كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني
وتفقه بالموصل على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس، وعلى القاضي بهاء الدين أبي المحاسن يوسف بن رافع عرف بابن شداد وغيره، وقدم دمشق في عنفوان شبابه، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى الديار المصرية، فاستوطنها واشتغل بالعلوم، وحصل من كل فن طرفاً جيداً، وكان فقيهاً إماماً بارعاً متقناً، مجموع الفضائل، معدوم النظير في علوم شتى، حجة فيما ينقله، محققاً لما يورده، منفرداً في علم الأدب والتاريخ، تولى الحكم بالقاهرة مدة زمانية خلافة عن قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاري رحمه الله، ودرس وأفتى، وصنف واشتغل جماعة كثيرة؛ ثم ولى قضاء القضاة بالشام من العريش إلى سلمية. وفوض النظر في سائر أوقافها، وبسطت يده في ذلك، وفوض إليه تدريس عدة مدارس بدمشق، فكان يذكر الدروس فيها بنفسه، وتارة نوابه، وأقام على ذلك مدة عشر سنين، ثم صرف وتوجه إلى الديار المصرية، فأقام بها سبع سنين بطالاً، وباشر في بعضها تدريس مدرسة فخر الدين عثمان رحمه الله بالقاهرة، ثم ولى الشام مرة ثانية، وقدم دمشق في أواخر سنة ست وسبعين، فباشر الحكم بدمشق إلى سنة ثمانين ثم صرف ولزم منزله متوفراً على العلم والافادة والاشتغال إلى حين وفاته، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب، وأما رياسته، وعلو همته، وشرف نفسه، وخبرته بقوانين الأحكام والحشمة فلم يكن له في ذلك نظير، وكان جواداً مفضالاً ممدحاً، مدحه شعراء عصره بغرر القصائد، وكان يجيزهم الجوائز السنية، وكان عنده صبر واحتمال وستر على العورات وعفو عن الزلات عفا الله عنه وأدخله في سعة رحمته التي وسعت كل شيء. حكى لي أنه حضر إليه وهو بالمدرسة العادلية الكبيرة بدمشق بعد عشاء الآخرة من أخبره أن ثم جماعة من أعيان العدول في مكان يشربون الخمر وعندهم نساء أجنبيات، وشنع شناعة كثيرة، فاستوقف المخبر عنده، وسير من باب السر من ثيق به إلى ذلك المكان، وعرفهم الصورة وأن والى الليل يحضر لكشف ذلك، وأمرهم برفع ما عندهم من المنكرات، والتأهب لمن يحضرهم، ثم احضر والى الليل، وعرفه ما ذكر الناقل، وأمره أن يأخذه، ويتوجه إلى المكان لكشف حقيقة ذلك، فتوجه والى الليل، وطرق الباب ففتح، ودخل فوجد جماعة يتحدثون وعندهم فقير مزمزم ومأكول لا غير، فعاد والى الليل، ومن معه وأخبروه بما شاهدوا فعزر الناقل فانحسمت مادة السعايات بمثل ذلك. ولما كان بالقاهرة بعد صرفه من الشام حضر عنده عز الدين محمد بن شداد رحمه الله بكتب..... وانتقالها إلى الملك الظاهر وهي نابتة عليه، ورام منه أن يشهد عليه بما فيها ليثبت عند الحكام بالديار المصرية، قال له: كيف أشهد على ذلك؟ قال: يأذن لك قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، قال: والله! لو كنت متولياً ما كنت آذن له ولا أراه بهذه الصورة فأشهد عليك بإذنه، هذا ما لا يكون أبداً؛ فعرف الملك الظاهر فعظم في صدره، وعرف شرف نفسه، فأذن له أن يحكم بالديار المصرية، ويشهد عليه، ففعل ذلك على كره منه، كان حصل له طائفة عظيمة في تلك المدة؛ وبلغ الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله فأمر له بنفقة فوق ألفي درهم ومائة أردب قمح، وحضر إليه من جهة الأمير بدر الدين من أخبره بذلك فامتنع من قبوله، وقال للرسول: تجوع الحرة ولا تأكل تبد بها فلاطفه الرسول، وسأله وتضرع إليه، فلم ينفذ وأصر على الامتناع مع الحاجة المفرطة. كان وجيه الدين محمد بن سويد صاحبه، ومكانته مشهورة، فكان يحضر إليه ويسومه قضاء أشغال كثيرة، فيقضيها، فحضر إليه في بعض الأيام ورام منه ما هو معتذر، فاعتذر إليه بأن ذلك لا يجوز فعله، فقال الوجيه: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال له قاضي القضاة: يا وجيه الدين! نحن قد صرنا معك قتليش وما ترضى. قلت: من يذكر أن قاضي القضاة إنما خرج له النسب إلى البرامكة على ما تقدم شهاب الدين المعروف بأبي شامة، وليس الأمر كذلك، فإن قاضي القضاة أخبر بالأنساب من الشهاب وغيره، ثم وقفت على مجلد من تاريخ إربل لوزيرها شرف الدين بن المستوفى رحمه الله، وقد ذكر وفاة ابن عم لقاضي القضاة، وقد نسبه إلى البرامكة من ذلك الزمان، لعل قبل خروجه من إربل، ثم ذكره الصاحب كمال الدين رحمه الله في تاريخ حلب أعني قاضي القضاة ونسبه إلى البرامكة، وكانت وفاته بالمدرسة النجيبية جوار المدرسة النورية بدمشق عصر
نهار السبت سادس عشرين شهر رجب، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون رحمه الله ورضي عنه. وله نظم كثير، فمنه ما كتبه في صدر كتاب إلى بعض أصحابه وهو نبهان، يقول:نهار السبت سادس عشرين شهر رجب، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون رحمه الله ورضي عنه. وله نظم كثير، فمنه ما كتبه في صدر كتاب إلى بعض أصحابه وهو نبهان، يقول:
سكنمتم فؤادي لا تغيبون ساعة ... وقلبي على طول الزمان لكم مغنى
وما الدهر إلا لفظة مستعارة ... وأنتم له روح وأنتم له معنى
لئن نزحت أرواحنا ونفوسنا ... ففي أي أرض كنتم معكم كنا
وله أيضاً رحمه الله:
أحبابنا لو لقيتم في مقامكم ... من الصبابة ما لاقيته في ظعني
لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً ... والبر من أدمعي ينسق بالسفن
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كأنني يوم بان الحي من إضم ... والقلب من سطوات البين مذعور
ورقاء ظلت لفقد الألف ساجعة ... تبكي عليه اشتياقاً وهو مأسور
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا جيرة القلب هل من عودة فعسى ... تفيق من سكرات الوجد مخمور
وإن ظفرت من الدنيا بوصلكم ... فكل ذنب جناه الدهر مغفور
وقال في محلاح أربعة يلقب أحدهم بسيف:
ملاك بلدتنا في الحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا
تملكوا منهج العشاق وافتتحوا ... بالسيف قلبي ولولا السيف ما ملكوا
وقال في ملاح بسيحون:
ورب ظباء في الغدير تخالهم ... شموساً بأفق الماء تبدو وتغرب
يقول خليلي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذه الصبابة مذهب
وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت لهم ذرهم يخوضوا ويلعبوا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم قلت لما اصلعت وجناته ... حول الشقيق الغصن روضة آس
لعذاره الساري العجول بوجهه ... ما في وقوفك ساعة من باس
وقال أيضاً رحمه الله:
لما بدا في خده عارض ... بشرت قلبي بالسلو المقيم
وقلت هذا عارض ممطر ... فجاءني فيه عذاب اليم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أعديتني بالهوى يا فاتر المقل ... فصح وجدي على ما بي من العدل
وملت عني إلى الواشي فلا عجبا ... فالغصن ما زال مطبوعاً على الميل
يا واحد الحسن عدني زورة حلما ... وها يدي إن نومي قد جفا مقلي
يا جيرة بأعالي الخيف من إضم ... خبيتم بجفاكم في الهوى أملي
وملتم بجميل الصبر عن دنف ... أجل ما يتمنى سرعة الأجل
تجري على الربع مذ بنتم مدامعه ... وما عسى ينفع البالي على الطلل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ولما إن تفرقنا ... وحاولت نوب الدهر
رأيت الشهد لا يحلو ... فما ظنك بالصبر
وقال أيضاً:
وما سر قلبي مذ شطت بك النوى ... نعيم ولا لهو ولا متصرف
ولا ذقت طعم الماء إلا وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذات إلا تكلفاً ... وأي سرور يقتضيه التكلف
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا رب إن العبد يخفى عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه
وقال رحمه الله تعالى:
أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم جماله
يزجر العيس طاوياً يقطع المهمه عفا سهوله ورماله
أيها السائر المجد ترفق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله
وأنخنا هنيئة وأرحها ... قد براها فرط السرى والكلاله
لا تطل سيرها العنيف فقد ... برح بالصب في سراها الاطاله
قد تركتم وراءكم خلف وجد ... نادياً في محلكم إطلاله
يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله
وحمال من النخيل جواب ... غير أن الوقوف فيها علالة
هذه سنة المحبين يبكون على كل منزل لا محاله
يا دار الأحباب لا زالت الأدمع في ترب ساحتيك مداله
وتمشي النسيم وهو عليل ... في مغانيك ساحباً أذياله
أين عيشي مضى لنا فيك ما ... أسرع عنا ذهابه وزواله
حيث وجه الشباب طلق نضير ... والتصابي غصونه مياله
ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقى مثاله
وبأرجاء جوك الرحب سرب ... كل عين تراه تهوى جماله
من فتاة بديعة الحسن ترنو ... من جفون لحاظها مغتاله
ورخيم الدلال حلو المعاني ... تنثني أعطافه مختاله
ذى قوام تود كل غصون البان لو أنها تحاكي اعتداله
وجهه في الظلام بدر تمام ... وعذاره حوله كالهاله
ظبية تبهر البدور جمالاً ... وغزال تغار منه الغزاله
فرعى الله ذلك الغصن حفظاً ... وسقاه من الوفاء سجاله
يا خليلي إذا أتيت ربي الجزع وعاينت روضه وقلاله
قف به ناشداً فؤادي فلي ... ثم فؤاد أخشى عليه ضلاله
وبأعلى الكثيب بيت اغض الطرف عنه مهابة وجلاله
حوله غلمه تبرمن من ... الخوف عليه ذو بلاء عساله
كل من جئته لأسأل عنه ... أظهر الغي غيرة وتباله
أنا أدرى به ولكن صوناً ... أتعامى عنه وأبدي جهاله
كيف لي لو أطلت لشم ثراه ... وهات في الهجر ظلاله
منزل حقه على قديم ... في زمان الصبا وعصر البطاله
يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله
حاش لله غير أني أخشى ... من عدو يسيء فينا المقاله
فتأخرت عنكم قانعاً من ... طيفكم في المنام يهدى خياله
أتمنى في النوم زور خيال ... وللأماني أطماعها قتاله
يا أهيل النقا وحق ليالي ... الوصل ما صبوتي عليكم ضلاله
لي مذ غبتم عن العين نار ... ليس تخبو وأدمع هطاله
فصلونا إن شئتم أو فصدوا ... لا عدمناكم على كل حاله
وقال رحمه الله تعالى:
أيا عاذرا خانت مواثيق عهده ... لقد جرت في حكم الغرام على الصب
وأقصيته من بعد أنس وصحبة ... وما هكذا فعل الأخلاء بالصحب
فلله أيام تقضت حميدة ... بقربك واللذات في المنزل الرحب
وإذ أنت في عيني ألذ من الكرى ... وأشهى إلى قلبي من البارد العذب
فلهفي على ذاك الزمان لقد غدت ... عليه دموع العين دائمة السكب
ومذ صرت ترضيني بقول منمق ... وتظهر لي سلماً أشد من الحرب
ثنيت عناني عن هواك زهادة ... وإن كنت في أعلى المراتب من قلبي
لأني رأيت القلب عندك ضائعاً ... تعذبه كيف اشتهيت بلا ذنب
ولم تحفظ الود الذي هو بيننا ... ولم ترع أسباب المودة والحب
ولا أنت في فيد المحب إذا غدا ... تقلبه الأشواق جنباً على جنب
ولا أنت ممن يرعوي لمقالتي ... فأشفى قلبي بالشكاية والعتب
ولا رمت منك القرب إلا جفوتني ... وأبعدتني حتى يئست من القرب
وأصغيت للواشي وصدقت قوله ... وضيعت ما بيني وبينك بالكذب
فلم يبق لي والله فيك إرادة ... كفاني الذي قاسيته فيك من عجب
ولا لي في حبيك ما عشت رغبة ... أبى الله أن تسبى فؤادي أو تصبي
ومن ذا الذي يقوى على حمل بعض ما ... تجرعته بالذل من خلقك الصعب
فلا ترجها مني بعد حسن صحبة ... فحسبي سلو بعض ما قلته حسبي
ولا تعتبي قد قطعت مطامعي ... وخففت حتى في الرسائل والكتب
وقال رحمه الله تعالى في المعنى:
أيا معرضاً عني بغير جناية ... أما تستحي من فرط تيهك والعجب
سلوتك فاصنع ما تشاء فإنه ... محا كثرة التقبيح حبك من قلبي
وقال رحمه الله لغزاً في تاريخ:
ما اسم إذا صحفته الفتيه ... من بعد ذاك ولفظه تاريخ
في ضمنه نار إذا خففتها ... لا جمرها وار ولا منفوخ
يا ريح بلغ من أحب تحيتي ... إن الحبيب لما يقول مصيخ
قال ابن المستوفى: نقلت من خط أحمد بن خلكان لنفسه يقول:
وافى كتابك ساطعاً أنواره ... ومضمناً من كل فضل بارع
فغدوت أنشر طيبه بتلطف ... وأطيل لثم سطوره بتواضع
وجعلته مني مكان تمائم ... نيطت على المجنون خوف التابع
وقال رحمه الله تعالى في الاستعطاف:
يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... وقصدتم هجري وفرط تجنبي
لا تحرموا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس حمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من نكد إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البلية والرزية إنني ... أقضي وما تدري الذي قد حل بي
يا من كلفت به فعذب مهجتي ... عطفاً على كلف الفؤاد المعذب
إن فاته منك اللقاء فإنه ... يرضى بلقيا طيفك المتأوب
إن كنت تسمح للجفون بهجعة ... فلقد أضر بها ارتقاب الكوكب
قسماً بوجدي في الهوى وتحرقي ... وتحيري وتلهفي وتلهبي
لو قلت لي جد لي بروحك لم أقف ... فيما أمرت وإن شككت فجرب
مولاي هل من عطفة تصغي إلى ... قصصي بطول شكايتي وتعتبي
من بعد ذاك القرب والاقبال قد ... أصبحت عندك كالغريب الأجنبي
قد كنت تلقاني بثغر باسم ... واليوم تلقاني بوجه مقطب
ما كان لي ذنب إليك سوى الهوى ... فعلام تهجرني إذا لم أذنب
والهجر يقبح بالكرام تعنتاً ... من غير ما سبب ولا من موجب
قل لي بأي وسيلة أدلي بها ... إن كنت تبعدني لأجل تقربي
وإلى متى هذا الصدود وإنني ... ليطول من هذا الصدود تعجبي
ما كنت أحسب أن عهدك حائل ... حتى دهاني فيك ما لم أحسب
وحياة وجهك وهو بدر طالع ... وسواد طرتك التي كالغيهب
وبياض مبسمك النقي الواضح ... العذب الشنيب اللؤلؤي الأشنب
وبقامة لك كالقضيب ركبت من ... أخطارها في الحب أصعب مركب
لو لم أكن في رتبة ادعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذ لي ... خلع العذار ولج فيك مؤنبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
فاستر فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي
لا تفضحن بحبك الصب الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب
قد خانني جلدي وضاقت حيلتي ... وتقسمت فكري وعقل قد سبي
فانظر إلى رحمة أحيى بها ... وتريح قلبي من غرام متعب
وقال رحمه الله دوبيت:
بالأبريق منزل عفاه القدم ... فسقت دموعي إن جفاه الديم
لم أدر زماننا الذي كان به ... من لذة أيقظة أم حلم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ما شمت على الخيف بروقاً لمعت ... إلا وحسبتها لقلبي صدعت
يا من يعدو لا تبعثوا طيفكم ... نحوي فجفوني بعدكم ما هجعت
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا من رحلوا فأودعوني الأسفا ... من بعدكم ما راق عيشي وصفا
ما افكر في طيب زمان سلفاً ... إلا وسألت الله عنه الخلفا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم يخجل قدك القنا والبانا ... يا من فتنت لحاظه الغزلانا
عذبت قلوبنا فنادت قلقاً ... سبحان إله بك قد أشقانا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
حتام وكم نسائل الركبانا ... عمن نزل الحمى وعمن بانا
أحبابي ما على من غيركم ... ما القصد سواكم كائناً من كانا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ليت النسمات عرجت بالعلمين ... واستقبلت الجزع وقرب بحنين
كي أسأل من أحب عن حالته ... أو يسألها عن حالتي كيف وأين
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا حادي عيسهم ويا سائقها ... أثقلت بطول سيرها عاشقها
ما ضرك لو رحمتها اليوم عسى ... نقضى وطر المغرم فارقها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قوم ألفوا طول الجفا والهجر ... في حبهم ضاع جميع العمر
أرجو بدلاً عنهم وإلا فعسى ... أن يرزقني الباري جميل الصبر
وقال أيضاً رحمه الله:
يا مخترق البيد سهولاً وحزون ... في منن شمله على السير أمون
إياك وأيمن الحمى إن به عرب ... سهروا دون ظبي الهند عيون
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
العين عليك نومها ممتنع ... والقلب لما تقوله متبع
يا من سلب الفؤاد مني ... نادى من بعدك بالحياة ما انتفع
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا من لهم الجميل والانعام ... بنتم فتزايدت بي الآلام
عندي وحياتكم من الشوق لكم ... ما يعجز أن يشرحه الأقلام
هل تسمح لي بطيفك الاحلام ... يا من حكمت ببعده الايام
ما أطمع في وصلك هيهات بلى ... يكفني من خيالك الالمام
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قاسوك ببدر التم قوم ظلموا ... لا ذنب لهم لأنهم ما علموا
من أين لبدر التم يا ويحهم ... جيد وعيون وقوام وفم
وقال أيضاً رحمه الله:
قاسوك بغصن البان لما وصفوا ... لا ذنب لهم لأنهم ما عرفوا
هب إن له ملامحاً منك بلى ... من أين لغصن البان هذا الهيف
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قد أعرض عني جيرتي وانتزحوا ... كم أصغي إلى العذال فيما نصحوا
ناشدتك ما عليك دعني وهم ... لا تدخل بيننا عسى نصطلح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
هذا الصلف الزائد في معناه ... قد حيرني فلست أدري ما هو
كم يحمل قلبي من نجنيك ولا ... يدري أحد بذاك إلا الله
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
انظر إلى عارضه فوق جفونه ... يرسل منها الحتوف
فعاين الجنة في خده ... بارزة تحت ظلام السيوف
ولقاضي القضاة رحمه الله تعالى أشعار كثيرة، أضربنا عن ذكر بعضها طلباً للاختصار. وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم لما صرف قاضي القضاة عن دمشق سنة تسع وستين:
وليت فأوليت الورى كل نعمة ... وزلت وما زال الثناء ولا الشكر
فإن عدت عاد الخير والفضل والندى ... وأن تكن الأخرى وحوشيت والصبر
وقال الشيخ شهاب الدين يرثيه:
يا شمس علوم في الثرى قد غابت ... كم بنت عن الشمس وما نابت
لم تأت بمثلك الليالي أبداً إما ... عجزت عنه وإما هابت
وقال أيضاً فيه:
يا شمس علوم الدين والأحكام ... يا نادرة القضاة والحكام
أنساني كل الناس منه نظري ... إنسان سواد مقلتيه الاسلام
أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة بن عمر أبو العباس أمين الدين الأشتري الحلبي الشافعي الامام العلامة ذو الفنون. كان إماماً عالماً فاضلاً بارعاً ورعاً زاهداً ناسكاً. كثير التلاوة، ظاهر الخشوع، كبير القدر، ممن جمع بين العلم والعمل، وأقرأ الفقه مدة، وكان أحد أصحاب الشيخ محي الدين النوراني، وانتفع به، وسلك مسلكه في العلم والعبادة والتدقيق في العلم والعمل، ووقف كتبه التي كتبها من تصانيف الشيخ محي الدين وغيره بدار الحديث الأشرفية، وكان سمع من أبي محمد بن علوان، وأبي الحسن بن روزبه، وأبي المجد القزويني، وعبد اللطيف بن يوسف، وأبي المحاسن بن شداد، وأبي الحسن بن الأثير، وابن يعيش النحوي صاحب شرح المفصل وغيرهم، وحدث بالكثير، وكان له مع الفقه وغيره اعتناء كثير بالحديث. وله بحلب سنة خمس عشرة وست مائة، وتوفى فجاءة في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وست مائة بدمشق المحروسة رحمه الله تعالى.
إدريس بن صالح بن وهيب الفقيه زين الدين المصري القليوبي. قرأ الفقه والمقامات الحريرية على قاضي القضاة شمس الدين أحمد ابن خلكان رحمه الله المقدم ذكره بمدرسة سيف الاسلام طغتكين بن أيوب صاحب اليمن، وكانت المدرسة المذكورة داره إذ كان بالقاهرة، ثم جعلها مدرسة وهي بخط البندقانيين بالقاهرة، وكان زين الدين المذكور إمام المدرسة إذ ذاك، وذلك في سنة سبع وثلاثين، ثم اتصل بخدمة الأمير عز الدين أيدمر الحلى، وكان الحلى يسكن جوار الجامع الأزهر بالقاهرة، فسعى في أمره حتى جعله تقام فيه الجمعة، ورتب زين الدين المذكور خطيباً به، وهو أول من خطب فيه، وغالب الظن أن ذلك كان في سنة اثنتين وستين وست مائة، ولم تزل طريقة زين الدين إدريس المذكور حسنة، وكان آدم شديد الأدمة، ومولده سنة ثمان عشرة وست مائة، وتوفى ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر هذه السنة بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى، وكان ينظم نظماً متوسطاً، فمن شعره من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله إذ كان ينوب بالحكم في القاهرة:
تراءت له بالرقمتين مخائل ... فتمت عليه بالغرام بلابل
وأجرى دموع العين أو ملأ الملا ... ونمق في أكتاف سلع حمائل
وأصبحت.... الفراق منغصاً ... وحزني لا يحنو ودمعي هاطل
وجفني إذا نام الخليط مسهد ... وخدي مخلود وجسمي ناحل
تجلى دجى حزني سنا مدح أحمد ... ولون حياتي كاسف النور حائل
فمن نور شمس الدين فضائل ... تضيء علينا نورها متكامل
إمام إمام المكرمات صفاته ... وقاض عليم فاضل الحكم فاضل
له قدم في المكرمات رفيعةفرائضهاخفت بهن نوافل
له من سجاياه وسيط مهذب ... وجيز مقال عامر الجود شامل
كريم بسيط الكف جوداً مديدة ... سريع العطايا وافر الحلم كامل
يبقى الثناء بالجود مستخرجاً له ... ومصروفه الموجود والفضل حاصل
إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين أبو الفداء عماد الدين. كان إماماً عالماً فاضلاً ورعاً عاملاً، لازم والدي رحمه الله من صغره، واشتغل عليه إلى حين وفاته، وسمع البخاري على الزبيدي، وسمع كثيراً على المشايخ، وحصل طرفاً جيداً من العربية، وكان ينظم الشعر، ويترسل ترسلاً حسناً، ويكتب خطاً منسوباً، وكان كثير العبادة والاجتهاد والاخلاص في أفعاله، يحرص على كتمان ما يفعله من ذلك وإخفائه عن الناس، حسن العشرة، كثير المروءة، كريم الأخلاق، تمرض أياماً، فلما دنت وفاته، لم يزل يتلو القرآن الكريم بحضور إلى حيث فارق بمنزله ببعلبك وهو في عشر الثمانين رحمه الله، ودفن بمقبرة جده لأمه شمس الدين محمود بن قرقين ظاهر باب سطحاء من بعلبك المحروسة. قال أخي رحمه الله: لم أر من مات وهو مستحضر كما ينبغي سواء.... دخلت عليه قبل موته بساعتين وهو يتلو القرآن العزيز وسمعته يردد الآية في سورة الواقعة " فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون " . وكان رحمه الله قد صحب والدي خمسين سنة، واستفاد منه، وروى عنه، وأخذ وانتفع به ظاهراً وباطناً، وكان عنده علوم جمة، وآداب وفضائل، ومروءة يعجز الواصف عن وصفها، يسارع إلى الخيرات، ويتصدق سراً، كثير قيام الليل، يحب الخمول، ويلازم قعر بيته، يعاشر الناس بالمعروف، ويحسن إلى جيرانه ومعارفه، روى عن الشيخ موفق الدين بن قدامة الحنبلي، وبهاء الدين إبراهيم بن المقدسي، والقزويني، وابن رواحة، وغيرهم، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين صفر رحمه الله تعالى.
بيجار بن بختيار الأمير حسام الدين اللاوي الرومي، قد ذكرنا قدومه إلى الشام، وتروحه عن بلاد التتار، وكان له بتلك النواحي قلاع، وبلاد، وأموال جمة، فجرى لولده بهاء الدين بهادر المقدم ذكره ما اقتضى تروحه مع رغبته في الحضور إلى بلاد الاسلام، ومكاتبة الملك الظاهر له، ولما حضر وصل مع خلق كثير من أمراء الروم، وأعيانه، وطائفة كثيرة من غلمانه، وأتباعه، وذريته، ولما استقر بالديار المصرية قصد الحج فتوجه، وأدى فريضة الحج، وتصدق في الطريق، وبالحرمين الشريفين بصدقات كثيرة، وأنفق في حجته أموالاً جمة، وعاد ولزم بيته، وترك الإمرة، وكف بصرة قبل موته بدون ثلاث سنين وكان قد عمر عمراً طويلاً وتعدى المائة سنة بسنين كثيرة، وتوفى بالقاهرة في أوائل شهر شعبان من هذه السنة رحمه الله تعالى.
الخضر بن عبد الرحمن بن الخضر أبو العباس سديد الدين الشيخ الصالح. مولده يوم الثلاثاء في إحدى الجمادين سنة أربع وثمانين وخمس مائة، وتوفى في رابع شوال سنة إحدى وثمانين وست مائة بحماة. ودفن ظاهرها في عقبة نفرين رحمه الله تعالى. قال أخي أبو الحسين علي بن محمد رحمه الله: أنشدني سديد الدين المشار إليه في الخانكاة النورية بحماة في يوم الاثنين تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وست مائة للشيخ أبي الحسين النوري رحمه الله:
وكم رمت أمراً حزت لي في انصرافه ... فلا زلت بي مني أبر وأرحما
عزمت على أن لا أحسن بخاطر ... على القلب إلا كنت أنت المقدما
وأن لا تراني عند ما قد كرهته ... لأنك في قلبي الكبير المعظما
قال وأنشدني أيضاً:
أنا من يراك وإن تباعد شخصه ... بنواظر القلب الذي لا تهجع
ولذاك أسمع ما تقول وبيننا ... مرمى تحث العيس فيه وتوضع
فعلام أقترح الدنو وقد أرى ... ما شئت منك على البعاد وأسمع
قال وأنشدني أيضاً:
طبع المحبوب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمح
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يعرف تأليف الكحح
قال وأنشدني أيضاً:
تمنيت من أهوى فلما لقيته ... بهت فلم أملك لساناً ولا طرفا
وأطرقت إجلالاً له ومهابة ... وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يخفا
وقد كان في قلبي خطوب كثيرة ... فلما التقينا ما نطقت ولا حرفا
قال وأنشدني أيضاً:
رضينا من وصالك بالكلام ... ومن بذل المودة بالسلام
فهل شيء يكون أقل من ذا ... لمشغوف بحبك مستهام
فيوم لا أراك بألف شهر ... وشهر لا أراك بألف عام
قال أخي رحمه الله وأنشدني أيضاً:
تمر الليالي لا أراك وإنني ... جليد على حكم الهوى وصبور
لقد طال عهدي باللقاء ولم أزل ... أرجى لقاكم والمحب شكور
ولولا رجائي أن ذا البين ينقضي ... قضيت وأن الموت فيه يسير
وقال أنشدني رحمه الله تعالى:
سعاد تسبني ذكرت بخير ... وتزعم أنني مذق خبيث
وإن مودتي زور ومين ... وإني للذي ألقى تبوث
ولست كذاك لا ردا عليه ... ولكن الملول هو النكوث
ولي وجد يجادبني إليها ... وشوق بين أحشائي حثيث
رأت ولهي بها وقم تم وجدي ... فلمتني كذا كان الحديث
سليمان بن عبد الله بن ابرين، ويقال ابن عمران، أبو الربيع قطب الدين الزيلعي الحنفي خادم المصحف العثماني الشريف بمقصورة الخطابة. كان شيخاً صالحاً زاهداً حسن السمت؛ سمع من ابن الزبيدي، وابن اللتي، وأبي الحسن بن المقير، وحدث. توفى رابع ذى الحجة سنة إحدى وثمانين وست مائة عن سن عالية وخلف بنتاً واحدة رحمه الله تعالى.
شيتركى صاحب جبل. كان من الفرسان المشهورين عند الفرنج، محبوباً إليهم لشجاعته وكرمه، وكان من معظم الخيالة بطرابلس، وقد مالوا إليه وتغيروا على صاحبها، فكاتبهم شيركى وكاتبوه وتقرر بينهم أنه متى حضر سلموا إليه البلد، وكان بينه وبين صاحب طرابلس عداوة شديدة، وكان شيركى قد انتهى إلى الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بواسطة الأمير سيف الدين بلبان الصالحي، وشرط على نفسه أنه متى ملك طرابلس تكون مناصفة بينه وبين الملك المنصور، وطلب أن يتعضد بجماعة من المسلمين الجبليين لقربهم منه، فسمح لهم النواب بذلك، وتردد إليه، وأخذوا خلعه، فلما كان في أواخر شوال، أو أوائل ذى القعدة من هذه السنة، ركب شيزكى في أصحابه وجماعة من الجبليين في البحر، ودخلوا ميناء طرابلس ليلاً، وخرجوا من المراكب. ودخلوا البلد، وطرقوا أبواب من كان كاتبهم، فلم يخرج إليهم لأن صاحب طرابلس قد نمى إليه الخبر، واحترز فجاء شيزكى إلى قصر صاحب طرابلس فقيل له: قد علم صاحب طرابلس علم صاحب طرابلس بباطن الحال فارجعوا فلم يفعل شيزكى: فلم احس صاحب طرابلس بدخولهم البلد، أخرج غلمانه وأصحابه وخيالته في طلبهم، فأمسكوا من ظفروا به، وأما شيزكى فقصد دار الدواية ليحتمي بها، فجاء صاحب طرابلس فقبضه منها بعد فصول يطول شرحها، وسيرهم لوقته إلى أنفه، وحبسهم بها، وأما شيزكى وأصحابه الخصيصون به فيقال إنه غرقهم في البحر بعد إمساكهم بثلاثة أيام، وسير غلمانه تسلموا جبيل فصارت له مع طرابلس وما معها، وأما الجبليون فبقوا في القيود إلى حيث نازل الملك المنصور المرقب، وحضر إليه رسول صاحب طرابلس فطلبهم منه، ولم يسمع له رسالة، فعاد إلى صاحبه، وأخبره ما رسم به السلطان فكساهم جميعهم وجهزهم إلى عند السلطان بظاهر المرقب فأطلقهم.
شاذى بن داود بن عيسى بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى الملك الظاهر غياث الدين بن الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى. مولده في الخامس والعشرين من ذى الحجة سنة خمس وعشرين وست مائة بقلعة دمشق، ووالده إذ ذاك صاحبها، وأظنه أكبر ولد أبيه وأمه ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل وهو شقيق الملك الأمجد مجد الدين المقدم ذكره في سنة سبعين وست مائة، وتوفى الظاهر شاذى ليلة الخميس حادي وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة بقرية الناعمة من الغور، وحمل إلى القدس الشريف، فدفن بعد الصلاة عليه بالأقصى عقيب صلاة الجمعة ثاني وعشرين شهر رمضان المعظم رحمه الله تعالى. كان ديناً خيراً عاملاً شجاعاً صادق اللهجة، كريم الأخلاق، كثير التواضع، لين الكلمة، يعاني ملابس العرب ومراكبهم كعمه الملك القاهر رحمه الله تعالى، وكان شريف النفس، غير مبتذل إلى أحد من أرباب الدولة، ويسكن بسفح قاسيون ظاهر دمشق، وخلف أولاداً صغاراً رحمه الله تعالى.
عبد السلام بن علي بن عمر بن سيد الناس أبو محمد زين الدين الزواري شيخ المالكية وكبيرهم ومدرسهم والمتعين منهم. كان وصل إلى الديار المصرية في سنة خمس عشرة وست مائة قبل موت العادل بقليل. وانتقل إلى دمشق في سنة ست عشرة واستقر بها، وولى القضاء بدمشق والشام على مذهبه مستقلاً مكرهاً على ذلك في سنة أربع وستين وست مائة، ثم عزل نفسه يوم وفاة قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله، وتوفى الشيخ زين الدين إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ليلة الثلاثاء ثامن شهر رجب من هذه السنة بمدرسة أم الملك الصالح عماد الدين بدمشق، ودفن يوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر بمقابر باب الصغير، وكانت له جنازة حفلة عظيمة حضرها الخاص والعام، ونائب السلطنة وغيره، ومولده سنة تسع أو ثمان وثمانين وخمس مائة بظاهر بجاية من أعمال إقريقية، وكان إماماً عالماً عاملاً ورعاً متقللاً من الدنيا، قانعاً منها بالكفاف، سالكاً، أنموذج السلف، يشتري حاجته بنفسه من السوق ويحملها، وهو قاضي قضاة الشام، وكان عارفاً بالقراآت، وإليه علم ذلك بالشام في وقته، وكان رحمه الله في غاية المعرفة بأمور الدنيا وتدبير أحوالها، وله العقل المعيشي الوافر مع كثرة الديانة، وكرم الطباع، ووفور الايثار للفقراء، والبر لهم، ولين الكلمة للخاص والعام، وشدة التواضع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القانون شرعي، ولم يكن يثبت بالخطوط، ولم يكن يشهد عليه إلا جماعة يسيرة معدودين من الأعيان المعروفين ببروز العدالة. فكان للشهادة عليه في النفوس موقع كبير، ولما عزل نفسه على ما تقدم ذكره، استمر نائبه جمال الدين في مباشرة للطائفة المالكية، واستقل بذلك إلى حين وفاته رحمه الله تعالى.
علي بن عيسى بن أبي الحسن بن أبي الفوارس أبو الحسن الأمير عز الدين ابن الأمير ناصر الدين بن الامير سيف الدين بن الأمير أسد الدين القيمري، كان هو صاحب قلعة قيمر المشهورة انتقلت إليه عن سلفه، وكانت بيده إلى أن أخذها منه التتر وهي بالقرب من مدينة إسعرد، وانتقل إلى الديار المصرية وخدم بها ثم بطل الخدمة قبل وفاته بمدة ولزم السكن جوار البيمارستان الذي أنشأه جده الأمير سيف الدين أبو الحسن بسفح قاسيون، وكانت وفاته ليلة الأحد ثالث عشر شهر رجب من هذه السنة بالنيرب ظاهر دمشق، ودفن يوم الأحد بعد صلاة الظهر بتربة جده الأمير سيف الدين المذكور معه في الضريح والتربة تجاه المارستان المذكور، وعمره مقدار أربعين سنة رحمه الله.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين العينتابي. كان له مشاركة في نيابة السلطنة بحلب، وتقدم للعسكر بها، وكان شجاعاً بطلاً جواداً خيراً، حسن السياسة، جميل الصورة، تام الخلق، عنده رياسة وعقل ومعرفة، وكان قبل وفاته بمدة يسيرة ثبت أنه باق على الرق، فاشتراه الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، وأعتقه وزاد في حرمته، وبسط يده وأقطاعه، وكانت وفاته بحلب ليلة السبت ثاني عشر ذى الحجة، ودفن يوم السبت ظاهرها، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي الحسن بن محمد بن المهذب أبو عبد الله شرف الدين السلمي الشافعي. قد تقدم ذكر والده شيخ الاسلام عز الدين رحمه الله في سنة ستين وست مائة، وكان الشرف أكبر أولاده وأوجههم، يباشر إمام المدرسة الظاهرية بالقاهرة للطائفة الشافعية وغيرها من الجهات الدينية، وتوفى بالقاهرة يوم الاثنين سابع وعشرين شعبان من هذه السنة عقيب عوده من الشام إلى الديار المصرية، ودفن بالقرافة الصغرى بتربة والده، وقد نيف على تسعين سنة، وكانت له جنازة حفلة رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن محمود أبو عبد الله صلاح الدين الشهرزورى الشافعي مدرس المدرسة الناصرية القيمرية بدمشق، وناظرها الشرعي. كان شاباً، نبيهاً، حسن الشكل، لين الكلمة، كريم الأخلاق، حسن العشرة، ولى تدريس المذكورة بعد والده القاضي شمس الدين، واستمر بها إلى حين أدركته منيته بالمدرسة المذكورة في يوم الثلاثاء ثاني وعشرين شهر رجب من هذه السنة، ودفن من يومه إلى جاني والده بتربة الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، ولم يبلغ من العمر أربعين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن سليمان أبو عبد الله المعروف بابن العلم الحموي. كان شيخاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً فاضلاً أديباً، حسن العشرة والفضيلة، تجاوز التسعين سنة، وكانت وفاته بدمشق بالمدرسة الرواحية ثامن عشر ذى القعدة هذه السنة، وصلى عليه بجامع دمشق، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. وقال أخي رحمه الله: أنشدني أبو عبد الله محمد المذكور يوم السبت رابع عشر شعبان سنة سبع وسبعين وست مائة ببعلبك لنفسه:
يمشي ويعثر بالعيون وراءه ... وإذا استدار تعثرت من خلفه
وحلى مكان نطاقه فكأنه ... شعبان كل حلاوة في نصفه
محمود بن سلطان بن محمود أبو الثناء البعلبكي الشيخ الصالح العارف الزاهد العابد. كان من الأولياء الأفراد وأرباب الأحوال والمعاملات، أقم أربعين سنة يجمع المباح ووالده من قبله ستين سنة، وكان كثير الذكر ليلاً ونهاراً، صحب والده الشيخ سلطان رحمة الله عليه كثيراً، وخدمه ولازمه وأخذ عنه كثيراً، وانتفع به، ويقال: إنه جمع بينه وبين رجال جبل لبنان رضي الله عنهم، فكانوا يجتمعون به في كل وقت إلى آخر عمره، وصحب والدي كثيراً، ولازمه إلى حين وفاة والدي، وصحب الشيخ إبراهيم بن جوهر البطائحي، ولبس منه خرقة تبركاً، وقصد الاتصال بخرقة سيدنا الشيخ محي الدين. وتوفى الشيخ محمود المذكور يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان المعظم عند صلاة العصر، ودفن من الغد بتربة سيدنا الشيخ عبد الله الزمن إلى جانب قبر والده الشيخ سلطان نفع الله به، وقد ناهز المائة سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه. قال: إن والده أخبره لما عاد من وقعة حطين، كان عمر الشيخ محمود أحد عشر شهراً، ووقعة حطين كانت في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ومات والده رحمه الله سنة أربعين وخمس مائة عن مائة وخمس عشرة سنة رحمه الله تعالى.
محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو الثناء برهان الدين المراغي الشافعي. كان إماماً عالماً عاملاً، كثير العبادة والتقوى، عليه آثار الصلاح ظاهرة، ولى تدريس المدرسة الفلكية بدمشق إلى حين وفاته، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة بالشام، فامتنع قنعاً وورعاً، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة بالشام، فامتنع قنعاً وورعاً، وعرض عليه أن يكون شيخ الشيوخ بالشام فامتنع أيضاً، وكان كريم الأخلاق، لطيف الشمائل، حسن العشرة، عارفاً بالمذهب والأصول، مكمل الأدوات من أعيان العلماء، له قلم راسخ في الفتيا، وتحقيق النقل، ومولده سنة خمس وست مائة، توفى بدمشق ليلة الجمعة ثالث وعشرين ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.
المقداد بن أبي القاسم بن هبة الله بن المقداد بن عبد الله بن المقداد بن علي أبو المرهف نجيب الدين القيسي. كان من أهل الخير والعدالة والأمانة، سمع الكثير وتفرد بأشياء، وأسمع وانتفع بالسماع عليه جماعة من الطلبة، وتوفى بدمشق يوم الأربعاء ثامن شعبان، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.
منكوتمر بن هولاكو بن قازان بن جنكز خان ملك التتار. وهو من بيت الملك، وهو مقدم الجيش الذي ضرب المصاف مع المسلمين في السنة الخالية ظاهر حمص، فكان عنده شجاعة وإقدام، وبطش وسفك للدماء، وهو نصراني الدين، وكان جرح يوم المصاف، والذي جرحه الأمير علم الدين الدويدار رحمه الله، وحصل له غم شديد على ما جرى عليه، وعلى عساكره، وكمد زائد، وحدثته نفسه بجمع العساكر من سائر مماليك بيت هولاكو، وقصد الشام، وأخذ بثأره، فقدر الله تعالى موت أخيه ابغا، فعبء ذلك في عضده، وتملك بعد أخيه أخوه الملك أحمد، وهو مسلم لا يرى محاربه المسلمين، فانكسرت همته، واعترته صرع متدارك، فتوفى في العشر الأول من المحرم ببلد الجزيرة العمرية يقال لها: تل خنزير، وقيل: كانت وفاته في آواخر سنة ثمانين والله أعلم وقيل: انه لم يمت حتى أكل لسانه بأسنانه، وأتى على أكثر من نصفه، وكفن في أربعة أثواب نسيج، وجعل في تابوت، وسير إلى تلا، فدفن بها، وقد نيف على ثلاثين سنة من العمر والله أعلم.
هبة الله الملقب بالسديد النصراني القبطي المنيوز بالماعز. مستوفى الديار المصرية وقوانينها وأحوال المملكية، لا يشاركه في ذلك مشارك، وكان مدار الوزارة عليه، والوزير يستضئ به في سائر الأحوال، وكان رجلاً جيداً، كبير المروءة، والخدمة للمسلمين، والتودد إليهم، والترصد لقضاء حوائجهم، وعنده رياسة وبراهة وعفة، وستر على عورات الكتاب، وعدم مؤاخذة لمن يقصده بضرر، متمسكاً بدينه وشريعته، كثير الصدقة على فقراء النصارى، ويتصدق على فقراء المسلمين أيضاً، ولم يكن في أهل ملته من يضاهيه في وقته، وكانت وفاته بالقاهرة يوم الاثنين عاشر المحرم وهو في عشر السبعين، ورتب ولد الأسعد جرجس مكانه، وتضاعفت منزلته، وفعله للخير، ومنافسته في المعروف، وفعل الجميل مع المسلمين بحيث أطلقت الألسن بشكره، والثناء عليه، ثم أسلم فيما بعد.
يعقوب بن غنائم الموفق الساوى. كان حكيماً فاضلاً حاذقاً في الصناعة الطبية، جامعاً للعلوم الحكمية، أتقن صناعة الطب علماً وعملاً، واحتوى على جملتها، لم يكن في زمانه أعرف منه بقوانين الطب ومعرفته، له اليد الطولى فيه، وله تأييد في اجتلاب الصحة، وتحرر في استقراء الأعراض، ومعرفة تامة بالبحث في علم الطب، والتفرد فيه، وله حلقة اشتغال فيه لكل من قصده، وله تصانيف جليلة، منها: شرح الكليات من كتاب القانون لابن سينا، وحل شكوك نجم الدين أحمد بن المفتاح على الكليات، وكتاب المدخل إلى علم المنطق والطبيعي والالهي وغير ذلك، وكانت وفاته يوم السبت في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين، وهو دمشقي المولد والوفاة.
السنة الثانية والثمانون وستمائةاستهلت هذه السنة يوم الخميس، والخليفة الامام الحاكم بأمر الله أحمد العباس أمير المؤمنين، وسلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، مقيماً بقلعة الجبل من الديار المصرية.
وفي يوم الأحد سابع وعشرين شهر صفر وصل إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة، وخرج نائب السلطنة، والموكب للقائه، ونزل بداره داخل باب الفراديس، وعزمه التوجه إلى الديار المصرية.
وفي يوم الاثنين عاشر ربيع الأول فوض إلى الصاحب برهان الدين السنجاري التدريس، والنظر بمدرسة الامام الشافعي رحمه الله بالقرافة الصغرى، ووقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قدس الله روحه بالجامكية، والجراية، والرسوم، الشاهد بها كتاب الوقف على التمام والكمال وهي في كل شهرمن الجامكية أربعون ديناراً معاملة على التدريس، وعشرة دنانير على النظر، والرسوم في كل يوم من الخبز ستون رطلاً بالمصري، ومن الماء الحلو راويتان وهذا المدرسة خلت من مدرس بالكلية من مدة تزيد على ثلاثين سنة، والفقهاء يلازمزن الاشتغال بها، وحضور حلق معيديها فان بها عشرة معيدين، واستمر الحال على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين، فرتب التدريس بها في نصف المعلوم المذكور القاضي تقي الدين محمد بن رزين الحموي عند صرفه من القضاء بالديار المصرية، وانتقلت بعد وفاته إلى غيره بالربع من أصل المعلوم، وبقي الامر كذلك إلى يوم تاريخه ففوضت إلى الصاحب برهان الدين المذكور بالمعلوم بكماله.
وفي يوم الجمعة حادي عشرين رجب ولى الخطابة بدمشق جمال الدين عبد الكافي واعتقل قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ رحمه الله تعالى في القلعة، ومنع من صلاة الجمعة بعد أن حضر الجامع لصلاة الجمعة، فأمسك ورسم لقضية برأه الله تعالى منها إدعى عليه أنه أودع حياصة مجوهرة، وأمور اتفقت عليه، وأثبتت بالزور والبهتان، وتعصب عليه وصرف عن الحكم بسببها، وولى قضاء القضاة بهاء الدين بن الزكي عوضه. وفي يوم الأحد ثالث عشرين رجب شافهه السلطان بالولاية وقعد للحكم، وتطاول أمر القاضي عز الدين، وعقد له مجالس كثيرة إلى العشرين من شهر رمضان أحضر ابن الحموي، والشهاب عازكي الأميني، والعز التبان، فأمر نائب السلطنة أن يركبوا حميراً ويحرضوا، ففعل بهم ذلك بدمشق، وحبس ابن الحموي بعد ذلك في حبس باب الصغير، بقي فيه يومين، وشفع فيه، فأطلق وظهر عند بهاء الدين البرزالي إشهاد مثبوت على الحكام ببراءة القاضي عز الدين مما ادعى عليه به، ولم يجسر على إخراجه.
وفي بكرة الأحد حادي عشر شوال ذكر الشيخ شمس الدين الايكي الدرس بالغزالية، وذكر قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي بالمدرسة العادلية الكبيرة بكرة الاثنين ثاني عشره، وحضر عنده أعيان البلد من القضاة والعلماء والفضلاء على اختلاف المذاهب، وذكر الدروس الفائقة، وتصدي لإيراد الأجوبة عليها وبحث بحثه الفائق إلى أن أطرب المسامع بعلومه التي فاق بها الأواخر والأوائل، وأتى بما عجز به الحاضرون.
وفي يوم الخميس منتصف شوال خرج محمل الحاج من دمشق، وأميرهم صارم الدين المطروحي، ودخل الملك المنصور صاحب حماة دمشق من القاهرة يوم الأحد رابع عشر صفر، وتوجه إلى حماة يوم الجمعة ثاني عشرين منه، ودخل الحاج دمشق في خامس صفر، وأميرهم الطواشي بدر الدين الصوابي.
وفيها توفى: إبراهيم بن جامع بن أبي البركات أبو إسحاق القفصي الضرير الامام المقرئ العلامة. كان إماماً فاضلاً، عارفاً بالقراآت، واللغة، والعربية، وله تصانيف كثيرة، أخذها عنه المقرئ أبي الحسن علي بن أحمد بن موسى الجزيري، وسمع منه أبو العلاء الفرضي، وروى عن عمر بن الناقد، وأخته تاج النساء عجيبة، ورحل إلى الشام، ومصر، والاسكندرية، وسمع من شيوخها، ومولده سنة ست وست مائة، وتوفى ببغداد في صفر رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن عثمان أبو إسحاق العدوي. كان من أولاد المشايخ، وله صورة، وصيت وأتباع، وكان حسن الأخلاق، كثير المكارم، لطيف المحاضرة، حسن المذاكرة، جميل الصحبة، لم يجتمع به أحد إلا وانتفع به، وكان من حسنات الدهر من ذوي البيوت الكبيرة، عزيز النفس، كثير المروءة، عنده خير وصلاح وانقطاع بقرية دير ناعش عند ضريح والده الشيخ عثمان بن سادات المشايخ، اجتمع بمشايخ الشام في زمانه، وأخذ عنهم علم الطريق، وتخرج بهم، وكانت له الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والمناقب المشهورة، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين الفقيه اليونيني رضي الله عنه يكثر من زيارته ويحبه، وحكى عنه أن شخصاً قرأ عند قبره بعد موته القرآن فغلط فرد عليه من قبره، وهذا مشهور عند أهل قريته، وله غير ذلك، وكانت ولادته سنة إحدى وخمسين وست مائة، ودفن بدير ناعش عند جانب والده رحمهما الله.
أحمد بن حجي بن يزيد البرمكي الأمير شهاب الدين أمير آل مراء. وهو من الفرسان المشهورين، والشجعان المذكورين، كانت سراياه تغار إلى أقصى نجد، وبلاد الحجاز، ويودون له الخفر، وكذلك صاحب المدينة الشريفة النبوية يؤدي له القطيعة، وله المنزلة العالية عند الملك الظاهر والملك المنصور وغيرهما من الملوك يدارونه، ويتقون شره، ويزعم أنه من نسل جعفر بن يحيى البرمكي المشهور، وكان كتب إلى عيسى ابن مهنا كتاباً، وأغلظ له فيه، وكان عنده المولى شهاب الدين أحمد بن غانم، فسأله المجاوبة عنه، فكتب عنه إليه يقول:
زعموا أنا هجونا جمعهم كذبوا ... فيما ادعوه وافتروا بالأدعياء
إنما قلنا مقالاً لا كقول السفهاء ... آل فضل آل فضل أنتم آل مراء
فوقع ذلك عنده بموقع شديد وغضب.
إسماعيل بن أبي عبد الله بن حماد أبو الفداء الصالحي العسقلاني. أحد الشيوخ المتدينين والرواة المكثرين، كان شيخاً صالحاً زاهداً ورعاً، ولد في حدود سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وسمع من حنبل المسند المكثر بمكاله، ومن ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحدث، وأجاز له أبو جعفر الصيدلاني وغيره من أصبهان، توفى في ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين وست مائة بقاسيون، ودفن به رحمه الله تعالى؟ شرف بن عمر بن أحمد الأصفهاني المعروف بالبلاسي. كان شيخاً صالحاً كريماً، خادماً للفقراء، متصدياً لخدمتهم، عمر قريباً من ثمانين سنة، ومات بالديار المصرية في يوم الاثنين ثاني عشر المحرم، كان قصدها مسترفداً، ودفن قرب قبة الامام الشافعي رحمه الله تعالى.
شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن محمد الجذامي النواوي الحاج الصالح والد السيخ محي الدين النواوى، كان من الصالحين، مقتنعاً بالحلال، يزرع له أرضاً يقتات منها هو وأهله. وكان يمون الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى منها يرسل له مؤنته وقتاً بوقت، ولا يأكل من عند غير أبيه، لما يعلمه من صلاحه، واستعماله الحلال الخالص، وكان خيراً لا يأكل شيئاً فيه شبهة، ولا يطعم أولاده إلا مما يعرف حله. قال الشيخ الصالح محي الدين يحيى الذهبي، وكان صاحبه: كنت أتردد أنا وأخوالي إلى نوى، وننزل عنده، ويخدمنا خدمة بالغة، فاتفق أن توجهنا إليها في شغل، وأخذنا معنا هدية لبعض الأصحاب، وفضل معنا سلة انجاص، فلما دخلنا بها بيت الحاج شرف، قلت لأخوالي، وقد حضر ولد صغير لولد شرف المذكور: أعطه إياها يداخلها للصغار، فقال له ذلك، فغضب وقال: متى رأيتنا نأكل هذا أو غيره أو أكلنا من مال أحد شيئاً، وتغير عليه، ولم يقبلها. ولما مات الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى خلف كتبه التي صنفها، وغيرها من العلوم الاسلامية مما كتبه بخطه، واشتراه فلم يتعرض والده إليها، وهي تساوي جملة كبيرة، وجعلها عند الشيخ برهان الدين الاسكندري تلميذ الشيخ محي الدين ينفع بها المسلمين، ولم تزل عنده يعيرها لكل من قصد الانتفاع بها، وحصل للناس بها نفع كثير إلى أن مات شرف المذكور، وأولاده الكبار، ولا يتعرض أحد إليها فلما انقرضوا، ولم يبق منهم من له صورة، وافترقوا في سنة تسع وتسعين وست مائة عندما دخل العدو الشام، واحتاجوا إلى بيعها، فحضر من بقي من أولاد شرف، وذلك في سنة سبع مائة إلى التربة الأشرفية، وكانت الكتب في بيت الشيخ برهان الدين، فأخرجت وبيعت بجملة كثيرة، وبلغ ثمنها مبلغاً طائلاً، وتغالى الناس في شرائها، وهم من أثر الخوف، وأخذوا المال، فذهب منهم كله في تلك السنة، ولم يبارك لهم، وأبقوا عندهم من كتب الشيخ بخطه: رياض الصالحين، والأربعين في الأحكام بنوى، لأجل التبرك. وكانت وفاة الحاج شرف يوم الأحد سابع عشر صفر سنة اثنتين وثمانين وست مائة، ودفن بنوى رحمه الله تعالى. وكان قد حج مع والده القدس مراراً، وعادت بركة كل منهما على الآخر رحمهما الله تعالى.
عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أبو محمد شهاب الدين الحراني الحنبلي. كان فقيهاً فاضلاً، قدم دمشق بعد استيلاء التتار على حران، واستوطنها إلى أن توفى بها ليلة الأحد سلخ ذى الحجة، ودفن يوم الأحد بمقابر الصوفية، وقد نيف على الستين رحمه الله وهو من بيت العلم، والحديث، والديانة، وله شهرة ببلده، وكان والده مجد الدين عبد السلام من الأعيان، وكذلك غير واحد من أهل بيته رحمهم الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة أبو محمد شمس الدين المقدسي الحنبلي، شيخ الاسلام علماً، وزهداً، وورعاً، وديانة، وأمانة، كبير القدر، جم الفضائل، إليه انتهت الرياسة في الفقه، على مذهب الامام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وشرح كتاب المقنع في الفقه تأليف عمه شيخ الاسلام موفق الدين رحمه الله تعالى. وكانت له اليد الطولى في معرفة الحديث، والأصول، والنحو، وغير ذلك من العلوم الشرعية مع العبادة الكثيرة، واللطف وكرم الأخلاق، ولين الجانب، والاحسان إلى القريب والبعيد، والاحتمال، وولى قضاء القضاة بالشام يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وست مائة مكرها، وباشر ذلك مدة سنين، ثم عزل نفسه، وامتنع من الحكم، وبقي متوفراً على العبادة، والتدريس، والاشتغال، والتصنيف، وكان أوحد زمانه في تعدد الفضائل، والتفرد بالمحامد، وحج غير مرة، ولو يكن له نظير في خلقه، ورياضته، وما هو عليه، وتمرض أياماً، ثم توفى إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر بمنزله بجبل قاسيون ظاهر دمشق. ودفن يوم الثلاثاء عند قبر والده الشيخ أبي عمر رضي الله عنهما. سمع الكثير وأسمعه، وانتفع به خلق كثير، وكان على قدم السلف رضي الله عنهم في معظم أحواله، ورثاه غير واحد، فمن رثاه شهاب الدين محمود كاتب الدرج بدمشق، وهو ممن اشتغل عليه، وانتفع به، بقوله:
ما للوجود وقد علاه ظلام ... أعراه خطب أم عداه مرام
أم قد أصيب بشمسه فغدا فقد ... لبست عليه حدادها الأيام
لم أدر هل نبذ الظلام نجومه ... أم حل للفلك الأثير نظام
فلقد تنكرت المعالم واستوى ... في ناظري الأشراق والأظلام
وذهلت حتى خلت أني ليس لي ... بعد الفراق سوى الدموع كلام
أترى درى صرف الردى لما رمى ... أن المصاب بسهمه الاسلام
أو أنه ما خص بالسهم الذي ... أصمى به دون العراق الشام
سهم يقصد واحداً فغدا وفي ... كل القلوب لوقعه آلام
ما خلت أن يد المنون لها على ... شمس المعارف والهدى إقدام
من كان يستسقى بغرة وجهه ... إن عاد وجه الغيث وهو جهام
وتنير المسرى لسرة فضله ... فكأنما هي للهدى إعلام
ما خلت أن الدين لولا فقده ... ممن يروع شربه ويضام
كانت تطيب لنا الحياة بأنه ... وبقربه فعلى الحياة سلام
كانت ليالينا بنور بقاءه ... فينا تضيء كأنها أيام
كانت به ترى العيون وتنثني ... ولها إليه تعطش وأوام
من للعلوم وقد علت وعلت به ... أضحت تسامى بعده وتسام
من للحديث وكان حافظ سربه ... من أن يضم إلى الصحاح سقام
وله إذا ذكر العلوم نراتب ... تسمو فتقصر دونها الأوهام
تروى فيروى كل ذى ظمأ له ... بحمى الحديث تعلق وهيام
ببديهة في الفضل يقسم من رأى ... في ذاك شرعاً أنه إلهام
من للقضايا المشكلات إذا ثنت ... عنها العقول وحارت الأفهام
هل للفتاوى من إذا وافى بها ... قاضي القضاة وجفت الأقلام
من للمنابر وهو فارسها الذي ... يحي القلوب به وهن زمام
وله إذا أتم الدروس مواقف ... مشهودة ما نالهن إمام
يجلى بها صدى القلوب وترتوي ... منها العقول وتعقل الأحكام
ولديه في علم الكلام جواهر ... غرر يحير بحسنها النطام
من للزمان وكان طول حياته ... الليل يحي والهجير يصام
من للعفاة والغباة وهل لهم ... من بعد في ذاك المقام مقام
كانت لهم منه عواطف مشفق ... فمضى فيهم من بعده أيتام
لم يخل منهم بابه ولطالما ... عاينته ولهم عليه زحام
وذوو الحوائج ما أتوه لحادث ... إلا ونالوا عنده ما راموا
يلقاهم بشر يبشرهم بما ... قصدوا من الحاجات وهي جسام
من للطريد وهل له من بعده ... يوماً من الدهر الذميم ذمام
فجعت به الدنيا فإن لم تصف من ... أكدارها يوماً فليس تلام
فعلام يبقى الطرف فيه بقية ... أيروم أن يرد الجفون منام
أو أن يصون الدمع كي يطفى الجوى ... ولناره بين الضلوع ضرام
أو أن يكون ذخيرة هيهات ما ... لملمة من بعدها إيلام
هذا الذي عفا المضاجع خشية ... من أن تخيله لنا الأحلام
فعلام تجزع للحوادث ما اشتهت ... من بعده فلتصنع الأيام
بتنا نودعه وقد جاءته ... دار السلام تحية وسلام
ويقوم إجلالاً لديه ولم يحل ... إن الملائكة الكرام قيام
وافته من خلع القبول ملابس ... شرفت فليس ترى وليس ترام
وسرت إليه من الجنان نسيمة ... في طيها كلف به وغرام
فليهنه الدار التي لنعيمه ... فيها إذا زال النعيم دوام
دار له فيها السرور محقق ... لا كالحياة فان تلك منام
حيا الحياة ذاك الزمان فإنه ... لملابس بك للمكرمات حتام
وسقى العهاد عهوده فإذا رثت ... فالدمع إن ظن الغمام غمام
إن كان عاندنا الزمان بفقده ... فله بمن أبقى لما أنعام
أو غالنا في الشمس وهي منيرة ... فلقد سخا بالبدر وهو تمام
نجم به ألف الهدى وبنوره ... عادت وجوه الدهر وهي وسام
أبقى لنا منه الزمان بقية ... أثنى عليه بتركها الاسلام
شرف القضاء بعلمه وتشرفت ... بوجوده الأحكام والحكام
وبه علينا الدهر لما أن مضى ... منا إمام قام منه إمام
درت به ضرع العلوم وأنها ... لولاه بعد أبيه طال فطام
حسن الزمان به فألقت جيده ... له ما.... الأعوام
ولكم غدت من زلة وفريضة ... هدى يقال به وتلك تقام
من دوحة شرفت وكم ضرع بها ... زاك تأخر عنه وهو إمام
من كان في حجر العلوم وطالما ... سبق الكهول تقاه وهو غلام
مولاي نجم الدين دعوة من غدا ... الصبر الجميل عليه وهو حرام
طب عن أبيك فدتك نفسي أنه ... ولى ولم تعلق به الآثام
فلمثل هذا كان يتعب نفسه ... الليل ذكر والنهار صيام
لكم الكرامات الجليلات التي ... لا يستطيع جحودها الأقوام
في وقت دفن أبيك هب نسيمة ... في طيها كلف به وغرام
إن لم تكن روح الجنان فقبلها ... ما طابه من لفح الهجير مقام
فاسلم ودم تحي المائر والعلى ... ما ناح في فرع الاراك حمام
ذكر الشيخ محي الدين النواري رحمه الله تعالى فقال عنه شيخنا الامام العلامة ذو الفنون من أنواع العلوم والمعارف، وصاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن واللطائف، أبو الفرج، وأبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ الامام أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، سمع الكثير وأسمعه قديماً في حياة شيوخه، وهو الامام المتفق على إمامته، وبراعته، وورعه، وزهادته، وسيادته، والعلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة. وذكره الشيخ زكي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز الكوري المالكي، فقال: شيخنا شمس الدين ممن يفتخر به دمشق على سائر البلدان، يزهو به عصره على متقدم العصور والأزمان، لما جمع الله تعالى فيه من المناقب، والفضائل، والمكارم. منها التواضع مع عظمته في الصدور وترك التنازع فيما يفضى إلى التشاجر والنفور كانت به صدور المجالس والمحافل. مع ما أمده الله تعالى به من سعة العلم، وفطره عليه من الرأفة، والحلم، ألحق الأصاغر بالأكابر في رواية الحديث. وحكى الشيخ أبو الفضل بدر بن برغارم الشاغوري قطب وقته في زمانه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول صلى الله عليه وسلم: يا أبا الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: أبشر بالخير من الله تعالى، فإنك من أهل الجنة؛ فقلت: يا رسول الله! فقلت يا رسول اللهوأصحابي: فقال: وأصحابك أيضاً من أهل الجنة طيب قلبك: فقلت: يا رسول الله فالشيخ شمس الدين خطيب الجبل والشيخ عز الدين؟ ثم قال: يا أبا الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: قل لهما وبشرهما أنهما من أهل الجنة.
عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن عيسى أبو علي المادراني المصري الشافعي شمس الدين بن القاضي كمال الدين أبي حامد بن قاضي القضاة صدر الدين أبي القاسم. مولده بالقاهرة المعزية من الديار المصرية في ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وتوفى بالقاهرة بالقرافة الصغرى في خامس شوال من هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين وست مائة. سمع جده قاضي القضاة صدر الدين، وأبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن المحلى، وأبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن الثبت، وهو آخر من روى عنهم بالسماع، وسمع أبا بكر بن باقا وغير واحد، وكانت له إجازات عالية من نيسابور، وأصفهان، وبغداد، وغير ذلك، وحدث. ومن نظمه رحمه الله تعالى يقول:
ألقاك بالفقر وبالذل ... إن لم يكن لي راحماً من لي
إذا أتى الناس بأعمالهم ... فحاصلي إفلاسي الكلي
فافعل معي ما أنت أهل له ... فأنت رب الجود والفضل
وارحم لمن في لحده مفرداً ... خال من الأموال والأهل
جفته أهلوه وأحبابه ... وقد غدا منصرم الحبل
فالويل لي إن لم تكن راحمي ... لا عملي ينجي ولا فعلي
علي بن يعقوب بن شجاع بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي زهران أبو الحسن عماد الدين الموصلي الفقيه الشافعي المقرئ المجود. وكان فقيهاً فاضلاً، كرر على الوجيز في بداية اشتغاله، وحفظ الحاوي الصغير في آخر عمره، وله مشاركة في المنطق. والأصول. والخلاف، وكان إماماً مبرزاً في علم القراآت، والتجويد، وانتهت إليه الرياسة في ذلك بدمشق في آخر عمره، وصنف للشاطبية شرحاً يبلغ أربع مجلدات، ولم يكمله، ولا بيضه، وباشر التصدر للاقراء بتربة أم الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل بدمشق بعد وفاة الشيخ زين الدين الزواوي المقدم ذكره رحمه الله وشرط هذا المكان أن يتولاه أفضل من يوجد في علم القراآت. وتوفى العماد المذكور يوم الأحد سابع عشر صفر بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير، وهو في عشر الستين ومولده بالموصل رحمه الله، ووالده وجده فاضلان، لهما يد في النظم. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في كتابه قلائد الجمان: يعقوب بن شجاع الموصلي أخبرني أنه ولد ليلة الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وخمس مائة، وهو شاب من حفاظ القرآن، والمتفقهة، وقرأ من النحو صدراً حسناً، ومن أهل الدين والخير والصلاح رحمه الله تعالى وأنشدني لنفسه:
قلت لما رق حالي ... وجفاني من أوالي
ورماني الدهر قصداً ... بسهام ونبال
ودعتني رقة الحال ... إلى ذل السؤال
لست إلا مستجيراً ... بك يا رب المعالي
قال وأنشدني لنفسه:
أمولاي محي الدين بادر إلى ... الوعد الكريم بلا فتور
فلست أفي بشكر يديك عفواً ... ولو عمرت أعمار النسور
وأنت ذخيرتي ما دمت حياً ... وأنك عدتي يوم النشور
قال وأنشدني أيضاً لنفسه:
صروف هذا الدهر قد صوبت ... سهامها نحوي فلم أجزع
لأنني معتمداً إن سطت ... على إمام بطل افزع
الفارس الكرار يوم الوغى ... وصاحب الغوث إذا ما دعى
جدك يا محي دين الهدى ... وحامل الراية في المجمع
يا من إذا ما جئته راغباً ... رجعت والدنيا جميعاً معي
عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون أبو الخطاب محي الدين بن قاضي القضاة أبي سعد شرف الدين التميمي الشافعي، كان المذكور يلبس زي الجند في صدر عمره، ثم لبس زي الفقهاء في آخر عمره بعد وفاة أخيه شرف الدين عثمان، وادعى المشاركة في النظر على الأوقاف النورية، ثم أوصى قبل وفاته على ولده شمس الدين محمد بن سلمان ابن جمائل الشافعي سبط الشيخ غانم رحمه الله وتحدث في الأوقاف النورية، وتناول النصيب فيها أسوة من يدعى ذلك، وكانت وفاة المحي عمر المذكور في يوم الاثنين ثالث ذى القعدة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وقد نيف على سبعين سنة من العمر.
عيسى بن الخضر بن الحسن بن علي شمس الدين الزرزاري المعروف والده بالسنجاري. كان مليح الصورة، حسن الشكل، ناب عن والده برهان الدين في الوزارة، تقلده إياها في سنة ثمان وسبعين، ثم صرف عن ذلك في شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وتولى نظر الاحباس بالديار المصرية، وخانقاة سعيد السعداء بالقاهرة، وعندما باشر والده الوزارة في المرة الثانية لم يمكن من استنابته، وباشر تدريس المدرسة المعروفة بزين التجار بعد وفاة الشريف السلماني مدة، ثم قبض عليه قبل وفاته بمدة، وامتحن محنة شديدة، ثم أفرج عنه، وأقام بطالاً في منزله بالمدرسة المعزية المطلة على النيل إلى أن توفى في سابع وعشرين المحرم، ودفن بالقرافة الصغرى بالتربة المعروفة بهم، ومولده بعد الأربعين وست مائة رحمه الله تعالى.
عيسى بن المظفر بن محمد بن إلياس بن عبد الرحمن الأنصاري المنعوت بعز الدين المعروف بابن الشيرجى. كان من أعيان أهل دمشق، ورؤسائهم، وعدولهم، ولى المناصب الجليلة. وآخرها حسبية دمشق، وكان عنده مكارم، وحسن ملتقى. وعلو همة، ومولده في أواخر سنة ثمان وعشرين وست مائة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى بدمشق في رابع عشر رجب، ودفن بمقابر باب الصغير ظاهر مدينة دمشق رحمه الله تعالى.
كشتغدى بن عبد الله علاء الدين المشرفي الظاهري المعروف بأمير مجلس. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم بالديار المصرية، وظهر قبل وفاته بمدة يسيرة أنه باق على الرق فاشتراه الملك المنصور سيف الدين قلاوون بجملة من المال ثم أعتقه، وكان شجاعاً بطلاً مقداماً، وله مواقف مشهورة، وتوفى بقلعة الجبل من الديار المصرية، وقد نيف على خمسين سنة من العمر، وحضر جنازته السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله.
محمد بن أحمد بن نعمة بن أحمد أبو عبد الله شمس الدين المقدسي الشافعي. اشتغل على الشيخ تقي الدين محمد بن رزين وغيره وناب عنه في تدريس المدرسة الشامية البرانية، ثم تشارك هو والقاضي عز الدين محمد بن عبد القادر في تدريسها ثم اشتغل بها إلى حين وفاته بها، وناب في الحكم بدمشق مدة سنين إلى أن توفى، وكان فقيهاً ديناً مشكور السيرة، سمع، وحدث، وأفتى. توفى يوم الاثنين ثاني عشر ذى القعدة بدمشق، ودفن من يومه ظاهر دمشق بباب كيسان بين باب الصغير، وباب شرقي، وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المعالي علاء الدين الأنصاري الشافعي المعروف بابن الصائغ. كان من العدول وهو أخو قاضي القضاة عز الدين شقيقه، وتولى نظر الأسرى وغيره، وكان فيه أهله، وأمانة، وديانة، وحصل له مرض طال به، وتوفى يوم الأربعاء ثالث عشر ذى القعدة بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون، وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو حامد الأنصاري الشافعي المنعوت بمحي الدين المعروف بابن الحرستاني. كان في حياة والده القاضي عماد الدين أبي الفضل مقيماً بصهيون مدة، ثم قدم دمشق، وولى الخطابة بجامعها بعد والده في سنة اثنتين وستين وست مائة، ودرس بالزاوية الغزالية بجامع دمشق، وكان وافر الديانة، كثير الخير، وفي سمعه ثقل، ودرس بالمدرسة المجاهدية التي بالقرب من النورية بدمشق، وتوفى إلى رحمة الله تعالى بدمشق يوم الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن من يومه بسفح قاسيون، ومولده في أحد الربيعين سنة أربع عشرة وست مائة بدمشق رحمه الله تعالى.... حصلت صعقة بساتين دمشق في سنة ست وستين وست مائة، وكان الملك الظاهر قد أوقع الحوطة عليها، نظم محي الدين في ذلك:
لما وقفت على الرياض مسائلاً ... ما حل بالأغصان والأوراق
قالت أتى زمن الربيع ولم أرى ... من كان بالمغنى من العشاق
تناشدت أطيارها في دوحها ... لما أضاء الجو بالاشراق
فتذكرت أيامهم في دوحها ... لما أضاء الجو بالاشراق
فتذكرت أيامهم فتنفست ... فأصابها لهب من الاحراق
أبلغهم عني السلام وقل لهم ... ها قد وفت بالعهد والميثاق
فغدوت أندب ما جرى متأسفاً ... والدمع يسبقني من الآماق
كان رحمه الله ديناً خيراً ملازم للخير، ولم يعرف له صبوة.
محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان شمس الدين الأنصاري الشافعي النحوي، كان فاضلاً ديناً، اشتغل بالنحو على الشيخ جمال الدين محمد بن مالك رحمه الله وأتقنه. وكان أمثل تلامذته. وسمع الحديث الكثير، وحصل من الفقه طرفاً، وكان له معرفة بالأدب، وله طبع مطاوع في النظم، وتوفى بدمشق ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى، ومن نظمه يمدح قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ:
لله در زمان عاد فيه إلى ... أحكامه العز عز الدين ذو النعم
أبو المفاخر فخر الشام حاكمه ... قاضي القضاة حليف الجود والكرم
ومن له مثل محي الدين حق له ... هذا التكني ففيه أفخر الشيم
أكرم بأصل وفرع دام فخرهما ... ففي علائهما أعلى أولى الهمم
يا ناصر الشرع قد أشبهت قومك في ... نصر الشريعة والأنصار كالعلم
كفاهم مشرفاً قول الرسول لهم ... وقوله الحكم في الأنصار في كلم
ملائك الله في تسديد حكمك إذ ... خطبت للحكم وعداً غير متهم
فالله يبقي لأهل الشام دولتكم ... ممتعين بها إبقاء ذى سلم
وقال أيضاً وكتب بها إلى أهله من تبوك سنة ست وسبعين وست مائة يقول:
كتبت من تبوك لتسعة ... مضت بعد عشر في المحرم ولت
وأنى بحمد الله أرجو لقاءكم ... إذا صفر عشرون منه تبقت
محمد بن محمد بن هبة الله أبو عبد الله عماد الدين الدمشقي الشافعي المعروف بابن الشيرازي. كان رئيساً، عنده فضيلة، ويكتب خطاً منسوباً تفرد به في آخر عمره، وهو من أعيان الدمشقيين، وأماثلهم وأولى الثروة منهم، والوجاهة فيهم، وكان والده القاضي شمس الدين أبو نصر قد ولى نيابة الحكم بدمشق مدة زمانية، وكان من العلماء العارفين بالمذهب، وكان عماد الدين المذكور طلب إلى الديار المصرية، ورتب ناظراً على الأملاك الظاهرية، والتعلقات السعدية، وذلك في أواخر الدولة الظاهرية بعد وفاة الرئيس مؤيد الدين أسعد ابن القلانسي رحمه الله وبقي على ذلك، فلما كان في شهر صفر ركب من المدينة. وقصد الخروج إلى بستانه بالمزة، فعرض له فالج في الطريق، وهو راكب فركب غلامه من ورائه، وأمسكه حتى أوصله إلى البستان، واستمر به الحال إلى بكرة يوم الاثنين ثامن عشر صفر، فتوفى إلى رحمة الله تعالى ببستانه بالمزة، ودفن من يومه بسفح قاسيون، ومولده في سادس عشر ذى القعدة سنة ست وست مائة في بستان كان لهم بسطرا ظاهر دمشق رحمه الله وإيانا.
