كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني
؟محمود بن عبيد الله بن أحمد أبو المجاهد ظهير الدين الزنجاني الصوفي الفقيه الشافعي، كان من أعيان الصوفية وأكابرهم وعنده فضيلة، ويفتي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله؛ وكان إمام المدرسة التقوية بدمشق وأكثر نهاره بها، وفي الليل يبيت بالخانكاة الشميساطية. سمع الكثير وحدث واشتغل عليه جماعة، صحب الشيخ شهاب الدين السهروردي وسمع عليه عوارف المعارف وغير ذلك، وحدث به وصنف تصانيف مفيدة، منها الرسالة المنقذة من الجمر في إلحاق الأنبذة بالخمر. وقال أيضاً رحمه الله: توفي بدمشق وقد نيف على السبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. وكان والده ركن الدين عبيد الله قاضي زنجان من الفضلاء. ومن شعر ظهير الدين رحمه الله:
إلهي! ذنوبي والخطايا كثيرة ... فأنت الذي تعفو وتمحو الكبائرا
متاعي من الطاعات والبر بائر ... فأنت الذي يسري وأشرك مآثرا
وإن كنت تصلي النار نفسي بنورها ... وويل على النفس التي كنت بائرا
وقال أيضاً رحمه الله:
قد قال لي العين أعين الشيطان ... في الخلوة لم سكنت بين الاخوان
أشكر فرحاً وكل و نم قلت له ... بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
مسعود بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حموية الجويني الملقب سعد الدين، هو أسن من أخيه الشيخ شرف الدين، وكان أولاً يعاني زي الخدمة، ثم لما أسن ترك ذلك الزي ولبس القيار وصار شريكاً لأخيه في مشيخة الشيوخ بدمشق، وكان عنده إطلاع على التواريخ وأيام الناس، وجمع في ذلك جموعاً مفيدة. وقال أيضاً رحمه الله: توفي بدمشق ليلة الجمعة سابع وعشرين ذي الحجة، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون؛ ومولده ليلة الأحد سادس عشر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة، وأمه عالية النسب ابنة الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري.
سمع سعد الدين المذكور على الكندي المقامات وأجزاء أدبيات في سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وسمع على القاضي جمال الدين عبد الصمد بن الحرستاني مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وسمع البخاري بقراءة أبي الفضل الوليد على عبد السلام بن عبد الله بن بكران الداهري لحق سماعه من السجزي عن الداوودي عن السرخسي عن الفربري عن البخاري، وأجازه جماعة، منهم الشيخ يحيى بن عقيل بن شريف السعدي، ومجد الدين عمر بن دحية والشيخ محمود بن عبد الله الحاري وغيرهم وحدث. وله نظم لا بأس به فمنه - وقد رأى مملوكاً حسن المنظر في يده كلب صيد:
رأيت في الصحراء ظبياً غدا ... مرتعه لب قلوب الرجال
في يده كلب أسير له ... وعادة الكلب يصيد الغزال
وله أيضاً في الزهر:
رأيت أزاهير الرياض وقد حكت ... بياض مشيب المرء حين علاها
وقد ثملت أغصانها فهي تنثني ... وجاد عليها المزن ثم سقاها
ومن عجب أن يهرم الشيب دائماً ... وهذا مشيب الدوح بدر صباها
وله يتشوق إلى دمشق يمدح الملك المظفر صاحب ميافارقين:
غرامي إلى الأحباب ليس يحول ... وفرط اشتياق نحوهن طويل
أحن إلى ماذي دمشق ودوحها ... إذا رفحته بالأصائل قبول
أيا راكباً بلّغ هديت تحيتيإلى من هموا على الشئام نزول
وخبرهم أني حواني منزل ... بأكناف ميافارقين ظليل
أرى ملكاً الذي ملوك زمانه ... يميناً وناديه أعز جميل
من النفر الشم الذين سمعت بهم ... فروع إلى علياهم وأصول
هو الملك غاز ليس في الناس مثله ... كريم شجاع صادق وأصيل
حباني وأحياني وقرّب منزلي ... وقابلني منه سناً وقبول
وما أنا والأشعار لو لا صفاتكم ... تعلمني في الحال كيف أقول
فلا زلت في الدنيا سعيداً مهنأ ... ولا زلت منصور اللوى وتنيل
السنة الخامسة والسبعون وست مائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية و الملك الظاهر بالشام عائداً من الكرك.
متجددات الأحوال
في ثالث المحرم دخل الملك الظاهر دمشق، وافق يوم دخوله إليها وفد عليه من أعيان المغل سكتاي وأخوه جاروجي واخبراه أن الأمير حسام الدين بيجار التاتيري قد قطع خرت برت وولده بهادر عازمان على الحضور. وكان سبب وصول سكتاي وأخيه أن بهادر كان متزوجاً بأختهما. وكان لهما أخ كافر فوصل إليهما ومعه جماعة من أقاربهم. وطلبوا منهما مالاً وقالوا لهما: أنتما في راحة بسكنى المدن، ونحن في التعب بملازمة البكار فأعطونا شيئاً نستعين به، وإلا أحضروا معنا إلى أبغا ليفصل بيننا؛ فشاوروا البرواناة فأشار أن يدفعا لهم ما التمسوه، فأخذوه وتوجهوا، فقال البرواناة لبهادر: ما أنا ممن يدعو علينا عند أبغا إننا باعيه فنتضرر: فلحقهم بهادر وصهراه فقتلوهم وأخذوا ما معهم.
وكانت رسل أبغا ترد على البرواناة تحثه على المصير إليه وهو يسوفهم منتظراً لعسكر الملك الظاهر. فلما يئس منه توجه إلى أبغا في حادي عشر ذي الحجة من السنة الخالية وصحبته أخت السلطان غياث الدين ليدخل بها إلى أبغا ومعه من الأموال والتحف ما لا يوصف كثرة، وتوجه خواجا على الوزير. ولما عزم على التوجه حضّ بهادر على التوجه إلى الملك الظاهر مع أبيه لأن أبغا ينقم عليه قبل من قتله من التتر. فتقدم بهادر إلى سكتاي وأخيه بالمسير إلى بين يده إلى الملك الظاهر ليعرفاه بعزمه وعزم أبيه على الوصول وتذكراه بما تقدم لبيجار من اليمن. فلما وصلا أحسن إليهما وبعث بهما إلى القاهرة ليجتمعا بولده الملك السعيد، فوصلاها يوم الجمعة ثاني عشر المحرم، فأحسن إليهما الملك السعيد وردّ بهما إلى أبيه بعد ثلاث.
وفي أواخر المحرّم سيّر الملك الظاهر الأأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي ومعه ألف فارس وأمره إذا وصل حلب يستصحب عسكراً منها ويتوجه إلى بلاد الروم، وكتب على يده كتباً إلى أمراء الروم يحرضهم فيها على طاعته. وكان سبب هذه المكاتبة ان شرف الدين مسعود بن الخطير بعد سفر الرواناة في النسة الخالية إلى أبغا كتب إلى الملك الظاهر يحثّه على الوصول إلى الروم بعساكره لينظم إليه والسلطان غياث الدين ومن في بلاد الروم من العساكر، وبعث كتابه إلى سيف الدين جندر مقطع البلستين ليبعثه إلى الملك الظاهر، فدفعته إلى ولده بدر الدين أقوش وأمره أن لايبعثه فخالفه وبعثه.
واما شرف الدين فداخله الندم وخاف إن هو خرج من الروم لا يعود إليه، فكتب إلى سيف الدين جندر أن لا يبعث الكتاب فاستدعى بولده وطلبه منه فأخبره أنه بعثه. ولما وصل بدر الدين الأتابكي إلى البلستين صادف من عسكر الروم جماعة منهم الأمير مبارز الدين شورى الجاشنكير، وسيف الدين جندر، وبدر الدين لؤلؤ، وبدر الدين ميكائيل، وعند وقوع نظره عليهم لم ينزل ولا من معه على ظهور الخيل بعثوا إليهم بإقامة جليلة وركبوا إليه وسالوه الإبقاء عليهم على أن يقتلوا من بالبلستين من التتر ويصيروا معه إلى باب الملك الظاهر فأجابهم، فلما وفوا بذلك قفل بهم، فوافوا الملك الظاهر بحارم فأقبل عليهم.
ذكر وفود بيجار وولده بهادرلما تواترت الأخبار بقربهما تقدم إلى الأمير نور الدين نائبه بحلب بالاهتمام بالإقامة له، ثم الخروجإلى لقائه إذا شارف البلاد. ولما قارب أرض دمشق سيّر جمال الدين محمد نهار لتلقيه ووصل بيجار إلى دمشق يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، فتلقاه السلطان وبالغ في إكرامه، وأنزله في النيرب. ثم وصل ولده بهادر إلى دمشق يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر وكان تأخر بسبب جمع أمواله من البلاد، وكان مهذب الدين علي بن البرواناة نائباً عن أبيه في البلاد يومئذ. فلما بلغه رحيلهم جهز خلفهم عسكراً من التتر وقدم عليهم نيجى فسار إلى خرت برت فلم يلحق أحداً منهم غير أنه عشر على خمس مائة فرس عربية عريقة الأنساب، كان بهادر قدمها بين يديه فضلّت عن الطريق. لما قضى الملك من الاجتماع بهما بعث بهادر إلى القاهرة مع بيسرى وخطليجا فخرجوا من دمشق يوم الخميس تاسع صفر ووصلوا يوم السبت ثالث ربيع الأول ثم بعث أباه بيجار مع شرف الدين الحاكي فوصلاها يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فخرج الملك السعيد لتلقيه واحتفل به وحمل إليه أموالاً وخلعاً.
وفي الرابع والعشرين من صفر علق مشاء السلطان وكسر الخليج بكرة السبت الخامس والعشرين منه وركب الملك السعيد وباشر ذلك بنفسه وانتهت الزيادة إلى أربع عشرة إصبعاً من تسع عشرة ذراعاً.
وفي الخميس تاسع صفر توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حلب، فوصل حمص ثالث عشر صفر فوافاه عليها ضياء الدين محمود بن الخطير، وسنان الدين بن الأمير سيد الدين طرنطاي بكلربيكي؛ وسبب وصولهما أن شرف الدين بن الخطير كان لما وردت كتب الملك الظاهر على امراء الروم شرع في تفريق العسكر الرومي، وأذن لهم في نهب من يجدونه من التتر وقتله وإنجاز الأمير محمد بن قرمان وإخوته واولاده بمن معه من التركمان إلى السواحل وأغاروا على من جاورهم. ثم كتب السلطان الملك الظاهر يعرفه مباينته التتر وإخراج السواحل من أيديهم، وبلغ السلطان غياث الدين ومهذب الدين ما اعتمده شرف الدين بعثاً في طلبه. فلما وصل إليهما أمر مهذب الدين أن يحضر بجمع رسل التتر ونوابهم ومن كان من المغل ممن كان مع ينجي على أسوأ حال، فأحضروا مكشفين الرؤوس وبسطت الرعية أيديهم فيهم، وحبس من قبض عليه منهم وبعث بمهذب الدين إلى شرف الدين مسعود، وكان ظاهر المدينة ليحضر فأبى. فخرج إليه تاج الدين كيوى ثم تبعه سيف الدين طرنطاي وسبق تاج الدين. فلما اجتمع بشرف الدين عنّفه، وأغلظ له فأمر به فقتل وقتل معه سنان الدين بن أرسلان طمغش زوباشي قونية. ولما قتلهما خاف من مهذب الدين فتوجه قاصد الملك الظاهر. وذلك يوم الجمعة ثالث عشر صفر وأدركه سيف الدين طرنطاي.
فلما رأى السيوف مجردة أنكر عليه فقال شرف الدين: فات ما فات فاستر عليّ بالمصلحة؛ فقال: الرأي أن أرجع إلى بيتي فرجع وتركه. ولما بلغ مهذب الدين ذلك بعث إلى سيف الدين يستدعيه فأتى فتحيّل أنه مع شرف الدين، ثم بعث شرف الدين إليه. فلما اجتمع به سأله أن يوفق بينه وبين مهذب الدين فعاد سيف الدين إلى مهذب الدين وسأله في ذلك وأجاب. وخرج السلطان غياث الدين إلى ظاهر قيسارية، فنزل بجمال طاسي في عشية النهار المذكور. فلما رآه شرف الدين وضياء الدين ومن معهما ترجّلوا وقبّلوا الأرض ونادوا في البلد بشعار الملك الظاهر. واتفقوا أن السلطان غياث الدين والعسكر يتوجهون إلى مدينة بكيدة يقيمون بها ويبعثون قصاداً إلى الملك الظاهر يستوثقون باليمين لغياث الدين ولأنفسهم فاستأذنهم مهذب الدين في أن يدخل إلى قيصارية ليخرج أثقاله فأذنوا له، فدخل وحمل منها أثقاله وخزينته وخرج منها ليلاً وقصد دوقات؛ فلما تحققوا ذلك، بعث شرف الدين بن الخطير أخاه ضياء الدين ومعه سبعة وثلاثون نفراً من أصحابه، وبعث الأمير سيف الدين طرنطاي بكلربكي ولده سنان الدين ومعه عشرون نفراً إلى الملك الظاهر ليستوثقوا منه باليمين لغياث الدين ولأنفسهم فاستأذنهم مهذب الدين في أن يدخل قيصارية ليخرج أثقاله فأذنوا له فدخل وحمل أثقاله وخزينته وخرج منها ليلاً وسار سيف الدين وشرف الدين والسلطان غياث الدين إلى بكيدة وقدروا مع رسلهم أن يحثوا الملك على المسير إليهم بعد أن يستحلفوه على ما تقرر.
فلما وصلوا إلى الملك الظاهر واجتمعوا به في حمص وأخبروه بما جرى وحثوه على المسير؛ قال: أنتم استعجلتم في الباينة فإني كنت قد عدوت معين الدين قبل توجهه إلى الأرد، وفي أواخر هذه السنة أطأ البلاد بعساكري فإنها بمصر وما يمكنني أن أدخل البلاد بمن معي الآن لقتلهم، وأما انفصال مهذب الدين إلى دوقات فنعم مافعل، فإنه كان مطلعاً على ما بيني وبين والده.
ثم أنزلهم وأكرمهم وطلب ضياء الدين أن يجتمع بالسلطان خلوة، فأجابه فلما اجتمع به قال: ليتني لم تقصد البلاد في هذا الوقت لم آمن على أخي أن يقتل ومن معه من الأمراء الذين خلفوا وغن كان لا بدّ من تصبّرك فابعث إلى بلاد من فيه قوة من عسكرك حتى يكونوا ردءاً السلطان غياث الدين ولأخي، فتمكنوا من الخروج من البلاد؛ فقال: أرى من المصلحة أن ترجعوا إلى بلادكم وتحصنوا قلاعكم ويحتموا بها على أن أرجع إلى مصر وأربع خيلي، وأعود في زمنالشتاء فإن آبار الشام في هذا الوقت قد غارت، ثم استصحبهم معه إلى حلب في العشرين من صفر؛ ولما مر بحماة استصحب صاحبها، ووصل حلب في الخامس والعشرين من صفر وجهز الأمير سيف الدين بلبان الزيني في عسكره، وبعث به إلى الروم ليحضر السلطان غياث الدين، وشرف الدين بن الخطير، وسيف الدين طرنطاي، وبقية من حلف له من الأمراء. فلما وصل كينوك - وهي الحدث المراء - وردت القصاد إليه بعود البرواناة إلى الروم في خدمة منكوتمر وإخوته في ثلاثين ألف فارس والأمراء، راجعاً إلى تتاوون، فكتب إلى الملك الظاهر يعرفه بذلك، فظن أن التتر إذا سمعوا به في عسكر قليل قصدوه؛ فرحل من حلب إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد الأمير سيف الدين. ولما ترك الملك الظاهر حمص قدم عليه رسل صاحب سيس ومعهم هدية فقبل الهدية ولم يجتمع بالرسل، وكان دخوله مصر يوم الخميس ثاني عشر ربيع الأول.
ذكر هروب شرف الدين بن الخطيرقد تقدم القول بوصول البرواناة ومنكوتمر ومن معهم من العساكر إلى الروم في أوائل ربيع الآخر، فلما قدموا ظهر لهم شرف الدين المباينة وعزم ان يلقيهم فسبقه من كان معه رأيه وقالوا: كيف يلتقي بأربعة آلاف ثلاثين ألفاً، فعلم أنه مقتول لا محالة فقصد قلعة لولوة ليتحصن بها، فلم يمكنه واليها من دخولها بجماعتهبل بمفرده، فدخلها ومعه أمير علمه وكان قد أذاه من مدة تزيد على ست عشرة سنة، فقال لوالي القلعة: احتفظ بشرف الدين حتى تسلمه إلى أبغا لتكون لك عنده اليد البيضاء؛ فبض عليه وبعثه إلى البرواناة. فلما وقع نظره عليه سبه وبصق في وجهه وأمر بالاحتياط به.
ذكر ما حدث ببلاد الروم عند وصول التترإليها لما عاد البرواناة - كما قلنا - بمن معه من العساكر التترية جلس وتنادوا مقدمي العساكر وكراي وتقو والبرواناة في الإيوان مجلساً عاما. وأحضروا
السلطان غياث الدين ومن رافقه على الانقياد إلى الملك الظاهر وقالوا له: ما حملك على ما فعلت من خلع طاعة أبغا وركونك إلى صاحب مصر؟ فقال: أنا صبي وما علمت الصواب، ولما رأيت أكابر دولتي قد فعلوا ذلك، خفت أن يسلموني إذا لم أوافقهم. فنهض البرواناة إلى شجاع الدين قاسا الخصى الالاء فقتله بيده. ثم أحضروا سيف الدين طرنطاي ومجد الدين أتابك، وجلال الدين المستوفى وسألوهم عن سبب إنفاذهم إلى صاحب مصر؛ فقالوا: شرف الدين بن الخطير أمرنا بذلك، وخفنا إن لم نجبه فعل بنا كما فعل بتاج الدين. فأحضروا شرف الدين وسألوه، فقال للبرواناة: أنت حرضتني على ذلك، وذكر له المكاتبات التي كاتب بها المظفر واتفاقه معه إلى التاريخ الذي عزم شرف الدين على قصد الملك الظاهر فيه، فأنكر ما ادعاه عليه، فكتبوا ما قاله شرف الدين وانكار البرواناة؛ ثم سألوا شرف الدين عن الأمير سيف الدين طرنطاي، ومجد الدين الأتابك - ختن البرواناة - هل كانوا موافقين بذلك؟ فأنكر وقال: أنا كلفتهم وألزمتهم بإرسال الرسل إلى الملك الظاهر فأمر تتاوون بضربه بالسياط ليقر بمن كان معه. فأقر على نور الدين حجا وسيف الدين قلاوون وعلم الدين سنجر الجمدار وغيرهم. فلما تحقق البرواناة أنه يقتل بإقرار شرف الدين عليه بعث إليه يقول له: متى قتلوني لم يبقوك بعدي، فاعمل على خلاص نفسك وخلاصي بحيث متى حضرت مرة ثانية وضربت وسئلت عن الحال، فارجع عما قلت واعتذر بأن اعترافك كان من ألم الضرب؛ ففعل ما أمره البرواناة، وطولع أبغا بصورة الحال، ثم رسم أن يضرب كل يوم مائة سوط إلى ان يعود الجواب، فعاد الجواب، فأمر بقتله في آخر ربيع الآخر، فقتل وبعث برأسه إلى قونية وإحدى يديه إلى أنكورية والأخرى إلى أرزنجان، وفرقوا أعضاءه في سائر بلاد الروم، وقتل معه سيف الدين بن قلاوون وعلم الدين سنجر الجمدار وش1 محمد قاتل شمس الدين الأصبهاني نائب الروم وجماعة كثرة من التركمان، وأثبتوا ديناً على طرنطاي ففدى نفسه بمائتي فرس وأربع مائة ألف درهم، وعلى أن يقيم بألف من المغل في زمن الشتاء، وصانع جماعة من امراء المغل حتى أبقوا عليه نفسه، ثم خرج البرواناة إلى البلاد فطافها بعسكره، وقتل من وجد في ضواحيها من المفسدين.
ولما اتصل خبر شرف الدين بن الخطير بأخيه ضياء الدين وهو بالقاهرة دخل على الملك الظاهر في ثوب غيار، فسأله عن سبب ذلك فذكر له أن أخاه قتل. وكان سبب قتله أنه شهد عليه بمتابعة السلطان ومنابذة أبغا سيف الدين طرنطاي ومجد الدين الأتابك وجلال الدين المستوفي وأصحابهم، وأمر الملك الظاهربالقبض على سنان الدين موسى بن طرنطاي ونظام الدين يوسف أخي مجد الدين الأتابك والحاجي أخي جلال الدين المستوفي، وحبسهم في برج من قلعة الجبل، وحبس أتباعهم في خزانة البنود، وذلك في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى ولم يزالوا محبوساً إلى شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين، فأفرج عنهم الملك السعيد.
وفي تاسع ربيع الآخر كانت وقعة بين نجم الدين أبي نمي أمير مكة وبين عز الدين جماز أمير المدينة على ساكنهما أفضل الصلاة والسلام، وسببها أن إدريس بن حسن بن قتادة صاحب الينبع اتفق هو وجماز وقصدا أبا نمي، فخرج غليهما واكتفى بهما على مر الظهران، فكسرهما وأسر إدريس وهرب جمّاز، فألحق بالمدينة، وكان مع أبي نمي مائتا فارس وثمانون راجلا، ومع إدريس وجمّاز مائتان وخمس عشرة فارساً وست مائة راجل.
ذكر عرس المللك السعيد
لما عاد المللك الظاهر من الشام ودخل القاهرة يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر أمر بالاهتمام بعرس ولده، فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان الأسود تحت القلعة في أحسن زيّ، وأقاموا يركبون كل يوم كذلك، ويتراكضون في الميدان خمسة أيام، وفي اليوم السادس أفرق الجيش فرقتان، وحملت كل فرقة على الأخرى، وجرى من اللعب والزينة ما لايوصف، وفي اليوم السابع خلع الملك الظاهر على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتاب وخواص الحاشية مقدار ألف وثلاثمائة خلعة، وبعث إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك، ثم في اليوم الذي يلي ذلك وهو يوم الخميس مدّ الخوان في الميدان المذكور في أربعة دهاليز. وحضر السماط من علا ومن دنا ورسل التتر ورسل الفرنج وعليهم الخلع أيضاً، وجلس السلطان يومئذ في صدر الخيمة على تخت آبنوس وعاج مصفح بالذهب مسمّر بالفضة غرم عليه ألف دينار، ولما انقضى السماط قدم الأمراء الهدايا والتحف من الخيل والسلاح والمتاع وسائر الملابس وغير ذلك، فلم يقبل السلطان لأحد، فنهم ماله قيمة سوى ثوب واحد جبراً له. فلما كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ في تجهيز ما يليق بالزفاف والدخول، ولم يمكن إحدى من نساء المراء عللا الاطلاق من الدخول إلى البيوت، ودخل الملك السعيد الحمّام ثم دخل إلى بيته الذي هيىء لدخوله فيه بأهله، وحملت الجارية إليه، فدخل عليها. ولما بلغ الملك المنصور صاحب حماة ذلك توجه إلى القاهرة مهنئاً ومعه هدية سنيّة، فوصل القاهرة في ثامن عشر جمادى الأخرى، فركب الملك السعيد لتلقيه ونزل في الكبش وأقام مدة يسيرة بحيث ما استراح ثم عاد إلى بلده.
ذكر توجّه الملك الظاهر إلى الروم
خرج من قلعة الجبل بالقاهرة يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن رتب الأمير شمس الدين اقسقر الفارقاني نائباً عنه في خدمة الملك السعيد، وترك معه من العسكر بالديار المصرية لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس، ورحل من المنزلة يوم السبت ثاني وعشرين الشهر، وسار إلى دمشق فدخلها يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها متوجهاً إلى حلب يوم السبت العشرين منه، ودخل حلب يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وخرج منها يوم الخميس إلى حيلان، فترك بها بعض الثقل وتقدم إلى الأمير سيف الدين علي بن مجلى الناب بحلب أن يتوجه إلى الساجور؛ ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب لحفظ معابر الفرات لئلا يعبر منها أحد من التتر قاصداً الشام، ووصل إلى نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا. فبلغ نوّاب التتر بالعراق نزولهم على الفرات. فجهزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة لكبسهم، فحشدوا وتوجهوا نحوهم، فاتصل بالأمير نور الدين الخبر، فركب إليهم والتقى بهم فكسرهم وأخذ منهم ألفاً ومائتي جمل.
وركب الملك الظاهر من حيلان يوم الجمعة ثالث عشر إلى عين تاب ثم إلى دلوك ثم إلى مرج الديباج ثم إلى كينوك ثم إلى صو ومعناه النهر الأزرق، ثم رحل عنه إلى انحاء دربند فوصله يوم الثلاثاء من ذي القعدة قطعه في نصف النهار، فلما خرجت عساكره وملكت المغاور قدم المير شمس الدين سنقر الأشقر على جماعة من العسكر، وأمره بالمسير بين يديه، فوقع على كتيبة من التتر عدتهم ثلاثة آلاف فارس، مقدمهم كراي، فهزمهم وأسر منهم طائفة؛ وذلك يوم الخميس تاسع الشهر، ثم وردت الأخبار على الملك الظاهر بأن عسكر المغل والروم مع تتاوون والبرواناة على نهر جيحان. فلما صعد العسكر الجبال الشرف على صحراء البلستين فشاهد التتر قد رتبوا عساكرهم أحد عشر طلباً في كل طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الكرج طلباً واحداً، فلما رأى الجمعان حملت ميسرة التتر حملة واحدة فصدفوا سنجقة الملك الظاهر، ودخلت منهم طائفة بينهم وشقوها، وساقت إلى الميمنة؛ فلما رآهم الملك الظاهر ردفهم بنفسه ثم لاحت منه التفاتة؛ فرأى الميسرة قد انحت عليها ميمنة التتر، فكادت أن تثقل، فأمر جماعة من حماة أصحابه بإردافها، ثم حمل، فحملت العساكر برمّتها حملة واحدة، فترجّل التتر عن خيولهم، وقاتلوا أشد قتال، فلم يغن عنهم شيئاً، وأنزل الله بأسه بهم، فقتلوا وفرّ من نجا منهم، فاعتصموا بالجبال، فقصدوا وأحاطت بهم العساكر، فترجلوا عن خيولهم وقاتلوا وقتلوا حينئذ ممن قاتلهم الأمير ضياء الدين بن الخطير، واستشهد الأمير سيف الدين قيران العلائي والأمير عز الدين أخو المجدي وسيف الدين قلعق الجاشنكير وعز الدين إيبك الشقيقي - رحمهم الله تعالى؛ وأسر من كبراء الروميين مهذب الدين بن معين الدين البرواناة،وابن بنت معين الدين، والأمير تقي الدين جبريل بن خاجا والأمير قطب الدين محمود أخو مجد الدين الأتابك، والأمير سراج الدين إسماعيل بن خاجا، والأمير سيف الدين سنقرجا الزباشي، والأمير نصرة الدين بهمن أخو تاج الدين كيوي صاحب سيواس، والأمسر كمال الدين إسماعيل عارض الجيش، والأمير حسام الدين كاول، والأمير سيف الدين الجاويش، والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التركماني، ومن مقدمي التتر على الألف والمئتين زيرك صهر أبغا، وسرطق، وحيرلد، وسركده، وتماديه. ولما أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناة، فدخل قيصرية سحر يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة واجتمع بالسلطان غياث الدين، والصاحب فخر الدين، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفي، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، فأخبرهم بالكسرة، وأوحى إليهم أن المغل المنهزمين متى دخلوا قيصارية فتكوا بمن فيها حنقاً على المسلمين، واشار عليهم بالخروج منها. فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى دوقات، وبينها وبين قيصارية مسيرة أربعة أيام. ونظم الشعراء في هذه الواقعة عدة قصائد، فمن عقل في ذلك المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج بالشام:
كذا فلتكن في الله عز العزائم ... وإلا فلا تجفو الجفون الصوارم
عزائم حازتها الرياح فأصبحت ... مخلّفة تبكي عليها الغمائم
سرت من حمى مصر إلى الروم فاحتوت ... عليه سورات الظبا واللهاذم
بجيش تظل الأرض منه كأنها ... على سعة الأرجاء في الضيق خاتم
كتائب كالبحر الخضمّ جيادها ... إذا ما تهادت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللواء مظفّر ... له النصر والتأييد عبد وخادم
مليك يلوذ الدين من عزماته ... بركن له الفتح المبين دعائم
مليك لأبكار الأقاليم نحوه ... حين كذا تهوى الكرام الكرائم
فلم قطبت طوعاً وكراً جياده ... معاقل قرطاها السها والنعائم
مليك له بالدين في كل ساعة ... بشائر و للكفارمنها مآتم
حلا حين أقدى الكفر منه إلى الهدى ... ثغوراً بكى الشيطان وهي بواسم
إذا رام شيئاً لم يعقه لبعدها ... وشقتها عنه الأكام الطواسم
فلو نازع النسرين أنزلنا له ... وذا واقع عجزاً وذا بعد حائم
ولما رمى الروم المنيع بخيله ... ومن دونه سدّ من الصخر عاصم
بروم عقاب الجوّ قطع عقابه ... إليه فلا تقوى عليها القوادم
غدا وهو من وقع السنابك دائر ... تطاه فتستوطى ثراه المناسم
ولما امتطت أعلاه أعلام جيشه ... وقد لاح فيها للفلاح علائم
ترأت عيون الكافرين خلالها ... بروق سيوف صوبهن الجماجم
فلم يثن عنها الطرف خوفاً وحيرةً ... ومالت على كره إليها الغلاصم
وأبرزت الأرض الكمين وقد علت ... عليه طيور للحمام خوائم
فأهوى إليهم كل أجرد طائر ... تطير به نحو الهياج القوائم
يخوض الوغى لم تثنه اللجم راقصاً ... دلالاً ويغدو وهو في الدم عائم
وسالت عليهم أرضهم بمواكب ... لها النصر طوع والزمان مسالم
أدارت بهم سوراً منيعاً مشرفاً ... بسمر العوالي ما له الدهر هادم
من الترك أما في المعان فإنهم ... شموس وأما في الوغى فضراغم
غدا ظاهراً بالظاهر النصر فيهم ... تبيد الليالي والعدى وهو دائم
فأهووا إلى لثم الأسنة في الوغى ... كأنهم العشاق وهي المناسم
وصالحت البيض الصفاح رقابهم ... وعانقت السمر القدود النواعم
فكم حاكم منهم على ألف دارع ... غدا حاسراً والرمح في فيه حاكم
وكم ملك منهم رأى وهو موثق ... خزائن ما تحويه وهي غنائم
توسوست السمر الدقاق فأصبحت ... لها من رؤوس الدارعين تمائم
فيا ملك الاسلام يامن بنصره ... على الكفر أيام الزمان مواسم
بهن بفتح سار في الأرض ذكره ... سرى الغيث تحدوه الصبا والنعائم
بذلت له في الله نفساً نفيسة ... فوافاك لا يثنيه عنك اللوائم
ولما هزمت القوم ألقت زمامها ... إليك الحصون العاصيات العواصم
ممالك حاطتها الرماح فكم سرت ... على رجل فيها الرياح النواسم
تبيت ملوك الأرض وهي مناهم ... وليس بها منهم مع الشوق حالم
ولولاك ما أومى إلى برق ثغرها ... لعزة مثواه من الشام شائم
أقمت لها بالخيل سوراً كأنها ... أساور أضحت وهي فيها معاصم
فلا زلت منصور اللواء مؤيداً ... على الكفر ما ناحت وأبكت حمائم
وحضر بعد الوقعة الأمير سيف الدين جالس بن إسحاق، والأمير ظهير الدين متوج، وشرف الملك الأمير نظام الدين بن شرف بن الخطير، وولد الأمير ضياء الدين، وأخوه الأمير سيف الدين بلبان المعروف لكجكنا، والأمير سيف الدين شاهنشاه، والأمير مظفر الدين حجافي، والأمير نصرة الدين جالش عارض ملطية.
ثم جرّد الملك الظاهر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في جماعة لإدراك من فات من المغل والتوجه إلى قيصارية، وكتب معه كتاباً بتأمين أهلها وإخراج السواق والتعامل بالدراهم الظاهرية. ثم رحل بكرة السبت حادي عشر ذي القعدة قاصداً قيصرية، فمرّ في طريقه بقرية لهل الكهف ثم على قلعة سمندو؛ فنزل إليه واليها مذعناً لطاعته؛ ثم على قلعة درندا وقلعة ذالوا، فولّفعل متيهاً كذلك، ونزل ليلة الأربعاة خامس عشر الشهر بقرية قريبة من قيصرية. فلما بات بها وأصبح رتب عساكره، وخرج أهل قيصرية بجملتهم مستبشرين بلقائه، وكانوا عدوا لنزوله الخيام بوطأة تعرف بكيخسرو. فلما قرب منها ترجّل وجوه الناس على طبقاتهم، ومشوا بين يديه إلى أن وصلها.
فلما كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب لصلاة الجمعة، فدخل قيصرية، ونزل دار السلطنة، وجلس على التخت، وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفية والقرّاء، وجلسوا في مراتبهم على عادة ملوك السلجوقية، فأقبل عليهم ومدّ لهم سماطاً فأكلوا وانصرفوا، ثم حضر الجمعة بالجامع، وخطب له، وحضّر بين يديه الدراهم التي ضربت باسمه، وحمل إليه ما كانت لزوجة البرواناة كرجى خاتون تركية من الأموال التي لم تستطع استصحابها حين خروجها، وماخلفه سواها ممن النتزح معها. وبعث إليه البرواناة ليهنئه بالجلوس على التخت، فكتب إليه يأمره بالوفود عليه ليوليه مكانه، فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوماً، وكان مراده أن يصل إليه أبغا يحثه المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد، فاجتمع تتاوون وبالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرّفه مكر البرواناة في ذلك، فكان ذلك سبباً لرحيل الملك الظاهر عن قيصرية، مع ما انضاف إلى ذلك من قلة العساكر؛ فرحل يوم الاثنين، وكان يومئذ على اليزك علاء الدين إيبك الشيخي وكان قد ضربه الملك الظاهر بسبب سبقه الناس فتسحّب يومئذ إلى التتر وكان أولاد قرّمان قد رهنوا أخاهم الصغير عليّ بك بقيصرية، فخرج الملك الظاهر فأنعم عليه وسأله تواقيع وسناجق له ولإخوته، فأعطاه فتوجه نحو إخوته مقيمين بجبل لارندا إلى أرمناك إلى السواحل. ونزل الملك الظاهر بقيرلو، فورد عليه رسول من جهة البرواناة، ومعه رجل يسمى ظهير الدين الترجمان يستوقف السلطان عن الحركة، وما كانوا يعلمون أين يريد، وكان الخبر شائعاً أن الحركة إلى سيواس. فكان جواب السلطان عن الرسالة أن معين الدين وما كانت تأتيني كتبهم شرطوا شروطاً لم يفوا بها، وقد عرفت الروم وطرفه وما كان جلوسنا على التخت رغبة فيه إلا لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن شيء نريده بحول الله وقوته، ويكفينا أخذنا أمه وابنه وابن ابنته. ثم رحل ونزل خان كيقباد، وبعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر إلى الرمانة فحرقها وقتل من بها من الأرمن، وسبى حريمهم لأنهم كانوا أخفوا جماعة من المغل لما اجتاز السلطان عليهم، ثم رحل وأعمل السير في جبال وأودية وخوض أنهار حنى نزل إليه ليلة السبت السادس والعشرين منه عند قرا حصار قريباً من بازار، وهو السوق الذي يجتمع إليه الناس من سائر الأقطار. ثم رحل يوم السبت فعبر بالمعركة، فرأى القتلى فسأل عن عدتهم فأخبر أن المغل خاصة ستة آلاف وسبع مائة وسبعون نفساً. فلما بلغ أفحاء دربند بعث الخزائن والدهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين الخزندار ليعبر بها الدربند، وأقام في ساقة العسكر بقية اليوم ويوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدربند، وأقام في ساقة العسكر بقية اليوم، ولما خلص منه عبر النهر الأزرق. ثم رحل فنزل قريباً من كينوك، ثم رحل وأعمل السير حتى نزل يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة قريباً من حارم فوردت عليه قاصد الأمير شمس الدين محمد بن قرمان. ولما نزل حارم ركب وارتاد منزلة يرتضيها وعيّد هناك، ووافاه جماعة من امراء التركمان المقيمين بالروم، ومعهم خلق كثير، فخلع عليهم ورحل إلى دمشق، فوصلها في سابع المحرم سنة سبع وسبعين.
ذكر ما اعتمد عليه الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان
قد ذكرنا أنه انجاز معه إلى السواحل منابذاً لما خلع شرف الدين بن الخطير طاعة التتر، فلما بلغه كسرة الملك الظاهر للمغل في عاشر ذي القعدة حشد وجمع وقصد آقصرا، فلم ينل منها طائلاً، فرحل عنها وقصد قونية في ثلاثة آلاف فارس ونازلها، فغلق أهلها أبوابها في وجهه، فرفع على رأسه سناجق الملك الظاهر التي سيّرها مع أخيه علي بك من قيصرية، وبعث إليهم يعرّفهم أن الملك الظاهر كسر التتر ودخل قيصرية وملكها وخطب له فيها وضربت الدراهم باسمه وأنه من قبله، فلم يركنوا إلى قوله، فأحرق باب الفاخراني وباب سوق الخيل، ودخل قونية يوم عرفة الظهر وهو يوم الخميس، وكان النائب بها أمين الدين ميخايل فقصد من معه داره ودار غيره من الأمراء والأسواق والخانات، فنهبوها ثم إنهم ظفروا بأمين الدين، فأخرجوه ظاهر البلد وعذبوه إلى أن استأصلوا ماله، ثم قتلوه وعلّقوا رأسه داخل البلد. ولما لم يسلم أهل البلد القلعة رتب أن يلقى رجلاً شاباً عنوة في الطريق، فإذا رآه رمى نفسه عليه وقبّل رجليه. فإذا قال له الشاب: من أين تعرفني؟ يقول له: ما أنت علاء الدين كيخسرو بن السلطان عز الدين كيقباذ، أنسيت تربيتي وحملي لك على كتفي، وليكن ذلك بمشهد من العامة؟ فلما فعل ذلك ازدحم العامة عليهما، وإذ الجماعة من التركمان كانوا رؤيت معهم أنهم إذا رأوا العامة قد أحدقوا به يأخذونه من بين أيديهم ويحملونه إلى شمس الدين. فلما فعلوا ذلك أقبل عليه وضمّه إليه وعقد له لواء السلطنة وحمل السناجق على رأسه، وذلك في رابع عشر ذي الحجة. فحملت أهل قونية المحبة في آل سلجوق على المتابعة، ثم نازلوا القلعة فامتنع من فيها من تسليمها، فحاصروها حتى تقرّر بينهم الصلح على تسليمها، ويعطى من فيها سبعون ألف درهم فدخلوها وجلّسوا علاء الدين على التخت.
ثم بلغ شمس الدين بن قرمان والتركمان أن تاج الدين محمد ونصرة الدين محمود ابني الصاحب فخر الدين خواجا على أن حشدوا وقصداهم فساروا إليهما وعلاء الدين معه فالتقى بهما على اق شهر فكسرهما وقتلهما، وقتل خواجا سعد الدين يونس بن المستوفى صاحب أنطاكية، وهو خال البرواناة، وقتلوا جلال الدين خسروا بك بن شمس الدين بوتاش بكلاربكي، وأخذ رؤوسهم وعادوا إلى قونية في آخر ذي الحجة، واستمروا بها إلى أن دخلت سنة سبع وسبعين، فبلعهم أن أبغا وصل إلى مكان الوقعة، فرحلوا عن قونية وطلبوا الجبال، وكان مقامهم بقونية سبعة وثلاثون يوماً.
