كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب
فخل عن الدنيا ودع عنك حبها ... يدعك إلى أوج السعادة ترتق
وقوله:
ايقنت أن جميع الخلق ليس له ... شيىء من الأمر في شيىء فيصنعه
فلا أخاف ولا أرجو مدى عمري ... الأ الذي في يديه الخلق أجمعه
مولدهبمدينة مالقة في اليوم الثالث والعشرين لذي حجة من عام أحد وثمانين وستماية
وفاتهفي أحواز أحد وستين وسبعماية
علي بن عبد العزيز
بن الإمام الأنصاري
يكنى أبا الحسن، سرقسطي الأصل، غرناطي الاستيطان والاستعمال.حالهكان وزيراً جليلاً، معظم القدر. مبجلاً أثيراً، ذا معارف جمة، أحد كتاب الزمن، وأهل البلاغة والفصاحة والكرم. وزر للأمير أبي الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين، صاحب غرناطة فحمدت وزارته، وكتب للأمير علي بن يوسف. وروى عن شيوخ غرناطة.
أخباره في الجود والجلالةقال أبو القاسم، شكى إليه بعض إخوانه من حادث طرقه، وأن النفاق أخرجه من بلده، وحال بينه وبين بلده، فأنزله أكرم منزل وخرج إلى المسجد الجامع، وأشهد على نفسه أنه وهبه الربع من أملاكه، وكتب بذلك عقداً ودفعه إليه، وقال يا أخي إن ذلك سيصلح من حالك، وحالي لا يتسع لأكثر من هذا، فاعذر أخاك. وكان الذي وهبه يساوي فوق الألف دنير مرابطية، فرحم الله الوزير أبا الحسن: فلقد كان نادرة الزمن.
شعرهمن ذلك قوله:
يا ليت شعري والأماني كلها ... زور يغرك أو سراب يلمع
في كل يوم منزل لأحبة ... كالظل يلبس للقيل ويخلع
ومن ذلك قوله:
تسموا بالمعارف والمعالي ... فليس المجد بالرحم البوال
وإن فاتا فبالبيض المواضي ... وبالسمر المثقفة العوال
وإذا المرء تنهضه هذي ... فليس بنا هض أخرى الليال
ومن أسمته أسباب سواها ... فرفعتها تؤل إلى سفال
ومن المحدثين والفقهاء والطلبة النجباء
علي بن إبراهيم بن علي
بن إبراهيم الجذامي
القاضي المتفنن الحافظ، من أهل غرناطة يكنى أبا الحسن.حالهمن الصلة، كان عدلاً فاضلاً جليلاً، ضابطاً لما رواة، فقيهاً حافظاً، حسن التقييد.
تواليفهقال اختصركتاب الاستذكار لأبي عمر بن عبد البر. وغير ذلك.
مشيختهروى عن أبي محمد عبد الحق بن بونه، والقاضي ابي عبد الله بن زرقون، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي زيد السهيلي، وابي عبد الله بن الفخار، وأبي الوليد بن رشد.
مولدهضحوة يوم الأضحى من عام خمسة وخمسين وخمسماية.
وفاتهوتوفي قريب الظهر من يوم الأربعاء التاسع عشر لذي حجة من عام اثنين وثلاثين وستماية.
من روى عنه. روى عنه القاضي أبو علي بن أبي الأحوص.
ابن النفزيعلي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الضحاك الفزاري من أهل غرناطة، يكنى ابا الحسن، ويعرف بابن النفزي.
حالهقال أبو القاسم الغافقي، فقيه مشاور بغرناطة، محدث متكلم.
مشيختهأخذ عن أبي الحسن شريح، وعن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش، وعن أبي القاسم بن ورد، وعن القاضي أبي الفضل عياض بن موسى، وعن الإمام أبي عبد الله المازري، وعن أبي الطاهر السلفي، وعن أبي مروان بن مسرة، وأبي محمد بن سماك القاضي، وعلي بن عبد الرحمن ابن سمحون القاضي، والقاضي أبي محمد بن عطية، والمشاور أبي القاسم عبد الرحيم بن محمد، والقاضي أبي القاسم بن أبي جمرة، وجماعة يطول ذكرهم.
تواليفه
وله تواليف في أنواع من العلم، منها كتاب نزهة الأصفياء وسلوة الأولياء في فضل الصلاة على خاتم الرسل وصفوة الأنبياء غثنا عشر جزءاً، وكتاب زواهر الأنوار وبواهر ذوي البصاير والاستبصار في شمايل النبي المختار، سفران كبيران، وكتاب منهج السداد في شرح الإرشاد ثلاثون جزءاً، وكتاب مدارك الحقائق في أصول الفقه خمسة عشر جزءاً، وكتاب تحقيق القصد السني في معرفة الصمد العلي سفر، وكتاب نتايج الأفكار في إيضاح ما يتعلق بمسئلة الأقوال من الغوامض والأسرار سفر، وكتاب تنبيه المتعلمين على المقدمات والفصول وشرح المهمات منها والأصول سفر، وكتاب السباعيات، وكتاب تبيين مسالك العلماء في مدارج الأسماء، وكتاب رسائل الأبرار. وذخائر أهل الحظوة والإيثار في انتخاب الأدعية المستخرجة من الأخبار والآثار سفران اثنان، وكتاب الإعلام في استيعاب الرواية عن الأيمة الأعلام سفران.
وفاتهتوفي في الكاينة بغرناطة سنة سبع وخمسين وخمسماية. خرج منها يريد وادي آش، فلم يصل إليها، وفقد فلم يوقع له على خبر.
ابن زكرياعلي بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن زكريا.
أوليته: قد مر في ذكر أبيه وعمه.
حالههذا الرجل فاضل، سكون، من أهل السذاجة والسلامة، والعفاف والصيانة، معم مخول في الخير. طاهر النشأة. جانح للعدالة. قعد للعلاج، وبرز في صناعة الطب، علىفتاً من سنه، واستيم إليه بمهم من نبيه العمل وخطته، متصف بالإجادة والبيان.
مشيختهقرأ العربية والفقه وغيرهما من المبادىء على مشيخة وقته، والطب على الوزير أبي يزيد خالد بن خالد من أهل غرناطة، وقعد معه.
شعرهينتحل من الشعر ما عينه في الشرود أو غير ذلك فراره كقوله:
صعدت نار فؤادي أدمعي ... فلذا ما جف قلبي فانفطر
لو أباح الله لي وصلك ... الأنبل صدع القلب مني وانخبر
أصل داني منك لحظٌ فاتر ... وأشد اللحظ ما ما فتر
كيف أرجو منه براً وغدت ... قهوة الحسن تسقيه درر
فانظر قوله، الأنبل من شعره:
ولي همة من دونها كل همة ... أموت بها عطشان أو يخلص الشرب
يعز على الكريم ورود ماء ... يكدره شوب ويطرقه نهب
وإني وأن أضحى لودك موضع ... من القلب أضحى دون موضعه الخلب
فتمنعني نفسي لايتمان أرواحهم ... على شربٍ يونقه قشب
غفر الله له على قشب، وتجاوز عنه، فلقد دفع منه ففضحها.
وهو بحاله الموصوفة
ومن الطارئين والغرباء
علي بن أحمد الخشني
علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أحمد الخشني من أهل مالقة، من قرية يعشيش من عمل ملتماس، من شرقيها يكنى أبا الحسن. ودخل غرناطة ومدح أمراءها وتردد إليها.حالهمن عايد الصلة: من صدور أهل الدين والفضل، والخير والصلاح والنزاهة، والاقتصاد والانقباض، تحرف بصناعة التوثيق بمالقة، جارياً على شاكلة مثله من الاقتصاد، والتبلغ باليسير، ومصابرة الحاجة، مكباً على المطعالة والنظر، مجانباً للناس، بعيداً عن الريب، مؤثراً للزهد في الدنيا. ولي الخطابة بالمسجد الأعظم من قصبة مالقة في عام وفاته.
مشيختهقرأ على الأستاذ الصالح الخطيب أبي جعفر بن الزيات، والأستاذ المقري رحلة الوقت أبي عبد الله بن الكماد.
شعرهوشعره آخذٌ بطرف من الإجادة في بعض المقاصد، فمن ذلك قوله:
أرى لك في الهوى نظراً مريباً ... كأن عليك عاذلاً أو رقيباً
ولست بخائف في الحب شيئاً ... على نفسي مخافتي المشيبا
يريني كل ما تهواه نفسي ... قبيحاً مالياً عيني عنيبا
أنا منه ابن قيس لا يراح ... فذق مر التأسف مستطيبا
إذا ما كنت تبكي فقد حبٍّ ... فما مثل الشباب به حبيبا
وقال في مذهب المدح من المطولات:
الآن تطلب ودها ووصالها ... من بعد ما شغلت بهجرك بالها
وقد استحالت فيك سيما الصبا ... حالاً يروع مثلها أمثالها
وأتيتها متلبساً بروايع نكرٍ ... بفودك أصبحت عذالها
بيضٌ تخيل للنفوس نصولها ... سمراً تخول للنحور نصالها
مثل الأفاعي الرقط تنفث ... في الحشا وأرى بفودك جثماً أطالها
نار تضرم في الفؤاد حريقها ... لكن تنير بمفرقيك ذبالها
جزعت لهذا الشيب نفسي ... وهي ما زالت تهون كل صعب نالها
ولكم صدعت بنافذ من عزمتي ... هماً لا يهدي العليم ضلالها
صادمت من كرب الدنا أشتاتها ... ما خفت غربتها ولا إقلالها
ولئن تقلص عسرتي فيىء الغنا ... عني فلي نفسٌ تمد ظلالها
ما مزقت ديباجتي غير امرىءٍ ... عرضت عليه النفس قط سؤالها
ألقى الليالي غير هبٍّ صرفها ... والأسد غير مجنب أغيالها
أمشي الهوينا والعداة تمر بي ... مراً يطير عن الجياد نسالها
علمت لي الخلق الجميل محققاً ... وتسيء في على عملي أقوالها
تبغي انثناءً وهل سمعت بنسمة ... مرت على نجدٍ تهز جبالها
ولربما عرضت لعيني نظرة ... يرضى الحكيم غرامها وخبالها
من غادةٍ سرق الصباح بهاءها ... والبدر في ليل التمام كمالها
تهوى المجرة أن تكون نجومها ... من حليها وهلالها خلخالها
عرضت كما مرت بعينك مطفل ... ترعى بناظرك الكحيل غرامها
ما نهنهت نفسي وإن ضمنت لها ... عبراتها يوم الوداع وصالها
من كان يأمل أن يقوم بمجلس ... حطت به شهب السما أثقالها
محا أحاديث السراة أولي النها ... نصاً ويضري في العلى أمثالها
ألقى هواه جانباً وسرى به ... وجنا تدوي في الدجى إعمالها
ومنها في المدح:
ألبست دين الله حلة أمن ... أضفت على اسرايه ذلذالها
أنتم بني نصر نصرتم ملة الإسلام ... حين شكت لكم عذالها
كنتم لها أهلاً ورحبتم بها ... في الغربتين ومنتم إنزالها
نزلت على سعد ليسعد جدها ... وأوت إلى نصر لينصر أليها
أحرزتم يوم السقيفة عودها ... دون الأنام وقودها وسكالها
لكن حبوتم من أجرتم منة ... بخلافة الله التي يعنى لها
إذ تؤثرون سواكم قالت بذا ... آي الكتاب فمن يرد مقالها
حتى إذا عثرت ولم ينهض بها ... إلا كم بادرتم إنشالها
أويتم خير البرية كلها ... ومغيثها ونجاتها وثمالها
من ألبس الشرف الرفيع وضيعها ... وكسا معصفرة الحجا جهالها
من أم في السبع العلى أملاكها ... جبريلها في الغرب أو ميكالها
من أنقذ الغرقى وقد شمل الردى ... هذا الأنام خيارها وحثالها
من فاضت الخيرات من تلقايه ... كالصبح فاض على الدجى فأزالها
من فجر العين الفرات بكفه ... يرو الورى ورد القطا سلسالها
من لا يقاس بالرياح إذا سرت ... نشراً تقل من السحاب ثقالها
معنى وجود الكون علة كونه ... نفس الحياة منفساً أهوالها
دامت صلاة الله ديمة عارض ... يهمى عليه ندى الدنا هطالها
لما تحققت النبوة أنها قد ... زلزلت منها الورى زلزالها
وتقاعست عن منعها أعمامها ... أمت أيمة نصرها أحوالها
فوثبتم مثل الليوث لنصرها ... والحرب تجنب خلفها أشبالها
وأدرتم منها زبوناً أصبحت ... ترمي رؤوس الملحدين ثقالها
بدرٌ وما بدرٌ وردم قلبها ... بجنادل الطاغوت تملأ جالها
ولكم بأوطاس وقد حمي الوطيس ... على العدا يوم أطاح بحالها
فنزعتم أزواجها وسبيتم أولادها وسلبتم أموالها
وذهبتم بالمصطفى لدياركم ... وحياً سواكم ساقها وجمالها
فزتم به فوز المعلى منحة ... أحرزتم دون الأنام منالها
يا أيها الملك الذي من ملكه ... جنت الملوك جمالها وجلالها
مازال حزبك منهم يعلو على ... مر الدهور ويعتلي أجبالها
حتى حللت من المجادة ذروة ... ما حل غيرك في المجادة حالها
تحمي الهدى تهمي الندى تولي ... الجدا وتقي الردى وترى العدا أوجالها
قعدت شريعته بيمنك ليس من ... كدر يشين على العباد زلالها
يا سيد السادات يا ملك الملوك ... وشمسها وصباحها وهلالها
يا بدرها يا بحرها أو غيثها أو ... ليثها أو حسنها وجمالها
خذها كما دارت بكأس سلافها ... حوراء تمزج باللما جريالها
تثني على السحر المبين وشاحها ... وتدير من خمر الفتور جلالها
لمياء تبرز للعيون كشاطر ... والعقل يوجب حكمه إجلالها
وقفت وذو إحسانها من هاشم ... من سبط خير العالمين حيالها
يرجو رضاك وطالما أرضيتم ... آل النبي وكنتم أرسالها
كم من يد بيضا لدينا منكم ... شكرنا له وأولياه فعالها
آويتم واسيتم واليتم ... أحللتمونا داركم وجلالها
وهجرتم لوصالنا أعداءنا ... ووصلتم لصلاتنا أوصالها
فصلوا أحياءنا ما استطعتم وصله ... تعطوا من أجزا الجزاء جزالها
وله تأليف غريب عكف عليه عمره في فضل مكة، وكأنه يروم برهاناً على وجوب كونها بالموضع الذي هي به، وفضله على سواه، وتكلم على حروف اسمها، من جهة تناسب أعداد الحروف، مما الناظر فيه مخير في نسبه إلى العرفان أو الهذيان.
وفاتهتوفي بمالقة في أخريات صفر من عام خمسين وسبعماية.
علي بن أحمد الغسانيعلي بن أحمد بن محمد بن يوسف بن مروان بن عمر الغساني من أهل وادي آش، وروى وتردد إلى غرناطة، يكنى أبا الحسن.
حالهكان فقيهاً حافظاً، يقظاً، حسن النظر، أديباً، شاعراً مجيداً، كاتباً بليغاً، فاضلاً.
مشيختهروى عن أبي إسحق بن عبد الرحيم القيسي، وابي الحسن طاهر ابن يوسف، وأبي العباس الخروبي. وأبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس الغرناطي، ومحمد بن علي بن مسرة.
وروى عنه، أبو بكر بن عبد النور، وأبو جعفر بن الدلال، وأبو عبد الله بن أحمد المذحجي، وأبو سعيد الطراز، وابن يوسف وابن طارق، وأبو علي الحسن بن سمعان، وأبو القاسم بن الطيلسان.
تواليفهصنف في شرح الموطأ مصفناً سماه نهج المسالك للتفقه في مذهب مالك في عشرة مجلدات. وشرح صحيح مسلم وسماه اقتباس السراج في شرح مسلم بن الحجاج. وشرح تفريع ابن الجلاب، وسماه الترصيع في شرح مسائل التفريع. وصنف في الآداب، منظوماته ورسايله، وهي شهيرة، شاهدة بتبريزه وتقدمه. وله نظم شمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسالة بديعة، تشتمل على نظم ونثر، بعث بها إلى القبر الشريف. وله كتاب الوسيلة إلى إصابة المعنى في أسماء الله الحسنى.
شعرهمن شعره في الوسيلة، وقد ضمن كل قطعة أو قصيدة إسماً من أسماء الله تعالى، فمنها قوله في اسم الله سبحانه:
قل الله نستفتح من أسمائه الحسنى ... بأعظمها لفظاً وأعظمها معنى
هو الله فادع الله بالله تقترب ... لأقرب قربى من وريدك أو أدنى
وىمله مضطراً وقف عند بابه ... وقوف عزيز لا يصد ولا يثنى
بباب إله أوسع الخلق رحمة ... فلله ما أولى أبر وما أحنى
وقدم من الإخلاص ثم وسيلة ... تنل رتبة العليا والمقصد الأسنى
أمولاي هل للخلق غيرك مفضل ... يصرح عن ذكراه في اللفظ أو يكنى
ببابك مضطر شكا منك فقره ... لأكرم من أغنى فقيراً ومن أقنى
وللفضل والمعروف منك عوايد ... لها الحمد ما أدنى قطوفاً وما أهنى
فمنها لك الإنعام دأباً خوالداً ... تفانى بها الأيام طراً ولا يفنى
وفاتهتوفي شهيداً في ربيع الآخر سنة تسع وستماية .
ابن عز الناسعلي بن صالح بن أبي الليث الأسعد بن الفرج بن يوسف طرطوشي، سكن دانية، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن عز الناس.
حالهكان عالماً بالفقه، حافظاً لمسايله، متقدماً في علم الأصول، ثاقب الذهن، ذكي الفؤاد، بارع الاستنباط، مسدد النظر، متوقد الخاطر، فصيح العبارة، ذا خط مروض.
من روى عنه: روى عنه أبو بكر أسامة بن سليمن، وسليمن بن محمد ابن خلف، ويحيى بن عمر بن الفصيح.
دخوله غرناطةقالوا، واستخلصه الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية أيام إمارته ببلنسية لمشهور معرفته ونباهته، ثم سار معه إلى قرطبة، ولازمه، إلى أن توفي أبو زكريا بن غانية، بغرناطة سنة ثلاث وأربعين. فانتقل إلى شرق الأندلس، واستقر بدانية.
تواليفهوله مصنفات منها كتاب العزلة، ومنها شرح معاني التحية.
ولد بطرطوشة سنة ثمان وخمسماية، وتوفي بدانية. قتل مظلوماً بإذن ابن سعد الأمير في رمضان سنة ست وستين وخمسماية.
علي بن أبي جلا المكناسييكنى أبا الحسن.
حالهكان شيخاً ذكياً، طيب النفس، مليح الحديث، حافظاً للمسايل الفقهية، عارفاً لها، قايماً على كتاب المدونة، تفقه بالشيخ أبي يوسف الجزولي، وعليه اجتهد في مسايل الكتاب. وكان مضطلعاً بمشكلاته. حسن المذاكرة، مليح المجلس أنيسه، كثير الحكايات، إلا أنه كان يحكي غرايب شاهدها تملحاً وأنساً، فينمقها عليه الطلبة، وربما تعدوا ذلك إلى الافتعال على وجه المزاح والمداعبة، حتى لجمعوا من ذلك كثيراً في جزءٍ سموه بالسلك المحلا في أخبار ابن أبي جلا. فمن ذلك ما زعموا أنه حدث بأنه كانت له هرة، فدخل البيت يوماً، فوجدها قد بلت أحد كفيها، وجعلته في الدقيق حتى علق به، ونصبته بإزاء كوة فأر في الجدار ورفعت اليد الأخرى لصيده، فناداها باسمها، فردت رأسها، وجعلت أصبعها في فمها على هيئة المشير بالصمت. وأشباه ذلك كثير.
وفاتهفي حدود ستة وأربعين وسبعماية.
علي بن سمحون الهلاليعلي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن علي بن سمحون الهلالي يكنى أبا الحسن.
حالهكان شيخاً جليلاً، فقيهاً، عارفاً، نبيلاً، نبيهاً، ذا مروءة كاملة، وخلق حسن، من بيت حسب وعلم ودين. قال أبو القاسم الملاحي، حدثني صاحبنا الفقيه الخطيب أبو جعفر بن حسان، قال كنت أجاوره في بعض أملاكي، وكان له ملك يلاصقني، أتمنى أن أكتسبه، فينتظم لي به ما هو مفترق، فوافقته ذات يوم في القرية، فسألته المعاوضة به، وخيرته في مواضع في أرضي، فضحك مني، وقال لي أنظر في ذلك إن شاء الله. ثم إنه وجه لي بعد ذلك بأيام يسيرة، بعقد يتضمن البيع وقبض الثمن مني، فخجلت منه، وراودته في أخذ الثمن فأبى وقال لي هذا قليل في حقك، وكان قد لقي شيوخاً أخذ عنهم، وكانت له كتب كثيرة.
وفاتهتوفي بالمنكب صبح اليوم السادس من رمضان عام ستة وتسعين وخمسماية. ولست أحقق أهو القريب أو سلفه، وعلى كلا التقديرين، فالفضل حاصل.
الصغيرعلي بن محمد بن عبد الحق الزويلي يكنى أبا الحسن، ويعرف بالصغير، بضم الصاد وفتح الغين والياء المشددة
حاله
من المؤتمن. كان هذا الرجل قيماً على التهذيب للبرادعي، حفظاً وتفقهاً، يشارك في شيءٍ من أصول الفقه، يطرز بذلك مجالسه، مغرباً به بين أقرانه من المدرسين في ذلك الوقت، لخلوهم من تلك الطريقة بالجملة. حضرت مجلس إقرايه، وكان ربعةً آدم اللون، خفيف العارضين، يلبس أحسن زي صنعة، وأحسن ما فيه ليس بحسن. وكان يدرس بجامع الأصدع من داخل مدينة فاس، ويحضر عليه نحو مائة نفس، ويقعد على كرسي عال ليسمع البعيد والقريب، على انخفاض كان في صوته، حسن الإقراء، وقوراً فيه، سكوناً، مثبتاً، صابراً على هجوم طلبة البربر، وسوء طريقتهم في المناظرة والبحث، وكان أحد الأقطاب الذين تدور عليهم الفتوى أيام حياته، ترد عليه السؤالات من جميع بلاد المغرب، فيحسن التوقيع على ذلك. على طريقة من الاختصار وترك فضول القول. ولي القضاء بفاس. قدمه أبو الربيع سلطان المغرب وأقام أوده، وعضده، فانطلقت يده على أهل الجاه، وأقام الحق على الكبير والصغير، وجرى من العدل على صراط مستقيم. ونقم عليه اتخاذ شمام يستنشق على الناس الخمر، ويحق أن ينتقد ذلك.
مشيختهأخذ عن الفقيه راشد بن أبي راشد الوليدي وانتفع به، وعليه كان اعتماده. وأخذ عن صهره أبي الحسن بن سليم، وأبي عمران الجورماني، وعن غيرهم. وقيدت عنه بفاس على التهذيب وعلى رسالة أبي زيد، قيدها عنه تلاميذه وأبرزوها تأليفاً كأبي سالم بن أبي يحيى.
وفاتهوفاته يوم الثلاثاء السادس لرمضان عام تسعة عشر وسبعماية، ودخل غرناطة لما وصل رسولاً على عهد مستقضية رحمهما الله.
علي بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن يحيى الغافقي سبتي ساري الأصل، انتقل منها أبوه سنة اثنتين وستين وخمس ماية، يكنى أبا الحسن، ويشهر أهل بيته في سارة بني يحيى.
حالهمن التكملة. كان محدثاً راوية مكثراً، عدلاً ثقة، ناقداً، ذاكراً للتواريخ وأيام الناس، وأحوالهم وطبقاتهم، قديماً وحديثاً، شديد العناية بالعلم، والرغبة فيه، جاعلاً الخوض فيه، مفيداً ومستفيداً، وظيفة عمره، جماعة للكتب، منافساً فيها، مغالياً في أثمانها، وربما أعمل الرحلة في التماسها، حتى اقتنى منها بالإبتياع والإنتساخ كل علق نفيس. ثم انتقى منها جملة وافرة فحبسها في مدرسته، التي أحدثها بقرب باب القصير، أحد أبواب بحر سبتة، وعين لها من خيار أملاكه، وجيد رباعه، وقفاً صالحاً. سالكاً في ذلك طريقة أهل المشرق، وقعد بها بعد إكمالها لتروية الحديث وإسماعه، في رجب خمس وثلاثين وستماية، وكثر الأخذ بها عنه، واستمر على ذلك مدة. وكاىن سري الهمة، نزيه النفس، كريم الطبع، سمحاً، مؤثراً، معاناً على ما يصدر عنه من المآثر الجليلية، ونبل الأغراض السنية، بالجدة المتمكنة، واليسار الواسع. وكان سنياً، منافراً لأهل البدع، محباً في العلم وطلابه، سمحاً لهم بأعلاق كتبه، قوي الرجاء في ذلك. ومما يؤثر عنه من النزاهة، أنه لم يباشر قط دنيراً ولا درهماً، إنما كان يباشر ذلك وكلاؤه اللايذون به.
مشيختهروى عن أبوي الحسن أبيه والتجيبي، وأبي الحسن بن عطية بن غازي، وأبي عبد الله محمد بن عيسى، وابن عبد الكريم، وابن علي الكتاني، وابي إسحق الشقوري، وابوي بكر بن الفصيح، ويحيى بن محمد بن خلف البوريني، وأبي الحسن بن خروف النحوي، وابن عبيدس، وابن جابر، وابن جبير، وابن زرقون، وابن الصايغ، وأبي بكر بن أبي ركب، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي العباس القوراني، وأبي القاسم عبد الرحيم ابن الملجوم، وأبي محمد الحجري وأكثر عنه، وابن حوط الله، وابن محمد بن عيسى التادلي، وعبد العزيز بن زيدان، ويشكر بن موسى ابن الغزلقي هؤلاء، وأخذ عنهم بين سماع وقراءة، وأكثرهم أجازه أو كتب إليه مجيزاً. ولم يلقه أبو جعفر بن مضاء، وأبو الحسن بن القطان ونجبه، وأبو عبد الله بن حماد، وابن عبد الحق التلمساني، وابن الفخار، وأبو القاسم السهيلي، وابن حبيش، وأبو محمد عبد المنعم ابن الفرس. واستجاز بآخرة مكثراً من الاستفادة، أبا العباس بن الرومية، فأجاز له من إشبيلية.
من روى عنه: روى أبو بكر أحمد بن حميد القرطبي، وأبو عبد الله الطنجالي، وابن عياش، وأبو العباس بن علي الماردي، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران، وأبو محمد عبد الحق بن حكيم. وحدث بالإجازة عنه، أبو عبد الله بن إبراهيم البكري العباسي.
محنته ودخوله غرناطةغربه أمير سبتة اليانشتي الملقب بالواثق بالله . غاصاً به لجلالته وأهليته، وكونه قد عرضت عليه فأباها، فدخل الأندلس في شعبان عام أحد وأربعين وستماية، فنزل ألمرية وأقام بها إلى المحرم من سنة ثمان وأربعين، وأخذ عنه بها عالم كثير. ثم انتقل إلى مالقة في صفر من هذه السنة ودخل غرناطة، فأخذ عنه جميع طلبتها إلا النادر.
قال الأستاذ أبو جعفر الزبير، وقرأت إذ ذاك عليه، وكان يروم من مالقة، الرجوع إلى بلده، ويحوم عليه، فلم يقض له ذلك، وأقام بها يؤخذ عنه العلم، إلى أن أتته منيته.
مولدهبسبتة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان إحدى وسبعين وخمسماية.
وفاتهتوفي بمالقة ضحوة يوم الخميس لليلة بقيت من رمضان تسع وأربعين وستماية. نفعه الله بشهادة الموت غريقاً.
ابن قطرالعلي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن أحمد الأنصاري فاسي المولد، أصله منها قديماً، ومن مراكش حديثاً، يكنى أبا الحسن ويعرف بابن قطرال.
حالهكان ريان من الأدب، كاتباً بليغاً دمث الأخلاق، لين الجانب، فقيهاً حافظاً، عاقداً للشروط، مقدماً في النظر فيها، كتب طويلاً عن قاضي الجماعة بمراكش، أبي جعفر بن مضاء، ثم عن أبي القاسم بن بقي، واسن ممتعاً بحواسه.
مشيختهروى عن أبوي بكر بن الجد، وابن أبي زمنين، وأبي جعفر بن يحيى ولازمه كثيراً. وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبوي الحسن بن كوثر ونجبه، وأبي الحسن يحيى بن الصائغ، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي عبد الله بن حفص، وابن حميد، وابن زرقون، وابن سمادة الشاطبي، وابن عروس، وابن الفخار، وأبي العباس، وابن مضاء، ويحيى المجريطي، وأبي القاسم بن بقي، وابن رشد الوراق، وابن سمحون، وابن غالب، وابن جمهور، وابن حوط الله، وعبد الحق بن بونة، وعبد الصمد. وروى عنه إبناه أبو عبد الله وأبو محمد، وأبو عبد الله بن الأبار، وأبو محمد بن برطلة، وأبو محمد بن هارون الطائي، وأبو يعقوب بن عقاب.
قال ابن عبد الملك، وحدثنا عنه من شيوخنا أبو الحجاج بن حكم، وأبو الحسن الرعيني، وأبو الطيب صالح بن شريف، وأبو القاسم العزفي.
محنتهوامتحن بالأسر، وهو قاض بأبدة، حين تغلب العدو الرومي عليها أثر وقيعة العقاب وذهب لأجل ذلك أصول سماعه، وافتك بمشاركة الوزير أبي سعيد بن جامع، ويسر الله عليه، فثاب جاهه، واستقام أمره، وقدم للقضاء بمواضع نبيهة.
دخوله غرناطةقال، دخل غرناطة، وأقام بها، وقرأ على أبي محمد عبد المنعم بن الفرس، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي عبد الله بن عروس.
ولد بفاس سنة ثنتين وستين وخمسماية. وتوفي عفا الله عنه يوم الإثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى عام أحد وخمسين وستماية بمراكش.
إنتهى اختصار السفر العاشر بحمد الله تعالى يتلوه،
ومن السفر الحادي عشر ترجمة الطاريين في ترجمة العمال والأثرا. والحمد لله رب العالمين
ومن السفر الحادي عشر من ترجمة الطاريين في ترجمة العمال والأثرا
عمر بن علي بن غفرون
الكلبي
من أهل منتفريد.حالهكان شيخاً مخوشن الظاهر بدويه، سريع الجواب، جلداً على العمل، صليباً وقاحاً. له ببلده نباهة، وخصل من طلب وخطٍّ وحساب. أم ببلده، وانتقل إلى الحضرة عند انتزاء ثغره، وداخل السلطان في سبيل استرجاعه، فنشأت له غمامة رزق ببابه، وأقلته هضبة حظوة، ناطت به ديوان الجيش مدة أيام السلطان، وولي بعده خططاً نبيهة. ثم التأثت حاله وأسن، ومات تحت خمول.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: شيخ خدم، قام له الدهر فيها على قدم، وصاحب تعريض، ودهاء عريض، وفايزٌ من الدولة بأيادٍ بيض، خدم الدولة النصرية ببلده عند انتزاء أهله، وكان ممن استتزلهم من حزنه إلى سهله، وحكم الأمر الغالبي في يافعه وكهله، فاكتسب حظوة أرضته، ووسيلة أرهفته وأمضته، حتى عظم ماله، واتسقت آماله. ثم دالت الدول، ونكرت أيامه الأول، وتقلب من يجانسه، وشقي بكل من كان ينافسه، فجف عوده، والتأثت سعوده، وهلك والخمول يطلبه، والدهر يقوته، من صبابة حرث كان يستغله.
شعرهوله شعر لم يثقفه النظر، ولا وضحت منه الغرر. كتب للسلطان أميرالمسلمين منفق سوق خدمته ومتغمده بنعمته، يطلب منه تجديد بعض عنايته:
يا ملكاً ساد ملوك الورى ... في الحال أو في الأعصر الخالية
العبد لا يطلب شيئاً سوى ... تجديد خط يدك العالية
ومن شعره يخبر عن وداده، ويعلن في جناب الملوك الغالبيين بحسن اعتقاده:
حب الملوك من آل نصر ديني ... ألقى به ربي بحسن يقيني
هو عدتي في شدتي وذخيرتي ... وبه يتحسبني غدا ويقين
حتى أبى الحشر لم أخدم ... سوى أبوابهم بوسيلة تكفين
أرجو نفاد العمر في أيامهم ... من تحت ستر رعاية ترضين
إن كان دهري في نافدى بعدهم ... فالله عز وجل لا يبقين
وسلم في أيام خموله، وانغلق على المتغلب على الدولة أبي عبد الله بن المحروق. وقد احتقره ببابه، وأعرض عن جوابه. فكتب إليه، ولم يرهب ما لديه:
يا من سول وغدا ... في كل يوم مرارا
أردد على سلامي ... ولا تدعه احتقارا
وفاتهقال شيخنا الكاتب، أبو بكر بن شبرين رحمه الله، وفي ذي حجة من عام اربعة وأربعين وسبعمائة توفي الفقيه أبو علي بن غفرون من أهل منتفريد من حصون براجلة غرناطة. قدم قديماً بالباب السلطانية في تنفيذ واجب العسكر الأندلسي وإشراف الحضرة وحفازتها. وكان ميمون النقيبة، وجهاً في الناس فاضلاً، رحمه الله.
ابن البربريعلي بن يحيى الفزاري من أهل مالقة، بربري النسب فزاريه. يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن البربري.
حالهكان من أماثل طريقته عدلاً، وعفافاً، وفضلاً، لين العريكة، دمث الأخلاق، حسن الخط، جيد الشعر، تغلب عليه السلامة والغفلة، تصرف في إشراف مالقة وسواها عمره، محمود الطريقة، حسن السيرة. ومدح الملوك والكبراء.
شعرهمما خاطبني به قوله:
لبابك أم الآملون ويمموا ... وفي ساحتي رحماك حطوا وخيم
ومن راحتي كفيك جداً تهمي ... فتروي عطاش من نداك وتنعم
وأنت لما راموه كعبة حجهم ... إذا شاهدوا مرآك لبوا وأحرم
يطوفون سبعاً حول بابك عندما ... يلوح لهم ذاك المقام المعظم
فيمناك يمن الرعايا ومنةٌ ... ويسراك يسراً للعفاة ومغنم
ولقياك بشر للنفوس وجنة ... تزق بها ورق المنا وترنم
فيا واحد الأزمان علماً ومنصباً ... ومن به الدنيا تروق وتبسم
ومن وجهه كالبدر يشرق نوره ... من جوده كالغيث بل هو أكرم
ومن ذكره كالمسك فض ختامه ... وكالشمس نوراً بشره المتوسم
لقد حزت خصل السبق غير معاند ... فأنت على أهل السباق مقدم
حويت من العلياء كل كريمة ... بها الروض يندى والربى تتبسم
وباهيت أقلام المقام براعة ... فلا قلمٌ ألا يراعك يخدم
وإذا فاخر الأمجاد يوماً فإنما ... لمجدك في حال الفخار يسلم
وإن سكتوا كنت البليغ لديهم ... يعبر عن سر العلى ويترجم
ومنها:
فيا صاحبي نجواي عوجاً برامة ... على ربعه حيث الندى والتكرم
وقولاً له ببابك يرتجي ... قضاء لبانات لديك تتمم
وليس له إلا علاك وسيلة ... ولا شيىء أسمى من علاك وأعظم
فجد بالذي يرجوه لمنك فما له ... كعقدٍ ثمين من ثنايك ينظم
بقيت ونجم السعد عندك طالع ... يضيء له بدرٌ وتشرق أنجم
وقال مراجعاً القاضي أبا عبد الله بن غالب رحمه الله:
وما كنت عن ذكر الأحبة سالياً ... ولا عن هوى بيض الدما برغيب
فلما أتتني رقعة بلبلية ... شغلت بها عن منزلٍ وحبيب
وقبلتها ألفاً وقلت لها ... أنعمي صباحاً وممسى بالقبول وطيب
فيا حسن خطٍّ جاء من عند بارع ... ويا سحر لفظٍ من كلام أديب
وإن قريضاً لم يحكه ابن غالب ... لخلو من الآداب غير عجيب
وفاتهبمالقة في الطاعون عام خمسين وسبعمائة.
الزهاد والصلحاء والصوفية والفقراءعتيق بن مقدم اللخمي عتيق بن معاذ بن عتيق بن معاذ بن سعيد بن مقدم بن سعيد بن يوسف بن مقدم اللخمي من أهل غرناطة يكنى أبا بكر، الشيخ الصوفي،
حالههذا الرجل فذ الطريقة في الخصوصية والتخلي، وإيثار الانقطاع والعزلة، طرفة في الوقار والحشمة. نشأ بغرناطة وطلب بها، وكتب بألمرية عن بعض ولاة قصبتها، وعني بمطالعة أقوال الصوفية، فآثر طريقهم، وعول عليه، وتجرد وترك التسبب، والتزم منزله، بحيث لا يريمه إلا لصلاة الجمعة في أقرب محالها وإليه، نظيف البزة، حسن السمت، مليح الترتيب والظرف، طيب المجالسة، طلعة متعة، إخباري، يصل ماضي الزمان بمستقبله، جليس مصلى، ومجيل سبحة كثير الزوار، ممن يلتمس الخير، وينقر عن أهله، محظوظ المجلس خفي بالوارد، ذاكر، مأثرة من مآثر بلده.
مشيختهأخذ عن الخطيب الصالح ولي الله أبي عبد الله الطنجالي، والخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد، والأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط، والخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، والشيخ الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار الأركشي نزيل مالقة، والوزير الراوية أبي عبد الله ابن ربيع الأشعري، والعدل الرواية أبي الحسن بن مستقور ، والأستاذ المقري أبي جعفر الجزيري الضرير، والخطيب أبي عبد الله بن الخشاب، والخطيب المقري أبي إسحاق بن أبي العاصي، والشيخ والمحدث أبي تمام غالب بن حسن بن غالب الجهاري، والقاضي المسن أبي جعفر الشاطبي، والقاضي المحدث أبي المجد يوسف بن الحسن بن أبي الأحوص، والأستاذ المحدث أبي القاسم بن جابر، وأخيه المحدث أبي جعفر، والقاضي أبي جعفر بن أبي جبل، والأستاذ الصوفي أبي محمد بن سلمون، والشيخ الشريف أبي الحسن علي بن جمرة بن القاسم الجهني، والأستاذ المقري أبي عبد الله بن بيبش العبدري، والشيخ المكتب أبي عمرو عبد الرحمن بن يشت، والشيخ الراوية المحدث الرحال أبي عبد الله بن جابر الواداشي الملقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين، والخطيبين أبوي الحسن بن فرحون، وابن شعيب، والقاضي أبي الحسن البلوي، والأستاذ المقري.
محنتهناله امتحان من بعض القضاة ببلده حملاً عليه، وإنكاراً لما امتاز به من مثلى الطريقة، أداه إلى سجنه، ومنع الناس عن لقايه. وهو الآن بحاله الموصوفة، قد ناهز السبعين تمر الناس تلتمس بركته، وتغشى لطلب الدعاء خلوته.
القرشيعلي بن علي بن عتيق بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز الهاشمي من أهل غرناطة، ويعرف بالقرشي.
حالهكان رحمه الله على طريقة مثلى حياءً، ووقاراً وصمتاً، وانقباضاً وتخلقاً وفضلاً، عاكفاً على الخير، كثير الملازمة لكسر البيت، مكباً على المطالعة، مؤثراً للخلوة، كلفاً بطريق الصوفية. كتب الشروط لأول أمره، فكان صدراً في الإثبات، وعلماً في العدول، إلى لين الجانب، ودماثة الخلق، وطهارة الثوب، وحسن اللقاء، ورجوح المذهب، وسلامة الصدر. قيد الكثير، ولقي في تشريقه أعلاماً أخذ عنهم. وتقدم خطيباً وإماماً بالمسجد الأعظم في غرناطة، عام أحد عشر وسبعماية، واستمرت حاله، إلى حين وفاته، على سنن أولياء الله الصالحين.