محمد بن الحردتكي الشيخ الصالح، الحلبي المولد والمنشأ. كان له قدم راسخ في الفقر، والمجاهدة، وشهرة بين الفقراء في الأقطار، خدمهم في جميع عمره، وأنفق عليهم جميع ما ملكت يده من ميراث والده وغيره، وكان جملة عظيمة، وكان دمث الأخلاق، كثير الصمت والرياضة، محباً للعزلة، وهو من بيت كبير معروف بحلب بالامرة، وكبر القدر، وظهور الثروة. وخرج عن ذلك كله عن قدرة وتمكن، وفرغ منه طالباً لما عند الله تعالى، وخرقته ترجع إلى عند سيدنا محي الدين بن عبد القادر رضي الله عنه، وأقام في آخر عمره بدمشق، وحصل له طرف من فالج، ولازمه إلى حين وفاته، وتوفى إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد ثاني ربيع الأول بالقاعة التي داخل مقصورة الحنفية بالزاوية الشرقية من الحائط الشمالي بجامع دمشق، ودفن يوم الخميس بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى، وقد نيف على ثمانين سنة من العمر، ولم يتخلف عن شهود جنازته أحد من الأعيان، ولا من الفقراء، ولم يخلف شيئاً من الدنيا ألبتة رحمه الله تعالى ورضي عنه.
محمود بن إسماعيل بن معبد أبو الثناء شرف الدين البعلبكي. كان من صدور بعلبك، وأولى الثروة بها، وله قبول عند الحكام، ومكانة عند كثير من الأمراء وغيرهم، وكان يعاني الزراعة في أملاكه، وعنده كرم نفس، وسعة صدر، وتحمل، ومكارمة، وتوفى وهو في عشر الستين، وخلف أولاد نجباء، وكان أوقف في حال صحته وقفاً جيداً على وجوه البر أثابه الله وتقبل منه وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأربعاء العشرين من ذى القعدة، ودفن من الغد عند قبر أبيه برثيا ظاهر باب القطاعة رحمه الله وإيانا.
يحيى بن علي بن محمد بن سعيد أبو الفضل محي الدين التميمي المعروف بابن القلانسي الدمشقي المعروف. كان من أعيان الدمشقيين وأماثلهم، سمع الكثير، وأسمع، وتولى المناصب الجليلة، وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم، وبيته مشهور بالرياسة والتقدم، وتوفى إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء ثامن وعشرين شوال بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون. ومولده بدمشق في تاسع جمادى الأولى سنة أربع عشرة وست مائة. ومن شعره لما وقعت الحوطة على بساتين دمشق، وصعقت تلك الصعقة العظيمة التي لم يعهد مثلها، وكان ذلك في شهر أيار من شهور الروم:
يا جلق الخضراء وقيت الردى ... لم ذا كسوت الدوح ثوب سواد
قالت لقد فارقت أهل مودتي ... فلبست للهجران ثوب حداد
ونظم محي الدين أشعاراً كثيرة وألغازاً يأتي شيء منها فيما بعد، في ترجمة العرز إن شاء الله تعالى.
أبو بكر بن داود بن عيسى بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى سيف الدين الملقب بالملك العادل. كان قد جمع بين حسن الصورة، والأوصاف، ومكارم الأخلاق، وسعة الصدر، وحسن العشرة، وكثرة الأفضال، واحتمال الأذى، وبذل المعروف، لا يضاهيه في ذلك أحد من أبناء جنسه، وكان له ميل إلى الاشتغال بالعلم، والأدب، وعنده ذكاء مفرط، وحدة ذهن، وعبارة حلوة، وآداب حسنة ملوكية، لم ير أكثر عقلاً منه في زمانه، ولا أكثر حشمة ووقاراً وسكوناً، ولا ألطف كلاماً، ولا أحسن بياناً، عليه هيبة وحشمة، وكان له ميل كثير إلى أصحاب القلوب، وأرباب الإشارات، يلازمهم، ويقتدي بهم، ويتأدب بآدابهم، ويتسلك بما يأمرونه به، يزور الصلحاء حيث سمع بهم، وكانت وفاته - رحمه الله - يوم الخميس عاشر شهر رمضان المعظم هذه السنة، وصلى عليه يوم الجمعة بالجامع الأموي، وحمل إلى تربة جده الملك المعظم عيسى بسفح قاسيون، فدفن بها، وهو في عشر الأربعين لم يبلغها رحمه الله تعالى.
السنة الثالثة والثمانون وستمائةإستهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون بالديار المصرية، وفي أثنائها خرج إلى الشام، ووصل إلى دمشق مع جماعة من عسكره، وخواصه يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة.
وفيها توفى الملك أحمد بن هولاكو ملك التتار، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي عاشر شوال توفى الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة والمعرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ولما اتصلت وفاته بالأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، طالع بذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله واستمطر صدقاته في إقرار ولده الملك المظفر محمود عوضه، فورد عليه الجواب بذلك، فكتب إلى الملك المظفر المذكور كتاباً بخط المولى شهاب الدين محمود من إنشائه، مضمونه: " أعز الله أنصار المقام العالي الملكي المظفري التقوى، وأطلع شمس ملكه مشرقة الأنوار. وألبس الدنيا من شعار سلطانه حلل الافتخار. وقلد المماليك من تقاليده ما يود ذهب الأصيل لورقه على صفحات النهار. وحلى أعطاف الملك من نعوته الشريفة بما هو أحسن من انتظام عقود الكواكب على هالة الأقمار. وشرف به التشاريف التي هو في لبسها كالحرم لا تكسى الأستار إلا ليشرف الأستار. وهنأه من حسن النظر الشريف بما بلغ به أول رتبة لا تطاول إليها زهر الكواكب إلا وهي شاخصة الأبصار. حتى يستقر الملك في مقامه المحمود. وينتظم عقد السلطنة لديه بين ذوائب الألوية وعصائب البنود. ويشرق من لألاء ملكه ما تضيء الآفاق بنوره. ويشرق بحد سطواته نحور الأعداء حتى يعجب لسفاح ورث الملك من منصوره. المملوك يقبل الأرض تقبيل تخلص تضاعفت لديه النعم. ووجب عليه أن يستعين على الشكر بكل لسان ناطق حتى لسان القلم. وتعبد ولى نذر الرجاء لديه واكتمل. ونال بإقبال ملك مولانا كل ما يؤمله، فأصبح يصحب الدنيا بلا أمل. وينهى أنه سطرها، ووفود التهاني تزدهم على ما قلمه. وعقود البشائر تتحذر من بين كلمه. وسماء الممالك قد أشرقت بالسعد كواكبها. وحدقت لتحدق ببدر ملكه مواكبها. وقلائد الجوزاء قد ترصعت لديه مناطقها. والفراقد قد توطأت لوطئ أجناده مفارقها، والبروق قد مرحت لتغالب الحاد على العلو بركابه سوابقها، والمنابر قد كادت تحضر للشرف باسمه أعوادها. والصوارم وقد انفت إذ جرت أن تكون سوى أعناق ملوك الأعداء أغمادها " .
وكان ورد كتاب السلطان بسببه من القاهرة إلى دمشق يوم الخميس الخامس والعشرين من شوال، وصحبه تقليد الملك المظفر من السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون باستقراره بحماة على قاعدة والده.
وفي يوم الأربعاء ثامن صفر دخل الحجاج دمشق، وأميرهم المطروحي.
وفي يوم الجمعة عاشر صفر جلس الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على المنبر برواق الحنابلة بجامع دمشق مكان والده يفسر القرآن الكريم وغير ذلك.
وفي هذه السنة توفيت الخاتون بنت بركة خان والدة الملك السعيد بمصر، وكانت من سادات النساء كثيرة المعروف، والاحسان، والصدقات، وقفت جميع الكتب التي بالخزانة الظاهرية، وجميع الربعات، والختم التي بالتربة الظاهرية، وشرطت أن لا يخرج شيء من ذلك من المدرسة، بل من أراد الانتفاع به ينتفع بالمدرسة، وكان وقفها كذلك في سنة إحدى وثمانين.
وفي جمادى الآخرة توفى بدمشق الأمير علم الدين سنجر بن زريق الخولاني، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزى ببستانه ببيت لهيا، ودفن بالجبل رحمه الله تعالى.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان سافر الأمير حسام الدين طرنطاى من دمشق إلى القاهرة متمرضاً. وفي ثامنه ليلة الأحد توفى الأمير بدر الدين بيليك الجاشنكير، ودفن يوم الاثنين بتربة سليمان الرقى بالجبل الغزير.
وفي ليلة الأربعاء العشرين مطرت السماء من نصف الليل، وتوالى المطر الشديد مع الرعد القاصف، والبرق الخاطف، إلى أول النهار، وجاءت الزيادة، وارتفع الماء على الأرض قامة، وفي بعض الأماكن أكثر، وكانت طائفة من العساكر المصرية نازلين ظاهر دمشق، فعمهم ذلك. وغرق خلق من الناس، وأما الجمال، والدواب، والغنم فما لا يحصى، ووقعت عدة بيوت على من فيها. وكانت آية عظيمة وأصبحت يوم الأربعاء الشمس طالعة، وجفت الماء.
وفي شعبان أقبل الأمير علم الدين الدويدارى رحمه الله من مباشرة المشد، وكان كثير القلق، وطلب الانفصال منه، والسعي في ذلك باطناً، فأجيب، وباشر الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.
وفي يوم الاثنين منتصف شوال توجه ركب الشام إلى الحجاز، وكان ركباً كبيراً، وأميرهم عز الدين القيمري.
وفي العشرين من جمادى الأولى وفي النيل ووردت البشرى بذلك إلى دمشق.
وفي ليلة السبت ثلث الليل الآخر ثالث وعشرين شعبان سافر من دمشق الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى الديار المصرية من جهة ولد المنصور صاحب حماة، وتوجه الأمير علم الدين الدوادارى إلى القاهرة يوم السبت حادي عشر ذى القعدة بطلب سلطاني.
وفي ثامن جمادى الأولى من سنة ثلاث وثمانين وست مائة ركب السلطان الملك المنصور من قلعة الجبل متوجهاً إلى الشام بسبب ما ورد عليه من جهة مصالحة الملك أحمد بن هولاكو، فلما وصل غزة وردت الأخبار عليه بأن الملك أحمد قد مات، وقيل أسر ثم عدم، وأن أرغون اتفق مع جماعة من المغل على إمساكه، وخلعه من الملك، وأن فرقة منهم تقدير أربعة آلاف فارس حضرت مفقرة طالبين الشام، فجد الملك المنصور في السير، فدخل دمشق يوم السبت ثاني جمادى الآخرة، فأحضر رسل الملك أحمد وهم الشيخ عبد الرحمن وسمداغو ومن معهم وكانوا منذ وصلوا أطراف البلاد، استعجمت عليهم الأخبار، وبقي كل من يحضر إليهم يمسك، ويؤخذ كتبه، فجلس الملك المنصور في الليل، وأوقدت شموع كثيرة، ولم يكن حوله سوى خواص مماليكه، وهم في أحسن زي، وأكمل صورة، فدخل الشيخ عبد الرحمن بزي الفقراء، فرسم له بتقبيل الأرض، فأبى فأهوى به إلى الأرض غصباً، وفعل برفاقه كذلك، وسمع كلامهم، أخذ الكتاب الوارد من الملك أحمد على يد الشيخ عبد الرحمن فقرأه، وقاموا بين يديه، فسير لهم الخلع الفاخرة، وتفقدهم، ثم أعلمهم بموت الملك أحمد، ثم أحضرهم مرة أخرى، وكان الشيخ عبد الرحمن قد أحضر هدية حسنة، فقبلت، واستقروا على حالهم، وكان قدوة الملك أحمد ومشيره، وتحكم في دولته تحكماً كبيراً، وتحدث في البلاد والأوقاف جميعها في العجم، وبلاد العراق، والشرق، والروم، وظهر للمغل من كراماته ما أخذ عقولهم، ووصل إلى ماردين في رابع ربيع الآخر، ثم وصل البيرة، وصحبه جماعة مغل وغيرهم يخدمونه ويحملون الخبز على رأسه، والسلحدارية وغيرهم وراءه، فتلقاهم جمال الدين أقوش الفارسي أحد الأمراء بحلب، فمنعهم من الخبز والسلاح، وركنهم في الليل، ومنعهم من الحديث مع أحد، وساق بهم منكباً على الطريق، فعز عليهم ذلك، ووصل بهم حلب في سادس عشرن شوال، وأخفى أمرهم، ثم أخرجهم ليلاً، ووصل بهم دمشق خفية ليلاً، وأنزلوا بدار رضوان بقلعة دمشق، وفصل عنهم غلمانهم إلى أن حضر السلطان من مصر، وجرى ما ذكرناه.
وفيها توفى:
أحمد بن محمد بن منصور أبو العباس ناصر الدين الخزامي المالكي المعروف بابن المنير قاضي الاسكندرية. مولده في ثالث ذى القعدة سنة عشرين وست مائة، وتوفى بالاسكندرية ليلة الخميس مستهل ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، ودفن بتربة والده عند الجامع الغربي رحمه الله. كان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم، وله اليد الطولى في علم الأدب، مجيداً في النظم والنثر. كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان في صدر كتاب:
ليس شمس الضحى كأوصاف شمس ... الدين قاضي القضاة حاشا وكلا
تلك مهما علت محلا تبث ظلا ... وهذا مهما علا مد ظلا
وقال أيضاً يهنئ القاضي زين الدين بن أبي الفرج لما فوض إليه الحكم بالثغر واستنابه:
أذعن الدهر سامعاً ومطيعا ... لك يبدي تذللاً وخضوعا
فاحتكم في ريعان أشهره ... تلبس فيها غصناً وتلقى خليعا
كل يوم لك الهناء حقيق ... لا تراعى من الهلال طلوعا
ولنا إذ نلنا بدولتك العز ... وعشنا عيشاً هنيئاً وسيعا
واتخذنا شهر الولاية عيدا ... نمنح النفس منه مرعى مريعا
في ربيع كانت ودانت فلا تبرح أيامنا لديك ربيعا
وقال يهجوه لما نازعه الحكم:
قل لمن يبتغي المناصب بالجهل تنحى عنها لمن هو أعلم
إن يكن في ربيع وليت يوماً ... فعليك القضاء أمسى محرم
وقال وكتب بها في صدر كتاب إلى الفائزين يسأله رفيع التصقيع عن الثغر:
إذا اعتل الزمان فمنك يرجو ... بنو الأيام عاقبة الشفاء
وإن ينزل بساحتهم قضاء ... فأنت اللطف في ذاك القضاء
وله تصانيف مفيدة في الأدب، وغيرها من العلوم الاسلامية، وله ديوان كبير، وخطب مشهورة، فمنها خطبة خطب بها يوم الجمعة خامس عشر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وست مائة، والعدو المخذول قد ملك الشام بأسره: " الحمد لله الذي يرحم العيون إذا دمعت. والقلوب إذا خشعت. والنفوس إذا اتضعت. والعزائم إذا اجتمعت. والموجود إذا الأسباب انقطعت. والمقصود إذا الأبواب امتنعت. اللطيف إذا صدمت الخطوب وصدعت. رب أقضية نزلت بما تقدمت حتى جاءت ألطاف دفعت. فسبحان من وسعت رحمته كل شيء. وحق لها إذا وسعت. وسعت إلى طاعته السموات والأرض حين قال: " ائتيا طوعاً أو كرهاً " فأطاعت وسمعت. أحمده بصفات بهرت. وأشكره على نعم بطنت وظهرت. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عن اليقين صدرت. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه والفتنة قد احتدت. والحاجة قد اشتدت. ويد الضلال قد امتدت. وظلمات الظلم قد اسودت. والجاهلية قد أخذت نهايتها. وبلغت غايتها. وحربت أحزانها. وهديت إحسانها. ونسيت أديانها. وجحدت ديانها. فجاء الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فملك عنانها. وكبت أعيانها. وظهرت آياته في الجبابرة، فأهلكت فرسانها. وفي القياصرة، فنكست صلبانها. وفي الأكاسرة، فصدعت أيوانها. وأوضح على يده محجة الحنيفية وأبانها. صلى الله عليه وعلى آله فروع الأصل الطيب فما أكرم الشجرة وأغصانها. وعلى أصحابه ومن حوى الحوزة وصانها. صلاة إذا أفضت صحيفة الحسنات كانت عنوانها. أيها الناس! خافوا الله تأمنوا من ضمان وعده الوفي. ولا تخافوا الخلق وإن كثروا، فإن الخوف من الخلق شرك خفي، ألا وإنه من خاف الله خاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. وشأن أخي الدنيا أن يخاف عليها الذهاب. ولابد من أن يذهب كالفئ، وإنما يخاف عز الربوبية. من عرف نفسه ذل العبودية. واثنان لا يجتمعان في القلب، ولا تنعقد عليهما النية، فاختاروا لأنفسهم إما الله، وإما هذه الدنيا الدنية. فمن كانت الدنيا أكبر همته، لم يزل مهموماً. ومن كانت زهرتها نصب عينه، لم يزل مهزوماً. ومن كانت حدتها غاية وجده، ولم يزل معدماً حتى يصير معدوماً. فالله! الله! عباد الله! الاعتبار! الاعتبار! وأنتم السعداء إذا وعظتم بالاعتبار. أصلحوا ما أفسد، فإن الفساد مقدمة الدمار. إتقوا الله وأصلحوا تفلحوا. وأسلموا تسلموا. وصمموا على التوبة قبل أن لا ينفع أن تصمموا. فما أشقى من عقد التوبة بعد هذه العبر تم حلها. ألا وإن ذنباً بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها " .
كان الشيخ ناصر الدين المذكور إماماً عالماً فاضلاً خيراً متقناً، جامعاً للعلوم الاسلامية: التفسير وعلومه، والحديث وعلومه، وأصول الفقه، والدين، والنحو، واللغة، والمعاني، والبيان، مستقلاً بالأدب نظماً ونثراً؛ صنف التصانيف الدالة على غزارة علمه، منها: الرد على الكشاف للزمخشري، وبين خطابه في اعتزاله والاجوبة عن شبهه وإبطالها لم يصنف مثله وكان أحد تلاميذ الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع كونه مالكي المذهب، لازم الشيخ وقرأ عليه هذه العلوم كلها، وأتقنها، وكان الشيخ يقول عنه في أيامه ما معناه: أنه يمت به لكونه تلميذه، لأنه لم يكن مجموعه في زمانه في غيره، وكان بحراً لا يجاريه أحد في مناظرة، وله الصيت المشهور بسعة العلم وإتقانه رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو العباس محي الدين الأنصاري الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً بارعاً، متضلعاً في الفقه، وله مشاركة في غيره، وكان ديناً صالحاً ناسكاً سالكاً مسلك والده قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ في الصلابة في الدين والتحرز، ولما باشر والده الحكم ثانياً طلبه لنيابته، فعاقه عن ذلك ما جرت عليه من الأمور المشهورة، وكانت له صورة كبيرة عند القضاة والأعيان مشكوراً في فضيلته، وسمته، ودينه، ولما توفى والده قد ولاه خزانة الكتب بالمدرسة الأشرفية، فسلك فيها من الأمانة، والصيانة، والضبط، والتحرز ما لا يسلكه غيره بحيث أنه أعار منها نسخة لكتاب الصادح والباغم، جزء لطيف ما يسوى خمسة دراهم لشخص، فعدم فألزمته باستكتاب نسخة به، وأوقفها في الخزانة عوضها، وبالخزانة لهذا الكتاب قريب عشر نسخ، وكان كثير التحرز في ذلك والتشديد لم يفرط في شيء منها، وحصل بطريق لها ضبط عظيم، ولم يتولها مثله، لا قبله ولا بعده، ولا عمل أحد فيها ما عمل من الصيانة، وعدم إضاعة شيء منها، ولما توفى أخذ قاضي القضاة بهاء الدين الكلاسة، وولاها لأخيه كمال الدين عبد الرحمن، واستمر أخوه محي الدين في الدماغية والعمادية، وناب عنهم فيها الشيخ زين الدين الفارقي بغير معلوم إلى أن تأهل القاضي بدر الدين محمد ولد قاضي القضاة عز الدين، وذكر الدرس فيها بنفسه وحضر عنده شيخه الشيخ تاج الدين والأعيان، وكان يوماً مشهوداً. وكانت وفاة محي الدين المذكور ليلة الأربعاء ثامن رجب، ودفن يوم الأربعاء بالجبل إلى جنب والده رحمهما الله تعالى.
أحمد بن هولاكو بن قاآن بن جنكز خان ملك التتار. كان ملكاً شهماً خبيراً بأمور الرعايا، سالكاً أحسن المسالك، متبعاً دين الاسلام، لا يصدر عنه إلا ما يوافق الشريعة النبوية صلوات الله وسلامه على صاحبها وانقياده إليها، واعتماده عليها في جميع حركاته بطريق الشيخ عبد الرحمن فإنه كان قد أقبل عليه، وانقاد إليه، وامتثل ما يأمره به، فكان يأمره بمصالحة المسلمين والدخول في طاعتهم، والعمل على مراضيهم، وأن يكونوا كلهم شيء واحدا، ولم يزل به على ذلك إلى أن أجاب إلى مصالحة الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله فكتب على يد الشيخ عبد الرحمن كتباً بديعة دالة على دخوله في الاسلام، واتباعه أوامر الله تعالى في الحلال والحرام، وتوجه بها الشيخ عبد الرحمن، فلما وصل الشام بلغه خبر وفاة الملك أحمد، فبطل ما كان جاء بسببه وما كان أسسه، لكن وقع أجرهما على الله تعالى، وبقي الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى مدة يسيرة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. ولما مات ابغا، وقع الاختلاف فيمن يقعد في التخت، فتعصب جماعة لأحمد المشار إليه، واسمه الحقيقي تكدار، واسم أمه قو خاتون نصرانية، واتفقوا على إقعاده في تخت الملك، وما هان على بعض المغل قعود أحمد لأنه ادعى أنه مسلم، فحضر أخوه قنقرطاى، وقال لأرغون: إن ابغا شرط في الباسه أنه إذا مات ملك ما يقعد عوضه إلا الأكبر من أولاده، وقد رتبنا أحمد، ومن خالف يموت، فأطاعوه وسروا إلى الألجية لاحضار الملوك ليكتبوا خطوطهم بالارتضاء بملك أحمد، ولما جرى ذلك تحدثوا فيما بينهم في أن قدرتهم قد ضعفت، ورجالهم قتلت، وأن المسلمين كلما راحوا.... وأنه لا حيلة في هذا الوقت أتم من إظهار الاسلام، والتقرب إلى مراضي مولانا السلطان، واكتفاء بأسه بذلك، وسير في سبب ذلك رسل إلى الملك المنصور سيف الدين قلاوون يلتمس الصلح، وكان بين الملك رحمه الله وبين أرغون بن بغا عداوة شديدة، فسير أحمد عسكر نحو أرغون مقدار أحد عشر ألف فارس، وقدم عليهم على نياق أحد خواصه، فقصدوا أرغون، ونزلوا قريباً منه، فركب أرغون، وكبسهم، فقتل منهم ألفي فارس، وبلغ الملك أحمد، فركب في أربعين ألف فارس، وقصد جهة خراسان، فالتقى هو وأرغون، فقتل من عسكر أرغون أكثر من النصف، وضربت البشائر في بلاد العجم، وأمسك خمسة من الأمراء من المصاف وقررهم، فاعترفوا أن أرغون طلب العبور إلى ايلخان، فمنعه جماعة من أصحاب الملك أحمد، ومنعوه من الدخول في طاعة أحمد، فأمسك اثني عشر أميراً من كبراء المغل، وقيدهم، فعند ذلك قام المغل عليه، وجاهروه، فهرب، ثم أخذ، وأحضر إلى أرغون، فقتله، واستبد أرغون بالملك، وقيل في كيفية قتله غير ذلك والله أعلم.
الحسين بن عبد الرحمن بن هبة الله أبو محمد قطب الدين ابن المشترى رحمه الله. كان دمث الأخلااق، كثير الاحتمال، حسن العشرة والمحاضرة، له معرفة بالتاريخ، وإلمام بالأدب، ووالده الصاحب فلك الدين شهرته تغنى عن شرح حاله، ووالدته ابنة شيخ الشيخوخ تاج الدين ابن حمويه رحمه الله وكان قطب الدين المذكور قد خدم جندياً، وبقي على ذلك مدة، ثم ترك ذلك، وانتقل إلى بعلبك في أوائل سنة ثمان وخمسين، واستوطنها، وترك الجندية، ولبس البقيار، وخدم في ديوان بعلبك مدة سنين، ثم انتقل إلى مشارقة الضواحي في آخر عمره إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى، وكان منذ قدم بعلبك إلى أن توفى شيخ الخانكاة النجمية، وتوفى في العشر الآخر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وست مائة، وهو في عشر الخمسين تقريباً، ودفن بباب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى.
طالب بن عبدان بن فضائل الرفاعي، المقيم بقصر حجاج في زاويته المشهورة. كان من أصحاب الزوايا، والناس يترددون إليه، وكان رجلاً مباركاً. توفى بزاويته يوم الخميس سادس عشر صفر رحمه الله تعالى. قال أخي رحمه الله حدثني الشيخ طالب البطائحي قال: نزلت مع الشيخ موفق الدين رحمه الله من الجبل، فذهب نحو ميدان الحصاء، ودخل بعض الخانات، فصعد، ودخل بعض بيوت الخان، وتذاكرا نحو ساعة، فقال له الشيخ الموفق: يا شيخ أبا بكر! ما أحسنكم وأحسن طريقكم، لولا حضور السماع! فقال له الشيخ أبو بكر: وأي شيء في سماعنا مما ينكر؟ فدعا الشيخ أبو بكر بفقير عنده، وقال: أنشد شيئاً ليسمع الشيخ موفق الدين ويرى؛ فأنشد الفقير أبياتاً، فحصل للشيخ موفق الدين طيبة، ودمعت عيناه، فلما رأى ذلك الشيخ أبو بكر، أنشد:
إن أنكرت أهل الشريعة كلها ... أمر السماع فإنني لمحله
أو أغمدوا بسيف سنة أحمد ... إني ببدعة حبكم سأسله
والله لو سمحت عليك بنظرة ... لتزعزعت أركان جسمك كله
فصار الشيخ موفق الدين يبكي، ويقول: أي والله، لو سمحوا على بنظرة، ويردد ذلك كله. خذا مضمون ما حكاه الشيخ طالب لأخي رحمه الله.
عبد الرحمن بن عبد الله رسول الملك أحمد بن هولاكو. حدثني الشيخ عبد الله الموصلي المتصوف، وكان ممن قدم معه، وله خبرة بحاله، أن المذكور كان من مماليك الخليفة المستعصم بالله رحمه الله، وكان يسمى قراجاً، فلما ملك التتر بغداد وتلك البلاد، تزهد، وتسمى بعبد الرحمن، واتصل بالملك أحمد بن هولاكو، وعظم شأنه لديه، وحصل له من المكانة عنده ما يقصر عنه الوصف بحيث كان الملك يحضر إلى زيارته، وإذا شاهده من بعد ترجل، فإذا وصل إليه قبل يده، وقعد بين يديه، وامتثل جميع ما يشير به، وكان معظم ما يصدر من الملك أحمد من الأفعال الجميلة، والمبالغة في الميل إلى المسلمين بطريقه، وأشار إليه أن يتفق مع الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، ويجتمع كلمتهم، فندبه لذلك، وسير في خدمته جماعة كثيرة من المغل والأعيان من أهل الموصل، وماردين وغيرهما، من صدور تلك البلاد، فحضر إلى دمشق في العشر الأوسط من ذى الحجة سنة اثنتين وثمانين وست مائة، وأقام هو و من معه في دار رضوان بقلعة دمشق، ورتب لهم من الاقامات ما لا مزيد عليه، وبولغ في إكرامهم، وخدمتهم بكل طريق، وقدم السلطان الملك المنصور إلى الشام في هذه السنة أعني ثلاث وثمانين وست مائة، ومن أعظم أسباب قدومه الاجتماع به، وأبرام ما قدم بسببه، فبلغ الملك المنصور عند وصوله إلى الشام أن الملك أحمد قتل، وتملك بعده أرغون بن أبغا بن هولاكو، فاستحضر الشيخ عبد الرحمن بقلعة دمشق ليلاً، واجتمع به، وسمع رسالته، ووعاها ثم أخبره بما اتصل به من قتل الملك أحمد مرسله، وعرفه أن رسالته انتقض حكمها بوفاة صاحبها، ثم أن الملك المنصور قضى إربه من سفرته تلك، وعاد إلى الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن ومن معه بقلعة دمشق في مكانهم، لكن اختصر شيء كثير مما كان يحضر إليهم، ورتب لهم قدر الكفاية التامة، فلما كان يوم الجمعة ثامن عشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين، توفى الشيخ عبد الرحمن المذكور رحمه الله تعالى بقلعة دمشق، فجهز وغسل بعد أن وقف عليه الأمير حسام الدين نائب السلطنة وغيره من الأعيان، ودفن بعد العصر بمقابر الصوفية، وقد نيف على الستين سنة من العمر، وبقى من معه على حالهم، وتطاول بهم الاعتقال، وأهمل جانبهم بالكلية، وضاق بهم الحال في المطعم والملبس، وكان معظمهم من أهل الموصل، فعمل النجم يحيى شعراً في معناهم، وبعث به إلى الأمير حسام الدين نائب السلطنة:
يا قاطع البيداء يرتقب الغنى ... ها قد بلغت مطالب النعماء
هذا المقام المولوى العادلي ... العالمي... ملك الأمراء
قبل لديه الأرض تعظيماً وبلغه رسائل ساكني الحدباء
واجأر إليه وناده متضرعاً ... ومذكراً يا كاشف الغماء
الله قد أعطاك فضل عناية ... عقلاً وتبصرة وفرط ذكاء
أحباك تأييداً ونور بصيرة ... وسياسة مقرونة بحياء
أولى بسجنك أن يحيط ويصطفى ... مبيد الملوك وأفخر العظماء
ما قدر فراش وحداد ... وتغاط خربند إلى سقاء
خدموا رسولاً ما لهم علم بما ... يخفى وما يندى من الأشياء
بل رغبة في نيل ما يتصدق السلطان من كرم وفيض عطاء
ويؤملون فواضلاً تأتيه من ... لحم وفواكه ومن حلواء
حاشاه أن يغشى حماة معشر ... قصدوه للاحسان والنعماء
نفروا من الكفار والتحوا إلى ... الاسلام واتبعوا سبيل نجاء
فيقابلون بطول سجن دائماً ... ويحشرون مجاعة وعناء
أخبارهم مقطوعة فكأنهم ... موتى وهم في صورة الأحياء
إن الذي منهم تولى كبره ... ولى وزال توهم الغوغاء
إن كان خيراً قد مضى أو كان ... شراً قد أمنت عواقب الأسواء
وإذا قطعت الرأس من نسر فلا ... تبخل بما يبقى من الأعضاء
هلا مننت عليهم بسراحهم ... يجزيك رب العرش خير جزاء
والله أعلم بالسرائر طالما ... أخذ البرئ بتهمة الأعداء
فلما عرضت هذه الأبيات إلى الأمير حسام الدين طالعه في أمرهم، وأطلق معظمهم، وبقى في الاعتقال نفرين أو ثلاثة، قيل: إن صاحب ماردين أشار بإبقائهم لأمر نقمه عليهم. وأما هذا الشيخ عبد الرحمن رحمه الله فكانت مقاصده جميلة، وظاهره وباطنه منصرف إلى نصرة الاسلام، واجتماع الكلمة على أعداء الدين، وكان له عدة سفرات إلى الحجاز والشام والديار المصرية، ولما تلقى إلى البلاد الفراتية وأحضر إلى حلب ثم إلى دمشق فكانوا يسيرون به في الليل، ويعرجون عن الطرق، فقال لهم: أنا قد سافرت في هذه الطريق عدة سفرات، ولعلي أخبر بها بكثير من الناس، وكانت منيته رحمه الله مقاربة لمنية صاحبه رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد ابن منصور بن أحمد البارزى أبو محمد نجم الدين الجهنى الشافعي. وله بحماة سنة ثمان وست مائة، واشتغل بالعلوم الشرعية، والأدبية، والكلامية، والحكمية، وصنف في كثير من ذلك، وروى الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله عن جماعة، منهم: الحافظ ضياء الدين موسى بن سيدنا محي الدين عبد القادر الجبلي رضي الله عنهما بدمشق، والشيخ عبد الرحمن بن رواحة بحماة، والشيخ عبد المنعم بن الدقاق الدمشقي وغيرهم؛ وحدث وسمع منه الظاهري وغيره، وتولى القضاء الدمشقي وغيرهم؛ وحدث وسمع منه الظاهري وغيره، وتولى القضاء بحماة نيابة عن والده رحمه الله، وقد تقدم ذكر والده، ثم اشتغل بعد وفاة والده، ولم يأخذ على القضاء رزقاً، وصرف عن الحكم قبل وفاته بسنين يسيرة، وكان شديداً في أحكامه، موفقاً في نقضه وإبرامه، وافر الديانة، حسن الاعتقاد في الفقراء والصالحين، وقصد الحجاز الشريف في سنة ثلاث وثمانين وست مائة، فأدركته منيته في طريق مكة شرفها الله تعالى ليلة الخميس بعد عشاء الآخرة عاشر ذى القعدة بعد نزولهم من تبوك بفلاة تعرف بالديسة، وغسل، وكفن، وصلى عليه، وحمل إلى المدينة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ودفن بالبقيع بين قبة سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبة العباس رضي الله تعالى عنه، ضحى يوم الخميس الرابع والعشرين من ذى القعدة، وكان رجلاً فاضلاً، معروفاً بالديانة والعلم، وله يد طولى في النظم، فمن شعره ما اعتذر به عن زيارة قادم، يقول:
قدمتم فجاء الناس يسعون نحوكم ... وما عندهم لاعج الشوق ما عندي
فنكبت عنهم لا لأني مقصر ... ولكن لكي أحضر بخدمتكم وحدي
قال: وكتبت بها إلى الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة رحمه الله:
خدمتك في الشباب وها مشيبي ... أكاد أحل منه اليوم رمسا
فراع لخدمتي عهداً قديماً ... وما بالعهد من قدم فينسى
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وكم محنة لله في طي محنة ... وبالعكس لو أن امرأ يتيقظ
ومن قبل الأيام خيراً يعظنه ... بما قلت والأيام بالدهر توعظ
وقال أيضاً رحمه الله:
إذا شمت من تلقاء أرضكم برقا ... فلا أضلعي تهدأ ولا أدمعي ترقا
وإن ناح البان ورق حمائم ... سحيرا فنوحي في الدجى علم الوقا
وحقكم ما كان حبي تخلقاً ... فأسلوكم بل كان حبي لكم حقا
فرقوا لقلب في ضرام غرامه ... حريق وأجفان بأدمعها غرقا
سميري من سعد خذا نحو أرضهم ... يميناً ولا تستبعدا نحوها الطرقا
وعوجا على أفق يوشح شيحه ... بطيب الشذى المكى أكرم به أفقا
فإن به المغنى الذي يبرأ به ... وذكراه يستسقى لقلبي ويسترقا
ومن دونه عرب يرون نفوس من ... يلوذ بمغناهم حلالاً لهم طلقا
بأيديهم بيض بها الموت احمر ... وسم لذا هيجانهم يحمل الرزقا
وقولا محب بالشام غدا لقا ... لفرقة قلب بالحجاز غدا ملقا
تعلقكم في عنفوان شبابه ... ولم يسل عن ذاك الغرام وقد أبقا
وكان يمنى النفس بالقرب فاغتدى ... بلا أمل إذ لا يؤمل أن يبقا
عليكم سلام الله أما ودادكم ... فباق وأما العهد عنكم فما أبقى
وإن أنتما استنشقتما طيب طيبه ... تضوع كعرق المسك احكمته سحقا
وعاينتما قبر النبي الذي غدا ... لفرط سناه الغرب بالنور والشرقا
فقولا فلان فوق ما تعهدونه ... غراماً بكم ما حبه لكم مذقا
رفيقكم مملوككم عبد ودكم ... فصارا مناه تديموا له الرقا
ولا تعتقوه إن إرقاقكم له ... يؤمل من نار الجحيم به عتقا
يعود ندى القبر الذي قد حواكم ... إذا ما الجاهل السعادة أن يشقى
ووالده مع ولده وأبوهم ... محبك كل فاز بالعروة الوثقى
وقائلها كم رام نظماً فصده ... جلالك حتى ما يطيق به نطقا
أينطق مخلوق بمدحك بعد ما ... أتى منه في القرآن ما يعجز الخلقا
عليك صلاة الله تبرى فإنها ... إلى جنة المأوى لقائلها مرقا
أيا سيد العرب الكرام ومن ... غدت سيادتهم للناس كلهم حقا
أجرني فإني قد أحاطت بساحتي ... ذنوب لاثقال الرواسي عدت طبقا
والغرب عادات أجار بهم لمن ... إليهم على خوف مقاليده ألقى
إذا كنت في قلبي مقيماً وكنت لي ... غدا شافعاً حاشاي في النار ازلقا
فرفقاً بعبد ما تعود خفضكم ... وما زال في عليا إحسانكم يرقا
وخيرا له خيرا كما اعتاد منكم ... ولطفاً به لطفاً ورفقاً به رفقا
الهى على حب بشرع محمد ... أبو بكر الصديق قاتل من عقا
وسماه عمر الفاروق لم يبق ملبسا ... وأظهر بين الحق والباطل فرقا
وسماه في القرآن فنزل وحيه ... بصاحبه فخراً وسماه بالانقا
كذا عمر الفاروق لم يبقى ملبسا ... وأظهر بين الحق والباطل فرقا
بسطوته في نصرة الحق جاهداً ... غدا كل جبار بمد له العنقا
فيا صاحبيه يا ضجيعيه أنتما ... وسيلة من يرجوه المنزل الأتقى
سلا خير مسحوب فريد عنائه ... بمن لم تزايله سهام الهوى رشقا
وعثمان ذو النورين بالمصحف اعتنى ... فأتققنه خطا وأودعه رقا
وفاق على من بعدهم كل صاحب ... وتربيتهم فضلاً كبير بهم سبقا
أدين بهذا والذي بخلافه ... يدين فلا حقا يراه ولا صدقا
فسقيا ورعيا للذي يبصر الهدى ... وسحقاً لمن يعمى بصيرته سحقا
ومشهدها عنى أعان تفضلاً ... بحسن أداء فالثواب له حقا
قال وأنشد قصيدة لبهاء الدين زهير المقدم ذكره، مطلعها:
رسول الرضى أهلاً ... وسهلاً ومرحبا
فعمل رحمه الله:
وكان الرضى منى إليه ولم يكن ... رسول فأخشى أن يتم ويكذبا
وناديت أهلاً بالحبيب ولم أقل ... رسول الرضى أهلاً وسهلاً ومرحبا
وقال أيضاً رحمه الله:
رسائل لو حلت على حسن فسحها ... بصنعاء استغنت بها عن برودها
ولو سمعتها الغانيات لروعت ... وما أمنت إلا بلمس عقودها
وقال أيضاً بعد فتح حصن الأكراد وحصن عكار:
ولما عبدا الأكراد خبث بقعة ... وعكار إذ عم الأنام بلاهما
حللت بها حلة ثم حلة ... فطاف بهذا الواديان كلاهما
وقال لما قدم مجير الدين محمد بن تميم من الحجاز الشريف:
أتى ابن تميم السامى بفضل ... تصرف في الحقيقة والمجاز
حويت فصاحة الصنفين لما ... حججت بني تميم والحجاز
عبد الرحيم بن سعد بن أبي المواهب بن سعد أبو حمد زين الدين البعلبكي. كان فقيهاً عالماً ديناً خيراً، حسن العشرة، يحاضر بالحكايات، والأشعار، والنوادر، وسافر إلى بلاد متعددة، وسمع الكثير من الحديث، ثم استوطن بعلبك، وتوفى ببعلبك يوم الجمعة سادس جمادى الأولى، وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
.... بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم أبو نصر الجزيري الشافعي جمال الدين المعروف بابن العجمية الحاكم بالجزيرة العمرية. كان فاضلاً، حسن الطريقة، كثير المكارم، له حدة كثيرة يقتضى ثلاثين ألف دينار، وكان بينه وبين شخص يقال له القرقوى نسبة إلى أمه خاتون، وقال لها القاضي جمال الدين: سم ولدك عند عبوره إلى الجزيرة في الاقامة التي سيرها له؛ فصدقته، وأحضرت القاضي المذكور إليها، وقتلته بيدها ذبحاً، وسيرت إلى نوابها ببلد الجزيرة تأمرهم بالقبض على أولاده، وحريمه، وقتلهم عن آخرهم حتى كلابهم وقطاطهم، فذهبت أرواحهم وأموالهم، ثم عاد، انعكس الأمر على القرقوى، وحصل له من رافعه، وأخذوه نواب التتر، فقتلوه هو وأولاده وأتباعه أعظم مما فعلوه بالقاضي، وما ربك بظلام للعبيد. روى للقاضي منامات حسنة مبشرة بكل خير، ومن شعره قصيدة أطال فيها النفس يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها:
يا ساكني ربع قلبي لأعدمتكم ... صبري وحقكم من بعدكم أبق
محبكم ليس ينساكم وبقلقة ... تذكاركم وهو من فرط الأسى قلق
لا يستطيع اعتماضاً بعد بعدكم ... فالعين ساهرة والغمض مفترق
من أبيات رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن إسماعيل بن أبي بكر بن شاذى أبو محمد الملك السعيد فتح الدين بن الملك الصالح عماد الدين بن الملك العادل سيف الدين. كان من أعيان أولاد الملوك وأماثلهم، له الحرمة الوافرة، والمكانة الرفيعة، وكان حسن العشرة، دمث الأخلاق، وافر الحشمة، عنده رياسة، وتعدد، ومكارم أخلاق، وتأنق فيما يعانيه من المآكل والملابس وغير ذلك، وتوفى ليلة الاثنين ثالث شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وثمانين وست مائة، ودفن عند جدته أم والده بتربتها داخل مدينة دمشق، وهو في عشر الخمسين. روى عن ابن اللتى، ومكرم بن أبي الصقر وغيرهما، وحدث رحمه الله تعالى بموطأ يحيى بن بكير عن مالك وغيره، ومولده تقريباً سنة ثلاثين وست مائة، وصنف كتاباً في المآكل وألوانها رحمه الله تعالى.
