم ؛ لا يكونوا عيوناً ، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم ، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ، ولا يعجل بعضهم عن بعض ، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول .
ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد وبدر بن الخليل وهشام بن عروة ، قالوا : لما أرزت عبس وذبيان ولفها إلى البزاخة ، أرسل طليحة إلى جديلة والغوث أن ينضموا إليه ، فتعجل إليه أناس من الحيين ، وأمروا قومهم باللحاق بهم ، فقدموا على طليحة ، وبعث أبو بكر عدياً قبل توجيه خالد من ذي القصة إلى قومه ، وقال : أدركهم لا يؤكلوا . فخرج إليهم فقتلهم في الذروة والغارب ، وخرج خالد في أثره ، وأمره أبو بكر أن يبدأ بطيئ على الأكناف ، ثم يكون وجهه إلى البزاخة ، ثم يثلث بالبطاح ، ولا يريم إذا فرغ من قوم حتى يحدث إليه ، ويأمره بذلك . وأظهر أبو بكر أنه خارج إلى خيبر ومنصب عليه منها حتى يلاقيه بالأكناف ، أكناف سلمى ؛ فخرج خالد فازوار عن البزاخة ، وجنح إلى أجأ ، وأظهر أنه خارج إلى خيبر ، ثم منصب عليهم ، فقعد ذلك طيئاً وبطأهم عن طليحة ؛ وقدم عليهم عدي ؛ فدعاهم فقالوا : لا نبايع أبا الفصيل أبداً ، فقال : لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم ، ولتكننه بالفحل الأكبر ؛ فشأنكم به . فقالوا له : فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا ، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم . فاستقبل عدي خالداً وهو بالسنح ، فقال : يا خالد ، أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك ؛ وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار ؛ وتشاغل بهم ؛ ففعل . فعاد عدي إليهم وقد أرسلوا إخوانهم ؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد لهم ؛ ولولا ذلك لم يتركوا ؛ فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد ، وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة ، فقال له عدي : إن طيئاً كالطائر ، وإن جديلة أحد جناحي طيئ ؛ فأجلني أياماً لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث ؛ ففعل ، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه ؛ فجاءه بإسلامهم ، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب ؛ فكان خير مولود ولد في أرض طيئ وأعظمه عليهم بركة .
وأما هشام بن الكلبي ؛ فإنه زعم أن أبا بكر لما رجع إليه أسامة ومن كان معه من الجيش ؛ جد في حرب أهل الردة ، وخرج بالناس وهو فيهم حتى نزل بذي القصة ؛ منزلا من المدينة على بريد من نحو مجد ؛ فعبى هنالك جنوده ، ثم بعث خالد بن الوليد على الناس ، وجعل ثابت بن قيس على الأنصار ، وأمره إلى خالد ، وأمره أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن ، وهما على بزاخة ؛ ماء من مياه بني أسد ؛ وأظهر أني ألاقيك بمن معي من نحو خيبر ، مكيدة ؛ وقد أوعب مع خالد الناس ؛ ولكنه أراد أن يبلغ ذلك عدوه فيرعبهم . ثم رجع إلى المدينة ، وسار خالد بن الوليد ؛ حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم - أحد بني العجلان حليفاً للأنصار - طليعة ؛ حتى إذا دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة ، ينظران ويسألان : فأما سلمة فلم يمهل ثابتاً أن قتله ، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعني على الرجل ؛ فإنه آكل ؛ فاعتونا عليه ، فقتلاه ثم رجعا ، وأقبل خالد بالناس حتى مروا بثابت بن أقرم قتيلاً ، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطئ بأخفافها ، فكبر ذلك على المسلمين ، ثم نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعاً ؛ فجزع لذلك المسلمون ، وقالوا : قتل سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم ؛ فانصرف خالد نحو طيئ .
قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثني سعد بن مجاهد ، عن المحل ابن خليفة ، عن عدي بن حاتم ، قال : بعثت إلى خالد بن الوليد أن سر إلى فأقم عندي أياماً حتى أبعث إلى قبائل طيئ ، فأجمع لك منهم أكثر ممن معك ، ثم أصحبك إلى عدوك . قال : فسار إلى .
قال هشام : قال أبو مخنف : حدثنا عبد السلام بن سويد أن بعض الأنصار حدثه أن خالداً لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة ، قال لهم : هل لكم إلى أميل بكم إلى حي من أحياء العرب ؛ كثير عددهم ، شديدة شوكتهم ، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد ! فقال له الناس : ومن هذا الحي الذي تعني ؟ فنعم والله الحي هو ! قال لهم : طيئ ؛ فقالوا : وفقك الله ، نعم الرأى رأيت ! فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيئ .
قال هشام : حدثني جديل بن خباب النبهاني من بني عمرو بن أبي ، أن خالداً جاء حتى نزل على أرك ؛ مدينة سلمى .
قال هشام : قال أبو مخنف : حدثني إسحاق أنه نزل بأجأ ، ثم تعبى لحربه ، ثم سار حتى التقيا على بزاخة ، وبنو عامر على سادتهم وقادتهم قريباً يستمعون ويتربصون على من تكون الدبرة .
قال هشام عن أبي مخنف : حدثني سعد بن مجاهد ، أنه سمع أشياخاً من قومه يقولون : سألنا خالداً أن نكفيه قيساً فإن بني أسد حلفاؤنا ، فقال : والله ما قيس بأوهن الشوكتين ، اصمدوا إلى أي القبلتين أحببتم ؛ فقال عدي : لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه ، فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لجلفهم ! لا لعمر الله لا أفعل ! فقال له خالد : إن جهاد الفريقين جميعاً جهاد ؛ لا تخالف رأى أصحابك ، امض إلى أحد الفريقين ، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط .
قال هشام ، عن أبي مخنف : فحدثني عبد السلام بن سويد ، أن خيل طيئ كانت تلقي خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشامون ولا يقتتلون ، فتقول أسد وفزارة : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً . فتقول لهم خيل طيئ : أشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر !
فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : حدثت أن الناس لما اقتتلوا ، قاتل عيينة مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديداً ، وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر ، يتنبأ لهم ، والناس يقتتلون ، فلما هزت عيينة الحرب ، وضرس القتال ، كر على طليحة ، فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا ، قال : فرجع فقاتل حتى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال : لا أبا لك ! أجاءك جبريل بعد ؟ قال : لا والله ، قال : يقول عيينة حلفاً : حتى متى ! قد والله بلغ منا ! قال : ثم رجع فقاتل ، حتى إذا بلغ كر عليه ، فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : نعم ، قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : (( إن لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لا تنساه )) ، قال : يقول عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه ؛ يا بني فزارة هكذا ؛ فانصرفوا ؛ فهذا والله كذاب . فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه عنده ، وهيأ بعيراً لامرأته النوار ، فلما أن غشوه يقولون : ماذا تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه ، وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل ؛ ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشأم وارفض جمعه ؛ وقتل الله من قتل منهم ، وبنو عامر قريباً منهم على قادتهم وسادتهم ؛ وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال ؛ فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع ، أقبل أولئك يقولون : ندخل فيما خرجنا منه ، ونؤمن بالله ورسوله ، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا .
قال أبو جعفر : وكان سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ ما حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري قال : حدثنا شعيب عن سيف - عن طلحة بن الأعلم عن حبيب ابن ربيعة الأسدي ، عن عمارة بن فلان الأسدي ، قال : ارتد طليحة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فادعى النبوة ، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد في ذلك ؛ وأمرهم بالقيام في ذلك على كل من ارتد ، فأشجوا طليحة وأخافوا ، ونزل المسلمون بواردات ، ونزل المشركون بسميراء ، فما زال المسلمون في نماء والمشركون في نقصان ؛ حتى هم ضرار بالمسير إلى طليحة ، فلم يبق أحد إلا أخذه سلماً ، إلا ضربة كان ضربها بالجراز ، فنباعنه ، فشاعت في الناس . فأتى المسلمون وهم على ذلك بخير موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة : إن السلاح لا يحيك في طليحة ؛ فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتى عرفوا النقصان ، وارفض الناس إلى طليحة واستطار أمره ، وأقبل ذو الخمارين عوف الجذمي حتى نزل بإزائنا ، وأرسل إليه ثمامة بن أوس بن لأم الطائي : إن معي من جديلة خمسمائة ، فإن دهمكم أمر فنحن بالقردودة والأنسر دوين الرمل . وأرسل إليه مهلهل بن زيد : إن معي حد الغوث ؛ فإن دهمكم أمر فنحن بالأكناف بحيال فيد . وإنما تحدبت طي على ذي الخمارين عوف ؛ أنه كان بين أسد وغطفان وطيئ حلف في الجاهلية ، فلما كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت غطفان وأسد على طيئ ، فأزاحوها عن دارها في الجاهلية : غوثها وجديلتها ، فكره ذلك عوف ؛ فقطع ما بينه وبين غطفان ، وتتابع الحيان على الجلاء ، وأرسل عوف إلى الحيين من طيئ ، فأعاد حلفهم ، وقام بنصرتهم ، فرجعوا إلى دورهم ، واشتد ذلك على غطفان ؛ فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عيينة بن حصن في غطفان ، فقال : ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ؛ وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة ؛ والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش ؛ وقد مات محمد ، وبقي طليحة . فطابقوه على رأيه ، ففعل وفعلوا .