ذكر قصد أبغا الروم لأخذ النشازكان البرواناة لما رأى الدائرة على التتر كتب إلى أبغا يعرّفه ويستحثه على المبادرة ليدرك البلاد قبل أن يستولي عليها الملك الظاهر، ثم كان من دخوله قيصرية وخروجه إلى دوقات ما ذكرناه. فلما قضى غرضه من حفظ ما كان معه من الذخائر والأموال وترتيب أمر السلطنة، بلغه توجه أبغا طالباً بلاد الشام، فخرج غله فوافاه في الطريق، وسار معه بمن بقي من العساكر إلى ان وصل البلستين. فلما شارف المعركة ورأى القتلى بكى ثم قصد منزلة الملك الظاهر فقاسها بعصا الدبوس فعلم عدة من كان فيها من العساكر، فأنكر على البرواناة كونه لم يعرفه بجلية أمرهم، فأنكر ان يكون عنده علم منهم، وأنه ما أحس بهم غلا عند دخولهم، فلم يقبل منه هذا العذر، وحنق عليه، وقال بحق ما قالوا: إن لك باطناً مع صاحب مصر. ثم بعث إلى عسكره إلى الشام، وكان عز الدين إيبك السنجي قد عاد في خدمته فقال: أرني مكان الميمنة والقلب والميسرةفأوقف له في كل منزلة رمحاً. فلما رأى بعد ما بين الرماح قال: ما هذا عسكر يكفيهم هذه الثلاثين ألف الذين جاؤوا معي، ثم سيّر إلى العسكر الذي توجه إلى كينوك وطلبه. ثم بلغه أن الملك الظاهر بالشام متّهم بلقائه، وكان قد نفق أكثر خيل أبغا وخيل عسكره، فرأى من نفسه الضعف فرد إلى قيصرية، وسأل أهلها: هل كان مع صاحب مصر جمال؟ فقالوا: لم يكن معه إلا خيل وبغال. فقال: هل نهب منكم شيئاً؟ قالوا: لا. فقال: كم لهم عندكم يوم؟ فقالوا: خمسة وعشرون يوماً. فقالوا: هم الآن عند جمالهم وأموالهم.
ثم عزم على قتل من في قيصرية من المسلمين فاجتمع إليه القضاة والفقهاء. وقالوا: هؤلاء رعيى لا طاقة لهم بدفع عسكرهم مع الزمان في طاعة من ملكهم، فلم يقبل وأمر بقتل جماعة من أهل البلد وقاضي القضاة جلال الدين وأمر عسكره فانبسط في البلد، وقتل عالماً عظيماً من الرعية ما ينيف على مائتي ألف وقيل خمس مائة ألف من فلاح إلى عامي إلى جندي من قيصرية إلى ارزن الروم وما بينهما.
وفي اوائل هذه السنة تقدم فخر الدين طغاي البحري على جماعة من الغيارة وكبس دنيسر، ونهب من بها، وقتل نحواً من ثلاثين نفراً وأسر جماعة من النصارى، وفي رجوعه حصل بين مقدمي العسكر مشاجرة على المكاسب، ولم يظهر سوى القليل، وغضب صاحب ماردين لكونه حصلت الغارة على بلده.
وفي يوم الخميس حادي عشر شوال انتهت الكسوة برسم الكعبة الشريفة وطيف بالمحمل بالقاهرة فتوجه بها الطواشي محسن مشدّ الخزانة أمير الركب.
وفي سابع عشر شوال وجد إلى جانب دير البغل ظاهر مصر مكان فيه آثار محارب المسلمين فوقف عليه العدول والمهندسون، وأثبتوا أنه كان مسجداً وشرع في عمارته.
وفيها: توفي إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر أبو إسحاق الحموي الكناني بالقدس الشريف وهو من أصحاب الشيخ أبي البيان - رحمه الله - أعني من المنتمين إليه. سمع من فخر الدين بن عساكر وغيره، وحدث وكان من الصلحاء الذاكرين الله كثيراً، رافقته في طريق الحجاز سنة ثلاث وسبعين وست مائة قلّ أن صادفته إلا وهو يذكر الله تعالى. ومولده يوم الاثنين منتصف رجب سنة سبع وتسعين وخمس مائة وهو والد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. وكانت وفاته يوم عيد النحر - رحمه الله - واسم شيخه نبأ بن محمد بن محفوظ بن أحمد أبو البيان القرشي الشافعي شيخ فاضل مشهور كثير الاتباع بدمشق وغيرها. وكتب بخطه كثيراً من كتب الأدب وغيره، ولأصحابه من بعده بني في أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله - الرباط الذي ينسب إليه بدرب الحجر بدمشق سنة خمس وخسمين وخمس مائة. وكان أبو البيان يجلس بأصحابه في المسجد الكبير المعروف بمسجد درب الحجر وصنف لهم كتاب الذكر ذكر فيه نظوماً عجيبة واسجاعاً غريبة أثنى فيها على الباري سبحانه وتعالىأنواعاً من الثناء، وكان يوردها في المساجد والمشاهد ليلاً بين أصحابه وهم يكررونها بأصواتهم، وبقي بعد ذلك يفعلها أصحابه بدمشق وغيرها إلى زماننا هذا وله نظم حسن فمنه:
ولما لم اجد في الوسع شيئاً ... يليق به سوى ما كان منه
جعلت هديتي تمشي إليه ... وكيف أصون ما هو منه عنه
وقال أيضاً - رحمه الله:
أيها المغرور بالدنيا إلى كم ذا الغرور
كيف يغتر بالعيش من إلى الموت يصير
ثم بعد الموت عرض ... وحساب ونشور
قال الشيخ أبو البيان - رحمه الله: قد صنفت في القوافق كتاباً سميته كتاب قصيدة التاج الأدبي في علم قوافي الشعر العربي، وذكرت فيه من أحكام قوافي الشعر وضروبها وعيوبها وألقابها وشواهد ذلك ما لم أظن أحداً من العلماء صنع مثله، ولا ذكر ما ذكرته فيه؛ ولله الحمد، وتكلم على مواضع من نظمه وشرحها وبسط القول فيها، واستشهد على لفظ أصيلبمعنى مكين ثابت من قولهم فلان أصيل الرأي فقال: قال ابن صمصام الرقاش في آياي تسعة آخرها:
لا يعجبنك من خطيب قوله ... حتى يكون مع البيان أصيلا
شرّ البيان بيان أهوج مكثر ... في القول لا يلفى له معقولا
قال: ومن زعم ان هذا الشعر للأخطل التغلبي فقد أخطأ. وفيه البيت الذي استشهدت به الأشعرية على حقيقة الكلام على ما أنشده وهو:
إن من البيان من الفؤاد وإنما ... جعل السان لما يقول رسولا
ورواه الأشعرية:
إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
قال: والصحيح ما قدمناه لأن الآيات عندنا جميعها باسم قائلها وشاعرها محدث. قال: وليس هذا موضع الكلام على هذه المسألة، ونحن على المنهاج الأفضل وإجماع السلف الأول. توفي الشيخ أبو البيان - رحمه الله - بداره بدمشق في درب الحجر شمالي الرباط المنسوب إلى أصحابه في شهور سنة إحدى وخمسين وخمس مائة، ودفن بمقابر باب الصغير في مقبرة الصحابة - رضي الله عنهم. وقال أبو يعلى التميمي: توفي يوم الثلاثاء ثالث شهر ربيع الأول من هذه السنة المذكورة. نقلت ذلك من خط قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله تعالى.
أحمد بن عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون أبو المعالي قطب الدين التميمي الشافعي، مولده بحلب في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة. سمع من ابن طبرزد وعبد الصمد الحرستاني وغيرهم، وأجاز له جماعة من شيوخ بغداد، منهم عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب، ودرس بالمدرسة الأمينية بدمشق مدة، وبالمدرسة العصرونية وقف جده. وبيته مشهور بالعلم والتقدم. وكانت وفاته بحلب يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة - رحمه الله تعالى.
ايدكين بن عبد الله علاء الدين الخزندار الصالحي متولي قوص، كان عنده شجاعة وإقدام وكفاية وضبط لعلمه على اتساعه؛ وله نكايات في المجاورين له من النوبة وغيرهم. وتوفي ثالث وعشرين ذي القعدة وقد ناهز خمسين سنة من العمر، وخلف تركة طويلة جليلة المقدار.
بحتر بن الخضر بن بحتر شجاع الدين، قد تقدم ذكر أخيه شهاب الدين، وكان هذا شجاع الدين حسن العشرة والمكارم، وخدم عند الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة المحروسة؛ بقي في خدمته إلى أن أدركته منيته بحماة في العشر الآخر من جمادى الأولى هذه السنة، وهو في عشر الخمسين - رحمه الله - ثم نقل إلى بعلبك، ودفن عند والده بالقرب من قبة الزرزاري - رحمه الله.
جعفر بن محمد بن علي أبو محمد بدر الدين المذحجي الآمدي، مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة، وتوفي ليلة الأربعاء رابع عشرين شوال بدمشق. كان ناظر النظار بالشام، وهو في محلّ الوزارة يتعرف في الأموال والولاية والعزل، وكان حسن السيرة ليّن الكلمة كثير الرفق والستر لايكشف لأحد عورة، واما أمانته وعفّته فإليها المنتهى. وكان عنده تشيّع لكنه لم يسمع منه ما يؤخذ عليه - رحمه الله.
جندل بن محمد الشيخ الصالح العارف، كان زاهداً عابداً منقطعاً صاحب كرامات وأحوال ظاهرة وباطنة، وله جدّ واجتهاد ومعرفة بطريق القوم. وكان الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري - رحمه الله - يتردد إليه في كثيرمن الأوقات وله به اختصاص كثير. قال ولده الشيخ برهان الدين - نفع الله به: كنت أروح مع والدي إلى زيارته بمنين، ورأيته يجلس بين يديه في جمع كثير يستغرق وقته في الكلام معه بما لا يفهمه احد من الحاضرين بألفاظ غريبة. وقال الشيخ تاج الدين المذكور - رحمه الله: الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق، اجتمعت به في سنة اثنتين وستين فسمعته يقول: طريق القوم الواحد، وأنما ثبت عليه ذوو العقول الثابتة، وقال أيضاً رحمه الله: قال: الموله منفي، ويعتقد أنه واصل، ولو علم أنه منفي لرجع عما هو عليه. وقال أيضاً رحمه الله: قال: ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل والتضرع. وقال أيضاً رحمه الله: وقال الشيخ تاج الدين رحمه الله: اجتمعت به في سنة إحدى وستين وست مائة فأخبرني أنه قد بلغ من العمر خمساً وتسعين سنة، واجتمعت به في شعبان سنة أربع وستين، فقال: أنا أحق الملك العادل، وقد جاء من حلب عسكر يحاصره، وكان عمري إذ ذاك خمس عشرة سنة، وقال لي: دنا الموت ولم يبق إلا القليل، ثم قص على رؤية استدل بها على هذا، فسألته عن الرؤيا فقال: رأيت من زمان مقادم كأني أفرغت في بيتي جمل بصلي فأخذت منه بصلة بيدي فرأيت عليها عبد الرحمن مشملة، فجعلتها في حجري، وعرفت أن ذاك البصل كله مشايخ، أريد أن أجتمع بهم، وأراهم ويروني. فلما كان هذا القرب، رأيت كأني عبيت الجوالق البصل ولم يبق إلا القليل، فعلمت بذلك قرب الأجل. حدثني بذلك عنه يوم السبت ثامن شعبان من السنة. وكانت وفاته بقرية منين في شهر رمضان المعظم سنة خمس وسبعين وست مائة ودفن في زاويته المشهورة، وعلى ضريحه من الجلالة والهيبة ما يقصر الوصف عنه رحمه الله تعالى.
علي بن محمود بن علي أبو الحسن شمس الدين الشهرزوري الشافعي، كان تقياً حسناً، ولّي نقابة الحكم بدمشق عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله ولم يزل إلى حين صرف قاضي القضاة شمس الدين المذكور فانعزل بعزله مستنيبه. ولما وقف الأمير ناصر الدين القيمري مدرسته التي أنشأها بالمطرزين بدمشق فوض إليه تدريسها، وجعله في ذريته ما وجد ووجدت فيهم الأهلية، فباشر تدريسها منذ عمرت إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء سادس عشر شوال، ثم باشر تدريسها ولده صلاح الدين إلى أن توفي، وترك ولده صغيراً، فباشر تدريسها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة مدة، فلما كبر ولده الصلاح أثبت رشده وأهليته للتدريس واستحقاقه له بمقتضى شرط الواقف رحمه الله فرسم له بذلك، وحصل من تعصب معه فباشر تدريسها واستمر به مع قلة بضاعته من الفقه لكنه لما درّس أكب على الاشتغال، فثبته وصار فيه أهلية، ثم أنه عامل الفقهاء، ومن بالمدرسة معاملة حسنة فأحبوه ومشي أمره في المدرسة على السداد، وحسنت طريقته من ذلك.
عمر بن أسعد بن عبد الرحمن بن ليفي بن عبد الرحمن أبو حفص الهمذاني الشيخ الصالح، كان ملازماً حلقة الحنابلة بجامع دمشق، يقرئ الناس القرآن العزيز، ويخيط ويشتري بما يتحصل له من الأجرة خبزاّ يتصدق به مع ملازمة العبادة، وقيام معظم الليل، والصيام غالب الأوقات، وفيه المسارعة إلى قضاء حوائج الناس حسن ما يمكنه، ولم يزل على هذا القدم إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بمدرسة ابن الجوزي بدمشق يوم السبت بكرة النهار رابع ذي القعدة، ودفن من يومه بسفح قاسيون جوار قبر الشيخ موفق الدين رحمهم الله تعالى.
عمر بن أسعد بن أبي غالب عز الدين الأربلي الفقيه الشافعي، كان يعرف بين الفقهاء بالإطرفيل، وهو من أصحاب الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله، وناب في الحكم مدة، وقال أيضاً رحمه الله: توفي في العشرين من شهر رمضان المعظم وقد نيف على سبعين من العمر رحمه الله تعالى.
محمد بت إبراهيم بن أبي المحاسن بن رسلان أبو عبد الله شمس الدين الحكيم المتطبب المعروف بالكلي، كان فاضلاً في علم الطب وله مشاركة في الأدب والتاريخ، أقام مدة ببعلبك،وكان يغشي والدي رحمه الله تعالى كثيراً، ويلازمه وسكن في جواره وسمع عليه. ومولده بدمشق سنة سبع وتسعين وخمس مائة، سمع الكثير بدمشق من عبد الصمد الحرستاني وغيره وحدث وقال أيضاً رحمه الله: توفي بالقاهرة في رابع عشر المحرم رحمه الله تعالى، وقيل له الكلي لأنه اشتغل بالكتاب. وقال أبو العباس أحمد بن أبي أصيبعة الخزرجي في طبقات الأطباء: كان والده أندلسياً في أهل المغرب، قدم دمشق وأقام بها إلى أن توفي، ونشأ ولده المذكور واشتغل علي الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، ولازمه وأتقن عليه حفظ ما ينبغي، وهو جيد الفهم غزير العلم - لا يخلى - وقتاً من الاشتغال، حسن المحاضرة خدم الملك الأشرف بن الملك العادل رحمه الله إلى حين وفاته، ثم خدم بالمرستان النوري بدمشق. قلت: كان يعاني مشتري المماليك الصباح بأوفر الأثمان وعنده الخيول والغلمان، وهو كثير التجمل رحمه الله؛ وخلف عدة أولاد رأيت أحدهم بقلعة الرحبة في السنة الخالية.
؟محمد بن أيبك بن عبد الله ناصر الدين بن الاسكندري، كان ممن جمع حسن الصورة وحسن الأوصاف ووفور العقل والرياسة والحشمة ومكارم الأخلاق وحسن العشرة. ولما توفي والده رحمهما الله تعالى في السنة الخالية على ما تقدم في شهر رمضان أراد غلمانه أن يجزوا شعورهم ويهلبوا أذيال الخيول على ما جرت به العادة؛ فمنع من ذلك وقال: والدي عليه ديون، ولا نأمن أن يخرّج عليه ديوان الجيش تفاوتاً فإذا فعلنا ذلك نقصت قيمة المماليك والخيول، ثم إن هذا فساد لا معنى له ولا يجوز فعله. ثم تقدم إلى الطباخ أن يذبح ويطبخ على العادة، فلام بعض الجماعة وقبّحوا فعله؛ فقال: هذا شهر رمضان وعندنا جماعة كثيرة من غلمان وغيرهم، فإذا لم يطبخ بقوا بلا عشاء. قيل: له الناس يحملون، قال: الذي كان يحمل من أجله مات. فلما أذن المغرب عمل السكر والليمون على العادة وأسقى الناس على ما كان يعمل والده، ومد السماط فأكل جميع الغلمان والحاشية وغيرهم، وشكره من كان لامه لأن أحداً لم يحمل شيئاً، ثم إنه باع موجود والده ووفى جميع أرباب الديون مالهم، ومن ادعى بشيء ولم يكن له بينة واستحلفه وأعطاه وسافر وجميع من بالرحبة داعون له. فلما وصل دمشق أقام بها وجمع أطرافه، وتاب عن أمور كان يعانيها، ولازم الصلاة والصوم في كثير من الأيام. فلما كان يوم الخميس ركب للصيد وهو صائم وخرج إلى أراضي الحرجلة، فمرّ بحصانه على جسر حجر على نهر قد قيد فنزل ونزل به الحصان في النهر وخرج الحصان سباحة فساق مملوكه إلى البلد ورمى السوط، فركب نائب السلطنة بنفسه وأخذ معه من يسبح ووقفوا على المكان الذي غرق فيه ودوّروا ما جاوره فلم يجدوا له أثراً، وبقوا على ذلك يومين ثم وجدوه على بعد من ذلك المكان، وقد علّق فردة مهمازة بسباحه فاستخرجوه غريقاً وغسلوه ودفنوه بسفح جبل قاسيون وتأسف الناس عليه لشبابه وموته على هذه الصورة - رحمه الله تعالى - وكان الخلال بن الصفار المارديني عنّاه بقوله:
يا أيها الرشأ المكحولناظره ... بالسحر حسبك قد أحرقت أحشائي
إن انغماسك في التيار حقق ... أن الشمس تغرب في عين من الماء
وإيراده بقوله أيضاً. وقيل: إنهما للشيخ أبي إسحاق الشيرازي افمام المشهور - رحمه الله:
غريق كأن الموت رقّ لحسنه ... فلان له في صفحة الماءجانبه
أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه
وعناه عمران الطوابيقي بقوله:
ألا أيها البدر المغيّب شخصه ... بمثلك هذا الدهر يبخل عن مثلي
ولو كان حكمي في حياتي ومنيتي ... بمثلك هذا الدهر يبخل عن مثلي
ولو كان حكمي في حياتي ومنيتي ... إليّ لما جرعت كأس الردى قبلي
كأن صفاء الماء شاكل جسمه ... فجاد به فانقاد شكل إلى شكل
وأنى في تراب الأرض نور بمائه ... ولو كان من ترب لعاد إلى أصل
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يارسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله. رواهما مسلم. وتوفي إلى رحمة الله تعالى وهو ابن عشرين سنة وربما لم يستكملها - رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عبد السخي بن يحيى بن أحمد بن طيب بن دحمان بن دكسون أبو عبد الله شرف الدين الشروطي الشافعي العمري، من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كان واسطي الأصل، موصليّ المولد، دمشقي الدار، شيخاً جليلاً، إماماً عالماً، فاضلاً متقناً لما يعانيه؛ وروي عن ابن الحرستاني وغيره. وكانت وفاته يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الآخرة - رحمه الله تعالى.
محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن عبد الحق بن خلف بن مفرج بن سعيد أبو الوليد فخر الدين الكناني الشاطبي المعروف بابن الجنّان. مولده بشاطبة في منتصف شوال سنة خمس عشرة وست مائة، وتوفي يوم الأحد رابع عشرين شهر ربيع الآخر من هذه السنة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله. كان عالماً فاضلاً، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير الاحتمال، واسع الصدر، حسن المباسطة؛ صحب الصاحب كمال الدين بن العديم وأولاده فاجتذبوه إليهم، وصار حنفي المذهب، ودرّس بالمدرسة الاقبالية الحنفية بدمشق. وكان له يد في النظم ومشاركة في علوم كثيرة. أنشدني صاحبنا تقي الدين عبد الله بن تمام - حرسه الله - لفخر الدين المذكور:
ودوح بدت معجزات له ... تبين إليه وتدعو إليه
جرى النهر حتى سقى أرضه ... فقام يقبّل شكراًيديه
وكفّ الصبا صبغت حليه ... فقام الحمام ينادي عليه
كساه الأصيل ثياب الضنى ... فحل طبيب الدياجى لديه
وجاء النسيم لنا عائداً ... فقام له لائماً معطفيه
وأنشدني المذكور لفخر الدين - رحمه الله:
لله قوم يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل
وبمهجتي نفراً وأنى منهم ... جبلوا على حبّ الطراز الأول
وأنشدني لفخر الدين المذكور أيضاً - رحمه الله:
حديث ذاك الحمى روحي وريحاني ... فكيف يصبر عن هذين جثماني
ويا فؤاد الأسى برّح بحبهم ... فقد أضر بجسمي طول كتماني
فمن هواي بذاك الحسن راح به ... في الحي كل خليّ القلب يهواني
وحقهم لو ملكت الكون أجمعه ... بذلته طمعاً في وصل هجراني
ثم انثنيت وبي سكرة طرب ... أجرّ عطفي به تيهاً وأرداني
وقال - رحمه الله تعالى:
يميل بذكر الحاجرية ركبان ... كأنهم على الركائب أغصان
وقفت غداة النفر أنشد حذرها ... فباح به بين الهوادج كتمان
وما ذاك ذاك الحذر إلا لأنه ... بخمر دلال الحاجرية نشوان
وسلت أناجي العيس بعض صبابتي ... فأصبح فيها بالصبابة إعلان
عجبت لها أني هززت جمالها ... بوجدي ولم يهتز من قدها ألبان
يقولون عنوان المحب دموعه ... وصبك يا ليلى على الدمع عنوان
وقالت وروح الصب تحدو جمالها ... وقد ذاب منه بالصبابة جثمان
أرى روحه ولهى بركبي مسوقة ... فهل جسمه في غير ركبي ولهان
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ما شأن هذا النسيم الرطب نشوان ... كانه من حديث القوم ريّان
روى لنا خبراً من أرض كاظمة ... لم تدر كاظمة عنه ولا البان
ماج الكثيب وماج الغصن منه فهل ... جرت لعطف الهوى في الكون أردان
أحباب قلبي ما حبي لكم عجب ... وكل شيء بذاك الحسن ولهان
بالله يا نسمة الأحباب هل خبر ... فعرفك اليوم لي روح وريحان
فديتكم هل رحمتم فيكم دنفاً ... لم يدن مسكنه صبر وسلوان
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قم فاسقينا وجيش الليل منهزم ... والصبح أعلامه محمرّة العذب
والسحب قد نشرت في الأرض لؤلؤها ... فضمها الشمس في ثوب من الذهب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
متيم ذاك الحيّ لا تعدّ حبهم ... لتظفر مثلي من جنونك بالوصل
حنيت بهم حباً ولي في رحالهم ... تمائم وسواس بعيد من العقل
وقال أيضاً - رحمه الله - :
يا رعى الله يومنا بعد روض ... حيث ما السرور فيه يحول
تحسب النهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تسبل
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ولى كاتب أضمرت في القلب حبه ... مخافة حسادي عليه وعذالي
له صبغة في خط لام عذاره ... ولكن سها إذ نقط بالخالي
وقال أيضاً - رحمه الله:
بالله يا سرحة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث البان والغار
فعانقتها عن الصب اللبيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ودوحة أطربت منها محاسنها ... أفق السماء فلم تبرح تنقطها
تحكي الكمامة منها راحة قبضت ... يلقى السحاب لها دراً فتبسطها
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قم سقّينها وقعر الصبح مبتسم ... والليل تبكيه عين البدر بالشهب
والكأس قد خلتها حمراء مذهبة ... لكن ازرقها من لؤلؤ الحبب
وأعين الدهر من طول البكا رمدت ... فكحلتها يمين الشمس بالذهب
إن تهت بالشمس يا وجه السماء فلي ... شمسان وجه حبيبي وابنة العنب
وقال أيضاً من أبيات:
عرف النسيم بعرفهم يتعرف ... وأخو الغرام بحبهم يتشرف
شرف المتيم في هواهم أن يرى ... طوراً ينوح وتارة يتلهف
لطفت معانيه فهب مع الصبا ... فرقيبه بهبوبه لا يعرف
وإذا الرقيب درى به فلأنه ... اخفى لديه من النسيم وألطف
ولأنه يغدو النسيم ديارهم ... وله على تلك الربوع توقف
وقال أيضاً من أبيات:
أرنة صوت العيس أم نغمة السارى ... دعت دمع عيني أم نسيمة اسحار
فأصبحت لا أثنى عنان تولهي ... واجرى جواد الدمع في كل مضمار
وقلت لقومي والغرام يحثني ... تناهت لباناتي لديكم وأوطاري
وبي عصبة لا يطعمون سرى الهوى ... فهم ندمائي في الغرام وسماري
فديتهم هل يذكرون عهودنا ... ونحن بذات الضال والشيح والغار
ونحن بها والوجد ينشر بيننا ... حديثاً واخبار الصبابة اخباري
وإن كنت إنساناً ترى كتم حبهم ... فإنسان أجفاني يبوح بأسراري
بذلت لهم في الحب مورد مقلتي ... واشكيتهم في البعد روضة أفكاري
فلا تعجبوا من يثمر الدار بعدهم ... فما أنا إلا من يكن حل في الدار
فلا تعذلوه في الغرام جهالة ... فليس عليه في الصبابة من عار
بعيشك هذا لا تحب سواهم ... فهم عين أعلاني وهم عين أسراري
ومن كنت لولاهم ولولا هواهم ... لهم عزتي العشاق وجاهي ومقداري
وما أنا ممن أبصر الشمس مرة ... فيعتاض من ذاك الشعاع بأقمار
وإن كنتم زوار ليلى فمرحبا ... بقوم أتوا من عند ليلى وزواري
وهل كان تذكار لليلى بعهدنا ... ومن لي من ذاك الجناب بتذكار
سأفرش خدي سافحاً ماء أدمعي ... واقبس من حر الضلوع لكم ناري
فوالله ما لي غير حبك صابر ... ووالله ما لي غير وجدي من جار
وما لي سلاف غير دمعي ومطربي ... بأغصان أشواقي حمائم أشعار
وقال رحمه الله يصف مدينة حماة:
نهرها العاصي تندى مطيعا ... حيث مال النسيم أضحى يميل
ومحيا الحبيب شمسي فيه ... ووجوه العشاق فيه أصيل
وعليل السقام فيه صحيح ... وصحيح النسيم فيه عليل
عشق النهر لحسنها فلهذا ... دمع أجفانه عليها يسيل
وقال أيضاً - رحمه الله:
غدا مغرما أفق السماء بدوحنا ... فدمع الندى حزناً عليه أسأله
وهام رياض الدوح فيهفابرزت ... له نهرها حتي يصيد خياله
وقال أيضاً - رحمه الله:
يا بانة الوادي التي نادمتها ... باهتك بان المنحنى وكثيبه
ما مال عطفك بالنسيم وإنما ... طرباً لطيب حديثه ونسيبه
يا حبذا فيك النحول فإنه ... بغناي فيه آمنت خوف رقيبه
ما كان في علم الغرام بأنه ... يطفى بماء الدمع نار لهيبه
وقال من نثره - رحمه الله: نحن سيدي - أطال الله بقاءك - في روض مجلس أغصانه الندماء وغمامه الصهباء؛ فبالله عليك إلا ما كنت لمجلسنا نديماً، ولزهر حديثنا شميماً، وللجسم روحاً وللطيب ريحاً، وبنيناً غدراً رجاجها حذرها وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها أكمامه، أو شمس حجبتها غمامه، إذا طاب بها معصم الساقي فورده على غصنها، أونزيهاً مقهقهة، فحمامه على فننها، طافت علينا طواف القمر على منازل الحلول، وأنت وحياتك إكليلنا، وقد آن حلولها الإكليل - والسلام.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن حفاظ أبو عبد الله بدر الدين السلمي الحنفي المعروف بابن الفويرة. توفي بدمشق يوم السبت حادي عشرين جمادى الأولى ودفن بظاهرها - رحمه الله تعالى. صحب والدي - رحمه الله وسمع منه، وكان يحبه ويثنى عليه؛ وصحب جماعة من العلماء والمشايخ واشتغل في مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - على الشيخ صدر الدين سليمان، وقاضي القضاة شمس الدين عبد الله السبت عطاء وغيرهم، وتميز وطلب لنيابة الحكم بدمشق فامتنع ودرس بالمدرسة الشبلية بجبل الصالحية وبمدرسة القصاعين بدمشق، وأفتى واشتغل بالعربية والنحو على الشيخ جمال الدين محمد بن مالك - رحمه الله، وحصل من ذلك طرفاً جيداً. وكان رئيساً وعنده ديانة كثيرة، ومروءة، ومكارم أخلاق، وحسن عشرة، وله بر، وصدقة على الفقراء وحسن ظن بهم، وسمع الكثير، وكان يكتب خطاً حسناً، وله معرفة بالأصول والأدب، وينظم نظماً جيداً.
نقلت من خط عز الدين محمد بن أبي الهيجاء لبدر الدين المذكور:
عاينت حبة خاله ... في روضة من جلنار
فغدا فؤادي طائراً ... فاصطاده شرك العذار
ونقلت من خطه المذكور:
كانت دموعي خمراً قبل بينهم ... فمدنا أقصرتها لوعة الحرق
قطفت باللحظ ورداً من خدودهم ... فاستفرطوا ماء ذاك الورد من حدقي
وأنشدني ولده جمال الدين لوالده بدر الدين المذكور - رحمه الله تعالى - :
ورياض كلما انقطفت ... نثرت أوراقها ذهبا
تحسب الأغصان حين شدا ... فوقها القمرى وانتحبا
ذكرت عسر الشباب وقد ... لبست إبراده قشبا
فانثنت في الدوح راقصة ... ورمت أثوابها طربا
وأنشدني ولده جمال الدين المذكور لوالده في شاعر:
وشاعر يسحرني طرفه ... ورقة الألفاظ من شعره
أنشدني نظماً بديعاً فما ... أحسن ذاك النظم من ثغره
وحكى بدر الدين المذكور - رحمه الله - إنه رأى في المنام الشرف داود بن العرضي - رحمه الله - عقيب وفاته وكان هذا الشرف يلوذ ببدر الدين ويتوكل له ويخدمه. قال فقلت له: يا ابني داود إيش كان أو إيش؟ كأني أسأله عما لقي بعد الموت فكان جوابه لي:
ما كان لي من شافع عنده ... إلا اعتقادي أنه واحد
وحكى لي أخي - رحمه الله ورضي عنه - ما معناه أنه خرج إلى ظاهر دمشق ومعه بدر الدين المذكور - رحمه الله - عند عود طائفة من عساكر التتر من الجهات القبلية في شهور سنة ثمان وخمسين ومعهم السبي من تلك البلاد ليشتروا منهم من يستفدونه من أيديهم، فجرى بينهم ذكر الملاحم والأشعار الموضوعة فيها، فنظم بدر الدين المذكور - رحمه الله بيتاً من الشعر علي وزن بعض القصائد المنسوبة إلى ابن أبي العقب وهو:
ويملك الشام ملك اسمه قطز ... ويقتل الترك في حمص وفي حلب
فاتفق أن تملك الملك المظفر سيف الدين قطز - رحمه الله - بالشام ما قد علمتم. وقتلت التتار في حمص في أول سنة تسع وخمسين ثم في سنة ثمانين وست مائة فكأنه كان منطقاً بذلك.
وقال شرف الدين عمر بن خواجا أمام الناسخ: أنشدني الشيخ بدر الدين لنفسه:
أذاع لسان الدمع يوم النوى سرّى ... وحلّت أكفّ البين في عرى صبري
وظلّت على الأطلال أسياف نأيهم ... دمى واغتدى قلبي أسيراً مع السفر
وعطّل نأي الإنس من حلي حسنهم ... فحليته من أوسع العين بالدرّي
رعى الله ليلات تقضّت بوصلهم ... فقد كنّ كالخيلان في صفحة الدهر
وحيّا رياضاً بالحمى كنت منهم ... أنال المنى في ظل أغصانها النضر
؟محمد بن عبد الوهاب بن منصور أبو عبد الله شمس الدين الحرّاني الحنبلي، كان فقيهاً إماماً عالماً بعلم الأصول والخلاف، تفقه فيه على القاضي نجم الدين المقدسي الشافعي - رحمهما الله تعالى - وجالس الإمام مجد الدين بن تيمية الحراني - رحمه الله - واستفاد منه أشياء كثيرة، وكان يستدل بين يديه بحران. ثم انتقل إلى الشام فأقام مدة بدمشق يشتغل على الشيخ علم الدين أبي القاسم - رحمه الله تعالى - في الأصول والعربية. ثم سافر إلى الديار المصرية فأقام مدة يحضر درس الإمام عز الدين بن عبد السلام فأقام مدة يحضر درس الإمام عز الدين ابن عبد السلام وتولى القضاء ببعض أعمال الديار المصرية نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - وهو باق على مذهبه، وهو أول حنبلي حكم بالديار المصرية في هذا الوقت، ثم لما فوض إلى الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي - رحمه الله - القضاء والحكم بالديار المصرية على مذهبه ناب عنه مدة ثم ترك القضاء ورجع إلى دمشق فأقام بها مدة سنين، له حلقة يدرّس بها في الجامع ويكتب خطه في الفتاوى. وكان حسن العبارة طويل النفس في البحث كثير التحقق، باشر الإعادة بالمدرسة الجوزية بدمشق قبل سفره إلى الديار المصرية وبعد رجوعه. وكان حسن المجالسة والمذاكرة، ويتكلم في الحقيقة وهو غزير الدمعة رقيق القلب جداً، وافر الديانة كثير العبادة، صحب الفقراء مدة وله فيهم حسن ظن، وأمّ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق مدة ثم ابتلي بالفالج فبطل جانبه الأيسر وثقل لسانه بحيث لا يفهم من كلامه إلا اليسير، وبقي على ذلك مدة أربع أشهر، ثم توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق ليلة الجمعة بين العشائين لستّ خلون من جمادى الأولى هذه السنة، ودفن بعد أن صلى عليه بجامع دمشق في مقابر باب الصغير - رحمه الله - وقد ميف على الستين سنة من العمر. وكان عنده معرفة بالأدب، وله يد جيدة في النظم؛ أنشدني صاحبنا تقي الدين عبد الله بن تمام له:
طار قلبي يوم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعي أو رفا
حار في سقمي من بعدهم ... كل من في الحي داري ورقى
بعدهم لا ظل وادي المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا
؟؟محمد بن علي بن أبي القاسم أبو بكر بدر الدين العدوي المعروف بابن الكاكري كان من أعيان العدول بدمشق، كثير التحري في الشهادة والتحقيق، ظاهر العلم، حسن العشرة، لطيف الحركات، خبيراً بكتابة الشروط والفرائض، عنده ديانة وافرة ومروءة كبيرة. روى عن الشيخ موفق الدين المقدسي - رحمة الله عليه - وغيره، ومولده بدمشق في سنة أربع وتسعين وخمس مائة، وتوفي بدمشق يوم الأربعاء العشرين من ربيع الآخر، ودفن من يومه بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
محمد بن عوض بن علي بن عوض أبو عبد الله عماد الدين العوضي الأصيل الدمشقي المولد والوفاة. مولده سنة تسع وست مائة ليلة الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين خامس عشر المحرم. سمع من والدي - رحمه الله - ومن أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وأبي المنجا عبد الله بن عمر اللتي وغيرهم، وحدّث. صحب والده وجماعة من أعيان المشايخ وحدثهم وأخذ عنهم وانتفع بهم، وكان له من قلوبهم وأدعيتهم أوفر نصيب، ولم تزل حرمته وافرة عند الملوك والأمراء والوزراء والأعيان، وأقبل عليه الملك الظاهر - رحمه الله - قبل وفاته إقبالاً كثيراً. وكان عنده مكارم وحسن عشرة وسعة صدر وإكرام لمن يقصده من سائر الناس، ومسارعة إلى قضاء حوائجهم؛ وعلى ذهنه من أخبار الصالحين وحكاياتهم ما لا مزيد عليه ويعاني المراكب السنية والثياب الفاخرة ويخضب بالسواد، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
محمد بن مشكور بن.... أبو عبد الله شرف الدين المصري، كان رئيساًوفيه مكارم، وعنده معرفة تامة بالكتابة والتصرف، وولي المناصب الجليلة، منها نظرالجيوش بالديار، وكان بينه وبين الصاحب بهاء الدين مصاهرة ووحشة باطنة. وتوفي بدارهالتي على الخليج بالقرب من مصر ليلة الأحد خامس عشر جمادى الأولى، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى، ومولده على ما نقل عنه في سنة عشر وست مائة - رحمه الله تعالى.
محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن يحيى الأمير أبو عبد الله بن الأمير أبي زكريا ابن الشيخ أبي محمد بن أبي حفص الهنتاني صاحب تونس، قد اختلف النقل في تاريخ وفاته لبعد المسافة، فقيل في الثاني من شوال سنة خمس وسبعين وست مائة، وقيل في يوم عيد النحر منها، وقيل في الثالث والعشرين من ذي الحجة - والله أعلم. كانت وفاته بمدينة تونس، وسبب موته أنه خرج إلى الصيد وحصل له من كثرة الحركة انزعاج وتغير مزاجه، وزاد به الألم، فعاد إلى المدينة وهو ضعيف، فبقي على ذلك مدة أيام إلى أن توفي، وله من العمر اثنان وخمسون سنة تقريباً. وكان ملكاً جليلاً عظيم المقدار عالي الهمة، مدبراً سائساً كثير التحيل على بلوغ مقاصده شجاعاً مقداماً يقتحم الأخطار بنفسه، كريماً كثير العطاء، يستقل الكثير مما يعطيه ويعجبه فعل المعروف وينافس فيه، مغرماً بالعمائر، منهمكاً في اللذات تزف إليه كل ليلة جارية وكان ولّى عهد أبيه في حياته. فلما توفي والده في سنة سبع وأربعين ببلد العناب بمدينة يقال لها بونا وكان صحبته، ترك والده على حاله، وركب بغلاً يسمى الجيش ودخل به تونس في خمسة أيام والمسافة عشرون يوماً ومات البغل في تلك السفرة. وكان الحامل له على ذلك خوفه من عمّيه أن يسبقاه، فإنه كان له عمّان، أحدهما مجدور الوجه يدعى أبا عبد الله كثّ اللحية يعرف باللحياني. ولما دخل تونس، وجد الخبر قد سبقه والنوح في القصر فأبطله وأمر بضرب البشائر وسيّر مملوكاً له يقال له هلال إلى مدينة بونا يستدعي من بها من العسكر وأمر أن يسوق عمه أبو عبد الله اللحياني في مقدمة الجيش، وعمه أبو إبراهيم في ساقته، فوصل إلى المكان وذكر لعميه ما أمر به فساروا عشرين يوماً حتى وصلوا إلى السبخة على يوم من تونس. فتقدم لهم مرسومه أن يترجل العسكر بأسرهم خلا عمّيه فكشف منهم في ذلك اليوم خمسين مقدماً طائعين وسبعين مقدماً مخامرين. فلما دخلوا تونس مدّ لهم سماطاً فدخل الخلق طائفة بعد طائفة، والكوسات تضرب والخلع تفرق والأنعام تشمل القريب والغريب. واستقل على هذا المنهج سنة ونصفاً، وهو مع ذلك خائف من عميه وثلاثة رجال أخر مستبدين إليهما يقال لأحدهم ابن البرنمال، والآخر إبراهيم بن إسحاق.
وكان مدة السنة ونصف يجتمع كل ليلة بهؤلاء الخمسة، وينعم عليهم لكل واحد منهم بألف دينار عيناً ومركوباً وسيوفاً وعبيداً ويضبط ذلك أرقالا. ثم حصل بعمه أبي إبراهيم تغير في خاطره وعبط لونه، رأى غيره في منزله، ورأى مماليك السلطان على رؤوسهم قياماً بأسلحتهم من غير عادة تقدمت في البلاد بذلك. فقال أبو إبراهيم لأخيه والثلاثة الذين معهما: هذه حيلة علينا لنقتل في وسط المكان، ثم طلبوا دستوراً بالركوب للنزهة فأذن لهم ثم ركب متخفياً يسارقهم النظر وراءهم إلى ان دخلوا بستاناً يقال له الحريرية، فدخل الإخوان وتحيّل الأمير محمد إلى أن دخل بحيث لم يشعر به، وطلع إلى شجرة خرّوب مطلعة على المكان. فلما أن دخلا تعانقا، وقال أبو إبراهيم: أما أن تأخذها أو آخذها، فقال اللحياني: أنا قد زوجته ابنتي وحلفت له.