عطاء ملك بن محمد علاء الدين الجويني، صاحب الديوان ببغداد والبلاد الشرقية. كان إماماً عالماً فاضلاً، فقيهاً حنفياً، متبحراً في العلوم. نقالاً لمذهب أبي حنيفة رحمه الله، يعرف العربية، واللغة، والمعاني، وله استقلال بفن الأدب مع الرياسة العظيمة والوجاهة التامة، وله الأمر والنهي على سائر المملكة، يتصرف في الأموال والأقطاعات وغير ذلك، والناس يتردد إلى بابه وخدمته، ويحضر مجلسه فضلاء بغداد وغيرها، ويجازيهم في العلوم، ويبالغ في الاحسان إليهم، ويمد لهم السماطات الهائلة، وله أموال كثيرة، وآلات نفيسة، وكتب عظيمة، وكان مسكنه آخر وقت في دار الدوادار الصغير على الجسر الجديد، وله يد في النظم والنثر، وكان بين يديه من أمكانات الفضلاء جماعة كثيرة، وتفضلات على سائر الناس، ومكارم أخلاق، وطلاقة وجه، لا يعسف أحداً ولا يظلمه، والناس في أيامه كأيام الخلفاء، وأهل بغداد وغيرها عاكفون على محبته والدعاء له، وعمل في جامع الكوفة بركة عظيمة، ينزل إليها بدرج، وعمل مشهد على رضوان الله عليه رباطاً مزخرفاً، وساق إليه المياه العظيمة من النهر الذي حفره من الفرات مبدأه من الأنبار، وأوصله إلى المشهد، وعمر عليه نحو مائة وخمسين قرية. وغرم عليه من الأموال ما لا يحصى، وحصل بذلك للناس رفق عظيم، فإنهم كانوا يردون الماء قبل عمله من مسافة بعيدة كالصالحية من دمشق، وأبعد، وزرع على هذه المياه النخيل العظيمة، والبساتين، والكروم، والبقول، وكانت أولاً كأرض الحجاز، وكانت سيرته من أحسن السير وأجملها. وأعدلها بالرعية، وأنصفها للمظلوم. عمر البلاد جميعها، وأسقط عن المزارعين مغارم كثيرة كانت من زمن الخلفاء. وكان أخوه الصاحب شمس الدين وزير البلاد في خدمة الملك حيث كان، وكان من صدور الاسلام، وله الكلمة النافذة والأمر المطاع، إماماً عالماً فقيهاً في مذهب الشافعي رحمة الله عليه وكانت جوائزهما للعلماء المائة دينار فما فوقها إلى الألف. وكان قد عيد أبغا بن هولاكو بالعراق، وحضر علاء الدين، وشمس الدين أخوه إلى بغداد، فأحصيت الجوائز، والانعامات، والوظائف للعلماء والشعراء، وأرباب البيوت، فكانت فوق الألف جائزة. وكان كل فاضل يصنف كتاباً، وينسبه إليهما يكون جائزته ألف دينار، وأجازوا للشيخ شمس الدين بن الصقيل الجزرى ألف دينار على تصنيفه خمسين مقامة فضولها على مقامات الحريرى. وكان لهما حسن الظن في الفقراء والصالحين، وكذلك الأشراف. وكانت لهما عناية عظيمة بأوامر الشريعة. مدح بعض الشعراء لعلاء الدين صاحب الديوان بقصيدة أحسن نظمها، وأكثر فيها المعاني، والجناس اللفظي، والخطي، ثم شرع يمت بقصيدته، ويقول: لم يمدح في هذه الملة الاسلامية أحد بمثلها، ثم قال: أليس هذا أحسن من " قل أيها الكافرون " ؟ فلما سمع علاء الدين منه ذلك، أمر غلمانه أن يأخذه بصورة أن يخلع عليه، فإذا خرج به ضرب عنقه، وأحضر رأسه إلى السماط، ففعل ذلك، ثم أنه شرع يعظم النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وقال: ما لكل مبتدع عندي إلا قتله. وكان في زمن هولاكو فما برح الصاحب علاء الدين أخو شمس الدين يعمل عليه حتى قتله. وكان قد قدم مجد الملك من ناحية العجم إلى بغداد قبل توجه العسكر المخذول صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى الشام سنة ثمانين وست مائة بنحو من شهرين، فأخذ صاحب الديوان علاء الدين عطاء ملك بن الصاحب بهاء الدين الجويني، وغسله وعاقبه، فقال صاحب الديوان في ذلك:
لا تيأسن لما جرى فالخير فيه لعله ... قد كان عبداً آبقاً يعصى الاله فغله
فلما عاد العسكر مكسوراً، حمل صاحب الديوان في صحبتهم إلى همذان، وهناك مات أبغا بن هولاكو، وأخوه منكوتمر، فولى الأمر الملك أحمد باتفاق من صاحب الديوان علاء الدين، وأخيه الصاحب شمس الدين محمد ابن محمد الجوينى، فبعد أشهر يسيرة دون السنة هلك أحمد، وولى أرغون ابن أبغا، وطلب صاحبي الديوان؛ فاختفيا عنه، وتوفى علاء الدين بعد أشهر من ذلك مختفياً، وطلب شمس الدين، فأخذ له أماناً من أرغون وأحضر عنده فغدر به، وقتله بعد موت أخيه بمدة يسيرة، وكان لهذا شمس الدين ولدان رؤساء، لهم مكارم، واحتفال بالوظائف التي يعملوها. والناس على أبوابهم وهم في سعة صدورهم والاحسان الوافر، وإذا عملوا دعوة غرموا عليها الألوف، ودعوا إليها كل فقير وغني، ولم يكن مثلهم في رياستهم. فلما قتل أبوهم، فوض أمر العراق إلى جماعة مشركين، وهم: سعد الدين العجمي، ومجد الدين بن الأثير، والأمير المعروف بشكسان. فتعلق أحد أولاد شمس الدين المذكور الذي قتل وهو الأمير هارون على ارق وزير أرغون، وصاحب حساب العراق؛ فلما كان بعد سنة. حضر الجماعة عند الوزير ارق في منزلهم من تبريز، وعمل حسابهم، وأوجب عليهم القتل، وفعل ذلك بهم، وطلب كى خاتو أخو أرغون، وهو الذي كان قاتل مجد الدين بن الأثير، لأنه كان متعلقاً به. فاعتذر ارق إليه بأن هارون هو الذي فعل ذلك بالجماعة، وقتلهم، فأوجب الحال قتل هارون وأولاده مع صغارهم، ومن كان عمره دون التمييز فقتلوا كلهم. واتفق علاء الدين صاحب الديوان سعادات عظيمة، ونزلت به أمور عظيمة سلمه الله منها. فمن ذلك أنه كان معه ببغداد شحنة من تحت يده يعمل ما يأمره به، يقال له الطرغيا، وحديث الأموال، والمناصب، والأمر، والنهي في البلاد كلها راجع إلى علاء الدين، والشحنة ليس له من الأمر إلا إذا حضر بخدمة علاء الدين في دار العدل، ووجب قتل أحد شرعا أمر بقتله فامتثل، أو بتأديبه فأدبه، لا أمر له سوى ذلك. فحسد علاء الدين على ما هو فيه من إنفاذ الكلمة، والاستقلال بالمملكة، ورام أخذ موضعه بمكيدة يعملها في حقه. فكتب على لسان علاء الدين كتاباً إلى الملك المنصور قلاوون يذكر فيه ذلك مناصحة له، وأنه ليحضر هو أو أحد عسكره ليملكه البلاد، وما يناسب هذا الكلام ليدل على مواطأته. وسير الكتاب مع شخص يتوجه به إلى الشام، ويغير به في طريقه على جماعة من المغل ليأخذوه إذا رأوه. فلما توجه إلى ذلك المكان، وجده الفراغون، فأمسكوه وقالوا له: أيش معك؟ وقرروه، فقر أنه رسول صاحب الديوان إلى ملك مصر، فأحضروه إلى بغداد إلى الشحنة الذي كان أرسله، فأعطاه ألف دينار على توجهه به، فقرروه، وأخذ الكتاب منه، وجهزوه مع الفراغون إلى الملك أبغا، فطلب علاء الدين مقيداً مغلغلاً، وكان أخوه شمس الدين عند أبغا وزيره، فعندما بلغه الخبر، أرسل غلمانه من طريق أقرب من طريق الرسل الواصلين بإحضار أخيه بكتاب يقول فيه: يا أخي! يدك في الكتاب، ورجلك في الركاب، وتطوى المنازل، وكان لم يبرح عنده في الدهليز فرس مشدود، فمجرد ما وصله الكتاب، ركب ودخلوا البريدية الواصلين بسببه فلم يجدوه، وساق الليل والنهار إلى أن وصل إلى أبغا، وسأل المحاقة على ما قيل عنه، وطلب الرسول بالكتاب، وحاقه وسأله من غير ضرب، فقر على الشحنة، وأنه أعطاه ألف دينار على تأدية الكتاب إلى ذلك المكان الذي أمسكوه فيه، فرسم له بالبلاد على عادته، وتضاعف شكره، وخلع عليه، وتسلم الشحنة إليه، وحكموه في البلاد أكثر مما كان، وأما الذي حمل الكتاب المزور، فأخذه، وعاد به إلى بغداد، وتنوع في عذابه وصلبه وسمله، ودور به البلد، ثم أرمى بعد ذلك في الدجلة، وكتب إلى أهل بغداد كتاباً يقول فيه بعد البسملة: " إن لله تعالى ألطافاً خفية، يرى صورتها حسنة، يحسبها الجاهل بجهله نقمة، فإذا انتهت ونمت، عرف أنها نعمة " ؛ وما هذا معناه. وعاد إلى بغداد، فاحتفلوا بدخوله احتفالاً عظيماً، وزين البلد، وعملت المغاني في الشوارع، والقباب المزينة. وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، ولما استقر بها وحضر الفضلاء لتهنئته، أنشدهم لنفسه مما عمله في هذه الواقعة أبياتاً خمسها، بعد أن نظم مصاريعها، وهي هذه:
ألا يا صاحبي لا تخش أمراً ... قليل الخطب سوف يعود فجرا
أقول وقد تقلت الدهر خبراً ... لأن نظر الزمان إليك شزرا
فلا تك ضيفاً من ذاك صدرا
فكيف ينال ما يختار مني ... عدو والاله يرد عني
فلا تحزن علي بما يعنى ... وكن بالله ذا ثقة لأني
أرى آيته في ذا الأمر سرا
فما أنا من يخاف من اغتيالي ... ويخشى من تصاريف الليالي
ألا قل للمعادي والمواي ... رماني إذ رماني لا أبالي
فقد مارسته عسراً ويسرا
أأجزع من حوادثه إذا ما ... قصدت إلى وفوقت السماما
وقد لامسته نوباً عظاما ... وقد صاحبته ستين عاما
مضين وذقته حلو ومرا
قطعت قفاره أقصى وأدنى ... وجئت بقاعه خوفاً وأمنى
وكم عاينته فرحاً وحزنا ... وسلكت فجاجه سهلاً وحزنا
وخضت بحاره مداً وجزرا
أرحبه لكي يرتاح بالي ... فأتعب خاطري وأحل حالي
بحالي ذى اغتيال واحتبال ... رأيت الدهر لا يبقى بحال
يريك الوجه ثم يريك ظهرا
فما أنا من صروف الدهر شكا ... وإن لاقيت بعد الرحب ضنكا
ولا أخشى من البأساء فتكا ... وإن وجدت ريح الموت وجها
لقد عرفته سراً وجهرا
ومن شعره:
أحبابنا لو درى قلبي بأنكم ... تدرون ما أنا فيه لذ لي تعبي
وإن أيسر ما ألقاه من ألم ... أنى أموت وما تدري الأحبة بي
وكانت وفته في سنة ثلاث وثمانين مختفياً رحمه الله تعالى.
عيسى بن مهنا أبو مهنا الأمير شرف الدين أمير آل فضل العرب في وقته، والمشار إليه منهم. كان له منزلة عظيمة عند الملك الظاهر، ثم تضاعفت عند الملك المنصور سيف الدين قلاوون بحيث ضاعف حرمته وأقطاعه، وملكه مدينة تدمر بعقد البيع والشراء، وأورد عنه لبيت المال ليأمن غائلة ذلك فيما بعد، وكان المشار إليه كريم الأخلاق، حسن الجوار، مكفوف الشر، مبذول الخير، لم يكن في العرب وملوكها من يضاهيه، وعنده ديانة، وصدق لهجة، لا يسلك مسالك العرب في النهب وغيره، ولما توفى أقر الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله ولده الأمير حسام الدين مهنا على إمرته وأقطاعه وزاده، وضاعف حرمته، وبسطته، وكان بين وفاته ووفاة الأمير أحمد بن حجي دون السنة، وكان بينهما من المنافسة ما يكون بين النظراء، فكان أجلهما متقارب، وصلى على عيسى رحمه الله بجامع دمشق بالنية يوم الجمعة تاسع ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله عماد الدين الأنصاري المعروف بابن الشيرجى. من أعيان الدمشقيين، وأكابرهم، وعدولهم، وذوى الثروة والوجاهة والرياسة فيهم، وهو ناظر أوقاف ست الشام بدمشق المدرستين والخانقاة. سمع الكثير، وحدث، وبيته مشهور بالرياسة والتقدم. وكان عماد الدين موصوفاً بالخير، والديانة، وكثرة التواضع، وكرم الأخلاق، وحسن العشرة، والموادة، ولى عدة ولايات جليلة آخرها نظر الخزانة بدمشق. وتوفى ليلة الثلاثاء سادس ربيع الأول هذه السنة ببستانه، ودفن يوم الثلاثاء بتربتهم في مقابر باب الصغير. ومولده سنة ثلاث عشرة وست مائة.
محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المفاخر عز الدين الأنصاري الشافعي المعروف بابن الصائغ. لازم الاشتغال من صغره على جماعة من الفقهاء، ثم لازم القاضي كمال الدين عمر التفليسي رحمه الله وانتفع به، وتنبه عليه، وصار يعد في أعيان الفقهاء، وأكابرهم، وأشرك بينه وبين القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن نعمة المقدسي رحمه الله تعالى في المدرسة الشامية بعد فصول، ثم استقل بها شمس الدين، لما حضر الصاحب بهاء الدين رحمه الله إلى الشام في سنة تسع وستين، وولاه وكالة بيت المال المعمور بالشام، ورفع من قدره، فباشر ذلك مدة يسيرة، ثم ولاه قضاء القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله تعالى فباشر الأحكام الشرعية، وسلك الطرق المرضية، واجتهد على تمييز الأوقاف من حفظ أموال الأيتام، وأوقاف الأشراف، وتصدى لذلك، وطار صيته وحمدت طريقته، لولا ما كان يعانيه من التوبيخ، والمحاقة، وكشف العورات، وإطراح الأكابر، فمقته الناس لذلك، وكثرت الشكوى منه بسببه. وتغير عليه الصاحب بهاء الدين رحمه الله ولم يمكنه عزله لأنه كان أطنب في شكره عند الملك الظاهر رحمه الله عزله، وأعاد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فكانت ولايته سبع سنين، فسر معظم الناس بعزله، واقتصر على تدريس العذراوية، وأظن مدرسة أخرى. وكان صرفه عن الحكم في أول سنة سبع وسبعين، واستمر معزولاً إلى حيث تسلطن الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وحضر إلى دمشق سنة ثمانين وست مائة، فأعاده إلى الحكم لأسباب اقتضت ذلك. فباشر في أول السنة المذكورة، وعاد إلى سجيته وما كان يعانيه من الغض من الناس، وكشف عوراتهم، وذكر مساويهم. فحصل التضافر عليه والسعي فيه، فاعتقل في شهر رجب سنة اثنتين وثمانين بقلعة دمشق، وصرف وولى مكانه قاضي القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكي رحمه الله ولزم بيته وحصل له سوء مزاج، وتخليط في كلامه، ولم يزل ذلك يتزايد إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى في يوم الأحد تاسع ربيع الآخر ببستانه، ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون في التربة المعروفة به، وقد نيف على الخمسين سنة رحمه الله بعد أن صلى عليه مراراً، ولم يتخلف عنه أحد من المشهورين، وختم له بأنواع الصالحات، منها: موته خاملاً غير متول، ومنها: النكبة التي نكبها وحبس عليها شهراً ظلماً، وعدواناً، ومنها: مرضه الطويل حتى اضمحل، ولم يبق عليه من اللحم شيء، وآخر ما ختم له به أنه يوم مات توضأ بنفسه لصلاة العصر، وقال: هللوا معي، فهللوا، وخرجت روحه مع آخر التهليلات، فكان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ فنرجوا له الجنة للحديث في ذلك. وتولى عوضه في المدرسة العذارية زين الدين وكيل بيت المال، وذكر الدرس يوم الأحد سادس عشر الشهر، وعوض ولده محي الدين أحمد بالعمادية، وزاوية الكلاسة، وذكر بها الدرس يوم الأربعاء تاسع عشره. روى الحديث عن ابن اللتى، والسخارى، وابن الجميزى، وابن خليل، وجماعة كثيرة، وكان قد قرأ المحصول بحثاً، والحاصل، والتنبيه، والمفصل للزمخشري، وسافر إلى البلاد في طلب العلم، وحصل علماً كثيراً، وديناً وافراً رحمه الله ومولده سنة تسع وعشرين وست مائة.
محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان أبو عبد الله بهاء الدين البرمكي الشافعي. مولده سنة ثلاث وست مائة، أظن باربل، سافر إلى البلاد، واشتغل بالفقه، وسمع الحديث، وكان رجلاً معدوم النظير في كثير من أوصافه، عنده تواضع مفرط، ولين الكلمة، ورقة القلب، وغزارة الدمعة، وسلامة الصدر، وحسن العقيدة في الفقراء والصالحين، وعدم الالتفات إلى الدنيا والاحتفال بأمرها، ولى الحكم ببعلبك وعملها، وباشر ذلك مدة سنين إلى حين وفاته رحمه الله ولم ينله من جميع ما كان باسمه من الجامكية، والجراية إلا قوته لا غير، ولا يسأل عما عدا ذلك، وأما بشره، وتلقيه بالترحب لمن يحضر عنده، فخارج عن الحد حتى لقد كنت أترك الاجتماع به مع كثرة إيثاري لذلك لما يعاملني به في المبالغة من الاكرام. وتوفى إلى رحمة الله تعالى ولم يترك درهماً ولا ديناراً سوى ثياب بدنه لا غير، وكانت يسيرة جداً، وترك عليه جملة من الدين بيعت كتبه، وفي ما عليه، ودفن في تربة سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني رحمة الله عليه وهو أسن من قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله ومنذ بلغه وفاة أخيه قاضي القضاة شمس الدين حصل له من الحزن ما لا مزيد عليه، ولم يكن دمعه يرقأ في غالب أوقاته، ولازم الحزن والبكاء إلى حيث لحق بهما رحمهما الله تعالى وأسكنهما غرف جنانه فلقد كانا من محاسن الدهر، وكانت وفاة القاضي بهاء الدين محمود المذكور رحمه الله في يوم الأربعاء ثاني عشرين شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وست مائة ببعلبك، ودفن يوم الخميس.
محمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن علي أبو عبد الله بدر الدين التغلبي. كان شاباً فاضلاً، أسمعه قاضي القضاة نجم الدين في صغره على مشايخ وقته، وأحضره على الشيخ تقي الدين بن الصلاح، فسمع منه بعد الأربعين كتاب الفتوى وغيره، ودرس بعد والده بالركنية إلى أن توفى في يوم الاثنين سابع عشرين رجب الفرد، ودفن من يومه بالجبل رحمه الله تعالى.
محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذى أبو المعالي الملك المنصور ناصر الدين ابن الملك المظفر تقي الدين ابن الملك المنصور صاحب حماة والمعرة. تملك حماة وما معها عند وفاة والده في يوم السبت لثمان مضين من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ووالدته الصاحبة غازية خاتون ابنة الملك الكامل بن العادل، ومولده في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وست مائة بقلعة حماة، وعملت عقيقة عظيمة بقلعة حماة في اليوم السابع من مولده، وتقلد الملك بعد وفاة والده، وعمره عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً، وقام بتدبير ملكه الأمير سيف الدين طغريل أستاد دار والده، والمشير في الدولة الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، والطواشي مرشد، والوزير بهاء الدين بن تاج الدين، والجميع يرجعون إلى ما تأمر به الصاحبة غازية خاتون والدته.
محمد بن موسى بن النعمان أبو عبد الله التلمساني، الإمام العالم العارف شمس الدين. شهرته تغني عن الاطناب في ذكره، سمع بالإسكندرية أبا عبد الله عماد الدين الحزاني، وأبا القاسم الصفراوي، وأبا الفضل جعفر الهذاني، وخلقاً يطول ذكرهم، وسمع بمصر أبا الحسن بن الصابوني، وأبا القاسم ابن الطفيل، وأبا الحسن بن المقير، وجماعة سواهم، وحدث. مولده بتلمسان في سنة ست أو سبع وست مئة، وتوفي بمصر ليلة الأحد التاسع من شهر رمضان المعظم هذه السنة، ودفن يوم الأحد بالقرافة الكبري رحمه الله وكان يوماً مشهوداً، وله يد في النظم، فمن ذلك:
أتطمع أن ترى ليلى بعين ... وقد نظرت إلى حسن سواها
سواها لا يروق الطرف حسنا ... وأوصاف الجمال لها حماها
حماها منزل الأحباب قدماً ... وإن كان الجلال لها حماها
أتنظرها بعين بعد عين ... فتلك العين يمنعها قذاها
قذاها إن أردت يزول عنها ... بعين الغير دهرك لا تراها
ترى الحسناء تسفر عن لثام ... سحيق المسك يعبق من شذاها
شذاها عطر الأكوان طيباً ... ونشر الطيب ينفح من ثراها
ثراها للعيون خلا خلاء ... فحسبك لا دوا إلا دواها
سناها يعجر الأوصاف عنه ... وحسب الفكر يقصر لو ثناها
ففخر المرء في دنياه حقا ... برؤية من رأى من قد رآها
فأقسم لا يرى الحسناء إلا ... محب لا يرى إلا هواها
هواها يحجب الأبصار طرا ... عن الكونين لا تبصر سواها
وكانت له مصنفات جليلة مفيدة تدل على إطلاعه، ويذكر ما كان يعانيه من المعارف، منها: كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام. أتى فيه بكل شيء مليح بديع. ومن كلامه: " من قطع بشفرة السكوت لسانه، أسكن الله تعالى الحكمة جنانه. وعمر بطاعته جوارحه وأركانه. ورفع في الدارين قدره وشأنه. ووقاه منهما ما شانه. ونفع به أهله وإخوانه وجيرانه " .
ومن شعره:
تزود أخي التقوى فأنت به تقوى ... فليس يفيد المرء علم بلا تقوى
عليك بها واقبل نصيحة مرشد ... فإن أصول الخير أجمع في التقوى
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إن كنت تقصد صحبة النصاح ... فاطلب حديث القوم في الأصحاح
أصحاب خير العالمين محمد ... رحماء بينهم فشمل صحاح
لا تقبلن سوى نصيحة مؤمن ... تحيا بها والفتح للفتاح
فاصحبهم ولا تصحب سواهم ... قد بان هذا النصح بالإيضاح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
من أحمل النفس في دنياه أحياها ... نعم وروحها حقاً وزكاها
هدى الفلاح لنا قال الإله لنا ... قد خاب والله من في الخير دساها
نصر الله بن محمد بن نصر الله صفي الدين وزير حماة. وليها بعد وفاة أخيه علاء الدين سنة أربع وسبعين وست مائة، وكان حسن المعاملة للناس، لين الكلمة، توفي بحماة سلخ رجب رحمه الله وإيانا.
يوسف بن عبد الله بن عمر أبو يعقوب جمال الدين الزواوي المالكي قاضي القضاة. كان إماماً عالماً فاضلاً، ديناً صالحاً مشتغلاً، كثير الكتب، عاقلاً، عارفاً بالأحكام والأمور، كريماً، ملازماً لبيته، قليل الحكومات والإثبات، يجلس في الجمعة مرة واحدة، وكان ابن عم الشيخ زين الدين الزواوي ناب عنه في الحكم مدة، ثم عزل الشيخ نفسه، فاستمر جمال الدين يحكم مدة سنين بإذن السلطان من غير تولية مستقلة، وكان يداري الشيخ زين الدين، ويخدمه، ويهاديه، ثم سعى لنفسه في الاستقلال، فأجيب إلى ذلك في حياة الشيخ، فاستمر واتفق له حج هذه السنة، فلما كان يوم الخميس ثالث ذي القعدة، توفي وهو راكب في المحارة ذاهباً في الطريق، ودفن بعد نزول الحاج في الفلاة بعد رحلتهم من حفر المعظم، وكان دفنه بعد عشاء الآخرة من ليلة الجمعة رحمه الله تعالى.
السنة الرابعة والثمانون وستمائة
إستهلت هذه السنة، والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية سوى الملك أحمد بن هولاكو، فإنه قتل، وترتب مكانه أرغون بن أبغا، وسوى الملك المنصور صاحب حماة، فإنه توفي في السنة الخالية على ما تقدم، واسنقر عوضه ولده الملك المظفر تقي الدين محمود، والملك سيف الدين قلاوون قد خرج من الديار المصرية إلى الشام، ودخل دمشق يوم السبت ثاني وعشرين من المحرم بالعساكر المصرية، وعرض العسكر الشامي مدة أيام، وخرجوا جميعاً يوم الاثنين ثاني صفر قاصدين المرقب، وكان قد بقي في يد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر قطعة من البلاد، منها: صهبون وبلاطنس وبرزية وغير ذلك، والعمل في الباطن على انتزاع ما يمكن انتزاعه من يده، وإفساد نوابه، فاتفق الحال بين من ببلاطنس من النواب وبين نواب الملك المنصور على تسليم بلاطنس، فسلمت في أول صفر، ووافى الملك المنصور البشري بتسليمها، وهو على عيون القصب متوجه إلى حصار المرقب، فسر بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب، وقد تقدم ذكر ما فعله أهل المرقب بالعسكر النازل لهم، فأثر ذلك في نفس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وحضر بنية قصدهم، فلما كان في مستهل صفر، خرج من دمشق بالعساكر المنصورة لقصده، وتقدمته المجانيق، ونازل الحصن المذكور يوم الأربعاء العاشر منه، وشرع العسكر في عمل الستائر للمجانيق، فلما انتهت الستارة للمجانيق المقابل لباب الحصن، سقطت إلى بركة كبيرة فيها ماء مجتمع، وكان عليها جماعة كبيرة من أصحاب الأمير علم الدين الدواداري، منهم: شمس الدين سنقر أستاذ داره، وعدة من مماليكه، فاستشهدوا رحمهم الله تعالى.
وفي يوم الأحد رابع عشرة، راسل الفرنج من بيت الأسبتار، وسألوا السلطان الأمان لأهل المرقب على أنفسهم وأموالهم، ويسلمون الحصن المذكور، فلم يجبهم السلطان في ذلك، وكمل نصب المجانيق، ورمى بها، وشعث الحصن، وهدم معظم أحد أبراجه، واستمر الحال إلى سادس عشر ربيع الأول، زحف السلطان على الحصن، فأذعن من فيه بالتسليم، وحصلت المراسلة في معنى ذلك، فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور سلم ورفعت عليه الأعلام الإسلامية، ونزل من به بالأمان على أرواحهم، فركبوا، وجهز معهم من أوصلهم إلى أنطرسوس. وبالقرب من هذا الحصن مرقية، وهي بلدة صغيرة على البحر، وكان صاحبها قد بنى في البحر برجاً عظيماً لا يرام، ولا يصله النشاب، ولا حجر المنجنيق، وحصنه، واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان يطلب مراضيه، فاقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيراً من الجبليين الذين كانوا مع صاحب جبيل، فأحضر من بقي في قيد الحياة منهم، واعتذر عن البرج أنه ليس له، فلم يقبل اعتذاره عن ذلك، وصمم على طلبه منه، فقيل: إنه اشتراه من صاحبه بعدة قرى وذهب كثير، وهدمه، وحصل الاستيلاء في هذه الغزوة على المرقب، وأعماله، ومن فيه، وبليناس؛ وهذا المرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة، وهو كبير جداً، ولم يفتحه السلطان الشهيد صلاح الدين رحمه الله بل ادخره الله تعالى للملك المنصور رحمه الله فحاز أجره وشكره، ولو لم يكن من ضرورة إلا ما فعل أهله بالمسلمين في شهور هذه السنة لكفى، وضرره لا يحد، وأبقاه الملك المنصور، ورم ما تشعث منه، واستناب فيه، ورتب أحواله، وهو لبيت الأسبتار، وأنشئت الكتب بالبشائر بفتحه، فمن ذلك كتاب من السلطان إلى ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير تغمده الله برحمته ومن إنشائه وهو: " أعز الله نصرة جناب العالي الملكي الأشرفي الصلاحي، ولا زالت جيوشه تفتتح من الممالك حصونها. وتبتذل مضمونها. وتستثمر من العادة غصونها. ويطوى لهم الأرض، فلا يبعد عليهم مرمى، يعملون العزائم المهمة ويصونها. وتحدث ألسنة العالم بنعم الله التي يرونها في أيامه ويروونها. ويقصون أجنحتها بالشكر ويقصونها. تهدى له كل ساعة خبر عن جنوده وما ملكت. وخيوله وما سلكت. وسيوفه وما قتلت. ومهابتها وما أخذت. ومواهبها وما تركت. هذه البشرى تقص عليه من غزوتنا أحسن القصص. وتمثل صورة الفتح التي انتهزنا فرصته، وقلما تنتهز الفرص. وتبدى لعلمه الكريم. أن الهمم بها تنال الممالك. وترتقي المسالك. وتجتني ثمرات النصر. وتطفئ جمرات الغدر. وقلما ظفر بالمراد وأودع. وكل أنف لا يأنف.... فهو أحق الأعضاء أن تجدع. ولم نزل نمثل في أفكارنا الصورة التي أقدم عليها أهل حصن المرقب في مبدأ الأمر عند اضطراب النيات وضعف البنيات. وغرور الآمال الكاذبة. واشتمالات الخيلات الجاذبة. حتى نالوا من عسكرنا بحصن الأكراد ما نالوه، وتخيلوا أن عزمنا قد صرفوه عن قصدهم، أو أمالوه بأخذ أمرهم في الظاهر بالرخصة دون العزيمة، ويعمل على ما لو تمثل لهم صورة لجروا منه ذيل الهزيمة. ويغضون من نواميس المجاورة، ويغضى ويمضون بما يبدو منهم، وتنزل المحاورة وتمضى. ويستر ما يسدده إلى نحورهم من سهم، ويريهم أنا ندفع في صدور الحقيقة بالوهم، ونعرض عن مناقشتهم في الحساب؛ ونمسك عنهم، " وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب " . ومن لم يؤاخذ المشئ بفعله ويعرف مقدار حمله، استدام طعمه. واستقام طلقه، وحركته دواعي الشره للسرة، والحيل السلامة في كل مرة، فلم يزل يتربص لهم ريب المنون، وينزل ما كان منهم في جنب ما يكون، ويرتقب فيهم الوقت المنتظر، ويدب لهم الضراء، وتمشي لهم الحمر إلى أن آن مكان الفرصة، جمعنا لهم بين الشرقة والغصة، فأبعدنا إليهم المدني، واعتدنا مسعانا في طاعة الله عما إذا كانت مساعي الملوك عزماً، ووصلنا المسير بالسرى، وطرقناهم كما يطرق الطيف الكرى، وأوطأنا بهم حوافر الخيل، وجئناهم مجيء السيل، وظللنا عليهم ظلل الغم. وغشيهم منا ما غشى فرعون وجنوده من أليم. مع كون مكانهم قد جمع له منعة البر والبحر. وحل منهم بين السحر والنحر. تحامت قصده الملوك. وحمته الإعادة، فلم تبق الأماني إليه طريق مسلوك. ولم يظفر به ملك من الملوك في الإسلام، ولا طرقته خيلهم في
اليقظة، ولا خيالهم في المنام، يصد الرياح الهوج عند مخافة، ويرجع عند الطرق حسيراً لبعد المسافة بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته، وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب بالخطب، وعسكرنا بحمد الله تعالى مثل البحر ذا طما. والغيث إذا هما. والطود إذا سما. والليث إذا حمى. قد ملأ الفجاج. واستعذب الأجاج. وقاسمهم الرياج. فأعطاهم الأسنة، وأبقى له الزجاج. يتعرض أبطاله المنايا، ولو كانت عرضاً، ويقول كل منهم " وعجلت إليك رب لترضى " . فلم يزل القتال ينوبهم. وسهام المنون تصيبهم. وسحابها يصوبهم. والسيوف تغمد في الطلى. والرماح تركف في الكلى. والمجانيق تدلك سورتهم، وتسلك فورتهم بنجومها. وتصميهم برجومها. ونقذفهم من كل جانب دحوراً. ونعيد كل منهم مذموماً مدحوراً. وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسلم وببنانهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. إلى أن فتحناها، ولله الحمد عنوة. وحللنا مكايدهم فيها عقدة عقدة، ونقضنا عروة عروة. وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت بنودها. وذلت لها علوج الكفر وكنودها. والسيف من دمائهم يقطر. والصليب جريان ينظر. والأذان مكان الناقوس. والقراء موضع القسوس. والكنيسة قد عادت محراباً. والجنة قد فتحت للمجاهدين، فكانت أبواباً. وكنا نود أن الولد معنا في هذه المشاهد. وأن ينظرها بعين المشاهد. ونرجو أن يكون ممن يستكين المرقد. وإن لم يحضر هذه الغزوة فيتأهب للأخرى. فكان قذفاً لهمم تجعل ثمار النصر دانية القطوف، والسعيد من لا يستظل إلا بسيفه، فإن الجنة تحت ظلال السيوف " . ولا خيالهم في المنام، يصد الرياح الهوج عند مخافة، ويرجع عند الطرق حسيراً لبعد المسافة بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته، وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب بالخطب، وعسكرنا بحمد الله تعالى مثل البحر ذا طما. والغيث إذا هما. والطود إذا سما. والليث إذا حمى. قد ملأ الفجاج. واستعذب الأجاج. وقاسمهم الرياج. فأعطاهم الأسنة، وأبقى له الزجاج. يتعرض أبطاله المنايا، ولو كانت عرضاً، ويقول كل منهم " وعجلت إليك رب لترضى " . فلم يزل القتال ينوبهم. وسهام المنون تصيبهم. وسحابها يصوبهم. والسيوف تغمد في الطلى. والرماح تركف في الكلى. والمجانيق تدلك سورتهم، وتسلك فورتهم بنجومها. وتصميهم برجومها. ونقذفهم من كل جانب دحوراً. ونعيد كل منهم مذموماً مدحوراً. وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسلم وببنانهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. إلى أن فتحناها، ولله الحمد عنوة. وحللنا مكايدهم فيها عقدة عقدة، ونقضنا عروة عروة. وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت بنودها. وذلت لها علوج الكفر وكنودها. والسيف من دمائهم يقطر. والصليب جريان ينظر. والأذان مكان الناقوس. والقراء موضع القسوس. والكنيسة قد عادت محراباً. والجنة قد فتحت للمجاهدين، فكانت أبواباً. وكنا نود أن الولد معنا في هذه المشاهد. وأن ينظرها بعين المشاهد. ونرجو أن يكون ممن يستكين المرقد. وإن لم يحضر هذه الغزوة فيتأهب للأخرى. فكان قذفاً لهمم تجعل ثمار النصر دانية القطوف، والسعيد من لا يستظل إلا بسيفه، فإن الجنة تحت ظلال السيوف " .
