كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني
وأما الأمير عماد الدين فكان السلطان صلاح الدين أقطعه معظم خبز والده بعد وفاته وبقي إلى سنة ست عشرة وستمائة فاتفق مع الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل على الملك الكامل واستحلف جماعة من العسكر وكان مطاعاً فيهم وعرف الملك الكامل فرحل إلى أشمون وعزم على التوجه إلى اليمن ويئس من البلاد واطلع على ذلك الملك المعظم فقال له لا بأس عليك وركب آخر النهار وجاء إلى خيمة ابن المشطوب وقال قولوا لعماد الدين يركب حتى نسير فأخبروه فخرج من الخيمة بغير صباغات وركب ولحق الملك المعظم فأبعد به عن العسكر وقال له الملك الأشرف قد طلبك وهو محتاج إليك فتسير إليه الساعة فقال ما في رجلي صباغات فقلع الملك المعظم صباغاته وأعطاه إياها ووكل به جماعة وأعطاه خمس مائة دينار وقال كل مالك يلحقك والله ما يضيع لك خيط واحد وسار به الموكلون ورجع الملك المعظم إلى خيمته فوقف حتى جهز خيله وغلمانه وثقله ولم يبق له خيطاً واحداً وساروا خلفه وعاد الملك المعظم إلى دهليزه فحضر إليه الملك الكامل وقبل رجله وشكره على ما فعل، وأما عماد الدين فوصل إلى حماة فأقام بها فبعث له الملك الأشرف منشوراً بأرجيش وغيرها وسير إليه الخلع والإنعام فسار إليه فأكرمه وأحسن إليه فصار يركب بالشبابة ويعمل في السلطنة أعظم مما يعمل الملك الأشرف ثم خامر على الملك الأشرف وعاث في بلاده وساعده صاحب ماردين ثم اتفق الملك الشرف وصاحب ماردين واصطلحا فدخل عماد الدين تل أعفر فسار إليه فارس الدين بن صبرة من نصيبين وبد الدين لؤلؤ من الموصل فحصراه وأنزله بدر الدين لؤلؤ بالأمان وحمله إلى الموصل ثم بعد مدة قريبة قيده وحمله إلى الملك الأشرف فألقاه في الجب وبقي فيه إلى أن مات رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة بحران ونبت له ابنته قبة على باب مدينة رأس عين ونقلته من حران إليها ودفنته بها رحمه الله، وكانت ولادته في سنة خمس وسبعين وخمسمائة تقديراً ولما كان في السجن كتب بعض من كان متعلقاً بخدمته إلى الملك الأشرف دوبيت وهو.
يا من بدوام سعده دار الفلك ... ما أنت من الملوك بل أنت ملك
مملوكك ابن المشطوب في السجن هلك ... أطلقه فإن الأمر لله ولك
ولما كان في السجن كتب إليه بعض الأدباء:
يا أحمد ما زلت عماد للدين ... يا أشجع من أمسك رمحاً بيمين
لا تيأسن أن جعلت في سجنهم ... ها يوسف قد أقام في السجن بضع سنين
وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات.
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والأفك
قام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وقد رثي الأمير جمال الدين أبو الطيب خشترين بن تليل الحكمي الأميرين المشار إليهما عماد الدين وحسام الدين رحمهما الله بقصيدة طويلة مطلعها:
نعى الناعي فاعلن في النحيب ... ففت كبود شبان وشيب
نعى عيسى وأحمد فاستهلت ... غريبات الدموع من الغروب
نعى كسرى الملوك بكل أرض ... وقيصر في الجلالة والمهيب
نعى قس بن ساعدة الأيادي ... وقيس الرأي في دفع الكروب
من أبيات طويلة، وهذا الشاعر هو خشترين بن تليل بن أبي الهيجاء ابن أفشين بن خشترين الكردي الحكمي الأربلي من بني مروان بن الحكم ولد بمصر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وتوفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع عشرة وستمائة بإربل وتخرج على المهذب سالم بن سعادة الحمصي، وله أشعار حسنة، فمنها قصيدة مدح بها نسيبه الأمير حسام الدين عيسى بن خشترين:
شاقني بالغوير ربع يباب ... ظعنت عنه زينب والرباب
منزل طالما سقاه سحاب ... من جفوني إن ضن عنه السحاب
وغدا في ربوعه كل يوم ... للغوادي وللدموع انسكاب
شمرت نحوه الخطوب فأضحى ... لذيول السحاب فيه انسحاب
ولعهدي به وفيه شموس ... مشرقات أفلاكهن القباب
كل مرتجة الروادفقد رف عليها الصباوراق الشباب
لست أدري وقد رشفت لماها ... أمدام بثغرها أم رضاب
وشقيق زها على وجنتيها ... عند وقت العتاب أم عناب
أظهرت ساعة السلام بنانا ... قد نمى من دمي عليه الخضاب
حجبوها وما دروا أن من أسياف أجفانها عليها حجاب
فلم ذا أعلل القلب منها ... بغرور الوعود وهي سراب
بعد أن حط باز شيب عذاري ... في ربوع الصبا وطار الغراب
وإذا أول الشبيبة أخطأ ... فبعيد على الأخير الصواب
لا زمان الشباب يبقى على العهد مقيماً ولا الحسان الكعاب
وإذا جارت النوائب وامتد لدهري إلى ظفر وناب
؟حسم النائبات عني حسام حكمي له القلوب قراب من أيبات، وله من جملة قصيدة:
خليلي إن العيش في الدهر عارة ... فناهبه الدهر الذي هو ناهبه
وبادر إلى يوم ترن قيانه ... فلا بد من يوم ترن نوادبه
وقال من أبيات:
ضحكت ثغور البيض لما إن بكت ... حدق السوابغ بالنجيع القاني
أبداً تريك من الأسنة ألسناً ... تتلو عليك مقاتل الفرسان
؟؟
السنة الثانية والستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله وملوك الطوائف على القاعدة المستقرة في السنة الخالية خلا الملك الصالح ركن الدين إسماعيل صاحب الموصل فإن التتر قتلوه واستولوا على الموصل.
متجددات السنةفي أولها انتهت عمارة المدرسة الظاهرية التي بين القصرين بالقاهرة ورتب في تدريس الإيوان القبلي القاضي تقي الدين محمد بن الحسين ابن رزين الشافعي وفي تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضي مجد الدين عبد الرحمن ابن العديم والشيخ شرف الدين الدمياطي لتدريس الحديث في الإيوان الشرقي والمقرئ كمال الدين المحلى في الإيوان الذي يقابله لإقراء القرآن بالروايات والطرق ورتب جماعة يقرؤون السبع بهذا الإيوان أيضاً بعد صلاة الصبح ووقف بها خزانة كتب وبنى إلى جانبها مكتباً لتعليم الأيتام وأجرى عليهم الخبز في كل يوم وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطهارة وجلس للتدريس بهذه المدرسة يوم الأحد سادس عشر صفر وحضر الصاحب بهاء الدين بن حنا والأمر جمال الدين بن يغمور والأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وغيرهم.
وفي صفر لما توفي الملك الأشرف صاحب حمص تسلم الأمير بدر الدين بيليك العلائي حمص عشية الاثنين رابع عشرة ثم وصل بعد يومين بدر الدين يونس بن دلدرم الياروقي متولياً لها ومعه كمال الدين إبراهيم بن شيث وللرحبة وكان بها علاء الدين على الكرجاوي وتدمر سلمت بعد شهرين من وفاة الملك الأشرف.
وفي صفر فوض الملك الظاهر قضاء القضاة بحلب وأعمالها إلى القاضي كمال الدين بن الأستاذ علي ما كان عليه فتوجه من القاهرة يوم الجمعة السابع والعشرين منه ولم يطل مقامه بحلب وتوفي رحمه الله. وفيها سمر جماعة من المعربين بالقاهرة فتكوا في المسلمين، ومما جرى لهم أنهم طلبوا طبيباً حسن الملبس فقتلوه فلما سمر أحدهم للنجار أرفق بي فإني مريض فقال له النجار فآتيك بطبيب آخر.
وفي يوم الثلاثاء العشرين من ربيع الآخر جاءت بالقاهرة زلزلة عظيمة جداً.
وفيها استدعى الملك الظاهر لعلاء الدين أيدكين الشهابي إليه وأمره أن يرتب الأمير نور الدين علي بن مجلى نائباً عنه في حلب فلما وصل علاء الدين إلى القاهرة عزله وأقر ابن مجلى في نيابة السلطنة فأحسن السيرة وعمر البلاد ورفق بالرعية وأفرد الخاص على ما كان عليه في الأيام الناصرية.
وفيها أمر الملك الظاهر بإنشاء خان بالقدس الشريف لابن السبيل وفوض بناءه ونظره إلى جمال الدين محمد بن نهار ونقل إليه من القاهرة باباً كان على دهليز بعض قصور الخلفاء ولم تم أوقف عليه قيراطاً ونصفاً بالطرة وثلث وربع قرية المشيرفة من بلد بصري ونصف قرية لفيا من أعمال القدس يصرف ربع ذلك في خبز وفلوس وإصلاح نعال من يرد عليه من المسافرين وبنى به طاحوناً وفرناً.
وفيها اشتد الغلاء بمصر وأعمالها فبلغ الأردب القمح مائة وخمسة دراهم نقرة والشعير وسبعين درهماً وثلاثة أرطال خبز بالمصري بدرهم نقرة ورطل اللحم بالمصري وهو مائة وأربعة وأربعون درهماً بدرهم وثلث نقرة ففرق الملك الظاهر الصعاليك على الأغنياء والأمراء وألزمهم بإطعامهم وفرق من شونة القمح على أرباب الزوايا ورتب أن يفرق كل يوم في الفقراء مائة أردب مخبوزة بجامع ابن طولون ودام ذلك إلى أن دخلت الغلال الجديدة في شهر رمضان وبيع القمح بالإسكندرية الأردب بثلاثمائة وعشرين درهماً ورقاً وانحط في يوم واحد إلى أربعين درهماً ورقاً.
وفيها أحضر إلى بين يدي الملك الظاهر طفل ميت له رأسان وأربع أعين وأربع أيد وأربع أرجل فأمر بدفنه.
وفي آخر هذه السنة قتل الزين سليمان الحافظي وسنذكره إن شاء الله تعالى.
؟
فصل
وفيها توفي أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو العباس كمال الدين الأسدي الحلبي الشافعي المعروف بابن الأستاذ قاضي القضاة بحلب وأعمالها مولده ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وستمائة سمع من أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي ومن جماعة كثيرة غيره وحدث ودرس وولى الحكم بحلب وأعمالها سنة ثمان وثلاثين وستمائة وهو في عنفوان شبابه فحمدت سيرته وشكرت طريقته كان سديد الإحكام وله المكانة العظيمة عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وسائر أرباب الدولة وكلمته نافذة وحرمته وافرة ومكارمه مشهورة ومناقبه مذكورة ولم يزل على ذلك حتى تملك التتر حلب وقلعتها في سنة ثمان وخمسين ومن الله تعالى بكسرهم في رمضان من السنة المذكورة، وكان قاضي القضاة كمال الدين قد نكب وأصيب بأهله وماله بولده فقدم الديار المصرية ودرس بالمدرسة المعزية بمصر وبالمدرسة الكهارية بالقاهرة وأقام على ذلك إلى أول هذه السنة ففوض إليه الحكم بحلب على عادته فحمله حب الوطن على إجابة فعاد إلى حلب وأقام بها مدة أشهر وتوفي بها في نصف شوال ودفن من الغد رحمه الله، وكان رئيساً جليلاً عظيم المقدار جواداً سمحاً ديناً تقياً نقياً حسن الاعتقاد بالفقراء والصالحين كثير المحبة لهم والميل إليهم والبر لهم والإيمان بكراماتهم لا ينكر ما يحكى عنهم مما يخرق العادات وكان أحد المشايخ الإجلاء المشهورين بالفضل والدين وحسن الطريقة ولين الجانب وكثرة التواضع وجمال الشكل وحلاوة المنطق حضر إلى زيارة والدي رحمه الله ببعلبك فترجل عن بغلته من أول الدرب، ولما دخل الدار قعد بين يدي واليد متأدباً إلى الطرف الأقصى ولم يستند إلى الحائط وسمع عليه شيئاً من الحديث النبوي، وكان من حسنات الدولة الناصرية بل من محاسن الدهر وهو من بيت معروف بالعلم والدين والحديث، وأبوه القاضي زين الدين أبو محمد عبد الله تولى القضاء بحلب وأعمالها مدة وسمع من غير واحد وحدث وكان من العملاء الفضلاء الصدور الرؤساء، وجده عبد الرحمن أحد المشايخ المعروفين بالزهد والدين رحمهم الله تعالى وبيتهم أحد البيوت المشهورة في حلب بالسنة والجماعة.أحمد بن محمد بن صابر بن محمد بن صابر بن منذر أبو العباس ضياء الدين القيسي المالقي مولده في المحرم سنة خمس وعشرين وستمائة، وتوفي يوم الخميس ثامن شعبان ودفن يوم موته بالقرافة، وكان إماماً عالماً فاضلاً رحمه الله.
سليمان بن المؤيد بن عامر زين الدين العقرباني المعروف بالحافظي قد ذكرنا فيما تقدم طرفاً يسيراً من خبره وتوجهه إلى التتر وأقامته عندهم، فلما كان في أواخر هذه السنة أحضره هولاكو إلى بين يديه وقال له ما معناه أنت قد ثبت عندي خيانتك وتلاعبك بالدول فإنك خدمت صاحب بعلبك طبيباً فخنته واتفقت مع غلمانه على قتله حتى قتل، ثم انتقلت إلى خدمة الملك الحافظ الذي عرفت به فلم تلبث أن خنته وباطنت عليه الملك الناصر حتى أخرجت قلعة جعبر من يده ثم انتقلت إلى خدمة الملك الناصر ففعل معك من الخير ما فعل فخنته معي حتى جرى عليه ما جرى ثم انتقلت إلي فأحسنت إليك إحساناً لم يخطر ببالك فأخذت تكافيني بالأفعال الردية وتعاملني بما كانت تعامل به الملك الناصر وشرعت في مكاتبة صاحب مصر فأنت معي في الظاهر خارجاً عني في الباطن وعدد له ذنوباً كثيرة من خيانته في الأموال التي كان سيرها لاستجبابها من البلاد ثم أمر بقتله وقتل إخوته وأولاده وأقاربه ومن يلوذ به، فكان مجموعهم نحو الخمسين نفراً ضربت أعناقهم صبراً ولم ينج منهم إلا ولده مجير الدين محمد وولد لأخيه شهاب الدين اختفيا في السوق.
فمن الأسباب المؤكدة لقتله أن الملك الظاهر استدعى أخاه العماد أحمد المعروف بالأشتر من دمشق إلى الديار المصرية وعوقه أياماً ثم أفرج عنه وأنعم عليه وقرر له في الشهر خمسمائة درهم ورتب له خبزاً ولحماً وغير ذلك وأمره أن يكتب إلى أخيه المذكور كتاباً يعرفه فيه نية الملك الظاهر له وشكره منه ونه يعرفه أن ما له ذنب وأنه برئ مما نسب إليه وأن الملك الظاهر عالم بأن مقامه عند التتر على غير اختيار منه بل خوفاً لما شاع عنه ويضمن له عنه أنه متى وافق الملك الظاهر على ما في نفسه من المواطأة على التتر فله ما يقترحه من الإقطاع ويكون بعد ذلك على حسب اختياره في التوجه إلينا والإقامة عند هولاكو فكتب إليه فلما وصلته الكتب حملها إلى هولاكو وقال هل أن صاحب مصر إنما يكتب إلي بمثل هذا النقع ليقع في يديك فيكون سبباً لقتلي وقد عزمت أن أكاتب أعيان دولته ورعيته بمثل ما كاتبني لأكيده كما كادني فلم ير هولاكو ذلك صواباً فعاوده مراراً فأذن له فكتب كتباً لجماعة فوقعت في يد الملك الظاهر فعلم أنها مكيدة فكتب إليه يشكره على عرض الكتب على هولاكو واستصوب رأيه في ذلك لنزول التهمة عنه وبعث هذه الكتب مع قصاد وقرر معهم إذا وصولا شاطئ جزيرة ابن عمر يتجردون من ثيابهم على أنهم يسبحون ويختالون في إخفاء أنفسهم ليظن أنهم غرقوا وتكون الكتب ففي ثيابهم ففعلوا ذلك ورأى نواب التتر فأخذوها فوجدوا فيها الكتب فحملت إلى هولاكو فوقف عليها وأسرها في نفسه وأضمر قتله.
والسبب الآخر أن هولاكو كان سيره لكشف الموصل وأعمالها وماردين والجزيرة وكان نائب هولاكو بالموصل شمس الدين الباعشيقي فدفع للحافظي ستة عشر ألف دينار رشوة لترك محاققته والكشف عنه وكذلك اعتمد نواب الجزيرة وماردين وديار بكر كلها، وكان الزكي الإربلي مقيماً بالموصل وعلم بما أخذه من الرشا فتوجه إلى هولاكو ورفع إليه وعلى الباعشيقي فعقد لهم مجلساً فظهر صدق الإربلي فقتل الباعشيقي وزادت هذه الحالة هولاكو الإغراء بقتل الحافظي فقتله ومن معه كما تقدم ومخازي الحافظي وخياناته على الإسلام أكثر من أن تحصر منها إغراء التتر بالمسلمين وتطميعهم في بلادهم وممالكهم بحيث أن كل دم سفكوه في الشام هو شريكهم فيه، ولما توجه الملك العزيز ابن الملك الناصر إلى هولاكو في أواخر سنة خمس وخمسين انفرد الحافظي بهولاكو وقال له من جملة ما قال بعد أن أخذت بغداد، بغداد قد أخذتها والشام بلا ملك ومتى قصدته أخذته وأنا المساعد فيه فإن أكثر من بدمشق أهلي وأقاربي فأعطاه هولاكو سكاكيناً وقال متى جاءني أحد ومعه من الهدية لهولاكو شيئاً كثيراً وأخذ يغلغا للصالح إسماعيل ابن صاحب حمص بحمص، وكذلك لأمير حاجب وللوجيه ابن سويد ولغيرهم.
وقرر مع الملك الناصر أن هولاكو قال له أن وصل الملك الصالح إلى أبقيت عليه بلاده وإن تعذر وصوله خوفاً من عسكره فليهرب بني يدي إلى أن يتفرق عسكره ويعود فإني أبقى عليه بلاده، فلما أخذت حلب وخرج الملك الناصر من دمشق لم يصحبه الحافظي فبعث إليه يطلبه فلم يجب فسير وراءه الأمير سابق الدين بيبرس أمير مجلس ومعه عسكر لإخراجه فغلق أبواب البلد وعصى فيه ورحل الملك الناصر على ما تقدم شرحه وتفرقت جموعه فكتب إليه الحافظي إن الذي قررته معك أنا بلق عليه ومتى عدت عادت البلاد إليك وقصده بذلك إيقاعه في يد التتر، فلما عاد الملك الناصر إلى دمشق سير إليه من استدعاه فقال لرسوله قل له ما اقدر أحضر عندك فإني كنت بالأمس غلامك وأنا اليوم غلام هولاكو وأنت عدوه.
ولما خرج الملك الناصر من دمشق أولاً واستولى عليها الحافظي قصد القلعة فامتنع وإليها بدر الدين محمد بن قزلجا ونقيبها جمال الدين محمد بن الصيرفي من تسليمها إليه وكذلك امتنع الشجاع إبراهيم والي قلعة بعلبك من تسليمها إليه ولم يزالوا كذلك إلى أن وصل كتبغا بالعساكر فتحققوا العجز بعد أن قاتلوه فضمن لهم كتبغا سلامتهم وسلامة من بالقلعتين من المسلمين وأموالهم أن سلموا فسلموا وأمنهم ووفي لهم بالأمان، فحملت الحافظي نفسه الكافرة كونهم لم يسلموا القلعتين إليه على أن كتب إلى هولاكو يغريه بهم فوصله الجواب بقتلهم فحضر مجلس كتبغا بالمرج وأوقفه على الكتاب فاستدعى بدر الدين محمد بن قزلجا وجمال الدين محمد بن الصيرفي وشجاع الدين إبراهيم وولده ونسيباً له فلما حضروا قال كتبغا للحافظي كيف قدمت على أن تكاتب في حق من أمنتهم ومع هذا فلا يسعني مخالفة مرسوم هولاكو فقم أنت اقتلهم وإلا صار لك عندنا ذنب نقتلك به فقام إليهم وضرب رقابهم ولم يزل الحافظي بدمشق إلى أن كسروا التتر على عين جالوت فهرب وتوجه إلى حلب واستصحب معه اخوته وأولاد أخيه وتحدث معهم في الطريق فكان من جملة الكلام أن قال ما كنت أظن أن الإسلا بقي يقوم له قائمة فقال له أخوه شرف الدين ما تعلم أن اله غار على الإسلام وقد أصبحت وإن أحماك من الملوك وكان عند الحافظي فضيلة ومشاركة ولم تكن الإمرة لا ثقة به وقتل وهو في عشر السبعين وقدم على ما قدم وما ربك بظلام للعبيد.
صالح بن أبي بك بن أبي الشبل بن سلامة بن شب لبن سلامة أبو البقاء تقي الدين الفقيه الشافعي الحاكم بمدينة حمص مولده بمصر في ذي القعدة سنة سبعين وخمسمائة سمع ببغداد من الحسين بن سعيد بن شنيق وغيره وبدمشق من أبي اليمن الكندي وغيره وحدث بحمص مدة وولي القضاء بها وكان حس السيرة محمود الطريقة فقيها عالماً فاضلاً توفي صفر رحمه الله تعالى.
عابدة بنت الشيخة الصالحة كانت مقيمة برباط زهرة خاتون بدمشق وهي شيخة وكانت امرأة كبيرة وهي عذراء مقعدة عمياء مشهورة بالخير والصلاح والعبادة وكانت وفاتها بدمشق في جمادى الأولى رحمها الله.
عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف أبو محمد الصاحب شرف الدين الأنصاري الأوسي الدمشقي الأصل والمولد الحموي الدار والوفاة الإمام العلامة مجموع الفضائل شيخ الشيوخ قرأ القرآن الكريم بالروايات واشتغل بالأدب على أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وسمع منه كثيراً وسمع ببغداد من أبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب وغيره وحدث بحماة ودمشق ومصر وغير ذلك ومولده ضاحي نهار يوم الأربعاء ثاني وعشرين جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة بدمشق بدرب كشك وكان أحد الفضلاء المعروفين وذوي الأدب المشهورين جامعاً لفنون من العلوم ومعارف حسنة ذا سمت ووقار وجد وحسن خلق وإقبال على أهل العلم وطلبته وتقدم عند الملوك وترس عنهم غير مرة وكانت له الوجاهة التامة والمكانة المكينة وله النظم الفائق واليد الطولى في الترسل والأصالة في الرأي مع الدين المتين ومكارم الأخلاق ولين الجانب وحسن المحاضرة والمباسطة والإفضال على سائر من يعرفه والكرم على من يقصده، وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة أكيدة وصحبة كثيرة وسمعت عليه بدمشق وكان لي من إقباله وبشره أوفر نصيب لما بينه وبين والدي رحمهما الله من الاتحاد، وتوفي بحماة ليلة الجمعة الثامن من شهر رمضان ودفن من الغد ظاهر حماة في تربة كان أعدها لدفنه، ومن شعره:
عاتبت أنسان عيني في تسرعه ... فقال لي: خلق الإنسان من عجل
يا عاذلي ليس مثلي من تخادعه ... وليس مثلك مأمونا على عذلي
ما دمت خلواً فلا تنفك متهما ... فاعشق وقولك مقبول علي ولي
؟وقال:
لها معاطف تغريي برقتها ... ولينها أن أقاسي قلبها القاسي
باتت موسدة رأسي على يدها ... عطفاً وكانت يدي منها على رأسي
؟وقال:
أتطمعني سلمى بتقبيل خالها ... غروراً وقد ضنت بطيف خيالها
؟وإني وما أرجوه منها بوعدهات كراق إلى شمس الضحى ليناها وقال:
أعني في المحبة وأعدني ... من العذل الذي يغري ودعني
أفرق بين أجفاني وغمضي ... واجمع بين أحشائي وحزني
على عيش تقضي لي حميداً ... نعمت به وزايلني كأني
رأيت الوصل منه في منام ... تصرم وقته وفتحت جفني
فلم أر غير وجدي واشتياقي ... وأشجاني التي تتقي وتفني
قراري واصطباري فاعتراني ... نفيك في الوقار فإن فنى
ملازمة الخلاعة في غزال ... أغن إذا نظرت إليه يغني
عن القمر المنير على قضيب ... تمايل في كثيب فهو يثني
إليه عنان قلبي بالتثني ... ويسلب لبه لولا تمني
وصال منه زادت نار شوقي ... إلى فوزي به فبللت ردني
بدمع كان خوف الهجردرا ... فصيره عقيقاً بالتجني
علي وما جنيت إليه ذنباً ... سوى إفراط حبي فليزدني
عذاباً مرة في القلب عذب ... يباعد سلوتي عني ويدني
غراماً لا يغيره ملام ... فإن قلدتني فالعم بأني
صديقك إن عذرت على هواه ... وإلا فاطرحني واتخذني
وقد ألم بقول القائل:
فأما أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثى من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدواً أتقيك وتتقيني
وقال:
أعجم السكر لفظه ... فغدا معرياً عن ال
عذر لي في تهتكي ... بهواه فقلت لل
عاذب المستطيل وي ... حك ماذا صنعت بال
؟مستهام الذي يزيد به الوجد عند إل
حاح لوامه فلا ... يلزم العذل بعد إل
؟زامك الحجة التي لاح برهانها لذل
عقل فاعذر فلا تلم ... أو فلم أن أردت في أل
؟حب للشادن الذي شفني طرفه الثمل وقال:
شيطان عذل نزغا ... في بدر تم بزغا
بالغ لكن ساءني ... فسؤله ما بلغا
أفتى الهوى باثمه ... لما تعدى ولغا
هيهات أن يشغل عن ... إلف لصبري فرغا
ذي ملح أوصافها ... تعجز أصناف اللغا
الثغ أضحى عند ... كل فصيح الثغا
إن قلت يا ظبي الفلا ... قال أنا ليث الشغا
أو قلت صلني قال لي ... أين الثغيا والثغا
أو قلت أسلو بسوا ... ك قال مثلي ماتغا
سبحان من بلغه ... من دله ما بلغا
وجل عن أضفي برو ... د حسنه وأسبغا
وعقرب العقرب إذ ... صدغ منه الصدغا
فاعجب لها لذيغها ال ... آمن من أن تلدغا
تيمني بمقلة ... أصمت فؤادي فصغا
فقرى إلى إنسانها ... أبدي غناه فطغا
ذو وجنة في صحتها ... ماء الشباب أفرغا
دون اقتباس نارها ... تشب نيران الوغى
لاطفني حتى إذا ... أصلح شأني أوتغا
وما بدا لي نه ... يسر حسواً في ارتغا
مولاي وجدي فيك ما ... أشده وأبلغا
وعيني العبرا فما ... أغزرها وأرزغا
فاحكم بما أوجبه ... شرع الهوى وسوغا
إن كان في قتلك لي ... رضاك فهو المبتغى
وقال:
لا تنسى وجدي بك يا شادنا ... بحبه أنسيت أحبابي
مالي إلى هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب
وقال:
شكوت إليها أليم الجوى ... فأصغت له أدنا واعيه
وقالت بعيني ما قد لقي ... ت فقلب على عينك الواقيه
وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى:
لنأمن ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصول تاره
تؤانسني وتنفر عن قريب ... وتعرض ثم تقبل في الحراره
وتقلتني بما يحلي سلوي ... ولكن ليس في جوفي حراره
ومالي في الغرام بها شبيه ... وليس لها نظير في النضاره
وفي الوصفين من كُحل وكَحل ... حوت حسن البداوة والحضاره
وفي خلخالها خرس ولكن ... إذا أومأت تفهم بالإشاره
وقتل العمد قد قتلته عمداً ... وما وصلت إلى باب الإجاره
وقالوا قد خسرت الروح فيها ... فقلت الربح في تلك الخساره
بأيسر نظرة أسرت فؤادي ... كما نشأ اللهيب من الشراره
أطارت شمل حسن الصبر مني ... بأحسن شمله من فوق طاره
وقلت لها قفي أن لم تزوري ... فقالت والوقوف من الزياره
شمرت إزارها عنها فصدت ... فقلت تقدمي ودعي الشماره
جسرت فتلت ما أملت منها ... وما نيل المنى إلا جساره
أدرت على مزررها عناقي ... فبت ومعصمي للبدر داره
ترى في خدها آثار عضي ... كغصن بنفسج في جلناره
إذا استشفى بريقتها ند ... أزالت خمرها عنه خماره
ويهتك ستر صبر الصب عنها ... إذا أعنته من خلف الستاره
ويفتك طرفها فيقول قلبي ... أشن ترى صلاح الدين غاره
ومنها:
إذا ما حج بيت نداه وفد ... رمى في قلب حاسده جماره
؟قال: يعرض براجح الحلى وعز الدين بن معقل من أبيات:
وما زال جود ابن المعز يمدني ... فيرحل في ركبي وينزل منزلي
إلى أن غما مالي كنقصان راجح ... وأعهده قدماً كعقل بن معقل
وقال في الزهد:
نل فوق ما ناله سيف بن ذي يزن ... وأفخر بما شئت من قيس ومن يمن
وأعط نفسك أقصى ما تلذ به ... من مركب فاره أو ملبس حسن
أليس غاية هذا قعر مظلمة ... تفري أديمك بين القطن والكفن
فابتت علائق دنياً أنت منتقل ... عنها ولا تسكنن منها إلى سكن
لا تغلون في تمني رتبة عظمت ... قدواً فكم منح أنكى من المحن
وأثبت على سنن الأخلاص منتهياً ... إلى الفرائض تقفوهن بالسنن
واحلم ولا تستشر في حالة غضباً ... فإنه مستشار غير مؤتمن
واركن إلى واجب التفويض متكلاً ... ولا تفيضن في عتب على الزمن
وقال في مغني رومي يلقب بالموزون:
نفسي فداؤك يا موزون من قمر ... تهتكي فيه معدود من الفرص
ظبي من الروم نسج العنكبوت له ... عهد فكم زمر قد ساق في غصص
أضللت أحزابنا يا سين غرته ... فأعجب لمقتبس للنور مقتنص
سبحان مورثه من حسن يوسف ما ... لم يبق في الحجر لي والصبر من حصص
أقام للشعراء العذر عارضه ... فكم لهم في دبيب النمل من قصص
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله ونشدت والدي الأبيات فاستحسنها وقال بديها:
بادر إلى توبة عنه تنيلك من ... ذي الطول في الحشر جر أغير منتقص
وقال:
قم فاصطبحنا. وأرح سركا ... صبحك الله بما سركا
وعاطني منها المدام التي ... أشرب منها دائماً سركا
يا يوسف الحسن الذي وصفه ... إن يملك الناس ولا يملكا
يا بدر تم منذ سايرته ... لم ألق لي في سلوتي مسلكاً
يا من رمى لما رنا مقلتي ... إليك من ألحاظك المشتكي
إن دمعت عيني فمن أجلها ... أبكي على قلبي من لا بكى
أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا
وقال:
بعين الله أحباب جفوني ... وعهد هم على الأيام عوني
فإن أنكر بهم أفراح قلبي ... فليس بغيرهم قرار عيني
وقالوا كيف يصبح من يراناً ... ونعرض عنه قلت كما تروني
فيا مولى أراه بعين قلبي ... وآمل أن أراه بقلب عيني
كملت إذا انفردت بكل زين ... وأنت منزه عن كل شين د
عدمت لك الشبيه فما احتفالي ... بوجه البدر أو قد الرديني
غلوت تعززاً ورخصت ذلاً ... فبعتك مهجتي نقداً بدين
وثبتني على خفقان قلبي ... غرام طار بي في الخافقين
ألا فابسط يديك إلى وصالي ... فما لي بالقطيعة من يدين
وقال رحمه الله:
أحبابنا هل علمتم ... من بعد كم كيف حالي
قلبي وطرفي جميعاً ... لبينكم في قتال
لأن قلبي خال ... بكم وطرفي خالي
فخففوا عن جفوني ... من دمعها الهطال
في يقظتي بكتاب ... وفي الكرى بخيال
وقال رحمه الله ملغزاً في حمزة:
من لي بمن سميه ... سما به سفك دمه
تصحيفه في خده ... وفي فؤادي وفمه
وقال:
إن دام حبيكم على بغضكم ... فإننا في منصب واحد
ما الأم الزاهد في راغب ... ومثله الراغب في الزاهد
وقال كتب إلى الأمير سيف الدين أبو الحسن علي بن محمد الهذباني رقعة في مهم وطلب جوابها في ظهرها فكتبت إليه الجواب في غيرها وسيرت ورقته عطف الجواب وكان في صدر جوابي له:
يا مالكاً ملكته ... من رق حمدي ما أحب
وأنالني رتباً أنل ... ت بها المناصب والرتب
أحللت لي ظهر الكتا ... ب ولم أخل بما وجب
فكتبت في درج ورا ... قبت الذي لك من إرب
فدرجت خطك طيه ... وخلصت من سوء الأدب
وقال في شاعر ردئ النظم قبيح الوجه:
وجهم الوجه رذل الشعر منه ... رجوت النفع حيث يخاف ضير
بدا لي وجهه فخشيت شراً ... وأنشدني فقلت خرا وخير
وأخذه من قول دعبل الخزاعي:
وكنت مبكراً من سر من رى ... أبادر حاجة فإذا عمير
فلم أدع الطريق وقلت أمضي ... فإنك يا عمير خرا وخير
وقال الشيخ شرف الدين:
لعيني كل يوم فيك عبره ... تصيرني لأهل العشق عبره
فعسجد جفنها لا نقص فيه ... وكم جهزت منه جيش عسره
ا غفل الوشاة أسلت دمعي ... فيغدو مرسلاً في وقت فتره
وزيادة صبوتي نقصت ملامي ... وكفت زيده عني وعمره
علامة شقوتي في الحب أني ... ثقلت عليك لا عن طول عشره
ووتر الوصل لم يشفع بثان ... وهجرك زمرة من بعد زمره
وجفنك أكحل من غير كحل ... وخدك أحمر من غير حمره
وصبري عنك ليس له وجود ... ووجدي فيك لا أحصيه كثره
وبيت الحزن بيتي حين تنأى ... وحين تزوره دار المسره
وقالوا كم ترى غضبان راض ... فقلت رضيت زنبوراً وتمره
سألزم باب.... الثنايا ... ليطلق لي ولو في العمر سكره
وقدماً كنت مستوراً إلى أن ... لبست من الخلاعة ثوب شهره
اطلعت غوايتي وعصيت رشد المناصح ... مرة من بعد مره
وما تنقى من الأدناس نفسي ... ولو غسلت بصابون المعره
وأعجب حادثات الدهراني ... أحاول طاعة فتعود حسره
وأطمع في خلاصي يوم بعثي ... وما أخلصت في مثقال ذره
وهذه الأبيات على وزن أبيات القاضي الفاضل رحمه الله مطلعها:
لعينيه على العشاق أمره ... وليس لهم إذا ما جار نصره
إذا ما سره قتلي فأهلاً ... بما قد ساءني إن كان سره
ولم أره على الأيام إلا ... عقدت بوده وحللت صره
صببت عليه لما زار دمعي ... فأنكره فقلت الماء نشره
بكيت عليك يا مولاي حتى ... وقعت وليس في عيني قطره
أيا قمر الكناس بقيت إني ... بقبيت بأدمعي في الشمس عصره
فلو قبلتني وقبلت مني ... فقال أخاف بعد الحج عمره
ومنها:
وأما سوء حظي من صديقي ... فذاك من الأمور المستقره
وللقاضي الفاضل رحمه الله في كحال وكله رجل:
توكل لي وكحلني ... فذهبت في عيني وفي عيني
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله يمدح سيدنا النبي المصطفى: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول مدحة قالها فيه وأنشده إياها تجاه حجرته الشريفة بكرة الجمع خامس عشري ذي القعدة سنة تسع عشرة وستمائة وفي طرتها مدحة العبد الضعيف عن حسن تدبيره القوي في سوء تقصيه. المستوحش من انفراده، بذنبه، المستأنس إلى شفاعة نبيه المشفوعة برحمة ربه، عبد العزيز بن محمد الأنصاري جعل الله عاجل جائزته مواصلة صالح العمل، ومقاطعة كاذب الأمل، والغني عن الضارعة بالقناعة، والتوفيق لتلقي أوامره بالسمع والطاعة، وآجله استقامته على الصراط المستقيم، وأقامته في جنات النعيم، وإدخاله برحمته في عباده الصالحين، والمغفرة له ولوالديه ولجميع المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وعلى التابعين. لهم بإحسان إلى يوم الدين آمنين اللهم آمين.