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ولازمه وتأدب به، وتلا عليه بالقراءات السبع، وسمع كثيراً من الحديث، وعلى الخطيب الولي أبي الحسن بن فضيلة، والشيخ الخطيب أبي عبد الله بن صالح الكناني. سمع عليه الكثير. قال أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطلة:
أسلمني للبلاء وحيداً ... من هو في ملكه وحيد
قضا علي الفناء حتماً ... فلم يكن عنه لي محيد
وكيف يبقى غريق نزى ... فذاته أولاً صعيد
يعيد أحواله إليه ... من نعته المبدي المعيد
وأخذ عن الشيخ الراوية المحدث أبي محمد بن هرون الطايي، والشيخ الراوية المعمر أبي محمد الخلاسي، والشيخ الشريف تاج الدين أبي الحسن العرامي، والشيخ المحدث الإمام شرف الدين أبي محمد عبد المؤمن الدمياطي، والشيخ رضي الدين الطبري، والمحدث الحافظ فخر الدين التودري الميكالي. قال، وأنشدني من لفظه بالحرم الشريف لشيخه الإمام أبي الحسن الخزرجي:
عن أهيل المنحنى لا أصبر ... فاعذلوني فيهم أو فاعذروا
هم أحباب وإن هم عذبوا ... ومناي وصلوا أم هجروا
والشيخ المحدث المفتي بالحرم الشريف رضي الدين محمد بن أبي بكر بن خليل. قال، وأنشدني لبعض شيوخه:
أفي كل وادٍ شاعر ومطيب ... وفي كل ناد منبر وخطيب
نعم كثر الأقوام قلة ناقد ... لهم فتساوى مخطىء ومصيب
والشيخ المحدث الإمام أنس الدين بن الإمام قطب الدين القسطلاني، والأديب الواعظ نفيس الدين بن إبراهيم اللمطي. قال وأنشدني إجازة عن الشيخ الإمام شرف الدين أبي الفضل السلمي المرسي من قصيدة:
إذا جيت ألقي عند بابك حاجباً ... محياه من فرط الجهامة حالك
ومن عجيب مغناك جنة قاصد ... وحاجبها من دون رضوان مالك
والشيخ الإمام تقي الدين بن دقيق العيد، وأبي العباس بن الظاهري، ومحيي الدين بن عبد المنعم، ومحمد بن غالب بن سعيد الجياني، والخطيب الجليل أبي عبد الله بن رشيد من أهل المغرب. وكتب له الشريف أبو علي الحسن بن أبي الشرف، والعدل أبو فارس الهواري، وأبو القاسم بن الطيب، وأبو بكر بن عبيدة، وأبو إسحق الغافقي، وأبو عبد الله الدراج، وأبو الحكم مالك بن المرحل، وأبو إسحق التلمساني، وغيرهم.
تواليفهصنف في التصوف كتاباً سماه مطالع أنوار التحقيق والهداية وكتاباً في غرض الشفا العياضي. ومن شعره، ثبت بظهر الكتاب المسمى بالموارد المستعذبة من تأليف شيخنا أبي بكر بن الحكيم ما نصه:
كتابك ذا من هوته المفاخر ... سنا وسناً راق منه زواهر
لقد جاء كالعقد المنظم ناثراً ... فرايد قسٍّ عنك في ذا قاصر
بلاغته في القوم تشهد عندما ... تشكك فيه أنه عنك صادر
فلله من روض أنيق غصونه ... بما تتمنا فزاه وزاهر
فما شيته تجده فيه فإنه ... لناظره بحر بها هو زاخر
فنهنيكم يابن الألى شاع مجدهم ... قيادكم مجد بذاتك آخر
أتيت بما فيه انبت حياة ... من حوته على مر الدهور المقابر
وأبديت فيه سحر لفظك رائقاً ... تلذ به الأجفان وهي سواهر
ومتعت طرفي فيه لازلت باقياً ... ونحا بك ربي يوم تبلى السراير
وخصك مني بالسلام مردداً ... عليك مدى الدنيا وما طار طاير
مولدهفي حدود سنة سبع وستين وستمايه:
وفاتهفي صفر في عام أربعة وأربعين وسبعماية. وكانت جنازته بالغة أقصى مبالغ الاحتفال، وتزاحم الناس على قبره بما بعد العهد به.
وممن رثاه شيخنا أبو الحسن بن الجياب فقال:
قضى الأمر يا نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر
وعزاءً يا فؤادي إنه حكم ... ملك قاهر مقتدر
حكمة أحكمت تدبيرها ... نحن منها في سبيل السفر
أجل مقدر ليس بمستقدم ... ولا مستأخر
أحسن الله عزاء كل ذي ... خشية لربه في عمر
في إمامنا التقي الخاشع ... الطاهر الذات الزكي السبر
قرشي سليمن مستقي من ... صميم الشرف المطهر
يشهد الليل أنه دايم ... الذكر طويل السهر
في صلاة بعثت وفودها ... زمر المصطفى من مضز
نايماً وراكعاً وساجداً ... لطلوع فجره المنفجر
جمع الرحمن شملنا غداً ... بحبيب الله خير البشر
وتلقته وفود رحمة الله ... تأتي بالرضا والبشر
ابن المحروقعلي بن أحمد بن محمد بن عثمن الأشعري من أهل غرناطة يكنى أبا الحسن. ويعرف بابن المحروق أوليته قد مر ذلك عند ذكر عمه وجده.
حالههذا الرجل شيخ الفقراء السفارة والمتسببة بالرباط المنسوب إلى جده، وهو مقيم الرسم، حاجٌّ رحال، عارف بالبلاد، طواف على كثير من مشاهي ما عرف الإصطلاح. وزار ترب الصالحين. وصحب السفارة، حسن الشكل، أصيل البيت، حافظ للترتيب، غيور على الطريقة، محظوظ العقد، مجانبٌ للإغمار، منافر لأهل البدع، مكبوحٌ عن غلو الصافنة، أنوف، مترفع، كلف بالتجلة، يرى لنفسه الحق ولا يفارق لحظ، خطيب متعاط لمواقف الإطالة، وسرد الكثير من كلام الخطباء عن غير اختيار، يطبق المفصل، ويكافي الغرض المقصود، على شرود عن قانون الإعراب، حسن الحديث، طبقة للرسم الدنيوي، من هذا الفن كثرة، وحسن بزة، ونفاذ أمره، ونباهة بيته، وتعاطياً لنتايج الحلوة.
محنتهقبض عليه المتغلب على الدولة وأزعجه بعد الشقاف في المطبق، إلى مرسي ألمرية، إتهاماً بممالأة السلطان، فامتعض له من أهل مدينة وادي آش، وتبعهم المشيخة على المجاهرة، فاستنقذوه، وكاشفوا المتغلب إذ كانوا على أرقاع الخلاف عليه، وعاجل الأمر تصير الملك لصاحبه، فعاد الشيخ إلى حاله، فهي معدودة عنه من أثر التصريف.
مشيخته
ومن خطه نقلت. قال، ولدت في اليوم الحادي والعشرين لرجب عام تسعة وسبعماية، ولبست الخرقة من يد الشيخ الفقيه الخطيب البليغ الولي الشهير، أبي علي عمر بن محمد بن علي الهاشمي القرشي في أوايل ذي قعدة من عام خمسة وثلاثين وسبعماية. وحدثني بها رحمه الله عن الشيخ الزاهد أبي محمد الخلاسي عن شرف الأيمة أبي عبد الله بن مسدي عن الشيخ الكبير أبي العباس بن العريف عن أبي بكر عبد الباقي بن برال، عن أبي عمرو الطلمنكي، عن أبي عمرو بن عون الله وأبي علي الحسن بن محمود الجرجاني عن أبي سعيد بن الأعرابي، عن أبي محمد سالم محمد بن عبد الله الخراساني، عن الفضل بن عياض، عن هشام بن حسان ويونس بن عبيد، عن أبي الحسن بن الحسن البصري، عن الحسن البصري، عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ثم رحلت إلى المغرب، طالباً في لقاء أهل الطريقة راغباً، فلقيت به من أعلام الرجال جملة يطول ذكرهم، ولا يجهل قدرهم. ولما توجهت إلى المشرق، لقيت به أعلاماً وأشياخاً كراماً، لم طرق سنية، وأحوال سنية، أودعت ذكرهم هذا طلباً للاختصار، وخوفاً من سآمة الإكثار، وكان اعتمادي فيمن لقيت منهم في أيام تجريدي واجتهادي، بعد إيابي من قضاء أربي، من حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي، عليه الصلاة والسلام، على من بهديه أستنير، واعتمد عليه فيمن لقيت وصحبت، وإليه أشير سيدي الشيخ الكبير الجليل الشهير وحيد عصره وفريد دهره، جمال الدين أبو الحجاج الكوراني جنساً، والتميمي قبيلة، والكلوري مولداً، والسهروردي خرقةً وطريقة ونسبة، وهو الذي لقنني، وسلكت على يده، وقطعت مفاوز العزلة عنده، مع جملة ولده. وحدثني رضي الله عنه أنه لقنه الشيخ الفقيه العارف أبو علي الشمشري هو والشيخ الإمام نجم الدين الإصبهاني، والشيخ نجم الدين، والشيخ بدر الدين الطوسي، لقنا الفقيه محسناً المذكور، والشيخ بدر الدين، لقنه الشيخ نور الدين عبد الصمد النصيري، والشيخ عبد الصمد، لقنه الشيخ نجيب الدين بن مرغوش الشيرازي، والشيخ نجيب الدين لقنه الشيخ شهاب الدين السهروردي، والشيخ شهاب الدين، لقنه عمه ضياء الدين أبو الحسن السهروردي، والشيخ ضياء الدين فرج الزنجاني. والشيخ فرج الزنجاني، لقنه أبو العباس النهاوندي، والشيخ أبو العباس، لقنه أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي، والشيخ أبو عبد الله لقنه أبو محمد رديم، والشيخ أبو محمد لقنه أبو القاسم الجنيد، والشيخ أبو القاسم لقنه سري السقطي، والشيخ سري لقنه معروف الكرخي، والشيخ معروف لقنه داود الطائي، والشيخ دواد لقنه حبيب العجمي، والشيخ حبيب لقنه الإمام الحسن البصري، والشيخ الحسن لقنه الإمام علي بن أبي طالب. ولبست الخرقة من يد الشيخ أبي الحجاج المذكور بسند التلقين المذكور إلى أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه إلى جعفر الحذا، إلى أبي عمر الإصطخري، إلى شفيق البلخلي، إلى إبراهيم ابن أدهم. إلى موسى بن زيد الراعي، إلى أبي يس القرني، إلى أميري المؤمنين عمر وعلي رضي الله عنهما، ومنها إلى سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم، وذلك في أوايل عام ثلاثة وأربعين وسبعماية. وقد الفت كتاباً جمعت فيه بعض ما صدر من أورادي، أيام تجريدي واجتهادي، محتوياً على نظم ونثر، مفرغاً عن كلام الغير، إلا مقطوعة واحدة لبعض المتصوفة، فإني سقتها على جهة لكونها غاية في الاحتفال وهي:
قل لمن طاف بكاسات الرضا ... وسقى العشاق مما قد نهل
وسميت الكتاب بنكت الناجي، وإشارات الراجي. ولعل ذلك يكون اسماً وافق مسماه، ولفظاً طابق معناه، وإلى ما ذكرت من النكت، أشرت بما نظمت فقلت:
في كل واحدة منهن أسرار ... لا تنقضي ولها في اللفظ أسرار
إن رمت حصر معانيها بما سمعت ... أذناك ليس لها بالسمع إخصار
فاصحب خبيراً بما يرضى الحجاب ... ستارها وكذلك الحر ستار
ولعله يكون إن شاء الله كما ذكرته، وأعرف بما أنشدته.
ولي جملة قصائد وأزجال منظومة على البديهة والارتجال، نطق بها لسان المقال، معرباً عما وجدته في الحال، قصدت بها الدخول مع ذلك الفريق، وأودتها غوامض أسرار التحقيق. فمن بعض نكت الكتاب، ما يعجب منه ذوو الألباب، نكتة سر الفقير، يشير إليه بجميع الكائنات، فلا حديث معجم، ولا موجود مبهم، فهو إذا يتكلم دون حده وبلسان وجده، والفقيه يتكلم فوق قدره وبلسان غيره، وهذا ما حضرتي في الوقت، مع مزاحمة الشواغل، فتصفحوا، واصفحوا، وتلمحوا واسمحوا. ولكم الفضل في قبول هذه العجالة واليسير من هذه المقالة. انتهى.
ومن الطاريين
علي بن عبد الله النميري
الششتري
عروس الفقراء، وأمير المتجردين وبركة الأندلس، لابس العباءة الخرقة أبو الحسن. من أهل ششتر، قرية من عمل وادي آش معروفة . وزقاق الششتري معروف بها. وكان مجوداً للقرآن، قايماً عليه، عارفاً بمعانيه، من أهل العلم والعمل.حالهقال شيخنا أبو عثمن بن ليون في صدور تهذيبه لرسالته العلمية، الإمام الصوفي المتجرد. جال البلاد والآفاق. ولقي المشايخ، وسكن الربط، وحج حجات، وآثر التجرد والعبادة. وذكره القاضي أبو العباس الغبريني، قاضي بجاية، في كتابه المسمى عنوان الدراية فيمن عرف في المائة السابعة بمدينة بجاية وقال، الفقيه الصوفي الصالح العابد، أبو الحسن الششتري من الطلبة المحصلين ، والفقراء المنقطعين، له علم وعمل بالحكمة، ومعرفة بطريق الصوفية، وله تقدم في النظم والنثر، على طريقة التحقيق. وأشعاره في ذلك، وتواشيحه ومقفياته وأزجاله، غاية في الانطباع. وكان كثيراً ما يجود عليه القرآن. ونظمه في التحقيق كثير.
مشيختهأخذ عن القاضي محيي الدين أبي القاسم محمد بن إبراهيم بن الحسين ابن سراقة الأنصاري الشاطبي، وعن غيره من أصحاب السهروردي صاحب العوارف والمعارف. واجتمع بالنجم بن إسرايل الدمشقي الفقير سنة خمس وستماية. قال ألفيته على قدم التجرد، وله أشعار وأذواق في طريق القوم، وكان من الأمراء وأولاد الأمراء، فصار من الفقراء وأولاد الفقراء، وخدم أبا محمد بن سبعين، وتلمذ له. وكان الشيخ أبو محمد دونه في السن، لكن استمر باتباعه، وعول على ما لديه، حتى صار يعبر عن نفسه في منظوماته وغيرها، بعبد الحق بن سبعين، وبه استدل أصحاب أبي محمد على فضله. ويقال إنه لما لقيه يريد المشايخ، إن كنت تريد الجنة، فصر إلى الشيخ أبي مدين، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم. ولما مات الشيخ أبو محمد، انفرد بعده بالرياسة والإمامة على الفقراء والمتجردين والسفارة، وكان يتبعه في أسفاره ما ينيف على أربع ماية فقير، فيقسمهم الترتيب في وظايف خدمته.
كراماتهقالوا، نادى يوماً وهو مع أصحابه في برية، يا أحمد، فقال أحدهم، ومن هذا، فقال تسرون به غداً. فلما وردوا من الغد قابس، وجدوا أحمد قد جاء من الأسر، فقال صافحوا أخاكم المنادى بالأمس.
قالوا، ودخل عليه ببجاية، أبو الحسن بن علال من أمنايها، وهو يذكر في العلم، فأعجبته طريقته، فنوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين دنيراً. ثم ساق شطرها، وحبس الباقي ليزودهم به، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه أبو بكر وعمر، فقال ادع لي يا رسول الله، فقال لأبي بكر أعطه، فأعطاه نصف رغيف كان بيده، فقال له الشيخ في الغد لو أتيت بالكل، لأخذت الرغيف كله.
تواليفهله كتاب العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم. وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته. وله المقاليد الوجودية في أسرار إشارات الصوفية. وله الرسالة القدسية في توحيد العامة والخاصة. والمراتب الإيمانية والإسلامية والإحسانية. والرسالة العلمية، وغير ذلك.
دخوله غرناطةدخلها ونزل برابطة العقاب، وتكرر إليها، إذ بلده من عمالتها
شعرهمن ذلك قوله:
لقد تهت عجباً بالتجرد والفقر ... فلم أندرج تحت الزمان ولا الدهر
وجاءت لقلبي نفحةٌ قدسية ... فغبت بها عن عالم الخلق والأمر
طويت بساط الطون والطي نشره ... وما القصد إلا الترك للطي والنشر
وغمضت عين القلب عن غير مطلق ... فألفيتني ذاك الملقب بالغير
وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة ... ونزهت من أعني من الوصل والهجر
وما الوصف إلا دونه غير أنني ... أريد به التشبيه عن بعض ما أدر
وذلك مثل الصوت أيقظ نايماً ... فأبصر أمراجل عن ضابط الحصر
نقلت له الأسماء تبغي بيانه ... فكانت له الألفاظ ستراً على ستر
ومن شعره أيضاً قوله في الغرض المذكور:
من لامني لو أنه قد أبصرا ... ما ذقته أضحى به متحيرا
وغدا يقول لصحبه إن أنتم ... أنكرتم ما بي أتيتم منكرا
شذت أمور القوم عن عاداتهم ... فلأجل ذاك يقال سحر مفترا
ومن شعره القصيدة الشهيرة ولها حكاية:
أرى طالباً منا الزيادة لا الحسنى ... بفكر رمى سهماً فعدى به عدنا
وطالبنا مطلوبنا من وجودنا ... يغيب به لدى الصعق إن عنا
تركنا حظوظاً من حضيض لحواطتنا ... إلى المقصد الأقصى إلى المقصد الأسنا
ولم نلف كون الكون إلا توهماً ... وليس بشيءٍ ثابت هكذا ألفينا
فرفض السوا فرض علينا لأننا ... أناس بمحو الشرك والشرك قد دنا
ولكن كيف السبيل لرفضه ... ورافضه المرفوض نحن وما كنا
فيا قابلاً بالوصل والوقفة التي ... حجبت بها اسمع وارعوي مثل ما أبنا
تبدت لك الأوهام لما تداخلت ... عليك ونور العقل أورثك الشجنا
وسمت بأنوار فهمنا أصولها ... ومنبعها من أين كان فما سمنا
وقد تحجب الأنوار للعقل مثل ما ... تبعد من إظلام نفس حوت ظعنا
وأتى دجال في القضية يدعي ... وأكمل من في الناس لمن صدع الأمنا
فلو كان سر الله يلحق هكذا ... لقال لنا الجمهور ها نحن ما خبنا
وكم دونه من فتنةٍ وبليةٍ ... وكم بهمةٍ من قبل ذلك قد جبنا
وكل مقام لا تقم فيه إنه حجاب ... فجد السير واستنجد العونا
ولا تلتفت في السير وكل ما ... سوى الله غيرٌ فاتخذ ذكره حصنا
ومهما ترى كل المراتب تجتلي ... عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا
وقل ليس لي في غير ذلك مطلب ... فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنا
وسر نحو أعلام اليمين فإنها ... سبيلٌ بها يمنٌ فلا تترك اليمنا
أمامك هول فاستمع لوصيتي ... عقال من العقل الذي منه قد تبنا
أيام الورى بالمشكلات وقبلهم ... بأوهامه قد أهلك الخر والبنا
محجتنا قطع الحجا وهو حجنا ... وحجتنا شلوه ها بها همنا
ثبتنا عند الصعود لأنه ... يود لأنا للصعيد قد أخلدنا
تلوح لنا الأطواق منه ثلاثة ... كرآ هربن ورؤية ما قلنا
ويظهر باسمه للسر والنفس مدبراً ... وعقلاً وخيراً مقبلاً عندما يدنا
ولوح إذا لاحت سطور كتابنا ... له فيه وهو النون فالقلم الأدنا
وعرش وكرسي وبرج وكوكب ... وحشىً لجسم الكل في وصفه حزنا
تمر خطوط الذهن عند التفاتنا ... حاطته القصوى التي فيه أحضرنا
مقطعٌ بالأزمان للدهر مثل ... يكيف للأجسام من نحلته أينا
أقام دوين الدهر مدرة ذاته ... ونحن ونفس الكل في بحره عمنا
وفتق للأملاك جوهره الذي ... يشكله سر الحروف فحرفنا
يفرق مجموع القضية ظاهراً ... ويجمع فرقاً من تداخله فزنا
وعدد شيئاً لم يكن غير واحد ... بألفاظ أسمايها شتت المعنا
ويعرج والمعراج منه ذواته ... لتطويره العلوي بالوسم أسرينا
فليفل سفلياً ويوهم أنه ... لسفليه المجهول بالذات أسبطنا
يقدر خصلاً بعد وصل لذاته ... وفرض مسافات يجد لها الذهنا
يحل لها طور المغبة شكله ... وإن لمعت فيه فيلحقه المفنا
ويلحقه بالشرط من مثنوية ... يلوح بها وهو الملوح والمبنا
فنحن كدود القز يحصرنا الذي ... صنعنا بدفع الحصر سجناً لنا منا
فكم واقفٍ أردى وكم ساير هذا ... وكم حكمة أبدى وكم مملق أغنا
وتيم أرباب الهرامس كلهم ... وحسبك من سقراط أسكنه الدنا
وجرد أمثال العوالم كلها ... وأبدى لأفلاطون في المثل الحسنا
وهام أرسطو حتى مشى من هيامه ... وبث الذي ألقى إليه وماضنا
فكان لذي القرنين عوناً على الذي ... تبدا به وهو الذي طلينه العينا
ويفحص عن أسباب ما قد سمعتم ... وبالبحث غطى العين إذ رده عينا
وذوق للحلاج طعم اتحاده ... فقال لنا من لا يحبط به معنا
فقال له ارجع عن مقالك قال لا ... شربت مداماً كل من ذاقها غنا
وانطق للشبلي بالوحدة التي ... أشار بها لما محا عنده الكونا
أقام لذات الصغرى لنا حولها ... يخاطب بالتوحيد إذ رده خدنا
وكان خطا بابين ذاتين من يكن ... فقيراً يرى البحر فيه قد عمنا
فاصمت للحسنى تجريد خلقه ... مع الأمر إذا صحت فصاحته لكنا
تثنى قضيب البان من سكر خمره ... وكان كمثل العمر لكنه ثنا
وقد شذ بالشوذى عن ثوبه ... فلم يمل نحو أحوازٍ ولا سكن الدنا
وأصبح فيه السهر وردي حايراً ... يصيخ لما يلقى الوجود له أذنا
بعمر بن الفارض الناظم الذي ... تجرد للأسفار إذ سهل الحزنا
ولابن قسي خلع نعلي وجوبٍ ... وليس أخاً طلب من المجد قد تبنا
أقام على ساق المسرة نحله ... لمن زمن الأسرار فاستمطر المزنا
ولاح سنى برق من القرب للسنى ... لنجل ابن سينا الذي ظن ما ظنا
وقد قلد الطوسي بما قد ذكرته ... ولكنه نحو التصوف قد حنا
ولابن طفيل وابن رشد تيقظٌ ... رسالة يقظان اقتضت فتحه الجفنا
كسا لشعيب توب جمعٍ لذاته ... فجر على حساده الذيل والودنا
وعنه طوق الطابي بسبط كنانه ... بدسكرة الخلاع إذا ذب الوهنا
تسمى برفع الروح صبراً ولم ... يبل ما يهز نداً في المقام ولا قرنا
وباح به نجل الحر إلى عندما ... رأى كتمه ضعفاً وتلويحه غينا
وللأموي النظم والنثر في الذي ... ذكرنا وإعرابٌ كما عنه أعربنا
وأظهر منه الغافقي لما خفا ... وكشف عن أطواره الغيم والدجنا
وبين أسرار العبودية التي ... عن إعرابها لم ترفع اللبس واللحنا
كشفنا غطاءً من تداخل سرها ... فأصبح ظهراً ما رأيتم له بطنا
هوانا الدين الحق من قد تولهت ... لقربه ألبابنا وله هدنا
فمن كان يبغي السير للجانب الذي ... تقدس لازباً خذه عنا
وهذه القصيدة غريبة المنزع، وإن لم تخل عن شذوذ من جهة اللسان، وضعفٍ في الصناعة، أشار فيها إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة. وكأنها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقايه حسبما قدمنا، إذ الحسنى الجنة، والزيادة مقام النظر، فقوله أرى طالباً منا الزيادة لا الحسنى، إشارة إلى ذلك والله أعلم. والغافقي الذي ختم به هو شيخنا أبو محمد، وهو مرسي الأصل غافقية، رحم الله جميعهم، ونفعنا بأولي الحظوة لديه.
نثره
وكلامه حسن، ومقاصده غريبة، رضي الله عنه، ونفع به. كتب إليه الشيخ الصوفي أبو علي بن تادررت لما سافر ولم يودعه، وكان قد قال له، أغيب عنكم أياماً قلائل، وأعود إن شاء الله فأبطأ عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الله وحده فقط ليس إلا وصلواته على ملإه المقرب الأعلى، وعلى سيدهم الخاتم محمد وآله الهداة، وسلامه الحق يخص العليم بسره، في عالم الفرق، ورحمته وبركاته، من أخيه حقيقة في العوالم الأول، لا في عالم العلم الحق، من حيث هو موضوعه بحسب الإضاية، بمنزله من مدينة بنى مدار عمرها الله وأرشدهم، وليس إلا أنى نعتبكم عرفاً وعادةً، لسفركم دون موادعة، بخلاف سيرتكم الأولى من المشرق الأقصى، إلى المغرب الأقصى، وأما بكون حقيقة الأمر الموحد فلا عتب، بل نقرأ على الماهية سورة الإخلاص، التي توحيدها المحض أحاط وأحصى. ثم وعدتم أنكم ولابد لا تطول إقامتكم ببجاية كلأها الله، إلا ليال قليلة العدد، تأخذون فيها كتبكم وتنفصلون قافلين في أسرع أمد. ثم ظهر غير ذلك من الإقامة إلى هذه المهلة، التي نبا كما عندنا الزمان. وقد ورد من أناس بالتواتر، أنكم ولابد تصومون هنالك رمضان المعظم على الأمان، فقلنا لحظ البشرية الحيوانية. وعلمنا أن الأمر ليس سراً لأجل القضايا الحكمية الطلبية، والمقادير العلمية السرية. ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يسل عما يفعل، وهم يسئلون في دهره وزمنه، يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب. ولكنا أيضاً نقرأ، والله لا يخلف الميعاد. وقد يكون غير الوفاء بالعهد في الخلف لمصالح فيها وعد الله، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، والله يفعل ما يشاء. ولا تكن معترضاً. فلا تلوم إلا بحسب فرقنا الأول. وأما من حيث الكمالات الثواني والأول، فلا لوم ولا عتب، لرفع المثنوية، وإحالة الكثرة والإضافة، حتى ليس إلا الوحدة العلمية المعنوية العلية. وبالجملة الله معكم. ولن يتركم أعمالكم فإن ما يرفع العمد والعماد. قال الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون، وهو معكم أينما كنتم، والله عليم بما تصنعون. والرغبة إلى ذاتكم الكاملة الوجودية، ذات الكمالات العلمية القدسية، أن تعجلوا لي، إذ وأنتم مقيمون هنالك.
وأين يجد في عليين غرفة ... وإن شغلتم عن نسخها
والحق لا يشغله شأن عن شأن، فوجهوا إلي بها بعض الفقراء والإخوان، وأنا أقسم عليك في ذلك يا أخي وسيدي فقط الذي يشغله أبداً سرمداً الله فقط، وأن تعجل لي بذلك، وتحيي مواتي، وتجمع أشتاتي، مع كلام تعتنوا لي به من كلامكم تخصوني به في كراس مبارك، علمني الله العليم الحكيم منكم سر علمه العظيم، وحكمته المحيطة، وكفانا سر هذه العوالم الأرضية المركبة الحطيطة، ونقلنا من البسيطة لغة إلى العوالم الريسة النفيسة البسيطة، ويرقينا به عنها إلى أن نتصل الحظ المنفصل للتدبير بنقطته الأولى، وإن كان في الحقيقة، ما انفصل، ويدخلها حضرة علمنا المحيط الوجودي، الذي ليس وراءها محيط إليه يرقي ويتصل. والسلام الحق محض مظهره ومجلاه ومرآته، ورحمة الله وبركاته.
فراجعه الشيخ أبو الحسن الششتري المترجم به رضي الله عنه بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على النبي محمد، المرسل بالحق لإدحاض الشك، وإيضاح الغلط، الموصل إلى أقرب السبيل للحضرة الآلهية، ومن شطط المختص بجوامع الكلم، المبكت لكل من موه وسفسط، المبعوث بكلمة الإخلاص، التي حاصلها اللها فقط، ورضي الله عن مظهر الوراثة المحمدية في كل زمان، المترجم عن كنز الوجود الذي طلسمه الإنسان، وسلام الله ورحمته على المستمع بأذن أنيته لذلك الترجمان، المتجوهر بمقام الإسلام والإيمان والإحسان، القاري على أخباره المنبعثة في أرض فرقة، كل من عليها فان، بالمعنى الفقير الباطن، للسيار الظاهر، المشير الحايم على سلب الإسمين، الداير على دايرة قاب قوسين. المشهور في العالم الأول، بأبي علي الحسين من خبر ماسية، الوارث الطالب لذاته بها للوصل له. وهو به عنه باحث، المنظور في ذات كمالاته، المنعوث بالوافي لا بالناكث، المعتصم بحبل التحقيق، القايل بالحق، عبده على الششري، ابن إفادتكم عبد الحق بن سبعين، أما قبل من حيث الأصل، ومع من حيث الوصل، وبعد من حيث الفصل، فإني أقسم بالبدر إذا أدبر، والصبح إذا أسفر، أن النصاب واقع من حيث الصور، لا من حبة حقيقة المظهر. فأين هنا أنت أو أنا، أو قبل أو بعد أو هند أو دعد، أو خلف أو وعد، ولابد من المراح في ميدان الخطاب وبيان المتشابه عليكم، المودع عليكم، في هذا التاب. فأول عايق عنكم مرض أحد الأصحاب، ولا انفكاك عند وجود هذه القضية، عند كل طايفة سنية، فما ظنك بالسبعينية، هذا مع وجود وعد مبين، وزمان معين. ونحن لم نعين للموضوع وقتاً، ولو عينا لكبر عند الله مقتاً. وإنما قلنا أيام قلايل، ويدخل في ذلك الجمعة والشهر والعام القابل. بل برزخ العالم وإنايه عند النحرير العاقل. ثم لو عينا يوماً أو يومين أو جمعتين، ولم يكن، فقلب المؤمن بين إصبعين. أما علمت أن الوعد المزعوم المراد منه الذي تتضمنه، صعقه العمود بالبعد أو بالتواني أو بالحواس أو بالمعاني. والمسكر هو الجريال لا الأواني. وأما قضية الوداع، فقد ارتفع بين الفقراء فيها النزاع، ووقع من الصوفية في ذلك الإجماع، أن الاجتماع من غير ميعاد، والافتراق عن غير مشورة، وقول أنه من حيث المذهب لازم بالضرورة، فإن المودع لا يخلق أن يكون من ترية الفرس والسبع، أو في مقام الفردانية والجمع، أو في البرزخ الذي بين المقامين، المعبر عنه عند الصوفية بالفناء. فإن كان في الوترية، فلا أنت ولا أنا، ولا مودع، وقلة العتب لهذا أليق وأطبع. وإن كان في برزخ الفنا، فمن المودع هنا، وإن كان في الفرق هنا. وإن كان في الفرق، فترك المودع أقرب إلى الحق لألم التفرقة، الموجود المحسوس، المعترض عند ذلك للنفوس. واعلم أن الانفصال كان بالطريق عند من يرى بالانفصال والاتصال، ولا نقلة عند ذوي الاتصال. وأما نكرة عرفة فهي عند الشيخ أبي عبد الله التوزري لا عندي، ولو كانت ما ضننت بها بحمد الله لا بحمدي. والسلام على موضوعك ومحمولك وسلوكك ووصولك، وجمعك وفرقك، وعبوديتك وحقك، بل على جملته الصالحة، ورحمة الله وبركاته.
وفاتهقالوا إنه لما وصل بالشام إلى ساحل دمياط، وهو مريض مرضه الذي توفي منه، نزل قرية هناك على ساحل البحر الرومي يصاد فيها السمك، وقال ما اسم هذه القرية، فقيل الطينة، فقال حنت الطينة إلى الطينة، ووصى أن يدفن بمقبرة دمياط، إذ الطينة بالمفازة بالساحل، ودمياط أقرب المدن إليها، فحمله الفقراء على أعناقهم، فتوفي بها يوم الثلاثاء سابع عشر صفر عام ثمانية وستماية، ودفن بمقبرة دمياط.
وفي ساير الأسماء من حرف العين
الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
عامر بن محمد بن علي الهنتاتي
رييس متبوإ قبيلةٍ من جبل درن، ومزوار المصامدة، والمطلقة يده على جباية الوطن المراكشي، يكنى أبا ثابت.حالههذا الرجل حسن الشكل، حصيف العقل، ثابت الجأش، معروف الأمانة والصدق، عفيف الفرج، مؤثر للجد، ماضي الحذر بأهل الحكم، نزيه اليد، مشهور بالرجاحة، عين من عيون الحدود الغربية، وبقيةٌ من بقايا الجلة العلمية، مسدد اللسان للإبانة عن الأغراض، مختصر البزة والحلية، متوسط الجود، مؤثر للخصوصية، بعيد النظر، سديد الرأي.
قدمت عليه بمحله من الجيل، زايراً متوفى السلطان أبي الحسن، مستجيراً حماهم، فبلوت من بره، وبر الرييس الندي عبد العزيز أخيه، ما تقصر عنه همم الملوك، وتقف دونه آمال الأشراف، تلقياً واحتفالاً وفرشاً، وآنية، وطعاماً، وصلة وانتخاباً، واحتشاماً، وألطافاً، حسبما يتضمن بسط ذلك كتاب الرحلة من تأليفي.
وأنشدتهم عند رحيلي، وقد رأيت إلى ما يبقي الذكر ويخلد الآثار شيم السادة، وديدن الروساء:
يا حسنها من أربع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرار
وجبال عز لا تذل أنوفها ... إلا لعز الواحد القهار
ومقر توحيد وأس خلافة ... آثارها تنبي عن الأخبار
ما كنت أحسب أن أنهار الندى ... تجري بها في جملة الأنهار
ما كنت أحسب أن أنوار الحجا ... تلتاح في قنن وفي أحجار
مجت جوانبها البرود وإن تكن ... شبت بها الأعداء جذوة نار
هدت بناها في سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عقار
لما توعدها على المجد العدا ... رضيت بعيث النار لا بالعار
عمرت بحلة عامر وأعزها ... عبد العزيز بمرهف بتار
فرسا رهان أحرزا قصب الندى ... والبأس في طلق وفي مضمار
ورثا عن الندب الكريم أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار
وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في ورق وفي أثمار
أزرت وجوه الصيد من هنتاتة ... في جوها بمطالع الأقمار
لله أي قبيلة تركت لها ... النظراء دعوى الفخر يوم فخار
نصرت أمير المسلمين وملكه ... قد أسلمته عزايم الأنصار
وآوت علياً عندما ذهب الردى ... والروع بالأسماع والأبصار
وتخاذل الجيش اللهام وأصبح ... الأبطال بين تقاعدٍ وفرار
كفرت صنائعه فيمم دارها ... مستظهراً منها بعز جوار
وأقام بين ظهورها لا يتقي ... وقع الردى وقد ارتمى بشرار
فكأنها الأنصار لما آنست ... فيما تقدم غربة المختار
لما غدا لحظاً وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار
حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلاً لأمر البار
لو كان يمنع من قضاء الله ما ... خلصت إليه نوافذ الأقدار
قد كان يأمل أن يكافىء بعض ما ... أولوه لولا قاطع الأعمار
ما كان يقنعه لو امتد المدا ... إلا القيام بحقها من دار
فيعيد ذاك الماء ذايب فضة ... ويعيد ذاك الترب ذوب نضار
حتى تفوز على النوى أوطانها ... من ملكه بجلايل الأوطار
حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر الرعاية ساطع الأنوار
ويسوغ الأمل القصي كرامها ... من غير ما ثنيا ولا استعصار
ما كان يرضي الشمس أو بدر الدجا ... عن درهم فيه ولا دينار
أو أن يتوج أو يقلد هامها ... ونحورها بأهلةٍ ودراري
حق على المولى ابنه إيثار ما ... بذلوه من نصرٍ ومن إيثار
فلمثلها ذخر الجزاء ومثله ... من لا يضيع صنائع الأحرار
وهو الذي يقضي الديون وبره ... يرضيه في علن وفي إسرار
حتى تحج محلة رفعوا بها ... علم الوفاء لأعين النظار
فيصير منها البيت بيتاً ثانياً ... للطائفين إليه أي بدار
تغني قلوب القوم عن هدى به ... ودموعهم تكفي لرمي جمار
حييت من دارٍ تكفل سعيها المحمود ... بالزلفى وعقبى الدار
وضفت عليك من الإله عناية ... باكر ليل فيك إثر نهار
دخوله غرناطةدخل الأندلس، وحل بغرناطة في حدود خمسين وسبعماية، وأقام بها أياماً، وقد أسند إليه السلطان أبو الحسن لما رحل عن إفريقية حفظ حرمه وأسبابه، في مراكب كان استقرارها بسواحل الأندلس، وحضر مجلس السلطان، فراق الحاضرين مدقاه، وضم لسانه لأطراف الحديث، وحسن تبويبه للأغراض. ولهذا الرجل في وطن المغرب ذكر بعيد، وقد أمسك الأمر مرات، على من استقر لديه من ولد السلطان، ورتب له الألقاب والتشريخ يغازله بذلك الوطن. وتنوعت الحال بهذا الرجل، من بعد وفاة السلطان أبي سالم ملك المغرب، وانحاز إليه ولده فقام بدعوته، ورتب له الألقاب بوطن مراكش، ونظر لنفسه أثناء ذلك، فحصن الجبل، واتخذ به القلعة، وأكثر الطعمة والعدة، فلما حاقت بأميره الدبرة، لجأ إلى ما أعده، وهو الآن يزجي الوقت مهادنةً تشف عن انتزاء، والله يهيىء له الخلاص من الورطة، ويتيح له إلى حزب السلامة الفيئة.
ومن الطاريين في القضاة والغرباء
عاشر بن محمد بن عاشر
بن خلف بن رجا بن حكم الأنصاري بياسي الأصل
حاله
كان رحمه الله عيها حافظاً للمسايل، مفتياً بالرأي، معروفاً بالفهم والإتقان، بصيراً بالفتوى، شوور ببلده وببلنسية، واستقضاه أبو محمد ابن سمحون على باغة أيام قضاية بغرناطة. إذ كان يكتب عنه ويلازمه، ثم استقضي بمرسية أعادها الله. وكان حافظ وقته، لم يعاصره مثله.مشيختهروى عن أبيه، وتلا بالسبع على ابن ذروة المرادي، ولقي أبا القاسم ابن النحاس، وأخذ الحديث عن أبي بحر الأسدي، وأبي بكر بن العربي، وأبي جعفر بن جحدر، وأبي الحسن بن واجب وغيرهم.
مولدهببياسة سنة أربع وقيل ست وثمانين وأربعماية.
وفاتهتوفي بشاطبة، تسع وستين وخمسماية.
تواليفهشرح المدونة مسئلة مسئلة، بكتاب كبير سماه الجامع البسيط، وبغية الطالب النشيط حشد فيه أقوال الفقهاء، ورجح بعضها، واحتج له. قالوا: وتوفي قبل إكماله.
عياض بن محمد اليحصبيعياض بن محمد بن محمد بن عياض بن موسى اليحصبي من أهل سبتة، حفيد القاضي العالم أبي الفضل، يكنى أبا الفضل.
حالهمن الصلة: كان من جلة الطلبة، وذوي المشاركة في فنون من العلوم العقلية وغيرها، فصيحاً، شاعراً، لسناً، مفوهاً، مقداماً، موصوفاً بجزالة وحدة، امتحن بسببها. وكان مع ذلك كثير التواضع، فاضل الأخلاق، سرياً، مشاركاً، معظماً عند الملوك، مشاراً إليه، جليل القدر. حضر الأندلس أيام قضاء أبيه بغرناطة، وغير ذلك الوقت، وجال فيها، وأخذ بقرطبة وإشبيلية وغيرهما، واستقر أخيراً بمالقة، وتأثل بها وبجهاتها أصول أملاك إلى ما كان له.
مشيختهروى عن أبيه أبي عبد الله، وعن أبي محمد بن عبد الله، وأبي بكر ابن الحداد القاضي بسبتة، وأبي القاسم بن بشكوال، وابن حبيش، وابن حميد، وأبي بكر بن بيبش الشلطيشي وغيرهم.
من روى عنه: قال الأستاذ، روى عنه جماعة ممن أخذت عنهم، منهم ابنه أبو عبد الله قاضي الجماعة، وأبو العباس بن فرتون، أخذ عنه كثيراً بمدينة فاس.
مولدهقال صاحب الذيل. سألته عن مولده: فقال ولدت في اليوم التاسع عشر من محرم عام واحد وستين وخمسماية بمدينة سبتة.
وفاتهتوفي في العشر الوسط من جمادى الآخرة عام ثلاثين وستماية بمالقة. وروضته بها في جنة كانت له بربضها الشرقي. رحمه الله.
عياض بن موسى اليحصبيعياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض ابن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي القاضي الإمام المجتهد، يكنى أبا الفضل، سبتي الدار والميلاد، أندلسي الأصل، بسطيه .
أوليته
من كتاب ولده في مآثره، وهو كناش نبيه، قال، استقر أجدادنا في القدم بالأندلس بجهة بسطة، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس. وكان لهم استقرار في القيروان، لا أدري قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك. وكان عمرون رجلاً خياراً من أهل القرآن، وحج إحدى عشرة حجة، وغزا مع ابن أبي عامر غزوات كثيرة. وانتقل إلى سبتة بعد سكنى فاس. وكان موسراً، فاشترى بها من جملة ما اشتراه الأرض المعروفة بالمنارة، فبنى في بعضها مسجداً، وفي بعضها دياراً حبسها عليه، وهو الآن منسوب إليه، وولد له ابنه عياض، ثم ولد لعياض ابنه موسى ثم ولد لموسى القاضي أبو الفضل المترجم به.