وكتب المولى تاج الدين رحمه الله عن السلطان رحمه الله في المعنى إلى الأمير علم الدين الشجاعي يقول:
" إذ أمر الله بهائي المجلس العلمي، وأحل البشائر بساحته. وسره باستيلائنا على كل ثغر واستباحته. وأسمعه من أنبائنا الجميلة ما يعجز عن التعبير عنه لسان القلم على فصاحته. ولا زال مهنأ بأيامنا التي تؤرخ بالفتوح. وتنجد في مواقف الحرب بالملائكة والروح. وتختص بالمدح دون كل ممدوح. وترى ما يطوى بجيوشنا من الأرض، ولا يبعد عليها مكان به طروح. قد علم المجلس حركتنا إلى الشام، وإنا أنشأناها عجالاً، وجئنا بها على البديهة، فلو كانت قصيدة لأنشدناها ارتجالاً. وكانت مباديها توجد بأطراف الأنامل. ومناديها يعود بحينة الأمل. ومهامها متلقاة بالهمم القاصرة، وعزائمنا فيها كلها توقدت جمراتها، صادفت نيات إن لم تكن باردة فهي قارة، وإذا مر ذكرها بمن له غرض أو في قلبه مرض ظن الظنون. وخيل له أن أمرها لا يتم، وسرعتها لا تكون. ونحن نوسع للجهال حلماً. ونزداد بعواقب التدبير علماً. وكان الباعث عليها أمور مهمة. ومرأى تستفرغ قوى الأفكار المستجمة. وكل وقت نصعد النظر ونصوبه. ونتصفح وجه الرأي ونقلبه. ونرتاد جهات القصد التي كان منها منشأ المفاسد. وبها لشياطين النفاق نفاق، وكل سوق كاسد. فلما أخذت الأناة مآخذها ونفدت الآراء منها منافذها. وتمحضت زبدة الحلب. وأسفر وجه الطلب، ولم يبقى إلا أن تزم الركائب وترى الكتائب وتشرع الاسنة وتبدو ضمائر النفوس المستكنة، أخلصنا النية لله عز وجل في نصرة الإسلام. وتقاضينا ديونه على الأنام. وجعلنا منهم مقدماً على ما عداه. وصممنا على جهاد من نازعه رداء ملكه وعاداه. تركنا حظ النفس بمعزل. وكان في عزمنا أن نرتاد منزلاً، فعرجنا على ذلك المنزل، وقلنا: يا خيل الله! اركبي. ويا ملائكة النصر! اصحبي. ويا أقلام البشرى! اكتبي. وصلنا إلى الشام في جنود تقبل مثل قطع الليل، وتندفع اندفاع السيل. وكلما مررنا بمملكة سالت بجموعنا أوديتها. وغصت بعساكرنا أنديتها. وانضم إلينا جنودها. وخفقت علينا بنودها، ولم نزل نطوي المراحل. ونتجاوز الخصب والماحل. إلى أن نزلنا بعيون القصب من عمل حمص، فوافاها البشير بما كان من أمر بلاطنس التي تقدمت بها البشرى. وفنيت فيها عضد من كان بها قد استطار شرر طعمه واستسرى. ولم تزل بعد السير. وتود لو استعرنا أجنحة الطير. إلى أن وافينا المرقب، وهي المقصد ومناخ ركائب العزم الذي هو لها مرصد، فكانت محط رحالنا. وإليها مطارح آمالنا. وأصحابها الذين بدأوا بالسنان، وقعقعوا لنا بالشنآن. وامتدت لهم الأيدي والألسنة، وجعلوا السيئة مكان الحسنة. وطمعوا بالبلاد وارتجاعها، وارتادوا موارد الحرب على بعد أشجاعها. واستلانوا من عسكر حصن الأكراد جانباً ظنوا به الغلب. وفعلوا أمراً عادوا منه بسوء منقلب. وصاروا يتكلمون من رؤوس ملأى من الجهل. ويأخذون في الحزن إذا أخذتهم إلى السهل. ونحن نعمل على الأمر الذي يلف العماء، ويعيرهم أذناً سميعة، لا أذناً صماً. ونرتاد منهم أمكنة الفرص، ونوحي لهم جمالة القنص. فلما رجمتهم الظنون. وتمحضت لهم المنون. وثبنا لهم وثبة الليث المغضب. وأوردناهم بأسيافنا " ماء " لا ينزح قليبه ولا ينضب. وما وردنا حتى قامت جيوش الجو على ساق، وجاءت بعوث الغمائم من الآفاق. ورشقت سهام السحائب. وتغلغت ريح الصبا والحبائب. وجفت الرعود بجنودها. وجردت البروق بيضها من غمودها. والقطر يرسل الحجارة إلا أنها من برد البحر إذا مرت به الريح صار كأنه درع موصونة الزرد، فنزلناها ونازلناها. وأمطنا حجب المهابة وأزلناها، وأحدقنا بها إحداق السوار وأحطنا بها. كما يحيط باليد السوار، وكانوا يغترون بمنعهم، ويعتزون بما يحرى من سيل قلعتهم، ويعتقدون أن المعتصم بمكانهم واثق بأن يمس السماء بكفه، ويرى النجم دونه إذا لمحه بطرفه، فلم تزل تعاديهم الفتك وتراوحهم، وتماشيهم الحرب وتصاحيهم، وترسل إليهم رسل المنايا، وتوقر سهامهم إلا أنها من الحبايا، ونرميهم بعذاب واصب، ونكلهم إلى هم ناصب، والمنجنيقات تفوق إليهم سهامها قسيها وتخيل لهم أنها تسعى إليهم حبالها وعصيها، وهي الحصون من ألد الخصوم، وإذا أمت معصماً، حكم أنه ليس بإمام معصوم، ومتى افترى خلق في آلات الفتوح لم يكن أحد من الممترين، وإذا نزلت بساحة قوم فساء صباح المنذرين، تدعي إلى الوغى، فتكلم، وما أقيمت صلاة حرب عند حصن إلا كان ذلك الحصن من يسجد لها، ويسلم
إلى أن أقوت ربوعهم، وصبت على مثل جمر الغضا ضلوعهم. وأخذناهم أخذاَ وبيلاً، وأوردناهم مهاوي المهالك، وساءت سبيلاً، وخسرت صفقة غدوهم وتراوحهم وتحللت أعقد أجسامهم من أرواحهم، ووجدوا من أنفسهم حداً كليلاً، وجداً عثورا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، وملكناها بالأمان وهو في المعنى بالسيف، وهجمناها هجوم الطيف، وكانت هي الني قد بقيت للأسبتار رحلة شتائهم وصيفهم، فلم يبق لهم رحلة شتاء ولا صيف، وسطرنا هذه البشرى والحرب قد وضعت أوزارها، والنفوس قد قضت منهم أوطارها، والبلاء قد دهم بلادهم وأقطارها، والعلم يبني على العلم، والسيف يملي على القلم، والثغر قد جدد على أيدينا إسلامه، وأبدلنا بعد قطوبه ابتسامه، والدهر لمن عادانا عادى، ولمن ولانا والى، وسيوفنا قد أصبحت مفاتح المعاقل، فإذا ملكناها عادت لها أقفالاً، والبشائر مخترقة الأمصار، والعساكر التي هجرت أوطانها، ونصرة الله قد كتبت من المهاجرين والأنصار " .إلى أن أقوت ربوعهم، وصبت على مثل جمر الغضا ضلوعهم. وأخذناهم أخذاَ وبيلاً، وأوردناهم مهاوي المهالك، وساءت سبيلاً، وخسرت صفقة غدوهم وتراوحهم وتحللت أعقد أجسامهم من أرواحهم، ووجدوا من أنفسهم حداً كليلاً، وجداً عثورا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، وملكناها بالأمان وهو في المعنى بالسيف، وهجمناها هجوم الطيف، وكانت هي الني قد بقيت للأسبتار رحلة شتائهم وصيفهم، فلم يبق لهم رحلة شتاء ولا صيف، وسطرنا هذه البشرى والحرب قد وضعت أوزارها، والنفوس قد قضت منهم أوطارها، والبلاء قد دهم بلادهم وأقطارها، والعلم يبني على العلم، والسيف يملي على القلم، والثغر قد جدد على أيدينا إسلامه، وأبدلنا بعد قطوبه ابتسامه، والدهر لمن عادانا عادى، ولمن ولانا والى، وسيوفنا قد أصبحت مفاتح المعاقل، فإذا ملكناها عادت لها أقفالاً، والبشائر مخترقة الأمصار، والعساكر التي هجرت أوطانها، ونصرة الله قد كتبت من المهاجرين والأنصار " .
وكتب الأمير حسام الدين لاجين رحمه الله نائب السلطنة بالشام إذ ذاك كتاباً إلى الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور رحمهما الله تعالى يهنئه بفتح المرقب، وهو من إنشاء المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج رحمهما الله تعالى من مضمونه:
" لا زالت آيات النصر تتلى على سمعه من صحف البشائر. ونفائس الظفر تجلى على سره في أسعد طالع، وأيمن طائر، وفواتح الفتح تملى لديه بما تزهى به الأسرة، وتزهر بنوره المنابر. ومحكمات التأبيد تنهي إليه بما يحد مثل الدجى عليه سواد المحابر. وينهي أنه سطرها والنصر قد لمعت بوارقه. ونصب بعد النصب على فرق الفرقد سرادقه. والظفر قد أسفر على الفتح المبين صباحه، والتأييد وقد طار به محلق البشائر، فخفق في الخافقين جناحه، والإسلام وقد وطئ هام الكفر بقدمه، والدين وقد عز بفتكات سيفه، فأنف أن يكون الشرك من خدمه، والأفلاك وقد علم أن لهذا الفتح افترقت كواكبها، والأملاك قد نزلت لتشهد أخت النصرة البدرية في صفوفها ومواكبها، وحصن المركب وقد ألفت عليه الملة الإسلامية أشعر سعدها، وأنجزت الأقدار التي ذللته الإسلام أن يتطاول إليه يد الحوادث من بعدها، وقد أحاطت العلوم الشريفة بأن هذا الحصن طالما سحت الأحلام أن تخيل فتحه لمن سلف في المنام، فما حدثت الملوك أنفسها بقصده إلا وتناهى الخجل، ولا خطبته ببذل النفس والنفائس إلا وكانت من روعة الحرمان على وجل، وحوله من الجبال كل شامخ بنهيب عقاب الجو قطع عقابه، ولفف الرياح حسرى دون التوقل في هضابه، ومن الأولى به خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها، ولا تعرف فيه الأهلة إلا بأوصافها، وهو مع ذلك قد تفرط بالنجوم، وتفرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في النجوم، تخال الشمس إذا علت أنها تنتقل في أبراجه، ويظن من سها إلى السها أنه ذبالة في سراجه، فكم ذي جيوش قد أمات بعضه، وذي سطوات أعمل الحيل على رؤيته، فلم يفز من نظره على البعيد بغرضه، ولا يعلوه من الطير سوى نسر الفلك ومرزمه. ولا يرمق متبرجات أبراجه غير عين شمسه، والمقل التي تطرق من أنجمه، وقد نصبت عليه من المجانيق ما سهامه أقتل من سهام الجفون، وخطراته أسرع من لحظات العيون، لا يخاطب إلا بواسطة رسله الصم الصلاب، ولا يرى لسان سهمه إلا كما يرى خطفات البرق إذا تألق في علو السحاب، فنزلت عليه الجيوش المنصورة نزول القضاء، وصدمته بهممها التي تستعير فيها الصوارم سرعة لمضاء وروعة الانتضاء، فنظرت منا حصناً قد رد عليه الجو جيب غمامه، وافتر بعزة، كلما حذر عليه البرق، فاضل لثامه، فذللت صعابه، وسهلت عقابه، وركزت الخبويات في سفحه، وطالما رامت الطير أدناه، فلم يقومها القوادم، وكم همت العواصف أن تبتسم رباه، فأصبحت محلقة تبكي عليها الغمائم، فعاد مصفحاً بصفاحها مشرفا بما علا من أسنة رماحها، وأرسلت إلى أرجائها ما أربى على العمائم، وزاد في لفحه على السمائم. وكان بها مثل الجنوب فأصبحت. ومن حيث القتلى عليها تمائم. ونصبت أمامه المجانيق المنصورة، فلم ترع حق حسبها، وسطت على نظائرها، فأصبح غدها في التحامل أبعد من أمسها، واستنهضها العدى، وأعلمتهم أنها لا تطيق الدفاع عن غيرها، بعد أن عجزت عن نفسها، وبسطت أكفها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها، إما إجابة إلى بذل التشهد، وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخوفوا من ظهور هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق المنصورة فحول لا تثبت لها الإناث التي عريت من النفع بأيديهم، واستعانوا عليهم مع الغرى بطول الحذار، فعند ذلك غدت تكمن كمون الأوساد، ووثبت وثبات الأسود، وتبارى بها الحصن السماء، فكلما قذفت هذه بكواكبها الزهر، قذف هذا بكواكبه السود، ولم يكسر له منجنيق إلا نصبوا عشراً مكانه، ولا قطعت لأحدها إصبع إلا ومد لآخر بنانه، فتطلب بتجارب مثل الكماة، وتتحايل تحايل الرماة، حتى فتحت وفسحت الرحال مجالاً، ونالت ونيل منها، وكذلك الحرب تكون سجالاً، هذا، والنقوب قد دبت في بواطنه دبيب السقام، وتمشت في مفاصله كما يتمشى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أخالعه ناراً تشبه نار الهوى تحرق الاحشاء ولا يبدو لها ضرام فقد أحل من حلة الوجل، وتحققوا حلول الأجل، وأيقن الحصن بالانتظام في سلك ممالك الإسلام، وكاد يرقصه ممن فيه فرط الجدل. وزاد شوقه إلى التشريف بوسمها، وما صبا به مشتاق على أمل اللقاء كمشتاق بلا أمل، لكنهم أظهروا الجلد. وأحفظوا إضرام نار الكمد. وكيف يخفى وقد انحلوا في أشراك إشراكهم، لعلمهم أنه لا مقاض من يد أهل التوحيد لأهل الأحد، وتدفقت إليهم الجيوش المنصورة، فملأت الأفق، وأحاطت بهم إحاطة الطوق
بالعنق، ونهضت إليهم مسندة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاح أرواح العدى على يدها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون. ودارت عليهم رحى المنون. وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون، لمن بها من اللهب تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في نواحيها أنهار الدماء، فهلكوا بالسيف والسيل والنار. ولما ركب مولانا السلطان خلد الله ملكه وسلطانه لأول الزحف في جيوشه الذي كاثرت البحر بأمواجه، وسقت العدى على ربها بالخوف كؤوساً أو من أجاجه. تزلزلت الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف غضبه، فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه، فانحلت وانشقت سماؤه من الجزع، فألقت الأرض ما فيها وتخلت، مشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابل مولانا السلطان خلد الله سلطانه ما شمخ من أبراجه حتى أهوى يلثم بين يديه التراب، وتأدب بآداب الطاعة حين نظرت إليه، فخر راكعاً وأناب. فهاجمهم الجيوش المنصورة مهاجمة الحتوف، وأسرعت المصاف الابتضاء، فلم يدر العدو أهم أم الذي في أيديهم السيوف، فحل بهم الذل ونزل، وخافوا فتكات تلك السيوف التي تسبق العذل، وثبت من لم يجد وراءه مجالاً، وهو يقول: مكره أخوك لا تبطل. فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعد الإيمان، تشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فسألوا أن يكون العفو مولانا السلطان من بعض الصنائع، وتضرعوا في أن يجعل أرواحهم لسيوفه من جملة الودائع، فتصدق عليهم بنفوسهم كرماً، وظلوا على معنى الخير المأثور يرون الموت يقظة، والحياة حلماً، وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الأمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض قبضتها، فمتى يشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرى خوفاً من سيوفه التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والنضر قد يتسنم أعلاها، وشعر الإيمان قد جردها من وحشة لباس الكفر وأعرارها، والأعلام المتصورة قد سلكت إلى ذلك الترقب أعلى ترقي، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد، ومحاريبه قبلة، وكانت شرفاً فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة، فأجرس جرس الحرس به صوت الأذان، وعاد سهماً مسدداً في كنانة الإسلام، ودراً منضداً في عقد المملكة فحسن به فتم النظام، لا يسلك البحر طاغ إلا ويقذفه الموج إليه، لا يختلس أكبر باغ إلا " و " توقعه ضيق مسالكه في يديه، فهو أحسن من إرم، وأوضح من علم، وأنكى في الإصابة على البعد من السهم الذي أصاب وراميه بذي سلم، فيأخذ مولانا حظه من هذا النصر الذي هو إليه وأن بعد منسوب، والفتح الذي عددت الفتوح على كثرتها فهو بجميعها محسوب " .بالعنق، ونهضت إليهم مسندة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاح أرواح العدى على يدها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون. ودارت عليهم رحى المنون. وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون، لمن بها من اللهب تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في نواحيها أنهار الدماء، فهلكوا بالسيف والسيل والنار. ولما ركب مولانا السلطان خلد الله ملكه وسلطانه لأول الزحف في جيوشه الذي كاثرت البحر بأمواجه، وسقت العدى على ربها بالخوف كؤوساً أو من أجاجه. تزلزلت الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف غضبه، فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه، فانحلت وانشقت سماؤه من الجزع، فألقت الأرض ما فيها وتخلت، مشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابل مولانا السلطان خلد الله سلطانه ما شمخ من أبراجه حتى أهوى يلثم بين يديه التراب، وتأدب بآداب الطاعة حين نظرت إليه، فخر راكعاً وأناب. فهاجمهم الجيوش المنصورة مهاجمة الحتوف، وأسرعت المصاف الابتضاء، فلم يدر العدو أهم أم الذي في أيديهم السيوف، فحل بهم الذل ونزل، وخافوا فتكات تلك السيوف التي تسبق العذل، وثبت من لم يجد وراءه مجالاً، وهو يقول: مكره أخوك لا تبطل. فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعد الإيمان، تشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فسألوا أن يكون العفو مولانا السلطان من بعض الصنائع، وتضرعوا في أن يجعل أرواحهم لسيوفه من جملة الودائع، فتصدق عليهم بنفوسهم كرماً، وظلوا على معنى الخير المأثور يرون الموت يقظة، والحياة حلماً، وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الأمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض قبضتها، فمتى يشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرى خوفاً من سيوفه التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والنضر قد يتسنم أعلاها، وشعر الإيمان قد جردها من وحشة لباس الكفر وأعرارها، والأعلام المتصورة قد سلكت إلى ذلك الترقب أعلى ترقي، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد، ومحاريبه قبلة، وكانت شرفاً فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة، فأجرس جرس الحرس به صوت الأذان، وعاد سهماً مسدداً في كنانة الإسلام، ودراً منضداً في عقد المملكة فحسن به فتم النظام، لا يسلك البحر طاغ إلا ويقذفه الموج إليه، لا يختلس أكبر باغ إلا " و " توقعه ضيق مسالكه في يديه، فهو أحسن من إرم، وأوضح من علم، وأنكى في الإصابة على البعد من السهم الذي أصاب وراميه بذي سلم، فيأخذ مولانا حظه من هذا النصر الذي هو إليه وأن بعد منسوب، والفتح الذي عددت الفتوح على كثرتها فهو بجميعها محسوب " .
وكتب المولى كمال الدين أحمد بن العطار عن الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة إذ ذاك بالشام إلى الأمير علم الدين الشجاعي يهنئه بالفتح المذكور، يقول:
" نصر من الله وفتح قريب. يسره الله بعزائم الجناب العالي. لا زالت عزائمه تسهل من النصر مراداً. وهممه تفسح من الفتح مراداً. وسطوته تستأصل من الأعداء مراداً. ومسامعه الكريمة تستعذب معاداً من حديث البشائر إذا كان معاداً معاذاً، قد أحاط العلم الكريم بالحركة المباركة، والنزول على المرقب الذي كم تحته من مربأ زاد علوه على علو الرصد، و " ما " حل أحد بواديه، ورام رؤية الهلال في مغربه، والشمس في مشرقه إلا وصده عما قصد، فما ترى الهلال منه إلا بدار، ولا تشاهد الشمس المنيرة إلا ظهراً، ونازلنا منه القلعة التي مسامت السماء، فزاحمت البروج منها البروج، وحلت الجوزاء لسوارها المحكمة، متى اتصلت بدناءتها بمنازل الكوكب، وما لها من خروج، وإذا رام القطر سقا أهلها، عرج عن قصد النزول، وأخذ في تعاريج العروج، ولربما حاول منازلتها من تقدم من الملوك، فصده عنها قسى الرعود، ونبل الوبل، وأسوار الثلوج، وأرخت السماء عز اليها على جيشه وحال بينهما الموج فكان من المغرقين، والتفت عليها أشجارها فبات من المدبقين، وأصبح من الموبقين وعادت كل من قصد الصعود إليها يمشي على أربع بعد أن كان يمشي على رجلين، وردته عقابه ناكصاً على عقبيه، وكان يحجل في حجلين، فاستدارت عليها جنوباتنا، فشاهدنا منها منطقة البروج، واستجنت بها الجيوش من سهام الجروح، فأبقت كل سريع الخروج عن بدناتها إلى الأبدان سريع الولوج، وقامت المجانيق بسفراء من الحجارة عن السهام، وأشارت إليها بأصابع كفوفها بالانتقال عن ذل الكفر إلى عز الإسلام، وفي أول الحال عجل منجنيق الواحد كسر منجنيقهم الثلاثة، ونقلن من صورة الحال بسرعة، نصر الواحد على من يدين بالثلاثة، ولم تزل مناجيقنا ترقى القلعة بحجارة تطيل محلقة نحوها كالطيور، وتعلو نسور أحجارها طالبة قبة قلتها، والجبال الشاهقة، وكون النسور، فما رميت حجراً إلا أثرتها أثراً، ولا راجعتها ضرباً إلا أسمع وأرى بظاهرها وباطنها ندباً، لكنها على مراجعة الحرب، ومعاودة الضرب، كأنه تضرب من حجارة أسوارها في حديد بارد، وهي وإن لم تكن حديداً، فإنها حجارة حديدة لا تعمل فيها المعاول، ولا تؤثر فيها المبارد إلا أن نوازلها مصيبة فيها نازلة، وأما أشبه سهامها بسهام العيون يقضي بالمنون، ولا تفارق الجفون، أو بالنجوم في الرجوم تصيب وهي بمكانها المعلوم، ودامت ذمة حسناتها مطالبة المحاصرة بما في يدها للملة الإسلامية من الاعتصاب والفرض، والنقابة تعمل من خوارجها في داخل بنيانها عمل الخلد في الأرض حتى أخلد الله الأرض، وتقضت النقوب نظام أساساتها فانحلت، وألقيت النار في أحشائها، فألقت ما فيها وتخلت، هذا، والمجانيق منا ومنهم تارة وتارة، وأكفها ترمي من النفط أصابعها بشرر كالقصر، وقودها الناس والحجارة، إلى أن تمكن الهد من أحد أبراجها، فهدم بناءه المنظم، ولما أراد جداره ينقض، سارع إلى تقبيل الأرض، وبادر إلى الخدمة فسلم، وزحفت عليها الجيوش المنصورة من جوانبها، وأحاطت بها إحاطة الأغماد بقواضبها، وضمتها ضم الأطواق للأعناق، وأطبقت بها إطباق الجفون على الأحداق، إلا أن الله سبحانه وتعالى سهل أمرها، وأول الإسلام كفرها، وسلط المجانيق المسلمة على المجانيق الكافرة، فكفى المؤمنين شرها، فلم يزل كل منها يرميهم بأحجاره. حتى استنزلهم على اختياره. وسألوا الإجارة من الحجارة. وطلبوا الأمان من الإيمان. وأذعنوا بالاستسلام إلى الإسلام. وكتابنا هذا، وقد علت على قلعتها أعلام الإيمان، وصرح بها إعلان الأذان، ورمى بالحرس رجس الحرس، وأذهب ظهر الإيمان منها جرس النجس، واقترب عن فتحها ثغور الأيام، وغدت مغلقة بمسك المداد أصداغ الأقلام، فيأخذ حظه من هذه البشرى التي شرحت للإسلام صدراً، وجددت لكل صباح من تباشيره بشراً، وخلدت لأيام هذه الدولة فخراً، يبدو في صبيحة كل نهار فجراً، وهذا الفتح المبين وإن لم يكن الجناب من حضار حصارها ولا تضمخ درعه بردعه، ولا تمسك ذيله بعثاره، فإنه مجهز جيش كتائبه التي فتح الله على يدها، وأجراها من النضرة على جميل عوائدها، فله أجر الغازي وهو المقيم، والسهم إذ أصاب الغرض فراميه المصيب وهو بمكانه لا يريم " .
وقال المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج بدمشق يذكر فتح المرقب ويذكر قصيدة يمدح السلطان الملك المنصور قلاوون رحمه الله تعالى:
الله أكبر هذا النصر والظفر ... هذا هو الفتح لا ما يزعم السير
هذا الذي كادت الآمال إن طمحت ... إلى الكواكب ترجوه وتنتظر
فانهض وسر واملك الدنيا فقد نحلت ... شوقاً منابرها وارتاحت السرر
كم رام قبلك هذا الحصن من ملك ... فطال عنه وما في باعه قصر
وكيف يمنحه الأيام مملكة ... كانت لدولتك الغراء تدخر
وكيف يسمو إليها من تأخر عن ... إسعاده متحد إلى القدر والقدر
غر العدى منك حلم تحته همم ... لأشقر البرق من تحجيلها عرر
لها وإن اشتهت لطف النسيم سرى ... معنى العواصف لا يبقى ولا يذر
أوردتها المرقب العالي وليس سوى ... ماء المجرة في أرجائها نهر
كأنه وكأن الجو يكنفه ... وهم ويمثله في طيها الفكر
يحتال كالغادة العذراء قد نظمت ... منه مكان الآلي الأنجم الزهر
لها الهلال سوار والسما سنف ... والقلب قلب وسود الدجى طرر
تعلو الرياح إليه كي تحيط به ... خبراً وتدنو وما في ضمنها خبر
ويومض البرق يهفو نحوه لدى ... أدنى رباه ويأتي وهو معتذر
وليس يروي بماء السحب مصعدة ... إليه من فيه إلا وهو منحدر
.... جنود الله تقدمها ... ما شك البدر إلا الخوف والحذر
فاستوطأت حزنه واستقربته ... وكان مكبواً حسيراً دونه البصر
وأضرمت حوله ناراً لها لهب ... من السيوف ومن نبل الوغا شرر
وألجأته سهام الجمته... ... فاغتاله القائلان الخضر والخضر
وأمطرته المجانيق التي نشأت ... ولم يكن قبلها يهمي به المطر
فكان للكسر منها كلما صنعوا ... من جنسها ولا يدري الهم ما عمر
كأنها ومجانيق الفرنج لها ... فرائس أسد أظفارها الظفر
وكم شكا الحصن ما يلقى فما كثرت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر
وللنقوب دبيب في مفاصله ... تثير سقماً ولا يبدو له أثر
أضحى به مثل صب لا يبين به ... نار الهوى وهي في الأحشاء تستعر
فحين أدرك فيه ما غرست به ... منها ولم يبق إلا أن يرى الثمر
ركبت في جندك الأولى إليه ضحى ... والنصر يتلوك منه جندك الأخر
قد زال... تجلى عن قواعده ... وخر أعلاه نحو الأرض يبتذر
وساخ وانكشفت أفتاره وبدا ... لديك من مضمرات النصر ما ستروا
فمال يهوى إليهم كل ليث وغى ... له من البيض ناب والقنا ظفر
كأنهم وهم آساد معركة ... حمر براثنها عنت لها حمر
فاستصرخوا عمري الفتح واعتصموا ... بعفوه ورجاه من له عمر
؟ولاذ بالصفح واستعطى الأمان لهم إحسان يقظان يعفو وهو مقتدر
فجدت حلماً وعلماً أنهم خول ... في جوزة القتل إن غابوا وإن حضروا
ومن غدا وفجاج الأرض قبضته ... فهم وإن أطلقوا منه فقد أسروا
فأبرزوا مثل ربات الحجال إذا ... ما غض أبصارهن الخوف والخفر
وقد علاهم شعار الذعر منك فلو ... حكمت بأسك في الأروح ما شعروا
وأصبح الحصن غلاً في نحورهم ... وعلة ما لهم في وردها صدر
وقد تقلد من أشراف ملكك ما ... به على أنجم الجوزاء يفتخر
رفعت أعلاه إعلاماً معودة ... أن لا يزال بها الإسلام ينتصر
تبدو بها غرر الطلعات طالعة ... فكل ناحية من وجهها قمر
وكسوته عندما جردته حللاً ... من المهابة يعشى دونها النظر
جددت ربع الهوى حتى عدت بدلاً ... فيه من الصور المعبودة السور
إن لم ينوف الورى بالشكر ما فتحت ... يداك فالله والأملاك قد شكروا
ولما كان السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله على حصار المرقب، وردت عليه البشرى بولادة ولده السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد، فمولده في تلك السنة أيده الله تعالى. ودخل الملك المنصور عائداً من المرقب يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، وطلب محيي الدين محمد ابن النحاس، وقلده الوزارة بدمشق والشام، وخلع عليه خلعة كاملة يوم الخميس سادسه، وصرف شرف الدين توبة من الوزارة موقراً، وسافر الملك المنصور إلى الديار المصرية بكرة الاثنين ثامن عشر جمادى الأولى، وسافر تقي الدين توبة إلى القاهرة يوم الأحد حادي عشر رجب، وتوجه شمس الدين الدمشقي إلى حلب حاكماً يوم الخميس حادي عشر شوال، وخرج ركب الحجاز من دمشق يوم السبت تاسع شوال، وأميرهم بدر الدين ابن أبي القاسم.
فصلوفيها توفي: أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الأندلسي الإشبيلي الأصل، المنعوت بزين الدين، المعروف بكتاكت المصري الواعظ المقرئ. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وقيل في مولده غير ذلك، وتوفي بالقاهرة في ليلة الثالث عشر من ربيع الأول هذه السنة أعني سنة أربع وثمانين. كان إماماً في الوعظ، وعنده فضيلة، ومعرفة بالأدب، وله نظم حسن، فمنه:
ظهرت كالشمس لا يقوى لها بصر ... فلا تلم عنك من ولي ولا من نظرا
تزيد تفهمنا حرفاً وتعجمه ... وكيف يقرأه من لا عليك قرا
لكأس طرفك في يمناك بارقة ... تكاد لألاؤها إذ يخطف البصرا
وإن لم تروها فإن الكل قد قنعوا ... عمن سقاك بأن يروى لهم خبرا
وقال أيضاً رحمه الله:
أدارت خمرها الأحداق سراً ... على الأرواح واتصل النعيم
وبتنا واعتبقنا واصطحبنا ... ولم يشعر بوصلنا الجسوم
فها أنا والعروسة تحت ستر ... به ألقاب عفتنا رقوم
وما فهمت بروق الحي عنا ... إشارتنا ولا فطن النسيم
وقال أيضاً رحمه الله:
من أنت محبوبه ما ذا يغيره ... ومن صفوت له ما ذا يكدره
هيهات عنك ملاح الكون يشغلني ... والكل أعراض حسن أنت جوهره
وقال أيضاً رحمه الله:
اكشف البرقع عن بكر العقار ... داخل في ليلك مع شمس النهار
وانهب العيش ودعه ينقضي ... غلطاً ما بين هتك واستتار
وإن تكن شيخ خلاعات الصبي ... فالبس الصبوة في خلع العذار
وارض بالعار وقل قل لذلي ... في هوى خمار كأسي ليس عاري
وقال أيضاً رحمه الله:
حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكل مذ سمعوا خطابك طابوا
فكأنهم في جنة وعليهم ... من خمر حبك طافت الأكواب
يا سالب الألباب يا من حسنه ... لقلوبنا الوهاب والنهاب
القرب منك لم يحبك جنة ... قد زخرفت والبعد عنك عذاب
يا عامراً مني الفؤاد بحبه ... بيت العدول على هواك خراب
أنت الذي ناولتني كأس الهوى ... فإذا سكرت فما عليك عتاب
وتركتني في كل واد هائماً ... وأخذتني مني فأين أصاب
وعلى التقى حزم لعلوه ... آمن من حوله يختطف الألباب
لفريقها كيف الوصل ودونه ... نار لها بحشاشتي إلهاب
وبسمريات القدود على لحمى ... بحمى خيام شرعت وقباب
خاطرت مني بالفؤاد وزرته ... ليلاً ولم يشعر بنا مرتاب
قال: وأنشدني الشيخ سعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي رحمه الله:
حثوا إلى نجد نياق الهوى ... فثم واد حوله معشب
وانتظروا حتى يلوح الحمى ... والعيش فيه طيب طيب
إسماعيل بن إبراهيم بن علي المعروف بالفراء. كان شيخاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً ناسكاً قدوة ذاكراً، له كرامات، وأحوال باهرة، وعلوم ظاهرة، ويعرف اسم الله الأعظم وغيره من الأسماء الجليلة التي انتفع بمعرفتها، ونفع بها، وكان حنبلي المذهب صحيح الاعتقاد. قال أخي رحمه الله: صحبته من سنة إحدى وأربعين وست ومائة من المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها فرأيت منه الكرامات الظاهرة، والأخلاق الطاهرة، والمعاملات الباطنة ما يقصر عنه الوصف، صحب والده رحمه الله من سنة ثمان وثلاثين إلى حين وفاته سنة ثمان وخمسين، وكان وفاة الشيخ إسماعيل المذكور رحمه الله يوم الخميس سابع شهر رجب بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون. وكان مخزومي النسب رحمه الله.