هو موطن الشرف العريض الأطول ... فأرح قلوصك من ركوبك وانزل
يا صاح ها بحر الهدى فتمل من ... ري وها بدر الهدى فتأمل
فلطالما أرسلت دمعك سافحاً ... شوقاً إلى هذا النبي المرسل
عفر جبينك في صعيد وصيده ... فثراه أطيب من رطيب المندل
واحطط ذنوبك في رحيب جنابه ... وارحل وأيقن أنها لم ترحل
ودع القنوط فقد سألت شفاعة ... من ليس يهمل أمر من لم يسأل
أمرتني الهمم الرفاع بقصده ... فأطعتها وعصيت عذل العذل
وغريرة باتت تغمغم رأيها ... فتركته وأخذت بالأمر الجلي
بكرت تخوفني أعاريب الفلا ... وتخال أرجافاً تشين توكلي
وتقول لي أني لاؤجل أن تسر ... عنا فقلت الأمن لي أن توجلي
لا بد من حرم الآله ولو بدا ... من دون ذاك الشهد مر الحنظل
أني وقد قطعت إليه عقلها ... خوص الركاب ومثلها لم يعقل
تحدي بأوصاف النبي محمد ... فتكاد تسبق أيديا بالأرجل
وتبيت يهديها سناه سبيلها ... والليل اليلُ كالرداء المسبل
ويعيرها الحادي بذكر حبيبها ... فتظل تقذفه بصم الجندل
قبلت أخفاف المطي كرامة ... لما نزلت بهن أكرم منزل
وشفي سراها غلتي فشغلتني ... عن كل ذات مسور ومخلخل
إني لأصفيها الوداد وربما ... غادرت منها معلماً في مجهل
وبسرعتي في قصده أوردتها ... من منهل وعللتها من منهل
يا ناظم الدر الثمين ومهدي ال ... نظم الرصين لفاضل أو مفضل
جانب مخادعة الملوك عن اللهي ... فالمال يذهب والخصاصة تنجلي
وأصرف مديحك عن كثير تطاول ... بزخارف الدنيا قليل تطول
وأمدح نبياً آخراً فخرت به الش ... مّ الأنوف من الطراز الأول
من جوده وافٍ بكل مؤمل ... ورجاؤه كافٍ لكل مؤمل
من اصطفاه الله من دون الورى ... فأحله فوق الكواكب من على
وحباه بالقرب الذي أضحى له ... جبريل عن حجب الجلال بمعزل
وعلا عن الأمثال فهو لمن علا ... في الوصف أقصى غاية المتمثل
وغزا العدى من نفسه وصحابه ... ومن الملائكة الكرام بجحفل
كم لمة صبغ الحذار سوادها ... يققا فانصل صبغها بالمنصل
ولكم أباد نكاله في مأزق ... ولكم أفاد نواله في محفل
ولكم أبان هدى بخطبة فيصل ... ولكم أبار عدي بطعنة فيصل
ما زال فوق المنبر السامي الذري ... يبري الضنا ويبير تحت القسطل
حتى استقام الدين وانتصر الهدى ... فنهى الكمي عن اضطهاد الأعزل
يا خاتم الرسل الكرام وفارج ال ... كرب العظام بفعله والمقول
بك أكمل الله النبيين الأولى ... كملوا وخصك بالفخار الأكمل
أظهرت فينا المعجزات فحققت ... صدق الرسول بلطف صنع المرسل
فأطاع من سبقت له الحسنى ومن ... جاد القبول له بجد مقبل
وعصاك من كبت الآله شقاءه ... فطغى وأمهله ولما يهمل
زحزحت عن طرق المظالم عادلاً ... فينا ومن للعدل إن لم تعدل
وقرنت بالشرس الليان فأتربت ... كف المحق وخاب سعى المبطل
تلك النبوة لأسيادة مالك ... أمر الأنام بمشرب أو مأكل
ولطالما ملك البسيطة معشر ... خملوا وذكرك نابه لم يخمل
سرنا نشق إليك أجواز الفلا ... ونسوق نحوك كل حرف معمل
فالعيس بين مجعجع ومجرجر ... والقوم بين مكبر ومهلل
حتى وردنا من ضريحك مورداً ... نشفي به من كل داء معضل
أدعوك للجلي وتلك شفاعة ... لم ترض لي أني أخاف وأنت لي
إن لم يكن عملي زكياً فارع لي ... قطع الفلا وتلذذي بتذلل
أحسن واحمل بي لعلي أنني ... في الفعل لم أحسن ولما أجمل
وانظر إلي بعين عونك نظرة ... أهدي بها سنن الطريق الأمثل
فلقد ضلت عن الرشاد وأنني ... بك أستنير وأنت هادي الضلل
وإليك من دون الأنام توجهي ... وعليك من بين الكرام معولي
ولقد أتيتك مادحاً لتجزني ... في الحشر كأسات الرحيق السلسل
وإذا مدحتك مجملاً قصرت في ... وصفي فكيف تعرضى لمفصل
فلان غدوت ببعض وصفك قائماً ... فهداك والتوفيق انطق مقولي
ولأن عجزت فإن فضلك مكتف ... بثناء آيات الكتاب المنزل
وقال أيضاً من قصيدة طويلة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر بعض معجزاته وأولها:
تشرف بذكر حميد الثناء ... على أحمد أشرف الأنبياء
على موضع الرشد بعد العمى ... على مظهر الحق بعد الخفاء
على خاتم الرسل السابقين ... وأولهم في قديم الفضاء
فكان نبياً نبيه المقام ... وآدم بين الطين والماء
تشفع به فهو نعم الشفيع ... وسله المنى فهو بحر السخاء
وقل عبدك القن عبد العزيز ... رهين البلا وقرين البلاء
أمت العمى قلبه فاغتدى ... دليل المقام عزيز العراء
فعطفا على من تناهت به ال ... خطايا وعطفت لانتهاء
بتحقيق إخلاصه في رجاء ... علاك وتحقيق ذاك الرجاء
وبالعفو عنه وعن والدي ... ه وأعقابهم من أليم الشفاء
فأنت النبي الوجيه الذي ... حوى في الشفاعة خضل الجزاء
فشرفه الله مختاره ... بخير صلاة وأزكى ثناء
وصلى الإله على الأكرمين ... وأصحابه الصفوة الأتقياء
وخص ضجيعيه من بينهم ... بألطاف رضوانه الأتقياء
وخص ضجيعيه من بينهم ... بألطاف رضوانه والحباء
ومن لهما كان ملكاً مطاعاً ... وكانا لديه خليلي صفاء
وحيا ابن عفان صهر النبي ... وخدن السماح وترب الحياء
وزاد أبا حسن زلفة ... على مجده الهاشمي البناء
شقيق الرسول وزوج البتول ... ومردي العدى ومزيل العداء
وأعفى ابن عوف بإحسانه ... والحف مبغضه بالعفاء
وصلى على طلحة والزبير ... كما أغنيا عنه حين الغناء
وأولى سعيداً وسعداً يدا ... على بسط أيديهما بالولاء
وأرضى أمين البرايا أبا ... عبيدة رب التقى والوفاء
وأعقب عميه أصفى النعيم ... بما أسلفا من جميل البلاء
وسبطيه عم وأمهما ... وازواجه منه أنسى عطاء
سيرفع عني عبء الذنوب ... هوى الخمسة الغر أهل العباء
أعد ولاءهم عدتي ... وأبرأ من قائل بالبراء
وإن أنا قصرت في مدحهم ... فقد بالغت همتي في هجائي
وقال:
يا رب أن سؤال الباخلين ثني ... وجهي وكفى بلا ماء ولا مال
فاصرف بلطفك قلبي عن رجائهم ... ولا تصل بسوى نعماك آمالي
وقال رحمه الله تعالى:
حتام تعذلني وحتى ... هو ما علمت وما جهلتا
حب لو أنك ذقته ... لعذرت فيه وما عذلتا
فدع السفاهة لي أنا ... وخذ الرشاد إليك أننا
أو لا فاسعدني على ... شوقي سهرت به وبمتا
وتأت للراحات وانتهب ... السرور فقد تأنى
أدن المدام لعلني ... أنسى به البين المشتا
راح هويت صريحاً ... فمنحت ماء المزن مقتا
فإذا شربت مشوبها ... لا تسقني مما شربتا
إن التي ناولتني ... فرددتها قتلت قتلتا
أرح المزاج من المزا ... ج وهات صرف الراح بحتا
عمل القاضي تاج الدين يحيى بن الشهرزوري في بعض ولاة الجور وقد سقط من الفرس:
إلى النار يا ولد الزانية ... وهذا الهوى إلى الهاوية
وقعت فيا بردها في القلوب ... فيا ليتها كانت القاضية
فنظم الشيخ شرف الدين رحمه الله أبياتاً ألم فيها بهذه القافية وإن كان معنى الأبيات غير متحد وهي:
سروري بساقية حاريه ... ووجدي بحارية ساقيه
أهز بها تيك عطف القريض ... ليثنى على هذه الثانية
مهاة نشأت على حبها ... كما هي في حسنها ناشئه
على الجسم حاكمة بالضنا ... وفي القلب آمرة ناهيه
سبتني كاسية بالجمال ... فروحي عندي لها عاريه
تعالى عن الند نشر لها ... يطيب به الند والغاليه
وأولت من الوصل أضعاف ما ... رجوت ولم تكفني كافيه
فؤادي علي رقيب لها ... تطالعها عينه الصافيه
تراني إذا لم أزر بيتها ... كأني بيت بلاد قافيه
تقربني فأجوز الفلا ... وأجلس في بيت بلاد قافيه
تقربني فأجوز الفلا ... وأجلس في الدست والحاشيه
وتنأى فأخنس في مسجدي ... وحيداً والتف في البارية
فطوراً بخفي حنين أعود ... وطوراً بقرطين من ماريه
فهل من معين على عاذلي ... فيأخذه أخذهة رابيه
تجسر إذ لم أطع أمره ... فيا ليتها كانت القاضيه
ولست أبالي بسخط العذول ... إذا أنا ألفيتها راضيه
ولما شكوت خفي الجوى ... وعته لها أذن واعيه
وقالت بعيني ما قد لقيت ... فقلت على عينك الواقيه
أضاحكة السن لو زرتين ... عجبت لمقلتي الباكيه
وانقذتني من أسى زادني ... فلم تبق في جلدي باقيه
وإني وإن نال مني الأذى ... معافي إذا كنت في عافيه
أنشد الشيخ شرف الدين عبد العزيز رحمه الله لضياء الدين علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن رواحة رحمه الله:
مولاي عبدك ذو انقباض يرتجى ... من لطف صنعتك أن تمن ببسطه
ليجوز من شرف التأنس قسمه ... ويفوز من شكر العبيد بقسطه
وأنشد للمذكور أيضاً:
لا حظ في الدينا لمسيتقظ ... يلمحها بالفكرة الباصره
إن كدرت مشربه ملها ... وإن صفت كدرت الآخره
وقال من قصدية يمدح بها الملك الأمجد رحمه الله وأولها:
رفقاً بصب يرى سلوانكم عاراً ... ما كان منحرفاً عنكم ولا صارا
لم ينسه البعد روح الأنس عندكم ... فلم يجدد لعهد القرب تذكارا
أقصاه صرف النوى منكم إلى نوب ... أقلها أنه ما سر مذ سارا
سنا هواكم إلى لبنان أرشده ... ولم يقل يا لبيني أو قدي النارا
وإن يزركم على قرب فذو كلف ... لو أفرط البعد لم يستبعد الدارا
يا ربة الخدر لو غادرتني شبحاً ... ما سمت حلقاً ولا سميت غدارا
عاقبتني بجحيم الشوق واجدة ... وأنت حملتني للبين أوزارا
؟وضقت ذرعاً بحبي واعتذرت به ذنباً فأوسعت ذاك الذنب إصرارا
إذا اجتنى بك من روض الرضا زهراً ... أو اجتلى في سماء العز أقمارا
لله وصلك ما أغلاه يوم شرى ... وشهد ريقك ما أحلاه مشتارا
فيك الغنى لي عن طيب وعن سكر ... كأن في فيك عطاراً وخمارا
وهبت روحي لآلام الغرام كما ... أنهبت قلبي طرفاً منك سحارا
عيناك للقتل لا نصل ولا ظبة ... والأمجد الملك لا كسرى ولا دارا
وقال:
ألا يا مالكي مالي ... إلى غيرك من ميل
أما تنظر في حالي ... فقد اضعفت من حيلي
ووجدى فيك لا يحصى ... بميزان ولا كيل
وأما دمع أجفاني ... فلا تسأل عن السيل
وما نس فلا أنسى ... مراحي ساحباً ذيلي
وإجلابي على اللذا ... ت بالرجل وبالخيل
من الليل إلى الليل ... إلى الليل إلى الليل
وقال:
تثعلبت ذلا ً في غزال تأسدت ... له لحظات بصرت بالتغزل
وكم نظرة في نضرة من نعيمه ... رأيت بها من مقلتي عين مقتلي
وقال الشيخ شرف الدين رحمه الله قال ظهير الدين المبارك بن يحيى الشهرزوري ممازحاً لابن الحكيم وقد جلس في الشتاء إلى جانب بكرة علها سبع من ثلج:
وسبع كوعظ ابن الحكيم رأيته ... على بركة تحكيه عند مجونه
يصففها مر النسيم إذا سرى ... ورق عليها مثل رقة دينه
وأحسن من هذا الاستطراد قول الخباز البلدي:
وليل كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه إعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
وقال:
ما لطرفي حين أعذل ... يطلق الدمع المسلسل
أدبر العاذل عني ... موقناً أن لست أقبل
وجد الصبر جميلاً ... ووجدت الوجد أجمل
؟فتنتي عين غزال بصرت من يتغزل
منع العاشق خدا ... يتعالى أن يقبل
حسد الصدغ عليه ... فتلوى وتبلبل
خلت فيه الخال قلبي إن ... غدا في النار يشعل
كيف أسلوه وليلي ... جعل الآخر أول
فاعذروا فيه عذولي ... فهو من باب محول
وقال رحمه الله:
دعني وشأني من وجدي ومن تعبي ... فراحتي في الذي أنكرت من نصبي
أضنى فؤادي فتان الجمال إذا ... طلبت شبهاً له في الناس لم أصب
قرأت خط عذاريه فأطمعني ... بواو عطف ووصل منه عن كثب
وأعربت لي نون الصدغ معجمة ... بالخال عن نجح مقصودي ومطلبي
حتى رنا فسبت قلبي لواحظه ... والسيف أصدق أنباء من الكتب
لم أنس ليلة طافت بي عواطفه ... فزارني طيفه صدقاً بلا كذب
حيا بما شئت من ورد بوجنته ... نهبته بالتثامي وهو منتهبي
وكان ثغر شهي منذ فزت به ... قلت العفاء على كأس ابنة العنب
ورحت لم أدر عقلي هل فجعت به ... من نخوة العز أم من نشوة الطرب
أقسمت ما في ضروب السكر أبلغ من ... سكري بريق له أحلى من الضرب
نشوان أسأل عن قلبي فينكره ... تيهاً ويسأل عني وهو أعرف بي
وكلما قال ممن أنت قلت له ... ممن إذا عشقوا جاؤك بالعجب
لا تسألوا ميتكم عن حيه فله ... من الإضافة ما يغني عن النسب
وراقبوا منه حالاً غير حائلة ... عما عهدتم وقلباً غير منقلب
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله من طريق الاتفاق أنني نظمت أبياتاً في زمن الصبا في بعض رحلي عن حماة منها:
أمل كتمان الهوى وهو واضح ... ودمعي يوم البين بالسر بائح
لعمري لقد حاولت مالاً أناله ... كما حاولت إمساك قلبي الجوارح
لعل بعادي عن حماة يعيدني ... تخاف السطي مني وترجى المنائح
لأهزم جيش المال وهو عرمرم ... وأدفع صدر الخطب والخطب فادح
على أني قد كنت فيها مكرماً ... تراع لكراتي القروم الجحاجح
مقيماً بربع الدير جسمي وصحبتي ... وقلبي بربع القصر غاد ورائح
يهيج أشجاني به كل ليلة ... وتصرفني عما تقول النواصح
؟بدور من الباب المصرع طلع ومسك من الباب المصرع فائح فحفظ الأبيات بعض السفارة وحفظت عنه في الشرق، ثم قدم شاعر من أهل الموصل يقال له البدر محمد بن روضة وكانت والدته تتردد إلى دارنا أيام مقامنا بالموصل فأنزله والدي وأكرمه وكن يجلس على حانوت الفخر عبد الرحمن بن الصياد بسوق العطر في كثير من أوقاته يذاكره ويناشده ويخرج معه في آخر النهار إلى ظاهر البلد للتنزه والرياضة فاتفق أنه خرج معه يوماً يريدان المصلى فاجتازا بباب ذي مصراعين وقد ولد في الدار مولود والطيب ينفح والبخور يتضوع وفي الباب صبيات كالبدور الطلع وأصوات القيان في باطن الدار وظاهرها يطرب السامع فوقفا مع النظارة، فلما رأى ابن روضة ذلك أنشد متمثلاً: ؟بدور من الباب المصرع طلع البيت، فضحك الفخر بن الصياد وقال له أتعرف هذا الشعر لمن؟ فقال لا والله بل هذه الأبيات سمعتها في الشرق لا أعرف قائلها، فلما رأيت الصورة تمثلت بالبيت فقال له إن البيت لفلان الذي أنت نزيله ونزيل والده وهذا البيت بعينه هو الذي عناه بهذا البيت فتعجب من ذلك وأطرفاني بالقصة فعجبت من هذا الاتفاق.
وقال الشيخ شرف الدين حدثني بعض خلاني قال أبتليت بهوى بعض أبناء الأماثل ولم يكن من أبناء جنسي ولا لي به سابقة خلطة فأعملت الحيلة في التعرف إليه وبذلت البذول السنية لمن جمع بيني وبينه بتوصلات متعته إلى أن التقينا راكبين في خلوة بمكان مشرق على أنهار حماة وبساتينها فتسالمنا ثم حرصت على أن أباسطه بشيء من النظم والنثر أو بث وجد واستجلاب ود فحصرت عن المنطق بكلمة واحدة ولم أزد على أن قلت له أنت ما تصلي فقال بلى ويكون مسلم ما يصلي ثم افترقنا، قال الشيخ شرف الدين فحكيت هذه القصة للملك المظفر صاحب حماة رحمه الله فاستظرفها، ثم أشار إلى بعض فتيانه ممن له معه هوى وقال أيش تقول في هذا يصلي فقلت سيماهم في وجوههم من أثر السجود فاستطار طرباً بقولي من أثر السجود وقال أيضاً رحمه الله:
ملكت رقي غلاماً ... به سلوت الغلامه
عاملت فيه عذولي ... بالكيد لا بالكرامه
وقال رحمه الله في الزهد:
كل داء لك داء ... ما لبواك انتهاء
طول آمال وحرص ... ونفاق ورياء
وذنوب جل فيها ال ... خطب إذ عز العزاء
فتنصل من خطيا ... ت لها النار جزاء
واسل عن دنيا يقضي ... ها صباح ومساء
وابغ أخرى دائم ... فيها نعيم وشقاء
لا يقطنك ولا يؤ ... منك خوف ورجاء
سابق الفوت إلى ال ... فوز فقد جد الجزاء
وانفرد فهو على دين ... ك والعرض وقاء
واعف عن كل الورى أن ... احسنوا أو إن أساؤا
فبنو حواء فيما دو ... ن تقواهم سواء
فاز بالراحة ذو ألف ... هم وللغز العناء
وإذا صح لك القو ... ت على الدنيا العفاء
جفت الأقلام بالكا ... ئن ونبت الفضاء
كل ما في هذه الدن ... يا قصاراه الفناء
ولأهل الخلد في الخل ... د ولله البقاء
وقال الشيخ شرف الدين رحمه الله:
هي الدنيا تحب ولا تحابي ... وتصحب ثم تغدر بالصحاب
دهتني في شباب خولته ... ولم يفجع بمنع مثل حاب
فلا تعجب من الأضداد وانظر ... إلى ضحك المشيب مع انتحابي
فلا تثقن وأقل بنيها ... جرائم ضيقت سعة الرحاب
وعاشرهم بأخلاق عذاب ... طواهر مثل أمواه السحاب
وقال:
دخلت حمامكم فجاشت ... بألف كرب لكشف كربه
فقلت تباً لحب دنيا ... نعيمها بالشقاء أشبه
وقال:
رفقاً بروحي فهي لك ... وعلى السخي بما ملك
أفضل بحق من اصطفا ... ك على الملاح وفضلك
فكأن ربك بالجما ... ل على اقتراحي مثلك
أحظاك منه بمنصب ... سواك فيه وعدلك
من فر من ذل السؤا ... ل فعزتي أن أسألك
إن يحم طرفي أن يرا ... ك جعلت قلبي منزلك
إني أغار إذا أرا ... ك دنا إليك فقبلك
ويروعني واشي النس ... يم إذا ثناك وميلك
ما أقبح الصبر الجميل ... بعاشقيك وأجملك
ما انقص اللوام في ... ولهي عليك وأكملك
قال الشيخ شرف الدين حدثني شمس الدين حسن بن صالح السلمي خادم ملك النحاة أبي نزار رحمه الله ببعلبك قال رأيته في المنام بعد موته فقلت له ما لقيت من ربك فقال لي ويك ارفع صوتك ما أسمع ما تقول فقلت يا مولانا ما لقيت من ربك فقال ويك ارفع صوتك ما أسمع فأعدت عليه القول ثالثاً فقال ليه ويك وما ذكرته لك فقلت لا فقال والله أنشدته قصيدة ما في الجنة مثلها ثم أنشد:
يا هذه أقصري عن العذل ... فلست في الحل ويك من قبلي
إلى أن قال فيها:
يا رب ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زلل
ملآن كف بكل مأثمة ... صفر يد من محاسن العمل
فكيف أخشى ناراً مسعرة ... وأنت يا رب في القيامة لي
وقال رحمه الله ملغزاً في اسم عبد القادر ثم قال والله ما سمعت حسيس النار
ما اسم تعلقته مضافاً ... إلى انفرادي وطول فكري
فشطره عند من بغاه ... مصحفاً باله بخبر
فلا تظننه وصف جمع ... من سنح في الفلاة عفر
ولا نظيراً ليوم وصل ... أمنت فيه عناد دهري
وشطره الآخر المرجى ... لكل عفو وكل غفر
قسمان فعل ماض وحال ... بغير أمر وفعل أمر
رأيته جائزاً لقلبي ... إذ قلبه مثل قلب هجري
وإن تلخص فالشطر وصفي ... والشطر وصف عليه تجري
وقال:
أهلاً بطيفكم وسهلاً ... لو كنت للإغفاء أهلاً
لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي إلا
إن لم تزوروا فاجمعوا ... بخيالكم في النوم شملا
ولقد قنعت بوعدكم ... فبرى أفوز بذاك أم لا
؟أطوى الزمان تعللاً عنكم بليت ولو وعلا
وأكرر الشكوى عسا ... ي يعينني من كان إبلا
قالوا سلوتهم فقل ... ت كذبتم حاشي وكلا
إني فطرت على النهى ... وتفطر العذال جهلا
راموا فطامى عن هوى ... عذيته طفلاً وكهلا
فوضعت في جيبي يد ... ي وقلت خلوني وإلا
يا من يتيه بناظر ... عز التصبر إذ تولى
يا حاكماً في صبوتي ... وتصبري عقداً وحلا
؟قلبي لديك ومهجتي تفنيهما أسراً وقتلا
خاطبتني ولحظتني ... فسحرتني قولاً وفعلا
الغصن أنت إذا تثنى ... والبدر أنت إذا تجلى
بهرت محاسنك العقو ... ل فعز خالقنا وجل
وقال كتبت إلى والدي رحمه الله ملغزاً للثلج في أوائل ما نظمت:
ما بالكم في مأكل طيب ... ومشرب عذب يزيل الأوام
نضربه من فرط إشفاقنا ... عليه أن يسلب ثواب الدوام
ودفنه فيه صلاح له ... مع إنه من نجل قوم كرام
وإن تصحفه فتصحيه ... مدينة من بعدها لا ترام
وهو إذا صفحته ثانياً ... جنس من الأثمار قبل التمام
وعكسه من بعد تصحيفه ... بلدة ملك من بلاد الشام
فكتب تحتها وأعادها إلي ولم يجف الخطان لسرعة النظم وقرب المكان:
يا ملغزاً في شعره شعره ... حسبك قد أثلجتنا يا غلام
وقد فطنا وأجبناك عن ... تفسيره فافطن لهذا الكلام
وقال كتبت إلى والدي ملغزاً للباب:
يا قائم في مخرج ... يذهب طوراً ويجي
لست تخاف شره ... ما كان غير مرتج
فكتب لي في ظهر الورقة ذهاب ومجئ وخوف شر هذا باب خصومة ولو قلت يخاف منعه كان أجود وأليق وخيراً من الشر وأصدق.
وقال رحمه الله:
صب لخديه بالدموع يشي ... من جور واشٍ بكم عليه يشى
ومولع تنطوي أضالعه ... على حشى من جوى الغرام حشى
تيمه الواصل القطوع فقد ... هيمه بين ما رجا وخشى
ظبي من الأنس كم لنفرته ... والأنس من مدنف ومنتعش
لا يطمع البدر أن يقاس به ... وهو معيب بالنقص والنمش
بدا فأبديت غير معتمد ... هواه لكن دهيت من دهشى
عقرب صدغاً كالنون عرقها ... في آخر السطر كف مرتعش
ويعين الشعر كي أراع فلا ... وقيت من لسع ذلك الحنش
راق جمالاً ورق محتضناً ... فكدت أشتفه من العطش
ضممت أعطافه فبات على ... موسد من يدي ومفترش
وافى على أدهم الدجى ومضى ... ركضاً على أشهب من الغبش
طاش وقارى له وأي فتى ... فإز بما نلته فلم يطش
مولاي عش وادعاً فعبدك إن ... دام به ذا السقام لم يعش
وأنشد الشيخ شرف الدين لضياء الدين محمد بن المنصور بن الشهرزوري كتب بها إلى ضياء الدين القاسم بن يحيى الشهرزوري ضمن هدية سيرها إليه:
أيا من حوى سبل المكارم كلها ... وزف إليه الصعب منها واسناها
وأصبح فرداً في المعالي فلن أرى ... نظيراً له في العالمين وأشبالها
بحكم انبساطي قد بعثت هدية ... وما كنت لولاه لمثلك أرضاها
بقيت ودامت لي حياتك أنها ... بقية آمالي التي أتمناها
وأنشد الشيخ شرف الدين المذكور لابن التلميذ في ولده:
أشكو إلى الله صاحباً شرساً ... تسعفه النفس وهو يسعفها
كأننا الشمس والهلال معاً ... تكسبه النور وهو يكسفها
وأنشد لشرف الدين عبد الله بن أبي عصرون:
ومروحة تفرد كل كرب ... ثلاثة أشهر لا بد منها
حزيران وتموز وآب ... ويغني الله في إيلول عنها
وله:
أومل أن أحيا وفي كل ساعة ... تمر بي الموتى تهز نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي ... بقايا ليال في الزمان أعيشها
وقال رحمه الله الشيخ شرف الدين عبد العزيز:
قفا نبك من ذكرى هوى ذلك الخشف ... وإن كانت الذكرى تشف وتشفي
غزال غزا الآساد في جيش حسنه ... فصادهم بين السوالف والشنف
وبدر دجى لم ينتقل كسميه ... ولكنه ما زال في القلب والطرف
يلوح لعيني ما شقا نون صدغه ... فأعبد خلاقي على ذلك الحرف
تعرى ولم ينصف فؤادي إذ غلا ... بحبيه والمغلي يرد إلى النصف
وأقدم زحفاً خارجي عذاره ... فهل عنده أني أفر من الزحف
ولي ثوب سقم محرق من جفونه ... معار وأثواب العواري لا تدفي
ألأم ولي كف لو أكف مدمعي ... تكف وأخرى من ملامي تستعفي
وأنفي أساءات الوشاة بحسنه ... فيرجع كل منهم راغم الأنف
ويرجو فلاحاً عذلي فأحيلهم ... على آخر العشرين من سروة الكهف
وقال كتبت إلى والدي ملغزاً للسراج:
ولي صاحب أختاره وأجالس ... يؤانسني إن أوحشتني الوساوس
يدين بطوعي منه رب هداية ... على العرش والكرسي للخلق جالس
أراجعه محض الفوائد جاهداً ... فأقبسه طوراً ولي منه قابس
له من يدي جود ولي من لسانه ... هدى كلما التفت علينا المجالس
أغار من الأنفاس صوناً لنفسه ... فأحرص في إحرازه وأنافس
إذا نام عني أسرتي فهو ساهر ... وإن ضيعتني صحبتي فهو حارس
فصحفه وأعكسه تجده مفسراً ... وفي الوصف كاف أن تفطن حادس
فكتب إلي جواباً:
فديتك يا وتراً لشافعه عما ... فلم أبق خالاً في الفداء ولا عما
تقارنتما نجمي ضياء شركته ... بما خص منه وانفردت بما عما
أتتركه نهباً لفهمي بحارس ... يبيح حماه ثم تسألني عما
فإن عبس الإظلام عند ابتسامه ... كفاك بإيضاح لمشكله عما
يريد عم يتساءلون لما في السورة من ذكر السراج وقال:
لا تبخلن بدمع منه مدرار ... من فارق الإلف قسرا غير مختار
ولا يروي ذو جهل تصبره ... ليس المشوق على بعد بصبار
استودع الله في الغادين بدر دجى ... ودعت منه لباناتي وأوطاري
ظبي يقنص من طرفي كراه ولم ... أحفل بمسراه لولا طيفه الساري
إذا تثنى عن طوع لائمتي ... خواطري بقوام منه خطار
وإن رنا قيل يا لله صنعت ... عين الغزال بقلب الضيغم الضاري
كمن نلت في وصله من فرحة ذهبت ... عني ودام لها حزني وتذكاري
وغض ورد بخديه لعزته ... لم يجن إلا بأسماع وأبصار
وقبلة لم يطرق نحوها دنس ... إذا لم يكن غير تقدير وإضمار
وخلوة في التقى والأنس مخلية ... جفني من الماء وقلبي من النار
أحبابنا كيف حلت من حبالكم ... حبالنا بعد إحكام وإمرار
وكيف ضيعتم عهداً حفظت له ... ودائع الحب في جهر وأسرار
أبان غدركم هجري وما عرفت ... عصابة البغي لولا قتل عمار
وخان عهدي نصيح لج في عذلي ... فقلت دعني وإيرادي وإصداري
فما بقلبك أشجاني ولا ذرفت ... عيناك دمعي ولا حملت أوزاري
الأم فيكم ولا تجدي الملامة في ... وجدي بكم غير إغرائي وإصراري
إن كنت لم أفتقد غمضي لفقدكم ... فلا وجدت من الأنصار أنصاري
أو كنت أجرمت جرماً أستحق به ... بعداً فلا قربت من داركم داري
أو كان ما ضيقوه من مسالكنا ... ظلماً فلا وسعتهم رحمة الباري
عابوا خلالي واغتابوا فوقرني ... علمي بأنهم ليسوا بأنظاري
إن يفعلوا فكفاهم شاهداً لهم ... بالنقص جهلهم في الفضل مقداري
لولا هواكم لما عاثت ذئابهم ... في سرح عرضي ولا مروا بأفكاري
وقال رحمه الله:
إذا رمت أمراً فاعتمد في بلوغه ... على صاحب ذي حكمة وتجارب
ولا تتخذ فيما ينوبك مسعداً ... سوى عزمات كالنجوم الثواقب
وكن كأبي الأشبال غير مصاحب ... صحاباً سوى أنيابه والمخالب
ولا تغترر بالخل إن لاح بشره ... فإن الأفاعي لينات الجوانب
وقال أيضاً رحمه الله:
عن ملامك قد أكثرت تعذالي ... ليست شعاب الهوى من طرق أمثالي
بارية الخال كفى عن عتاب فتى ... جم الوفاء كريم العم والخال
لم يثنه عنك بأن من حديث هوى ... ولا مغاداة غزلان بأغزال
لكن أنار زناد الشيب مفرقة ... بشعلة بصرته يقظة السالي
وأصلنه قاطعات عن وصالكم ... واعتاض عن شغله فيكم بإشغالي
فقر ما جاش من عذر ومن عذل ... وما يعارض من قيل ومن قال
ولو أنست إلى لهو لنفرني ... ما نفر الغيد من شيب وإقلال
خذي إليك ابنة البكري معذرتي ... أودي شبابي وحالت بعدكم حالي
لولا ثلاثون يحدوها ثمانية ... لكان مثلك من مثلي على بال
أصبوة بعدان أضربت عن طربي ... وقارع الموت اضرابي وإشكالي
طول التفكر في التقصير أقعدني ... عنكم وسكن بالإقصار بلبالي
فالآن فليعتزل هزلي مصاحبتي ... وليكثر الجد في إصلاح أعمالي
وقال رحمه الله:
ونادمت من أهوى على قهوة ... خلت سرور القلب في أسر
بدر لشمس الراح في وجهه ... أضعاف نور الشمس في البدر
وريقه العذب إذا صح لي ... سلوت عن رائقها المر
وقال:
أسرفت في ذا الصدود فاقتصد ... إن لم تعدني يا مسقمي فعد
لا تبخلن بالمقال منك إذا ... كنت ببعض الفعال لم تجد
وقل غدا موعد الوصال ولا ... تقصد لإنجازه ولا ت كد
علك تحنو علي بعد غد ... أو فلعلي أموت قبل غد
وقال:
ومعرب اللفظ لي من نحونه أبداً ... حذف وصرف وأعلال وتنكير
وجدي به وافر والدمع منسرح ... والصبر والغمض منقوص ومقصور
وحسنه كامل والعهد مقتضب ... والوصل والصد مقطوع وموفور
ولحظه ساكن والقد منتصب ... والقرط مرتفع والمرط مجرور
وقال رحمه الله:
إلا موت يباع إلا حمام ... فابذل فيه ما ملكت يميني
فإن الموت خير من حياة ... تواضع رتبتي فيها قريني
إذا ما نال من دوني مراداً ... أحاول دونه فيحال دوني
وأنشد الشيخ شرف الدين للعماد الكاتب رحمهما الله ملغزاً في غلبك:
لي حبيب نصف اسمه غل قلبي ... وأميري باقيه بالتركيه
أنا في ذلة العبودة منه ... وهو مني في عزة ملكيه
وأنشد للعماد أيضاً:
مرضى من هوى اللحاظ المراض ... أنا راض به وما أنت راضي
أنت يا عاذلي خلى من الوج ... د وقلبي شج فخلى اعتراض
حويت خلالاً على المخزيات ... جمعن وأخلاق ذا الخلق شتى
ا ما أمرت بخير صددت ... وإن تنه عن ورد شر وردتا
وما قيل تنشط إلا كسلت ... ولا قيل تصلح إلا فسدتا
يخالف قولك منك الفعال ... ويكثر ذا عند ذي العرش مقتا
أتفعل والذر يحصى عليك ... فليتك في الذر لا كنت كنتا
جعلت البطالة شغلاً لديك ... تقضي بها الدهر وقتاً فوقتا
إذا قيل جاف الخنا قلت قد ... وإن قيل ناف الدنا قلت حتى
وهبك تركت زمان الحيا ... ة فأين المفر إذا أنت متا
وكيف الفرار إذا ما الجبا ... ل نسفن فلم ترفيهن أمتا
سرى المتقين لكسب الفلاح ... ففيمن أقمت وفيما أقمتا
تضرع إلى الله في توبة ... نصوح مكفرة ما اقترفتا
وقلبك فاستفته مخلصاً ... مطيعاً إذا غيره الغر أفتى
متى يتجلى ظلم الظلم عنك ... إذا لم تناد نداء ابن متى
فيا رب أنت الغني الحليم ... أجرني من النار فيمن أجرتا
فما بك ضر إذا ما عصيت ... ولا بك نفع إذا ما أطعتا
وإن كنت أسرفت فيما عملت ... فعفوك والصفح عما عملتا
وقال:
أغراه إفراط إقبالي بجفوته ... وما درى أن أعراضي كإقبالي
إن الصدود لعذب مر مورده ... عندي لمن لم يوافق حاله حالي
وقال:
مولاي لا بت مبيتي على ... أخلاف ميعادك بالأمس
فأسعف اليوم بإنجازه ... فديت بالمال وبالنفس
فإن مضى حين على جفوتي ... مضى بي الحين إلى رمس
ما لي سوى هجرك من مأتم ... ولا سوى وصلك من عرس
سلطك الحسن على مهجتي ... والقلب في الإطلاق والحبس
فكيف تلبيس على عاذلي ... وليس في حالي من لبس
ما نور عيني في الدجى والضحى ... غيرك يا بدري ويا شمسي
يخرسني خوفك عن حجتي ... وإنني أفصح من قس
وتظهر الحبسة في منطقي ... حتى كأني حسن البرسي
وقال:
ربع اصطباري دمنه ... وسيوف عذالي كليه
فارعى جملي يا بثين ... وأسلفي عندي جميله
وللشيخ شرف الدين رحمه الله أشعار كثيرة لا يجمعها ديوان وكان من حسنات الدهر ومحاسنه وكان والده من الأعيان إلا فاضل العلماء الرؤساء متفننا في العلوم وله معرفة بالفقه والإحكام ولي القضاء غير مرة نيابة واستقلالاً وصحب القاضي ضياء الدين محمد بن المنصور بن الشهرزوري وكن له به اختصاص كثير وناب عنه في الحكم وفي نظر الأوقاف وغير ذلك، ووقفت على كتاب جمع فيه الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله أشياء من أخبار والده القاضي زين الدين محمد بن عبد المحسن المشار إليه رحمه الله، فمما علقت منه: قال الشيخ شرف الدين حضرت بني يدي والدي رحمه الله وقد قاربت خمس عشرة سنة فسألته عن عمره فقال خذ في شأنك هكذا ورد في حديث مسلسل فالححت عليه فأمرني فأحضرت كتاباً من كتب القراآت فأراني صفحة في آخره مكتوب عليه بخط جدي رحمه الله ولد الولد المبارك محمد في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة وتحته بخط والدي رحمه الله ولد الولد المبارك عبد العزيز ضحوة نهار الأربعاء ثاني وعشرين جمادة الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة فأخذنا نتعجب من هذا الاتفاق في السنة والشهر والجزء من الشهر، ثم انصرفت من بين يديه إلى حجرة كنت أخلو فيها بنفسي ففكرت أنه في يوم مولدي كان قد أكمل والدي عشرين سنة فنظمت بيتين وكتبت بهما إليه وهما:
يا رب قد أوجدت قبلي أبي ... في هذه الدنيا بعشرينا
فاجعله بعدي باقياً مثلها ... وارحم محباً قال آمينا
فكتب إلي في الحال:
لا بل أموت وتحيا ... في غبطة وخير محيا
حتى تصرف صرف ال ... زمان أمراً ونهيا
ثم كتب إلي بعدها.