وإذا بالثلاثة قد دخلوا وقالوا: الملك عقيم فحلفوا للحياني وهو يشاهدهم من الشجرة، وخرجوا من البستان، ونزل الملك من الشجرة فرآه الخولي، فحل حياصته ودفعها إليه وأخذ يحادثه إلى ان وصل إلى جانب ساقية في البستان، فرفسه برجله رماه فيها، فمات ودخل من ساعته، فأركب مماليكه ستة آلاف فارس وأخرج ألفي حجيرة عراب أركبها السودان وطلب مملوكاً يدعى ظافراً، فقدمه على ألفي فارس ومملوكاً من مماليك أبيه يدعى مظفراً، فقدمه على ألفين من الترك، وخادماً يدعى مفتاح الطويل، فولاه على السودان، وقال لهم: البسوا سلاحكم وتمضوا إلى باب الدار التي هم بها. فتهجموا عليهم وتقطعوا رؤوسهم، فخرجوا وكان وافقهم من الموحدين أربعة آلاف فارس وهم في منزل جلوس في لعب ولهو، فما احسوا إلا وقد أحيط بالدار، فهرب الأولاد واختفوا. وقطعت رؤوس العمين وجعلت في طشت وتسلمهم نبيل السلوقي، ودخل على الملك بالرأسين وهو على مدورة سوداء، وبيده قضيب ذهب زنته عشرة أرطال مصرية، فقال: أين بقيتهم؟ قال: واصلون في الزناجير، وكان عنده القاضي وأربعة عدول، فقال لهم: تركبون وتحفظون خزائنهم ووجودهم، وتحضرون لي ما في هذه الورقة مما أصرف إليهم، فقبضها القاضي وساروا إلى ما رسم لهم بهم، ودخل الباقون في الزناجير، فضرب أعناق السبعين مقدماً المخامرين، ثم استدعى بالثلاثة الأخر، فقطع من لحومهم وشوى واطعموا وهرب أولاد عمّيه فقراء واختفوا واحتيط على ما كان لهم جميعه،وكل ذلك في ثلاثة أيام. ثم صعد الملك محمد علي منبر من العاج مصفح بالذهب، فذكر الله وأثنى عليه وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال في آخر كلامه: عفا الله عنكم المجرم وغير المجرم. ثم أمر بهدم دور المخامرين إلى الأساس، وكذلك بساتينهم ولم يبق لهم أثر، ولم يظهر لها بعدهم غلام ولا مملوك إلا قبض عليه. وأقام محمد بعد قتل عميه سنة، ثم جمع العلماء والأكابر. وقال أيضاً رحمه الله: قال: أنتم مؤمنون أم لا؟ - وقال: ومن أنا؟ - فقالوا: أميرنا، قال: فإذا اجتمع بحثي وبحثكم كيف يكتب؟ قالوا: أمير المؤمنين؛ قال: فاكتبوه. وكتب إلى سائر بلاده ومسيرتها أربعة أشهر برّاً وشهران في البحر المالح، ثم أنه فصل الخلع من أنواع ثياب الصوف والحرير والعمائم المهدوية وخلع على مقدّمي العسكر والأعيان من الرعية والمتميزين من الناس، وكان بإفريقية من العربان خلق كثير لهم مقدم يعرف بسبع بن يحيى، وفخذه بنو كلب، وهم أشد العربان بإفريقية، فعصوا عليه، فلم يظهر لهم تغير، ورسله تتردد إليهم بالملاطفة إلى أن حضروا إليه، فضرب رقابهم عن آخرهم. فبلغ ذلك قوماً من العربان يقال لهم الخلوط والذبابيين والمعفوقيين، وفخذ من غيرهم يكون مجموعهم ستين ألف راكب لم يعطوا طاعة لأحد، فزاد عصيانهم فشاور أعيان دولته؛ فقالوا: نخرج العسكر بأسره إليهم، فقال: تذهب الخزائن وما نظفر بالجميع، و يستمر عصيان السالمين، ويقطعون الطرقات لكن نأخذهم بالرفق، فراسلهم وأعطاهم خمسة بلاد وهي طرابلس وجرباء وزواراً وزواغاً وقرقنا، ثم استعمل سيوفاً جدداً ورماحاً، وفصل جباباً منوعة ودراريع بيضاء وملابس النساء، وحمل ذلك هدية إليهم صحبة رجل يعرف بأبي يحيى بن صالح من كبراء دولته مشهوراً بالصدق عند العربان؛ وقال: إن اختاروا الحضور إلينا يحضروا، وإلا ما نكلفهم ذلك فسار إليهم. وكان عارفاً بشيء من السيمياء، فوعده الملك أن استمالهم بحانة. فلما حضر عندهم قدموا له الخيل والنياق وأحضروا المغاني، وبقي عندهم ثلاثة شهور يركب في جمهورهم، ثم إن الملك كتب إليه يأمره أن يخطب له ثلاث بنات من الثلاثة أفخاذ من كل أمير بنتاً، فعرّفهم ورفعت الرايات وقرّت في أحياء العرب البنات، وكان أبو يحيى قد احتوى على عقولهم. فكتبوا إلى الملك يسألونه أن يكون مقدمهم، فأجابهم إلى ذلك وأمر لمحضر الكتاب بألف دينار عيناً وعشرة أكسية حمر وعشرة من الإبل وخمس جمار خدمات، وجعل جامكية لمن يلود به وبلداً يباباً يقال لها الحماء يستغلها فعاد إليهم فاطمأنوا غاية الطمأنينة، وانكف شرهم عن البلاد، وحصل لها نهاية الأمن، ثم إن الملك كتب إلى الشيخ أبي يحيى يستدعيه وقال: من أراد من العربان أن يحضر معك فليحضر، فصحبه تسعة نفر من كل فخذ ثلاثة أولاد الأمراء، فدخل تونس، وخرج الملك بنفسه لتلقيه، ثم أنزل التسعة ومن
معهم وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال.هم وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال.
ثم إن الملك أحضر نقاشاً وقال له: افتح لي سكة تضرب عليها ديناراً مائة مثقال؛ فعمل السكة فضرب الملك عليها عشرة آلاف دينار، ثم دخل دار الطراز وأمر أن يعمل بها ثياب برسم بنات العربان اللاتي خطبهن، وأن يعمل سوار كل بنت رنك أبيها، وأخرج الذهب وجعل في الصناديق مقسوماً سوية، واخرج ستة من العدول صحبته والذهب وسيّر الجميع إلى العربان ليكونوا كتبة الصداقات عندهم. فلما رأت العربان أولادهم عادوا سالمين، ومعهم أموال جمة، ورأوا تلك الأموال الأخر والقماش قد فرش في البرية وهلت عقولهم، واشتدت أطماعهم وكتبت الصداقات. وعادت العدول إلى تونس. ثم بعد مدة يسيرة كتب كتباً تتضمن أنه قد طرى أمر يحتاج إليه إلى المشورة فليحضر. فأول من سارع التسعة المقدم ذكرهم، ووصل معهم نحو السبعين رجلاً من كبارهم. فأركب الملك ولده للقائهم، وأنزل كل عشرة منهم في دار، وأوسع عليهم من النفقات والمأكول والمشروب، وصاروا معه حيث كان. فأقاموا كذلك عشرة أيام، ثم قال لهم: إن الأمر الذي أحضرناكم قد مضى من غير مشورة ببركاتكم، فارجعوا إلى بلادكم. فخرجوا رافعي الرايات داعين للملك شاكرين، فأخذ رجل منهم في الطريق عشرة أرؤس من البقر، فقطعوه بالسيوف، وسيّروا رأسه إلى تونس، فشق ذلك على الملك وقال: البقر لي ولعله كانت له حاجة بها. فلم فعلتم ذلك؟ ثم أمر أن يعمل له جنازة ويدفن، فتضاعف أمنهم، وأقاموا على ذلك سنة، فحصل بسبب أمن البلاد أضعاف ما أنفق من المال. وورد على الملك من أكابر ملوك البربر رجل يعرف بابن عمراض فاحتفل به واستدعى أهل البلاد والعربان، فبادروا وأقبل جميع الناس وهم يومئذ سبعون أميراً، فخرج إلى لقائهم بنفسه، وضربت لهم الخيم وأخلي لهم في البلد عشر دور برسم راحتهم في النهار، واحترمهم حرمة تامة بحيث كان الرجل من أهل البلد يقتل قتيلاً ويلّم بأبياتهم، فلا يؤذى؛ ثم إن ابن عمراض قصد خدمة الملك فركبوا معه ودخلوا تونس، فقال لهم الملك وجعل يثني عليهم وعلى ابن عمراض، وأمر العربان يقبلون الأرض عقيب كل شكر، ثم طلبهم أن يدخلوا قصره ليلة واحدة ليشربوا معه، فدخلوا إلا عشرين نفراً تخيلوا. فسيًر لهم المأكول والمشروب وغرائب ما عنده وقال: إنما قصدت أن أريكم زخرف ما عندي، فمن خطر له الدخول فليدخل ومن اختار المقام مكانه فليقم. ثم أظهر للذين دخلوا من أنواع الزينة ما ذهل عقولهم وأخرج من جواريه نحو الخمسين جارية يتراقصن بين أيديهم، ومن خطر له جارية أعطيها، وأنعم عليهم بالذهب، ولم يسير للبرانيين شيئاً. ولما أصبح ركب معهم، وخرجوا إلى عند الجماعة المتأخرين وسلم عليهم، وقال: العذر باق فيكم، فلهذا تأخرتم، ولكن ما نؤاخذكم، بل نعمل لكم قبة في وسط القصر جديدة نسميها قبة العرب تجتمعون فيها على اختياركم، ومن حين نضع أساسها نشرب فيها. فرضوا بذلك، ثم أمر لهم بمثل ما أعطى من كان معه من الذهب، ثم ساق بخيله ومماليكه فدخل قصره، واستدعي بمعمار يقال له عمرون القرطبي، وقال له: أريد أن تبني لي في هذه الرحبة قبة أربعين ذراعاً في مثلها يكون جميعاً حجراً صامتاً، ويكون لها ثلاثة أبواب، باب يختص بالعرب وتكتب عليه أسماؤهم، وباب سرّ أدخل منه وأخرج، وباب للحاشية فرسمت القبة وقطعت الحجارة. ثم إن الملك عانق عمرون من غير عادة، وقال له: إني وقفت على سيرة بعض الخلفاء، فرأيت فيها إنه قتل جماعة في قبة أساسها ملح سيّب عليه الماء فسقطت، فهل لك في ذلك حيلة؟ قال: نعم؛ فتقدم يعمل في حيلة لإحضار الملح، ثم شقّ الأساس وردمه ملحاً، ولم يصبح إلا وقد دار بالحجارة دوراً واحداً، ثم طلب العرب، فحضروا وبسط المكان، وجعل العربان يشربون والصناع تعمل إلى العصر، وركب الملك وتركهم، فمنهم من خرج ومنهم من تأخر، وبقي على هذه الحال يشرب في ناحية القبة والصناع تعمل في الجهة الأخرى مدة أربعين يوماً، فكملت فمر ببياضها وتصوير العربان فيها، فكان البدوي ينظر إلى صورته كأنها تنطق، فتعجب من حذق الصانع. وكان بالقصر حمام عتيق مجرى مائها حاكم على أساس القبة، فخزن الماء من حين الشروع فيها في بركة معدة لها، فلما تمت القبة قال لهم: إني الليلة بائت في القبة معكم لا ينصرف منكم أحد. فشربوا إلى آخر النهار، واستقبلوا الليل بالسرور وهم على غاية الطمانينة، وأمر الملك أن يحفر التراب عن
الأساس إلى أن يظهر الملح، ويطرّق إليه ويستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء سخن؟ فقيل له: في تسع ساعات. فعلق الاسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، قام الملك بعد أن جهزمن يعز عليه في الاشتغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فيقطت بدا واحداً فلم يسلم منهم أحد، وكان قد أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة. إلى أن يظهر الملح، ويطرّق إليه ويستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء سخن؟ فقيل له: في تسع ساعات. فعلق الاسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، قام الملك بعد أن جهزمن يعز عليه في الاشتغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فيقطت بدا واحداً فلم يسلم منهم أحد، وكان قد أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة.
فلما حضروا رأوا الملك باك عليه ثوب قطن والحزن ظاهر عليه، فقال: ما ترون ما قد جرى على هؤلاء يعز والله عليّ، ولكن هذا أمر سماوي ليس فيه حيلة. ثم طلب المعمار فضرب عنقه لئلا يشيع باطن الحال، ونبش العربان فدفنوا وحلف أولادهم ثم بايعوه واستعاد ما كان أعطاهم من البلاد الخمس، وعوّض أولادهم عنها بالغلال. ومن سيرته أن سلاح جنده ولة الحرب عنده في خزائنه، وعلى كل سلاح اسم صاحبه لا يمكّن أحداً من التصرف في شيء منه، فإذا اتفق حرب حملت العدد على الجمال وأخرجت ففرقت على الرجال، فإذا قضى الشغل أعيدت إلى الخزائن، وكلما عتق منه شيء جدّد، وكلما فسد شيء منها أصلح من ماله، وإن مات الرجل ورتب لولده، وإن لم يكن له ولد ولا وارث تركت لرجل غيره، وهو أول من اعتمد ذلك في تونس بعد قتل عمومته خوفاً من الخروج عليه. وأما الأجناد فلم يكن لأحد منهم خبز بل نقد، وليس لأحد من الناس في البلاد شيء إلا من كان له ملك من أجداده فهو باق عليه، وارتفاع البلاد بأسرها يجمع ويحمل ثم يفرق في السنة أربع مرار كل ثلاثة شهور نفقة ومجموع المال الربع والثمن منه لللمؤمنين والنصف والثمن لبيت المال ما يصرف على الشواني للجهاد والعمائر وإصلاح ما يجب إصلاحه من البلاد من النصف والثمن بأمر قاضي القضاة وما يخص أمير المؤمنين من خيل وصلاح ولباس وعدة ومماليك ونفقات فهو من الربع والثمن، ومن خامر من الجند أو مات وليس له وارث عاد ما ترك إليه مع الربع والثمن.
محمد بن يوسف بن مسعود بنبركة بن سالم بن عبد الله بن خاس بن قيس بن مسعود بن محمد بن خالد بن مزيد بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمر بن قيس بن شراحيل بن همام بن مرة من ذهل بن شيبان، ويعرف بابن عراج أبو المكارم الشيباني المنعوت بالشهاب ابن التلعفري الشاعر المشهور. مولده في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ستين وخمس مائة بتلّ يعفر، وقرأ الأدب على الشيخ أبي الحزم بالموصل، وكان حافظاً للأشعار وأيام العرب وأخبارها. وتوفي في ثالث عشر المحرم سنة خمس وسبعين وست مائة بنصيبين، وكان حسن المعرفة بأخبار الفرس ومحاسن آثارهم. وكان شاعراً مطيلاً في قصائده يمدح أهل البيت رضي الله عنهم، وكان من المغالين في مذهب الشيعة، سافر إلى نصيبين، وأقام بها إلى أن مات، وانقطع إلى الملك الأشرف بن العادل، وصار أحد شعراء دولته، وسيّر فيه قصائد شتى، وكان وعده وهو معه في حمام بقلعة الرها سنة أربع وست مائة بألف دينار مصرية أي يوم ملك خلاط، فلما ملكها في ربيع الأول سنة عشر وست مائة أنشده:
سقى خلاط ملث الودق مدرار ... فإن فيها لباناتي وأوطاري
ماجت خراسان وارتجت قواعدها ... كأنها الدوح لاقى صوب الاعصار
وأضحت الكرّج في تفليس خائفة ... إذ جاورت منك جاراً أيما جار
غيثاً من الرعب ملأناً وليث شرى ... يظلّ ما بين فياض وزوار
عليك تقوى ملوك الأرض قاطبة ... صحائف المجد في نجد وأغوار
والناس والطير أضياف وعائلة ... لله درّك من مقرى ومن قاري
بسطت لي يوم حمّام الرّها أملاً ... وأنت حر كريم نجل أحرار
كوعد عمّك إذ وافاه عرقلة ... يستنجز الوعد في نظم وأشعار
فقال بيت سرى كالشمس في مثله ... مولد من لباب الشعر سيار
قل للصلاح معيني عند إعساري ... يا ألف مولاي أين الألف دينار
وأنت لا شك من ذاك النجار ولي ... وعد عليك وهذا وقت تذكاري
ما انت دون صلاح الدين في كرم ... ولا أنا دون حسان بن عمار
فأعطاه الألف دينار. وكان الشهاب من الفضلاء قيّماً بالشعر مقدماً فيه عند أدباء عصره، ومدح خلقاً كثيراً من الملوك والأمراء والأعيان وغيرهم؛ وهو من شعراء الملك النصر صلاح الدين يوسف بن محمد، ومن شعره:
بانوا وخل بأبرق الجنان عن ... كثب عرى حيث الحيا الهزرور
واعد جمان الطلّ وهو منظم ... عقداً لجيد البانة الممطور
وإذا الثنية أشرق وشممت من ... أرجائها ارجا كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حديثه المرفوع من ذيل الصبا المجرور
وقال أيضاً - رحمه الله:
حلفت برب مكة والمصلى ... يميناً إنهم قد أوحشوني
فديتهم بروحي من أناس ... حفظتهم ولكن ضيعوني
وقال أيضاً - رحمه الله:
طال في حلبة الصدود جفاكم ... تم إلا روحي خذوها فداكم
أسأل الله إن قضيت اشتياقاً ... في هواكم يجني يطيل بقاكم
كنت قبل الهوى عزيزاً كريماً ... ما عرفت الهوان لولا هواكم
سادتي ما أطلت أسخاط عذّالي ... أبداً إلا طاعة في رضاكم
يطلبون السلو مني عنكم ... لا تملي قلبي بكم إن سلاكم
أيها المعرضون عني جفاءً ... ما أمرّ الجفا وما أحلاكم
طال بيني وبينكم أمد الب ... ين تراني أحيا ليوم لقاكم
أنتم بالخلاف مني فما أفق ... رني نحوكم وما أغناكم
وقال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى: أنشدني الشهاب لنفسه:
يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبي ... عاجلت مني اللمة السوداء
لا تعجلن فما الذي جعل الدجى ... من طرقي الليل البهيم ضياء
لو أنها يوم الحساب صحيفتي ... ما سر قلبي كونها بيضاء
وقال أيضاً رحمه الله:
لك ثغر كلؤلؤ في عقيق ... ورضاب كالشهد أو كالرحيق
وجفون كم يمتشق سيفها ... للمغدي بقدك الممشوق
تهب عجباً بكل حظ من الحس ... ن جليل وكل معنى دقيق
وتفردت بالجمال الذي خ ... لاك مستوحشاً بغير رفيق
حملتني عيناك ما لست يوماً ... في هواها لبعضه بمطيق
وسقيتني ما تدير كؤوساً ... أنا منها ما عشت غير مفيق
يا بخيلاً عليً حتى ينوّم ... مطمع منه في خيال طروق
باللحاظ التي بها لم تزل تر ... شق قلبي وبالقوام الرشيق
لا يغرن بالغرير إذ تثنى ... فيه أعطاف كل غصن وريق
وأثر بجمر خديك وايتر ... ه وإلا ينشق قلب الشقيق
وقال أيضاً رحمه الله:
هذا العذول عليكم ما لي وله ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله
شرط المحبة أن كل متيم ... صب يطيع هواه ويعصي عذله
آاخذتموني حين سار بذكركم ... مثلي ومثلي سره لن يبذله
ما أعربت والله عن وجدي بكم ... وصبابتي إلا دموعي المنهملة
جزتم مداكم في قطيعتكم فلا ... عطف لعائدكم يرام ولا صله
أألومكم في هجركم وصدودكم ... ما هذه في الحب منكم أوله
قسماً بكم قد جرت مما اشتكى ... حسبي الدجى فعدمته ما أطوله
ليلي كيوم الحشر معنى أن تكف ... لا ليلى ذاك له فذا الصبح له
يا سائلي من بعدهم عن حالتي ... ترك الجواب هذي المسأله
حالي إذا حدثت لآلمع ولا ... جمل لا يضاحي من يشكله
عندي جوى يدع الصحيح مبلداً ... فاترك مفصله ودونك مجمله
يا نار وفي..... عيشهم ... رشأ عليه حشا المحب مقلقله
قمر له في القلب بل في الطرف بل ... في النثرة الحصداء أشرف منزله
الصدغ منه عقرب ولحاظه ... أسد وخلف الظهر منه سنبله
ما أحور الألحاظ منه إذ رني ... وإذا انثنى مقوامه ما أعدله
....في الألحاظ نضرة وجنة ... تسوي النواظر لاست مقبله
لله منه مهفهف أجنبته ... عسل الهوى فجنيت منه حنظله
لو كنت فيه قبلت نصح عواذلي ... ما أدبرت أيام حظي المقبله
وقال أيضاً رحمه الله:
لو لا بروق بالعقيق تلوح ... تغدو على هضباته وتروح
ما ازداد قلبي لوعة كلا ولا ... أدمي خدودي دمعي المسفوح
ويح الصبا حتام تذكر في الصبا ... ........منها كالعنبر تفوح
خطرت وقد أهدي فيها الشذا ... غار الغوير وبانه والشيح
يا أهل ودي يوم كاظمة أما ... عن مثلكم صبري الجميل قبيح
سرتم وأسريتم بقلبي مهجة ... أردي بها الهجران والتبريح
قلبي يحفظكم لقلبي شاهد ... لا أرتضيه لأنه مجروح
من لي بطيف منكم إن أغمضت ... عيني تعين على الأسى وتريح
هدأ الجفون وإنما أين الكرى ... منها وهذا الجسم أين الروح
أطمعتموني في الوصال وليس لي ... إلا صدود منكم ونزوح
وقال في الشرف بن يلمان:
سمعت لابن يلمان وبغلته ... أضحوكة خلتها إحدى قصائده
قالوا رمته وداست بالنعال على ... قفاه قلت لهم ذا من عوائده
لأنها فعلت في حق والدها ... ما كان يفعله في حق والده
وقال أيضاً رحمه الله:
قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظلماء
وعدلت استبقى الشباب تعللاً ... بخضابه فخضبتها سوداء
وقال أيضاً في القمار:
ينشرح الصدر لمن لاعبني ... والأرض بي ضيقة فروجها
كم شوشت شيوشها عقلي وكم ... عهداً ستقتني عامداً بنوجها
وقال أيضاً رحمه الله:
تتيه على عشاقها كلما رأت ... حديث صفات الحسن عن وجهها يروى
قتاة لها في مذهب الحب حاكم ... لقتل الورى أعطى لواحظها فتوى
يرنحها سكر الشباب فتنثني ... بقد إذا قامت يكاد بأن يلوى
ولو لم يكن في ثغرها بنت كرمة ... لها أصبحت أعطاف قامتها تشوى
وقال أيضاً رحمه الله:
لو لم يقضوا بالعراق جموعاً ... ما كان جفني بالمفيض دموعا
ساروا وأسروا بالرقاد وسارروا ... عندي جوّى إنساني التوديعا
سا سعد ساعدني وخف أن يغتدي ... مثلث بألحاظ الضياء صريعا
لاتأمنن بأن تبت بلوعتي ... تشكو أسىً وصبابة وولوعا
قل للصبا سراً فإن لها شذى ... يضحى لما يقضى إليه مذيعا
يا ذيلها المجرور عن هضب اللوى ... المنصوب هات حديثك المرفوعا
كم قد لهوت بمن بكى في منزلي ... حتى بكيت منازلاً وربوعا
بمدامع لو أن جعفرها له ... فضل لأنبت في الخدودربيعا
وقال أيضاً - رحمه الله:
أكحل أو طف أهيف أحمر أحور أغن ألمى رخيم العلس رشيق أسمر
ترف مذلل مليح كيس حلو سكر رخص البنان بهيّ المنظر شهيّ المخبر
وقد عكس ذلك بعض الأدباء وهو شمس الدين عمر بن المغيزل فقال:
أقرع سمج أحدب أعوج أفلج أعوى أعور أغث أشكع شنيع الوق ثقيل بخر
قذر مصفر ذلع دعاء نزق أقور ... من الكلام رزى المنظر ردى المخبر
وقال الشهاب بن التلعفري:
حظ قلبي في هواه الوله ... فعذولي فيه مالي وماله
باسم عن برد منتظم ... لم يفز إلا فتى قبّله
حائر الألحاظ يثنى قامة ... قده المائل ما أعدله
شاهر صارم جفن لم يزل ... في فؤادي عامداً منصله
قا قضيباً حاملاً بدر الدجى ... ربه بالحسن قد كمّله
عند بسهم اللحظ عمن كلما ... رشته صاب له مقتله
وذي غرام لم يطع فيك الجوى ... والهوى حتى عصى في عذله
كلما طالت عليه ليلة ... صاح من فرط جوى في أشغله
هذه الليلة لا يوم لها ... مثل يوم الحشر لا ليل له
وكذا كل كثيب لم يزل ... ليله آخره أوله
حصرك الناحل من أضنائه ... بل خدعك المرسل من بليله
والذي خصّك بالحسن الذي ... آخذاً غيرك ما سربله
ما عرفت النوم مذ فارقتني ... نور وجه منك ما أجمله
كم أداري فيك لوامي ومن ... يعذل المشتاق ما أجهله
وقال أيضاً - رحمه الله:
لو لم تدر بيمينه الأقداح ... دارت بمقلته علينا الراح
قمرا لنا من حسن نبت عذاره ... وخدوده الريحان والتفاح
ياجوهري اللفظ لا ومضاعف ... من كسر جفنك ما القلوب صحاح
عطفاً على ذي لوعة شبوبه ... متقاصر عن شرحها الإيضاح
قلبي بتكملة الغرام مفصل ... وأظن ليس لحاله إصلاح
لجمالك المنصور بل لجبينك ... الهادي فدا حفنى السفاح
شقّت بك الأجسام إلا أنها ... سعدت براحة عشقك الأرواح
وقال أيضاً - رحمه الله:
أراه يوري حين يسأل عن دمى ... وفي وجنتيه منه آثار عندم
كثير معاني الحسن قلّ نظيره ... فها....فيه بتوأم
له وهو مملوك تحكّم مالك ... كما هو ظبي فيه صولة ضيغم
يلوح كبدر ساطع النور مشرق ... بدا في دجى ليل من السعد مظلم
بصدغ يصان الخد منه بعقرب ... وفرع يزان القدّ منه بأرقم
فلا طرف إلا في نعيم وجنة ... ولا قلب إلا في لظى وجهنم
حوى فمه دريّ الكلام ومبسم ... هما برداء المستهام المتيم
فينطق عن لفظ كدرّ مبدد ... ويبسم عن ثغر كدرّ منظم
بريش لما قد أوترت من قسيها ... حواجبه من جفنه أي أسهم
ويضرب من لحظ بسيف مجرد ... ويطعن عن قدّ برمح ملهذم
ويسطو بآلات الجمال محارباً ... وما ثم شيء غير مقتل مغرم
وقال أيضاً - رحمه الله:
أحب الصالحين ولست منهم ... رجاء أن أنال بهم شفاعة
وابغض من بهم أثر المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعه
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا أمسى فراشي من تراب ... وبتّ مجاور الرب الرحيم
فهنوني أخلائي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم
وله أيضاً - رحمه الله تعالى:
جاءت لوداعي وهي تشوى القدّ ... تبكي بجفون سيلها كالمدّ
مثلي لكن دمعها منصبغ ... بالخدّ ودمعي صابغ للخد
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لو بات بما أحبه مكترثاً ... ما خان ولا كان لعهدي نكثا
يبدو فيقول كل من يبصره ... سبحانك ما خلقت هذا عبثا
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
من قال عني بأني ... يوم القيامة أخسر
وإنني بذنوبي ... إلى جهنم أحشر
مر يا جهول ودعني ... أنا بربي أخبر
محمد بن أبي بكر أبو عبد الله شرف الدين الأردويلي الصوفي الشيخ الصالح العارف المزني. كان من العلماء العارفين، كثير الزهد والعبادة والذكر، لازمه جماعة من الناس استغنوا به، وكان مقيماً بخانكاه الشميساطي بدمشق مدة إلى حين وفاته، وصلى عليه بجامع دمشق في بكرة نهار الخميس رابع المحرم، وأخرجت جنازته إلى ميدان الخصيّ ظاهر دمشق، فدفن إلى جانب شيخه برهان الدين الموصلي المعروف بابن الحلوانية - رحمه الله - مجاوراً لقبر صهيب الرومي رضي الله عنه - على ما يقال وقد نيف على السبعين من العمر - رحمه الله تعالى ورضي عنه. وكان صاحب خلوات ومجاهدات ورياضات تأدب به جماعة وعادت عليهم بركته - رحمه الله تعالى.
مرخسيا النصراني - لعنه الله - كان أثيراً عند أبغا ملك التتار، وله عليه دالة كثيرة وهو متمكن منه، فكان يحمله على المسلمين بما يسيء بهم عنده ويرغبه بهم ويرغبه في الايقاع بهم حتى ضاقوا به ذرعاً خصوصاً أهل الروم ومعين الدين البرواناة. فلما قوي جأش معين الدين كتب إلى قطب الدين محمود أخي أتابك ختن البرواناة، وكان نائباً عن أخيه بأرزنجان، يأمره بقتل مرخسيا القسيس فقتله وولده وشيعة من أهله واثنين وثلاثين نفراً من حاشيته. وكان هذا مرخسيا كبير العصبية على المسلمين، عضداً لأهل ملّته، محرضاً لملوك النصرانية المتأخمين لبلاد الروم والمجاورين لها على موافقة التتر في قصد بلاد المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، فتقدم البرواناة بقتله مخاطراً، فقتل في الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم، وكان قتله حسنة البرواناة وفعلة جميلة.
مظفر بن رضوان بن أبي الفضل أبو منصور بدر الدين المنبجي ناب عن عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله - بعد وفاة تاج الدين النخيلي واستمر في النيابة إلى حين وفاته، وكان مدرس المدرسة العينية بدمشق. وتوفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الخميس ثاني ذي القعدة بمدرسته، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين. وكان عنده ديانة كثيرة وتعبد، ولين جانب، وفور عقل، وحسن تأتي وتواضع، ومحبة للفقراء والصالحين، وملازمة الفرائض في الجماعات - رحمه الله تعالى.
نوفل الزبيدي الملقب ناصر الدين أحد أمراء العرب المشهورين بالشام. وهو الذي أخذ الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله تعالى - يوم المصاف مع المصريين في سنة ثمان وأربعين وستمائة، ونجا به إلى دمشق فعرف له ذلك، وكان يتولى التحجب للعرب، ولم يزل وجيهاً في الدول، وله حرمة ومكانة لى حين وفاته، وصلى عليه يوم السبت ثالث عشرين شعبان، وقد نيف على ستين سنة - رحمه الله تعالى.
ولادمر بن عبد الله الأمير عز الدين إيغان الركني المعروف بسم الموت. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم ومقدمهم وشجعانهم، وله المكانة العظيمة والحرمة الوافرة والكلمة النافذة في الدولة الظاهرية، يندبه في المهمات ويعتمد عليه من تقدمة العساكر وقود الجيش إلى أن يقيم عليه، فحبسه مضيقاً عليه وبقي في السجن مدة إلى أن أدركته منيته في محبسه بقلعة الجبل ظاهر القاهرة، فتوفي إلى رحمة الله تعالى، وسلم إلى أهله ميتاً يوم الخميس ثامن عشر جمادى الآخرة، فغسل وكفن وصلى عليه ودفن من يومه بمقابر باب النصر ظاهر القاهرة، وهو في عشر الخمسين وكان من أبطال المسلمين ومشاهير فرسانهم - رحمه الله تعالى.
يحيى بن حاتم بن حمدان الملقب بالزكي. هو من أهل بعلبك، وعمر حتى قارب المائة سنة أو نيف عليها، وكان يزعم أنه من ذرية سيف الدولة بن حمدان الأمير المشهور، وتوفي يوم الخميس سابع ربيع الآخر ببعلبك ودفن بباب دمشق ظاهر مدينة بعلبك - رحمه الله تعالى.
يمن بن عبد الله أبو الفضل الحبشي الخادم العزيزي المنعوت بالقرش. كان رجلاً خيّراً، أديباً عدلاً، مقبول القول، صادق اللهجة؛ حج واستوطن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى مشيخة الخدّام بالحرم الشريف النبوي صلوات الله عليه وسلامه على ساكنه، وتوفي بالمدينة الشريفة النبوية في تاسع عشر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين - رحمه الله. وسمع من أبي محمد عبد الوهاب بن رواج وغيره، وحدّث، والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك.
يوسف بن صدقة بن المبارك بن سعيد أبو المظفر تاج الدين البغدادي التاجر المشهور، مولده بالقاهرة في الثامن والعشرين من صفر سنة تسعين وخمس مائة. سمع ببغداد من جماعة وأجاز له جماعة من مشايخ نيسابور وغيرها وحدّث، وكانت وفاته يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة بالقاهرة ودفن يوم السبت بالقرافة الصغرى بسفح المقطم وكان من أرباب البيوت المشهورة بالعراق وأعيان التجار المتمولين مشهوراً بالثروة والوجاه والعدالة، واقعد في آخر عمره نحو ثمان سنة إلى حين وفاته - رحمه الله تعالى.
حكي أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله - قال له بدمشق: يا تاج الدين بلغني أنك تقدر على ست مائة ألف دينار، فقال: لا وحياة رأسك ما أقدر على هذا. قال: فبحياتي على كم تقدر؟ قال: وحياتك أقدر على على أربع مائة ألف دينار. وكان له ببغداد أملاك جليلة وأموال ومتاجر وعنده شح شديد بالنسبة إلى كثرة أمواله ولم يشتهر عنه أنه فعل شيئاً يتقرب به أرباب الدنيا إلى الله تعالى من وقف أو صدقة ولا أوصى بذلك بعد وفاته - رحمه الله وإيانا، وتمزقت امواله وذهبت شر مذهب.
محمد بن أبي الحسن بن البعلبكي ليث الدولة مقدم بعلبك. كان رجلاً شجاعاً مقداماٌ خبيراً بالحروب وتقدمة الرجال صبوراً فيها، صادق اللهجة كثير الصوم، كان صومه أكثر من فطره، عنده ديانة وتعبد وتشيع. توفي ببعلبك ليلة الأربعاء مستهل صفر، ودفن يوم الأربعاء ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك، وهو في عشر الثمانين - رحمه الله، وكان أمير عشرين فارساً، وإذا حضر في حرب ترجّل وقاتل راجلاً. لم يكن في وقته من يضاهيه في الرجلة والشجاعة وكرم الطباع وقوة النفس والصبر على المكاره.
السنة السادسة والسبعون وست مائةدخلت هذه السنة يوم الجمعة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا صاحب تونس فإنه توفي وقد ذكرناه، وولى بعده ولده أبو زكريا يحيى.
متجددات الأحوالفي يوم الخميس سابع المحرم دخل الملك الظاهر دمشق بعساكره، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر الأبلق جوار الميدان الأخضر، وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا إلى مكان الوقعة فجمع الأمراء، وضرب مشورة فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وبلقائه حيث كان، فتقدم بضرب الدهليز على القصير. وأثناء هذا العزم وصل رجل من التركمان وأخبر أن أبغا عاد إلى بلاده هارباً خائفاً، ثم وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر، وأخبر بمثل ذلك فتقدم الملك الظاهر بردّ الدهليز.
وفي يوم الجمعة منتصف شهر المحرم ابتدأ المرض بالملك الظاهر وتوفي وسنذكره - إن شاء الله تعالى.
وفي سادس عشر صفر وصل إلى القاهرة رسول من جهة الفنش من بلاد المغرب إلى الملك الظاهر ومعه تقدمة من بلاد المغرب حسنة وشق بها القاهرة.
وفي يوم الخميس سادس عشر منه وصل إلى القاهرة جميع العساكر من الشام ومقدمهم الأمير بدر الدين الخزندار، وهم يخفون موت الملك الظاهر في الصورة الظاهرة، وفي صدر الموكب مكان يسير السلطام تحت العصائب محفة وراءها السلحدارية والجمدارية وغيرهم من أرباب وظائف الخدمة على العادة توهم أن السلطان بها مرض، فلما وصلوا قلعة الجبل ترجّل الأمراء والعسكر بين يدي المحفة كما جرت العادة، وكانوا يعتمدون ذلك في طريقهم من حين خروجهم من دمشق، وصعدوا بالمحفة إلى القلعة من باب السر، وعند دخولها اجتمع الأمير بدر الدين الخزندار بالملك السعيد، وكان لم يركب لتلقيهم، وقبّل الأرض، ورمى عمامته وصرخ وقام العزاء في جميع القلعة، ولوقتهم جمع الأمراء والمقدمين والجند، وحلّفوهم بالإيوان المجاور بجامع القلعة للملك السعيد ناصر الدين أبي المعالي محمد بركة خان وأثبت له الأمر على هذه الصورة.
وفي يوم الجمعة التالية لذلك، خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده صلاة الغائب.
وفي ليلة الأحد سادس ربيع الأول توفي الأمير بدر الدين بيليك الخزندار - رحمه الله - وسنذكره - إن شاء الله تعالى - وباشر نيابة السلطنة عوضه الأمير آق سنقر الفارقاني.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه كسر الخليج الكبير بالقاهرة، وقد غلق ماء السلطان على العادة وهو ستة عشر ذراعاً بالقاسمي.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة والده، وسار إلى تحت الجبل الأحمر وهو أول ركوبه بعد قدوم العساكر وتحليفهم ولم يشق المدينة وبين يديه الأمراء والمقدمون والأعيان بالخلع وسرّ الناس به سروراً كثيراً، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة فإن مولده سنة سبع وخمسين وست مائة ببلبيس.
وفي يوم الجمعة خامس وعشرين منه قبض الملك السعيد على الأمير شمس الدين سنقر وبدر الدين بيسرى، وحبسا بقلعة الجبل.
وفي يوم الخميس سادس عشر ربيع الآخر وصل رسل أولاد بركة وأنزلوا بالميدان اللوق، وكان قدومهم من الاسكندرية فإنهم جعلوا طريقهم البحر من مقرّ ملكهم وهو بر القفجاق.
وفي يوم السبت ثامن عشره قبض الملك السعيد على الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني، ومعه جماعة من الأمراء، وحبسوا بقلعة الجبل، ورتّب عوضه في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين سنقر الألفي الصغير.
وفي يوم الأحد تاسع عشره أفرج الملك السعيد عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وخلععليهما، وأعادهما إلى مكانتهما في الدولة.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى انتهت زيادة النيل إلى ثمان أصابع من الذراع التاسع عشر.
وفي يوم الاثنين رابعه فتحت المدرسة التي أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالقاهرة بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وعلى شيخ يسمع الحديث، وذكر الدرس بها في ذلك النهار.
وفي يوم الثلاثاء خامسه عقد بقلعة الجبل بجامعها عقد الأمير المستمسك بالله أبي المعالي محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين على ابنة الخليفة المنتصر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام الظاهر ابن الإمام الناصر، وحضر والده والملك السعيد والقضاة ووجوه المملكة وأعيان الدولة.
وفي يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قبض الملك السعيد على خاله بدر الدين محمد بن حسام الدين بركة خان وحبسه بقلعة الجبل لأمر نقمه عليه.
وفي ليلة الثلاثاء خامس وعشرين منه أفرج عنه وخلع عليه وأعاده إلى منزلته المعروفة.