أيدكين بن عبد الله الأمير علاء الدين البندقدار الصالحي النجمي. كان في بداية أمره مملوكاً للأمير جمال الدين موسى بن يغمور، ثم انتقل عنه إلى الملك الصالح نجم الدين، فجعله بندقداره، وأمره، وكان من أكابر الأمراء وأعيانهم، وكان الملك الظاهر مملوكه، وعنه انتقل إلى الملك الصالح لما حبسه، واحتاط على موجوده، ولم يكن الملك الظاهر يعرف قبل السلطنة إلا البندقداري، وكان الملك لظاهر يعظمه، ويحترمه، ويرى له حق التربية، وكان هو يبالغ في خدمة الملك الظاهر، والنصح له، وهو الذي انتزع دمشق وقطعة من الشام من يد الأمير علم الدين الحلبي، وكان عنده حشمة، وحسن ترتيب ما لا مزيد عليه، توفي بالقاهرة في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين، ودفن بتربته قريب بركة الفيل، وقد ناهز السبعين سنة من العمر، وصلى عليه بالنية بجامع دمشق يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى رحمه الله وسبب انتقال الملك الظاهر إلى لملك الصالح أنه لما ملك قلعة عجلون في أواخر سنة ثلاث وأربعين، ترتب فيها الأمير علاء الدين البندقدار بعسكر. فلما استقر بها، تزوج سرية الأمير سيف الدين علي بن قليج النوري من غير مشاورة الملك الصالح فنقم عليه، وأمره أن يخرج من عجلون،ويذهب حيث شاء مالكاً لأمره، فخرج متوجهاً إلى العراق على البرية، فلما بلغ الملك الصالح خبره، ندم، وكتب إلى سعيد بن يزيد أمير آل مراء إذ ذاك يأمره بإدراكه، ورده تحت الحوطة، فلما رده وافى الملك الصالح بعمتا، قد خرج من مصر متوجهاً إلى دمشق في شوال سنة أربع وأربعين، فأمر بالقبض عليه، وأخذ ما كان معه من المماليك وغيرهم، وحبسه بعجلون، وكان فيمن أخذ منه الملك الظاهر، فقدمه على طائفة من الجمدارية، فلما مات الملك الصالح سنة سبع وأربعين، وملك بعد ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على الأمير عز الدين أيبك التركماني، فولوه الأتابكية لأمر جليل؛ ثم ملكوا الملك الأشرف ابن الملك الناصر ابن الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل، وكان صغيراً. وأقروا التركماني على الأتابكية، ثم خطب الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار بنت صاحب حماة، وأجيب، فخشي التركماني إن هو دخل بها عظمت نفسه، وتاقت إلى الملك لقوة شوكته بالبحرية، فقتله يوم الاثنين سادس عشر شعبان سنة اثنتين وخمسين وست مائة.
الحسن بن محمد بن علي بن محمد أبو محمد نجم الدين الأنصاري الدمشقي. خدم الأمير عز الدين أيبك المعظمي رحمه الله صاحب صرخد، ثم الطواشي شهاب الدين رشيد، وتنقل في مباشرة سد الجهات والولايات، وآخر ما ولي قلعة بعلبك ومدينتها بعد وفاة كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله وقدمها مستهل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين، واستمر بها إلى أن استولى على دمشق وما معها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائباً عن الملك المنصور رحمه الله فصرفه، وولى عوضه سعد الدين عمر ابن قليج، فلما اتصل ذلك بالملك المنصور أنكره، وأمر بإعادته فأعاده، واستمر إلى شهر رجب سنة اثنتين وثمانين، وطلب إلى دمشق، وصرف عن الولاية، ورسم عليها أياماً، ثم أفرج عنه، ولزم منزله بدرب الفراش بدمشق إلى أن خرج الملك المنصور رحمه الله لحصار المرقب، فخرج في جملة العساكر، وبعد فتوح المرقب حصل له مرض، وأدركته منيته في أرض القصب من أعمال حمص، ودفن هناك وهو في عشر الثمانين، وكان عنده أمانة وخبرة بالولاية والتصرف، وهو من كبراء رماة البندق، ويحاضر بالحكايات والأشعار والتورايخ، وله حدة، وكان يزعم أن بدر الدين بن نقادة الشاعر المشهور نسيبه من جهة والدته والله أعلم. وكانت وفاته يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، وكان يتهم بمال كثير فلم يظهر له منه شيء، والظاهر أنه خفي والله أعلم. ثم بلغني بعد موته بقريب خمس وعشرين سنة وقد خربت داره أنه كان صبيان يمفرون في الدار فوجدوا شيئاً، واتصل ذلك بالدولة، فسيروا من استقصى في الحفر، فوجدوا مقداراً صالحاً من الذهب والدراهم. وحكى لي نجم الدين حسن المذكور ما معناه أن الملك المعظم عيسى رحمه الله رسم للأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد أن يسير جماعة من حجي بن يزيد أمير آل مراء، فسير جماعة، وكان نجم الدين منهم، قال: فسيرنا في البرية، ومع حجي قداحة، إذا قدحها ينهر منها النار، ومع غيره من العرب وغيرهم قداحات، وهم يقدحون، والناس يتبعونهم، فبينا نحن نسير في أرض محجر، سقطت القداحة من يد حجي فتركها، ورحنا في المهم الذي نحن قاصدوه، وقضينا الشغل، وعدنا، ومررنا بتلك الأرض بالليل، فلما صرنا بالمكان الذي سقطت فيه القداحة، قال حجي: في هذا المطرح سقطت قداحتي؛ وضرب الأرض برمحه، فطنت القداحة. فأسرجنا ضوءاً. ووجدناها، وهذا من غريب الاتفاق.
سعيد بن علي بن سعيد أبو محمد رشيد الدين البصراوي الحنفي مدرس الشبلية. كان إماماً عالماً فاضلاً، كثير الديانة والورع، عرض عليه القضاء غير مرة فامتنع، وله معرفة تامة بالعربية، ويد في النظم، وكانت وفاته في شعبان بمنزلة المجاور للمدرسة الشبلية، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وقيل أنه توفي في ثالث شهر رمضان وصلى عليه بعد العصر بجامع الجبل. قال الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالي أنشدني من لفظه لنفسه في ذي القعدة سنة ثمانين وست مائة:
ألا أيها الساعي على سنن الهوى ... رويدك آمال النفوس غرور
أتدري إذا خان الرحيل وقربت ... مطايا المنايا منك أين تسير
أطعت دواعي اللهو في سكرة الصبا ... أما لك من شيب العذار نذير
كأني بأيام الحياة قد انقضت ... وإن طال هذا العمر فهو قصير
وفاجاك مرتاد الحمام وما لها ... زيارة من لا تشتهيه يزور
وأصبحت مصروع السقام معللاً ... يقولون داء قد ألم يسير
وهيهات بل خطب عظيم وبعده ... عظائم منها الراسيات تمور
ولما تيقنت الرحيل ولم يكن ... لديك على ما قد أتاك نصير
وما لك من زاد وأنت مسافر ... ولا من شفيع والذنوب كثير
بكيت وما يغني البكا على الذي ... جرى وتلافى المتلفات عسير
فبادر وأيام الحياة مقيمة ... وحالك موفور وأنت قدير
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم منه الهداية للحمد
صحيحاً خلقت الجسم مني مسلماً ... ولطفك بي ما زال مذ كنت في المهد
وكنت يتيماً قد أحاط في الردى ... فأويت واستنقذت من كل ما يردي
وهبت لي العقل الذي يصبى به ... إلى كل خير يهتدي صاحب الرشد
ووقفت للإسلام قلبي ومنطقي ... فيا نعمة قد جل موقعها عندي
ولو رمت جهدي أن أحل فضيلة ... فضلت بما لم يمحو أطرافها حدي
ألست الذي أدعوك في كل كربة ... ففرجتها لولاك طارت بها كبدي
ألست الذي أرجو جنابك حيثما ... تخلفني الأهلون وحدي في لحدي
فجد لي بلطف منك يهدي سريرتي ... وقلبي ويهديني إليك من البعد
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا عين سحي دماً وسحي ... غدا تخلين في الضريح
ويصبح النور منك يمحى ... والحسن من وجهك الصبيح
فتمسين والدود سوف يغشى ... سواد إنسانك المليح
يا طول غمى وما تلا في ... صفحة وجهي من الصفيح
كأنني بي وقد أتاني ... رسول ربي ليقبض روحي
ينزعها من يدي حريص ... على موالاتها شحيح
ضاق لخوف الورد صدري ... وساحة النهج الفسيح
وكل من في الورى عليل ... فأين أشكو إلى صحيح
أنطق بخير فسوف تأتي ... صمت على نطقك الفصيح
كل كتاب وما خلقنا ... له سينجاب بالضريح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قل لمن يحذر أن يدركه ... بكتاب الدهر لا يعني عن الحذر
أذهب الحزن اعتقادي أنه ... كل شيء بقضاء وقدر
ليت لا أصبح ليلى إنما ... ينطرق الآفات في وقت السحر
ما لي من يدري يقيناً أنه ... راحل يغفل عن زاد السفر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أرى عناصر طيب العيش أربعة ... ما زال منها فطيب قد زالا
أمناً وصحة جسم لا يخالطها ... معاً نزف الشباب الغض والمالا
وقال أيضاً رحمه الله:
استجري دمعك ما استطعت معيناً ... فعساه يمحو ما جنيت شيئا
أنسيت أيام البطالة والهوى ... أيام كنت لدى الضلال قرينا
وقال أيضاً دو بيت:
أشر عليك اجتهد في فك انحلالك ... لا ترخصن حياتك في أغلالك
واصحب إذا شئت من لا يختفي حالك ... عنه ولازم حبابه ذو نصيحة لك
وقال أيضاً:
يا من يداري وما دارى مرض قلبه ... قد مات قلبك فقل لي كيف تصنع به
أقرن عليه الماثم في دجى نح به ... هذا الشقي المعذور قد قضى نحبه
وقال أيضاً موالياً:
كيف اعتمدت على الدنيا وتجريبك ... أراك فلك تراها كيف تجري بك
ما زالت الخادعة تدنو وتعتري بك ... حتى رمتك بأبعادك وتغريبك
عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن أيوب بن شاذي بن محمد جلال الدين الملك المسعود ابن الملك الصالح عماد الدين أبي الفداء ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. كان من اجمل الناس صورة مع مكارم الأخلاق، جمع بين حسن الصورة والمعنى. وتوفي إلى رحمة الله بقرية بالمرج. وحمل إلى جبل قاسيون، فدفن بتربة عمه الملك الأمجد تقي الدين عباس رحمه الله يوم الأحد خامس وعشرين جمادى الآخرة، وقد نيف على الخمسين من العمر رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة شمس الدين المقدسي الحنبلي. مولده سنة خمس وثلاثين وست مائة، وتوفي بقرية جماعيل من عمل نابلس في يوم الاثنين ثامن وعشرين شعبان، ودفن بها رحمه الله. كان من الفضلاء الصلحاء الأخيار، سمع الكثير، وحدث، وكتب بخطه، وشرع في تأليف كتاب، وجمعه من الأحاديث النبوية مرتباً على أبواب الفقه. ولو تم لكان نافعاً. ورأى بعض الصلحاء بجبل الصالحية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. وقد جاء إلى الجبل فقال له الرائي: يا رسول الله! فيما جئت إلى هنا؟ أو كلاما هذا معناه، فقال: جئنا نقيس عبد الله من نورنا، وكان شيخنا شمس الدين عبد الرحمن رحمة الله عليه يحبه كثيراً. ويفضله على سائر أهله وأولاده، وكان أهلاً لذلك رحمه الله ورضى عنه. فلقد كان من حسنات المقادسة كثير الكرم، والخدمة، والتواضع. والسعي في قضاء حوائج الإخوان والأصحاب.
علي بن بلبان بن عبد الله أبو القاسم علاء الدين الكركي المعروف والده بالناصري. سمع الكثير، وحدث، وتوفي بدمشق ليلة الخميس مستهل شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الصغير، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
عمر بن إسحاق بن وفاء شمس الدين الناصري. كان له اختصاص بالملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وملازمة له في خلواته، وعنده مروءة، ومثابرة على قضاء حوائج من يقصده من لطفه وكرمه وسعة صدره، وبقي بعد انقضاء الدولة الناصرية، وحرمته وافرة، وجانبه مرعى، وأقام بدمشق إلى أن أدركته وفاته بها يوم الاثنين منتصف صفر. وأخرج يوم الثلاثاء إلى الجامع. فصلى عليه، وحمل إلى سفح قاسيون، فدفن بتربته المجاورة لتربة ابن وداعة. والألسن مجمعة على شكره والترحم عليه، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
كافور بن عبد الله أبو المسك شبل الدولة الصوابي الخادم. توفي بقلعة دمشق ليلة الخميس مستهل شهر رمضان، ودفن يوم الخميس، وقد نيف على الثمانين رحمه الله. كان من عقلاء الدينة الأخيار. سمع الحديث، وأسمعه، وتولى عدة ولايات، وكان في آخر عمره قد رتب خزندار بقلعة دمشق، والصوابي نسبة إلى الأمير شمس الدين صواب العادلي الأمير الكبير المشهور رحمه الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن علي بن شداد أبو عبد الله عز الدين الحلبي. مولده بحلب في سادس ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وست مائة. وتوفي بمصر في سابع عشر صفر هذه السنة، ودفن بسفح المقطم. كان رئيساً، حسن المحاضرة، وصنف تاريخاً لحلب، وسيرة الملك الظاهر ركن الدين، وكان من خواص الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد، وترسل عنه إلى هولاكو وغيره من الملوك، واستوطن الديار المصرية بعد أخذ التتار حلب في سنة ثمان وخمسين، وكان له مكانة عند الملك الظاهر ركن الدين، والملك المنصور سيف الدين رحمهما الله تعالى وحرمته وافرة، وله توصل ومداخلة، وعنده بشر كثير، ومسارعة إلى قضاء حاجة من يقصده رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الملقب شرف الدين المعروف بالأخميمي الشيخ المشهور. كان كثير التعبد والاجتهاد، ولكثير من الناس فيه عقيدة حسنة، وبعض الناس ينسبه إلى التصنع، وكان يتحصل له من الأمراء والأكابر جمل كثيرة، وإذا قوبل بقدر يسير لا يقبله، وتوفي بمنزله بسفح قاسيون ليلة الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى غسله الشيخ فخر الدين بن عز القضاة، والشيخ شرف الدين أحمد الفزاري، والشيخ برهان الدين الإسكندري، وصلى عليه الشيخ جمال الدين الشريشي، وحضر جنازته خلق كثير، وكان عليه روح، وسكون، وهيبة رحمه الله تعالى وهو الذي ذكره الشيخ كمال الدين بن طلحة في تصنيفه في علم الحروف من الحروف المفردة غير المكررة في القرآن المجيد، وأن الشيخ محمد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وأنه أوراه دائرة الحروف. قال الشيخ كمال الدين بن طلحة رحمه الله في تصنيف أفرده لذلك: أما بعد، فإنه لما رزقني الله من مبار ألطافه، ورفده مؤاخاة عبد صالح من صلحاء عباده فيه، تحكم له فيه من قلبي منزلة ما وصلت إليه أخوة النسب من قبلها، ولا تصل إليها من بعدها، ونمت بيننا المحبة في الله تعالى وتقدس نمواً بلغت بها نهاية حدها، وأحرزت به اليقين حصل وحدها، ومنح الله جل وعلا كل واحد منا بصاحبه ما ظهرت له به زيادة عبادته، وثبت ذلك عنده بإقرار قلبه وشهادته، وكان كثيراً من مطالبه من ربه تعالى أن يمنحه ما يعرف به الاسم الأعظم، واقتدى بذلك ممن سلف من أئمة الطريق الأقوم، وتكرر لذلك تقلب وجهه في السماء، ورفع يديه إلى الله تعالى بأنواع الدعاء، فبينما هو في بعض خلواته مشتغل بصلواته تحت جلباب حندس الظلماء، إذ كشف له عن لوح شاهده بحيث لا يتطرق إليه شبه الشك ولا ريب الامتراء، فأعرض عنه مشتغلاً بذكر ربه في مقام قربه، فوكزه بدمع صوت يقول له: خذ ما ينتفع به، فأخذه، واستبث ما فيه، فوجده دائرة، وخطوطاً، وأسماء، وحروفاً، وأحاط علماً بصورها دون معانيها، ولم يعلم شيئاً من الأسرار المودعة فيها، فلما سمر الليل ذيل ظلمته، وتنفس الصبح لأسفار أنوار غرته، وقضى الواجب عليه من أداء حق الوقت وفريضته، عشيته غيبة صافحته بها يد سنته، فرأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبي رضوان الله عليه فسلم عليه وقال له: أين اللوح الذي أوتيته؟ فأخرجه فأخذه عليه السلام، فنظر فيه واستعظمه، ثم قال له في معناه: أشياء لم يفهمها ولا يعرف منها سوى كلمة واحدة، فقال: يا أمير المؤمنين! ما فهمت ما قلت لي. فقال له: إن فلاناً يعني الشيخ كمال الدين بن طلحة يشرحه لك إن شاء الله تعالى، فلما علا النهار، حضر عند الشيخ كمال الدين، وعرفه عين الواقعة بصورتها، وتلا عليه آيات صورتها، وخط صورة الدائرة، وما عليها خارجاً وداخلاً عنها وفيها، فوقف عليه تأملها، فرآها من عجائب الأقدار وضعاً. وغرائب الأسرار أصلاً وفزعاً، ونظر في حروفها المرتبة وتراً وشفعاً، وأسمائها المركبة تفرقة وجمعاً. قال الشيخ كمال الدين: فعلمت أنه لا يمكن الوقوف على كنه مقصدها. ولا الوصول إلى جل عقدها، ولا محض أوطان مطالبها باستخراج زبدها إلا بتأييد رباني، وتوفيق إلهي، فرفعت يدي متضرعاً إلى عالم السر والنجوى، وسألته أن يفتح لي رتاج مكنونها، ويمنحني بنتاج مصونها، ويوضح لي منها مخزونها ويشرح صدري باستخراج اسرار مضمونها فأحست نفسي بأنفاس إجابة دعائها، وتضرعها، ونشطت إلى استشراق أنوار الأسرار من مطلعها، فلما لاحت الأنوار، وظهرت الأسرار بأمر مبدئها ومبدعها، وتخبير مرها ومطلعها، علقت هذه الرسالة. قلت: ثم أثبت الشيخ ذكر الدائرة وتخطيطها وصفتها، وصورة ما في وسطها، وما أحاط بها محيطها، وكيفية وضع حروفها وأسمائها وخطوطها، ثم ذكر أنها سر من أسرار الاسم الأعظم، ثم شرع في حل تلك الحروف المفردة وتبيين أسرارها وإظهار معانيها بما يذهل العقل، ولقد حذا في استنباط المعاني من تلك الدائرة ما سلكه الإمام أبو الحكم ابن برجان في تفسير قوله: " وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " وبين تدوير الحروف هناك، وسر البضع في كلام العرب. ثم ذكر أنه إن صح ذلك، فتح البيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، فوقع الأمر كما قال. ومات هو قبل
فتحه في سنة ست وثلاثين وخمس مائة مغرباً عن وطنه بمراكش، فهؤلاء المشايخ الأطهار أطلعهم الله تعالى على أسرار العلوم، وبنى الشيخ كمال الدين أمر الدائرة على سر التوحيد، وبيان عظمة الله تعالى وقدرته، وسير أسرار الحروف بما يشرح الصدور ويسر القلوب، وسمى هذه الرسالة المتضمنة شرح هذه الدائرة " الدر المنظم في شرح الاسم الأعظم " فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه والله تعالى يوفق للصواب.ه في سنة ست وثلاثين وخمس مائة مغرباً عن وطنه بمراكش، فهؤلاء المشايخ الأطهار أطلعهم الله تعالى على أسرار العلوم، وبنى الشيخ كمال الدين أمر الدائرة على سر التوحيد، وبيان عظمة الله تعالى وقدرته، وسير أسرار الحروف بما يشرح الصدور ويسر القلوب، وسمى هذه الرسالة المتضمنة شرح هذه الدائرة " الدر المنظم في شرح الاسم الأعظم " فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه والله تعالى يوفق للصواب.
محمد بن عثمان بن علي أبو عبد الله شرف الدين المعروف بابن الرومي، الشيخ الصالح الزاهد العارف. كان رحمه الله من أكرم الناس كفاً، لا يدخر شيئاً بل مهما فتح الله به ينفقه على الفقراء، وكان كبير النفس، عالي الهمة، كثير التواضع، لطيف الأوصاف، منقطعاً في زاويته بسفح قاسيون، لا يتردد إلى أحد إلا في النادر، ويعمل السماعات، ويصعد إلى الخلق الكثير من الفقراء وغيرهم، فيرقص من أول السماع إلى آخره، ويخلع جميع ثيابه على المغاني، ويرقص عرياناً ليس عليه إلا السراويل، وله الحرمة الوافرة عند الأمراء والملوك، ويحمل إليه من الفتوح شيء كثير، فيخرجه من وقته، وكان حضر حصار المرقب، ثم عاد إلى دمشق، وتوفى إلى رحمة الله تعالى عقيب عوده بأيام، ودفن بزاويته بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وهو في عشر الثمانين، وكانت وفاته ثالثة نهار الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وست مائة. وتوفي والده يوم الجمعة ثامن المحرم سنة ست وثلاثين وست مائة بمدينة حماة، وحمل على أكتاف مريديه، ودفن بزاويته بسفح قاسيون عشية الاثنين حادي عشرة، ودفن ليلاً، وقد جاوز السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الله أبو عبد الله ناصر الدين الحراني الحنبلي. ولي دمشق بعد وفاة والده رحمهما الله وأضيف إليه شد الأوقاف والنظر فيها مستقلاً من غير مشاركة، يولي ويعزل، ويصرف كيف شاء، وكان مدار أمور الدولة بدمشق وأعمالها عليه؛ ونائب السلطنة لا يخالفه، ولا يخرج عن رأيه. وله المكانة العالية عند الملك الظاهر ووزيره وأكابر أمراء دولته، وكلمته مسموعة في سائر المملكة، وكتبه نافذة في الأقطار، وعنده معرفة تامة، ورياسة كبيرة، وخبرة بسائر الأمور، ويكتب خطاً منسوباً، رأيته يكتب وهو ينظر إلى جهة أخرى، وكان كثير المكارم والستر، وقضى حوائج الناس، يصلح لكل شيء، ولقد سمعت بعض الأمراء الأكابر يقول عنه: والله يصلح لوزارة بغداد في زمن الخلفاء، ولا يقوم غيره مقامه، ثم استعفى من ولاية دمشق، وسأل ذلك فأجيب عليه، ثم رسم له الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بنيابة السلطنة بحمص وأعمالها، فتوجه إلى كره منه، فهذب أمورها، وأصلح أحوالها، ولم تطل مدته بها، فأدركته منيته ليلة الثلاثاء منتصف شعبان، فغسل بها، وكفن، وصلي عليه، وحمل إلى دمشق، فوصل يوم الخميس سابع عشره، فصلي عليه، ودفن بسفح قاسيون بتربة الشيخ أبي عمر رحمة الله عليه ولم يبلغ الستين رحمه الله تعالى وكان وقف في حال حياته قبل موته بمدة سنين وقفاً كثيراً على عتقائه، وعلى وجوه البر، وأثبته، وحكم به الحكام، وصرف ريعه في حال حياته كما شرط، فنفعه بعض الكلمة فيه، وقال الواقف: أثبته على الشيخ في حال حياته كما شرط، ونل نظر الوقف عند عدم من أسند إليه الواقف إلى الإمام المجامع المظفري، وإمامه ابن الشيخ شمس الدين، فتمنع منه، وأبطل الوقف، واحتيط عليه، وباء بإثمه من سعى في ذلك مع أن جماعة كثير من أعيان العدول الذين شهدوا على الواقف رحمه الله أحياء مرزوقين، أما الواقف فوقع أجره على الله تعالى. سمع الأمير ناصر الدين الحديث الكثير، وكانت أوقاته معمورة بتلاوة القرآن العزيز، وسماع الحديث، ومصالح المسلمين، ولم يخلف ولداً رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف أبو عبد الله رضى الدين الأنصاري الشاطبي الإمام العلامة في علم العربية واللغة. توفي بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى في ثامن عشرين شهر جمادى الأولى وقد جاوز ثمانين سنة من العمر رحمه الله تعالى ومولده سنة إحدى وست مائة، روى عن ابن المقير وابن الجميزي، وجماعة يطول شرحهم. قال أخي رحمه الله أنشدني:
رب سهل على فتاتي لتراى ... هل سلا فتاها فتاها
علمته جفونها أي سحر ... ما تلاها عن حسنها مذ تلاها
وأنشده أيضاً:
لولا ثباتي وساتي ... لطرت شوقاً إلى الممات
لأني في جوار قوم ... تعصني قربهم وحياتي
وأنشده أيضاً رحمه الله بمصر:
منغض العيس لا يأوي إلى دعة ... من كان في بلد أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته ... مسكني مكان ولم يسكن إلى أحد
محمد بن يعقوب بن علي أبو عبد الله فخر الدين المعروف بابن تميم. وهو سبط ابن تميم، أظنه دمشقي الأصل والمولد والمنشأ، ونقل إلى حماة واستوطنها، وخدم صاحبها الملك المنصور ناصر الدين رحمه الله جندياً، وكان له به اختصاص وقرب. وكان فاضلاً عاقلاً شجاعاً، كريم الأخلاق، حسن العشرة، وحج إلى بيت الله الحرام، وهو من الشعراء المعدودين في عصره، وتوفي بحماة - رحمه الله تعالى - في هذه السنة. ومن شعره قوله في الحماسة:
صبح بنا أرض الفرنج بغارة ... تحوي بها أموالها ورجالها
محتادنا قد حرمت أوساطها ... نحو المسير وشمرت أذيالها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم فارس صاحبته يوم الوغى ... وتركته إذ خانه أقدامه
حتى بلغت بحد سيفي موضعاً ... في الحرب لم تبلغ إلى سهامه
وقال أيضاً رحمه الله:
دعني أخاطر في الحروب بمهجتي ... إما أموت بها وإما أرزق
فسواد عيشي لا أراه أبيضاً ... إلا إذا احمر السنان الأزرق
وقال أيضاً رحمه الله:
لو كنت تشهدني وقد حمس الوغى ... في موقف ما الموت عنه بمعزل
لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دماً تحت ظل القسطل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ألا من مبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظبي حولي صليا
وأني جلت في جيش الأعادي ... برمحي وهو في فكري يجول
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا قوم قد بلغ قول الحيا ... عني إلى المحب بلا علم
من خنجري أطل من سيفي ... ورمحه أقصر من سهمي
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لمنجنيق وللحصون وقائع ... فيها عجيب للذي يتفهم
يومي إليها بالركوع مخادعاً ... فتخر ساجدة له وتسلم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لا تحقرن قليل السر إن له ... زيادة كضوارم النار في القبس
فحرب وائل صرع الباب أسعرها ... وحرب قيس حسها لطمة الفرس
وقوله في صفة الرياض والأزهار ونحوه:
مولاي قد وافى زمان لم يزل ... بقدومه تستبشر الندماء
زمن كأن الأرض فيه ألبست ... خلعاً أجادت صنعها صنعاء
....بلحظ عين لا ترى ... إلا غديراً حال فيه الماء
وترى بنفسك عزة في دوحة ... إذ فوق رأسك حيث سرت لواء
لا تهملن لذاذة الدنيا فقد ... رق النسيم وراقت الصهباء
واشرب من الحمراء في مبيضة ... ليحافل الصفراء والسوداء
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
رعى الله وادي النيرين فإنني ... قضيت به يوماً لذيذاً من العمر
درى أنني قد جئته متنزهاً ... فمد لأثوابي بساطاً من الزهر
وأقدمني الماء الفراح فحيثما ... سبحت رأيت الماء في خدمتي يجري
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وحديقة بستان فيها جدول ... طرفي برونق حسنه مدهوش
تبدو ظلال غصونه في مائه ... فكأنما هو معصم منقوش
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لم لا أهيم إلى الرياض وزهرها ... وأقيم منها تحت ظل صافي
والغصن يلقاني بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صافي
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
شبهت نرجسه أهدي إلي بها ... خلي وقد جئت في التشبيه بالعجب
كفا من الفضة البيضاء ساعدها ... زمرد حكيت كأساً من الذهب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
عاينت ورد الروض يضم خده ... ويقول وهو على البنفسج محنق
لا تقربوا وإن تضوع نشره ... ما بينكم فهو العدو الأزرق
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وناعورة شبهتها حين ألبست ... من الشمس ثوباً فوق أثوابها الخضر
بطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها ثلل القطر
محمود بن الحمصي. كان إماماً عالماً فاضلاً، متقناً بارعاً، فقيهاً عارفاً، ورعاً زاهداً، متقللاً من الدنيا، صاحب معاملات وكرامات، مجاب الدعوات، صحيح الاعتقاد، له الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، صام أربعين سنة بصوم نهارها، ويقوم أكثر ليلها، ثقة حجة، ما أظن حافظيه كتباً عليه سيئة واحدة منذ سلك هذه الطريقة، وكانت بدايته أنه اجتاز بقرية يونين في حال صباه، فزار الشيخ عيسى اليونيني رحمه الله تعالى فلزمه وانتمى إليه، وصحبه إلى أن مات الشيخ رحمه الله تعالى فدخل مدينة بعلبك وأقام بمسجد الحنابلة مكباً على العبادة والاشتغال بالعلم إلى أن أدركته منيته في ليلة الاثنين حادي عشر جمادى الأولى هذه السنة، ودفن من الغد بمقابر باب سطحاء ظاهر بعلبك رحمه الله تعالى.
السنة الخامسة والثمانون وستمائةإستهلت هذه السنة والخليفة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون، والملوك على القاعدة في السنة الخالية، والملك المنصور بالديار المصرية. أخذت الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ودقت البشائر بدمشق ثلاثة أيام، أولها يوم الجمعة سابع صفر. وحصل في شهر صفر من الرعود والبروق ما خرج عن العادة خصوصاً في الأطراف. وورد كتاب الأمير بدر الدين بكتوت العلائي إلى الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، ومن مضمونه أنه لما كان يوم الاثنين رابع عشر صفر سنة خمس وثمانين وست مائة وقت العصر حصل بالغسولة إلى عيون القصب غمامة سوداء إلى الغاية، وأرعدت رعداً كثيراً زائداً، وظهر من الغمامة شبه دخان أسود من السماء ومتصل بالأرض، وصور من الدخان صورة أصلها هائلة في مقدار العمد الكبير الذي لا يحضنه جماعة من الرجال، وهي متصلة بعنان السماء يلعب بذنبها، فتتصل بالأرض شبه الزوبعة الهائلة، وصارت تحمل الحجارة الكبار المقادير، وترفعها في الهواء كرمية سهم نشاب وأكثر، وما صادف شيئاً من الأشياء من السيوف، والجواشن، والعدد، والتراكيش، والغشى، والقماش، والشاشات، والنحاس، والأسطال إلا صار طائراً في الهواء كشبه الطيور، ومن جملة ذلك أنه كان في أسطبل بعض الناس خرج ادم ملآن تطابيق نعال بيطارية حمله في الهواء والجو كرمية نشاب، ورفع في جملة ما رفعه عدة من الجمال بأحمالها قدر رمح، وحمل جماعة من الجند، والغلمان، وأهلك شيئاً كثيراً من السروج التي صدفها في الرماح. وطحن ذلك إلى أن بقي لا ينتفع به، وأتلف شيئاً كثيراً مما صادفه في طريقه، وأضاع شيئاً كثيراً من العدد والقماش لمقدار ما بقي نفر من الجبد وأصحاب الأمر إلى أن صاروا بغير عدة، ولا قماش، وعاينت تلك الحية عن العين في عنان السماء، فتوجهت في البرية صوب الشرق، والذي عدم من قماش الجند منه ما راح في الغمامة السوداء، ومنه ما أخذه بعض الجند مع أن المملوك ركب بنفسه، ودار في العسكر المنصور، واستعاد كثيراً مما عدم، وبعد هذا عدم ما تقدم ذكره، وهذه الواقعة ما سمع بمثلها أبداً، ثم وقع بعد هذا يسير من مطر، ثم أن اللواحيق الكبار حملها الهواء، وهي منصوبة، وصارت مرتفعة في الجو وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وفيها وصل تقي الدين توبة إلى دمشق من الديار المصرية متولياً الوزارة بالشام يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر.
وفيها توفي:
أحمد بن شيبان بن تغلب أبو العباس بدر الدين الشيباني. مولده سنة ست وتسعين وخمس مائة، وكانت وفاته بسفح جبل قاسيون في نهار الخميس ثامن عشرين صفر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة رحمه الله. سمع، وأسمع، وكان رجلاً خيراً، وله نظم، فمنه يمدح قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي عند ما ولى سنة أربع وستين وست مائة، قوله:
شرف الزمان وساد بالإسعاد ... واضت ليالينا بغير زناد
ونور شمس الدين شيخ شيوخنا ... مفتي الشريعة أزهد الزهاد
سمح الزمان بما نؤمل منكم ... فيكم ترى الأيام كالأعياد
أنت الذي أسلكتها سيل الهدى ... وأقمت دنيا ثابت الأوتاد
من أبيات له. سمع من حنبل، وابن طبرزد، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم الحرستاني، وأجز له أبو جعفر الصيدلاني، وأسعد بن روح، وعبد الواحد بن أبي المطهر الصيدلاني، وغيرهم، وقيل إن مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة.
خليل بن أبي بكر بن محمد بن صديق أبو الصفاء صفي الدين المراغي الفقيه الحنبلي. توفي بالقاهرة في يوم سابع عشر ذي القعدة، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد رحمه الله تعالى. وكان فاضلاً، عارفاً بالمذهب، سمع الكثير، وأسمع، واستوطن دمشق ثم توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدة رحمه الله تعالى.
سعيد بن عمر بن إسماعيل بن مسعود سعد الدين بن الشيخ رشيد الدين أبي حفص الفارقي. كان شاباً فاضلاً، اشتغل على والده، وأتقن عليه فن الأدب، وكان له نظم حسن، فمنه:
مشوق يا نيل له عليل ... وسوف يا نيل له غليل
وصب دمعه يجري مديد ... ولكن ليله ليل طويل
ولي رشأ يملكني عزيز ... غرير والمحب له ذليل
نأى عني فصد ولا وصال ... يرجى منذ بان ولا وصول
فشوقي ضحو طلعته كثير ... وصبري عند جفوته قليل
أيا قمراً له قلبي وطرفي ... منازل ما له عنها رحيل
ويا شمساً وليس له كسوف ... ويا نجماً وليس له أفول
فيا غصناً يملك قلب صب ... فديتك كم على ضعفي تميل
طبعت على هواه فكم عذول ... يلوم ولست أدري ما يقول
توفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين سابع عشرين المحرم، ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
طاهر بن عمر بن طاهر بن مفرج بن جعفر المصري الشيخ الصالح. كان كثير الزهد والعبادة، والتقلل من الدنيا، واشتغل بالفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ولما عرف ما يدعو إليه ضرورته في أمر دينه، انقطع إلى رباط ابن يغمور بالصالحية، وكان من أخص أصحاب الشيخ يوسف الفقاعي رحمه الله وأجلهم عنده، وكان له كشف. قال النجم أبو بكر بن شرف رحمه الله: كنت واقفاً بدرب الوزير أريد الرواح إلى الخواصين، وجيش الإسلام حينئذ قبالة جيش التتار على حمص سنة ثمانين وست مائة، وذلك يوم الأحد فمر بي الشيخ الطاهر المذكور، وحدثني ما لم أفهمه لاشتغال خاطري، فقال: كأنك ما فهمت كلامي! قلت: لا والله، قال: كأنك خاطرك مشغول. قلت: ما هو لقلبي ولكل لآخذ أولادي قال: اسمع ما أقول، واعتمد عليه، اليوم أيش هو؟ قلت: يوم الأحد، قال: يوم الجمعة تكون في هذه البلدة بشارة بكسر التتار، وشموع توقد بالنهار، وسماعات، وتكسر التتار كسرة ما كسروا مثلها، فكان كما قال، ثم بات عندي بعد ذلك وانشرح، فسألته عما أخبرني به، قال: هل تراه يقظة أو مناماً؟ فقال: لا في اليقظة ولا في المنام، بل في حالة بينهما تسمى الواقعة تكون للفقراء؛ فسألته عن حقيقتها فنفر وغضب. قال النجم: وكان قال لي مرة: إن بيت هلاكو لا بد أن تكون، وخوارزمية لا يوجد منهم عشرة في مكان. قال: وكان به سعال مزمن فبقي سنين يأخذ في كوز مكسور ماء شعير مبزر من بكرة، يودعه عندي إلى العشاء يأخذه. قال: وأخبرني أنه يثرد فيه كسرة ويفطر عليها. قال النجم: ودخلت مع الشيخ يوسف إلى بيت طاهر بالرباط المذكور، فرأينا بيتاً لم يكنس قط. وقد نسج العنكبوت على حصيره رثة سوداء، فقال الشيخ يوسف: ما أعفشك يا طاهر! ثم خرج طاهر للوضوء. فقال لي الشيخ يوسف: طاهر يموت طيب. وتزوج طاهر امرأة جميلة جداً. وطلقها على كثرة تعجزه عنها، ولم يكن قربها ومات، ولم يعرف أنثى ولا غيرها، ولم يزل على هذا القدم من الاجتهاد وخشونة العيش والتقلل من الدنيا إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى في العشر الآخر من شهر رمضان، ودفن عند الشيخ يوسف رحمه الله بالرباط اليغموري بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. وذكر الشيخ علم الدين البرزالي: أن وفاته كانت ليلة السبت خامس شوال رحمه الله تعالى.
عبد الدائم بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة أبو محمد تاج الدين المقدسي الحنبلي. كان كثير الصلاح، والتعبد، والاجتهاد، والتمسك بالكتاب والسنة، وتوفي بجبل قاسيون ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وقد نيف على السبعين رحمه الله.