لا بل أموت وتبقى ... من الخطوب موفى
ويرحم الله خلاً ... يقول آمين حقا
وما عهدك ممن ... أراد براً فعقا
وكتب تحتها إنما أردت بقافية البيت الثاني دعائ حقيقة بخلاف دعائك وجعلت قدحي في إدعائك عقوبة على اعتدائك ثم بات تلك الليلة فلما أصبح كتب إلي ليعلم الولد، أسلكه الله الجدد، وهيأ له الرشد، أني فرقت الليلة وفارقت واستشعرت من مضمون شعره فنظمت:
أيها النجل الشفيق ... كيف أخطاك الطريق
راعني منك دعاء ... لم يسغ لي منه ريق
قدك قد كلفت سمعي ... منه ما ليس يطيق
لم أخلك الدهر تلقا ... ني بشيء لا يليق
أعدو أنت أخبر ... ني بصدق أم صديق
سني من شعرك البا ... رد حر بل حريق
ما له لفظ جليل ... لا ولا معنى دقيق
لم يصح لي منه ... الأمقة منك وموق
اعف من برك هذا ... فمن البر عقوق
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله حفظ والدي القرآن العظيم وعمره تسع سنين وصلى التراويح بجامع دمشق برواق الحنابلة وتلقنه من صالح المقرئ وتأدب على الشيخ يوسف البوني ثم على الشيخ العالم الحكيم أبي محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان الغساني الأندلسي ثم على شيخنا تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وتفقه على الشيخ شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون ثم على الشيخ ضياء الدين الدولعي ونظم الشعر وأنشأ الرسائل وعمره عشر سنين وما حولها ومما نظمه في صباه:
وذات قوام إذا ما انثنى ... رأيت القلوب به في عنا
تراءت لنا كهلال السماء ... وظبي الفلاة إذا ما رنا
كشفنا لها بلسان الجفون ... ونطق الحواجب ما عندنا
فأفهمنا لحظها أنها ... تروم التواصل لو أمكنا
ولازمنا طرفها ناظراً ... يخبر أن بها مثلنا
ولولا محاذرة الكاشح ... حين وشرهم نولتنا المنا
ألم بها ما بنا من هوى ... ألم فيتمنا كلنا
ومن ذلك:
كأن الهلالي هلال السماء ... وقد لاح في قمص من سواد
حبيب أمات بهجرانه ... محباً وداري بلبس الحداد
وقال ملغزاً للبيضة:
ها أنا السابق أو واضعتي ... خبروا سابقنا بالتبديه
إن تكن مني فمن أين أنا ... أو أكن منها فمن أين هيه
وقال في السواك:
ومصحوب به أمر الرسول ... له لوني المغير والتحول
تنعم في مكان ما لخلق ... سواه إلى تقحمه سبيل
وقال الشيخ شرف الدين أنشدني شيخنا تاج الدين الكندي في التضمين:
يا ذا الذي في الحب يلحي أما ... والله لو حملت منه كما
حملت من حب رخيم لما ... لمت على الحب فذرني وما
أطلب أني لست أدري بما ... قتلت إلا أنني بينما
أنا بباب القصر في بعض ما ... أطلب من قصرهم إذ رما
شبه غزال بسهام فما ... أخطأ سهماه ولكنما
عيناه سهمان له كلما ... أراد قتلي بهما سلما
قال فأنشدتها والدي فقال أحسن منها أبيات حفظتها من أبيات من شعر ابن المعتز وهي:
يا نفس ويحك طالما ... أبصرت موعظة وما
نفعتك فأخشى وانتهي ... وعليك بالتقوى كما
فعل الأناس الصالحو ... ن وبادرى فلربما
سالم المبادر فاحذري ... يا نفس من سوف فما
خدع الشقي بمثلها ... إياك منها كلما
باحت مكايدها ضمير ... ك إنما هي إنما
خطر وكم قتلت واه؟؟ ... لكت النفوس وقلما
تغنى أما نيهاً إذا ... حضر الردى وكأنما
لم يجي من لاقى منيته فيا عجباً أما
في ذاك معتبر ولا ... شاف يقصر من عما
يا ذى المنى يا ذى المنى ... عش ما بدا لك ثم ما
ولجمال الدين همام الدولة الحسن بن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد ابن علي العبدي الأمير الموصلي:
وهب المدامة للمى ... واعتاض عن كأس فما
ظام إلى رشفات ما ... لولاه ما عرف الظما
يا برد ما أذكى الجوى ... بين الضلوع وأضرما
وكتب زين الدين محمد بن عبد المحسن المذكور إلى شمس الدولة ابن جميل وقد أهدى له ورقاً:
حبذا يا ابن جميل حبذا ... ورق أهديته لكن إذا
كان من خطك موشياً بما ... معتدي الطف شيء يعتذا
لنفوس تتمارى فيه هل ... يحتذى أو يحتدى أو يحتذا
وكتب إلى الشيخ تقي الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي الخراط الموصلي نزيل حلب يطلب منه ثوباً من ملبوسه يتبرك به فأنفذه إليه وكتب معه:
قميص عبد مذنب غافل ... زمانه في صفقة خاسره
فابك على من ظل في غفلة ... قد خسر الدنيا مع الآخره
ثم كتب الهروي إلى زين الدين يطلب منه ثوباً فأنقذه إليه وكتب معه:
قل لتقي الدين يا من هدى ... إلى العلى منهاجه الواضح
وافاك ثوبي فاطرحه فما ... يجتمع الصالح والطالح
ألبسه أدنى خادم مثلما ... يطعم كسب الحاجم الناصح
وقال زين الدين المذكور:
اقنع بأيسر ميسور من الزمن ... واشكر لربك ما أولاك من منن
واذكر ملابس من عدن يخص بها ... ذوو التقى واهجر الأبراد من عدن
إن شئت أن تدخل الجنات مجتنياً ... قطوفها فتوق النار بالجنن
وعاشر الناس بالمعروف مجتهداً ... وراقب الله في سر وفي علن
وقال أيضاً:
يا مولعاً بالأماني غير معتبر ... كيف الإقامة والدنيا على سفر
لا تركنن إلى دار الغرور ولا ... تسكن إلى وطن فيها ولا وطر
وسالم الناس تسلم من مكايدهم ... مسلماً لقضاء الله والقدر
كم منحة بدرت ما كنت تأملها ... ومحنة لم تكن منها على حذر
وقال أيضاً:
أبناء دهرك موتى ... فاعظم الله أجرك
لا ترج منهم حراكاً ... فالميت لا يتحرك
لا تعجبن لمسيء ... وأعجب لمن كان سرك
فانفر من الناس مهد ... عند الآله مقرك
وإن تصاونت عنهم ... فإن لله درك
وقال:
لو نفرنا عن السكون إلى الدن ... يا هدينا إلى سواء السراط
دار غدر وحسرة وانقطاع ... وبلاء وقلعة واشتطاط
أبداً تسترد ما وهبته ... كخليل ابن يونس الخياط
ومعناه أن عبد الله بن محمد بن سالم بن يونس الخياط كان له خليل يدعوه لمنادمته فإذا سكر خلع عليه ثوباً فإذا صحا من الغد بعث إليه فاستعاده منه وكان ابن الخياط هذا منقطعاً إلى الزبيريين فقال في ذلك:
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه عني إذا كان صاحيا
فلي فرجة في سكره بقميصه ... وروعاته في الصحو حصت جناحيا
فيا ليت حظى من سروري وروعتي ... يكون كفافاً لا علي ولا ليا
وكتب ضياء الدين بن الشهرزوري إلى زين الدين المذكور ورقة في مهم وطلب كتب جوابها في ظهرها فكتب في غيرها وسير ورقة ضياء الدين عطفها وكتب في ابتداء الجواب بديها:
ضياء الدين كم انهضت جدى ... فلم أنهض بأنعمك الجسيمه
أتاني خطك المرسوم نوراً ... بمرسوم عظيم في عظيمه
ورمت جوابه في الظهر منه ... لتأمن فيه غائلة النميمه
فلم أر أن أطيعك في ابتذالي ... له والرقم في طرس الرقيمة
فأرسلت الإجابة في سطور ... عطفن على المشرفة الكريمة
وللفقيه عمارة اليمنى مقطعات في طلب الأجوبة في الظهور منها:
أعد لي جوابي في ظهور رقاعي ... ليرجع سرى وهو غير مذاع
وإن عقتها عني لتصبح حجة ... علي فقد عاملتني بخداع
ولعمارة أيضاً:
إن شئت أن أكتب مسترسلاً ... إليك فيما عن من أمري
فأكتب على الظهر ولا تعتذر ... فإنه أكتم للسر
ولعمارة:
أتاني جوابك عن رقعتي ... على غيرها فأسأت الظنونا
فلا تعتذر عن جواب الظهور ... فبعض الظهور يفوق البطونا
ولا ترتهني بإمساكها ... فلست بتارك خطي رهينا
ولعمارة:
لم أرد الجواب في الظهر إلا ... عامداً في خفاء شكواك حالك
ولأن لا تبقى فيكشف بالي ... من خطوب كشفن بالفقر بالك
قال زين الدين كنت جالساً بسوق الخواصين بدمشق في حدود سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأنا إذ ذاك أجمع بين التجارة ونيابة ضياء الدين بن الشهرزوري في الأوقاف فوقف علي شاب، رث الحال والثياب، ظاهر الاكتئاب، عليه إثر المرض والفاقة مائل السمرة إلى السواد فناولني ورقه: فيها أبيات شعر يشكو فيها حاله، فقلت هذا شعرك؟ فقال نعم فرحمته وقلت له أنظم أبياتاً في ضياء الدين بن الشهرزوري لأحملها إليه واستمنحه لك وخذ هذا الدينار فتنفق في العاجلة، فسر سروراً ظهر عليه ثم مضى وأتاني في اليوم الثاني بأبيات رائية في ضياء الدين، فركبت ومشى معي يحادثني ويدعو ويشكر إلى أن وصلت إلى دار ضياء الدين فأوصلته إليه فسلم عليه ولم أكلفه إنشاد الأبيات لما هو عليه من الضعف وسوء الحال، ثم أخذت له من ضياء الدين خمسة دنانير وانصرف فرحاً مسروراً، ثم لم أره بعدها ولا علمت له نسباً ولا اسماً ومضت على ذلك مدة طويلة وانتقلت إلى جحماة ووليت بها نظر الأوقاف وقدم حماة الرشيد المصري المعروف بالصفوي بعد انصرافه عن خدمة الملك الأشرف، فتعصب له جماعة من الدولة المنصورية حتى ولي وزارة المال للملك المنصور الكبير فرام مني الحضور عنده فامتنعت فشكاني إلى الملك المنصور فقال له هذا ليس لك عليه اعتراض وما وليته إلا بالإكراه ليكون ناظر أوقاف الخليفة ناظر أوقافي فترك الرشيد معارضتي ثم أخذ في استمالتي ومباسطتي المودة فلم أنبسط إليه وفاء لزين الدين بن فويج لأن أمور الديوان كانت إليه قبل ولاية الرشيد، فلما تغير الملك المنصور على الرشيد وعزله واعتقله بجامع القلعة نفذت ولدي عبد العزيز إليه فعرض عليه من المعونة والمساعدة على نكبته بكل ما يليق بالحال فشكر وأثنى والتمس التلطف في خلاصه فسعيت بما أمكن ولم يكن عليه تعلق بل خدم في مكانه بحملة كبيرة فتحنى له الملك المنصور ذنباً وقال إنك لم تخدمنا خدمة تستحق عليها معلوماً فأردد ما أخذته في مدة ولايتك فرده، ثم حبس نوابه وطلب أن يسترجع ما أخذته في مدة ولايتك فرده، ثم حبس نوابه وطلب أن يسترجع ما أخذه من معاليمهم، فقال الرشيد إن هؤلاء حبسوا بسببي وأنا الذي عوقتهم عن مكاسبهم وأنا أقوم بما يطلب منهم فأدى عنهم نيفاً عن أربعة آلاف درهم وأخرجهم، وكانت هذه الفعلة من مكارمه التي حببته فزرته وصادقته وهاديته وباسطته فقال لي في خلوة مرة والله يا مولاي ما كان طلبي لك عند ولايتي لما توهمته من استضاقتك إلي ولا للتحكم عليك بك في عملك بل لأتعرف إليك وأتشرف بك وأكافئك على جميلك، فشكرته وقلت وأي جميل كان مني إليك فقال ما تعرف ذلك الأسود الفقير الأصفر الرث الحال والهيئة الذي وقف عليك بالخواصين وأعطاك ورقة فيها أبيات منها:
يا أجمل الناس في خلق وأخلاق ... عليك معتمدي من بعد خلاقي
أسعد مريضاً غريب الدار مفتقراً ... أبكى أعاديه من ضر وإملاق
فأحسنت إليه وعطيته وأمرته بمدح ابن الشهرزوري فنظم فيه أبياتاً منها:
غرة الظبي الغرير ... من هواها من مجيرى
؟فلاءن صد حبيبي ونفى عني سرورى
وأماتني الليالي ... موت ذي سقم فقير
فحياتي بأخي الجو ... دا بن يحيى الشهرزوري
أيها المولى ضياء ال؟ ... دين يا صدر الصدور
مسني الضر فاسعد ... ني على مشي أموري
فأوصله إليه وأخذت له جائزته منه أنا والله ذلك الشخص فذكرت القصة وأطرقت خجلاً واستحييت غاية الحياء فقال لي لا تطرق ولا تخجل فمن كانت حاجته إلى مثلك ما عليه عار ولا غضاضة وأعرفك أني بعد ذلك الوقت ما وقت في فاقة ولا احتجت إلى بذلة ولا رأيت أبرك مما صار إلي من مالك وجاهك فنبل في عيني غاية النبيل وصار بيني وبينه من المودة ما أربى على مودات غالب من تقدمه من الأصدقاء بهذا السبب ولو لم يعرفني بنفسه ما عرفته البتة، وكان يصلي الجمعة في المقصورة التي أصلي فيها فانقطع في بعض الجمع لعذر عرض فكتبت إليه:
يا ماجداً ألسن الورى أبداً ... بشكره المستفاض منطلقه
ومن مداناته مروحة ... إذ هو روح الفؤاد والحدقه
ومن أكف الزمان تكتب ما ... أمليه من شكره على الطرقه
ومن أغاث العافين من يده ... سحابة بالنوال منبعقة
إذا سحاب السماء جاد لهم ... بالقطر جادت بعسجد ورقه
ومن معاني مديح حضرته ... مأخوذة من علاه مسترقه
تؤمل سراقها إذا وصلوا ... إليه والقطع مقتضى السرقه
كان لنا كل جمعة منح ... بين المعالي والطول مفترقه
نقوم بالفرض ثم يلطفنا ... بحسن خلق سبحان من خلقه
فلم قطعت الإيناس عن نفر ... أهواؤهم في هواك متفقه
نعد إلى العادة القديمة كي ... تجمع بين الصلاة والصدقه
وأسلم ودم في سعادة وعلا ... تشمل هذي الشمائل العبقه
فكتب الجواب وكان اعتذر عني إلى الملك المنصور في أمر لبس عليه فأشار إليه:
جادت عليك السحائب الغدقه ... بكل بيت علاه متفقه
وأنت ذو فطنة لها حكم ... غزيرة لا تبيد بالنفقه
وليس شعري كفواً لشعركم ... بل هو شكر الأنعام بالصدقه
وما تكلفت باعتذاري عن ... ما كذب المدعي وما صدقه
ما الثانية في معنى النفي، فكتبت إليه:
يا ذا الأيادي الغر والمنبت ال ... حلو الجني والمنهل المستطاب
ومن حوى من كل فن فقد ... ناط إلى الحكمة فصل الخطاب
إن قمت بالمعضل فينا وقد ... غاب عن الخدمة كل الصحاب
فليس بالبدع الذي جئته ... منفرداً فيه ولا بالعجاب
مثلك من ساس عظيماً ومن ... قام بأعباء الأمور الصعاب
وهل لدفع الخطب مهما عرا ... جليله إلا الجليل اللباب
شرفني شعرك لما أتى ... منتظماً نظم لآلي السخاب
فراقي من لفظه رقة ... تقضي لعلياك برق الرقاب
فلم أؤخر خدمتي هذه ... تأخير جان يستحق العتاب
وإنما الشامي من بيته ... يأتي إذا كلمته بالجواب
فاسمع ثناء عنك ألفاظه ... أعذب من رشف الثنايا العذاب
وعش سعيد الجد حتى ترى ... غرابة الشيب وشيب الغراب
فكتب إلي مجيباً عنها:
رأيت أبياتاً قصوراً وما ... فيها قصور لا ولا ما يعاب
سكنت منها جنة زخرفت ... بطيب ألفاظ حسان عذاب
وقلت من أنشأ لنا هذه ... لقد أتى من كل شيء عجاب
قالت أنا أنشأني سيد ... يأخذ من كل المعاني اللباب
له رياضات وأخلاقه ... أعذب من رشف اللمى والرضاب
يستفتح الأمر بتدبيره ... فيفتح المغلق من كل باب
يميد من يسمع ألفاظه ... حتى كأن اللفظ منه شراب
فقلت هذا وصف زين الد ... نا والدين أعلى كل مولى نصاب
إن عاق سوء الحظ عن قربه ... فإن قلبي عنده في اقتراب
أو خانه الدهر فلا تكترث ... فكل ما فوق التراب تراب
وكان لزين الدين المذكور اليد الطولي في الترسل فمن أنشأته مما كتب عن نفسه: كان الخادم أدام الله سعادات المجلس دواماً يستنفد مدد الأيام، ويستمد دواعي الأنعام، ويسترق له أحرار الأنام، ويستحق بأنوار سعده أ، يمحو آيات الظلم والإظلام، وأنهى ما أحاطت به العلوم المولوية من تلزمه بأستار كعبة المكارم الأكرمية، واكتفائه الأخطار في تعلقه بأذيال المفاخر الخطيرية، واستيرائه زناد العزائم الوزيرية واستمطاره سحب الهمم الأفضلية، المفضلية مستجيراً بقبلة إقبالها ومستعيذاً بحرم جلالها، من عدوان دهر، وانهضام وفر، وانقسام فكرن وشتات أمر وثقل ظهر، وحرج صدر، ومن حادثات كلما قلت أقصرت عظائمها عني وولت توالت وما قولي كذا ومعي صبر ثم وقف بعد ذلك محففاً عن الخواطر من التكرار، وعالماً أن المولى بالمعتبة مستغن عن التذكار
ثم قد جدد الآن تعلقه بأذيال كرمه، وتمسكه وتعبده في مشاعر حرمه وتنسكه شاكياً من نبوة الدهر، وكرات الليالي، ولعمري أن الشكوى عنوان الخور، ونتيجة الضجر، وتظلم على القضاء والقدر، لكن:
ولا بد من شكوى إلى ذي حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ومن شكا إلى غيره فقد ملكه من نفسه رقاً وأوجب لها عليه حقاً، فالشكوى على هذا القياس مجلبة رق، يجب لأجله اختيار السيد وموجبة حق، يتعين بسببه ارتياد الغريم الجيد، وقد اختار الخادم لرقه سيداً حفياً، وارتاد لحقه غريماً ملياً وفياً:
فشكا إلى الماء الزلال أوامه ... وشكا السقام إلى الطبيب الماهره
وأجل شكواه من المولى بصدر واسع الصدر، ناصع الفخر، قادر على النفع والضر، مبسوط اليد بالخير وحاشاه من الشر:
يرد الحادثات على الموالي ... ويغريها بإرداء المعادي
تصرف في صروف الدهر حتى ... غدت وحزونها أسلس القياد
مقتضياً منه وعداً هو عليه دين قضاؤه واجب، وحق له من أريحيته مطالب، إذا أهمل اقتضاه الطالب، وقد علم المولى من طريقته العزلة في الغزلة والنفار عما يقضي بذله من البذله، والآن فقد نزل به من الضرورات ما أباح له ركوب المحظورات، فإن رأى المولى تصريفه في بعض الخدم اللائقة وإن لم تكن الفائقة ولا الرائقة، فقد استكتب في مثل بغداد فكتب ورسل فانجب وولى بها وبغيرها الولايات الجليلة، وعذق بنظره فيها وفي سواها حفظ الأموال الجزيلة، فنهض في الولاية النهضة المرضية، وسعى في الكفاية على الطريق المضيئة، فالمشير به آمن من أن يخطي، والشفيع له معط سلطانه ضعاف ما استعطى والخادم قد خرج من لائمة العقل والعقلاء، وقام بوظيفة الفضل عند الفضلاء وسلك بملتمسه جد التوفيق، وتوخى لمقصوده أسهل طريق وجرد لمطلوبه حسام النجاح من قرابه، وأتى بيت حبائه بمحبوبه من بابه واستسقى لظمائه الزلال العذب، واسترهف لنصرته الجراز العضب واستنهض لمهمته الهمام الندب، فإن ظفر بمرامه، وانتصرن على أيامه فغير بعيد أن ينال مراده من اتخذ المولى وسيلة قصده وإن استمر حول حاله التي شرحت ودامت عليه عقلة أموره التي جنحت، وجمحت وطاشت كفة حظه التي كانت قديماً رجعت، واستفحل فساد حركاته التي طالما استقامت وصلحت:
فذاك لحظي لا لعجز محكم ... إذا أمر الأيام في إطاعت
ووجه الشكر متوجه إلى المولى في الحالين، وأيدي الدعاء بدوام أيامه مبسوطة على كلا التقديرين، وبالعناية المتعينة والكفاية المتبينة يرتفع المن والعتب من البين، والرأي اسماً إن شاء الله تعالى، وندب لعقد نكاح ببغداد لبعض مماليك الخليفة على بعض جواريه، فقال بديهاً: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وشرع النكاح لعباده وأثابهم عليه أجراً، أحمده على نعمه التي أوجب التوثيق بحمدها شكراً، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أعدها للمعاد ذخراً، وأشد بها للرشاد أزراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى العالم طراً، الموروث عنه من الحكم ما يطبق الآفاق براً وبحراً، ويدعو إلى التناكح والتناسل ليعود قل المؤمنين كثراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة هم بها أحق وأحرى، وعلى عمه العباس بن عبد المطلب الذي فاق الأعمام شرفاً وقدراً، وأولد من الأئمة المهديين نجوماً زهراً، جد مولانا وسيدنا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين الذي أوسع الإسلام إنجاداً ونصراً، وأوسع الأنام إرفاداً وبراً، وقمع أهل الكفر والعناد إرغاماً وقهراً، صلى الله عليه صلاة ترفع له في الدارين رتباً وذكراً، وبعد فالنكاح من السنن المنوه بها شرعاً وعقلاً والأعمال المفضلة عند الحاجة إليها على أفضل العبادات إذا كانت نفلاً وبه تمت الحكم الإلاهية، ووردت الشريعة المحمدية، ونسخت المسافحة الجاهلية ورسخت أقدام المناسب الطاهرة الزكية، وقد رسم أعلى اله المراسم وأمضاها وأنفذها في أقصى الأرض وأدناها أثناء عقدة النكاح بين فلان وفلانة مملوكي الخدمة الشريفة المكتفيين بهذه العبودية في التلقيب شرفاً، وبهذه المملوكية ملكاً عظيماً مؤتنفاً على صداق مبلغه كذا وكذا فخاراً لله لأمير المؤمنين صلوات الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين في هذا المرسوم المبين ولمملوكيه في هذا العقد المتين، وجعله مقروناً لأمير المؤمنين، بالنصر والتمكين ولمملوكيه المذكورين بالرفاء والبنين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
وكان لزين الدين أخ يدعى نجم الدين أحمد وعنده سقوط همة ففارقه وصار وكيلاً عند القاضي زكي الدين الطاهر بدمشق وبلغ زين الدين رعاية القاضي له بسببه وسأله النجم أن يكتب إلى القاضي يشكره على إحسانه إليه فكتب: أولي الأنعام أدام الله سعادات المجلس العالي الزكوي وجددها، ومدمدة أيامه وأبدها، وبسط يد اقتداره وأيدها، وأبقى على أوليائه مواهب الآئه وخلدها، وحرس الشريعة المطهرة بحسن نظره وعضدها، وهيأ للأمة بواضح هديه وأرشدها، بأن يذكر ويشكر ويظهر، ويشهر، ويذاع وينشر، ويعترف بعوارفه ولا ينكر، أنعام لم يخدم المنعم به على ابتدائه بسالف خدمة ولا تقدمت له نهضة في مهمة وككان فاعله متبرعاً بفعله متطوعاً بما فرضه على مكارمه من مغله كأنعام المولى على مملوكه أحمد أخي الخادم فإن المولى أسبغ الله ظله شمله بأنعامه، ورعاه بطرف عنايته واهتمامه، من غير تقدم خدمة يرعى لأجلها، ولا سابق موالاة يمت مثله بمثلها وهكذا أنعام ذوي الأصول الكريمة والمكارم الأصيلة ما زال عارياً عن الأسباب الموجبة والموجبات المسببة، وقد كان الخادم قاطعه مقبحاً عليه ما اختاره لنفسه من الحرفة التي هي كاشتقاقها، والمهنة التي تفضي إلى انخرام الحرمة وانخراقها، حتى ورد كتابه أنه بين يدي المولى محفوظاً بعنايته، وملحوظاً برعايته، ومنتظماً في سلك خدمه، ومعتصماً بركن حرمه، وملازماً لبابه ومعدوداً من جملة خدمه وأصحابه فعدل الخادم، عن استقباح اختياره إلى استحسانه وعن استيهان رأيه إلى استمتانه، فإن من جمع الله عز وجل له ما جمعه للمولى من كرم المولد وشرف المحتد وطيب الأصول والتفنن في علم الفروع والأصول، ومواظبة اقتباس العلم، وإيناس الأتباع بالتواضع والحلم، إلى غير ذلك من الفضائل التي يضيق عنها العد، ولا يحصرها الحد، كان للمتعلم منه فضيلة العالم، وللوكيل، بين يديه رتبة الحاكم، وللقائم في خدمته منزلة القاعدة المتصدر، وللماشي في ركابه مكانة الراكب المتأمر، فنه لا نقص في خدمة كامل، ولا وهن في قبول الأفضال من فاضل، ولقد أصبح أنعام المولى عليه مسترقاً للخادم وجاراً لولائه وباسطاً لسان دعائه، وثنائه، وما سمع قبل المولى بمسترق سرى الرق إلى أخيه ولا بعبد أنجز إلى مولاه ولا أقاربه وذويه، وإنما المعهود في مواضع الوفاق العمل بالسراية في العتق لا في الاسترقاق وجر المولى من جهة مخصوصة بعد وجود الحرية ومع بقاء العبودية فلا زال المولى مما يوليه من الرغائب مخصوصاً بفضائل الغرائب، ولقد وصل الخادم في كتابه ما تواترات به الأخبار على كل لسان مجملاً من خصائص فضائل المولى وحسن سيرته وغزارة إحسانه ومروءته ما تمنى معه الكون في الخدمة المولوية متشرفاً بمشاهدتها، ومتنمياً بمرافدتها ومستعيناً بمعاضدتها ومستديلاً من الأيام بمساعدتها، والله تعالى يقرب من ذلك ما يقوم للخادم برفع قدره وللمخدوم بواجب شكره إن شاء الله تعالى.
عبد الكريم بن جمال الدين بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد أبو الفضائل عماد الدين الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي المعروف بابن الحرستاني، مولده في سابع عشر شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق سمع من ابن أبي القاسم عب الصمد ومن رجب الخشوعي والقاسم بن علي الدمشقي وحنبل وغيرهم وتولى قضاء دمشق نيابة واستقلالاً بعد أبيه ثم تولى الخطابة والإمامة بجامعها الأعظم إلى أن توفي ودرس بزاوية الغزالي وغيرها، وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية وكان من الأعيان وتوفي بدمشق في التاسع والعشرين من جمادى الأولى ودفن من يومه بجبل قاسيون وشهده خلق عظيم لا يحصون كثرة ووالده جمال الدين قاضي قضاة الشام كان أحد الفقهاء المشهورين بالعلم والمشايخ المذكورين بالدين والصلاح والحكام المعروفين باتباع الحق وتوخيه والصلابة في الأحكام والوقوف عند ما توجبه الشريعة الهادية.
وكان يعرف وينعت بتقي القضاة وولي القضاء بدمشق مدة نيابة واستقلالاً وسمع من جماعة كثيرة وعمر حتى تفر بأشياء من مروياته وكانت الرحلة إليه في وقته رحمه الله.
علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي أبو الحسن ضياء الدين أحد كتاب الحكم بدمشق كان فاضلاً من أعيان العدول، وله اشتغال بسماع الحديث وكتابته وسافر إلى الديار المصرية لشهادة تحملها فأدركه أجله هناك وتوفي بالقاهرة ليلة السبت رابع صفر ودفن خارج باب النصر شرقي القاهرة وقد نيف على الستين رحمه الله.
عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن أيوب بن شاذى الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح صاحب الكرك وقد ذكرنا في حوادث السنة الخالية حضوره إلى الملك الظاهر وقبضه عليه وأخذ الكرك منه وإنفاذه إلى الديار المصرية وكان والده الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن الملك الكامل قد ملك الديار المصرية بعد وفاة أبيه وصار الشام أيضاً في حكمه وابنه الجواد نائباً عنه، واتفق حضور الملك الصالح نجم الدين وأخذه دمشق من الجواد وأنه قصد التوجه إلى الديار المصرية ليملكها، وجرى ما قدمنا ذكره من خروج دمشق عنه وإمساكه وإعتقاله بالكرك ثم خروجه وتملكه الديار المصرية، وكل هذا مشهور وبقي الملك العادل معتقلاً بقلعة الجبل فلما عزم الملك الصالح على السفر إلى الشام في أواخر سنة خمس وأربعين تقدم بتسييره إلى الشوبك ليعتقل بقلعتها فضربت له خيمة ظاهر القاهرة ليخرج إليها ثم يمضي به إلى الشوبك ليعتقل بقلعتها فضربت له خيمة ظاهر القاهرة ليخرج إليها ثم يمضي به إلى الشوبك فامتنع من ذلك وقال ما أروح أصلاً ومهما اردتم فعله فافعلوه هنا فغضب الملك الصالح ومعه نفر يسير من مماليك الملك الصالح وتقدم إليهم بخنقه فخنقوه بقلعة الجبل وجهز وأخرج إلى مقبرة شمس الدولة ابن صلاح الدين خارج باب النصر فدفن بها رحمه الله وذلك في شوال سنة خمس وأربعين فكانت مدة اعتقاله بعد القبض عليه قريباً من ثمان سنين وعمره نحو ثلاثين سنة لأنه ولد سنة خمس عشرة عقيب وفاة جده الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب وكان جواداً كثير البذل أنفق الخزائن التي جمعها والده في السنين المتطاولة في مدة يسيرة وكانت أيامه زاهية زاهرة والأسعار في غاية الرخص لكنه لم يكن فيه سياسة يضبط بها الجند ولا معرفة يدبر بها المملكة وقدم الأراذل وآخر الأكابر ولما مات كان الملك المغيث صاحب هذه الترجمة صغيراً فأنزل إلى القاهرة وجعل عند عمات أبيه القطبيات بنات الملك العادل الكبير وإنما عرفن بالقطبيات لأنهن أشقاء الملك المفضل قطب الدين بن الملك العادل فبقي عندهن إلى أن مات الملك الصالح فقيل أن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أراد أن يسلطن الملك المغيث ويكون هو أتابكه وعزم على ذلك والأمير فخر الدين يومئذ بالمنصورة قبالة الفرنج وبلغ ذلك الأمير حسام الدين بن أبي علي وهو إذ ذاك نائب السلطنة بالقاهرة فتقدم بأخذ الملك المغيث من عند عمات أبيه واعتقاله بقلعة الجبل والاحتراز عليه فبقي في القلعة معتقلاً فلما وصل الملك المعظم إلى المنصورة أمر بقتل الملك المغيث من قلعة الجبل إلى قلعة الشوبك واعتقاله بها فنقل إليها وكان الملك الصالح نجم الدين لما تسلم الكرك من أولاد الملك الناصر داود رحمه الله سير إليها الطواشي بدر الدين بدر الصوابي نائباً بها وبالشوبك فلما وصل إليه الملك المغيث اعتقله بالشوبك كما رسم، فلما قتل الملك المعظم وبلغ الصوابي أخرج الملك المغيث وملكه الكرك والشوبك وأعمالهما وتولى تدبير أموره وقد ذكرنا من تفاصيل أحواله نبذة فيما مضى وكان ملكاً كريماً حليماً شجاعاً عادلاً محسناً إلى رعيته غير أنه لم يكن عنده حزم ولا حسن تدبير فإنه أنفق جميع ما كان عنده من المال على البحرية والشهرزورية في طمع تملك الديار المصرية ولم يحصل له ذلك وذهب ذلك المال العظيم في غير فائدة وكان جملاً عظيمة فإن الملك الصالح نجم الدين لما تسلم الكرك حمل إليها مائة ألف دينار عيناً غير الدراهم والأقمشة وغيرها وألجأت الضرورة للملك المغيث بذهاب ذلك إلى النزول من الكرك وخروجها من يده وذهاب روحه.
وكان الملك المغيث على مذهب أبيه في تقريب الأراذل والإصغاء إليهم وقد ذكرنا في السنة الماضية كيفية إمساكه وما نسب إليه والله أعلم بحقيقة ذلك وقيل إن جميع ما نسب إليه لم يكن له أصل بل مجرد شناعة ليقوم عذر الملك الظاهر عند الأمراء والناس فيما فعله فن سائر الأمراء في ذلك الوقت إلا القليل منهم كانوا غلمان بيته.
وحكى لي أن الملك الظاهر قال للأمير عز الدين أيدمر الحلى نائب السلطنة بالديار المصرية في ذلك الوقت دع من يقتل المغيث صاحب الكرك ممن تثق به غاية الوثوق وتوكد عليه في كتمان ذلك وطيه عن جميع الناس وأدفع إليه ألف دينار فأحضر الأمير عز الدين المذكور لأستاذ داره وكان رجلاً ديناً فيه خير وعنده تقوى وقال له أريد أن أندبك في أمر مهم تفعله وتكتمه عن جميع الناس ولا تطلع عليه أحداً من خلق الله فقال السمع والطاعة قال هذه ألف دينار مصرية تأخذها لك وتدخل إلى الملك المغيث صاحب الكرك تقتله فقال والله لو أعطيتني ملء هذه الدار دنانير ما فعلت هذا ولو ضربت رقبتي بل يأمرني الأمير بغير هذا ويبصر ما أفعل فانتهزه وحاوله بكل طريق فلم يجبه إلى ذلك فأعرض عنه وطلب شخصاً آخر من أصحابه فيه شر وعنده شهامة وإقدام وقال له ذلك فبادر إليه ودخل على الملك المغيث فتقله خنقاً وأخذ الألف دينار وشرع يشرب في دار له على بركة الفيل ويخرج من الذهب فقال له ندماؤه في حال سكره من أين لك هذا الذهب فأخبرهم أنه قتل صاحب الكرك وأعطى ألف دينار رضي الله عنه فشاع ذلك واتصل بالملك الظاهر وكان حريصاً على كتمانه ويظهر للأمراء أن المغيث في قيد الحياة موسعاً عليه فعظم ذلك على الملك الظاهر وأنكر على الأمير عز الدين الحلى وطلب الشخص القاتل منه فأحضره إليه فأمر باستعادة الألف دينار منه وقتله.
وكان قتل الملك المغيث في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة إحدى وستين رحمه الله.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي كان من أكبر الأمراء وأعظمهم مكانة في وقته وأعلاهم قدراً وأوسعهم صدراً وأكثرهم تجملاً وكان شجاعاً بطلاً جواداً حازماً وله في الحروب المواقف المشهورة واليد البيضاء والآثار الجميلة خصوصاً في وقعة التتر ظاهر حمص في أول سنة تسع وخمسين فإنه فاز بأجرها وشكرها وقد أشرنا إلى شيء من أحواله يما تقدم من هذا الكتاب.
وكان له في الفقراء والصالحين عقيدة حسنة ويكثر من الإحسان إليهم والبر بهم وافتقادهم بالنفقة والكسوة وغير ذلك وكان يعمل لهم السماعات ويحضر فيها من المآكل والمشارب والأراييح الطيبة والشموع ما يبهر العقل ويتجاوز الحد فكان يقدر ما يغرمه على السماع الواحد تقريب ثمانية آلاف درهم وكنت أسمع باحتفاله في مر السماع وعلو همته فأحمل الأمر على المجازفة في القول من الحاكي فاتفق أنه طلبني ليلة لحضور ذلك فحضرت عنده فكان الأمر على ما بلغني وأكثر فإنني لما دخلت داره التي بالعقيبة رأيت من الشموع الكافوري الكبار في الأتوار الفضة والمطعمة ما يقصر عنه الوصف ثم مد بعد صلاة المغرب سماطاً عظيماً يشتمل على قريب مائة زبدية عادلية كبار في كل زبدية منها خروف صحيح رضعي وقريب ثلاثمائة زبدية دون تلك في كل زبدية ثلاثة طيور دجاج وغير ذلك من أنواع الأطعمة، فلما فرغ الناس من الأكل صلوا العشاء الآخرة وشرع المغني في الغناء ورقص هو بنفسه بين الفقراء كأحدهم وكان يسلك من الأدب معهم والتواضع لهم ما لا مزيد عليه.
فلما فرغ المغني من النوبة الأولى مد سماطاً عظيماً يشتمل على عدة أطباق وصحون خزافية حلوى سكب وقطائف رطبة ومقلوة ومشبك وغير ذلك مما جميعه بالسكر المكرر المصري والفستق والمسك فأكل الناس من ذلك ما أمكنهم وحملوا بحيث شيل معظم ذلك في خرق الحاضرين فلما فرغوا من ذلك شرع المغني في الغناء من النوبة الثانية فرقص هو وغلمانه ومن حضر من الفقراء والمشايخ وغيرهم فلما فرغ المغني من النوبة الثانية مد سماطاً عظيماً من الفواكه النادرة من السفرجل والتفاح الفتحي والكمثرى الرحبي والرمان اللفان والحلو والعنب النادر والبطيخ الأخضر وكانت هذه الفاكهة التي حضرت معدومة في مثل ذلك الوقت يتعذر وجودها على غيره لأن ذلك كان في أواخر فصل الشتاء وإنما كان يدخر له ذلك بالقصد فإن قرية كفر بطنا وزبدين وعدة قرى من الغوطة كانت جارية في إقطاعه وبها الفواكه النادرة فأكل الناس من ذلك ما أمكنهم ثم غنى المغني النوبة الثالثة ورقص الجمع فلما فرغوا مد لهم سماطاً من المكسرات على اختلاف أنواعها من القصب العراقي والفستق والبندق والزبيب الجوزاني والفستق المملح والخشكنان والكعك المحشو والبقسماط المعمول بالسكر والسمن وغير ذلك فأكل الناس من ذلك وحملوا وجميع ما يمد على كثرته لا يرفع منه بقية البتة بل يؤكل منه ما يمكن ويتفارق الحاضرون ما بقي وينهب وجميع ما شرب في تلك الليلة من أولها إلى آخرها من الماء المصنوع بالثلج والسكر وماء الخلاف والورد والمسك والسقاة يملأون الكيزان من ذلك على الدوام ويسقون الناس والمباخر تعمل بالند والعنبر والعود الهندي النادر المعلى من أول الليل إلى آخره.
فلما كان وقت السحر أغلى حمام ابن السرهنك المجاورة لداره ودخل إليه ومعه معظم الجمع ولم أدخل أنا.
فحكى لي الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد اليونيني رحمه الله وكان حاضراً قال بعد خروجك دخلنا الحمام فجعل الأمير يخدم الفقراء بنفسه وغلمانه فلما خرجوا كان منهم جماعة خلعوا قمصانهم ودلوقهم فأحضر لهم قمصاً جدداً وثياباً جدداً في نهاية الحسن والمناسبة لما يليق بهم ثم خرج واستدعاهم إلى داره وسقاهم من الأشربة ما يناسب الحمام ويلائمه ومد لهم سماطاً عظيماً من الططماج وأحضر لهم حلوى سخنة فأكلوا وانصرفوا وأما هو فإنه خلع على المغني من ملبوسه عدة بغالطيق تساوي جملة كبيرة وكذلك غلمانه وكان هذا السماع في آخر سنة تسع وخمسين والغرارة القمح بدمشق فوق ثلثمائة درهم والرطل اللحم بالدمشقي بمبلغ سبعة دراهم والدجاجة بمبلغ ثلاثة دراهم. وجميع الأشياء غالية جداً وكانت وفاته رحمه الله في رابع عشر المحرم ودفن بسفح قاسيون مجاوراً لقبر الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله عليه وقد ناهز خمسين سنة من الممر وقيل أنه سم وإن مملوكه جمال الدين كندغدي واطأ عليه وقابل إحسانه العظيم المفرط بذلك فإنه كان قد خوله وموله وهو عنده أعز ومن الولد فباعه بأبخس الأثمان والله أعلم بحقيقة ذلك وخلف الأمير حسام الدين تركة جليلة المقدار من الخيول والعدة والأموال وغير ذلك رحمه الله.
