كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب
فوقفوا وكبروا ... قبل الصباح المسفر
وفي منى نالوا المنى ... وأيقنوا بالظفر
وبعد رمى الجمرا ... ت كان حلق الشعر
أكرم بذاك الصحب ... والله وذاك النفر
يا فوزه من موقف ... يا ربحه من متجر
حتى إذا كان الودا ... تع وطواف الصدر
فأي صبر لم يخن ... أو جلد لم يغدر
وأي وجد لم يصل ... وسلوة لم تهجر
ما أفجع البين لقلب الواله المستغفر
ثم ثنوا نحو رسو ... ل الله سير الضمر
فعاينوا في طيبة ... لألاء نور نير
زاروا رسول الله واستشفعوا بلثم الجدر
نالوا به ما أملوا ... وعرجوا في الأثر
على الضجيعين أبى ... بكر الرضا وعمر
زيارة الهادي الشفيع جنة في المحشر
فأحسن الله عزا ... ء قاصد لم يزر
ربع ترى مستنزل الآي به والسور
وملتقى جبريل بالهادي الزكي العنصر
وروضة الجنة بين روضة ومنبر
منخب الله ومختار الورى من مضر
والمنتقى والكون من ... ملابس الخلق عرى
إذ لم يكن في أفق ... من زحل أو مشتر
ذو المعجزات الغر أمثال النجوم الزهر
يشهد بالصدق له ... منها انشقاق القمر
والضب والظبي إلى ... نطق الحصى والشجر
من أطعم الألف بصا ... ع في صحيح الخبر
والجيش رواه بما ... ء الراحة المنهمر
يا نكتة الكون التي ... فاتت منال الفكر
يا حجة الله على الرا ... ئح والمبتكر
يا أكرم الرسل على ... الله وخير البشر
يا من لدي مولده المقدس المطهر
إيوان كسرى ارتج إذ ... ضاقت قصور قيصر
وموقد النار طفا ... كأنها لم تسعر
يا عمدتي يا ملجئي ... يا مفزعي يا وزري
يا من له اللواء والحوض وورد الكوثر
يا منقد الغرقي وهم ... رهن العذاب الأكبر
إن لم تحقق أملي ... بؤت بسعي المخبر
صلى عليك الله يا ... نور الدجا المعتكر
يا ويح نفسي كم أرى ... من غفلتي في غمر
واحسروا من قلة الزاد وبعد السفر
يحجني والله بالبرهان وعظ المنبر
يا حسنها من خطب ... لو حركت من نظر
يا حسنها من شجر ... لو أورقت من ثمر
أومل الأوبة والأمر بكف القدر
أسوف العزم بها ... من شهر لشهر
من صفر لرجب ... من رجب لصفر
وليس ما مر من ... الأيام بالمنتظر
وقل ما أن حمدت ... سلامة في غرر
ولي غريم لا يني ... عن طلب المنكسر
يا نفس جدي قد بدا الصبح ألا فاعتبري
واتعظي بمن مضى وارتدعى وازدجرى
ما بعد شيب الفود من ... مرتقب فشمري
أنت وإن طال المدى ... في قلعة أو سفر
وليس من عذر يقيم حجة المعتذر
يا ليت شعري والمنى ... تسرق طيب العمر
هل ارتجى من عودة ... أو رجعة أو صدر
مقتدياً بمن مضى ... من سلف ومعثر
نالوا جوار الله وهو الفخر للمفتخر
أرجو بإبراهيم مو ... لانا بلوغ الوطر
فوعده لا يمتزي ... في الصدق منه الممتر
فهو الإمام المرتضى ... والخير ابن الخير
أكرم من نال المنى ... بالمرهفات البتر
ممهد الملك وسيف الحق والليث الجري
خليفة الله الذي ... فاق بحسن السير
وكان منه الخبر في ... العلباء وفق الخبر
فصدق التصديق من مرآه للتصور
ومستعين الله في ... ورد له وصدر
فاق الملوك الصيد بالمجد الرفيع الخطر
فأصبحت ألقابهم ... منسية لم تذكر
وحاز منهم أوحد ... وصف العديد الأكثر
برأيه المأمون أو ... عسكره المظفر
بسيفه السفاح أو ... بعزمه المقتدر
بالعلم المنصور أو ... بالذابل المستنصر
بابن الإمام الطاهر البر الزكي السير
مدحك قد علم نظم الشعر من لم يشعر
فإن يقصر ظاهري ... فلم يقصر مضور
ووردت على باب السلطان الكبير العالم أبي عنان، فبلوت من مشاركته. وحميد سعيه، ما يليق بمثله. ولما نكبه لم أقصر عن ممكن حيلة في أمره ولما هلك السلطان أبو عنان رحمه الله، وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد الولد المسمى بالسعيد كان ممن دمث له الطاعة، وأناخ راحلة الملك، وحلب ضرع الدعوة، وخطب عروس الموهبة، فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب، مشدود من لدن القربة، فاستحكم عن قرب، واستغلظ عن كثب، فاستولى على أمره، وخلطه بنفسه، ولم يستأثر عنه ببثة، ولا انفرد بما سوى بضع أهله. بحيث لا يقطع في شيء إا عن رأيه، ولا يمحو ويثبت إلا واقفاً عند حده، فغشيت بابه الوفود، وصرفت إليه الوجوه، ووقفت عليه الآمال، وخدمته الأشراف، وجلبت إلى سدته بضايع العقول والأموال، وهادته وخدمته الأشراف، وجلبت إلى سدته بضايع العقول والأموال، وهادته الملوك، فلا تحدو الحداة إلا إليه، ولا تحط الرحال إلا لديه. إن حضر أجرى الرسم، وأنفذ الأمر والنهي لحظاً أو سراراً أو مكاتبة، وإن غاب، ترددت الرقاع، واختلفت الرسل. ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة، ومنتبذ المناجاة، من دونه مصطف الوزراء، وغايات الحجاب، فإذا انصرف تبعته الدنيا، وسارت بين يديه الوزراء، ووقفت ببابه الأمراء، قد وسع الكل لحظه، وشملهم بحسب الرتب والأموال رعيه، ووسم أفذادهم تسويده، وعقدت ببنان عليتهم بنانه. لاكن رضي الناس غاية لا تدرك، والحقد بين بني آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله، فطويت الجوانح منه على سل، وحنيت الضلوع على بث، وأغمضت الجفون على قذى إلى أن كان من نكبته ما هو معروف جعلها الله له طهوراً.
ولما جرت الحادثة على السلطان بالأندلس، وكان لحاق جميعنا بالمغرب، جنيت ثمرة ما أسلفته في وده، فوفي كيل الوفا، وأشرك في الجاه، وأدر الرزق، ورفع المجلس بعد التسبيب في الخلاص، والسعي في الجبر، جبره الله تعإلى وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله، وقذف به بحر التمحيص إلى شطه، وأضحى جو النكبة بعد انطباقه، آثر التشريق بأهله وجملته، واستقر بتونس، خطيب الخلافة، مقيماً على رسمه من التجلة، ذايع الفضل هنالك والمشاركة، وهو بحاله الموصوفة إلى الآن كان الله له.
وكنت أحسست منه في بعض الكتب الواردة، صاغية إلى الدنيا، وحنيناً لما فارق من غرورها، فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام بتوفيق الله، على أن خاطبته بهذه الرسالة، وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل، أو يلم بمعرفة، مصحفاً يدرسه، وشعاراً يلتزمه، وهي: سيدي، الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة، ولم تختلف في مدحها الأفعال، ولا تغايرت في حمدها الصفات، ولا تزال تعترف بها العظام الرفات، أطلقك الله من أسر الكون، كما أطلقك من أسر بعضه، ورشدك في سمايه العالية وأرضه، وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه. اتصل بي الخبر السار من تركك لشأنك، وإجناء الله إياك ثمرة إحسانك، وإنجياب ظلام الشدة الحالك، عن أفق حالك. فكبرت لانتشاق عفو الله العاطر، واستعبرت لتضاؤل الشدة بين يدي الفرج، لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يومر فيأتمر، ويدعوه القضاء فيبتدر، إنما هو فيئ وظل ليس له من الأمر شيء، ونسأله جل وتعإلى أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا وبنيها، وأول معارج نفسك، التي تقربها من الحق وتدنيها، وكأنني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك، ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله في عالم الإنسان، والآلة لبث العدلي والإحسان، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان، فأقول ليمت شعرى ما الذي غبط سيدى بالدنيا. وإن بلغ من زبرجها الرتبة العليا، وأفرض المثال لحالة إقبالها، ووصل حبالها، وضراعة سبالها، وخشوع جبالها. ألتوقع المكروه صباح مسا، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم الباسا، ولزوم المنافسة التي تعادى الأشراف والرؤسا. ألترثبق العتب، حتى على التقصير في الكتب، وظعينة جار الجنب، وولوع الصديق بإحصاء الذنب. ألنسبة وقايع الدولة إليك وأنت بري، وتطويقك الموبقات وأنت منها عرى. ألا ستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج، والأحقاد التي تضطبنها ركبة السروج وسرحة المروج، ونجوم السما ذات البروج. ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك، وصحت إليه فاقتك، من حاجة لا يقتضي قضاها الوجود، ولا يكيفها الركوع للملك والسجود. ألقطع الزمان بين سلطان يعبد، وسهام للغيوب تكبد، وعجاجة شر تلبد، وأقبوحة تخلد وتوبد ألوزير يصانع ويداري، وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويمارى، وعورة لاتوارى. ألمباكرة كل عايب حاسد، وعدو ومستأسد، وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وحال فاسد، أللوفود تتزاحم بسدتك، مكلفة لك غير ما في طوقك، فإن لم تنل أغراضها، قلبت عليك السما من فوقك. ألجلساء ببابك، لا يقطعون زمن رجوعك وإيابك، إلا بقبيح اغتيابك، فالتصرفات تمقت، والقواطع النجوميات توقت، والألاقى تبث، والسعايات تحث، والسماجد يشتكى قيها البث، يعتقدون أن السلطان في يدك، بمنزلة الحمار المدبور، واليتيم المحجور، والأسير المامور، ليس له شهرة ولا غضب. ولا أمل في الملك ولا أرب، ولا موجدى لأحد كامنة، وللشر ضامنة، وليس في نفسه عن رأي نفرى، ولا بإزاء مالا يقبله نزوة وطفرة، إنما هو جارحة لصيدك، وعان في قيدك، وآلة لتصرف كيدك، وأنك علة حيفه، ومسلط سيفه. الشرار يسملون عيون الناس باسمك، ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك، قد تنخلهم الوجود أخبث مافيه، واختارهم السفيه فالسفيه، إذا الخير يسره الله عن الدول ويخفيه، ويقنعه بالقليل فيكفيه. فهم يمتاحون بك، ويولونك الملامة، ويقتحمون عليك أبواب القول، ويسدون طرق السلامة، وليس لك في أثناء هذه إلا مايعوزك مع ارتفاعه، ولايفوتك مع انقشاعه، وذهاب صداعه، من غذاء يشبع، وثوب يقنع، وفراش ينيهم، وخديم يقعد ويقيم. وماالفاية في فرش تحتها حمر الغضا، ومال من ورايه سوء القضا، وجاه يحلق عليه سيف مننضا، وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لاتملك، واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تملك، فكيف ينسب إلى نبل أو يسر مع السعادة في سبل، وإن وجدت في القعود بمجلس التحية بعض الأريحية، فليت شعرى أي شيء زادها، أو معنى أفادها، إلا مباكرة وجه الحاسد، وذي القلب الفاسد، ومواجهة العدو المستاسد. أو شعرت ببعض الإيناس في الركوب بين الناس، هل التذت إلا بحلم كاذب، أو جذبها غير الغرور مجاذب. إنما الحلية وافتك من يحدق إلى البزة، ويستطيل مدة العزة، ويرتاب إذا حدث بخبرك، ويتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك
ويمنعك من شارة أنسك، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشر لك ولرسيك، وأي راحة لمن لايباشر قصده، ويسير متى شا وحده، ولو صح في هذه الحال لله حظ، وهبه زهيداً، أوعين للرشد عملاً حميداً، لساغ الصاب، وخفت الأوصاب، وسهل المصاب. لاكن الوقت أشغل والفكر أوغل، والزمن قد غمرته الحصص الوهمية، واستنفدت منه الكمية. أما ليله ففكر أو نوم، وعتب يجر الضراس ولوم، وأما يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لايدخل فيه حكيم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير. ووالله ياسيدي، ومن فلق الحب وأخرج الأب، وذرا من مشى ومادب، وسمى نفسه الرب، لو تعلق المال الذي يجده هذا الكدح، ويورى سقيطه هذا القدح، بإذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لاورثه عقب، ولاخلص به محتقب، ولا فاز به سافر ولا منتقب. والشاهد الدول والمشايم الأول. فأين الرباع المقتناة، وأين الديار المبتداة، وأين الحدايق المغترسات، وأين الذخاير المختلسات، وأين الودايع المؤملة، وأين الأمانات المحملة، تأذن الله بتتبيرها، وإدناء وتار التيار من دنانيرها، فقفلما تلقى أعقابهم إلا أعرباً للطمور، مترمقين بجرايات الشهور، متعللين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عندها آباؤهم، وعرف منها إباؤهم، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم، لم تسامحهم الأيام إلا في إرث محررٍ، أو حلال مقرر، وربما محقة الحرام، وتعذر منه المرام. هذه أعزك الله حال قبولها مالها مع الترفيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه. وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغى يبتلع ويلتقم، وطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثوا، وثعبان