حالهقال ولده في تأليفه النبيل: نشأ على عفة وصيانة، مرضي الخلال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفاً بالنبل والفهم والحذق، طالباً للعلم، حريصاً عليه، إلى أن برع في زمانه، وساد جملة أقرانه، فكان من حفاظ كتاب الله، مع القراءة الحسنة، والنغمة العذبة، والصوت الجهير. والحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه. وكان من أيمة الحديث في وقته، أصولياً متكلماً، فقيهاً حافظاً للمسايل، عاقداً للشروط، بصيراً بالأحكام، نحوياً، ريان من الأدب، شاعراً مجيداً، كاتباً غالباً بليغاً، خطيباً، حافظاً للغة والأخبار والتواريخ، حسن المجلس، نبيل النادرة، حلو الدعابة، صبوراً، حليماً، جميل العشرة جواداً، سمحاً، كثير الصدقة دروباً على العمل، صلباً في الحق.
رحلته وولايتهومنشأ أمره. رحل إلى الأندلس سنة سبع وخمسماية، فأخذ بقرطبة ومرسية وغيرهما، ثم عاد إلى سبتة، فأجلسه أهلها للمناظرة عليه في المدونة، وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عليها. ثم جلس للشورى. ثم ولي القضاء، فسار في ذلك حسن السيرة مشكور الطريقة. وبنى الزيادة الغربية في الجامع الأعظم. وبنى بجبل الميناء الرابية الشهيرة، وعظم صيته. ثم نقل إلى غرناطة في أول صفر سنة إحدى وثلاثين وخمسماية، فتلقد خطة القضاء بها. ثم ولي قضاء سبتة ثانية. ولما ظهر أمر الموحدين بادر بالمسابقة إلى الدخول في طاعتهم، ورحل إلى لقاء أميرهم بمدينة سلا، فأجزل صلته، وأوجب بره، إلى أن اضطربت أمور الموحدين عام ثلاثة وأربعين وخمسماية، وحدث على من كان بقصبتها منهم ما هو معلوم من التغلب عليهم واستئصالهم، ثم من رجوع أمورهم، فالتأثت حاله، ولحق بمراكش مشرداً به عن وطنه، فكانت بها وفاته.
مشيختهورتبهم ولده حسبما نقل من فرهسته على الحروف. فمنهم أحمد بن محمد بن بقي، وأحمد بن سعيد بن مستقر، وأحمد بن محمد بن مكحول، وأحمد بن محمد السلفي، الشيخ أبو الطاهر، وأحمد بن محمد بن غلبون ابن الحصار، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز المرحي، إلى غيرهم من جملة سبعة عشر رجلاً، والحسن بن محمد الصدفي بن سكرة، والحسين بن محمد الغساني، والحسين بن عبد الأعلى السفاقسي، والحسن ابن علي بن طريف، وخلف بن إبراهيم بن النحاس، وخلف بن خلف الأنصاري ابن الأنقر، وخلف بن يوسف بن فرتون، ومحمد بن عيسى التجيبي القاضي، ومحمد بن علي بن حمدين القاضي، ومحمد بن أحمد التجيبي القرطبي القاضي ابن الحاج. ومحمد بن أحمد بن رشد، ومحمد بن سليمن النفزي ابن أخت غانم. وأجازه محمد بن الوليد الطرطوشي، ومحمد بن علي بن عمر المازري، ومحمد بن عبد الله المعافري القاضي ابن العربي، ومحمد بن عبد الرحمن بن شبرين القاضي، ومحمد ابن علي الأزدي الخطيب الطليطلي، ومحمد بن علي الشاطبي ابن الصقيل، إلى غيرهم من جملة أحد وثلاثين شيخاً. وعبد الله بن محمد الخشني، وعبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، وعبد الله بن محمد بن أيوب الفهري، وعبد الرحمن بن محمد السبتي ابن العجوز، وعبد الرحمن ابن محمد بن بقي، وعلي بن أحمد الأنصاري ابن الباذش، وعلي بن عبد الرحمن التجيبي ابن الأخضر من جملة من سبعة وعشرين. وغالب ابن عطيه المحاربي، وسراج بن عبد الملك بن سراج أبو الحسن، وسفيان ابن العاصي الأسدي، من جملة خمسة من الأشياخ في هذا الحرف. وشريح بن محمد الرعيني الإشبيلي، وهشام بن أحمد القرطبي أبو الوليد ابن العواد، وهشام بن أحمد الهلالي الغرناطي، ويونس بن محمد بن مغيث ابن الصفار، ويوسف بن موسى الكلبي، سمع منه أرجوزته، ويوسف ابن عبد العزيز بن عتريس الطليطلي.
شعرهقال، مما كتبته من خطه:
أعوذ بربي من شر ما ... يخاف من الإنس والجنة
وأسئله رحمة تقتضي ... عوارف توصل بالجنة
فما للخلان من ناره ... سوى فضل رحماه من جنة
ومن شعره، قال أنشدنيه غير واحد من أصحابنا، فوارحمة الله عليه:
أذات الخلال كم ذا تنتضيها ... على سيوف عينيك انتضاه
بمطلك لي مواعد أقتضيها ... من التوريد واللمس اقتضاه
فقضى وعد مطلك وانجزيه ... خيار الناس أحسنهم قضاة
قال، ومما كتبته من خطه:
يا من تحمل عني غير مكترث ... لكنه للضنى والسقم أوصاب
تركتني مستهام القلب ذا خوف ... أخا جوىً وتباريح وأوصاب
أراقب النجم في جنح الدجا ولهاً ... كأني راصدٌ للنجم أوصاب
وما وجدت لذي النوم بعدكم ... إلا جنى حنظل في الظعم أوصاب
ومن ذلك قوله رحمه الله:
الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطاير خانه ريش الجناحين
فلو قدرت ركبت المريخ نحوكم ... فإن بعدكم عني جنا حين
قال، وكتب من خطه:
يا راحلين وبالفؤاد تحملوا ... أترى لكم قبل الممات قفول
أما الفؤاد فعندكم أنباؤه ... ولواعج تنتابه وغليل
فترى لكم علمٌ بمنتزح الكرى ... عن جفن صبٍّ ليله موصول
أودى بعزته صبره وإبايه ... طرفٌ أصم ومبسم مصقول
ما ضركم وأضنكم بتحية ... يحيى بها عند الوداع قتيل
إن الخليل بلحظه أو لفظه ... أو عطفه أو وقفه لبخيل
ومما نسبه إليه الفتح وغيره، ومن العجب إغفال ولده إياه، قوله يصف الزرع والشقائق فيه:
أنظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتيبةٌ خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
نثرهوهو كثير. فمن خطبه، وكان لا يخطب إلا بإنشايه: الحمد لله الذي سبق كل شيءٍ قدماً، ووسع كل شيءٍ رحمة وعلماً ونعماً، وهدى أولياءه، طريقاً نهجاً أمماً، وأنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً قيماً، لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، ماكثين فيه أبداً. أحمده على مواهبه، وهو أحق من حمد، وأسأله أن يجعلنا أجمع، ممن حظي برضاه وسعد، وأستعينه على طاعته، فهو أعز من أستعين وأستنجد، وأستهديه توفيقاً، فإن من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، شهادة فاتحةً لأقفال قلوبنا، راجحة بأثقال ذنوبنا. منزهة له عن التشبيه والتمثيل بنا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه الفرقان، وبعثه بالهدى والإيمان، وأغزى بدعوته دعوة أولياء الشيطان، وأبعدهم مقاعد عن السمع، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً.
أيها السامع، قد أيقظك صرف القدر من سنة الهوى وتياراته، ووعظك كتاب الله بزواجره وعظاته، فتأمل حدوده. وتدبر محكم آياته، واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته، ولن تجد من دونه ملتحداً. أين الذين عتوا على الله، وتعظموا واستطالوا على عباده وتحكموا، وظنوا أنه لن يقدر عليهم حتى اصطلموا. وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً. غرهم الأمل وكواذب الظنون، وذهلوا عن طوارق القبر وريب المنون. وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون. حتى إذا رأوا ما يوعدون، فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً. فهذبوا رحمكم الله سراركم بتقوى الله واخلصوا، واشكروا نعمته، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، واحذروا نقمته واتقوه. ولا تعصوا، واعتبروا بوعيده. قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. وانهضوا لطاعته الهمم العاجزة، واركضوا في ميدان التقوى، وحوزوا نصب خصله العابرة ، وادخروا ما يخلصكم يوم المحاسبة والمناجزه، وانتظروا قوله، يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة، وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً، ذلك يوم تذهل فيه الألباب، وترجف القلوب رجفاً، وتبدل الأرض وتنسف الجبال نسفاً، ولا يقبل الله فيه من الظالمين عدلاً ولا صرفاً. ونحشر المجرمين يومئذ زرفاً، وعرضوا على ربك صفاً، لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً، اللهم انفعنا بالكتاب والحكمة، وارحمنا بالهداية والعصمة، وأوزعنا شكر ما أوليت من النعمة. ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيىء لنا من أمرنا رشداً.
تواليفهمما أكمله وقرىء عليه كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ستة أجزاء، وكتاب إكمال المعلم في شرح مسلم تسعة وعشرون جزءاً. وكتاب المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة عشرة أجزاء. وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك خمسة أسفار، ولم يسمعه. وكتاب الإعلام بحدود قواعد الإسلام. وكتاب الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع سفر. وكتاب الرايد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوايد. وكتاب خطبه سفر. وكتاب المعجم في شيوح أبي سكرة. وكتاب الغنية في شيوخه، جزء. ومما تركه في المبيضة كتاب مشارق الأنوار على صحيح الآثار ستة أجزاء ضخمة، وهو كتاب جليل. وفيه يقول الشاعر:
مشارق أنوار تبدت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب
وكتاب نظم البرهان على صحة جزم الأذان جزء. وكتاب مسئلة الأهل المشترط بينهم التزاور جزء. ومما لم يكمله المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان. وكتاب الفنون الستة في أخبار سبتة. وكتاب عنية الكاتب وبغية الطالب في الصدور والترسيل. وكتاب الأجوبة المحيرة على الأسئلة المتخيرة وجدت منها يسيراً فضممته إلى ما وجدته في بطايقه وعند أصحابه. يقول هذا ولده من معان شاذة في أنواع شتى سئل عنها رحمة الله عليه. فأجاب جمعت ذلك في جزء. وكتاب أجوبة القرطبيين وجدتها بطابق، فجمعتها مع أجوبة غيرهم. وأجوبته مما نزل في أيام قضايه، من نوازل الأحكام في سفر، وكتاب سر السراة في أدب القضاة.
نبذ من أخبارهوأولاً في ثناء الأعلام عليه. قال ولده، أخبرني ابن عمي الزاهد، أن القاضي أبا عبد الله بن حمدين كان يقول له وقت رحلته إليه، وحتى يا أبا الفضل إن كنت تركت بالمغرب مثلك. وقال، وأخبرني أن أبا الحسين بن سراج قال له، وقد أراد الرحلة إلى بعض الأشياخ، فهو أحوج إليك منك إليه، وقال إن الفقيه أبا محمد بن أبي جعفر قال له، ما وصل إلينا من المغرب مثل عياض. وأمثال ذلك كثير، ومن دعابته، قال بعض أصحابنا صنعت أبياتاً تغزلت فيها، والتف إلى أبيك رضي الله عنه ثم اجتمع بي، فاستنشدني إياها، فوجمت، فعزم علي فأنشدت:
أيا مكثراً صدىً ولم آت جفوة ... وما أنا عن فعل الجفاء براض
سأشكو الذي توليه من سوء عشرة ... إلى حكم الدنيا وأعدل قاض
ولا حكم بينك أرتضي قضاياه ... في الدنيا سوى ابن عياض
قال فلما فرغت حسن، وقال متى عرفتني قواداً يا فلان، على طريق المداعبة. وأخباره حسنة وفضايله جمة.
مولدهبسبتة حسبما نقل من خطه في النصف من شعبان عام ستة وسبعين وأربعماية.
وفاته
توفي بمراكش ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخرة من عام أربعة وأربعين وخمسماية. ودفن في باب إيلان من داخل السور.
عقيل بن عطية القضاعيعقيل بن عطية بن أبي أحمد جعفر بن محمد بن عطية القضاعي من أهل طرطوشة، يكنى أبا المجد
حالهكان فقيهاً متطرفاً في فنون من العلم، متقناً لما يتناوله من ذلك، حسن التهدي، من بيت طلب. وقد تقدم ذكر جده الأستاذ. ولي عقيل قضاء غرناطة وسلجلماسة.
مشيختهروي عن أبي القاسم بن بشكوال. قرأ عليه وسمع، وتناول من يده، وأجاز له. وقفت على ذلك بخطه.
شعرهأنشد له في الذيل قوله، مما نظمه لجماعة من السادة:
ملوك دون بابكم وقوف ... سطت بهم الحوادث والصروف
أذلهم الزمان وكان قدماً ... لهم راع وحولهم يطوف
غدوا عبراً لمعتبر فسحقاً ... لدنيا أمرها أمر سخيف
وطال وحق مجدك ما تبدوا ... وحولهم الغواضب والسيوف
أسود يقدمون أسود حرب ... وخلفهم العساكر والصفوف
أتى بهم الزمان إليك قصداً ... حيارى فيه يعجزهم رغيف
فعطفاً أيها المولى عليهم ... وقاك السوء باريك اللطيف
فرحمة سيد قد ذل فرضٌ ... يقول به النبي الهادي الشريف
وما يرى الكرام سوى كريم ... وأنت الماجد الندى العطوف
تواليفهقال الأستاذ، وقفت على تأليف سماه فصل المقال في الموازنة بين الأعمال تكلم فيه مع أبي عبد الله الحميدي، وشيخه أبي محمد بن حزم، فأجاد فيه وأحسن، وأتى بكل بديع. وشرح المقامات الحريرية.
وفاتهفي صفر سنة ثمان وستماية.
ومن الكتاب والشعراء
عاصم بن زيد العبادي
عاصم بن زيد بن يحيى بن حنظلة بن علقمة بن عدي ابن محمد التميمي ثم العبادي الجاهلي يكنى أبا المخشبي من أهل إلبيرة.حالهكان شاعراً مجيداً، شهير المكان، بعيد الصيت، على عهده. قال أبو القاسم، كان من أعلام الجند ومقدميهم. وقال الرازي، دخل والده زيد بن يحيى من المشرق إلى الأندلس، واختط بكورة جند دمشق، وشهر ابنه عاصم هذا بالشعر، إذ كان غزير القول، حسن المعاني، كثير النادر، سبط اللفظ، فاغتدى شاعر الأندلس، ومادح بني أمية، المخلف فيهم قوافي الشعر المديح الشاردة، وقد كان في لسانه بذاءة زايدة، يتسرع به إلى من لم يوافقه من الناس، فيقذع هجوهم، ويقذف نساءهم ويهتك حرمهم، وكان أفاكاً نهاباً، لا يعدم متظلماً منه، وداعياً عليه، وذاكراً له بالسوء، وهو مستهوىءٌ بذلك جارٍ على غلوائه.
محنتهقال، وكان مع ذلك منقطعاً إلى سليمن بن الأمير عبد الرحمن بن معاوية، كثير المدح له. على أنه ما أخلى الأمير هشاماً من مدحه، وهو مع ذلك لا يسل سخيمته وحقده عليه، لانحطاطه في شعب سليمن أخيه، وبينهما من التنافس والمشاحة، ما لا شيء فوقه. وروي أن الذي هاج غضب هشام عليه، أن قال له الساعي عليه، قد عرض بك بقوله في مديح أخيك سليمن في شعر له فيه منه:
وليس مثل من بان سيل عرفاً ... يقلب مقلة فيها أعونه
وكان هشام أحول، فاغتاظ لذلك. وركب فيه من المثلة وركبه، وحقد عليه، إلى أن استدعاه إلى مدينة ماردة، وهشام يومئذ واليها في حياة الأمير أبيه، فخرج إليه أبو المخشبي من قرطبة، طامعاً في نايله، غير مرتاب بباطنه، فلما دخل عليه قال له يا أبا المخشبي، إن المرأة الصالحة التي هجوت ابنها فقذفتها، فأفحشت سبها، قد أخلصت دعاها لله في أن ينتقم لها منك، فاستجاب لها، وسلطني وتأذن بالاقتصاص لها على يدي منك، ثم أمر به فقطع لسانه، وسولت عيناه، وعولج من جراحه، فاستقل منها، وعاش زمناً ممثلاً به. فأما لسانه فانجبر بعيد وقت إلا قليلاً، واقتدر على الكلام إلا تلعثماً كان يعترضه، واستمر العمى، فعظم عليه مصابه، فكثرت في شكواه أشعاره، قال، ويذكر أن قصة أبي المخشبي في نبات لسانه، لما بلغت مالك بن أنس، أشار إليها في فتواه في التأني بدية اللسان طمعاً في نبتها، وقال يتأنى بالحكم عاماً، فإن نبت أو شيء منه، عمل في ديته بحسب ذلك، فقد بلغني أن رجلاً بالأندلس نبت لسانه أو أكثره بعد ما قطع، فأمكنه الكلام.
شعرهقالوا وبلغ الأمير عبد الرحمن بن معاوية صنيع ابنه هشام بمادحهم أبي المخشبي، فساءه وكتب إليه يعنفه، وأوصل أبا المخشبي إليه عند استيلايه بعد حين، فاعتذر إليه ورق له، وأنشده بعض ما أحدثه بعد، فكان لا يبين الإنشاد، فينشد له صبي كان قد علمه ودربه، فأنشده قصيدته التي وصف فيها عماه وأولها:
خضعت أم بناتي للعدا ... إذ قضى الله بأمر فمضا
ورأت أعمى ضريراً إنما ... مشيه في الأرض لمسٌ بالعصا
فبكت وجداً وقالت قولةً ... وهي حدا حلقت مني المدا
ففؤادي فرحٌ من قولها ... ما من الأدواء أس العما
وإذا نال العمى ذا بصرٍ ... كان حياً مثل ميت قد نعا
وكان للناعم المسرور لم يك ... مسروراً إذا لاقى الردا
عانى بالقرب وهنا طرب ... بين لج في الحما
...... ... كيف يعتاد الصبا من لا يرا
أبصرت مستبدلاً من طرفه ... فأنذا يسعى به حيث سعا
بالعصا إن لم يقده فإنه ... وسؤال الناس يمشي إن مشا
وإذا ركب دنوا كأن لهم ... هو حملاً في المهمة الخراف الصوا
لم يزل في كل مخشبي الردى ... يصطلي الحرب ويجتاب الدجا
امتطيناها سماناً بدناً ... فتركناها نضاءً بالفنا
وذريتي قد تجاورت بها ... مهمها فقراً إلى أهل الندا
قاصداً خير منافٍ كلها ... ومناف خيرٌ من فوق الثرا
وهي طويلة، ومن شعره في الوقيعة بأبي الأسود الفهري ، وكانت عظيمة من أعظم فتوحات الأمير عبد الرحمن:
ماذا تسايل عن مواقع معشر ... أودى بهم طلب الذي لم يقدر
رشد الخليفة إذا غووا فرماهم ... بالموبذي بالحزم والمتأزر
فغدا سليمن السماح عليهم ... كالليث لا يلوي على متعذر
عاداهم متقنعاً في مأزق ... في الموت من نجس العوارض الممطر
أما سليمن السماح فإنه جلى ... الدجا وأقام سيل الأصعر
وهو الذي ورث الندى أهل الندى ... ومحا دجنة يوم وادي الأحمر
بعد القتلى بالمخايض أصبحت ... جيفاً تلوح عظامها لم تقبر
فالليل فيها للذباب عرايسٌ ... ونهارها وقفٌ لنهس الأنسر
أفناهم سيفٌ مبيرٌ صارم ... في قسطلونة وبل بوادي الأحمر
هات عنك ما هربت مخافةً منه ... فقع يا ابن اللقيطة أو طر
وفاتهقال ابن حيان، قرأت بخط عبادة الشاعر، قال عمر أبو المخشبي بعد محنته الشنعاء حتى لحق دولة الأمير عبد الرحمن، فوالى بين مديح أربعة أمراء، ما بينه وبين جده عبد الرحمن بن معاوية الأمير الداخل. وتوفي بعد ذلك قريباً من تاريخ الثمانين والماية . وبعد عليه لحاق دولة الأمير عبد الرحمن لهذا التاريخ.
ومن الأصليين من ترجمة المحدثين والفقهاء والطلبة النجباء
ابن أبي زمنين المري
عيسى بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي زمنين المري يكنى أبا الأصبغ من أهل البيرة.حالهنبيه القدر. وروى عن شيوخ بلده.
وفاتهتوفي بعد الأربعمائة. قلت قد اعتذرت، وتقدم الاعتذار في إثبات من أثبته من هذا البيت في هذا الاختصار من هذا النمط. فلينظر هنالك إن شاء الله.
عيسى بن سعادة الأمويعيسى بن محمد بن عيسى بن عمر بن سعادة الأموي لوشى الأصل، غرناطي الاستيطان والقراءة، يكنى أبا موسى، الشيخ الطبيب بالدار السلطانية.
حالهمن عايد الصلة، بقية أهل العلم، ونسيح وحده في لين الجانب وخفض الجناح، وحسن الخلق. وبذل التواضع، ممتع من معارف قديمة، بين طلب وتعليم، على حال تدين والتزام سنة، أقرأ الطب، وخدم به الدار السلطانية، وولي القضاء بلوشة بلده.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي عبد الله الرقوطي المرسي ولازمه، وأخذ عن أبي الحجاج بن خلصون، وأدرك أمةً من صدور العلماء.
تواليفهله تأليف كبير متعدد الأسفار سماه كتاب القفل والمفتاح في علاج الجسوم والأرواح، تضمن كثيراً من العلم الطبي، وما يتعلق به، رأيت أجزاءً من مسودته بيد ولده.
وفاتهتوفي بغرناطة ليلة السبت الخامس عشر لجمادى الآخرة عام ثمانية وعشرين وسبعماية.
حرف الغين من الأعيان
ابن الأشقر
غالب بن أبي بكر الحضرمي من أهل غرناطة يكنى أبا تمام، ويعرف بابن الأشقر.حالهكان قايداً جزلاً مهيباً، مليح التجند، معروف الدربة والثقافة، مشهور الفروسية، ظريف الشكل، رايق الركبة، حسن الشيبة، صليب العود، مرهوب السطوة، ولي قيادة العسكر زماناً طويلاً، فوقع الإجماع على أهليته لذلك، تمييزاً للطبقات، وانتهاضاً بالخدمة، وإنفاذاً للعزمة، ومعرفة بالعوايد، واقتداراً على السهر في تفقد المسالح، واختبار المراصد، واختيار الحرس، وتنظيم المصاف، وإمساك السيقة ممن يرجع إلى حصيف رأيه، ويركن إلى يمن حنكته، ويعترف بحقه. لقي الجند منه ضغطاً لاضطلاعه باستخدامهم، وجعل العقاب من وراء تقصيرهم. فقد كان بعض نقبائه يحمل معه مقصاً لإيقاع المثلة بذقون مضيعي المسلحة أو متهيبي الملحمة. ولما أوقع بالسلطان أمير المسلمين أبي الوليد قرابته بباب داره بما هو مشهور، نمي عنه أنه اخترط سيفه. وكان ممن أثخن الوزير يومئذ جراحة لا يعلم ، أحيرةً وغلطاً أم تواطأ وقصداً، فقد كان من مرج الناس يومئذ؛ وإعمال بعضهم السلاح في بعض ما هو معلوم، فعزل عن الخطة، وسئم خطة الخمول، ففقد مكانه من العنا، واضطر إليه.
وفاتهتوفي بغرناطة عشية يوم الخميس الثاني والعشرين لشوال عام سبعة وعشرين وسبعماية، ودفن قرب باب إلبيرة.
ومن المقربين
غالب بن عبد الرحمن بن غالب
بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن خفاف بن
أسلم بن مكتوم المحاربي أبو بكرحالهكان من أهل العلم والعمل، مقرياً فاضلاً، راوية، حج وروى، وكف بصره في آخر عمره.
مشيختهقرأ القرآن بالسبع على أبي الحسن بن عبد الله الحضرمي، ودرس الفقه وناظر فيه، على سعيد بن خلف بن جعفر الكناني. وروى عن أبي علي الغساني، وعن أبيه عبد الرحمن بن غالب، وأبي عمر بن عبد البر الإمام الحافظ.
من روى عنه: حدث عنه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال، وأبو عبد الله بن عبد الرحيم القاضي، وعبد الله بن طلحة بن أحمد ابن عطية.
شعرهقال يحذر من أبناء الزمن:
كن بذي صايد مستأنساً ... وإذا أبصرت إنساناً ففر
إنما الإنسي بحرٌ ماله ساحل ... فاحذره إياك الغرر
واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذاك الشخص حذر
وله رحمه الله:
كيف السلو ولي حبيب هاجر ... قاسى الفؤاد يسومني تعذيبا
لما ذرى أن الخيال مواصلي ... جعل السهاد على الجفون رقيبا
مولدهولد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
وفاتهتوفي ليلة الجمعة لستٍّ بقين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشر وخمسماية.
غالب بن حسن بن غالب
بن حسن بن أحمد بن يحيى
ابن سيدبونه الخزاعي يكنى أبا تمام.أوليته وحالهأصل سلفه من بونه من بلد إفريقية، واستوطن جده بالأندلس قرية زنيتة من وادي لستة شرقي الأندلس من عمل قسنطانية ، وملك فيها أموالاً عريضة. ولما ظهر سبطه ولي الله أبو أحمد شيخ المريدين بذلك الصقع، وظهرت عليه البركات، وشهدت بولايته الكرامات، غمرتهم بركته، ونوهت بهم شهرته، إلى أن استولى العدو على تلك الجهات، بعد وفاة الشيخ رضي الله عنه، فهاجرت ذريته إلى غرناطة، بعد استيطانهم مدينة ألش ، وبنوا بالربض المعروف بربض البيازين واقتطعوا وامتطوا، واتخذوا دار إقامة، وانتشرت به نحلتهم الإرادية، وانضم إليهم من تبعهم من جالية أهل الشرق، وتقدم هذا الشيخ بعد، شيخاً ويعسوباً وقاضياً وخطيباً به، بعد خاله رحمه الله، فقام بالأعباء، سالكاً سنن الصالحين من أهل الجلد والجدة والقوة والرجولة، من الإيثار والمثابرة على الرباط، والحفوف إلى الجهاد، وكان مليح الشيبة؛ كثير التخلق، جم التواضع، مألفاً للغرباء، مبذول البشر، حسن المشاركة، رافضاً للتصنع، مختصر المطعم والملبس، بقية من بقايا الجلة، معتمداً في مجالس الملوك بالتجلة.
مشيختهيحمل عن والده أبي علي، وعن خاله، وعن الخطيب أبي الحسن ابن فضيلة وغيرهم.
تواليفهله تأليف في تحريم سماع اليراعة المسماة بالشبابة، وعلى ذلك درج جمهورهم.
مولدهفي ذي القعدة من عام ثلاثة وخمسين وستماية.
وفاتهتوفي في عاشر شوال من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية. وكان الحفل في جنازته يشذ عن الوصف. ودفن بمقبرتهم .
غالب بن علي بن محمد اللخمي
الشقوري
من أهل غرناطة، يكنى أبا تمام.حالهكان من أهل الفضل والدماثة، حسن الخلق، وسيم الخلق، مليح الانطباع، مستطرف الأغراض، من بيت كسب وخيرية. رحل في شبيبته إلى المشرق، فحج، وقرأ الطب بالمارستان من القاهرة المعزية، وحذق العلاج على طريقة المشارقة، وأطرف بكثير من أخبارهم، وانتصب للمداواة ببجاية بعد مناظرة لها حكاية. وقدم على بلده، فنبه به قدره، واستدعى إلى باب السلطان فخدم به، ثم تحول إلى العدوة، فاتصل بخدمة ملكها السلطان أمير المسلمين أبي سعيد، مسوغاً ما شاء من قبول، ولطف محله عنده، لانطباعه ولين عريكته، وتأنيه لما يوافق غرضه من سبيل الفكاهة، وولي الحسبة بمدينة فاس، وأثرى وحسنت حاله. وكان مثالاً لأهل بلده، موصوفاً بالجود، وبذل المشاركة لمتغربيهم.
وله تواليف طيبة، كان لا يفتر عن الاشتغال بها؛ بحسب ما فتح له من الإدراك، فمنها نبيل ووبيل. ولما انتقل الأمر إلى أمير المسلمين أبي الحسن، وصل حبل رعيه، طاوياً بساط الهزل في شأنه، واتصلت خدمته إياه إلى حين وفاته.
وفاتهتوفي في أوايل عام أحد وأربعين وسبعماية بسبتة، عند حركة أميره المذكور إلى الجواز للأندلس برسم الجهاد، الذي محصه الله فيه بالهزيمة الكبرى.
مولده
حرف الفاء: الأعياء والكبراء
فرج بن إسمعيل بن يوسف بن نصر
الرئيس الجليل، أبو سعيد، وكان حقه أن يفرد له باب في الأمراء، لكنه الأبواب المتعددة الأسماء، نؤثر فيها الجمع والاختصار كما شرطنا.أوليتهمعروفة. وكان والده رحمه الله صنو أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله، وآثره بمدينة مالقة وما يرجع إليها، عند تصير الملك إليه أو بعده. وكان دونه في السن، فاستمرت أيامه بها إلى أن توفي رحمه الله: وتصير أمره إلى الرييس أبي محمد بن إشقيلولة، وتخللت ذلك الفتن، حسبما وقع الإلماع به وتصير أمرها إلى ملوك المغرب. ثم لما انجلت الحال عن عودتها إلى الملك النصري، ولى عليها الرييس أبا سعيد، ومكنه من ميراث سلفه بها، وهو كما استجمع شبابه، وعقد له على ابنته الحرة لباب الملك، فقام بأمرها خير قيام، وثبت لزلزال الفتنة حسبما هو مذكور في موضعه.
حاله
كان هذا الرييس نسيج وحده في الحزم والجزالة وفخامة الأحوال، مما يرجع إلى الفتية. ناغى السلطان ابن عمه في اقتناء العقار، وتخليد الآثار، فيما يرجع إلى الفلاحة والاعتمار والازدياد والاستكثار، وأربى عليه بإنشاء المراكب الكبار، فعظمت غلاته، وضاقت المسارح عن سائمته، وغصت الأهراء بحبوبه، وسالم الخرج دخل ماله، فبذ الملوك جدةً ويساراً، تقتحم العين منه ظاهراً ساذجاً، غفلاً من الزينة والتصنع، في طيه ظرف وذكاء وحنكة وحلاوة، جهورياً، مرسل عنان النادرة، باذلاً النصفة، مهيب السطا، خصيب المايدة، شهير الجلالة، بعيد الصيت. ولي مالقة عام سبعة وسبعين وستماية، فعانى بها الشدة والليان. حتى رسخت بها قدمه، وطالت لأهلها صحبته، وعظم بها قراره وعساكره، وأينعت غرسانه، ونمت متاجره، ونبنكت النعيم حاشيته، وأضيفت إليه الجزيرة الخضراء، فاتسعت العمالة، وانفسحت الخطة، إلى أن كان من تغلبه على مدينة سبتة، واستيلايه عليها، مما وقع الإلماع به في موضعه من هذا الكتاب، في شهر شوال عام خمسة وسبعماية، فساس رعيتها، وتملك جبالها، وشن الغارة على ما وراءها، وتملك القصر المضاف لها، ولم يزل نظره عليها، إلى أواخر ذي قعدة من عام ثمانية وسبعمائة، فصرف عنها، وجهل قدره، وأوغر صدره، وأوعز للولاة بالتضييق على حاشيته، فدعا بمالقة إلى نفسه في شهر شعبان من عام أحد عشر وسبعماية، وقدم لطلب الملك ولده إسماعيل، وسماه السلطان. ورتب له الألقاب، ودون الدواوين، فنزع إليه الجند، وانضافت إلى عمالته الحصون. ثم وقعت المهادنة، وأعقبتها المفاتنة، وكان من أمره ما وقع التنبيه على عيون منه في ذكر ولده.
نكبتهولما استأصلت القطيعة محتجنه الراكد في مغابن الخزاين من لدن عام سبعة وسبعين وستماية، واستنفدت عتاده المطاولة، نظر لنفسه فوجه كاتبه الوزير أبا عبد الله بن عيسى، وعاقده على الخروج له عن مالقة، متعوضاً عنها بمدينة سلا من عمل ملك المغرب، وتم ذلك في شهر رمضان من عام ثلاثة عشر وسبعماية، وذاع خبره، وضاقت بأولياء انتزايه السبل، إذ تحققوا بإخفاق المسعى، وسقوط العشي بهم على سرحان من سلطانهم الراغبين عنه، فداخلوا ولده، المقدم الأمر، أبا الوليد، واتفق أمرهم على خلعه، ومعاجلة الأمر قبل تمامه، في..... من شهر رمضان، ركب الرييس رحمه الله في نفر من مماليكه المروقة إلى بعض بساتينه، فلما قضى وطره، وهم بالخروج عنه، اعترضه القوم عند بابه، فالتفوا به، وأشعروه غرضهم فيهن وجاءوا به إلى بعض القصور بظاهر البلد، فجعلوه به تحت رقبة، وقد بادر ولده القصبة، فاستولى عليها من غير ممانعة، لعدم استرابة ثقاته به، إلا ما كان من خاين يتولى القيام ببعض أبوابها هم بسده، فطاح لحينه، وتم لولده الاستبداد بالأمر، واستولى على النصب والذخيرة وباقي المال ، ونقل الرييس إلى معقل قرطبة، فلما خلص الأمر لولده، انتقل إلى معقل شلوبانية، فلم يزل به لا يبرح عن باب قصره، مرفها عليه إلى أن قضى نحبه.
وفاتهفي الرابع عشر لشهر ربيع الأول من عام عشرين وسبعماية، توفي رحمه الله بشلوبانية، وجيء بجنازته محمولاً على رؤوس صدور الدولة ووجوه رجالها، متناغين في لباس شعار الحزن بما لم يتقدم به عهد، ودفن بمقبرة السبيكة، وولده أمير المسلمين واقف بإزاء لحده، مظهر الاكتراث لفقده، وعلى قبره الآن مكتوب نقشاً في الرخام البديع ما نصه:
هذا قبر علم الأعلام، وعماد دين الإسلام، جواد الأجواد، أسد الآساد، حامي الثغور وممهد البلاد، المجاهد في ذات الله حق الجهاد، شمس الملك وبدره، وعين الزمان وصدره، الكريم الأخلاق، الطاهر الذات والأعراق، الذي سار ذكره في الآفاق، وخلد من فضايله ما تتحلى به ظهور المنابر وبطون الأوراق، كبير الإمامة النصرية، وعظيم الدولة الغالبية، فرع الملك وأصله، ومن وسع الأنام عدله وفضله، مخلد الفخر الباقي على الأعصار، والعمل الصالح الذي ينال به الحسنى وعقبى الدار، بسلالته الطاهرة الكريمة المآثر والآثار، الإمام الرضي ناصر دين المختار، المنتخب من آل نصر ونعم النسب الكريم في الأنصار. الهمام، الأكبر، الأشهر، المقدم، المرحوم، الأطهر، أبو سعيد ابن الإمام الأعلى، ناصر دين الإيمان، وقاهر عبدة الصلبان، صنو الإمام الغالب بالله، ومجهز الجيوش في سبيل الله، سهام العدا، وغمام الندى، وضرغام الحروب، ذي البأس المرهوب، والجود المسكوب، بطل الأبطال، ومناخ الآمال، المجاهد، الظاهر، المقدس، المرحوم أبي الوليد بن نصر، قدس الله مضجعه، ورقاه إلى الرفيق الأعلى ورفعه. كان رضى الله عنه، وحيد عصره، وفريد دهره، علت في سماء المعالي رتبه، وكرم من أمير المسلمين صهره ونسبه، فلا يزاحم مكانه، ولا يداني منصبه. نفذت أحكامه في الشرق والغرب، ومضت أوامره في العجم والعرب، إلى أن استأثر الله به، فكانت وفاته ليلة الخميس الرابع عشر لشهر ربيع الأول من عام عشرين وسبعماية، وكان مولده يوم الجمعة الثامن لشهر رمضان المعظم من عام ست وأربعين وستماية، فسبحان الله الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق.
سلام على قبر المكارم والمجد ... مقام الرضى والفوز والبشر والسعد
مثابة إحسان ومعهد رحمةٍ ... ومستودع العليا والسر والعد
فيا أيها القبر الذي هو روضة ... تفوح شذى أذكى من المسك والند
لك الفضل إذ حملت أرضى أمانة ... تودي بإكرام إلى جنة الخلد
ففيك من الأنصار من آل نصرهم ... همام كريم الذات والأب والجد
قسم أمير المسلمين ابن عمه ... ونخبة بيت الملك واسطة العقد
وحامي ذمار الدين ناصره أبو سعيد ... عماد الملك في الحل والعقد
لبيك أمير العدوتين بواجب ... من الحق أبناء الوغى وبنو الرفد
وتبكي بلاد كان مالك أمرها ... أفاض بها النعماء سابغة الورد
أقام بها العدل والفضل سنة ... بإنصاف مستعد وإسعاف مستجد
وتبكي أسى ملء العيون لفقده ... وبالحق لو فاضت نفوس من الوجد
فيا أيها المولى الذي لمصابه ... بدا الحزن حتى في المطهمة الجرد
لك الله ما أعلى مكارمك التي ... تسير بها الركبان في الغور والنجد
وحسبك أن أورثت خير خليفة ... وأبديت منه للورى علم الرشد
إمام هدىً أعماله لله رحمة ... تنال بها الزلفى من الصمد الفرد
عليك من الرحمن أزكى تحية ... توفيك من إحسانه غاية القصد
فرج بن محمد بن محمد
بن يوسف بن نصر
الأمير أبو سعيد ولد أمير المسلمين ثاني الملوك النصريين ابن الغالب بالله.حاله
كان أميراً جليلاً جميلاً، بلغ الغاية في حسن الصورة، وفضل الفروسية على صغر سنه، وكان زناتي الشكل والركض والآلة، عروس الميدان، وحلس الخيل، يؤثر من شجاعته، وثبات موقفه، على الغرارة، وعدم الحنكة، أنه أنشب في اتباع خنزير ضخم الكراديس، عظيم الناب، عريض الغبطة، طرح نفسه عليه في ضحضاح، لفضل شجاعته، فكبا به الطرف، واستقبله ذلك الخنزير الفحل صامداً، فاستقل، زعموا، من السقطة، وقد اخترط سيفاً عضباً كان يتقلده، وسبقه بضربة تحت عينيه، أبانت فكيه، وأطارت محل سلاحه، وخالطه مع ذلك أعزل، فلم يغن، وتلاحق به فرسانه، وقد يئسوا من خلاصه، فرأوا ما بهتوا له، وبشر بذلك أبوه، فملأ عينه قرة، وكان يولع منه بفرع ملك، وصقر بيت، وسيف دولة. أسف بذلك ولي العهد كبيره، فاعتبط لأيام من تصير الأمر إليه.
وفاتهتوفي مغتالاً في الأول من عام اثنين وسبعماية.
مولدهعام ستة وثمانين وستماية.
فرج بن محمد بن يوسف
بن محمد بن نصر
الأمير أبو سعيد ولي عهد السلطان الغالب باللهحالهكان هذا الأمير فاضلاً ذكياً، من أهل الأدب والنبل، قام الأدب في مدته على ساق، ولاه أبوه الغالب بالله عنده، وأمله لمكانه لو أن الليالي أمهلته
شعرهوأدبه مما ينسب إليه بالأندلس، وهو عندي ما يبعد قوله:
أيا ربة الحسن التي سلبت منك ... على أي حال كنت لابد لي منك
فإما بذل وهو أليق بالهوى ... وإما بغر وهو أليق بالملك
وكان ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم رحمه الله يقول؛ أخبرني كاتب هذا الأمير، وهو الوزير أبو عبد الله بن القصيرة الإشبيلي بتونس قال، نظم الأمير بيتاً وطلبني بإجازته، وأن يكون المنظوم مشوب النسيب بالفخر. والبيت:
أرقت لبرق بالسبيكة لا الخيف ... وإن كان فيه ما أحاذر من حتف
فقلت مجيزاً
تجور على قلبي لواحظ غادة ... بأنفذ من عزمي وأقطع من سيف
ولي هزة نحو الوصال أو اللقا ... كهزة آبايى الكرام إلى الضيف
أفيض وفيضٌ في الجفون وبالحشا ... فأشكو بحالي في الشتاء وفي الصيف
لعمري لقد وفى العلا حق مفخري ... لو أني في الدنيا مرادي استوف
قال واستحسن ذلك ووقع عليه كاتبه يعني بذلك نفسه
وفاتهعصر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وستماية، ابن خمس وعشرين سنة.