وفي ليلة الجمعة خامس شهر رجب نقل تابوت الملك الظاهر من قلعة دمشق إلى التربة التي أنشأها ولده الملك السعيد بدمشق داخل باب الفرج قبالة المدرسة العادلية الكبيرة، وهي دار الشريف العقيقي كانت انتقلت إلى ملك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الأتابك - رحمه الله - فاشتريت من ورثته وهدمت وبني موضع بابها قبة الدفن لها شبابيك إلى الطريق، وإلى داخل المدرسة وجعل بقية الدار مدرسة على فريقين شافعية وحنفية، وكان دفنه بها في النصف من الليل، ولم يحضره سوى الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، ومن الخواص دون العشرة.
وفي يوم الخميس سادس عشر رمضان طيف بكسوة الكعبة الشريفة بالقاهرة ومصر وأمامها القضاة والولاة وغيرهم.
وفي هذا الشهر طلعت سحابة عظيمة بصفد صدر منها برق عظيم خارق للعادة، وسطع منها لسان كالنار وسمع صوت رعدها على منارة جامعها صاعقة شقها من رأسها إلى أسفلها شقاً تدخل فيه الكف.
وفي يوم السبت سابع ذي القعدة برز الملك السعيد بالعسكر إلى مسجد التين ظاهر القاهرة.
وفي يوم السبت حادي وعشرين منه انتقل بخواصّه إلى الميدان الذي أنشأه بين مصر والقاهرة، ودخلت العساكر إلىمنازلهم وبطلت الحركة.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره رفعت يد القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد عرف بابن عين الدولة عن الحكم والقضاء بمدينة مصر والوجه القبلي، وباشر ذلك القاضي تقي الدين محمد بن زين الدين مضافاً إلى القاهرة والوجه البحري.
وفي ذي الحجة كتب تقليد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - من الملك السعيد - رحمه الله - بقضاء دمشق وإعمالها من العريش إلى سلمية على ما كان عليه ثم حضر عند السلطان الملك السعيد لابساً الخلعة وقبّل يده وشافهه الملك السعيد بالولاية، وخرج في سابع وعشرين ذي الحجة متوجهاً إلى الشام المحروس.
وفيها توفي
إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس أبو إسحاق كمال الدين الاسكندري المقرئ. كان عارفاً بالقراآت واشتغل عليه خلق كثير بالقرآن الكريم، وولي نظر بيت المال بدمشق مدة سنين، ونظر الجيش مضافاً إلى نظر بيت المال في بعض المدة، وكان مشهوراً بالأمانة، وحسن السيرة، كثير الديانة والخير والتواضع؛ سمع الشيخ تاج الدين أبا اليمن الكندي وغيره وحدّث. وكانت وفاته بدمشق في تاسع صفر وقيل ثامن عشره، ودفن يوم الخميس ومولده بثغر الاسكندرية سنة ست وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى.
أقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين المحمدي الصالحي النجمي. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وذوي الحرمة الوافرة منهم. وكان الملك الظاهر حبسه لأمر نقمه عليه. وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه وأعاده إلى مكانته، وكان عديم الشر. وتوفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث ربيع الأول ودفن من الغد بتربته بالقرافة الصغرى، وقد ناهز سبعين سنة من العمر، وهو أول من قدم دمشق بعد كسرة التتار بعين جالوت في سنة ثمان وخمسين وهو الذي كان الملك الظاهر أرسله إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي لما استولى على دمشق عندما تملك الملك الظاهر الديار المصرية - رحمه الله تعالى.
إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الموصلي الظاهري. كان نائب السلطنة بحمص ثم نقله الملك الظاهر إلى حصن الأكراد وما جمع إليه، وجعله نائب السلطنة هناك، وكان له نهضة وكفاية وصرامة وذكاء ومعرفة، وكان عنده تشيع. قتل بحصن الأكراد في داره بالربض غيلة في ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب - رحمه الله. واختلف في سبب قتله، فقيل: إن السلطان جهّز عليه من قتله، وقيل: قفز عليه بعض الإسماعيلية، وقيل غير ذلك، وطل دمه وهو في عشر الخمسين لم يستكملها.
إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الدمياطي الصالحي النجمي أحد الأمراء الأكابر المقدمين على الجيوش، قديم الهجرة بينهم في علوّ المنزلة وسموّ المكانة. وكان الملك الظاهر حبسه مدة زمانية ثم أفرج عنه وأعاده إلى امريته، وتوفي بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان، ودفن بتربته التي أنشأها بين القاهرة ومصر بالقبة المجاورة بحوض السبيل المعروف به وكان قد نيف على السبعين سنة رحمه الله.
ايدمر بن عبد الله الأمير عز الدين العلائي. كان نائب السلطنة بقلعة صفد، وكان الملك الظاهر يحترمه ويثق به، ويسكن إليه وإذا قلق من المقام بصفد لا يقبله. فلما توفي الملك الظاهر - رحمه الله - في أول هذه السنة جرى بينه وبين النواب من صفد مقاولة أوجب أنه طلب دستوراً للحضور إلى الباب السلطاني لمصالح ينهيها شفاهاً، ففسح له فتوجه إلى الديار المصرية وأقام بها مدة يسيرة، وأدركته منيته هناك ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب، ودفن يوم الأربعاء بالقرافة الصغرى والفقرل. وهو أخو الأمير علاء الدين ايدكين الصالحي العمادي وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
بهادر الأمير شمس الدين المعروف بابن صاحب شميساط، وكان هو صاحبها، قدم مهاجراً إلى الملك الظاهر - رحمه الله - قبل وفاته بثلاث سنين فأكرمه وأمّره وأقام في خدمته إلىان أدركته منيته بالقاهرة ليلة الأحد العشرين من شعبان، ودفن من الغد خارج باب النصر بتربته التي أنشأها وكان قد نيف على أربعين سنة - رحمه الله تعالى.
بيبرس بن عبد الله أبو الفتح ركن الدين السلطان الملك الظاهر الصالحي. قال عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم بن شداد - رحمه الله - : أخبرني الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي - رحمه الله تعالى - أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وست مائة تقريباً، وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وست مائة بلغهم ذلك كاتبوا انرقان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار، فأجابهم إلى ذلك، وأنزلهم وادياً بين جبلين له فوهة إلى البحر، وأخرى إلى البر، وكان عبورهم إليه سنة أربعين وست مائة. فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم وشنّ الغارة عليهم، وقتل وسبى، وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديراً فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس، فاجتمعت به في سيواس، ثم افترقنا واجتمعنا في حلب بخان ابن فليح، ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع إلى الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه. وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وست مائة، فقدمه على طائفة من الجمدارية.
فلما مات الملك الصالح نجم الدين، وملك بعده ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على عز الدين التركماني وولوه الأتابكية، ثم اشتغل وقتل فارس الدين أقطاي الجمدار، ركب الملك الظاهر والبحرية وقصدوا قلعة الجبل. فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للتركماني مهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وهم الملك الظاهر ركن الدين، وسيف الدين بلبان الرشيدي، وعز الدين آيدمر السيفي، وشمس الدين سنقر الرومي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى الشمسي، وسيف الدين قلاوون الألفي، وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم. فلما شارفوا دمشق سيّر إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فحلف ودخلوا دمشق في العشر الآخر من شهر رمضان فأكرمهم الملك الناصر وأطلق للملك الظاهر ثلاثين ألف درهم، وثلاث قطر بغال، وثلاث قطر جمال وخيلاً وملبوساً، وفرّق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم، وكتب إليه الملك المعز يحذّره منهم ويغريه بهم، فلم يصغ إليه. وكان عيّن الملك الظاهر إقطاعاً بحلب فالتمس من الملك الظاهر أن يعوضه عن بعض ما كان له بحلب من الاقطاع بحسين وزرعين فأجابه إلى ذلك فتوجه ثم استغرق الملك الناصر وتوجه بمن معه ومن تبعه من حشداشيته وأصحابه إلى الكرك، فجهز صاحبها الملك المغيث عسكره مع الملك الظاهر نحو مصر، وعدة من معه ست مائة فارس، وخرج من عسكر مصر لملتقاه، فأراد كبسهم، فوجدهم على أهبة والتف عليه وعلى من معه عسكر مصر، فلم ينج منهم إلا الملك الظاهر، والأمير بدر الدين بيليك الخزندار؛ وأسر سيف الدين بلبان الرشيدي. وعاد الملك الظاهر إلى الكرك، فتواترت عليه كتب المصريين يحرّضونه على قصد الديار المصرية وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر، وخرج عسكر مصر مع الأمير سيف الدين قطز والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب. فلما وصل المغيث والظاهر إلى غزة انعزل إليهم من عسكر مصر عز الدين إيبك الرومي، وسيف الدين بلبان الكافري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعز الدين إيبك الجواشي، وبدر دبن خان بغدى، وعز الدين إيبك الحموي، وجمال الدين هارون القيمري، واجتمعوا بالظاهر والمغيث بغزة، فقويت شوكتهم وتوجها إلى الصالحية، ولقوا عسكرمصر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، فاستظهر عسكرهما أولاً ثم عادت الكسرة عليه، فانكسر. وهرب الملك المغيث ولحقه الملك الظاهر، وأسر عز الدين إيبك الرومي، وركن الدين منكورس الصيرفي، وسيف الدين بلبان الكافري، وعز الدين إيبك الحموي، وبدر الدين بلغان الأشرفي، وجمال الدين هارون القيمري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعلاء الدين ايدغدي الاسكندراني، وبدر الدين بن خان بغدى، وبدر الدين بيليك الخزندار الظاهري. فضرب أعناقهم صبراً خلا الخزندار الجوكندار شفع فيه، وخيره بين المقام والذهاب، فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق.
ثم إن المغيث حصل بينه وبين الملك الظاهر وحشة أوجبت مفارقته له وعوده إلى الملك الناصر، بعد أن استحلفه على أن يقطعه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وحسين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الملك الناصر في العشر الأول من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر، وهم: بيسرى الشمسي، والتامش السعدي، وطيبرس الوزيري، وأقوش الرومي الدوادار، وكشتغدي الشمسي، ولاجين الدرفيل، وايدغمش الحلبي، وكتشغدى المشرقي، وآيبك الشيخي، وبيبرس خاص ترك الصغير، وبلبان المهراني، وسنجر الاسعردي، وسنجر البهماني، وألبلان الناصري، وبلتى الخوارزمي، وسيف الدين طمان، وآيبك العلائي، ولاجين الشقيري، وبلبان الأقسيشي، وعلم الدين سلطان الألدكزى فأكرمهم ووفى لهم.
فلما قبض الملك المظفر قطز على ابن أستاذه، حرض الملك الظاهر للملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه، فرغب إليه أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم غيره ليتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتر من العبور إلى الشام، فلم يمكن الصالح لباطن كان له مع التتر.
وفي سنة ثمان وخمسين فارق الملك الظاهر الملك الناصر، وقصد الشهرزورية وتزوج منهم، ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من استحلفه له، ودخل القاهرة يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب الملك المظفر للقائه، وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب بخاصته. ولما خرج الملك المظفر للقاء التتر سيّر الملك الظاهر في عسكر ليتجسس أخبارهم، فكان أول من وقعت عينه عليهم، وناوشهم القتال.
فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم يقتص آثارهم، ويقتل من وجد منهم إلى حمص، ثم عاد فوافى الملك المظفر بدمشق. فلما توجه الملك المظفر إلى جهة الديار المصرية، اتفق الملك الظاهر مع سيف الدين الرشيدي، وسيف الدين بهادر المعزى، وبدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزى، وسيف الدين بيدغان الركني، وسيف الدين بلبان الهاروني وعلاء الدين آنص الأصبهاني على قتل الملك المظفر - رحمه الله ؛ فقتلوه على الصورة المشهورة ثم ساروا إلى الدهليز، فتقدم الأمير فارس الدين الأتابك، فبايع الملك الظاهر، وحلف له، ثم الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم وركب ومعه الأتابك، وبيسرى، وقلاوون، والخزندار، وجماعة من خواصه فدخل قلعة الجبل، وفي يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة وكتب إلى جميع الولاة بالديار المصرية يعرفهم بذلك، وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص، وإلى الملك المنصور صاحب حماة، وإلى الأمير مظفر الدين صاحب صهيون، وإلى الإسماعيلية، وإلى علاء الدين، وصاحب الموصل، ونائب السلطنة بحلب، وإلى من في بلاد الشام من الأعيان يعرفهم بما جرى. ثم أفرج عمن في الحبوس من أصحاب الجرائم وأقرّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة، وتقدم بالافراج عن الأحبار وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء، وخلع عليهم، وسير الأمير جمال الدين أقوش المحمدي بتواقيع الأمير علم الدين الحلبي، فوجدوه قد تسلطن بدمشق فشرع الملك الظاهر في استفساد من عنده فخرجوا عليه ونزعوه عن السلطنة، وتوجه إلى بعلبك فسيروا من حضره وتوجه به إلى الديار المصرية، وصفا الشام للملك الظاهر بأسره في سنة تسع وخمسين وقد ذكرنا في سياق السنين مما تقدم جملاً من أخباره وأحواله وفتوحاته وغير ذلك فأغنى عن إعادته.
ولما كان يوم الخميس رابع عشر المحرم من هذ السنة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرق القمّز وبات على هذه الحال.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشره وجد في نفسه فتوراً وتوعكاً فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين سنقر الألفي السلحدار فأشار عليه بالقيء فاستدعاه فاستعصى. فلما كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته، والألم مع ذلك يقوى. وعند الغروب عاد إلى الجوسق. فلما أصبح اشتكى حرارة في باطنه، فصنع له بعض خواصه دواء، ولم يكن عن رأي الطبيب، فلم ينجع وتضاعف ألمه، فأحضرالأطباء، فأنكروا استعماله الدواء، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل، فسقوه فلم ينجع، فحركوه بدواء آخر كان سبب الإفراط في الإسهال، ودفع دماً محتقاً، وضعفت قواه، فتخيل خواصه إن كبده تقطع، وإن ذلك عن سم سقيه، وخولج بالجوهر، وذلك يوم عاشره. ثم جهده المرض إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين من المحرم. فاتفق رأي الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلا يشعر العامة بوفاته، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج، ومن هو خارج من الدخول. فلما كان آخر الليل حمله من كبراء الأمراء سيف الدين قلاوون الألفي. وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وبدر الدين الخزندار، وعز الدين الأفرم وعز الدين الحموي، وشمس الدين سنقر الألفي المظفري، وعلم الدين سنجر الحموي، وأبو خرص، وأكابر خواصه؛ وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتلقينه مهتاره الشجاع عنبر، والفقيه كمال الدين الاسكندري المعروف بابن المنبجي، والأمير عز الدين الأفرم. ثم جعل في تابوت، وغلّق في بيت من بيوت البحرية بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتفاق على موضع دفنه. ثم كتب الأمير بدر الدين الخزندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده، وسيّرها على يد بدر الدين بكتوت الجوكنداري الحموي وعلاء الدين ايدغمش الحكيمي الجاشنكير. فلما وصلا، وأوصلا المطالعة، خلع عليهما وأعطى كل واحد منهما خمسين ألف درهم، على أن ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصرية.
ولما كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئاً من زي الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السابلة قريباً من داريا، وأن يبني عليه هناك، فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور فابتاع دار العقيقي بثمانية وأربعين ألف درهم نقرة وأن يغير معالمها، وتبنى مدرسة للشافعية والحنفية ويبنى بها قبة، شاهقة يكون بها الضريح، ويعمل دار الحديث أيضاً. فلما تم بناء القبة ومعظم المدرسة ودار الحديث، جهز الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص والطواشي صفي الدين جوهر الهندي إلى دمشق لدفن والده. فلما وصلاها اجتمعا مع الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وعرّفاه المرسوم فبادر إليه وحمل الملك الظاهر - رحمه الله تعالى - من القلعة إلى التربة ليلاً على أعناق الرجال، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد من هذه السنة.
وفي سادس عشر ذي القعدة وقف الملك السعيد وهو عز الدين محمد بن شداد بإذنه وتوكيله وحضوره المدرسة المذكورة والقبة مدفناً وباقيها مسجداً لله تعالى برسم الصلوات وقراءة القرآن العزيز والاعتكاف، وباقي الدار مدرستين إحداهما شرقي الدار هي للشافعية، والأخرى قبليّ الدار إلى جانب القبة وهي للحنفية، دار حديث قبلي الإيوان المختص بالشافعية ووقف على ذلك جميع قرية الضرمان من شغل بانياس، وجميع قرية أم نزع من الحيدور، وبهمين من بيت رامة من الغور، ومزرعيتها الذراعة وشويهة، وتسعة عشر قيراطاً ونصف قيراط من قرية الأشرفية من الغوطة، وبساتين ابن سلام الثلاثة وبستان الستة وطاحونة والحمام على الشرف الأعلى الشمالي وكرم طاعة من بلد بانياس، وخان بنت جزوخان بحكر الفهادين، ورتب في التربة إماماً شافعياً، وجعل له في كل شهر ستين درهماً وزمّامين من عتقاء الملك الظاهر ناظرين في مصالح التربة، وحفظ ما بها من الآلات لكل واحد منهما في الشهر ستين درهماً، ومؤذناً له في الشهر عشرون درهماً وستة عشر مقرئاً لكل واحد منهم خمسة وعشرون درهماً، منهم نفسان يزاد كل واحد منهما عشرة دراهم. ويشتري في كل شهر شمع وزيت، وما تحتاج إليه التربة من الفرش والقناديل وآلات الوقيد بمبلغ ثمانين درهماً، ويرتب في كل مدرساً له في الشهر مائة وخمسون درهماً، ويعيدان لكل واحد منهما أربعون درهماً وثلاثين فقيهاً لأعلاهم عشرين درهماً، ولأدناهم عشرة دراهم وأن يصرف فيما تدعو الحاجة إليه من أجرة ساقي وإصلاح قنى وغير ذلك، وثمن زيت ومسارج وقناديل، وآلة الوقيد بالمدرستين في الشهر أربعون درهماً. وشاهداً ومشارفاً وغلاماً وجابياً وغيرهم لكل منهم ما يراه الناظر والنظر للملك السعيد مدة حياته ثم لولده وولد ولده.
وفي جمادى الآخرة من سنة سبع وسبعين وست مائة، سيّر الملك برسم تتمة العمارة ومصالح الوقف اثني عشر ألف دينار. وفي يوم السبت ثالث ذي القعدة سنة سبع وسبعين وقف عماد الدين محمد الشيرازي بطريق الوكالة عن الملك السعيد جميع أحد عشر سهماً وربع سهم، وثمن سهم من قرية الطرة من ضياع الجبيل من إقليم اذرعات من عمل دمشق إلى المدرستين والتربة، بعد أن انتقلت الحصة إلى ملك الملك السعيد على ثماني قرى مضافين إلى القرى الست عشرة، وتقر لكل منهم خمس وعشرون ويزاد لكل مدرّس رطلان خبزاً مثلثاً بالدمشقي، ولكل خادم من الخادمين. ولكل نفر بالتربة والفقهاء والمؤذنين والفراشين والبوابين في كل يوم ثلثي رطل خبزاً أسوة فراشي التربة، ويصرف إلى مباشر الأوقاف والشاهد والمشارف لكل واحد رطلاً خبز، وأشهد الحكام على نفوسهم وسجلوا بثبوت ذلك.
في يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة سنة سبع وسبعين شرع في عمل أعزية الملك الظاهر بالديار المصرية وتقرر أن يكون أحد عشر يوماً في أحد عشر موضعاً نصبت تربا الخيمة العظيمة السلطانية، وفرشت بالبسط الجليلة، وصنعت الأطعمة الفاخرة، واجتمع عليها الخواص والعوام. وحمل منها إلى الربط والزوايا. فإذا كانت ليلة اليوم الذي عمل فيه المهم حضر القراء والوعاظ، فانقضى الليل بين قراءة ووصل إلى صلاة الفجر، واول هذا الجمع بالبقعة المعروفة بالبقعة بجوار مسجد يعرف الأندلس، والثاني بالحوش الظاهري، والثالث بالمدرسة المجاورة لقبة الشافعي رحمه الله تعالى، والرابع بجامع مصر، والخامس بجامع ابن طولون، والسادس الجامع الظاهري بالحسينية، والسابع بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة، والثامن بمدرسة الملك الصالح، والتاسع بدار الحديث الكاملية، والعاشر بالخانكاة برحبة العيد، والحادي عشر بجامع الحاكم وهو يوم الأحد. والثاني من شهر ربيع الأول. وأنشد الشعراء المراثي وخلع على جماعة من الوعاظ وغيرهم ومن لم يخلع عليه أعطاه جائزة حسنة.
وله أولاده وأزواجه كان له من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدولة محمد بركة كان مولده بالعشر من ضواحي مصر في صفر سنة ثمان وخمسين وست مائة، وأمه بنت حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي، والملك نجم الدين خضر أمه أم ولد، والملك بدر الدين سلامش، وولد له من البنات سبع من بنت سيف الدين دماجي التتري. وأما زوجاته فأم الملك السعيد وهي بنت بركة خان، وبنت الأمير سيف الدين نوكاش التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين دماجي التتري، وشهروزية تزوجها لما قدم غزة وخالف شهروزية، فلما ملك الديار المصرية طلقها.
وأما وزراؤه تولى السلطنة واستمر زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، ثم صرفه واستوزر بهاء الدين علي بن محمد بن سليم وفي وزارة الصحبة ولده فخر الدين أبا عبد الله محمد إلى أن توفي في شعبان سنة ثمان وستين، فرّتب مكانه ولده الصاحب تاج الدين محمد وزر له في الصحبة أيضاً أخوه الصاحب زين الدين أحمد ووزر له الصاحب عز الدين محمد بن الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين نيابة عن جده. وكان له أربعة آلاف مملوك منهم أمراء أسفهسلارية، ومقادره، وخاصكية داخل الدور، وخاصكية خارجها، وجمدارية. وسلاح دارية وكتابية.
ومن عفته وشرف نفسه وعدله أن الملك الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه في الحج. وفي ضمن الكتاب شهادة عليه أن جميع ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر فلم يأذن له في تلك السنة، واتفق أنه مات بعد ذلك، فتسلم الحصون التي كانت بيده، ومكن ورثته من جميع ما تركه من الأثاث والملك، ولم يعرج على ما أشهد به على نفسه.
ومنها أن شعراء بانياس وهي إقليم يشتمل على قرى كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد فلما فتحها أفتاه بعض فقهاء الحنفية باستحقاق الشعراء فلم يرجع إلى الفتيا، وتقدم أمره أن من كان فيها ملك يتسلمه، ولم يكلفهم بينة فعادت إلى أربابها وعمّرت.
ومنها أن بستان سيف الإسلام بين مصر والقاهرة، وكان ملكاً لشمس الملوك أحمد بن الملك الأعز شرف الدين يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى. فتوفي المذكور بآمد، وبقي البستان في يد ولده شهاب الدين غازي. فلما ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية أخرج المذكور من مصر، واحتاط على البستان، فلم يزل تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفع ولد شهاب الدين غازي قصة أتهيأ فيها الحال، فأمر بحملها على الشرع فثبت ملك المتوفي بشهادة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وبهاء الدين بن ملكشوا والطواشي صفي الدين جوهر النوبي، وثبتت الوفاة، وحضر الورثة بشهادة كمال الدين عمر بن العديم، وعز الدين محمد بن شداد فسلم لهما البستان، ثم ابتاعه منهما بمائة وثلاثين درهم.
ومنها أنها بنت الملك المعز صاحب حلب كان عقد عليها الملك السعيد نجم الدين أيل غزي صاحب ماردين على صداق مبلغه ثلاثون ألف دينار مصرية، فمات عنها ولم يدخل بها. وكان الملك المظفر قطز رحمه الله قد احتاط على أملاك الملك السعيد بدمشق لما تملكها، وبقيت تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفعت قصة تذكر الحال وسألت حملها على الشرع وأن يفرج عن الأملاك لتباع في مبلغ صداقها؛ فتقدم أن يثبت ما أدعته فثبت بشهادة كمال الدين بن العديم ومحمد بن شداد ولم يكن بقي في الصداق غيرها فأفرج لها عن الأملاك فبيعت وقبضت ثمنها.
ومن حكمه أنه كان له ركابي وهو بدمشق يسمى مظفراً كان يأخذ الجعل من الأمراء الناصرية على نقل أخبارهم إليهم، وتحقق ذلك منه وبقي معه إلى أن ملك واستمر به، فدخل يوماً إلى الركاب خانة، فوجدها مختلة، وفقد منها سروجاً محلاة، فالتفت إليه، فقال له: نحسن في دمشق ونحسن في القاهرة، متى عدت قربت الاسطبل شنقتك فقال: يا خوند إذا لم اقرب الاسطبل من أين آكل أنا وعيالي؟ فرّق له، وأمر أن يقطع في الحلقة بحيث لا يراه فأقطع، وبقي إلى أن توفي السلطان.
وكان يفرق في كل سنة أربعة آلاف أردب حنطة في الفقراء والمساكين وأصحاب الزوايا وأرباب البيوت، وكان موصفاً عليه لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم، ووقف وقفاً على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر، ووقفاً يشتري به خبز، ويفرق في فقراء المسلمين. وأصلح قبر خالد رضي الله عنه بحمص، ووقف وقفاً على من هو راتب فيه من إمام ومؤذن وقيم، وعلى من ينتابه من البلاد للزيارة، ووقف على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وقفاً لتنويره وبسطه وإمامه ومؤذنه؛ وأجرى على أهل الحرمين بالحجاز الشريف وأهل بدر وغيرهم ما كان قطع في أيام غيره من الملوك الذين تقدموه. وكان يسّفر ركب الحجاز كل سنة تارة عاماً، وتارة صحبة الكسوة، ويخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبسه القاضي من المقلين، ورتب في أول ليلة من شهر رمضان المعظم بمصر والقاهرة وأعمالها مطابخ لأنواع الأطعمة، وتفرّق على الفقراء والمساكين.
وأما مهابته ومنزلته من القلوب أن يهودياً دفن بقلعة جعبر عند قصد التتر لها مصاغاً وذهباً وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة. فلما نفد ما كان بيده كتب إلى صاحب حماة قصد يذكر أمر الدفين، ويسأله أن يسيّر معه من يحفره ليأخذه ويدفع لبيت المال نصفه، فلم يتمكن من إجابة سؤاله، وطالع الملك الظاهر بذلك فورد عليه الجواب أن يوجهه مع رجلين لقضاء غرضه. فلما توجهوا ووصلوا الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر هو وابنه. فلما وصل أخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقاً إلى من عساه يقف عليه فكفوا عنه، وساعدوه حتى استخلص ماله ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى الملك المنصور، وأخذوا خطه أنهم سلموا اليهودي إليه سالماً وما تبعه.
ومنها: أن جماعة من التجار خرجوا من بلاد العجم قاصدين أبواب الملك الظاهر، فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من العبور وكتب فيهم إلى أبغا، فكتي إليه يأمره بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه. واتفق أن هرب مملوك إلى حلب، واجتمع بالأمير نور الدين علي بن مجلي، وأخبره بحالهم، فكتب للملك الظاهر بذلك على البريد؛ فعاد الجواب يأمره أن يكتب إلى صاحب سيس أن هو تعرض لهم في شيء يساوي درهماً واحداً أخذتك عوضه، فكتب إليه بذلك، فأطلقهم وصانع أبغا بأموال جليلة.
ومنها: أن تواقيعه التي في أيدي التجار المترددين إلى بلاد القفجاق بإعفائهم من الصادر والوارد ويعمل بها حيث حلوا من مملكة بيت بركة ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان.
ومنها: أنه أعطى بعض التجار مالاً ليشري به مماليك وجواري من الترك، فشرهت نفسه إلى المال فدخل به قراقرم واستوطنها، فبحث الملك الظاهر حتى وقع على خبره، فبعث إلى بيت منكوتمر في أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة.
ومنها: أنه كان بجزيرة صقلية في زمان الأنبرتور مقدار خمسة عشر ألف فارس مسلمين، وهم مهادنين لهم، وهم في خدمته، لهم الإقطاعات. فلما مات أشار من بها من الفرنج على من ملكها بعده بقتلهم فقتل منهم مفرقا نحو ثلاثة آلاف فارس، واتصل بالملك الظاهر قتلهم والعزم على قتال الباقين، فكتب إليهم أن هؤلاء المسلمين أقرهم الملك الذي كان قبلكم على بلادهم وأموالهم، فإما أن يقروهم على ما أقرهم من الهدنة، وإما أن يؤمنوهم ويوصلوهم بأموالهم إلى بلاد المسلمين ليبلغوا مأمنهم، فإن لم يقدروا على التوجه واختاروا الإقامة وجرى على أحد منهم أذى، قتلت على كل من تحت يدي من أسدى الفرنج، ومن في بلادي من تجارهم، وقتلت ما اشتملت عليه مملكتي من طوائف النصارى. فلما تحققوا ذلك اجتمع رأيهم على إبقائهم على عادتهم؛ وكان أخذ نفسه بالإطلاع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى لم يخف عليه من حالهم شيء. وكثيراً ما كانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدو فيأمر العسكر وهم زهاء ثلاثين ألف فارس فلا يثبت منهم فارس في بيته، وإذا خرج لا يمكن من العود.
ومنها: ما أحدثه من البريد في سائر مملكته بحيث يتصل به أخبار أطراف بلاده على اتساعها في أقرب وقت. والذي فتحه من الحصون عنوة من أيدي الفرنج خذلهم الله قيسارية، أرسوف، صفد، طبرية، يافا، السقيف، انطاكية، بغراس، القصير، حصن الأكراد، حصن عكار القرين، صافيثا، مرقية، حلبا. وناصفهم على المرقب، وبانياس، وبلاد أنطرسوس، وعلى سائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون. وولّي في نصيبه الولاة والعمال، واستعاد من صاحب سيس درب سأك، وديركوش، وبلمش،وكفر دبين، ورعبان والمرزبان. والذي صار إليه من أيدي المسلمين: دمشق، وبعلبك، وعجلون، وبصرى، وصرخد، والصلت وكانت هذه البلاد قد تغلب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي بعد قتل الملك المظفر رحمه الله تعالى وحمص، وتدمير، والرحبة، وزلوبيا، وتل باشر؛ وهذه منتقلة إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص في سنة اثنتين وستين وست مائة. وصهيون، وبلاطنس، وبرزية وهذه منتقلة إليه عن سابق الدين سليمان بن سيف الدين وعمه عز الدين. وحصون الإسماعلية وهي: الكهف، والقدموس، والمنيفة، والعليقة، والجوني، والرصافة، ومصيات، والقليعة. وانتقل إليه عن الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل: الشوبك، والكرك. وانتقل إليه عن التتر: بلاد حلب الشمالية، وشيز والبيرة. وفتح الله على يديه بلاد النوبة، وفيها من البلاد مما يلي أسوان جزيرة بلاق؛ ويلي هذه البلاد بلاد العلى، وجزيرة ميكائيل، وفيها بلاد وجزائر الجنادل وأنكوا وهي في جزيرة وإقليم مكس ودنقلة وإقليم أشو، وهو جزائر عامرة بالمدائن. فلما فتحها أنعم بها على ابن عم المأخوذة منه، ثم ناصفه عليها ووصف عليه أعبداً وجواري وهجناً وبقراً، وعن كل بالغ ديناراً في كل سنة. وكانت حدود مملكته من أقصى بلاد النوبة إلى قاطع الفرات.
ووفد عليه من التتر زهاء ثلاث آلاف فارس، فمنهم من أمّره بطبلخاناة، ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين، ومنهم من جعله من السقاة، وجعل منهم سلحدارية وجمدارية، ومنهم من أضافه إلى الأمراء.
وأما مبانيه فمشهورة: منها ما هدمه التتر من المعاقل والحصون. وعمّر بقلعة الجبل دارالذهب، وبرحبة الحبارج قبة محمولة على اثني عشر عموداً من الرخام الملون، وصوّر فيها سائر حاشيته وامرائه على هيئتهم وعمّر طبقتين مطلتين على رحبة الجامع وغشي لبرج الزاوية المجاور لباب السر، وأخرج منه رواشن، وبنى عليه قبة، وزخرف سقفها، وأنشأ جواره طباقاً للمماليك، وأنشأ برحبة القلعة داراً كبيرة لولده الملك السعيد، وكان في موضعها حفير، فعقد عليه ستة عشر عقداً، وأنشأ دوراً كثيرة برسم الأمراء ظاهر القاهرة مما يلي القلعة اسطبلات جماعة، وأنشأ حماماً بسوق الخيل لولده، وأنشأ الجسر الأعظم والقنطرة التي على الخليج، وأنشأ الميدان بالبورجي، ونقل إليه النخيل من الديار المصرية، فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار، وأنشأ به المناظر، والقاعات، والبيوتات. وجدد الجامع الأنور والجامع الأزهر، وبنى جامع العافية بالحسينية وأنفق عليه فوق ألف ألف درهم، وأنشأ قريباً منه زاوية الشيخ خضر وحماماً وطاحوناً وفرناً وعمّر على المقياس قبة رفيعة مزخرفة، وأنشأ عدة جوامع في أعمال الديار المصرية؛ وجدد قلعة الجزيرة وقلعة العامودين ببرقة وقلعة السويس، وعمّر جسر سهم الدين بالقليوبية، وجدد الجسر الأعظم على بركة الفيل، وأنشأ قنطرته وبنى على جانبيه حائطاً يمنع الماشي السقوط فيه، وقنطرة على بحر ابن منجا لها سبعة أبواب، وقنطرة بمنية الشيرج وقنطرتين عند القصير على بحر أبراس بسبعة أبواب أوسطها تعبر فيه المراكب، وأنشأ في الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستة عشر قنطرة، وبنى قنطرة على خليج القاهرة يمر عليها إلى ميدان البورجي، وبنى على خليج الاسكندرية قريباً من قنطرتها القديمة قنطرة عظيمة بعقد واحد، وحفر خليج الاسكندرية وكان قد ارتدم بالطين، وحفر بحر أشموم وكان قد غمر وحفر ترعة الصلاح وخورسرخشا، وحفر المجايري والكافوري، وترعة كنساد وزاد فيها مائة قصبة، كما كانت في الأول وحفر ترعة أبي الفضل ألف قصبة وحفر بحر الصمصام بالقليوبية، وحفر بحر السردوس. وتمم عمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل منبره، وأحاط بالضريح درابزيناً وذهّب سقوفه وجددها وبيّض جدرانه. وجدد البيمارستان بالمدينة النبوية ونقل إليها سائر المعاجين والأكحال والأشربة وبعث إليه طبيباً من الديار المصرية. وجدد قبر الخليل عليه السلام، ورمّ شعثه وأصلح أبوابه وميضابه وبيّضه وزاد في راتبه المجرى على قوامه ومؤذنيه وإمامه، ورتب له من مال البلد ما يجري على المقيمين به والواردين عليه. وجدد بالقدس الشريف ما كان قد تداعى من قبة الصخرة وجدد فيها السلسلة وزخرفها وأنشأ خاناً للسبيل. نقل بابه من دهلنر كان للخلفاء المصريين بالقاهرة وبنى به مسجداً وطاحوناً وفرناً وبستاناً. وبنى على قبر موسى عليه السلام قبة ومسجداً، وهو عند الكثيب الأحمر قبل أريخا ووقف عليه وقفاً. وبنى على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مشهداً ومكانه من الغور بعثما ووقف عليه وقفاً. وجدد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وكبرهما وعلاهما. ووسع مسجد جعفر الطيار رضي الله عنه ووقف عليه وقفاً زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه. وعمّر جسراً بقربة دامية بالغور على الشريعة، ووقف عليه وقفاً برسم ما عساه يتهدم منه. وأنشأ جسوراً كثيرة بالغور والساحل. وأنشأ قلعة قافوم وبنى بها جامعاً ووقف عليه وقفاً وبنى على طريقها حوضاً للسبيل. وجدد جامع مدينة الرملة وأصلح مصانعها، وأصلح جامعاً لبني أمية ووقف عليه وقفاً. وأصلح جامع زرعين وساعداه من جوامع البلاد الساحلية التي كانت في أيدي الفرنج. وجدد باشورة القلعة بصفد وأنشأها بالحجر الهرقلي وعمر لها أبراجاً وبدنات وصنع له بغلات مسفحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت، وعمل لأبراجها طلاقات، وأنشأ بالقلعة صهريجاً كبيراً مدرجاً من أربع جهاته وبنى عليه برجاً زائداً للارتفاع. قيل: إن ارتفاعه مائة ذراع بحيث أن الواقف عليه يرى الماشي على الخندق دائر القلعة. وبنى تحت البرج الذي للقلعة حماماً، وصنع الكنيسة جامعاً وأنشأ ربضاً ثانياً قبله بغرب، وكان السقيف قطعتين متجاورتين فجمع بينهما وبنى به جامعاً وحماماً وداراً لنائب السلطنة. وكانت قلعة الصبيبة قد اختربها التتر ولم يبقوا
منها إلا الآثار فجددها وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي. إلا الآثار فجددها وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي.
ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف المصرية خاصة
كانت عدة العساكر بالديار المصرية في الأيام الكاملية والصالحية عشرة آلاف فارس تضاعفها أربعة أضعاف، وكان أولئك مقصدين في الملبوس والنفقات والعدد، وهؤلاء بالضد من ذلك، وكانت كلف من يلوذ بهم من إقطاعه وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر؛ وكذلك تضاعفت الكلف. فإنه كان يصرف في كلف المطبخ الصالحي النجمي ألف رطل لحم بالمصري كل يوم، والمصروف في مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل في كل يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم، ويصرف في الكلف الطارئة المتعلقة بالرسل والوفود في كل يوم عشرون ألف درهم، ويصرف في ثمن قرط دوابه ودواب من يلوذ به في كل سنة ثماني مئة ألف درهم، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشر ألف عليقة في اليوم منها ست مائة أردب؛ وما كان يقوم به لمن أوجب عليه نفقته وألزمها عليه بطنجير، وتحمل إلى المخابز المعدة لعمل الجرايات خلاماً يصرف على أرباب الرواتب في كل شهر عشرون ألف أردباً، وذلك بمصر خاصة. وذلك الحال في العلوفات وكلف الرسل والوفود والاستعمالات في الخزائن، والذخائر وأما الطواري التي كانت تطرأ عليه فلا يمكن حصرها؛ وكذلك ما كان عليه من الجامكيات والجرايات لأرباب الخدم رحمه الله تعالى.بيليك بن عبد الله الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري نائب السلطنة بالممالك كلها ومقدم جيوشها. كان أميراً عظيماً، جليل المقدار، عليّ الهمة، واسع الصدر، كثير البر والمعروف والصدقة، لين الكلمة، حسن المعاملة للناس، محباً للفقراء والصلحاء والعلماء، حسن الظن بهم كثير الإحسان إليهم، يتفقد أرباب البيوت ويسد خلتهم، وعنده ديانة كثيرة وفهم وإدراك وتيقظ وذكاء. سمع الحديث النبوي وطالع التواريخ وأيام الناس، وكان يكتب خطاً حسناً وأوقف على زاوية بالجامع الأزهر بالقاهرة وقفاً جيداً على من يذكر بها الدرس وعلى من يشتغل بالعلم بها على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. وله أوقاف على جهات بر، وكان له الإقطاعات العظيمة بالديار المصرية وبالشام، وله قلعة الصبيبة وبانياس وأعمالها وبيت جن والشعراء وغير ذلك. ولما مات الملك الظاهر ساس الأمور أحسن سياسة وسار بالجيوش إلى الديار المصرية على أجمل نظام بحيث لم يظهر لموت السلطان أثر لوجوده، فلما وصل إلى الديار المصرية من الشام تمرض عقيب وصوله ولم يطل مرضه، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد سادس ربيع الأول بقلعة الجبل. ودفن يوم الأحد بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، ووجد الناس عليه وجداً شديداً وحزنوه لفقده وشمل مصابه الخاص والعام، وكانت له جنازة مشهودة وأقيم عليه النوح بالقاهرة ليلاً بالشموع في القاهرة والقلعة ثلاث ليال متوالية، والخواتين ونساء الأمراء يدرن في شوارع القاهرة ليلاً بالشموع والنوائح بالملاهي، وصدع موته القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنه مات مسموماً وهو الظاهر.