فلما اجتمعت غطفان على المطابقة لطليحة هرب ضرار وقضاعي وسنان ومن كان قام بشيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في بني أسد إلى أبي بكر ، وارفض من كان معهم ، فأخبروا أبا بكر الخبر ، وأمروه بالحذر ، فقال ضرار بن الأزور : فما رأيت أحداً - ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم - أملأ بحرب شعواء من أبي بكر ؛ فجعلنا نخبره ، ولكأنما نخبره بما له ولا عليه . وقدمت عليه وفود بني أسد وغطفان وهوازن وطيئ ، وتلقت وفود قضاعة أسامة بن زيد ، فحوزها إلى أبي بكر ؛ فاجتمعوا بالمدينة فنزلوا على وجوه المسلمين ؛ لعاشر من متوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة ، واجتمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك حتى يبلغوا ما يريدون ؛ فلم يبق من وجوه المسلمين أحد إلا أنزل منهم نازلا إلا العباس . ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم ، إلا ما كان من أبي بكر ، فإنه أبي إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ ، وأبوا ، فردهم وأجلهم يوماً وليلة ؛ فتطايروا إلى عشائرهم .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث عمرو ابن العاص إلى جيفر ، منصرفه من حجة الوداع ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بعمان ، فأقبل حتى إذا انتهى إلى البحرين وجد المنذر بن ساوي في الموت . فقال له المنذر : أشر علي في مالي بأمر لي ولا علي ، قال : صدق بعقار صدقة تجري من بعدك ، ففعل . ثم خرج من عنده ، فسار في بني تميم ، ثم خرج منها إلى بلاد بني عامر ، فنزل على قرة بن هبيرة ، وقرة يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً ؛ وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا خواص ، ثم سار حتى قدم المدينة ، فأطافت به قريش ، وسألوه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم ، فتفرقوا وتحلقوا حلقاً ، وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو ، فمر بحلقة ، وهم في شيء من الذي سمعوا من عمرو في تلك الحلقة : عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد ؛ فلما دنا عمر منهم سكتوا ، فقال : فيم أنتم ؟ فلم يجيبوه ، فقال : ما أعلمني بالذي خلوتم عليه ! فغضب طلحة ، وقال : تالله يابن الخطاب لتخبرنا بالغيب ! قال : لا يعلم الغيب إلا الله ؛ ولكن أظن قلتم : ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر ! قالوا : صدقت ، قال : فلا تخافوا هذه المنزلة ، أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم ؛ والله لو تدخلون معاشر قريش حجراً لدخلته العرب في آثاركم ؛ فاتقوا الله فيهم . ومضى إلى عمرو فسلم عليه ، ثم انصرف إلى أبي بكر .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : نزل عمرو بن العاص منصرفه من عمان - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - بقرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير ، وحوله عسكر من بني عامر من أفنائهم ، فذبح له وأكرم مثواه ، فلما أراد الرحلة خلا به قرة ، فقال : يا هذا ، إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالإتاوة ، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع ؛ وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم . فقال عمرو : أكفرت يا قرة ! وحوله بنو عامر ؛ فكره أن يبوح بمتابعتهم فيكفروا بمتابعته ، فينفر في شر ، فقال : لنردنكم إلى فيئتكم - وكان من أمره الإسلام - اجعلوا بيننا وبينكم موعداً . فقال عمرو : أتوعدنا بالعرب وتخوفنا بها ! موعدك حفش أمك ؛ فو الله لأوطئن عليك الخيل . وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ خالد من أمر بني عامر وبيعتهم على ما بايعهم عليه ، أوثق عيينة بن حصن وقرة بن هبيرة ، فبعث بهما إلى أبي بكر ، فلما قدما عليه قال له قرة : يا خليفة رسول الله ، إني قد كنت مسلماً ، ولي من ذلك على إسلامي عند عمرو بن العاص شهادة ؛ قد مر بي فأكرمته وقربته ومنعته . قال : فدعا أبو بكر عمرو بن العاص ، فقال : ما تعلم من أمر هذا ؟ فقص عليه الخبر ، حتى انتهى إلى ما قال له من أمر الصدقة ، قال له قرة : حسبك رحمك الله ! قال : لا والله ؛ حتى أبلغ له كل ما قلت ، فبلغ له ، فتجاوز عنه أبو بكر ، وحقن دمه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة ، قال : أخبرني من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، ينخسه غلمان المدينة بالجريد ، يقولون : أي عدو الله ، أكفرت بعد إيمانك ! فيقول : والله ما كنت آمنت بالله قط . فتجاوز عنه أبو بكر وحقن له دمه .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، قال : أخذ المسلمون رجلاً من بني أسد ، فأتى به خالد بالغمر - وكان عالماً بأمر طليحة - فقال له خالد : حدثنا عنه وعما يقول لكم ، فزعم أن مما أتى به : ((والحمام واليمام ، والصرد الصوام ، قد صمن قبلكم بأعوام ، ليبلغن ملكنا العراق والشام)) .
حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن أبي يعقوب سعيد بن عبيد ، قال : لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة ، قام فيهم طليحة ، ثم قال : ((أمرت أن تصنعوا رحاً ذات عراً ، يرمى الله بها من رمى ، يهوى عليها من هوى)) ، ثم عبى جنوده ، ثم قال : ((ابعثوا فارسين ، على فرسين أدهمين ، من بني نصر بن قعين ، يأتيانكم بعين )) . فبعثوا فارسين من بني قعين ، فخرج هو وسلمة طليعتين .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع ، عن عبد الرحمن بن كعب ، عمن شهد بزاخة من الأنصار ، قال : لم يصب خالد على البزاخة عيلا واحداً ، كانت عيالات بني أسد محرزة - وقال أبو يعقوب : بين مثقب وفلج ، وكانت عيالات قيس بين فلج وواسط - فلم يعد أن انهزموا ، فأقروا جميعاً بالإسلام خشية على الذراري ، واتقوا خالداً بطلبته ، واستحقوا الأمان ؛ ومضى طليحة ؛ حتى نزل كلب على النقع ، فأسلم ، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر ؛ وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسداً وغطفان وعامرا قد أسلموا ؛ ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر ، ومر بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر : هذا طليحة ، فقال : ما أصنع به ! خلوا عنه ، فقد هداه الله للإسلام . ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته ، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف ، فقال له عمر : أنت قاتل عكاشة وثابت ! والله لا أحبك أبداً . فقال : يا أمير المؤمنين ، ماتهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهنى بأيديهما ! فبايعه عمر ثم قال له : يا خدع ، ما بقي من كهانتك ؟ قال : نفخة أو نفختان بالكير . ثم رجع إلى دار قومه ؛ فأقام بها حتى خرج إلى العراق .
ذكر ردة هوازن وسليم وعامر حدثنا السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل وعبد الله ، قالا : أما بنو عامر فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى ، ونظروا ما تصنع أسد وغطفان ؛ فلما أحيط بهم وبنو عامر على قادتهم وسادتهم ، كان قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها ، وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها ؛ وقد كان علقمة أسلم ثم ارتد في أزمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج بعد فتح الطائف حتى لحق بالشأم ؛ فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقبل مسرعاً حتى عسكر في بني كعب ، مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى ؛ وبلغ ذلك أبا بكر ، فبعث إليه سرية ، وأمر عليها القعقاع بن عمرو ، وقال : يا قعقاع ، سر حتى تغير على علقمة بن علاثة ، لعلك أن تأخذه لي أو تقتله ؛ واعلم أن شفاء الشق الحوص ، فاصنع ما عندك . فخرج في تلك السرية ؛ حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة ؛ وكان لا يبرح أن يكون على رجل ؛ فسابقهم على فرسه ؛ فسبقهم مراكضة ، وأسلم أهله وولده ، فانتسف امرأته وبناته ونساءه ، ومن أقام من الرجال ؛ فاتقوه بالإسلام ، فقدم بهم على أبي بكر ، فجحد ولده وزوجته أن يكونوا مالئوا علقمة ، وكانوا مقيمين في الدار ، فلم يبلغه إلا ذلك ، وقالوا : ما ذنبنا فيما صنع علقمة من ذلك ! فأرسلهم ثم أسلم ، فقبل ذلك منه .
حدثنا السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو وأبي ضمرة ، عن ابن سيرين مثل معانيه .
وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون : ندخل فيما خرجنا منه ؛ فبايعهم على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيئ قبلهم ، وأعطوه بأيديهم على الإسلام ، ولم يقبل من أحد من أسد ولا غطفان ولا هوازن ولا سليم ولا طيئ إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردتهم . فأتوه بهم ، فقبل منهم إلا قرة بن هبيرة ونفراً معه أوثقهم ، ومثل بالذين عدوا على الإسلام ؛ فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ، ورمى بهم من الجبال ، ونكسهم في الآبار ، وخزق بالنبال . وبعث بقرة وبالأسارى ، وكتب إلى أبي بكر : إن بني عامر أقبلت بعد إعراض ، ودخلت في الإسلام بعد تربص ؛ وإنى لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئاً حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين ؛ فقتلتهم كل قتلة ، وبعثت إليك بقرة وأصحابه .
حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو ، عن نافع ، قال : كتب أبو بكر إلى خالد : ليزدك ما أنعم الله به عليك خيراً ، واتق الله في أمرك ؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون جد في أمر الله ولا تبنين ، ولا تظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتلته ونكلت به غيره ؛ ومن أحببت ممن حاد الله أو ضاده ؛ ممن ترى أن في ذلك صلاحاً فاقتله . فأقام على البزاخة شهراً يصعد عنها ويصوب ، ويرجع إليها في طلب أولئك ؛ فمنهم من أحرق ، ومنهم من قمطه ورضخه بالحجارة ؛ ومنهم من رمى به من رءوس الجبال . وقدم بقرة وأصحابه ، فلم ينزلوا ولم يقل لهم كما قيل لعيينة وأصحابه ؛ لأنهم لم يكونوا في مثل حالهم ؛ ولم يفعلوا فعلهم قال السري : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل وأبي يعقوب ، قالا : واجتمعت فلال غطفان إلى ظفر ، وبها أم زمل سلمى ابنة مالك بن حذيفة بن بدر ؛ وهي تشبه بأمها أم قرفة بنت ربيعة بن فلان بن بدر ؛ وكانت أم قرفة عند مالك بن حذيفة ، فولدت له قرفة ، وحكمة ، وحراشة ، وزملاً ، وحصيناً ، وشريكاً ، وعبداً ، وزفر ، ومعاوية ، وحملة ، وقيساً ، ولأياً ؛ فأما حكمة فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أغار عيينة بن حصن على سرح المدينة ، قتله أبو قتادة ؛ فاجتمعت تلك الفلال إلى سلمى ؛ وكانت في مثل عز أمها ، وعندها جمل أم قرفة ؛ فنزلوا إليها فذمرتهم ، وأمرتهم بالحرب ، وصعدت سائرة فيهم وصوبت ، تدعوهم إلى حرب خالد ، حتى اجتمعوا لها ، وتشجعوا على ذلك ، وتأشب إليهم الشر داء من كل جانب - وكانت قد سبيت أيام أم قرفة ، فوقعت لعائشة فأعتقتها ، فكانت تكون عندها ، ثم رجعت إلى قومها ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليهن يوماً ، فقال : إن إحداكن تستنبح كلاب الحوءب ؛ ففعلت سلمى ذلك حين ارتدت ؛ وطلبت بذلك الثأر ، فسيرت فيما بين ظفر والحوءب ؛ لتجمع إليها ، فتجمع إليها كل فل ومضيق عليه من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيئ ، فلما بلغ ذلك خالداً - وهو فيما هو فيه من تتبع الثأر ، وأخذ الصدقة ودعاء الناس وتسكينهم - سار إلى المرأة وقد استكثف أمرها ، وغلط شأنها ؛ فنزل عليها وعلى جماعها ، فاقتتلوا قتالا شديداً ؛ وهي واقفة على جمل أمها ، وفي مثل عزها ، وكان يفال : من نخس جملها فله مائة من الإبل لعزها ، وأبيرت يومئذ بيوتات من جاس - قال أبو جعفر : جاس حي من غنم - وهاربة ، وغنم ، وأصيب في أناس من كاهل ، وكان قتالهم شديداً ؛ حتى اجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها . وقتل حول جملها مائة رجل ؛ وبعث بالفتح ، فقدم على أثر قرة بنحو من عشرين ليلة .
قال السري : قال شعيب ، عن سيف ، عن سهل وأبي يعقوب ، قالا : كان من حديث الجواء وناعر ، أن الفجاءة إياس بن عبد ياليل قدم على أبي بكر ، فقال : أعني بسلاح ، ومرني بمن شئت من أهل الردة ؛ فأعطاه سلاحاً ، وأمره أمره ، فخالف أمره إلى المسلمين ؛ فخرج حتى ينزل بالجواء ، وبعث نجبة بن أبي الميثاء من بني الشريد ، وأمره بالمسلمين ؛ فشنها غارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن ؛ وبلغ ذلك أبا بكر ، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له وأن يسير إليه ؛ وبعث إليه عبد الله بن قيس الجاسي عوناً ؛ ففعل ، ثم نهضا إليه وطلباه ؛ فجعل يلوذ منهما حتى لقياه على الجواء ؛ فاقتتلوا ، فقتل نجبة ، وهرب الفجاءة ، فلحقه طريفة فأسره . ثم بعث به إلى أبي بكر ، فقدم به على أبي بكر ، فأمر فأوقد له ناراً في مصلى المدينة على حطب كثير ، ثم رمى به فيها مقموطاً .
قال أبو جعفر : وأما ابن حميد ؛ فإنه حدثنا في شأن الفجاءة عن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : قدم على أبي بكر رجل من بني سليم ، يقال له الفجاءة ؛ وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف ، فقال لأبي بكر : إني مسلم ؛ وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار ، فاحملني وأعني ؛ فحمله أبو بكر على ظهر ، وأعطاه سلاحاً ، فخرج يستعرض الناس : المسلم والمرتد ، يأخذ أموالهم ، ويصيب من امتنع منهم ؛ ومعه رجل من بني الشريد ، يقال له : نجبة بن أبي الميثاء ، فلما بلغ أبا بكر خبره ، كتب إلى طريفة بن حاجز : إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم ، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام ، فحملته وسلحته ، ثم انتهى إلى من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس : المسلم والمرتد يأخذ أموالهم ، ويقتل من خالفه منهم ، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله ، أو تأخذه فتأتيني به . فسار طريفة بن حاجز ، فلما التقى الناس كانت بينهم الرميا بالنبل ، فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رمى به ، فلما رأى الفجاءة من المسلمين الجد قال لطريفة : والله ما أنت بأولى بالأمر مني ، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره . فقال له طريفة : إن كنت صادقاً فضع السلاح ، وانطلق معي إلى أبي بكر . فخرج معه ، فلما قد ما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز ، فقال : اخرج به إلى هذا البقيع فحرقه فيه بالنار ؛ فخرج به طريفة إلى المصلى فأوقد له ناراً ، فقذفه فيها ، فقال خفاف بن ندبة - وهو خفاف بن عمير - يذكر الفجاءة ، فيما صنع :
لم بأخذون سلاحه لقتاله ... ولذاكم عند الأله أثام
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى يسير إلى الصراة شمام
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كانت سليم بن منصور قد انتقض بعضهم ، فرجعوا كفاراً وثبت بعضهم على الإسلام مع أمير كان لأبي بكر عليهم ، يقال له معن بن حاجز ، أحد بني حارثة ، فلما سار خالد بن الوليد إلى طليحة وأصحابه ، كتب إلى معن بن حاجز أن يسير بمن ثبت معه على الإسلام من بني سليم مع خالد ، فسار واستخلف على عمله أخاه طريفة ابن حاجز ، وقد كان لحق فيمن لحق من بني سليم بأهل الردة أبو شجرة ابن عبد العزي ، وهو ابن الخنساء ، فقال :
فلو سألت عنا غداة مرامر ... كما كنت عنها سائلا لو نأيتها
لقاء بني فهر وكان لقاؤهم ... غداة الجواء حاجة فقضيتها
صبرت لهم نفسي وعرجت مهرتي ... على الطعن حتى صار ورداً كميتها
إذا هي صدت عن كمي أريده ... عدلت إليه صدرها فهديتها
فقال أبو شجرة حين ارتد عن الإسلام :
صحا القلب عن مي هواه وأقصرا ... وطاوع فيها العاذلين فأبصرا
وأصبح أدنى رائد الجهل والصبا ... كما ودها عنا كذاك تغيرا
وأصبح أدنى رائد الوصل منهم ... كما حبلها من حبلنا قد تبترا
ألا أيها المدلي بكثرة قومه ... وحظك منهم أن تضام وتقهرا
سل الناس عنا كل يوم كريهة ... إذا ما التقينا : دار عين وحسرا
ألسنا نعاطى ذا الطماح لجامه ... ونطعن في الهيجا إذا الموت أقفرا !
وعاضرة شهباء تخطر بالقنا ... ترى البلق في حافاتها والسنورا
فرويت رمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم إن أبا شجرة أسلم ، ودخل فيما دخل فيه الناس ؛ فلما كان زمن عمر بن الخطاب قدم المدينة . فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي ، عن رجال من قومه . وحدثنا السري قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل وأبي يعقوب ومحمد بن مرزوق ، وعن هشام ، عن أبي مخنف ، عن عبد الرحمن بن قيس السلمي ، قالوا : فأناح ناقته بصعيد بني قريظة . قال : ثم أتى عمر وهو يعطي المساكين من الصدقة ويقسمها بين فقراء العرب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعطني فإني ذو حاجة ، قال : ومن أنت ؟ قال : أبو شجرة بن عبد العزي السلمي ، قال : أبو شجرة ! أي عدو الله ، ألست الذي تقول :
فرويت رمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
قال : ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى سبقه عدواً ، فرجع إلى ناقته فارتحلها ، ثم أسندها في حرة شوران راجعاً إلى أرض بني سليم ، فقال :
صن علينا أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوماً له ورق
ما زال يرهقني حتى خذيت له ... وحال من دون بعض الرغبة الشفق
لما رهبت أبا حفص وشرطته ... والشيخ يفزع أحياناً فينحمق
ثم ارعويت إليها وهي جانحة ... مثل الطريدة لم ينبت لها ورق
أوردتها الخل من شوران صادرة ... إني لأزرى عليها وهي تنطلق
تطير مرو أبان عن مناسمها ... كما تنوقد عند الجهبذ الورق
إذا يعارضها خرق تعارضه ... ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق
ينوء آخرها منها بأولها ... سرح اليدين بها نهاضة العنق
ذكر خبر بني تميم وأمر سجاج بنت الحارث بن سويد وكان من أمر بني تميم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وقد فرق فيهم عماله ؛ فكان الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء - فيما ذكر السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية بن بلال ، عن أبيه وسهم بن منجاب - وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون ، وصفوان ابن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ؛ هذا على بهدى وهذا على خضم - قبيلتين من بني تميم - ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بني حنظلة ؛ هذا على بني مالك ، وهذا على بني يربوع . فضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات بني عمرو ، وما ولى منها وبما ولى سبرة ، وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب القوم ، وقد أطرق قيس ينظر ما الزبرقان صانع . وكان الزبرقان متعتباً عليه ، وقلما جامله إلا مزقه الزبرقان بحظوته وجده . وقد قال قيس وهو ينتظر لينظر ما يصنع ليخالفه حين أبطأ عليه : واو يلنا من من ابن العكلية ! والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع ! لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فليسودني فيهم ، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنده . فعزم قيس على قسمها في المقاعس والبطون ، ففعل . وعزم الزبرقان على الوفاء ، فاتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حتى قدم بها المدينة ، وهو يقول ويعرض بقيس :
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها
وتحلل الأحياء ونشب الشر ، وتشاغلوا وشغل بعضهم بعضاً . ثم ندم قيس بعد ذلك ، فلما أظله العلاء بن الحضرمي أخرج صدقتها ؛ فتلقاه بها ؛ ثم خرج معه ، وقال في ذلك :
ألا أبلغا عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها بينات الودائع
فتشاغلت في تلك الحال عوف والأبناء بالبطون ؛ والرباب بمقاعس ، وتشاغلت خضم بما لك وبهدى بيربوع ؛ وعلى خضم سبرة بن همرو ، وذلك الذي حلفه عن صفوان والحصين بن نيار على بهدي ، والرباب ؛ عبد الله بن صفوان على ضبة ، وعصمة بن أبير على عبد مناة ، وعلى عوف والأبناء عوف بن البلاد ابن خالد من بني غنم الجشمي ، وعلى البطون سعر بن خفاف ؛ وقد كان ثمامة ابن أثال تأتيه أمداد من بني تميم ؛ فلما حدث هذا الحدث فيما بينهم تراجعوا إلى عشائرهم ، فأضر ذلك بثمامة بن أثال حتى قدم عليه عكرمة وأنهضه ؛ فلم يصنع شيئاً ؛ فبينا الناس في بلاد تميم على ذلك ، قد شغل بعضهم بعضاً ؛ فمسلمهم بإزاء من قدم رجلا وأخر أخرى وتربص ، وبإزاء من ارتاب ، فجئتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة ، وكانت ورهطها في بني تغلب تقود أفناء ربيعة ، معها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وعقة ابن هلال في النمر ، وتاد بن فلان في إياد ، والسليل بن قيس في شيبان ، فأتاهم أمر دهي ، هو أعظم مما فيه الناس ، لهجوم سجاح عليهم ، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة ، والتشاغل بما بينهم . وقال غفيف بن المنذر في ذلك :
ألم يأتيك والأنباء تسرى ... بما لاقت سراة بني تميم
تداعى من سراتهم رجال ... وكانوا في الذوائب والصميم
وألجوهم وكان لهم جناب ... إلى أحياء خالية وخيم
وكانت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان - هي وبنو أبيها عقفان - في بني تغلب ، فتنبت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزيرة في بني تغلب ، فاستجاب لها الهذيل ، وترك التنصر ؛ وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر . فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة ، فأجابها ، وفثأها عن غزوها ، وحملها على أحياء من بني تميم ، قال : نعم ، فشأنك بمن رأيت ، فإني إنما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان ملك فالملك ملككم . فأرسلت إلى بني مالك بن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة ، فخرج عطارد بن حاجب وسروات بني مالك حتى نزلوا في بني العنبر على سبرة بن عمرو هراباً قد كرهوا ما صنع وكيع ، وخرج أشباههم من بني يربوع ؛ حتى نزلوا على الحصين بن نيار في بني مازن ، وقد كرهوا ما صنع مالك ؛ فلما جاءت رسلها إلى بني مالك تطلب الموادعة ، أجابها إلى ذلك وكيع ، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح ، وقد وادع بعضهم بعضاً ، واجتمعوا على قتال النس وقالوا : بمن نبدأ ؟ بخضم ، أم ببهدى ، أم بعوف والأبناء ، أم بالرباب ؟ وكفوا عن قيس لما رأوا من تردده وطمعوا فيه ، فقالت : ((أعدوا الركاب ، واستعدوا للنهاب ؛ ثم أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب)) .
قال : وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها ، وقالت لهم : إن الدهناء حجاز بني تميم ؛ ولن تعدو الرباب ؛ إذا شدها المصاب ، أن تلوذ بالدجاني والدهاني ؛ فلينزلها بعضكم . فتوجه الجفول - يعني مالك بن نويرة - إلى الدجاني فنزلها ؛ وسمعت بهذا الرباب فاجتمعوا لها ؛ ضبتها وعبد مناتها ، فولى وكيع وبشر بني بكر من بني ضبة ، وولى ثعلبة بن سعد بن ضبة عقة ، وولى عبد مناة الهذيل . فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بني ضبة ، فهزما ، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع ، وقتلت قتلى كثيرة ؛ فقال في ذلك قيس بن عاصم ؛ وذلك أول ما استبان فيه الندم :
كأنك لم تشهد سماعة إذ غزا ... وما سر قعقاع وخاب وكيع
رأيتك قد صاحبت ضبة كارهاً ... على ندب في الصفحتين وجيع
ومطلق أسرى كان حمقاً مسيرها ... إلى صخرات أمرهن جميع
فصرفت سجاح والهذيل وعقة بني بكر ، للموادعة التي بينها وبين وكيع - وكان عقة خال بشر - وقالت : اقتلوا الرباب ويصالحونكم ويطلقون أسراكم ، وتحملون لهم دماءهم ؛ وتحمد غب رأيهم أخراهم . فأطلقت لهم ضبة الأسرى ؛ وودوا القتلى ، وخرجوا عنهم . فقال في ذلك قيس يعيرهم صلح ضبة ، إسعاداً لضبة وتأنيباً لهم . ولم يدخل في أمر سجاح عمري ولا سعدى ولا ربي ؛ ولم يطمعوا من جميع هؤلاء إلا في قيس ؛ حتى بدا منه إسعاد ضبة ؛ وظهر منه الندم . ولم يمالئهم من حنظلة إلا وكيع ومالك ؛ فكانت ممالأتهما موادعة على أن ينصر بعضهم بعضا ، ويحتاز بعضهم إلى بعضهم ؛ وقال أصم التيمي في ذلك :
أتتنا أخت تغلب فاستهدت ... جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاهاً ... وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهم زبالاً ... وما كانت لتسلم إذ أتينا
ألا سفهت حلومكم وضلت ... عشية تحشدون لها ثبينا
قال : ثم إن سجاح خرجت في جنود الجزيرة ، حتى بلغت النباح ؛ فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي فيمن تأشب إليه من بني عمرو ، فأسر الهذيل ؛ أسره رجل من بني مازن ثم أحد بني وبر ، يدعى ناشرة . وأسر عقة ؛ أسره عبدة الهجيمي ؛ وتحاجزوا على أن يترادوا الأسرى ، وينصرفوا عنهم ، ولا يجتازوا عليهم ؛ ففعلوا ، فردوها وتوثقوا عليها وعليهما ؛ أن يرجعوا عنهم ، ولا يتخذوهم طريقاً إلا من ورائهم . فوفوا لهم ؛ ولم يزل في نفس الهذيل على المازني ؛ حتى إذا قتل عثمان بن عفان ، جمع جمعاً فأغار على سفار ، وعليه بنو مازن ؛ فقتلته بنو مازن ورموا به في سفار .
ولما رجع الهذيل وعقة إليها واجتمع رؤساء أهل الجزيرة قالوا لها : ما تأمريننا ؟ فقد صالح مالك ووكيع قومهما ؛ فلا ينصروننا ولا يزيدوننا على أن نجوز في أرضهم ، وقد عاهدنا هؤلاء القوم . فقالت : اليمامة ؛ فقالوا : إن شوكة أهل اليمامة شديدة ؛ وقد غلظ أمر مسيلمة ؛ فقالت : ((عليكم باليمامة ؛ ودفوا دفيف الحمامة ؛ فإنها غزوة صرامة ؛ لا يلحقكم بعدها ملامة)) . فنهدت لبنى حنيفة ؛ وبلغ ذلك مسيلمة فهابها ؛ وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه ثمامة على حجر أو شرحبيل بن حسنة ، أو القبائل التي حولهم ، فأهدى لها ؛ ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها . فنزلت الجنود على الأمواه ، وأذنت له وآمنته ؛ فجاءها وافداً في أربعين من بني حنيفة - وكانت راسخة في النصرانية ، قد علمت من علم نصاري تغلب - فقال مسيلمة : لنا نصف الأرض ؛ وكان لقريش نصفها لو عدلت ؛ وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش ؛ فحباك به ، وكان لها لو قبلت . فقالت : ((لا يرد النصف إلا من حنف ، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف )) . فقال مسيلمة : ((سمع الله لمن سمع ، وأطمعه بالخير إذا طمع ؛ ولا زال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع . رآكم ربكم فحياكم ، ومن وحشة خلاكم ؛ ويوم دينه أنجاكم . فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار ، لا أشقياء ولا فجار ، يقومون الليل ويصومون النهار ، لربكم الكبار ، رب الغيوم والأمطار)) .
وقال أيضاً : ((لما رأيت وجوههم حسنت ، وأبشارهم صفت ، وأيديهم طفلت ؛ قلت لهم : لا النساء تأتون ، ولا الخمر تشربون ؛ ولكنكم معشر أبرار ، تصومون يوماً ، وتكلفون يوماً ؛ فسبحان الله ! إذا جاءت الحياة كيف تحيون ، وإلى ملك السماء ترقون ! فلو أنها حبة خردلة ؛ لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور ، ولأكثر الناس فيها الثبور)) .
وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولداً واحدا عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد ؛ حتى يصيب ابنا ثم يمسك ؛ فكان قد حرم النساء على من له ولد ذكر .
قال أبو جعفر : وأما غير سيف ومن ذكرنا عنه هذا الخبر ؛ فإنه ذكر أن مسيلمة لما نزلت به سجاح ، أغلق الحصن دونها ، فقالت له سجاح : انزل ، قال : فنحى عنك أصحابك ، ففعلت . فقال مسيلمة : اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ؛ ففعلوا ، فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال : ليقف ها هنا عشرة ، وها هنا عشرة ؛ ثم دارسها ، فقال : ما أوحى إليك ؟ فقالت : هل تكون النساء يبتدئن ! ولكن أنت قل ما أوحى إليك ؟ قال : ((ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى )) . قالت : وماذا أيضاً ؟ قال : أوحى إلى : ((أن الله خلق النساء أفراجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ؛ فنولج فيهن قعساً إيلاجا ، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا ، فينتجن لنا سخالا إنتاجاً)) . قالت : أشهد أنك نبي ، قال : هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب ! قالت : نعم ، قال :
ألا قومي إلى النيك ... فقد هيى لك المضجع
وإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
قالت : بل به أجمع ، قال بذلك أوحى إلى . فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها ، فقالوا : ما عندك ؟ قالت : كان على الحق فاتبعته فتزوجته ، قالوا : فهل أصدقك شيئاً ؟ قالت : لا ، قالوا : ارجعي إليه ، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق ! فرجعت ، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن ، وقال : مالك ؟ قالت : أصدقني صداقاً ، قال : من مؤذنك ؟ قالت : شبث بن ربعي الرياحي ، قال : على به ، فجاء فقال : ناد في أصحابك أن مسلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد : صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر .
قال : وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم .
وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما - فانصرفت ومعها أصحابها ، فيهم الزبرقان ، وعطارد بن حاجب ، وعمرو بن الأهتم ، وغيلان بن خرشة ، وشبث ابن ربعي ، فقال عطارد بن حاجب :
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال حكيم بن عياش الأعور الكلبي ، وهو يعير مضر بسجاح ، ويذكر ربيعة :
أتوكم بدين قائم وأتيتم ... بمنتسخ الآيات في مصحف طب
رجع الحديث إلى حديث سيف . فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة ، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها ؛ فباح لها بذلك ؛ وقال : خلفي على السلف من يجمعه لك ، وانصرفي أنت بنصف العام ؛ فرجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلفت الهذيل وعقة وزياداً لينجز النصف الباقي ؛ فلم يفجأهم إلا دنو خالد بن الوليد منهم ؛ فارفضوا . فلم تزل سجاح في بني تغلب ؛ حتى نقلهم معاوية عام الجماعة في زمانه ؛ وكان معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد علي عليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي ، وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشأم وأهل البصرة وأهل الجزيرة ؛ وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار ؛ فأخرج من الكوفة قعقلع بن عمرو بن مالك إلى إيليا بفلسطين ، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان ، وينقلهم إلى بني تميم ، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة ، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه ؛ وجاءت معهم وحسن إسلامها ؛ وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر ، وقالا : اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد ، ففعل وكتب الكتاب . وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله وأشهدوا شهوداً منهم عمر . فلما أنى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد ، ثم قال : لا والله ولا كرامة ! ثم مزق الكتاب ومحاه ، فغضب طلحة ، فأتى أبا بكر ، فقال : أأنت الأمير أم عمر ؟ فقال : عمر ؛ غير أن الطاعة لي . فسكت .
وشهدا مع خالد المشاهد كلها حتى اليمامة ، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة .
ذكر البطاح وخبره كتب إلى السري بن يحيى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية بن بلال ، قال : لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة ، ارعوى مالك بن نويرة ، وندم وتحير في أمره ، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا ، فرجعا رجوعاً حسناً ، ولم يتجبرا ، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالداً ؛ فقال خالد : ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم ؟ فقالا : ثأر كنا نطلبه في بني ضبة ؛ وكانت أيام تشاغل وفرص ، وقال وكيع في ذلك :
فلا تحسبا أني رجعت وأنني ... منعت وقد تحنى إلى الأصابع
ولكنني حاميت عن جل مالك ... ولاحظت حتى أكحلتني الأخادع
فلما أتانا خالد بلوائه ... تخطت إليه بالبطح الودائع
ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كان من مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح ؛ فهو على حاله متحير شج .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل ، عن القاسم وعمرو بن شعيب ، قالا : لما أراد خالد السير خرج من ظفر ، وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيئاً وهوازن ؛ فسار يريد البطاح دون الحزن ؛ وعليها مالك بن نويرة ، وقد تردد عليه أمره ، وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه ، وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ! إن الخليفة عهد إلينا . فقال خالد : إن يك عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضي ، وأنا الأمير وإلى تنتهي الأخبار . ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ؛ ثم رأيت فرصةً ؛ فكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها ؛ كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ، ثم نعمل به . وهذا مالك بن نويرة بحيالنا ، وأنا قاصد إليه ومن معي من المهاجرين والتابعين بإحسان ؛ ولست أكرهكم . ومضى خالد ، وندمت الأنصار ، وتذامروا ، وقالوا : إن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه ، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس . فأجمعوا اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولا ؛ فأقام عليهم حتى لحقوا به ؛ ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد به أحداً .
قال أبو جعفر : فيما كتب به إلى السري بن يحيى ، يذكر عن شعيب ابن إبراهيم أنه حدثه عن سيف بن عمر ، عن خزيمة بن شجرة العقفاني ، عن عثمان بن سويد ، عن سويد بن المثعبة الرياحي ؛ قال : قدم خالد ابن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحداً ، ووجد مالكاً قد فرقهم في أموالهم ، ونهاهم عن الاجتماع حين تردد عليه أمره ، وقال : يا بني يربوع ؛ إنا قد كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين ، وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح ، وإني قد نظرت في هذا الأمر ، فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ؛ فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ؛ فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر . فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم ، وخرج مالك حتى رجع إلى منزله . ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ؛ وكان مما أوصى به أبو بكر : إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا ؛ فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم ؛ وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ؛ ثم اقتلوهم كل قتلة ؛ الحرق فما سواه ؛ وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم ؛ فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم ؛ وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة . فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من نبي ثعلبة بن يربوع ، من عاصم وعبيد وعرين وجعفر ، فاختلفت السرية فيهم ، وفيهم أبو قتادة ؛ فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا . فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ؛ وجعلت تزداد برداً ، فأمر خالد منادياً فنادى : ((أدفئوا أسراكم)) ، وكانت في لغة كنانة إذا قالوا : دثروا الرجل فأدفئوه ، دفئه قتله وفي لغة غيرهم : أدفه فاقتله ، فظن القوم - وهي في لغتهم القتل - أنه أراد القتل ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً ، وسمع خالد الواعية ؛ فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمراً أصابه .