ومن الكتاب والشعراء
ابن خاقان
الفتح بن علي بن أحمد بن عبيد الله الكاتب المشهور من قرية تعرف بصخرة الواد من قرى قلعة يحصب، يكنى أبا نصر. ويعرف بابن خاقان.حالهكان آية من آيات البلاغة، لا يشق غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزاً في باب الحلي والصفات، إلا أنه كان مجازفاً، مقدوراً عليه، لا يمل من المعاقرة والقصف، حتى هان قدره، وابتذلت نفسه، وساء ذكره، ولم يدع بلداً من بلاد الأندلس إلا دخله، مسترفداً أميره، وواغلاً على عليته. قال الأستاذ في الصلة وكان معاصراً للكاتب أبي عبد الله بن أبي الخصال، إلا أن بطالته أخلدت به عن مرتبته. وقال ابن عبد الملك، دخل يوماً إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض مخمراً، فتنسم بعض حاضري المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبت، وحده حداً تاماً، وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحد، بثمانية دنانير وعمامة. فقال الفتح حينئذ لبعض أصحابه، عزمت على إسقاط اسم القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم بقلايد العقبان قال، فقلت لا تفعل وهي نصيحة، فقال، وكيف ذلك، فقلت له، قصتك معه من الجايز أن تنسى، وأنت تريد أن تتركها مؤرخة، إذ كل من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسل عن ذلك، فيقال له اتفق معك كيت وكيت فيتوارث العلم عن الأكابر الأصاغر. قال، فتبين له ذلك، وعلم صحته وأقر اسمه
وحدثني بعض الشيوخ، أن سبب حقده على ابن باجة أبي بكر، آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، ما كان من إزرايه به، وتكذيبه إياه في مجلس إقراية، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ويذكر الفخر بذلك ، ووصف حلياً، وكانت تبدو من أنفه فضلة خضراء اللون. زعموا، فقال له، فمن تاك الجواهر إذاً الزمردة التي على شاربك، فثلبه في كتابه، مما هو معروف في الكتاب. وعلى ذلك فأبو نصر نسيج وحده، غفر الله له.
مشيختهروى عن أبوي بكر بن سليمن بن القصيرة، وابن عيسى بن اللبانة، وأبي جعفر بن سعدون الكاتب، وأبي الحسن بن سراح، وأبي خالد بن مستقور، وأبي الطيب بن زرقون، وأبي عبد الله بن خلصة الكاتب، وأبي عبد الرحمن بن طاهر، وأبي عامر بن سرور، وأبي محمد بن عبدون، وأبي الوليد بن حجاج، وابن دريد الكاتب.
تواليفهومصنفاته شهيرة منها قلايد العقبان، ومطمح الأنفس. والمطمح أيضاً. وترسيله مدون، وشعره وسط، وكتابته فايقة.
شعرهمن شعره قوله، وثبت في قلايده، يخاطب أبا يحيى بن الحجاج:
أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر
هنيئاً لمن زار نورك أفقه ... وفي صفحتيه من مضايك أسطر
وإني لخفاق الجناحين كلما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطر
وقد كان واشٍ هاجنا لتهاجر ... فبت وأحشائي جوى تتفطر
فهل لك في ود زوى لك ظاهراً ... وباطنه يندى صفاءً ويقطر
ولست بعلق بيع بخساً وإنني ... لأرفع أعلاق الزمان وأخطر
فروجع عنه بما ثبت أيضاً في قلايده مما أوله:
ثنيت أبا نصر عناني وربما ... ثنت عزمة السهم المصمم أسطر
نثرهونثره شهير، وثبت له من غير المتعارف من السلطانيات ظهيراً كتبه عن بعض الأمراء لصاحب الشرطة، ولا خفاء بإدلاله وبراعته:
كتاب تأكيد اعتناء، وتقليد ذي منة وغناء، أمر بإنفاذه فلاه، أيده الله، لفلان بن فلان صانه الله، ليتقدم لولاية المدينة، بفلانة وجهاتها، ويصرخ ما تكاثف من العدوان في جنباتها، تنويهاً أحظاه بعلائه، وكساه رايق ملائه، لما علمه من سنايه، وتوسمه من غنايه، ورجاه من حسن منابه، وتحققه من طهارة ساحته وجنابه، وتيقن أيده الله، أنه مستحق لما ولاه، مستقلٌ بما تولاه، لا يعتريه الكسل، ولا يثنيه عن إمضاء الصوارم والأسل، ولم يكل الأمر منه إلى وكل، ولا ناطه مناط عجز ولا فشل، وأمره أن يراقب الله تعالى في أوامره ونواهيه، وليعلم أنه زاجره عن الجور وناهيه؛ وسايله عما حكم به وقضاه، وأنفذه وأمضاه، يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً، والأمر يومئذ لله. فليتقدم لذلك بحزم لا يحمد توقده، وعزم لا ينفد تفقده، ونفس مع الخير ذاهبة، وعلى سنن البر والتقوى راكبة، ويقدم للاحتراس من عرف اجتهاده، وعلم أرقه في البحث وسهاده. وحمدت أعماله، وأمن تفريطه وإهماله، ويضم إليهم من يحذو حذوهم، ويقفو شأوهم، ممن لا يستراب بمناحيه، ولا يصاب خلل في ناحية من نواحيه، وأن يذكي العيون على الجناة، وينفي عنها لذيذ السنات، ويفحص عن مكامنهم، حتى يغص بالروع نفس آمنهم، فلا يستقر بهم موضع، ولا يقر منهم مخب ولا موضع، فإذا ظفر منهم بمن ظفر، بحث عن باطنه، وبث السؤال في مواضع تصرفه ومواطنه، فإن لاحت شبهة أبداها الكشف والاستبراء وتعداها للبغي والافتراء، نكله بالعقوبة أشد نكال، وأوضح له منها ما كان ذا إشكال، بعد أن يبلغ أناه، ويقف على طرف مداه، وحد له ألا يكشف بشرة إلا في حد يتعين، وإن جاءه فاسق أن يتبين، وأن لا يطمع في صاحب مال موفور، وأن لا يسمع من مكشوف في مستور، وأن يسلك السنن المحمو، وينزه عقوبته من الإفراط، وعفوه من تعطيل الحدود. وإذا انتهت إليه قصة مشكلة أخرها إلى غده، فهو على العقاب أقدر منه على رده، فقد يتبين في وقت ما لا يتبين في وقت، والمعاجلة بالعقوبة من المقت، وأن يتغمد هفوات ذوي الهيآت، وأن يستشعر الإشفاق، ويخلع التكبر، فإنه من ملابس أهل النفاق، وليحسن لعباد الله اعتقاده، ولا يرفض زمام العدل ولا مقاده، وأن يعاقب المجرم قدر زلته، ولا يعتز عند ذلته، وليعلم أن الشيطان أغواه، وزين له مثواه، فيشفق من عثاره، وسوء آثاره، وليشكر الله على ما وهبه من العافية، وأكسبه من ملابسها الضافية، ويذكره جل وتعالى في جميع أحواله، ويفكر في الحشر وأهواله، ويتذكر وعداً ينجز فيه، ووعيداً يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً. والأمير أيده الله، وليٌّ له ما عدل وأقسط، وبريء منه إن جار وقسط. فمن قرأه فليقف عند حده ورسمه، وليعرف له حق قطع الشر وحسمه، ومن وافقه من شريف أو مشروف، وخالفه في شيء منكر أو أمرٍ بمعروف، فقد تعرض من العقاب لما يذيقه وبال خبله، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. وكتب في كذا.
وفاتهبمراكش ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام تسع وعشرين وخمسماية، ألفي قتيلاً ببيت من بيوت فندق لبيب أحد فنادقها، وقد ذبح وعبث به، وما شعر به إلا بعد ثلاث ليال من مقتله.
ومن المقريين والعلماء
فرج بن قاسم بن أحمد
بن لب التغلبي
من أهل غرناطة، يكنى أبا سعيد.حالههذا الرجل من أهل الخير والطهارة، والزكا والديانة، وحسن الخلق. رأس بنفسه، وحلي بفضل ذاته، وبرز بمزية إدراكه وحفظه، فأصبح حامل لواء التحصيل عليه بدار الشورى، وإليه مرجع الفتوى ببلده، لغزارة حفظه، وقيامه على الفقه، واضطلاعه بالمسائل، إلى المعرفة بالعربية واللغة، والمران في التوثيق، والقيام على القراءات، والتبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرايض والأدب. جيد الحظ، ينظم وينثر. قعد ببلده للتدريس على وفور المسجد. ثم استقل بعد، وولي الخطابة بالمسجد الأعظم، وأقرأ بالمدرسة النصرية، في ثامن وعشرين من رجب عام أربعة وخمسين وسبعماية؛ معظماً، عند الخاصة والعامة، مقروناً اسمه بالتسويد. وهو الآن بالحالة الموصوفة.
مشيخته
قرأ على الخطيب للقرى، شيخنا أبي الحسن القيجاطي، والخطيب الصالح الفاضل أبي إسحق بن أبي العاصي، والقاضي العدل المحدث العالم أبي عبد الله بن بكر، ولازم الشيخ الفقيه أبا عبد الله البياني، وأخذ العربية عن شيخ العصر أبي عبد الله بن الفخار، وروى عن الشيخ الرحال الراوية أبي عبد الله محمد بن جابر بن محمد القيسي الوادي آشي وغيرهم.
شعرهمن شعره في غرض النسيب قوله:
خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقا ... فما زال قلبي للهوى كله رقا
دعوا القلب يصلي في لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقا
سلوا اليوم أهل الوجد ما ذابه لقوا ... فكل الذي يلقون بعض الذي ألقا
فإن كان عبدٌ يسل العتق مالكاً فلا ... ابتغى من مالكي في الهوى عتقا
بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ... إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطرقا
فطرق الهوى شتى ولكن أهله ... يجوزون في يوم الرهان بها سبقا
فكم جعت طرق الهوى بين أهله ... وكم أظهرت عند السرى بينهم فرما
بسيما الهوى تسمو معارف أهله ... فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا
فمن زفرة تزجي سحايب زفرة ... إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا
إذا سكتوا عن وجدهم أغرت بهم ... بواطن أحوال وما عرفت نطقا
ومن منظومه في وداع شهر رمضان المعظم قوله:
أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ... وقاربت يا بدر التمام أفولا
أجدك قد جدت بك الآن رحلة ... رويدك أمسك للوداع قليلا
نزلت فأزمعت الرحيل كلما ... نويت رحيلاً إذ نويت نزولا
وما ذاك إلا أن أهلك قد مضوا ... نافنوا فأبصرت الديار طلولا
وقفت بها من بعدهم فعل نادى ... لربع خلا يبكي عليه خليلا
لقد كنت في الأوقات ناشئة التعني ... أشد به وطساً وأقوم قيلا
ولما انجلى وجه الهدى فيك مسفراً ... سدلت على وجه الضلال سدولا
متى ارتاد مرتادٌ مقيلاً لعثرة ... أتاك فألفى للعثار مقيلا
وناديت فينا صحبة الخير أقبلوا ... بإقبالكم حزتم لدي قبولا
لقد كنت لما واصلوك ببرهم ... حفياً بهم براً لهم ووصولا
أقاموا لدين الله فيك شعايراً ... هدتهم إلى دار السلام سبيلا
فكم أطلقوا فيها أعنة جدهم ... وكم أرسلوا فيها الدموع همولا
دموعاً أثارت سحها ريح زفرة ... فسالت وخدت في الخدود مسيلا
لديك أيا شهر الهدى قصروا المدى ... فكم لك في شأو الفضايل طولا
دلايل تشريف لديك كثيرة ... كفى بكتاب الله فيك دليلا
ومن الصوفية والصلحاء
فضل بن محمد بن علي
بن فضيلة المعافري
يكنى أبا الحسن من أهل الشرق الأندلسي، أبو الحسن الولي الصالح الصوفي.حالهكان ولياً فاضلاً زاهداً، على سنن الفضلاء، وأخلاق الأولياء، غزير العلم، كثير العمل، دايم الاعتبار، مشهور الكرامة، مستجاب الدعوة، صوفياً محققاً، انتهت إليه الرياسة في ذلك على عهده. يدل على ذلك كلامه على أغراض القوم، وكشفه عن رموزهم وإشاراتهم، أديباً بليغاً، كاتباً مرسلاً، لا يشق غباره في ذلك. قايماً على تجويد كتاب الله، عالي الرواية، أسن وتناهى وازدلف إلى التسعين، ممتعاً بجوارحه، وولي الخطابة والإمامة بالمسجد الأعظم، أقرأ به مدة كبيرة.
قال ابن الزبير في صلته: كان جليلاً في ذاته وخلقه ودينه، معدوم النظير في ذلك، مشاركاً في فنون من العلم، أديباً بارعاً، كاتباً بليغاً، فصيح القلم، متقدماً في ذلك، متصوفاً، سنياً، ورعاً، معدوم القرين في ذلك، متواضعاً، مقتصداً في شئونه كلها، جارياً في خلقه وأفعاله وأحواله، على سنن السلف، أحفظ الناس للسانه وجوارحه وأصدقايه، وأسلمهم عنياً ومشهداً، وأشدهم تمسكاً بهدي السلف الصالح، مؤثراً للخمول، سريع العبرة، شديد الخوف لله سبحانه، تالياً لكتاب الله، كثير الصوم، خفيف القدم في حوايج أصحابه، مشاركاً لهم بأقصى ما يمكنه. له تقاييد جوابية عما كان يسئل عنه في الفن الذي كان يؤثره، محرراً ما يلزم التقييد به من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، غير منافر لمذهب الأشعرية، مالكي المذهب، له اختيارات يسيرة لا يفتى بها، ولا تتعدى علمه.
مشيختهروي عن أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن سيدبونه، وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن شهيد، وأخذ أيضاً عن أبي بكر بن محرم، وأجاز له أبو بكر بن المرابط، وقرأ على القاضي أبي القاسم بن يحيى بن ربيع، والقاضي أبي عيسى بن أبي السداد المرسي، وغيرهم.
من أخبارهوكراماته شهيرة، فمنها أن رجلاً استفتاه، فأفتاه بجواب لم يحصل له به الإقناع، فرأى في عالم النوم، وإثر سؤاله إياه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له، الحق ما قال لك فلان في المسألة. قال الحاكي، فبكر إليه الرجل من الغد، فلما أقبل عليه بموضع إقرايه، قال له، ألم ترد أن تستفتي يا أبا فلان إلا من رأس العين، فبهت الرجل. وأحواله شهيرة.
مولدهولد عام سبعة وستماية.
وفاتهفي الثامن عشر من محرم عام تسعة وتسعين وستماية. ودفن بمقبرة ربض البيازين مع قومه من صلحاء الشرق، وكانت جنازته مشهودة.
ومن العمال الأثرا
فلوج العلج
مولى يحيى بن غانية.حالهكان فلوج شهماً شجاعاً، مهيباً حازماً، نال من مولاه حظوة، واستعان به على أموره المهمة. وجرى على يده إغرام أهل قرطبة، وانطلقت على أموالهم يده، وأثرى وجمع مالاً دبرا من الصامت والذخيرة عظيماً.
نكبتهوكان يحيى بن غانيه قد ولاه حصن بني بشير، فثقفه وحصنه، ونقل إليه أمواله ومتاعه، وذخيرته. ولما توفي مولاه، لحق به وملك أمره، واستعان بجماعة من النصارى، ثم بدا له لضعف رأيه، وسوء تدبيره، أن ألقى بيده إلى ابن أخي مولاه إسحق بن محمد بن غاليه، فأناب ولحق به، معتذراً عن توقفه، فقبض عليه وصفده، وعرض عليه العذاب، وأسكنه في تابوت، باطنه مسامير، لا يمكنه معها التصرف، وأجاعه بمرأى من الطعام بمطبخه، إلى أن مات جوعاً وألماً. وهو مع ذلك لا يطعمه في شيءٍ من المال. وتخلف بالحصن رجلاً من جهة سرقسطة، يعرف بابن مالك، ويكنى أبا مروان. فلما ذاع خبر القبض عليه، بادر الموحدون الذين بلوشة، فتغلبوا عليه، واستولوا على ما كان به من مال وذخيرة، ووجدوا فيه من أنواع الثياب والحلي والذخيرة، كل خطير عظيم، وشدوا على ابن مالك في طلب المال فلم يحدو عنده شيئاً. إلى أن فدى نفسه منهم، بمال كبير. فمضى فلوج على هذا السبيل.
ومن المقربين والعلماء
قاسم بن عبد الله
بن محمد الشاط الأنصاري
نزيل سبتة، وأصله من بلنسية، يكنى أبا القاسم. قال، والشاط إسم لجدي، وكان طوالاً فجرى عليه الاسم.حالهنسيج وحده في إدراك النظر، ونفوذ الفكر، وجودة القريحة، وتسديد الفهم، إلى حسن الشمايل، وعلو الهمة، وفضل الخلق، والعكوف على العلم، والاقتصار على الآداب السنية، والتحلي بالوقار والسكينة. اقرأ عمره بمدرسة سبتة، الأصول والفرايض، متقدماً، موصوفاً بالأمانة. وكان موفور الحظ من الفقه، حسن المشاركة في العربية، كاتباً، مرسلاً، ريان من الأدب، ذا مماسة في الفنون، ونظر في العقليات، ضرورة لم يتزوج، ممن يتحلى بطهارة وعفاف.
وقال في المؤتمن كان مع معارفه، عالي الهمة، نزيه النفس، ذا وقار وتؤدة في مشيه ومجلسه، يشاب وقاره بفكاهة نظيفة، لا تنهض إلى التأثير في وقاره، ظريف الملبس، يخضب رأسه بالحنا على كبره.
مشيخته
قرأ بسبتة على الأستاذ الكبير أبي الحسن بن أبي الربيع وبه تأدب، وعلى أبي بكر بن مشليون، وعلى الحافظ أبي يعقوب المحاسبي، وعلى الطبيب أبي عبد الله محمد بن علي بن أبي خالد العبدري الأبدي، وعلى أبي الحسن البصري، وعلى خاليه أبي عبد الله محمد وأبي الحسن إبني الطرطاني، وأجازه أبو القاسم بن البرا، وأبو محمد بن أبي الدنيا، وأبو العباس بن علي الغماز، وأبو جعفر الطباع، وأبو بكر بن فارس، وأبو محمد الأنباري، وغيرهم. وأخذ عنه الجملة من أهل الأندلس من شيوخنا كالحكيم الأستاذ أبي زكريا بن هذيل، وشيخنا أبي الحسن بن الجياب، وشيخنا أبي البركات، والقاضي أبي بكر بن شبرين، وقاضي الجماعة أبي القاسم الحسني الشريف، والوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، والقاضي أبي القاسم بن سلمون، وغيرهم.
شعرهوكان يقرض أبياتاً حسنة من الشعر، فمن ذلك قوله يذيل أبياتاً لأبي المطرف بن عميرة وهي:
فضل الجمال على الكمال بخده ... والحق لا يخفى على من وسطه
عجباً له برهانه بشروطه ... معه فما مطلوبه بالسفسطه
علم التباين في النفوس وإنها ... منها مفرطة وغير مفرطة
فيه رأت وجه الدليل وفرقه ... أصغت إلى الشبهات فهي مورطة
فأراد جمعها معاً في حكمة ... هذي بمنتجة وذي بمغلطة
ومن شعره قوله:
وإني سلكت من انقباضي مسلكاً ... وجريت من صمتي على منهاج
وتركت أقوال البرية جانباً ... كي لا أميز مادحاً من هاج
دخوله غرناطةورد على غرناطة عند تصير سبتة إلى الإيالة النصرية مع الوافد من أهلها ببيعة بلدهم، فأخذ عنه بها الجملة، ثم انصرف إلى بلده. قال شيخنا أبو البركات، وأنشدنا لنفسه:
قلت يوماً لمن اتخذت هواه ... ملةٌ قد تبعتها وشريعة
لم تأب الوصال وهو مباح ... وتسوم المحب سوء القطيعة
قال إني خشيت منك ملالاً ... فتركت الوصال مد ذريعة
وأنشدنا:
وغزال أنس سل من ألحاظه ... سيفاً أراق دم الفؤاد بسله
وبخده من ذلك أعدل شاهد ... يقضي بأن الفتك به من فعله
مالي أطالبه فيدحض حجتي ... ودمي يطل وشاهدي من أهله
وأنشدنا الفقيه أبو القاسم الزقاق، قال أنشدنا الأستاذ أبو القاسم الشاط، وقد خرجنا معه مشيعين إياه في انصرافه عن غرناطة آيباً إلى بلده:
يا أهل غرناطة إني أودعكم ... ودمع عيني من جراكم جار
تركت قلبي غريباً في دياركم ... عساه يلقى لديكم حرمة الجار
تواليفهمنها أنوار البروق في تعقب مسايل القواعد والفروق. وغنية الرابض في علم الفرايض. وتحرير الجواب في توفير الثواب. وفهرسة حافلة. وكان مجلسه مألفاً للصدور من الطلبة، والنبلاء من العامة، حدثني شيخنا القاضي الشريف أبو القاسم، قال، كان يجلس عند رجل خياط من أهل سبتة، يعرف بالأجعد من العامة، فأخذ يوماً يتكلم عن مسألة، فقال متمثلاً كما تقول الأجعد الخياط فعل كذا، ثم التفت معتذراً يتبسم وقال، أتمثل بك، فقال الأجعد بديهة، إذاً يا سيدي أعتق عليكم، إشارة إلى قول الفقهاء، العبد يعتق على سيده، إذا مثل به فاستظرف قوله.
مولدهفي ذي قعدة من عام ثلاثة وأربعين وستماية بمدينة سبتة.
وفاتهتوفي بها في آخر عام ثلاثة وعشرين وسبعماية، وقد استكمل الثمانين.
ابن جابرقاسم بن عبد الكريم بن جابر الأنصاري من أه غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن جابر.
حالهكان رحمه الله من جلة أهل العلم والفضل، حسن الأخلاق، مليح الحديث، عذب الفكاهة، لطيف الحاشية، على دين والتزام سنة. رحل إلى المشرق، فلقي العلماء، وأخذ عنهم، وكلف بعلم الجدل، فقرأه كثيراً، وبهر فيه. وورد على غرناطة من رحلته، فأقرأ بها الأصول وغيرها من جدل ومنطق وفقه.
مشيختهقرأ بغرناطة على الخطيب ولي الله أبي الحسن بن فضيلة، والأستاذ خاتمة المقريين أبي جعفر بن الزبير، وولي القضاء بسطة، ثم كلف بالإقراه وعكف عليه، فلم ينتقل عنه.
من أخذ عنه: أخذ عنه كراسة الفخر المسماة بالآيات البينات، وكان قايماً عليها، جملةٌ من شيوخنا، كالأستاذ التعاليمي أبي زكريا بن هذيل، والأستاذ المقري أبي عبد الله بن البياني.
شعرهوله شعر أنشدنا الشيخ أبو القاسم بن سلمون، قال أنشدنا في شيخنا ابن جميل قوله:
إن أطلع الشرق شمسٌ دنيا ... قد أطلع الغرب شمس دين
وبين شمس وبين شمس ... ما بين دنيا وبين دين
مولدهولد بغرناطة عام تسعة وستين وستماية.
وفاتهتوفي بها في جمادى الآخرة أو رجب من عام أربعة عشر وسبعماية.
ابن درهمقاسم بن يحيى بن محمد الزروالي يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن درهم، ما لقي أصله من جبال تاغسي، ودخل غرناطة وقرأ بها.
حالهمن تذييل صاحبنا القاضي أبي الحسن، قال فيه: كان رحمه الله واحد زمانه، ينبوع الحكمة، يتفجر من لسانه، وعنوان الولاية على طيلسانه. ومن عايد الصلة: كان رحمه الله علماً من أعلام الزهد والورع والديانة، والتقلل من الدنيا، والعكوف على تجويد كتاب الله وإقرايه، منقطع القرين فيه، كثير المناقشة والتحقيق، يرى أن ليس في الأرض من يحكم ذلك حق إحكامه، ما لم يأخذه.
مشيختهقرأ على جملة من حملة كتاب الله بالمشرق والمغرب والأندلس، وعني بذلك. ثم لم يعتمد منهم إلا على الأستاذ أبي إسحق الغافقي بسبتة، والخطيب أبي جعفر بن الزيات ببلش من الأندلس، واستمرت حاله على سبيلها من الزهد والانقباض والتنطع، والإغراق في الصلاح، والشذوذ في بعض السجايا إلى أن توفي.
بعضٌ من نوادره مع اخشيشانه: حدثني القاضي أبو الحسن بن الحسن، أن بعض الطلبة المتنسكين قال له، أتيتك أقرأ عليك، فأستخير الله، ثم أتاه فقال قد استخرت، وهم بالقراءة، فقال له الشيخ. إمسك حتى أستخير أنا الله، في قرائتك علي، فقال الطالب، وهذا عمل بر، فقال له الحجة عليك. فانفصل عنه. ثم عاد إليه يسل منه القراءة، فقال، يا بني ظهر لي أن لا تقرأ علي، فانصرف.
من أخباره في الكرامة، قال لي المذكور، وقد أزمعت السفر إلى ظاهر طريف مع جمع المسلمين، أنك إن سافرت يا ولدي، تقاسي مشقة عظمى إن سبق القدر بحياتك، والله يرشدك، وقد كنت شرعت في ذلك مع رفقائي. وفي سحر ليلة اليوم، الذي انهزم فيه المسلمون، رأيته في النوم يقول لي منكراً علي، قلت لك لا تسافر يكررها، فاستيقظت وأوقع الله بقلبي الرجوع إلى الجزيرة، لآراب أقضيها، فما بلغ زوال الشمس من اليوم، إلا ومقدمة الفل على أطواق البلد في أسوإ حال.
وفاتهتوفي ببلدة مالقة خامس صفر من عام خمسين وسبعماية في وقيعة الطاعون ، توفي وآخر كلامه، رزقنا الله عملاً صالحاً يقربنا إليه زلفى، وجعلنا ممن يمر على عقبتي الدنيا والآخرة مرور أهل التقوى.
من الكتاب والشعراء
قرشي بن حارث
بن أسد بن بشر بن هندي بن المهلب بن القاسم ابن معاوية بن عبد الرحمن
الهمدانيحالههو أعرق الناس في الشعر، لأن جده المهلب كان شاعراً، وولده هندي كذلك، وأسد وحارث وقرشي فهم شعراء سنة على نسق، ويدل شعرهم، على شرف نفوسهم، وبعد هممهم.
شعرهقال أبو القاسم الغافقي، من شعره قوله في هاشم بن كعب التميمي من أنجد الفرسان، قتل في يوم، خمسة من أنجاد المولدين:
هجرت القوافي والظبا الأوانسا ... ودعت لذاتي نعم واللواعسا
ورعت فؤادي بالمشيب عن الصبا ... وأصبحت عن عهد الغواية يائسا
أبا خالد ما زلت مذ كنت يافعاً ... لكل سنات المكارم لابسا
فما حملت أنثى كمثلك سيداً ... ولا حملت خيلٌ كمثلك فارسا
الورسيديقاسم بن محمد بن الجد العمري يكنى أبا القاسم، ويعرف بالورسيدي، من أهل ألمرية، وتكرر وروده على غرناطة.
حاله
قال شيخنا أبو البركات، كان حسن الأخلاق، سليم الصدر، بعيداً عن إذاية الناس بيده أو لسانه بالجملة، له خط لابأس به، ومعرفة بالعدد، وسلك الطريقة الزمامية، وله حظ من قرض الشعر. وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: من أيمة أهل الزمام، خليق برعي الذمام، ذو حظ كما تفتح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام. كان ببلده محاسباً، في لجة الأعمال راسباً، صحيح العمل، يلبس الطروس من براعته أسنى الحلل.
شعرهقال يمدح المقام السلطاني:
أرى أوجه الأيام قد أشرقت بشرا ... فقل لي رعاك الله ما هذه البشرا
وما بال أنفاس الخزامى تعطرت ... فأرجت الأرجاء من نفحها عطرا
ونقبت الشمس المنيرة وجهها ... قصوراً عن الوجه الذي أخجل البدرا
وما زالت بأغصان الرجال أريحية ... كما عطفت أعطافها تنثني شكرا
فما ذاك إلا أن بدا وجه يوسف ... فأربت على الآيات آياته الكبرا
خليفة رب العالمين الذي به ... تمهدت الأرجاء وامتلأت بشرا
وجرت على أعلى المجرة ساحباً ... ذيول العلى فاستكمل النهى والأمرا
وقام بأمر الله يقضي ويقتضي ... الفتوح التي تبقي له في العلى ذكرا
وأربى على كل الملوك وفاتهم ... بسيرته الحسنى التي قد علت قدرا
وهي طويلة، ومن شعره أيضاً قوله:
من أين أقبلت يا نسيم ... جادت بساحاتك الغيوم
ولا عدمناه سنك سرى ... حل به عندنا النعيم
بلغ سلامى أهيل ودى ... بلغك الله ما تروم
قل لهم صبكم مشوقٌ ... أنحله وجده القديم
لطالما يسهر الليالي ... وطي أضلاعه جحيم
هبوا رضاكم لذي غرام ... ما زال قدماً بكم يهيم
إن غبتم عن سواد عيني ... فحبكم في الحشى مقيم
لو ثر ساعد السعد أن أراكم ... لما اشتكى قلبي السقيم
يا حادي العيس نحو أرض ... بنيقة قدرها عظيم
إذا أتيت اللوى وسلفا ... وبان للناظر الحطيم
ولاح بالأبرقين بدرٌ ... بسيره تهتدي النجوم
فقل غريبٌ ثوى بقرب ... في بحر أوزاره يعوم
قد أثقلت ظهره الخطايا ... وشجبت ذكره الرسوم
إن أعمل الحزم لارتحال ... أقعده ذنبه العظيم
لهفي هذا الشباب ولى ... والقلب في غيه مقيم
يا رب عفواً لذي اجترام ... لا تهتك الستر يا حليم
مالي شفيع سوى رجايي ... وحسن ظني أيا كريم
فلا تكلني إلى ذنوبي ... وارحمني يا ألله يا رحيم
وفاتهتوفي في وقيعة الطاعون عام خمسين وسبعماية.
من المحدثين والفقهاء والطلبة النجباء
قاسم بن أحمد بن محمد
بن عمران الحضرمي
من أهل سبتة:حالهمن خط صاحبنا القاضي أبي الحسن بن الحسن. قال، كان شيخاً يتقد ذكاءً. رحل عن سبتة إلى الحجاز، فقضى الفريضة، وتطور في البلاد المشرقية نحواً من أربعة عشر عاماً، وأخذ بها عن جلة من العلماء. وورد على غرناطة في حدود عام ثمانية عشر وسبعماية، فأخذ عن بعض أشياخها، وعاد إلى بلده، وكان على خزانة الكتب به، وكان يقرىء القرآن به، قال، وأنشدني لما لقيته بيتاً واحداً، يحتوي على حروف المعجم، وهو:
قد ضم نصر وشكا بثه ... مذ سخطت عض على الإبط
مشيخته
أخذ بالمشرق عن جماعة، منهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب الدمشقي الحجار، والشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الشيرازي ابن جميل، قرأ عليه كتاب ابن الحاجب، وحدثه به عن مؤلفه، وقرأ على الشيخين المقريين الجليلين؛ أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق المعروف بابن الضايع وأبي عبد الله بن يعقوب الجراش المقدسي، جملة من الكتب الحديثية وغيرها، وسمع عليهما كتاب الشاطبية وحدثاه بها معاً عن المقري أبي الحسن علي كمال الدين بن شجاع العباسي الضرير، عن صهره مؤلفها.
تواليفهقال: له في القراءات تقييد حسن سماه الشافي في اختصار التيسير الكافي
وفاتهتوفي أيام الطاعون العام ببلده.
ابن خضرقاسم بن خضر بن محمد العامري يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن خضر هكذا، دون تعريف. يعرف سلفه ببني عمرون من أهل ألمرية.
حالهمن خط شيخنا أبي البركات، كان هذا الشيخ من وجوه ألمرية، وممن تصرف سلفه في خطة القضاء بها. وهو أقدم خطيب أدركته بسني بجامعها الأعظم. وكان شيخاً عفيفاً من رجال الجد، ضيق العطن، سريع الغضب، غيوراً على تلك الخطة، لا يحلى بعينه أحد. لما مات رفيقه في الصلا والخطبة، الشيخ الشهير عند العامة، ثالث اثنين، الخراسي والنطية، أبو عبد الله بن الضايع، فكل من عرض عليه أن يكون معه أباه، فقال أهل البلد، فما العمل، فقال يكتب إلى أبي القاسم ابن الحاج إلى سبتة، ليأتي إلى أرض سلفه، ويكون رفيقي في الصلاة والخطبة، يعني عمي، فكتب إليه بذلك، فكانت المسألة عند الآخر، أهون من أن يجيب على الكتاب، ولو بالإباية، فبقي الأمر إلى أن قدم معه الشيخ الصالح الخطيب المصقع أبو الحسن بن فرحون البلفيقي، فلم يجد فيه قادحاً إلا كونه ليس من أهل البلد، فبقي مرافقاً له إلى حين وفاته غريبة: قال الشيخ أخبرتني جدتي عائشة بنت يحيى بن خليل، قالت، كان الرجل الصالح، أبو جعفر بن مكنون خال قاسم بن خضر هذا، فرآه يلعب مع الصبيان في أزقة ألمرية، فقال له من يكون خطيب ألمرية يلعب، فبقيت في حفظه إلى أن ولي الخطابة.
وفاتهتوفي في صفر من عام ثلاثة وسبعماية، وكانت جنازته مشهودة
حرف السين
سوار بن حمدون
بن عبده بن زهير بن ديسم بن قديدة بن هنيدة
وكان علماً من أعلام العرب، وصاحب لواء قيس بالأندلس، ونزل جده بقرية قربسانة من إقليم البلاط من قرى غرناطة، وبها أنسل ولده، ولم يزالوا أعلاماً، إلى أن ظهر سوار هذا منهم في الفتنة.حاله وبعض آثاره وحروبهقال أبو القاسم، كان سوار هذا بعيد الصيت، رفيع الذكر، شجاعاً، محباً في الظهور، حامي العرب وناصرهم. وكان له أربعة من الإخوة، مثله في الشجاعة، حضروا معه في الحروب في الفتنة، وهو الذي بنى المدينة الحمراء بالليل، والشمع تزهر لعرب الفحص، وبنى مدينة وادي آش لبني سامي، وبنى مدينة منتيشة لبني عطاف، وبنى مدينة بسطة لبني قحطبة، وبني مسيرة، وبني كورة جيان للعرب. ولولا أن الله من على العرب بسوار ونصره، لما أبقى العجم والمولدون منهم أحداً. وأنسل سوار، عبد العزيز المقتول بمنتشافر، وعبد الرؤوف وعبد الملك.
مبدأ أمره وحروبه وشعره
قال أحمد بن عيسى بعد اختصار، في صدر هذه السنة، يعني سنة خمس وسبعين ومائتين، ثار سوار بن حمدون بناحية البراجلة من كورة إلبيرة، وانضوت إليه العرب، قام على تفئة مهلك يحيى بن صقالة أميرهم، قتيل المسالمة والمولدين، فطلب بثأره، وكثرت أتباعه، واعترت العرب له، وقصد بجمعه إلى ست شافر، وبه من عدوه المذكورين نحو من ستة آلاف رجل نازلهم حتى قهرهم. وطاف على حصونهم فافتتحها، وقتل وغنم، وتنادوا لقتاله في جموع عظيمة، عليها جعد بن عبد الغافر عامل الأمير عبد الله، وبرز إليهم فيمن برز، وناشبهم الحرب، فانهزموا فقتل منهم خلق حرزوا بسبعة آلاف، وأسر جعد، ومن عليه وأطلقه، وكانت وقيعته الأولى هذه تعرف بوقيعة جعد. وغلظ، واستند إلى حصن غرناطة، بالعرب من مدينة إلبيرة. وكانت العرب يتألبون على المولدين، إلى أن عزل الأمير جعداً عن الكورة إرضاءً لسوار، فأظهر عند ذلك الطاعة، وغزا الحصون الراجعة إلى ابن حفصون فأوقع بهم، فهاجمهم، واجتمعت عليه كلمتهم، فقصدوه وحصروه بغرناطة في نحو عشرين ألفاً، وبرز إليهم في عدده القليل من عبيده، ورجال بيوتات العرب من أهل إلبيرة، ورجعوا من جبل الفخار على تعبئة، يريدون الباب الشرقي من غرناطة، وكادهم لما التحمت الحرب وشب ضرامها، بما دبره من انسلاله في لخمة من فرسانه، حتى استدبرهم، فحمل بشعاره، فانذعروا وانفضوا، فتوهم حماتهم أن مدداً جاءهم من ورائهم، فولوا منهزمين، وأعمل سوار وأصحابه السيوف فيهم إلى باب إلبيرة، فيقال إن قتلاهم في هذه الوقيعة الثانية كانوا إثني عشر ألفاً، وهي الوقيعة المعروفة بوقعة المدينة، ولاذ المولدون بعد هذا بعمر بن حفصون واستدعوه، فوافاهم في جيش عظيم، ودخل إلبيرة، وناهض سواراً. وعنده رجالات عرب الكور الثلاث، إلبيرة وجيان وريه، واشتد القتال، وجال جيش ابن حفصون جولة، جرح فيها جراحات صعبة، وكاد سوار يأتي عليه، لولا رجال صدقوه الكر واستنقذوه، وتمت عليه الهزيمة، فانقلب على عقبه، ونالت الحضرة معرته، فأغرم أهلها الذين استجلبوه ما تشعث من عسكره، واستعمل عليهم قائده حفص بن المرة، وانصرف. ونجح سوار بما تهيأ له على أعدائه، فاعتلت همته، وأجلته العرب، وعلا في الناس ذكره، وقال الأشعار الجزلة، فيما تهيأ له على المولدين، وأكثر الافتخار بنفسه، فشهر من قوله في ذلك:
صرم الغواني يا هنيد مودتي ... إذ شاب مفرق لمتي وقذالي
وصددن عني يا هنيد وطالما ... علقت حبال وصالها بحبالي
وهي طويلة، أكثر فيها الفخر، وألم بالمعنى.
وفاتهولما انصرف عمر بن حفصون وترك قائده بإلبيرة، جهز معه طائفة من خيله، وأقره لمغاورة سوار، ودرك النيل لديه، وأعمل حفص جهده، وطلب غرته، فأمكنه الله منه، وأنه دنا إليه يوماً، وقد أكمن أكثر خيله، وظهر له مستغيراً بجانب من حصنه، فخرج سوار مبادراً من غرناطة لأول الصيحة في نفر قليل، لم يحترس من الحيلة، التي يحذرها أهل الحزم، فأصحر لعدوه، وخرجت الكماين من حوله، فقتل وجيء بجثته إلى إلبيرة، فذكر أن الثكالى من نسايهم قطعن لحمه مرقاً، وأكلنه حنقاً لما نالهن من الثكل. وكان قتل سوار في سنة سبع وسبعين ومايتين، وقتلت العرب بقتل سوار، وكل حدها بما نزل بها.
سليمن بن الحكم
بن سليمن بن عبد الرحمن الناصر لدين الله الخليفة بقرطبة
المكنى بأبي أيوب الملقب من الألقاب الملوكية بالمستعين بالله.أوليته: معروفة.
حالهكان أديباً شاعراً، مجموع خلال فاضلة، أصيل الرأي، راجح العقل، ثبتاً. ولي الخلافة غلاباً، وقعصاً، ومنازعة، وأوقع بأهل قرطبة وقائع أبادتهم. وخلع ثم عادت دولته، وجرت له وعليه الهزايم، على قصر أمد خلافته، لقيام البربر بدعوته، وتدويخ البلاد باسمه، في أخبار فيها عبرة، دخل في بعض حركاتها وهولاتها المبيرة ، إلى أن طحنته رحى الفتنة، وشيكاً عن دنيا غير هنية، وصبابة ليست بسنية
شعرهمن شعره يعارض المقطوعة الشهيرة المنسوبة للرشيد .
عجباً يهاب الليث حد سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
فأقارع الأهوال لا متهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لحن لناظري ... من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال وتلك أخت المشتري ... حسناً وهذي أخت غصن البان
حاكمت فيهن السلو إلى الهوى ... فقضى بسلطان على سلطان
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عز ملكي كالأسير العان
لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذل الهوى عزٌّ وملكٌ ثان
مقتلهقتله علي بن حمود المتقدم الذكر، متولي الأمر بعده، صبراً بديه، بدم هشام المؤيد، وقال لما زحف إليه، لا يقتل الزلطان إلا الزلطان، يعني السلطان، إذ كان بربري اللسان، وذلك في أخريات المحرم من سنة سبع وأربع ماية.
سليمان بن عبد الرحمن
بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان
يكنى أبا أيوب.حالهكان شهماً جريئاً، أنوفاً شجاعاً، ديناً فاضلاً. ولما توفي أبوه بقصر قرطبة، وهشام وأبو أيوب هذا غائبان، وكل ابنه عبد الله، المعروف بالبلنسي، وقال من سبق إليك من أخويك، فارم إليه بالخاتم، فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه. فإن سبق إليك سليمن، فله فضل دينه ونجدته، وحب الشاميين له. فقدم هشام من ماردة، وتولى الخلافة قبل سليمن. واتصل ذلك بسليمن، فأخذ لنفسه البيعة بطليطلة، وما اتصل بها، ودعا إلى نفسه ........... وواضع أخاه الحرب غير ما مرة، تجري عليه في كلها الهزايم، إلى أن تبرم بنفسه، وأجاز البحر عن عهد إلى ستين ألفاً بذلت له، واستقر بأهله وولده ببلاد البربر. ولما صار الأمر للحكم بن هشام، عاد إلى الأندلس سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان اللقاء في شوال منها، فانهزم سليمان، ثم عاد للقاء فانهزم. وفي سنة أربع وثمانين حشد، واحتل بجيان ثم بإلبيرة، والتقى بها معه الحكم، ودام القتال أياماً، حتى هم الحكم بالهزيمة، ثم انهزم سليمن، وقتل في المعركة بشرٌ كثير، وأفلت سليمن إلى جهة ماردة. وبالتقاء الحكم وعمه سليمن بإلبيرة وأحوزاها، إستحقا الذكر هنا على الشرط المعروف.
وفاتهوبعث الحكم أصبغ بن عبد الله في طلب سليمن، فأسره وأتاه به، فأمر بقتله، وبعث برأسه إلى قرطبة. قتل في سنة خمس وثمانين بعدها.