قميد يعض الساق، وشوبوب عذاب يمزق الإبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويوجرعها العدو الفاسق، مع الأفوال ولا شروق، فهل في شئ من هذا مغتبط لنفس حرة، أو مايساوى جرعة حالٍ مرة. . واحسرتاه للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، ويالها مصيبة جلت، ولسيدي أن يقول حكمت على باستثقال الموعظة واستجفانها، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفايها، وتناسى عدم وفايها، فأقول الطبيب بالعلل أدرى، والشفيق بسوء الظن مغرى. وكيف لا وأنا أقف على السحاآت، بخط سيدي، من مطارح الاعتقال، ومثاقف النوب الثقال، وحلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد، ونوش الأسنة الحداد، وحيث يجمل تمثله ألا تصرف في غير الخضوع لله بناناً، ولايثنى لمخلوق عناناً. وأتعرف أنها قد ملأت الجو الدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولى الشمات، وحفظة المذمات، وأعوان النوب الملمات، زيادة في الشقا، وقصد أبرياء من الاختيار والانتق، مشتملة من التجاوز على إغرب من العنقا، ومن النقاق على أشهر من البلقا. فهذا يوصف بالإمامة، وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلف الدعاء وليس من أهل، وهذا يطلب منه لقا الصالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظنى والله من البحث عن السموم، وكتب النجوم، والمذموم من المعلوم، هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً، وأعتقد أن الله جعل لزمن الخير والشر ميقاتاً، وأنا لانملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً، وأن اللوح قد حصر الأشياء محوراً وإثباتاً، فكيف نرجو لما منع منالاً، أو نستطيع مما قدر إفلاتاً. أفيدونا ما يرجح العقيدة المقررة، نتحول إليه، وبينوا لنا الحق، نعول عليه. الله الله ياسيدي في النفس المرشحة، وللذات المحلات بالفضايل الموشحة، والسلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير، ودع الدنيا لأهلها، فما أركس حطوظهم، وأخس لحوظهم، وأقل متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناؤهم، وأقصر أناؤهم:ك من شارة أنسك، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشر لك ولرسيك، وأي راحة لمن لايباشر قصده، ويسير متى شا وحده، ولو صح في هذه الحال لله حظ، وهبه زهيداً، أوعين للرشد عملاً حميداً، لساغ الصاب، وخفت الأوصاب، وسهل المصاب. لاكن الوقت أشغل والفكر أوغل، والزمن قد غمرته الحصص الوهمية، واستنفدت منه الكمية. أما ليله ففكر أو نوم، وعتب يجر الضراس ولوم، وأما يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لايدخل فيه حكيم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير. ووالله ياسيدي، ومن فلق الحب وأخرج الأب، وذرا من مشى ومادب، وسمى نفسه الرب، لو تعلق المال الذي يجده هذا الكدح، ويورى سقيطه هذا القدح، بإذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لاورثه عقب، ولاخلص به محتقب، ولا فاز به سافر ولا منتقب. والشاهد الدول والمشايم الأول. فأين الرباع المقتناة، وأين الديار المبتداة، وأين الحدايق المغترسات، وأين الذخاير المختلسات، وأين الودايع المؤملة، وأين الأمانات المحملة، تأذن الله بتتبيرها، وإدناء وتار التيار من دنانيرها، فقفلما تلقى أعقابهم إلا أعرباً للطمور، مترمقين بجرايات الشهور، متعللين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عندها آباؤهم، وعرف منها إباؤهم، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم، لم تسامحهم الأيام إلا في إرث محررٍ، أو حلال مقرر، وربما محقة الحرام، وتعذر منه المرام. هذه أعزك الله حال قبولها مالها مع الترفيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه. وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغى يبتلع ويلتقم، وطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثوا، وثعبان