محمد بن حمدان بن جراح بن الحسن بن محمد بن أحمد بن مال وعبد الله شرف الدين النميري كان فاضلاً ينظم العشر على طريقة العرب وتلقب نفسه زعيم نمير وكان شيخاً لطيفاً رأيته غير مرة عند والدي رحمه الله بدمشق وسمعته ينشد مقاطيع من شعره وكانت وفاته بقرية كفر بطنا في ثاني شهر رمضان المعظم ودفن بها وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفرج أبو الفرج زين الدين الإسكندري سمع من الحافظ علي بن المفضل المقدسي وغيره وتولى القضاء والخطابة ببلده مدة وكان أحد رؤسائها ومن ذوي بيوتها ولأهله بها الآثار الجميلة من الأوقاف على أبواب..... وغير ذلك وكان زين الدين عاملاً فاضلاً سقط عليه بعض جدار داره فمات في العاشر من شهر رجب رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة أبو بكر محي الدين الأنصاري الأندلسي الشاطبي مولده في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسماية بشاطبة سمع الكثير وولى مشيخة دار الحديث البهائية بحلب ثم قدم الديار المصرية وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته وحدث وكان أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل وأحد المشايخ المعروفين بمعرفة طريق القوم وله في ذلك الكلام الحسن والإشارات اللطيفة مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق واطراح التكلف ورقة الطبع ولين الجانب، وكانت وفاته في يوم الثلاثاء العشرين من شعبان بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله، ومن قلائد الجمان: الشيخ محي الدين من أبناء القضاة الفقهاء حفظ الكتاب الكريم وتفقه على مذهب مالك بن أنس رحمة الله عليه ورحل إلى المدينة السلام في طلب الحديث فلقي بها جماعة من مشايخها كأبي حفص عمر بن كرم الدينوري وأبي علي الحسين بن المبارك ابن محمد الزبيدي وأبي الفضل عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران وغيرهم وقدم مدينة إربل وقرأ على أبي الخير بدل التبريزي في سنة ست وعشرين وستمائة، وكان محي الدين رجلاً فاضلاً متنسكاً عاقلاً ذا دين وعفاف وبشر ووقار جيد المعرفة بمعاني الشعر صالح الفكرة في حل التراجم ومن شعره:
إلى كم أمني النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضى
؟وقد مر لي خمس وعشرين حجة ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى
وأعلم أني والثلاثون مدتي ... حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا
فماذا عسي في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوب من العسر قد أفضى
فيا رب عجل لي حياة لذيذة ... وإلا فبادر بي إلى العمل الأرضى
وكتب إلى بعض ملوك المغرب:
لقاؤك عيد بالنجاح بشير ... وتقبيل بمني راحتيك حبور
بهاؤك في لحظ المواسم موسم ... ونشرك في ريا العبير عبير
وما عادنا من عيدنا غير وافد ... يحول عليه الحول ثم يزور
له أمل في لثم لقياك مدرك ... وطرف بها يرنو إليك قرير
سرى نحوكم مذ عام أول جاهداً ... يجوب عراض البيد وهي شهور
فبشراه وفي النفس ملء فؤادها ... سروراً وإن أعيت وطال مسير
وناجيت نفسي والهوى يبعث الهوى ... وطال بي التسويف وهو غرور
أأترك موسى ليس بيني ويبنه ... سوى ليلة إني إذن لصبور
فملت بودي وانحياشي وهمتي ... إليك وفيها عن سواك نفور
وأيقنت أني إذ أخذت بحبلكم ... على ريب دهري من أشاء أجير
هما منثني الأعناق نحو علائه ... كمال بأهواء النفوس جدير
ينوب عن الدر النفيس كلامه ... وما ناب عن جدوى يديه بحور
إذا اصفرت أيدي السحاب فكفه ... سحاب بآفاق السماح دروز
وقال محي الدين أيضاً وقيل كنيته أبو القاسم:
وصاحب كالزلال يمحو ... صفاؤه الشك باليقين
لم يحص إلا الجميل مني ... كأنه كاتب اليمين
وهذا عكس قول الشهاب المنازي وهو:
وصاحب خلته خليلاً ... وما جرى عذره ببالى
لم يحص إلا القبيح مني ... كأنه كاتب الشمال
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن علي ابن الحسين بن قرناص أبو عبد الله ناصر الدين الحموي الخزاعي وبقية نسبه مذكور في ترجمة عمه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن قرناص في سنة أربع وخمسين، مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من شوال هذه السنة وكان عالماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعا كريم الأخلاق حسن الأوصاف جميل العشرة جم الفوائد، ومن شعره في ترتيب حروف كتاب المحكم في اللغة لابن سيده:
عليك حروفاً هن خير غوامض ... قيود كتاب جل شاناً ضوابطه
صراط سوي زل طالب دحضه ... تزيد ظهوراً ذا ثبات روابطه
لذلكم نلتذ فوزاً بمحكم ... مصنفه أيضاً يفوز وضابطه
وهذه الأبيات أنسب من الأبيات التي عملها بعض أدباء المغرب في مثل ذلك وأليق بالكتاب والأبيات القديمة:
علقت حبيباً همت خيفة غدره ... قليل كرى جفن شكا ضر صده
سبي زهوه طفلاً ديانة تائب ... ظلامته ذنب ثوى ربع لحده
نواظره فتاكة بعميده ... ملاحته أجرت ينابيع وجده
وكتاب المحكم في اللغة كتاب نفيس في خمس عشرة مجلدة لم يصنف في بابه مثله وهو تأليف أبي الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر ابن عبد الله الحميدي عنه كان إماماً في اللغة والعربية حافظاً لهما على أنه كان ضريراً وقد جمع في ذلك جموعاً، وله مع ذلك في الشعر حظ وتصرف كان منقطعاً إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري ثم حدث له نبوة بعد وفاته في أيام إقبال الدولة بن الموفق خافه فيها فهرب إلى بعض الأعمال المجاورة لأعماله وبقي بها مدة ثم استعطفه بقصيدة أولها:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا
ضحيت فهل من برد ظلك نومة ... لذي كبد حري وذي مقلة وسنا
ونضو هموم طلحته طياته ... فلا غارباً أبقين ولا متنا
هجان نأى أهلوه عنه وشفه ... قراف فأمسى لا يدس ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محوم ... على الورد لاعنه أذاد ولا أدنا
تحيفني دهر وأقبلت شاكياً ... إليك أمأذون لعبدك أم يثنا
وإن تتأكد في دمي لك نية ... بسفك فإني لا أحب له حقنا
دم كونته مكرماً تك والذي ... يكون لا عتب عليه إذا أفنى
إذا ما غدا من حرسيفك بارداً ... فقد ما غدا من برد برك لي سخنا
وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ما عمرت من ندم سنا
ولله دمعي ما أقل استنانه ... إذا في دمي أمسي سنانك مستنا
ومالي في دهري حياة الذها ... فيعتدها نعمي علي ويمتنا
إذا قتلة أرضتك منا فهاتها ... حبيب إلينا ما رضيت به عنا
وهي طويلة صرف فيها القول ووقع عنه الرضا بوصولها، ومات بعد خروجي من الأندلس قريباً من سنة ستين وأربعمائة رحمه الله، وذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله في وفيات الأعيان فقال الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي كان إماماً في علم اللغة والعربية حافظاً لهما وقد جمع في ذلك جموعاً من ذلك كتاب المحكم في اللغة وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب المخصص في اللغة وكتاب الأنيق في شرح الماسة في ست مجلدات وغير ذلك وكان ضريراً وأبوه ضرير، قال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون علي غريب المصنف فقلت لهم انظروا من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه على من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه، وكان له في الشعر حظ وتصرف وتوفي بحضرة دانية عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة أو نحوها، قال قاضي القضاة رحمه الله ورأيت على ظهر مجلد من المحكم بخط بعض فضلاء الأندلس أن ابن سيده المذكور كان يوم الجمعة قبل الصلاة صحيحاً سوياً إلى وقت صلاة المغرب فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه فبقي على تلك الحال إلى العصر من يوم الأحد ثم توفي إلى رحمة الله وقيل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة والأول أصح وأشهر ودانية مدينة في شرق الأندلس.
محمد بن أبي بكر بن سيف أبو عبد الله شمس الدين التنوخي الموصلي الوتار ولد بالموصل في سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وسبعين وخمسمائة واشتغل بالأدب وكان فاضلاً وله نظم جيد وسكن دمشق مدة وتولى خطابة المزة وخطب بها إلى أن توفي بها في ثامن عشر ذي الحجة رحمه الله، ومن شعره في المشيب والخضاب:
وكننت وإياها مذ اختط عارضي ... كروحين في جسم وما نقضت عهدا
فلما أتاني الشيب يقطع بيننا ... توهمته سيفاً فألبسته غمدا
موسى بن إبراهيم بن شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذى أبو الفتح الملك الأشرف مظفر الدين ملك بعد وفاة أبيه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم في سنة أربع وأربعين حمص وتدمر والرحبة وزلوبية وهو صغير السن وقام بتدبير دولته وزيره مخلص الدين إبراهيم بن إسماعيل بن قرناص فسلم قلعة شميميس إلى الملك الصالح نجم الدين ليعتضد به بإشارة وزيره مخلص الدين فعظم ذلك على الملك الناصر صلاح الدين يوسف وجهز إليه العساكر مع الأمير شمس الدين لؤلؤ وأخذ حمص وعوضه عنها تل باشر وقد أشرنا إلى ذلك، ولما قصد الملك الناصر رحمه الله التوجه إلى الديار المصرية في سنة ثمان وأربعين كان في خدمته فلما كسر العسكر بالسابح كان الملك الأشرف فيمن أسر وحمل إلى قلعة الجبل بالقاهرة فحبس بها إلى، وقع الصلح بين الملك الناصر والملك المعز في المحرم سنة إحدى وخمسين بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي فأطلق مع من أطلق من أصحاب الملك الناصر وقدم عليه طامعاً في أن يعيد عليه حمص، فلما يئس من ذلك توجه إلى تل باشر وكتب إلى الملك الناصر يستأذنه في مراسلة صاحب الموصل وصاحب ماردين وقال إنهما كتبا إلي يهنياني بخلاصي وذكر أن صاحب الموصل يضايقه في الرحبة ويلزمه بعمل جسر قرقيسيا فأذن له فراسلهما وجعل ذلك وسيلة إلى إرساله قصاده إلى التتر ثم طلب إذناً ثانياً أن يبعث إلى بلاد الروم جواسيس يكشفون له أخبار التتر ويطالعونه بها ليكون المسلمون على يقظة منهم فأجابه إلى ذلك وكل ذلك وسيلة إلى مراسلتهم لحقد كامن في صدره للملك الناصر بسب أخذه حمص منه ولم تزل كتبه واردة على الملك الناصر بما يحدث به الرهبة وكتب التتر تصل إليه بما يعتمده من تثبيط عزم الملك الناصر ولما استولت التتر على حلب خرج مع الملك الناصر من دمشق يوم الجمعة خامس عشر صفر سنة ثمان وخمسين إلى الصنمين ثم فارقه منها وتوجه إلى تدمر وقصد هولاكو وهو على قلعة حلب يحاصرها فأقبل عليه هولاكو وأمره بالحديث مع أهل قلعة حلب فتوسط بينه وبينهم حتى سلموها في تاسع ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وبقي عنده يسفر بينه وبين من في القلاع حتى سلمها له، فلما أراد هولاكو العود إلى بلاده ولاه الشام بأسره نيابة عنه وأعاد إليه حمص مع تدمر والرحبة وغيرها مما كان في يده، ولما توجه الملك الناصر إلى هولاكو نزل عليه في طريقه فلم يلتفت إليه ولا احتفل به وأغلظ له في التوبيخ والتقريع، ولما عزم الملك المظفر قطز رحمه الله على لقاء التتر كتب إليه كتاباً يسفه رأيه فيه على ما اعتمده من ميله إلى التتر وانحيازه إليهم واختياره لهم على المسلمين ويعده أنه متى خرج عنهم ومال إليه بشرط أن لا يقاتل معهم إذا كان بينه وبينهم مصافاً أبقى عليه ما في يده من البلاد فأجابه إلى ذلك ولما عزم كتبغا على لقاء الملك المظفر رحمه الله طلبه إليه فاعتذر وتمارض وبعث ابن عمه الملك المعظم وصارم الدين أزبك الحمصي مقدم عسكره فلما من الله تعالى بكسرة التتر وهرب من كان من اتباعهم كان الملك الأشرف بدمشق فهرب مع الزين الحافظي ونواب التتر بدمشق فلما وصلوا قارا فارقهم وتوجه إلى تدمر وراسل الملك المظفر فحلف له على ما كان بيده من البلاد خلا تل باشر ثم وصل دمشق وافداً على الملك المظفر رحمه الله فأكرمه وتقدم إليه بالمسير إلى حمص والتصرف في بلاده التي حلف له عليها، فلما قتل الملك المظفر وولي الملك الظاهر واستولى الأمير علم الدين الحلبي على دمشق حلف للملك الظاهر باطناً وللأمير علم الدين الحلبي ظاهراً ولما قصدت التتر حلب في أواخر سنة ثمان وخمسين وخرج منها من بها من العزيزية والناصرية قصدوا حمص فآواهم وأحسن إليهم وقام لهم بالضيافات والإقامات وخرج التتر من حلب في طلبهم. فلما وصلوا حمص في أوائل شهر المحرم سنة تسع وخمسين خرج إليهم وحاربهم مع العزيزية والناصرية وصاحب حماة فكسروهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان التتر زهاء ستة آلاف فارس وهرب من سلم منهم ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد وكان الملك الأشرف في هذه الوقعة أعظم غناء فرأى له الملك الظاهر ذلك ونبل قدره عنده وأعاد إليه تل باشر لما خرج إلى الشام في شوال سنة تسع وخمسين مع ما في يده ولم يزل ملحوظاً منه بعين الرعاية إلى أن حصل عنده تخيل عن الملك الظاهر عند عوده إلى حمص من خدمته لما كان على
الكرك وقبض على صاحبها فتواتر الأخبار عنه بإظهار أمور كامنة كانت في نفسه فعزم الملك الظاهر على الوثوب به واستئصاله بالكلية فعاجله المرض وتوفي في حادي عشر صفر أو عاشره من هذه السنة بحمص قبل صلاة الجمعة ودفن ليلاً على جده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بالمدرسة التي أنشأها بباطن حمص رحمه الله وكان ملكاً جليلاً حازماً خبيراً مدبراً متيقظاً شجاعاً ساوساً على الهمة كبير النفس أبيها له باطن وغور وتحيل ودهاء وتأتى في بلوغ مقاصده وأغراضه وافر العقل قليل البسط والحديث مقيداً لألفاظه ملازماً للناموس في سائر أوقاته حتى في خلواته مع غلمانه وخواصه يحذو في ذلك حذو الملك الصالح نجم الدين، ولما توفي إلى رحمة الله وجد له من الصين المصري والدراهم والجواهر والذخائر ما يعظم خطره ويكثر بعضه على مثله ولم يخلف ولداً وتسلم الملك الظاهر سائر بلاده وحواصله عقيب موته خلا قلعة تدمر فإن تسليمها تأخر إلى بعد شهرين من وفاته ثم سلمت وهو آخر الملوك من بيت شيركوه رحمه الله تعالى ومولده في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة.رك وقبض على صاحبها فتواتر الأخبار عنه بإظهار أمور كامنة كانت في نفسه فعزم الملك الظاهر على الوثوب به واستئصاله بالكلية فعاجله المرض وتوفي في حادي عشر صفر أو عاشره من هذه السنة بحمص قبل صلاة الجمعة ودفن ليلاً على جده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بالمدرسة التي أنشأها بباطن حمص رحمه الله وكان ملكاً جليلاً حازماً خبيراً مدبراً متيقظاً شجاعاً ساوساً على الهمة كبير النفس أبيها له باطن وغور وتحيل ودهاء وتأتى في بلوغ مقاصده وأغراضه وافر العقل قليل البسط والحديث مقيداً لألفاظه ملازماً للناموس في سائر أوقاته حتى في خلواته مع غلمانه وخواصه يحذو في ذلك حذو الملك الصالح نجم الدين، ولما توفي إلى رحمة الله وجد له من الصين المصري والدراهم والجواهر والذخائر ما يعظم خطره ويكثر بعضه على مثله ولم يخلف ولداً وتسلم الملك الظاهر سائر بلاده وحواصله عقيب موته خلا قلعة تدمر فإن تسليمها تأخر إلى بعد شهرين من وفاته ثم سلمت وهو آخر الملوك من بيت شيركوه رحمه الله تعالى ومولده في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة.
نصر بن تروس بن قسطة بن عبد الله الإفرنجي الأصل الحاج أبو محمد العضوي الزكوي، سمع من أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وحدث وكان رجلاً خيراً ديناً سليم الصدر ملازماً للصلوات الخمس في الجماعة مثابراً على قضاء حوائج المعارف ذا ثروة وجدة وتوفي في جمادى الأولى بدمشق رحمه الله وخلف عدة من الأولاد ذكوراً وإناثاً.
يحيى بن علي بن عبد الله بن علي بن مفرج بن أبي الفتح أبو الحسين رشيد الدين القرشي الأموي النابلسي الأصل المصري المولد والدار والمالكي العطار مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة وتوفي بمصر في ثاني جمادى الأولى من هذه السنة ودفن من الغد بسفح المقطم سمع من خلق كثير وحدث بالكثير وخرج تخاريج مفيدة وجمع جموعاً حسنة، وكان إماماً عالماً فاضلاً حافظاً ثبتاً عارفاً بالصناعة الحديثية وإليه انتهت رئاسة الحديث بالديار المصرية بعد الحافظ زكي المنذري رحمه الله وكتب بخطه الكثير وكان خطه حسناً ووقف جملة من كتبه على من ينتفع بها من المسلمين وكنت قصدت رؤيته في منزله بمصر في شهر رمضان المعظم سنة تسع وخمسين وستمائة فخرج إلي وناولني كتاباً من مروياته وأجاز لي ما تجوز له روايته ويجوز لي روايته عنه رحمه الله.
أبو القاسم بن منصور بن يحيى اللكى الإسكندراني الشيخ الصالح الزاهد المعروف بالقباري كان أحد العباد المشهورين بكثرة الورع والتحري في المأكل والمشرب والملبس معروف بالانقطاع والتخلي وترك الاجتماع بأبناء الدنيا والإقبال على ما يعنيه من أمر نفسه وطريقه الذي سلكه قل أن يقدر أحد من أهل زمانه عليه وخشونة عيشه وما أخذته نفسه من الوحدة وعدم الاجتماع بالناس والجد والعمل والاحتراز من الرياء والسمعة لا يعلم في وقته من وصل إليه وكان يقصد زيارته ورؤيته والتبرك به الملوك ومن دونهم فلا يكاد يجتمع بأحد منهم وأخباره في الورع والعبادة مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة بشرحها وتوفي في ليلة الاثنين السادس من شعبان ببستانه بجبل الصيقل ظاهر الإسكندرية ودفن به بوصية منه، وقبره يزار ويتبرك به وزرته في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وستمائة ودعوت الله تعالى عند قبره بدعوات توسلت به فيه وظهر لي أثر بركة زيارته والتوسل به في إجابة دعائي في بعض ما سألته وأرجو الإجابة في جملته إن شاء الله تعالى وبيع الأثاث الموجود في منزله وقيمته دون خمسين درهماً ورقاً بما يزيد عن عشرين ألف درهم تزايد الناس فيه رجاء البركة حتى بلغ الإبريق الذي كان يستعمله ويتوضأ فيه للصلاة جملة كبيرة وقيمة مثله لا يبلغ ثلاثة فلوس وكان قد تناهى في الورع ولما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى الخليج الواصل إلى الإسكندرية من النيل أعرض عن مائه وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئراً كان يشرب منها وينقل الماء منها بالجرار على دابة ليسقي بستانه وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها ولا يأكلها لاحتمال أن طائراً جناها من نخل غيره وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله رحمه الله وأعاد علينا من بركاته وأوصى أن يطمس قبره، ومولده في سنة سبع وثمانين وخمسمائة وعمى في آخر عمره قدس الله روحه.
؟
السنة الثالثة والستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية خلا الملك الأشرف صاحب حمص فإنه توفي وانتقل ما كان بيده إلى الملك الظاهر وكان الملك الظاهر بقلعة القاهرة.
متجددات هذه السنةفي العشر الآخر من المحرم بلغ الملك الظاهر أن جماعة من الأمراء والأجناد اجتمعوا على أكل ططماج في دار فزادوا في الكلام بما معناه القدح في الدولة وغالى في ذلك ثلاثة نفر فسمر أحدهم وكحل الآخر وقطعت رجل الثالث فانحسمت مادة الاجتماعات بعد ذلك.
وفي تاسع عشري ربيع الأول قطعت أيدي جماعة من نواب بهاء الدين يعقوب بن حاتم وإلى القاهرة والخفراء وأصحاب الأرباع والمقدمين وكانوا ثلاثة وأربعين رجلاً وسبب ذلك ظهور شلوح ومناسر بالقاهرة وضواحيها فنهبوا وقتلوا وانتهى بهم الفساد إلى التعرض بالعربان النازلين تحت القلعة ليلاً فكثر اللغط والصياح وسمعهم الملك الظاهر فسأل فأخبر بصورة الحال فقال تنتهك الحرمة إلى هذا الحد، فلما أصبح حمل الوالي رقع الصباح ولم يذكر فيها ما فعله المنسر بالعريان فوبخه وانتهره وأخبره بما اتفق فقال ما لي ذنب فإن النواب والخفراء لم يطلعوني على ذلك فأمر السلطان بما ذكرناه آنفاً فمات بعضهم وبقي بعضهم.
وفيها وردت الأخبار بنزول التتر على البيرة وحصارهم لها فجهز الملك الظاهر في شهر ربيع الآخر عسكراً قدم عليه الأمير عز الدين يغان الركني المعروف بسم الموت والأمير جمال الدين آقوش المحمدي وتقدم إلى صاحب حماة بالتوجه معهم بعسكره وكذلك إلى عسكر حلب فسارت العساكر وعبرت الفرات وكان الملك الظاهر قد أمر عيسى بن مهنا بعد أن بعث إليه أجناداً بسلوك البرية إلى حران والغارة عليها فلما بلغ التتار عبور العساكر وغارة ابن مهنا رحلوا عن البيرة وعادت العساكر إلى الديار المصرية.
وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر توجه الملك الظاهر بعساكره قاصداً قيسارية فنزل عليها وحاصرها إلى أن فتحها عنوة في ثامن جمادى الأولى وعصت عليه قلعتها بعد فتحها عشرة أيام ثم فتحها وهرب من كان بها إلى عكا فأخرب الملك الظاهر المدينة والقلعة وتركهما دمنة وملك لأعيان الأمراء الذين كانوا معه والغائبين عنه بالبيرة لكل واحد منهم نصف قرية وملك ولدي صاحب الموصل سيف الدين وعلاء الدين وملك الأمير ناصر الدين القيمري وقدمه على العسكر ورتبه نجيبين وأعطاه خبزاً وملك الأمير شرف الدين بن أبي القاسم وهو بطال نصف قرية ثم رحل إلى أرسوف ونزل عليها ونصب المجانيق ورمى أبراجها فعبثت بها وعاثت فيها وأختها النقوب من جهاتها وتكرر عليها الزحف إلى أن تداعى برج من أبراجها تجاه الأمير بدر الدين الخزندار فهجم البلد منه بمن معه من العسكر على غفلة من أهلها فوقع القتل فيهم والأسر واقتسم العسكر ما كان بها من الحواصل، وذلك يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب ثم خربت أيضاً وأصدرت كتب البشائر من السلطان بالفتوح فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله من إنشاء فتح الدين عبد الله بن القيسراني من مضمونها: جدد الله البشائر الواردة على المجلس السامي القضائي وأسره بما أسمعه، وأبطل ببركته كيد العدو ودفعه، وجاء بها سبب الخير وجمعه، ولا زالت التهاني إليه واردة، والمسرات عليه وافدة، ونعم الله وبركاته لديه متزايدة، هذه المكاتبة تبشر بنصر من الله وفتح قريب، وهناء يأخذ له المجلس منه أوفر نصيب، وتوضح لعلمه الكريم أنه لما كان يوم الاثنين التاسع من شهر رجب المبارك قدمنا خيرة الله تعالى وزحفنا على مدينة أرسوف بعساكرنا المنصورة وأدرنا بها الأطلاب للزحف، وكانت مرتبة على أحسن صورة وتناولناها مناولة القادم إذا ضم ضمة المشتاق، واستولينا على جميع أهلها فأضحى كل منهم من القيد في وثاق، وأضرمنا بها النيران فعجل الله لهم بها في الدنيا قبل الآخرة الإحراق، وجرعناهم غصص الموت فتجرعوها مرة المذاق، وكانت مدة القتال ثلاثة أيام آخرها يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب المبارك فلم يفلت منهم أحد. وعاجلناهم في هذه المدة القريبة فلم يغنهم ما فعلوه في تحصن البلد ولم يمس أحد منهم في ليلة الجمعة وقد نجا من القتل إلا وهو أسير، واحتطنا بها فما نجا منهم بحمد الله صغير، ولا كبير وعجلنا للمجلس بهذه البشارة ليأخذ منها حظاً وافراً، ويقرأ آيات نصر الله على أصحابه من الفقهاء والعدول ويحدث بها فيكون تالياً لها بين الأنام وذاكراً، ويكتب بمضمون ذلك إلى نوابه من الحكام، وليشهر هذا الخبر السعيد بين الأنام، ويواصلنا بدعائه فإننا نرجو به الزيادة والله تعالى يجزينا ويجزيه من ألطافه على أجمل عادة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى: كتب ثاني عشر شهر رجب المبارك وبين الأسطر وعدة الأسرى ألف أسير وما القتل فكثير لأن القلعة أخذت بالسيف.
وعاد الملك الظاهر إلى القاهرة وزينت لدخوله فدخلها في ثاني عشر شعبان من باب النصر وخرج من باب زويلة وعبر بالأسرى على الجمال وكان يوماً مشهوداً، وفي جمادى الآخرة وقعت نار بحارة الباطلية بالقاهرة فأحرقت ثلاثة وستين داراً جامعة ثم كثر الحريق بعد ذلك بمصر حتى أحرق ربع فرج وكان وقفاً على أشراف المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه بحيث لم يبق فيه مسكن والوجه المطل على النيل من ربع العادل وكان وقفاً على تربة الإمام الشافعي رحمة الله عليه وكانت توجد لفائف مشاق فيها النار والكبريت على أسطحة الآدر وعظم هذا الأمر على المسلمين ورتب بالشوارع والأزقة دنان الماء واتهم بذلك النصارى الكركيين والملكيين، فلما قدم الملك الظاهر الديار المصرية عزم على استئصال النصارى واليهود بسبب الحريق فأمر بوضع الأحطاب والحلفاء في حفرة كانت في وسط القلعة وإن تضرم فيها النار ويطرح فيها النصارى واليهود فجمعوا على اختلاف طبقاتهم حتى لم يبق إلا من هرب وذلك يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان وكتفوا ليرموا في الحفرة فشفع فيهم الأمراء فأمر أن يشتروا أنفسهم فقرر عليهم خمسمائة ألف دينار يقومون منها في كل سنة بخمسين ألف دينار يؤخذ منهم بحسب قدرة كل واحد منها في كل سنة بخمسين ألف دينار يؤخذ منهم بحسب قدرة كل واحد منهم وضمنهم راهب يعرف بالحبيس كان مبدأ أمره كاتباً في صناعة الإنشاء ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان فيقال أنه وجد في مغارة منه مالاً للحاكم أحد الخلفاء المصريين، ولما وجد المال وأسى به الفقراء والصعاليك من كل ملة واتصل خبره بالملك الظاهر فطلبه إليه وطلب منه المال فقال أما أني أعطيك من يدي إلى يديك فلا ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره وهو لا يقدر على ما تطلبه منه فلا تعجل، وشفع فيه فلما كانت هذه الواقعة ضمنهم وحضر موضع الجباية منهم فمن قرر عليه شيء وعجز عن أدائه ساعده ومن لم يكن معه شيء أدى عنه سواء كان نصرانياً أو يهودياً وكان يدخل الحبوس ويطلق منها من عليه دين ومن وجده ذا هيئة رثة واساه ومن شكا إليه ضرورة أزاحها عنه فانتفعت به سائر الطوائف، ولما طلب من أهل الصعيد المقرر على الذمة الذين بها سافر إليهم وأدى عنهم وكذلك سافر إلى الإسكندرية وغيرها.
وفي يوم السبت ثاني شوال خرج الملك الظاهر من القاهرة لحفر بحر أشموم وفرقه على الأمراء وحفر فيه بنفسه.
وفي ثامنه طلع من الشرق نجم له ذؤابة وبقي إلى نصف ذي القعدة وغاب وهو كوكب الذنب.
ووصل رسول صاحب سيس يبشر الملك الظاهر بهلاك هولاكو ثم ورد الخبر بأن عساكره اجتمعت على ولده أبغا وأن بركة قصده فكسره فعزم الملك الظاهر على التوجه إلى العراق ليغتنم الفرصة فلم يتمكن لتفرق العساكر في الإقطاعات، ولما فرغ من حفر الخليج ركب في الحراقة وأخذ معه زاد أيام قلائل وأدلاء البلاد ومضى ليسد فم جسر على بحيرة تنين انفتح منه مكان خرج منه المياه فغرق الطريق بين الورادة والعريش وأقام هنا يومين وحصل له توعك فعاد إلى مصر في حادي عشر شوال.
وفي ثاني عشر شوال يوم الخميس سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بن بركة قاآن وأركبه بأبهة الملك في القلعة وحمل الغاشية بين يديه بنفسه من باب السر إلى السلسلة ثم عاد وسير الملك السعيد على ظاهر القاهرة ودخل من باب النصر وشق البلد وخرج من باب زويلة وسائر الأمراء مشاة بين يديه والأمير عز الدين الحلي راكب إلى جانبه والوزير بهاء الدين والقاضي تاج الدين راكبان أمامه وعليهم الخلع والأمير بدر الدين بيسري حامل الجتر على رأسه.
وفي يوم الخميس خامس ذي العقدة ختن الملك السعيد باكراً وختن معه جماعة من أولاد الأمراء والخواص وحضر الملك الظاهر ذلك بنفسه وحصل للحكماء خلع كثيرة وأموال جمة.
وفي هذه الشهور ورد على الملك الظاهر عز الدين أيبك الأغاجري من الإسكندرية وكان قد سير إليها لشنق الشريف حصن الدين بن ثعلب وسبب ذلك أن الشريف السرسنائي أحد عدول الثغر كان يتردد إلى ابن ثعلب لتأنيسه وقضاء حوائجه فذكر عنه أنه أعمل الحيلة في هروبه وسفر له عند من يعينه ويساعده وكان السرسنائي بمصر في بعض حوائجه فأخذ من جامعها وأحضر إلى القلعة وسئل عما ذكر عنه فأنكر فأرى الخطوط الواردة من الإسكندرية بالشهادة عليه فأمر بشنقه تحت القلعة وبشنق ابن ثعلب في الإسكندرية فشنقا.
ذكر قبض الملك الظاهر على سنقر الأقرعوسبب ذلك أن رسولاً ورد من بركة على الملك الظاهر في ذي القعدة ومعه رجل ادعى أنه الملك الأشرف بن الملك المظفر شهاب الدين غازي فشهد له سنقر الأقرع وغيره فاستكشف الملك الظاهر عن أمره فظهر له أن سنقر الأقرع بعث إليه واستدعاه لغرض له فأمر الملك الظاهر بالقبض عليه وحبسه وحبس من شهد له في خزانة البنود في ذي الحجة.
وفي ذي الحجة كتب توقيع وخلد في بيت المال بالديار المصرية يتضمن إسقاط بواقي تعذر استخراجها والمسامحة بها.
وفي رابع وعشرين منه قبض الملك الظاهر على الأمير شمس الدين سنقر الرومي وسببه أنه غضب على مملوكين له فشفع الملك الظاهر فيهما عنده فأجاب، فلما كان تلك الليلة قتل أحدهما فهرب الآخر وأعلم الملك الظاهر فأمر بالقبض على سنقر الرومي ولم يتعرض إلى ماله وأجرى على أولاده وحريمه وأتباعه رواتب.
وفيها ولي من كل مذهب قاضي قضاة مستقل بالديار المصرية وسبب ذلك كثرة توقف قاض القضاة تاج الدين في تنفيذ الأحكام وكثرة الشكاوي منه في يوم الاثنين ثاني عشري ذي الحجة والأمير جمال الدين أيدعذى العزيزي في المجلس وكان يكره القاضي تاج الدين فقال الأمير جمال الدين نترك مذهب الشافعي لك ونولي معك من كل مذهب قاضياً فمال الملك الظاهر إلى قوله وكان له منه محل عظيم فولى الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي والشيخ صدر الدين سليمان الحنفي والقاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي وفوض إلى كل منه أن يستنيب في الأعمال وأبقى على تاج الدين النظر في مال الأيتام والأمور المختصة ببيت المال وكتب لهم تقاليد وخلع عليهم ثم فعل ذلك في الشام.
وفي هذه السنة أحضر بين يدي الملك الظاهر نعجة قد ولدت خروفاً على صورة الفيل له خرطوم طويل وأنياب.
وفيها قوي اهتمام الملك الظاهر بتمام عمارة الحرم الشريف النبوي وجهز الأخشاب والحديد والرصاص ومن الصناع ثلاثة وخمسين رجلاً وما يمونهم وأنفق فيهم قبل سفرهم وبعث معهم جمال الدين محسن الصالحي وشهاب الدين غازي بن فضل اليغموري مشداً والرضى ناظراً ومجير الدين أحمد بن أبي الحسين بن تمام طبيباً ومعه أدوية وأشربة، وكان سفرهم في سابع عشر شهر رجب فوصلوا المدينة في ثاني عشر شوال وأخذوا في العمارة وكلما عازهم شيء من الآلات والنفقات سير إليهم من الديار المصرية ودامت العمارة إلى سنة سبع وستين.
فصلوفيها توفي إبراهيم بن عبد الملك بن يونس المعروف بمريد الله الشيخ الصالح وهو ابن أخت سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه أدركه وصحبه وانتفع به وسافر إلى البلاد وعاد إلى بعلبك وسكن زاوية أنشأها مقاربة لتربة خاله الشيخ عبد الله رضي الله عنه ظاهر بعلبك وتوفي بها في ثاني عشر ذي الحجة ودفن بحريمها رحمه الله وقد نيف على سبعين سنة وكان حسن المجالسة كثير النقل عن المشايخ والفقراء كريم الأخلاق معاتقاً للفقراء متوفراً على العبادة رحمه الله قال كتب في هذه السنة سهواً ووفاته في التاريخ المذكور من الشهر في سنة أربع وستين وستمائة.
إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن محمد بن يحيى ابن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن القاسم بن الوليد بن القاسم ابن الوليد بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضوان الله عليه أبو إسحاق معين الدين القرشي الأموي، مولده في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة بدمشق، سمع الكثير وكتب بخطه ولم يزل يسمع ويكتب إلى أن توفي فجأة بدمشق في ثامن ربيع الأول ودفن بسفح قاسيون، وكان عدلاً مبرزاً فاضلاً متيقظاً حسن الخط من بيت العلم والقضاء والتقدم والرئاسة رحمه الله.
حمزة بن محمد بن حمزة بن الحسين بن حمزة أبو يعلي محي الدين البهراني الحموي الشافعي تولى الحكم بحماة مدة وكان فاضلاً سمع وحدث وتوفي بحماة رحمه الله تعالى ولي القضاء بحماة سنة اثنتين وأربعين وستمائة وعزل عنه سنة اثنتين وخمسين.
خال بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو البقاء زين الدين النابلسي الشافعي مولده بنابلس سنة خمس وثمانين وخمسمائة، سمع الكثير وحفظ من غريب الحديث جملة وقطعة جيدة من المختلف والمؤتلف من أسماء الرواة وحصل كتباً حسنة وأصولاً جيدة كان فاضلاً وتوفي في سلخ جمادى الأولى بدمشق ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله.
عبد الله بن يحيى بن الفضل بن الحسين بن أحمد بن سليمان أبو محمد نظام الدين الحميري الدمشقي المعروف بابن البانياسي كان من العدول الأعيان بدمشق ومولده في منتصف ربيع الأول سنة تسع وسبعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر الخشوعي وحنبل بن سكينة وغيرهم وحدث بدمشق وبينه مشهور بالحديث والرئاسة والتقدم وتوفي إلى رحمة الله في شهر صفر ببستانه بكفر سوسة ظاهر دمشق ودفن بسفح قاسيون عثمان بن عبد الوهاب بن يوسف بنمعالي أبو عمرو شرف الدين التغلبي المعروف بابن السائق كاتب الحكم العزيز بدمشق مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بدمشق سمع من الكندي وغيره وحدث وكان من العدول الأعيان المبرزين، وله صدقة وبر ومعروف وعنده ديانة وافرة وخطه حلو ومحاضرته حسنة ولديه فضيلة وتوفي بدمشق في مستهل شعبان وقيل في خامسه ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
فتح بن موسى بن حماد بن عبد الله بن علي بن يوسف أبو نصر نجم الدين الأموي المعروف بالقصري ولد في رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالجزيرة الخضراء من بلاد الأندلس ونقله والده إلى قصر ابن عبد الكريم المعروف بقصر كتامة وعمره مقدار خمس سنين فنشأ بالقصر فلهذا نسب إليه ولما بلغ خمس عشرة سنة عاد إلى الجزيرة الخضراء واشتغل بها في النحو، ثم عاد إلى القصر وورد عليهم الشيخ أبو موسى عيسى الجزولي صاحب المقدمة فقرأها عليه سماعاً لا بحثاً في القصر ثم سافر بعد ذلك إلى بلاد الشرق في سنة سبع وستمائة فوصل إلى إفريقية وأقام بها مدة في تونس ثم توجه إلى الديار المصرية ثم انتقلالى الشام في سنة عشر وستمائة واشتغل بحماة علىالشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله بالأصولين والخلاف ثم انتقل إلى بلاد الشرق وتولى التدريس بمدرسة الأمير عماد الدين ابن المشطوب رحمه الله التي بمدينة رأس عين سنة سبع عشرة وستمائة وأقام بها سنين كثيرة ثم تولى وكالة بيت المال لما ملك الكامل رحمه الله بلاد الشرق ونظم كتاب المفصل للزمخشري وكتاب الإشارات للرئيس أبي علي بن سينا ولما انفصل إلى الديار المصرية نظم بها سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف بيت وكلها على حرف الراء وله عدة تواليف وتولى التدريس بالمدرسة الفائزية بمدينة سيوط زماناً ثم تولى القضاء بها أيضاً وكان دخوله إلى الديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة وتوفي يوم الأحد رابع جمادى الأولى من السنة بسيوط من صعيد مصر رحمه الله قال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله أنشدني لنفسه بقلعة الجبل من الديار المصرية في يوم السبت الرابع من شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة بيتين كتبهما من حلب إلى بعض أصدقائه برأس عين وهما:
حلب مذ حللتها حل فيها ... عين رأسي والقلب في رأس عين
هي في القلب لا بل القلب فيها ... جمع الله بين قلبي وعيني
فراس بن علي بن زيد بن معروف بن أحمد بن مهنا أبو العشائر نجيب الدين الكناني العسقلاني الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة، مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، سمع من الخشوعي والكندي وغيرهما وكان من العدول الأعيان ذوي الثروة واليسار، والوجاهة والرئاسة وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان ودفن بمقابر باب الصغير ظاهر دمشق رحمه الله.
محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن الحسن بن عبد الله بن أحمد أبو عبد الله القسطلاني التوزري المولد المكي الدار والوفاة المالكي المذهب إمام حطيم المالكية بمكة شرفها الله تعالى ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن الهروروي وغيره وحدث وكان شيخاً صالحاً عالماً فقيهاً فاضلاً له نظم جيد وتوفي بمكة شرفها الله تعالى في الثامن والعشرين من شوال ودفن من الغد بالمعلى رحمه الله.
محمد بن الحسين بن علي المعروف بابن امرأة الشيخ علي الفرنثي رحمه الله كان شيخاً صالحاً حسناً مليح الشكل حلو المحادثة سليم الصدر علي آثار الخير والصلاح بادية زاويته بسفح قاسيون على نهر يزيد من أحسن الزوايا وأنضرها وفي جانبها الشرقي قبة بها ضريح الشيخ علي الفرنثي وكن والده رحمه الله يحب الشيخ محمد ويؤثره وبنى في زاويته المذكورة مكاناً يختص به على النهر ولما نزل دمشق في شهور سنة خمس وخمسين وستمائة صعد إلى مكانه الذي بناه بالزاوية وأقام به أياماً وحضر السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف إلى زيارته وهو به وكان الشيخ محمد كثير التردد إلى بعلبك لزيارة والدي والاجتماع به وتوفي الشيخ محمد المذكور في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول في زاويته ودفن بها وهو في عشر الثمانين رحمه الله وخلف أولاداً جماعة درجوا إلى رحمة الله عن أخرهم وآخر من توفي منهم أحمد في أول سنة تسعين بظاهر عكا.
موسى بن يغمور بن جلدك بن يلمان بن عبد الله أبو الفتح جمال الدين مولده في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالقرية قرية بالقرب من سمنهود من أعمال قوص وهو ياروقي الأصل سمع من جماعة وحدث وتوفي في مستهل شعبان بالقصير من أعمال الفاقوسية بين الغرابي والصالحية وحمل إلى تربة والده بسفح المقطم فدفن بها في رابع الشهر المذكور وكان أميراً كبيراً عظيماً رئيساً عالماً فاضلاًُ جليل المقدار خبيراً حازماً ساوساً مدبراً جواداً ممدحاً تنقلت به الأحوال وهذبته الأيام وأحكمته التجارب وناب بالديار المصرية في الأيام الصالحية النجمية مدة ثم نقله إلى الشام وجعله نائب السلطنة به فأقام بدمشق إلى أن توفي الملك الصالح نجم الدين وقدم الملك المعظم توران شاه ولده دمشق وتوجه منها إلى الديار المصرية وقتل على ما هو مشهور وتقرر الملك المعز بالديار المصرية فراسله في موافقته فلم يجبه وبقي بدمشق إلى أن قدمها الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وملكها فاعتمد عليه في سائر أموره وكان هو أمير الدولة ومشيرها وله عند الملك الناصر المكانة العالية والمرتبة الرفيعة ولم يكن في أمراء الجولة من يضاهيه في منزلته ومكانته وقربه ومحله إلا الأمير ناصر الدين القيمري رحمه الله وكان الأمير جمال الدين من رجال الدهر عقلاً وحزماً وسداداً وحشمة وله الآراء الثاقبة والفراسة الصائبة وأنعامه وأصل إلى الأمراء والفقراء والرؤساء وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة كبيرة ومكاتبات في حال الغيبة وكان في الدولة الناصرية كثير البر والإحسان إلى الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فلما أفضت السلطنة إليه أعرض عنه بعض الأعراض ثم أقبل عليه ورعى له سالف خدمته وعظم قدره وجعله أستاذ داره وفوض اله أموراً كثيرة لعلمه بكفايته وعظم غنائه ولم يزل على ذلك إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى كما ذكرنا.
يوسف بن الحسن بن علي أبو المحاسن بدر الدين السنجاري الزرزاري كان رئيساً جليلاً جواداً ممدحاً موصوفاً بالكرم والرئاسة لا ينازع في ذلك وتنقلت به الأحوال فكان في أول أمره بسنجار وتلك البلاد المشرقية وكان له عند الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى بن الملك العادل رحمه الله مكانة ووجاهة فلما ملك دمشق وما معها ولاه القضاء ببعلبك ومضافاتها وهي البقاع البعلبكي والبقاع العزيزي والزبداني والجبال فكان القضاة في هذه النواحي نوابه ومن قبله ويكتب له في إسجالاته قاضي القضاة ووقفت على كثير من إسجالاته لما كان متولياً ببعلبك وكنيته فيها أبو العز وكان مع صغر ولايته بالنسبة إليه يسلك من التجمل وكثرة المماليك والحاشية والدواب وحسن الزي ما لا يسلكه وزير الممالك الكبار فضلاً عن قضاتها ثم عاد إلى سنجار.
فلما مات الملك الكامل خرجت الخوارزمية عن طاعة ولده الملك الصالح فتوجه إلى سنجار فطمع فيه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وحصره فيها ولم يبق إلا أن يتسلمها ويأخذ الملك الصالح أسيراً ويتملك البلاد الشرقية بأسرها وكان بدر الدين قاضي سنجار إذ ذاك فأرسله الملك الصالح وهو محصور بها إلى الخوارزمية لصلح بينه وبينهم و يستميلهم إليه ويستدعيهم لنصرته فخرج من سنجار سراً بحيث لا يشعر به المحاصرون للبلد وخاطر بنفسه وركب الأهوال في ذلك ومضى إلى الخوارزمية فاستمالهم وطيب قلوبهم ووعدهم الوعود الجميلة بعد أن كانوا قد اتفقوا مع صاحب ماردين وقصدوا بلاد الملك الصالح واستولوا على الأعمال ونازلوا حران فأجفل أهلها.
وكان بقلعة حران الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين فخاف منهم فسار مختفياً نحو قلعة جعبر وطلبه الخوارزمية ونهبوه ومن معه وأفلت في شرذمة من أصحابه ووصل إلى منبج ثم عاد إلى حران ووصله كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية وإرضائهم فاجتمع بهم أيضاً القاضي بدر الدين والتزم لهم القاضي بدر الدين أن يقطعوا حران والرها وغيرهما من البلاد الجزرية وحلفهم القاضي بدر الدين للملك الصالح نجم الدين وأشملوا على خدمة ولده الملك المغيث.
ولما اتفق الحال مع الخوارزمية ساروا معه ومع الملك المغيث قاصدين سنجار ومقدمهم الأمير حسام الدين بركة خان فلما سمع صاحب الموصل ومن معه قربهم أفرجوا عن سنجار وأدركتهم الخوارزمية فأوقعوا بهم وهرب صاحب الموصل واحتوت الخوارزمية على خيمه وأثقاله ونهبوا من ذلك ما لا يحصى وكان الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح بآمد معه الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني وعلى آمد عسكر السلطان غياث الدين صاحب الروم وقد أخذ بعض قلاعها فقصدهم الخوارزمية وواقعوا بعض عسكر الروم فانهزم الباقون عن آمد ولم ينالوا منها غرضاً فقلد القاضي بدر الدين بفعلته هذه للملك الصالح نجم الدين منة عظيمة وأوجب عليه حقوقاً رعاها له ثم إن الملك الصالح عماد الدين سير القاضي بدر الدين وكان قدم الشام فجهزه في رسالة عنه إلى صاحب الروم فلما عاد بلغه خروج الملك الصالح نجم الدين من الاعتقال بقلعة الكرك وتملكه الديار المصرية فخاف على نفسه من تخيل الملك الصالح عماد الدين منه لما يتحققه من ميله إلى جهة الملك الصالح نجم الدين فجهز إليه جواب الرسالة وأقام بحماة لكون صاحبها الملك المظفر مع الملك الصالح نجم الدين ومبايناً للملك الصالح عماد الدين ثم توجه في سنة ثمان وثلاثين من حماة إلى طرابلس وركب في البحر إلى الطينة وحصل له مرض يئس منه ثم أبل ودخل الديار المصرية فسر به الملك الصالح نجم الدين وأكرمه غاية الإكرام وجازاه على يده عنده وكان القاضي شرف الدين بن عين الدولة قاضي الإقليم بكماله فأفرد عنه مصر والوجه القبلي وفوضه إلى القاضي بدر الدين وأبقى القاهرة والوجه البحري مع شرف الدين بن عين الدولة وكان عنده في أعلى المراتب ونقله إلى القاهرة والوجه البحري بعد وفاة القاضي شرف الدين وكان الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ رحمه الله يكره القاضي بدر الدين فكتب مرة إلى الملك الصالح نجم الدين كتاباً يغض من القاضي بدر الدين فيه وينسبه إلى أنه يأخذ من نوابه بالأطراف أموالاً يحملونها إليه وأنه إذا عدل شاهداً أخذ منه مالاً وأشباه ذلك فلما وقف الملك الصالح على كتاب الأمير فخر الدين كتب إليه بخطه على رأس كتابه ما معناه يا أخي فخر الدين للقاضي بدر الدين على حقوق عظيمة لا أقوم بشكرها والذي قد تولاه قليل من حقه وما قمت له بما يجب على من مكافأته فلما وقف الأمير فخر الدين على ذلك لم يعاوده في قضيته وترك الورقة في جملة من أوراق عنده فلما استشهد بالمنصورة وخلف بنتاً صغيرة احتيط على ما في داره فوجدت الورقة في أوراقه فحملها نواب الأيتام إلى القاضي بدر الدين فكان يوقف عليها بعض من يدخل إليه من الأعيان.
وبالجملة فلم يزل في المناصب فإنه ولي سنجار وتلك النواحي ثم ولي بعلبك وأعمالها ثم عاد إلى سنجار ثم قدم الديار المصرية فولي مصر والوجه القبلي مرة والقاهرة والوجه البحري تارة وجمع له الإقليم بكماله وولى تدريس المدرسة الصالحية النجمية التي بين القصرين للطائفة الشافعية مدة وباشر وزارة الديار المصرية مدة وكان في حال تولية الحكم يشارك في الأمور المتعلقة بالدولة ويشاور فيها ويرجع في معظمها إلى رأيه ولم يزل ينتقل في المناصب الجليلة والولايات الحظيرة إلى أوائل الدولة الظاهرية صرف عن ذلك فلزم منزله والناس يترددون إلى خدمته والأعيان يعترفون بتقدمه ورئاسته وحرمته وافرة عند أرباب الدولة ومحله عظيم عند الخاص والعام ومكارمه مشهورة عند سائر الأنام وكان كثير الإحسان وافر العطاء جميل الصفح عن الزلات وإقالة العثرات ورعاية الحقوق والمودات مقصداً لمن يرد إليه من الفقهاء والفضلاء وذوي البيوتات وحج سنة اثنتين وخمسين سافر على البحر وصام بمكة شهر رمضان وأقام إلى الموسم وعاد في أوائل سنة ثلاث وخمسين وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة أكيدة فكان من يتوجه إلى الديار المصرية يتوسل إليه بكتب والدي فيبالغ في إكرامه والإحسان إليه وكانت وفاته في رابع عشر شهر رجب بالقاهرة ودفن بتربته بالقرافة رحمه الله.
أبو القاسم بن.... الشيخ المشهور صاحب الزاوية بقرية حواراي من عمل السواد كان رجلاً صالحاً وله ثروة وإتباع وصيت في تلك النواحي ويضيف من يرد عليه من الفقراء وغيرهم وصلى عليه بالقدس صلاة الغائب في يوم عيد النحر وبجامع دمشق في تاسع عشر ذي الحجة يوم الجمعة رحمه الله تعالى.
السنة الرابعة والستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة وملوك الطوائف على الصورة المستقرة خلا صاحب مراكش الملقب بالمرتضى فإنه قتل وولى بعده أبو العلاء إدريس الملقب بالواثق والملك الظاهر بقلعة الجبل.
مجددات الأحوالخرج الملك الظاهر من القعلة إلى الصيد في رابع ربيع الأول وعاد في رابع عشر ربيع الآخر فأقام بالقلعة يومين ثم توجه إلى تروجه فأقام بها إلى تاسع عشري جمادى الأولى وفي رابع عشر جمادى الآخرة توجه لحفر خليج الإسكندرية في شهر رجب.
وفي العشرين من جمادى الآخرة سمر على الجمال أحدا وعشرين نفراً من مقدمي العربان بالشرقية وحملوا عليها إلى بلادهم فماتوا في الطريق.
وفي هذه السنة ظهر كتاب وقف المدرسة النورية رحم الله واقفها ببعلبك وفيه اشتراك بين الشافعية وغيرهم من المشتغلين بالعلم من أهل السنة وكان نبي عصرون الذين يدعون النظر على الأوقاف النورية يخفون لذلك فلما ظهر أمره جدد إثباته وأخذ به نسخة وتنجز عليها فتاوي العلماء ومراسيم نواب السلطنة ونزل بالمدرسة المذكورة من أراد الاشتغال من الحنابلة وغيرهم واستمر الحال على ذلك عبد فصول يطول شرحها.
وفي يوم السبت مستهل شعبان برز الملك الظاهر إلى بركة الجب قاصداً صفد وترك نائباً عنه بالديار المصرية الملك السعيد والحلي في خدمته والوزير بهاء الدين وسار حتى نزل عين جالوت وبعث عسكراً مقدمه الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وعسكراً آخر مقدمه الأمير سيف الدين قلاون الألفي للغارة على بلاد الساحل فأغاروا على عكا وصور وغرقد وإطرابلس وجلبا وحصن الأكراد في يوم واحد وهو سلخ شعبان على مواعدة كانت بينهم فغنموا وسبوا ما لا يحصر ثم نزل الملك الظاهر على صفد في ثامن شهر رمضان ونصب عليها المجانيق ودام الاهتمام بعمل الآلات الحربية إلى مستهل شوال فشرع في الزحف والحصار والقتال وأخذت النقوب على الباشورة من جميع الجهات إلى أن ملكت بكرة الثلاثاء خامس عشر شوال واستمر الزحف والقتال ونصبت السلالم على القلعة وسلطت عليها النقوب والملك الظاهر يباشر ذلك بنفسه فبذل أهل الحصن التسليم على أن يؤمنوا على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك فأجلس الملك الظاهر الأمير سيف الدين كرمون من التتر في دست السلطنة وحضرت رسلهم فاستحلفوه فحلف وهم يظنونه الملك الظاهر وكان في قلب الملك الظاهر منهم لما أنكوا ولما فعلوا بالمسلمين ثم شرط عليهم أن لا يأخذوا معهم من أموالهم شيئاً فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شوال طلعت السناجق على القلعة ووقف السلطان بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الداوية والاسبتار والفلاحين وغيرهم ودخل الأمير بدر الدين الخازندار وتسلمها واطلع على أنهم أخذوا شيئاً كثيراً من التحف له قيمة فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على تل هناك وانتشئت كتب البشائر فمنها ما كتبه كمال الدين أحمد بن العجمي عن الملك الظاهر إلى قاضي قضاة الشام شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله ومضمونه: سر الله خاطر المجلس السامي واطلع عليه وجوه البشائر سوافر، وأمتع نواظره باستجلاء محاسنها النواضر، وواصلها إليه متوالية تواجهه كل يوم بمراتبها الزواهي الزواهر، وأماثلها لديه متضاهية الجمال متناسبة في حسن المبادي والأواخر، ولم تزل وجوه البشائر أحسن وجوه نستجلي، وألفاظه أعذب ألفاظ تستعاد وتستحلى، وإذا كررت على المسامع أحاديث كتبها لا تمل بل تستملي، لا سيما إذا كانت بإعزاز الدين، وتأييد المسلمين، ونبأ فتح نرجو أن يكون طليعة فتوحات كل فتح منها هو الفتح المبين، فإن أنباءها تجل وقعاً وتعظم في الدنيا والآخرة نفعاً، وتود كل جارحة عند حديثه أن تكون سمعاً، لحديث هذا الفتح الذي كرم خبرا، وخبراً وحسن أثره في الإسلام وردا وصدرا، وطابت أخبار ذكره فشغل به السارون حداً، والسامرون سمراً، وهو فتح صفد واستنقاذه من أسره واسترجاعه إلى الإسلام. وقد طالت عليه في النصرانية مدة من عمره، وإقرار عين الدين بفتحه وكان قذى في عينه وشجى في صدره، وقد كنا لما وصلنا الشام بالعزم الذي نفرته دواعي الجهاد، وأنقذته عوالي الصعاد، وقربته أيدي الجياد ملنا على سواحل العدو المخذول فغرقناها ببحار عساكرنا الزاخرة، وشنينا بها من الغارات ما ألبسها ذلاً رفل بها الإسلام في ملابس عزه الفاخرة، وهي وإن كانت غارة عظيمة شنت في يوم واحد على جميع سواحله واستولى بها النهب والتخريب على أمواله ومنازله، واستبيح من حرمه وحرمه مصونات معاقله، وعقائله، إلا أنها كانت بين يدي عزائمنا المنصورة نشيطة نشطناً بها الغازين واسترهفنا بها همم المجاهدين وقدمناها لهم كلللهنة قبل الطعام للساغبين، وأعقبنا ذلك بما رأيناه أولى بالتقديم وأحرى، وتبيناه شد وطأة على الإسلام وأعظم ضراً، وهي صفد التي باء بأثمها حاملها على النصرانية، ومسلطها بالنكاية، على البلاد الإسلامية، حتى جعلها للشرك ما سدة آساده ومراد مراده، ومجر رماحه ومجرى جياده، كم استبيح للإسلام من حمى، وكمن استرق الكفار بواسطتها مسلمة من الأحرار ومسلماً، وكم تسرب منها جيش الفرنج إلى بلاد المسلمين فحازوا ومغنماً وقوضوا معلماً، فنازلناها منازلة الليل بانعقاد القساطل، وطالعناها مطالعة الشمس ببريق المرهفات وأسنة الذوابل، وقصدناها بجحفل لم يزحم بلداً إلا هدمه ولا قصد جيشاً إلا هزمه ولا أم ممتنعاً طغا جبارة الأسهلة وقصمه فلما طالعتها أوائل طلائعنا منازلة وقابلتها وجوه كماتنا المقاتلة اغتر كافرها فبرز للمبارزة والقتال ووقف دون المنازلة
داعياً نزال، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشباجديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب، ويخفف نحوها متسرعاً فيقال إذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب، فهم فوارس كمناصلهم رونقاً وضياء، تجري بهم جياد كذوابلهم علاناً ومضاء، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها، وتبدي ظمأ لا ينفعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها، وأنها قد أقبلت نحوم بجحافل تضيق رحب الفضاء، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء، وإنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد، وعقد برايته مذ عقدها إن لا قبل بها لأحد، وإن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ولو مدبرين وأدبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين لا متعقلين، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره، وأمطرنا عليه من السهام وبلاً سحبت ذيول سحبه المتراكمة، وأجرينا حولها من الحديد بحراً غرقه أمواجه المتلاطمة، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولاً إليه لما تخلص، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئاً لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى، سامي الذرى، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان، وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا باذيال أسواره ففتحوها أسراباً، وأججوها جحيماً يستعر جمرها التهاباً فصلى أهل النار بنارين من الحريق والقتال، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال، هذه تستعر عليهم وقوداً، وهذه تجعل هامهم للسيف غموداً.اعياً نزال، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشباجديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب، ويخفف نحوها متسرعاً فيقال إذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب، فهم فوارس كمناصلهم رونقاً وضياء، تجري بهم جياد كذوابلهم علاناً ومضاء، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها، وتبدي ظمأ لا ينفعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها، وأنها قد أقبلت نحوم بجحافل تضيق رحب الفضاء، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء، وإنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد، وعقد برايته مذ عقدها إن لا قبل بها لأحد، وإن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ولو مدبرين وأدبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين لا متعقلين، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره، وأمطرنا عليه من السهام وبلاً سحبت ذيول سحبه المتراكمة، وأجرينا حولها من الحديد بحراً غرقه أمواجه المتلاطمة، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولاً إليه لما تخلص، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئاً لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى، سامي الذرى، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان، وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا باذيال أسواره ففتحوها أسراباً، وأججوها جحيماً يستعر جمرها التهاباً فصلى أهل النار بنارين من الحريق والقتال، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال، هذه تستعر عليهم وقوداً، وهذه تجعل هامهم للسيف غموداً.
فعند ذلك جاءهم الموت من فوقهم ومن أسفل منهم، وأصبح ثغرهم الذي ظنوه عاصماً لا يغني عنهم، ومع ذلك فقاتلوا قتال مستقتل لا يرى من الموت بداً، وثبتوا متحايين يقدرون ببيضهم البيض والأبدان قداً، فصبر أولياء الله على ما عاهدوا الله عليه، وقدموا نفوسهم قبل أقدامهم رغبة إليه، ورأوا الجنة تحت ظلال السيوف فلم يزودونها مقبلاً وتحققوا ما أعده الله لأهل الشهادة فاستحلوا وجه الموت على جهامته جميلاً، فعند ذلك خاب ظن أعداء الله وسقط في أيديهم وصار رجاء السلامة برؤوسهم أقصى تمنيهم فعدلوا عن القتال إلى السؤال وجنحوا إلى السلم وطلب النزول بعد النزال وتداعوا بالأمان صارخين، وجاؤا بدعاء التضرع لاجين، فأغمد الصفح عنهم بيض الصفاح، وقاتلوا من التوسل بأحد سلاح، واستدعوا راياتنا المنصورة فشرفوا بها الشرفات ونزلوا على حكمنا فأقالت القدرة لهم العثرات، وتسلم الحصن المبارك وقت صلاة الجمعة ثامن عشر شوال، وتحكم نوابنا على ما بها من الذخائر والأموال، ونودي في أرجائها بالواحد الأحد، واستديل للجمعة يوم الجمعة من يوم الأحد، ونحن نحمد الله على هذا الفتح الذي أعاد وجه الإسلام جميلاً، وأنام عين الدين في ظل من الأمن مدة ظليلاً، وألان من جانب هذا الثغر ما لا ظن أن سيلين، وذلل من صعبه ما شرح به صدر الملك والدين، فإنه حصن مر عليه دهر لم يدر فتحه بالأوهام، ولا تطاولت إليه يد الخطب ولا همة الأيام، وربما كان يجد منفساً فيدعوا الملوك إلى نفسها فيتصامموا وتخطبهم وممرها أدنى حرب فيرغبوا في العزلة والمسالمة فيسالموا إلهاهم عن فخر فتحها الرعية في رفاهية عيشه ظنوها راضية ووقف بهم دون السعي فيه همة لنزول الدنايا متغاضية وجنح بهم مراد السلم وإرادة السلم كانت عليهم القاضية، والمجلس أيده الله يأخذ حظه من هذه البشرى، ويقر بها عيناً ويشرح بها صدراً، ويحلي وجوه بشائرها من هذه المكاتبة على عيون الناس من كل حاضر وباد، ويستنطق بها ألسن المحدثين وفي كل محفل وناد، والله يحرس المجلس ويسهل بهمته كل مراد، إن شاء الله تعالى في التاريخ المذكور من وقت الفتح.
ثم أمر بعمارتها وتحصينها ونقل الذخائر والأسلحة إليها وأقطع بلدها لمن ربته لحفظها من الأجناد وجعل مقدمهم الأمير علاء الدين الكبكي وجعل في نيابة السلطنة بالقلعة الأمير عز الدين العلاني وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطوري ثم رحل إلى دمشق في تاسع عشر شوال.
ولما كان الملك الظاهر منازلاً صفد وصل إليه في خامس عشر شهر رمضان رسول صاحب صهيون بهدية جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخره عن الحضور فقبل الهدية والعذر ووصلت رسل صاحب سيس أيضاً بهدية فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم ووصلت البريدية من متولي قوص يخبر أنه استولى على جزيرة سواكن وهرب صاحبها وبعث يطلب من السلطان الدخول في الطاعة وإبقاءها عليه فكتب له بذلك.
وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة حل الملك الظاهر بدمشق ثم تقدم إلى العساكر بالمسير إلى بلد سيس للغارة فخرجوا من دمشق يوم السبت ثالث الشهر وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة وتدبير الأمور إلى الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني فوصلوا الدرب الذي يدخل منه إليها وكان صاحبها قد بنى عليه أبرجة وجعل فيه المقاتلة. فلما رأوا العساكر تركوها ومضوا فملكها المسلمون وهدموها ودخلوا إلى بلد سيس فأسروا وقتلوا وسبوا وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم ودخلوا المدينة يوم السبت ثاني وعشرين من ذي القعدة فنهبوها وأخذوا منها ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ولما عادوا خرج الملك الظاهر من دمشق لتلقيهم في ثاني ذي الحجة وجاز بقارا في سادسه فأمر بنهبها وقتل من فيها، وسبب ذلك أن بعض ركابية الديار المصرية خدم مع الطواشي مرشد وخرج معه عند عوده من مصر إلى حماة فحصل له مرض فانقطع بالعيون قريباً من قارا أمس عليه المساء فأتاه نفران من أهل قارا وحادثاه وحملاه إلى قارا ليمرضاه فبقي عندهما ثلاثة أيام فعوفي فأخذاه تحت الليل ووصلا به إلى حصن الأكراد وباعاه بأربعين ديناراً صوريه واتفق توجه بعض تجار دمشق إلى حصن الأكراد لمشتري أسراء فاشتراه في الجملة واتفق أنه خدم بعض الأجناد وخرج صحبته، فلما حل ركاب الملك الظاهر بقارا حضر الركابي مجلس الأتابك وأنهى إليه صورة فحاله فسير معه جاندارية فطوق عليهما فصادف أحدهما بباب الخان فحمل إلى الأتابك فدخل الأتابك على الملك الظاهر وقص عليه القصة فأمر بإحضارهما فحضرا وتقابلا فأنكر القاري فقال الركابي أعرف داره وما فيها، فلما سمع اعترف وقال ما أنا وحدي أفعل هذا بل جميع من بقارا يفعله واتفق حضور رهبان من أهل قارا إلى باب الدهليز بضيافة فقبض الملك الظاهر عليهم وركب بنفسه وقصد الديارة التي خارج فاراً فقتل من بهاونهبها ثم أمر العسكر بالركوب. وقصد التل الذي ظاهر قارا من الشمال واستدعى أبا العز رئيسها وقال نحن قاصدون الصيد فمر أهل قارا بالخروج بأجمعهم فخرج منهم جماعة إلى ظاهر القرية فلما بعدوا أمر العسكر فضرب رقابهم ولم يسلم إلا من هرب واختفى بالمغائر والآبار وعصى بالأبرجة جماعة فآمنوا وأخذوا أسرى وكانوا ألفاً وسبعين نفرا ما بين رجل وامرأة وصبي وانتمى جماعة إلى أبي العز رئيسها فأطلقوا له لأنه كان خدم السلطان وضيفه في الأيام المظفرية عند عوده من خلف منهزمي التتر فرعى ذلك له ثم أمر بالرهبان الذين كانوا قبضوا فوسطوا عن أخرهم وتقدم إلى العسكر بنهب قارا فنهبت وجعلت كنيستها جامعاً ورتب بها خطيباً وقاضياً ونقل إليها الرعية من التركمان قناة الأغنام وغيرهم ثم رحل للقاء العسكر الراجع من سيس فالتقى بهم على أفامية وعاد معهم فدخل دمشق والغنائم والأسرى بين يديه يوم الاثنين خامس عشري ذي الحجة وخرج منها طالباً للكرك مستهل المحرم سنة خمس وستين.
وفي ذي الحجة دخل رجل إلى دار العدل بالقاهرة وبيده قصة وسأل إيصالها إلى الأمير عز الدين الحلى فأذن له فلما دخل جرد سكيناً ووثب عليه فجرحه فقام إليه الصارم قيماز المسعودي متولي القاهرة ليدفعه عنه فضربه بالسكين فقتله فنهض الحلى والوزير وتاج الدين ابن بنت الأعز وهربوا ووثب الجاندارية على الرجل فقتلوه وزعم قوم أنه من جهة زين الدين بن الزبير وبحث عن ذاك فلم يعرف له خبر.
وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بعمارة جسر بالغور على الشريعة ما بين دامية وقرأوا فشرع فيه وكان المتولى لعمارته جمال الدين محمد بن نهار ومحمد بن رحال والي نابلس والأغوار ولما تكاملت عمارته اضطرب بعض أركانه فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذر ذلك لزيادة الماء فاتفق وقوف الماء عن جريانه بحيث أمكن إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه فلما تم إصلاحه عاد الماء إلى حاله قيل وقع في النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسكر به وهذا من عجيب الاتفاق.
وفيها سير الملك الظاهر سبيلاً إلى مكة شرفها الله تعالى وكسوة للكعبة الشريفة على العادة صحبة جمال الدين يوسف نائب دار العدل أمير الحاج وعادوا إلى مصر في العشرين من صفر سنة خمس وستين.
وفي هذه السنة هلك هولاكو بن قاآن بن جنكزخان في كوكرجلك وسنذكره إن شاء الله تعالى وجلس ولده أبغا على التخت مكان أبيه وكتب إلى ممالكه يعرفهم بجلوسه وسير يغلغا إلى الروم ينضم الدعاء له وطلب السلطان ركن الدين والبرواناة فتوجها بهدية سنية وهنؤه بالملك وطلبوا منه يغلغا بالبلاد التي كانت في يد آبائه وإن البلاد التي خرجت عن أيديهم في أيام السلطان عز الدين وآبائه يسترجعها وكانت سنوب في ذلك التاريخ في يد كمناقوس ملك جانت تغلب عليها في الأيام التي وقع فيها الخلف بين عز الدين وركن الدين في سنة سبع وخمسين فعاد ركن الدين وبقي معين الدين سليمان البرواناة مقيماً لقضاء الأشغال فتحدث معه أبغا سراً فقال البرواناة هؤلاء بنو سلجوق ما يؤمنوا وربما لركن الدين باطن مع صاحب مصر فقال أبغا قد وليتك نيابة السلطنة بالروم فإن تحققت أحداً يخالف طاعتي أقتله ثم استأذنه في محاصرة سنوب فأذن له وعاد إلى الروم واجتمع بركن الدين وعرفه خدمته فشكره على ذلك ثم جمع وحشد ما أمكنه وقصد سنوب وهي قلعة حصينة يحفها البحر من جوانبها وكان مقدم العسكر بها إذ ذاك غضراس الكافر وكان قد عمد إلى المساجد فجعلها كنائس، فلما وصل البرواناة بالعساكر إلى سنوب سير اليغلغ إلى غضراس وطلب تسليم البلد فأبى فرتب البرواناة حوله مراكب فيها المجانيق والمقاتلة وزحف عليها وكان من أمراء الروم تاج الدين قليج وبينه وبين البرواناة شنآن فاتفق أنه ركب في مركب وزحف على القلعة فأرسى به مركبه على طرف النهر فانقلب بمن فيه وغرق الرجالة وخرج الركاب من البحر وكان باب القلعة مفتوحاً فخرج غضراس راكباً وقصدهم وحمل على تاج الدين ليطعنه فتقنطر به فرسه فقتله تاج الدين وهجم القلعة فأخذها فلما استولى البرواناة عليها ادعى أنها فتوحه وكتب إلى أبغا وإلى مخدومه وجميع المجاورين بالفتح ونسبه إلى نفسه فعظم قدره فاستشعر منه ركن الدين واستشعر هو أيضاً منه وحصل بينهما باطن أوجب أنه أوسع الحيلة في قتل ركن الدين على ما يأتي إن شاء الله في سنة ست وستين.
وفيها جمع أرى جرل أخو ريدا فرنس وقصد جزيرة صقلية و حارب الأنبرور ملكها على مدينة سرقوسة فهزم عسكره وقتله في المصاف واستولى على جزيرة صقلية.
؟
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن عمر بن خضر بن محمد بن فارس بن إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق رضي الدين المضرى الواسطي البرزي التاجر المعروف بابن البرهان مولده بواسط سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سمع صحيح مسلم بنيسابور على أبي الفتح منصور بن عبد المنعم الفراوي وحدث به مراراً عدة بدمشق ومصر والقاهرة واليمن وذكر أنه سمع من أبي الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأجاز له جماعة كثيرة، وكان شيخاً صالحاً ديناً حسن الشكل من أكابر التجار المتمولين المعروفين بإخراج الزكاة على وجهها وكان له صدقات وبر وعنده سكون وخشوع وكان يقال أن معه أربعين ألف دينار فكان يخرج الزكاة في كل سنة ألف دينار غير ما يتصدق به على وجه التبرع وجميع ما يكتسبه ينفقه على نفسه وفي الطاعات والقرب ورأس المال بحاله لا ينقصه ولا يزيده وكانت وفاته في حادي عشر شهر رجب بالإسكندرية ودفن بين الميناوين رحمه الله، وبرز بضم الباء قرية من عمل واسط.أحمد بن سالم بن..... أبو العباس جمال الدين المصري النحوي كان بداية أمره فقيراً مجرداً متزهداً مع فضيلته التامة وأقام بحلب مدة ثم قدم دمشق وتصدر لإقراء النحو بالمدرسة الناصرية وبمقصورة الحنفية الشرقية بجامع دمشق وتأهل بابنة الشيخ زين الدين إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج الحنفي إمام المقصورة المشار إليها وأولدها أولاداً وتوفي إلى رحمه الله تعالى في ثاني عشر شوال بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله وتوجع زين الدين المذكور لوفاته وحزن لفقده كثيراً فكتب إليه بدر الدين يوسف بن الحنفي:
عزاءك زين الدين في الذاهب الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا
همو فارقوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا
وكان الشيخ أحمد المذكور حسن العشرة كريم الأخلاق كثير التواضع لين الجانب وافر الدين مشاركاً في كثير من العلوم مستقلاً بعلم النحو والعربية وانتفع به جماعة كثيرة رحمه الله.
أحمد بن عبد الله بن شعيب بن محمد بن عبد الله أبو العباس جمال الدين التميمي الصقلي ثم الدمشقي قرأ القرآن الكريم على الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله وسمع الكثير وحدث وكانت عنده كتب كثيرة نفيسة وأصول حسنة وكان في عنفوان شبابه قد تزوج ابنة الشيخ علم الدين السخاوي وأولادها وتوفيت هي والولد فلم يتزوج بعدها وكان شديد الشح على نفسه كثير التقتير عليها مع الجدة الوافرة، ولما حصل له المرض الذي مات فيه تمرض في بيته بالمدرسة العزيزية وبقي مضيعاً ولا يمكن أحداً من دخول البيت لخوفه على ما فيه ووقف داره على فقهاء المالكية وأوصى لهم بثلث ما له فنفذت وصيته وتوفي في ليلة خامس جمادى الأولى أو رابعه ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وهو في عشر السبعين واحتاط ديوان الحشر على تركته وبيعت كتبه النفيسة التي كان يشح برؤيتها على أرباب الجاهات بأبخس الأثمان ولم يوف ثمن أكثرها جملة كافية أنشد الجمال المذكور لنفسه أو لغيره:
نحن الكلعنيون لا نأتلي ... في ذم من أطعمنا أو سقى
سيان من أطعمنا حبة ... في الذم أو أطعمنا أو سقا
أيدغدي بن عبد الله الأمير جمال الدين العزيزي سمع وحدث وكان أميراً كبيراً عظيم القدر مشهوراً بالشجاعة والكرم والديانة والحشمة وسعة الصدر وكبر النفس وعلو الهمة كثير الصدقات والبر والمعروف وللفقراء والمشايخ أصحاب الزوايا وأرباب البيوتات عليه من الرواتب في كل سنة ما يزيد على مائة ألف درهم وألوف كثيرة أرادب قمح هذا غير ما يتصدق به ويطلقه في بسط السنة مما هو في غير حكم الراتب المستقر وكان مقتصداً في ملبسه لا يتعدى لبس ثياب القطن من القماش الهندي والبعلبكي وغيره مما يباح ولا يكره لبسه، وحكى لي بعض الناصرية قال لما دخلنا الديار المصرية اتفق أن بعض الأمراء الأكابر عمل سماعاً وحضر بنفسه إلى الأمير جمال الدين رحمه الله ودعاه فوعده بالمضي إليه والحضور عنده فلما كان العشاء الآخرة مشى ونحن معه جماعة من خواصه ومماليكه إلى دار ذلك الأمير فلما دخل وجد في الدار جماعة من الأمراء جلوساً في إيوان الدار وجماعة من الفقراء جلوساً في وسط الدار فوقف ولم يدخل وقال لصاحب الدار وللأمراء أخطأتم فيما فعلتم كان ينبغي أن تقعد الفقراء فوق وأنتم في أرض الدار ولم يجلس حتى تحول الفقراء إلى مكان الأمراء والأمراء إلى مكان الفقراء وقعد هو ونحن بين الأمراء، فلما غنى المغاني قام أحدهم والدف بيده ودار على الجماعة لينقطوه وهذه كانت عادة المغاني في سماعات الديار المصرية فلما رآه الأمير جمال الدين انتهره وقال ألك أنت في الحلق وأشار إلى خازنداره فوضع في الدف كيساً فيه ألف درهم فلما رقص الجمع دار بينهم ورمى على المغني بغلطاقه وهو أبيض قطن بعلبكي ما يساوي عشرين درهماً فرمى سائر مماليكه بغالطيقهم موافقة له وقيمتها فوق ثلاثة آلاف درهم ثم دار في التوبة الثانية ورمى على المغني منديله وهو أبيض كتان يساوي درهمين فرمى سائر أصحابه مناديلهم وفيها ما هو بالذهب وغيره ولعل قيمتها فوق ألف وخمسمائة درهم فحسبت أن المغاني حصل له منه ومن غلمانه في تلك الليلة قريب ستة آلاف درهم ولما عزم العزيزية على قبض الملك المعز اطلعوا الأمير جمال الدين فلم يوافقهم ونهاهم عن ذلك وعرفهم ما يترتب عليه من المفاسد وإن ضرر هذا العزم يلحقهم دون الملك المعز ولم ير الأمير جمال الدين أن يشي بهم إلى الملك المعز وبلغ المعز ما عزموا عليه وعلم العزيزية أنه علم وهو وهم في الميدان للعب الكرة في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين فهربوا على حمية والمشار إليه فيهم الأمير شمس الدين آقش البرلي وأما الأمير جمال الدين فلم يهرب لعلمه ببراءة ساحته فساق الملك المعز إلى قريب خيمة الأمير جمال الدين فخرج إليه فأمر بقبضه وسيره إلى قلعة الجل فاعتقل بها مضيقاً عليه فلما تحقق براءة ساحته وسع عليه وتركه في الاعتقال مكرماً مرفهاً وكان ذنبه عنده كونه لم يطلعه على ما عزم عليه أصحابه وأذن لأهل الأمير جمال الدين أن يحملوا عليه الطعام والشراب والملابس وكل ما يحتاج إليه ثم أظهر موته وأخفى خبره بالكلية فلما وقع الصلح بين الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبين الملك المعز بسفارة الشيخ نجم الدين الباذراني وتوجه الشيخ نجم الدين المذكور إلى الديار المصرية طلب من الملك المعز الإفراج عن الأمير جمال الدين فقال له الملك المعز ما بقي المولى يراه إلا في عرصات القيامة إشارة إلى أنه قد مات ولم يكن مات بل كان في قاعة بقلعة الجبل وعليه الملبوس الفاخر والملك المعز يدخل إليه في بعض الأوقات ويلعب معه بالشطرنج ولم يزل الأمير على ذلك حتى قتل الملك المعز وجرى ما أشرنا إليه عند قتله واستمر في الاعتقال إلى أن خرج الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله لقتال التتار في سنة ثمان وخمسين، فلما من الله سبحانه وتعالى وكسرهم كتب إلى النواب بالديار المصرية بالإفراج عنه وتجهيزه إليه فأفرج عنه وسير إليه فلقيه في الطريق وقد خرج من دمشق فعاد معه واجتمع به الأمير ركن الدين البندقداري وأطلعه على شيء مما عزم عليه فأغلظ له في الجواب ونهاه عن ذلك وصده بكل طريق وقال له لو كان للملك المظفر في عنقي يمين لأخبرته بذلك وأطلعته عليه فإياك إياك أن تقع في ذلك فأظهر له الإصغاء إلى قوله وفعل ما كان عزم عليه من قتل الملك المظفر رحمه الله، ولما استقل بالسلطنة عظم الأمير جمال الدين في عينه ووثق به وسكن
إليه وكان عنده في أعلى المراتب وأعطاه إقطاعاً عظيماً وكان يرجع إلى رأيه ومشورته في الأمور الدينية وما يتعلق بالقضاة والعلماء والمشايخ وأرباب الخرق فإنه لم يكن يعدل عن رأيه في ذلك البتة وجهزه في هذه السنة إلى بلاد سيس والساحل مقدماً على طائفة من الجيش والأمير سيف الدين قلاون الألفي مقدماً على طائفة أخرى فأغاروا وغنموا وقتلوا وسبوا وأسروا وفتحوا حصوناً كثيرة وعادوا في شهر رمضان واجتازوا ببعلبك وكان بيننا وبين الأمير جمال الدين رحمه الله صحبة ومعرفة ومودة فحضر إلى مسجد الحنابلة وأشار إلى بأنه يريد الدخول إلى الحمام فأدخلته إليه، فلما خرج دفع إلى الحمامي جملة كثيرة من الدراهم وجمع بيننا وبين الأمير سيف الدين قلاوون رحمه الله في تلك الدفعة فحصلت المعرفة به من ذلك التاريخ ثم توجه إلى صفد وباشر الحصار بنفسه وكان في غزوات الكفار يبذل جهده ويتعرض للشهادة فجرح عليها وبقي مدة وألم الجراحة يتزايد وحمل إلى دمشق فتمرض بها إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وختم الله أعماله الصالحة بالشهادة وتوفاه إلى رضوانه ليلة عرفة ودفن في مقبرة رباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بسفح قاسيون، وكان في محبة الصلحاء والفقراء والاعتقاد فيهم والبر بهم والتواضع لديهم أوحد عصره رحمه الله.يه وكان عنده في أعلى المراتب وأعطاه إقطاعاً عظيماً وكان يرجع إلى رأيه ومشورته في الأمور الدينية وما يتعلق بالقضاة والعلماء والمشايخ وأرباب الخرق فإنه لم يكن يعدل عن رأيه في ذلك البتة وجهزه في هذه السنة إلى بلاد سيس والساحل مقدماً على طائفة من الجيش والأمير سيف الدين قلاون الألفي مقدماً على طائفة أخرى فأغاروا وغنموا وقتلوا وسبوا وأسروا وفتحوا حصوناً كثيرة وعادوا في شهر رمضان واجتازوا ببعلبك وكان بيننا وبين الأمير جمال الدين رحمه الله صحبة ومعرفة ومودة فحضر إلى مسجد الحنابلة وأشار إلى بأنه يريد الدخول إلى الحمام فأدخلته إليه، فلما خرج دفع إلى الحمامي جملة كثيرة من الدراهم وجمع بيننا وبين الأمير سيف الدين قلاوون رحمه الله في تلك الدفعة فحصلت المعرفة به من ذلك التاريخ ثم توجه إلى صفد وباشر الحصار بنفسه وكان في غزوات الكفار يبذل جهده ويتعرض للشهادة فجرح عليها وبقي مدة وألم الجراحة يتزايد وحمل إلى دمشق فتمرض بها إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وختم الله أعماله الصالحة بالشهادة وتوفاه إلى رضوانه ليلة عرفة ودفن في مقبرة رباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بسفح قاسيون، وكان في محبة الصلحاء والفقراء والاعتقاد فيهم والبر بهم والتواضع لديهم أوحد عصره رحمه الله.