ومنذ مات اضطربت أحوال الملك السعيد وظهرت إمارات الأدبار على الدولة الظاهرية وأخذت في النقص والتلاشي، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. وكان عمره خمساً وأربعين سنة أو ما حولها، وخلف تركة عظيمة تجاوز الحصر ومن الوارث اثنين وزوجة. وأما الملك السعيد وأخوته نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش أولاد معتقة رحمه الله تعالى فلقد كان من حسنات الدهر ومحاسن الدولة الظاهرية سقى الله عهد واقفها.
الحسن بن إسماعيل بن عبد الملك بن درباس أبو محمد ناصر الدين الهذباني الماراني. مولده بالقاهرة سنة ثماني عشرة وست مائة. وكان عنده فضيلة ومشاركة في الأدب والنظم وفيه مكارم أخلاق وحسن المحاضرة، وجده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مشهور. وكان مدرس مدرسة سيف الإسلام بالبندقانيين بالقاهرة. وتوفي ليلة الاثنين ثامن شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بتربتهم المعروفة بهم رحمه الله تعالى.
خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العباس المهراني العدوي. كان يقول: إنه من قرية المحمدية من أعمال جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر المشهور أمره. وسبب معرفة الملك الظاهر به واعتقاده فيه أن الأمير سيف الدين قشتمر العجمي أخبره عنه قبل أن يتسلطن أنه قال: إن ركن الدين بيبرس البندقداري لا يملك أن يملك. فلما ملك صار له فيه عقيدة عظيمة وقرّبه وأدناه، وكان ينزل إلى زيارته في الأسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق؛ لكنه لم يكن يغب زيارته والاجتماع به ويطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره في أموره، ولا يخرج عن رأيه، ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته. وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين محمد بن رضوان الناسخ:
ما الظاهر السلطان إلا مالك ال ... دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس في ... وسط السماء بكل عين تنظر
لما رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبداً علمنا أنه الاسكندر
وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبر به.
ولما حاصر الملك الظاهر أرسوف وهي من أوائل فتوحاته سأله متى تؤخذ، فعين له اليوم الذي تؤخذ فيه فوافق، وكذلك في قيسارية وصفد.
ولما عاد الملك الظاهر رحمه الله تعالى من دمشق إلى جهة الكرك سنة خمس وستين استشاره في قصده. فأشار عليه أن لا يقصده وأن يتوجه إلى الديار المصرية، فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده. فلما كان ببركة زيزاء تقنطر فانكسرت فخذه وأقام مكانه أياماً كثيرة، ثم حمل في محفة إلى غزة ثم أتى الديار المصرية على أعناق الرجال. ولما قصد الملك الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته اجتاز الشيخ خضر ببعلبك ونزل بالزاوية التي عمّرت له بظاهرها، وخرج نواب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته، وكنت فيمن خرج، فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله يسأله عن أخذ حصن الأكراد، فقال: ما معناه: يأخذه في مدة أربعين يوماً.
وقال عز الدين محمد بن شداد: سمعت الأمير سيف الدين قشتمر العجمي رحمه الله تعالى يقول: إن الملك الظاهر لما تغير عليه وأحضر من أصحابه من دمشق من يحاققه على أمور نقلت إليه عنه ويقابله عليها قعد الملك الظاهر في داره بقلعة الجبل وعنده من أكابر الأمراء: الأمير فارس الدين الأتابك، والأمير سيف الدين قلاوون، والأمير بدر الدين بيسري؛ وسيّر الأمير سيف الدين قشتمر العجمي لإحضاره، فلما طلبه إلى الحضور إلى القلعة أنكر ذلك، لأنه لم يكن له به عادة، فعرف بشيء مما هم فيه، فقام وحضر معه، فلما دخل لم يجد ما يعهده، فقعد عندهم منتبذاً منهم، فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق، فشرعوا ونسبوه إلى أمور عظيمة وقبائح لا تكاد تصدر من مسلم ؛ فقال: ما أعرف ما يقولونه ومع هذا، فإني ما قلت لكم: إني رجل صالح، وأنتم قلتم هذا، فإن كان الذي يقولونه هؤلاء صحيح فأنتم كذبتم؛ فقام الملك الظاهر ومن معه من عنده؛ وقال: قوموا بنا لا نحترق بمجاورته وتحولوا إلى طرف الإيوان بعيداً منه؛ فقال الملك الظاهر للجماعة: أي شيء رابكم في أمره؟ فقال الأتابك: هذا مطلع على الأسرار وأسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه، ووافقه الحاضرون على ذلك وقالوا ببعض ما قد قيل عنه يباح دمه، ففهم ما هم فيه، فقال للملك الظاهر: اسمع ما أقول لك إذاً أجلي قريب من أجلك، وبيني وبينك مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه صاحبه عن قريب. فلما سمع الملك الظاهر ذلك وجم وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟ فلم يمكن أحداً ان يقول شيئاً؛ فقال السلطان: هذا يحبس في مكان لا يسمع له فيه حديث فيكون مثل من قد قبر وهو حي. فقال: الذي يراه مولانا السلطان - يخشاه - فحبسه في مكان مفرد بقلعة الجبل ولم يمكّن أحداً من الدخول إليه إلا من يثق به السلطان غاية الوثوق، ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة والأشربة والفواكه والملابس تغيّر عليه في كل وقت، وكان حبسه في ثاني عشر شوال سنة إحدى وسبعين وست مائة. وتوفي يوم الخميس سادس المحرم أو ليلة الجمعة سابعه، وأخرج يوم الجمعة من سجنه بقلعة الجبل ميتاً، فسلم إلى أهله، فحملوه إلى زاويته المعروفة به بخط جامع الظاهر بالحسينية، فغسل بها، وحمل إلى الجامع المذكور وصلي عليه بعد صلاة الجمعة وأعيد إلى زاويته، ودفن بالتربة التي أنشأها بها، وكان قد نيف على خمسين سنة. وكان الملك الظاهر لما دخل دمشق بعد عوده من الروم قد كتب على البريد بالإفراج عنه، فوصل البريد بعد موته رحمه الله. وكان الملك الظاهر رحمه الله قد بنى له زاوية بالحسينية على الخليج محاذية لأرض الطبالة ووقف عليها أحكار الجبي في السنة منها ثلاثين ألف درهم نقرة، وبني له بالمقدس زاوية وبجبل المزة ظاهر دمشق زاوية وبظاهر بعلبك زاوية وبحماة زاوية وبحمص زاوية، وفي جميعها فقراء وعليهم الأوقاف، وصرفه في المملكة يحكم ولا يحكم عليه، ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير، ويتقي جانبه الخاص والعام حتى الأمير بدر الدين الخزندار، والصاحب بهاء الدين ومن دونهما، وملوك الأطراف. وملوك الفرنج وغيرهم. ولقد هدم بدمشق كنيسة اليهود العظمى وبني بها المحاريب، وكذلك هدم بالقدس كنيسة النصارى تعرف بالمصلبة جليلة عندهم، وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم بالاسكندرية كنيسة الروم، وكانت كرسياً من كراسيهم يعتقدون فيها البركة، ويزعمون أنه رأس يحيى بن زكريا عليه السلام فيها، وهو عندهم يحيى المعمداني وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء. وكان واسع الصدر يعطي ويفرق الدراهم والذهب، ويعمل الأطعمة في قدور مفرطة الكبر يحمل القدرة الواحدة جماعة من العتالين، وكانت أحواله عجيبة لا تكيف وهو غير متناسبة ولا منتظمة الأحوال فيها مختلفة. فمن الناس من يثبت صلاحه، ومنه من يرميه بالعظائم، والتوسط في معناه أنسب رحمه الله.
؟سليمان بن عسلي بن حسن بن محمد بن حسن معين الدين البرواناة.
قد تقدم لمع من أخباره في هذا الكتاب فأغنت من الإعادة. كان والده مهذب الدين علي بن محمد الكاري، أصله من كار من عراق العجم. قد حفظ القرآن العزيز وأتقنه واشتغل بالعربية. فلما استولوا التتر على عراق العجم خرج منها، وقصد الروم، فرتب مقرئاً ببعض الترب فطلب معين الدين مستوفي الروم في أيام السلطان علاء الدين من يعلم أولاده، فتوسط له شخص كان يعرفه، فاتصل بخدمته وكان يحضر مجلسه في بعض الأوقات. فرآه معين الدين بارعاً في علم العربية، فقال له: لو تعلمت الحساب لكان أنفع لك في المكانة والرزق، فاشتغل بالحساب على معين الدين المستوفي، فلما رأى أنه قد برع فيه، وكان معين الدين يطلب الإقالة في كل وقت من السلطان علاء الدين فلا يجيبه، فاستناب لمهذب الدين المذكور، وأظهر أنه قد أضر، ولم يزل معين الدين إلى أن رتبه مستوفياً. فرأى منه السلطان علاء الدين الكفاية فاستوزره وعظم شأنه وتقدم عنده. وتوفي السلطان علاء الدين وولي ولده غياث الدين كيخسرو، فاستمر في الوزارة وتمكن إلى أن توفي في سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ورتب ولده معين الدين مكانه وتدرج واستفحل أمره بحيث استولى على ممالك الروم بأسرها، وصانع ممالك التتر وملوكها، وداراهم بحيث صاروا بأمره وطوعه، وكذلك ملوك الروم، وكان الخوف يحمله على مكاتبة الملك الظاهر ليكون سنداً له وعوناً على بلوغ مقاصده. وكان من رجال الدهر حزماً ورأياً وشجاعة وقوة قلب وإقدام على الأهوال والأمور العظام، وكان يبذل في بلوغ مقاصده من الأموال العظيمة ما لا يسمح به نفس ملك، ولم يزل على ذلك إلى أن قتل في العشر الأوسط من المحرم هذه السنة. وسبب قتله أن أبغا بعد وقعة البلستين التي كانت في عاشر ذي القعدة سنة خمس وسبعين وست مائة، فرّق عساكره في الروم وطافها في النهب والقتل، ومعه البرواناة، فمرّ في طريقه على قلعة تسمى كوغرينا، وكانت خاصة للبرواناة، وفيها أكثر ذخائره وأمواله، وبها وال من جهته يسمى سيف الدين باريساره، وطلب أيضاً من البرواناة تسليم القلعة إليه، فأجابه وبعثه إلى واليها بأمره بتسليمها لنواب أبغا، ويحمل ما فيها من الأموال إلى البرواناة، فلم يجبه وعصى عليه، فظن أبغا أن ذلك بباطن من البرواناة، فقال البرواناة: أنت باغي، فسأل أن يسيره إليها ليسلمها من سيف الدين ويسلمها إلى نوابه، فأذن له، ووكلّ به جماعة من المغل يمنعونه من الوصول إلى القلعة. فلما قرب منها وطلبها من سيف الدين امتنع، فقال له: لهذا الوقت خبأتك سلم إلي القلعة وما فيها لأدرأ عن نفسي القتل بها، فإني مقتول لا محالة إن لم تسلمها إلى أبغا. فقال: إنما أسلمها إلى من سلمها إلي؛ فقال: أنا سلمتها إليك، فقال: إنما سلمها إلي معين الدين البرواناة، فقال: أنا هو، فقال: أنت أسير معهم وما لك حكم في شيء وما أسلمها إلا بأولادي الذين في مصر أسراء، وأنت كنت السبب في أسرهم وأسر غيرهم، فعاد البرواناة، وأخبر أبغا بذلك: فضاعف الموكلين عليه. فلما رأى من كان معه من الممالك والأتباع ذلك تحققوا أنه مقتول، فتفرقوا عنه ثم سار أبغا إلى أردوئه، فاجتمع الخواتين وبكوا وصرخوا وشققوا الجيوب بين يديه. وقالوا: هذا الذي أعان على قتل رجالنا، ولا بد من قتله، فوقفهم أياماً وهم يحرضونه. فلما أعياه دفاعهم أمر بعض خواصه بقتله وقال له: خذه إلى مكان كذا فاقتله به. فلما اجتمع به قال له: إن أبغا يريد الاجتماع بك لكي يصطنعك ويعيدك إلى البلاد؛ فقال: لو يريدني لخبّر بعض معارفي، ولكنه يريد قتلي مخادعة في القول حتى انصرف معه في جماعة من أصحابه عينوا للقتل وهم ثلاثون نفراً. فلما بلغ به الجهة التي عين له قتله فيها قتله ومن استصحبه معه منهم: الأمير سيف الدين بلا كوش الجاويش ومنكورس الجاشنكير وسيف الدين بن أكمثي. وجرى لسيف الدين المذكور أعجوبة وهي: أنه لم يحك فيه السيف ضاربه وتوهم أنه قتله، فلما انفصل عنه واتصل بأبغا قتلهم وجد سيف الدين في نفسه قوة، فنهض قائماً عرياناً، وقصد سوق العسكر وهو مجروح، وسأل منهم ثوباً يستتر به، فأخذه السوقي لما عرفوه وحملوه إلى أردو إلى قدام أبغا، فسأله أبغا عن قاتله هل يعرفه، فقال: نعم، فأمر بإحضار جميع من باشر قتل البرواناة وأصحابه، فحضروا، فلما رأى سيف الدين المباشر لقتله عرفه، فأشار إليه فسأله أبغا، فأقر
فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله.فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله.
؟سنقر بن عبد الله الأمير عز الدين الرومي. كان من أعيان الأمراء وشجعانهم وذوي المكانة منهم، له الحرمة العظيمة في الدولة والتحكم في أول الأيام الظاهرية إلى حين قبض عليه واعتقله بقلعة الجبل، فبقي مدة سنين. فلما كان في جمادى الأولى من هذه السنة شاع بالقاهرة وفاته، وعمل عزاؤه بداره بالقاهرة، وقد نيف على خمسين سنة رحمه الله تعالى.
؟عبد الكريم بن الحسن بن رزين بن موسى بن عيسى أبو محمد شمس الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً كثير الديانة والتعبد وإيثار العزلة والخمول والإعراض عن المناصب، وكان قد درّس في مدرسة سيف الإسلام بالقاهرة قبل موته بأشهر، وتوفي ليلة السبت السابع والعشرين من ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة أخيه قاضي القضاة تقي الدين التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وهو في عشر السبعين رحمه الله.
؟عبد الملك بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد القاهر بن هشام أبو محمد شرف الدين الربعي الأصل. كان إماماً فاضلاً ذا فنون وتفضل وتعطف وحسن عشرة. صحب الشيخ شهاب الدين الموصلي السهروردي، وأخذ عنه وعن غيره من المشايخ. وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة بحلب، ومولده بالموصل في يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة خمس وست مائة رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن عيسى بن محمد بن أيوب بهاء الدين الملك القاهر بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. وقد تقدم نسبه في ترجمة عمه مجير الدين يعقوب سنة أربع وخمسين، ومولده سنة اثنتي وعشرين وست مائة، وكان رجلاً جيداً، سليم الصدر، حسن الأوصاف، كريم الأخلاق وليّن الكلمة، كثير التواضع؛ عنده حسن ظن بالفقراء والصالحين ومحبة لهم، ويعاني ملابس العرب ومراكيبهم، ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله. وكان شجاعاً بطلاً مقداماً من الفرسان المعدودين والشجعان المذكورين. توفي يوم السبت خامس عشر المحرم فجاءة من غير مرض، بل كان راكباً بسوق الخيل بدمشق فاشتكى ألماً في فؤاده، فعاد إلى منزل كريمته زوجة الملك الزاهر مجير الدين داود ابن صاحب حمص، ومسكنها بدار صاحب حمص الكبيرة، لأنه استقرب ذلك عن منزله بالجبل، فأدركته منيته في باب الدار قبل دخوله إليها، ودفن بسفح قاسيون في منزله رحمه الله تعالى.
وحكي أن تاج الدين نوح بن إسحاق بن شيخ السلامية حكى عنه حكاية غريبة، معناها: أن الأمير علاء الدين ازدمر العلائي رحمه الله نائب السلطنة كان بقلعة صفد حدثه بها: قال: كان الملك الظاهر مولعاً بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم كثير البحث عن ذلك، فأخبر أنه يموت في سنة سبع وسبعين ملك بالسم، فحصل عنده من ذلك أثر كبير. وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بشجاعته أو يذكر بذكر جميل في معناه. واتفق أن الملك القاهر لما دخل مع الملك الظاهر إلى الروم، وكان يوم المصاف، ورآه الملك الظاهر فتأثر منه، وانضاف إلى ذلك أن الملك الظاهر حصل منه في ذلك اليوم فتور على غير العادة، فظهر عليه الخوف والندم على تورطه في بلاد الروم؛ فحدثه الملك القاهر في ذلك الوقت بما فيه نوع من الإنكار عليه والتقبيح لفعاله، فأثر عنده أثر آخر. فلما عاد من غزاته وسمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر زاد تأثره منه وحنقه عليه، فخيل في ذهنه أنه إذاً سمّه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم، لأنه يطلق عليه اسم ملك، وله ذكر، فأحضره عنده ليشرب القمز، وجعل الذي قد أعد له في ورقة في جيبه من غير أن يطلع على ذلك أحداً من خلق الله تعالى وللسلطان هنابات مختصة ثلاثة مع ثلاثة من السقاة الذين لا يشرب إلا بها، ومن يكرمه بأن يناوله ذلك الهناب من يده. واتفق قيام الملك القاهر إلى البزال، فجعل الملك الظاهر ما في الورقة من هناب وأمسكه بيده. فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبّل الأرض وشربه، وقام الملك الظاهر ليبزل فأخذ الساقي الكأس من يد الملك القاهر وملأه على العادة وأمسكه، ووقف مع السقاة رفاقه. فجاء الملك الظاهر من البزال، وتناول ذلك الكأس بعينه، فشربه وهو لا يشعر. فلما فرغ من شربه استشعر وعلم أنه شرب من ذلك الكأس الذي فيه آثار السم وبقاياه، فقام لوقته وحصل له ألم وتخيل، واشتد به المرض أياماً ومات كمل تقدم. وأما الملك القاهر فمات غد ذلك اليوم. هذا مضمون ما ذكره ابن المولى تاج الدين نوح، وذكر أن عز الدين العلائي بلغه ذلك من مطلع لا يشك في أخباره والله أعلم بحقيقة ذلك.
عتيق بن عبد الجبار بن عتيق أبو بكر عماد الدين الأنصاري الصقلي الأصل. كان من أعيان العدول بدمشق، ومن كتّاب الحكم عند قضاتها، كثير الديانة والصلاة والتعبد، مكباً على سماع الأحاديث النبوية، متواضعاً لين الكلمة. دخل بكرة نهار الجمعة ثامن شوال إلى المدرسة المقدمية التي داخل باب الفراديس بدمشق ليسبغ الوضوء من بركتها، فسقط في البركة وهي كبيرة، ولم يكن عنده من يخرجه منها، فتوفي إلى رحمة الله تعالى غريقاً شهيداً، ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
علي بن درباس بن يوسف أبو الحسن الأمير جمال الدين الحميري.
كان عالي الهمة، كثير الكرم والمروءة، واسع الصدر، وافر الصدقة والبر، ومكارمه على الأخوان والأصحاب، نفسه نفس الملوك. وله خبرة تامة بالولايات والتصرف، ومهابة شديدة وسطوة ظاهرة. ولّي عدة ولايات جليلة؛ منها: المرج والغوطة وما معها والبقاع العزيزي وبلد مشعزا وصل صيدا وبيروت ووادي اليتم وتولى غير ذلك ولم تزل حرمته وافرة عالية إلى أن توفي الملك الظاهر رحمه الله فقصده الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام لأمر كان في نفسه منه، فأحضره إلى دمشق واعتقله وغرمه جملة طائلة، وبقي في منزله بجبل الصالحية بطالاً من الولاية، وخبزه إلى أن أدركته منيته في سلخ شهر رجب أو مستهل شعبان. وكان صرفه من الولاية لطفاً من الله تعالى، فإنه لما صرف أقلع عن المظالم وتنصل منها، وتاب إلى الله تعالى من العود إليها. وكان يقوم الثلث الأخير من الليل دائماً، يصلي ويدعو ويبكي ويتضرع، وكانت طويته حسنة جميلة، وعنده فضيلة، وعلى ذهنه جملة من الأشعار والوقائع والتاريخ. ومولده سنة أربع وست مائة، وكان عنده حسن عشرة ومباسطة ومداعبة رحمه الله.
ولما كان متولي البقاع العزيزي وما هو مضاف إليه ولي نظر تلك الصفقة أو مشارفتها محي الدين بن الكويس، وكان قبل ذلك قد جنى لديوان السكر جناية كبيرة اتصل خبرها بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي رحمه الله نائب السلطنة بالشام، فقام فيها حد القيام وسمّر أخذ من كان له فيها دخول على جمل وطاف به البلدان، فسميت تلك الواقعة وقعة الجمل لتسمير ذلك الشخص على جمل، وبقي ذلك على ألسن الناس.
وكان ابن الكويس المشار إليه ممن له دخول على ذلك، فتخلص بعد شدائد وغرامات، وولي هذه الجهة وكتب على يده بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي ناظر النظار بالشام، كتاباً إلى الأمير جمال الدين المذكور يوصيه به، ولم يكن الأمير جمال الدين يختار مراقفته؛ وكان يكتب له أدلال صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقال له: تكتب جواب الصاحب بدر الدين المذكور متسع وهو مشور بذلك، فكتب الجواب وصدر بيتين وهما:
شكاية يا وزير العصر أرفعها ... ما كان يرضى بها من ولاك عليّ
لم يبق في الأرض مختار يرافقه ... إلا فتى قد بقي من وقعة الجمل
علي بن علي بن أسفنديار أبو الحسن نجم الدين الواعظ البغدادي البوشنجي الأصل.
كان فاضلاً وعلى خاطره أشياء حسنة، وله محفوظات كثيرة ويد طائلة في الوعظ والكلام في المحافل، وسمع كثيراً أخبار جماعة من كبار الشيوخ. وولي مشيخة خانكاة المجاهد إبراهيم رحمه الله ظاهر دمشق بشرف الميدان القبلي، وجلس للوعظ بجامع دمشق في الشهور الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان في أيام السبوت، ويحضره خلق كثير من الأعيان والفضلاء وغيرهم، ومجالسة حسنة جميلة وعنده دماثة وحسن مباسطة، ويورد الأشياء في مواضعها، وأما الاحتمال فلا يكاد يضاهى فيها وبيته في العراق مشهور؛ وجده اسفنديار كاتب الإنشاء للإمام ناصر لدين الله رحمه الله. وكانت وفاته بخانكاته المذكورة آخر نهار الجمعة تاسع عشر شهر رجب، ودفن يوم السبت بمقابر الصوفية، وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
اسفنديار بن الموفق بن علي بن محمد بن يحيى بن علي أبو الفضل البوشنجي.
مولده بواسط سنة سبع أو ثمان وثلاثين وخمس مائة منتصف شهر رجب، وتوفي ببغداد في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، وقيل أن له نحو ثمانين تصنيفاً. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الجمان: لقيته ببغداد في ليلة الخميس سنة أربع وعشرين وست مائة، وهو شيخ كبير مسن، وهو مع ذلك صاحب فكاهة ومخاطرة. أنشدني لنفسه ما كتبه لقوم صحبهم يقول:
وقد كنت مغرى بالزمان وأهله ... ولم أدر أن الدهر بالغدر دائل
أرى كل من طارحته الود صاحباً ... ولكنه مع دولة الدهر سائل
ورب أناس كنت الحظ ودهم ... وما نالني منهم سوى المزق طائل
تغالوا ولائي ثم حلوا سآمة ... وحال بني الأيام لا شك حائل
وأعدم شيء سامه المرء دهره ... حبيب مضاف أو خليل يواصل
أسادتنا قد كنت أحظى بوصلكم ... وأجني ثمار العيش والدهر غافل
وما خلت أن البين يصدع شملنا ... ولا أنني عنكم مدى الدهر راحل
وتالله ما فارقتكم عن ملالة ... ولكن نبت بي المقام المنازل
قطعت الفلا عنهن حين أضعنني ... فافقرن عن مثلي وهن أواهل
وإني إذا لم يقل جدي ببلدة ... هدتني إلى أخرى السرى والعوامل
إذا المرء لم يظمأ لورد مكدر ... فلا بد يوماً أن تروق المناهل
سيعلم قومي قدر ما بان عنهم ... وتذكرني إن عشت تلك المعاقل
وقال أيضاً رحمه الله:
كل له غرض يسعى ليدركه ... والمرء يجعل إدراك العلى غرضه
يهين أمواله صوناً لؤددة ... ولم يصبن عرضه من لم يهن عرضه
وقال أيضاً رحمه الله:
الدهر بحر والزمان ساحل ... والناس ركب راحل ونازل
كأنهم سيارة في مهمة ... مكاره الدهر لهم مناهل
وقال سعد الدين مسعود بن حموية الجويني: سألت نجم الدين الواعظ عن اسمه، فقال: علي بن علي بن اسفنديار المنشئ البغدادي وشيخ صحبتي جدي العلامة اسفنديار بن الموفق البوشنجي وشيخ خرقة تسموني شيخ الحقيقة ولسان الطريقة شهاب الدين عمر السهروردي، وحصل لي منه صحبة ونسب وشيخ فقري وتجريدي مريد بن نميه أبو الحسن علي بن الرفاعي وقصدته بأم عبيدة من البطائح يهديني، وأبوتي شيخ زمانه ومقدم أقرانه المعرض عن الفاني الدنيوي لهوانه وقصر زمانه المقبل على الباقي الأخروي لدوامه وعز سلطانه العالم العامل كمال الدين محمد بن طلحة القرشي العدوي: وسمعت الحديث على ثمانين شيخاً كما رويته عن بعضهم ملفقاً، قال: ما طلب الترفع في مجلس إلا من وجد الوضاعة في نفسه، قال سعد الدين أنشدني نجم الدين لبعضهم:
إذا زار بالجثمان غيري فإنني ... ازور مع الساعات ربعك بالقلب
وما كل ناء عن ديار بنازح ... ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب
عمر بن شرف الدين النهاوندي الصوفي المعروف بالرمال.
كان شيخاً صالحاً زاهداً كثير العبادة، من أعيان الصوفية ومشاهد لهم، قديم الهجرة بينهم كثير الأسفار؛ صحب جماعة من أعيان المشايخ وتأدب بهم، وكانت وفاته بخانكاة سعيد السعداء بالقاهرة في يوم الجمعة سادس صفر، ودفن من يومه بمقابر باب النصر بالتربة المعروفة بالصوفية وقد ناهز السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور أبو عبد الله شمس الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بالديار المصرية ومدرّسهم بمدرسة الملك الصالح نجم الدين بن أيوب التي بالقاهرة، وتولي قضاء القضاة بالديار المصرية وسائر أعمالها على مذهبه مدة سنين،وصرف عن ذلك في ثاني شعبان سنة سبعين وست مائة، واعتقل بقلعة الجبل مدة سنين، ثم أفرج عنه، ولزم بيته متوفراً على ذكر الدروس بالمدرسة الصالحية، وسبق إلى طلبه والتعبد إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في يوم السبت ثاني عشرين المحرم، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى. ومولده بدمشق في يوم الأحد رابع عشرين صفر سنة ثلاث وست مائة رحمه الله ورضي عنه. كان من أحسن المشايخ صورة مع الفضائل الكثيرة التامة، والديانة العظيمة وسعة الصدر وأظنه جعفري النسب. وهو أول من درّس بالمدرسة الصالحية من الحنابلة، وأول من ولّي قضاء القضاة منهم بالديار المصرية؛ وتولّي مشيخة خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة مدة. وكان مكملاً للأدوات، سيداً صدراً من صدور الإسلام وأئمتهم، متبحراً في العلوم مع الزهد المفرط واحتقار الدنيا وعدم الإلتفات إليها. وكان الصاحب بهاء الدين يتحامل إليه ويغرى الملك الظاهر به لما يرى عنده من الأهلية لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة وهو لا يلتفت عليه ولا يخضع له رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن منظور بن عبد الله.
مولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمس مائة، كان له زاوية بظاهر المقس بالديار المصرية، وبها جماعة من الفقراء مقيمون على الدوام وهو متكفل بأمرهم وخدمتهم والإقامة بهم، وكذلك يخدم من يرد عليه من المسافرين والزوار. ويعمل في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويغرم عليها جملة كثيرة ويجتمع فيه خلق كثير عظيم، وكان يكتسب بعمل الحرير وغيره، ولا يقبل بر أحد إلا أن يكون صاحبه، فيقبله على سبيل الهدية. وكان له جدة كبيرة وصدقة وبر، ويتكلم في زاويته على طريق الوعاظ، وعنده فضيلة، وتعبد كبير، ولكثير من الناس به عقيدة حسنة، وكان موضعاً لذلك. و توفي إلى رحمة الله تعالى بزاويته ليلة الاثنين ثاني وعشرين شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى.
ومن العجب أنني كنت أجتمع به في السنة الخالية، وتحادثنا فشرع يتبرم بسكنى الديار المصرية، ويقول: وددت لو كنت بالشام - مقر الأنبياء - لأموت به. فقلت له: ما يمنعك من النقل إلى الشام؟ فقال لي: هنا معشوق لا أقدر على مفارقته ولا البعد عنه. فقلت: من هو؟ قال: الشيخ شمس الدين بن الشيخ العماد. فاتفق موت الشيخ شمس الدين رحمه الله في أوائل هذه السنة. وموت الفقيه ابن منظور رحمه الله في هذا التاريخ بينهما ستة أشهر جمع الله بينهما في دار كرامته.
محمد بن حياة بن يحيى بن محمد أبو عبد الله تقي الدين الرقي الفقيه الشافعي. كان رجلاً فاضلاً كثير الديانة من العلماء الأتقياء. تولى الحكم بعدة جهات، منها: حمص والقدس، وناب بدمشق ثم تولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها، ودرّس في مدارس عدة، ثم استعفى من ذلك كله. وانتقل إلى دمشق وقنع بإمامة المدرسة العادلية الكبيرة مع حضور دروس يسيرة في بعض المدارس ملازماً للاشتغال بالعلم واشتغال الطلبة وإفادتهم. وسافر إلى الحجاز الشريف في أواخر سنة خمس وسبعين وقضى فريضة الحج وعاد، فتوفى بتبوك في يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، ودفن بكرة الأربعاء جوار مسجد هناك يعرف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نيف على ستين سنة من العمر - رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الكريم بن عثمان أبو عبد الله عماد الدين المارديني الحنفي المعروف بابن الشماع. كان من فقهاء الحنفية، ودرّس بمدرسة القصاعين بدمشق وبغيرها. وكان عنده فطنة وتيقظ وتنبيه، مشهور بماردين بالحشمة والرئاسة، فتوفى بدمشق في يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب وهو في عشر الخمسين - رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن شجاع أبو عبد الله محيي الدين القرشي. وهو سبط الشيخ الشاطبي صاحب القصيدة المشهورة في القراآت. وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم والنثر، حسن المحاضرة دمث الأخلاق؛ ووالده الحاج كمال الدين الضرير كان من الصلحاء الفضلاء. وتوفى المحيي المذكور بالقاهرة ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى. مولده بالقاهرة سنة أربع عشرة وست مائة - رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن هلال أبو عبد الله عماد الدين الأزدي. كان من أعيان الدمشقيين وصدورهم وبارز العدالة، مشهور بالإمامة والديانة. تولى نظر مخزن الأيتام بدمشق مدة سنين. وكان مشكور السيرة، لين الكلمة، حسن المجاورة؛ عنده مكارم وحسن أخلاق. سمع هو وحدّث عن غير واحد من أهل بيته. وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة. ودفن من الغد بالتربة المعروفة بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى.
يحيى بن شرف بن مرى أبي الحسن بن الحسين بن محمد بن محمد بن جمعة بن حزام أبو زكريا محيي الدين النواوي الفقيه الشافعي المحدث الزاهد العابد الورع المتبحر في العلوم صاحب التصانيف المفيدة. كان أوحد زمانه في الورع والعبادة، والتقلل من الدنيا، والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع، وخشونة الملبس والمأكل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه واقف الملك الظاهر - رحمه الله - غير مرة في دار العدل بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك.
وحكى لي أن الملك الظاهر قال عنه: أنا أفزع منه - أو ما هذا معناه - ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر وبالغ معه وأغلظ له. فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه، فما تأثر لذلك في ذات الله تعالى، ولا رجع عن قصده ليقع بجلية إلى بعض المسلمين، وكانت مقاصده جميلة وأفعاله لله تعالى. ودرس نيابة عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - في ولايته الأولى بالمدرسة الفلكية والمدرسة الركنية والمدرسة الإقبالية للشافعية. وولى مشيخة دار الحديث الأشرفية - رحم الله واقفها - اسقلالاً في شهر رمضان سنة خمس وستين بعد وفاة شمس الدين أبي شامة، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته، ونشر فيها علماً جماً وأفاد الطلبة وغيرهم. واختصر كتاب معرفة علوم الحديث للشيخ تقي الدين عماد بن الصلاح - رحمه الله، والمحرر لإمام الدين الرافعي في الفقه، وشرح صحيح مسلم؛ وجمع مسائل الخلاف التي في التنبيه من القولين والوجهين وبين الأصح منهما، وجمع غير ذلك مما يطول شرحه. وكان كثير التلاوة للقرآن العزيز والذكر لله تعالى، معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه.
قال الشيخ ياسين بن يوسف الزركشي: رأيته وهو ابن عشر سنين أو نحوها، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته وكان أبوه قد جعله في دكان لا يشتغل بالبيع ولا بالشرى غير تلاوة القرآن. قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون من أعلم الناس، فذكر ذلك لوالده، فحرض عليه إلى ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام.
قال الشيخ محيي الدين: لما كان عمري تسعة عشر سنة قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين فسكنت الرواحية وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لاغير. وحفظت التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة. وجعلت أشرّح وأصحح على الشيخ كمال الدين اسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي معيد المدرسة إلى أن أمرني بإعادة دروسه في حلقته. فلما دخلت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وأقمنا بالمدينة نحواً من شهر ونصف. فلما وصلنا إلى دمشق لازمت الإشتغال، فلم أزل أشتغل بالعلم وأقتفي آثار العلماء الصالحين من العبادة والصلاة، وصيام الدهر وقيام الليل، والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى.
وكان لما قدم دمشق أول قدومه إليها للإشتغال لم يكن له معرفة بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، فاجتمع به وعرّفه مقصده، فأخذه وتوجه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفراري؛ فقرأعليه دروساً وبقي ملازمه مدة، ولم يكن له موضع يأوي إليه فسأل من الشيخ تاج الدين موضعاً يسكنه، ولم يكن بيد الشيخ تاج الدين إذ ذاك من المدارس سوى الصارمية، وليس لها بيوت؛ فدله على الشيخ كمال الدين إسحاق بالرّواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه وصار منه ما صار. واتفق أن الملك الظاهر عند ما فتح الفتوحات المشهورة، وغنم الناس الجواري وتسروا بهن، سئل الشيخ تاج الدين - رحمه الله - فرّخص في ذلك، وصنف جزءاً في إباحة ذلك من غير تخميس، واستدل بأشياء فيها قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم أهل بدر، وأعطى منها من لم يشهدها، وربما فضل بعض حاضريها على بعض.
ثم نقل بعد ذلك في الغنائم أحوال مختلفة تغلب على حب المصالحة، ثم ذكر حنين وقسم غنائمها، وأنه صلى الله عليه وسلم أكثر لأهل مكة من قريش وغيرهم حتى أن يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة. ومعلوم أنه لم يحصل لكل حاضر في هذه الغزاة مثل هذه العدة من الإبل والشاة، ولم يعط الأنصار شيئاً، وكانوا أعظم الكتيبة والعسكر وأهل النجدة حتى عتبوا. وهذا حديث مخرج في جميع الأصول المعتمدة من كتب الحديث، وليس في شيء من طرقه: إني إنما نفّلت الناس من الخمس، أو أني قسمت فيهم ما أوجبت قسم الغنيمة وددت من استألفه من حال المصالح. وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في قسم الغنيمة وأعدلهم في بيان حق وأحقهم في إزالة شبهة. فلما اقتصر على مدح الأنصار بما رزقهم الله من المسابقة في الإسلام، وما خصهم به من محبته صلى الله عليه وسلم أتاهم وسلوك فجّهم دون فج غيرهم ورجوعهم إلى منازلهم به عوضاً عما رجع به غيرهم من الأموال والأنعام عليهم، علم كل ذي نظر صحيح أنه صلى الله عليه وسلم فعل في هذه الغنائم ما اقتضاه الحال من المصالحة من إعطاء وحرمان وزيادة ونقصان. ثم لم يعلم بعد هذا الحكم ناسخ ولا ناقص بل فعل الأئمة بعده ما يوكده. ثم قال: لو لا خشية الإطالة لتقضينا الآثار الواردة في قسم الغنيمة من الأئمة الراشدين ومن بعدهم حتى أن المتأصل المتبع الآثار، لو أراد يبين غنيمة قسمت على جميع ما يقال في كتب الفقهاء والتنفل والرضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل، وتعميم كل حاضر لمن لم يكن يجد ذلك منقولاً من طريق معتمد. واستدل بأشياء كثيرة فحصل للناس بقوله خير عظيم لأن الناس لم يرجعوا يغنمون ويستولدون الجواري ويبيعونهن بحكم الحكام لصحة بيعهم وشرائهم، وإجراء جميع ما يتعلق بهم على حكم الصحة. ولو فتحوا باب وجوب تخميس الغنائم يحرم ورطة كل جارية تغنم قبل تخميسها لأن نكاح الجارية المشتركة حرام. فتولى نقضه كلمة كلمة وبالغ في الرد عليه، ونسبه إلى أنه خرق الاجتماع في ذلك، وأطلق لسانه وكلامه في هذا المعنى. ولا شك أن الذي قاله الشيخ محي الدين هو مذهب الشافعي رحمة الله عليه، لكن لم يعمل به في عصر من الأعصار؛ ولا قيل: أن الغنيمة خمست في زمن من الأزمان بعد الصحابة والتابعين، ولو لا القول بصحة ذلك وإلا كان الناس كلهم بسبب شرائهم الجواري واستيلادهم إياهم في محرم، وسائر عمل الناس قاطبة على ما أفتى به الشيخ تاج الدين، ولم يعمل أحداً بما أفتى به الشيخ محي الدين، وما كان ينبغي له أن يرد عليه هذا الرد الفاحش لعلمه أن بعض العلماء ذهب إليه.
وحكي لي أن الفتاوى كانت إذا جاءت إلى الشيخ محي الدين وعليها خط الشيخ تاج الدين رحمنا الله بهما امتنع من الكتابة فيها، وهذا منافي طريقه، وما كان عليه من الزهد والتواضع، لكن البشرية وحظوظ الأنفس قلّ أن تزول بالكلية إلا في النادر. وكان شديد الورع وعدم التطلع إلى الدنيا أقبلت أو أدبرت. ولما باشر مشيخة دار الحديث الأشرفية بمدينة دمشق لم يتناول من جامكيتها درهماً واحداً ولا من غيرها، وكان قوته من أرض يزرعها والده، ويرسل له منها ما يقتات به على سبيل الضرورة، ولم يجمع بين أدامين، ولا أكل فاكهة دمشق؛ فسئل عن امتناعه ذلك، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من هو تحت الحجر شرعاً لا يجوز التصرف لهم إلا على وجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف بين العلماء. ومن جوزها قال ..........الغبطة والمصلحة والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمر المالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك، وأيضاً فغالب من يطعم أشجاره إنما يأخذ الأقلام غصباً أو سرقة، لأن أحداً ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة فيؤخذ تلك الأقلام سرقة وتطعم في أشجار الناس فتطلع الثمرة في نفس القلم المغصوب، فيكون ملكاً لصاحب القلم لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراءه حراماً. وكان صائم الدهر لا يأكل إلا أكلة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء البارد ذاكراً.