قميد يعض الساق، وشوبوب عذاب يمزق الإبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويوجرعها العدو الفاسق، مع الأفوال ولا شروق، فهل في شئ من هذا مغتبط لنفس حرة، أو مايساوى جرعة حالٍ مرة. . واحسرتاه للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، ويالها مصيبة جلت، ولسيدي أن يقول حكمت على باستثقال الموعظة واستجفانها، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفايها، وتناسى عدم وفايها، فأقول الطبيب بالعلل أدرى، والشفيق بسوء الظن مغرى. وكيف لا وأنا أقف على السحاآت، بخط سيدي، من مطارح الاعتقال، ومثاقف النوب الثقال، وحلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد، ونوش الأسنة الحداد، وحيث يجمل تمثله ألا تصرف في غير الخضوع لله بناناً، ولايثنى لمخلوق عناناً. وأتعرف أنها قد ملأت الجو الدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولى الشمات، وحفظة المذمات، وأعوان النوب الملمات، زيادة في الشقا، وقصد أبرياء من الاختيار والانتق، مشتملة من التجاوز على إغرب من العنقا، ومن النقاق على أشهر من البلقا. فهذا يوصف بالإمامة، وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلف الدعاء وليس من أهل، وهذا يطلب منه لقا الصالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظنى والله من البحث عن السموم، وكتب النجوم، والمذموم من المعلوم، هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً، وأعتقد أن الله جعل لزمن الخير والشر ميقاتاً، وأنا لانملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً، وأن اللوح قد حصر الأشياء محوراً وإثباتاً، فكيف نرجو لما منع منالاً، أو نستطيع مما قدر إفلاتاً. أفيدونا ما يرجح العقيدة المقررة، نتحول إليه، وبينوا لنا الحق، نعول عليه. الله الله ياسيدي في النفس المرشحة، وللذات المحلات بالفضايل الموشحة، والسلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير، ودع الدنيا لأهلها، فما أركس حطوظهم، وأخس لحوظهم، وأقل متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناؤهم، وأقصر أناؤهم:
ماتم إلا ما رأيت ... وربما تعي السلامة
والناس إما جائر ... أو حاير يشكو ظلامه
والله ما احتقب الحريص سوى الذنوب أو الملامة
هل ثم شك في المعاد ... الحق أو يوم القيامة
قولوا لنا ماعندكم ... أهل الخطابة والإمامة
وإن رميت بأحجارى، وأوحرت المر من أشجارى، فوالله ماتلبست منها لليوم بشيء قديم ولا حديث، ولا استاثرت بطيب فضلاً عن خبيث. وما أنا إلا عابر سبيل، وهاجر مرعى وبيل، ومرتقب وعد قدر فيه الإنجاز، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد، وحاولت المقاطعة، حتى بين روحي والجسد، وغسل الله قلبي، وله الحمد، من الطمع والحسد، فلم أبق عادة إلا قطعتها، ولا جنة للصبر إلا ادرعتها. أما اللباس فالصوف، وأما الزهد فيما في أيدي الناس فمعروف، وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف. ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل، وعراها لاتنفصل، وأن ترتيبي هذا يدوم، ولا يجيزني الوعد المحتوم، والوقت المعلوم، لمت أسفاً، وحسبي الله وكفا ومع هذا ياسيدي، فالموعظة تتلقى من لسان الوجود، والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود، ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم أو المحمود. ولقد أعملت نظرى فيما يكافئ عني بعض يدك، أو ينتمي في الفضل إلى أمدك، فلم أر لك الدنيا كفا. هذا لو كنت صاحب دنيا، وألفيت بذل النفس قليلاً لك من غير شرطٍ ولا ثنيا، فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفا، لمن لايثبت عين الصفا، ولا يشيم بارقه الوفا، ولايعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلى من المتدنسين بها لا منهمكين، وينظر عوراه الفادح بعين اليقين، يعلم أنها المومسة التي حسنها زور، وعاشقها مغرور، وسرورها شرو، تبين لي أني قد كافيت صنيعتك المتقدمة، وخرجت