سعيد بن سليمان بن جودي
السعدي
حاله
كان سعيد بن سليمن صديق سوار، فغصبت العرب الإمارة به بعده، وعلقت به، فقام بأمرها وضم نشرها، وكان شجاعاً بطلاً، فارساً مجرباً، قد تصرف مع فروسيته في فنون من العلم، وتحقق بضروب من الآداب، فاغتدى أديباً نحريراً، وشاعراً محسناً، واتصل قيامه بأمر العرب إلى أن قتل.شعرهومن شعره في وقيعة سوار بالمولدين قوله من قصيدة طويلة:
قد طلبنا بثأرنا فقتلنا ... منكم كل مارق وعنيد
قد قتلناكم بيحيى وما ... أن كان حكم الله بالمردود
هجتم يا بني العبيد ليوثاً ... لم يكونوا لجارهم بقعود
فاصطلوا حرها وحد سيوف ... تلظى عليكم بالوقود
حاكمٌ ماجدٌ يقود إليكم ... فئةً سادةً كمثل الأسود
مهذبٌ من نزار وعميدٌ ... ما مثله من عميد
يطلب الثأر بابن قوم كرام ... أخذوا بالعهود قبل المهود
فاستباح الحما لم يبق منها ... غير عان فقده مصفود
قد قتلنا منكم ألوفاً فما ... يعدل قتل الكريم قتل العبيد
مثلوه لما أضاف إليهم ... لم يكن قتله برأي سديد
قتلته عبيد سوءٍ لئامٌ ... وفعال العبيد غير حميد
لم يصيبوا الرشاد فيما أتوه ... لا ولا كان جدهم لسعود
قد غدرتم به بني اللؤم من ... بعد يمينٍ قد أكدت وعهود
فلئن كان قتله غدرةً ... ما كان بالنكس لا ولا الرعديد
كان ليثاً يحمي الحروب وحصناً ... وملاذاً وعصمة المقصود
كان فيه التقى مع الحلم ... والبأس وجودٌ ما مثله جود
عالٍ مجد الأمجاد بعدك ... قديماً وفت كل مجيد
فجزاك الإله جنة عدن ... حيث يجزي الثواب كل شهيد
مقتلهقال الملاحي، كان من الأعلام، وعد في الشعراء والفرسان والخطباء والبلغاء، خطب بين يدي الخليفة المنذر، وهو حدث، أول ما أفضت الخلافة إليه، وعليه قباء خز، وقد تنكب قوساً عربية، والكنانة بين يديه. خطب خطبة بليغة، وصلها بشعر حسن، ولم يزال اللوا يتردد عليه في العز والمقام، ويخطب في أعلى المنبر في المسجد الجامع بإلبيرة. وسجل له الخليفة عبد الله على الكورة، إلى أن هم بالقيام على بني أمية عندما اشتدت شكيمته، وظهر على عمر بن حفصون إلى أن قتل بسبب امرأ، تمت عليه الحيلة لأجلها بدار يهودية، إذ كان منحطاً في هوى نفسه، فطاح في ذي قعدة سنة أربع وثمانين ومايتين، وصار أمر العرب بعده إلى محمد بن أضحى حسبما يتقرر في مكانه.
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
سهل بن محمد بن سهل
بن مالك بن أحمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي
صدر هذا البيت، وياقوتة هذا العقد، يكنى أبا الحسن. قال أبو جعفر بن مسعدة، كان رأس الفقهاء وخطيب الخطباء البلغاء، وخاتمة رجال الأندلس. تفنن في ضروب من العلم، وبالجملة فحاله ووصفه في أقطار الدنيا، لا يجمله أحد، فحدث عن البحر ولا حرج، ضن الزمان أن يسمح برجل حاز الكمال مثلهحالهقال ابن عبد الملك، كان من أعيان مصره، وأفضل أهل عصره، تفنناً في العلوم، وبراعة في المنثور والمنظوم، محدثاً ضابطاً، عدلاً ثقة ثبتاً، حافظاً للقرآن العظيم، مجوداً له، متقناً في العربية، وافر النصيب من الفقه وأصوله، كاتباً مجيداً للنظم في معرب الكلام وهزله، ظريف الدعابة، مليح التندير. له في ذلك أخبار مستظرفة متناقلة، ذا جدة ويسار، متين الدين، تام الفضل، واسع المعروف، عميم الإحسان، تصدق عند القرب من وفاته بجملة كبيرة من ماله ورباعه، وله وفادةٌ على مراكش.
مشيختهروى ببلده عن خاله أبي عبد الله بن عروس، وخال أمه أبي بكر يحيى بن محمد بن عروس، وأبي جعفر بن حكم، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس. وبمالقة عن أبي زيد السهيلي، وأبي عبد الله بن الفخار. وبمرسية عن أبي عبد الله ابن حميد، وأبي القاسم بن حبيش. وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبوي عبد الله بن العباس بن مضاء، والجراوي الشاعر، وأبي الوليد بن رشد. قرأ عليهم وسمع، وأجازوا له. وأجاز له من أهل الأندلس أبو محمد عبد الله نزيل سبتة، وعبد الحق بن الخراط نزيل بجاية. ومن أهل المشرق جماعة، منهم إسمعيل بن علي بن إبراهيم الجراوي، وبركات بن إبراهيم الخشوعي أبو الطاهر، وعبد الرحمن ابن سلامة بن علي القضاعي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
من روى عنه: روى عنه أبو جعفر بن خلف، والطوسي، وابن سعيد القزاز، وأبو الحسن العنسي، وأبو عبد الله بن أبي بكر البري، وابن الجنان، وأبو محمد عبد الرحمن بن طلحية، وأبو محمد بن هرون، وأبو القاسم ابن نبيل، وأبو يعقوب بن إبراهيم بن عقاب، وأبو جعفر الطباع، وأبو الحجاج بن حكم، وأبو الحسن الرعيني، وأبو علي بن الناظر، وغيرهم.
ثناء الأعلام عليه: والمجال في هذا فسيح. ويكفي منه قول أبي زيد الفزاري:
عجباً للناس تاهوا ... بثنيات المسالك
وصفوا بالفضل قوماً ... وهم ليسوا هنالك
كثر النقل ولكن ... صح عن سهل بن مالك
شعرهوشعره كثير مما ينخرط في سلك الجيد فمن ذلك قوله:
نهارك في بحر السفاهة يسبح ... وليلك عن نوم الرفاهة يصبح
وفي لفظك الدعوى وليس إزاءها ... من العمل الزاكي دليل مصحح
إذا لم توافق قولةً منك فعلةً ... ففي كل جزءٍ من حديثك تفصح
تنح عن الغايات لست من أهلها ... طريق الهوينا في سلوكك أوضح
إذا كنت في سن البنى غير صالح ... ففي أي سن بعد ذلك تصلح
إلى كم أماشيها على الرغم غاية ... يصيب المزكي عندها والمجرح
وعليها ألا تنو ولا تنى فتحسن ... في عين الشيبان وتقبح
عسى وطرٌ مونقٌ فالتمس الرضا ... واقرع أبواب الرشاد فتفتح
فقد ساء ظني بالذي نا أهله ... وفضلك يا مولاي يعفو ويصفح
وقال في تشييع بعض الفقهاء من غرض الأمداح:
يلقاك من كل من يلقاك ترحيب ... ومن خليفتها عزٌّ وتقريب
وتصطفيك إلى أحوازها رتب لها ... على مفرق الجوزاء ترتيب
تأتي إليك بلا سعي بلا سبب ... كأن تركك للأسباب تسبيب
من كل مشغوفةٍ بالحسن دام لها ... إلى غنائك تصعيد وتصويب
يلقاك بالبشر والإقبال خاطبها ... وحظها منك إعراض وتقطيب
ما زلت ترغب عنها وهي راغبة ... كأن زهدك فيها عنك ترغيب
فانهض إليها فلو تستطيع كان لها ... إلى لقايك إرجاءٌ وتقريب
يحيى وتحيى فللباغي مواهبها ... عذب الزلال وللباغين تعذيب
سارت على العدل والإحسان سيرتها ... حتى تلاقي عليها الشاة والذيب
لم تصبها لذة الدنيا وزخرفها ... ولا سبتها المطايا والجلابيب
إذا أهم بني الدنيا نعيمهم ... فهمها البيض والجرد السلاهيب
فوق الكواكب مضروبٌ سرادقها ... على أفق الأفلاك تطنيب
كرعت في ظلها الصافي بسلسلها ... كأنها لك في المشروب شريب
في قبية من بني الآمال قد قرعت ... سهمٌ إلى طلب العليا طبابيب
إذا حضرنا طعاماً فهي مأدبة ... وإن سمعنا كلاماً فهو تأديب
ومن يلذ بأبي إسحاق كان له ... أعلاق مالٍ وأغلاق وتهذيب
يا ملد السر من قلبي ويا ملكاً ... إن ناب خطب فمن جدواه تأنيب
هب القرار لآمالٍ مسافرة ... وقد أضر بها بعدٌ وتغريب
ففي يمينك وهاباً ومنتظماً ... بسطٌ وقبضٌ وترغيبٌ وترهيب
وما يصر كتاباً راق منظره إن ناله ... من تراب الأرض تتريب
لك السيادة لا يلقى لسؤددها ... مثلٌ وإن طال تنقيرٌ وتنقيب
عزمٌ كحد سنان الرمح يصحبه ... عدل كما اعتدلت فيه الأنابيب
كمال نفسك للأرواح تكملة ... وذكر فضلك للأرواح تشبيب
وعرف ذاتك كافٍ في تعرفنا ... بنفحة الطيب يدري أنه طيب
إذا ذكرت فللأشعار مضطرب ... رحب المجال وللألحان تطريب
سر حيث شيت موفى من مكارمها ... يهابك الدهر والشبان والشيب
في غرة تخنق الأيام جدتها ... لها على أفق الأملاك تطنيب
ومن نمط النسيب والأوصاف قوله وهو بسبتة بعد وصوله من مراكش، وهو مما طار من شعره:
لما حططت بسبتة قتب النوى ... والقلب يرجو أن تحول حاله
والجو مصقول الأديم كأنما ... يبدي الخفي من الأمور صقاله
عانيت من بلد الجزيرة مسكناً ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله
كالشكل في المرآة تبصره ... وقد قربت مسافته وعز مناله
ومن شعره قوله رحمه الله:
تبسم واستأثرت منه بقبلة ... فشمت أقاحاً وارتشفت عقارا
ومر فأيدى الريح ترسل شعره ... كما ستر الليل البهيم نهارا
فيا لك ليلاً بالكثيب قطعته ... كما رعت بالزجر الغراب فطارا
تغص بنا زهر الكواكب غيرةً ... فتقدح في فحم الظلام شرارا
ومن ذلك قوله:
ولما رأيت الصبح هب نسيمه ... دعاني داعيه إلى البين والشت
وقلت أخاف الشمس تفضح سرنا ... فقالت معاذ الله تفضحني أخت
ومن الحكم وأبيات الأمثال قوله رحمة الله عليه:
منغص العيش لا يأوي إلى دعة ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكانٍ ولم تسكن إلى أحد
ومن شعره:
ولا مثل يوم قد نعمنا بحسنه ... مذهب أثناء المروج صقيل
إلى أن بدت شمس النهار تروعنا ... بسير صحيح واصفرار عليل
ولما توارت شمسه بحجابها ... وأذن باقي نورها برحيل
وغابت فكان الأفق عند مغيبها ... كقلبي مسودٌّ لفقد خليل
أتانا بها صفراً يسطع نورها ... فمزق سربال الدجا بفتيل
فردت علينا شمسنا وأصيلنا ... بمشبه شمسٍ في شبيه أصيل
ومن نثره قوله يخاطب بني أبي الوليد بن رشد، تعزيةً في أبيهم، واستفتحه بهذه الأبيات:
ألا ليت شعري هل لطالب غاية ... وصولٌ وأحداث الزمان تعوقه
مضى علم العلم الذي ببيانه ... تبين خافيه وبان طريقه
أخلائي إني من دموعي بزاخرٍ ... بعيدٌ عن الشطين منه غريقه
وما كان ظني قبل فقد أبيكم ... بأن مصاباً مثل هذا أطيقه
ولم أدر من أشقى الثلاثة بعده ... أبناؤه أم دهره أم صديقه
ومن شاهد الأحوال بعد مماته ... تيقن أن الموت نحن نذوقه
رجوعاً إلى الصبر الجميل فحقه ... علينا قضيى أن لا توفي حقوقه
أعزيكم في البعد عنه فإنني ... أهنيه قرباً من جوارٍ يروقه
فما كان فينا منه إلا مكانه ... وفي العالم العلوي كان رفيقه
إيه عن المدامع هلا تلا انحدار الدمعة انحدار الدمعة انحدارها، والمطامع هل ثبت على قطب مدارها، والفجائع أغير دارٍ بني رشد دارها، فإنه حديث أتعاطاه مسكراً، وأستريح الله مفكراً، وابثه باعثاً على الأشجان مذكراً، ولا أقول كفا وقد ذهب الواخذ الذي كنت تتلافى، ولا أستشعر صبراً، وقد حل نور العلم قبراً، بل أغرق الأجفان بمالها، وأستدعي الأحزان بالشهير من أسمائها، واستوهب الأشجان غمرة غماتها. ثم أتهالك تهالك المجنون، وأستجير من الحياة بريب المنون، وأنافر السلوة منافرة وسواس الظنون، ولا عتب، فإذا خامر الواله جزعه، فإلى نصرة المدامع مفزعه، وإذا ضعف احتماله، فإلى غمرة الإغماء مآله، ومن قال إن الصبر أولى، وليته من ذلك ما تولى. أما أنا فأستعيذ من هذا المقام وأستعفيه، وأنزه نفس الوفا عن الحلول فيه، فإنه متى بقي للصبر مكان، ففي محل الحزن لقبول ما يقاومه إمكان، وقد خان الإخاء وجهل الوفاء، من رام قلبه السلو، وألفت عينه الإغفاء. هو الخطب الذي يقي الهجود وألزم أعين الثقلين، وبه أعظم الدهر المصاب، وفيه أخطأ سهم المنية حين أصاب. فحقنا أن نتجاوز الجيوب إلى القلوب، ونتغلب إذا غالبنا الحزن بصفة المغلوب، وإذا كان الدهر السالب، فلا غضاضة على المسلوب، أستغفر الله، قفا نتذكر من مفقودنا رضي الله عنه حكمه، ونشاهد بعين البصيرة سيمه، فأجدهما يكفان من واكف الدمع ديمه، ويقولون عندي آسة المصاب، ومزاحمة الأوصاب، أمران وقع، فقد ضر فوق ما نفع، فإنه لا ألم الحزن شفاه، ولا حق المصيبة وفاه، ولا الذاهب الفايت استرجعه وتلافاه، فربما جنحت إلى الصبر لا رغبة فيه، بل إيثاراً لمقصده وتشيعاً لتصافيه، فأستروح رايحة السلو، وأنحط قاب قوسين أو أدنى عن سدرة ذلك العلو، وأقف بمقام الدهش بين معنى الحزن المستحكم، ولفظ القرا المتلو. فأبكي بكا النساء، وأصبر صبر الرؤساء، وأحرز رزايا الفضلاء، بفضل رزايا الأخساء، موازنة بين هذا الوجود، ونحل تتعاقب على نحل الجود. فالدهر يسترجع ما وهب، كان الصفراء أو الذهب. وإذا تحقق عدم ثباته، وعدم استرجاعه لجميع هباته، كان المتعرض لكثيره، محلاً لتأثيره. فلا غرو أن دهمكم الرزء مورد الفلك الدابر منه الجزأ، فطالما بتم ترضعكم الحكمة أخلاقها، وتهبكم الخلافة آلافها، وتؤملكم الأيام خلافها. وإذا صحيت العقول، وضن بما لديه المعقول، وصارت الأذهان إلى حيث لا تتصور الألسنة، بحيث لا تقول، وردتم معيناً، ووجدتم معيناً، وافتضضتموها كمثل اللؤلؤ المكنون صوراً عيناً. أظننتم أن عين الله تنام، أم رمتم أن يكو صرحاً إلى إله موسى ذلك السنام، لشد ما شيدتم البناء، وألزمتم اتباع الأب الأبناء، حتى غرق الأول في الآخر، وصار السلف على ضخامته أقل المفاخر. ومن علت في علاها قدم ترقيه، ولم يصب بكماله عيناً يحفظ من عين العلن ويقيه، فكثيراً ما يأتيه محذوره من جهة توقيه. هذا أبوكم رضي الله عنه حين استكمل، فعرف الضار والشافي، وتعذرت صفات كماله على الحرف النافي، فيا لله لفظة أواليها، وأتبعها زفرة تليها، لقد بحثت الأيام عن حتفها بظلفها، وسعت على قدمها إلى رغم أنفها، فمن لبث الوصل، ولرعى الوسايل، وإلى من يلجأ في مشكلات المسايل، ومن المجيب إذا لم يكن المسئول بأعلم من السائل. اللهم صبرنا على فقد الأنس بالعلم، وأدلنا من خفوف الوله بوقار الحلم، وأخلفه في بنيه وعامة أهليه، بشبيه ما أوليته في جوارك المقدس وتوليه. وإليكم أيها الإخوة الأولياء، والعلية الذين عليهم قصرت العلياء. أعتذر من اتخاذ الشيء من الكلام بنقصه الأشياء. فقد خان في هذا الزمان، حتى اللسان، وفقد منه حتى الحسان، وليس لتأبين محمد صلى الله عليه وسلم إلا حسان، فالعذر منفسح المجال. وإلى التقصير في حق رزئكم الكبير نصير في الروية والارتجال. ولذلك عدلت إلى الإيجاز، واعتقدت في إرسال القول في هذا الموضع ضرباً من المجاز. ومبلغ النفس عذرها مع العجز كالصابر للإعجاز. وأما حسن العزاء على تعاقب هذه الأرزاء، فأمر لا أهبه، بل أستجديه، ولا أذكركم به، ونفس صبركم متوغلة فيه، فسواكم يلهم للإرشاد. ويذكر بطرق الرشاد، جعل الله منكم لآبايكم خلفاً، وأبقى منكم لأبنائكم سلفاً، ولا لد لكم الوجود بعده تلفاً. والسلام.
محنته
امتحن رحمه الله بالتغريب عن وطنه، لبغي بعض حسدته عليه، فأسكن بمرسية مدة طويلة، إلى أن هلك بألمرية الأمير أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن هود، آخر جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستماية. فسرح أبو الحسن بن سهل إلى بلده في رمضان من هذه السنة.
ومن شعره في ذلك الحال مما يدل على بعد شأوه ورفعة همته، قوله:
الدمع همى عن جوانب همتي ... وتأبى هموم العارفين عن الدفع
وألتمس العتبى وحيداً وغايتي ... وصرف الليالي والحوادث في جمع
وإني من حزمي وعزمي وهمتي وما ... رزقته النفس من كرم الطبع
لفي منصب تعلو السماء سماته ... فيثبت نوراً في كواكبها السبع
علا صرف دهري إذ علا فإذا به ... ترابٌ لنعلي أو غبار على سبع
تدرعت بالصبر الجميل وأجلبت ... صروف الليالي كي تمزق لي درع
فما مللت قلبي ولا قبضت يدي ... ولا لحمت أصلي ولا حضرت فرع
فإن عرضت لي لا يفوه بها فمي ... وإن زحفت لي لا يضيق بها ذرع
وفي هذه الأبيات تأنيث السبعة الكواكب، وحكمها التذكير، وذلك إما لتأويل بعد أو غفلة، فلينظره. قال أبو الحسن الرعيني، ودخلت عليه بمرسية، وبين يديه شمامة زهر، فأنشدني لنفسه:
وحامل طيبٍ لم يطيب بطيبه ... ولكنه عند الحقيقة طيب
تألف من أغصان زهره ... فمن صفتيه زاهرٌ ورطيب
تعانقت الأغصان فيه كما التقى ... حبيبٌ على طول النوى وحبيب
وإن الذي أدناه دون فراقه ... إلى كبيرٍ في الوجود عجيب
مناسبةٌ للبين كان انتسابها ... وكل غريب للغريب نسيب
فبالأمس في إسحاره وبداره ... وباليوم في دار الغريب غريب
تواليفهصنف في العربية كتاباً مفيداً، رتب الكلام فيه على أبواب كتاب سيبويه. وله تعاليق جليلة على كتاب المستصفى في أصول الفقه، وديوان شعر كبير. وكلامه الهزلي ظريف شهير.
مولدهعام تسعة وخمسين وخمسماية.
وفاتهتوفي بغرناطة منتصف ذي قعدة سنة تسع وثلاثين وستماية. وزعم ابن الأبار أن وفاته كانت سنة أربعين وستماية، وليس بصحيح. ودفن بمقبرة شقستر. قال ابن عبد الملك، وكان كريم النفس، فاضل، الطبع، نزيه الهمة، حصيف الرأي، شريف الطباع، وجيهاً، مبروراً، معظماً عند الخاصة والعامة.
من رثاه ممن كتب إلى بنيه يعزيهم في مصابهم بفقده، ويحضهم على الصبر من بعده، تلميذه الكاتب الرييس أبو عبد الله بن الجنان:
دعوني وستكاب الدموع السوابك ... فدعوني جميل الصبر دعوة آفك
أصبرٌ جميل في قبيح حوادث ... خلعن على الأنوار ثوب الحوالك
تنكرت الدنيا على الدين ضلة ... ومن شيمة الدنيا تنكر فارك
فصبحنا حكم الردى بردائه ... فتلك وهذي هالك في المهالك
عفا طللٌ منها ومنه فأصبحنا ... شريكي غماز في تلاً متدارك
فلا بهجةٌ تبدي مسرة ناظر ... ولا حجة تهدي بحجة سالك
وما انتظم الأمران إلا ليؤذنا ... بأمرٍ دها سير النجوم السوابك
وإن لمنشور الوجود انتظاره ... يكفي فناً للفنا بواشك
أما قد علمنا والعقول شواهد ... بأن انقراض العلم أصل المهالك
إذا أهلك الله العلوم وأهلها ... فما الله للدهر الجهول ببارك
هل العلم إلا الروح والخلق جثة ... وما الجسم بعد الروح بالمتماسك
وما راعني في عالم الكون حادثٌ ... سوى حادث في عالم ذي مدارك
لذلك ما أبكي كأني متيم ... أتمم ما أبقى لإسمي بعد مالك
وسهلٌ عندي أن أرى الحزن مالكي ... مصابي بالفياض سهل بن مالك
إمام هدىً كنا نقلد رأيه ... كتقليد رأي الشافعي ومالك
غمام سدىً كنا عهدنا سماحه ... بساحل دارات العماد الحوائك
أحقاً قضى الجلال وقوضت ... مباني معالٍ في السماء سوامك
وأقفر في نجدٍ من المجد ربعه ... وعمر قبرٌ مفرد بالدكاك
وغب طودٌ في صعيد بملحد ... وغيض فجرٌ في يدي متلاحك
ووارى شمس المعارف غيهبٌ ... من الخطب يردى بالشموس الدوالك
إلا أيها الناعي لك الثكل لا ... تفه بهلك الدواهي الدواهك
لعلك في نعي العلا متكذب ... فكم ماحلٌ من قبل فيه وماحك
يكذبهم يا ليت أنك مثلهم ... تواتر أخبارٍ وصدق مالك
فيا حسن ذاك القول إذ بان كذبه ... ويا قبحه والصدق بادي المسالك
لمقدارٍ جفوا فيه وقلبي راجفٌ ... مخافة تصديق الظنون الأوافك
كأن كمال الفضل كان يسومهم ... فأبدوا على نغص هو متمالك
كأنهم يستبطون أيومةً ... كما استبطأ فاتك
كأنهم مستمطرون لعارض ... كعارض عاد للتجلد عارك
بلى إنهم قد أرهصوا لرزية ... تضعضع ركن الصابرالمتمالك
فقد كان ما قد أنذروا بوقوعه ... فهل بعده للصبر صولة فاتك
مصاب مصيب للقلوب بسيد ... رمى عن قسي لليالي عواتك
بكت حسنها الغبراء فيه فأسعدت ... بأدمعها الخضراء ذات الجمايك
على علم الإسلام قامت نوادب ... بهتن مباك أو بهتم مضاحك
فمن سنة سنت على الرأس تربها ... ومكرمة ناحت لأكرم هالك
ومن آية تبكي بنور صبحها ... إذا قام في جنح من الليل حالك
ومن حكمة تبكي لفقد مفجر لينبوعها ... السلسال في الأرض سالك
فيا أسفي من للهوى ورسومه ... ومن لمنيخٍ عند تلك المبارك
ومن للواء الشرع يرفع خفضه ... ويمنع من تمزيقه كف هاتك
ومن لكتاب الله يدرس وحيه ... ويقبس منه النور غير متارك
ومن لحديث المصطفى وماجد ... يبين بها في فهمه ومتارك
ومن ذا يزيل اللبس في متشابه ... ومن ذا يزيح الشك عن متشابك
ومن لليراع المصفر طابت بكفه ... فصارت طوال الشمس مثل النيازك
ومن للرقاع البيض طابت بطيبه ... فجابت إلى الأملاك سبل المسالك
ومن لمقام الحفل يصدع بالتي ... تغص لقس من جناح المدارك
ومن لمقال كالنضار يخلص ... لإبريزه التبريز لا للسبايك
ومن لفعال إن ذكرت بناه ... فعال وإن تنشر فمسكة فارك
ومن لخلالٍ كرمت وضراير ... ضربن بقدحٍ في عتاب الضرايك
ومن لشعار الزهد أخفى بالفنا ... ففي طيه فضل الفضيل ومالك
ومن لشعاب المجد أو لشعوبه ... إذا اختلطت ساداته بالصعالك
ألا ليس من فاكفف عويلك أو فرد ... فما بعد سهلٍ في العلى من مشارك
أصبنا فيالله فيه وإنما أصبنا ... لعمري في الذرى والجوارك
فناد بأفلاك المحامد اقصري ... فلا دوران بل قطب المدارك
وصح يالبناء اليوم أقويت منزلاً ... بوطىء المنايا لا بوطىء السنابك
على هذه حام الحمام محلقاً ... ثمانين حولاً كالعدو المضاحك
فسالمه في معرك الموت خادعاً ... وحاربه إذ جاز ضنك المعارك
طواك الردى مهما يساكن فإنه ... محرك جيش ناهب العيش ناهك
نبا سبا قدماً وهي السكاسك ... ولم يأل عن خونٍ لحايزٍ ومالك
وأفنى من أبناء البرايا جموعها ... وألقى البرايا بالرغم فوق البرامك
سواءٌ لديه أن يصول بقلبك من ... للناس ناس للتقى أو بناسك
ولو أنه أرعى على ذي كرامة ... لأعيي على المختار نجل العواتك
ولو راعه عمرٌ تكامل ألفه لما ... راع نوحاً في السنين الدكاك
وما من سبيل للدوام وإنما ... خلقنا لأرحاء المنون الرامك
فيا آل سهل أو بنيه مخصصاً ... ندا عموم في غموم موالك
أعندكم أني لما قد عراكم ... أمانع صبري لن يلين عزايك
فكيف أعزي والتعزي محرم ... علي ولكن عادة الرمالك
فإن فرحٌ يبدو فذلك تكره ... لتجريع صابٍ من مصاب مواعك
وإن كان صبراً إنها لحلومكم ... توابة في مر الرياح السواهك
ورثتم سنا ذاك المقدس فارتقوا ... بأعلى سنام من ذرى العز نامك
فلم يمض من أبقى من المجد إرثه ... ولم يلق ملكاً تارك مثل مالك
أتدرون لم جدت ركاب أبيكم ... كما جد سير بالقلاص الرواتك
تذكر في أفق السماء قديمه ... فحن إلى غيضٍ هنالك شابك
وكل سما في حضرة القدس حظه ... فلم يلب عنه بالحظوظ الركايك
فيا عجبا منا نبكي مهنا ... تبوأ داراً في جوار الملايك
يلاقيه في تلك المعاني رفيقه ... بوجه منير بالتباشير ضاحك
فلا تحسبوا أن النوى غال روحه ... لجسم ثوى تحت الدكادك سادك
فلو أنكم توشفتم بمكانه ... رأيتم مقيماً في أعالي الأرايك
ينعم في روض الرضا ونجوده ... سحايب في كثبات مسك عواتك
كذلك وعد الله في ذي مناسب ... من البر صحت بالتغني ومناسك
فيا رحمة الرحمن وافى جنابه ... ويا روحه سلم عليه وبارك
ويا لوعتي سيري إليه برقعتي ... وقصي شجوناً من حديثي هنالك
حديث الأشجان شجون، ووجوه القراطيس به كوجوه الأيام جون، فارعني سمعك، أبثك بثي واكتئابي، وأعرني نظرة في كتابي، لتعلم ما بي، فعندي ضرب الأسى جناية، وعلى وردي أطال باغي الأسى حمايه، وعبرتي أبكت من القطر سجامه، وزفرتي أذكت من الجمر ضرامه، ومني تعلمت ذات الهديل كيف تنوح، وعني أخذت ذات الحسن كيف تغدو والهة وتروح، فما مذعورة راعها القناص، وعلق بواحدها حبل الجهالة فأغوره الخلاص، فهي تتلفت إليه والمخافة خلفها وأمامها، وتتلهف عليه فتكاد تواقع فيه حمامها، بأخفق ضلوعاً، وأشفق روعاً، وأضيق محالاً، وأوسع وجالاً، وأشغل بالاً، وأشعل بلبالاً، بل ما طلاها، وقد رآها، ترمي طلاها، فوقف حتى كاد يشركها في الحين، ويحصل من الشرك تحت جناحين. ثم أفلت وهو يشك في الإفلات، ويشكو وحدته في الفلوات، بأرهب نفساً، وأجنب أنساً، وألهب حشاً، وأغلب توحشاً، وأضيع بالمومات، وأضرع لغير الأمآت، منى وقد وافى النبأ العظيم، ونثر الهدى بكف الردى شمله النظيم، وأصبح يعقوب الأحزان وهو كظيم. وقيل أصيبت الدنيا بحبشتها وحسنها، والديانة بمحسنها وأبى حسنها، فحق على القلوب انفطارها، وعلى العيون أن تهمي قطارها، وعلى الصبر أن يمزق جلبابه، وعلى الصدر أن يغلق في وجه السلو بابه. أنعي الجيلي السعي، ورزية الجميل السجية، ووفاة الكريم الصفات، وفقد الصميم المجد، وذهاب السمح الوهاب، وقبض روحاني الأرض، وانعدام معنى الناس، وانهدام مغشي الإيناس، وانكشاف شمس العلم، وانتساف قدس الحلم. يا له حادثاً جمع قديماً من الكروب وحادثاً، ومصاباً جرع أوصاباً واضحى كل به مصاباً. لا جرم أني شربت من كأسه مستمفضها، وشرقت بها وبماء دمعي الذي ارفض معها، فغالت خلدي، وغالبت جلدي، حتى غبت عني، ولم إدر بآلامي التي تعني. ثم أفقت من سكري، ونفقت مبدد فكري، فراجعني التذكار والتمام، وطاوعني شجوناً يتعاطاه الحمام، فبكيت حتى خشيت أن يعشيني، وغشيت إذ غشيني من ذلك أليم ما غشيني، وظلت ألقى انبجاساً للترح يلقيني، فتارة يعنيني، وتارة يبقيني، فلو أن احتدامي والتدامي وجفني الدامي، اطلعت على بعضه الخنساء، لقالت هذه عزمة حزن، لا يستطيعها النساء. ذلك بأن قسمة المراثي كقسمة الميراث، وللذكران المزية، كان للسرور أو للرزية، على الإناث، هذا لو وازن مبكى مبكياً، ووارى ترابي فلكياً، إنا لنبكي نور علمٍ، وهي تبكي ظلمة جهل، وندبتي بحبل يدعى سهل، كان يتفجر منه الأنهار، وينهال جانبه من خشية الله أو ينهار، في مثله ولا أريد بالمثل سواه، فما كان في أبناء الجنس من ساواه. يحسن الجزع من كل مؤمن تقي، ويقال للمتجلد، لا تنزع الرحمة إلا من شقي، فكل جفن بعده جاف، فصاحبه جلف أوصاف، وكل فؤاد لم تصدع له صفاته، ولم تتغير لفقده صفاته، فمتحقق عند العلماء معلوم، أنه معدود الحجارة أو معدوم. فيا ليت شعري يوم ودع للترحال، ودعا حاديه بشد الرحال، كيف كان حاضروه في تلك الحال، هل استطاعوا معه صبراً، وأطاعوا لتلبيته أمراً، أو ضعف احتمالهم، وقوي في مفارقة النفوس اعتمالهم. ويا ليت شعري، غذ أفادوا الماء طهارة زائدة بغسل جلاله، هل حنطوه في غير ثنايه، أو كفنوه في غير خلاله. ويا ليست شعري إذا استقل به نعشه لأشرفٍ، ترفرف عليه المليكة ويظلله الرفرف، هل رأوا قبله حملة الأطوار على الأعواد، وسير الكواكب في مثل تلك المواكب، فيأنسوا بالإلف، ويرفعوا منكر الطرف، ويدعو لفيض من أثر ذلك الظرف. ويا ليت شعري، إذ ودعوا درة الوجود، صدفة اللحد المجود، لم أثروا الثرى على نفوسهم، ورضوا الأرض مغرباً لأنوار شموسهم. فهلا حفروا له بين أحناء الضلوع، وجعلوا الصفيح صريح الحب والولوع. فيكونوا قد فازوا بقربه، وجازوا فخراً خير لتربه. ويا ليت شعري إذا لم يفعلوا ذلك ولم يهتدوا هذه المسالك، هل قضوا حق الحزن، وسقوا جوانب الضريح من عبراتهم بأمثال المزن، وهل اتصفوا بصفة الأسف أو قنعوا منها بأن وصفوها، وهل تلافوا بقايا الأنفس، بعد المفقود الأنفس، وأتلفوه. فكل أسى لا تذهب النفس عنده، فما هو إلا من قبيل التصنع. يا قدس الله مثوى ذلك المتوفى، وما أظن الجزع تمم حقه ووفى. ولو درى الزمن وبنوه، قدر من فقدوه، لوجدوا المفاجي الفاجع، أضعاف ما وجدوه. فقد فقدوا واحداً جامعاً للعوالم، وماجداً رافعاً لأعلام المعالي والمعالم، ومفدى ثقل
له في الفدا، ونفوس الأوداء والأعداء، ومبكىً ما قامت على مثله النوايح، ولا حسنت إلا فيه المراثي، كما حسنت من قبل فيه المدايح. رحمة الله عليه ورضوانه، وريحان الجنان يحييه به رضوانه. من لي بلسان يقضي حق ندبته، وجنان يقضي يقضي بما فيه إلى جثته وتربته، وقد نبهني حزني عليه وبلدني، وتملكني حصر الحسرة عليه وتعبدني، وأين يقع مهلهل البديه، مما يخفيه مهلهل الثكل ويبديه. يميناً لو لبثت في كهف الروية ثلاثمائة سنين، واستمددت سواد ألسنة الفصحاء اللسنين، ما كنت في تأبين ذلك الفصل المبين من المحسنين، إلا أني أتيت بالطريف من بيانه والتليد، ورثيت رشد كماله برثايه كمال ابن رشد أبي الوليد، فأنشدت بنيه قوله فيه:ه في الفدا، ونفوس الأوداء والأعداء، ومبكىً ما قامت على مثله النوايح، ولا حسنت إلا فيه المراثي، كما حسنت من قبل فيه المدايح. رحمة الله عليه ورضوانه، وريحان الجنان يحييه به رضوانه. من لي بلسان يقضي حق ندبته، وجنان يقضي يقضي بما فيه إلى جثته وتربته، وقد نبهني حزني عليه وبلدني، وتملكني حصر الحسرة عليه وتعبدني، وأين يقع مهلهل البديه، مما يخفيه مهلهل الثكل ويبديه. يميناً لو لبثت في كهف الروية ثلاثمائة سنين، واستمددت سواد ألسنة الفصحاء اللسنين، ما كنت في تأبين ذلك الفصل المبين من المحسنين، إلا أني أتيت بالطريف من بيانه والتليد، ورثيت رشد كماله برثايه كمال ابن رشد أبي الوليد، فأنشدت بنيه قوله فيه:
أخلاي إني من دموعي بزاخر ... بعيدٌ عن الشطين منه غريقه
وما كان ظني قبل فقد أبيكم ... بأن مصاباً مثل هذا أطيقه
ولم أدر من أشقى الثلاثة بعده ... أأبناؤه أم دهره أم صديقه
ثم استوفيت تلك الأبيات والرسالة، وأجريت بترجيعها من دم الكبد ونجيعها عبراتي المسالة، فحينئذ كنت أوفي المصاب واجبه، وأشفي صدوراً صدية شجية، وقلوباً واجفة واجبة. ولو أن ما رثي به نفسه الكريمة من ثر إساءته، حين رأى الحين مغتصباً حشاشة مكرماته. أثار كامن وجدي بألفاظه المبكية، ومعانيه التي تحل من مزاد العيون الأوكية، لاهب لي رنداً، وأعقبني صفاة تندى، وأطعمني في أن يعود بكاي زبداً. فقد بلغني أنه لما وقف على ثنية المنية، وعرف قرب انتقال الساكن من البنية، جمع بنات فكره، كما جمع شيبة الحمد بنات خدره، وقال يا بنياتي، قد آن ليومي أن يأتي فهل لكن أن ترينني، فوضعن أكبادهن على الوشج، ورفعن أصواتهن بالنشيج، وأقبلن يرجعن الأناشيد، ويفجعن القريب والبعيد، حتى أومأ إليهن، بأن قضين ما عليهن، فيا إخوناه، ومثلي بهذا النداء نخى وتاه، إسهموا أخاكم في ميراث تلكم الكلم، واحموا فؤاداً بالملم المؤلم قد كلم، ولا تقولوا يكفيه ميراث الأحزان، فتبخسوا وحاشاكم في الميزان، فإني وإن تناولتها باليدين، وغلبت عليها، فإني صاحب الفريضة والدين، فإني لحظي من ميراث الحكمة سائل، ومع أن لي حقاً فلي ذمم ووسايل، فابعثوا إلي ما يطارحني في أشجاني، واقف على رسمه فأقول شجاني، ولا أطلب من كلام ذلكم الإمام، العزيز فقده على الإسلام، قوله في التصبير، على الرزء الكبير، ووصاته، لئلا يلزمني، ولست بالمستطيع إصغاءً للمطيع لأمره وإنصاته، فإن امتثلت أصبت قتلي بما نئلت، وإن عصيت أبعدت نفسي من رضاه وأقصيت، ولي في استصحاب حالي أمل، وما لم يرد خطاب لم يلزم عمل. على أني وإن صاب وابل دمعي وصب، وأصبحت يذكر المصاب الكلف الصب، فلا أقول إلا ما يرضي الرب، فإني أبكي عالماً كبيراً، وعلماً شهيراً، تسعدني في بكايه الملة، وتنجدني بوجده، فأنا الكاتب وهي المملة. وأما أنتم أيها الإخوة الفضلاء، والصفوة الكرماء، فقد تلقيتم وصلته المباركة شفاهاً، وراوي صدوركم بكلامه النافع وشفاهاً، فلا يسعكم إلا الامتثال، والصبر الذي تضرب به الأمثال، فعزاءً عزاءً، وانتماءً إلى التأسي واعتزاءً، وإن فضل رزة أرزاء، وكان جزءٌ منه يعدل أجزاءً، فعلى قدرها تصاب العلياء، واشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء. ذلك لتبين فضيلة الرضاء والتسليم، وتتعين صفات من يأتي الله بالقلب السليم، ويعلم كيف الكريم للكريم، وكيف يحل الأجر العظيم، وهب الله لكم في مصابكم صبراً على قدره، وسكب ديم مغفرته على مثوى فقيدكم وقبره، وطيب بعرف روضات الجنات جنبات قصره، ونفعه بما كان أودعه من أسرار العلوم في صدره، وخلفه منكم بكل سرى بحلة المجد من كل بصدره.
قلت: ذكر الشيخ ابن الخطيب في الأصل في هذه الترجمة الأعيان والوزراء، ستة من أهل هذا البيت، كلهم يسمون بهذا الإسم، عدا واحداً، فإنه سمى بسيد، وذاك مما يدل على كثرة النباهة والأصالة والوجاهة، رحمهم الله.
ابن سالمسليمن بن موسى بن سالم بن حسان بن أحمد بن عبد السلام الحميري الكلاعي بلنسي الأصل، يكنى أبا الربيع، ويعرف بابن سالم.
حالهكان بقية الأكابر من أهل العلم بصقع الأندلس الشرقي، حافظاً للحديث، مبرزاً في نقده، تام المعرفة بطرقه، ضابطاً لأحكام أسانيده، ذاكراً لرجاله، ريان من الأدب، كاتباً بليغاً. خطب بجامع بلنسية واستقضى، وعرف بالعدل والجلالة، وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة، والإقدام والجزالة والشهامة، يحضر الغزوات، ويباشر بنفسه القتال، ويبلي البلاء الحسن، آخرها الغزاة التي استشهد فيها.