ولما صنف المنهاج في الفقه وقف عليه الشيخ رشيد الدين الفارقي رحمه الله وكتب على ظهره هذه الأبيات:
أعتني بالفضل يحيى فأغتني ... عن بسيط ووجيز نافع
ويحلى ببقاه فضله ... فيحل بلطيف جامع
ناصباً أعلام علم حازماً ... بمقال رافعاً للرافعي
وكأن ابن الصلاح حاضر ... وكان ما غاب عني الشافعي
وكان الشيخ محي الدين يسأل الله تعالى أن يموت بأرض فلسطين، فاستجاب الله منه، فتوفي ليلة الأربعاء ثلث الليل الآخر في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وسبعين بنوى بعد رجوعه مع والده من زيارة القدس والخليل. ومولده في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة بنوى، ودفن بها رحمه الله. ولما وصل خبر وفاته إلى دمشق توجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله إلى نوى إلى قبره، وتوجه معه جماعة من أصحابه. ولما مات الشيخ محي الدين رثاه جماعة من فضلاء عصره، فمنهم الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي رحمه الله تعالى قال:
عز العزاء وعم الحادث الجلل ... وخاب بالموت في تعميرك الأمل
واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها ... وسالها فقدك الأسحار والأصل
قد كنت للدين نوراً يستضاء به ... مدداً منك في الأقوال والعمل
وكنت تتلو كتاب الله معتبراً ... لا يعتريك على تكراره ملل
وكنت في سنة المختار مجتهداً ... وأنت باليمن والتوفيق مشتمل
وكنت زيناً لأهل العلم مفتخراً ... على جديد كساهم ثوبك الشمل
وكنت أسبغهم ظلاً إذا استعرت ... هواجرالجهل والأظلال تنتقل
كساك ربك أوصافاً مجملة ... يضيق عن حصرها التفصيل والجمل
أسلي كمالك عن قوم مضوا بدلاً ... وعن كمالك لا مل ولا بدل
فمثل فقدك ترتاع العقول له ... وفقد مثلك جرح ليس يندمل
زهدت في هذه الدنيا وزخرفها ... عزماً وحزماً فمضروب بك المثل
أعرضت عنها احتفالاً غير محتفل ... وأنت في السعي في أخراك محتفل
عرفت عن شهوات ما لعزم فتى ... بها سواك إذا عبت له قبل
أسهرت في العلم عيناً لم تذق سنة ... إلا وأنت به في العلم مشتغل
يا لهف حفل عظيم كنت بهجته ... وحليه فعزاه بعدك العطل
وطالبوا العلم من دان ومغترب ... نالوا بيمنك منه فوق ما أملوا
حاروا لهيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليك السهل والجبل
ترى ذرى تربة من غيبوه به ... أو نعشه من على أعواده حملوا
عناؤه شغله دهراً وعاد لهم ... بلاعج الوجد عن أشغالهم شغل
يا محمي الدين كم غادرت من كبد ... جزى عليك وعين دمعها هطل
وكم مقام كحد السيف لا جلد ... يقوى على هوله فيه ولا جدل
أمرت فيه بأمر الله منتضياً ... سيفاً من العزم لم يصبغ له حلل
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمة هامة الجوزاء تنشعل
عالجت نفسك والأدواء شاملة ... حتى استقامت وحتى زالت العلل
بلغت بالغت الفاني رضى ملك ... ثوابه في جنان الخلد متصل
ضيف الكريم جدير أن يضاف له ... إلى الكرامة من ألطافه نزل
بررت أصلك في داريك محتبساً ... فقد تكافأ فيك الحزن والجدل
فجعت بالأنس ليلاً كنت ساهره ... لله والنوم قد حظت به المقل
وحال فور نهار كنت صائمه ... إذا تهجد بنار الشمس مشتعل
لا زال مثواك مثوى كل عارفة ... وروضة النصر من سحب الرضى خضل
إلى متى بعزو تطمئن ولا الم ... لوك رد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حمى من حمام جحل نجب ... ولا حصون منيعات ولا قلل
يا لاهياً لاهياً عن هول مصرعه ... وضاحك البين منا يضحك الأجل
لا تحل نفسك من دار فإنك من ... حين الولاد مع الأنفاس مرتحل
وما بقي بنديم السير يتبعه ... إلى محل بلاه سابق عجل
ورثاه جماعة أخر لكن اقتصرنا على هذه القصيدة طلباً للاختصار.
وكان رحمه الله سمع الحديث على جماعة، منهم الحافظ شهاب الدين خالد النابلسي وغيره، واشتغل على جماعة لم يلتحق أحد منهم به والذي أظهره وقدمه على أقرانه، ومن هو أفقه منه كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته رحمه الله تعالى.
يوسف بن الكردي العدوي المعروف بأبونا.
كان من الصلحاء المجتهدين في خدمة الفقراء والقيام بوظائفهم، والمبالغة في إيصال الراحة إليهم، مع كثرة العبادة والتخلي من الدنيا. وكان مقيماً بتربة الحاج ازدمر المعزي خارج باب القرافة الصغرى، وتوفي بها يوم السبت خامس عشر المحرم، ودفن بها من يومه، وقد نيف على السبعين سنة من العمر رحمه الله.
أبو الوحش بن القدسي أبي الخير بن أبي سليمان داود بن أبي المثنى بن أبي فانة المنعوت بالرشيد، المعروف بابن أبي حليقة النصراني والد علم الدين ابن رئيس الأطباء بالديار المصرية.
كان الرشيد له التقدم والشهرة في معرفة صناعة الطب بالديار المصرية، و توفي ليلة الاثنين سابع ربيع الأول بالقاهرة، ودفن يوم الاثنين بمقابر باب الخندق، وله من العمر خمس وثمانين سنة.
وكان ولده علم الدين أسلم في حياته، ومن بعده إلى الملك الظاهر ركن الدين، وسبب الحلقة التي وضعت في أذنه أن والده لم يعش له ولد ذكر، فوصف له ووالدته حامل أن تهيأ حلقة فضة قد تصدق بفضتها، وفي الساعة التي يوضع فيها من بطن أمه يثقب أذنه، ويوضع الحلقة فيها، ففعل ذلك فعاش وعاهدته والدته أن لا يقلعها، وجاءه أولاد فماتوا، فعمل حلقة حلقة على الصورة لولده المهذب في سعد. وسبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل بن العادل قال لبعض الخدام: اطلب الرشيد الطبيب من الباب، وجماعة الأطباء بالباب، فقال الخادم: من هو منهم؟ قال: أبو حليقة، فطلب واشتهر بذلك.
السنة السابعة والسبعون وستمائةاستهلت يوم الأربعاء وافق ذلك الخامس والعشرين من حزيران من شهور الروم، والخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد؛ وهو بقلعة الجبل من الديار المصرية، وملك الديار المصرية والشام الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان بن الملك الظاهر بيبرس وهو بالديار المصرية.
ففي يوم الخميس بكرة النهار ثالث وعشرون المحرم دخل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله مدينة دمشق، وخرج نائب السلطنة الأمير عز الدين ايدمر بجميع الموكب والأمراء لتلقيه إلى آخر الجسورة، وخرج أهل البلد إلى مسجد القدم، وأما رؤساء البلد وعدوله فتلقوه عدة مراحل بحيث أن وصل منهم جماعة رمح، ولم يزالوا متواصلين إليه في كل مرحلة، وسرّ الناس بولايته سروراً مفرطاً، ومدحه الشعراء وهنؤه بقدومه، ولم يبق من الأدباء من لا مدحه بغرر القصائد وهي مذكورة في دواوينهم. وانشده الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي من لفظه لنفسه:
أنت في الشام مثل يوسف في مص ... ر وعندي أن الكرام جناس
ولكل سبع شداد بعد الس ... بع عام فيه يغاث الناس
وعمل الفقيه شمس الدين محمد بن جعوان النحوي رحمه الله في المعنى يقول:
لما تولى قضاء الشام حاكمه ... قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم
من بعد سبع شداد قال خادمه ... ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم
وقال سعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي رحمه الله في المعنى وهو قوله:
أذقت الناس سبع سنين جدباً ... غداة هجرته هجراًجميلاً
فرزقه الإله بأرض مصر ... مددت عليه من كفيك نيلا
وعمل نور الدين أحمد بن مصعب في ولايته وعزل القاضي عز الدين:
رأيت أهل الشام طرّاً ... ما فيهم قط غير راضي
نالهم الخير بعد شر ... فالوقت بسط بلا انقباض
وعوضوا فرحة بحزن ... قد أنصف الدهر في التقاضي
وسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاض
فكلهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماضي
وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالمدرسة الظاهرية بدمشق قبالة العادلية الكبيرة، وهي على فرقتين شافعية وحنفية، وحضر الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة هو والعلماء الأعيان، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي، ومدرس الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ولم تكن عمارة المدرسة تكلمت إلى ذاك التاريخ.
وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول كسر الخليج الكبير بالقاهرة وقد غلق ماء السلطنة على ما جرت به العادة لله الحمد.
وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى باشر الحكم بدمشق عوضاً عن القاضي مجد الدين عبد الرحمن بن العديم رحمه الله تعالى قاضي القضاة صدر الدين رسلان رحمه الله بمقتضى تقليد سلطاني ورد عليه في ذلك النهار من الديار المصرية.
وفي عشية الاثنين تاسع وعشرين من شهر رمضان المعظم باشر الأحكام الشرعية بدمشق عوضاً عن الشيخ صدر الدين سليمان بحكم وفاة قاضي القضاة حسام الدين أبي الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أحمد بن القاضي جلال الدين الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي قاضي ملطية وما جاورها من بلاد الروم بمقتضى تقليد سلطاني سعيدي ورد عليه من الديار المصرية في هذا التاريخ، وكان خروجه من بلاد الروم إلى دمشق في سنة خمس وسبعين عندما عاد الملك الظاهر من قيسارية بعد كسرة التتر على البلستين، ومولده بأقصرا من بلاد الروم في ثالث عشر المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة.
وفي العشر الأول من ذي القعدة تقدم قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله بفتح المدرسة التي أوقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي رحمه الله تعالى جوار المدرسة النورية بدمشق، وبفتح الخانكاة التي أوقفها بالشرف القبلي المطلة على الميدان الأخضر بما إليه من الولاية الخاصة والعامة، وذكر الدرس بالمدرسة بنفسه مدة يسيرة، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وكان سبب تأخر فتح المكانين عن تاريخ وفاة الواقف شمول الحوطة للتركة والأوقاف فحين تهيأ الإفراج عن المكانين فتحا.
وفي العشر الأوسط منه خرج الملك السعيد من الديار المصرية بجميع العساكر قاصداً دمشق، وكان دخوله إلى قلعتها في خامس ذي الحجة وخرج أهل دمشق كافة إلا القليل لملتقاه، وزينوا ظاهر البلد وباطنها وسروا بمقدمه سروراً عظيماً، وعمل عيد النحر بقلعة دمشق، وصلى صلاة العيد بالميدان الأخضر.
وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة وقعت الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم بدمشق لورود البريد مخبراً بموت جده الصاحب بهاء الدين، وكان تاج الدين وصل دمشق يوم الاثنين رابع ذي الحجة، ونزل بدار بني الزكي بباب البريد، وكانت وفاة جده ليلة الخميس سلخ ذي القعدة، فقال:
بنينا وعلّينا ورحنا كما ترى ... وأعمالنا مكتوبة سوف تعرض
فيا معشر الناس الذين تمولوا ... بأموالنا بالله لله أقرضوا
وفي يوم عرفة منه باشر الوزارة عن الملك السعيد بالديار المصرية الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن الزراري السنجاري بحكم وفاة الصاحب بهاء الدين رحمه الله بمقتضى تقليد سلطاني ورد عليه من دمشق. ومولد برهان الدين في سنة أربع عشرة وست مائة في جبال بلد إربل رحمه الله.
وفي الشهر المذكور قلد وزارة الشام الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني وبسط يده وأمر القضاة وغيرهم بالركوب معه أول مباشرته.
وفي العشر الآخر من الشهر المذكور جهّز الملك السعيد العساكر إلى بلاد سيس للنهب والإغارة، ومقدمهم الأمير سيف الدين قلاوون الألفي. وأقام الملك السعيد بدمشق في نفر يسير من الأمراء والخواص، وكان في مدة غيبة العسكر يكثر التردد إلى الزيبقية من قرى المرج يقيم بها أياماً ويعود.
وفي يوم الثلاثاء سادس وعشرين منه جلس الملك السعيد بدار العدل داخل باب النصر بدمشق، وأسقط في المجلس المذكور عن أهل دمشق ما كان قرره والده الملك الظاهر عليهم في كل سنة قطيعة على البساتين بجميع الغوطة، فسر الناس بذلك، وتضاعفت أدعيتهم له ومحبتهم فيه، كأن ذلك كان أجحف بأرباب الأموال والأملاك بحيث ود كثير منهم لو أخذ ملكه وأعفى من الطلب، فبادر الملك السعيد رحمه الله إلى اغتنام هذه الحسبة، وحاز أجرها وشكرها وبرّ وضجع والده وتعفيه أثرها.
وفيها:
؟توفي إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج بن عبد الله أبو العباس زين الدين الحنفي المعروف بابن السديد أمام مقصورة الحنفية شمالي جامع دمشق وناظر وقفها.
كان رجلاً جيداً كثير الخير، عنده ديانة ومروءة ومكارم أخلاق وعدالة. وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الأولى في بستاني بالمزة، ودفن بسفح قاسيون، وقد نيف على خمس وستين سنة وهو حمو الحاج أحمد المصري النحوي المقدم ذكره رحمه الله تعالى.
آقسنقربن عبد الله الأمير شمس الدين الفارقاني.
كان قديماً مملوك الأمير نجم الدين أمير حاجب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بن خليل رحمه الله. ثم انتقل بعد مدة إلى الملك الظاهر، وتقدم عنده وجعله أستاد دار الكبير، فإن الملك الظاهر كان له عدة أستاد دراية، لكن لم يكن فيهم عنده أكبر من المذكور. وكان أكثر الاعتماد عليه والوثوق به يستنيبه في غيبته، ويقدمه على عساكره، ولم يزل عنده في أعلى المراتب إلى أن توفي الملك الظاهر، وهو على ذلك الحال. ثم إن الملك السعيد رحمه الله بعد وفاة الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله جعله نائب السلطنة في سائر الممالك على ما كان عليه الخزندار، فلم ترض حاشية الملك السعيد وخاصكيته ذلك، فوثبوا عليه وأمسكوه واعتقلوه، ولم يسع الملك السعيد إلا موافقتهم على قصدهم، وكان مسكه في السنة الخالية كما تقدم شرحه، فقيل أنه قتل عقيب مسكه، وقيل أن وفاته تأخرت إلى هذه السنة، وأنه مات حتف أنفه في مجلسه بقلعة الجبل من الديار المصرية رحمه الله وعمل عزاؤه تحت النسر بدمشق بجامعها في يوم الخميس ثالث جمادى الأولى من هذه السنة وهو في عشر الخمسين. كان وسيماً جسيماً شجاعاً مقداماً كريماً، كثير البر والصدقة، خبيراً بالتصرف حسن التدبير، عليه مهابة شديدة مع لين كلمة، وهو الذي توجع إلى الديار المصرية مبشراً بكسرة كتبغانوين والتتر على عين جالوت في شهور سنة ست وخمسين وست مائة.
حكى لي أن سبب ترقيه عند الملك الظاهر رحمه الله أنه سير عشرة هو مقدمهم لكشف بلاد الجزيرة وتلك النواحي. فلما شارفوا الفرات وجدوها زائدة جداً لا يمكن عبورها، فرجعوا إلا هو، امتنع من الرجوع وقال لهم: قد ندبني السلطان في مهم فإما قمت به أو مت دونه. ثم جعل ثيابه وعدته مشدودة وحملها على رأسه وسبح بفرسه حتى قطع الفرات وحده، وكشف الجزيرة وظفر بجاسوس معه كتب فأخذها منه، واجتمع بقوم هناك عيون للمسلمين، واستعلم منهم الأخبار وعاد بعد إقامته هناك أياماً، وخاض الفرات ثانياً كما خاضها أولاً. ورجع إلى الملك الظاهر فأخبره بالخبر فعظم محله عنده، وارتفعت منزلته لديه، وكان أمير عشرة؛ فاتفق في الحال الراهنة وفاة أمير بطبلخاناة بالديار المصرية، وأخبر الملك الظاهر بوفاته والفارقاني بين يديه يحدثه فأعطاه خبزه، وظهرت منه الكفاية، فضاعف الإحسان إليه وزيادته وترقيه إلى أن بلغ أعلى المراتب.
أقطون بن عبد الله الأمير علاء الدين المهمندار أحد أمراء الشام.
كان شاباً حسناً، عنده شجاعة ومعرفة وديانة. توفي بدمشق ليلة الأحد ثامن شعبان، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وقد نيف على أربعين سنة. ولما حضرته الوفاة ادعى بثلث ماله تصرف في وجوه البر حيثما يراه الوصي، وكان من غلمان نجم الدين أمير حاجب الملك الناصر - رحمه الله تعالى.
آقوش بن عبد الله أبو سعيد جمال الدين النجيبي الأمير الكبير. هو من عتقاء الملك الصالح نجم الدين أيوب وذوي المكانة عنده، أمّره وجعله أستاد داره وكان معتمداً عليه ويثق به ويسكن إليه. مولده سنة تسع أو عشر وست مائة وجعله الملك الظاهر أستاد داره في أول الدولة، ثم جعله نائب السلطنة عنه بالشام مدة تسع سنين وعزل عن ذلك قبل وفاته بسبع سنين وانتقل إلى القاهرة، وأقام بداره بطالاً إلى حين وفاته، وحرمته في الدولة كبيرة ومكانته عالية. ولما تمرض عاده الملك السعيد، وتوفي ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة المعزية بداره بدرب ملوخيا، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى؛ وكان لحقه فالج قبل موته بأربع سنين، واستمر به ثم عرض له قبل وفاته بأحد عشر يوماً احتباس الاذاقة. وكان كثير الصدقة، محباً في العلماء والفقراء، حسن الاعتقاد، شافعي المذهب، متغالياً في السنة وحب الصحابة - رضي الله عنهم؛ وعنده تحامل كثير على الشيعة لا يملك نفسه في ذلك. وأوقف أوقافاَ منها بمدرسته التي بدمشق جوار مدرسة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله. وبنى بها تربة حسنة، وفتح لها شباكين إلى الطريق، ولم يقدر دفنه بها. ووقف خانكاة ظاهر دمشق بالشرف القبلي غربي خانكاة المجاهد إبراهيم - رحمه الله. ووقف خانا ومداراً للسبيل على طريق الجسورة، ووقف على ذلك أوقافاً صالحة، وجعل النظر في ذلك لقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله. وكان من أعيان الأمراء وكبرائهم، وذوي الرأي والخبرة والمعرفة والدراية، متقدماً في الدول - رحمه الله.
ايدكين بن عبد الله علاء الدين الشهابي. أحد امراء دمشق الأعيان، مشهوراً بالشجاعة، تولى نيابة السلطنة بحلب وشدّ دواواينها مدة أخرى. وكان عنده معرفة وخبرة، ومحبة للفقراء وحسن ظن بهم وإحسان إليهم. فتوفي بدمشق ليلة الاثنين خامس عشر ربيع الأول، ودفن من الغد بسفح قاسيون بتربة الشيخ عثمان الرومي - رحمه الله - وهو في عشر الخمسين - رحمه الله. ووقف حديقته داخل باب الفرج بدمشق ففتحت، ورتب بها الصوفية وفتح بها شباكاً مطلاً على الطريق، وعمل عليه نصيبة مكتوب عليها اسم الواقف - رحمه الله - وتاريخه. والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين الرشيد الكبير الصالحي النجمي - رحمه الله.
بلبان بن عبد الله الأمير سيف الدين الزيني الصالحي النجمي، أحد أمراء دمشق العيان. كان في أول دولة الترك بالديار المصرية مقدم البحرية، ثم حبس مدة سنين، وأفرج عنه وأعطى أمرية بدمشق فأقام بها إلى أن توفي ليلة الثلاثاء تاسع شهر رمضان المعظم بجبل الصالحية، ودفن من الغد بالقرب من تربة الملك المعظم - رحمه الله. وكان عنده نهضة وكفاية وشجاعة. والشهابي نسبة إلى الأمير شهاب الدين أحمد أمير خزندار الملك الصالح نجم الدين أيوب.
سليمان بن أبي العز أبو الربيع صدر الدين الحنفي شيخ المذهب. كان إماماً عالماً عارفاً بمذهبه متبحراً فيه، وعنده فضائل أخر. درّس مدة بدمشق، وأفتى واشتغل، وقرأ عليه جماعة وانتفعوا به. ثم استوطن الديار المصرية ودرّس بالمدرسة الصالحية بين القصرين بالقاهرة للطائفة الحنفية، وتولى الحكم بمصر واعمالها مدة سنين. ثم انتقل إلى الشام قبل وفاته بيسير، وفارق الديار المصرية. فلما توفي قاضي القضاء مجد الدين عبد الرحمن بن العديم - رحمه الله - قلد القضاء بالشام على مذهبه في عاشر جمادى الأولى فلم يستكمل فيه ثلاثة شهور. وأدركته منيّته في سادس شعبان بدمشق ليلة الجمعة ودفن من الغد بعد صلاة الجمعة بداره بسفح قاسيون، وبلغ ثلاثاً وثمانين سنة - رحمه الله. كان الملك المعظم بن الملك العادل - رحمهما الله - قد زوّج مملوكه بجاريته، وكلاهما جميل الصورة، فعمل الشيخ صدر الدين يقول:
يا صاحباي قفا لي فانظرا عجباً ... أتى به الدهر فينا من عجائبه
البدر أصبح فوق الشمس منزله ... وما العلو عليها من مراتبه
أضحى يماثلها حسناً وصار لها ... كفواً وصار إليها في مواكبه
فاشكل الفرق لولا وشي يمنته ... بصدغه واخضرار فوق شاربه
وله نظم غير هذا. وسمع وحدث وصنف ولم يخلف بعده في مذهبه مثله فيما علمنا - رحمه الله تعالى.
سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين التركستاني. كان من أعيان الأمراء بالشام وأماثلهم. له حرمة وافرة، وعنده شجاعة وإقدام وتجمل في امريته.
توفي بدمشق يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى ودفن بسفح قاسيون وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله تعالى - وهو أخو الأمير عز الدين ايبك الاسكندري المقدم ذكره - رحمه - لأبويه، وأخوه كندغدي الحسامي الجوكنداري لأبيه - والله أعلم.
طه بن إبراهيم بن أبي بكر بن أحمد بن بختيار جمال الدين الهذباني الاربلي. كان عنده فضيلة وأدب، ورئاسة وتوصل وحسن مداخلة. وله يد في النظم، وتحيل في الذهوب. توفي بالشارع من ضواحي القاهرة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين جمادى الأولى. ومولده باربل سنة أربع وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى. أنشد الملك الصالح وقد تحدثا في أحكام النجوم والعمل بها لنفسه، فقال:
دع النجوم لطرقي يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك
ان النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
وكتب إلى بعض أصحابه - وكان يلقب بالشمس - وقد انقطع عن زيارته في رمد حصل له:
يقول لي الكحال عينك قد هدت ... فلا تشغلن قلباً عليها وطب نفسا
ولي مدة يا شمس لم أر كم بها ... وايّة برأي العين أن ينظر الشمسا
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
البيض أقبل في الحشا ... وبهجتني منها الحسان
والسمر ان قتلت فمن ... بيض يصاغ لها لسان
وقال في زير اربل:
مولاي دعوة بائس عن عيلة ... لطفان بالاطلاق نار غياله
قعد الزمان به فقام يحمله ... نحو ابن موهوب عزى آماله
اي رب ابقى في المنازل واستجب ... مني دعائي يا نبي وآله
أولاني الأفراح أي صنيعة ... أولى واردفها بخالص ماله
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ألا قف بالأجيرع والكثيب ... ونادي نحوه هل من مجيب
وحتى أهيلة عن مستهام ... أسير موثق صبّ كثيب
لعل الله يرجع لي زماناً ... قضيناه على رغم الرقيب
لممشوق القوام إذ تثنى ... رجعت عن المديح إلى النسيب
سقاني الراح من يده وفيه ... فكان لي الأمان من المشيب
يغيب عن النواظر خوف واش ... ويبرز في سويداء القلوب
له مني المصرّع والمقفّى ... ولي منه معالجة الكروب
وأخشاه ولا الأسد الضواري ... فيا لله من رشأ قريب
وأهون من صوارم مقلتيه ... ملاقاة الكتائب والحروب
أسائل عن سواه وهو قصدي ... ولا يخفى مسائلة المريب
دعا لي بالتسلي عنه قومي ... فلا تك يا إله بمستجيب
فقد أنست فيه وفي زماني ... بجيش الملك من فرج قريب
وما... لست فيه ... أعالج للردى داع النقيب
يجاءك من بلد خبيث ... فلست تطيب إلا للغريب
إربل! لا سقاك الله غيثاً ... فقد أفقرت من رجل لبيب
أرى العزاء قد ملئت لياماً ... وقد ضاقت على الشيخ الوهوب
فما في ماليكها من معين ... على صرف الزمان ولا الخطوب
ولا في قاطنيها أريحيى ... ولا في ساكنيها من طروب
ألا اجرى الإله بليد سوء ... تحكم فيه عبّاد الصليب
وحضر ليلة في جماعة عند الصاحب شرف الدين المبارك بن المستوفى في دكة بستان داره، فجاء الغيث فقام الصاحب مسرعاً، والجماعة معه فدخلوا الدار، فعمل طه على البديهة يقول:
دخول لاقبال الشتاء مبارك ... عليك ابن موهوب إلى آخر الدهر
ففر من القطر المسلم عشية ... فلم نر بحراً قط فرّ من القطر
ظافر بن مضر بن ظافر بن هلال أبو منصور جمال الدين الحموي الأصل، المصري الدار، الشافعي الفقيه، وكيل بيت المال بالديار المصرية. مولده بمصر في ثامن صفر سنة إحدى وست مائة، توفي بها في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة ودفن بسفح المقطم. روى عن ابن باقا وغيره، وله نثر ونظم ورئاسة، ولا يقدر على إمساك الريح ففشوا حاله في ذلك في مجالس الملوك وغيرها لعلمهم بعذره - رحمه الله تعالى. وكان له مكانة عند الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - بحيث كتب في وصيته التي عهد بها إلى غلمانه وولده إقراره على وكالة بيت المال، فلم يزل عليها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الحسن بن عبد الله أبو الحسن بن عثمان جمال الدين ابن الشيخ نجم الدين البادرائي. درس بمدرسة والده - رحمه الله - بدمشق إلى حين وفاته. وكان حسن الأخلاق، كريم الشمائل توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق يوم الأربعاء سادس شهر رجب، ودفن من يومه بسفح قاسيون، وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله.
عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير أبو المجد مجد الدين العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة. كان فاضلاً إماماً عالماً عابداً ورعاً، كثير الديانة والورع، من صدور الاسلام، تام الرئاسة حسن المعاملة للناس، ليّن الجانب، كثير الأدب والسكون والحشمة، ذو عقل وافر ودين متين وبرّ كثير وإحسان شامل؛ وله عقيدة جميلة في الفقراء والصالحين. ووالده الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد ابن العديم؛ - رحمه الله - قد تقدم ذكره. وبيته مشهور بالتقدم والرئاسة والفضيلة والعلم - رحمه الله. وقد تقدم ذكره بسماع العلم والحديث، سمع من جماعة من المشايخ وحدث ودرّس وأفتى، وولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي ولي ذلك. ثم انتقل إلى الشام وولي قضاء القضاة على مذهبه، ولم يزل مستمراً فيه مع تدريس عدة بدمشق إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بحوسقه الذي على الشرف القبلي ظاهر دمشق في يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن عصر النهار المذكور في تربة أنشأها قبالة الجوسق - رحمه الله - المشار إليه. ومولده مستهل جمادى الأولى سنة أربع عشرة وست مائة بحلب - رحمه الله.
وأسمعه والده صغيراً وكبيراً في كثير من البلاد الاسلامية على مشايخ وقته، فمنهم: أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن جنون اللبلي الاندلسي، أحضره والده للسماع عليه بحلب سنة سبع عشرة وست مائة، وسمع من أحمد بن الخضر بن هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن طاوس الخضر بن موسى بن عباس بن طاوس البغدادي في رابع شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن الميمون القسطلاني الفقيه الزاهد تجاه الكعبة المعظمة في منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة؛ ومن أبي العباس أحمد بن محمد بن بختيار المعروف بابن المندائي تجاه الكعبة المعظمة - زادها الله تعالى شرفاً وتعظيماً - في سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة؛ وربما سمع منه مسنده إلى أحمد بن أبي الحواري. قال: تمنيت أن أرى أبا سليمان الداراني في المنام. فرأيته بعد سنة، فقلت ما تعلم ما فعل الله بك؟ قال: يا أحمد! جئت من باب الصغير فرأيت وسق شيح فأخذت منه عوداً ما اوري تخللت به وأوريت به، فأنا في حسابه من سنة إلى هذه الغاية.
وسمع من أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله بن الجباب في العشر الثاني من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة بمكة - شرفها الله تعالى - تجاه الكعبة المعظمة وداخلها؛ ومن ابن العباس أحمد بن محمد بن محمود بن أحمد بن علي الحمودي في سادس شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بجامع دمشق؛ ومن أبي المعالي أحمد بن محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن يحيى بن بندار بن ممسك الشيرازي في عاشر صفر سنة أربع وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي العباس أحمد بن نصر بن أبي القاسم العميرة الازجي ببغداد؛ ومن الملك المحسن أبي العباس أحمد بن نصر بن أبي القاسم بن يوسف بن أيوب بن شاذي بحلب، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن طاهر الخشوعي بحلب في رابع شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي إسحاق إبراهيم بن خليل بن عبد الله الدمشقي بحلب، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن ربيع بن ريحان بن غالب الديري الضرير في سلخ جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وست مائة بحلب، وما حدثه به مشافهة.
قال: كنت بماردين في سنة سبع وستين وخمس مائة. فقيل لي: ان الرجل الحطاب الذي اختطف قد جاء، فمضيت إليه مع جماعة وسألناه عن اختطافه، فأخبر أنه كان في البستان يحتطب فوجد حية على شجرة فقتلها، قال: فاختطفت من وقتي وغاب رشدي عني، ولم أعلم بنفسي إلا وأنا بين قوم لا أعرفهم في أرض لا أعرفها، فرأيت شخصاً وقد أتى إلي، وأخذ بيدي وسحبني إلى بين يدي شخص شيخ جالس على تخت عال، فقال له: يا سيدي! هذا قتل أخي، فقال لي ذلك الشيخ: أقتلت أخاه؟ فقلت: لا، فكرر عليّ القول، وأنا أنكر، وقلت له في آخر الكلام: ما قتلت إلا حية. فقال ذلك الشخص: فذاك هو أخي. فقال: خلّ عنه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من تزايا في غير صورته فقتل فلا دية عليه ولا قود " . قال: فأخذني شخص آخر وأجلسني في مكان، وكان يتردد إليّ في كل يوم ويجيئني بشيء آكله في هذه المدة، ثم أتى إليّ الشخص الذي كان يأتيني بالطعام، وقال: أتريد أن تمضي إلى أهلك؟ فقلت: نعم؛ فأخذ بيدي وأتى بي إلى بين يدي ذلك الشيخ، فقال لي الشيخ: أتريد أن تمضي إلى أهلك؟ فقلت: نعم، فقال: اذهبوا به إلى الموضع الذي أخذ منه. قال: فأخذ بيدي ذلك الشخص الذي كان يأتيني بالطعام لينصرف بي، فوقفت وقلت: يا سيدي! سمعتك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات من زمان طويل، فقال: نعم، كنت مع الجن الذين كانوا في ليلة نصيبين فسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من تزايا في غير صورته فقتل فلا دية ولا قود " . قال: ولم يبق معي من الذين كانوا ليلة الجن غيري وأنا أحكم بين الجن.
وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر المعرى بدمشق، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن محمود بن سالم بن مهدي البغدادي بقراءة والده بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجده الشريف سنة أربع وعشرين وست مائة، ومن خلق لا يحصون كثرة بالبلاد الاسلامية. وكان أوحد عصره في العلم والرئاسة، وسعة الصدر والاقبال على أهل الخير وتقريبهم، وكان كثير الصيانة وعديم التبذل إلى أرباب الدنيا، وهم على أبوابه. وكان مجموع الفضائل يعرف الفقه والأصول والعربية واللغة والحديث والأدب والشعر. وكان كثير التهجد وقيام الليل، وله الأوراد الشاقة سفراً وحضراً حتى إنه كان له ورد يقومه من المغرب إلى العشاء الآخرة. فاتفق أنه سافر إلى بغداد وعبر في الطريق على واد مخيف، فنزل عن فرسه وقت أذان المغرب، وشرع يصلي ويأتي بورده وسائر من معه خائفون وهو متوكل آمن.
وكانت له أحوال عجيبة، منها أن الملك الظاهر لما توجه إلى الروم توجه صحبته مجد الدين وأخوه جمال الدين، فاتفق إنهم في الطريق قلّ عليهم الزاد وحصل لهم جوع فسيروا بعض الغلمان بدراهم ليشتروا ما وجدوا في تلك القرية التي نزلوا بقربها شيء فوجدوا أبواب القرية مغلقة فدقوا بعض الأبواب فلم يجبهم أحد، فتسوروا الجدار ونزلوا إلى الدار فأخذوه وأعطوا ربتها دراهم كثيرة، فامتنعت من أخذها فوضعوها عندها وأخذوا البيض. فلما قدموا وعملوه وفرشوا السفرة وأحضروا ذلك البيض تقدم مجد الدين للأكل ومد يده إلى البيض، فلم يستطع الوصول إليه فقال لأخيه: يا أخي! هذا البيض حرام، فقال: اماله أنت، الدراهم وقد أرسلتها معهم، فمد يده ثانياً فلم يستطع فقال: هذا ما آكل منه، هذا حرام. فطلب أخوه الغلمان وألحّ عليهم في أمر شرى ذلك، فأخبروه أنهم اخذوه غصباً، ورموا لها الدراهم، ولم تأذن لهم في أخذ البيض، فتعجب من حضر من ذلك.