عن عهدتك الملتزمة، ومحضت لله النصح الذي يقر بعز الله ذاتك، ويطيب حياتك، ويحي مواتك، ويريح جوارحك من الوصب، وقلبك من النصب، ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت، ويلاشى عظايمها لديك إذا اختبرت، كل من تقع عليه عينك حقير قليلن وفقير ذليل، لايفضلك بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غى، أثوابه النبيهة يجردها الغاسل، وعروة غيره يفصلها الفاصل، وماله الحاضر الحاصل، يعيث فيه الحسام الفاصل، والله ماتعين للخلف إلا ماتعين للسلف، ولامصير المجموع إلا إلى التلف، ولا صح من الهياط والمياط، والصياح والعياط، وجمع القيراط إلى القيراط، والاستظهار بالوزعة والأشراط، والخبط والخباط، والاستكثار والاغتباط، الغلو والاشتطاط، وبنا الصرح وعمل الساباط، ورفع العماد وإدارة الفسطاط، إلا ألم يذهب القوة، وبنسى الآمال المرجوة، ثم نفس يصعد، وسكرات تتردد، وحسرات لفراق الدنيا تتجدد، ولسان يثقل، عين تبصر الفراق الحق وتمقل. قل هو نبأ عظيم، أنتم عنه معرضون. ثم القبر وما بعده، والله منجز وعيده ووعده. فالإضراب وافضراب، والتراب التراب، وإن اعتذر سيدى بقلة الجلد، لكثرة الولد، فهو ابن مرزوق، لا ابن رزاق، وبيده من التسبب، ما يتكفل بإمساك أرماق. أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته، في كن حجرته، لابل السؤال الذي لاعار عند الحاجة بمعرته، السؤال والله أقوم طريقاً، وأكرم فريقاً، من يد تمتد إلى حرام، لا يقوم بمرام، ولا يومن من ضرام أحرقت فيه الحلل، وقلبت الأديان والملل، وضربت الابشار، ونحرت العشار، ولم يصل منه على يدي واسطة السوؤ المعشار. ثم طلب عند الشدة ففضح، وبان سومه ووضح، اللهم طهر منا أيدينا وقلوبنا، وبلغنا من الانصراف إليك مطلوبنا، وعرفنا بمن لايعرف غيرك، ولا يسترفد إلا خبرك ياألله. وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة، أو أعمل في احتلابها إضباره. أولبس منها شارة، أو تشوف إلى خدمة إمارة، ألا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس، ولا يغتروا بسمت ولا خلقٍ ولا لباس، فما عدا عما بدا. تقضي العمر في سجن وقيد، وعمرو وزيد، وضر وكيد، وطراد صبد، وسعد وسعيد، وعبد وعبيد، فمتى تظهر الأفكار، ويقر القرار، وتلازم الأدكار، وتشام الأنوار، وتتجلى الأسرار، ثم يقع الشهود الذي تذهب معه الأفكار، ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ماسواه الفرار، وعليه السدار. وحق الحق، الذي ماسواه فباطل، والفيض الرحماني، الذي ربابه لابد هاطل، ماشاب مخاطبتي لك شايبة بريب، ولقد محضت لك مايمحضه الحبيب إلى الحبيب، فيحمل جفا في الذي حملت عليه الغيرة، ولاتظن بي غيره. وإن أقدر قدرى في مكاشفة سيادتك بهذا البث، في الأسلوب الرث، فالحق أقدم، وبناؤه لايهدم، وشأني معروف في مواجهة الجبابرة، على حين يدى إلى رفدهم ممدودة، ونفس في النفوس
المتهافتة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشهوات مزاحم، فكيف بي اليوم مع الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب، إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل، وسيف العدل في كفى صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النفوس في القبول سوا، ولا لكل من ضر دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني حملك الله على الجادة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة، والسلام.ة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشهوات مزاحم، فكيف بي اليوم مع الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب، إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل، وسيف العدل في كفى صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النفوس في القبول سوا، ولا لكل من ضر دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني حملك الله على الجادة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة، والسلام.