مشيخته
روى عن أبي القاسم بن حبيش وأكثر عنه، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي بكر بن الجد، وأبي محمد بن سيدبونه، وأبي بكر بن مغاور، وأبي محمد عبد المنعم ابن عبد الرحيم بن الفرس، وأبي بكر بن أبي جمرة، وأبي الحسن بن كوثر وأبي خالد بن رفاعة، وأبي جعفر بن حكم، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي الحجاج بن أبي محمد ابن أيوب، وأبي بكر عتيق بن علي العبدري، وأبي محمد عبد الوهاب ابن عبد الصمد بن عتاب الصدفي، وأبي العباس بن مضاء، وأبي القاسم ابن سمحون، وأبي الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري، وأبي زكريا الإصبهاني، وأبي بكر أسامة بن سليم، وأبي محمد عبد الحق الأزدي، وأبي محمد الشاذلي، وأبي الطاهر بن عوف، وأبي عبد الله الحضرمي، وجماعة غير هؤلاء من أهل المشرق والمغرب.
من روى عنه: روى عنه أبو بكر بن أبي جعفر بن عمر، وعبد الله ابن حزب الله، وأبو جعفر بن علي، وابن غالب، وأبو زكريا بن العباس، وأبو الحسن طاهر بن علي، وأبو الحسين عبد الملك بن مفوز، وابن الأبار، وابن الجنان، وابن المواق، وأبو العباس بن هرقد، وابن الغماز، وأبو عمرو بن سالم، وابو محمد بن برطلة، وأبو الحسن الرعيني، وأبو جعفر الطنجالي، وأبو الحجاج بن حكم، وأبو علي بن الناظر.
تصانيفهمنها مصباح الظلم، في الحديث، والأربعون عن أربعين شيخاً لأربعين من الصحابة، والأربعون السباعية، والسباعيات من حديث الصدفي، وحلية الأمالي في المراقبات العوالي، وتحفة الوداد ونجعة الرواد، والمسلسلات والإنشادات، وكتاب الاكتفاء في مغازي رسول الله، ومغازي الثلاثة الخلفاء، وميدان السابقين وحلية الصادقين المصدقين في غرض كتاب الاستيعاب، ولم يكمله، والمعجم ممن وافقت كنيته زوجه من الصحابة، والإعلام بأخبار البخاري الإمام، والمعجم في مشيخة أبي القاسم بن حبيش، وبرنامج رواياته، وجنى الرطب في سنى الخطب، ونكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال، وجهد النصيح في معارضة المعرى في خطبة الفصيح، والامتثال لمثال المنبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال، ومفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة أبي العلا المعري في ملقى السبيل، ومجاز فتيا اللحن للاحن الممتحن يشتمل على ماية مسألة ملغزة، ونتيجة الحب الصميم وزكاة المنثور والمنظوم، والصحف المنتشرة في القطع الممعشرة، وديوان رسايله، سفر متوسط، وديوان شعره، سفر.
شعرهمن شعره ما كتب به إلى أبي بحر صفوان ابن إدريس، عقب انفصاله من بلنسية عام سبعة وثمانين وخمسماية:
أحن إلى نجدٍ ومن حل في نجد ... وماذا الذي يغني حنيني أو يجدي
وقد أوطنوها وادعين وخلفوا ... محبهم رهن الصبابة والوجد
تبين بالبين اشتياقي إليهم ... ووجدي فساوى ما أجن الذي يبدي
وضاقت على الأرض حتى كأنها ... وشاحٌ بخصر أو سوارٌ على زند
إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى ... وبعض الذي لاقيته من جوى يرد
فراق أخلاءٍ وصد أحبة ... كأن صروف الدهر كانت على وعد
فيا سرحتي نجد نداء متيم ... له أبداً شوق إلى سرحتي نجد
ظميت فهل طلٌّ يبرد لوعتي ... ضحيت فهل ظلٌّ يسكن من وجد
ويا زمناً قد مر غير مذمم ... لعل الأنس قد تصرم من رد
ليالي نجني الأنس من شجر المنا ... ونقطف زهر الوصل من شجر الصد
وسقياً لإخوان بأكناف حايل ... كرام السجايا لا يحولون عن عهد
وكم لي بنجد من سرى ممجد ... ولا كابن إدريس أخي البشر والجد
أخو همة كالزهر في بعد نيلها ... وذو خلق كالزهر غب الحيا العد
تجمعت الأضداد فيه حميدة ... فمن خلق سبطٍ ومن حسبٍ جعد
أيا راحلاً أودى بصبري رحيله ... وفلل من عزمي وثلم من حد
أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم ... ألا مذ نأيتم لا يعيد ولا يبد
فيا ليت شعري هل تعود لنا المنا ... وعيشٌ كما نمنمت حاشيتي برد
عسى الله أن يدني السرور بقربكم ... فيبدو بنا الشمل منتظم العقد
ومن شعره في النسيب وفقد الشباب:
توالت ليالٍ للغواية جون ... ووافى صباح للرشاد مبين
ركاب شباب أزمعت عنك رحلةً ... وجيش شيبٍ جهزته منون
ولا أكذب الرحمن فيما أجنه ... وكيف وما يخفي عليه جنين
ومن لم يخل أن الرياء يشينه ... فمن مذهبي أن الرياء يشين
لقد ريع قلبي للشباب وفقده ... كما ريع بالعقد الفقيد ضنين
وآلمني وخط المشيب بلمتي ... فخطت بقلبي للشجون فنون
دليل شبابي كان أنضر منظراً ... وآنق مهما لاحظته عيون
فآها على عيشٍ تكدر صفوه ... وأنس خلا منه صفاً وحجون
ويا ويح فودي أو فؤادي كلما ... تزيد شيبي كيف بعد يكون
حرام على قلبي سكونٌ بغرة ... وكيف مع الشيب الممض سكون
وقالوا شباب المرء شعبة جنة ... فمالي عراني للمشيب جنون
وقالوا شجاك حدثان ما أتى ... ولم يعلموا أن الحديث شجون
وقال في الاستعانة والتوكل عليه:
أمولى الموالي ليس غيرك لي مولى ... وما أحدٌ يا رب منك بذا أولى
تبارك وجهٌ وجهت نحوه المنى ... فأوزعها شكراً وأوسعها طولا
وما هو إلا وجهك الدايم الذي ... أقل حلى عليائه يخرس القولا
تبرأت من حولي إليك وقوتي ... فكن قوتي في مطلبي وكن الحولا
وهب لي الرضا ما لي سوى ذاك مبتغى ... ولا لقيت نفسي على نيلها الهولا
وقال:
مضت لي سبعٌ بعد عشرين حجة ... ولي حركات بعدها وسكون
فيا ليت شعري كيف أو أين أو متى ... يكون الذي لابد أن سيكون
واستجاز المترجم به من يذكر بما نصه: المسئول من السادة العلماء أيمة الدين، وهداة المسلمين، أن يجيزوا لمن ثبت اسمه في هذا الاستدعاء، وهم المولى الوزير العالم الفاضل الأشرف بهاء الدين أبو العباس أحمد ابن القاضي الأجل أبي عبد الرحمن بن علي البيساني ولولديه أبي عبد الله، محمد، وأبي عبد الله الحسين وولده عبد الرحيم، ولأولاده ولده أبي الفتح حسن، وأبوي محمد عبد الرحمن ويوسف، ولمماليكه سنقر وأخيه الصغير وسنجر التركيون، وأفيد وأقسر الروميان، ولكمال بن يوسف بن نصر ابن ساري الطباخ، وللوجيه أبي الفخر بن بركات بن ظافر بن عساكر. ولأبي الحسن بن عبد الوهاب بن وردان، ولأبي البقاء خالد بن يوسف الشاذلي ولولده محمد، ولمحمد بن يوسف بن محمد البزالي الإشبيلي ولولده، ولعبد العظيم بن عبد الله المندري ولولده أبي بكر، ولأبي الحسن ابن عبد الله العطار، جميع ما يجوز لهم روايته من العلوم على اختلافها، وما لهم من نظم ونثر، وإن رأوا تعيين موالدهم ومشايخهم، وإثبات أبيات يخف موقعها ثراه من الزلل، ومما يخالف الحق، فعلوا مأجورين. وكتب في العشر الأخر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وستماية.
فكتب مجيزاً بما نصه: قال سليمن بن موسى بن سالم الكلاعي، وكتب بيده، تجاوز الله عنه، وأقام بالعفو من أوده: إني لما وقفت على هذا الاستدعاء، أجاب الله في مستدعيه المسمين فيه صالح الدعاء، اقتضى حق المسئول له، الوزير الأجل، العالم الأشرف الأفضل بهاء الدين أبو العباس ابن القاضي الأجل، الفاضل العلم الأوحد، ندرة الزمان، ولسان الدهر، وقس البيان، أبي علي عبد الرحيم بن علي، أعلى الله قدره ورفعه، ووسم سلفه الكريم ونفعه، تأكيد الإسعاف، بحكم الإنصاف له، ولكل من سمي معه. فأطلقت الإذن لجميعهم، على تباعد أفكارهم وتدانيها، وتباين أقدارهم وتساويها، من أب سنى، وذرية عريقة في النسب العلي، ومماليك له تميزوا بالنسب المولوي، وسمين بعدهم، اعتلقوا من الرغبة في نقل العلم، بالحبل المتين، والسبب القوي. والله بالغ بجميعهم، من تدارك الآمال أبعد الشأو القصي، ويجريهم من مساعدة الإمكان، ومسالمة الزمان، على المنهج المرضي، والسنن السوي، أن يحدثوا بكل ما اشتملت عليه روايتي، ونظمته عنايتي، من مشهور الدواوين، ومنثور الأجزاء المنقولة عن ثقات الراوين، وغير ذلك من المجموعات في أي علم كان من علوم الدين، وكل ما يتعلق بها من قرب أو بعد، مما يقع عليه التعيين، وبما يصح عندهم نسبته إلي من مجموع جمعته، ومنظوم نظمته، أو نثر صنعته. الإباحة العامة على ذلك آتية، ومقاصد الإسعاف لرغباتهم فيه مطاوعة وموافية، فليرووا عني من ذلك موفقين، ما شاءوا أن يرووه، وليلتزموا في تحصيله أولاً، وأدايه ثانياً، أو في ما التزمه العلماء واشترطوه. ومن جله شيوخي وصدورهم، الذين سمعت منهم، وأخذت بكل وجوه الأخذ عنهم، القاضي الإمام الخطيب العلامة، أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن حبيش، آخر أيمة المحدثين بالمغرب رضي الله عنهم. والإمام الحافظ الصدر الكبير أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن فرج بن الجد الفهري. والفقيه المشاور القاضي المسند أبو عبد الله محمد ابن أبي الطيب. والفقيه الحافظ أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي. والقاضي الخطيب النحوي أبو عبد الله محمد بن جعفر بن حميد. والأستاذ الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جمهور القيسي. والشيخ الراوية الثقة أبو محمد عبد الحق بن عبد الملك بن بونه بن سعيد بن عصام العبدري. والشيخ الصالح أبو جعفر أحمد ابن حكم القيسي الحصار الخطيب بجامع غرناطة، والفقيه القاضي الأجزل أبو العباس يحيى بن عبد الرحمن بن الحاج. والقاضي الفقيه الحسيب أبو بكر بن أبي جمرة. والقاضي أبو بكر بن مغمور. والقاضي المسند أبو الحسين عبد الرحمن بن ربيع الأشعري. وسوى هؤلاء ممن سمعنا منه كثيراً، وكلهم أجازني روايته وما سمعه. وقرأت على الخطيب أبي القاسم بن حبيش غير هذا وسمعت كثيراً، وتوفي رحمه الله بمرسية في الرابع عشر لصفر سنة أربع وثمانين وخمسماية. ومولده سنة أربع وخمسماية على ما أخبرني به رحمه الله ورضي عنه. ومما أخذته عن الحافظ أبي بكر بن الجد بإشبيلية بدله، موطأ مالك، رواية يحيى بن يحيى القرطبي، أخبرني به عن أبي بحر سفيان بن العاصي الأسدي الحافظ، سماعاً بأسانيده المعلومة. وتوفي الحافظ أبو بكر سنة ست وثمانين. وقرأت على الفقيه أبي عبد الله بن زرقون أيضاً موطأ مالك، وحدثني به عن أبي عبد الله الخولاني إجازة، قال سمعته على أبي عمرو عثمان بن أحمد بن يوسف اللخمي، عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى،عن عمر أبيه عبيد الله بن يحيى الليثي عن أبيه عن مالك بن أنس، رضي الله عن جميعهم. ولا يوجد اليوم بأندلسنا ومغربنا بأعلى من هذه الأسانيد. وممن كتب لي بالإجازة من ثغر الإسكندرية الإمام الحافظ مفتي الديار المصرية ورئيسها أبو الطاهر بن عوف، والفقيه الحاكم أبو عبد الله بن الحضرمي، والفقيه المدرس أبو القاسم بن فيره، وغيرهم. نفعنا الله بهم، ووفقنا للإقتداء بصالح مذهبهم. وأما المولد الذي وقع السؤال عنه، فإني ولدت على ما أخبرني أبواي رحمهما الله، بقاعدة مرسية، مستهل رمضان المعظم سنة خمس وستين وخمسماية. ومما يليق أن يكتب في هذا الموضع ما أنشدني شيخاً الفقيه أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور رحمه الله في منزله بشاطبة سنة ست وثمانين وخمسماية، وهو بقية مشيخة الكتاب بالأندلس لنفسه، مما أعده
ليكتب على قبره:ليكتب على قبره:
أيها الواقف اعتباراً بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديم
قلت لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم
ودعوني بما اكتسبت رهيناً ... غلق الرهن عند مولى كريم
انتهى. وكتب هذا بخطه في مدينة بلنسية حماها الله، سليمن بن موسى بن سالم الكلاعي، في الموفى عشرين لجمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وستماية. والحمد لله رب العالمين.
وفاتهكان أبداً يقول إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره، فكان كذلك، واستشهد في الكاينة على المسلمين بظاهر أنيشة على نحو سبعة أميال منها؛ لم يزل متقدماً أمام الصفوف زحفاً على الكفار، مقبلاً على العدو، ينادي بالمنهزمين من الجند يفرون، حتى قتل صابراً محتسباً، غداة يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستماية.
ورثاه أبو عبد الله بن الأبار رحمه الله بقوله:
ألما بأشلاء العلى والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم
وعوجا عليها مأرباً وحفاوةً ... مصارع غصت بالطلا والجماجم
تحيى وجوهاً في الجنان وجيهة ... بما لقيت حمراً وجوه الملاحم
وأجساد إيمان كساها نجيعها ... بحاسد من نسيج الظبا واللهاذم
مكرمة حتى عن الدفن في الثرى ... وما يكرم الرحمن غير الأكارم
هم القوم راحوا للشهادة فاغتدوا ... وما لهم في فوزهم من مقاوم
تساقوا كؤوس الموت في حومة الوغى ... فمالت بهم ميل الغصون النواعم
مضوا في سبيل الله قدماً كأنما ... يطيرون من أقدامهم بقوادم
يرون جوار الله أكبر مغنم ... كذاك جوار الله أسنى المغانم
عظائم نالوها فخاضوا لنيلها ... ولا روع يثنيهم صدور العظائم
وهان عليهم أن تكون لحودهم ... متون الروابي أو بطون التهايم
ألا بأبي تلك الوجوه سواهما ... وإن كن عند الله غير سواهم
عفا حسنها إلا بقايا مباسم ... يعز علينا وطؤها بالمناسم
وسؤر أسارير تنير طلاقة ... فتكسف أنوار النجوم العواتم
لئن وكفت فيها الدموع سحايباً ... فعن بارقات لحن فيها لشائم
ويا بأبي تلك الجسوم نواحلاً ... بإجرائها نحو الأجور الجسائم
تغلغل فيها كل أسمر ذابل ... فجدل منها كل أبيض ناعم
فلا يبعد الله الذين تقربوا ... إليه بإهداء النفوس الكرائم
مواقف أبرار قضوا من جهادهم ... حقوقاً عليهم كالفروض اللوازم
أصيبوا وكانوا في العبادة أسوة ... شباباً وشيباً بالغواشي الغواشم
فعامل رمح دق في صدر عامل ... وقائم سيف قد في رأس قائم
ويا رب صوام الهواجر واصل ... هنالك مصروم الحياة بصارم
ومنقذ عانٍ في الأداهم راسفٌ ... ينوء برجلي راسفٍ في الأداهم
أضاعهم يوم الخميس حفاظهم ... وكرهم في المأزق المتلاحم
سقى الله أشلاءً بسفح أنيشة ... سوافح تزجيها ثقال الغمايم
وصلى عليها أنفساً طاب ذكرها ... فطيب أنفاس الرياح النواسم
لقد صبروا فيها كراماً وصابروا ... فلا غرو أن فازوا بصفو المكارم
وما بذلوا إلا نفوساً كريمة ... تحن إلى الأخرى حنين الروائم
ولا فارقوا والموت يتلع جيده ... فحيث التقى الجمعان صدق العزائم
بعيشك طارحني الحديث عن التي ... أراجع فيها بالدموع السواجم
وما هي إلا غاديات فجائع ... تعبر عنها رايحات مآتم
جلائل دق الصبر فيها فلم نطق ... سوى غض أجفانٍ وغض أباهم
أبيت لها تحت الظلام كأنني ... رمي نصال أو لديغ أراقم
أغازل من برح الأسى غير بارح ... وأزجر من سأم البكا غير سائم
وأعقد بالنجم المشرق ناظري ... فيغرب عني ساهراً غير نائم
وأشكو إلى الأيام سوء صنيعها ... ولكنها شكوى إلى غير راحم
وهيهات هيهات العزاء ودونه ... قواصم شتى أردفت بقواصم
ولو برد السلوان حر جوانحي ... لآثرت عن طوعٍ سلو البهائم
ومن لي بسلوان يحل منفراً ... بجاثٍ من الأرزاء حولي جاثم
وبين الثنايا والمخارم رمةٌ ... سرى في الثنايا طيبها والمخارم
بكتها المعالي والمعالم جهدها ... فمن للمعالي بعدها والمعالم
سعيدٌ صعيدٌ لم ترمه قرارة ... وأعظم بها وسط العظام الرمايم
كأن دماً أذكى أديم ترابها ... وقد مازجته الريح مسك اللطايم
يشق على الإسلام إسلام مثلها ... إلى خامعاتٍ بالفلا وقشاعم
كأن لم تبت تغشى للسراة قبابها ... ويرعى حماها الصيد رعي السوايم
سفحت عليها الدمع أحمر وارساً ... كما تنثر الياقوت أيدي النواظم
وسامرت فيها الباكيات نوادياً ... يورقن تحت الليل ورق الحمايم
وقاسمت في حمل الرزية أهلها ... وليس قسيم البر غير المقاسم
فوا أسفاً للدين أعضل داؤه ... وآيس من أسٍّ لمسراه حاسم
ويا أسفاً للعلم أقوت ربوعه ... وأصبح مهدود الذرى والدعائم
قضى حامل الآثار من آل يعرب ... وحامي هدي المختار من آل هاشم
خبا الكوكب الوقاد إذ متع الضحى ... ليخبطه في ليلٍ من الجهل فاحم
وخابت مساعي السامعين حديثه ... كما شاء يوم الحاديث المتفاقم
فأي بهاءٍ غار ليس بطالع ... وأي سناءٍ غاب ليس بقادم
سلامٌ على الدنيا إذا لم يلح بها ... محيا سليمن بن موسى بن سالم
وهل في حياتي متعةٌ بعد موته ... وقد أسلمتني للدواهي الدواهم
فها أنا ذا في حرب دهر محارب ... وكنت به في أمن دهر مسالم
أخو العزة القعساء كهلاً ويافعاً ... وأكفاؤه ما بين راض وراغم
تفرد بالعلياء علماً وسؤدداً ... وحسبك من عال على الشهب عالم
معرسه فوق السهى ومقيله ... ومورده قبل النسور الجواثم
بعيدٌ مداه لا يشق غباره ... إذا فاه فاض السحر ضربة لازم
يفوض منه كل ناد ومنبر ... إلى ناجح مسعاه في كل ناجم
متى صادم الخطب الملم بخطبةٍ ... كفى صادماً منه بأكبر صادم
له منطق سهل النواحي قريبها ... فإن رمته ألفيت صعب الشكايم
وسحر بيان فات كل مفوه ... فبات عليه قارعاً سن نادم
وما الروض حلاه بجوهره الندي ... ولا البرد وشقه أكف الرواقم
بأبدع حسناً في صحائفه التي ... تسيرها أقلامه في الأقالم
يمانٍ كلاعي نماه إلى العلا ... تمامٌ حواه قبل عقد التمايم
يروق رواق الملك في كل مشهد ... ويحسن وسماً في وجوه المواسم
ويكثر أعلام البسيطة وحده ... كمال مثال أو جمال مقاوم
لعا لزمان عاثرٍ من خلاله ... براق من الجلى أصيب يواقم
مناد إلى دار السلام منادم ... بها الحور واهاً للمنادي المنادم
أتاه رداه مقبلاً غير مدبر ... ليحظى بإقبالٍ من الله دايم
إماماً لدين أو قواماً لدولة ... تولى ولم تلحقه لومة لايم
فإن عابه حساده شرقاً به ... فلن تعدم الحسناء ذاماً بذايم
فيا أيها المخدوم سامى محله ... فدىً لك من ساداتنا كل خادم
ويا أيها المختوم بالفوز سعيه ... ألا إنما الأعمال حسن الخواتم
هنيئاً لك الحسنى من الله إنها ... لكل تقيٍّ خيمه غير خايم
تبوأت جناتٍ النعيم ولم تزل ... نزيل الثريا قبلها والنعائم
ولم تأل عيشاً راضياً أو شهادة ... ترى ما عداها في عداد المآتم
لعمري ما يبلي بلاؤك في العدا ... وقد جرب الأبطال ذبل الهزايم
وتالله لا ينسى مقامك في الوغى ... سوى جاحدٍ نور الغزالة كاتم
لقيت الردى في الروع جذلان باسماً ... فبوركت من جذلان في الروع باسم
وحمت على الفردوس حتى وردته ... ففزت بأشتات المنا فوز غانم
أجدك لا تثني عناناً لأوبةٍ ... أداوي بها برح الغليل المداوم
ولا أنت بعد اليوم واعد هبةٍ ... من النوم تحدوني إلى حال حالم
لسرعان ما قوضت رحلك ظاعناً ... وسرت على غير النواحي الرواسم
وخلفت من يرجو دفاعك يائساً ... من النصر اثناء الخطوب الصرايم
كأني للأشجان فوق هواجر ... بما عادني من عادياتٍ هواجم
عدمتك مفقوداً يعز نظيره ... فيا عز معدوم ويا هون عادم
ورمتك مطلوباً فأعيى مناله ... وكيف بما أعيى منالاً لرايم
وإني لمحزون الفؤاد صديعه ... خلافاً لسالٍ قلبه منك سالم
وعندي إلى لقياك شوق مبرح ... طواني من حامي الجوى فوق جاحم
وفي خلدي والله ثكلك خالدٌ ... ألية برٍّ لا ألية آثم
ولو أن في قلبي مكاناً لسلوة ... سلوت ولكن لا سلو لهائم
ظلمتك أن لم أقض نعماك حقها ... ومثلي في أمثالها غير ظالم
يطالبني فيك الوفاء بغاية ... سموت لها حفظاً لتلك المراسم
فأبكي لشلوٍ بالعراء كما بكى ... زياد لقبرٍ بين بصرى وجاسم
وأعبد أن يمتاز دوني عبدةً ... بعلياء في تأبين قيس بن عاصم
وهذي المراثي قد وفيت برسمها ... مسهمة جهد الوفي المساهم
فمد إليها رافعاً يد قابلٍ ... أكب عليها خافضاً فم لاثم
ومن القضاة في هذا الحرف
سلمون بن علي
بن عبد الله بن سلمون الكناني
من أهل غرناطة يكنى أبا القاسم، ويدعى باسم جده سلمون، وقد مر ذكر أبيه وأخيه.حالهمن أهل العلم والهدى الحسن، والوقار، قديم العدالة، متعدد الولاية، مضطلع بالأحكام، عارف بالشروط، صدر وقته في ذلك، وسابق حلبته إلى الرواية، والمشاركة، والتبجح، في بيت الخير والحشمة، وفضل الأبوة والأخوة. قل في الأندلس مكانٌ شذ عن ولايته، وناب عن القضاة بالحضرة، فحمد نفاذه، وحسنت سيرته. ثم ولي مستبداً في الدولة الباغية، وخاض في بعض أهوائها، بما جر عليه عتباً، فعقبه الإعتاب عن كثب.
تواليفهألف في الوثائق المرتبطة بالأحكام كتاباً مفيداً، نسبه بعض معاصريه إلى أنه قيده عن شيخه أبي جعفر بن فركون، ودون مشيخته.
مشيخته
أجازه الراوية المعمر أبو محمد بن هرون الطايي، والشيخ المسن أبو جعفر أحمد بن عيسى بن عياش المالقي، والشيخ الأديب أبو الحكم بن المرحل، والعدل أبو بكر بن إسحاق التجيبي، والقاضي أبو العباس بن الغماز، والفرضي أبو إسحق التلمساني، وأبو الحسن بن عبد الباقي بن الصواف، والمحدث أبو محمد الخلاسي، والراوية أبو سلطان جابر بن محمد بن قاسم ابن حيان القيسي، والوزير أبو محمد بن سماك، والشيخ المدرس بالديار المصرية أبو محمد الدمياطي، والمقري الراوية أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن مضاء، والمحدث أبو عبد الله بن النجار، وأبو زكريا بن عبد الله بن محرز، والمقري أبو بكر بن عبد الكريم ابن صدقة السفاقسي، والشيخ زين الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن القرشي العوني، وأبو القاسم الأيسر الجذامي، وشهاب الدين الأبرقوسي، والعدل أبو فارس الهواري، وأبو الكرم الحميري، وأبو الفدا بن المعلم، والشريف أبو الحسن القرافي، وأبو عبد الله بن رحيمة، والشيخ أبو عبد الله بن اللبيدي، وأبو الحسن بن عطية البودري، وأبو محمد ابن سعيد المسراتي، وأبو عبد الله بن عبد الحميد، والخطيب أبو الحسن ابن السفاج الرتدي، وأبو محمد بن عطية، والوزير أبو عبد الله بن أبي عامر ابن ربيع، والعدل أبو الحسن بن مستقور، والخطيب أبو عبد الله ابن شعيب، والشريف أبو علي بن طاهر بن أبي الشرف، والأستاذ أبو بكر ابن عبيدة. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وبرنامج رواياته نبيه.
مولدهعام خمسة وثمانين وستماية.
من المحدثين والفقهاء وسائر الطلبة النجباء بين أصلي وغيره
سعيد بن محمد الغساني
سعيد بن محمد بن إبراهيم بن عاصم بن سعيد الغساني من أهل غرناطة، يكنى أبا عثمن.حالههذا الرجل من أهل الذكاء والمعرفة والإدراك، يقوم على الكتاب العزيز حفظاً وتدريساً، ويشارك في فنون، من أصول وفقه وحساب وتعديل، ومعرفة بالإلمامات الشعاعية. يكتب خطاً حسناً، وينظم الشعر، ويحفظ الكثير من النتف والأخبار، مقتصد، منقبض عن الناس، مشتغل بشأنه، قيد الكثير، يسير إلى لزمانة، أصابت أختها، بما يدل على نشاطه وهمته.
مشيختهقرأ على الأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزي، ورحل إلى العدوة، فلقي بفاس وتلمسان جملة، كالأستاذ أبي إسحق السلاوي التلمساني، وأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن المكناسي من أهل فاس، والحاج ابن سبيع وغيرهم. واستدعيته لتأديب ولدي أسعدهم الله، فبلوت منه على السنين، نضحاً وسلامة وديناً وعفة.
شعرهجرى ذكر في الإكليل الزاهر بما نصه: ممن يتشوق إلى المعارف والمقالات، ويتشوف إلى الحقائق والمجالات، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشعر ما يشهد بنبله، ويستطرف من مثله. فمن شعره قوله:
لما نأوا في الظاعنين وساروا ... أضحت قلوب العاشقين تحار
تركوهم في ظلمة وتوحش ... ما انجابت الأضواء والأنوار
ذهبوا فأبقوا كل عقل ذاهلاً ... ولكل قلب بالنزوح مطار
ظعنوا وقد فتنوا الورى بجمالهم ... عبثوا بأفئدة الأنام وحار
ما ضرهم قبيل النوى لو ودعوا ... ما ضرهم لو أعلموا إذ سار
فقلوبنا من بعدهم في فجعة ... ودموعنا من بعدهم أمطار
يا دار أين أحبتي ووصالنا ... أين الذي كنا به يا دار
كنا نذيع به عبير حديثنا ... وكلامنا الألطاف والأشعار
والطير تتلو فوقنا نغماتها ... والدهر يسمح والمدام تدار
ولطالما بتنا وبات رقيبنا ... في غفلة قضيت بها الأوطار
هل زمن تقادم عهده ... نلنا بها النعمى ونحن صغار
فلا تذر على الوصال وابكين ... ما دامت الآصال والأسحار
ومن المقطوعات:
وكم عذلوني في هواه وما رأوا ... محياه حتى عاينوه وسلموا
وقالوا نعم هذا الكمال حقيقةٌ ... فحطوا وجاءوا صاغرين وسلموا
وكتب إلي صحبة كتاب أعرته إياه، عقب الفراغ من مطالعته:
هذا كتاب كل معجم ... أفحمني معناه إفحاما
أعجمه منشئه أولا ... وزاده الناسخ إعجاما
أسقط من إجماله جملة ... وزاد في التفصيل أقساما
وغير الألفاظ عن وضعها ... وصير الإيجاد إعداما
فليس في إصلاحه حيلةٌ ... ترجى ولو قوبل أعواما
نثرهكتب إلي شافعاً في الولد، وأنا واجد عليه: من حل محل السيد نادرة الزمان، وسابق حلبة البيان، في رسوخ العلم، والسمو في درجة الحلم، وأرضعته الحكم درتها، وقلدته المعارف دررها، وجلت عليه بدرها، وجلبت إليه بذرها، كان بالحنو والرأفة خليقاً، وأن يهب نسيمه لدناً رفيقاً، وأن يتعاهد بالعطف غرساً في زاكي تربتة ظلي، وإلى محتده المنجب وفضله المنجب أنتمي، فيلحفه من الرحمة جناحاً، ويطلع عليه في ليل الوحشة المؤلمة، من نور صفحه عن هفوته مصباحاً، والذنب إذا لم يكن عقوقاً ولا سوء أدب، وكان في المماليك والقيم المالية مغتفر، عند الأكابر مثله من ذوي الرتب، وقد بلغ في الاعتراف غاية المدى، واندمل الجرح الذي أصابته المدى، والبون واضح في المقاييس، بين المرؤوس والرئيس، وشتان بين الزيف والجوهر النفيس. ومع أن الولد كمد، فهو للنفس ريحانة، وفي فص خاتم الإنسان جمانة، وقد نال منه هذا الإمضاء، والصارم يتخذ فيزيد منه المضاء، وهو يرتجي كل ساعة، أن يفد عليه البشير برضاك، فيستأنف جهوراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، والله يبقيك، والوزارة ترفل منك في مظهر حلل، ويريك في نفسك وبنيك غاية الأمل.
مولدهالتاسع لذي الحجة عام تسعة وتسعين وستماية، وهو الان على حاله الموصوفة.
من الكتاب والشعراء
سهل بن طلحة
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن.حالهكان ظريفاً، عنده مشاركة في الطلب. مدح ولي العهد أبا عبد الله ابن الغالب بالله بشعرٍ وسط، فمن ذلك قوله من قصيدة أولها:
أنا للغرام وللهوى مدفوع ... فمتى السلو ووصلها ممنوع
يقول أيضاً منها بعد كثير:
يا حبذا دارٌ لزينب باللوى ... حيث الفؤاد على الهوى مطبوع
يا حادي العيس التفت نحو اللوى ... إني بسكان اللوى مفجوع
وعج المطي بلعلع وبرامة ... فهناك قلب للشجي مروع
أطلال آرام وبيضٌ خردٌ ... هن الأهلة بالجيوب طلوع
في ظبية من بينهن تصدني ... حسناً ولي أبداً إليه نزوع
حوراء جايرةٌ علي بحكمها ... ظلماً وإني مذعن وسميع
تفنى الليالي والزمان وأنقضى ... كمداً ولا نبأٌ لها مسموع
فيا ليت هل دهر يعود بوصلها ... فيكون للعيش الخصيب رجوع
وتعود أيام السرور كمثل ما ... قد عاد روح حياتها والروع
فقدوم مولانا الأمير محمد ... خير الملوك ومن له الترفيع
وفاتهكان حياً سنة اثنتين وخمسين وستماية.
ابن سالمسالم بن صالح بن علي بن صالح بن محمد الهمداني من أهل مالقة، يكنى أبا عمرو ويعرف بابن سالم.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: كان أديباً مقيداً. كتب بخطه كثيراً، وانتسخ أجزاء عدة، واجتهد وأكثر، وكان متبذلاً في لباسه، متواضعاً، مقتصداً، مليح المجاللسة، حسن العشرة، جليل الأخلاق، فاضل الطبع.
مشيختهروى عن الحافظ أبي عبد الله بن الفخار، وأبي زيد السهيلي، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي جعفر بن حكم، وأبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي محمد بن عبيد الله. وشارك في كثير من شيوخه أبا محمد القرطبي، وكان يناهضه.
دخوله غرناطةدخلها، وأقام بها، وأخذ عن شيوخها، وتردد إليها.
شعرهقال في رمح:
أنا الرمح المعد إلى النوايب ... فصاحبني تجدني خير صاحب
لئن فخر اليراع بكتب خطٍّ ... فلخطي فخرٌ بالكتايب
ومما كتب له ابن خميس قوله:
إلهي قد عصينا منك رباً ... تعلى أن يقابل بالمعاصي
فكيف خلوصنا من هول يوم ... تشيب لهوله سود النواصي
وجلب شعراً كثيراً دون شهرته، وما ذكر به. وتوفي بمالقة ليلة الإثنين لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان المعظم سنة عشرين وستماية.
حرف الهاء من الملوك والأمراء
المعتد بالله
هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله أخو المرتضى المتقدم الذكر ، يكنى أبا بكر، ويلقب بالمعتد بالله الخليفة بقرطبة.صفتهأبيض أصهب، إلى الأدمة، سبط الشعر، أخنس، خفيف العارض واللحية، حسن الجسم، إلى قصر، أمه أم ولد تسمى عاتبا.
حالهبويع له بالثغر، فقرطبة أيام استقراره بحصن ألبنت ، عند صاحبه عبد الله بن قاسم الفهري. قال ابن حيان، ثالباً إياه على عادته، قلد الأمر في سن الشيخوخة، وكان معروفاً بالشطارة في شبابه، وأقلع فرجي فلاحه. وقال، دخل قرطبة في زي تقتحمه العين، وهناً وقلة، عديم رواءٍ وبهجة، وعددٍ وعدة، فوق فرسٍ دون مراكب الملوك، بحلية مختصرة، سادلاً سمل غفارة على ما تحتها من كسوة رثة، قدامه سبع خبايب من خيل العامريين دون علم ولا مضطرد، يسير هوناً والناس ينظرون إليه، ويصيحون بالدعاء في وجهه. فدخل القصر، وقلد حكماً المعروف بالقزاز الأعمال والأمر، وأطلق يده في المال، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
هبك كما تدعي وزيرا ... وزير من أنت يا وزير
والله ما للأمير معنى ... فكيف من وزير الأمير
وضعف أمره، وآثر الناس الوثوب على وزيره، فأوقع به طايفة من الجند، وثارت العامة بهشام فخلع في خبر طويل، ودخل غرناطة مع أخيه المرتضى، ولحق يوم هزيمته بظاهرها، بحصن ألبنت إلى أن بويع له بقرطبة يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وأربعماية.
محنتهثارت العامة به بقرطبة كما تقدم، ملتفةً على أمية بن عبد الرحمن ابن هشام بن سليمن بن عبد الرحمن الناصر، يوم الثلاثاء الثاني عشر لذي حجة من سنة اثنتين وأربعمائة، بسوء تدبير وزيره، وبادر الاعتصام بعلية القصر، وأنزل منها إلى ساباط الجامع بالأمان، فيمن تألف إليه من ولده وحريمه، فحدث بعض سدنة الجامع أن أول ما سأل الشيوخ، إحضار كسيرة من خبز يسد جوع طفيلة له، كان قد احتضنها، ساتراً لها بكمه من قر ليلته تلك، كانت تشكو الجوع ذاهلة عما أحاط به، فأبكى من كلمه اعتباراً بعادية الدهر. وأخرج إلى حصن ابن الشرف إلى أن هلك.
وفاتهفي صفر ثمان وعشرين وأربعمائة. وسنه نحو أربعة وستين سنة. وكان آخر ملوك بني أمية بالأندلس.
ومن ترجمة الأعيان والكبرا والأماثل والوزرا
هاشم بن أبي رجاء الإلبيري
الوزير، يكنى أبا خالد.حالهكان من عظماء أهل إلبيرة وحليتهم، وهو الذي عاد الفقيه الزاهد ابا إسحق بن مسعود الإلبيري في مرضه، وعذله على رداءة مسكنه، وقال له لو سكنت داراً خيراً من هذه لكانت أولى لك، فأجابه رحمه الله بقوله:
قالوا ألا تستجيد بيتاً ... تعجب من حسنه البيوت
فقلت ما ذاكم صوابٌ ... حقيرٌ كثيرٌ لمن يموت
لولا شتاءٌ ولفح قيظ ... وخوف لص وحفظ قوت
ونسوةٌ يبتغين كناً ... بنيت بنيان عنكبوت
وأي معنىً لحسن مغنىً ... ليس لسكانه ثبوت
ما لوعظ القبر لو عقلنا ... موعظة للناطق الصموت
يومي إلى ممتطي الحنايا ... مالك عن مضجعي عميت
نسيت يومي وطول نومي ... وسوف تنسى كما نسيت
وسدت يا هادمي قصوراً ... نعمت فيهن كيف شيت
معتنقاً للحسان فيها ... مستنشقاً مسكها الفتيت
تسحب ذيل الصبا ... وتلهو بآنسات يقلن هيت
فاذكر سهادي قبل التنادي ... واسهد له قبل أن يفوت
فعن قريب يكون ظعني ... سخطت يا صاح أم رضيت
حرف الياء: الملوك والأمراء
يوسف بن إسمعيل
بن فرج بن إسمعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي
أمير المسلمين بالأندلس، أبو الحجاج.حاله وصفته
كان أبيض أزهر، أيداً، براق الثنايا، أنجل، رجل الشعر أسوده، كث اللحية، تقع العين منه على بدر تمام، يفضل الناس بحسن المرأى، وجمال الهيئة، كما يفضلهم مقاماً وربتة، عذب اللسان، وافر العقل، عظيم الهيبة، إلى ثقوب الذهن، وبعد الغور، والتفطن للمعاريض، والتبريز في كثير من الصنائع العملية، مائلاً إلى الهدنة، مزجياً للأمور، كلفاً بالمباني والأثواب، جماعة للحلي والذخيرة، مستميلاً لمعاصريه من الملوك. تولى الملك بعد أخيه بوادي السقايين من ظاهر الخضراء، ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية، وسنه إذ ذاك خمسة عشر عاماً وثمانية أشهر، واستقل بالملك، واضطلع بالأعباء، وتملأ الهدنة ما شاء. وعظم مرانه لمباشرة الألقاب، ومطالعة الرسم، فجاء نسيج وحده، ثم عانى شدايد العدو، فكرم يوم الوقيعة العظمى بظاهر طريف موقعه، وحمد بعد في منازلة الطاغية عند الجثوم على الجزيرة صبره، وأجاز البحر في شأنها، فأفلت من مكيدة العدو التي تخطاها أجله، وأوهن حبلها سعده. ولما نفذ فيها القدر، وأشفت الأندلس، سدد الله أمور المسلمين بها على يده، وراخى مخنق الشدة بسعيه، فعرفت الملوك رجاحته، وأثنت على قصده، إلى حين وفاته.
أمهأم ولد تسمى بهاراً، طرفٌ في الخير والصون والرجاحة.
ولدهكان له ثلاثة من الولد، كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده، وتلوه أخوه إسمعيل المستقر في كنفه، محجوراً عليه التصرف إلى أعمال التدبير، وثالثهم إسمه قيس، شقيق إسمعيل.
وزراء دولتهتولى وزارته لأول أمره، كبير الأكره ونبيه الدهاقين ، من منتجعي المدر بحضرته، أبو إسحق بن عبد البر، لمحيلة طمع نشأت لمقيمي الدولة فيما بيده، سداً لحال بها على عوز طريقه إلى حضرته، إلى ثالث شهر المحرم من العام. وأنف الخاصة والنبهاء، رياسته، فطلبوا من السلطان إعاضته، فعدل عنه إلى خاصة دولتهم الحاجب أبي النعيم رضوان ، مظنة التسديد، ومحط الإنفات، فاتصل نظره مستبداً عليه، في تنفيذ الأمور، وتقديم الولاة والعمال، وجواب المخاطبات، وتدبير الرعايا، وقود الجيوش. ثم نكبه، وأحاط به مكروهاً، مجهول السبب، ليلة الأحد الثاني والعشرين لرجب عام أربعين وسبعماية.
وتولى الوزارة بعده، ابن عمة أبيه القايد أبو الحسن علي بن مول ابن يحيى بن مول الأمي، ابن عم وزير أخيه، رجل جهوري حازم؛ مؤثر للغلظة على الشفقة، ولم ينشب أن كف كف اسبتداده، فانكدر نجم سعادتهم، والتأثث حاله. ولزمته شكاية سدكت فاستنقذته. وأقام لرسم الوزارة كاتبه شيخنا نسيج وحده أبا الحسن بن الجياب إلى أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية، وهلك رحمه الله فأجرى لي الرسم، وعصب لي تلك المثابة، مضاعف الجراية، معززة بولاية القيادة
كتابهتولى كتابته كاتب أخيه وأبيه، شيخنا المذكور إلى حين وفاته. وقلدني كتابة سره مثناة بمزيد قربه، مظفرة برسم وزارته.
قضاتهتولى أحكام القضاء، قاضي أخيه الصدر البقية، شيخنا أبو عبد الله محمد بن محيى بن بكر إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف، وفقد في مصافه، وتحت لوائه. وتولى القضاء الفقيه المفتي البقية أبو عبد الله محمد بن عياش، من أهل مالقة أياماً، ثم طلب الإعفاء. فأسعف عن أيام تقارب أسبوعاً، وولي مكانه الفقيه أبو جعفر أحمد بن محمد بن برطال من أهل مالقة. فسدد الخطة، وأجرى الأحكام، إلى الرابع من شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وأربعين وسبعماية، وقدم عوضاً عنه، الفقيه الشريف الصدر الفاضل أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني السبتي المولد والمنشأ، الطالع على أفق حضرته في أيام أخيه، النازع إلى إيالتهم النصرية معدوداً في مفاخر أيامها، مشاراً إليه بالبنان عند اعتبار أعلامها، ثم عزله لغير جرمة تذكر، إلا ما لا ينكر وقوعه، مما تجره تبعات الأحكام. وولي الخطة شيخنا نسيج وحده الرحلة البقية أبا البركات بن الحاج، شيخ الصقع، وصدر الجلة. واستمر قاضياً إلى.... وأربعين وسبعماية. ثم أعاد إليها القاضي المفوض هونه، الشريف الفاضل، أبا القاسم، إلى يوم وفاته.
رئيس الغزاة ويعسوب الجند الغربي
تولى ذلك الأول الأمر الشيخ أبو ثابت عامر بن عثمن بن إدريس ابن عبد الحق، قريع دهره في النكراء والدهاء، المسلم له في الرتبة، عتاقة ورأياً وثباتاً، إلى أن نكبه، وقبض عليه وعلى إخوته، يوم السبت التاسع والعشرين من ربيع الأول، عام أحد وأربعين وسبعماية. وأقام شيخنا ورئيساً، دايلهم وابن عمهم، المتلقف لكرة عزهم. يحيى بن عمر بن رحو، ولي ذلك بنفسه ونديمه ومبرز خصاله إلى تمام مدته.
من كان على عهده من الملوكوأولاً بفاس دار الملك بالمغرب، السلطان المتناهي الجلالة، أبو الحسن علي بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق. وجاز على عهده إلى الأندلس، إثر صلاة يوم الجمعة تاسع عشر صفر، من عام أحد وأربعين وسبعماية، بعد أن أوقع بأسطول الروم، المستدعى من أقطارهم، وقيعة كبيرة شهيرة، استولى فيها من المتاع والسلاح والأجفان، على ما قدم به العهد، واستقر بالخضراء في جيوش وافرة، وكان جوازه، في مائة وأربعين جفناً غزوياً. وبادر إلى لقائه، واجتمع به في وجوه الأندلسيين وأعيان طبقاتهم بظاهر، الجزيرة الخضراء، في اليوم الموفي عشرين من الشهر المذكور. ونازل إثر انقضاء المولد النبوي، مدينة طريف، ونصب عليها المجانيق، وأخذ بمخنقها، واستحث من بها من المحصورين، طاغية الروم، فبادر يقتاد جيشاً، يجر الشجر والمدر. وكانت المناجزة؛ يوم الإثنين السابع لجمادى الأولى من العام. ومحص المسلمون بوقيعة هايلة، أتت على النفوس والأموال والكراع، وهلك فيها بمضرب الملك جملة من العقايل الكرام، فعظمت الأحدوثة، وجلت المصيبة، وأسرع اللحاق بالمغرب مفلولاً في سبيل الله، محتسباً يروم الكرة: وكان ما هو معلوم، من إمعانه في حدود الشرق، عند إحكام المهادنة بالأندلس، وتوغله في بلاد إفريقية، وجريان حكم الله عليه بالهزيمة، ظاهر القيروان التي لم ينتشله الدهر بعدها، وعلقت آمال الخلق بولده، مستحق الملك، من بين ساير إخوته ، وهلك على تفية، لحاقه بأحواز مراكش، ليلة الأربعاء السادس والعشرين لربيع الأول عام اثنين وخمسين وسبعماية، فاختار الله له ما عنده، بعد أن بلغ من بعد الصيت، وتعظيم الملوك له، وشهرة الذكر، ما لم يبلغه سواه.
ونحن نجلب دليلاً على فضله، والإشادة بفخره، نسخة العقد الذي تضمن هديته إلى صاحب الديار المصرية، صحبة الربعة الكريمة بخطه، وذلك قبة من مائة بنيقة، وفيها أربعة أبواب؛ وقبة أخرى من ستة وثلاثين بنيقة؛ داخلها حلة محلوقة ووجهها حرير أبيض، وركيزها أبنوس وعاج مرصع، والاهار فضة مذهبة، والشرايط حرير. وضربت القبتان بالصفصيف، وحل فيها جميع الهدية. وصففت جميع الدواب بجهازاتها أمام القبة. من الخيل ثلاثمائة، وخمسة وثلاثون من البغل بين ذكور وإناث، ومن الجمال سبع ماية، إلا إنها لم تصفف، بل أعدت لحمل الهدية، ومن البزاة الأحرار أربعة وثلاثون، ومن أحجار الياقوت مائتان وخمسة وعشرون، ومن قطب الزمرد ماية وثمانية وعشرون، ومن حبوب الجوهر الفاخر أكثره، ثلاثة آلاف وأربعة وستنون. ومن أحجار الزبرجد ثمانية وعشرون، ومن المهندات بحلية الذهب عشرة، ومن أزواج مهاميز الذهب عشرة، ومن أزواج الأركب عشرة؛ واحد كله ذهب، وثلاثة كلها فضة، وستة من حبحبة مذهبة على الحديد. واثنان من اللضمات من ذهب. وشاشية مذهبة. وحلل ثلاث عشرة. وعشر كلل ومخاد حلة. وتوق ذهب مائتان، واشتراق ذهب عشرون. وقدود ستة وأربعون. وفرشاً جلة. وعشر علامات معششة. وعشر وقايات مذهبة. وثلاثون من وجوه اللحف حرير وذهب. ومائتان من المحررات الملونة الرفيعة المختمة. وحيطيان أحدهما حلة والآخر طرق. وثلاثة وعشرون شقة من الرهاز. واثنان من هنابل الحلة. وعشرة براقع للخيل منها ثمانية من الحلة. ومن أسلة الخيل ثلاثون، وثلاثة طنافس من الحرير. وهنابل حرير اثنان. وعشرة هنابل من الحرير والصوف. وهنابل والشريشية وزمورية ماية وسبعة. وأربعة آلاف من الجلد التركي والأغماتي. ومن درق اللمط المثمنة مائتان. ومن الأكسية المحررة أربعة وعشرون. ومن البرانس المحررة ثمانية. ومن الأحارم ما بين محررة وصوف عشرون. ومن أزواج المحفف خمسون. وعشر لزمات من الفضة. وستة عشر شقة من الملف. وأما أزودة الحجاج فأعطي للحرة المكرمة أخته، أعزها الله، ثلاثة آلاف دنير من الذهب، ومائتي كسوة برسم العرب. ولمن سافر معها ستماية وسبعين. ولأبي إسحق بن أبي يحيى ثلاثمائة من الذهب وكسوة رفيعة. ولعريفه يحيى السويدي ألف دنير من الذهب. إلى العدد الكثير من الذهب العين برسم الوصفان والخدام، ولرسوم التحبيس على قراء الرابعة الكريمة، ستة عشر ألفاً وخمسماية دنير. انتهى.
وكان هذا السلطان رحمه الله، ممن دوخ الأقطار، وجاهد الكفار، ووطىء بالأساطيل خدود البحار، والتمس ما عند الله من الثواب، وأعلق يده من نسخ كتابه بأوثق الأسباب. إلى أن استوسق الأمر لولده، أمير المؤمنين بالمغرب وما إليه، فارس المكنى بأبي عنان، الملقب بالمتوكل على الله. فقام بالأمر أحمد قيام. وجرت بين هذا السلطان وبينه المخاطبات والمراسلات، وسفرني إليه لأول الأمر، معزياً بأبيه، ومهنياً بما صار إليه من ملكه، واستصحبت إليه كتاباً من إنشائي، نجليه بحول الله، تجسيماً لمن يقف على هذه الأخبار، وإن اقتحمتها ثبج الإكثار وهو: المقام الذي رسخت منه في مقامي الصبر والشكر قدم، فلا يغيره وجود ولا يروعه عدم، وصدفت منه في كتاب المجد عزمة لم يختلجها وهن ولا ندم، حتى تصرفت بحكم معاليه أيام دهره ولياليه، هو ولدان وهذه خدم. مقام محل أخينا. الذي إن جاشت النوايب وسعها صدره. أو عظمت المواهب، ترفع عنها قدره، أو أظلمت الكروب جلاها بدره. أو تألبت الخطوب، هزمها صبره. أو أظلت سحايب النعم، أسدرها حمد الله وشكره، أو عرضت عقود الحمد في أسواق المجد أغلاها فجره. أو راقت حلل الصنايع طرزها ذكره. أو طبقت سيوف الناس أغمدها صفحه، وسلها قهره. السلطان الكذا أبقاه الله ضاحك السعد، كلما بكت عين، مجموع الشمل كلما أزف بين. واري الزند إذا اقتضى دين، محمي الذمار بانفساح الأعمار، كلما أغار على الأحياء حين. ولازال يقيد منه شكر الله نعماً ما في وعدها لي، ولا في قولها مين. ويلبس منها حللاً تقواه في عواتقها زين. مساهمة في كل خطب غم، أو فضل من الله عم. ومقاسمةً في كل ما ألم، وتهنئة بالملك الذي خلص وتم، فلان.
أما بعد حمد الله الذي جعل الصبر في الحوادث حصناً منيعاً، والشكر يستدعي المزيد من النعم سريعاً، فمتى أعملت للصبر دعوة، كان بها الأجر سميعاً. ومتى رفعت من الشكر رقعة، كان المزيد عليها توقيعاً. والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله، الذي بوأنا من السعادة جناباً مريعاً. وبين له حدود أوامره ونواهيه فطوبن لمن كان مطيعاً. وكان لنا في الدنيا هادياً، ونجده في الآخرة شفيعاً. والرضا عن آله وصحبه، الذين كانوا على العداة قيظاً، وللعفاة ربيعاً. فحلوا من الاقتداء به فيما ساء وسر، وأحلى وأمر مقاماً رفيعاً. وخفض عليهم مضاضة فقده، مثابرتهم على ضم شمل المسلمين من بعده، اقتداءً بقوله سبحانه: واعتصموا بحبل الله جميعاً. والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر، الذي يشكر منه الجياد والبيض الحداد صنيعاً. وتشرح منه ألسن الأقلام تهذيباً وتقريعاً. والصبر الذي زرافات الأجر قطيعاً. فقطيعاً. فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم من حظوظ الخير أوفرها عدداً. وأقطعكم من خطط السعد أبعدها مداً. وأتبعكم من كتايب العز أطولها يداً، وخولكم من بسطة الملك ما لا يبيد أبداً؛ وألهمكم من الصبر لما تقدمونه فتجدونه غداً. من حمراء غرناطة، حرسها الله، وعندنا من الاعتداد في الله أسبابٌ وثيقة، وأنساب صدق في بحبوحة الخلوص عريقة. ومن الثناء عليكم حدايق روضٍ لا تحاكيها حديقة. ومن المساهمة لكم في شتى الأحوال، مقاصد لا تلتبس منها طريقة. ومن السرور بما سناه الله لكم، نعمٌ بشكر الله عز وجل خليقة.
وإلى هذا، أيدكم الله بنصره، وحكم لمقامكم بشد أزره، وإعلاء أمره، فإننا ورد علينا الخبر الذي قبض وبسط، وجار وأقسط، وبخس ووفى، وأمرض وشفى، وأضحى وظلل، وتجهم وتهلل، وأمر وأحلى، وأساء ثم أحسن، وبشر بعد ما أحزن، خبر وفاة والدكم، محل أبينا، السلطان العظيم القدر، الكبير الخطر. قدس الله طاهر تربته، وكرم لحده، كما أحيا بكم معالم مجده. فيا له من سهم رمى أغراض القلوب فأثبتها. وطرق مجتمعات الآمال فشتتها. ونعى إلى المجد إنسان عينه وعين إنسانه. وإلى الملك هيولى أركانه. وإلى الدين ترجمة ديوانه. وإلى الفضل عميد إيوانه. حادثٌ نبه العيون من سنة غرورها. وذكر النفوس بهم أمورها. وأشرق المحاجر بماء دموعها، وأضرم الجوانح بنار ولوعها. وبين أن سراب الآمال سراب، وأن الذي فوق التراب تراب. فمن تأمل الدنيا وطباعها، والأيام وإسراعها، والحوادث وقراعها، بدا له الحق من المين. واستغنى عن الأثر بالعين. فشأنها أن لا تفتر عن سهم تسدده إلى غرض. وصحة تعقبها بمرض، وجوهر ترميه بعرض. وداء للموت قديم، وقربه لا يبقى عليه أديم. وكأسه يشربها موسرٌ وعديم. دبت إلى كسرى الفرس عقاريه، فلم تمنعه أساورته ولا مرازبه. وقصر قيصر على حكمه فكدرت مشاريه. وأتبر سيف بن ذي يزن عمدانه، فلم ترعه مضاربه. وأردى تبعاً، فلم يكن في أتباعه من يحاربه. لم تدافع عنهم الجنود المجندة. ولا الصفاح المهندة. ولا الدروع المحكمة، ولا النياب المعلمة. ولا الجياد الجرد المسومة. ولا الرماح المثقفة المقومة. كل قدم على ما قدم. وجد إلى ما أعد. جعلنا الله ممن يسر لسفره زاداً. وقدم بين يديه رباطاً شافعاً لديه وجهاداً. ووثر لنفسه بمناصحة الله والمؤمنين في أعلى عليين، مهاداً. وطوق المسلمين عدلاً وفضلاً وإمداداً. غير أن هذا الفاجىء الذي فجع، ومنع القلوب أن تقر والعين أن تهجع. غمرته البشرى، وغلبته المسرة الكبرى، وعارضته من بقايكم الآية المحكمة الأخرى. فاضمحل من بعد الرسوخ. وصار ليله في حكم المنسوخ. ما كان من استخلاصكم الملك الذي أنتم أهله، واحتيازكم المجد الذي أشرق بكم محله. وكيف بسهم أخطأ ذاتكم الشريفة، أن يقال فيه أصمى وأجهز. والأمل بعد بقايكم أن يقال فيه تعذر أو أعوز. إنما الآمال ببقايكم للملإ منوطة. وسعادة الإسلام بحياتكم المتصلة مشروطة.
ومنها: فأي ترح يبقى بعد هذا الفرح، وأي كسل ينشأ بعد هذا المرح. إن أفل البدر، فقد تبلج الفجر، أو غاض النيل فقد فاض البحر. وإن مال فلك الملك، فقد عاد إلى مداره. وإن أذنب الدهر، فقد أحسن ما شاء في اعتذاره. إنما هذا الخطب وهنٌ أعقبه ضوء النهار، وسطعت بعده أشعة الأنوار. وصمصامةٌ أغمدت؛ وسل من بعدها ذو الفقار.
ومنها: وإننا لما..... عن حقه ورصدنا طالعه في أفقه قابلنا الواقع بالتسليم، والمنحة الرادفة بالشكر العظيم. وأنسنا في غمام الهدنة رب هذا الإقليم. وقلنا استقر الحق ووضحت الطرق، وهوى الرايد وصدق البرق، وتقررت القاعدة وارتفع الفرق، واستبشر يإبلال المغرب أخوه الشرق. وثابت آمال أولي الجهاد إلى اقتحام فرضة المجاز، وأولي الحج إلى مرافقة ركب الحجاز، وآن للدنيا أن تلبس الحلي العجيبة بعد الابتزاز. والحمد لله الذي زين بكم أفق الملك، وكيف بسعدكم نظم ذلك السلط. وهنأ الله إيالتكم، العباد والبلاد، والحج والجهاد. وصدق الظنون الذي في مقامكم، الذي جاز في المكارم الآماد. بادرنا أيدكم الله من بركم إلى غرضين. وقمنا من حق عزايكم وهنايكم بواجبين مفترضين. وشرعنا ومن لدينا، أن نباشر بالنفوس، هذين القصدين. إلا أننا عاقنا عن ذلك، ما اتصل بنا، من العدو الذي بلينا بجواره، ورمينا بمصابرة تياره. وإلا فهذا الغرض قد كنا لا نرى فيه بإجراء الاستنابة، ولا نحظى غيرنا بزيارة تلك المثابة. فليصل الفضل جلالكم. ويقبل العذر كمالكم. وإذا كان الاستخلاف مما تحتمله العبادة، ولا ينكره عند الضرورة العرف والعادة، فأحرى الأخوة والودادة، والفضل والمجادة. فتخيرنا جهدنا، واصطفينا لباب اللباب فيمن عندنا. فعينا فلاناً.
واتصلت أيامه إلى آخر مدته.
وبمدينة تلمسان: عبد الرحمن بن موسى بن عثمن بن يغمراسن بن زيان، يكنى أبا تاشفين. وقد تقدم ذكره، وهو الذي انقضى ملك بني زيان على يده. تولى الملك عام ثمانية عشر كما تقدم، وتهنأه إلى أن تأكدت الوحشة بينه وبين السلطان ملك المغرب. فتحرك لمنازلته، وأخذ بكظمه ، وحصره سنين ثلاثاً، واقتحم عليه ملعب البلدة، ليلة سبع وعشرين من رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعماية. وفي غرة شوال منها، دخل البلد من أقطار عنوة، ووقف هو وكبير ولده برحبة قصره، قد نزعا لام الحرب المانعة من عمل السلاح، استعجالاً للمنية ورغبة في الإجهاز وقاما مقام الثبات والصبر والاستجماع، إلى أن كوثرا واثخنا، وعاجلتهما منية العز قبل شد الوثاق، وإمكان الشمات، واستولى على الملك ملك المغرب. وفي ذلك قلت من الرجز المسمى بقطع السلوك في الدول الإسلامية ، مما يخص ملوك تلمسان، ثم أميرها عبد الرحمن هذا:
وحل فيها عابد الرحمن ... فاغتر بالدنيا وبالزمان
وسار فيها مطلق العنان ... من مظهر سام إلى جنان
كم زخرف علياه من بنيان ... آثاره تبنى عن العيان
وصرف العزم إلى بجاية ... فعظمت في قومها النكاية
حتى ما إذا مدة الملك انقضت ... وأوجه الأيام عنهم أعرضت
وحق حق الدهر فيها ووجب ... وكتب الله عليها ما كتب
حث إليها السير ملك المغرب ... يا لك من ممارس مجرب
فغلب القوم بغير عهد ... بعد حصار دائم وجهد
فأقفرت من ملكهم أوطانه ... سبحان من لا ينقضي سلطانه
ثم نشأت لهم بارقة، لم تكد تقد حتى خبت، عندما جرت على السلطان أبي الحسن الهزيمة بالقيروان؛ وانبت عن أرضه، وصرفت البيعة في الأقطار إلى ولده، وارتحل إلى طلب منصور ابن أخيه، المنتزي بمدينة فاس. فدخلوا تلمسان، وقبضوا على القايم بأمرها، وقدموا على أنفسهم عثمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن المتقدم الذكر في رسم عثمن وذلك في الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعماية؛ واستمرت أيامه أثناء الفتنة وارتاش، وأقام رسم الإمرة، وجدد ملك قومه. واستمرت حاله إلى أن أوقع بهم ملك المغرب، أمير المسلمين أبو عنان الوقيعة المصطلمة التي خضدت الشوكة، واستأصلت الشأفة. وتحصل عثمن في قبضته. ثم ألحقت النكبة به أخاه، فكانت سبيلهما في القتل صبراً عبرة، وذلك في وسط ربيع الأول من عام التاريخ.
وبتونس: الأمير أبو يحيى أبو بكر بن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحق ابن الأمير أبي زكريا إلى أن هلك. وولي الأمر ولده عمر ثم ولده أحمد ثم عاد الأمر إلى عمر. ثم استولى ملك المغرب السلطان أبو الحسن على ملكهم. ثم ضم نشرهم بعد نكبته وخروجه عن وطنهم على أبي إسحق بن أبي بكر.
ومن ملوك النصارى بقشتالة: ألفنش بن هرنده بن دون جانجه بن ألفنش المستولي على قرطبة ابن هرنده المستولي على إشبيلية. إلى عدد جم. وكان طاغية موهوباً، وملكاً مجدوداً. هبت له الريح، وعظمت به إلى المسلمين النكاية. وتملك الخضراء بعد أن أوقع بالمسلمين الوقيعة الكبرى العظمى بطريف. ثم نازل جبل الفتح، وكاد يستولي على هذه الجزيرة، لولا أن الله تداركها بجميل صنعه وخفي لطفه، لا إله إلا هو. فهلك بظاهره في محلته حتف أنفه ليلة عاشوراء من عام أحد وخمسين وسبعماية. فتنفس المخنق، وانجلت الغمة، وانسدل الستر. كنت منفرداً بالسلطان رحمه الله، وقد غلب اليأس، وتوقعت الفضيحة، أونسه بعجايب الفرج بعد الشدة، وأقوى بصيرته في التماس لطف الله، وهو يرى الفرج بعيداً، ويتوقع من الأمر عظيماً. وورد الخير بمهلكه، فاستحالت الحال إلى ضدها، من السرور والاستبشار. والحمد لله على نعمه. وفي ذلك قلت:
ألا حدثاني فهي أم الغرايب ... وما حاضرٌ في وصفها مثل غايب
ولا تخليا منها على قطر السرى ... سروج المذاكي أو ظهور النجايب
أيوسف إن الدهر أصبح واقفاً ... على بابك المطول موقف تايب
دعاؤك أمضى من مهندة الظبا ... وسعدك أقضى من سعود الكواكب
سيوفك في أغمادها مطمئنة ... ولكن سيف الله دامي المضارب
فثق بالذي أرعاك أمر عباده ... وسل فضله فالله أكرم واهب
لقد طوق الأذفنش سعدك خزيةً ... تجد على مر العصور الذواهب
وفيت وخان العهد في غير طايل ... وصدق أطماع الظنون الكواذب
هوى في مجال العجب غير مقصر ... وهل نهض العجب المخل براكب
وغالب أمر الله جل جلاله ... ولم يدر أن الله أغلب غالب
ولله في طي الوجود كتايب ... تدق وتخفى عن عيون الكتايب
تغير على الأنفاس في كل ساعة ... وتكمن حتى في مياه المشارب
فمن قارع في قومه سن نادم ... ومن لاطم في ربعه خد نادب
مصايب أشجى وقعها مهج العدا ... وكم نعمٌ في طي تلك المصايب
شواظٌّ أراد الله إطفاء ناره ... وقد نفج الإسلام من كل جانب
وإن لم يصب منه السلاح فإنما ... أصيب بسهم من دعايك صايب
ولله من ألطافه في عباده ... خزاين ما ضاقت لمطلب طالب
فمهما غرست الصبر في تربة الرضا ... بأحكامه فلتجن حسن العواقب
ولا تعد الأمر البعيد وقوعه ... فإن الليالي أمهات العجايب
وهي طويلة سهلة؛ على ضعف كان ارتكابه مقصوداً في أمداحه.
وببرجلونة : السلطات بطره المتقدم ذكره في اسم أخيه.
ومن الأحداث في أيامه الوقيعة الكبرى بظاهر طريف، يوم الإثنين السابع من جمادى الأولى، من عام أحد وأربعين وسبعماية، وما اتصل بذلك من منازلة الطاغية ألهنشه، قلعة يحصب الماسة الجوار من حضرته، واستيلائه عليها، وعلى باغة. ثم منازلة الجزيرة الخضراء عشرين شهراً، أوجف خلالها بجيوش المسلمين من أهل العدوتين إلى أرضه. ثم استقر منازلاً إياها إلى أن فاز بها قداحه، والأمر لله العلي الكبير، في قصص يطول ذكره، تضمن ذلك طرفة العصر من تأليفنا. ثم تهنأ السلم، والتحف جناح العافية والإمنة برهة، رحمه الله.
وفاتهوما استكمل أيام حياته، وبلغ مداه، أتم ما كان شباباً واعتدالاً وحسناً، وفخامة وعزاً حتى أتاه أمر الله من حيث لا يحتسب، وهجم عليه يوم عيد الفطر، من عام خمسة وخمسين وسبعماية، في الركعة الأخيرة، رجل من عداد الممرورين، رمى بنفسه عليه، وطعنه بخنجر كان قد أعده، وأغرى بعلاجه، وصاح، وقطعت الصلاة، وقبض عليه، واستفهم، فتكلم بكلام مخلط، واحتمل إلى منزله، على فوت لم يستقر به، إلا وقد قضى رحمه الله ورضي عنه، وأخرج ذلك الخبيث للناس، وقتل وأحرق بالنار، مبالغة في التشفي، ودفن السلطان عشية اليوم في مقبرة قصره لصق والده، وولي أمره ابنه أبو عبد الله محمد، وبولغ في احتفال قبره، بما أشف على من تقدمه، وكتب عليه ما نصه:
هذا قبر السلطان الشهيد، الذي كرمت أحسابه وأعراقه، وحاز الكمال خلقه وأخلاقه، وتحدث بفضله وحلمه شام المعمور وعراقه، صاحب الآثار السنية، والأيام الهنية، والأخلاق الرضية، والسير المرضية. الإمام الأعلى، والشهاب الأجلى، حسام الملة، علم الملوك الجلة، الذي ظهرت عليه عناية ربه، وصنع الله له في سلمه وحربه. قطب الرجاحة والوقار، وسلالة سيد الأنصار، حامي حمى الإسلام برأيه ورايته، المتسولي في ميدان الفخر على غايته، الذي صحبته عناية الله في بداية أمره وغايته، أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف ابن السلطان الكبير، الإمام الشهير، أسد دين الله، الذي أذعنت الأعداء لقهره، ووقفت الليالي والأيام عند نهيه وأمره. رافع ظلال العدل في الآفاق حامي حمى السنة بالسمر الطوال والبيض الرقاق ، مخلد صحف الذكر الخالد والعز الباق، الشهيد السعيد المقدس أبي الوليد، ابن الهمام الأعلى الطاهر النسب والذات، ذي العز البعيد الغايات، والفخر الواضح الآيات، كبير الخلافة النصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدس المرحوم أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن نصر، تغمده الله برحمة من عنده، وجعله في الجنة جاراً لسعد بن عبادة جده، وجازى عن الإسلام والمسلمين، حميد سعيه، وكريم قصده. قام بأمر المسلمين أحمد القيام، ومهد لهم الأمن من ظهور الأيام، وجلى لهم وجه العناية مشرق القسام، وبذل فيهم من تواضعه وفضله، كل واضح الأحكام. إلى أن قضى الله بحضور أجله، على خير عمله، وختم له بالسعادة، وساق إليه على حين إكمال شهر الصوم هدية الشهادة. وقبضه ساجداً خاشعاً، منيباً إلى الله ضارعاً، مستغفراً لذنبه، مطمئناً في الحالة، التي أقرب ما يكون العبد فيها من ربه. على يد شقيٍّ قيضه الله لسعادته، وجعله سبباً لنفوذ سابق مشيئته وإرادته، خفي مكانه لخمول قدره. وتم بسببه أمر الله لحقارة أمره. وتمكن له عند الاشتغال بعبادة الله، ما أضمره من غدره، وذلك في السجدة الأخيرة من صلاة العيد. غرة شوال، من عام خمسة وخمسين وسبعماية. نفعه الله بالشهادة التي كرم منها الزمان والمكان، ووضح منها على قبول رضوان الله البيان. وحشره مع سلفه الأنصار، الذين عز بهم الإيمان، وحصل لهم من النار الأمان. وكانت ولايته الملك في غرة اليوم الرابع عشر لذي الحجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية. ومولده في الثامن والعشرين لربيع الآخر عام ثمانية عشر وسبعماية. فسبحان من انفرد بالبقاء المحض وحتم الفناء على أهل الأرض ثم يجمعهم إلى يوم الجزاء والعرض، لا إله إلا هو.
وفي الجهة الأخرى من النظم، وكلاهما من إملائي، ما نصه:
يحييك بالريحان والروح من قبر ... رضي الله عمن حل فيك مدى الدهر
إلى أن يقوم الناس تعنو وجوههم ... إلى باعث الأموات في موقف الحشر
ولست بقبرٍ إنما أنت روضة ... منعمة الريحان عاطرة النشر
ولو أنني أنصفتك الحق لم أقل ... سوى يا كمام الزهر أو صدف الدر
ويا ملحد التقوى ويا مدفن الهدى ... ويا مسقط العليا ويا مغرب البدر
لقد حط فيك الرحل أي خليفة ... أصل المعالي غرةٌ في بني نصر
لقد حل فيك العز والمجد والعلى ... وبدر الدجا والمستجار لدى الدهر
ومن كأبي الحجاج حامي حمى الهدى ... ومن كأبي الحجاج ماحي دجا الكفر
إمام الهدى غيث الندى دافع العدا ... بعيد المدى في حومة المجد والفخر
سلالة سعد الخزرج بن عبادة ... وحسبك من بيت رفيع ومن قدر
إذا ذكر الإغضاء والحلم والتقى ... وحدثت عن علياه حدث عن البحر
تخونه طرف الزمان وهل ترى ... بقاءً لحيٍّ أو دواماً على أمر
هو الدهر ذو وجهين يومٌ وليلةٌ ... ومن كان ذا وجهين يعتب في غدر
تولى شهيداً ساجداً في صلاته ... أصيل التقى رطب اللسان من الذكر
وقد عرف الشهر المبارك حق ما ... أفاض من النعمى ووفى من البر
وباكر عيد الفطر والحكم مبرم ... وليس سوى كأس الشهادة من فطر
أتيح له وهو العظيم مهابة ... وقدراً حقير الذات والخلق والقدر
شقيٌّ أتت من لدنه سعادة ... ومنكر قوم جاء بالحادث النكر
وكم من عظيم قد أصيب بخامل ... وأسباب حكم الله جلت عن الحصر
فهذا عليٌّ قد قضى بابن ملجم ... وأوقع وحشي بحمزة ذي الفخر
نعد الرماح المشرفية والقنا ... ويطرق أمر الله من حيث لا تدري
ومن كان بالدنيا الدنية واثقاً ... على حالة يوماً فقد باء بالخسر
فيا مالك الملك الذي ليس ينقضي ... ويا من إليه الحكم في النهى والأمر
تغمد بستر العفو منك ذنوبنا ... فلسنا نرجي غير سترك من ستر
فما عندك اللهم خيرٌ ثوابه ... وأبقى ودنيا المرء خدعة مغتر
ومما رثى به قولي في غرض ناءٍ عن الجزالة، متحرياً اختيار ولده:
العمر يوم والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمر منام
وإذا تحققنا الشيىء بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام
والنفس تجمع في مدى آمالها ... ركضاً وتأبى ذلك الأيام
من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه نفذت بذا الأحكام
بعد الشبيبة كبرةٌ ووراءها ... هومٌ ومن بعد الحياة حمام
ولحكمة ما أشرقت شهب الدجا ... وتعاقب الإصباح والإظلام
دنياك يا هذا محلة نقلة ... ومناخ ركبٍ ما لديه مقام
هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السماح وأعدم الإعدام
سر الإمامة والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضرغام
قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعز سام والخميس لهام
فجعت به الدنيا وكدر شر بها ... وشكى العراق مصابه والشام
أسفاً على الخلق الجميل كأنه ... بدر الدجنة قد جلاه تمام
أسفاً على العمر الجديد كأنه ... غض الحديقة زهره بسام
أسفاً على الخلق الرضي كأنها ... زهر الرياض همى عليه غمام
أسفاً على الوجه الذي يهمي ندىً ... طاشت لنور جماله الأفهام
يا ناصر الثغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسماء قتام
يا صاحب الصدمات في جنح الدجا ... والناس في فرش النعيم نيام
يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام
مولاي هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام
مولاي هل لك للعبيد تذكر ... حاشاك أن تنسى لديك ذمام
يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزه نصرة الأعلام
وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النهى والجود والإقدام
ورحلت عنا الركب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام
نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزاد فيه تهجدٌ وصيام
وكسفت يا شمس المحاسن ضحوةً ... فاليوم كيلٌ والضياء ظلام
سقاك عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الحرمي مدام
وختمت عمرك بالصلاة فحبذا ... عملٌ كريم سعيه وختام
مولاي كم هذا الرقاد إلى متى ... بين الصفايح والتراب تنام
إعد التحية واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام
تبكي عليك مصانع شهدتها ... بيض كما تبكي الهديل حمام
تبكي عليك مساجد عمرتها ... فالناس فيها سجدٌ وقيام
تبكير عليك خلايق أمنتها ... بالسلم وهي كأنها أنعام
عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام
لو كنت تفدى أو تجاز من الردى ... بذلت نفوس من لدنك كرام
لو كنت تمنع بالصوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام
لكنه أمر الإله ومالنا ... إلا رضىً بالحكم واستسلام
والله قد كتب الفنا على الورى ... وقضاؤه جفت به الأقلام
نم في جوار الله مسروراً بما ... قدمت يوم تزلزل الأقدام
واعلم بأن سليل ملك قد غدا ... في مستقر علاك وهو إمام
بستر تكنف منه من خلفته ... ظل ظليل فهو ليس يضام
كنت الحسام وصرت في غمد الثرى ... ولنصر ملكك سل منه حسام
خلفت أمة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمة الأحكام
فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهدو وتوصل الأرحام
ابقى رسومك كلها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظاىم
العدل والشيم الكريمة والتقى ... والدار والألقاب والخدام
حسبي بأن أخشى ضريحك لائماً ... وأقول والدمع السفوح سجام
يا مدفن التقوى ويا مثوى الهدى ... مني عليك تحية وسلام
أخفيت عن حزني عليك وفي الحشا ... نارٌ لها بين الضلوع ضرام
ولو أنني أديت حقك لم يكن لي ... بعد فقدك في الوجود مقام
وإذا الفتى أدى الذي في وسعه ... وأتى بجهدٍ ما عليه ملام
وكتبت في بعض المعاهد التي كان يأنس بها رحمة الله عليه:
غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظارٌ منك مرقوب
يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب
يوسف بن عبد الرحمن الفهرييوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري
أوليتهكان عبد الرحمن أحد زعماء العرب بالأندلس. وكان ممن ثار منها من أصحاب بلج عصبيةً لقتله، فخرج عن الأندلس إلى إفريقة. وجده عقبة بن نافع، هو الذي اختط قيروانها أيام معوية بن أبي سفيان. قال عيسى بن أحمد، وهرب ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضباً له، أيام بشر بن صفوان الكلبي، فهوي الأندلس واستوطنها، فساد بها ثم تأمر فيها.
حالهكان شريفاً جليلاً، حازماً عاقلاً. اجتمع عليه أهل الأندلس من أجل أنه قرشي، بعد موت أميرهم ثوابة بن سلامة، ورضي به الخيار من مضر واليمن، فدانت له الأندلس، تسع سنين وتسعة أشهر، وكان آخر الأمراء بالأندلس، وعنه انتقل سلطانها إلى بني أمية. وأشرك الصميل بن حاتم في أمره، فتركت لذلك نسبة الأمر له، وكانت الحرب التي لم يعرف بالمشرق والمغرب، أشد جلاداً، ولا أصبر رجالاً منها، واعتزلها يوسف تحرفاً، وقام بأمرها الصميل، وانهزم اليمانيون واستلحموا ملحمة عظيمة، واستوسق الأمر ليوسف. وغزا جليقية، فعظم في عدوها أثره. ولما تم الأمر طرقه ما تقدم به الإلماع، من عبور صقر بني أمية عبد الرحمن الداخل في خبر طويل. والتقى بظاهر قرطبة سنة ثمان وثلاثين وماية في ذي الحجة. وانهزم يوسف بن عبد الرحمن والصميل، ولحقا بإلبيرة. وأتبعهما عبد الرحمن بن معاوية فنازله، وقد تحصن بمعقل إلبيرة حصن غرناطة، وترددت بينهما الرسل في طلب المهادنة والبقاء على الصلح. وتخلى يوسف عن الدعوة، واستقر سكناه بقرطبة. وذلك في صفر سنة تسع وثلاثين وماية، وأقبل معه في عسكره إلى قرطبة. وذكر أنه تمثل عند دخوله عسكر عبد الرحمن ببيت جرور بن إبنة النعمان:
فبتنا نسوس الأمر والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ ننتصف
فتباً لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب ساعات بنا وتصرف
واستقر بقرطبة دهراً، ثم بدا له في الخلاف. ولحق بأحواز طليطلة، وأعاد عهد الفتنة، فاغتاله مملوكان له، وقتلاه رحمه الله، في سنة اثنتين وأربعين وماية. وأخبار يوسف بن عبد الرحمن معروفة، وهو محسوب من الأمراء الأصلاء بغرناطة، إذ كانت له قبل الإمارة بها ضياع يتردد إليها.
ومن غير الأصليين
يحيى بن عبد الله
بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد ابن أحمد بن أبي عزفة اللخمي
الرييس أبو زكريا وأبو عمرو بن الرييس أبي طالب بن الرييس أبي القاسم. كناه أبوه أبا عمرو، وغلبت عليه الكنية المعروفة.
حالهكان قيماً على طريقة أصحاب الحديث، رواية وضبطاً وتقييداً وتخريجاً، مع براعة خط، وطرف ضبط، شاعراً مجيداً مطبوعاً. ذا فكاهة وحسن مجالسة. رأس بسبتة، بعد إجغازته البحر من الأندلس والإحتلال بفاس، نايباً عن ملك المغرب السلطان أبي سعيد بن عبد الحق، لأمر مت به إليه قبل استقلاله، ليس هذا موضع ذكره. ثم استبد بها مخالفاً عليه، لأمر يطول شرحه، أجرى فيه موفى الجانب من الهلع، باسلاً مقداماً. سكون الطاير، مثقفاً بخلال رياسته، ضاماً لأطرافها. ونازله جيش المغرب، وبيد أميره ولده أبو القاسم مرتهناً، فأتيح له ظفرٌ أجلى ليلة غربيات المحلة والأثر فيها، واستخلاص ولده.
مشيختهأخذ عن جماعة من أهل بلده وغيرهم، قراءة وسماعاً وإجازة. فممن أخذ عنه من أهل بلده سبتة، أبو إسحق الغافقي، وأبو عبد الله بن رشيد، وابو الظفر المنورقي، وأبو القاسم البلفيقي، وأبو علي الحسن بن طاهر الحسيني، وأبو إسحق التلمساني، وأبو محمد عبد الله بن أبي القاسم الأنصاري، وأبو القاسم بن الشاط. وبغرناطة لما قدم عليها، مغرباً عن وطنه، عند تصيره إلى الإيالة النصرية من أيديهم، وسكناه بها، عن أبي محمد عبد المنعم بن سماك، وأبي جعفر بن الزبير، وأبي محمد بن المؤذن، وأبي الحسن بن مستقور وغيرهم. ومن أهل ألمرية أبو عبد الله محمد ابن الصايغ، وأبو عبد الله بن شعيب. ومن أهل مالقة الولي أبو عبد الله بن الطنجالي، وأبو محمد الباهلي، وأبو الحسن بن منظور، وأبو الحسن بن مصامد. ومن أهل الخضراء، أبو جعفر بن خميس. ومن أهل بلش أبو عبد الله بن الكماد. ومن أهل أرجبة أبو زكريا البرشاني. ومن أهل بجاية أبو علي ناصر الدين المشدالي، وأبو عبد الله بن غربوز. ومن أهل فاس أبو عبد الله المومناني. ومن أهل تيزي أبو عبد الله محمد القيسي. وكتب له بالإجازة طايفة كبيرة من أهل المشرق، منهم قطب الدين القسطلاني.
شعرهقال لي شيخنا أبو البركات، سألته، وأنا معه واقفٌ بسور قصبة سبتة، أن يجيزني ويكتب لي من شعره، فكتب لي قطيعات منها في تهنئة السلطان أبي الجيوش يوم ولايته:
الآن عاد إلى الإمامة نورها ... وارتاح منبرها وهش سريرها
وبدا لنا من بعد طول قطوبها ... منها التهلل واستبان سرورها
وضعت أزمتها بكف خليفة ... هو أصلها الأولى بها ونصيرها
من معشر عرفت بطون أكفهم ... بذل الندى واللاثمين ظهورها
خرصانهم ووجوههم في ظلمة ... النقع المثار نجومها وبدورها
وسع الرعايا منه عدله ... لم يزل إليه قلوبهم ويصورها
حتى اغتدت بالحب فيه صدورها ... ملأى وأخلص في الولاء ضميرها
رام العداة لمجده كيداً فلم ... تنجح مساعتها وساء مصيرها
وكذاك فعل الله فيمن كاده ... جهلاً وغرته المنا وغرورها
مولاي إنا عصبةٌ معروفة ... بالحب فيك صغيرها وكبيرها
جينا نقضي من حقوقك واجباً ... نسدي بالمدايح تارة وتبيرها
ولقد خدمت مقامكم من قبلها ... بفرايد حسناً يعز نظيرها
فاجذب بضبعي من حضيض مزارتي ... عرست وعلى يديك مسيرها
وافتكني من أسر فرط خصاصة ... عنفت فلم يقصد سواك أسيرها
لازلت للإسلام تحمي أمة ... دانته مما يتقي ويجيرها
وبقيت في عز وسعد شامل ... حتى يحين من الرفاة نشورها
وفي الإلغاز بالأقلام والمحبرة:
وسربٌ ضمهم دست ستير ... شباب ليس يفزعهم قتير
قد اختصروا فلم يفرش ساد ... لمجلسهم ولم ينصب سري
لهم كأس إذا دارت عليهم ... فقد أزف الترحل والمسير
وأفشوا سر سياقهم بلفظ ... مبين ليس يفهمه البصير
وهزت من روسهم نشاطاً ... وعند الصحو يعروهم فتور
فصاح إن تحللهم وإلا ... فشأنهم التلعتم والقصور
صلاب حين تعجمهم ولكن ... إذا طعنوا فدمعهم غزير
لهم عقل يلوح على القوافي ... لذاك نومهم أبداً كثير
طويلهم يطول العمر منه ... أخا نعبٍ ويخترم القصير
وهم لم يشف يوماً ... بغير القطع عضوهم الكبير
فقل لي من هم لازلت فرداً ... دياجي المشكلات به تسير
نكبته: تنظر في العبادلة في اسم أبيه .
وفاتهعام تسعة عشر وسبعماية، في شعبان رحمه الله.
الأمير أبو زكريايحيى بن علي بن غانية الصحراوي، الأمير أبو زكريا
حالهكان بطلاً شهماً حازماً، كثير الدهاء والإقدام، والمعرفة بالحروب، مجمعاً على تقدمه. نشأ في صحبة الأمير بقرطبة محمد بن الحاج اللمتوني وولاه مدينة إستجة، فهي أول ولايته. وليها يحيى، وتزوج محمد بن الحاج أمه غانية بعد أبيه وكفله، وأقام معه بقرطبة، إلى أن كان من محمد بن الحاج ما كان من مداخلة أشياخ مسوفة على خلع محمد بن يوسف ابن تاشفين عن الأمر ، وصرف البيعة إلى يحيى الحفيد، الوالي في ذلك العهد بمدينة فاس، ولم يتم له الأمر، فأجلى عن نكبته. وانفصل يحيى بن غانية عن جماعته، وأقام متصرفاً في الحروب، معروف الحق والغناء، إلى أن اشتهرت بسالته وديانته، ورغب يدير بن ورقا صاحب بلنسية من السطان في توجيهه إليه، ليستبين به على مدافعة العدو، فأجيب إلى ذلك. فوصل يحيى بلنسية، واقام بها ذاباً عن المسلمين، إلى أن توفي يدير بن ورقا، فولاه علي بن يوسف إياها وشرق الأندلس، فظهر غناؤه وجهاده، وهزم الله بها ابن رذمير الطاغية منازلاً إفراغة على يده، فطار ذكره، وعظم صيته، واشتهر سعده، وأسل عن البيضة دفاعه.
أخبار عزمه
حكي عنه أنه تزوج في فتوته امرأة من قومه شريفة جميلة، وقربها عيناً، ثم تركها وطلقها، فسئل عن ذلك، فقال والله ما فارقتها عن خلة تذم، ولكن خفت أن أشتغل بها عن الجهاد. ولم يزل يدافع النصارى عن المسلمين بالأندلس، فهزم ابن رذمير، وأقلع محلاتهم عن مدينة الأشبونة، واستمسك به حال الأندلس. وولي قرطبة وما إليها من قبل تاشفين بن علي بن يوسف، عام ثمانية وثلاثين وخمسمائة، فاستقامت الأمور بحسن سيرته، وظهور سعده، إلى صفر من عام تسعة وثلاثين. وكانت ثورة ابن قسي ، باكورة الفتنة. ولما خرج إلى لبلة، ثار ابن حمدين بقرطبة دار ملكه في رمضان من العام، واستباح قصره، وانطلقت الأيدي على قومه، وتم له الأمر. وبلغ يحيى الخبر، فرجع أدراجه إلى إشبيلية، فثار به أهلها، وناصبوه الحرب وأصابوه بجراحة، فلجأ إلى حصن مرجانة، فأقام به يصابر الهول، ويرقع القنن. ثم تحرك إليه جيش ابن حمدين، وكانت بينهما وقيعة انهزم فيها ابن حمدين، واستولى ابن غانية على قرطبة، في شعبان من عام أربعين، وتحصن ابن حمدين بأندوجر ممتنعاً بها. ونهض يحيى إلى منازلته. فاستعان ابن حمدين بملك قشتالة، وأطمعه في قرطبة، فتحرك إلى نصرته. ولما وصل أندوجر، أعذر يحيى في الدفاع والمصابرة، ثم انصرف بالجيش إلى قرطبة، وأخذ العدو في آثارهم، صحبة مستغيثه ابن حمدين. فنازل قرطبة، وامتنع ابن غانية بالقصر وما يليه من المدينة. وأدخل ابن حمدين النصارى قرطبة في عاشر ذي الحجة من عام أربعين، فاستباحوا المسجد، وأخذوا ما كان به من النواقيس ، ومزقوا مصاحفه، ومنها زعموا مصحف عثمان، وأنزلوا المنار من الصومعة، وكان كله فضة، وحرقت الأسواق، وأفسدت المدينة، وظهر من صبر ابن غانية، وشدة بأسه، وصدق دفاعه، ما أيأس منه. وكان من قدر الله، أن بلغ طاغية الروم يوم دخولهم قرطبة، اجتياز الموحدين إلى الأندلس، فأجال طاغيتهم قداح الرأي، فاقتضى أن يهادن ابن غانية: ويتركه بقرطبة في نحر عدوه من الموحدين، سداً بينهم وبين بلاده. فعقدت الشروط، ونزل إليه ابن غانية فعاقده، واستحضر له أهل قرطبة، وقال لهم، أنا قد فعلت معكم من الخير، ما لم يفعله من قبلي، غلبتكم في بلدكم وتركتكم رعية لي، وقد وليت عليكم يحيى بن غانية، فاسمعوا له وأطيعوا. قال المؤرخ، وفخر الطاغية في ذلك اليوم بقومه ، وقال، ولا يريبنكم أن تكونوا تحت يدي ونظري، فعندي كتاب نبيكم إلى جدي. حدث ابن أم العماد أبو الحسن، قال، حضرت، وأحضرحق من ذهب، فتح وأخرج منه كتابٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى قيصر ملك الروم، وهو جده بزعمه. والكتاب بخط علي بن أبي طالب. قال أبو الحسن، قرأته من أوله إلى آخره، كما جاء في حديث البخاري. وانصرف إلى بلاده، وانصرف ابن حمدين، فكان هلاكه بمالقة، بعد اضطراب كثير. واستقر ابن غانية بقرطبة الغادر به أهلها، فشرع في بنيان القصبة وسد عورتها، وسام أهلها الخسف وسوء العذاب، ووالى إغرامهم. واستعجل أمرهم، واتصل سلمه مع العدو إلى تمام أحد وأربعين وخمسماية، وقد تملك الموحدون إشبيلية وما إليها. وضيق عليه النصارى في طلب الإتاوة ، واشتطوا عليه في طلب ما بيده، ونزل طاغينهم أندوجر وبه رجل يعرف بالعربي، واستدعى ابن غانية. فلما تحصل بمحلته، طلبه بالتخلي عن بياسة وأبدة، فكان ذلك. وتشاغل الموحدون بأمر ثائر نازعهم بالمغرب. فكلب العدو على الأندلس، فنازل الأشبونة وشنترين، وألمرية وطرطوشة ولا ردة وإفراغة، وطمع في استيصال بلاد الإسلام، فداخل ابن غانية سراً من بإشبيلية من الموحدين، ووصله كتاب خليفتهم بما أحب، وتحرك الطاغية في جيوش لا ترام. وطالب ابن غانية بالخروج عن جيان وتسليمها إليه، وكاده، حسبما تقدم في اسم عبد الملك بن سعيد. ونهض بعد هذه الكاينة إلى غرناطة، وهي آخر ما تبقى للمرابطين من القواعد ليجمع بها أعيان لمتونة ومسوفة، في شأن صرف الأمر إلى الموحدين.
وفاتهولما وصل الأمير يحيى بن غانية إلى غرناطة أقام بها شهرين، وتوفي عصر يوم الجمعة الرابع عشر من شعبان عام ثلاثة وأربعين وخمسماية، ودفن بداخل القصبة في المسجد الصغير، المتصل بقصر باديس بن حيوس مجاوراً له في مدفنه، وعليه في لوح من الرخام تاريخ وفاته. والناس يقصدوه لنتبرك به.
يوسف بن تاشفين
بن إبراهيم بن توقورت بن وريابطن بن منصور ابن مصالة بن أمية بن وايامي
الصنهاجي ثم اللمتونييكنى ابا يعقوب ويلقب بأمير المسلمين.
أوليتهذكروا أن يحيى بن إبراهيم بن توقورت حج، وهو كبير قبيل الصحراويين في عشر الأربعين وأربعماية، واجتاز على القيروان، وهي موفورة بالعلماء، وتعرف بالفقيه أبي عمران الفاسي، ورغب إليه أن ينظر له في طلب من يستصحبه، ليعلم قومه ويفقههم ، فخاطب له فقيهاً من فقهاء المغرب الأقصى اسمه واجاج، واختارله واجاج، عبد الله بن ياسين القايم بدولتهم، البادي نظم نشرهم، وتأليف كلمتهم، فاجتمع عليه سبعون شيخاً من نبهائهم ليعلمهم، فانقادوا له انقياداً كبيراً، وتناسل الناس، فضخم العدد، وغزا معهم قبايل الصحراء. ثم التأثت حاله معهم، فصرفوه، وانتهبوا كتبه، فلجأ إلى أمير لمتونة يحيى بن عمر بن تلايكان اللمتوني، فقبله، وأعاد حاله، وثابت طاعته، فأمضى القتل على من اختلف عليه. وكان يحيى بن عمر يمتثل أمر عبد الله امتثالاً عظيماً. ثم خرج بهم إلى سجلماسة، فتملكوها، وتملكوا الجبل. ثم ظهروا على المغرب، ثم قتل الأمير يحيى بن عمر، فقدم عبد الله أخاه أبا بكر بن عمر بدرعة، ونهد به، فتملك جبال المصامدة، واحتل بأغمات وريكة واستوطنها. ولعبد الله أخبار غريبة، وشذوذ في الأحكام الله أعلم بصحتها. وقتل عبد الله ابن ياسين برغواطة. ولم يزل الأمير أبو بكر بن عمر حتى أخذ ثاره، وأثخن القتل فيهم، وقدم ابن عمه يوسف بن تاشفين بن إبراهيم، على عسكر كبير، فيهم أشياخ لمتونة، وقبايل البرابرة والمصامدة، واجتاز على بلاد المغرب، فدانت له. وطرق الأمير أبا بكر خبرٌ من قومه من الصحراء انزعج له، فولى يوسف بن تاشفين على مملكة المغرب، وترك معه الثلث من لمتونة، إخوانه، وأوصاه، وطلق زوجته زينب، وأمره بتزوجها، لما بلاه من يمنها. فبنى يوسف مدينة مراكش وحصنها ، وتحبب إلى الناس، واستكثر من الجنود والقوة، وجبي الأموال، واستبد بالأمر. ورجع الأمير أبو بكر من الصحراء سنة خمس وستين وأربعمائة، فألفى يوسف مستبداً بأمره، فسالمه، وانخلع له عن الملك، ورجع إلى صحرايه، فكان بها تصله هدايا يوسف إلى أن قتله السودان. واستولى يوسف على المغرب كله، ثم أجاز البحر إلى الأندلس، فهزم الطاغية الهزيمة الكبرى بالزلاقة، وخلع أمراء الطوائف، وتملك البلاد إلى حين وفاته.
حالهقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصيرفي، كان رحمه الله خائفاً لربه كتوماً لسره، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلاً على الصلاة، مديماً للاستغفار، أكثر عقابه لمن تجرأ أو تعرض لانتقامه، الاعتقال الطويل، والقيد الثقيل، والضرب المبرح، إلا من انتزى أو شق العصا، فالسيق أحسم لانتثار الداء. يواصل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه وغيرهم يفتياهم، ويحض على العدل، ويصدع بالحق، ويعضد الشرع، ويجزم في المال، ويولع بالاقتصاد في الملبس والمطعم والمسكن، إلى أن لقي الله، مجداً في الأمور، ملقناً للصواب، مستحباً حال الجد، مؤدياً إلى الرعايا حقها، من الذب عنها، والغلظة على عدوها، وإفاضة الأمن والعدل فيها. يرى صور الأشياء على حقيقتها. تسمى بأمير المسلمين لما احتل الأندلس وأوقع بالروم، وكان قبل يدعى الأمير يوسف، وقامت الخطبة فيها جميعاً باسمه، وبالعدوة، بعد الخليفة العباسي. وكان درهمه فضة، ودنيره تبرٌ محض، في إحدى صفحتي الدنير لا إله إلا الله، محمد رسول الله وتحت ذلك أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين، وفي الداير، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وفي الصفحة الأخرى، الإمام عبد الله أمير المسلمين، وفي الداير تاريخ ضربه وموضع سكته، وفي جهتي الدرهم ما حمله من ذلك.
بعض أخباره
في سنة سبعين وأربعمائة وردت عليه كتب الأندلس، يبثون حالهم، ويحركونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين بعدها، ورد عليه عبد الرحمن ابن أسباط، من ألمرية، يشرح حال الأندلس. وفي سنة خمس وسبعين بعدها، وجه إلى شراء العدد فيها، واستكثر منها. وفي سنة ستٍّ بعدها فتح مدينة سبتة، ودخلها عنوة على الثاير بها سقوت البرغواطي. وفي سنة ثمان اتصل به تملك طاغية قشتالة مدينة طليطلة، وجاز إليه المعتمد بن عباد بنفسه، وفاوضه واستدعاه لنصرة المسلمين، وخرج إليه عن الجزيرة الخضراء. وعلم بذلك الأدفنش، فاخترق بلاد المسلمين معرضاً عن رؤساء الطوائف، لا يرضى أخذ الجزية منهم، حتى انتهى إلى الخضراء، ومثل على شاطىء البحر، وأمر أن يكتب إلى الأمير يوسف بن تاشفين، والموج يضرب أرساغ فرسه، بما نسخته: من أمير الملتين أذفونش بن فردلند إلى الأمير يوسف بن تاشفين. أما بعد فلا خفاء على ذي عينين أنك أمير الملة المسلمة، كما أنا أمير الملة النصرانية. ولم يخف عليكم ما عليه رؤساؤكم بالأندلس من التخاذل، والتواكل، وإهمال الرعية، والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم سوء الخسف، وأضرب الديار، وأهتك الأستار، وأقتل الشبان، وأسبي الولدان، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، إن أمكنتك قدرة. هذا وأنتم تعتقدون، أن الله تبارك وتعالى، فرض على كل منكم، قتال عشرة منا، ثم خفف عنكم فجعل على كل واحد منكم، قتال اثنين منا، فإن قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار، ونحن نعتقد أن الله أظهرنا بكم، وأعاننا عليكم، إذ لا تقدرون دفاعاً، ولا تستطيعون امتناعاً. وبلغنا عنك أنك في الاحتفال على نية الإقبال، فلا أدري أن كان الحين يبطىء بك أمام التكذيب لما أنزل عليك. فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إلي ما عندك من المراكب لأجوز إليك، وأناجزك في أحب البقاع، فإن غلبتني، فتلك غنيمة جاءت غليك، ونعمة مثلت بين يديك. وإن غلبتك، كانت لي اليد العليا، واستكملت الإمارة. والله يتم الإرادة.
فأمر يوسف بن تاشفين أن يكتب في ظهر كتابه جوابك يا أذفونش ما تراه، لا ما تسمعه إن شاء الله وأردف الكتاب ببيت أبي الطيب:
ولا كتبٌ إلا المشرفية والقنا ... ولا رسلٌ إلا الخميس العرمرم
وعبر البحر، وقد استجاش أهل الأندلس. وكان اللقاء يوم الجمعة منتصف رجب من عام تسعة وسبعين وأربعمائة. ووقعت حرب مرة، اختلط فيها الفريقان، بحيث اقتحم الطاغية محلة المسلمين، وصدم يسارة جيوش الأندلس، واقتحم المرابطون محلته للحين. ثم برز الجميع إلى مأزق، تعارفت فيه الوجوه، فأبلوا بلاءً عظيماً، وأجلت عن هزيمة العدو، واستيصال شأفته. وأفلت أذفونش في فل قليل، قد أصابته جراحة، وأعز الله المسلمين ونصرهم نصراً لا كفاء له، وأكثر شعراء المعتمد القول في ذلك، فمن ذلك قول عبد المجيد بن عبدون من قصيدة:
فأين العجب يا أذفونش هلا ... تجنبت المشيخة يا غلام
شملك النساء ولا رجال ... فحدث ما وراءك يا عصام
أقمت لدى الوغى سوقاً فخذها ... مناجزة وهونٌ لا تنام
فإن شيت اللجين فثم سام ... وإن شيت النضار فثم حام
رأيت الضرب تطيبا فصلب ... فأنت على صليبك لا تلام
أقام رجالك الأشقون كلا ... وهل جسدٌ بلا رأس ينام
رفعنا هامهم في كل جذع ... كما ارتفعت على الأيك الحمام
سيعبد بعدها الظلماء لما ... أتيح له بجانبها اكتتام
ولا ينفك كالخفاش يغضي ... إذا ما لم يباشره الظلام
نضا إذ راعه واجتاب ليلاً ... يود لو أن طول الليل عام
سيبقى حسرةً ويبيد إن لم ... أبادتنا القناة أو الحسام
وعاد إلى العدوة. ثم أجاز البحر ثانية إلى منازلة حصن لييط ، وفسد ما بينه وبين أمراء الأندلس، وعاد إلى العدوة، ثم أجاز البحر عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، عاملاً على خلعهم، فتملك مدينة غرناطة في منتصف رجب من العام المذكور، ودخل القصر بالقصبة العليا منها، واستحسنه، وأمر بحفظه، ومواصلة مرمته. وطاف بكل مكان منه ثم تملك ألمرية وقرطبة وإشبيلية وغيرها، في أخبار يطول اقتضاؤها، والبقاء لله.
وفاته
توفي رحمه الله بمدينة مراكش يوم الإثنين مستهل محرم سنة خمسماية. وممن رثاه أبو بكر بن سوار من قصيدة أنشدها على قبره:
ملك الملوك وما تركت لعامل ... عملاً من التقوى يشارك فيه
يا يوسف ما أنت إلا يوسف ... والكل يعقوب بما يطويه
إسمع أمير المؤمنين وناصر الدين ... الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيراً عن رعيتك التي ... لم ترض فيها غير ما يرضيه
أما مساعيك الكرام فإنها ... خرجت عن التكييف والتشبيه
في كل عام غزوةٌ مبرورة ... تردي عديد الروم أو تفنيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً ... حتم القضاء بكل ما تقضيه
ويجيىء ما دبرته كمجيئه ... فكأن كل مغيب تدريه
متواضعاً لله مظهر دينه ... في كل ما تبديه أو تخفيه
ولقد ملكت بحقك الدنيا وكم ... ملك الملوك الأمر بالتمويه
لو رامت الأيام أن تحصي الذي ... فعلت سيوفك لم تكد تحصيه
إنا لمفجوعون منك بواحد ... جمعت خصال الخير أجمع فيه
وإذا سمعت حمامة في أيكة ... تبكي الهديل فإنها ترثيه
وميضٌ قد استرعى رعية أمة ... فأقام فيهم حق مسترعيه
وإذا هزبر الغاب صرى شبله ... في الغاب كان الشبل شبه أبيه
وإذا عليٌّ كان وارث ملكه ... فالسهم يلقى في يدي باريه
يوسف بن محمد بن يوسف
بن محمد بن نصر
ولي عهد أبيه أمير المسلمين الغالب بالله .حالهكان أميراً جليلاً حصيفاً فاضلاً، ظاهر النبل، محباً في العلم .......... من فنونه. مال إلى التعاليم والنجوم، أفرط في الاستغراق في ذلك، ونمي إلى أبيه، فأنكره، وقصد يوماً منزله لأجل ذلك، ودخل المجلس، وبه مجلدات كثيرة، وقال ما هذه يا يوسف، فقال ستراً لغرضه المتوقع فيه نكير أبيه، يا مولاي هي كتب أدب، فقال السلطان، وقد قنع منه بذلك، يا ولدي ما أخذناها يعني السلطنة، إلا بقلة الأدب، تورية حسنة، إشارة إلى الثورة على ملوك كانوا تحت إيالتهم، فغرب في حسن النادرة، وكان قد ولاه عهده بعد أخيه، لو أمهلته المنية.
وفاتهتوفي يوم الجمعة ثالث عشر صفر عام ستين وستماية.
يوسف بن عبد المؤمن بن عليالخليفة أبو يعقوب الوالي بعد أبيه.
حالهكان فاضلاً كاملاً عدلاً ورعاً جزلاً، حافظاً للقرآن بشرحه، عالماً بحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خطئه وصحيحه، آية الموحدين في الإعطاء والمواساة، راغباً في العمارة، مثابراً على الجهاد، مشيعاً للعدل. أصلح العدوة وأمنها، وأنس شاردها، وحصن جزيرة الأندلس ببعوثه لها، فقمعوا عاصيها، وافترعوا بالفتح أقاصيها، وأحسن لأجنادها، وأمدهم من الخيل بالمبين من أعدادها، رحمه الله.
ولدهثمانية عشر أكبرهم يعقوب ولي عهده، نجم بني عبد المؤمن وجوهرتهم.
حاجبهابو حفص شقيقه.
وزراؤهإدريس بن جامع، ثم أبو بكر بن يوسف الكومي.
قضاتهحجاج بن يوسف بن عمران، وابن مضاء.
كتابهأبو الحسن بن عياش القرطبي، وأبو العباس بن طاهر بن محشرة.
بعض أخبارهفي أيامه، استوصلت دولة ابن مردنيش، بعد حروب مبيرة، ودوخ إفريقية، ورد أهل باجة إلى وطنهم، بعد تملك العدو إياه، وجبرهم جداً واستنقاذاً، وفتح حصن بلج.
وفاتهفي الثامن والعشرين لربيع الآخر سنة ثمانين وخمسماية، بظاهر شنترين من سهم أصابه في خبائه، وهو محاصر لها، فقضى عليه، وكتم موته، حتى اشتهر بعد رحيله. ذكر ذلك أبو الحسن بن أبي محمد الشريشي، فكانت خلافته اثنين وعشرين عاماً، وعشرة أشهر، وعشرة أيام، وعمره سبع وأربعون سنة.
مولدهفي مستهل سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية، ودخل غرناطة لأول مرة، ووجب ذكره فيمن حل بها.
يوسف بن يعقوب
بن عبد الحق بن محيو
أمير المسلمين بالمغرب، يكنى أبا يعقوب.أوليته معروفة مذ وقع الإلماع بذلك في اسم أمير المسلمين أبيه.
حاله
كان ملكاً عالي الهمة، بعيد الصيت، مرهوب الشبا، رابط الجأش، صعب الشكيمة، على عهده اعتلى الملك، وناشب القبيل، واستوسق الأمر. جاز إلى الأندلس مع والده، ودوخ بين يديه بلاد الروم، ووقف بظاهر قرطبة وإشبيلية، وحضر الوقيعة بذنونه ، وجرت بينه وبين سلطان الأندلس، على عهده، منافرات، أجلت أخيراً عن لحاق السلطان به مستعتباً. واستقر آخراً محاصراً لتلمسان، غازياً لبني زيان الأمراء بها، وابتنى مدينة سماها تلمسان الجديدة، وأقام محاصراً لها، مضيقاً على أهلها نحواً من ثمانية أعوام، وعظمته الملوك شرقاً وغرباً، ووردت عليه الرسل والهدايا من كل جهة، وهابه الأقارب والأباعد.
وفاتهولما أراد الله إنفاذ حكمه فيه، قيض له عبداً خصياً حبشياً، أسفه بقتل أخٍ له أو نسيب، في باب خيانة عثر له عليها، فاقتحم عليه دار الملك على حين غفلة، فدجاه بسكين أعده لذلك، وضج القصر، وخرج وبالسلطان رمق، ثم توفي من الغد، أو قريباً منه، في أوايل ذي قعدة من عام ستة وسبعماية، فكانت دولته إحدى وعشرين سنة وأشرهاً، وانتقل إلى مدفن سلفه بسلا، وقبره بها. وركب قاتله فرساً أزعجها ركضاً، يروم النجاة واللحاق بالبلد المحصور، وسبقه الصياح، فسد بعض الأبواب التي أمل النجاة منها، وقتل وألحق به كثير من جنسه.
وجرى ذكره في الرجز المتضمن دول الملوك من تأليفنا بمنا نصه:
حتى إذا الله إليه قيضه ... قام ابنه يوسف فيها عوضه
وهو الهمام الملك الكبير ... فابتهج المنبر والسرير
وضخم الملك وذاع الصيت ... بملكه وانتظم الشتيت
وساعد السعد وأغضى الدهر ... وخلص السر له والجهر
وأمل الجود وخيف البأس ... واستشعر الخشية من الناس
ثم تقضى معظم الزمان ... مواصلاً حصر بني زيان
حتى أهل تلمسان الفرج ... ونشقوا من جانب اللطف الفرج
لما توفي درج السعد درج ... فانفرج ضيق الحصر عنه وانفرج
ونزل بظاهر غرناطة وببعض مروجها بقرية أشقطمر، في بعض غزوات أبيه إلى قرطبة، وتقدم السلطان إليهم من البر والقرى، ما كثر الإخبار به والتعجب منه، ووجه إليهم ولده وولي عهده.
المنصوريعقوب بن عبد الحق بن محيو بن بكر بن حمامة بن محمد بن رزين بن فقوس بن كرناطة بن مرين من قبيلة زناتة، أمير المسلمين المكنى بأبي يوسف الملقب بالمنصور رحمه الله.
أوليتهظهر بالمغرب أبوه الأمير عبد الحق، وقد اضطربت دولة الموحدين، والتأث أمرهم، ومرجت عرب رياح، لعجز الدولة عن كف عدوانهم، فخرج الأمير عبد الحق في بحبوحة قومه من الصحراء، ودعا إلى نفسه، واستخلص الملك بسيفه، عام عشرة وستماية، وكان على ما يكون عليه مثله، ممن جعله الله جرثومة ملك وخدم دولة، من الصدق والدهاء والشجاعة. ورأى في نومه كأن شعلاً أربع من نار، خرجن منه، فعلون في جو المغرب، ثم احتوين على جميع أقطاره، فكان تأويلها تملك بنيه الأربعة بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء. وكان له من الولد إدريس، وعثمن، وعبد الله، ومحمد، وأبو يحيى، وأبو يوسف، ويعقوب. هذا ولما هلك هو وابنه إدريس في وقيعة رياح، ولي أمره عثمان ولده، ثم ولي بعده أخوه محمد، ثم ولي بعده أبو يحيى أخوهما. وفي أيامه اتسق الملك، وضخم الأمر، وافتتحت البلاد. ولما هلك حتف أنفه بفاس في رجب من عام ستة وخمسين وستماية، قام بالملك أخوه يعقوب المترجم به، وارث الملك بنيه.
حاله
كان ديناً فاضلاً حيياً، جواداً سمحاً، شجاعاً، محباً في الصالحين، منقاداً إلى الخير، حريصاً على الجهاد. أجاز ولده في أوائل عام اثنين وسبعين وستماية إلى الأندلس، ثم عبر بنفسه في سرار صفر من العام بعده، فاحتل بظاهر إشبيلية، وكسر جيش الروم، المنعقد على زعيمهم المسمى ذنونه، بظاهر إستجة في ربيع الآخر من العام. ثم عبر ثانياً، مغتنماً ما نشأ بين الروم من الفرقة، فغزا مدينة قرطبة، وصار أمر العدو في أطواق الفرنتيرة، بحيث لا يوجد في بطن القتيل منها إلا العشب أزلاً ومسغبة، لانتشار الغارات، وانتساف الأقوات، وحديث الفتنة. وسببها ما كان من تصير مالقة إليه، من أيد المنتزين عليها من بني إشقيلولة، ثم عودتها إلى سلطان الأندلس، من أيدي رجاله، شيوخ بني محلى، ثم تدارك الله المسلمين بصلاح ذات البين، واحتل بظاهر غرناطة، في بعض هذه الغزوات، فنزل بقرية إسقطمر من مرجها، واحتفل السلطان رحمه الله في بره، وأجزل نزله، وتوجيه ولده إليه. وذكر سيرته شاعرهم أبو فارس عزوز في أجوزته، فقال:
سيرة يعقوب بن عبد الحق ... قد حاز فيها قصبات السبق
بغيتان، يقرأ الكتاب ... وتذكر العلوم والآداب
يقوم للكتاب ثلث الليل ... وما له عن ورده من سبيل
حتى إذا الصباح لاح وارتفع ... قام وصلى للإله وركع
وضج بالتسبيح والتقديس ... حتى يتم الحزب في التغليس
يقرأ أولاً كتاب السير ... والقصص الآتي بكل خبر
ثم فتوح الشام باجتهاد ... وبعده المشهور بالإنجاد
سؤاله تعجز عنه الطلبة ... ومن لديه من أجل الكتبة
يعقد الكتب إلى وقت الضحى ... ثم يصليها كفعل الصلحا
ويأمر الكتاب بالأوامر ... في باطنٍ من سره وظاهر
ويدخل الأشياخ من مرتين ... للرأي والتدبير والتزيين
مجلسه ليس به فجور ... ولا فتىً في قوله يجور
كأنهم مثل النجوم الزهر ... وبينهم يعقوب مثل البدر
قد أسبر الوقار والسكينة ... وحل في مكانة مكينة
حتى إذا ما جاز وقت الظهر ... قام إلى بيت للندى والفخر
يبقى إلى وقت صلاة العصر ... يأتي إلى بيت العلى والأمر
وينصف المظلوم ممن ظلمه ... ولم يزل إلى صلاة العتمة
ثم يؤم بيتة الكريما ... ويترك الوزير والخديما
ثم ينام تارةً، وتارة ... يدبر الأمور بالإدارة
ما إن ينام الليل إلا ساهراً ... ينوي الجهاد باطناً وظاهراً
فهل سمعتم مثل هذه السيرة ... وهذه المآثر الأثيرة
لملكٍ كان من الملوك ... أو مالكٍ في الدهر أو مملوك
كذاك كان فعله قديماً ... بذاك نال الملك والتعظيما
ومن الرجز المسمى بقطع السلوك من تأليفنا، في ذكره، قولي:
تبوأ هذا الأمر عبد الحق ... أكرم من نال العلى بحق
واستخلص الملك بحد المرهف ... لسن مجدٍ عظيم الشرف
وكان سلطاناً عظيم الجود ... وصدقت رؤياه في الوجود
فأعلى الأيام نور سعده ... ونالها أبناؤه من بعده
عثمن ثم بعده محمد ... ثم أبو يحيى الهمام الأسعد
تمهد الملك له لما هلك ... وسلك السعد به حيث سلك
وفتحت فاس على يديه ... والملك العلي حله لديه
وكان ذا فضل وهدىً وورع ... قد رسم الملك فيهم واخترع
ثم أتت وفاته المشهورة ... فولي المنصور تلك الصورة
وهو أبو يوسف غلاب العدا ... وواحد الأملاك بأساً وندا
ممهد الملك وموري الزند ... وباسط العدل ومولي الرفد
مدت إلى نصرته الأكف ... والروم في العدوان لا تكف
فاقتحم البحر سريعاً وعبر ... ودافع الأعداء فيها وصبر
ووقعت في عهده أمور ... وفتنةٌ ضاقت لها الصدور
وآلت الحال إلى التيام ... فما أضيعت حرمة الإسلام
حتى إذا الله إليه قبضه ... قام ابنه يوسف فيها عوضه
وفاتهتوفي في شهر المحرم عام خمسة وثمانين وستماية، بالجزيرة الخضراء ودفن بها. ثم احتمل بعد إلى سلا، فدفن بالجبانة المعروفة هنالك لمملوك من بني مرين. ومحل هذا السلطان في الملوك المجاهدين المرابطين معروف، تغمده الله برحمته.
الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
يحيى بن رحو
بن تاشفين بن معطي بن شريفين
أقرب القبائل المرينية إلى قبيل سلطانهم من بني حمامة. خدم جده بتونس، ثم بالأندلس، يكنى أبا زكريا، شيخ القبيل الزناتي، ومحراب رأيهم، وقطب رحى حماتهم.حالهكان هذا الشيخ وحيد دهره، وفريد وقته، وشامة أهل جلدته، في النبل والفطانة، والأدراك والرجاحة، شديد الهزل مع البأو، والممالقة مت التيقور، والمهاترة مع الحشمة. عارفاً بأخلاق الملوك وشروط جلسائها، حسن التوصل إليها، والتأتي لأغراضها، بعيد الغور، كثير النكراء، لطيف الحلة، عارفاً بسياسة الوطن، قيوماً على أخلاق أهله، عديم الرضا بسير الملوك، وإن أعلقوا بالعروة الوثقى يده، ويسروا على عبور عقبة الصراط عونه، وأقطعوه الجنة وحده، طنازاً بهم، مغرياً، خائنة الأعين بتصرفاتهم، مقتحماً حمى اغتيابهم، قد اتخذ ذلك سجية، أقطعته جانب القطيعة برهة، فارتكب لها الأداهم مدة، جماعة للمال، ذايداً عنه بعصى التقتير، وربما غمس فيه إبرةً للصدقة، وساماً بينه وبين الوزير، مكفى السماء على الأرض، برأيه المستعين على الفتكة وما وراءها، بمنيع موالاتهم، وبانيه يوم مكاشفة الملإ إياه بالنفرة، وكان قطب الرحى للقوم في الوجهة إلى الأمير عبد الحليم، ومقيم رسمه، وانصرف إلى جهة مراكش عند الهزيمة عليه، فاتصل بعميدها عامر بن محمد بن علي الهنتاتي، وجرت عليه خطوب، وعاثت في الكثير من نعمته أكف التمزيق، ديدن الدهر، في الأموال المحتجنة، والنقود المكتنزة، واستقر أخيراً بسجلماسة، في مظاهرة الأمير عبد الحليم المذكور، وبها هلك. وكان على إزاريه ولسب لسانه، واخز تلال حية حدته، ناصح الرأي لمن استنصحه، قواماً فيه بالقسط، ولو على نفسه والوالدين والأقربين، فضيلةٌ عرف فيها شأوه، مقيماً لكثير من الرسوم الحسبية.
دخوله غرناطةقدم غرناطة في جمادى من عام تسعة وخمسين وسبعماية في غرض الرسالة، ووصل صحبته قاضي الجماعة بالمغرب أبو عبد الله المقري، وكان من امتساكه بالأندلس، ما أوجب عودة المترجم به في شأنه، فتعدد الاستمتاع بنبله.
وفاتهتوفي قتيلاً في الهزيمة على الأمير عبد الحليم بظاهر سجلماسة في ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعماية.
يحيى بن طلحة بن محلى
البطوي، الوزير أبو زكريا
حاله
كان مجموعاً رائعاً، حسن شكل وجمال رواء، ونصاعة ظرف، واستجادة مركب وبزة، قديم الجاه، مرعي الوسيلة، درباً على الخدمة، جلداً على الوقوف والملازمة، مجدي الجاه، تلم به نوبة تواضع، يتشبث به الفقراء وأولي الكدية، فكه المجلس، محباً في الأدب، ألفاً للظرفاء، عاملاً على حسن الذكر وطيب الأحدوثة. تولى الوزارة للسلطان أبي الحسن، ونشأ في حجر أبيه، ماتا إليهم بالخؤولة القديمة، فتملأ ما شاء من قرب ومزية، وباشر حصار الجبل لما نازله الطاغية، لقرب عهدٍ بفتحه، فأبلى وحسن أثره. نشأ بالأندلس، وسكن وادي آش وغرناطة، واستحق الذكر لذلك:شعرهوكان ينظم الشعر، فمن ذلك قوله في مزدودة في غرض الفخر:
أنا ابن طلحة ولا أبال ... لبث السرى في الحرب والنزال
يحيى حياة البيض والعوال ... مبيدٌ كل بطلٍ مغتال
إن سمعوا باسمي في مجال ... يلقوا بأيديهم إلى النكال
أستنزل القرن لدى الصيال ... وأكسر النصل على النصال
من أملي التفريق للأموال ... والجمع بين الأقوال والفعال
والشعر إن تسمعه من مقال ... تعلم بأن السحر في أقوال
أوشج الغريب فالأمثال ... وأقرن الأشباه بالأمثال
وأفضل المرجان بالللآل ... وأذكر الأيام والليال
فمن أبو أمية الهلال ... ومن وحيد عصره الميكال
هذا ولي في غير ذا معال ... بها أعالي الدهر من أعال
كما لحسب الصميم والمعال ... والمحتد الضخم الحفيل الحال
وكرم الأعمام والأخوال ... والصون والعفاف والأفضال
فمن يساجلني فذا سجال ... ومن يناضلني فذا نضال
وفاته: توفي في أواخر عام خمسة وثلاثين وسبعماية. اصابه سهم نفطٍ رمي به من سور تلمسان أيام الحصار، فقضى عليه. نفعه الله.
يحيى بن عبد الرحمن
بن إبراهيم بن الحكيم اللخمي
أخو الوزير أبي عبد الله بن الحكيم وكبيره، يكنى أبا بكر، رندي الأصل. قد مر شيءٌ من ذكر أوليته. دخل غرناطة مرات، وافداً وزايراً، وساكناً ومغرباً.حالهكان وزيراً جليلاً، وقوراً عفيفاً، سرياً فاضلاً، رحب الجانب، كثير الأمل، جم المعروف، شهير المحل، عريض الجاه، صريح الطعمة، من أقطاب أرباب النعم، ومنتجعي الفلاحة بالأندلس. استبد ببلده برهة، بإسناد ذلك إليه وإلى أخيه، من السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب ملك المغرب، الصاير إليه أمره عند نبذها مغاضباً، ثم أصاره إلى إيالة السلطان، ثاني الملوك من بني نصر، على يدي أخيه كاتبه، ووزير ولده.
محنته ووفاتهولما تقلد أخوه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم الأمر، سما جاهه، وعظم قدره، وتعدد أمله، إلى أن تعدى إليه أمر المحنة يوم الفتك بأخيه، فطاح في سبيله نشبه، وذهب في حادثه الشنيع مكسبه. واستقر مغرباً بمدينة فاس، تحت ستر وجراية، وبها أدركته وفاته في أوايل شوال من عام عشرة وسبعماية.
يحيى بن عمر بن رحو
بن عبد الله بن عبد الحق
جد الملوك من بني مرين، يكنى أبا زكريا، شيخ الغزاة، ورئيس جميع القبايل بالأندلس.أوليتهقد تقدمت الإشارة إلى أولية هذا البيت، ونحن نلمع بسبب انتباذهم عن قومهم، وهو ما كان من قتل أخي جدهم، يعقوب بن عبد الله ابن عبد الحق، ابن أخي السلطان أبي يوسف، إذ كان ثايراً مصعباً، مظنة للملك، ومحلاً للآمال، فنافسه ولي العهد وأوقع به، فوقع بينهم الشتات، وفر شيوخ هذا البيت وأتباعهم إلى تلمسان، ثم اجتازوا إلى الأندلس، منهم من آثر الجهاد، أو نبا به ذلك الوطن، أو شرده الخوف، أو أحطب به الاستدعاء. فمنهم موسى وعمران والعباس، أبناء رحو بن عبد الله، وعثمان بن إدريس وغيرهم. فبدت فيهم الشياخة، وصحبهم التقديم، وأقامت فيهم الخطة، وترددت بينهم الولاية.
حالههذا الشيخ مستحق الرتبة، أهلٌ لهذه الرياسة، بأساً ونجدة، وعتقاً وأصالة، ودهاءً ومعرفة، طرفٌ في الإدراك، عامل على الحظوة، مستديمٌ للنعم، طيب بالخدمة، كثير المزاولة والحنكة، شديد التيقظ، عظيم الملاحظة، مستغرق الفكرة في ترتيب الأمور الدنيوية، بحاث عن الأخبار، ملتمس للعيون، حسن الجوار، مبذول النصفة، بقية بيته بالعدوتين، وشيخ رجاله. له الإمامة والتبريز في معرفة لسانهم، وما يتعلق به من شرعٍ ومثل وحكمة وخبر، لو عرضت عليه رمم من عبر منهم لأثبتها، فضلاً عن غير ذلك، نسابة بطونهم وشعابهم، وعلامة سيرهم، وعوايدهم، ألمعيٌّ، ذكي، حافظ للكثير من الحكم والتواريخ، محفوظ الشيبة من العصمة، طاهر الصون والعفة، مشهور الشهامة والنجدة، معتدل السخاء، يضع الهناء مواضع النصب فلا يخدع عن جدته، ولا يطمع في غفلته، ولا ينازع فيما استحقه من مزيته، خدم الملوك، وخبر السير، فترك الأخبار لعلمه، وعضل عقله لتجربته.