وكان له قدم صدق في الطاعات والقرب لا يضيع شيئاً من أوقاته إلا في العبادة مثل أشغال أو اشتغال أو تهجد أو تلاوة أو مطالعة أو جلب نفع إلى من يقصده، أو دفع ظلم عن مظلوم وإغاثة ملهوف، أجمع من يعرفه على علمه ودينه وفضيلته - رحمه الله تعالى. وكان مع هذه الفضائل له يد في النظم والنثر. فمن ذلك ما كتبه في وداع الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله:
أقول لصحبي حين ساروا ترفقوا ... لعلي أرى من بالجناب الممنّع
وآلثم أرضاً ينبت العز تربها ... وأسقي ثراها من سحائب أدمعي
وينظر طرفي أين أترك مهجتي ... قد أقسمت أن لا تسير غداً معي
وما انا إن خلفتها متأسفاً ... عليها وقد حلّت بأكرم موضعي
ولكن أخاف العمر في البين ينقضي ... على ما أرى والشمل غير مجمعي
يميناً بمن ودعته ومدامعي ... تفيض وقلبي للفراق مودعي
لئن عاد لي يوماً بمنعرج اللوى ... وأصبح سرى فيه غير مروعي
غفرت ذنوباً أسلفتها يد النوى ... ولم أشك من جور الزمان المضيع
وسرت أمالي بيوم لقائنا ... ومتّعت طرفي بالحبيب ومسمعي
وفارقت أياماً تولّت ذميمة ... وقلت لأيام السرور ألا ارجعي
وله، وقد سير له الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله - فرجية ويسأل عن حاله فكتب إليه مع الرسول:
أقول لدمعي حين ساروا بمهجتي ... لقد خفت أن تبيض عيني الآقف
فقالت جفوني لا تجف فيض عبرتي ... فبشراك قد أوفى قميص ليوسف
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا كاتباً قبّلت ماخطّه ... إذ بعدت يد الكاتب
وغائباً في خاطري حاضر ... وغائباً أفديه من غائب
قد سرت يا مولاي في خجلة ... لأنني قصرت في الواجب
وإنما أذنبت كيما أرى ... فضلك في العفو عن التائب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أحن إلى قلب ومن فيه نازل ... ومن أجل من فيها تحب المنازل
وأشتاق لمع البرق من نحو أرضكم ... ففي البرق من تلك الثغور رسائل
يريحني مرّ النسيم لأنه ... بأعطاف ذاك الرند والبان سائل
وإن مال بان الدوح ملت صبابة ... فبين غصون البان منكم شمائل
ولي أرب أن يترك الركب بالحمى ... لسيال دمعي وهو للركب سابل
وفي أنه لا ينقضي او أراكم ... وأنظر نجداً وهو بالحيّ آهل
ترى هل أراكم أو أرى من يراكم ... فأبلغ منكم بعض ما انا آمل
وأحظى بقرب الطيف منكم وإنه ... ليقنعني من وصلكم وهو باطل
أطالب جفني بالمنام وكم غدا ... مواعدني أن يلتقي وهو ماطل
يطيلون تعذيبي بكم وأطيله ... وما لي منكم بعد ذلك طائل
كتب إلى خاله عون الدين يروي لنا حديث المعالي عن عطاء ونافع:
أمولاي عون الدين يروى لنا ... حديث المعالي عن عطاء ونافع
بعيشك حدثني حديث ابن مالك ... فأنت له يا مالكي خير شافع
كتب لسعد الدين محمد بن عربي وقد عزموا على الخروج بملتقى والده الصاحب كمال الدين، وقد عاد من الموصل سنة ثلاث وخمسين وست مائة، كان مقيماً برفيق يعرف بنجم الدين بن أبي الطيب:
النجم مصاحبي قوى العزم ... ما عندي ما يركبه العدم
والعبد يرجى إن آتى صحبتنا ... إذ يسرع أدبر يا بشير النجم
فسيّر إليه بغلته وكتب إليه:
البغلة قد أضحت بحسن النظم ... سمعاً وانت مطيعه للرسم
بشراي إذا يصحبه النجم لنا ... فالسعد مقارن لهذا النجم
وكتب القاضي مجد الدين إلى سعد الدين المذكور، وقد لاذ بابن المولى الكاتب للإنشاء في شغل له:
عجباً من صرف دهر فاعل ليس أولى ... جاهتي لاذ منه عزى بابن مولى
فأجابه سعد الدين:
لم ألذ بابن مولى إنما لذت بمولى ... فهو مجد الدين ذو الفضل الذي أخجل طولا
وكتب القاضي مجد الدين إلى بدر الدين عبد الواحد وهو غائب عن والده كمال الدين وكان خاله - رحمهم الله تعالى:
يا راقياً رتبة المعالي ... وجائزاً أشرف الخلال
حاشاك أن تلبي احتيالاً ... ترهب قدراً عن احتيالي
وأشكر لدهر حباك حالاً ... أنت به في الزمان خالي
من حاز حسناً بغير خال ... لم يك في غاية الجمال
فعد إلى كرم السخايا ... فبهجة البدر بالكمال
وله - رحمه الله - في غلام يلعب بالكرة:
لله ما احلى شمائل أغيد ... أجرى الدموع له عذار واقف
وكانما الكرة التي يسطو بها ... قلب لديه من جفاه واجف
وكأنما إنسان عين محبة ... وكأنما الجو كان برق خاطف
وقال - رحمه الله - وكتبها إلى الملك الناصر وقد حضر إليه في السماع فأصبح مجموعاً:
ومن بات يمرح في روضة ... فلم لا يحاكي غليل النسيم
وقال - رحمه الله - وقد عشق الصدر البصري خيالته:
فلا تلم الصدر في عشقه ... فإن الملام بلا فائده
ومن ذي يرجى صلاح أمر ... غدا ذا مخيلة فاسده
وقال - رحمه الله تعالى:
مذ غدا الكهف له من يوسف ... صار بالنصر عزيزاً في الورى
قال بالإخلاص منه جنة ... وسقاها من يديه الكوثرا
بارك الله فيها دوحة ... لا يرى الطير فيها زمرا
فصلت للنور فيها قصص ... ما سمعنا مثلها للشعرا
وله، وكتب بها إلى خاله عون الدين وقد مات أخوه قطب الدين حسن - رحمه الله:
رحى الموت غدت بالقطب دائرة ... والصبر من بعده قد عز إلماما
فقلت للنفس ماهذا الغرور أما ... علمت حقاً بأن الكون أحلاما
ولست انسى لخال كان لي حسن ... فإن لي الآن خالاً جمّل الشاما
وكتب إليه نور الدين الاسعردي:
أمولاي مجد الدين شوقي زائد ... وفرط غرامي فيكم غير زائل
بحقكم ردّوا فؤادي فإنه ... يقدمكم يوم النوى بمراحل
فأجابه قاضي القضاة مجد الدين - رحمه الله - فقال:
فديتك نور الدين أتعبت خاطري ... وظل ينادي في جميع المنازل
وينشد قلباً منك أصبح شارداً ... ومنى وأضحى هائماً في المراحل
ويا ليت شعري لم يقدم سائراً ... وهلا غدا في كل أرض بنازل
فأجابه نور الدين الاسعردي:
أيا ما جداً عمّ الورى بالفواضل ... وفاقهم في سودد وفضائل
ويا شاكياً من أين رحت ممتعاً ... له خاطراً حاشاه من كل باطل
لئن راح قلبي سابقاً فهواكم ... له سائق أو سابق غير غافل
غدا طائراً لما دخلت مبشراً ... أمامك من يلقى بأكرم واصل
ويوم النوى أبدى عليّ تعصباً ... لبعدي عن نادي العلا والفضائل
فعزّ لي الربع الذي تسكنونه ... مخافة أن يشكى إلى غير عادل
ومن خوفه من أن يصادف عائقاً ... يقدمكم يوم النوى بمراحل
وبعد جعلني فيك قلب مولّه ... يهم ولا يصغى إلى قول عاذل
على انه لما غدا من خيالكم ... تقدم إذ بنتموا بمنازل
فراجعه قاضي القضاة مجد الدين جواباً عن جوابه:
يميناً لقد أهديت نور نواظري ... وأعربت عن شوق تحن حمائري
وأعربت في فضل صفا لك وده ... واعربت بالوجد المبرح خاطري
أيا حبذا در يروق نظامه ... أتاني عن بحر من الفضل زاخر
لله روضه قد علا الطرف بهجة ... سقى من سحاب من بنانك ماطر
ومالك من زهر تضوّع نشره ... يبشر قبول من بنانك عاطر
معانيه راح والسطور تساكر ... فإن رحت سكراناً فكن فيه عاذري
شموس معان بالمداد تبرقعت ... مخافة أن يغشى عيون النواظر
سرى في ظلام النفس طيف حديثكم ... فيا لك من طيف لعيني وناظري
رأى الطرس قفراً والسطور رواحلا ... فوافى إلى صبّ لبعدك ساهر
وكتب قاضي القضاة مجد الدين إلى النور الاسعردي صحبة فاكهة:
أيها النور الذي يجلو الغسق ... وجهك هذا قمر إذا اتسق
عيناك تدنو دنو من وفق ... نحو غلام وكتاب وطبق
وإن تشأ فاقرأ أوائل الفلق
فأجابه النور الأسعردي المذكور:
يا ماجداً إلى يدي الفضل سبق ... ومن سما نحو المعالي وسبق
يا حبذا منك كتاب وطبق ... وحبذا الغلام لو كان يقق
وقال قاضي القضاة مجد الدين - رحمه الله: رأيت في النوم ليلة الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وستين وستمائة كاني قاصد الدخول إلى بلدة صغيرة، فقيل لي: إن نجم الدين محمد بن إسرائيل قد صار كاتباً عند الوالي بها، فعملت في النوم ارتجالاً:
إلى كم ذا تغررك الليالي ... وتبدي منك حالاً بعد حال
فطوراً شيخ زاوية وفقر ... وطوراً كاتب في باب وال
وقال: ثم استيقظت وانا احفظها. وممن رثاه العالم الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب الدرج بقوله:
أقم يا ساري الخطب الدميم ... فقد أدركت مجد بني العديم
هدمت وكنت تقصر عنه بيتاً ... له شرف يطول على النجوم
قصدت ذوي الكمال فعاجلتهم ... بذاك يحلى عقدهم النظيم
وإن تكنّف بابهم الرزايا ... حللت من المعالي في الصميم
أتدري من أصبت وكيف أمست ... بل العلياء دائمة الكلوم
وكيف رفعت قدر الجهل لما ... حفظت منار أعلام العلوم
ومكنت الصغار من الأيامى ... وسلطت الشفاء على اليتيم
ولم ينزل بوفد الرفد أندى ... سطاك سوى البكاء على الرسوم
عبرت وقد ضللت بطود علم ... أما تمشي على السنن القويم
بمن أودى بصرف الدهر قرماً ... فثار عليه للثأر القديم
بمن بسط الندى فأفاض عدلاً ... يكف الليث عن ظلم الظليم
صحيح الزهد غادره تقاه ... وخوف الله كالنضو السقيم
فكم قد بات وهو من الخطايا ... سليم النفس في ليل السليم
وكم أورى هداه لمستضيء ... وكم أورى هداه على هشيم
مضى وسراج منزلة البرايا ... ومورد بيته قلب القيوم
وودّع والثناء على علاه ... يفوق مضاعف البيت العميم
وساد وكان للفضلاء منه ... حنوّ المرضعات على الفطيم
وغاب فاسمع الاسماع لفظاً ... أرقّ من المدامة لنديم
أمجد الدين دعوة مستنيم ... لأنواع الكآبة مستديم
حللت من الجنان أجلّ دار ... وقلبي حلّ بعدك في الجحيم
فما لي غير حزني من صديق ... وما لي غير دمعي من حميم
إذا ما سام نوى الأنس طرفي ... ليمطرني همامي بالهموم
سقاك من الجنان رحيق لطف ... يدار عليك مفضوض الختوم
ولا برحت ركاب المزن تسري ... إلىمثواك مطلقة الرسيم
وقال أيضاً يرثيه:
رقاد أبى إلا مفارقة الجفن ... وقلبي نأى إلا عن الوجد والحزن
أبيت وراحي أدمعي وكآبتي ... لدوستي وحزني مؤنسي والأسى حزني
وأضحى وطرفي يحسد العمى إذ يرى ... حمى المجد يغشاه الخطوب بلا إذن
ألا في سبيل المجد مجد وادقع ... وهبتهما للبرق إن كل والمزن
لأنهما سنا الحدود وأقبلا ... يزوران في سود الملابس والدكن
ثوى المجد في حزن من الأرض فاعتدت ... تتيه على سهل الربى روضة الحزن
واسمع ناعيه أصم ضريحه ... فأضحى لما لاقى من الرعب كالعهن
سطا فقده بعد الكمال على العلا ... فهدت وأقوى الضعف وهي على وهل
وكان لوفد الجود مغناه كعبة ... يطوفون فيها من يمينه بالركن
فأضحت وهذا القلب مرمى جمارها ... وأمست وهذا الطرف مجرى دم البدن
وكان يفوت البرق إن رام شاءه ... إلى جمع أشتات العلى وهو شنآن
وكانت فتاويه تخال فروعها ... لتحقيقه يثنى على القطع للبطن
غدت بعده كأس العلوم مريرة ... وكانت به من قبل أحلى من الأمن
وكأن سماء الدست من بعد شخصه ... تغشى محياها عيون من الدجن
كأن عروس الفضل عزت قطوفها ... وطالت وقد غاب المذلل والمدّن
أظن ربوع الدرس حان دروسها ... وقد غاب عنها حين غاب ومتقن
وأضحت معاني النظم بعد فراقه ... شوارد لا يأوي من اللفظ في كن
وأمسى صميم العلم إذ ذاك أعزلا ... يصول عليهالجهل بالرشق والطعن
أبحر الندى طود المعالي وإنه ... ليغني عن التصريح باسمك من يكنى
حللت بزعمي في الزعام وإنه ... لمن تحته يبل ومن فوقه يطنى
ووافيت بيتاً كنت حرف حلوله ... ووحشته ترك الكرى طاوي البطن
وأوحشت من قد أضحت الأرض داره ... وآنست من قد حل في جنتي عدن
أمرّ على مغناه كي يذهب الأسى ... لعادته الأولى فيغري ولا يغني
وتنثر عيني لؤلؤاً كان كلما ... يساقطه من فيه يلقطه اذني
وأحسد عجم الطير فيه لأنها ... تزيد على إعراب نظمي باللحن
وأقسم إن الفضل مات لموته ... ويخطر في إذني أخوه فاستثنى
؟عبد الله بن الحسن بن إسماعيل بن محبوب أبو محمد بهاء الدين البعلبكي. كان من اعيان البعلبكيين ورؤسائهم وعدولهم، تولى جهات ديوانية، فمنها الحوائج خاناة في الأيام الصالحية والعمادية، ونظرها في الأيام الناصرية الصلاحية، ونظر بعلبك آخر الأيام الناصرية، واستمر إلى اوائل الدولة الظاهرية، وباشر نظر الجامع بدمشق مدة يسيرة، ونظر المارستان النوري - رحمه الله تعالى - بدمشق مدة أخرى، ونظر الأسرى بدمشق إلى حين وفاته، وباشر نظر الديوان للأمير فارس الدين الأتابك - رحمه الله - بالشام وغير ذلك.
وكان مشهوراً بالأمانة والخبرة ومعرفة صناعة الكتابة، حسن المجالسة؛ وتوفي بدمشق ليلة الجمعة سلخ ذي القعدة أو مستهل ذي الحجة، وصلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الجمعة، ودفن لمقابر الصوفية، وقد ناهز ثمانين سنة وربما تعداها - رحمه الله تعالى.
؟؟عبد الله بن الحسين بن علي بن عبد الله أبو عبد الله مجد الدين الكردي الرازي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً كثير الديانة والتعبد، عنده مواددة ولطف ولين جانب وتواضع، درّس بالكلاّسة شمالي جامع دمشق وأمّ بالتربة الظاهرية مدة يسيرة منذ فتحت إلى حين وفاته، وتوفي بدمشق يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة، ودفن من يومه بعد صلاة الجمعة والجنازة عليه بجامع دمشق بماقبر الصوفية وبلغ من العمر ستاً وستين سنة - رحمه الله تعالى.
عبد الله بن عمر بن نصر الله أبو محمد موفق الدين الأنصاري صاحبنا.
كان اديباً فاضلاً مقتدراً على النظم، وله مشاركة في علوم كثيرة،منها الطب والكحل وغير ذلك من الفقه والنحو والأدب، ويعظ وهو حلو النادرة حسن المحاضرة، لا تملّ مجالسته، وعلى ذهنه من التواريخ والحكايات والأشعار وأيام الناس شيء كثير، وكان أقام بالديار المصرية مدة، ثم استوطن بالشام مدة أكثرها ببعلبك ثم عاد إلى الديار المصرية في السنة الخالية واستوطنها، فلم تطل مدته بها حتى ادركته منيته، فتوفي إلى رحمة الله ليلة الجمعة مستهلّ صفر بالقاهرة من غير مرض، بل عرض له قولنج ليلة وفاته، فمات من وقته، وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله. وشعره كثير جداً، ويقع له فيه المعاني الجيدة، وكان يكتب خطاً حسناً، ويترِسّل في مكاتباته، وعنده لطافة كثيرة ورقة حاشية، ودماثة إخلاق، ومدة مقامه ببعلبك لا يكاد ينقطع عني. من شعره:
يذكرني نشر الحمى بهبوبه ... زماناً عرفنا كل طيب بطيبه
ليال سرقناها من الدهر خلسة ... وقد امنت عيناي عين رقيبه
فمن لي بذاك العيش لو عاد وانقضى ... ليسكن قلبي ساعة من وجيبه
إلا ان لي شوقاً إلى ساكن الغضا ... أعيذ الغضا من حره ولهيبه
أحنّ لذيّال الجناب ومن به ... يشكرني ذاك الذى من جنوبه
أخا الوجد إن جاوزترمل محجّر ... وجزت بمأهول الجناب رحيبه
دع العيس تقضي وقفة بربا الحمى ... ودع محرماً يجري بسفح كثيبه
وقل لغريب الحسن ما فيك رحمة ... لمفرد حزن في هواك غريبه
متى غرّد الحادي سحيراً على النقا ... أمال الهوى العذري عطف طروبه
وإن ذكرت للصبّ أيام حاجر ... هناك تقضي نحبه بنحيبه
وفي الحي نشوان المماثل عاشق ... محب له شكر بذكر حبيبه
إذا ما سبته في النسيم لطافة ... ينازعه أشواقه بنسيبه
وقال أيضاً - رحمه الله:
أسائل طرفي عن جنابك في الكرى ... فيخبر سهري أن جفنك راقد
ويحسب وكراً ناظري طائر الكرى ... وما هو إلا للسهاد مصائد
وقال أيضاً - رحمه الله:
هيفاء ما هذا النسيم قوامها ... إلا وقال الغصن لبنى قد سبى
هي نور عيني لا ترى ولها أرى ... فهي البعيدة في االمكان الأقرب
وقال - رحمه الله تعالى:
قلبي وطرفي في ديارهم ... هذا يهيم بها وذا يهمي
رسم الهوى لما وقفت بها ... للدمع أن يجري على الرسم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
من سكره منك بقد وريق ... ماذا له يجدى كؤوس الرحيق
ومن يكن طرفك خمارة قل ... لي متى من سكرة يستفيق
رق شرابي ونسيم الصبا فالعيش بالساقي عيش رقيق
إذا انقضى سكري وشاهدته ... حدد لي سكراً بخمر عتيق
مديرها مشمولة من كل ... شمائل القد القويم الرشيق
راح دع اللاحي على شربها ... يهوي به الريح مكاناً سحيق
ما العيش إلا أن تراني بها ... سكران لا أدري أين الطريق
إن قلت سكرى فنازلها ... هذا دم في الكأس منها أريق
تشابهت والصبح في نورها ... ففرق الساقي بفرق دقيق
ومرقب ثوب الضحى فانثنى ... من نزلها يرقى بخيط رقيق
لصاحبي موهت عن خانها ... فقلت قصدي نحو وادي العقيق
ومذ بدت كأساتها في الدجى ... غالظها عنها بثأر الفريق
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا عائباً ما جرى ذكراه عن جلدي ... إلا عدمت اشتياقي نحوه جلدي
ولا سرى في الصبا من جنة خبرا ... إلا تأوهت من وجدي ومن كمدي
ولا عزمت على سلوانه غلطاً ... إلا وجدت خيالاً منه بالرصد
ولا ما تذكرت أياماً به سلفت ... إلا وضعت يدي خوفاً على كبدي
يا عائباً أقسمت عيني بطلعته ... مذ غاب لا نظرت يوماً إلى أحد
ما كان أيامي مقرونة بقربكم ... والشمل مجتمع والعيش في رغد
ترى تعّود أوقات بكم سلفت ... هيهات وا أسفى ما فات لم يعد
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لي عند ساكنة الكثيب ديون ... أبداً تقاضيها جوى وحنين
من لم يكن في الوصل منها باذلاً ... للروح منه فإنه مغبون
يا فتية ما فاز منها بالمنى ... إلا فتى بجمالها مفتون
كيف السبيل إلى المزاروكل من ... في الحي غير أن عليك أمين
وقال أيضاً:
يا سعد إن لاحت هضاب المنحنى ... وبدت أثيلات هناك تبين
عرّج على الوادي فإن ظباءه ... للحسن في حركاتهن سكون
ايه نسيم البان من اخبارهم ... زدني حديثاً فالحديث شجون
إن ضيعوا عهدي فعهد هواهم ... بين الجوانح سره مكنون
وحياتهم إن السلوّ فإنه ... شك وأما حبهم فيقين
وقال أيضاً - رحمه الله:
لا غرو إن سلبت بك الألباب ... وبديع حسنك ما عليه حجاب
يا من يلذ على هواه تهتكي ... شغفاً ويعذب لي عليه عذاب
حسبي افتخاراً في هواك بأن لي ... نسباً به تسمو به الأنساب
أحبابنا وكفى عبيد هواكم ... شرفاً بأنكم له أحباب
يا سعد مل بالعيس حلة منزل ... أضحى لعزة ساكنيه يهاب
ربع تودّ به الخدود إذا مشت ... فيه سليمى إنها اعتاب
كم في الخيام أهلذة هالاتها ... تبدو لعينك برقع ونقاب
وشموس حسن أشرقت انوارها ... أفلاكهن مضارب وقباب
شنّوا على العشاق غارات الهوى ... فإذا القلوب لديهم أسلاب
من كل هيفاء القوام إذا انثنت ... هز الغصون بقدها الإعجاب
تهب الغرام لمهجة في أسرها ... فجمالها الوهّاب والمنهاب
وغدت تجرّ على الكثيب برودها ... فإذا العبيرلدى ثراه تراب
رقّ النسيم لطافة فكأنما ... في طيّه للعاشقين عتاب
وسرى يفوح معطراً وأظنه ... لرسائل الأشواق فيه جواب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا لمعت من جانب الحي نارها ... فلا طالع إلا فيها استعارها
وإن سمعت أذناي نحوي خطابها ... خلا جملة الأشواق سراّ جهارها
فيسكر صحبي من صغار كؤوسها ... وأصحو إذا دارت عليّ كبارها
لي المقلة النجلاء كأس مزاجها ... غرام وما عين الفتور عقارها
وإن سفرت أطرقت صوناً لحسنها ... وكيف أرى من بالسفور استتارها
فما البدر إلا في سحاب نقابها ... وما الغصن إلا ما حواه إزارها
سلا عن منى العشاق منها لواحظ ... تصحح أخبار السقام انكسارها
وميلاً إذا عاينتما بانة اللوى ... تميل فما غير القلوب ثمارها
علاقة حب من تقادم عهدها ... يجدد أثواب السقام أذكارها
منازل ليلى العامرية باللوى ... يخاف نواها حين يدنو مزارها
ليهن المطايا بالأراك منازلا ... مرابعها الفيحاء فاح عرارها
فعرّس بعيش الشوق يا عيس قد بدا ... بشيرا بأسفار الصلاح سفارها
ولذ من حمى الوادي بأكرم حلة ... يباح بها النادي وقد عز جارها
ملوك جمال خلد الله ملكها ... إذا عدلت جازت وطاب جوارها
أيا كعبة الحسن الذي بين أضلعي ... كما شاع شرع الحبير في خمارها
إليك قلوب العاشقين توجهت ... وأنت المنى لا حجبها واعتمارها
وقال أيضاً - رحمه الله:
طرفي على سنة الكرى لا يطرف ... وبخيله بخيالها لا يسعف
وأضالعي ما ينقضي زفراتها ... إلا وتدركها الدموع الذرف
شمت الحسود لأن ضنيت وما درى ... أني بأثواب الضنى أتشرف
يا عائبين وما ألذ نداهم ... وحياتكم قسمي وعز المصحف
إن بشّر الحادي بيوم قدومكم ... ووهبته روحي فما أنا منصف
قد ضاع في الآفاق نشر خيامكم ... وأرى النسيم بعرفها يتعرف
كيف المزار وما أتنت سمر الحمى ... إلا غدت سمر الرماح تقصف
ويميتني في الحي أسمر قامة ... ومن الرماح مثقف ومهفهف
بدر تمنى البدر يحكي معجزاً ... من حسنه فبدا عليه تكلف
وقال أيضاً:
ولقد وقفت على منازل جيرة ... رحلوا فأجرى الدمع ذاك الموقف
وتعبت في طي النسيم رسائلي ... وسألته في نشرها يتلطف
حتى انثنى لشكايتي روح الحمى ... وغدت حمامته بشجوي تهتف
وقال أيضاً رحمه الله:
كم من أسير غرام في خيامهم ... طعين قدّ جريح الأعين النجل
من كل أسمر..... مبسمه ... بيض من البيض أو سمر من الأسل
وفي الهوادج من تهدي إذا أسفرت ... في الليل نوراً فتهدى الركب للسبل
وتخجل الشمس من إشراق طلعتها ... ألست تنظر فيها حمرة الخجل
وقال أيضاً رحمه الله:
خذاعنة الوادي فتلك زرود ... وميلاً عن الوادي فثم جدود
وإياكم سرب المها من تهامة ... فغزلانه يوم اللقاء أسود
ولا تردا ماء بمنعرج اللوى ... فليس به غير الدموع ورود
وعوجاً على تلك المعاهد بالحمى ... فلي عندها يوم الوداع عهود
أحن إليها والديار قريبة ... حنيني إليها والمزار بعيد
وإني إذا زاد اشتياقي لأهلها ... وإن كان شوقي ما عليه مزيد
أعانق من نشر الشمال شمائلاً ... يرنحني تذكرها فأميد
وألثم من برد الثنايا مباسماً ... تجمع فيها الدر وهو فريد
وليلة حياني الخيال مسلماً ... وصحبي على شعب الرحال قعود
فعانقته حتى الصباح وبيننا ... حديث هوى أبديه وهو يعيد
ومائسة الأعطاف تذكي رضابها ... لهيباً لدى الأشواق وهو برود
تقول لرسلي كيف غاب وكم بدت ... بنار اشتياقي إن ذا لجليد
دعوه بغيري إن تشاغل قلبه ... فواجد غيري أنه لفقيد
ألفت وما أنوي الفراق بسلوة ... وإن فراقي من ألفت شديد
فلو مت عشقاً ثم عشت وقال لي ... تعود إلى ما كنت قلت أعود
وما الحب إلا أن تروح وتغتدي ... بثوب الضنا يبليك وهو جديد
وقال أيضاً رحمه الله:
طاب السماع فغنني يا مطربي ... وأعد نعيمي من حديث معذبي
لا تسقني إلا كؤوس حديثها ... فلقد حلا بالسمع منها مشربي
إني لأطرب كيف ما ذكر اسمها ... فأرى العذول على هواها مطربي
ويمليني السكر القديم إذا جرى ... صرف الحديث ومن فمي لم أشرب
أجني لكي أجني ثمار عتابها ... فمتى عفت أبدأت حالة مذنب
هذي المصونة في خلال جمالها ... سفرت فأي حشاشة لم تسكب
هتكت ببارق ثغرها ستر الدجى ... وتسترت في شعرها من غيهب
هي نور عيني لا ترى وبها أرى ... فهي البعيدة في المكان الأقرب
تبدو فيسترها بظاهر نورها ... أرأيت محتجباً ولم يتحجب
وتريك من فوق النقاب محاسناً ... أضعاف ما تبدي بغير تنقب
في طرفها سحر أغيد كمالها ... الفتان من عين الغزال الربرب
سحبت على سفح الكثيب ذيولها ... فتمسك الوادي بذاك المسحب
ونشقت ترب الحي إذ خطرت به ... فإذا انتشاق الطيب ليس بطيب
يحمي الحمى بضرائب من لحظها ... حبي ولا لحظ يمر بمضربي
خف قربها وكن البعيد تأدباً ... ففظيعتي كانت لفرط تقربي
ولئن تمتعني خلا قرباً بها ... فبذكرها مهما حييت تسببي
أهنئ الليالي إن تبيت مسهداً ... ما دام نجم الكأس غير مغرب
والدهر يبخل أن يجود بلذة ... فمتى يبح جسمي الخلاعة فانهب
وقال أيضاً رحمه الله:
سروا ببدور ليلهن الغذائم ... مبرقعة بالحسن والحسن سافر
فبات على الأضغان حمر وإنما ... عليها من السمر الرماح ستائر
وفيهن من يهدي الركاب بنورها ... ويمشي به بدر الدجى وهو حائر
من السمر هيفاء القوام لقدها ... حديث به سمر القنا تتسامر
يرنّحها سكر الشباب فينثني ... على كل صاح عطفها يتساكر
رأى قدها قلبي فطار صبابة ... ولا غروان يصبو إلى الغصن طائر
بألحاظها آيات بحر تبدلت ... فواتر تقري والصحيح تواتر
لقد قلب الأعيان سحر عيونها ... فأصبح فيها عاذلي وهو عاذر
أيا عائباً عن ناظري وجماله ... بناظر فكرى تختلسه الضمائر
تميّل لي حتى أميل معانقاً ... إليك اشتياقاً مثل ما أنت حاضر
بريق الحمى حدث بأخبار لوعة ... لها من فؤادي بالحقوق تواتر
ويا نسمات الصبح قولي لراقد ... هناك الكرى إني لبعدك ساهر
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
جميعي لسان وهو باسمك ناطق ... وكلي قلب عند ذكرك خافق
وإني وإن لم أقض فيك صبابة ... فما أنا في دعوى المحبة صادق
خليليّ ما للبرق يخفق غيرة ... إبرق حماها مثلي وقلبي عاشق
وما للمطايا قد حداها اشتياقها ... أحبي لها مثلي يحنّ الأبانق
إذا ما حدا الحادي وعرّض باسمها ... تاوّه محزون وحنّ مفارق
تميل غصون البان شوقاً لقدها ... فينطق إشفاقاً عليها المناطق
وينشق قلب للشقائق غيرة ... إذا حدقت يوماً إليها الحدائق
وقال أيضاً - رحمه الله:
رويت يا نفحة الوادي برياك ... إخبار سعدي فحيا الله مرآكي
ياا طيبة الشرب يا من لحظ ناظرها ... يصيد أسد الشرى عمداً بأشراكي
تلك الجفون تسمى اسرب فلقد ... يرد لو انه من بعض اشراكي
اسقاك من لحظة الفتاك راشفة ... عسى أعدّ به من بعض فتاكي
دعا هواك لاتلاف النفس فما ... ابقى الضنا عاشقاً إلا ولبّاكي
كوني كما كنت لا عينا ولا ملذا ... فكل قلب على ما فيك بنواك
إني أعيد جنوناً فيك هينمتى ... من طارق العقل يا أسما باسماك
يشكو لها الخصر ظلماً من مناطقها ... فيعطف العطف منها رقة الشاكي
ومذ حكى وجهها بدر الدجى شبهاً ... أبدى الجمال عليه كلفة الحاكي
وقال أيضاً - رحمه الله:
يا نازلين برامة والمنحنى ... هل ترجع الأيام تجمع بيننا
أم هل لماضي عيشنا من مرجع ... ورى رونقات بكم عادت لنا
ومناد خلق الشامائل واللمى ... فضح القضيب قوامه لما انثنى
تجلوه أذكاري لعين ضمائري ... فيرى قريباً والتباعد بيننا
كم قد ضللت بحندس من شعره ... حتى اهتديت بوجهه الباري السنا
قابلته بالبدر ليلة تمّه ... فرأيت أدنى التزين الأحسنا
اما هواه فإنه باضالعي ... متمكناً وسلوه ما امكنا
يا للعجائب مع دوام ملاله ... لم ذا ترى جعل القطيعة ديدنا
وقال أيضاً:
يا سعد إن جزت العقيق وعاينت ... عيناك أعلام الحمى فلك الهنا
أرح المطايا في ظلال جويلع ... فلقد عناها في سراها ما عنا
ولئن سئلت عن الكثيب وحاله ... إن قد قضى شوقاً وما بلغ المنى
وقال بديهاً عندما شاهد بناء قبر أصحابه:
سقى جدثا ضم الحبيب ترابه ... ندي كل وسمى من الغيث هطال
أقول وقد أضحى يجدد بالبنا ... لقد رعت بالي يا جديداً على بالي
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ما بين نجد وبين المنحنى عزب ... رضيت فيهم بتعذيبي فلم غضبوا
وبين جفني وبرق السفح عهد هوى ... أن لا يزال له منأدمعي سحب
يحلو العتاب لسمعي من حديثهم ... فيحسن الريب عندي كلما عتبوا
شنوا الاغارة والاحداق سالبة ... وكل قلب تمنى إنه سلبوا
إذا تهيأ بسمر من قدودهم ... أعيت بحسن محيا إنها لهب
مبرقعات تراأت من خيامهم ... مصونة ما سوى أنوارها تعب
تحجبت وخلت حسناً سلبت به ... فكيف لو ترفع الأستار والحجب
وقال أيضاً:
لاتغررن بسيف الغمد مغمده ... وخذ أماناً فمن أحداقها الرهب
تلك الجفون تسمى بالعمود كما ... تلك اللواحظ من أسرابها القضب
يا عائبين وأشواقي بمثلهم ... حتى يخيل طرفي إنهم قربوا
إذا تذكرت عيشاً باسماً بكم ... سررت قدماً به أبكي وانتحب
عرب الحمى كيف لا يحمى نزيلكم ... في حيكم وله في حبكم نسب
أم كيف يحسن يا جيراننا بكم ... جور وقاماتكم للعدل تنتسب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أي يد للواحدات عندي ... إن شارفت بي هضبات نجد
معاهد يشتاقها قلبي إن ... طال بها على البعاد عهدي
سل يا بريق الحي هل غزاله ... باق على عهد الغرام بعدي
يا أهل ودي أنتم قصدي وما ... أحلى نداكم يا أهيل ودي
غدي عزيم الشوق إن عز اللقا ... منكم بوصل وأمطلوا بوعد
يطول تردادي إلى أبوابكم ... حلا لقلبي فاسعفوا ببرد
أخفى الهوى من حبكم بباطني ... أضعاف ما أظهره وأبدى
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ترى عند من بالسفح علم بأن لي ... لأجلهم دمعاً على السفح يسفح
قضى الحب في شرع الغرام لناظري ... يشاهد جفني منه وهو مجرح
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
وماء شجاني في الحمى ورياضه ... وقد شقني شوقاً قوام مهفهف
حمام شكا للغصنوجداً بقده ... إلى أن غدا من رقة يتعطف
فإن راح نشر الروض في الأفق ضائعاً ... فإن به عزف النسيم يعرف
وما مالت الأغصان سكراً بطيبه ... فمن زهره قد دار... قرقف
وقال أيضاً رحمه الله:
يا ليالي الحمى بعهد الكثيب ... إن تنأيت فارجعي عن قريب
أي عيش يكون أطيب من عي ... ش محب يخلو بوجه حبيب
يقطع العمر بالوصال سروراً ... في أمان من حاسد ورقيب
يتجلى الساقي عليه بكأس ... هو منها ما بين نور وطيب
كلما أشرقت ولاح سناها ... آذنت من عقولنا بغروب
خلت ساق المدام يوشع لما ... رد شمساً بالكأس بعد المغيب
نغمات الراووق يفقهها الكأ ... س ويوحي بنشرها للقلوب
فلهذت يميل من نشوة الكأ ... س طروباً من لم يكن بطروب
يا نديمي اسمأل أم شمول ... رق منها وراق بي مشروبي
أم قدود السقاة مالت فملنا ... طرباً بين واجد وسليب
أم نسيم من هاجرت هب وهنا ... فسكرنا بطيب ذاك الهبوب
أم سرى في الأرجاء من عنبر الج ... و أريج بالبارق الشبوب
ما ترى الركب قد تمايل سكرى ... وأمالوا مناكبها لجنوب
لست أبكي على فوات نصيب ... من عطايا دهري وأنت نصيبي
وصديقي إن عاد فيك عدوي ... لا أبالي ما دمت لي يا حبيبي
وقال أيضاً رحمه الله:
حدّث فقد حدثتنا نسمة السحر ... عن جيرة بظلال الضال والسمر
واستودعت سرهم في طيها وسرت ... فأسكرتنا بنشر المندل العطر
موهت صحبي عنها إذ غرفت بها ... غرفاً فقلت نسيماً فاح عن زهر
فكيف يخفي وريّاها روى خبراً ... يشيم طيباً بها من ذلك الخبر
أمر بالدار من شوقي لمن رحلوا ... عنها فأقتنع بعد العين بالأثر
يا نسمة الغصن في لين وفي هيف ... لا كان قلب عليك الدهر لم يطر
أراك في كل مشهود لأنك في ... طرفي مقيم فقد أصبحت لي نظري
وقال أيضاً رحمه الله:
ذكرت مرابعها بجرعاء النقا ... فصبت لمغناها القديم تشوقا
فتفرقاً يا حادياها حسبها ... حاد من الأشواق أن يتفرقا
حنت لعهدة أنسها فتجردت ... وصبت إلى مرقي عزيز المرتقى
يا صاحبيّ تعرضا بي للحمى ... إن أنتما جاوزتما كثب النقا
وخذا إماماً من لحاظ ظبائه ... فيغير قلبي سهاماً لا يتقى
آها لفتنة مقلة سحارة ... أعيت بقلبي ما يداوي بالرقى
راجعت في شرع الغرام صبابتي ... لما غدا صبري عليه مطلقا
أملت أن تدنو الديار وتكتفي ... هذي الديار دنت وعز الملتقى
أمرت قلبي بالتصبر طلة ... فوجدت باب الصبر عنه مغلقا
أحبابنا قسماً بليلة وصلنا ... وبغيرها وحياتكم لن أصدقا
عندي لعرفتكم حديث صبابة ... أودعتها سرى ليوم الملتقى
وقال أيضاً رحمه الله:
سفرت وقد ستر الجلال جمالها ... فاهجر منامك إن أردت وصالها
إياك يخدعك الحسود بقوله ... قلب هواك فقد تمل ملالها
ولربما عتبت عليك تذللاً ... فكن الذليل فما ألذ دلالها
شمس بقلبي...أو ما ترى ... شفقاً بدمعي مذ بكيت زوالها
ونباله الأجفان درع تصبّري ... مما يعين على نفوذ نبالها
الورد يشبه أن يكون شقيقها ... في وجنة والمسك يشبه خالها
ما انطلق الخصر النطاق بسقمه ... إلا وأخرس ساقها خلخالها
غار النسيم وقد توهم قدها ... ألفاتميل لإلفتي فأمالها
لي مدمع دفق على جريانه ... بين المنازل سائل أطلالها
تلك المنازل إن أتاها سائل ... غير المدامع لا يجيب سؤالها
وحشاشة رضيت بأن تفنى اسى ... في حبكم ما للعذال ومالها
وقال أيضاً - رحمه الله:
ما للركائب من نشر الصبى سكر ... هل جاء في طيها من رامة خبر
أولا فما لرجال القوم قد عبقت ... وفاح في الجو نشر عرفه عطر
لطيب نفحتها برد على كبدي ... ونار شوقي بها في القلب تستعر
أية سيري بأخبار الحمى كرماً ... كرّر عليّ فأخبارالحمى سمر
يا جيرة غدروا من غير ما سبب ... رقوا فأدمع عيني بعدكم غدر
أهلاً لأيام وصل كلها أصل ... ولّت وليلات قرب كلها سحر
أفدي بروحي الذي ما غاب عن بصري ... إلا وتجلوه لي الأشواق والفكر
ولا سرى البرق يهدي منه لي خبراً ... إلا وعند فؤادي ذلك الخبر
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
نقل الأراك بأرن ريقة ثغره ... من قهوة مزجت بماء الكوثر
قد صح ما نقل الأراك لأنه ... يرويه نصاً عن صحاح الجوهري
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: أبياتاً سمعتها منه فطلبتها منه بعد صلاة المغرب، فراح يكتبها لي، فسيرها بعد عشاء الآخرة من تلك الليلة، وقد أضاف إليها على الوزن والروى ما يتضمن المدح، فأضربت عن معظم ذلك، وهذه الأبيات الأولة:
مقلقل القلب بكم ساهر ... ما آن أن يجبره الكاسر
ومشتك منكم إليكم متى ... ينظر في قصته الناظر
ووارد صار إلى وصلكم ... تراه عن رأي بكم صادر
يا هاجراً أثبت لي رتبة ... من شرفي إنك لي هاجر
وجائر يطعمني عذله ... قلت له لا عدم الجائر
وواعد يعجبني مطله ... إن كنت أحرى أنني صابر
وما على حتفي من جفنه ... سل حسام لأنبأ باتر
يا غصناً قلبي على قده ... إذ انثنى غيرة طائر
بالله ما كان الحمى منزلاً ... حتى حماه طرفك الفاتر
وروضة ما طاب لولا سرى ... فيه سحيراً نشرك العاطر
بي حاجر عني لذيذ الكرى ... تشوقي من أجله حاجر
لا غزو إن حن فؤادي به ... وقد دعاني طرفه الساحر
أكن موسى عادني باسمه ... يا من شكا إني له شاكر
رب اليد البيضاء كم سودت ... مولى وأولى فضلها الغابر
أنامل عشر غدت آية ... أولها ليس له آخر
كم ضربت صخرة إعدامنا ... في سفره ناه بها الساتر
فانبجست منها عيون الندى ... فللوجا عين له ناظر
ترى سواد المجد مستيقظاً ... يرقبها إن هجع السامر
وقال منها أيضاً:
إذا حبال الحرب في سعيها ... حلها من سحره الكافر
تلففت يفتته إفكها ... فانقلب الساحر والساخر
بلاغة يسجد شكراً لها ... أن أنصف الناظم والناثر