وقد اختلف القوم فيهم ، فقال أبو قتادة : هذا عملك ، فزبره خالد فغضب ومضى ، حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر ؛ حتى كلمه عمر فيه ، فلم يرض إلا أن يرجع إليه ، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة ، وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال ، وتركها لينقضي طهرها ، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره ، وقال عمر لأبي بكر . أن في سيف خالد رهقاً ، فإن لم يكن هذا حقاً حق عليه أن تقيده ؛ وأكثر عليه في ذلك - وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا وزعته - فقال : هيه يا عمر ! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد . وودى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، فأخبره خبره فعذره وقبل منه ، وعنفه في التزويج الذي كانت تعيب عليه العرب من ذلك
وكتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا ، ففعلوا مثل ذلك . وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء ، فقتلوا . وقدم أخوه متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ، ويطلب إليه في سبيهم ؛ فكتب له برد السبي ، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله ، وقال : إن في سيفه رهقاً . فقال : لا يا عمر ؛ لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن خزيمة ، عن عثمان ، عن سوبد ، قال : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعراً ؛ وإن أهل العسكر أثفوا برءوسهم القدور ، فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً ، فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره ، وقى الشعر البشرة حرها أن يبلغ منه ذلك .
وأنشده متمم ؛ وذكر خمصه ؛ وقد كان عمر رآه مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أكذاك يا متمم كان ! قال : أما ما أعني فنعم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ؛ أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه : أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة ، فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا ! وإن لم تسمعوا أذاناً ، فشنوا الغارة ، فاقتلوا ، وحرقوا .
وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة ، وقد كان عاهد الله ألا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها ؛ وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح . قال : فقلنا : إنا المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا : فما بال السلاح معكم ! قالوا لنا : فما بال السلاح معكم ! قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، قال : فوضعوها ؛ ثم صلينا وصلوا . وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه : ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا . قال : أو ما تعده لك صاحباً ! ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه ، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب ، تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال : عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته ! وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهماً ؛ فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ، ثم قال : أرئاء ! قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته ! والله لأرجمنك بأحجارك - ولا يكلمه خالد بن الوليد ، ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأى عمر فيه - حتى دخل على أبي بكر ، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر ، واعتذر إليه فعذره أبو بكر ، وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك . قال : فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر ، وعمر جالس في المسجد ، فقال : هلم إلى يا بن أم شملة ! قال : فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ، ودخل بيته .
وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدى . وقال ابن الكلبي : الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور .
ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : كان أبو بكر حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل عجل عكرمة ، فبادر شرحبيل ليذهب بصوتها فواقعهم ، فنكبوه ، وأقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر ؛ وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره ، قكتب إليه أبو بكر : يا بن أم عكرمة ، لا أرينك ولا تراني على حالها ! لا ترجع فتوهن الناس ؛ امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما أهل عمان ومهرة ، وإن شغلا فامض أنت ، ثم تسير وتسير جندك تستبرئون من مررتم به ؛ حتى تلقوا أنتم والمهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت .
وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتى يأتيه أمره ، ثم كتب إليه قبل أن يوجه خالداً بأيام إلى اليمامة : إذا قدم عليك خالد ، ثم فرغتم إن شاء الله فالحق بقضاعة ؛ حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف . فلما قدم خالد على أبي بكر من البطاح رضي أبو بكر عن خالد ، وسمع عذره وقبل منه وصدقه ورضى عنه ، ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس . وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبراء بن فلان ، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد ، وعلى القبائل ؛ على كل قبيلة رجل . وتعجل خالد حتى قدم على أهل العسكر بالبطاح ، وانتظر البعث الذي ضرب بالمدينة ؛ فلما قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن رجال ، قالوا : كان عدد بني حنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل ؛ في قراها وحجرها ، فسار خالد حتى إذا أظل عليهم أسند خيولاً لعقة والهذيل وزياد ؛ وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح . وكتب إلى القبائل من تميم فيهم ؛ فنفروهم حتى أخرجوهم من جزيرة العرب ، وعجل شرحبيل بن حسنة ، وفعل فعل عكرمة ، وبادر خالداً بقتال مسيلمة قبل قدوم خالد عليه ؛ فنكب ، فحاجز ؛ فلما قدم عليه خالد لامه ؛ وإنما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه ؛ وكانوا بأفنية اليمامة .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ، عمن حدثه ، عن جابر بن فلان ، قال : وأمد أبو بكر خالداً بسليط ؛ ليكون ردءاً له من أن يأتيه أحد من خلفه ؛ فخرج ؛ فلما دنا من خالد وجد تلك الخيول التي انتابت تلك البلاد قد فرقوا ؛ فهربوا ، وكان منهم قريباً ردءاً لهم ؛ وكان أبو بكر يقول : لا أستعمل أهل بدر ؛ أدعهم حتى يلقوا الله بأحسن أعمالهم ؛ فإن الله يدفع بهم وبالصلحاء من الأمم أكثر وأفضل ، مما ينتصر بهم ؛ وكان عمر بن الخطاب يقول : والله لأشركنهم وليواسننى .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير ، عن أثال الحنفي - وكان مع ثمامة بن أثال - قال : وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح ؛ وكان معه نهار الرجال بن عنفوة ، وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقرأ القرآن ؛ وفقه في الدين ، فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة ، وليشدد من أمر المسلمين ؛ فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ؛ شهد له أنه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول : إنه قد أشرك معه ؛ فصدقوه واستجابوا له ، وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه ؛ فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه ؛ وكان ينتهى إلى أمره ، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويشهد في الأذان أن محمداً رسول الله ؛ وكان الذي يؤذن له عبد الله بن النواحة ، وكان الذي يقيم له حجير بن عمير ، ويشهد له ، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة ، قال : صرح حجير ؛ فيزيد في صوته ، ويبالغ لتصديق نفسه ، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم ؛ فعظم وقاره في أنفسهم .
قال : وضرب حرماً باليمامة ، فنهى عنه ؛ وأخذ الناس به ، فكان محرما فوقع في ذلك الحرم قرى الأحاليف ؛ أفخاذ من بني أسيد ، كانت دراهم باليمامة ؛ فصار مكان دراهم في الحرم - والأحاليف : سيحان المارة ونمر والحارث بنو جرة - فإن أخصبا أغاروا على ثمار أهل اليمامة ، واتخذوا الحرم دغلا ، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم ؛ وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون . فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم ؛ فقال : أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم . ثم قال لهم : ((والليل الأطحم ، والذئب الأدلم . والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من محرم)) ؛ فقالوا : أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ! ثم عادوا للغارة ، وعادوا للعدوى فقال : أنتظر الذي يأتينى ، فقال : ((والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس)) ؛ فقالوا : أما النخيل مرطبة فقد جدوها ، وأما الجدران يابسة فقد هدموها ؛ فقال : اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم .
وكان فيما يقرأ لهم فيهم : ((إن بني تميم قوم طهر لقاح ، لا مكروه عليهم ولا إتاوة ، نجاورهم ما حيينا بإحسان ، نمنعهم من كل إنسان ؛ فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن)) .
وكان يقول " ((والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها . والشاة السوداء واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تمجعون !)) .
وكان يقول : ((يا ضفدع ابنة ضفدع ، نقى ما تنقين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين)) .
وكان يقول : ((والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ؛ واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ؛ ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغى فناوئوه)) .
قال : وأتته امرأة من بني حنيفة تكنى بأم الهيثم فقالت : إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز ؛ فادع الله لمائنا ولنخلنا كما دعا محمد لأهل هزمان)) . فقال : يا نهار ما تقول هذه ؟ فقال : إن أهل هزمان أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فشكوا بعد مائهم ؛ - وكانت آبارهم جرزاً - ونخلهم أنها سحق ، فدعا لهم فجاشت آبارهم ، وانحنت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جرانها لانتهائها ، فحكت به الأرض حتى أنشبت عروقاً ثم قطعت من دون ذلك ، فعادت فسيلا مكمماً ينمى صاعداً . قال : وكيف صنع بالأبار ؟ قال : دعا بسجل ، فدعا لهم فيه ثم تمضمض بفمه منه ، ثم مجه فيه ، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار ، ثم سقوه نخلهم ، ففعل النبي ما حدثتك ، وبقي الآخر إلى انتهائه . فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه ، ثم تمضمض منه ، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم . فغارت مياه تلك الآبار ، وخوى نخلهم ؛ وإنما استبان ذلك بعد مهلكه .
وقال له نهار : برك على مولودى بني حنيفة ، فقال له : وما التبريك ؟ قال : كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداً صلى الله عليه وسلم فحنكه ومسح رأسه ؛ فلم يؤت مسيلمة بصبى فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه .
وقالوا : تتبع حيطانهم كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصنع فصل فيها . فدخل حائطاً من حوائط اليمامة ، فتوضأ ، فقال نهار لصاحب الحائط : ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقى به حائطك حتى يروى ويبتل ، كما صنع بنو المهرية ، أهل بيت من بني حنيفة - وكان رجل من المهرية قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ وضوءه فنقله معه إلى اليمامة فأفرغه في بئره ، ثم نزع وسقى ، وكانت أرضه تهوم فرويت وجزأت فلم تلف إلا خضراء مهتزة - ففعل فعادت يباباً لا ينبت مرعاها .
وأتاه رجل فقال : ادع الله لأرضى فإنها مسبخة ؛ كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لسلمى على أرضه . فقال : ما يقول يا نهار ؟ فقال : قدم عليه سلمى ، وكانت أرضه سبخة فدعا له ، وأعطاه سجلا من ماء ومج له فيه ، فأفرغه في بئره ، ثم نزع ، فطابت وعذبت ؛ ففعل مثل ذلك فانطلق الرجل ، ففعل بالسجل كما فعل سلمى ، فغرقت أرضه ، فما جف ثراها ، ولا أدرك ثمرها .
وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها ، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها ؛ وكانوا قد علموا واستبان لهم ؛ ولكن الشقاء غلب عليهم .
كتب إلى السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن خليد بن ذفرة النمرى ، عن عمير بن طلحة النمرى ، عن أبيه ، أنه جاء اليمامة ، فقال : أين مسيلمة ؟ قالوا : مه رسول الله ! فقال : لا ، حتى أراه ؛ فلما جاءه ، قال : أنت مسيلمة ؟ قال : نعم ، قال : من يأتيك ؟ قال : رحمن ، قال : أفى نور أو في ظلمة ؟ فقال : في ظلمة ، فقال : أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق ؛ ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ، فقتل معه يوم عقرباء .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الكلبى مثله ؛ إلا أنه قال : كذاب ربيعة أحب إلى من كذاب مضر .
وكتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير ، عن رجل منهم ، قال : لما بلغ مسيلمة دنو خالد ، ضرب عسكره بعقرباء ، واستنفر الناس ، فجعل الناس يخرجون إليه ، وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأراً له في بني عامر وبني تميم قد خاف فواته ، وبادر به الشغل ، فأما ثأره في بني عامر فكانت خولة ابنة جعفر فيهم ، فمنعوه منها ، فاختلجها ؛ وأما ثأره في بني تميم فنعم أخذوا له . واستقبل خالد شرحبيل بن حسنة ، فقدمه وأمر على المقدمة خالد بن فلان المخزومى ، وجعل على المجنبتين زيداً وأبا حذيفة ، وجعل مسيلمة على مجنبتيه المحكم والرجال ، فسار خالد ومعه شرحبيل ، حتى إذا كان من عسكر مسيلمة على ليلة ، هجم على جبيلة هجوم - المقلل يقول : أربعين ، والمكثر يقول : ستين - فإذا هو مجاعة وأصحابه ، وقد غلبهم الكرى ، وكانوا راجعين من بلاد بني عامر ، قد طووا إليهم ؛ واستخرجوا خولة ابنة جعفر فهى معهم ، فعرسوا دون أصل الثنية ؛ ثنية اليمامة ، فوجدوهم نياماً وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم وهم لا يشعرون بقرب الجيش منهم ؛ فأنبهوهم ، وقالوا : من أنتم ؟ قالوا : هذا مجاعة وهذه حنيفة ، قالوا : وأنتم فلا حياكم الله ! فأوثقوهم وأقاموا إلى أن جاءهم خالد بن الوليد ، فأتوه بهم ؛ فظن خالد أنهم جاءوه ليستقبلوه وليتقوه بحاجته ، فقال : متى سمعتم بنا ؟ قالوا : ما شعرنا بك ؛ إنما خرجنا لئأر لنا فيمن حولنا من بني عامر وتميم ، ولو فطنوا لقالوا : تلقيناك حين سمعنا بك . فأمر بهم أن يقتلوا ، فجادوا كلهم بأنفسهم دون مجاعة بن مرارة ، وقالوا : إن كنت تريد بأهل اليمامة غداً خيراً أو شراً فاستبق هذا ولا تقتله ؛ فقتلهم خالد وحبس مجاعة عنده كالرهينة .
كتب إلى السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، وعبد الله بن سعيد عن أبي سعيد عن أبي هريرة ، قال : قد كان أبو بكر بعث إلى الرجال فأتاه فأوصاه بوصيته ، ثم أرسله إلى أهل اليمامة ؛ وهو يرى أنه على الصدق حين أجابه . قالا : قال أبو هريرة : جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجال ابن عنفوة ، فقال : إن فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من أحد ، فهلك القوم وبقيت أنا والرجال ، فكنت متخوفاً لها ؛ حتى خرج الرجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوة ؛فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة ، فبعث إليهم أبو بكر خالداً ، فسار حتى إذا بلغ ثنية اليمامة ، استقبل مجاعة ابن مرارة - وكان سيد بني حنيفة - في جبل من قومه ، يريد الغارة على بني عامر ، ويطلب دماً ، وهم ثلاثة وعشرون فارساً ركباناً قد عرسوا . فبيتهم خالد في معرسهم ، فقال : متى سمعتم بنا ؟ فقالوا : ما سمعنا بكم ؛ إنما خرجنا لنثئر بدم لنا في بني عامر . فأمر بهم خالد فضربت أعناقهم ، واستحيا مجاعة ؛ ثم سار إلى اليمامة ؛ فخرج مسيلمة وبنو حنيفة حين سمعوا بخالد ، فنزلوا بعقرباء ، فحل بها عليهم - وهي طرف اليمامة دون الأموال - وريف اليمامة وراء ظهورهم . وقال شرحبيل بن مسيلمة : يا بنى حنيفة ، اليوم يوم الغيرة ، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيات ، وينكحن غير خطيبات ؛ فقاتلوا عن أحسابكم ، وامنعوا نساءكم . فاقتتلوا بعقرباء ، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة ، فقالوا : تخشى علينا من نفسك شيئاً ! فقال : بئس حامل القرآن أنا إذاً ! وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت العرب على راياتها ومجاعة أسير مع أم تميم في فسطاطها . فجال المسلمون جولة ، ودخل أناس من بني حنيفة على أم تميم ، فأرادوا قتلها ، فمنعها مجاعة . قال : أنا لها جار ، فنعمت الحرة هى ! فدفعهم عنها ، وتراد المسلمون ، فكروا عليهم ؛ فانهزمت بنو حنيفة ، فقال المحكم بن الطفيل : يا بنى حنيفة ، ادخلوا الحديقة ؛ فإنى سأمنع أدباركم ، فقاتل دونهم ساعة ثم قتله الله ؛ قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ؛ ودخل الكفار الحديقة ، وقتل وحشي مسيلمة ، وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، بنحو حديث سيف هذا ؛ غير أنه قال : دعا خالد بمجاغة ومن أخذ معه حين أصبح ، فقال : يا بنى حنيفة ، ما تقولون ؟ قالوا : نقول : منا نبي ومنكم نبي ؛ فعرضهم على السيف ؛ حتى إذا بقى منهم رجل يقال له سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة ، قال له سارية : أيها الرجل ؛ إن كنت تريد بهذه القرية غداً خيراً أو شراً ، فاستبق هذا الرجل - يعنى مجاعة - فأمر به خالد فأوثقه في الحديد ؛ ثم دفعه إلى أم تميم امرأته ، فقال : استوصى به خيراً ، ثم مضى حتى نزل اليمامة على كثيب مشرف على اليمامة ، فضرب به عسكره ، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة وقد قدم في مقدمته الرحال - قال أبو جعفر ، هكذا قال ابن حميد بالحاء - بن عنفوة بن نهشل ، وكان الرحال رجلاً من بني حنيفة قد كان أسلم ، وقرأ سورة البقرة ، فلما قدم اليمامة شهد لمسيلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أشركه في الأمر ؛ فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من مسيلمة ؛ وكان المسلمون يسألون عن الرحال يرجون أنه يثلم على أهل اليمامة أمرهم بإسلامه ، فلقيهم في أوائل الناس متكتباً ، وقد قال خالد بن الوليد وهو جالس على سريره ، وعنده أشراف الناس والناس على مصافهم ؛ وقد رأى بارقة في بنى حنيفة : أبشروا يا معشر المسلمين ؛ فقد كفاكم الله أمر عدوكم . واختلف القوم إن شاء الله ؛ فنظر مجاعة وهو خلفه موثقاً في الحديد ، فقال : كلا والله ، ولكنها الهندوانية خشوا عليها من تحطمها ، فأبرزوها للشمس لتلين لهم ؛ فكان كما قال . فلما التقى المسلمون كان أول من لقيهم الرحال بن عنفوة ، فقتله الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن شيخ من بنى حنيفة ، عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً - وأبو هريرة ورحال بن عنفوة في مجلس عنده : ((لضرس أحدكم أيها المجلس في النار يوم القيامة أعظم من أحد)) . قال أبو هريرة : فمضى القوم لسبيلهم ، وبقيت أنا ورحال بن عنفوة ، فما زلت لها متخوفاً ؛ حتى سمعت بمخرج رحال ، فأمنت وعرفت أن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حق .