عثمان بن سعيد بن عبد الرحيم بن أحمد بن تولو أبو عمرو ومعين الدين الفهري. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وتوفي بمصر يوم الأحد سلخ ربيع الأول، ودفن من يومه بالقرافة الصغرى. سمع القاضي أبا نصر بن الشيرازي وغيره، وله معرفة بالأدب، ويد طولى في النظم، وشعره في غاية الجودة والإتقان، نقلت من خطه قوله بمدح الصاحب زين الدين ابن الزبير فيقول:
ما ذا على بارق بالغور يأتلق ... لو لم يهج حزن قلب ملؤه حرق
ذكرت إذ لاح والذكرى مشوقة ... ثغر السلامي حكاه اللؤلؤ النسق
في ذمة الله أيام العقيق وإن ... تملك الليث فيها شادن خرق
ترنو بألحاظ رئم قط ما رمقت ... فغادرت في البرايا من به رمق
أما وأهيف ذي خصر بأعيننا ... كما يشاء الهوى العذري ينطبق
تألفت فيه أصداد لها أبدا ... على هواه الخلق تتفق
فالخد والثغر ذا جمر وذا برد ... والوجه والشعر ذا صبح وذا غسق
ما حلت عن عهد سكان العقيق وهل ... يحول عنهم محب حبه خلق
كم زرتهموا في الكرى طيفاً واحسبني ... للسقم لو زرتهم شخصاً لما فرقوا
خوفاً عليهم من الواشين لا حذراً ... من بارق للصفاح البيض يأتلق
تسطو بها فتية غر سيوفهم ... بيض كأحسابهم مصقولة عنقوا
لا أدعي أن جفني سحبة مطرت ... من طول ما رعدوا وجداً وبرقوا
لكن سلمى لاح بارقه.... ... فكان من سحب جفني عارض يدق
ما للجديدين قد أبلى اختلافهما ... جديد حالي فصبري دائماً خلق
ألقى الظلام بصدر غير منشرح ... لما ألاقي وجفن ليس ينطبق
وأسأل الشمس عن أخت لها غربت ... فادمعي الدهر في آثارها شفق
قلبي وطرفي لنأي السائرين ضحىً ... كلاهما بنقاء منه لا أثق
ومن هذا كما شاء الجوى حرق ... وملء ذاك كما شاء البكا أرق
حبست دمعي فقالت لوعة غلبت ... لا تحبس الدمع إن الركب منطلق
وقلت للقلب صبراً بعد بعدهم ... فقال لي نحن قبل البعد نفترق
أشكو إلى الدهر قوماً من بنيه إذا ... محضتهم ود خل مخلص مذقوا
يهوون موتي وما لي في بلادهم ... والحمد لله لا تبر ولا ورق
إني وإن كنت دهري مملقا لفتىً ... لا يعتري طبعه ميل ولا ملق
بذي يدٍ كم لها عند الكرام يدا ... من شينها الحر بعد الله يرتزق
بأبلج من قريش نور عز به ... مهما تحلى لأعداء الندى صعقوا
مولى تولى الورى حفظا ببذل يد ... لها على الوفي كي ترضى الورى حنق
من معشر لا يروق المجد غيرهم ... إن الكريم بما ترضى العلا لبق
إن الأولى في جدي كفي الحيا اختلفوا ... على جدي كفه الوهابة اتفقوا
بنو الزبير كما تهوى مكارمهم ... إن فوضلوا أو سوبقوا سبقوا
عزوا منالاً ونالوا كل مكرمة ... أقلها بنواصي النجم معتلق
وجه الزمان بيعقوب سليلهم ... كما تشاء المعالي نير شرق
حرى على أصلهم جوداً وفاقهم ... والفرع فيه الحياء الطول والورق
يا ابن اللاء ينطق العليا إن سكتوا ... عنهم وسكت أهل الفخر إن نطقوا
فتحت للناس باب الجود ودمت له ... مجداً حين دست دونه الطرق
وليتهم ما تولته الغيوث جدىً ... فكلهم لطلاب الحمد مستبق
أرقت كما ينتهى الوفراء في دعة ... كذا محب المعالي طرفه أرق
يفديك من كل ما تخشى عواقبه ... خلق لغير الخنا والبخل ما خلقوا
تخلقوا بالندى جهلاً أما علموا ... أن التخلق يأتي دونه الخلق
كم زنت مرتبة رأيتهم زمناً ... وكم قلادة خود زانها عنق
أما وجود لياليها وعزتها ... وعرضك المحض كل أبيض يقق
وعقدها وثناياها ونظمي في ... مديح مدحك كل لؤلؤ نسق
حويت خلقاً وخلقا ضامنين معاً ... صدفي فلست وإن بالغت أختلق
قيدتني بحراً أطلقته فكذا ... أصبحت كالجود ما لي عنك منطلق
من لم يكن ساكناً في ظل جاهكم ... فقلبه لرزايا دهره قلق
لولاكم يا بني عبد الرفيع لما ... أصبحت في خفض عيش سله غرق
قال أخي رحمه الله تعالى أنشدني المذكور لنفسه:
قلت له إذ غاب عن مقلتي ... في يوم غيم ممطر مدجن
لو لم تكن في الحسن شمساً حجبت بالغيم عن الأعين
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وليلة من ليالي البين واحدة ... وددت لو أنها ولت ولم تبن
زادت فؤادي فنوناً من صبابته ... بها مطوقة ناحت على فنن
ناديتها وكؤوس الشوق دائرة ... والوجد يطربها طوراً ويطربني
وإنني بالذي ألقى من حديثتها ... ونوحها بالذي تلقى تحدثني
حتى بدا الصبح كالواشي فريع له ... قلب عن بين حالي يخبرني
فما رأيت له عن جاهل مثلاً ... ولا رأيت له ميلاً إلى فطن
ولا رأيت لئيماً فيه ممتحناً ... ولا رأيت كريماً غير ممتحن
طار انتظاري حياً رزق يلين له ... مذموم عيش كما اشتهى خشن
ديني إلى الرزق فضل كنت أحسبه ... مقدماً لي على غيري فأخرنى
ما أصدق القائلين العلم مخرقه ... والجهل والحظ مقرونان في قرن
ومن شعره وقد أمر قاضي مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى الجزار الشاعر:
تقدم القاضي لنوابه ... بقطع رزق البر والفاجر
ووفر الجزار من بينهم ... فاعجب للطف التيس بالجازر
وقال أيضاً من شعره:
يا أهل مصر وجدت أيديكم ... من بسطها بالنوال منقبضه
قد عدمت الغذاء عندكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه
وقال من شعره أيضاً:
أما السماح فقد أقوت معالمه ... فما على الأرض من يرجى مكارمه
ولا يغرنك من يلقاك مبتسماً ... فربما غر برق أنت شائمه
لا تتعب النفس في استخراج راحتها ... من باخل لونه في الجود لائمه
أخي المذلة اعزاز لدرهمه ... ويصحب الذل من عزت دراهمه
ماذا أقول لدهر عاش جاهله ... ومات فيه بسيف الفخر عالمه
قد سالم النقص حتى ما يجاز له ... وحارب الفضل حتى ما يسالمه
وقال من شعره أيضاً:
لم أنسه إذ قال أين تحلني ... حذراً علي من الخيال الطارق
فأجبته قلبي فقال تعجبا ... أرأيت ويحك ساكناً في خافق
وقال من شعره أيضاً:
ذنبي إلى الصفح الجميل وسيلة ... فارحم فتى بذنوبه يتوسل
وقال من شعره أيضاً:
أعلمت أن الربيع حين دعاكا ... لنزوله جعل الشحون قراكا
لما وقفت به تسائل رسمه ... حزناً على رسم الطلول شجاكا
محمد بن أحمد أبو عبد الله جمال الدين المعروف بابن يمن العرضي. كان من أكابر رؤساء دمشق، ومن أهل الثروة الطائلة. لم يكن في زمانه من يضاهيه في كثرة المال، وكان كثير التواضع، غزير المروءة، له الصدقات الدائرة سراً، وكان قد أرصد عشرين ألف درهم يقرضها من غير ربح بل درهماً بدرهم لكل من قصد ذلك. ووقف على غلمانه وغيرهم أوقافاً حسنة، وجرى في تركته تخبيط كبير من ولده الشمس خطيب المزة فإنه أثبت أشياء توجب تخصيصه وحرمان أخواته، فصودر، وعكس في مقصوده، وذهب لوالده من الدفائن ما لا يحصى. ولم ينتفع بشيء مما خلفه أبوه، وهلك بعده بمدة يسيرة، وكانت وفاة والده يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة هذه السنة أعني سنة خمس وثمانين وست مائة بداره، ودفن بسفح قاسيون بتربة ابن نظيف المطلة على الجامع المظفري بسبب زوجته فإنها من ذرية ابن نظيف، ودفنت عنده رحمهما الله تعالى.
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سمحان أبو بكر جمال الدين الوائلي البكري الشافعي الشريشي. كان إماماً عالماً فاضلاً زاهداً ورعاً، طلب للقضاء بدمشق عوض الشيخ زين الدين الزواوي فامتنع، وكان من أعيان العلماء وأكابر المحدثين، ومولده بشريش بلدة بقرب إشبيلية من بلاد الأندلس سنة إحدى وست مائة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين ثامن عشر رجب سنة خمس وثمانين وست مائة بالصالحية برباط الملك الناصر، وهو شيخه يومئذ. ودفن بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري يوم الثلاثاء، وكان مالكي المذهب، وله معرفة بالأدب، وله يد في النظم. وقال رحمه الله ورضي عن سلفه الصالح: لما أتى شهر رمضان الكائن سنة أربعين وست مائة، وأنا بدمشق حرسها الله تعالى أردت أن أريح نفسي من كد المطالعة والتكرار. وأصرف همتي إذ كنت كثير البطالة إلى المواظبة على نوافل الصلوات والأذكار، فحين شرعت في ذلك وجدت في قلبي قسوة. ورأيت في صارم عزيمتي عن المضاء فيها نبوة، وقدت نفسي إلى العبادة بزمام الحرص، فحزنت وما انقادت، وضربتها بسوط الاجتهاد، فمادت على جرانها بل زادت، فلما رأيت ذلك منها، علمت أن داءها صار عضالاً، وأن ما رمته من الهدى، صار ضلالاً، فسألت عن عالم بهذه الأمور خبير، وطبيب بدواء هذه العلة الدواء، فدللت على أوحد دهره وأفضل علماء عصره أحسنهم هدياً وسمتاً. وأروعهم نطقاً وصمتاً. وأوسعهم في جميع العلوم علماً، وأنعتهم في كل المعاني فهماً. وهو شيخنا العلامة سيد القراء، وحجة الأدباء، وعمدة الفقهاء، وقدوة الفضلاء، علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، فكتبت إليه بهذه الأبيات المبهرجة عند الامتحان العاطلة من حلي الإجادة والإحسان، أشكو إليه فيها بثي وحزني، وما استولت عليه هذه النفس العدوة مني، وأسأله كيف خلاص أسيرها من وثاقه، وكيف السبيل إلى هربه من جورها وإباقه، وهي هذه:
أيا عالماً في الناس ليس له مثل ... وحبراً على الأحبار أضحى له الفضل
أيا عالم الدين الذي ظل علمه ... بحوراً عذاباً منه يغترف الثكل
لقد حزت بين الأنام فضائلاً ... فمنها التقى والعلم والخلق السهل
وهديك هدى الصالحين ذوي الهدى ... وصيتك في المعروف ليس له مثل
تعلم دين الله ثم كتابه ... على سنن الماضين أهل الهدى قبل
نهارك تقريه لمن جاء قارئاً ... وليلك في التهجيد أجمعه يتلو
فأنشأ ربي في حياتك أنها ... حياة لها نفع من الخير ما يخلو
وبعد فإنني ذاكر لك سيدي ... أموراً قد أعيتني وعندي لها ثقل
ولا بد من شكوى إلى ذي بصيرة ... يربك سبيل الرشد إن حادت السبل
فأصغ إلى قولي أبث صبابتي ... إليك وأحزاني فقد مضني الكل
أخي ما لقلبي قد قسا فكأنما ... عليه لذي وعظ وتذكرة قفل
فلا هو القرآن يخشع إن تلا ... ولا لأحاديث أتتنا بها الرسل
ولا يرعوى يوماً إلى وعظ واعظ ... ولا عذل ينهي وإن كثر العذل
يسوف بالطاعات مهما أردتها ... ويشرع في العصيان وللغي ما يسلو
وما ضعيف العزم في الجد هازلاً ... مجداً قوي العزم مهما بذ الهزل
جبان عن الطاعات وقت حضورها ... وإن حضر العصيان فالبطل الفحل
وكل عباداتي رياء وسمعة ... مشوب جميع القول فيهن والفعل
فإن رمت صوماً كان لغواً جميعه ... وعند صلاتي يعتري السهو والخبل
وكل الذي أتى من العرف منكر ... فما ذا دهى عقلي أليس له عقل
فلا العقل يهديني ولا العلم رافعي ... بلى ليس ذا علماً ولكنه جهل
ولي أسأل الله الصلاح نفيسة ... ذليلة ليس يسيء لها الذل
تريد المعالي وهي لبست من أهلها ... ومن ضل يهوى في الخصيص متى يعلو
إلى الله أشكوها أريد صلاحها ... وتبغي فسادي بئس ما اختلف الفعل
إذا قلت يا نفسي إلى الله فارجعي ... تراجعني في القول من عنده الكل
فإن شاء يهديني اهتديت وإن ... يشاء يضل فمن ربي الهداية والعدل
وإن قلت للجنات والحور فاعملي ... تقل لي وهل معطي الجنان هو الفعل
بل الله يعطيني الجنان تفضلاً ... فمن ربي الإحسان والجود والبذل
وإن قلت خافي من أليم عقابه ... ومن ناره قالت له العفو والفضل
وقد قهرتني ثم أصبحت عبدها ... أسيراً أخا قيد وفي عنقي غل
فكل الذي تبغيه مني حاصل ... وما أبتغي منها فمن دونها المطل
تريد الذي لا أستطيع لحظها ... وبعض الذي تبغيه أيسره القتل
تكلفني بذلي إلى الناس مهجتي ... وما عند حر بذل مهجته سهل
فكيف خلاصي يا أخي من وثاقها ... وهل لأسير النفس من قيدها حل
فوا أسفي لهفي لما بي لقد وهت ... قوى حيلتي وانسد بي وجهة السبل
لقد خبت إن لم يدركني بلطفه ... ورحمته رب له اللطف والفضل
وها أنا مستهد فكن لي راشداً ... أبا حسن فالرشد أنت له أهل
ولا زلت تهدي للرشاد سبيله ... على منهج عدل فأنت الرضى والعذل
وأبقاك رب الخلق تحيي كتابه ... مدى الليل والأيام تتليه وتتلو
فنحن إذا أبقاك للدين ربنا ... بخير وتحيي الفرض في العلم والنقل
قال الشيخ جمال الدين منشئها رحمهما الله تعالى: فكتب إلي رحمة الله عليه على كبره وضعفه مجيباً بهذه الأبيات التي حوت معاني رائقة، ولفظاً عجيباً، وهو يشكو ما شكوته، ويرجو من عفو ربه وغفرانه ما رجوته وهي:
إلى الله أشكو ما شكوت من اللتي ... لها عن هدى عدل وليس لها عدل
تجور عن التحقيق جوراً أخي عمى ... وقد وضحت منه لسالكها السبل
وكيف أرجى أن يتوب وللهوى ... عليها يد سلطانه ما له عزل
إلى غير مولاها توجه في الذي ... تريد وتخشى والخضوع له ذل
وقد سترت عنها العيوب فما لها ... بما هي فيه خبرة لا ولا عقل
وليس لها في طاعة الله لذة ... لقسوتها لا الفرض ترجى ولا النفل
إلى باطل تجري وإن كان متعباً ... وما خف من حق ففيه لها ثقل
تعيب بما يأتي سواها كأنه ... لهم من قبيح النقص وهو لها فاضل
وتستبعد الموت الذي هو نازل ... وفي طلب الآمال عنه لها شغل
لها ظاهر ترضى بتزيينه الورى ... وعند الإله ليس يرضى لها فعل
تريد نعيماً منه أخرج آدم ... بذنب وأني للعصاة لها نزل
تحيل على المقدور في ترك طاعة ... فما بالها في الرزق ليس لها مهل
تعز بإطراء الأنام ومدحهم ... ولم يخف عنها أن أقوالهم بطل
تديم احتقار الناس نعياً كأنها ... على شامخ تعلو ومن دونها سفل
وتكذب إن قالت وتغضب تارة ... وتحرص أحياناً ومن شأنها البخل
تمن بما تعطي وإن كان تافهاً ... وتذكر معروفاً ومعروفها قل
بذلت لها نصحي وحاولت رشدها ... وبالغت في عذلي فما نفع العذل
فناولتها حبل التقى فتقاعست ... إلى أن نفانا العمر وانقطع الحبل
وأرسل رب الدار يطلب ثقلها ... وليس لها زاد وقد أعجل النقل
ونادى منادٍ يا مضيع حظه ... مما كان من تفريطه فله الثكل
فيا ويحها إن لم تسامح بعفوه ... ويا ويلها إن لم تجد من له البذل
أتبغي أبا بكر هدى عند مثلها ... وأنت الذي أضحى وليس له مثل
حفظت كتاب الله ثم قرأته ... بأقوال مأمون به ختم الرسل
ومثلك يرجى أن يعمر برهة ... فدونك فاغنمها فأنت له أهل
ولست كمثلي ذا ثمانين حجة ... بها فاتت الأيام وانقطع الوصل
ولم للتأخير وجه وهكذا ... متى انتهت الآجال لم يسع الأجل
وأدنى الورى من رحمة الله مذنب ... أتى ما له في الخير عقد ولا حل
فقيراً ذليلاً جائراً متذللاً ... عرياً من التقوى كما جرد النصل
لدى ملك بر غفور لمن جنى ... ولم يعلم الغفران لم يكن جهل
وإن يكن السوأى فذلك عدله ... وإن تكن الحسنى فإحسانه جزل
قال الشيخ جمال الدين رحمه الله: أنشدنيها في شهر رمضان المعظم في الخامس والعشرين منه سنة أربعين وست مائة. قال الشيخ جمال الدين المذكور: ولما كانت الليلة السابعة والعشرين من هذا الشهر المبارك، وكانت ليلة الجمعة، حضرت فيها ختمة للكتاب العزيز بدار الحديث الأشرفية عند أوحد زمانه، وعلامة عصره وأوانه، الحبر الذي جمع أنواع العلوم ووعاها، ورقى في مراتب التحقيق إلى ذراها، العالم الذي قرن بعلمه العمل الخالص، ونصح في الله تعالى ليالي يوم القيامة، وهو من التبعات خالص، إمام آتاه الله علماً وحلماً، ورزقه في جميع الأمور بصيرة وفهماً، إن تفقه، ترك عند فقهه فقه أبي العباس بن شريح، وإن حدث نسي عند حديثه حماد بن زيد، وعبد الملك بن جريج مع جماعة كثيرة من أفاضل العلماء وسادة أخيار من أكابر الصلحاء، فقد تنورت بنور اليقين والإخلاص قلوبهم، وتجافت من خوف الله عن المضاجع جنوبهم، وصرفوا هممهم إلى أعمال الطاعة، وليس لهم عمل إلا فعل خير أو سماعه، فباتوا ليلتهم جميعها في صلاة، وخشوع، وتضرع إلى ربهم، وخضوع قد قسموها بين صلاة ذات تسبيح وتحميد، وقراءة ذات ترتيل وتجويد، يتقربون إلى الله تعالى في كلامه بالترتيل، ويجازون في تنزيهه بالتسبيح والتهليل، وكانت ليلة معتدلة هواءها بالأنوار، أرجاءها قد أزهرت مصابيحها ونجومها، واعتدل حتى طاب نسيمها، ولو لم يكن فيهم إلا من هو لنفسه ناصح، ولم يرتفع لهم في تلك الليلة إلا عمل من الله صالح، فلما ختموا الكتاب العزيز، ولصدورهم بالبكاء أزيز، وافق فراغهم للوقت الذي فيه ربنا إلى السماء ينزل فيستجيب لمن دعاه، فيتعطف عليه ويقبل دعاءه، إذ ذاك أخذ الحاضرون بدعاء خاشع القلب حزين دعاء ذرفت منه العيون، ووجلت منه القلوب، ورقت بعد قسوتها حتى كادت تذوب، ورجى الله تعالى بالتأمين يديه، وأسبل دموعه على خديه، فلما رأيت ما كان من جمعهم، وما صدر من جميل صنعهم، لم أشك أن الله قد استجاب دعاءهم، وحقق ظنهم به ورجاءهم، وغلب على ظني أنها ليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر، ففرحت إذ بت في هذه الليلة المباركة وأنا سهيرهم وأنيسهم، ورجوت أن يغفر الله لي بهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فعند ذلك جرت على لساني هذه الأبيات من غير فكر ولا روية، فجاءت غير مستحسنة ولا مرضية، ولولا ما جرى فيها من ذكر الحال، كان أن يكتم أولى من أن يقال، وهي:
يا ليلة طاب فيها الذكر والسهر ... ولد للقارئ الآيات والسور
يجلو دجاها مصابيح منورة ... كأنها أنجم في جوفها زهر
لانت قلوب بذكر الله قاسية ... فيها ومن قبل كانت دونها الحجر
واستشعر القلب خوف الله وانسفحت ... فيها الدموع على الخدين تنهمر
في جمع صدق لدى الرحمن قد ضرعوا ... يبكون خوفاً وبالقرآن قد جهروا
فلست تبصر إلا خائفاً وجلاً ... ذا عبرة لرضى الرحمن ينتظر
في ليلة الجمعة الغراء مشرقة ... تضيء نوراً ولم يطلع لها قمر
تمت بها السبع والعشرون وافية ... من الصيام الذي قد صامه البشر
رجوتها ليلة خيراً لذي عمل ... من ألف شهر وفيها الذنب يغتفر
فقمت أدعو إلى الرحمن مبتهلاً ... فإنه لعظيم الذنب يغتفر
كان الشيخ جمال الدين الشريشي رحمه الله تعالى جامعاً لعلوم كثيرة، منفرداً بها كالنحو، وفنونه من علم التصريف، والعروض، والقوافي، والأصول وفنونه، والتفسير، والفقه على مذهب الإمام مالك، والاستقلال به علماً وإتقاناً، وإفادة لكل من قصده فيها، وكان أحد أفراد الزمان في العلم، لم يكن في زمانه مثله علماً وعملاً، وكان متضلعاً في معرفة الأدب معانيه، ومبانيه، وبديعه، وله الاستقلال بالنظم البديع، والنثر الصنيع، مع المشاركة في غير ذلك كالحديث النبوي، وأسماء رجاله، والكلام على صحيحه وضعيفه، وأحكامه، وله في ذلك التصانيف الفائقة، منها: شرح الألفية لابن معطى مجلدان، وفي أصول الفقه، وكان علماء عصره مجتمعين على علمه وعمله، واستقلاله بالعلوم الإسلامية، وكان حسن المناظرة، مليح المذاكرة، حسن العشرة، كثير الإنصاف، غزير الديانة، واسع الفضيلة، له الحرمة الوافرة عند الملوك فمن دونهم. ولما ورد دمشق في سنة ست وخمسين وست مائة، أقبل عليه الملك الناصر يوسف رحمه الله إقبالاً عظيماً، وفوض إليه مشيخة الرباط الذي بناه بالجبل. وكان كثير الاحترام له، والإقبال عليه، حتى أنه يحضر إليه، ويبادر معه ويقول: ما جعلناه شيخاً في هذا المكان إلا لنخدمه لا ليخدمنا. ولم يزل مباشره إلى أن توفي. لكن سافر إلى القدس وهو متوليه بعد الستين وست مائة، وتولى بالقدس مواضع. وتنقل في الديار المصرية، والحجازية، والحلبية: ثم عاد إلى دمشق، وباشر الرباط، وكان به من يقوم مقامه، فلم يزل مباشره حتى مات. وكان كثير الاعتناء بالحديث، رحل بسببه إلى البلاد، وأخذ الناس عنه، وانتفع به جماعة من العلماء، وسمع بالإسكندرية من محمد بن عماد الحراني وغيره، وبدمشق من أبي نصر بن الشيرازي ومكرم بن أبي الصقر، وبحلب من ابن يعيش النحوي، وباربل من الفخر الإربلي، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن روزبه، وابن سهرور، وابن اللتي، وابن السباك، ونصر بن عبد الرزاق الحنبلي، وقدم دمشق وطلب للقضاء فامتنع زهداً، وبقي المنصب شاغراً لأجله إلى أن مات رحمه الله.
محمد بن عبد المنعم بن محمد أبو عبد الله الأنصاري الشافعي الصوفي شهاب الدين المعروف بابن الخيمي الشاعر المجيد المشهور، والأديب الفاضل المبرز على نظرائه، والمتقدم على شعراء بلده مع مشاركة في كثير من العلوم، مولده في سنة اثنتين وست مائة، وتوفي بمشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة في التاسع والعشرين من شهر رجب، ودفن بسفح المقطم، روى عن عتيق بن باقا وعن أبي عبد الله بن عبدون، وسمع من ابن البناء وغيره، وحدث. وكان يعاني الخدم الديوانية، ونظمه كثير، فمن ذلك قوله:
قسماً بكم يا جيرة البطحاء ... ما حال عما تعهدون وفائي
حبي لكم حبي وشوقي نحوكم ... شوقي وأدوائي بكم أدوائي
ما خانكم كلفي ولا نسيتكم ... روحي ولم يعهدكم أهوائي
وجدي بكم مجدي وذل عزتي ... والافتقار إليكم استغنائي
يا أهل ودي يا مكان شكايتي ... يا عز ذلي يا ملاء رجائي
كيف الطريق إلى الوصال فإنني ... في ظلمة التفريق في عمياء
ما ضركم إن تنقلوا بوصالكم ... سري من الضراء والسراء
روحي تدور على الورد نظماً وقد ... حباتكم تمشي على استحياء
أشكو عليلاً ليس يملك زيه ... برد النسيم ولا زلال الماء
لم يزرني إلا ضريح وصالكم ... فصبابتي لن ترو بالإيماء
قد حل حبكم عقود مدامعي ... وأجاد في أحكام عقد ولائي
وإذا بكيت فمن سروري بالذي ... فيكم بلغت من الغرام بكائي
وقال أيضاً رحمه الله:
يا مطلباً ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التقضي وانتهى الطلب
وما طمحت لمرأى أو لمستع ... إلا لمعنى إلى علياك ينتسب
وما أراني أهلاً أن تواصلني ... حسبي علواً فإني فيك مكتئب
لكن تنازع شوقي ناره أربي ... فاطلب الوصل لما يضعف الأرب
ولست أبرح في الحالين ذا قلق ... باد وشوق له في أضلعي لهب
وناظر كلما انكفت بأدمعه ... صوناً بحبك يعصيني وينكسب
ويدعي في الهوى دمعي مقاسمتي ... وجدي وحزني وبحري وهو مختضب
كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال في ليله للنجم يرتقب
يا صاحبي قد عدمت المسعدين فساعدي على وصبي لأمسك الوصب
تالله إن جئت كثباناً بذي سلم ... قف بي عليها وقل لي هذه الكثب
ليقضي الحر في أجراعها وطراً ... من تربها ويؤدي بعض ما يجب
ومل إلى البان من شرقي كاظمة ... فلي إلى البان من شرقها طرب
وخذ يميناً لمغنى يهتدي بشذى ... نسيمة الرطب إن ظلت بك النجب
حيث الهضاب وبطجاها بروضها ... دمع المحبين لا الأنداء والسحب
أكرم به منزلاً تحميه هيبته ... عني أونواره لا السمر والقضب
دعني أعلل نفساً عز مطلبها ... فيه وقلباً لعذر ليس ينقلب
ففيه عاهدت قد ما حب من حسنت ... به الملاحة واغترت به الرتب
دان وأدنى وعز الحسن يحجبه ... عني وذلي والإجلال والرهب
أحيى إذا مت من شوقي لرؤيته ... لأنني لهواه فيه منتسب
ولست أعجب من جسمي وصحته ... من صحتي إنما سقمي هو العجب
يا لهف نفسي لو يجدي تلهفها ... غوثاً وواجزنا لو ينفع الحرب
يمضي الزمان وأشواقي مضاعفة ... يا للرجال ولا وصل ولا سبب
هبت لنا نسمات من ديارهم ... لم يبق في الركب من لا هزه الطرب
كدنا نظهر سروراً من تذكرهم ... حتى لقد رقصت من تحتنا النجب
يا بارقاً بأعلى الرقمتين إذا ... لقد حلبت ولكن فاتك الشنب
أما خفوق فؤادي فهو عن سبب ... وعن جفونك لي ما هو السبب
ويا نسيماً سرى من جو كاظمة ... بالله قل لي كيف البان والغرب
وكيف جيرة ذاك الحي هل حفظوا ... عهداً أراعيه إن شطوا وإن قربوا
أم ضيعوا ومرادي منك ذكرهم ... هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا
ولما نظم شهاب الدين هذه القصيدة بلغت الأديب نجم الدين محمد بن إسرائيل المقدم ذكره في هذا الكتاب فادعاها. حكى لي صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر رحمه الله أن ابن إسرائيل وابن الخيمي اجتمعا بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث في الأبيات المتقدمة، فأصر ابن إسرائيل على أنه ناظمها، فتحاكما إلى الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله وهو المشار إليه في معرفة الأدب، ونقل الشعر في ذلك الوقت، فقال: ينبغي لكل واحد منكما أن ينظم أبياتاً على هذا الوزن والروى ليستدل بها، فنظم ابن الخيمي هذه الأبيات:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... حنوا علي ولما أن حنوا عتبوا
يا قوم هم أخذوا قلبي فلم سخطوا ... وأنهم غضبوا عيشي فلم غضبوا
هم الكريب بنجد منذ أعرفهم ... لم يبق لي معهم مال ولا نسب
شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللحاظ السمر والقضب
عهدت في دمن البطحا عهد هوى ... إليهم وتمادت بيننا حقب
فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيري ذاك العهد قد نسبوا
من منصفي من لطيف فيهم غنج ... لدن القوام لاسرايل ينتسب
مبدل القول ظلماً لا يفي بمواعيد الوصال ومنه الذنب والغضب
في لثغه الراء منه صدق نسبته ... والمن منه يزور الوعد والكذب
موحد فيرى كل الوجود له ملكاً ... ويبطل ما يقصي به النسب
فعن عجائبه حدث ولا حرج ... ما ينتهي في المليح المطلق العجب
بدر ولكن هلالاً لاح إذ هو بالوردى من شفق الخدين منتقب
في كأس مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودر ثناياها بها خبب
فلفظه أبداً سكران يسمعنا ... من معرب اللحن ما ينشى لها الأدب
تجنى لواحظه فينا ومنطقه ... جناية تجتني من مرها الطرب
قد أظهر السحر في أجفانه طرباً ... البرء منه إذا ما شاء والعطب
حلو الأحاديث والألفاظ ساحرها ... يلقى إذا نطق الألواح والكتب
فداؤها ما جرى في الدمع من مهج ... وما جرى في سبيل الحب محتسب
ويح المتيم شام البرق من اضم ... فهزه كاهتزاز البارق الحرب
وانسكف البرق من وجد ومن كلف ... من قبله فهو في الأحشاء به لهب
فكلما لاح منه بارق بعثت ... قطر المدامع من أجفانه سحب
وما أعادت نسمات الغوار له ... أخبار ذي الائل إلا هزه الطرب
واهاً له أعراض الأحباب عنه وما ... أخذت رسائله الحسنى ولا القرب
ونظم نجم الدين محمد بن إسرائيل قوله:
لم يقض من حبكم بعد الذي يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب
ولي دمى لرسم الدار بعدكم دمع ... متى جاد صيب بالحيا السحب
أحبابنا والمنى تدني مزاركم ... وربما حال من دون المنى الأرب
ما رأيكم من حياتي بعد بعدكم ... وليس لي في حياة بعدكم أرب
قاطعتموني فأجراني مواضلة ... وحلتم محلاً لي فيكم التعب
ويا نسيماً سرى والعطر يصحبه ... أحرت حين مشين الخرد العرب
أقسمت بالمقسمات الدهر يحجبها ... سمر العوالي والهندية القضب
لكدت تشبه برقاً من ثغورهم ... بادر دمعي لو لا الظلم والشنب
وجيرة جار فينا حكم معتدل ... منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا
ما حيلتي قربوني من محبتهم ... وحال دونهم التقريب والخبب
وعرضت القصيدتان على الشيخ شرف الدين بن الفارض، فأنشد مخاطباً لابن إسرائيل بيت ابن الخيمي، وهو:
لقد حليت ولكن فاتك الشنب
وحكم بالقصيدة الأولى لابن الخيمي، واستحسن بعض الحاضرين أبيات ابن إسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه! ما الحامل له على إدعاء ما ليس له؟ فقال ابن الخيمي: هذه سرقة عادة لا سرقة حاجة، وانفصل على ذلك، وسافر ابن إسرائيل لوقته من الديار المصرية. هذا مضمون حكاية الموفق رحمه الله.
محمد بن يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح أبو عبد الله محيى الدين الحراني المعروف بابن الصيرفي. مولده سنة ست وعشرين وست مائة، وتوفي بدمشق يوم السبت لليلتين خلتا من ذي الحجة، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله. كان عنده فضيلة، وحسن عشرة، وعلى ذهنه من الأشعار، والحكايات، وأخبار الناس، والتواريخ قطعة صالحة. سمع الكثير من صغره، وفي حال كبره، وتولى عدة جهات، وكان له حرمة، ومكانة، وملازمة للأمير افتخار الدين وولده الأمير ناصر الدين رحمه الله تعالى وتوكل للأمير علم الدين سنجر أمير خازندار الملك الظاهر وغيره رحمه الله.