موروثة عن نسب طاهر ... يا حبذاك النسب الطاهر
مولاي قطب الدين يا ابن الذي ... بوجهه نور الهدى الباهر
ومن وجوه الحق إن أعطيت أبدى سناها كشفه السافر
ومن إذا ما هتكت حرمة ... غطى عليها ذيله الساتر
ينبوع حين الجمع واردها ... إن صدّ عنها وارد صادر
والمشرع العذب الذي صدره ... بحر من العلم به زاخر
مدير كأس الحب في حضرة ... يغيب فيها خاطر حاضر
إذا جلا من كشف عرفانه ... والعرف من أنفاسه عاطر
في مجلس التذكير من وعظه ... خير فيه فاهتدى الحائر
خطبت من عبدك يا مالكي ... عروس سقر صانها الشاعر
ولم يكن أهلاً لأمثالكم ... وإنما لطفكم الجابر
وهي على استخبائها أقبلت ... وذيلها من خجل عاثر
لا تبتغي مهراً سوى ودكم ... أشرف ما حصّله تاجر
لو رامها غيركم لانثنت ... وعطفها من صلف شامر
زارت حماكم في الدجى خلسة ... فقل لها يا حبذا الزائر
وليس بالقصد لها عادة ... لو اقتضاها جودك الآمر
إن كان في عصيانها فاطر ... يوماً ففي طاعتها غافر
وذكر - رحمه الله تعالى: إنه رأى الحسين بن علي عليهما السلام في المنام، فقال له: مدّ المقصورة؛ قال: فوقع في خاطري إنه يشير إلى مقصورة ابن دريد، فخمّسها ورثى بها الحسين رضي الله عنه وهي:
لما أبيح الحسين صونه ... وخانه يوم الطراد عونه
نادي بصوت قد تلاشى كونه ... أما ترى رأسي حاكي لونه
طرّة صبح تحت أذيال الدجى
معفراً على الثرى بخدّه ... لم يرع فيه حرمة لجده
والسيف من معرفه بغمده ... واستعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جذل الغضا
ومنية بالله من مخلفي ... يا رائحاً بالهودج المشرفي
ما هتكوا من سترة المتحف ... وكان كالليل البهيم حلّ في
أرجائه ضوء صباح فانجلى
تلك الدماء أجرت من العين الدما ... لما سرى الليل وغارت أنجما
قاض لها دمع جرى منسجماً ... وغاض ماء شرتي دهر رمى
خواطر القلب بتبريح الجوى
حبائب اسمين لي أغاديا ... أمضى مصابي بهم البواكيا
إذ بات جسمي في التراب ناديا ... وآض روض اللهو يبساً ذاويا
من بعد ما قد كان مجاج الثرى
أصبح حالي عبرة بل قدوة ... بعد ديار كي تسمى ندوة
رماني الدهر فأقضى عدوة ... وضرم النأي المشت جذوة
ما تأتلي تسفع أثناء الحشا
مبرقعاً على العقيق قد عفا ... إذ غدر الدهر به بعد الوفا
وقفت فيه باكياً على شفا ... واتخذ التسهيد عيني مألفا
لما جفا أجفانها طيف الكرى
هم أهل ودادي إن وفوا أو غدروا ... أفديهم إن وصلوا أو هجروا
إن كان يرضيهم دم قد هدروا ... فكل ما لقيته يغتفروا
في جنب ما أسأره شحط النوى
يا زمني عن مجتني ماذا العما ... فوقت لي من الرزايا أسهما
الماء طرق وأموت من ظما ... لو لابس الصخر الأصم بعض ما
يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا
يا دهركم هذي الجفون والأحن ... صبراً لها صبراً عليها من محن
هو الهزال لا يغرنك سمن ... إذا رأى الغصن الرطيب فاعملن
أن قصاراه نفاد وتوى
أشكو إلى الله وتلك قصة ... وعزم مثلي ليس فيه رخصة
وفي الجواب المشاع خصة ... شجيت لا بل أجرضتني غصة
عنودها أقتل لي من الشجا
أفاطم على مصابي عددي ... فلو رأيت مصرعي بمشهدي
مثال ما سرك يوم مولدي ... أن يحم من عيني البكا تجلدي
فالقلب موقوف على سبل البكا
وأحربا من جائر تحكماً ... فتياً فأضحى نفساً مقسماً
ما مر بي هذا القضاء توهماً ... لو كانت الأحلام نا جتني بما
ألقاه يقظان لأصماني الردى
إن الليالي تبارزت بحربها ... وأخفت بركبها لنهبها
وأنزلت أهل العلى من عربها ... منزلة ما خلتها يرضى بها
لنفسه ذو أدب ولا حجا
قوسي ليوم عاقتني عائقه ... وساقني إلى الردى سائقه
أخلفني من وعده صادقه ... شيم سحاب خلب بارقه
وموقف بين ارتجاء ومنى
يا عصبة الحلم علينا تجهلوا ... كذى بأعضاء النبي تفعلوا
كأن على سواكم يرسل ... في كل يوم منزل مستوبل
يشتف ماء مهجتي أو مجتوى
هتك و فتك وأسار وجلاً ... ونسبة تسبي على رأس الملا
لو أنني في الجاهلين الأولا ... ما خلت الدهر يثنيني على
ضراء لا يرضي بها ضب الكدا
علقت في أشراك خطب وتهن ... أرجو أنشاطاً في زمان قد زمن
وربما كنت وخوفي قد أمن ... أرمق العيش على برض فان
رمت ارتشافاً رمت صعب المنتسا
أصبحت محمولاً وكنت حاملاً ... وعامل الرمح بكفي عاملا
أيام وصل كان شملي شاملاً ... أراجع لي الدهر حولاً كاملاً
إلى الذي عوّد أم لا يرتجى
بقي العدو في عنادي مجتهد ... وخان من كنت عليه أعتمد
لا أعتب الدهر فعتبي لم يعد ... يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد
فإن أراودك والعتبي سوا
رجحت بالعدل فلم بغضتني ... وقمت في الحق فلم عصيتني
حفظ عليك بعض ما.. ... رفّه عليّ طالما أنصبتني
واستبق بعض ما غصن ملتجي
أنا الذي قارعت القوارع ... وشيّبت عذاره الوقائع
فلم يرعه بعد ذاك رائع ... لا تحسبن يا دهر أني ضارع
لنكبة تعرقني عرق المدى
أوصى إلينا أوبة لما دفن ... قال إذا ما خشن الدهر فلن
فكنت جلداً بوصاياه فمن ... مارست من لو هوّت الأفلاك من
جوانب الجو عليه ما شكا
أصبحت من مس الأذى معوذاً ... مجدداً صبراً غدا مجذذا
فإن شكوت لمن ذاك عن أذا ... لكنها نفثة مصدور إذا
جاش لغام من نواحيها غما
لست لما يرضي الحبيب مبغضاً ... ولا على أحكامه تعرضا
إن كنت لا أرضى اختياراً بالقضا ... رضيت قسراً وعلى القسر رضى
من كان ذا سخط على صرف القضا
يا صاحبي واللذان استعليا ... عن مصرعي بالله لا تخليا
وبالبقاء بعدي فلا تمليا ... إن الجديدين إذا ما استوليا
على جديد أدنياه للبلا
يا سائق الظعن عساك ترجع ... يا ديارا فرقت هل تجمع
لما أنادي والنوى لا يسمع ... ما كنت أدري والزمان مولع
بشت ملموم وتنكيث قوى
ابداني بالضعف بعد قوة ... دهر في رجائي رجوة
فهل فتي يسعد عن فتوة ... إن القضاء قاذفي في هوة
لا تستبل النفس من فيها هوى
لله أيام على الخيف خلت ... قد سالت النفس وعنها ما سكت
جهلت فيها غاية ما جهلت ... فإن عثرت بعدها وإن وألت
نفسي من هاتاً فقولا لالعا
لأنكصن جهلها مهولة ... فإن وصلت غاية مأمولة
عقدت من عروقها محلولة ... وإن تكن مدتها موصولة
بالحتف سلطت الأسى على الأسى
وإن حدا بمهجتي حادي الردى ... واقتاد مني مطلقاً مقيدا
ما خبرني مجرداً عن مبتدي ... إن امرئ القيس جرى إلى مدا
فاعتاقه حمامه دون المدى
هي المنون طالما هدّت القوى ... وأورثت داء وما أعطت دوا
أما هوى قبل تقابيل الهوى ... وخامرت بفس أبي الجبر الجوى
حتى حواه الحتف فيمن قد حوى
وحتف سمون أعاد شمسه ... كاسفة سود منها عرسه
حتى لقد غيبت عنها حسه ... وابن الأشج القيل ساق نفسه
إلى الردى حذار أشمات العدى
إن راح رأسي مفرداً عن جثتي ... أو مت عن قصد العلا بغصتي
قد قتلت عثمان شبه قتلتي ... واخترم الوضاح من دون التي
أملها سيف الحمام المنتضى
كذا فتى الخطاب جاء خاطباً ... فردا مغلوباً وكان غالبا
قضى عليه الدهر حتفاً واجبا ... فقد سما قبلي يزيد طالبا
شأو العلا فما وهي ولا ونى
وقام قبلي من عليه المعتمد ... أي الذي بحكمه حل العقد
يدعو إلى الحق بطرف ما رقد ... فاعترضت دون الذي رام وقد
جد به الجد اللهيم الأربي
لا غرو أن ساهمت سادتي الأولى ... في كل ما مر وإن كان خلا
ألست من بيت له يعزى الولا ... هل أنا بدع من عرانين علا
جار عليهم صرف الدهر واعتدى
فإن أحب سعياً يخطو يحتذي ... صبراً على النار فلست باللذي
كان يرى الموت بطرف قد قذى ... فإن أنالتني المقادير الذي
أكيده لم آل في رأب الثأي
ولا يلام الحظ في إدباره ... والضرب ما قصر من تثاره
إن قام فاستعلى لأخذ ثأره ... وقد سما عمرو إلى أوتاره
فاحتط منها كل عالي المستمى
فطاول الهول قصير وضمن ... الثأر أخذاً فوفى بمن ضمن
وساق خيراً فيه مر مكتمن ... فاستنزل الزباء قسراً وهي من
عقاب لوح الجو أعلى منتمى
ورب وعد ما ارتضت همته ... حتى دعت لنفسه أمرته
ولم يزل وانقضت مدته ... وسيف استعلت به همته
حتى رمى أبعد شأو المرتمى
وراح نهب المنى مسارعاً ... وهجرها قواضباً قواطعا
طافت كؤوساً قطفت مواقعاً ... فجرّع إلا حبوش سما ناقعا
واحتل من غمدان محراب الدمى
وابن الفتي الجعد غزت فرسانه ... هوازناً فانبسطت بنانه
وأدرجت في هودج أكفانه ... ثم ابن هند باشرت نيرانه
يوم أوارات تميماً بالصلا
لم يتعلق بالدنايا ذمتي ... ولم تدنس بالخطايا عصمتي
وفي ترقي كل عال رتبتي ... ما اعتن لي بأس يناجي همتي
إلا تحداه رجاء فاكتمي
من مبلغ مواردي بزمزم ... فإنني ضرح الحمى ودمي
يا سائقاً بمنجد ومتهم ... إليه باليعملات يرتمي
بها النجاء بين أجواز الفلا
ذكرت رمل الكثيب الأعفر ... فانجذبت مع سائق التذكر
تضرب في الرمل بتر مضمر ... خوص كأشباح الحنايا ضمّر
يرعفن بالأمشاج من جذب البرى
مورها من دمعها لا يرتحى ... حزناً وإن كان لقوم مزحا
سفائن البر ترآى سبّحاً ... يرسبن في بحر الدجى وبالضحى
يطفون في الآل إذا الآل طفا
مل أيها الحادي بها معرجاً ... للسهل أن الحزن ضاق منهجا
فقد سراها في الشجا ما قد شجا ... أخفافهن من حفاً ومن وجا
مرثومة تخضب مبيض الحصا
حدا بها الحادي لأرض النجف ... عيس جهلن العبر عن معرف
فابتدرت من غير ما توقف ... يحملن كل شاحب محقوقف
من طول تدآب الغدوّ والسرى
قد صافحت ترب الحمى أردانه ... وناح للبين فأختي بانه
ولم يفارق قلبه أشجانه ... برّ بري طول الطى جثمانه
فهو كقدح النبع محنى القرا
من الأولى ولي أرباب الولا ... حيا الحياء قتلاهم بكربلا
يتلو مديح نبيهم مزملاً ... ينوي اللتي فضلها رب العلا
لما دحا تربتها على البنى
راح لها يقطع أجواز الفلا ... مكبراً. بدلوها فهلهلا
مكفكف الدمع لها تجملاً ... حتى إذا قابلها استعبر لا
يملك دمع العين من حيث جرى
غني له الحادي بليلي سحرة ... فصيرته العبرات عبرة
لقد أصاب إذ رماها جمرة ... وأوجب الحج وثنّى عمرة
من بعد ما عج ولبّى ودعا
في موقف يجري به الدمع دماً ... أشكو الليالي عنده تظلما
كم واقف قابله مسلماً ... ثمت طاف وانثنى مستلما
ثمت جاء المروتين فسعى
دعاه داعي الحج من رب العلا ... فابتدر السعي لها مهر ولا
يا حسنه في الرمل جاء مزملاً ... ثمت راح في الملبين إلى
حيث تحجى المازمان ومنى
يميل إن هبت صبا يلفتا ... يستنشق المسك بها تعنتا
عجبت منه محرماً موقناً ... ثم أتى التعريف يقرو مخبتا
مواقفاً بين إلال فالنقا
مذ قربت من كان يخشى بعدها ... ادى صلاة الوصل يتلو حمدها
وتلك نعمى ليس يحصى عدها ... واستأنف السبع وسبعاً بعدها
والسعي ما بين العقاب والصوى
بات يراعيها بطرف ما رقد ... مقدماً في الهدى روحاً قد تقد
أو حل من إحرامه ما قد عقد ... وراح للتوديع فيمن راح قد
أحرز أجراً وقلى هجر اللغا
أقسم ولو أقسم بها مفرطاً ... ولم أخف من لي خرج تورطا
وجبريل معنا تحت الغطا ... بذاك أم بالخيل تعدو المرطى
ناشرة أكتادها قب الكلى
خيل إذا اشتاقت إلى المناهل ... أعرضن إلا عن دم المقاتل
صواهل بعنية صوائل ... يحملن كل شمّرى باسل
شهم الجنان خائض غمر الوغى
سوى لبان المجد يوماً ما اغتذى ... وفي طريق الحد بالحمد احتذى
في البأس والبأساً لا يشكو أذى ... يغشى صلا الموت بحديه إذا
كان لظى الموت كريه المصطلى
لا حكماً يرضي محكماً ... إلا حساماً هزه مصمما
يشق جدول بحر الدما ... لو مثل الحتف له قرناً لما
صدته عنه هيبة ولا انثنى
تبسم والأهوال تبكي فرجة ... وكلما ضاقت رآها فرجة
فلو أباحت لحامها فرجة ... ولو حمى المقدار عنه مهجة
لرامها ويستبيح ما حمى
صاح الدما........ سكره ... شاك على الطعن استحق شكره
رب حروب ما أعز نصره ... تغدو المنايا طائعات أمره
ترضي الذي يرضى وتأبى من أبى
أقسمت بالداعي قد ابتهل ... بفيئة سباقة على مهل
من كل من في الحرب شاب واكتهل ... بل قسماً بالشم من يعرب هل
لمقسم من بعد هذا منتهى
أمدحهم أهل العبا وكيف لا ... ولم أخف من مقول تقوّلا
قوم على المدح علوا تنزلاً ... هم الأولى إن فخروا قال العلا
بفي امرئ فاخركم عفر البرى
السادة الأبرار أعلام الهدى ... قبيلهم لم يرض بالدنيا فدا
قف باشراً ربعهم أو منشراً ... هم الأولى أجروا ينابيع الندى
هامية لمن عرا أو اعتفى
بحار علم حملوا الدنيا سخاً ... عليهم الدين بكاء مصرخا
أجبال حلم راسيات شمخاً ... هم الذين دوّخوا من انتخى
وقوّموا من صعر ومن صغا
هم الغيوث والزمان ماحل ... أبحر جود ما لها سواحل
مروا لمن عاد ومن وجلوا ... هم الذين جرعوا فما حلوا
أفاوق الضيم ممراة الحسا
اما وأسرار لها مكنونة ... سفن النجاة بالولا مشحونة
بل بسيوف منهم مسنونة ... أزال حشو نثرة موضونة
حتى أواري بين أثناء الحثي
يحلني مع المنى وأمنه ... واليل في سهل الرجا وحزنه
بناظر سل عذار جفنه ... وصاحبي صارم في متنه
مثل مدب النمل يعلو في الربا
سيف يشام البرق عند ندبه ... يأبى الدماء اكلي من كسبه
قرابه يشلو الحفي عن قربه ... كأن بين عيره وغربه
مفتأداً تأكلت فيه الجذى
في نهره ما يشب جمره ... أزرقه بالموت يجلو أحمره
يصل إذا سل فأندى فجره ... يرى المنون حين تقفو أثره
في ظلم الأكباد سبلاً لا ترى
إن صادرته هجمة صادرها ... أو بادرته صدفة بادرها
وكم له من وقعة بادرها ... إذا هوى في جثة غادرها
من بعد ما كانت خساً وهي زكا
ما أحمر إلا أبيض منه عرضه ... وأوجب المنون ندباً فرضه
عضب غدا يبسط باعاً قبضه ... ومشرف الأقطار خاط نحضه
حابي القصيري جرشع عرد النسا
مضمّر يتبعه سرب القطا ... إذا تنزى في طلب طوى الوطا
.........مع قرب الخطا ... قريب ما بين القطاة والمطا
بعيد ما بين القذال والصلا
لا عوج في الأصل راح ينتمي ... ويحتمي بالذابل المقوم
كان في لينه من صلدم ... سامي التليل في دسع مفعم
رحب اللبان في أمينات العجي
كأنه من ملك أوجنة ... يحتال من ربا الوغى في حنة
فديتها حوافر في حنة ... ركبن في حواشب مكتنة
إلى نسور مثل ملفوظ النوى
برهاب أوصاف له مقسومة ... عشر وخمس عدة مضمومة
ومع ثمان أربع مضمومة ... يدير إعليطين في ملمومة
إلى لموحين بألحاظ اللأى
قد ثبت القلب منيعاً صدره ... وصير الشرح رفيعاً قدره
وغادر النهج وسيعاً كسره ... مداخل الخلق رحيباً شجره
مخلولق الصهوة ممسود وأي
بمثله تدرك أسباب الرجى ... وينجلي ليل الخطوب إن دجا
من ركب الهوى به فقد نجا ... لا صكك يشينه ولا فجا
ولا دخيس واهن ولا شطا
كم يقصد أعجل من أناته ... وطائر أجمع من شتاته
إن طاب للحرب فهو عاداته ... يجري فتجري الريح في غاياته
حسرى تلوذ بجراثيم السحا
إن سمعت صهيله بيض الظبا ... تهتز في صليلها تطرّبا
ويطرف السمر له تهيباً ... تظنه وهو يرى محتجبا
عن العيون أن دأي أو أن ردى
يرد أطراف القنا بصدره ... ويلتقي حد الظبا بنحره
أعيده في كره وفرّه ... إذا اجتهدت نظراً في أثره
قلت سنا أومض لو برق حفا
يسير صفراً لما في مصاغه ... كانصل إذ يعمد في فراغه
فانظر إلى التحجيل في إسباغه ... كأنما الجوزاء في إرساغه
والنجم في جبهته إذا بدا
مضمّر بين الهزال والسمن ... كميت حسن في العيون قد كمن
وصارفي الإحسان أذخان الزمن ... هما عتادي الكافيان فقد من
أعددته فلينأ عني من نأى
ما زال سعي الدهر في مثوبة ... اما لبرء عادة منهوبة
أو لأقر الحق في معصوبة ... فإن سمعت برحى منصوبة
للحرب فاعلم أنني قطب الرحى
من غير فضل لم يكن تلفظي ... ولا بغير عصمة تحفظ
يا نائماً عن نصرتي تيقظ ... وإن رأيت نار موت تالتظى
فاعلم بأني مسعر ذلك الظى
يا صاحبي لا تخشى مني فترة ... والحرب قد متنت بقلبي جمرة
دعني فإما قتلته أو مرة ... خير النفوس الخابرات جهرا
على ظبات المرهفات والقنا
قل للذي فار قعلمي جهله ... ما هكذا الخيل يخبن خله
بنى النفاق قد أنجزتم نزله ... إن العراق لم أفارق اهله
عن شنآن صدني ولا قلى
وبالحجاز فتية راضعتهم ... واصلت أحزاني مذ قاطعتهم
لم يصبني الأقمار مذ شاهدتهم ... ولا اطبى عيني مذ فارقتهم
شيء يروق الطرف من هذا الورى
سرت وقلبي في ماهم ماسرى ... وما أرى عنهم أتاني مخبرا
قوم عليهم وقف دمعي قد جرى ... هو الشناخيب المنيفات الذرى
والناس ادحال سواهم وهوى
أبي الذي ناب الديار نأيها ... على أسبق له عليها
من يهدي الهدى مهديها ... هم الحروب زاخراديها
والناس ضحضاح ثعاب وأضى
ما خا با قط نائب بقصدهم ... بل آثروا بزادهم من زهدهم
فضلهم لم يحصى مثل عدهم ... إن كنت أبصرت لهم من بعدهم
شبهاً فأغضيت على وخز السفا
أبكى الحسين بل أخاه السيدا ... أفديهما وقل مثلي الفدا
ولا يد تمدني ولا مدا ... حاشا الميرين اللذين أوفدا
عليّ ظلاً من نعيم قد ضفا
الحسنان الطاهران استنزلا ... ذكرهما متصلاً ومجملا
أبغي الشهيد منهما بكربلا ... هما اللذان أثبتا لي أملا
قد وقف اليأس به على شفا
مدحهما وفّق من وفقه ... فكل من أسمعه صدقه
أسكرني ساق سقى ريقه ... تلا فيا العيش الذي رنّقه
صرف الزمان فاستساغ وصفا
كم طوفا فأنطقا مغردا ... يستعيد الألحان منه معبدا
وأوقفاني للثناء منشدا ... وأجريا ماء الحيالى رغدا
فاهتز غصني بعد ما كان ذوي
عليهما أثنى بطيب عاطر ... زاه غداً يصبى الصبا بزاهر
ما بين باد في الورى وحاضر ... هما اللذان سموا بناظر
من بعد إغضائي على لذع القذى
حبهما فرض أراه واجباً ... بغضهما صبّ أراه راضبا
حابيت في حبهما أقاربا ... هما اللذان عمّرا لي جانبا
من الرجاء كان قدماً قد عفا
إليهما عيس تعاجى لا ونت ... وعنهما بيض حجاجى لانبت
قد حركا لي ألسنا لا سكنت ... وقلداني منه لو قرنت
بشكر أهل الأرض عني ما وفى
ترى مؤونتي على قوم نزل ... في الذكر لا أسألكم أجراً وسل
تسمع بأنبائهم تشفي العلل ... بالعشر من معشارها وكان كل
حسوة في آديّ بحر قد طما
إن الحسين مدحه قد زانني ... من سواه ذكره قد رابني
فلم أقل الجد قول ما جن ... إن ابن ميكال الأمير انتاشني
من بعد ما قد كنت كالشي اللقا
والحسن السيد خوفي قد أمن ... منه بحب في الضمير مكتمن
إن قلت في التقصير للقولضمناً ... ومدّ ضبعي أبو العباس من
بعد انقباض الذرع والباع الوزى
إن الحسين والنقي الطهر الحسن ... إن لم أنافس فيهما يوماً فمن
هل بهما قيس يقاس أو يمن ... نفسي الفداء لأميريّ ومن
تحت السما لأميريّ الفدا
أصبح سحبان لديّ باقلاً ... إذ عنهما قمت خطيباً ناقلا
مفاضلاً أعد لهما مفاصلاً ... لا زال شكري لهما مواصلا
لفظي أو يعتاقني صرف المنى
أبكي الحسين فيهما وكيف لا ... وقد غدا مفضلاً مفصلا
لما ذكرت قتله بكربل ... إن الأولى فارقت من غير قلى
ما زاغ قلبي عنهم ولا هفا
ولم يكن كفوى من ناويته ... حتى يعاطى فضل ما أعطيته
ولا جهلت الحزم ما عاديته ... لكن لي عزماً إذا امتطيته
فمبهم الخطب فاآه فانفأي
لم أرى في غير المعاليمأرباً ... وللعوالي لم ازل محببا
أهوى عليه مقعداً مطببا ... ولو أشاء ضم قطريه الصبا
عليّ في ظل نعيم وغنى
كأنني حمامة حنّانة ... حامت على الدوح وقال حبّانة
لم يصبني غير العلى مكانة ... ولا عبتني غادة وهنّانة
تضني وفي ترشافها برء الضنى ...
حفت فلأعرف من بعلها ... واعتدلت حيث الصبا ميلها
وجملة الأمر الذي فصلها ... لو ناحت الأعصم لانحط لها
طوع القياد من شماريخ الذرا
يبعد ان يرقى المهابة بقى ... أحداقها تفرى دلاص الحلق
نبالها لا يتقيها متقي ... أو صابت القانت في مخلولق
مستصعب المسلك وعز المرتقى
مسلم نفس في يد حنينه ... راهب دير فان من كمينه
مستوحش كالليث في عرينه ... ألهاه عن تسبيحه ودينه
تأنيسها حتى تراه قد صبى
وخشية ألفه لعربها ... إذا حدا في الليل حادي ركبها
أسكرني وهل نسيم قربها ... كأنما الصهباء مقطوب بها
ماء جنى ورد إذا الليل عسا
يخالها النعمان أو شقيقها ... يا زيد أنعمت في حريقها
كالكأس تجلى في جلي رحيقها ... يمتاحها راشف برد ريقها
بين بياض الظلم منها واللمى
يا معجباً من دمع عيني مهملاً ... يذكر روضا بالحمى ومنهلا
ومنزلاً إلى العقيق قد خلا ... سقى العقيق فالحزيز فالملا
إلى النحيت فالقريان الدنا
ربع العلا أفقر من أربابه ... وسورة الفتح على أبوابه
ومبسم الأفواه الأمير يترابه ... فالمربد إلا على الذي تلقى به
مصارع الأسد بألحاظ المها
ربع على منزله بقربه ... وأشرقت أنواره بغربه
وقد زها نوارها بتربه ... محله كل مقرم سمت به
مآثر الآباء في فرع العلا
لئن زرد يوماً مقدماً فما رزوا
أكم خلق الله حوراً وحوز ... من الأولى جوهرهم إذا اعتزوا
من جوهر منه النبي المصطفى
فهم بحار العلم أو سفن النجا ... أطواد حلم لم يخب فيه الرجا
وثبت وحي لهداه الملتجى ... صلى عليه الله ما جنّ الدجى
وما جرت في فلك شمس الضحى
عين يزيل الغيم منها حاجباً ... فيشيم البرق العبور قاضبا
ويرسل الغيث لدمعي ساكباً ... جون أغارته الجنوب جانبا
منها وواصت صوبه يد الصبا
الشمس في غيوبه قد كورت ... والوحش من بريمه قد حشرت
ينظم وهرا كالنجوم انثرت ... نأي يمانياً فلما انتشرت
أحضانه وامتد كسراه غطا
صفا بها شاباً من الشوائب ... بكل لطف شابت الذوائب
ممدودة الأطناب في المضارب ... فجلل الأفق فكل جانب
منها كأن من قطريه المزن حبا
حار على السرح وما أعدله ... لما حمى السبل لما سبله
وأطفا النور بما أشعله ... إذا خبت بروقه عنّت له
ريح الصبا تشب منها ما خبا
قنطارة توسع في إغرابها ... فيبعد المحل من اقترابها
هذا مع الإسراع في إيابها ... وإن ونت رعوده حدابها
راعى الجنوب فحدت كما حدا
إن نثرت جواهر من سلكه ... وانحل عقد خيطه وفركه
هبت صبا تجمع شعل هتكه ... كان في أحضانه وبركه
بركاً تداعى بين سجر ووحى
طاهره يبدو لمن تأملاً ... ركب يوالي أولا فأولا
ولو تراه طالعاً يا ابن جلا ... لم تر كالمزن سوا ما بهلا
تحسبها مرعية وهي سدى
رأى حمولاً قد تأمن رفعة ... وأقبلت أنواره من دفعه
فاعرف البلدة نور هقعة ... فطبق الأرض فكل بقعة
منها تقول الغيث في هاتا ثوى
ما نافعي منها بفلك أو سقت ... من بعد قتلى الطف لطمت أو سقت
هل من سواء أنجزهم إن استقت ... تقول للأجراز لما استوسقت
بسوقه تسقي بريّ وحيا
فأخرج الحب به بعد الجبا ... وأطلق السبت ما ها للحبا
وفرق اللطف به كف الصبا ... فأوسع الأحداب سيبا محسبا
وطبق البطنان بالماء الروى
وطالما استخرجه من عيبه ... مستسقياً غمامه بسيبه
فأضحك العباس فضل شيبه ... كأنما البيداء غبّ صوبه
بحر طما تياره ثم سجا
إذا أناخ في الثرى بركبه ... اطلع تبراً زاهراً من تربه
يعرب في النادي بداً عن عربه ... ذاك الجدا لا زال مخصوصاً به
قوم هم للأرض غيث وجدا
سقتني الاخلاص منه درة ... وبالرضا قد حيلت لي قطرة
فلي على الصبر بذاك فطرة ... لست إذا ما بهظتني غمرة
ممن يقول بلغ السيل الزبى
كم وقفة للرمح فيها خطرة ... لم يجر فيها من دموعي قطرة
كفكفها وتلك نفس حرة ... وإن ثوت تحت ضلوعي زفرة
تملأ ما بين الرجا إلى الرجا
لمتها بعفتي تسترا ... أو يرجع المظهر منه مظهرا
وإن دهتني أزمة كما ترى ... نهنهتها مكظومة كما يرى
مخضوضعاً منها الذي كان طغى
لست وإن أرب حيا في كربة ... وأعوزتني لمساغي شربة
يخضع يوماً من تناهي هضبة ... ولا أقول إن عرتني نكبة
قول القنوط انقدّ في الحرب السلا
أنا الذي طود حياتي قد رسا ... فلا ألين للعدو إن قسا
ابسم والخطب يرى معبساً ... قد مارست مني الخطوب مارسا
يساور الهول إذا الهول عسا
واعتدلت أفعال بطشي في القوى ... وصح ميزاني فخلاني سوا
فلا أميل لهواء وهوى ... لي التواء إن معادي التوى
ولي استواء إن موالي استوى
خلائق قد جبلت طهارة ... خذ عن عبير عيرها عبارة
في الذي يخشى ويرجى عارة ... طمعي شريّ للعدو تارة
والأري والراح لمن ودي ابتغى
ساءني الأضداد في تألفي ... أبدع في تركيبها مؤلفي
تنكرا ضمّ إلى تعرفي ... لدن اذ لوينت سهل معطفي
ألوى إذا خوشنت مرهوب الشدا
لم يتقلقل الرزايا ربتي ... ولا دنت طوع لدينا همتي
وكل فضل راسخ من فضلتي ... يعتصم الحلم بجنبي حبوتي
إذا رياح الطيش طارت بالحبي
شيطان دنياي لا يوسوس ... وباطني كظاهري مقدس
عفة طهر حرها لا تنجس ... لا يطبئني طمع مدنس
إذا استمال طمع أو اطبى
إن شرفت فلم يشنع شاربي ... إذا شرقت من الدماء معاربي
فطا لما أدنى المنى مآربي ... وقد علت بي رتبا تجاربي
أشفين بي منها على سبل النهى
صفوت أخلاقاً فذا ... معوداً من صغري معوذا
من كل ما يخشى الفتى إلا إذا ... إن امرؤ خيف لافراط الأذى
لم يخش مني نزق ولا أذى
سجية في غير دأبي لم يكن ... إن خانني دهر ظلوم لم أخن
أو هزّ خل..حقاً أحن ... من غير ما وهن ولكني امرؤ
أصون عرضاً لم يدنسه الطخا
كم ليلة بت بها أحمي الحما ... أرعى بها نجمي سنان وسما
صوناً وبذلاً لدمي أو دما ... وصون عرض المرء أن يبذل ما
ضنّ به مما حواه وانتصى
إن أسمعت قوس الرزايا رنّه ... وأرسلت رسماً أصاب مجنّه
تلقه بالشكر تلق منّه ... والحمد خير ما اتخذت جنه
وأنفس الاذخار من بعد التقى
إن قعدت في كبوة من زمني ... وقام في العلياء منكوس دني
خلف الدنيا بالميل الدون مني ... وكل قرن ناجم في زمن
فهو شبيه زمن فيه بدا
لم تبد لي من مبسم بوارق ... إلا انجلت لي تحتها بوائق
يعرفها من هو مثلي ذائق ... والناس كالنبت فمنهم رائق
غض نضير عوده مرّ الجني
وكلما نجني على طرف الفطن ... بظاهر ببطن سرا؟ً مكتمن
فمنه ما بان بمعنى لم يبن ... ومنه ما تقتحم العين فإن
ذقت جناه انساغ عذباً في اللها
رمى الذي أكفيت في طعانه ... قد كفت الأيام من سنانه
فليت لي عوداً إلى إبانه ... يقوم الشارخ من زيغانه
فيبستوي ما انعاج منه وانحنى
هيهات إن يرجعه لهيفه ... يبعثه على الدماء وبيغه
وهو عليه قد قضى نبيغه ... والشيخ إن قومته من زيغه
لم يقم التثقيف منه ما التوى
قد كان والنصر به يحفه ... يشقى دماء فيميل عطفه
أعطشه الدهر وهان قصفه ... كذلك الغصن يصير عطفه
لدناً شديد غمزه إذا عسا
هو الذي أطمع حلماً خصمه ... حتى استباح السيف ظلماً قسمه
لو حارب القوم يبوء سلمه ... من أظلم الناس تحاموا ظلمه
وعزّ منهم جانباه واحتمى
هذا الزمان لا يرى ناجبه ... أو ليحيل للادى واجبه
وكلما أسند انتهى عاصبه ... وهم لمن لان لهم جانبه
أظلم من حيات أنباث السفا
ان اسمعوا داعي الهدى لم يسمعوا ... وحركوا إلى الضلال أزمعوا
لهم على العين عيون تدمع ... عبيد ذي المال وإن لم يطمعوا
من غمره في جرعة تشفي الصدى
لا يغترر منهم بوجه قد دهن ... ما نفاف من نفاق قد حزن
ما حبهم إلا لمهزول سمن ... وهم لمن أملق أعداء وإن
شاركهم فيما أفاد وحوى
خالطت أرباب العصور والدمن ... وذقت من حال هزال وسمن
فما ثنى عن ناب الزمن ... عاجمت أيامي وما الغر كمن
تأزد الدهر عليه واعتدى
على الحظوظ فليكن معولاً ... وبعد ها كن معزلاً او معولا
من سلبت حطت ومن أعطت علا ... لا ينفع اللب بلا جد ولا
يحطك الجهل إذا الجد علا
كم ساقط علمت به إعلامه ... ولم تزل في الوغى أقدامه
وسائق آجره أقدامه ... من لم تفده عبراً أيامه
كان العمى أولى به من الهدى
وفي الليالي عبر فاعجب لما ... يأتي به في الأرض عن رب السما
ما فيه شك والمقال قلّما ... من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما
راح به الواعظ يوماً أو غدا
ما زال مني دانياً من انثنى ... يخطو فكر كلما شاء شأي
وطرف رأي في العيون لا رأى ... من قاس ما لم يره بما رأى
أراه ما يدنو إليه ما نأى
فأعتق فديت النفس من رق الأمل ... وحيّ في الزهد على خير العمل
وأقنع من المهل وتاب لعل ... من ملك الحرص القياد لم يزل
يكرع في ماء من الذل سرى
لي نفس حر الدنايا ما دنت ... وهمة على العلا قد أمنت
من أجلها عين الجنان لي عنت ... من عارض الأطماع باليأس رنت
إليه عين العز من حيث ما رنا
وكم لطمت الخيل في شدوهها ... فصدمه عراء في وجوهها
والحرب لم تعقل على معتوهها ... من عطف النفس على مكروهها
كلان الغنى قرينه حيث انتوى
عذر جوادي ما انتهى عن كرّه ... حتى التقى حد الظبا بنحره
وآل بعد مدة لحرزه ... من لم يقف عند انتهاء قدره
تقاصرت عنه فسيحات الخطا
السهم إن أطلقه من حبسه ... قوس شعيف النبض عند خبسه
أخطأ راميه مكان حدسه ... من ضيع الحزم جنى لنفسه
ندامة الذع من سفع الذكا
لم يحبس العنان في رباقه ... إلا الذي أطلق من وثاقه
فأسرع الإعداء في إلحاقه ... من ناط بالعجب عرى أخلاقه
نيطت عرى المقت إلى تلك العرى
إن قصر الخطى في خطواته ... فلم يكد يخرج عن خطته
فطالما بالغ في رفعته ... من طال فوق منتهى بسطته
أعجزه نيل الدني بله القصا
وصارم قلل منه توقه ... لمورد من الوريد ذوقه
فلم ينل منه دروع شوقه ... من رام ما يعجز عنه طوقه
ملعبء يوماً آض مجزول المطا
لما تجلى ساعد المساعد ... ولم أجد لي صلة من عائد
لقيت وحدي جمعهم عوائدي ... والناس ألف منهم كواحد
وواحد كالألف إن أمر عني
نفس ترد غلانه لا سلمت ... في بذلها صون لها لو علمت
ستجمع الحمد إذا ما اقتسمت ... وللفتى من ماله ما قدمت
يداه قبل موته لا ما اقتنى
ولي سنان في الجلاد لسن ... كما لساني في الجدال ألسن
كلاهما تكليمه مستحسن ... وإنما المرء حديث حسن
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
قل للذي أيقظن حرى ورقد ... فلا انطفا من حقده ما قد رقد
ولا أحذر الموت أحال أو فقد ... إني حلبت الدهر شطريه فقد
أمرّ لي حيناً وأحياناً حلا
نشطت للحرب فسلى عن العقل ... وقمت فيها مستخفاً ما ثقل
وبالقرار فأولت فلم أقل ... وفرّ عن تجربة نابي فقل
في بازل راض الخطوب وامتطى
إن أصولاً الأمير يالتراب غرسهم ... عرائس يوم الممات عرسهم
سل عنهم الأقران هل يجسّهم ... والناس للموت خلا يلسّهم
وقلّما يبقى على اللّس الخل
يا من غدا في حربنا ثم اعتدى ... ما قد لقينا اليوم نلقاه غدا
أفق لما أنشأ الزمان منشدا ... عجبت من مستيقن إن الردى
إذا أتاه لا يداوي بالرقى
وذاهل عن سير مرويّة ... مفصحة عن عبر علوية
يوقع في أنشوطة ملويّة ... وهو من الغفلة في أهويّة
كخابط بين ظلام وعشا
ومعشر بعدي بكوا تندماً ... ظنوا أن يرووا إذا متّ ظما
حلواً فأجروا مثلاً تلوّما ... نحن ولا كفران لله كما
قد قيل للسارب أخلى فارتعي
والثابت الأروع والقلب الفطن ... من عثرات ما يخاف قد أمن
والحائر الجأش الذي إذا امتحن ... إذا أحسّ نبأة ريع وإن
تطامنت عنه تمادى ولها
إنا وإن تقللت جموعنا ... ومزقت يوم اللقاء دروعنا
..... ... نهال للمسير الذي يروعنا
ونرتعي في غفلة إذا انقضى
وإن قضيت والقضاء لا يدفع ... فلي بجنات النعيم موضع
وقاتلي في قعر الجحيم موضّع ... إن الشقاء بالشقي مولع
لا يملك الردّ له إذا أتى
مع الكرام تصنع الصنائع ... وللملام عندهم مسامع
وفي اللئام ما غرست ضائع ... واللوم للحرّ مقيم رادع
والعبد لا يردعه إلا العصا
ما خاب سعياً في الرجا من عقلا ... ولم يزل بالعقل نجحا معقلا
ومن علا بالجهل يوماً سفلا ... وآفة العقل الهوى فمن علا
على هواه عقله فقد نجا
لي خلق زكية أعراقه ... راق لمن قد شمنى مذاقه
تجمع لي فاروقه فراقه ... كم من أخ مسخوطة أخلاقه
أصفيته الود لخلق مرتضى
وصاحب بعد الولا تململا ... وصارم بعد الوفا تقلقلا
حفظت للثاني الزمان والأولا ... إذا بلوت السيف محموداً فلا
تذممه يوماً تراه قد نبا
ولئن أصاب الدهر مني صلدما ... فعاد بالى ثراه مقدما
وطال ما حليتها وقلما ... والطرف يجتاز المدى وربما
عنّ لمعداه عثار فكبا
اسمع أخي نصح قد غذى ... من فاطم صفو رضاع ما قذى
قائل بفضل المديح وااللفظ البذى ... من لك بالمهذب الندب الذي
لا يجد العيب إليه مختطى
وإن عصيت الحق مع خلّ ظلم ... كما اقتضى العلم وأجراه القلم
صفحاً فذو النقص بفضل لم يلم ... إذا تصفحت أمور الناس لم
تلف امرءاً حاز الكمال فاكتفى
وابك على ربع من الأهل خلا ... مطلع بدر صار بعدي منزلا
وناد في النادي به تمثلا ... إن نجوم المجد أمست افلا
وظله القالص أضحى قد أزى
ربع العلا والفضل والتكرم ... يبكي له الركن بدمع زمزم
ما فيه للسائر المسلم ... إلا بقايا من الناس بهم
إلى سبيل المكرمات يقتدى
أرى النسيم يعتل في حماهم ... وغار في الروض على خلاهم
كأنما هواهم لهواهم ... إذا للأحاديث انتضت أنباهم
كانت كنشر الروض غاداه السدى
أبكي لشمل منهم مشتتاً ... وغنه المسك غدا مفتتا
من لي بطيب راح قد أتى ... ما أنعم العيشة لو أن الفتى
يقبل منه الموت أسناء الرشا
ولم يزل يجلو الليالي بدره ... ولم يخف من بعد وصل هجره
فكان يقضي في نشاط دهره ... أو لو تحلى بالشباب عمره
لم يستلبه الشيب هاتيك الحلى
ترى لأيام الشباب مرجع ... أم في البقا مع داء المصاب مطمع
أم لي خلع منهما تخلع ... هيهات مهما تشعبه يسترجع
وفي خطوب الدهر للناس أسى
وليلة كنت بها نجم السرى ... وكان فيها النصل سنخاً مسفرا
أيقظت طرفاً بات عنه مبصراً ... وفتية سامرهم طيف الكرى
فسامروا النوم وهم غيد الطلى
والسير يطوى ويمد عركه ... وهنا وخيط الصبح وقت فركه
وستره ما حان بعد هتكه ... والليل ماق بالموامى بركه
والعيس ينبثن أفاحيص القطا
أهدت لعيني طيف ليلى هدأة ... حفت لها على الجفون وطأة
سرى فعادت من هيامى ندأة ... بحيث لا تهدى لسمع نبأة
إلا نئيم البوم أو صوت الصدى
وصحبتي من كل من تنبذا ... خمراً حلا لا من نعاس وشذا
قد أخذ النوم عليهم مأخذاً ... شايعتهم على السرى حتى إذا
مالت أداة الرحل بالجبس الدوى
مالت بهم تعريسه بحبها ... من هون البعد عليه قربها
فعند ما راق إليهم سربها ... قلت لهم إن الهوينا غبّها
وهن فجدّوا تحمد واغب السرى
إذا الرجا سالت بهم بطحاؤه ... في مهمه أسنة حصباؤه
إنسه مع الضنا ضناؤه ... وموحش الأرجاء طام ماؤه
مد عثر الآعضاد مهزوم الجبا
لا يتأتى وارد لمائه ... في الأرض ما لم يأت من سمائه
أما ترى الطير من ارتمائه ... كأنما الريش على أرجائه
زرق نصال أرهفت لتمتهى
يستهول الخائض فيه هوله ... حيث الصدى فيه يعيد قوله
ويومه يحسب طولاً حوله ... وردته والذئب يعوي حوله
مستك سمّ السمع من طول الطوى