ثم التقى الناس ولم يلقهم حرب قط مثلها من حرب العرب ؛ فاقتتل الناس قتالا شديداً ؛ حتى انهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد ، فزال خالد عن فسطاطه ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة عند أم تميم ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : مه ، أنا لها جار ، فنعمت الحرة ! عليكم بالرجال ، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف . ثم إن المسلمين تداعوا ، فقال ثابت بن قيس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! اللهم إنى أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعنى المسلمين - ثم جالد بسيفه حتى قتل . وقال زيد بن الخطاب حين انكشف الناس عن رحالهم : لا تحوز بعد الرحال ، ثم قاتل حتى قتل . ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان إذا حضر الحرب أخذته العرواء حتى يقعد عليه الرجال ؛ ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله ؛ فإذا بال يثور كما يثور الأسد - فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب ، فقال : أين يا معشر المسلمين ! أنا البراء بن مالك ، هلم إلى ! وفاءت فئة من الناس ، فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله ، وخلصوا إلى محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل - فقال حين بلغه القتال : يا معشر بنى حنيفة ، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات ، وينكحن غير خطيبات ؛ فما عندكم من حسب فأخرجوه . فقاتل قتالا شديداً ؛ ورماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله . ثم زحف المسلمون حتى ألجئوهم إلى الحديقة ؛ حديقة الموت ؛ وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب ، فقال البراء : يا معشر المسلمين ، ألقونى عليهم في الحديقة . فقال الناس : لا تفعل يا براء ، فقال : والله لتطرحنى عليهم فيها ؛ فاحتمل حتى فتحها للمسلمين ، ودخل المسلمون عليهم فيها ؛ فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله ؛ واشترك في قتله وحشى مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار ، كلاهما قد أصابه ؛ أما وحشى فدفع عليه حربته ، وأما الأنصارى فضربه بسيفه ، فكان وحشى يقول : ربك أعلم أينا قتله !
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : وحدثنى محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رجلاً يومئذ يصرخ يقول ، قتله العبد الأسود ! كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عبيد بن عمير ، قال : كان الرجال بحيال زيد بن الخطاب ؛ فلما دنا صفاهما ، قال زيد : يا رجال ، الله الله ! فو الله لقد تركت الدين ، وإن الذي أدعوك إليه لأشرف لك ، وأكثر لدنياك . فأبى ، فاجتلدا فقتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة في أمر مسيلمة ، فتذامروا وحمل كل قوم في ناحيتهم ؛ فجال المسلمون حتى بلغوا عسكرهم ، ثم أعروه لهم ، فقطعوا أطناب البيوت ، وهتكوها ، وتشاغلوا بالعسكر ، وعالجوا مجاعة ؛ وهموا بأم تميم ، فأجارها ، وقال : نعم أم المثوى ! وتذامر زيد وخالد وأبو حذيفة ، وتكلم الناس - وكان يوم جنوب له غبار - فقال زيد : لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتى ! عضوا على أضراسكم أيها الناس ، واضربوا في عدوكم ، وامضوا قدماً . ففعلوا ، فردوهم إلى مصافهم حتى أعادوهم إلى أبعد من الغاية التي حيزوا إليها من عسكرهم ، وقتل زيد رحمه الله . وتكلم ثابت فقال : يا معشر المسلمين ، أنتم حزب الله وهم أحزاب الشيطان ، والعزة لله ولرسوله ولأحزابه ، أرونى كما أريكم ، ثم جلد فيهم حتى حازهم . وقال أبو حذيفة : يا أهل القرآن ، زينوا القرآن بالفعال . وحمل فحازهم حتى أنفذهم ، واصيب رحمه الله ، وحمل خالد بن الوليد ، وقال لحماته : لا أوتين من خلفى ، حتى كان بحيال مسيلمة يطلب الفرصة ويرقب مسيلمة .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن مبشر بن الفضيل ، عن سالم بن عبد الله ، قال : لما أعطى سالم الراية يومئذ ، قال : ما أعلمنى لأى شئ أعطيتمونيها ! قلتم : صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات ! قالوا : أجل . وقالوا : فانظر كيف تكون ؟ فقال : بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت ! وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص بن غانم .
وقال عبد الله بن سعيد بن ثابت وابن إسحاق : فلما قال مجاعة لبنى حنيفة : ولكن عليكم بالرجال ، إذا فئة من المسلمين قد تذامروا بينهم فتفانوا وتفانى المسلمون كلهم ، وتكلم رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن الخطاب : والله لا أتكلم أو أظفر أو أقتل ، واصنعوا كما أصنع أنا ؛ فحمل وحمل أصحابه . وقال ثابت بن قيس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! هكذا عنى حتى أريكم الجلاد . وقتل زيد بن الخطاب رحمه الله .
كتب إلى السرى ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن مبشر ، عن سالم ، قال : قال عمر لعبد الله بن عمر حين رجع : ألا هلكت قبل زيد ! هلك زيد وأنت حي ! فقال : قد حرصت على ذلك أن يكون ، ولكن نفسى تأخرت ، فأكرمه الله بالشهادة . وقال سهل : قال : ما جاء بك وقد هلك زيد ؟ ألا واريت وجهك عنى ! فقال : سأل الله الشهادة فأعطيها ، وجهدت أن تساق إلى فلم أعطها .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير : إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادى وجبنهم أهل البوادى ، فقال بعضهم لبعض : امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم ، ونعرف اليوم من أين نؤتى ! ففعلوا . وقال أهل القرى : نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم ، فقال لهم أهل البادية : إن أهل القرى لا يحسنون القتال ، ولا يدرون ما الحرب ! فسترون إذا امتزنا من أين يجئ الخلل ! فامتازوا ، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ ؛ ولم يدر أى الفريقين كان أشد فيهم نكاية ! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية ، وأن البقية أبداً في الشدة . ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب ، فنحره وقتل زيد بن الخطاب الرجال بن عنفوة .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الضحاك بن يربوع ، عن أبيه ، عن رجل من بنى سحيم قد شهدها مع خالد ، قال : لما اشتد القتال - وكانت يومئذ سجالا إنما تكون مرة على المسلمين ومرة على الكافرين - فقال خالد : أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كل حى ، ولنعلم من أين نؤتى ! فامتاز أهل القرى والبوادى ، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضر ؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم ، فقاتلوا جميعاً ، فقال أهل البوادى يومئذ : الآن يستحر القتل في الأجزع الأضعف ، فاستحر القتل في أهل القرى ، وثبت مسيلمة ، ودارت رحالهم عليه ، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة ؛ ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم . ثم برز خالد ، حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى البراز وانتمى ، وقال : أنا ابن الوليد العود ، أنا ابن عامر وزيد ! ونادى بشعارهم يومئذ ، وكان شعارهم يومئذ : يا محمداه ! فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ، وهو يرتجز :
أنا ابن أشياخ وسيفى السخت ... أعظم شئ حين يأتيك النغت
ولا يبرز له شئ إلا أكله ، ودارت رحا المسلمى وطحنت . ثم نادى خالد حين دنا من مسيلمة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن مع مسيلمة شيطاناً لا يعصيه ، فإذا اعتراه أزبد كأن شدقيه زبيبتان لايهم بخير أبداً إلا صرفه عنه ، فإذا رأيتم منه عورة ؛ فلا تقيلوه العثرة - فلما دنا خالد منه طلب تلك ، ورآه ثابتاً ورحاهم تدور عليه ؛ وعرف أنها لا تزول إلا بزواله ، فدعا مسيلمة طلباً لعورته ، فأجابه ، فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة ، وقال : إن قبلنا النصف ، فأى الأنصاف تعطينا ؟ فكان إذا هم بجوابه أعرض بوجهه مستشيراً ، فينهاه شيطانه أن يقبل ، فأعرض بوجهه مرة من ذلك ؛ وركبه خالد فأرهقه فأدبر ، وزالوا فذمر خالد الناس ، وقال : دونكم لا تقيلوهم ! وركبوهم فكانت هزيمتهم ؛ فقال مسيلمة حين قام ، وقد تطاير الناس عنه ، وقال قائلون : فأين ما كنت تعدنا ؟ فقال : قاتلوا عن أحسابكم ، قال : ونادى المحكم : يا بنى حنيفة ؛ الحديقة الحديقة ! ويأتى وحشى على مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ ، فخرط عليه حربته فقتله ، واقتحم الناس عليهم حديقة الموت من حيطانها وأبوابها ، فقتل في المعركة ، وحديقة الموت عشرة آلاف مقاتل .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هارون ، وطلحة ، عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا ، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم ؛ حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت ، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها ، فقال قائلون : فيها قتل ، فدخلوها وأغلقوها عليهم ، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بن مالك ، فقال : يا معشر المسلمين ، احملونى على الجدار حتى تطرحونى عليه ؛ ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى : أنزلونى ، ثم قال : احملونى ؛ ففعل ذلك مراراً ثم قال : أف لهذا خشعا ! ثم قال : احملونى ، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم ، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا ؛ فأغلق الباب عليهم ، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار ، فاقتتلوا قتالا شديداً لم يروا مثله ، وأبير من في الحديقة منهم ؛ وقد قتل الله مسيلمة ، وقالت له بنو حنيفة : أين ما كنت تعدنا ! قال : قاتلوا عن أحسابكم ! كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هاوون وطلحة وابن إسحاق ، قالوا : لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة ؛ خرج خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة ، وأعلام جنده ، فأتى على الرجال فقال : هذا الرجال !