يوسف بن محمد بن عبد الله أبو الفضائل مجد الدين المعروف بابن المهتار. مولده في حدود سنة عشر وست مائة، وتوفي بمسجده داخل باب الفراديس بدمشق بعد الظهر من يوم الاثنين تاسع ذي القعدة، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة باب الفراديس رحمه الله تعالى. كان رجلاً حراً أديباً، يكتب خطاً منسوباً، وجود عليه خلق كثير، وانتفعوا به، وسمع الكثير، وأسمع، وكف بصره قبل وفاته بمدة رحمه الله تعالى، ومن شعره:
تعالى الإله الواحد الصمد الفرد ... العليم بما يخفى من العبد أو يبدو
له المثل الأعلى على كل خلقه ... فليس له قبل وليس له بعد
سميع إذا دبت على الضحر نملة ... وينظر في الظلماء ما هو مسود
كريم حليم راحم متعطف ... فظن به الإحسان يا أيها العبد
فمن مثل مولى يغفر الذنب كلما ... عصيت إذا استغفرته فله الحمد
يوسف بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحيم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي العثماني الشافعي أبو الفضائل قاضي القضاة بهاء الدين بن قاضي القضاة محي الدين بن قاضي القضاة مجير الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي. مولده سنة أربعين وست مائة، وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة، ودفن بتربتهم المعروفة بسفح قاسيون، كان إماماً عالماً فاضلاً محجاجاً، مناظراً في سائر العلوم الإسلامية، لم يكن له في وقته نظير مع صغر سنه، جمع الله تعالى له في صغر السن حسن الشكل وشرف البيت والفضيلة التي لم تكن في غيره في زمانه ما كان عليه من اللطافة في المحاضرات، وإيراد الأشعار الفائقة الكثيرة من أشعار العرب، وأشعار المتأخرين، والحكايات الغريبة، وإذا أنشد أحد بحضرته بيتاً يستشهد به على شيء من المسائل اللغوية، أنشد هذه القصيدة بكاملها بأحسن إيراد، وكمل ذلك بمكارم الأخلاق، وكرم النفس وطلاقة الوجه، وحسن المحاضرة، وكثرة الديانة، وكان مدرساً بمدارس والده المشهورة، وكان قيماً بدروسها حفظاً، ومناظرة، وبحثاً على اختلاف علومها، وكان كثير الاشتغال لم يتفرغ لحفظ الدروس إلا في طريق الميدانية عند عبوره البلد، يطالع كل درس مرتين أو مرة وهو راكب فتعلق بذهنه، ويورده آخر إيراد، وهذا لم يعهد لغيره، وكان مقصوداً بالفتاوي من سائر الأقطار، وترجح وتفنن بالدليل القاطع، ويقوي بعض الأوجه الضعيفة في المذهب ويفتي بها، ويسأل من يناظره فيها، وكان فقهاء البلد ومشايخه في سائر العلوم فقهاء عنده في مدارسه، ولا يقدر أحد على مجازاته في بحوثه، وكان فاق رجال زمانه في العلوم العقلية، فإنها أتقنها على القاضي الإمام كمال الدين عمر التفليسي لما كان بمصر عند والده، وقال كمال الدين المذكور في حقه: لم أر أنبه منه ولا أحد ذهناً. هذا وهو في سن الصغر، وليس له عشرون سنة، ومن أغرب ما حدث في الدرس بالعزيزية أن شخصاً من علماء الخلاف حضر إلى درسه، وأورد عليه بلمة خلاف فتلقى الجواب بصدره، وشرع في حلها وعكسها عليه، فادعى الملقى لها عند ذلك بقصوره عن مضمان القاضي بهاء الدين المذكور، وقال: ما رأيت في بلاد العجم ولا العرب مثله. وتعجب الفقهاء الحاضرون من ذلك تعجباً عظيماً، وهذا دليل على غزارة علمه، وعظم قدره، وتوسعه في العلوم، ثم بعد ذلك خلع على الخلافي، وأحسن إليه، وأجازه جائزة سنية، وكان هذا الخلافي قد حضر مدارس الممالك الإسلامية، وأورد عليهم تلك النكيتة التي رتبها، فما أجابه أحد، فلما أجابه القاضي بهاء الدين من غير تفكير ولا تثبت، وعكسها عليه تحير في أمره. وسافر لوقته، وهذا من المناقب التي ما سمعت لأحد قبله. وكانت الشعراء تقصده بالمدائح من سائر الأقطار لكثرة جوائزه، وكرم نفسه، فمن مدحه بقصيدة بديعة الأديب شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني، وأجازه عليها جائزة سنية وخلع عليه. ونقلت من خطه، وهي:
وافى وأرواح العذيب بواسم ... والليل فيه من الصباح مباسم
أهلاً بمن أسرى به وغدا له ... متأخر وهوى لنا متقادم
غصن الشبيبة والملاحة يعذر ... المضني به ويلام فيه اللائم
النضر من أعطافه وكتابه ... بلحاظه ولمهجتي هو هاشم
أمعنفين على الغرام وقلما ... يصغي لأوهام العواذل هائم
هو ناظر متعشق وجوانح ... فيها مواطن للجوى ومعالم
وهوى لقلبي عامراً أبا عادم ... صبري وأخو الملامة راغم
هيهات أن أثني عناني والصبى ... نضر وغصن العمر رطب ناعم
أو أشتكي حالي ومن أحببته ... أبداً لا خلاف القبول ملازم
أو أختشي خطباً أراه ببلدة ... وبها بهاء الدين يوسف حاكم
شرف أقيم بعبد شمس أسه ... وله قريش ذو الفخار دعائم
لا يلتقي يوم المعاد سواهم ... متبسماً حيث الوجوه سواهم
يا خير من نيطت عليه العلى ... ومن المهابة والجلال تمائم
حاشا لعزمك أن تقوم لهمة ... والدهر عن إتمامها لك باسم
أو أن يلوح وليس يخفى جاهل ... أو أن يثير وليس بعدك ظالم
ما كان فداؤك من كريم ينثني ... كلا ولا ولدت سواك أكارم
أبني الزكي سقيتم ورويتم ... ونفيتم والأكرمون فداكم
... إذا ما قيل هو أعربت ... أحساب أعراب لكم ومكارم
من مثل جدكم ومثل أبيكم ... ما مثل جدكم ومثل أباكم
حسب المرجى في المعاد شفاعة ... منكم ومن قبل المعاد نداكم
يتسابق الأذهان في إدراككم ... ويفوت أسبقها أقل مداكم
من للخلاف وللوفاق مسائلاً ... وحصائلاً والمعلى إلاكم
لو أطلق اسم النيران لما سرى ... ذهن الذي هو سامع لواكم
أو كان وحي بعد أحمد منزل ... لبدت لكم آى به وعلائم
عثمان جدكم وذلك حسبة ... وكفى وذلك حسبكم وكفاكم
فهذه الأبيات تدل على بعض ما يستحقه من المناقب، ولقد جمعت بعض مناقبه، وهي مليحة في بابها، مستوفية لبعض الترجمة رحمه الله تعالى. ومدحه المولى شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء، وأرسلها إليه وقد سافر، وهي:
لولا تذكره الحي الذي بانوا ... ما عاج نحو الحمى واستخبر البانا
ولا رعى أنجم الجوزاء يحسبها ... لما استقلت بيوت العرب إظعانا
ولا صبى للصبا يهفو فيأخذها ... روحاً ويبعثها الأحشاء نيرانا
صب بكى الربع بعد الظاعنين وقد ... أبدى له القلب دون الطرف عرواناً
مثل الكتاب محا آثار أسطره ... عهد قديم وأبقى منه عنوانا
بانوا فلا زال دمع الطل بعدهم ... في الروض يملأ الأزهار أجفانا
ولا ونى فيه معتل النسيم إذا ... أخفى السرى ساقه الأغصان إعلانا
يحدث الدوح عن هز الصبي مرحاً ... أعطافهم فيميل الغصن نشوانا
وكلما عاد عنه نحوهم علقت ... به الرياض وجرت منه أردانا
وحملته إشارات لها نطقت ... معنى فرجع فيها الورق ألحانا
هل جاد معناكم دمعي فغادره ... من بعد ظنت الأمواه غدرانا
أعائد بعد ما شابت بشاشته ... على الحمى عيش غض كما كان
إياهم ألثم جيد الرئم ملتفتاً ... نحوي وأعطف غصن البان ريان
وأجتلي من يكاد البدر يشبهه ... لو لم يكن يعتريه النقص أحيانا
يبيح طرفي حمى خديه عارضه ... فيجتني منهما ورداً وريحانا
وكلما وردت في روض وجنته ... مناهل الحسن عني عدت ظمآنا
فاليوم بعد الرضى في القرب أقنع أن ... يزورني في البعاد الطيف غضبانا
وكيف يرقد جفن بات ناظره ... أو يطوف الطيف طوفاً بات سهرانا
إن لان أظهر سر الوجد بعدكم ... وأنثني سوى الدمع أو اضمرت سلوانا
فعفت راح الهوى واخترت أن حليت ... كؤوسها وسها غير أهل الوجد خلانا
لله خيف هوى تلقاء التقائه ... حتى لقد حسد الأحياء قتلانا
نسخوا بأنفسنا فيه كأن ندى ... قاضي القضاة بهاء الدين إعلانا
أبو الفرج بن يعقوب بن إسحاق بن القف الملقب أمين الدولة الحكيم الفاضل من نصارى الكرك. مولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وست مائة بالكرك، كان فاضلاً، ماهراً، بارعاً في الصناعة الطبية، ظهرت نجابته من صغره، وكان حسن السمت، كثير الصمت، وافر الذكاء، اشتغل بالطب على موفق الدين ابن أبي أصيبعة، وقرأ عليه حفظاً مسائل حنين والفضول، ومقدمة المعرفة لأبقراط؛ وعرف شرح معانيها من صغره، وقرأ عليه بعد ذلك في العلاج من كتب أبي بكر محمد بن زكريا الرازي ما عرف به أقسام الأسقام، وحشم العلل في الأجسام، وكان اشتغاله عليه بصرخد، ثم انتقل إلى دمشق، ولازم علماء عصره بدمشق، مثل الشيخ شمس الدين عبد الحميد الحروشاني، والعز الضرير، والنجم بن السفاح، والموفق يعقوب السامري، وقرأ كتاب أقليدس على مؤيد الدين العرضي، وخدم بصناعة الطب في قلعة عجلون، ثم عاد إلى دمشق وخدم بقلعتها، وكان والده حفظه الأشعار، ونقل التواريخ والأخبار، ولما توفي الحكيم أمين الدولة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين وست مائة، رثاه سيف الدين أبو بكر المنجم بهذه الأبيات:
يا مأتماً قد أتى بالويل والحرب ... رميت ركن الحجي والمجد بالعطب
شلت يداك لقد أصميت أي فتى ... رحب الذراعين رياناً من الأدب
أيتمت طلاب علم الطب قاطبة ... وعوضوا عنك بالأفعال في التعب
حق علينا بأن نفديك أنفسنا ... لو كان ذاك لبادرناك في الطلب
أبعد درسك يا ابن القف ينفعنا ... أقوال قوم عن التحقيق في حجب
قد مات إذ مت حقاً بحر فلسفة ... طماً وجامع العلم في اللحود خبى
وبالشفاء سقام مذ نويت وقد ... غدا لفجعتك القانون في صخب
والهف قلبي وواحزني ويا أسفي ... ويا مصاباً دهاني فيك واحربى
حزني عليك مذ الأيام متصل ... وكل عمري أقضيته مع الوصب
أأطمع الآن في درس ومدرسة ... إني إذاً لخؤون غير ذي حسب
لهفي على كهف علم كان يجمعنا ... دوي وأضحى رهين الحتف في الترب
من أبيات. ولأمين الدولة المذكور من التصانيف: كتاب الشافي في أربع مجلدات، شرح كتاب من كتاب القانون لابن سينا ست مجلدات، شرح الفصول لأبقراط مجلدان، جامع الغرض مجلد، المباحث العربية، مقالة حفظ الصحة، كتاب العمدة في صناعة الجراح في عشرين مقالة: عشرة علم وعشرة عمل. آخر الجزء.
السنة السادسة والثمانون وستمائةإستهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة. والملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بالديار المصرية، وقد جهز طائفة من العساكر صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي إلى الشام لحصار صهيون، وبرزية، وانتزاعهما من يد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فوصل الأمير حسام الدين بمن معه من العسكر المصري دمشق في أثناء المحرم أو أواخره، واستصحب معه الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، وعسكر الشام، وتوجه إلى صهيون بالمجانيق، وقاسوا من الأوحال شدة فوصلوها، وشرعوا في حصارها، فكان الأمير شمس الدين قد استعد لهم، وجمع إلى القلعة خلق كثير من رعية بلده، وبعد منازلته بأيام توجه الأمير حسام الدين إلى حصن برزية، وحصره، واستولى عليه، وهو مما يضرب المثل بحصانته، ففتحه، ووجد فيه خيولاً منسوبة للأمير شمس الدين وغير ذلك، فلما فتح لانت عريكة الأمير شمس الدين، وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها، فأجابه الأمير حسام الدين طرنطاي إليها، وحلف له بما وثق به من الأيمان، ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهراً واحداً، وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وظهر، وحضر بنفسه وأولاده، وعياله، وأتباعه، وأشياعه إلى دمشق، ثم توجه إلى الديار المصرية صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي، ووفى له بجميع ما حلف عليه، ولم يزل يذب عنه أيام حياته أشد ذب، وأعطي بالديار المصرية خبز مائة فارس، وبقي وافر الحرمة إلى آخر الأيام المنصورية، وانتظمت صهيون وبرزية في سلك الممالك المنصورية، وهما من أحصن القلاع وأشدهما منعة.
وفي خامس عشر المحرم ولي قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن الخوبي قضاء القضاة بالشام عوضاً عن قضاء القاهرة، وسافر إلى دمشق من القاهرة في ثالث عشر صفر، وكان وصوله دمشق يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وحكم ليومه بالمدرسة العادلية، واستمر بنيابته الشيخ شرف الدين أحمد بن المقدسي، وقرئ تقليده يوم الجمعة بالجامع.
وفي سابع وعشرين شهر رجب سافر الملك المنصور سيف الدين قلاوون من القاهرة قاصداً الشام، فلما وصل غزة، أقام بتل العجول إلى شوال، ثم رجع إلى القاهرة، ودخل القلعة يوم الاثنين ثالث عشر شوال، وكان استناب الأمير علم الدين سنجر الشجاعي.
وفي شهر رمضان وصل إلى دمشق بريدي من الديار المصرية بمرسوم يتضمن طلب سيف الدين أحمد السامري بسبب مرافعة ناصر الدين محمد بن المقدسي له، فإنه كان توجه لمرافعة قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن الزكي رحمه الله، فلما وصل الديار المصرية بلغه وفاته، فتوصل بشمس الدين الأتابكي، ودخل على الشجاعي، وحدثه في معنى ابنة الملك الأشرف موسى بن العادل رحمه الله وأنها باعت أملاكاً جليلة بأيسر ثمن، وعمل يسفهها محضراً شهد فيه أراذل، وثبت عند ابن مخلوف المالكي، ولم يوافق على ذلك غيره، ثم إن الملك المنصور سيف الدين قلاوون شهد عنده أن الملك الصالح نجم الدين أيوب حجر عليها، وأثبتوا ذلك في وجه السامري، وأبطلوا جميع ما باعته، وأخذوا من السامري حزرما. وادعوا عليه بمغلها عشرين سنة، وأخذوا منه بسبب المغل سبعة عشر سهماً بقرية الزنبقية بمبلغ قيمته تسعين ألف درهم، وأخذوا منه مائة ألف درهم تكملة مائتي ألف درهم.
وفيها توفي: إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن المحسن بن محمد بن المهذب أبو إسحاق السلمي الشافعي المنعوت بالشمس. ولي خطابة جامع التوبة ظاهر دمشق بعد وفاة أخيه بدر الدين المقدم ذكره في هذا الكتاب، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته. فكان يقول في خطبته: أين سام! وأين حام! وأين عز الدين بن عبد السلام! فتحدث الناس فيه بسبب ذلك، فدخل على قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكي رحمه الله فكتب في حقه ورقة مضمونها: " الله ولي التوفيق، يقول الفقير إلى الله تعالى يحيى بن الزكي: إنني حضرت صلاة القاضي الأجل الإمام العالم شمس الدين ولد سيدنا قاضي القضاة شيخ العلماء عز الدين بن عبد السلام أيده الله تعالى، وأمتع ببقاء ولده فسمعته خطب خطبة حسنة بليغة وجلت لها القلوب، وذرفت العيون، وأدى أداء حسناً بفصاحة، وطلاقة لسان، وضبط الإعراب، ووقوف على مقاطع الكلام، وإتيان الفرائض، وتوفية السنن، ثم صلى صلاة حسنة، أكمل فروضها، وأتى بسننها، وأحسن أداء القراءة فيها، وأوجز في خطبته، وأطال الصلاة غير ممل في صلاته، وذلك ليس ببدع منه، فإنه نشأ في حجر العلم، وغذى بدر الورع والزهد، فنفع الله تعالى به، وألهم ولي الأمر، وأعانه الله تعالى على ما ولاه من الإحسان إليه، والعاطفة عليه، بمنه وكرمه " .
وكان الشمس المذكور يتكلم بكلام مسجوع يشبه سجع الكهان، ويدعي أنه يلقى إليه من الجن، وتمانى الوعظ، فكان فيه منحط الرتبة، وبلغ والده شيخ الإسلام عز الدين رحمه الله، فورد كتابه إلى بعض أصحابه، وفيه: بلغني أن هذا الولد المتخلف إبراهيم قد صار عضة للناس، فترك ما كان يعانيه من ذلك، وكان يترفع في المجالس بسبب والده رحمه الله، فعمل النجم ابن إسرائيل في ذلك:
تصدر البطرخل ... وهو الأقل الأذل
فلا رعى الله شيخاً ... به علينا بذل
وكان الشمس ينبز بالبطرخل وغيره من هذا الجنس، وكانت وفاته بالعقيبة ظاهر دمشق في ليلة الأحد تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى، ومولده سنة إحدى عشرة وست مائة.
أحمد بن عمر أبو العباس شهاب الدين الأنصاري المرسي المالكي الشيخ العارف. كان قطب زمانه وعلامة أوانه في العلوم الإسلامية، وله القدم الراسخ في علم التحقيق، والكرامات الباهرة. وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: أبو العباس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض. وقال أبو العباس: رأيت عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما علامة حب الدنيا؟ قال: خوف المذمة، وحب الثناء. وكان يقول: والله! ما دخل بطني حرام قط. وكان يقول: الورع من ورعه الله تعالى. وقال: عزم علينا بعض الصلحاء بالإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعة من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان ذلك الوقت، بل وصف لنا المكان فتجارينا، ونحن خارجون الكلام في الورع، فكل قال شيئاً، فقلت لهم: الورع من ورعه الله تعالى. فلما أتينا البستان، وكان زمن التوت، كلهم أسرع إلى الأكل، وأكلت، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجداً في بطني، فأرجع فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مراراً، فجلست فلم آكل شيئاً وهم يأكلون، وإذا بإنسان يصيح: كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغر إذني! فإذا هم غلطوا بالبستان، فقلت لهم: ألم أقل لكم: إن الورع من ورعه الله تعالى؟ وقال لرجل جاء من الحج: كيف كان حجكم؟ فقال ذلك الرجل: كثير الماء سعر كذا وكذا، فأعرض الشيخ عنه، وقال: تسألهم عن حجهم وما وجدوا من الله تعالى من علم ونور وفتح، فيجيبون برخاء الأسعار وكثرة المياه، حتى كأنهم لم يسألوا إلا عن ذلك! توفي إلى رحمة الله تعالى ورضي عنه بالإسكندرية في سنة ست وثمانين وست مائة.
الخضر بن الحسن بن علي أبو العباس برهان الدين السنجاري الزرزاري الشافعي. كان من الفضلاء الرؤساء الأعيان. مولده سنة ست عشرة وست مائة، وتوفي يوم الأربعاء عاشر صفر بمنزله بالمدرسة المعزية بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى بمدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين رحمه الله المجاورة للإمام الشافعي رحمة الله عليه. ولي القضاء بالقاهرة عشرين يوماً، وكان ولي القضاء بمصر في دولة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخوه بدر الدين قاضي القاهرة، وبقي على ذلك إلى أيام الملك الظاهر، فتخيل منه الوزير بهاء الدين، وسعى إلى أن عزل عن القضاء، وضرب، وحبس، وبقي معزولاً فقيراً، ليس بيده سوى مدرسته المعزيه. فلما مات بهاء الدين في آخر سنة سبع وسبعين، كان الملك السعيد بالشام، فسير له تقليداً بالوزارة، ورسم له أن يستخرج من أولاد بهاد الدين ما قرر عليهم من الأموال فلم ينتقم منهم، ولا قابلهم بما فعل به الصاحب بهاء الدين، بل أحسن إليهم غاية الإحسان، وبقي على وزارته إلى أن سلطن الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله فأقره عليها إلى أن تولي الأمير علم الدين الشجاعي شد الدواوين، فسعى في عزله، وضربه، وبقي معزولاً إلى أن مات ابن الأصفوني الوزير، فأعيد إلى الوزارة وبقي مدة، ثم سعى الشجاعي في عزله، وضربه، وحبسه، ثم أفرج عنه، ولما توفي قاضي القضاة بهاء الدين يوسف إلى رحمة الله تعالى، عين لقضاء الشام، فحصل التعصب عليه، وولي شهاب الدين الجويني، وولوه عوض الخويي في قضاء القضاة. فبقي نحو عشرين يوماً، فتوفي، وقيل: إنه سم، وكان رحمه الله حسن السيرة والطريقة، متوفراً على قضاء حوائج الناس رحمه الله تعالى، قال قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن صصرى: كتبت إليه في أثناء تهنئته عند ولايته القضاء بالديار المصرية في المحرم سنة ست وثمانين وست مائة هذه الأبيات:
وهنا مصر وأهلها وبلادها ... بالفضل والفخر الرفيع الشان
فهي التي شرفت وشرف أهلها ... بمليك رق الجود والإحسان
أضحوا متى جحدوا الحسود فخارهم ... قام الدليل عليه بالبرهان
وقال: ولي برهان الدين القضاء بالقاهرة وأعمالها. وتدريس المدرسة المنصورية القطبية مضافاً إلى ما بيده من تدريس المدرسة المعزية، ومدرسة الإمام الشافعي رحمة الله عليه بالقرافة الصغرى، ومدرسة القاضي بدر الدين، وخلع عليه. وباشر منتصف المحرم سنة ست وثمانين، وتوفي في تاسع صفر، فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوماً، وولي بعده القضاء والتدريس بالمنصورية، والشافعي، والقطبية القاضي تقي الدين بن بنت الأعز يوم وفاته، وخلع عليه، وباشر ليومه مضافاً إلى ما بيده وهو القضاء بمصر وأعمالها، والخطابة بالجامع الأزهر، وتدريس الصالحية ونظرها، والشريفية، ونظر الخزانة، والنظر على أولاد الملك الظاهر ودواوينهم، وجميع ما كان للصاحب برهان الدين مباشرة من القضاء والمدارس سوى المعزية والبدرية بالقرافة، فإن نظرهما لورثته، ورتبهم أن يكون تدريسها لهم ويقيموا عنهم فيها نائباً إلى أن تأهلوا.
سليمان بن بليمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن بليمان أبو الربيع شرف الدين الهمذاني الأصل الرعياني المولد الإربلي المنشأ الشاعر المشهور صاحب النوادر والزوائد. كان من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله تعالى قدم دمشق واستوطنها إلى أن توفي بها في ليلة الجمعة عاشر صفر سنة ست وثمانين وست مائة. مولده سنة ست وتسعين، وقيل: سنة تسعين وخمس مائة. ذكره شرف الدين بن المستوفي وزير إربل، وصاحب تاريخها. فقال: أبو الربيع سليمان بن بليمان بن أبي الجيش أبوه صائغ، وهو صائغ من أنشاء إربل، وهو ممن ولد بها، له طبع حسن في نظم الشعر، ويحفظ منه جملة، وله بديهة حسنة، وأجوبة مسكتة، أنشدني لنفسه:
رويدك إن عذلك غير مجد ... فلا تذكي بقولك نار وجدي
ففي أذني وقر عن سماع الملام وفي الهوى عني ورشدي
عذولي لا تزد بلواي بلوى ... فسقمي قد تجاوز كل حد
وليس من المروءة عذل صب ... تطير بلبه نفحات نجد
أسير لا يفك له قياد ... بنرجس مقلة وبورد خد
يعيد غرامه ذكر الليالي ... التي سلفت بنعمان ويبدي
ألا يا صاحبي إن كنت ترعى ... مواثيقي الأولى وقديم عهدي
علام إذا تألق برق نجد ... يؤرقني خلاف الركب وجدي
واسكب في تلمعه شؤوناً ... تفوق السحب إذا هطلت برغد
وإن نسمت نسيم الغور تهدي ... إلى أرنج حوذان ورند
أو ارتفعت بأعلى الغور نار ... تؤرقني على قرب وبعد
أرحني صاح من ذكر البوادي ... وحل عن القباب قباب سعد
فقد ملكت بنو الأتراك رقي ... بهزل من تجنيهم وجد
ظباً صرعت أسود الغاب فاعجب ... لآرام لأسد الغاب تردي
يدور دجىً أقلتها غصون ... غنوا عن كل خطي بقد
تحل عزيمتي من أن يصدوا ... بحل من بنودهم وشد
كلفت بهم ولا كلفي بمولي ... أمير البدر في حل وعقد
جدير المكرمات أبو العطايا ... إلى طرق الندى من ضل يهدي
فكم ستر لعرس الدين سارت ... عن العافين من شكر وحمد
له أيد على كل البرايا ... ولا سيما خلاف الناس عندي
سخا في المكرمات جدود صدق ... صناديد الوغى وثناة مجد
لهم في المبتدا حكم الرواسي ... ويوم الروع سطوة كل ورد
إذا ورد الذي لو لاه ضاقت ... لدي مذاهبي وأسبع وردي
ومن بمديحه ذهبت نحوسي ... وأقبل حيث يممت سعدي
أتاك العيد يأذن بالبقاء الطويل وكل إقبال وجد
تهن به ودم ما دام رضوى ... على رغم الحسود وكل ضد
قال أبو البركات: وأنشدني أيضاً لنفسه:
قم يا أخا المكارم.... نسعى ... لارتشاف الطلي وغصن الخدود
واغتنم غفلة الزمان وحاذر ... أن تبيع الموجود بالمفقود
وأنشدني الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجا رحمه الله للمذكور يهجو الشهاب بن التلعفري وقد بلغه أنه قامر بخفافه وأنشدها ابن بليمان الملك الناصر يوسف بن محمد رحمه الله تعالى:
يا مليكاً فاق الأنام جميعاً ... منه جود كالعارض الوكاف
والذي راش بالعطايا جناحي ... وتلافى بعد الإله تلافى
ما رأينا ولا سمعنا بشيخ ... قبل هذا مقامر بالخفاف
ونهاكم يدق في كل يوم ... في قفاه والرأس والأكتاف
أسود الوجه أبيض الشعر في لو ... ن سحيم في قبحه وخفاف
يدعي نسبة إلى آل شيبا ... ن وتلك القبائل الأشراف
وهمو ينكرون ما يدعيه ... فهو والقوم دائماً في خلاف
مثل نجد لو استطالت لقالت ... ليس هذا الدعي من أكناف
فابسط العذر في هجاء رقيع ... عادل عن طريقة الإنصاف
من أبيات. وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ويهنئه بعيد النحر:
يا قمراً قلبي له منزل ... قد رق لي في حبك العذل
فضل معني فيك ذو لوعة ... يعرب عنها دمعه المهمل
وأرني لبلوى دنف حاله ... مفضل إيضاحه محمل
وأصغي لشكوى كلف ذي جوى ... يدبل من أيسره ويذبل
يا طلعة البدر المنير الذي ... في كل يوم حسنه يكمل
ومن له طرف إذا ما رنا ... يعار منه الظبية الغزل
قدك هذا أم غصن مائس ... تثني الصبا عطفيه والشمأل
إذا تثنى من دلال الصبي ... يحسده العسالة الذبل
ولحظك الساحر أم صارم ... مهند في جفنه يقبل
يا رشا الأتراك عطفاً على ... خلف غرام داؤه معضل
ناظرك الفاتك في... ... فعلك أم حاجبك المقفل
أم جاء في فترة أجفانك ... المرضى بقتلى صدغك المرسل
إلى متى تمطلني دائماً ... وحجة الموسر لا تقبل
وكم ديون لي تقتضي ... وعن غرامي فيك لا تسأل
هل لليالي سلفت عودة ... ونحن في برد الصبي نرفل
أيام لا يحذر من كاشح ... بسر أخبار الهوى ينقل
والعيش غصن مورق عوده ... وأنت يا كل المنى مقبل
وإذ معاني الهوى مأهولة ... وليل فودى حلل أليل
وعطرت أرجاؤه نسمة ... تضوع من أنفاسها المندل
وروضة منه الثرى ديمة ... ترضعه أخلافها الحفل
يحلى بذي نخل العزيز الذي ... يخجل منه العارض المسبل
الملك الناصر من جاره ... دون ملوك الأرض الميل
يجري ندى عذب لوراده ... ليس يضام دونه منهل
طوى الحجى ما لملوك الأرض ... غير حجاه أبداً معقل
شمس على أنجم حسارة ... عابرة من نوره أفل
يعدل في الحكم ولكنه ... عن طرق المعروف لا يعدل
كم سد... لولاه وكم ... حل لنا من قوله المشكل
ليث إذا ما صار في معزل ... دان له لبث الشرى المشبل
تعيد ليل النقع أسيافه ... صبحاً إذا ما ازدحم الجحفل
إذا التقى الجمعان في مأزق ... له سماء شادها القسطل
وطاشت الألباب في ساعة ... يراع فيها القلب والحول
وقامت الحرب على ساقها ... إذا كل قلب ثابت يذهل
أقبل كالسيل على سابح ... كأنه من تحته بر أجدل
فاعجب لبحر ضمه في الوغى ... نهى له في كفه جدول
ينقط في وجهه للعدى ... سمره وبيضه من بعدها يشكل
يا مالكاً راش جناحي ولي ... من جوده ماضٍ ومستقبل
ظلت ملوك الأرض طراً ... جئت أخيراً أو هم أول
وسدت من مجدك فوق الذي ... بناه آباؤك أو أثلوا
فالناس في عصرك في جنة ... قطوفها دانية ميل
قد بلغوا فيه الذي حاولوا ... وأدركوا منك الذي أملوا
فاستجل بكراً نظمها ... رائق بالفضل لها جرول
عذراء ينسيك الدمى حسنها ... بنفسها أعينها تكحل
لو اجتبت في آل حرب كما ... نكب عن ألفاظها الأخطل
وأقبل عن داع لكم مخلص ... رضاك يرجو وله يؤمل
سعى به ذو عزة قوله ... كل على الأسماع مستثقل
ورام أن يحمل من قدرة ... وعندك الباطل لا يقبل
وكيف يلغى عندكم شاعر ... كسيف أحسابكم صيقل
عبد ولاه لم يزل شاكراً ... ليس له عن ظلكم معدل
فاسعد بعيد النحر واسلم له ... لا زلت في ثوب الهنا ترفل
وذكره الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله في تاريخ حلب، فقال: سليمان بن بليمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن بليمان الهمذاني الأصل الإربلي المولد، أنشدني من لفظه لنفسه:
يا شرف الدين الذي لم يزل ... بمجده المنصوب في رفع
والكامل الخير الذي لم يزل ... يصدق فيه خبر المسمع
رب الصناعات الحسانات ... التي تجمعت في أحسن الصنع
طال ندى التذكار في مدة ... لخاطري في النظم أو طبع
مرهفة كالقضيب هندية ... تحيل بين الأصل والفرع
تسطو على أرقش ماضي السنا ... مؤهل الضر والنفع
إذا جرى في طرسه مسرعاً ... فات وميض البرق في اللمع
عذرك في تاريخها واضح ... وذاك محمول على الوضع
لو وصت كنت معجباً ... لأنها من آلة القطع
فحلها واستحل عينيه ... تفرق عن السفح والجزع
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وما زالت الركبان تخبر عنكم ... أحاديث كالمسك الذكي بلا مين
إلى أن تلاقينا فكان الذي وعت ... من القول أذني دون ما أبصرت عيني
عبد العزيز بن عبد المتعم بن علي بن الصيقل أبو العز عز الدين الحراني. كان مسند وقته، وله السماعات العالية، انفرد بها، وكان رجلاً جيداً خيراً، توفي بالقاهرة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رجب، ودفن بالقرافة رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن محمود بن الفقاعي صفي الدين المقريء. كان نادرة وقته في القراءة لم يسمع له ند بحسن قراءته وطيبها. وكان قد بلغ الثمانين ولم يتغير صوته، وكان يقرأ عشراً بدار الحديث كل ميعاد، والعجب أنه ما يقرأ الا ما يناسب ما يقرأ من الأحاديث، وهذا يعد من مناقبه، وكان إمام مقصورة الحنفية بدمشق، والناس يزدحمون على قراءته، وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشرين المحرم، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
علي بن يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب علاء الدين ابن الملك الناصر. كان شاباً حسناً، توفي في تاسع عشرين المحرم يوم الخميس، وأخرج ميتاً من قلعة الجبل بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكان محبوساً بها رحمه الله تعالى.
محمد بن عباس بن محمد بن أحمد بن عبد بن صالح أبو عبد الله الربعي الدنيسري المنعوت بالعماد. مولده بدنيسر في سنة ست وست مائة، وتوفي بدمشق في يوم الثلاثاء ثامن صفر سنة ست وثمانين وست مائة، ودفن يوم الأربعاء بمقابر باب الصغير. روى عن ابن المقير، وعن جماعة من أصحاب السلفي وغيرهم. وله معرفة بالطب، وإلمام بالأدب، وينظم الشعر، وعنده حسن المحاضرة، ومداخلة للرؤساء والأعيان، وعلى ذهنه قطعة من التاريخ وأيام الناس، ولازم بهاء الدين زهير المقدم ذكره رحمه الله، وكان له به اختصاص، اجتمعت به مراراً، ومن شعره:
من أعلم القلب أنى كلفت به ... حتى غدا منه في حزن وفي كرب
يشكو الغرام ولا يشكو مرارته ... مبلبل البال بين الجد واللعب
رام العواذل سلواني فقلت لهم ... والدمع يقطر من جفني عن لهب
يا للرجال أنا المضني بفرط هوى ... فلم عذولي لا تحملوا من التعب
لم أنس ليلة وافى وهي في يده ... حمراء قد عصرت من رائق العنب
جنى بها بعد ما جنى بطلعته ... وذاقها فحلت من ذلك الشنب
ودار بالطاس والكأسات في يده ... قد زينت بالحميا ثم بالحبب
ونحن في مجلس حف السرور به ... كأننا منه فوق الأنجم الشهب
ظبي أقام بقلبي وهو يطلبه ... مع الزمان وهذا غاية العجب
مورد الخد معسول المراشف ممشوق القوام كثير الدل والغضب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم ليلة بت أستحلي المادم على ... وجه الحبيب وبدر التم في السجف
حتى إذا أخذت منه المدامة ... والواشون في غفلة عنا فلم نخف
عانقته عندما قبلت مبسمه ... حباً له كاعتناق اللام للألف
محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الكناني الأصل بدر الدين. الإمام العلامة في علوم النحو والعربية والبيان مع الذكاء المفرط وجودة الذهن، ولطافة الأخلاق، وحسن العشرة، وله مشاركة جيدة في الفقه، والأصول وغير ذلك، أقام ببعلبك مدة سنين ثم سكن دمشق وتصدر للاشتغال بعد وفاة والده الشيخ جمال الدين رحمه الله. وكان والده إمام عصره في هذا الشأن، وقد تقدم ذكره في سنة اثنتين وسبعين وست مائة، وسمعت جماعة من الفضلاء العارفين بهذا الفن إن ولده الشيخ بدر الدين المشار إليه التحق به، وبرز عليه في بعض هذه العلوم. وكان كثيراً ما يعتريه قولنج فيجد منه ألماً شديداً، واعتراه قبل وفاته بأيام فكان سبب موته، وتوفي بدمشق يوم الأحد ثامن المحرم. وكان دفنه يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى ولم يترك بعده في هذا العلم مثله في الشام مما علمنا. وله تصانيف مفيدة مختصرة، وشروح حسنة رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن الميمون القيسي الشاطبي المعروف بابن القسطلاني، قطب الدين أبو بكر بن أبي العباس ابن أبي الحسن التوريزي الأصل، المصري المولد، المكي المنشأ، الشافعي الفقيه المحدث الإمام العلامة مجموع الفضائل. كان إماماً عالماً فاضلاً ورعاً زاهداً، لم يكن في وقته مثله. وكان في وقته مثله، وكان له صيت حسن، وتوجه وانقطاع إلى الله تعالى، وكان شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وبيده الوظائف الدينية، وكان من مشايخ العصر المشهورين بسعة العلم. مولده يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع عشرة وست مائة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر المحرم بالقاهرة ودفن من الغد بالقرافة الصغرى، وكان قد سمع من مشايخ عصره، ونظم الشعر الحسن، فمنه ما أنشده الأمير علم الدين سنجر الدويداري في شهور سنة سبع وخمسين وست مائة:
إذا كان أنسى في التزامي لخلوتي ... وقلبي عن كل البرية خال
فما ضرني من كان لي الدهر قالياً ... ولا سرني من كان في موال
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ألا هل لهجر العامرية إقصار ... فتقضي من الوجد المبرح أوطار
ويشفي عليل من عليل موله ... لنجم من الجوزاء في الليل سمار
أغار عليه السقم من جنباته ... وأعزاه بالأحباب نأي وتذكار
ورق له مما يلاقي عذوله ... وأرقه دمع يرقرق مدرار
يحن إلى برق الأبيرق قلبه ... ويخفق إن ناحت حمائم وأطيار
عسى ما مضى من حفظ عيشي على الحمى ... يعود قلبي فيه نجوم وأقمار
عدمت فؤادي إن تعلقت غيرها ... وإن زين السلوان لي فهو غدار
ولي من دواعي الشوق في السخط والرضى ... على الوصل والهجران ناه وأمار
أأسلو وفي الأحشاء من لاعج الأسى ... لهيب أسال الروح فالصبر منهار
كان والده قطب الدين من سادات المشايخ وزهادهم، روى عن ابن بري وغيره. سئل عن مولده فقال: في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مائة بمصر. وتوفي رحمه الله بمكة شرفها الله تعالى في ليلة الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وست مائة، ودفن من الغد بالمعلى، وسمع من مشايخ الطريق، وأخذ عنهم، وكان خصوصه بالشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي الهاشمي الصالح العارف المشهور الذي لم يكن في زمانه مثله. وكان كثير الابتلاء والرضى به، وروى عنه شيئاً كثيراً من كلامه مما رواه عنه أنه قال: من لم يدخل في الامور بالادب لم يدرك مطلوبه وسمعه يقول: الذم الأدب وحدك من العبودية، ولا تتعرض لشيء، فإن أرادك لشيء هيأك له. وسمعه يقول: العاقل يأخذ من الأمور ما صفا، ويدع التكلف فإنه تعالى يقول: " وإن يردك بخير فلا راد لفضله " ، وسمعه يقول: إذا أخذت في الأمور فاختر أيسرها، وإلا أسأت الأدب. وسمعه يقول: النافلة لمن أكمل الفريضة. وسمعه يقول: من لم يعرف الزيادة من النقصان في هذه الدار فهو محجوب. وسمعه يقول: من لم يراع حقوق الإخوان يترك حقوقه وحرم بركة الصحبة. وسمعه يقول: من لم يكن له مقام من التوكل، كان ناقصاً في توحيده. وسمعه يقول: لا يصلح التعلم في هذا الشأن إلا لمن يعز عليه فرضه، وخاف العقوبة من ترك الكلام. وسمعه يقول: من نظر إلى المشايخ بعين العصمة حجب رؤيتهم. وروى عنه شيئاً كثيراً رحمة الله عليه. وكان الشيخ أبو عبد الله من السالكين الأبرار الأولياء، ذكره المرحوم تاج الدين بن الأثير في مختصره، فقال: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرشي الهاشمي المغربي من أهل الجزيرة الخضراء، توفي بالقدس الشريف سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وعمره خمس وخمسين سنة، وقبره بالقدس، والجزيرة الخضراء في بر الأندلس.
مفضل بن إبراهيم بن أبي الفضل رضي الدين الدمشقي الطبيب المشهور بالفضيلة التامة. كان طبيباً حاذقاً، حسن المعالجة ديناً ورعاً صالحاً، حسن الاعتقاد، كثير المحبة للخير، سافر إلى البلاد بركة وخدمة، وحصل منه أموالاً كثيرة نهبت عند عوده إلى دمشق، وعرضت عليه رياسة الأطباء فأباها، وكان روى عن مشايخ وقته، وخطه في الإجازات كثير، ومولده سنة عشر وست مائة، وتوفي ليلة الأربعاء ثالث عشر صفر، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله تعالى، وكان له في النظم يد، فمن ذلك:
الشمعة قالت بلسان الحال ... البعد عن الشهد برء أوصالي
ها قلبي كيف حاله أنت ترى ... النار به تذيب قلبي البالي
آخر الجزء السابع عشر من ذيل تاريخ مرآة الزمان يتلوه الجزء الثامن عشر: السنة السابعة والثمانون وست مائة استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة.
كان الفراغ من كتابة هذا الجزء في يوم الخميس لثمان خلون من شوال سنة 1115 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فغفر الله لكاتبه، ولقارئه، ولسامعه، ولوالديه، وللمسلمين، ومن دعا له بالمغفرة، آمين آمين آمين؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم!