كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب
تولى رياسة القبيل وسط صفر من عام سبعة وعشرين وسبعماية، معوضاً به عن شيخ الغزاة عثمن بن أبي العلاء ، فنعم البيت، وخدن الشهرة، عندما أظلم ما بينه وبين ابن المحروق مدبر الدولة، ودافعه بالجيش، في ملقى حرانه، من أحواز حصن أندرش مرات، تناصف الحرب فيها، وربما ندر الفلج في بعضها، واستمرت حاله إلى سابع محرم من عام تسعة وعشرين وسبعماية، وأعيد عثمان بن أبي العلاء إلى رتبته على تفئة مهلك ابن المحروق، وانتقل هو إلى مكانه بوادي آش في قومه، تحت حفظٍ ومبرة. ثم دالت له الدولة، وعادت إلى ولده الكرة، يوم القبض على نظرائه وقرابته، مترفي حظوته، ولد الشيخ أبي سعيد عثمن بن أبي العلاء، عند إيقاع الفتكة بهم يوم السبت التاسع والعشرين لربيع الأول عام أحد وأربعين وسبعماية. واستمرت له الولاية، وألقت عصاها كلفة منه بالكفؤ الذي سلم له المنازع، إلى أن قبض سلطانه رحمه الله، فجرى ولده على وتيرة أبيه، ووفى له صاع وفائه، فجدد ولايته، وشدا حسه، ونوه رتبته، وصدر له يوم بيعته منشور كريم من إنشائي نصه: هذا ظهير كريم منزلته في الظهاير الكريمة منزلة المعتمد في الظهر الكرام، أطلع وجه التعظيم سافر القسام، وعقد راية العز السامي الأعلام، وجدد كريم المتات وقديم الذمام، وانتضى للدفاع عن حوزة الدين حساماً يقر بمضايه صدر الحسام، فأعلن تجديده بشد أزر الملك ومناصحة الإسلام، وأعرب عن الاعتناء الذي لا تخلق جديده أيد الليالي والأيام. أمر به الأمير عبد الله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج، ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، أيد الله أمره وأعز نصره، لوليه الذي هو عماد سلطانه، وواحد خلصائه، وسيف جهاده، ورأس أولي الدفاع عن بلاده، وعقد ملكه، ووسطي سلكه، الشيخ الجليل الكبير الشهير، الأعز الأسنى، الصدر الأسمى، الأحفل، الأسعد، الأطهر، الأظهر، الكذا، أبي زكريا ابن الشيخ الكذا، أبي علي ابن الشيخ الكذا، أبي زيد رحو بن عبدالله ابن عبد الحق، زاد الله قدره علواً، ومجده سمواً، وجهاده ثناءً متلواً.
لما كان محله من مقامه، المحل الذي تتقاصر عنه أبصار الأطماع فترتد حاسرة، وكان للدولة يداً باطشة، ومقلة باصرة، فهو ملاك أمورها واردةً أو صادرةً، وسيف جهادها الذي أصبحت بمضائه ظافرة، وعلى أعدائها ظاهرة، وكان له الصيت البعيد، والذكر الحميد، والرأي السديد، والحسب الذي يليق به التمجيد، والقدر الذي سما منه الجيد، وعرفه القريب والبعيد، والجهاد الذي صدق به في قواعده الاجتهاد والتقليد، فإن أقام جيشاً أبعد غارته، وإن دبر أمراً أحكم إدارته، مستظهراً بالجلال الذي لبس شارته. فهو واحد الزمان، والعدة الرفيعة من عدد الإيمان، ومن له بذاته وسلفه علو الشأن، وسمو المكان، والحسب الوثيق البنيان، ولبيته الكريم، بيت بني رحو السابقة في ولاية الأوطان. والمدافعة عن حوزة الملك وحمى السلطان. إن فوخروا صدعوا بالمكارم المعلومة، ومتوا إلى ملك المغرب ببنوة العمومة، وتزينوا من حلي الغرب بالتيجان المنظومة. فهم سيوف الدين، وأبطال الميادين، وأسود العرين، ونجوم سماء بني مرين. وكان سلفه الكريم رضي الله عنه يستضيء من رأيه بالشهاب الثاقب، ويحله من بساط تقريبه أعلى المراتب، ويستوضح ببركته جميع المذاهب. ويستظهر بصدق دفاعه على جهاد العدو الكاذب، ويرى أنه عز دولته، وسيف صولته، وذخيرة فخره، وسياج أمره. جدد له هذا الرتب تجديداً، صير الغاية منها ابتداءً، واستأنف به إعلاءً، ولم يدخر عنه حظوة ولا اعتناءً. وحين صير الله إليه ملك المولى أبيه بمظاهرته، وقلده قلادة الملك بأصيل اجتهاده، وحميد سعيه، بعد أن سبق الألوف إلى الأخذ بثاره، وعاجلت البطشة الكبرى يد ابتداره، وأردى بنفسه الشقي الذي سعى في تبديد شمل الإسلام، وإطفاء أنواره، على تعدد الملك يومئذ وتوفر أنصاره. فاستقر الملك في قراره، وانسحب الستر على محله، وامتد ظل الحفظ على داره. عرف وسيلة من المقام الذي قامه، والوفاء الذي رفع أعلامه، وألقى إليه في أهم الأمور بالمقاليد، وألزمه ملازمة الحضور بمجلسه السعيد، وشديد الاغتباط على قربه، مستنجحاً منه بالرأي السديد، ومستنداً من وده إلى الركن الشديد، وأقامه بهذه الجزيرة الأندلسية عماد قومه، فهو فيهم يعسوب الكتيبة، ووسطى العقد الفريد، وفذلكة الحساب وبيت القصيد،فدواره منهم للشريد، مأوى الطارف والتليد، الكفيل بالحسنى والمزيد. يقف ببابه أمراؤهم، وتنعقد في مجلسه آراؤهم، ويركض خلفه كبراؤهم. مجدداً من ذلك ما عقده سلفه من تقديمه، وأوجبه مزية حديثه وقديمه. فهو شيخ الغزاة على اختلاف قبايلهم، وتشعب وسايلهم، تتفاضل درجات القبول عليهم بتعريفه، وتشرف أقدارهم لديه بتشريفه، وتثبت واجباتهم بتقديره، وينالهم المزيد بتحقيقه للغناء منهم وتقريره، فهو بعده، أيده الله، قبلة آمالهم. وميزان أعمالهم، والأفق الذي يصوب من سحاب قطره غمام نوالهم، واليد التي تستمنح عادة أطمعتهم وأموالهم. فليتول ذلك عظيم القدر، منشرح الصدر، حالاً من دائرة جمعهم، محل القلب من الصدر، متألقاً في هالتها تألق البدر، صادعاً بينهم باللغات الزناتية، التي تدل على الأصالة العريقة، والنجار الحر. وهو إن شاء الله الحسام الذي لا ينبه على الضريبة، ولا يزيده حسناً جلب الحلي العجيبة، حتى يشكر الله والمسلمون اغتباط مقامه بمثله، ويزري بره به على من أسر بره من قفبله، ويجني الملك ثمرة تقريبه من محله. ومن وقف على الظهير الكريم من الغزاة، آساد الكفاح، ومتقلدي السيوف ومعتلقي الرماح، كماة الهيجاء وحماة البطاح، حيث كانوا من موسطة أو ثغر، ومن أقيم في رسم من الجهاد أو أمر، أن يعلموا قدر هذه الغاية المشرقة، واليد المطلقة، والحظوة المتألقة، فتكون أيديهم فيما قلدوه رداً ليده، وعزايمهم متوجهة إلى مقصده. فقصده، فقدره فوق الأقدار، وأمره الذي ناب أمره مقابل الابتدار، على توالي الأيام وتعاقب الأعصار. وكتب في كذا...
مولدهولد بظاهر تلمسان، عند لحاق أبيه رحمه الله بسلطانها عام أحد وتسعين (وستماية) تلقيته من لفظه.
ومن المستدرك: وتمادت ولايته إلى الأوايل من شهر رمضان عام اثنين وستين وسبعماية. فلما تصيرت إلى قدار ناقتها، محمد بن إسمعيل ابن نصر، عزله، وهم به، فغربه إلى بلد الروم، فراراً أرق به البسالة والصبر، وتبعه الجيش، فأصيب بجراحة، ورد من صامته، وجلى عن نفسه، فتخلصه عزمه ومضاؤه، واستقر عند طاغية الروم، فأولاه من الجميل ما يفوت الوصف، واجتاز العدوة، فعرف بها حقه، وعادت رتبة هذا الرجل، بعد أن رد الله على سلطانها ملكه، إلى أحسن أحوالها من الجاه والحظوة، وانطلاق اليد. والسلطان مع ذلك منطوٍ له على الضعن لأمور، منها غمس اليد في أمر عمه، وقعوده عنه، وهو أحوج ما كان لنصره، وانزحاله عنه في الشدة، عندما جمعه المنزل الخشن، فسحب عليه أذيال النكبة لابنه عثمن، مترفي مرقب الظهور في عودته، والمستأثر بجواره، والمحكم في أمره، فتقبض عليهما، وعلى من لهما محالفاً للوقت فيهما، إذ كان متوفراً على الحلم لحدثان العودة، وجدة الإيالة، صبيحة يوم الإثنين لثالث عشر لرمضان عام أربعة وستين وسبعماية. فأحاط بهم الرجال لهذا السلطان، والتقطوا من بين قبيلتهم، ودهمهم الرجال، آخذين بحجزهم وايديهم إلى دور الثقاف. ثم أركبوا الأداهم، وانتقلوا إلى بعض الأطباق المتفرقة بقصبة المنكب، واقتضى نظر السلطان جلاء المترجم به وأولاده من مرسى المنكب، ونقل ولده الأكبر إلى ألمرية حسبما مر في اسمه، فلينظر هنالك، واستقر إلى هذا العهد، بعد قفوله من الحج بمدينة فاس، فلقي بها براً وعناية، ولحق ولداه بالأندلس، وهما بها، تحت جراية وولاية
يوسف بن هلالصهر الأمير أبي عبد الله بن سعد .
حالهكان شجاعاً حازماً، أحظاه الأمير المذكور وصاهره، وجعل لنظره حسن مطرنيش ومواضع كثيرة. وفسدت طاعته إياه، فقبض عليه ونكبه وعذبه، واستخلص ما كان لنظره وتركه. فأعمل الحيلة، ولحق بمورتلة فثار بها، وعاقد صاحب برجلونة على تصيير ما يملكه إليه. فأعانه بجيش من النصارى، ولم يزل يضرب ويوالي الضرب على بلنسية ويشجي أهلها، وتملك الصخرة والصخيرة وغيرهما. واتفق أن خيلاً جهزها ابن سعد للضرب عليه، عثرت بجملته متوجهاً إلى شنت بيطر، فقبض عليه، وقيد أسيراً، فنهض به للحين إلى مورتلة وطلبه بإخلائها، فأبى فأمر ابن مردنيش بإخراج عينه اليمنى، فأخرجت بعود. ثم قرب من الحصن وطلبه بإخلائها، فدعا بزوجه وطلبها بإخلاء الحصن، وإلا فتخرج عينه الأخرى، فحمل على التكذيب، ولم يجبه أحد، فأخرجت للحين عينه الأخرى، وسيق إلى شاطبة، فبقي إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وستماية. ودخل غرناطة، وباشر منازلتها مع الأمير صهره، فاستحق الذكر لذلك.
من القضاة الأصليين وغيرهم
يحيى بن عبيد الله
بن يحيى بن كثير بن وسلاسن بن سمال بن مهايا المصمودي
أوليته وحاله
دخل أبو عيسى يحيى بن كثير الأندلس مع طارق بن زياد، وقيل له الليثي، لأنه أسلم على يد رجل اسمه يزيد بن عامر الليثي، فنسب إليه، وقيل إنهم نزلوا بنزل الليث، فنسبوا إليه، يكنى يحيى هذا، ابا عيسى. وكان جليل القدر، عالي الدرجة في القضاء، ولي قضاء إلبيرة وبجانة مدة، وولي قضاء جيان وطليطلة، ثم عزل عن طليطلة، وأضيفت إليه كورة إلبيرة مع جيان. ثم استعفى عن جيان وبقي يلي قضاء إلبيرة، وكان لا يرى القنوت في الصلات، ولا يقنت في مسجده البتة.مشيختهروى عن أبي الحسن النحاس، وسمع الموطأ من حديث الليث وغيره من عم ابيه عبيد الله بن يحيى.
مولدهفي ذي القعدة سنة سبع وثمانين ومايتين.
وفاتهتوفي ليلة الثلاثاء بعد صلاة العشاء، ودفن يوم الثلاثاء بعد العصر، لثمان خلت من رجب عام سبعة وستين وثلاثمائة.
يحيى بن عبد الرحمن
بن أحمد بن ربيع الأشعري
يكنى أبا عامر.حالهالعالم الجليل، المحدث الحافظ، واحد عصره، وفريد دهره. كان رحمه الله علماً من أعلام الأندلس، ناصراً لأهل السنة، رادعاً لأهل الأهواء، متكلماً دقيق النظر، سديد البحث، سهل المناظرة، شديد التواضع، كثير الإنصاف، مع هيبة ووقار وسكينة، ولي قضاء الجماعة بقرطبة ثم بغرناطة، وأقرأ بغرناطة لأكابر علمائها ونبهائها، الحديث والأصلين وغير ذلك، بالمسجد الجامع منها وبغيره.
مشيخته
حدث عن والده العالم المحدث أبي الحسين عبد الرحمن بن أحمد ابن ربيع، وعن الشيخ الأستاذ الخطيب أبي جعفر أحمد بن يحيى الحميري، وعن الراوية المحدث أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، وعن الحافظ المسن أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن الجد الفهري، والقاضي أبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون، والزاهد الورع، أبي الحجاج يوسف بن محمد البلوي المالقي، عرف بابن الشيخ، وأبي زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن عبد المنعم الإصبهاني الواعظ، والفقيه القاضي أبي محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي.
وفاتهبمالقة سنة سبع وثلاثين وستماية.
يحيى بن عبد الله
بن يحيى بن زكريا الأنصاري
أوليته تقدمت في اسم عمه أبي إسحق، فلينظر هنالك.حالهمن أهل العدالة والزكا والسلف في الخطط الشرعية، سكون، متفنن في العلوم الشرعية من فقه وأحكام، وله التقدم في الوقت في علم الفرايض والحساب. حبس على الزاوية التي اتخذتها بالحضرة، موضوعات في ذلك الغرض نبيهة، لم يقصر فيها عن الإجادة، وتولى قضاء مواضع من الأندلس، ثم استعمل في النيابة عن قاضي الحضرة العلية، وهو الآن قاض بمدينة وادي آش، وخطيب بمسجدها الأعظم، تنتابه الطلبة للأخذ عنه، والقراءة عليه.
مشيختهروى مع الجملة ممن هو في نمطه، والأخذ بالإجازة عن الشيخ الأستاذ الصالح أبي إسحق بن أبي العاصي، والخطيب أبي علي القرشي، وعن الفقيه الخطيب أبي عبد الله البياني، وعن الأستاذ شيخ الجماعة أبي عبد الله ابن الفخار، وأخذ عن والده وعمه أبي إسحق. وأجازه الشيخ القاضي الخطيب أبو البركات بن الحاج، والخطيب الصالح أبو محمد بن سلمون، والكاتب الجليل أبو بكر بن شبرين، ورييس الكتاب أبو الحسن ابن الجياب، وقاضي الجماعة أبو القاسم الشريف، والخطيب أبو عبد الله القرشي، وهو الآن بالحال المذكورة.
ابن الأحوصيوسف بن الحسن بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص القرشي الفهري يكنى أبا المجد، ويعرف بابن الأحوص.
حالهكان من أهل العلم والعدالة والنزاهة. ولي كثيراً من القواعد، فظهر من قصده الحق، وتحريه سبيل الصواب، ما يؤثر عن الجلة.
مشيختهقرأ على والده وروى عنه، واستدعي له بالإجازة من أعلام زمانه، فأجازه الراوية أبو يحيى بن الفرس، وابو عمر بن حوط الله، وأبو القاسم ابن ربيع، وأبو جعفر أحمد بن عروس العقيلي، وأبو الوليد العطار، والخطيب أبو إسحق الأوسي القرطبي، والقاضي أبو الخطاب بن خليل، وأبو جعفر الطباع وغيرهم.
قال القاضي أبو المجد شيخنا رحمه الله، أنشدني أبو علي الحسن، قال أنشدني الخطيب أبو الربيع بن سالم، قال أنشدنا أبو عمرو السفاقي، قال أنشدنا أبو نعيم الحافظ، قال أنشدنا عبد الله بن جعفر الجابري، قال أنشدنا ابن المعتز:
ألم تر أن الدهر يومٌ وليلةٌ ... يكران من سبت عليك إلى سبت
فقل لجديد العيش لابد من بلىً ... وقل لاجتماع الشمل لابد من شت
وبالسند المذكور إلى أبي الربيع بن سالم، قال أنشدنا أبو محمد عبد الحق ابن عبد الملك بن بونه، قال أنشدنا أبو بكر غالب بن عطية الحافظ لنفسه:
جفوت أناساً كنت إلف وصلهم ... وما بالجفا عند الضرورة من ناس
بلوت فلم أحمد فأصبحت يائساً ... ولا شيىء أشفى للنفوس من اليأس
فلا تعذلوني في انقباضي فإنني ... وجدت جميع الشر في خلطة الناس
وفاتهفي اليوم التاسع عشر من شهر رجب الفرد عام خمسة وسبعماية.
يوسف بن موسى
بن سليمن بن فتح بن أحمد بن أحمد الجذامي المنتشافري
من أهل رندة، يكنى أبا الحجاجحالههذا الرجل حسن اللقاء، طرفٌ في التخلق والدماثة، وحسن العشرة، أديب ذاكر للأخبار، طلعةٌ، يكتب ويشعر، سيال الطبع معينه. ولي القضاء ببلده رندة، ثم بمربلة. وورد غرناطة في جملة وفود من بلده وعلى انفراد منهم.
وجرى ذكره في التاج المحلى مما نصه: حسنة الدهر الكثير العيوب، وتوبة الزمان الجم الذنوب، ماشيت من بشرٍ يتألق، وأدب تتعطر به النسمات وتتخلق، ونفس كريمة الشمايل والضرايب، وقريحة يقذف بحرها بدور الغرايب، إلى خشية لله تحول بين القلوب وقرارها، وتثني النفوس عن اغترارها، ولسان يبوح بأشواقه، وجفن يسخو بدرر آماقه، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب، وممن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب. سبق بقطره الحلبة، وفرع من الأدب الهضبة، ورفع الراية، وبلغ في الإحسان الغاية، فطارت قصايده كل المطار، وتغنى بها راكب الفلك وحادي القطار. وتقلد خطة القضاء ببلده، وانتهت إليه رياسة الأحكام بين أهله وولده، فوضحت المذاهب بفضل مذهبه، وحسن مقصده. وله شيمةٌ في الوفا تعلم منها الآس، ومؤانسة عذبة لا تستطيعها الأكواس. وقد أثبت من كلامه ما تتحلى به ترايب المهارق، ويجعل طيبه فوق المفارق. وكنت أتشوق إلى لقايه، فلقيته بالمحلة من ظاهر جبل الفتح، لقيا لم تبل صداً، ولا شفت كمداً، وتعذر بعد ذلك لقاؤه فخاطبته بقولي:
حمدت على فرط المشقة رحلة ... أتاحت لعيني اجتلاء محياكا
وقد كنت في التذكار بالبعد قانعاً ... وبالريح إن هبت بعاطر رياكا
فجلت لي النعمى بما أنعمت به ... علي فحياها الإله وحياكا
أيها الصدر الذي بمخاطبته يبأى ويتشرف، والعلم الذي بالإضافة إليه يتعرف، والروض الذي لم يزل على البعد بأزهاره الغضة يتحف. دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن وتروى للرواة ما يصح من أنبايك ويحسن طالما مالت إليك النفوس منا وجنحت، وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلما سنحت. فالآن اتضح البيان، وصدق الأثر العيان. ولقد كنا للمقام بهذه الرحال نرتمض، ويجن الظلام فلا نغتمض، هذا يقلقله إصفار كيسه، وذا يتوجع لبعد أنيسه، وهذا تروعه الأهوال، وتضجره بتقلباتها الأحوال. فمن أنة لا تنفع، وشكوى إلى الله تعالى ترفع. فلما ورد بقدومك البشير، وأشار إلى ثنية طلوعك المشير، تشوفت النفوس الصدية إلى جلايها وصقالها، والعقول إلى حل عقالها، والألسن المعجمة إلى فصل مقالها. ثم إن الدهر راجع التفاته، واستدرك ما فاته، فلم يسمح من لقايك إلا بلمحة، ولا بعث من نسيم روضك بغير نفحة. فما زاد أن هيج الأشواق فالتهبت، وشن غاراتها على الجوانح فانتبهت، وأعل القلوب وأمرضها، ورمى ثغرة الصبر فأصاب غرضها. فإن رأيت أن تنفس عن نفسٍ شد الشوق مخنقها، وكدر مشارب أنسها وأذهب رونقها، وتتحف من من آدابك بدرر تقتنى، وروضة طيبة الجنى، فليست ببدع في شيمك، ولا شاذة في باب كرمك. ولولا شاغل لا يبرح، وعوائق أكثرها لا يشرح، لنافست هذه السحاءة في القدوم عليك، والمثول بين يديك، فتشوفي إلى اجتلاء أنوارك شديد، وتشيعي فيك على إبلاء الزمان جديد. فراجعني بقوله:
حباك فؤادي نيل بشرى وأحياكا ... وحيد بآدابٍ نفايس حياكا
بدايع أبداها بديع زمانه ... فطاب بها يا عاطر الروض رياكا
أمهديها أودعت قلبي علاقةً ... وإن لم يزل مغزىً قديماً بعلياكا
إذا ما أشار العصر نحو فرنده ... فإياك أعني بالإشارة إياكا
لا تحفني لقياك أسمى مؤملي ... وهل تحفةٌ في الدهر إلا بلقياكا
وأعقبت إتحافي فرايدك التي ... وجوب ثناها يا لساني أعياكا
خصصتني أيها الحبر المخصوص بمآثر أعيا عدها وحصرها، ومكارم طيب أرواح الأزاهر عطرها، وسارت الركبان بثنايها، وشملت الخواطر محبة علائها، بفرايدك الأنيقة، وفوايدك المزرية جمالاً على أزهار الحديقة، ومعارفك التي زكت حقاً وحقيقة. وهدت الضال عن سبيل الأدب مهيعه وطريقه، وسبق تحفتك عندي أعلى التحف ، وهو مأمول لقائك، والتمتع بالتماح سناك الباهر وسنائك، على حين امتدت لذلك اللقاء أشواقي، وعظم من فوت استنارتي بنور محياك إشفاقي، وتردد لهجي بما يبلغني من معاليك ومعانيك، وما شاده فكرك الوقاد من مبانيك، وما أهلت به بلاغتك من دارسه، وما أضفت على الزمان من رايق ملابسه، وما جمعت من أشتاتهه، وأحيت من أمواته، وأيقظت من سناته، وما جاد به الزمان من حسناته. فلترداد هذه المحاسن من أنيابك، وتصرف الألسنة بثنايك، علقت النفس من هواها بأشد علاقة، وجنحت إلى لقايك جنوح والهة مشتاقة، والحوادث الجارية تصرفها، والعوايق الحادثة كلما عطفت بأملها إليه، لا تتحفها به ولا تعطفها، إلى أن ساعد الوقت، واسعد البخت، بلقياكم هذه السفرة الجهادية، وجاد إسعاف الإسعاد من أمنيتي بأسنى هدية، فلقيتكم لقيا خجل، ولمحت أنواركم لمحةً على وجل، ومهجتي ، في محاسنكم الرائقة، ومعاليكم الفائقة، على ما يعلمه ربنا عز وجل. وتذكرت عند لقايكم المأمول، إنشاء قائل يقول:
كانت محادثة الركبان تخبر عن ... محمد بن خطيب بأطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني ... بأحسن مما قد رأى بصري
قسماً لعمري أقوله وأعتقده، وأعتده، وأعتمده، فلقد بهرت منك المحاسن، وفقت من يحاسن، وقصر عن شأوك كل بليغ لسن، وسبقت فطنتك النارية النورية بلاغة كل فطن، وشهد لك الزمن أنك وحيده، ورئيس عصبته الأدبية وفريده. فبورك لك فيما أنلت من الفضايل، وأوتيت من آيات المعارف التي بها نور الغزالة هايل، ولا زلت مرقى في مراتب المعالي، موقى صروف الأيام والليالي.
ومن شعره يمدح الجهة النبوية، مصدراً بالنسيب لبسط الخواطر النفسانية:
لما تناهى الصب في تشويقه ... درر الدموع اعتاضها بعقيقه
متلهفٌ وفؤاده متلهب ... كيف البقاء مع احتدام حريقه
متموج بحر الدموع بنجده ... أنى خلاص يرتجى لغريقه
متجرع صاب النوى من هاجرٍ ... ما إن يحن للاعجات مشوقه
يسبي الخواطر حسنه ببديعه ... يصبي النفوس جماله بأنيقه
قيد النواظر إذ يلوح لرامقٍ ... لا تنشى الأحداق عن تحديقه
للبدر لمحته كبشر ضيائه ... للمسك نفحته كنشر فتيقه
سكرت خواطر لامحيه كأنهم ... شربوا من الصبا كأس رحيقه
عطشوا لثغر لا سبيل لريقه ... إلا كلمحهم للمع بريقه
ما ضر مولىً عاشقوه عبيده ... لو رق إشفاقاً لحال رقيقه
عنهه اصطباري ما أنا بمطيعه ... مثل السلو ولا أنا بمطيقه
سجع الحمام يشوق ترجيع الهوى ... فأثار شجو مشوقه بمشوقه
وبكت هديلاً راعها تفريقه ... ويحق أن يبكي أخو تفريقه
وبكاء أمثالي حقٌّ لأنني ... لم أقض للمولى أكيد حقوقه
وغفلت في زمن الشباب المنقضي ... أقبح بنسخ بروره بعقوقه
وبدا المشيب وفيه زجر ذوي النهى ... لو كنت مزدجراً لشيم بروقه
حسبي ندامة آسف مما جنى ... يصل النشيج لوزره بشهيقه
ويرم ما خرم الهوى زمن الصبا ... ويروم من مولاه رتق فتوقه
ويردد الشكوى لديه تذللاً ... عل الرضا يحبيه درك لحوقه
فيصح من سكر التصابي صحوه ... نسخاً لحكم صبوحه بغبوقه
لو كنت يممت التقى وصحبته ... وسلكت إيثاراً سواء طريقه
لأفدت منه فوائداً وفرائداً ... عرضت تسام لرإبح في سوقه
لله أرباب القلوب فإنهم ... من حزب من نال الرضا وفريقه
قاموا وقد نام الأنام فنورهم ... هتك الدجا بضيائه وشروقه
وتأنسوا بحبيبهم فلهم به ... بشرٌ لصدق الفضل في تحقيقه
قصرت عنهم عندما سبقوا المدى ... ولسابق فضل على مسبوقه
لولا رجاء تلمحي من نورهم ... يحيى الفؤاد بسيره وطروقه
وتأرجٌ يستاف من أرواحهم ... سبب انتعاش الروح طيب خلوقه
لفتنت من جراء جرائري التي ... من خوفها قلبي حليف خفوقه
ومعي رجاء توسل أعددته ... ذخراً لصدمات الزمان وضيقه
حبي ومدحي أحمد الهادي الذي ... فوز الأنام يصح في تصديقه
أسمى الورى في منصب وبمنسب ... من هاشم زاكي النجار عريقه
الحق أظهره عقيب خفائه ... والدين نظمه لدى تفريقه
ونفى هداه ضلالةً من جائرٍ ... مستوثق بنعوته ولعوقه
سبحان مرسله إلينا رحمة ... يهدى ويهدي الفضل من توفيقه
والمعجزات بدت بصدق رسوله ... وحقيقه بالمأثرات خليقه
كالظبي في تكليمه والجذع في ... تحنينه والبدر في تشقيقه
والنار إذ خمدت بنور ولاده ... وأجاج ماءٍ قد حلا من ريقه
والزاد قل فزاد من بركاته ... فكفى الجيوش بتمره وسويقه
ونبوع ماء الكف من آياته ... وسلام أحجار غدت بطريقه
والنخل لما أن دعاه مشى له ... ذا سرعة بعروقه وعذوقه
والأرض عاينها وقد زويت له ... فقريب ما فيها رأى كسحيقه
وكذا ذراع الشاة قد نطقت له ... نطق اللسان فصيحه وذليقه
ورمى عداه بكف حصباء فانثنت ... هرباً كمذعور الجنان فروقه
وعليه آيات الكتاب تنزلت ... تتلى بعلو جلاله وبسوقه
فأذيق من كأس المحبة صرفها ... سبحان ساقيه بها ومذيقه
حاز السناء وناله بعروجه ... جاز السماء طباقها بخروقه
ولكم له من آية من ربه ... ورعاية وعناية بحقوقه
يا خيرة الأرسال عند إلهه ... يا محرز العليا على مخلوقه
علقت آمالي بجاهك عدة ... والقصد ليس يخيب في تعليقه
ووثقت من حبل اعتمادي عمدة ... لتمسكي بقويه ووثيقه
ولئن غدوت أخيذ ذنبي إنني ... أرجو بقصدك أن أرى كطليقه
وكساد سوقي مذ لجأت إلى بابكم ... يقضي حصول نفوذه ونفوقه
ويحن قلبي وهو في تغريبه ... لمزاره لرياك في تشريقه
وتزيد لوعته متى حث السرى ... حاد حداً بجماله وبنوقه
وأرى قشيب العمر أمسى بالياً ... ومرور دهري جد في تمزيقه
وأخاف أن أقضي ولم أقض المنى ... بنفوذ سهم منيتي ومروقه
فمتى أحط على اللوى رحلي وقد ... بلغت ركابي للحمي وعقيقه
وأمرغ الخدين في تربٍ غدا ... كالمسك في أرج شذا منشوقه
وأعيد إنشادي وإنشائي الثنا ... ببديع نظم قريحتي ورقيقه
حتى أميل العاشقيين تطرباً ... كالغصن مر صباً على ممشوقه
وتحية التسليم أبلغ شافعي ... وثنا المديح حديثه وعتيقه
ولذي الفخار وذي العلى ووزيره ... صديقه وأخي الهدى فاروقه
مني السلام عليهم كالزهر في ... تأليفها والزهر في تأليفه
قال، وكتب بذلك إلي في جملة من شعره:
هواكم بقلبي لأحكامه نسخ ... ومن أجله جفني بمدمعه يسخ
ومن نشأتي ما إن صحت منه نشوتي ... سواءٌ به عصر المشيب أو الشرخ
عليه حياتي مذ تمادت وميتتي ... وبعثي إذا بالصور يتفق النفخ
ولي خلدٌ أضحى قنيص غرامه ... ولا شركٌ يدني إليه ولا فخ
قتلت سلوى حين أحييت لوعتي ... وما اجتيح بالإقرار في حالتي لطخ
وناصح كتمي إذ زكت ببيناته ... يجول عليه من دموع الأسى نضخ
وأرجو بتحقيق هواكم بأن أفي ... فعهدٌ ولا نقصٌ وعقدٌ ولا فسخ
وما الحب إلا ما استقل ثبوته ... لمبناه رصٌّ في الجوانح أو رسخ
إذا مسلكٌ لم يستقم بطريقه ... سلكت اعتدالاً مثل ما يسلك الرخ
بدا لضميري من سناكم تلمح ... فبخ لعقل لم يطر عندها بخ
على عود ذاك اللمح مازلت نادباً ... كما تندب الورق فارقها الفرخ
يدي بأياديكم وقلبي شاغل ... فمن فكرتي نسجٌ ومن أنملي نسخ
ومن شعره أيضاً قوله في غرض يظهر منه:
إليك تحن النجب والنجباء ... فهم وهي في أشواقهم شركاء
تخب بركاب تحب وصولها ... لأرض بها بادٍ سنى وسناء
فأنفاسها ما أن تنى صعداؤها ... وأنفاسهم من فوقها سعداء
هموا عالجوا إذ عجل السير داءهم ... وأشباه مثلي مدنفون بطاء
فعدت ودوني للحبيب ترحلوا ... وما قاعد والراحلون سواء
له وعليه حب قلبي وأدمعي ... وقد صح لي حبٌّ وسح بكاء
بطيبة هل أرضى وتبدو سماؤها ... وإن تك أرضاً فالحبيب سماء
شذا نفحها واللمح منها كأنه ... ذكاء عبير والضياء ذكاء
فيا حادياً غنى وللركب حادياً ... غناني بعد البعد عنك عناء
بسلع فسل عما أقاسي من الهوى ... وسل بقباءٍ إذ يلوح قباء
وفي عالج مني بقلبي لاعج ... فهل لي علاج عنده وشفاء
وفي الرقمتين أرقم الشوق لاذع ... ودرياقه أن لو يباح لقاء
أماكن تمكين وأرضٌ بها الرضى ... وأرجاء فيها للمشوق رجاء
ومن المقطوعات قوله:
أدب الفتى في أن يرى متيقظاً ... لأوامرٍ من ربه ونواه
فإذا تمسك بالهوى يهوى به ... والحبل منه لمن تيقن واه
ومن ذلك:
يا من بدنياه ظل في لججج ... حقق بأن النجاة في الشاط
تطمع في إرثك الفلاح وقد ... أضعت ما قبله من أشراط
كن حذراً في الذي طمعت به ... من حجب نقص وحجب إسقاط
وقال:
ترى شعروا أني غبطت نسيمةً ... ذكت بتلاقي الروض غب الغمايم
كما قابلت زهر الرياض وقبلت ... ثغور أقاحيه بلا لوم لايم
وقال:
ورد المشيب مبيضاً بوروده ... ما كان من شعر الشبيبة حالكا
يا ليته لو كان بيض بالتقى ... ما سورته مآثم من حالكا
إن المشيب غدا رداءً للردى ... فإذا علاك أجد في ترحالكا
وأنشدني صاحبنا القاضي أبو الحسن، قال، مما أنشدني الشيخ أبو الحجاج لنفسه:
لوعة الحب في فؤادي تعاصت ... أن تداوى ولو أتى ألف راق
كيف يبرأ من علة وعليها ... زائد علة النوى والفراق
فانسكاب الدموع جارٍ فجارٍ ... والتهاب الضلوع راقٍ فراق
نبذة من أخبارهنقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن، قال حاكياً عنه، ومن غريب ما حدثني به، قال كنت جالساً بين أيدي الخطيب أبي القاسم التاكروني صبيحة يوم بمسجد مالقة الأعظم، فقال لنا في أثناء حديثه، رأيت البارحة في عالم النوم، كأن أبا عبد الله الجلياني يأتيني ببيتي شعر في يده وهما:
كل علم يكون للمرء شغلاً ... بسوى الحق قادحٌ في رشاده
فإذا كان لله فيه حظٌّ ... فهو مما يعده لمعاده
قال، فلم ينفصل المجلس، حتى دخل علينا الفقيه الأديب أبو عبد الله الجلياني والبيتان عنده، فعرضهما على الشيخ، وأخبره أنه صنعهما البارحة، فقال له كل من في المجلس، أخبرنا بهذا الشيخ قبل مجيئك، فكان هذا من العجائب ، وقد وقعت الإشارة لذلك في اسم الشيخ.
مشيختهمنقول من خطه في ثبتٍ أجاز فيه أولادي، أسعدهم الله، بعد خطابة بليغة. قال فمن شيوخي الذين رويت عنهم. واسترفدت البركة منهم، الشيخ الخطيب الصالح المتفنن، أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي، والشيخ الإمام أبو جعفر بن الزبير، والشيخ الوزير المشاور أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع، والقاضي العدل أبو عبد الله محمد ابن علي بن محمد بن برطال، والشيخ الخطيب الصالح أبو عبد الله الطنجالي. والراوية المسن أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن الرندي الطنجي، والمدرس الصالح أبو الحسن علي بن أحمد الإشبيلي بن شالة، والخطيبان الأستاذان الحاجان أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري، وأبو عثمن سعيد ابن إبراهيم بن عيسى الحميري، والشيخ الصالح أبو الحسين عبد الله بن محمد بن محمد بن يوسف بن منظور، والخطيب الصالح العلامة المصنف أبو جعفر بن الزيات، والفقيه القاضي أبو جعفر ابن عبد الوهاب، والشيخ الراوية المحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن الكماد، والخطيب أبو العباس أحمد بن محمد اللورقي، والعدل أبو الحسن علي بن محمد الايي، ابن مستقور، والخطيب الصالح أبو العباس أحمد بن محمد بن خميس الجزيري، والقاضي العدل الحاج أبو محمد عبد الله بن أبي أحمد بن زيد الغرناطي، والشيخ الراوية الحاج الرحال الصوفي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الفارسي العجمي الأقشري، والقاضي الحسيب أبو عبد الله محمد بن عياض بن محمد ابن عياض، والقاضي أبو عبد الله بن عبد المهيمن الحضرمي، والأستاذ أبو إسحق الغافقي، والإمام أبو القاسمي بن الشاط، والخطيب القاضي أبو عبد الله القرطبي، والراوية أبو القاسم البلفيقي، والمحدث أبو القاسم التجيبي، والخطيب أبو عبد الله الغماري، والإمام الكبير ناصر الدين المشدالي، والفقيه الصوفي أبو عبد الله محمد بن محمد الباهلي عرف بالمسفر من أهل بجاية، وقاضي القضاة بتونس أبو إسحق بن عبد الرفيع، والعلامة أبو عبد الله بن راشد، والخطيب أبو عبد الله بن عزمون، والعلامة الخطيب أبو محمد عبد الواحد بن منظور بن محمد بن المنير الجذامي. قال، وكلهم أجازني عامة ما يرويه، وكان ممن لقيته، وقرأت عليه، إلا المدرس أبا الحسن بن شالة، فوقع لي شك في إجازته.
تواليفهقال، ومما يسر الله تعالى فيه من التأليف، كتاب ملاذ المستعيذ، وعياذ المستعين، في بعض خصائص سيد المرسلين، في الأحاديث الأربعين المروية على آياتٍ من الذكر الحكيم والنور المبين. وكتاب تخصيص القرب وتحصيل الأرب، وقبول الرأي الرشيد، في تخميس الوتريات النبويات لابن رشيد. وانتشاق النسمات النجدية، واتساق النزعات الجدية. وغرر الأماني المسفرات في نظم المكفرات. والنفحات الرندية واللمحات الزندية، وهو مجموع شعري. وحقائق بركات المنام، في مرأى المصطفى خير الأنام. والاستشفاء بالعدة، والاستشعاع بالعمدة، في تخميس القصيدة النبوية المسماة بالبردة. وتوجع الراثي في تنوع المراثي. واعتلاق المسايل بأفضل الوسايل. ولمح البهيج، ونفح الأريج، في ترجيز ما لولي الله أبي مدين شعيب بن الحسين الأنصاري رضي الله عنه، من عبارات حكمة وإشارات صوفية. وتجريد رؤوس مسائل البيان والتحصيل، لتيسير البلوغ لمطالعتها والتوصيل. وفهرسة روايتي. ورجز في ذكر مشيخة شيخنا الراوية أبي عمر الطنجي، رحمه الله وإسناده. قال، ومما كنت شرعت فيه ولم يتفق تمامه، كتاب سميته عواطف الأعتاب، في لطايف أسباب المتاب. ومما بيدي الآن جمعه وهو إن شاء الله على التمام، أربعون حديثاً متصلة الإسناد، أول حديث منها في الخوف، في مزج الخوف والرجاء. والله يصفح عنا، ويغفر زلاتنا، وأن لا يجعل ما نتولاه من ذلك حجة علينا، وأن نكون ممن منح مقولاً، ومنع معقولاً، ويختم لنا بخواتم السعداء من عباده، وممن وفق وهدى إلى سبيل رشاده.
وفاتهكان حياً عام أحد وستين وسبعماية.
من المقربين
يحيى بن أحمد بن هذيل
التجيبي
يكنى أبا زكريا، شيخنا أبو زكريا بن هذيل رحمه الله أرجدوني الأصل، ينسب إلى سلفه أملاك ومعاهد كولابج هذيل، مما يدل على أصالة.
حالهكان آخر حملة الفنون العقلية بالأندلس، وخاتمة العلماء بها، من طب وهندسة وهيئة وحساب وأصول وأدب، إلى إمتاع المحاضرة، وحسن المجالسة، وعموم الفائدة، وحسن العهد، وسلامة الصدر، وحفظ الغيب، والبراءة من التصنع والسمت، مؤثراً للخمول، غير مبال بالناس، مشغولاً بخاصة نفسه. خدم أخيراً باب السلطان بصناعة الطب، وقعد بالمدرسة بغرناطة، يقرىء الأصول والفرايض والطب.
عمن أخذ: قرأ على جملة من شيوخ وقته، كالأستاذ أبي عبد الله الأركشي، وأبي زكريا القصري، وجملة من الإسلاميين بالعدوة. وقرأ كراسة الإمام فخر الدين الرازي المسراة بالآيات البينات، على الأستاذ أبي القاسم بن جابر. ونظر الأصول على الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط، وأخذ الحساب عن أبي الحسن بن راشد. والحساب والهندسة والأصول وكثيراً من عمليات الحساب وجبره ومقابلته والنجوم، على الأستاذ أبي عبد الله بن الرقام، ولازمه كثيراً.
تواليفهوله تصانيف وأوضاع منها، ديوان شعره المسمى بالسليمانيات والعربيات وتنشيط الكسل. ومنها شرحه لكراسة الفخر، وهو غريب المأخذ، جمع فيه بين طريقتي القدماء والمتأخرين من المنطقيين. وكتابه المسمى بالاختيار والاعتبار في الطب. وكتابه المسمى بالتذكرة في الطب.
شعرهوجرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: درة بين الناس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة. أبدع من رتب التعاليم وعلمها، وركض في الألواح قلمها، وأتقن من صور الهيئة ومثلها، وأسس قواعد البراهين وأثلها، وأعرف من زاول شكاية، ودفع عن جسم نكاية، إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم، والوصول من المجهول إلى المعلوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة التي ما خلع العذار فيها بالملوم، فماشيت من نفسٍ عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ومد كره يروق النواظر زهرها الناضر. وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب، وارتدى من البلاغة بكل رداءٍ مذهب، والأدب نقطة من حوضه، وزهرة من زهرات روضه، وسيمر له في هذا الديوان، ما يبهر العقول، ويحاسن بروائه ورائق بهائه، الفرند المصقول.
فمن ذلك ما خرجته من ديوان شعره المسمى بالسليمانيات والعربيات من النسيب:
ألا أستودع الرحمن بدراً مكملاً ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه
وفي فلك الأزرار يطلع سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه
يصير مرآه منجم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه
تجسم من نور الملاحة خده ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه
تلون كالحرباء في خجلاته ... فيحمر قانيه ويبيض ناصعه
إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ... كغصن النقا غنت عليه سواجعه
يذكر حتف الصب عامل قدره ... وتقطف من واو العذار توابعه
أعد للورى سيفاً كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك يضارعه
ومن أخرى في النسيب، وتضمنت التورية الحسنة:
وصالك هذا أم تحية بارق ... وهجرك أم ليل السلم لتائق
أناديك والأشواق تركض حجرها ... بصفحة خدي من دموع سوابق
ابارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق
ومنها:
فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ... ولا تخجل الطيف الذي هو طارق
متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق
قوله أبارق ثغر من عذيب رضابه ينظر إلى قول ابن النبيه في ذلك:
يلوي على زرد العذار دلاله ... كم فتنة بين اللوى وزرود
ومن قصيدة ثبتت في السليمانيات:
بدا بدر تم فوقه الليل عسعسا ... وجنة أنس في صباحٍ تنفسا
حوى النجم قرطاً والدراري مقلداً ... وأسبل من مسك الذوايب حندسا
كأن سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلسا
أتى يحمل التوراة ظبياً مزنراً ... لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا
وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك ربي عليه وقدسا
ومنها وتماجن ما شاء غفر الله له:
رويت ولوعي من ضلوعي مسلسلاً ... فأصبحت في علم الغرام مدرسا
نفى النوم عني كي أكون مسهداً ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا
غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ... ويأوي إلى قلبي مثيلاً ومكنساً
طغى ورد خديه بجنات صدغه ... فأضعفه بالآس نبتاً وما أسا
قوله طغى ورد خديه، البيت محال على معنى فلاحي، إذ من أقوالهم أن الآس، إذا اغترس بين شجر الورد، أضعفته بالخاصية.
وقال أيضاً من قصيدة مهيارية:
نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما
تحسب البدر محياً ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما
حوله الزهر كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهن ختاما
يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما
وأبلغن شوقي عريباً باللوى ... همت في أرض بها حلواً غراما
فرشوا فيها من الدر حصىً ... ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تناما
واستفدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما
نشأت للصب منها زفرة ... تسكب الدمع على الربع سجاما
طرب البرق مع القلب بها ... وبها الأنات طارحن الحماما
طللٌ لا تستشفي الأذن به ... وهو للعينين قد ألقى كلاما
ترك الساكن لي من وصله ... ضمة الجدران لثماً والتزاما
نزعات من سليمان بها ... فهم القلب معانيها فهاما
شادنٌ يرعى حشاشات الحشى ... حسب حظي منه أن أرعى الذماما
وقال من قصيدة أولها في غرض النسيب:
أأرجو أماناً واللحظ غادر ... ويثبت عقلي فيك والطرف ساحر
أعد سليمان أليم عذابه ... لهدهد قلبي فهو للعين صائر
أشاهد منه الحسن في كل نظرة ... وناظر أفكاري بمغناه ناظر
دعت للهوى أنصار سحر جفونه ... فقلبي له عن طيب نفس مهاجر
إذا شق عن بدر الدجى أفق ذره ... فإني بتمويه العواذل كافر
وفي حرم السلوان طافت خواطري ... وقلبي لما في وجنتيه مجاور
وقد ينزع القلب المبلى لسلوة ... كما اهتز من قطر الغمامة طاير
يقابل أغراضي بضد مرادها ... ولم يدر أن الضد للضد قاهر
ونار اشتياقي صعدت مزن أدمعي ... فمضمر سري فوق خدي ظاهر
وقد كنت باكي العين والبين غايب ... فقل لي كيف حال الدمع والبين حاضر
وليس النوى بالطبع مراً وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر
ومنها في وصف ليلة:
وزنجية فات الكؤوس بنحرها ... قلايد ياقوت عليها الجواهر
ولا عيب فيها غير أن ذبالها ... يقطب فتبدو الكؤوس سراير
تجنبت فيها نيل كل صغيرة ... وقد غفرت فيها لدي الكبائر
ومن السليمانيات من قصيدة:
يا بارقاً قاد الخيال فأومضا ... أقصد بطيفك مدنفاً قد غمضا
ذاك الذي قد كنت تعهد نايماً ... بالسهد من بعد الأحبة عوضا
لا تحسبني معرضاً عن طيفه ... لكن منامي عن جفوني أعرضا
عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ... يوم النوى وتشككت فيما مضى
ومنها:
خفيت لهم من سر صبري آية ... ما فهمت إلا سليمان الرضا
لله درك ناهجاً سبل الهوى ... فلمثله أمر الهوى قد فوضا
أمنت نملاً فوق خدك سارحاً ... وسللت سيفاً من جفونك منتضى
ومن الأمداح قوله من قصيدة:
حريص على جر الذوايب والقنا ... إذا كعت الأبطال والجو عابس
وتعتنق الأبطال لولا سقوطها ... لقلت لتوديعٍ أتته الفوارس
إذا اختطفتهم كفه فسروجهم ... مجالٌ وهم في راحتيه فرائس
وقال يمدح السلطان أمير المسلمين أبا الوليد نصر عند قدومه من فتح أشكر من قصيدة أولها:
بحيث البنود الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند
وتحت لواء النصر ملك هو الورى ... تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو
تأمنت الأرواح في ظل بنده ... كأن جناح الروح من فوقه بند
فلو رام إدراك النجوم لنالها ... ولو هم لانقادت إليه السند والهند
بعيني بحر النقع تحت أسنة ... تنمنمه وهناً كما نمنم البرد
سماء عجاج والأسنة شهبها ... ووقع القنا رعدٌ إذا برق الهند
وفي وصف آلة النفط:
وظنوا بأن الرعد والصعق في السما ... فحاق بهم من دونها الصعق والرعد
عجائب أشكال سما هرمس بها ... مهندمة تأتي الجبال فتنهد
إلا إنها الدنيا تريك عجايباً ... وما في القوي منها فلا بد أن يبدو
وكتب وهو معتقل بسبب عمل تولاه جحدرية أولها:
تباعد عني منزلٌ وحبيب ... وهاج اشتياقي والمزار قريب
وإني على قرب الحبيب مع النوى ... يكاد إذا اشتد الأنين يجيب
لقد بعدت عني ديارٌ قريبة ... عجبت لجار الجنب وهو غريب
ومنها:
أعاشر قوماً ما تقر نفوسهم ... فللهم فيها عند ذاك ضروب
إذا شعروا من جارهم بتأوه ... أجابته منهم زفرةٌ ونحيب
فلا ذاك يشكوهم هذا تأسفاً ... لكل امرىءٍ مما دهاه نصيب
كأني في غاب الليوث مسلماً ... يروعني منها الغداة وثوب
تحكم فينا الدهر والعقل حاضر ... بكل قياس والأديب أريب
ولو مال بالجهال ميلته بنا ... لجاء بعذرٍ إن ذا لعجيب
رفيقٌ بمن لا ينثني عن جريمة ... بطوش بمن ما أوبقته ذنوب
وتطمعنا منه بوارق خلب ... نقول عساه يرعوي ويتوب
إذا ما تشبثنا بأذيال برده ... دهتنا إذا جر الذيول خطوب
أدار علينا صولجاناً ولم يكن ... سوى أنه بالحادثات لعوب
ومنها:
أيا دهر إني قد سئمت تهدفي ... أجرني فإن السهم منك مصيب
إذا خفق البرق الطروق أجابه ... فؤادي ودمع المقلتين سكوب
وإن طلع الكف الخضيب بسحره ... فدمعي بحناء الدماء خضيب
تذكرني الأسحار داراً ألفتها ... فيشتد حزني والحمام طروب
إذا علقت نفسي بليت وربما ... تكاد تفيض أو تكاد تذوب
دعوتك ربي والدعاء ضراعة ... وأنت تناجى بالدعا فتجيب
لئن كان عقبى الصبر فوزاً وغبطة ... فإني على الصبر الجميل دروب
وبعثت إليه هدية من البادية، فقال يصف منها ديكاً، وكتب بذلك رحمة الله عليه:
أيا صديقاً جعلته سندا ... فراح فيما أحبه وغدا
طلبت منكم صريدكا خنثا ... وجهتموني مكانه لبدا
صير مني مؤرخاً ولكم ... ظللت في علمه من البلدا
قلت له آدم أتعرفه ... قال حفيدي بعصرنا ولدا
نوحٌ وطوفانه رأيتهما ... قال علونا لفيضه أحدا
فقلت هل لي بجرهم خبر ... فقال قومي وجيرتي السعدا
فقلت قحطان هل مررت به ... قال نفثنا ببرده العقدا
فقلت صف لي سبا وساكنها ... فعند هذا تنفس الصعدا
وقال كم لي بدجنهم سحرا ... من صرخةٍ لي وللنوم هدا
فقلت هاروت هل سمعت به ... فقال ريشي لسحره نفدا
فقلت كسرى وآل شرعته ... فقال كنا بجيشه وفدا
ولوا وصاروا وها أنا لبد ... فهل رأيتم من فوقهم أحدا
ديكٌ إذا ما انثنى لفكرته ... رأى الوجود طرايقاً قددا
يرفل في طيلسانه ولهاً ... قد صير الدهر لونه كمدا
إذا دجا الليل غاب هيكله ... كأن حبراً عليه قد جمدا
كأنما جلنار لحيته ... برجان حازا لعن الهواء مدا
كأن حصناً علا بهامته ... أعده للقتال فيه عدا
يرنو بياقوتتي لواحظه ... كأنما اللحظ منه قد رمدا
كأن منجالتي ذؤابته ... قوسٌ سما من أجله بعدا
وعوسج مد من مخالبه ... طغى بها في نقاره وعدا
فذاك ديكٌ حلت محاسنه ... له صراخ بين الديوك غدا
يطلبني بالذي فعلت به ... فكم فللنا بلبتيه مدا
وجهته محنةٌ لآكله ... والله ما كان ذاك مني سدى
ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره، بقتله، ونطلبه بالقود عند تصرفه في العمل، فيوجه الدية، لنا في ذلك رسائل.
ومن شعره في غرض الحسن بن هانىء:
طرقنا ديور القوم وهناً وتغليساً ... وقد شرفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى
وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ... وقد قدسوا الروح المقدس تقديسا
فما استيقظوا إلا لصكة بابهم ... فأدهش رهباناً وروع قسيسا
وقام بها البطريق يسعى ملبياً ... وقد لين الناقوس رفقاً وتأنيسا
فقلنا له آمنا فإنا عصابة ... أتينا لتثليث وإن شيت تسديسا
وما قصدنا إلا الكؤوس وإنما ... لحناً له في القول خبثاً وتدليسا
ففتحت الأبواب بالرحب منهم ... وعرس طلاب المدامة تعريسا
فلما رأى زقي أمامي ومزهري ... دعاني أتأنيساً لحنت وتلبيسا
وقام إلى دن يفض ختامه ... فكبس أجرام الغياهب تكبيسا
وطاف بها رطب البنان مزنر ... فأبصرت عبداً صير الحر مرؤوسا
سلافاً جواها القار لبساً فخلتها ... مثالاً من الياقوت في الحبر مغموسا
إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ... ورأس قبيل الشمع نكس تنكيسا
وثبت إليه بالعناق فقال لي ... بحق الهوى هب لي من الضم تنفيسا
كتبت بدمع العين صفحة خده ... فطلس حبر الشعر كتبي تطليسا
فبيس الذي احتلنا وكدنا عليهم ... وبيس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا
فبتنا يرانا الله شر عصابة ... نطيع بعصيان الشريعة إبليسا
وقال بديهة في غزالة من النحاس على بركة في محل طلب منه ذلك فيه:
عنت لنا من وحش وجرة ظبية ... جاءت لورد الماء مليء عنانها
وأظنها إذا حددت آذانها ... ريعت بنا فتوقفت بمكانها
حيت بقرني رأسها إذ لم نجد ... يوم اللقاء تحية ببنانها
حنت على الندمان من إفلاسهم ... فرمت قضيب لجينها لحنانها
لله در غزالة أبدت لنا ... در الحباب تصوغه بلسانها
وفاتهفلج فالتزم المنزل عندي لمكان فضله، ووجوب حقه، وقد كانت زوجه توفيت، وصحبه عليها وجدٌ شديد، وحزنٌ ملازم، فلما ثقل، وقربت وفاته، استدعاني، وقد كان لسانه لا يبين القول، وأملى علي فيما وصاني به من مهم أمره:
إذا مت فادفني حذاء حليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها
ولا تدفني في البقيع فإنني ... أريد إلى يوم الحساب التزامها
ورتب ضريحي كيفما شاء الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها
لعل إله العرش يجبر صدعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها
وما في ليلة الخامس والعشرين من عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، ودفنته عصره بباب إلبيرة حذاء حليلته كما عهد، رحمة الله عليه.
يحيى بن عبد الكريم
الشنتوفي
من أهل الجزيرة الخضراء.حالهكان كاتباً ثرثاراً، أديباً لوذعياً، كثير النظم والنثر. كتب عن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب، وابنه أبي يعقوب، واحتل معهم بظاهر غرناطة.
كتابتهكتب عن المذكور عند نزوله غازياً ومجاهداً بظاهر شريش ما نصه: أخونا الذي يسير بما يخلده بطون أوراق الدفاتر، من مأثور حميد المآثر، ويتلقى ما يرد عليه من قبلنا من منشور حزب البشاير، بمعاشر القبايل والعشاير، ويفوق ما قبسته المنن لأقلام وأفواه المحابر، في مراقب مراقي المابر، ويجمع لما وشته سحايب الخواطر، من روضات السجلات في النوادي والمحاضر، الأمير الكذا، أدام الله اهتزازه للأنباء السارة وارتياحه، ونعم بها أرواحه، ووصل بكل أرجٍ من نسيم الجذل، ومبهج من وسيم الأمل، غدوه ورواحه، وأحب به أرواحه. سلام كريم عليكم، ورحمة الله وبركاته. من أخيكم، الذي لا يتم بشره إلا بأخذكم منه بأوفى حظ، وأوفر نصيب، ومصافيكم الذي لا يكمل سروره، وبجمل حبوره، حتى يكون لكم فيه سهم مصيب، ومرعى خصيب، الأمير يوسف ابن أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن عبد الحق.
أما بعد حمد الله محق الحق بتصعيده فوق النجوم ومعليه، ومبطل الباطل بتصريبه تحت النجوم ومدليه، ومطهر الأرض من نجس دنس الكفر وأوليه، ضرباً بالمرهفات صبراً وطعناً بالمشفعات دراكاً، وجاعل بلاد الشرك الأسار عباد الإفك، بما نظمهم من سلك الملك، وبددهم من هتك الستر، بالفتك والسفك، حبائل لا يخرجون منها وأشراكاً، وخاذل من زلت عن السور قدمه، وخرجت من الدور ذممه، بأن يراق دمه، ويعدم وجوده وقدمه، بلوغاً لأمان أماني الإيمان وإدراكاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، ناظم فرايد الفرايد، ومنضد عوايد المواعد، بالظفر المنتظر بكل جاحد معاند، قلايد لا تنتشر وأسلاكاً - وسالك مسالك الغزوات، وناسك مناسك الخلوات، ومدرك مدارك قبول الدعوات، إفناءً لأعداء الله وإهلاكاً، والرضا عن آله وصحبه، المرتدين بمننه، المهتدين بسننه، في إباحة حرم الحرم، وإزاحة ظلم الظلم، حنادس وأحلاكاً، القارعين بأسيافهم أصلاب كلاب الصلبان تباكا، والقارعين أبواب ثواب الرحمن نساكاً، وموالاة الدعاء لسيدنا ومولانا الوالد، بتخليد السعد المساعد، وإدراة الإرادة بعضد من النصر وساعد، مقادير كما يشاء وأفلاكاً، وممالآت آياته آيات، هذه الرايات، بإدراك نهايات الغايات، في اشتباه أشياء ذوي الشايات، فلا تذر في الأرض كفراً، ولا تدع فيها إشراكاً. فكتبناه، كتب الله لإخايكم الكريم أرفع الدرجات علاً، وأتمها تعظيماً، وفضلكم مع القعود عن الشهود بالنية التي لها أكرم ورود، وأصدق وفود، أجراً عظيماً. من منزلنا بمخنق شريش، حيث الكتايب الهايلة هالة بدرها البادية الخسوف، والحماة الكماة، أكمام زهرها الداني القطوف، وسوار معصمها النائي عن العصمة مجردات صفوف صنوف السيوف. فالشفار بالأحداق، كالأشفار بالأحداق إدارتها، الطاقة بحيزومها نطاقا، والفتح قد لاحت مخايله، وباحت مقاوله، والكفر فلت مناصله وعرفت مقاتله، والمترف يتمنى أن يلقاه قاتله، فلا يقاتله فرقاً، لا يجدون له فراقاً فواقاً، فحماتها العتاة لا يرون إلا سماء نقع الكفاح، لمعاً متلاقياً وائتلافاً، وكماتها لا يشربون إلا من تحت دمهم المطهر بنجسه وجه الأرض، المعدى به هريقه من فيح حثهم يوم العرض، المودي بإراقته واجب الفرض، إعداداً لامتثال الأمر الإلهي واعتناقاً.
ومن هذا الكتاب وهو طويل: ووصلنا والخيل تمرح في أعنتها تصلفاً، وتختال في مشيها تغطرفاً، وتعض على لجمها تحدقاً وتحرفاً، كأنها لم ترم قصارى قصور النصارى، دون تصور عنها، أغراضاً وأهدافاً، ودون معاهدة العيون وصف الواصف، ولأقل مما احتوى عليه هذا الفتح، تهتز المعاطف، إذ الإيمان اهتز إعطافاً، وتوشح به عطافاً. وهل الكتب وإن طال، نبذة من نبذ الفتوح، وفلذة من كبد النصر الممنوح، وزهرةٌ من غصن الندا المروح، أدنينا لإخايكم الكريم منه اقتطافاً، والسلام.
شعره
مالي وللصبر عني دونكم حجبا ... وطالما هزني أنسي لكم طربا
فحين شب النوى في أضلعي لهبا ... هززت سيف اصطباري بعدكم فنبا
وقلت للقلب يسلو بعدكم فأبا
غبتم فغاب لذيذ الأنس والوسن ... وخانني جلدي فيكم فأرقني
ذكرى ليالينا في غفلة الزمن ... فارقتموني وطيب العيش فارقني
وصرت من بعدكم حيران مكتئبا
من لي بقربكم في حفظ عهدكم ... فكم ظفرت به أيام ودكم
وكم جرى دمع أجفاني لفقدكم ... فلو بكيت دماً من بعدكم
لم أقض من حق ذاك القرب ما وجبا
لله أيامنا ما كان أجملها ... أوزعت بآخرها شكراً وأولها
من حسنها لم أزل أصبو بها ولها ... يا صاح صبراً على الأيام إن لها
على تصاريفها من أمرها عجبا
صبراً على زمن يبديك شيمته ... إقبل مساءته واحمد مسرته
فما عسى يبلغ الإنسان منيته ... ومن كرهت ومن أحببت صحبته
لابد أن يفقد الإنسان من صحبا
قلت عجباً من الشيخ ابن الخطيب رحمه الله، في ذكره هذا المترجم به في ترجمة المقربين، مع تحليته له، ووصفه إياه بما وصفه من الكتابة والشعر، بل وإثباته له كتابته، وشعره، فكان حقه أن يكون في ترجمة الكتاب والشعراء بما هذه الترجمة .
الساحلييوسف بن إبراهيم بن يوسف بن محمد بن قاسم بن علي الفهري من أهل غرناطة، يكنى أبا الحجاج، ويعرف بالساحلي.
حالهمن العايد : صدرٌ في حملة القرآن، على وتيرة الفضلاء وسنن الصالحين، من لين الجانب، والعكوف على الخير، وبذل المعروف، وحسن المشاركة، والخفوف إلى الشفاعة. أ ب الأمراء، وحظي بتسويدهم، وناب في الخطابة بالمسجد الأعظم من حمرايهم ، وكان إماماً به، ذا هدىً وسكينة ووقار. وحج، ولقي المشايخ، واعتنق الرواية والتقييد، فانتفع بلقايه.
مشيختهقرأ على الأستاذ العلامة أبي جعفر بن الزبير ببلده، وعلى الشيخ الخطيب الصوفي أبي الحسن بن فضيلة، وعلى الخطيب الصالح، أبي جعفر بن الزيات، والمحدث الرحال أبي عبد الله بن رشيد. وأخذ في رحلته عن جملة، كالخطيب الراوية، أبي عبد الله محمد بن محمد ابن فرتون، وناصر الدين منصور بن أحمد المشدالي، والأستاذ أبي عبد الله ابن جعفر اليحصبي، وقاضي الجماعة ببجاية الإمام أبي عبد الله بن يحيى الزواوي، والفقيه المحدث أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن الحسن الشافعي. وأجازه سوى من تقدم ذكره، من أهل المشرق، عبد الغفار ابن محمد الكلابي، وحسن بن عمر بن علي الكردي، وعتيق بن عبد الرحمن ابن أبي الفتح العمري، ومحمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني، وعمر بن أبي بكر الوادي آشي، وصالح بن عباس بن صالح بن أبي الفوارس الأسعد الصدفي، وأحمد بن محمد بن علي الكناني، ومحمد بن أحمد، وأحمد بن إسمعيل بن علي بن محمد بن الحباب، وأم الخير إبنة شرف الدين ابن الطباخ الصوفي. وقرأ ببلده غرناطة على الأستاذ أبي جعفر الطباع، والشيخ أبي الحسن معن بن مؤمن، وأبي محمد النبغدي، وأبي الحسن البلوطي.
أنشدنا، قال كتب إلي شيخنا محمد بن عتيق بن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني، ولمن سمى فيه:
أجزت لهم أبقاهم الله كلما ... رويت عن الأشياخ في سالف الدهر
وما سمعت أذناي عن كل عالم ... وما جاد من نظمي وما راق من نثر
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريٌّ من التصحيف عار من النكر
وجدي رشيق شاع في الغرب ذكره ... وفي الشرق أيضاً فادر إن كنت لا تدر
ولي مولدٌ من بعد عشرين حجة ... ثمان على الست المبين ابتدا عمر
وبالله توفيقي عليه توكلي ... له الحمد في الحالتين في العسر واليسر
حدثني شيخنا أبو بكر بن الحكيم، قال، أصابتني حمى، فلما انصرفت عني، تركت في شفتي بثوراً على، فزارني الفقيه أبو الحجاج الساحلي، فأنشدني:
حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموماً ضعيف القوى ... فإنني أحسد حماكا
ما رضيت حماك إذ باشرت ... جسمك حتى قبلت فاكا
مولدهعام سبعة وستين وستماية.
وفاتهتوفي رحمه الله بالحمراء العلية، في السابع والعشرين لشهر رمضان من عام اثنين وخمسين وسبعماية.
من الكتاب والشعراء بين أصلي وغيره
ابن الصيرفي
يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري يكنى ابا بكر، ويعرف بابن الصيرفي، من أهل غرناطة.حالهكان نسيج وحده في البلاغة والجزالة، والتبريز في أسلوب التاريخ، والتملؤ من الأدب، والمعرفة باللغة والخبر. قال أبو القاسم، من أهل المعرفة بالأدب والعربية والفقه والتاريخ، ومن الكتاب المجيدين والشعراء المطبوعين المكثرين. كتب بغرناطة عن الأمير أبي محمد تاشفين، وله فيه نظم حسن.
مشيختهقرأ على شيوخ بلده، وأخذ عن العالم الحافظ أبي بكر بن العربي ونمطه.
تواليفهألف في تاريخ الأندلس كتاباً سماه الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية ضمنه العجاب إلى سنة ثلاثين وخمسماية. ثم وصله إلى قرب وفاته، وكتاباً آخر سماه تقصى الأنباء وسياسة الرؤساء.
شعرهقال أنشدت الأمير تاشفين في هلاك ابن رذمير :
أشكو الغليل بحيث المشرب الخضر ... حسبي وإلا فوردٌ ما له صدر
تجهمت لي وجوه الصبر منكرة ... ولاحظتني عيونٌ حشوها حذر
إني لأجزع من ذاك الوعيد وفي ... ملقى الأسنة منا معشرٌ صبر
فلت سلاحي الليالي أي ظالمة ... ولو أعادت شبابي كنت أنتصر
مشيعاً كنت ما استصحبت من أمل ... كما يشيع سهم النازع الوتر
فها أنا وعزيز في نامسة ... تسود في عينه الأوضاح والغرر
يا حي عذره فتياكم بنازلة ... لم تنفصل يمنٌ عنها ولا مضر
ما الحكم عندكم إذ نحن في حرم ... على جناية رامٍ سهمه النظر
أرعاني الشهب في أحشاء ليلتها ... حمل من الصبح أرجوه وانتظر
يفتر عن برد من حوله لهبٌ ... أو عن نبات أقاح أرضه سقر
وبين أجفانه نهيف الأمير أبي ... محمد تاشفين أو هو القدر
سيفٌ به ثل عرش الروم واطادت ... قواعد الملك واستولى به الظفر
وأدرك الدين بالثأر المنيم على ... رغمٍ وجاءت صروف الدهر تعتذر
منىً تنال وأيامٌ مفضضة ... مذهبات العشايا ليلها سحر
وفي الذؤابة من صنهاجة ملكٌ ... أغر أبلج يستسقى به المطر
مؤيدٌ من أمير المسلمين له هوىً ... ورأيٌ ومن سيرٍ له سير
أنحى على الجور يمحو رسم أحرفه ... حتى استجار بأحداق المهى الحور
يا تاشفين أما تنفك بادرة ... من راحتيك المنايا الحمر تبتدر
وكم ترنح في روضٍ جداوله ... بيض السيوف وملتفٌّ للقنى شجر
هي الترايك فوق الهام لا حببٌ ... والسابغات على الأعطاف لا القدر
لك الكتايب ملء البيد غازيةٌ ... إذا أتت زمرٌ منها مضت زمر
على ساكبها للنقع أردية من ... تحتها جلق من تحتها زبر
تدب منها إلى الأعداء سابلة ... عقارب ما لها إلا القنا إبر
بعثتها أسداً شتى إذا مرجت ... جن الوغا انقض منها أنجمٌ زهر
يا أيها الملك الأعلى الذي سجدت ... لسيفه الهام في الهيجاء والقصر
أعر حرار ضلولعي برد ما نهلت ... خيل الزبير ونار الحرب تستعر
حيث الغبار دخان والظبا لهبٌ ... والأسنة في هام العدا شرر
والنقع يطفو وبيض الهند راسية ... إن الصواعق يوم الغيم تنكدر
أعطى الزبير فتى العلياء صارمه ... لكن بسعدك ما لم يعطه عمر
ولته أظهرها الأبطال خاضعة ... تكبو وتصفعها الهندية البتر
بحر من الخلق المسرود ملتطمٌ ... يسيل من كل سيف نحوه نصر
أم ابن الزبير ابن رذمير بداهية ... عضت ومسك من أظفاره ظفر
لقد نفحت من التيجان في محم ... وأين من فتكات الضيغم النمر
لقد نجوت طليق الركض في وهن ... من الأسنة حتى جاءك القدر
خلعت درعاً واعتضت الظلام بها ... وخاض بحر الوغا مركوبك الخطر
ومنها:
ما بال إنجيلك المتروك ما ذمرت ... نفوس قومك منه الآي والسور
أهديتها غير مشكور مضمرة ... ملء الأعنة منها الزهو والأسر
وظل طفلٌ من البولاد دانية ... سمراً ترضعه اللبات والثغر
وعابس المنايا وهي ضاحكة ... من خده بثغورٍ زانها أشر
وكل حارسة في الروع لابسها ... منسوجةٌ من عيون ما لها نظر
أعدت للحرب إنذاراً سخوت بها ... على الرجال التي منها لها وزر
قضتك من حمير صيدٌ غطارفة ... فض الرجاحة عوض الدهر ينحبر
ملثمون حياءً كلما سفرت لهم ... وجوه المنايا في الوغا سفروا
جادوا بطعنٍ كأسماع المحاص ... إلى ضرب كما فغرت أفواهها الحمر
وحدت عنها محياً مروعة ... فضت بما مج في أحشائك الذعر
فرت إلى حتفها من حتفها فمضت ... والموت يطردها والموت ينتظر
قالوا نجا بذما النفس منك فما ... نجا وقد بقرته الحية الذكر
توزعت نفساً على حشيتها طنباً ... للوساوس يحدو جيشها السهر
نصرٌ عزيز وفتحٌ ليس يعدله ... فتحٌ ولله فيه الحمد والشكر
فاهنأ به ابن أمير المسلمين ودم ... للملك ما قامت الآصال والبكر
واهنأ بعيدك وافخر شانئيك به ... فإنها نسك الأسياف لا الجزر
جاورت بحرك تغشاني مواهبه ... فمن بذاك ونظمي هذه الدرر
وأنشد أيضاً من شعره قوله رحمة الله عليه:
ركبت خيلها جيوش الضلال ... وسرت من رماحها بذبال
ملقيات دروعها لا لوقت ... فيه تنضو الجلود رقش الصلال
حث في إثرها الأمير بعقبان ... جيادٌ هوت بأسد رجال
في صقيل البريك تحدث للشمس ... بعكس الشعاع حمى اشتعال
لاث بالريح عمةً من غبار ... ومشى للحديد في أذيال
كلما جرها على الصلد أبقت ... كخطوط الصلال فوق الرمال
لبست أمرها على الروم حتى ... فجئتها كعادة الآجال
أبدلت هامها قصار قدود ... بطوال من الرماح الطوال
والذي فر عن سيوفك أودى ... بقنا الرعب في ثنايا الجبال
كنت فيها وأنت في كل حرب ... مغمد النصل في طلى الأبطال
يطلع البدر منك حاجب شمس ... ويرى الليث في إهاب هلال
يا لصنهاجة وحولك منهم ... خير جيش عليهم خير وال
ملكٌ ليس يركب الدهر إلا ... كل عالي الركاب عالي القذال
ما عرا الجدب أو علا الخطب ... سال غيثاً ولاح بدر كمال
وخفيفٌ على أمور خفاف ... وثقيلٌ على أمور ثقال
لاعب المعطفين بالحمد زهواً ... شيمة الرمح هزةٌ في اعتدال
مسترق النفوس خوفاً وحسنا ... إنما السيف هيبةٌ في جمال
شيمٌ كالغمام ينشر في الروض ... بأندابه صغال اللآل
وسجايا تفتحت زهرات ... وخلالٌ تسد كل اختلال
أنت يا تاشفين والله وافٍ ... لك شخص العلا ونفس الكمال
ليس آمال من على الأرض إلا ... أن ترى وأنت غاية الآمال
وهنياً بأن نهضت وأقبلت ... عزيز النهوض والإقبال
وعلى الكفر منك حرٌّ مجير ... وعلى الدين منك بردٌ ظلال
يا فتى والزمان نعمى وبؤسٌ ... شر حال أفضت إلى خير حال
وبما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجةٌ كحل العقال
رب أشياء ليس يبلغ منها ... كنه ما في النفوس بالأقوال
غير أن الكلام إن جل قدراً ... وعلا كنت فوقه في الفعال
ومن شعره، وقد بيت العدو محلة الأمير تاشفين، ويذكر حسن ثباته، وقد أسلمه قومه، وهي من القصائد المفيدة، المبدية في الإحسان المعيدة:
يا أيها الملك الذي يتقنع ... من منكم البطل الهمام الأروع
ومن الذي غدر العدو به دجىً ... فانفض كلٌّ وهو لا يتزعزع
تمضي الفوارس والطعان يصدها ... عنه ويزجرها الوفاء فترجع
والليل من وضح الترايك والظبا ... صبح على هام الكماة ممنع
عن أربعين ثنت أعنتها دجىً ... ألفان ألفٌ حاسر ومقنع
لولا رجال كالجبال تعرضت ... ما كان ذاك السيل مما يردع
يتقحمون على الرماح كأنهم ... إبلٌ عطاش والأسنة تكرع
ومن الدجى لهم على قمم الربى ... وذؤابة بين الظبا تتقطع
نصرت ظلام الكفر ظلمة ليلة ... لم يدر فيها الفجر أين المطلع
لولا ثبوتك تاشفين لغادرت ... أخرى الليالي وهيبةٌ لا ترقع
فثبت والأقدام تزلق والردى ... حول السرادق والأسنة تقرع
لا تعظمن على الأمير فإنها ... خدع الحروب وكل حرب تخدع
ولكل يوم حنكة وتمرس ... وتجارب في مثل نفسك تنجع
يا أشجع الشجعان ليلة أمسه ... اليوم أنت على التجارب أشجع
أهديك من أدب الوغا حكماً بها ... كانت ملوك الحرب مثلك تولع
لا أنني أدري بها لكنها ... ذكرى تخص المؤمنين وتنفع
اختر من الخلق المضاعفة التي ... وصى بها صنع السوابغ تبع
والهند وانى الرفيق فإنه ... أمضى على حلق الدلاص وأقطع
ومن الرواجل ما إذا زعزعته ... أعطاك هزة معطفيه الأشجع
ومن الجياد الجرد كل مضمر ... تشجى بأربعه الرياح الأربع
والصمة البطل الذي لا يلتوي ... منه الصليب ولا يلين الأخدع
وكذاك قدرٌ في العدو حزامة ... فالنبع بالنبع المثقف يقرع
خندقٌ عليك إذا اضطربت محلة ... سيان تتبع ظافراً أو تتبع
واجعل ببابك في الثقات ومن له ... قلبٌ على هول الحروب مشيع
وتوق من كذب الطلايع إنه ... لا أرى للمكذوب فيها يصنع
فإذا احترست بذاك لم يك للعدا ... في فرصةٍ أو في انتهازٍ مطمع
حارب بمن يخشى عقابك بالذي ... يخشى ومن في جود كفك يطمع
قبل التناوش عب جيشك مفحصا ... حيث التمكن والمجال الأوسع
إياك تعبية الجيوش مضيقاً ... والخيل تفحص بالرجال وتمرع
حصن حواشيها وكن في قلبها ... واجعل أمامك منهم من يشجع
والبس لبوساً لا يكون مشهراً ... فيكون نحوك للعدو تطلع
واحتل لتوقع في مضايقة الوغى ... خدعاً ترويها وأنت موسع
واحذر كمين الروم عند لقائها ... واقض كمينك خلفها إذ تدفع
لا تبقين النهر خلفك عندما ... تلقى العدو فأمره متوقع
واجعل مناجزة العدو عشية ... ووراء الصدف الذي هو أمنع
واصدمه أول وهلة لا ترتدع ... بعد التقدم فالنكول يضعضع
وإذا تكاثفت الرجال بمعركٍ ... ضنكٍ فأطراف الرماح توسع
حتى إذا استعصت عليك ولم ... يكن إلا شماس دايم وتمنع
ورأيت نار الحرب تضرم بالظبا ... ودخانها فوق الأسنة يسطع
ومضت تؤذن بالصميل جيادها ... والهام تسجد والصوارم تركع
والرمح يثني معطفيه كأنه ... في الراح لا علق الفوارس يكرع
والريح تنشأ سجسحاً هفافة ... وهي السكينة عن يمينك توضع
أقصر الكمين على العدو فإنه ... يعطيك من أكتابه ما يمنع
وإذا هزمت عداك فاحذر كرها ... واضرب وجوه كماتها إذ ترجع
وهي الحروب قوى النفوس وحزبها ... من قوة الأبدان فيها أنفع
ثم انتهض بجميع من أحمدته ... حتى يكون لك المحل الأرفع
وبذاك تعتب إن تولت عصبة ... كانت ترفه الوغى وترفع
من معشرٍ إعراض وجهك عنهم ... فعل الجميل وسخطك المتوقع
يكبو الجواد وكل حبر عالم ... يهفو وتنبو المرهفات القطع
أنى قرعتم يا بني صنهاجة ... وإليكم في الروع كان المفزع
ما أنتم إلا أسودٌ حفيةٌ ... كلٌّ بكل عظيمة تستطلع
ما بال سيدكم تورط لم يكن ... لكم التفات نحوه وتجمع
إنسان عين لم يصبه منكم ... جفنٌ وقلبٌ أسلمته الأضلع
تلك التي جرت عليكم خطةً ... شنعاء وهي على رجال أشنع
أو ما ليوسف جده مننٌ على ... كل وفضل سابق لا يرفع
أما لوالده علي نعمة ... وبكل جيدٍ ربقةٌ لا تخلع
ولكم بمجلس تاشفين كرامةٌ ... وشفيعكم فيما يشاء مشفع
ألا رعيتم ذاك وأحسابكم ... وأنفتم من قالةٍ تستشنع
أبطأتم عن تاشفين ولم يزل ... إحسانه لجميعكم يتسرع
ردت مكارمه لكم وتوطأت ... أكنافه إن الكريم سميدع
خاف العدى لكن عليكم مشفقاً ... فهجعتم وجفونه لا تهجع
ومن العجايب أنه مع سنه ... أدرى وأشهر في الخطوب وأضلع
ولقد عفا والعفو منه سجيةٌ ... ولسطوةٍ لو شاء فيكم موضع
يا تاشفين أقم لجيشك عذره ... فالليل والقدر الذي لا يدفع
هجم العدو دجىً فروع مقبلاً ... ومضى يهيم وهو منك مروع
لا يزدهي إلا سواك بها ... ولا إلا لغيرك بالسنان يقعقع
لما سددت له الثنية لم يكن ... إلا على ظهر المنية مهيع
وكذاك للعير إقدام على ... أسد العرين الورد مما يجزع
ولقد تقفاها الزبير وقد نجت ... إلا فلولا وإن منه المصرع
وغداً يعاقب والنفوس حمية ... والسمر هيمٌ والصوارم جوع
أعطش سلاحك ثم أوردها الوغا ... كيما يلذ لها ويصفو المشرع
كم وقعةٍ لك في ديارهم انثنت ... عنها أعزتها تذل وتخضع
النعمة العظمى سلامتك التي ... فيها من الظفر الرضي والمقنع
لا ضيع الرحمن سعيك إنه ... سعيٌ به الإسلام ليس يضيع
نستحفظ الرحمن منك وديعةً ... فهو الحفيظ لكل ما يستودع
وفاتهبغرناطة في حدود السبعين وخمسماية
من ترجمة الشعراء من السفر الأخير وهو الثاني عشر المفتتح بالترجمة بعد
يحيى بن محمد الهذلي
يحيى بن محمد بن أحمد بن عبد السلام التطيلي الهذلي أصله من تطيلة، وهو غرناطي، يكنى أبا بكر.حالهقال أبو القاسم الملاحي، أديب زمانه، وواحد أقرانه، سيال القريحة، بارع الأدب، رائق الشعر، علم في النحو واللغة والتاريخ والعروض، وأخبار الأمم، لحق بالفحول المتقدمين، وأعجزت براعته، براعة المتأخرين، وشعره مدون، جرى في ذلك كله طلق الجموح. ثم انقبض، وعكف على قراءة القرآن، وقيام الليل، وسرد الصوم، وصنع المعشرات في شرف النبي عليه الصلاة والسلام. وأشعاره كثيرة، من الزهد والتذكير للآخرة، والتجريد من الدنيا، حتى جمع له من ذلك ديوان كبير.
شعرهمن ذلك قوله من قصيدة:
أذوب حياءً إن تذكرت زلتي ... وحلمك حتى ما أقل نواظري
وأسكت مغلوباً وأطرق خجلة ... على مثل أطراف القنا والتواتر
تعود بصفحٍ إثر صفحٍ تكرماً ... على الذنب بعد الذنب يا خير غافر
وتلحظني بالعفو أثناء زلتي ... وتنظر مني في خلال جراير
وحق هواك المستكين بأضلعي ... ومالك عندي من خفي ضمائر
لما قمت بالمعشار من عشر عشرة ... ولو جيت فيه بالنجوم الزواهر
فيا أيها المولى الصفوح ومن به ... تنوء احتمالاتي بأعباء شاكر
أنلني من برد اليقين صبابةً ... ألف بها حد الهوى والهواجر
وخلت الدجى عذراً هابت سرى ... العدا إلي تغطيني بسود الغدائر
وخافت على عيني من السهد والبكا ... فذرت بقايا الكحل من جفن ساهر
وقال راداً عني ابن رشد حين رد على أبي حامد في كتابه المسمى تهافت التهافت
كلام ابن رشد لا يبين رشاده ... هو الليل يعشي الناظرين سواده
ولاسيما نقض التهافت إنه ... تضمن برساماً يعز اعتقاده
كما لطرد المحموم في هذيانه ... يفوه بما يملي عليه احتداده
أتى فيه بالبهت الصريح مغالطاً ... فما غير البحر الخضم ثماده
وحاول إخفاء الغزالة بالسها ... فأخفق مسعاه ورد اعتقاده
دلايل تعطيك النقيضين بالسوى ... وأكثر ما لا يستحيل عناده
إذا أوضح المطلوب منها وضده ... يبين على قربٍ وبان انفراده
وأنت بعيد الفكر عن ترهاته ... فمعظمها رأيٌ يقل سداده
ومن شعره:
إليك بسطت الكف في فحمة الدجى ... نداء غريق في الذنوب عريق
رجاك ضميري كي تخلص جملتي ... فكم من فريقٍ شافعٍ لفريق
مشيختهأخذ عن أبيه أبي عبد الله، وحدث عن الأستاذ أبي الحسن جابر بن محمد التميمي، وعن الأستاذ المقري ببلنسية أبي محمد عبد الله بن سعدون التميمي الضرير، عن أبي داود المقري. وقرأ أيضاً على الخطيب أبي عبد الله محمد بن عروس، وعلى القاضي العالم أبي الوليد بن رشد.
مولدهفجر يوم الثلاثاء الخامس والعشرين لمحرم تسعة وخمسين وخمسماية.
وفاتهبغرناطة عام تسعة وعشرين وستماية.
يحيى بن بقيمن أهل وادي آش.
حالهبارع الأدب، سيال القريحة، كثير الشعر جيده في جميع أنواعه. وكان مع ذلك موصوفاً بغفلة.
شعرهبأبي غزال غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطي بارق
وسالت منه قبلة تشفي الجوى ... فأجاب عنها بوعد صادق
وأتيت منزله وقد هجع العدا ... أسري إليه كالخيال الطارق
بتنا ونحن من الدجى في لجة ... ومن النجوم الزهر تحت سرادق
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صباً كالمسك العتيق لناشق
حتى إذا ما مالت به سنة الكرى ... باعدته شيئاً وكان معانق
أبعدته من أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق
وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمايل في عاتق
لما رأيت الليل ولى عمره قد ... شاب في لمم له ومفارق
ودعت من أهوى وقلت تأسفاً ... أعزز علي بأن أراك مفارق
وفاته: توفي بمدينة وادي آش سنة أربعين وخمسماية.
يحيى بن عبد الجليل
بن عبد الرحمن بن مجير الفهري
فرنشي، وقال صفوان إنه بليي، يكنى أبا بكر.حاله
قال ابن عبد الملك، كان في وقته شاعر المغرب، لم يكن يجري أحد مجراه، من فحول الشعراء. يعترف له بذلك أكابر الأدباء، وتشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه، قصائده التي صارت مثالاً، وبعدت على قربها منالاً. وشعره كثير مدون، ويشتمل على أكثر من سبعة آلاف بيت وأربعمائة بيت. امتدح الأمراء والرؤساء، وكتب عن بعضهم، وحظي عندهم حظوة تامة، واتصل بالأمير أبي عبد الله بن سعد ، وله فيه أمداح كثيرة. وبعد موته انتقل إلى إشبيلية، وبملازمته للأمير المذكور، وكونه في جملته، استحق الذكر فيمن حل بغرناطة. ومن أثرته لدى ملوك مراكش، أنه أنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح من قصيدة:
إن خير الفتوح ما جاءت عفواً ... مثل ما يخطب البليغ ارتجالا
قالوا، وكان أبو العباس الجراوي الأعمى الشاعر حاضراً، فقطع عليه، لحسادة وجدها، فقال يا سيدنا اهتدم فيه بيت ابن وضاح:
خير شراب ما جاء عفواً ... كأنه خطبة ارتجال
فبدر المنصور، وهو حينئذ وزير أبيه، وسنه في حدود العشرين من عمره، فقال إن كان قد اهتدمه، فقد استحقه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف، فسر أبوه لجوابه، وعجب منه الحاضرون.
ومر المنصور أيام إمرته بلوقية من أرض شلب، ووقف على قبر أبي محمد بن حزم، وقال عجباً لهذا الموضع، يخرج منه مثل هذا العالم. ثم قال، كل العلماء عيال على ابن حزم. ثم رفع رأسه، وقال، كما أن الشعراء عيال عليك يا أبا بكر، يخاطب ابن مجير.
شعرهمن شعره يصف الخيل العتاق من قصيدة في مدح المنصور:
لخ خطت الخيل العتاق كأنها ... نشاوي تهادت تطلب العرف والقصفة
عرايس أغنتها الحجول عن الحلا ... فلم تبغ خلخالاً ولا التمست وقفا
فمن يفق كالطرس تحسب أنه ... وإن جردوه في ملاءته التفا
وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ... وغار عليه الصبح فاحتبس النصفا
ووردٌ تغشى جلده شفق الدجى ... فإذا حازه حلى له الذيل والعرفا
وأشقر مج الراح صرفاً أديمه ... وأصفر لم يسمح بها جلده صرفا
وأشهب فضي الأديم مدنر ... عليه خطوط غير مفهمةٍ حرفا
كما خطر الزاهي بمهرق كاتبٍ ... يجر عليه ذيله وهو ما جرفا
تهب على الأعداء منها عواصف ... تنسف أرض المشركين بها نسفا
ترى كل طرف كالغزال فتمتري ... أطيباً ترى تحت العجاجة أم طرفا
وقد كان في البيداء يألف سربه ... فربته مهراً وهي تحسبه خشفا
تناوله لفظ الجواد لأنه متى ... ما أردت الجري أعطاكه ضعفا
ولما اتخذ المنصور ستارة المقصورة بجامعه، وكانت مدبرة على انتصابها، إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه، واختفائها إذا انفصلوا عنها، أنشد في ذلك الشعراء، فقال من قصيدة أولها:
أعلمتني ألقي عصا التسيار ... في بلدة ليست بدار قرار
ومنها في وصف المقصورة:
طوراً تكون بمن حوته محيطةٌ ... فكأنها سورٌ من الأسوار
وتكون حيناً عنهم مخبوة ... فكأنها سر من الأسرار
وكأنما علمت مقادير الورى ... فتصرفت لهم على مقدار
فإذا أحست بالإمام يزورها ... في قومه قامت إلى الزوار
ويكفي من شعر ابن مجير هذا القدر العجيب رحمه الله.
من روى عنهحدث عنه أبو بكر محمد بن محمد بن جمهور، وأبو الحسن بن الفضل، وأبو عبد الله بن عياش، وأبو علي الشلوبين، وأبو القاسم بن أحمد ابن حسان، وأبو المتوكل الهيثم، وجماعة.
وفاتهتوفي بمراكش سنة ثمان وثمانين وخمسماية، وسنه ثلاث وخمسون سنة.
يوسف بن محمد اللوشييوسف بن محمد بن محمد اليحصبي اللوشي، أبو عمر
حاله
من كتاب ابن مسعدة ، خطيب الإمامة السعيدة النصرية الغالبية، وصاحب قلمها الأعلى. كان شيخاً جليلاً، فقيهاً، بارع الكتابة، ماهر الخطة، خطيباً مصقعاً، منقطع القرين في عصره، منفرداً عن النظير في مصره، عزيزاً، أنوفاً، فاضلاً، صالحاً، خيراً، شريف النفس، منقبضاً، وقوراً، صموتاً، حسن المعاشرة، طيب المحادثة.
مشيختهحدث عن والده الشيخ الراوية أبي عبد الله، وعن الأستاد ابن يربوع. ولقي بإشبيلية الأستاذ أبا الحسن الدباج، ورئيس النحاة أبا علي الشلوبين وغيرهم.
شعرهومن شعره، وإن كان غير كثير، قوله:
شرد النوم عن جفونك وانظر ... كلمةً توقظ النفوس النياما
فحرام على امرىءٍ يشاهد ... حكمة الله أن يلذ المناما
وقوله:
ليس للمرء اختيار في الذي ... يتمنى من حراك وسكون
إنما الأمر لربٍّ واحد ... إن يشاء قال له كن فيكون
وفاتهتوفي في المحرم من عام ستين وستماية، ودفن بمقبرة باب إلبيرة. وحضر جنازته الخاصة والعامة، السلطان فما دونه، وكل ترحم عليه، وتفجع له. حدثني حافده شيخنا، قال، أخرج الغالب بالله، يوم وفاته، جبة له، لبسته مرفوعة، من ملف أبيض اللون، مخشوشنة، زعم أنها من قديم مكسبه من ثمن مغنم ناله، قبل تصير الملك إليه، أم ببيعها، وتجهيزه من ثمنها، ففعل، وفي هذا ما لا مزيد عليه من الصحة والسلامة، وجميل العهد، رحم الله جميعهم.
يوسف بن علي الطرطوشييكنى أبا الحجاج
حالهمن العايد: كان رحمه الله من أهل الفضل والتواضع، وحسن العشرة، مليح الدعابة، عذب الفكاهة، مدلاً على الأدب جده وهزله، حسن الخط، سلس الكتابة، جيد الشعر، له مشاركة في الفقه، وقيام على الفرايض. كتب بالدار السلطانية، وامتدح الملوك بها، ثم توجه إلى العدوة، فصحب خطة القضاء، عمره، مشكور السيرة، محفوفاً بالمبرة.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: روض أدب لا تعرف الدواة أزهاره، ومجموع فضل لا تخفى آثاره، كان في فنون الأدب، مطلق الأعنة، وفي معاركه ماضي الظبا والأسنة. فإن هزل، وإلى تلك الطريقة اعتزل، أبرم في الغزال ما غزل، وبذل من دنان راحته ما بذل. وإن صرف إلى المعرب غرب لسانه، وأعاره لمحة من إحسانه، أطاعه عاصيه، واستجمعت لديه أقاصيه. ورد على الحضرة الأندلسية، والدنيا شابة، وريح القبول هابة، فاجتلى محاسن أوطانها، وكتب عن سلطانها. ثم كر إلى وطنه وعطف، وأسرع اللحاق كالبارق إذا خطف، وتوفي عن سن عالية، وبرود من العمر بالية.
ومن شعره أيام حلوله بهذه البلاد، قوله، يمدح الوزير ابن الحكيم، ويلم بذكر السلم في أيامه:
رضاكم إن مننتم خير مرهوب ... وما سوى هجركم عندي بموهوب
لكم كما شيتم العتبى وعتبكم ... مقابل الرضا من غير تشريب
منوا بلحظ رضىً لي ساعة ... فعسى أنال منه لدهري طب مطبوب
فكم أثارت لي الأيام وابتسمت ... ثغور سعدى بتقريب فتقريب
قد كن بيضاً رعابيباً بقربكم ... والآن يوصفن بالسود الغرابيب
آهاً لدهر تقضى لي بباكم ... مرتبٌ للأماني أي ترتيب
ما كان إلا كأحلام سررت بها ... فواصلت حال تقويض بتطنيب
يا ليت شعري هل تقضي بعودته ... فأقدر الحسن منه بعد تجريب
ومنها:
يا أيها السيد الأعلى الذي يده حازت ... ندى السحب مسكوباً بمسكوب
فلو سالنا بلاد الله عن كرم ... فيها لكفيه والأنواء منسوب
لقلن إن كان جودٌ لا يضاف لذي ... الوزارتين فجودٌ غير محسوب
فالعود جنسٌ ولكن في إضافته ... للهند يختص عود الهند بالطيب
من سيد لا يوفي الحمد واجبه ... ولو تواصل مكتوباً بمكتوب
له المحامد لا تحصى ولا عجب ... فرمل عالج شيىٌّ غير محسوب
تناول الشرف الأقصى بعزمة ذي ... ظن نبيل الأماني غير مكذوب
وواصل المجد من آياته شرفاً ... بمجده وصل أنبوب بأنبوب
وجاء مكتسباً أعلى ذخائره ... والمجد ما بين موروث ومكسوب
ردء الخليفة لا يرتاح من نصب ... في بذل نصح لحفظ منصوب
موفق الرأي مأمون النقيبة في ... تدبير ذي حنكة صحت وتدريب
تهابه النفس إذ ترجوه من شرف ... فشأنه بين مرهوب ومرغوب
ومنها:
يا أوحد العصر في فضل وفي كرم ... خصال قاطع دهره في التجاريب
أعد فديت لأمري منعماً نظراً ... ينل به هم حالي بعض تشبيب
أولا ارتكاب حسودي لأمر في ضرري ... ما كان ظهر النوى عندي بمركوب
هذا زماني ومنك الأمن حاربني ... حتى أراني في حالات محروب
فامنن بتفريج كربي بالرضا ... فإذا رضيت لم أك من شيءٍ بمكروب
إن لم أذق من رضاكم ما ألذ به ... فلا حياة بمأكول ومشروب
ومن شعره:
ذكرك تشرح أي العلا ... وتسند أخباره في الصحيح
بأفقك يشرق بدر السنا ... وباسمك يحسن نظم المديح
وما يحسن العقد إلا إذا ... تحلت به ذات وجه مليح
وفاتهكان حياً عام أحد وأربعين وسبعماية.
من ترجمة المحدثين والفقهاء وسائر الطلبة النجباء
العشاب البرشاني
يحيى بن محمد بن عبد العزيز بن علي الأنصاري يكنى أبا بكر، ويعرف بالعشاب، ويعرف بالبرشاني .حالهكان هذا الشيخ من أهل الخير، كثير التؤدة والصمت، معرضاً عما لا يعنيه. رحل إلى الحج، واقام هنالك سنين، وقفل منها فخطب بأرجبة . وأخذ ببلاد المشرق عن قطب الدين القسطلاني، وأبي الفضل ابن خطيب المري، وزين الدين أبي بكر محمد بن إسماعيل الأنماطي. ولقي أبا علي بن الأحوص بالأندلس ولم يأخذ عنه. أنشدني شيخنا أبو البركات، قال أنشدني الشيخ أبو بكر البرشاني، وقد لقيته بأرجبة. قال أنشدنا الإمام أبو عبد الله بن النعتمان عن قطب الدين:
إذا كان أنسي في لزومي وحدتي ... وقلبي من كل البرية خال
فما ضرني من كان لي الدهر قالياً ... وما سرني من كان في موال
ومن العمال
يوسف بن رضوان
بن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان بن محمد بن خير بن
أسامة الأنصاري النجاريقال القاضي المؤرخ أبو الحسن بن الحسن ممليه، والذي رفع إلي هذا النسب للركانة، هو صاحبنا الفقيه أبو القاسم ولده، ورفع هذا النسب بحاله من التكرار دليل على أصالته.
حالهمن أهل الخير والخصوصية، وحسن الرواء والوقار، والحياء، والمودة. نبيه القدر، معروف الأمانة، صدرٌ في أهل العقد والحل ببلده، بيته بيت صون وخير واستعمال، ولو لم يكن من بركات هذا الرجل، وآثار فضله، إلا ابنه صدر الفضلاء، وبقية الخواص أبو القاسم، لكفاه. تولى قيادة الديوان بمالقة بلده، أرفع الخطط الشرعية العملية، فحمدت سيرته.
وفاته بمالقة في .......... ......... وعلى قبره مكتوب من نظم ولده:
إلاهي خدي في التراب تذللاً ... بسطت عسى رحماك يحيى بها الروح
وجاوزت أجداث الممالك خاضعاً ... وقلبي مصدوع ودمعي مسفوح
ووجهت وجهي نحو جودك ضارعاً ... لعل الرضا من جنب حلمك ممنوح
أتيت فقيراً والذنوب تؤدني ... وفي القلب من خوف الجرايم تبريح
ولم أعتمد إلا الرجا وسيلة ... وإخلاص إيمان به الصدر مشروح
وأنت غنيٌّ عن عذابي وعالم ... بفقري وباب العفو عندك مفتوح
فهب لي عفواً من لدنك ورحمةً ... يكون بها من ربة الذنب تسريح
وصل على المختار ما همع الحيا ... وما طلعت شمس وما هبت الريح
من ترجمة الزهاد والصلحاء
يحيى بن إبراهيم
بن يحيى البرغواطي
من أهل أنفا من بيت عمال يعرفون ببني الترجمان أولى شهرة وشدة على الناس وضغط. وكان من الحظوة وضدها بباب سلطانهم، ديدن الجباة. غرب عنهم وانقطع إلى لقاء الصالحين، وصحبة الفقراء المتجردين، وقدم على الأندلس عابداً، كثير العمل، على حداثة سنه، ونزل برباط السودان، من خارج مالقة، واشتهر، وانثال عليه الناس. ثم راض طول ذلك الاجتهاد، وأنس بمداخلة الناس.
حالههذا الرجل نسيج وحده في الكفاية، وطلاقة اللسان، مدل على أغراض الصوفية، حافظ لكل غريبة من غرايب طريقتهم، متكلم في مشكلات أقوالهم، قايم على كثير من أخبارهم، يستظهر حفظ جزأي إسماعيل الهروي المسمى بمنازل السايرين إلى الحق، والقصيدة الكبيرة لابن الفارض. عديم النظير في ذلك كله، مليح الملبس، مترفع عن الكدية، عزيز النفس، قليل الإطراء، حسن الحديث، عذب التجاوز فيه، على سنن من السذاجة والسلامة والرجولة والحمل، صاحب شهرة قرعت به أبواب الملوك بالعدوتين. وعلى ذلك فمغضوض منه، محمول عليه، لما جبل عليه من رفض الاضطلاع، وترك السمت، واضطراح التغافل، وولوعه بالنقد والمخالفة في كل ما يطرق سمعه، مرشحاً ذلك بالجد المبرم، ذاهباً أقصى مذاهب القحة، كثير الفلتات. نالته بسبب هذه البلية محن كثيرة، أفلت منها بجريعة الذقن، ووسم بالوهن في دينه، مع صحة العقل . وكان الآن عامراً للرباط المنسوب إلى اللجام، على رسم الشياخة، وعدم التابع، مهجور الفناء.
مشيختهزعم أنه حج، ولقي جلة، منهم الشيخ أبو الطاهر بن صفوان المالقي، ولقاؤه إياه، وصحبته، معروف بالأندلس، وغير ذلك مما يدعيه متعدد الأسماء.
تواليفهقيد الكثير من الأجزاء، منها في نسبة الذنب إلى الذاكر، جزءٌ نبيل غريب المأخذ، وفيما أشكل من كتاب أبي محمد بن الشيخ. وصنف كتاباً كبير الحجم في الاعتقاد، جلب فيه كثيراً من الأقوال والحكايات، رأيت عليه بخط شيخنا عبد الله بن المقري ما يدل على استحسانه، وطلب مني الكتب عليه بمثل ذلك، فكتبت له ببعض ورقاته، إثارة لضجره، واستدعاءً لفكاهة انزعاجه، ما نصه: وقفت من الكتاب المنسوب لأبي زكريا البرغواطي، على برسام محموم، واختلاط مذموم ، وانتساب زنج في روم، وكان حقه أن يتهيب طريقاً لم يسلكها، ويتجنب غفلة لم يملكها، إذ المذكور، لم يتلق شيئاً من علم الأصول، ولانظر في الإعراب في فصل من الفصول. إنما هي قحة وخلاف، وتهاون بالمعارف واستخفاف. غير أنه يحفظ في طريق القوم كل نادرة، وفيه رجولة ظاهرة، وعنده طلاقة لسان، وكفاية قلما تتأتى لإنسان. فإلى الله نسل أن يعرفنا بمقادير الأشياء، ويجعلنا بمعزل عن الأغبياء. وقد قلت مرتجلاً عند أول نظرة، واجتزأت بقليل من كثرة:
كل جار لغاية مرجوة ... فهو عندي لم يعد حد الفتوة
وأراك اقتحمت ليلاً بهيماً ... مولجاً منك ناقةً في كوبة
لا اتباعاً ولا اختراعاً أرتنا ... إذ نظرنا عروسك المجلوة
كل ما قلته فقد قاله الناس ... مقالاً آياته متلوة
لم تزد غير أن أبحت حمى الإعراب ... في كل لفظة مقروة
نسل الله فكرة تلزم العقل إلى ... حشمة تحوطها المروة
وعزيز علي أن كب يحيى ... ثم لم نأخذ الكتاب بقوة
ومن البرسام الذي يجري على لسانه بين الجد والقحة، والجهالة والمجانة، قوله لبعض خدام باب السلطان، وقد ضويق في شيءٍ أضجره منقولاً من خطه، بعد ردٍّ كثير منه إلى الإعراب:
الله نور السموات من غير نار، ولا غيرها، والسلطان ظلاله وسراجه في الأرض، ولكل منهما فراشٌ مما يليق به، ويتهافت عليه، فهو تعالى محرقٌ فراشه بذاته، مغرقهم بصفاته، وسراجه وظله. وهو السلطان محرق فراشه بناره، مغرقهم بزينه ونواله. ففراش الله، ينقسم إلى حامدين ، ومسبحين، ومستغفرين، وأمناء وشاخصين. وفراش السلطان ينقسمون إلى أقسام، لا ينفك أحدهم عنها. وهم وزغة ابن وزغة، وكلب ابن كلب، وكلب مطلقاً، وعارٌ ابن عار، وملعون ابن ملعون، وقط ابن قط ، ومحق. فأما الوزغة، فهو المحرق في زيت نواله، المشغول بذلك عما يليق بصاحب النعمة من النصح، وبذل الجهد. والكلب ابن الكلب، هو الكيس المتحرز في تهافته، من إحراق وإغراق، يعطي بعض الحق، ويأخذ بعضه. وأما الكلب مطلقاً، فهو الواجد والمشرد للسفهاء عن الباب المعظم لقليل النعمة. وأما العار ابن عار فهو المتعاطي في تهافته ما فوق الطوق، ولهذا امتاز هذا الإسم بالرياسة عند العامة، إذا مر بهم جلفٌ أو متعاط، يقولون، هذا العار بن عار، يحسب نفسه رئيساً، وذلك بقرب المناسبة، فهو موضوع لبعض الرياسة، كما أن الكلب ابن الكلب لبعض الكياسة. وأما الملعون ابن المعلون، فهو الغالط المعاند، المشارك لربه، المنعم عليه في كبريائه وسلطانه. وأما القط فهو الفقير مثلي، المستغنى عنه، بكونه لا تخص به رتبة، فتارة في حجر الملك، وتارة في السنداس، وتارة في أعلى المراتب، وتارة محسنٌ وتارة مسيىءٌ، تغفر سيئاته الكثيرة بأدنى حسنة، إذ هو من الطوافين، متطير بقتله وإهانته، تياه في بعض الأحيان لعزة يجدها في نفسه، من حرمة أبقاها الشارع له، وكل ذلك لا يخفى. وأما الفراش المحق، فهو عند الدول نوعان، تارة يكون ظاهراً وحظه مسح المصباح، وإصلاح فتيله، وتصفية زيته، وستر دخانه، ومسايسة ما أعوز من المطلوب منه. ووجود هذا شديد الملازمة ظاهراً. وأما المحق الباطن، فهو المشار إليه في دولته بالصلاح والزهد والورع، فتستقبله الخلق لتعظيمه، وتركه لما هو بسبيله، فيكون وسيلةً بينهم وبين ربهم، وخليفته الذي هو مصباحهم. فإذا أراد الله بهلاك الدولة، وإطفاء مصباحها تولى ذلك أهل البطالة والجهالة، فكان الأمر كما رأيتم، والكل يعمل على شاكلته.
وأفضى به الهوى، وتسور حمى السياسة، والإغياء في ميدان القحة إلى مصرع السوء، فجلد جلداً عنيفاً بين يدي السلطان، كان سبب وفاته في المطبق، وذلك في شهر المحرم من عام ثمانية وستين وسبع ماية. وقانا الله المعرات، وجنبنا سبل المضرات، وفي كثرة تبجحه باصطلاح المنطق قيل:
لقد كان يحيى منطقياً مجادلاً ... تجارى في سبل الهوى وتهوار
غدا مطلق التقوى وراح مكمماً ... وأصبح من فوق الجدار مسورا
فما نال من معنى اصطلاح أداره ... سوى أن بدا في نفسه وتصورا
تجاوز الله عنا وعنه.