جلدك بن عبد الله أبو الجود الرومي الفائزي كان أميراً جليلاً فاضلاً خبيراً بالسياسة وله نظم جيد وتولى عدة ولايات وكان مشكور السيرة وتوفي بالقاهرة في سابع عشر شوال ودفن بالقرافة رحمه الله.
الحسن بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن أحمد ابن الحسين ابن صصرى أبو المواهب بهاء الدين التغلبي الدمشقي مولده سنة أربع وتسعين وخمسمائة تخميناً، سمع من عمر بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وغيرهما وحدث وكان من أعيان العدول الرؤساء والصدور الأماثل وبيته معروف بالحديث والتقدم والرئاسة والنبل، وتوفي في رابع صفر بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد الرحمن بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى أبو محمد شرف الدين التغلبي مولده سنة إحدى وتسعين وخمسائة تخميناً بدمشق، سمع من عمر بن طبرزد وحنبل والكندي وغيرهم وحدث وكان من الرؤساء المتعينين وذوي الثروة والوجاهة وتولى عدة مناصب جليلة بدمشق وبيته معروف بالعدالة والرواية وتوفي في حادي عشر شعبان بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
علي بن الحسين بن محمد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن مظفر أبو الحسن الحسيني الأرموي الأصل المصري المولد والدار ومولده سنة ثلاث وستمائة سمع وحدث وتولى نقابة الأشراف بالديار المصرية مدة وتوفي بالقاهرة في الحادي والعشرين من صفر ودفن من الغد رحمه الله.
محمد بن عبد الجليل بن عبد الكريم أبو عبد الله جمال الدين الموقاني الأصل المقدسي المولد الدمشقي الدار والوفاة، سمع الكثير وكتب وحدث وكان يعاني مشترى الكتب النفيسة للانتفاع والمتجر وكان عنده يقظة ومعرفة وأدب وفضيلة وكان يشتري الأشياء المستحسنة من كل نوع ظريف وتوفي في حادي عشر ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله وهو في عشر السبعين تقريباً أهدى إلى الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور رحمه الله كتباً وموسى وكتب مع هديته:
بعثت بكتب نحو مولى قد اغتدت ... كتائبه يزهو بها الغور والنجد
وأهديت موسى نحو موسى فلا تخل ... بتشريكه في اللفظ قد أخطأ العبد
فهذا له حد ولا فضل عنده ... وذاك له فضل وليس له حد
وظاهر الحال أن هذه الأبيات لسعد الدين محمد بن العربي فإن الجمال لم يكن له يد في النظم والله أعلم، وطلب الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله من الموقاني صحاح الجوهري فكتب إليه من نظم سعد الدين:
ما كان من كتبي نفيساً بعته ... إذ كنت أنت من النجوم المشتري
والبحر أنت وقد أتيتك قاصداً ... فأطلق بفضلك صحاح الجوهري
ومن المنسوب إليه أيضاً:
لذيذ الكرى مذ فارقوا فارق الجفنا ... وواصل قلبي بعد بعدهم الحزنا
فما رحلوا حتى أسباحوا نفوسنا ... كأنهم كانوا أحق بها منا
ولولا الهوى العذري ما انقاد للهوى ... نفوس رأت في طاعة إلى أن تفنى
محمد بن منصور بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن منصور بن محمد بن الفضل بن الحضرمي أبو عبد الله المالكي العدل، سمع الحديث وحدث بالثغر وكان ظريف الشكل حسن المحاضرة يحفظ كثيراً من الأدبيات والأناشيد، قال أبو المظفر منصور ابن سليم أنشدنا محمد بن الحضرمي بالإسكندرية قال أنشدنا صاحبنا الشرف أبو محمد عبد الملك بن عتيق الشاعر لنفسه في البحر:
يا قوم ما بال لج البحر في قلق ... كأنه من فراق الحب في فرق
تراه يخشى وقد وافيت ساحله ... من بحر دمعي أن يغشاه بالغرق
قال أبو المظفر قال وأنشدنا لنفسه يصف شقائق النعمان:
لله زهر شقيق حين رمت له ... وصفاً تقاصر تعبيري وتحبيري
كأنه وجنات الغيد قد نقطت ... بالمسك من تحت أطراف المواسير
توفي محمد بن الحضرمي رحمه الله في يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة وصلى عليه ودفن بين الميناوين بثغر الإسكندرية.
هولاكو بن قآن بن جنكز خان ملك التتار كان من أعظم ملوك التتار حازماً شجاعاً مدبراً ذا همة عالية وسطوة عظيمة ومهابة شديدة ونهضة تامة وكفاية بالغة واستقلال بتدبير الممالك والأقاليم وخبرة بالحروب وافتتاح المعاقل والحصون ومحبة في العلوم العقلية من غير أن يتعقل منها شيئاً البتة واستدعى إليه من العلماء كالمؤيد العرضي والتقى على الحديثي وابن طليب وغيرهم وجمع حكماء مملكته وأمرهم أن يرصدوا الكواكب ويحققوا أمرها ولم يكن في ملوك التتر من يضاهيه في ذلك ولا يدانيه وكان واسع الصدر يطلق الكثير من الأموال والبلاد مما يشح التتر بمثله فإن الغالب عليهم الشح وكان على قاعدة المغل في عدم تقيد بدين أو ميل إليه وإنما كانت زوجته طقزخاتون قد تنصرت فكانت تعضد النصارى وتقيم شعارهم بتلك البلاد التي استولى عليها وكان سعيداً في حروبه وحصاراته لم يرم أمراً إلا ويسهل عليه ولم يتعذر وحصل في قلوب الناس كافة من الرعب منه ما أوجب انقيادهم إليه أو هربهم بين يديه فطوى البلاد واستولى على الممالك والأقاليم في أيسر مدة ففتح بلاد خراسان وإذربيجان وفارس وعراق العجم وعراق العرب والشام والجزيرة والموصل وديار بكر والروم والشرق وغير ذلك من البلاد وهزم جيوشها وأباد ملوكها، وكانت وفاته في هذه السنة بكوكر جلك وقيل أن وفاته كانت في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة ببلد مراغة ونقل إلى قلعة تلا فدفن بها وبنى عليه قبة ووكل به ولد الكانوين وكان هلاكه بعلة الصرع فإنه كان حصل له منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين رحمه الله الصرع في كل وقت فكان يعتريه في اليوم الواحد المرة والمرتين والثلاث ولما عاد من كسرة بركة في المحرم أقام بجمع العساكر وعزم على العود فزاد به الصرع فمرض ولم يزل ضعيفاً ونحو شهرين وهلك فأخفوا موته وصبروه وجعلوه في تابوت من خشب وقيل أنهم لم يدفنوه بل علقوا تابوته بسلاسل في قلعة تلا من أعمال سلماس ثم أظهروا موته وكان ولده أبغا في بلد بايغز في مقابلة برق فسير أكابر المقدمين في طلبه فلما حضر أجلسوه على التخت مكان أبيه وكتب إلى ممالكه يعرفهم بجلوسه واستقامة الأمر له وخلف هولاكو من الأولاد سبعة عشر ذكراً غير البنات وهم أبغا المذكور ملك الأمر بعده ويشموط وهو الذي كان تولى حصار الملك الكامل رحمه الله بميافارقين وسن وتكشى وهو سفاك للدماء جبار كثير القتل واجاى ويستر ومنكوتمر وهو الذي قدم بالعساكر والجحافل إلى الشام في سنة ثمانين وستمائة ومن الله تعالى بالنصرة عليه ظاهر حمص ولله الحمد وباكودر وأرغون ونغاي دمر وأحمد وهو الذي ملك البلاد بعد أبغا وكان مسلماً حسن السيرة والباقون صغار لم تحقق أسماؤهم وكان تقدير عمر هولاكو وقت وفاته فوق الستين سنة أفنى فيها من الأمم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، حكى القاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله أنه توجه إلى هولاكو رسولاً من جهة صاحب الروم بعد أخذه بغداد قال سراج الدين فلما دخلت عليه وجدت حوله صبياً صغيراً يلعب فلما وقعت عيني على الصغير أخذ بمجامع قلبي ولم أستطع كف بصري عنه فلما رأى ذلك مني هولاكو قال للترجمان قال له تعرف هذا الصبي من هو قال سراج الدين فلما قال لي الترجمان ذلك قلت لا قال فلم تديم النظر إليه فقلت أجد نفسي الميل إليه من غير اختيار مني فقال هذا ولد الخليفة قال سراج الدين فقمت قائماً وقبلت قدمي ذلك الصغير فقال هولاكو للترجمان عرفه أننا قد أقمنا له من يؤدبه بآداب المسلمين ويعلمه دين الإسلام ولم ندخله في دين المغل قال سراج الدين فقلت ما ناسب من الشكر له على ذل وتحققت رجحان عقله.
السنة الخامسة والستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية.
متجدادت الأحوال
في غرة السنة خرج الملك الظاهر من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية فلما وصل الفوار عرج منه إلى الكرك وسار العسكر والثقل إلى غزة مع الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني ونزل الملك الظاهر بركة زيزا في الثامن منه وركب ليتصيد فكبا به الفرس فانكسر فخذه فأقام بالبركة يعالج نفسه حتى قارب الصحة وتماثل فركب في محفة وسار إلى غزة فوصلها غرة صفر ثم سار فنزل مسجد التبن فأقام به يعالج فخذه حتى أمكنه الركوب ودخل القاهرة من باب النصر وقد زينت فشقها وخرج من باب زويلة وصعد القلعة يوم السبت سادس ربيع الأول.
وفي ثامن عشرة أقيمت الجمعة والخطبة بالجامع الأزهر بالقاهرة وهذا الجامع بني لما بنيت القاهرة لإقامة الجمعة فلما بنى الحاكم الجامع الأنور نقل الخطبة إليه وبقي الجامع الأزهر تقام فيه الصلوات الخمس فقط فلما عمر الحلى داره إلى جانبه رمه وبيضه وعمل فيه منبراً ومقصورة فتنازع الناس في جواز الجمعة فيه وكتب في ذلك فتاوى فممن منع الجواز القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وجماعة وممن أجازها الشيخ شمس الدين الحنبلي وجماعة فعمل بقول من جوز ذلك وحضر الصلاة الصاحب وجماعة كثيرة من العلماء والأمراء.
وفيها ورد الملك المنصور صاحب حماة إلى القاهرة فخرج الملك الظاهر لتلقيه واحتفل به فسأل التوجه إلى الإسكندرية فأجيب وسير معه الأمير شمس الدين الفارقاني وتقدم إلى شمس الدين بن باخل متولي الثغر أن يحمل إليه في كل يوم من بيت المال مائة دينار وإن ينسج له في دار الطراز ما يقترحه وينفق عليه من بيت المال أيضاً.
وفيها شرع في بناء جامع الحسينية في ميدان قراقوش في منتصف جمادى الآخرة والمتولي لذلك الصاحب بهاء الدين وعلم الدين سنجر المسروري متولي القاهرة إذ ذاك فبنى أحسن بناء وزخرفت جهة القبلة وعمل على جهة المحراب قبة عظيمة وتمت عمارته في شوال سنة سبع وستين ورتب به إمام حنفي ووقف عليه حكر ما بقي من الميدان.
وفي يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة توجه الملك الظاهر إلى الشام وصحبته صاحب حماة عازماً على عمارة صفد واستصحب معه البنائين والنجارين فأقام عليها مدة ووصله لخبر بأن طائفة من التتار قصدت البيرة فسار مبادراً إلى دمشق فبلغه عودهم فعاد إلى صفد وعمر الباشورة وجدد في القلعة أبراجاً ثم رحل عنها وقصد الكرك.
وفي تاريخ خروجه من الديار المصرية إلى الشام وصل فارس الدين آقوش عائداً من الرسالة التي كان توجه فيه سنة إحدى وستين إلى بركة فاستولى عليه وعلى من معه وأعاقه مدة ثم أفرج عنه بعد أن أخذ جميع موجوده.
وفي شعبان ولي الخطابة بمصر عز الدين بن الشهاب بحكم وفاة خطيبها شرف الدين عبد القادر الطوخي وولي قضاء القضاة بالقاهرة والوجه الشرقي تقي الدين محمد بن الحسين بن زرين في التاسع من شعبان وولي القضاء بمصر والوجه القبلي محي الدين أبو محمد عبد القادر بن قاضي القضاة شرف الدين محمد المعروف بابن عين الدولة الإسكندري وولي النظر في ديوان الأحباس تاج الدين علي بن القسطلاني وولى تدريس الشافعية بالمدرسة الصالحية صدر الدين بن قاضي القضاة تاج الدين وولى النظر في الخانكاه الشيخ شمس الدين الحنبلي وفوض النظر في مدرسة الشافعي رضي الله عنه بالقرافة لبهاء الدين علي بن عيسى نيابة عن الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين وهذه المناصب جميعها كانت بيد تاج الدين خلا الخطابة وفي ثامن ذي القعدة توجه الأمير عزالدين الحلي إلى الحجاز وباشر نيابة السلطنة بالديار المصرية الخازندار.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة وصل الملك الظاهر من الشام إلى القاهرة وفي العشرين منه أمر بتسمير جماعة كانوا محبوسين بخزانة البنود منهم الملك الأشرف بن شهاب الدين غازي والناصح ضامن بلاد الواحات وغيرهما.
وفيها توفي بركة ملك التتار وقام مكانه منكوتمر بن طغان بن صرطق بن باتو بن تولي بن جنكز خان فجمع عساكره وقدم عليها مقدماً وسيره إلى بلاد أبغا فجمع أبغا عساكره وساق إلى أن نزل على نهر كور وأحضر المراكب والسلاسل وعمل جسرين على النهر وعدا إلى جهة منكوتمر وما زال سائراً حتى نزل على النهر الأبيض فعدا منكوتمر بعساكره من شماخي وشروان وهما جبلان وما زال إلى أن وصل إلى النهر الأبيض ونزل من الجانب الشرقي وعسكر أبغا في الغرب ولبسوا آلة الحرب وتراسلوا وبعد ثلاث ساعات من النهار حرك أبغا كوساته وقطع النهر الأبيض وحمل على منكوتمر وكسره ولم يزل في طلبه والسيف يعمل إلى جبلي شماخي وشروان فرد عسكر منكوتمر إلى عسكر أبغا فلم يتحرك أبغا وثبت لهم ولم يزالوا كذلك إلى العشاء الآخرة وهرب منكوتمر إلى بلاده ورجع أبغا بعد أن كسب كسباً عظيماً وعدا من الجسور المنصوبة ونزل على نهر كور وجمع كبراء دولته وشاورهم على عمل سور من خشب على نهر كور فقالوا مصلحة فقام وقاس البحر من حد تفليس إلى حد كسيس فكان جزء كل مقدم مائة فارس عشرين ذراعاً بالعمل فقام السور في سبعة أيام ورحل ونزل حاجى وعان وبلغان فشتى تلك السنة هناك.
فصلوفيها توفي إسحاق بن خليل بن فارس أبو يعقوب كمال الدين الشافعي المعروف بالسقطي كان فقيهاً عالماً فاضلاً عارفاً بالمذهب اشتغل على الشيخ فخر الدين ابن عساكر وغيره وأفتى ودرس وسمع وحدث تولى الحكم بزراً مدة وناب في الحكم بدمشق مدة أخرى وتوفي بدمشق في العشرين من شهر رجب وهو في عشر الثمانين ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن خسرو الكوراني الشيخ الصالح توفي بمدينة غزة وهو قافل من الديار المصرية إلى القدس الشريف ودفن بظاهرها وكانت وفاته في الثاني والعشرين من شهر رجب وكان من المشايخ المعروفين بالزهد والورع والعبادة والجد والعمل منقطعاً عن الناس مؤثراً للتخلي مشتغلاً بنفسه وعبادة ربه والإقبال على أخرته كثير التحري في ملبسه ومأكله ومشربه يسأل العلماء عما يشكل عليه من أمر دينه قل أن يوجد مثله في زمنه رحمه الله.
بركة بن تولي بن جنكز خان ملك التتار وهو ابن عم هولاكو المقدم ذكره وبلاده متسعة جداً وهي بعيدة عنا وله عساكر عظيمة وافرة العدد ومملكته تفوق مملكة هولاكو بكثرة البلاد والعساكر والأموال لكن جند هولاكو استغنوا بما نهبوه من الأقاليم التي استولوا عليها وكان بركة يميل إلى المسلمين كثيراً ويعظم أهل العلم ويعتقد في الصلحاء من المسلمين ويتبرك بمشايخهم ويرجع إلى أقوالهم وكلمتهم عنده مسموعة وحرمتهم في ممالكه وافرة وكان أعظم أسباب لوقوع الحرب بينه وبين هولاكو كون هولاكو قتل الخليفة المستعصم بالله ومكان يميل إلى مودة الملك الظاهر ركن الدين ويعظم رسله وكان جماعة من أهل الحجاز يتوجهون إليه فيبرهم ويعطيهم المال الكثير ويبالغ في احترامهم والإحسان إليهم وكان قد أسلم هو وكثير من جنده والمساجد الخيام المحمولة معه ولها الأئمة والمؤذنون ومتى نزل في مكان ضربها وأقيمت فيها الصلوات الخمس وكان شجاعاً جواداً حازماً عادلاً حسن السيرة في رعاياه يكره الإكثار من سفك الدماء والإفراط في خراب البلاد وعنده رأفة وحلم وصفح وتوفي ببلاده في هذه السنة وهو في عشر الستين وقام مكانه منكوتمر بن طغان بن صرطق بن باتوبن تولى ابن جنكز خان وعند ما استقل بالملك جمع عساكره وقدم عليها مقدما سيره إلى بلاد أبغا بن هولاكو.
الجنيد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان أبو القاسم ظهير الدين الزرزاري الأربلي الشافعي، مولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة باربل في شهر صفر سمع من ابن طبرزد وحنبل وغيرهما وحدث وولي عدة جهات وكان مشكور السيرة فيما يتولاه عدلاً أميناً ضابطاً وعنده رياسة ومكارم أخلاق ولين جانب وحسن عشرة ومحاضرة حسنة وعنده فضيلة وأدب وتوفي في الرابع والعشرين من شوال بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
الحسين بن عزيز بن أبي الفوارس أبو المعالي الأمير ناصر الدين القيمري كان من أعظم الأمراء وأجلهم قدراً وأكبرهم شاناً وله المكانة المكينة والوجاهة التامة والكلمة النافذة والإقطاعات الجليلة وكان شجاعاً كريماً عادلاً حازماً رئيساً كثير البر والصدقة وهو الذي سلم دمشق والشام إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بعد قتل الملك المعظم توران شاه وكان هو وأقاربه معظم عسكر الشام في الأيام الناصرية وكان الملك الظاهر ركن الدين قد أقطعه إقطاعاً جيداً وجعله مقدم العساكر بالساحل قبالة الفرنج فتوفي به مرابطاً في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول وعمل عزاؤه بجامع دمشق يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور وهو الذي عمر المدرسة المعروفة به بناحية مأذنة فيروز وهي من أجل مدراس دمشق وأحسنها وعمل على بابها ساعات لم يسبق إلى مثلها قيل أنه غرم عليها ما يزيد على أربعين ألف درهم وكان عالي الهمة يضاهي الملوك في موكبه وتجمله وكثرة غلمانه وحاشيته وخيوله وبيوتاته وما يجري هذا المجرى رحمه الله تعالى، ووالده الأمير شمس الدين عزيز كان جليل القدر وكان الأمير ناصر الدين كثير العقل والمداراة والاحتمال سمع مرة بعض الأمراء الأكراد يقع في البحرية وينتقصهم فسبه وانتهره فقال يا خوندهم أعداؤنا فقال بئس ما قلت ليس بيننا وبينهم عداوة وكلمة الإسلام تجمعنا ونحن وهم شيء واحد وإنما القوم في خدمة ملك ونحن في خدمة ملك آخر وبين الملكين وحشة كما جرت العادة أن تكون بين بعض الملوك فلو زالت الوحشة من بين الملكين صرنا نحن وهم كالنفس الواحدة وهذا الكلام يدل على عقل كثير وسداد رأي وحسن تأن رحمه الله.
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس ابن محمد أبو القاسم شهاب الدين المقدسي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة الفقيه الشافعي المعروف بابن أبي شامة مولده في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر بدمشق سنة تسع وتسعين قرأ القرآن والعربية وتفقه وسمع وحدث واختصر تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر وصنف في فنون كثيرة وكان عالماً فاضلاً متقناً متفنناً عنده مشاركة في كثير من العلوم واستقلال ببعضها لكنه كان كثير الغض من العلماء والأكابر والصلحاء والطعن عليهم والتنقص بهم وذكر مساوئ الناس وثلب أعراضهم ولم يكن بمثابة من لا يقال فيه فقدح الناس فيه وتكلموا في حقه وكان عند نفسه عظيماً فسقط بذلك من أعين الناس مع ما كان عليه من ثلب العلماء والأعيان وذكر ما يشينهم به وله نظم متوسط وفيه كثرة وكانت وفاته في التاسع عشر من شهر رمضان سحراً ودفن من يومه بمقابر باب الفراديس رحمه الله وكان ولي في آخر عمره مشيخة دار الحديث الأشرفية رحم الله واقفها بدمشق بعد القاضي عماد الدين عبد الكريم بن الحرستاني رحمه الله ودرس وأفتى ومن شعره:
قلت لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
وكان قد وقف معظم كتبه وشرط شروطاً ضيق فيها فأوجب ذلك الغاء شروطه بالكلية وعدم التقيد بشيء منها، وبالجملة فكان غير موفق في معظم حركاته رحمه الله تعالى وإيانا وسامحه بما نال من أعراض المسلمين وتجاوز عنا وعنه ومن تواليفه شرح مدائح النبي صلى الله عليه وسلم مجلد، شرح قصيدة الشاطبي مجلدين، مختصر تاريخ دمشق الأكبر خمسة عشرة مجلداً، المختصر الأصغر خمس مجلدات، الروضتين مجلدين، شرح حديث المبعث، تفسير آية الإسراء، ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري، المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول، كتاب البسملة، مختصر، الروضتين، الباعث على إنكار البدع والحوادث، كشف حال بني عبيد، الواضح الجلي في الرد على الحنبلي، مقدمة في النحو، نظم مفصل الزمخشري القصيدة الدامغة للفرقة الزائغة، قصيدتان في وصف أفعال الحاج، وذكر منازل الطريق من جهة الشام، وغير ذلك.
عبد العزيز بن إبراهيم بن علي بن علي بن أبي حرب أبو الفضل مهاجر أبو محمد تاج الدين ويعرف بابن الوالي الموصلي وكان أصلهم أجناداً وكان شرف الدين إبراهيم والد تاج الدين المذكور قد وزر لمظفر الدين صاحب إربل رحمه الله ثم قبض عليه سنة ثمان وعشرين وستمائة.
واستوزر بعده شرف الدين المبارك بن المستوفي رحمه الله وكان تاج الدين عبد العزيز المذكور رئيساً عالي الهمة عنده مكارم وعفة وهو مشكور السيرة في ولاياته، حسن التأني في تصرفاته، تنقل في المناصب الجليلة وآخر ما ولى وزارة الشام بعد أن صرف عنها عز الدين عبد العزيز بن وداعة الآتي ذكره فقدم دمشق وباشر ما عذق به من ذلك ولم تطل مدته ودرج إلى رحمة الله في هذه السنة بدمشق رحمه الله وقد نيف على الستين سنة من العمر، وناب تاج الدين عن أبيه أيام تقلده وزارة إربل وسير رسولاً غير مرة إلى الديوان ببغداد فأكرم وأنعم عليه وكان متجملاً في زيه ومتنعماً يتأنق في مأكوله وملبوسه ومولده ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان أنشدني لنفسه:
إذا أمت الآمال كعبة رفدكم ... فلا عجب أن تنتحي بالرغائب
ومن عذبت منه الموارد أجمعت ... عليه رجال الوفد من كل جانب
عبد الوهاب بن خلف بن محمود أبو محمد تاج الدين العلامي الفقيه الشافعي المعروف بابن بنت الأعز قاضي القضاة بالديار المصرية كان إماماً عالماً فاضلاًُ متبحراً انتقلت به الأحوال وولي المناصب الجليلة كنظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاة ودرس بالمدرسة الصالحية النجمية للطائفة الشافعية وبالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رحمة الله عليه وبغيرها وتقدم عند الملوك تقدماً عظيماً وكانت له الحرمة الوافرة والمكانة العظيمة عند الملك الظاهر ركن الدين وهو أحد العلماء المشهورين والرؤساء المذكورين ذا ذهن ثاقب وحدس صائب وجد وعزم وحزم ورأي سديد مع النزاهة المفرطة وحسن الطريقة وجميل السيرة والصلابة في الدين والتثبت في الأحكام وتخير الأكفاء لولاية المناصب لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل عما يوجبه الشرع الشريف من الأحكام والناس كلهم عنده في ذلك سواء لا يراعى أحداً ولا يداهنه ولا يقبل شهادة من يوجب الشرع الشريف التوقف في قبول شهادته ومن ارتاب منه أسقطه وكان قوي النفس عالي الهمة ومولده في مستهل شهر رجب سنة أربع عشرة وستمائة وتفقه وسمع من أبي الفضل جعفر بن أبي الحسن الهمذاني وغيره وحدث وأفتى وكانت وفاته في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله وكان لقوة نفسه وعظم محله يترفع في قعوده على الصاحب بهاء الدين وزير الملك الظاهر ولا يحتفل بأمره فكان ذلك يعظم على الوزير ويقصد نكايته فلا يقدر على ذلك ولا يستطيعه ولا يجد عليه مطعناً فكان يوهم الملك الظاهر أن للقاضي أموالاً ومتاجر كبيرة ويقصد تقرير ذلك في ذهن الملك الظاهر واتفق أن بعض التجار ورد الإسكندرية وذكر لأرباب الزكاة ما معه من المتجر والمال وقام بما جرت به العادة ثم وجد معه ألف دينار غير ما اعترف به فأنكر عليه ذلك فقال ما هي لي وإنما هي معي وديعة للقاضي تاج الدين فكتب بذلك إلى الوزير فقال للملك الظاهر ليحقق ما قرره عنده فسأل الملك الظاهر القاضي تاج الدين عن ذلك فما رأى أن يعترف ليحصل غرض الوزير ولا أمكنه أن ينكر لكونها له فقال الناس يقصدون التجوه بالناس ليراعوا وإن كانت هذه الألف دينار لي فقد خرجت عنها لبيت المال فأخذت وسهل عليه ذهابها مع كثرة شحه ولا يبلغ الوزير مقصوده منه، وحكى أن الوزير بهاء الدين كان يختار أن يحضر القاضي تاج الدين إلى داره ولو عائداً له فاتفق أن مزاجه تغير وانقطع عن القلعة أياماً وتردد إليه الناس لعيادته ولم يفتقده القاضي تاج الدين فقال له أصحاب الوزير المختصون به لما يعلمون من إيثار الوزير لحضور القاضي لعيادته يا مولانا الصاحب بهاء الدين في شدة عظيمة وهو منقطع فلو عاده مولانا ما كان به بأس فقال إلى يوم الأربعاء وكان من عادته أن يتوجه إلى مصر في كل يوم أربعاء للحكم فيها بنفسه فلما كان يوم الأربعاء وأراد التوجه إلى مصر سلك الطريق الذي يمر فيها على دار الوزير فلما قرب من الباب أخبر الوزير بحضوره فقام من فراشه ونزل من الإيوان متلقياً له فلما دخل وجده في أرض الدار قائماً قال بلغنا أنك في شدة عظيمة وأنت تقوم سلام عليكم وعطف راجعاً ولم يزد على ذلك.
علي بن أحمد بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن ميمون أبو الحسن تاج الدين القيسي المصري المالكي المعروف بابن القسطلاني مولده ليلة السابع عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بمصر، تفقه وسمع من جماعة كثيرة وحدث بالكثير مدة ودرس بالمدرسة المالكية المجاورة للجامع العتيق بمصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل والدين والعدالة وحسن الخلق ولين الجانب ومحبة الحديث وأهله والتواضع والصلابة في الدين وتوفي بكرة السابع والعشرين من شوال بمصر ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله وكانت جنازته متوفرة الجمع.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك وهو عمرو أبو الفضل بن أبي عبد الله ابن أبي الفتوح بن أبي سعد بن أبي سعيد شرف الدين القرشي التيمي البكري مولده بالقاهرة سنة تسعين وخمسمائة سمع من جماعة وأجاز له جماعة وحدث هو وأبوه وجده وأخوه صدر الدين البكري تقدم ذكره ونسبه إلى الصديق رضوان الله عليه فأغنى عن إعادته هنا توفي شرف الدين المشار إليه في الرابع من المحرم بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله.
ملكشاه بن عبد الملك شمس الدين الحنفي المعروف بقاضي بيسان كان فقيهاً عالماً فاضلاً تولى نيابة الحكم بدمشق مدة ودرس بالمدرسة المعينية وكانت وفاته في سادس عشر صفر بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.
يعقوب بن نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي ابن صدقة أبو يوسف تاج الدين التغلبي الدمشقي المعروف بابن سنى الدولة وهو خالي شقيق والدتي مولده بدمشق في السابع من جمادى الأولى سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من حنبل وغيره وكان من الرؤساء العدول تولى عدة مناصب وكان موصوفاً بمعرفة صناعة الكتابة وتوفي ببعلبك وهو ناظرها وما أضيف عليها من الأعمال وكانت وفاته في العشر الآخر من ذي الحجة ودفن في حجرة الشيخ عبد الله اليونيني قدس الله روحه وكان تاج الدين سليم الصدر حسن الظن بالفقراء والصلحاء رحمه الله تعالى.
يعقوب بن... أبو يوسف شهاب الدين المعروف بابن الأنباري كان فاضلاً أديباً حسن النظم توفي في هذه السنة بحماة وقد جاوز سبعين سنة ومن شعره في الصفي بن الدجاجية وقد ولي الأهراء:
ألا قل لسيف ملوك الزمان ... ومن هو إلب على من قسط
وكلت وأنت امرؤ حازم ... إلى ابن الدجاجة رعى الحنط
وأنت العليم به أنه ... إذا جاع وهو عليها لقط
السنة السادسة والستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة الجبل.
وفي ثالث صفر قدم الأمير عز الدين الحلى من الحج فخرج الملك الظاهر لتلقيه إلى البركة ثم توجه الحلى لزيارة القدس والخليل عليه السلام وعاد في سادس عشر ربيع الآخر فأعيدت إليه نيابة السلطنة بالديار المصرية.
وفي عاشر صفر عقد مجلس بين يدي الملك الظاهر للضياء بن الفقاعي بحضور الصاحب بهاء الدين وجرى فيه ما اقتضى صرف الضياء والحوطة عليه وأخذ خطه بجملة من المال ولم يزل يضرب إلى أن مات وأحصيت السياط التي ضربها في نوب متفرقة فكانت سبعة عشر الفاونيف وسبعمائة سوط.
وفيها وصل رسول المظفر شمس الدين يوسف صاحب اليمن إلى مصر ومعه فيل وحمار وحش معمد بأبيض وأسود وخيول وصيني ومسك وعنبر وغير ذلك من التحف وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط أنه يخطب له في بلاده فجلس الملك الظاهر بقلعة الجبل يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول واستدعى الرسول وقبل الهدية وبعث في جواب الرسالة الأمير فخر الدين إياز المقزي وعلى يده خلع وسنجق وتقليد بالسلطنة.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر إلى بركة الجب عازماً على قصد الشام وترك نائباً عنه للسلطنة الأمير بدر الدين الخازندار ورحل في رابع الشهر فوردت عليه رسل صاحب يافا بضيافة فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس العدة ليلاً وسار فصبح يافا فأحاط بها من كل جانب فهرب من كان بها إلى القلعة فملكت المدينة وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم فركبوا في المراكب إلى عكا وملكت القلعة في الثاني والعشرين منه وهدمت والمدينة وكانتا من بناء ريدا فرنس لما نزل الساحل بعد كسرته وخلاصه من الأسر سنة ثمان وأربعين وستمائة وأصدرت كتب البشائر عن السلطان بفتحها فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله ابن عبد الظاهر مضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي اسمعه الله من البشائر أجملها، ومن التهاني أشملها، ومن تحيات النصر أفضلها، ومن سور الإتحاف بالظفر منزلها، تعلن ببشرى بفتح حسن استفتاحه، وتساوى في الجلالة غرره وأوضاحه، وأتى بسملة لهذه الغزاة المباركة التي بها تتبرك المهارق، ومفتاحاً لمغلق الحصون التي إن فتحها الله فلا مغلق، وإن سهلها فلا عائق، وذاك لأن يافا كانت قد كثر عدوان من فيها، وحصل من إضرارهم ما لا يقدر أحد على تدارك تحيفاتها ولا تلافيها، وصارت لعكا يسر الله فتحها طليعة مكر، ومادة كفر، منها يمتارون من كل ممنوع، وربما يأمنون من خوف ويشبعون من جوع، ويتطلعون إلى دار الإسلام منها من وراء زجاجة، ويجعلونها لهم باباً يتوصلون منه عند الإجاحة إلى ما في نفوسهم من حاجة، فلما توجهنا هذه الوجهة المباركة، وتعوضنا فيها عن إنجاد الملوك بالملائكة حرفنا إليها العنان يسيراً، وعرجنا عليها تعريج مستروح ثم يستأنف مسيراً، وطرقناها بكرة يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة فما مضى إلا بقدر ما جردت السيوف من الإغماد، أخذت المعاول في العويل على أهل الإلحاد، ونطقت ألسن الأعلام بالنصر المبين، وتلقى النصر رايتنا باليمين، وطفنا بها طواف المناطق بالخصور، والشفاه بالثغور، وإذا بأهلها يطلبون الأمان على النفوس خاصة وإنهم يبذلون لنا كل ما لهم من مال وعلال وسلاح وغير ذلك فأجبناهم إلى ذلك وما فتحوا الأبواب إلا والرجال قد فتحت النقوب، ولا جيبوا الأطواق إلا والسيوف قد فتقت الجيوب، ولا خرجوا من قلتها إلا والابطال عليها قد علت، ولا طلعوا منها إلا والأولياء إليها وما حصلوا خارجها إلا والمقاتلة بها قد حصلت وتسلمناها وقلعتها فتحاً قريباً، وتسنمناها مرتعاً مريعاً ومربعاً خصيباً، وسطرناها في الساعة التي قام لسان العلم قبل سان القلم على منبرها خطيباً، فيأخذ حظه من بشرى جاءت طليعة لما بعدها من البشائر، وأقبلت مقهمة بأن لا بد بعدها من فتوحات تتبع الأوائل منها الأواخر والله تعالى يوفقه في الموارد والمصادر، إن شاء الله تعالى.
فلما فرغ من هدم يافا رحل يوم الأربعاء ثاني عشر شهر رجب طالباً للشقيف فنزل عليه يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر وظفر بكتاب من الفرنج الذين بعكا يتضمن أعلام النواب بالشقيف إن المسلمين لا يقدرون على أخذ الحصن إن احتفظوا به وجدوا في تحصينه وينبهونهم على أماكن يخاف على الحصن منها إن أهملت فاستدعى ببعض من يكتب بالفرنجي وأمره أن يكتب كتاباً يذكر فيه إمارات بينهم وبين أهل عكا استفادها من الكتاب ويحذر الكمندور المقيم بالشقيف من الوزير المقيم عنده ومن جماعة كانت اسماؤهم في الكتاب وكتاباً آخر إلى الوزير يحذره من الكمندور ويأمره إن احتاج إلى مال يأخذه من فلان وسمى شخصاً كان اسمه في الكتاب وتحيل في وصول الكتابين إليهم فلما وقفوا عليهما اختلفوا مع شدة الحصار بالزحف والمنجنيقات فالجأهم الخلف إلى أن أرسلوا إلى الملك الظاهر وقرروا تسليم الحصن وإن لا يقتل من فيه فتسلمه يوم الأحد تاسع عشرين شهر رجب وكان ملك الباشورة بالسيف في سادس وعشرين منه واصطنع الكمندور وكانت عدة من كان فيه أربعمائة وثمانين رجلاً واثنين وعشرين أخاً فأركبهم الجمال إلى صور وسير من معهم يحفظهم ممن يؤذيهم وأنشئت كتب البشائر إلى الأطراف فمنها كتاب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء كمال الدين أحمد بن العجمي رحمه الله مضمونه: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البشائر تحل به ربعاً، وتصنع لديه في الإبلاغ حسناً وتحسن صنعاً، وتسر بالإفهام والإلمام والإعلام له قلباً وبصراً وسمعاً، تعلمه بفتح أمست وجوه البشائر ببشره متهللة، وأسماع المنابر لوعيه متبتلة وفروض الجهاد به مؤداة ولكنها مشفوعة بالسيوف المسنونة والغزوات المنتفلة وهو فتح الشقيف الذي جاء بتناوب الإتحاف إلى القلوب، ويتناسب أنباؤه كالرمح أنبوب على أنبوب، ويتعاقب مسراته إلى الإسلام كما تتعاقب الأنواء لنفع الثرى المكروب، وأقبل بعد فتح يافا كما تقبل البكر التي لا بد لها بعد سهولة الهداء من الامتناع عند الافتراع وتهادى تهادي الغيث الذي لا بد له عند نزوله من الرعد المرعج والبرق اللماع، كان نزولنا عليها في تاسع عشر شهر رجب المبارك سنة ست وستين وستمائة بعد أن سلكنا إليها في أوعار تتعثر بها ذيول الرياح، وهبطنا في أودية لا يأنس فيها إلا بمجاوبة الصدى لقعاقع السلاح، وصعدنا في جبال لا يرى الأشباح، منها إلا كالذر والذري إلا كالأشباح، وهذه القلعة من وجه هذه الشواهق بمكان الغرة، ومن كتابها بمنزلة الطرة، كأنها سمع تناجيه النجوم بأسرارها، أو راحة بما بسطته من أصابع شرفاتها وتلك البواشير منها بمنزلة سوارها، يكاد الطرف ينقلب عنها خاسئاً وهو حسير، وكل ذي جناح يغدو دون منالها يطير، قد أحكم بناؤها فلا أيدي المعاول لأطراف أسوارها مجاذبة، وحصن فناؤها فلا غير الغمائم لها مجاورة ولا غير الرعود لها مجاوبة قد تحصن بها من الكفر كل مستقتل، وتوطنها منهم كل جاهل يرجع في التحصن بها إلى منعتها وكيف لا وهو لها مستعمل، وقد انتخبهم الفرنج من بينهم انتخاب المناصل بسريع سهامه والمفاضل لبديع كلامه وحلوا منه ذروة بعيدة المنال، وتوقلوا صهوة لا تتخطى إليها الآمال، وكنا كما قد علم المجلس السامي أعزه الله قد سيرنا إليها العساكر الشامية تمسك منها الخناق، وتأخذ منها بمجامع الأطواق، فخفت بها كما حفت الخواتم بالخناصر، أو كما حفت بالعيون الأهداب ودارت حولها سوراً ما له غير الخود من شرفات وغير نواهد الخيل من أبراج وغير حنايا السيوف من أبواب، وأحدقت بثغرها كما تحدق الشفاه بالثغور، وأطافت بها قبل إطافتنا كما يطوف البند قبل المنطقة بالخصور، وأقامت السمهرية ترمقهم بزرق عيونها والمشرفية، تتناعس لاستنامتهم بتغميض جفونها، وبقيت السنة الصناجق في أفواه غلفها صامتة لسماع الزحافات مصغية، وكواسر الآساد في آجامها من الرماح السمهرية مقعية، وصارت السهام في كنائنها تقلق، وأخشاب المجانيق لتفرق أجزائها تفرق، إلى أن بعثنا الله من فتحها إلى المقام المحمود، وانقضت مدة أرجائها في يد الكفر وما كان تأخيره إلا لأجل معدود، ونزلنا ربعها بالعساكر التي سيوفها مفاتيح الحصون، ورماحها أرشية المنون، فما نزلنا من ظهر جوادنا إلا على ظهر جبلها الذي حرته عن يمينه جنيبا، ولا ألقينا عصى
التسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى.لتسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى.
ثم رحل بعد أن رتب بها عسكراً في عاشر شهر شعبان منها وبعث أكثر الأثقال إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشن عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها وذلك في رابع عشر الشهر ورحل إلى حصن الأكراد ونزل المرج الذي تحته فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة فأعادها عليهم وطلب منهم دية رجل من أجناده كانوا قتلوه مائة ألف دينار ثم رحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى أفامية ثم سار ونزل منزلة أخرى ثم رحل ليلاً وتقدم إلى العسكر بلبس العدة فنزل إنطاكية في غرة شهر رمضان فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطاً لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها من الأمراء جماعة لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب ومن وجد معه شيء أخذ منه فجمع منه ما أمكن وفرق على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم وحصر من قتل فيها فكانوا فوق الأربعين ألفاً وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من حلب وبلدها وكان الإبرنس صاحبها وصاحب طرابلس وأنشئت كتب البشائر، فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر مضمونها: أدام الله سعادة المجلس السامي القضائي ولا برح يؤثر البشائر، حشاياً المنابر، ويجزي من السرور الهاجم عيون المحابر، ويسجد لها قلم الناظم والناثر، ويتلقاها ببشر إذا تأمل قادمه قال كم ترك الأول للآخر، هذه المكاتبة تتحدث بنعمة الله التي تهلل بها وجه الإيمان، وهلل بها من أهله كل لسان، وجاءت بحمد الله حلوة المجتنى، حافة بالنصر من هنا ومن هنا، وذاك بفتح إنطاكية التي لم تتطرق إليها الحوادث والخطوب، ولا طرق حديث فتحها إلا سماع ولا هجس في القلوب، وادخرها الله لنا ليخصنا بفتحها الوجيز، ويجعلها باباً لما يليها من بلاد الكفر نلج منه بمشيئة الله وما ذلك على الله بعزيز، وهو أنا لما فرغنا من فتوحاتنا التي سبق بها الإعلام، وإشاراتنا التي خصت وحصت طرابلس الشام، ثنينا العنان إلى هذه الجهة فشاهدنا منها ما يروق النواظر، ورأينا مدينة يجتمع داخل سورها الإنس والوحش والطائر، للاستيطان والبادي والحاضر، يحف بها أسوار لا يقطعها الطائف في يوم مسيراً، ولا يدرك الناظر من أولها لها أخيراً، وبها رجال غدوا إليها من كل حدب ينسلون، ومن كل هضبة ينزلون، وفي ظلال كل مطهم يتقيلون، وكان نزولنا عليها في يوم الأربعاء غرة شهر رمضان المعظم فلم يكن إلا بقدر ما نزلنا إلا ورسلهم قد حضروا ليمسحوا أطراف الرضا، ويتقاضوا من العفوا حسن ما يقتضى، فما ألوى عليهم حلمنا ولا عرج، ولا نفس عنهم كربة ولا فرج، فزحفنا عليهم في يوم السبت بكرة وهو رابع الشهر، فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار وقد دخلت عليهم من أقطارها، وتسور العسكر المنصور من أسوارها، وامتدت ألسنة الصوارم وأسنة الرماح، وشهرت البيض الصفاح، وأريقت الدماء واستحيت النساء وغنمت الأموال، وجدلت الأبطال، ووجد العالم من التحف والنعم ما لا كان يمر في خلد ولا يخطر في بال، وكتابنا هذا واليد الإسلامية لها متسلمة، وفيها متحكمة، فالمجلس يأخذ حظه من هذه البشرى، ويرى منها هذه الآية الكبرى، وما نريهم من آية إلا هي أكبر من الأخرى، ويتلقاها ببشر فقد بعثنا بها إليه في أحسن رونق النصرة، وأقبلت بحمد الله كما بدأت أول مرة، فليشعها المجلس في كل باد وحاضر، ولينشر خبرها على أكباد المنابر، والله بكرمه يجعل سعادته من أتم الذخائر، إن شاء الله تعالى: كتب رابع شهر رمضان المعظم سنة ست وستين وستمائة.
وإنطاكية مدينة عظيمة مشهورة مسافة سورها اثنا عشر ميلاً، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجاً، وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألفاً، ولما ملك الملك الظاهر إنطاكية وصل إليه قصاد من بغراس يطلبون تسليمها إليه فسير شمس الدين الفارقاني بالعساكر فوصل إليها فصادف أكثر أهلها قد نزح فتسلمها في ثالث عشر شهر رمضان وكان قد تسلم دركوش بوساطة فخر الدين الجناحي في تاسع رمضان وصالح أهل القصير على مناصفته ومناصفة القلاع المجاورة له وعاد إلى دمشق فدخلها سابع عشري شهر رمضان وعيد بقلعة دمشق.
ذكر خلاص الأمير شمس الدين سنقر الأشقر
كان الملك الظاهر لما أسر ليفون ابن صاحب سيس بعث إليه أبوه يطلب منه الفداء وبذل له مالاً جزيلاً فلم يقبله وطلب منه في الفداء أن يخرج الأمير شمس الدين من بلاد التتر فبعث إليهم متوسلاً بموات طاعته لهم وبذل لهم مالاً كثيراً فلم يجيبوه، فلما استولى الملك الظاهر على إنطاكية بعث إليه هيتوم صاحب سيس رسولاً يبذل القلاع التي كان أخذها من التتر عند استيلائهم على حلب وهي دربساك وبهسنا ورغبان فأبى قبول ذلك إلا أن يحتال في إخراج سنقر الأشقر فسار إليهم بحيلة الاستغاثة بهم على الملك الظاهر واستصحب معه علم الدين سلطان أحد البحرية فكان يجتمع بسنقر الأشقر سراً وعليه زي الأرمن والأشقر يخاف أن تكون دسيسة عليه فلا يصغي إلى قوله ويقول ما أعرف صاحب مصر ولا أخرج من عند هؤلاء القوم فإنهم محسنون إلي، ولم يزل سلطان يذكر له إمارات وعلامات اهتدي بها إلى صحة مرامه فأذعن للهرب فلما خرج صاحب سيس لبس زيهم وخرج معهم فلما وصل به بلده سار علم الدين سلطان إلى الملك الظاهر وعرفه فبعث إلى القاهرة وأحضر ليفون فوصل إليه وهو على إنطاكية فسار به إلى دمشق فدخلها يوم السبت سابع عشر شهر رمضان.
ثم سيره مع جماعة في سابع شوال فوصلوا به إلى سيس ووقفوا به على النهر بالقرب من دربساك ووصل الأمير شمس الدين مع جماعة من سيس ووقفوا به على جانب النهر ثم أطلق كل واحد منهما وتسلم منها نواب الملك الظاهر دربساك ورغبان ولم يبق إلا بهسنا وكان صاحب سيس سأل الأمير شمس الدين أن يشفع له عند الملك الظاهر في إبقائها عليه على سبيل الإقطاع فوعده بذاك ولما اتصل بالملك الظاهر قدوم الأشقر خرج من دمشق تاسع عشر شوال ونزل القطيفة وبلغه أن الأشقر على خان المناخ فساق إليه وحده سراً فما أحس به إلا وهو على رأسه فقام إليه فترجل واعتنقا طويلاً وسارا حتى نزلا في الدهليز ليلاً، فلما أصبحا خرجا منه معاً فعجب العسكر كيف اجتمعا ولم يشعر بهما وعاد إلى دمشق في ثاني ذي القعدة وسأله الأمير شمس الدين في أمر بهسنا فتمنع فقال يا خوند قد رهنت لساني ووعدته ببلوغ قصده وقد أحسن إلي لما كنت عند التتر بما لا أقدر على مكافأته فأجابه الملك الظاهر إلى ما سأل.
ذكر قطيعة قررت على بساتين دمشقكان الملك الظاهر قد احتاط عليها وعلى القرى الملك والوقف على أربابها وهو نازل على الشقيف وتحدث بذلك في السنة الخالية بحضور العلماء فقال القاضي شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي هذا لا يحل ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه وقام مغضباً وتوقف الحال، ولما وقعت الحوطة على البساتين صقعت بحيث عدمت الثمار بالكلية وظن الناس أنه يرق لهم فلما أراد التوجه إلى مصر عقد مجلساً بدار العدل وأحضر العلماء وأخرج فتاوي الحنفية باستحقاقها بحكم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح دمشق عنوة ثم قال من كان معه كتاباً عتيقاً أجريناه وإلا فنحن فتحنا هذه البلاد بسيوفنا ثم قرر عليهم ألف ألف درهم فسألوه أن يقسطها فأبى وتمادى الحال إلى أن خرج متوجهاً إلى مصر يوم الثلاثاء ثامن عشري ذي القعدة، فلما وصل اللجون عاوده الأتابك وفخر الدين بن حناء وزير الصحبة فاستقر الحال أن يعجلوا منها أربعمائة ألف درهم ويعاد إليهم ما كان قبضه الديوان من المغل ويقسط ما بقي كل سنة مائتي ألف درهم وكتب بذلك توقيع قرئ على المنبر، ودخل القاهرة آخر نهار الأربعاء حادي عشر ذي الحجة.
وفي ثاني عشر شوال خرج الركب المصري متوجهاً إلى الحجاز وسافر فيه الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين وعاد الركب خامس عشر صفر سنة سبع.
ذكر أخذ مالك بن منيف المدينة الشريفةكان مالك بن منيف بن شيحة الحسيني قد قصد الملك الظاهر سنة خمس وستين بهدية جليلة لعلمه ما بين الملك الظاهر وبين عمه عز الدين جماز من الوحشة فقبلها وكتب له توقيعاً بالمدينة وبعث معه سليمان بن حجى فلما عاد وجد جماز بالفلاة فهجمها في هذه السنة واستولى عليها وحلف له أهلها وخرب دار جماز واستنجد جماز بأهل مكة وينبع وسار إليها فحصرها أياماً ووقع بينهما قتال أجلى عن قتلي كثير ثم اختلف جمازو أصحابه.
وفيها قتل السلطان ركن الدين صاحب الروم وجلس ولده السلطان غياث الدين كيخسرو على التخت وعمره مناهز العشر سنين والبرواناة في نيابة السلطنة عن أبغا وجعل ابنه مهذب الدين على متكفلاً بأمر غياث الدين واستولى البرواناة على جميع البلاد ونفذ حكمه فيها لا يشاركه في ذلك غيره، ثم توجه البرواناة إلى أبغا وأخذ معه فرس ركن الدين وسلاحه وهدايا جليلة لأبغا ووجوه دولته ووافى عنده صاحب سيس فجرت بينهما محاورة كل منهما يدعي على صاحبه أنه يكاتب صاحب مصر ثم عاد البرواناة ومعه أحأى أخو أبغا وصمغرا ليكونا معه في البلاد فلم تطل غيبته، فلما بلغ السلطان غياث الدين قدومهم خرج من قونية لتلقيهم فاجتمع بهم على سيواس.
وفيها توفي إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة ابن مقدام بن نصر أبو إسحاق عز الدين المقدسي الحنبلي مولده في شهر رمضان سنة ست وستمائة سمع من أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وغيره وحدث وكانت وفاته في التاسع عشر شهر ربيع الأول بجبل الصالحية ظاهر دمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله، وكان إماماً علاماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً كريم الأخلاق لطيف الأوصاف لين الجانب شديد التواضع للفقراء والمساكين والضعفاء كثير الصدقة والبر والمواساة حريصاً على قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم لم يكن في هذا الوقت من يضاهيه في ذلك فيما علمنا، وهو من بيت العلم والعمل والصلاح وكان والده الشيخ شرف الدين عبد الله رحمه الله شيخ الحنابلة والمشار إليه فيهم وجده شيخ الإسلام أبو عمر محمد فشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمهم الله أجمعين.
أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم أبو يوسف كمال الدين الحلبي المعروف بابن العجمي، كان رئيساً عالماً فاضلاً حسن الخط والإنشاء كتب للملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله ثم كتب للملك الظاهر ركن الدين وكان من أعيان الكتاب وأماثلهم واسطة خير غزير المروءة حسن العشرة كريم الأخلاق وكانت وفاته ظاهر صور من بلاد الساحل في العشر الأول من شهر ذي الحجة وحمل إلى ظاهر دمشق فدفن بمقابر الصوفية رحمه الله.
بولص الراهب المعروف بالحبيس، قد ذكرنا طرفاً من خبره في حوادث سنة ثلاث وستين وأنه كان كاتباً ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان من الديار المصرية فيقال أنه ظفر بمال مدفون في مغارة فواسى به الفقراء من كل ملة وقام عن المصادرين بجمل عظيمة ولم يزل على ذلك إلى هذه السنة فأحضره الملك الظاهر وطلب منه المال وان يعرفه من أين حصل له فلم يعرفه وجعل يغالطه ويدافعه ولا يفصح له بشيء البتة وهو عنده داخل الدور فلما يئس منه وأعياه أمره حنق عليه فعذبه حتى مات في العذاب ولم يقر بشيء فأخرج من قلعة الجبل ورمى ظاهرها على باب القرافة وكانت وصلت فتاوى فقهاء الإسكندرية إلى الملك الظاهر بقتله وعللوا ذلك بخوف الفتنة على ضعفاء النفوس من المسلمين فقتله كما ذكرنا وقيل أن مبلغ ما وصل إلى بيت المال منه وما واسى به في مدة سنتين ستمائة ألف دينار محصياً بقلم الصيارف الذين كان يجعل عندهم المال ويكتب إليهم أوراقه وذلك خارج عما كان يعطيه سراً بيده ومع هذا كان لا يأكل من هذا المال شيئاً ولا يلبس منه وكان النصارى يتصدقون عليه بما يمونه ويلبسه فانظر إلى هذه النفس الأبية مما هي عليه من الضلال ولم يظهر بعد موته من تلك الأموال الدينار الواحد فما يعلم هل نفدت مع نفاد أجله وخفي أمر ما بقي منها ولم يطلع عليه وقيل كان اسمه ميخائيل ولم يشتهر إلا بالحبيس الراهب والله أعلم.
عبد الخالق بن علي بن محمد بن الحسن أبو محمد تاج الدين، كان كاتباً مجيداً عارفاً بصناعة الحساب وولي عدة جهات ومناصب ببعلبك وأعمالها وكان من عدول بعلبك وأكابرها وكان ينبز بأحمر عينه لحمرة كانت في عينه.
ووالده القاضي مهذب الدين أبو الحسن علي بن محمد الأسعردي ولي الحكم ببعلبك مدة في الأيام الصلاحية وغيرها وكان مشكور السيرة مشهوراً بوفور العلم والدين والسداد في الأحكام رحمه الله، وكانت وفاة تاج الدين المذكور في ويوم السبت تاسع ذي القعدة من هذه السنة وهو في عشر الثمانين ودفن بالقرب من دير إلياس عليه السلام ظاهر بعلبك رحمه الله تعالى.
عبد العزيز بن منصور بن محمد بن محمد بن محمد بن وداعة أبو محمد عز الدين المعروف بابن وداعة الحلبي وقيل أنه كان في بداية أمره خطيباً بجبلة من أعمال الساحل ثم اتصل بالملك الناصر صلاح الدين يوسف وصار من خواصه ولما ملك دمشق ولاه شد الدواوين بدمشق وأعمالها وكان يعتمد عليه ويثق به وكان عز الدين يظهر التنسك والدين ويقتصد في ملبسه وسائر أحواله وكانت حرمته في الدولة الناصرية وافرة ولما انقضت الدولة الناصرية وأفضت المملكة إلى الملك الظاهر ركن الدين ولاه وزارة الشام فلما ولي الأمير جمال الدين آقوش النجيبي رحمه الله نيابة السلطنة بالشام حصل بينهما وحشة باطنة وكان الأمير جمال الدين يكرهه. لتشيعه فإن الأمير جمال الدين المذكور كان غالباً في السنة وكان عند عز الدين تشيع فكان الأمير جمال الدين يسمعه في كل وقت من الكلام ما يؤلمه ويهينه فكتب إلى الملك الظاهر يذكر أن الأموال تنكسر وتنساق إلى الباقي ويحتاج الشام إلى مشد تركي شديد المهابة مبسوط اليد ويكون أمور الأموال والولايات والعزل راجعة إليه لا يعارض في ذلك والدرك في سائر هذه الأمور عليه ليلتزم بتثمير الأموال واستخراجها وزيادة ارتفاعاتها وكان قصده بذلك رفع يد الأمير جمال الدين عن ذلك وتوهم أن المشد الذي يتولى يكون بحكمه يصرفه كيف شاء ويبلغ به مقاصده وكان في الشد... المسعودي وهو شيخ عاقل ساكن ليس فيه عسف ولا شر فرتب الملك الظاهر في الشد الأمير علاء الدين كشتغدي الشقيري وبسط يده حسبما اقترح عز الدين فلم يلبث أن وقع بينهما وكان الشقيري يهينه بأنواع الهوان فيشكو ما يلقى منه إلى الأمير جمال الدين النجيبي فلا يشكيه ويقول أنت طلبت مشداً تركياً وقد جاءك الذي طلبت ثم أن الشسقيري كاتب الملك الظاهر في حقه وأوغر صدره عليه فورد عليه الجواب بمصادرته فأخذ خطه بحملة عظيمة يقصر عنها ماله وأفضى به الحال إلى أن ضربه وعصره وعلقه في قاعة الشد بدار السعادة وجرى عليه من المكاره ما لا يوصف فكان كالباحث عن حتفه بظلفه وباع موجوده وأماكن كان وقفها وقام بثمنها في المصادرة ثم طلب إلى الديار المصرية فتوجه وحدثته نفسه بالعود إلى رتبته فأدركته منيته في الديار المصرية عقيب وصوله إليها فإنه تمرض في الطريق ودخلها وهو مثقل فتوفي ودفن بالقرافة الصغرى قريباً من قبة الشافعي رضي الله عنه وقد نيف على خمس وسبعين سنة رحمه الله ومات في آخر ذي الحجة من هذه السنة وقيل أنه دفن في مستهل سنة سبع وستين وستمائة وهو في عشر السبعين وله وقف على وجوه البر وبنى بجبل قاسيون تربة ومسجدا وعمارة حسنة ولم يخلف ولد ولا رزقه في عمره كله ولا تزوج إلا امرأة واحدة في صباه وبقيت في صحبته أياماً قلائل ثم فارقها كذا أخبرني علاء الدين ولد أخيه بدر الدين.
علي بن عدلان بن حماد بن علي أبو الحسن عفيف الدين الموصلي النحوي المترجم كان عالماً فاضلاً أديباً مفتناً شاعراً توفي بالديار المصرية في يوم الجمعة تاسع شوال ودفن من الغد بسفح المقطم ومولده بالموصل خامس وعشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خلكان رحمه الله لغزاً:
أيها العالم الذي فضل العا ... لم علماً وسؤدداً وذكاء
والذي إن دعاه قاص ودان ... لملم عرا أجاب الدعاء
أي لفظ عكست منه بناء ... لا ترى عكسه يحيل البناء
وهو أن زال قلبه ينظر القلب كما كان قبل ذاك سواء
هو في الأرض كلها لا ترى الربوة تخلو منه ولا البطحاء
هو في الغرب موضع وترى التص ... حيف في الشرق بقعة غناء
يدخل الحصن غادياً لا يرى الأذ ... ن ولو كان ربه عاد ياء
وله في طب الطبيب مضاف ... إن تأملته تجده دواء
إن تصحف ففرقه عطفت من ... بعد أخرى فقد كشفت الغطاء
أظلمت طرق حله فأبنه ... عادة الشمس أن تفيد الضياء
ذكر القاضي شمس الدين أنه حله فوجده سوس الطعام وكتب إليه القاضي شمس الدين من دمشق إلى مصر لغزاً في سراج:
أيها العالم الذي ... صار حبراً ممارسا
والذي موضحاته ... يجتليها عرائسا
أي شيء ترى جمي ... ع الورى منه قابسا
أن في السرب نصفه ... حيثما كان كانسا
ثم صحف تمامه ... تلق ضوءاً مؤانساً
واحذفن منه ثالثاً ... تنظرن فيه فارسا
من يصحفه عاكساً ... يلف في الليل حارسا
فكتب إليه عفيف الدين في الجواب:
أيها العلام الذي ... قام للدين حارسا
والذي مبدعاته ... البستنا الطيالسا
صغت لفظاً جذوته ... كان مولاي جالسا
أبداً لا برحت تج؟ ... لو المعاني عرائسا
يا ملاذي سررتني ... بعد أن كنت عابسا
والذي أنهج المعمى وإن كان طامسا
شرح الصدر لغزك ال؟ ... مستنير الحنادسا
أنت والله وصفه ... لامرئ كان قابسا
؟صحف الشرح لفظه لا تصحفه عاكسا
فهو من مركب الرجا ... ل إذا كان فارسا
وهو إن زال ربعه ... فهو يبدي الوساوسا
جاءني بعد هجعة ... لم يخف فيه حارسا
فاقل عثرتي إذا ... كان ما قلت هاجسا
وكتب إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله من القاهرة إلى دمشق لغزاً في القطائف المحشو والمقلو وذكر أن البيتين الأخيرين منها لابن عنين:
أحاجيك يا قاضي القضاة ومن سمت ... به الهمة العليا إلى المنصب العالي
ومن قد غدا في كل فن مبرزاً ... على كل حبر كان في الزمن الخالي
وأوضح بالفكر اللطيف عوامضاً ... ثوت برهة ما بيننا ذات إشكال
بمطوية طي القباطي غذيت ... ألذ غذاء ثم علت بجريال
وأخت لها من جنسها هائم بها ... جميع الورى لكن لها واحد قالي
عمر بن إسحاق بن هبة الله بن صديق بن محمود بن صالح أبو حفص الأمير عمد الدين الخلاطي مولده بخلاط في منتصف شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وكان فاضلاً عالماً حازماً جلداً خبيراً حسن التأني كريم الأخلاق جميل العشرة لطيف الحركات حلو المحادثة والمحاضرة توفي بحماة يوم الأحد الخامس والعشرين من المحرم ودفن من الغد رحمه الله ومن شعره:
كلفت بوجه صاحب الحسن صاحبه ... تروي بماء الحسن فأخضر شاربه
حوى قصص العشاق خط عذاره ... ولاغرو في الإيجاز فالله كاتبه
وله:
لا تعجبن إذا ما فاتك المطلب ... وعود النفس أن تشقى وأن تتعب
إن دام ذا الفقر في الدنيا فلا تعجب ... مات الكرام وما فيهم فتىً أعقب
وله:
تجنب من الدنيا ولا تك واثقاً ... إليها وإن مالت إليك بمجهود
؟فالطيب مأكول بها قيئي نحلة وأفخر ملبوس بها كفن الدود وله:
يا ليلة الحاجر هل عودة ... ترى لوصل النازح الهاجر
وهل يعيد الوصل قولي ترى ... هل عودة يا ليلة الحاجر
أحبابنا بانوا فلم يكتحل ... بالغمض من بعدهم ناظري
كان التمني فيهم أولى ... فصار يأسى منهم آخري
؟وا حربا من عاذل عادل في الحكم عن إنصافه جائر
يأمرين بالصبر عنهم ومن ... أين لقلبي جلد الصابر
أبى شقائي في الهوى إنني ... أعيش إلا تعب الخاطر
فيا مريقاً دم عشافه ... بصارم من طرفه الساحر
بالأسود الفاتر حتى متى ... تفعل فعل الأبيض الباتر
وله:
سبت فؤاد المعنى ... لواحظ منك وسنى
يمرضننا حيث نرنو ... وهن أمرض منا
يا أكثر الناس حسناً ... أقلهم أنت حسنى
رد الرقاد لعل ال؟ ... خيال يطرق وهنا
وله:
ولما دنا ممن أؤمل قربه ... بعاداً أذاب القلب بين الحوانح
وسارت نواجي العيس عن أرض بارق ... بكل نضير الخد للبدر فاضح
وعاينت وخد الراقصات عشية ... وهز حدوج القوم بين الصحاصح
وألفيت أبناء الهوى شارفوا أسى ... مناياهم ما بين باك ونائح
ربحت دنو الدار دهراً قضيته ... وكنت غداة البين آخر رائح
وله: ؟سحرته ألحاظ الحسان كما ترى وغذته البان الهوى فتحيرا
وغدا يصون لذكر نجد دمعه ... فلا جل ذلك ما جرى إلا جرى
يا طرف دع شكوى السهاد جهالة ... أنت الذي في بحره غرق الكرى
وأنا الذي أصبحت أنزح ماءة ... أبغي الغريق به وها أنا لا أرى
؟تشكو وأنت جنيت أسباب الهوى حتى حنيت بها العذاب الأكبر
ما كنت في خلدي لرائعة النوى ... قبل الحمام مقدراً ومصورا
فدنا بها زمن أساء ولم يكن ... من قبلها بنوى الأحبة أنذرا
وأبادني ببعاد أهيف خده ... كالورد أزهر فوق غصن أزهرا
فسرى الفؤاد وما أقام وحبه ... بين الجوانح قد أقام وما سرى
وله:
ومهفهف رطب المعاطف ناعم ... عذب المراشف طيب الأنفاس
جمع المحاسن وجهه فكأنما ... هو روضة راقت على منعاس
فالنرجس الطرف المضاعف لوعتي ... وأقاحها ثغر جني وسواسي
والخد يبدو محدقاً بعذاره ... كالورد حف به جني الآس
سبحان من أنشأه من إحسانه ... حسناً فاصبح فتنة للناس
قال كنت مجرداً مع العسكر الناصري على غزة سنة خمسين وستمائة وضجر العسكر من التجريد وطول المدة وكان الناس يقولون إن الشيخ نجم الدين الباذراني رسول الخليفة خرج من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية للصلح بين الملك الناصر وصاحب مصر وبعضهم يقول ما خرج فعملت:
؟قالوا الرسول أتى وقالوا أنه ... ما رام يوماً من دمشق نزوحا
كثر الخلاف وما ظفرت بمسلم ... يروي الحديث عن الرسول صحيحا
وكان عماد الدين المذكور له حرمة وافرة عند الملوك ومكانة لطيفة منهم وكان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل شديد المحبة له والوثوق به والميل إليه والاعتماد عليه لا يفضل عليه أحداً من خواصه وأصحابه وكان مستحقاً لذلك ولما هو أبلغ منه، حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله عنه ما معناه أنه قال لما مات الملك الأشرف رحمه الله واستولى الملك الصالح عماد الدين على دمشق وما معها مما كان بيد الملك الأشرف من البلاد بالشام بلغه خروج الملك الكامل من الديار المصرية لقصده وانتزاع البلاد منه وعلم أنه يعجز عن مقاومته وأنه متى أظهر الانقياد إلى الملك الكامل تفلل عنه سائر من عنده من الأمراء وغيرهم طلباً للحظوة عند الملك الكامل فلا يحصل على مقصوده منه: قال عماد الدين ما معناه فاتفقت معه في الباطن على أن يختلق لي حجة ويضربني بمحضر من الأمراء وأعيان الدولة ويعتقلني ويأخذ موجودي ففعل بي ذلك وأظهر أنه اطلع على أنني كاتبت الملك الكامل وبقيت في الجب أياماً ثم شفع في فأخرجني بعد أن قطع خبزي وأبعدني عنه فركبت وقصدت الملك الكامل فوافيته في الطريق فلما قيل له عني تعجب وقال كيف يفارق هذا لأخي مع وثوقه به ومحبته له فقيل له ما وقع في حقي فسكت وأكرمني وعدت معه فلما كان بعد يومين من وصولي إلى خدمته كتبت إليه ورقة مضمونها سؤال الحضور بين يديه خلوة فأحضرني ليلاً وأخلى مجلسه وقال لي قل فقلت لما كنت في الجب بقلعة دمشق حملت رسالة إلى مولانا السلطان وحلفت أن لا أقولها إلا بعد أن يحلف مولانا السلطان باليمين التي استحلفه بها أنه لا يطلع عليها أحداً من خلق الله تعالى فقال نعم إلا يوسف بن الشيخ " فما عن العجوز سمر محجوز " فقلت يا خوند إلا الأمير فخر الدين ابن الشيخ فأمر بإحضار المصحف الكريم واستحلفته على ما أردت فلما فرغ من اليمين قمت وقبلت الأرض وقلت يا خوند مملوك مولانا السلطان إسماعيل يقبل الأرض فعند ما ذكرت ذلك نهض قائماً وخدم وتهلل وجهه وقال قل فقلت يقول أنه ما كان يحتاج مولانا السلطان بتكلف الحركة بل كان سيزقرا غلام من بابه الكريم بمثال شريف منه سلم إليه البلاد وحضر بنفسه معه وليس هو عند نفسه ممن يقاوم مولانا السلطان أو يمانعه فقال اكتب إليه واخدمه مني وقل له يطيب قلبه ويحصن مدينته ويجتهد على حفظها فإني ما أختار أكسر حرمة أخي ولا حرمة دمشق عند الملوك ولا يزال علي إلى أن أقول له ما يفعل ثم قال لي والله كنت قد سقطت من عيني بمفارقتك لأخي والآن فقد نبلت عندي وعظمت في صدري فقبلت الأرض ودعوت له: قال عماد الدين فكتبت إلى الملك الصالح وعرفته ذلك وجاءني الجواب ولم تزل المكاتبة بيننا متواصلة فكنت أوقف الملك الكامل على كتب الملك الصالح وأكتب ما يأمرني به وحضر الملك الكامل وحاصر دمشق وأنا كل وقت أتقاضاه في تسلم البلد وهو يقول اصبر فلما كان في بعض الأيام طلبني فدخلت عليه فوجدته شديد الغضب لقتل بعض الأمراء الأكابر من أصحابه فلما وقفت بين يديه انتهرني وقال وصلنا إلى هذا الحد فقلت يا خوند لو رسمت دخلت القلعة يوم وصولك لكن مولانا السلطان اقتضى رأيه الشريف أن يجري الأمر على هذه الصورة فقال اكتب إليه وقل له يخرج فقد أخذت المسألة حقها وايش يريد أعطيه حتى أحلف له عليه فقلت يا خوند هو مملوك مولانا السلطان وأخوه وما يقترح شيئاً بل مهما تصدق به مولانا السلطان عليه قبله وإن رسم أن يكون رمحه تحت ركاب مولانا السلطان في الحلقة فهو راض بذلك فقال لا والله إلا أعطيه من البلاد ما يرضيه فكتب إليه فخرج تلك الليلة بالليل فتلقاه الملك الكامل وبالغ في احترامه وإعظامه وأعطاه بعلبك وأعمالها وبصرى وغير ذلك وجميع الحواصل وأعاده في ليلته إلى القلعة فبات بها ثم خرج من القلعة وضرب دهليزه قريب دهليز الملك الكامل وكل يوم يحضر إلى الخدمة فيجد من إكرامه ما لا كان يرجوه، فلما كان بعد أيام قال لي الملك الكامل ما تقول للمولى الملك الصالح يروح إلى بلاده فقلت يا خوند يريد سنجقا وخلعة قال إيش هذا الكلام؟ الملك الصالح ملك مثلي يريد خلعة وسنجقا قلت والله يا خوند ما يروح إلا بهذا قال بسم الله وسير له خلعة عظيمة وعدة خيول وعشرة آلاف دينار مصرية وسنجقا فتوجه إلى بعلبك وودعه الملك الكامل ثم قلت للملك الكامل يا خوند مملوك
مولانا السلطان ليس له مكانا يجيئه منه سكر يأكله وما يحسن به أن يشتري السكر في أيام مولانا السلطان فأطلق له قرى في الغور يتحصل منها جملة عظيمة من السكر وغيره وسافر إلى بعلبك على هذه الجملة وأعطاني من ذلك الذهب خمسمائة دينار اشتريت بها مملوكاً، ووالده أبو البشائر قاضي خلاط كان فقيهاً شافعياً عالماً أصولياً واعظاً شاعراً حسن الكلام في الوعظ والتذكير، له مصنفات في علم الأصول وكان من محاسن القضاة وظرافهم يرجع إلى عفاف ونزاهة ودين قدم مدينة إربل واستوطنها إلى أن توفي بها يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ومن شعره رحمه الله:مولانا السلطان ليس له مكانا يجيئه منه سكر يأكله وما يحسن به أن يشتري السكر في أيام مولانا السلطان فأطلق له قرى في الغور يتحصل منها جملة عظيمة من السكر وغيره وسافر إلى بعلبك على هذه الجملة وأعطاني من ذلك الذهب خمسمائة دينار اشتريت بها مملوكاً، ووالده أبو البشائر قاضي خلاط كان فقيهاً شافعياً عالماً أصولياً واعظاً شاعراً حسن الكلام في الوعظ والتذكير، له مصنفات في علم الأصول وكان من محاسن القضاة وظرافهم يرجع إلى عفاف ونزاهة ودين قدم مدينة إربل واستوطنها إلى أن توفي بها يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ومن شعره رحمه الله: ؟وقفت وربع العامرية داثر ودمعي ووجدي سابق متواتر
وقفت وذكراها تجدد لوعتي ... وأبكي كما تبكي الغوادي البواكر
واذكر أياماً مضت ولياليا ... وأظهر فيها ما تجن الضمائر
غداة النقا بالباهلية آهل ... وحين الصفا بالعامرية عامر
وقفت أدير الطرف في عرصاتها ... وأطلالها دارت عليها الدوائر
ومن حب تلك الغانيات عواطلاً ... لقد سكنت فيها المها والجآذر
لنفرة أنس وانتفاء بمالكي ... تملك ربع الآنسات النوافر
فخالفني الآمال في سائر المنى ... ووافقني بيت من الشعر سائر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لصحبي قد ثنتني عزيمة ... أوائل حزن ما لهن أواخر
إلى أشرف الأملاك موسى الذي له ... إياد على وجه الزمان زواهر
ومن شعره:
قالوا الهلال وعندي في مجالستي ... بدر بوجه على شمس الضحى سادا
وفي فؤادي لهذا البدر منزلة ... ما نالها أحد قبلي ولا كادا
ليس الهلال بمحبوب لذي إرب ... وإن حببناه أحياناً وأعيادا
هذا يزيد حياتي في مجالستي ... وذاك ينقص عمري كلما زادا
محمد بن حامد بن كعب المنعوت بالقمر الشروي الأصل البعلبكي المولد والمنشأ والوفاة كان جسيماً وسيماً شجاعاً شديد القوى وهو مع ذلك رقيق الحاشية يذاكر بالأشعار والحكايات والنوادر وهو عنده مكارم أخلاق وفتوة ومروءة وعصبية وحسن عشرة ومعفرة بالأكابر والأعيان وكلمته مسموعة عندهم وحرمته وافرة ليدهم وكانت وفاته ببعلبك في شهر المحرم ودفن بظاهرها وهو في عشر الثمانين رحمه الله.
محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن محمد بن قاسم بن محمد ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن الحسين ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أبو عبد الله الحسيني الكوفي الأصل المصري المولد والدار المعروف والده بالحلبي مولده عشية السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بالقاهرة قرأ القرآن الكريم واشتغل بالعربية والأصول وبرع فيهما وسمع من أبي طاهر محمد بن محمد بن بيان الأنباري والشريف أبي محمد عبد الله ابن عبد الجبار العثماني وأبي محمد عبد القوي بن أبي الحسن القيسراني والأمير أبي الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ وآخرين غيرهم وحدث وأقرأ العربية وغيرها مدة: وكان عالماً فاضلاً رئيساً صدراً كبيراً ذا فنون متعددة ومعارف جمة مع ما هو عليه من حسن الطريقة وكرم الأخلاق وكان مؤثر الانفراد والتخلي محباً في الانقطاع والعزلة وعدم الاختلاط بالناس ذا جد وعمل وعبادة وأبوه أبو القاسم عبد الرحمن كان كان الفضلاء المشهورين وله تصانيف حسنة وطريقة جميلة رحمه الله وكانت وفاة الشريف أبي عبد الله محمد المذكور ضحى نهار السادس من صفر بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله.
قليج أرسلان بن السلطان غياث الدين كيخسرو بن السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش بن آتس بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان ركن الدين السلجوقي صاحب الروم كان ملكاً جليلاً شجاعاً كريماً لكنه لم يكن أحكمته التجارب فترك الحزم وفوض الأمور إلى معين الدين سليمان البرواناة واشتغل بلهوه فاستقل البرواناة بالتدبير واستفحل أمره ثم رام ركن الدين قتله والراحة منه واستشعر البرواناة ذلك منه فعمل على قتله حتى قتل في هذه السنة، وشرح الحال في ذلك إن البرواناة لما عظم شأنه واستولى على الممالك ولم يبق للسلطان ركن الدين معه كلمة استشعر البرواناة منه فرتب ضياء الدين محمود بن الخطير معه حريفاً ونديماً ليطلعه على سره في حال السكر ويكون عيناً للبرواناة عليه فحمل السلطان ركن الدين السكر على أن قال لضياء الدين ابن الخطير قد اتخذت سكيناً لقتل البرواناة وكانا بقونية فكتب ضياء الدين إلى أخيه شرف الدين بن الخطير يعرفه فأخبر شرف الدين البرواناة بذلك فكتب البرواناة إلى أبغا يذكر أن نية ركن الدين قد تغيرت فيك وربما كاتب صاحب مصر ليسلم إليه البلاد فعاد الجواب إذا ثبت ذلك عند نوابي المغل فافعل ما تختار ثم إن ركن الدين بعث يستدعي البرواناة فكتب إليه خواجا على الوزير يحذره من الوصول إليه فقصد البرواناة أمراء المغل وهم نابشي ويينال وكداي وبرد وأبكان ونوغاتمر وغيرهم بهدية سنية ففرقها فيهم وعرفهم أن السلطان ركن الدين استدعاه ليقتله وينتمي إلى صاحب الديار المصرية ويقتلكم عن آخركم فرحلوا معه وقصدوا أقصراً فلما وصلوها كتبوا إلى السلطان ركن الدين كتاباً يطلبون الحضور ليجتمع معهم على مصلحة أمرهم بها أبغا، فلما وقف على الكتاب خرج من قونية وأشار عليه خواصه أن لا يفعل فلم يصغ إلى رأيهم فلما بلغ البرواناة قدومه ركب ومعه المغل فلما التقوا ترجل البرواناة على عادته وقبل الأرض فقال له السلطان كيف أنت يا أبي؟ فقال يا خوند تقصد قتلي وتسأل عني فقال له حاشاك ثم نزل إلى الدار وشرب مع المغل فدك عليه البرواناة سما فأدرك ذلك فخرج وقاء ما شربه وركب فرسه وانصرف لينجو بنفسه فتبعه الصاحب فخر الدين خواجا وتاج الدين مبشر وغيرهما وأشاروا عليه بالرجوع ليقرأ عليه يغلغا فقال لهم إني أخاف من القتل فحلفوا له فرجع معهم وأنزلوه بخركاه نابشي بمفرده ولم يصحبه غير مملوك واحد وجميع من كان معه من الجند والمماليك وقوف على بعد ثم دخل عليه المغل وفاوضوه في الكلام وقالوا له لم عزمت على قتل البرواناة فقال لم يكن ذلك وإن كنت قلته ففي حال السكر فقالوا: إن أردت أن تنجو فقل لنا من كان اتفق معك على قتله؟ فذكر لهم جماعة فلما سماهم لهم قام أحد المغل ووضع في حلقه وتراً وخنقه به حتى مات، وكان حول الخركاه جماعة من المغل يصفقون ويلغطون لكي لا يسمع صوته وضربه شرف الدين بن الخطير فكسر يده ثم جعلوه في محفة وكتموا موته وأذاعوا أنه ضعيف ولم يزالوا يدخلون عليه في سيره بالمأكول والمشروب إلى أن وصلوا قونية فاظهروا موته وأنه وقع من على الفرس فمات وكان عمره يومئذ ثماني وعشرين سنة وأجلسوا ولده غياث الدين كيخسرو على التخت.
؟؟
السنة السابعة والستون وستمائةدخلت والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا السلطان ركن الدين قليح أرسلان صاحب الروم فإنه قتل وولى بعده ولده السلطان غياث الدين كيخسرو كما تقدم.
متجددات هذه السنةاستهلت والملك الظاهر بقلعة الجبل وفي يوم الخميس تاسع صفر جلس في الإيوان بالقلعة وأحضر القضاة والشهود وتقدم بتحليف الأمراء ومقدمي الحلقة لولده الملك السعيد فحلفوا ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبهة الملك في القلعة ومشى والده أمامه في القلعة وكتب له تقليد وقرئ على الناس بين يدي الملك الظاهر بحضور الصاحب بهاء الدين وأعيان الأمراء والمقدمين.
وفي يوم السبت ثالث عشر جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من قلعة الجبل متوجهاً إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد واستناب بالديار المصرية في خدمة ولده الأمير بدر الدين الخازندار ومن ذلك التاريخ علم الملك السعيد على التواقيع والمناشير وغيرها ووردت إليه كتب والده وكتب نواب بسائر المملكة.
ولما استقر الملك الظاهر بدمشق وصل إليه رسل من التتر مجد الدين دولة خان ابن جاقر وسيف الدين سيعد ترجمان وآخر من المغل ومعهم جماعة من أصحاب سيس فأنزلهم بالقعلة وأحضرهم من الغد وأدوا الرسالة ومضمونها: إن الملك أبغا لما خرج من الشرق تملك جميع العالم ومن خالفه قتل فأنت لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منا فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحاً وأنت مملوك أبعت في سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض فأجابهم من وقته بأنه في طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفرهم.
ووصل إليه الأمير سيف الدين محمد بن الأمير مظفر الدين عثمان ابن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون باستدعاء وقدم مفاتيح صهيون فخلع عليه وأبقاه على ما في يده.
وفي آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق فنزل خربة اللصوص فأقام بها أياماً ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرف الفارقاني أنه يغيب أياماً معلومة وقرر معه أنه يحضر الأطباء كل يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعك يشكو تغير مزاجه ليوهم أن الملك الظاهر هو المتوعك فكان يعمل ما يصفونه ويدخل به إلى الدهليز ليوهم العسكر صحة ذلك ووصل إلى قلعة الجبل ليلة الخميس حادي عشري شعبان وأقام بها أربعة أيام ثم توجه ليلة الاثنين خامس عشري الشهر على البريد فوصل إلى العسكر تاسع عشرينه وكان غرضه كشف حال ولده وغيره.
وفي يوم الأحد سادس عشر شهر رمضان تسلم نواب الملك الظاهر قلعة بلا طنس وقلعة بكسراييل بن عز الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكورس بن جيردكين صاحب صهيون وعوضه عنهما قرية تعرف بالحملة من أعمال شيزر كانت إقطاعاً لمظفر الدين في الدولة الناصرية وبعث إليهما نواباً وأموالاً وذخائر وسلاحاً.
وفي يوم الخميس العشرين من رمضان توجه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شن الغارة على بلد صور وأخذ شيئاً كثيراً وسبب ذلك أنه لما كان نازلاً على خربة اللصوص رفعت إليه قصة من امرأة تذكر أن ولدها دخل صور فقبض عليه وقتل.
وفيها عيد الملك الظاهر عيد الفطر بالجابية وصلى به الشريف شمس الدين سنان بن عبد الوهاب الحسيني خطيب المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه وكان قد وصل رسولاً من جماز في السنة الخالية فحبسه الملك الظاهر بقلعة دمشق ثم أطلقه في شهر رمضان هذه السنة لرؤيا رآها وكتب له تواقيع بإجرائه على عادته في خطابته وقضائه وإدرار ما لمتولي المدينة بديار مصر والشام من الوقوف والرواتب ثم جهزه وجهز معه الطواشي جمال الدين محسن وبعث معه خمسمائة غرارة من الكرك يفرقها فيمن بالمدنية من الضعفاء والمجاورين ثم رحل الفوار وأقام به إلى خامس عشري شوال ثم توجه إلى الكرك فوصله في أوائل ذي القعدة ثم توجه في سادسه إلى الحجاز وصحبته بدر الدين الخازندار وصدر الدين سليمان الحنفي وفخر الدين بن لقمان وتاج الدين بن الأثير ونحو ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة فوصل المدينة الشريفة في العشر الأخر من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام وكان جماز قد طرد مالكاً عن المدينة واستقل بإمارتها فلما قدم الملك الظاهر هرب من بين يديه فقال الملك الظاهر لو كان جماز يستحق القتل ما قتله لأنه في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تصدق في المدينة بصدقات كثيرة وخرج منها متوجهاً إلى مكة فوصلها ثامن ذي الحجة فخرج إليه أبو نمي وعمه إدريس صاحبا مكة وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات فوقف بها يوم الجمعة ثم سار إلى منى ثم دخل مكة وطاف الإفاضة وصعد الكعبة وغسلها بماء الورد وطيبها بيده ثم أقام يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة ثم توجه إلى المدينة الشريفة فزار بها قبر النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية ثم توجه إلى الكرك فوصله يوم الخميس تاسع عشري منه فصلى به الجمعة ثم توجه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثاني المحرم سنة ثمان وستين وستمائة سحراً فخرج الأمير جمال الدين النجيبي فصادفه في سوق الخيل فاجتمع به ثم سار إلى حلب فوصلها في سادس المحرم ثم خرج منها في عاشره وسار إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر فوصلها يوم الثلاثاء ثالث صفر وكان الركب قد خرج من مصر صحبة الأمير عز الدين الأفرم وفيه والدة الملك السعيد ووالدة الخازندار والصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين والصاحب تاج الدين أخوه واتفق وصول الركب إلى البركة ووصول الملك الظاهر فدخلا يوم الأربعاء رابع صفر.
وفي هذه السنة تقدم الملك الظاهر بالحوطة على أملاك حلب بأسرها وأن لا يفرج عن شيء منها إلا بكتاب عتيق من الأيام الناصرية أو ما قبلها.
وفي سابع عشري ذي الحجة هبت ريح شديدة عاصف بالديار المصرية غرقت مراكب في النيل نحواً من مائتي مركب فهلك فيها خلق كثير وأمطرت قليوب مطراً غزيراً وكان بالشام من هذه الريح صقعة أحرقت الأشجار.
؟
ذكر ما تجدد في هذه السنة من حوادث بلاد الشمال والعجم
منه عصيان باكودر بن عم برق وقيل أخوه على أبغا وسبب ذلك أن برق بعث إلى عمه سراً يشير عليه أن يخرج من طاعة أبغا وينضم إلى منكوتمر فاطلع أبغا على ذلك فاستدعى المذكور فامتنع من الحضور وكان بقربه طائفة من عسكر أبغا فبعث طلبهم فأجابوه خوفاً منه فرحل بهم نحو بلاد منكوتمر فلما بلغوا أعمال تفليس أظهروا الخلف عليه وكانوا ثلاثة آلاف فارس وبعثوا إلى أبغا يعرفونه فجمع أكابر دولته واستشارهم فأشروا بإرسال عسكر يقفوا أثره فبعث أباطي ومعه ثلاثة آلاف فارس واستدعى البرواناة وصمغرا ومن معهما من العساكر فلما حضروا أردف بهم أباطي فلحقوه فكانت عدتهم ثلاثين ألفاً ودخلوا بلاد باباسركيس ملك الكرج وعضدهم بألفي فارس فلما التقى الجمعان كانت الكسرة على باكودر ونجا بنفسه في ثلاثمائة فارس وانحاز باقي عسكره إلى عسكر أبغا وأخذ باكودر نحو جبال الكرج وكان بها نبات مسموم فرعته دوابه فهلكت فلم يبق معه غير أربعة عشر فرساً فقصد أبغا مستسلماً فعفا عنه ثم قصد أبغا بلاد باباسركيس واستولى منها على قلاع كان قد تغلب عليها الكرج وأخذوها من الملك الأشرف بن العادل رحمه الله وهي موكرى وقلعة مامرون وقلعة أولبي وكان بها بعض الكررج وطائفة من المسلمين فجلا الكرج عنها وأبقى المسلمين وعاد عسكر أبغا إلى أردوه وصمغرا والبرواناة إلى بلادهم، ولما بلغ برق ما جرى على ابن عمه باكودر جمع وحشد وقصد تبشير أخا أبغا فكسره واستأصل رجاله ونهب حريمه فبعث تبشير إلى أخيه يستصرخه ويحرضه فعزم على قصده وبعث إلى أطراف بلاده لطلب عساكره وسيأتي ذكره في سنة ثمان وستين إن شاء الله تعالى.
فصلوفيها توفي إبراهيم بن عيسى بن يوسف أبو إسحاق المرادي الأندلسي. كان فاضلاً عالماً عابداً ورعاً وافر الديانة كثير الضبط والتحقيق لما يكتبه سمع وحدث وباشر إمامة المدرسة الباذرانية بدمشق مدة وحصل كتباً جيدة نفيسة ووقفها على من ينتفع بها من المسلمين وجعل نظرها إلى علاء الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ رحمه الله، وكانت وفاة الشيخ أبي إسحاق المذكور بالديار المصرية في ليلة الخامس من ذي الحجة ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بالقرب من تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو في عشر السبعين رحمه الله.
إبراهيم بن... أبو زهير المباحي كان يجني المباح من جبل لبنان وغيره ويتقوت به ولم يزل على ذلك إلى أن أقعد في آخر عمره فانقطع في مغارة ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك يتعبد بها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء رابع وعشرين جمادى الأولى وقد نيف على المائة سنة، وكان رجلاً صالحاً متعبداً سليم الصدر جداً ودفن بمغارته رحمه الله.
أحمد بن عبد الواحد بن مري بن عبد الواحد أبو العباس تقي الدين المقدسي الحوراني مولده في نصف صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة سمع وحدث وكان من المشايخ الصلحاء العلماء الزهاد العباد الجامعين بين العلم والدين والفضيلة والزهد في الدنيا وأهلها وعنده جد واجتهاد وقوة نفس وإقدام وتجرد وانقطاع ومعرفة بطريق القوم وكانت وفاته في شهر رجب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن بها رحمه الله.
إيدمر بن عبد الله الأمير عز الدين الحلي الصالحي النجمي كان من أكابر أمراء الدولة وأعظمهم محلاً عند الملك الظاهر وكان نائب السلطنة عنه بالديار المصرية في حال غيبته عنها لوثوقه به واعتماده عليه وسكونه إليه وكان قليل الخبرة لكن رزق من السعادة ما مشى أموره وكان محظوظاً في الدينا له الأموال الجمة والمتاجر الكثيرة والأملاك الوافرة وأما ما خلف من الخيول والجمال والبرك والعدة فيقصر الوصف عنه، وكانت وفاته بقلعة دمشق في ويوم الخميس سابع شعبان ودفن بتربته بسفح قاسيون جوار مسجد الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله وقد نيف على الستين من العمر رحمه الله.
الحسن بن علي بن أبي نصر ابن النحاس أبو البركات شهاب الدين الحلبي المعروف بابن عمرون منسوب إلى جهة الأم التاجر المشهور كانت له نعمة ضخمة ومتاجر كثيرة وأموال عظيمة وحرمته وافرة ومكانته عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسلفه وأكابر أمراء الدولة عظيمة ومنزلته لديهم رفيعة، ولما ملك الملك الناصر دمشق كان المذكور إذا قدم عليه بالغ في إكرامه وتلقيه وإقامة حرمته وإنزاله في أجل الأماكن وترتيب الإقامة له مدة مقامه وسائر أرباب الدولة يعاملونه بما يناسب ذلك ولما استولى التتار على حلب سنة ثمان وخمسين لم يتعرضوا لداره وما يجاورها من الدرب جملة كافية كأنه ضمن لهم مبلغاً كثيراً على أن يحموها من النهب ففعلوا وآوى إليها والي دربه من أهله حلب وغيرهم ومن الأموال ما لا يحصى كثيرة فشملت السلامة لذلك جميعه وقام لهم بما كان التزمه من صلب ماله ولم يستعن على ذلك بما لأحد ممن آوى إليه فكانت هذه مكرمة له وتمزق معظم أمواله وخربت أملاكه وبقي معه اليسير بالنسبة إلى أصل ماله فتوجه به إلى الديار المصرية في أوائل الدولة الظاهرية فلزمه مغرم عظيم للسلطان أتى على قطعة وافرة مما تبقى معه واستوطن ثغر الإسكندرية إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى بالإسكندرية في بوم الجمعة ثالث وعشرين شعبان ودفن هناك رحمه الله وقد نيف على الثمانين سنة بقريب ثلاث سنين وكان عنده رياسة وسعة صدر وكرم طباع يسمح ما تشح أنفس التجار ببعضه إطلاقاً وقرضاً وأكابر الحلبيين يعرفون رئاسته وتقدمه لا ينكرون ذلك، وأبو نصر المذكور هو فيما أظن محمد بن الحسين بن علي ابن النحاس الحلبي كاتب تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس وهو صاحب المكاتبة إلى سديد الملك بن منقذ صاحب شيزر.
وشرح الحال في ذلك أن سديد الملك أبا الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني كان يتردد إلى حلب قبل تملكه شيزر وصاحب حلب يومئذ محمود المذكور فجرى أمر خاف سديد الملك على نفسه منه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يوم ذاك جلال الملك بن عمار فأقام عنده فتقدم محمود بن صالح إلى كاتبه أبي نصر محمد المذكور أن يكتب إلى سديد الملك كتاباً يشوقه ويستعطفه ويستدعيه إليه ففهم الكاتب أنه يقصد له شراً وكان صديقاً لسديد الملك فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى أن شاء الله تعالى فشدد النون وفتحها فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار ومن بمجلسه من خواصه فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه فقال سديد الملك إني أرى في الكتاب ما لا ترون ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة الكتاب أنا الخادم المقر بالأنعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه الكاتب سر بما في هذا وقال لأصدقائه قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك وقد أجاب بما طيب نفسي وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " فأجاب سديد الملك بقوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها " فكانت هذه معدودة من تيقظ الكاتب وفهمه تيقظ سديد الملك ابن منقذ أيضاً وإفراط ذكائه وفطنته وكلاهما غاية في ذلك وابن منقذ أشد فطنة في هذا الموطن والله أعلم.
سليمان بن داود بن موسك أبو الربيع الروادي الهذباني أسد الدين ابن الأمير عماد الدين بن الأمير عز الدين من بيت الإمرة والتقدم والاختصاص بالملوك كان والده عماد الدين أخص الناس بالملك الأشرف ابن العادل وأظن بينهما قرابة من جهة النساء وجده الأمير عز الدين موسك كان من أكابر أمراء صلاح الدين وذوي المكانة عنده وله به اختصاص عظيم وقرب كثير موصوف بالكرم والفطنة أما كرمه فمشهور لم يخيب مؤمله بل ينوله مقصوده بما له وجاهة، وأما فطنته فحكى لي عنه أن ركن الدين محمد الوهراني المشهور كان قدم الديار المصرية في الأيام الصلاحية وتعرض للأمير عز الدين مسترفداً له فأمر له بشيء لم يرضه فحضر مجلس الأمير عز الدين أحفل ما يكون وقال يا مولانا قد احتجت أن أحلق رأسي في هذه الساعة واشتهى أن تأمر بعض الطشت دارية أن يحلقه بحضرتك فأمر بذلك فلما حضر الحلاق فهم الأمير عز الدين ما أراد بذلك فقال لبعض مماليكه أعطه مائة دينار وقال له يا ركن الدين أحلق بها رأسك غير هنا فأخذها وانصرف وهو شاكر فقال بضع الحاضرين للأمير عز الدين في ذلك فقال أراد أن الحلاق إذا حلق يقول له يا مهتار موسك نجس فيشتمنا في وجوهنا بحضوركم فافتدينا منه بهذه الدنانير فعرف بذكائه مراد الوهراني، وكان أسد الدين صاحب هذه الترجمة عنده فضيلة وله يد جيدة في النظم وترك الخدم وتزهد ولازم مجلس العلماء ولبس الخشن من الثياب وكان له نعمة عظيمة ورثها من أبيه فأذهب معظمها ولم يبق له إلا صبابة يسيرة تقوم بكفايته يقتنع بذلك إلى حيث توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق في يوم الثلاثاء مستهل جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون ومولده بالقدس الشريف في حدود سنة إحدى وستمائة أو ستمائة تقريباً رحمه الله ومن شعره:
ما الحب إلا لوعة وغرام ... فحذار أن يثنيك عنه ملام
الحب للعشاق نار حرها ... برد على أكبادهم وسلام
تلتذ فيه جفونهم بسهادها ... وجسومهم إذا شفها الأسقام
ولهم مذاهب في الغرام وملة ... أنا في شريعتها الغداة إمام
ولهم وللأحباب في لحظاتهم ... خوف الوشاة رسائل وكلام
لطفت إشارتها ودقت في الهوى ... معنى فحارت دونها الأفهام
وتحجبت أنوارها عن غيرهم ... وجلت لهم أسرارها الأوهام
ومنها:
فأليك عذلي فإن مسامعي ... ما للملام بطرقها إلمام
أيروم سلواني الوشاة بنصحهم ... كلا وإن قعدوا لذاك وقاموا
أننا من يرى حب الحسان حياته ... فألام في حب الحياة ألام
عزى إذا كان الحبيب يذلني ... وتلذذي في الحب حين أضام
وألذ ما تلقى جفوني إنها ... تمسي لنار الشوق ليس تنام
كلفي بمن حمل السلاح جوارحاً ... فالقد رمح والجفون حسام
بدر ولكن لا يعاب بنقصه ... شمس لها كللل النشور غمام
ومنها:
وإذا نظرت إلى بهاء جماله ... شاهدت منه البدر وهو تمام
يفتر عن عطر لواضح دره ... برق لإلهاب الغليل بسام
يحوي رضاباً كالسلاف مزاجها الريحان ... والنسرين والنمام
وفيها:
متململ يرعى النجوم وتنطوي ... أضلاعه الحرى وهن ضرام
عبد المجيد بن أبي الفرج بن محمد أبو محمد مجد الدين الروذراوري كان إماماً عالماً فاضلاً مفتناً حسن الشكل والملبس مليح العبارة فصيحاً عارفاً بأشعار العرب يحفظ من ذلك ما لا يحصى كثرة وخطه في غاية الجودة والصحة والحسن، وكان يديم تلاوة القرآن العزيز ودرس بالمدرسة الظاهرية ظاهر دمشق وبالمدرسة الأكزية وغيرها وكان وافر الفضيلة ولم يكن حظه من المناصب على مقدار فضيلته وسيره الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله رسولاً إلى بركة ملك التتر فعرض له في الطريق من المرض ما منعه من التوجه فعاد بعد أن قطع مسافة عظيمة ولم يكن عقله المعاشي بذاك، وكانت وفاته في صفر بدمشق رحمه الله وهو في عشر السبعين وله نظم جيد لكنه منحط عن فضيلته فمن ذلك:
أهوى العقود لأنهن تألفا ... يحكين در كلامك المنظوما
وأذم أرمد لا يعد لعينه ... كحلاً تراب جنابك الملثوما
وأعد أمر المكرمات مشتتا ... إن لم أجده بسعيه ملموما
وإذا أجلت الفكر في أخلاقه ... لم تلق إلا روضة ونسيما
وقال:
نسيم الروض يشهبه أريجا ... إذا ما فاح في أعلى الروابي
إذا ما ديمة هطلت علينا ... ظننا جود كفك في السحاب
وقال:
ما عشت لا غيث السماح بمقلع ... عنا ولا روض النجاح مصوح
تهمى فأنجاد الرجاء عشيبة ... منه وأغوار الأماني طفح
وقال يهجو العز الضرير:
أعمى البصيرة والبصر ... ضل السبيل وقد كفر
ذم الأفاضل ضلة ... كالكلب إذا نبح القمر
فليعلمن إذا فغر ... أني سألقمه حجر
وكان العز الضرير قد هجا الشيخ مجد الدين بالبيتين المذكورين في ترجمته.
علي بن أفسيس بن أبي الفتح بن إبراهيم أبو الحسن محي الدين الساوردي الأصل البعلبكي المولد والمنشاء الدمشقي الدار والوفاة كان صدراً رئيساً عاقلاً منفرداً فيما يعانيه من الحشمة والرئاسة وحسن الملبس والتأنق في المسكن والمأكل والمركب وغير ذلك وولي نظر الزكاة بدمشق مدة زمانية إلى حين وفاته وكان مشكور السيرة محبوباً إلى التجار تجلب إليه الأشياء المستظرفة من البلاد الشاسعة وله الحرمة الوافرة والكلمة المسموعة وكان كثير الصدقة والتلاوة للقرآن الكريم في كثير من الأوقات وعنده فضيلة وكلمة لينة وخلقه حسن وتوفي في ليلة الجمعة تاسع عشر ربيع الآخر بدمشق ودفن من الغد بجبل قاسيون رحمه الله وقد جاوز ستين سنة من العمر، حدثني بعض الأعيان ممن كان يصحبه أنه وصى الدلالين على مشترى جارية تعرف صناعة الغناء فحضر إليه بعضهم وأخبره أن بحضور شخص من بغداد وهو من الزام بن كر ومعه جاريتين على الصفة المطلوبة فقال له أحضرهم فأحضر جارية واحدة فرآها وغنت فأعجبه غناؤها وهي لابسة بغلطاق طرح ثم سيرها وطلب الأخرى فحضرت وعليها ذلك البغلطاق بعينه فجعل يتأمله وسألها عنه فذكرت أن ليس لها سواه وأن أستاذهما يحبهما وإنما الضرورة حملته على عرضهما للبيع فسأل عن منزله وأخذ معه ألف درهم وعشر قطع قماش وتوجه بنفسه إلى منزل الرجل فسلم عليه وأعطاه ذلك فكسا الجواري واستغنى عن بيعهن ولم يشتر منه محي الدين رحمه الله شيئاً.
علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة أبو الحسن مجد الدين العشيري المنفلوطي الأصل والمولد القوصي الدار والوفاة المالكي المذهب مولده في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تفقه على غير واحد منهم الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي وصحبه مدة سمع منه وحدث ودرس وأفتى وصنف وانتفع به الناس وكان أحد الأئمة العلماء جامعاً لفنون من العلم معروفاً بالصلاح والدين معظماً عند الخاصة والعامة مطرحاً للتكلف كثير السعي في قضاء حوائج الناس على سمت السلف الصلاح وكانت وفاته في ثالث عشر المحرم رحمه الله.
غازي بن حسن بن.... أبو الحسن التركماني كان رجلاً متعبداً كثير الصيام منقطعاً في زاويته بقرية دورس ظاهر بعلبك ويحضر يوم الجمعة إلى بعلبك لشهود صلاة الجمعة بجامع بعلبك ويعود إلى زاويته، وكان سليم الصدر حسن الملقى وزعم أنه قد نيف على مائة سنة من العمر وكانت وفاته بزاويته المذكورة في نهار الأحد خامس وعشرين ذي الحجة ودفن بقرية دورس رحمه الله.
محمد بن عمر بن حسن بن علي بن محمد الخميل بن فرج بن خلف ابن قومس بن مزلال بن ملال بن أحمد بن بدر بن دحية بن خليفة الكلبي أبو الطاهر شرف الدين مولده في العشر الوسط من شهر رمضان سنة عشر وستمائة بالقاهرة سمع من أبيه الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية وغيره وتولى مشيخة جار الحديث الكاملية بالقاهرة مدة وحدث وكان فاضلاً وتوفي في الخامس والعشرين من شهر رمضان بالقاهرة دفن بالقرافة رحمه الله، وهذه النسبة نقلت من خط والده رحمه الله وذكر قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله والده أبا الخطاب وساق نسبه لكنه قال فلان بن بدر بن أحمد بن دحية قال وكان يذكر أن أمه أمة الرحيم بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين دحية والحسين رضي الله عنهما كان أبو الخطاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهيرهم متقناً لعلم الحديث وما يتعلق به عارفاً النحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، اشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية ولقي بها علماءها ثم رحل إلى بر العدوة ودخل مراكش واجتمع بفضلائها ثم ارتحل إلى إفريقية ومنها إلى الديار المصرية ثم إلى الشام والشرق والعراق ودخل عراق العجم وخراسان ومازندران وإربل وغيرها ومولده مستها ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم رحمه الله واختلف في سنة مولده أما الشهر فلا خلاف فيه وكان أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن أسن منه وكان حافظاً للغة العرب قيماً بها وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث التي أنشأها بالقاهرة ورتب أخاه المذكور مكانه فلم يزل بها إلى أن توفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم، وله رسائل استعمل فيها حوشي اللغة.
ووقع لي رسالة بخط منشئها لا أعلم هل هو أبو الخطاب أو أبو عمر نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً: المملوك الداعي ابن دحية كان رسول الله عليه وسلم إذا جاءه أمر يسر به وسربه خر لله ساجداً رواه الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني والعتكي بعده في حديث الشفاعة الصحيح قال فأخر لله ساجداً قدر جمعة لم يخرج مسلم ولا البخاري هذه الزيادة وهي زيادة صحيحة وفيها الرد على أبي حنيفة ومالك في أنهما لا يجيزان سجود الشكر وما أدري لأي شيء قالوا ذلك والحديث مشهور رواه الترمذي والسجستاني والنسائي وجماعة غيرهم وأما زيادة حديث الشفاعة قدر جمعة فلم يروها سوى أحمد بن حنبل والعتكي وقد وافقنا السنة وفعلنا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وشكرنا الله شكراً رغداً كما قال تعالى: " فكلا منها رغداً حيث شئتما " أي دائماً لا ينقطع وذلك لما اتصل لنا من عقابيل ما كان ألم الغطريف وهو السيد العظيم السلطان الكامل الكبار الهميسع الصنديد الصنتيت الجلواخ العيذاق الهلقام اللهموم والجحجاح الوحواح وواجب علي الأخرواط في منسبان الدعاء والشكر لله عز وجل فيما أزل إلى الناس أجمعين أكتعين أبصعين، بما مره عليه من الأطرغشاش والأبرعشاش والإبلال والقشقشة فأصبح صمجمجاً عنطنطا عنسطا صملاً عرداً حبعثتا سبعطريا ما به ظبظاب ولا قلبه كأنما قد سيره قد مصح الله عنه العقابي وعرطن عنه العصاويد ومذ بلغتني شكاته لم يزل الدعاء له هجيراي وقد كنت فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه وزاد الترمذي حتى الهم يهمه إلا كفر الله عنه، وفي الموطأ وما يدريك لعل الله ابتلاه بمرض يكفر عنه من سيئاته وفي الحديث الغريب ما من مسلم ينشط من مرضه إلا كان كيوم ولدته أمه عطلاً من الذنوب:
أحمد رباً ساقني اليكا ... وأنا أمشي الدألا اليكا
وكنا في هذه المدة ننظر في جنح الكافر الزبرقان فنظنه حواري وننظر العتم فنظن ذلك زغنجا وما أدري لأي شيء أنكر أبو عبيد لفظه الزعيج وقال ما أظنه من كلام العرب وقد حكاه الفراء عن العرب وهو ثقة فقال ثعلب عن يونس النحوي عن أبي عبيدة عن العرب الزغنج الزيتون والزغنج الحسن من كل شيء وقد أصاب الفراء رحمه الله في ذلك: وكنت عبداً للأنام أخضعا والأخضع الذليل، والأنام البشر وكنت لا أقدر على النوم أجأر إلى الله بالدعاء في كل توة من الليل حتى كان بالأمس جاء الفرج بالرش والهنيدة وافى ذلك يوم الميعاد والناس قد إذ لعبوا من كل أوب وإتلأبوا من كل سقع قد عطل بهم النتاج والباج لم يفرنقعوا عني فسدلت علي السب السابري ولذت الشوذة وسدلت السدوسي وقعدت القرفصاء وأهبنقعت وأخزأللت وارجحننت وأكمخت وتجهضمت ورفعت عقيرتي بالدعاء بوجأة صهصلق وللتأدي بالتأمين عجيج فللقد أغنيت وأقنيت وجعلتني من الأحرار وكنت مملكاً وقنجلاً وكل أحد من البرشاء جاء بمتنخة يضربني بها لحقه علي، وفي الحديث الغريب ذكر أبو عبيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق اليد واللسان فكففت أيديهم عني وقطعت ألسنتهم دوني بنعمتك المثعنجرة الكنهور المنفيهقة المنقور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصنفات جمع سوى الموطأ: من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا ويروى من نفس فرج الله أو نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وزاد الدار قطني فرج الله عنه سبعين كربة من كرب يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " ويروى في الصحيح إن الله يحب إعانة ويروى إغاثة اللهفان الملهوف، وقال في حديث أبي ذر وإن تفرغ في دلوك من دلو أخيك أو صاحبك وأن تلقي أخاك بوجه طلق فسرحتني من وثاقي ونشطتني من عقال الدين وفعلت ما أمرك الله تعالى به وهو قوله سبحانه وتعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى " قال ابن عمر وسالم وعطاء والشعبي أن ذلك واجب وسائر العلماء يقولون إن ذلك ليس بواجب إنما هو مندوب إليه فأخذت بقولهم ووفقت، وفي الطبراني عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في المال لحقا سوى الزكاة وهذا صحيح بهذا الطريق والترمذي ضعفه من طريق أبي حمزة الأعور واسمه ميمون وزدت أن زينتني بالريايش الشف قال الله تعالى: " وريشاً ولباس التقوى " قال اللغويون الثقات الريش المال والريش الخصب قال الشاعر:
ما لكم الليلة من إنفاش ... ولا دثار لا ولا رياش
والريش ما ظهر من اللباس يقال أعطاني رحلاً بريشه أي بجميع ما فيه وقال الفراء الريش والرياش بمعنى واحد مثل الدبغ والدباغ وقد جعلت هاتيك الخلعة زينة لكل مسجد أناجي الله فيها وقد كنت لا تجديد لي إلا بالصابون، وفي الحديث الحسن خرجه الشيباني والترمذي من كسا مسلماً على عرى كساه الله من خضرة الجنة ويروى من خضر الجنة، وأنت فعلت ذلك من غير واسطة ولا تنبيه إلا صدق فراسة، وفي الحديث: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وعن قريب يجازيك الله بالخير الغطمطيط ويمكن لك في الأرض وعن قريب يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق بالرغبة والرهبة لقوله سبحانه: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " الحسنى فعلن من أسماء الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى: والسلام الكريم النفاح الأزج على حضرة الأملوك السرندي ورحمة الله وبركاته.
وقد تكلم الناس في أبي الخطاب ونسبوه إلى التزيد في كلامه مع ما كان يعانيه من الوقوع في بعض العلماء وكان الملك الكامل مقبلاً عليه فلما تبين له ذلك منه أعرض عنه وكان قدم مرة دمشق وسأل الصاحب صفي الدين بن شكر رحمه الله أن يجمع بينه وبين الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله فاجتمعا وتناظرا وجرى بينهما البحث في قول العرب لقيته من وراءَ وراءَ فقال ابن دحية لا يقال بالرفع بل بالنصب فقال تاج الدين أخطأت فسفه على الشيخ تاج الدين فقال له يا مدعي أنت تكتب وكتب ذو النسبين بين دحية والحسين ودحية بإجماع المحدثين ما أعقب فقد كذبت في نسبك، وحكى لي أنه قال للشيخ تاج الدين في محاورته أنا عندي كتب تسوي بغداد فقال الشيخ تاج الدين هذا محال ما في الدنيا كتب تسوي بغداد وإنما أنا عندي كتب جلودها تساوي رقبتك فخجل واستحسن الحاضرون هذا الجواب من الكندي وحكى أنه كان يدعي أن له بالمغرب أموالاً عظيمة وأملاكاً كثيرة وغير ذلك من عظم القدر والجاه والمال وذكر ذلك للملك الكامل فاستبعده فلما قدم أخوه أبو عمرو عثمان المذكور سأله الملك الكامل عن ذلك فذكر أنهم قوم فقراء لا يوبه لهم في تلك البلاد وليس لهم بها ذكر فاعجب الملك الكامل قوله ونبل في عينه وسقط أبو الخطاب من عينه وتحقق تزيده في الحديث والله أعلم.
محمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عربي أبو عبد الله عماد الدين كان فاضلاً سمع الكثير وسمع معناً صحيح مسلم على الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي رحمه الله وتوفي بدمشق في شهر ربيع الأول ودفن عند والده بسفح قاسيون وقد نيف على الخمسين من العمر رحمه الله.
محمد بن وثاب بن رافع أبو عبد الله تاج الدين النخيلي الحنفي كان فقيهاً عالماً فاضلاً حسن الشكل درس وافتن وناب في الحكم بدمشق وكان سديداً في أحكامه مشكور السيرة وتوفي بدمشق في شهر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين رحمه الله.
مظفر بن عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الصافي بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن يعيش بن عبد العزيز بن سعد بن عبادة أبو منصور تاج الدين الأنصاري الخزرجي الدمشقي الحنبلي مولده في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثماني وخمسمائة بدمشق سمع من أبي طاهر الخشوعي وعمر بن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وبيته معروف بالعلم والحديث وكانت وفاته بدمشق في ثالث صفر فجأة ودفن بجبل قاسيون رحمه الله.
أبو الفضل بن... الصحراوي الشاغوري كان من الصلحاء الأخيار العارفين ملازماً للخير والعبادة وكان كثيراً ما يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقيل أنه كان يجتمع بالخضر عليه السلام وكان منقطعاً عن أرباب الدنيا مقيماً في منزله بالشاغور ظاهر دمشق اجتمع بجماعة من أرباب الطريق وأخذ عنهم، زرته في منزله وكانت وفاته في جمادى الأولى بدمشق رحمه الله ونفعنا ببركته.
أبو محمد بن سلطان بن محمود كان رجلاً صالحاً عابداً منقطعاً عن أرباب الدنيا عاكفاً عن العبادة وإشغال الناس بالقرآن العزيز لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يذكر أحداً إلا بخير وكان عالماً بما يحتاج إليه من أمر دينه سمع البخاري من ابن الزبيدي وسمع من الشيخ بهاء الدين أبي محمد عبد الرحمن المقدسي وغيره ولازم صحبة الشيخ إبراهيم بن جوهر البطائحي رحمه الله وانتفع به وصحب والده أيضاً وكان من أصحاب والدي رحمه الله قرأ عليه وسمع منه وكان والدي يحبه ويكرمه لصلاحه ودينه ولأجل والده سلطان رحمه الله فإنه كان من الأولياء الأفراد، وكانت وفاة الشيخ أبي محمد المذكور ببعلبك في ليلة الخميس العشرين من شهر رمضان من هذه السنة ودفن بتربة الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله وهو في عشر السبعين وكان متقللاً من الدنيا قانعاً منها بالكفاف سالكاً إنموذج السلف الصالح وتوفي ولم يشب رأسه ولحيته إلا شطرت يسيرة جداً مع كونه نيف على سبعين سنة.
السنة الثامنة والستون وستمائةدخلت والخليفة والملوك على ما كانوا عليه والملك الظاهر بالصنمين عائداً من الحجاز الشريف.
متجددات هذه السنةقد ذكرنا عود الملك الظاهر من الحجاز في السنة الخالية لسِاق الحديث بعضه بعضاً فأغنى عن إعادته.
وفي يوم الجمعة ثالث عشر صفر توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فتصيدوا أياماً وعاد إلى القلعة يوم الثلاثاء ثامن ربيع الأول وخلع في هذه السفرة على الأمراء وفرق فيهم الخيل والحوائص والسيوف والذهب والدراهم والقماش.
وفي يوم الاثنين حادي عشري ربيع الأول توجه إلى الشام في طائفة يسيرة من أمرائه وخواصه ورتب لهم الإقامات والعليق لدوابهم فوصل إلى دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر ولقي الناس في الطريق مشقة شديدة من البرد وخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا في عسكر ليقصد فرقة منهم المقيمين بحنسين وفرقة منهم المقيمين بصفد من عسكر المسلمين فبعث الملك الظاهر إلى العسكرين عرفهما ثم سار فالتقى بهما في مكان عينه يوم الثلاثاء حادي عشري الشهر وسار إلى عكا فصادف ابن أخت زيتون قد خرج فالتقى به فكسره واستأسره وجماعة من أصحابه وقتل منهم خلقاً وذلك في يوم الأربعاء ثاني وعشرين الشهر، ثم قصد الغارة على المرقب فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه فرجع إلى حمص وأقام بها نحو عشرين يوماً ثم خرج إلى تحت حصن الأكراد وأقام يركب كل يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب فبلغه أن مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت منه مركبين للمسلمين فرحل من فوره إلى الديار المصرية فوصلها ثاني عشر شعبان.
وفيها قدم على الملك الظاهر صارم الدين مبارك بن الرضى مقدم الإسماعيلية بهدية وشفع فيه صاحب حماة فكتب له منشوراً بالحصون كلها ليكون نائباً عنه بها وكتب له بأملاكه التي بالشام جميعها على أن يكون مصباث وبلدها خاصاً للملك الظاهر وبعث معه نائباً فيها عز الدين العديمي فلما وصلا إليها عصى أهلها وقالوا لا نسلمها فإنه كاتب الاسبتار ونحن نسلمها لنائب الملك الظاهر فقال لهم عز الدين أنا نائب السلطان فقالوا له تأتينا من جهة الباب الشرقي فيما جاءهم وفتحوه هجمه الصارم وقتل منهم خلقاً وتسلم هو وعز الدين القلعة ثم غلب الصارم على البلد وأزال عنه حكم عز الدين فاتصل ذلك بالملك الظاهر واتفق إن ورد عليه نجم الدين حسن بن الشعراني وهو نازل على حصن الأكراد ومعه هدية سنية فقبلها وكتب له منشوراً بالقلاع التي كتب بها لصارم الدين وهي الكهف والخوابي والعليقة والرصافة والقدموس والمينقة والقليعة ونصف أملاك الشام من جبل السماق وقرر عليه يحمل كل سنة مائة وعشرين ألف درهم، ولما عاد الملك الظاهر إلى مصر وتحقق صارم الدين إقباله على نجم الدين أخرج عز الدين من مصباث فوصل إلى دمشق فسير الملك الظاهر الجمال معالي بن قدوس على خيل البريد ومعه ونجم الدين الكنجي إلى حماة فأخرجا صاحبها في عسكره ومعهم عز الدين العديمي وتوجهوا إلى مصباث فخرج منها الصارم وقصد العليقة فتسلموا مصباث في شهر رجب وحكم بها عز الدين واستخدم أجناداً ورجالة ولما اتصل بالملك الظاهر سلامة الصارم كتب إلى صاحب حماة يلومه وألزمه بإحضاره فتحيل عليه حتى نزل من العليقة فقبض عليه وحمله إلى الملك الظاهر فحبسه في برج من أبراج سور القاهرة في ذي القعدة.
وفيها عمرت القناطر على بحر ابن منحا وفي يوم الخميس رابع عشري شعبان فوض إلى الصاحب تاج الدين وزارة الصحبة على ما كان عليه والده فخر الدين.
وفي شعبان لعبت الشواني في نيل مصر وحضرها الملك السعيد في الحراقة ولما دخلت البر ازدحم الناس في مركب منها فغرق ثم سافروا في الشهر إلى دمياط ووافاهم من الإسكندرية أربعة أخرى وخرجوا إلى الغزاة جميعاً فوجدوا بطشة هائلة وبها شجعان حموها وعلقوا من مراكب المسلمين مركباً فقاسوا الجهد فأطلقوه وقتل منهم خمس وعشرون رجلاً ثم عادوا ولم يظفر بطائل.