ولما شرح كتاب " الشفا " ... للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى
ابن عياض رحمه الله، واستبحر فيه، طلب أهل العدوتين بنظم مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور، وإطراء مؤلفة، فانثال عليه من ذلك الطم والرم، بما تعددت منه الأوراق، واختلفت في الإجاجة وغيرها الأرزاق، وإيثاراً لغرضه، ومبادرة من أهل الجهات لإسعاف أريه، وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء، فكتبت في ذلك:
شفا عياض للصدور شفاء ... وليس بفض قد حواه خفاء
هدية بر لم يكن لجزيلها ... سوى الأدر والذكر الجميل كفاء
وفي لنبى الله حق وفاته ... وأكرم أوصاف الكرام وفاء
وجاء به بحراً بقول بفضله ... على البحر طعم طيب وصفاء
وحق رسول الله بعد وفاته ... رعاه وإغفال الحقوق جفاء
هو الذخر يغنى في الحياة عتاده ... ويترك منه اليقين رفاء
هو الأثر المحمود ليس يناله دثور ولا يخشى عليه عفاء
حرصت على الإطناب في نشر فضله وتمجيده لو ساعدتني فاء
واستزاد من هذا الغرض، الذي لم يقنع منه بالقليل، فبعثت إليه من محل انتقالي بمدينة سلا حرسها الله:
أأزاهير رياض ... أم شفاء لعياض
جدل الباطل للحق ... بأسياف مواض
وشفى من يشتكي الغلة في زرق الحياض
أي بنيان معار ... آمن فوق انقضاض
أي عهد ليس يرمى ... بانتكاث وانتقاض
ومعان في سطور ... كأسود في غياض
وشفاء لصدور ... من ضنى الجهل مراض
حرر القصد فما شين بنقد واعتراض
يا أبا الفضل أذر بأن الله عن سعيك راض
فاز عبد أقرض الله ... برجحان القراض
وجبت عز المزايا ... من طوال وعراض
لك يا أصدق راو ... لك يا أعدل قاض
لرسول الله وفيت ... بجد وانتهاض
خير خلق الله في حالٍ وفي آت وماض
سدد الله ابن مرزوق ... إلى تلك المراض
زبدة العرفان معنى ... كل نسك وارتباض
فتولى بسط ما أجملت ... من غر انقباض
ساهر لم يدر في استخلاصه طعم اغتماض
دام في علو ومن عاداه يهوى في انخفاض
ما وشى الصبح الدياجي ... في سواد ببياض
ثم نظمت له أيضاً في الغرض المذكور، والإكثار من هذا النمط، في هذا الموضع، ليس على سبيل التبجح بغرابته وإجادته، ولاكن على سبيل الإشادة بالشرح المشار إليه، فهو بالغ غاية الإستبحار.
حييت يا مختط يبت بن نوح ... بكل مزن يغتدى أو يروح
وحمل الريحان ريح الصبا ... أمانة ي كل إلى كل روح
دار أبي الفضل عياض الذي ... أضحت برياه رياضاً تفوح
يا ناقل الآثار يعنى بها ... وواصلاً في العلم جرى المجموح
طرفك في الفخر بعيد المدا ... طرفك للمجد شديد الطموح
كفاك إعجازاً كتاب الشفا ... والصبح لا ينكر عند الوضوح
لله ما أجزلت فينا به من ... منحة تقصر عنها المنوح
فمن بيان الحق زهر ند ... ومن لسان الصدق طير صدوح
تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لا يثمر أو لا يفوح
تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لايثمر أو لا يفوح
وحلة من طيب خير الورى ... في الجيب والأعطاف منها نضوح
ومعلم للدين شيدته ... فهذه الأعلام منه تلوح
فقل لهامان كذا أو فلا ... يامن أضل الرشد تبنى الصروح
في أحسن التقويم أنشأته ... خلقاً جديداً بين جسم وروح
فعمره المكتوب لا ينقضى ... إذا تقضى عمر سام ونوح
كأنه في الحف ريح الصبا ... وكل عطف فهو غض مروح
ما عذر مشغوف بخير الورى ... إن هاج منه الذكر أن لا يبوح
عجبت من أكباد أهل الهوى ... وقد سطا البعد وطال النزوح
إن ذكر المحبوب سالت دما ... ما هن أكباد ولكن جروح
يا سيد الأوضاع يا من له ... بسيد الإرسال فضل الرجوع
يا من له الفخر على غيره ... والشهب تخفى عند إشراق يوح
ياخير مشروح وفي واكتفى ... منه ابن مرزوق بخير الشروح
فتح من الله جاه به ... ومن جناب الله تاتى الفتوح
مولده: بتلمسان عام أحد عشر وسبعماية
التميمي التسلى الكرسوطىمحمد بن عبد الرحمن بن سعد التميمي التسلى الكرسوطى من أهل فاسن نزيل مالقة يكنى أبا عبد الله.
حالهالشيخ الفقيه المتكلم أبو عبد الله، غزير الحفظ، متبحر الذكر، عديم القرين، عظيم الاطلاع، عارف بأسماء الأوضاع، ينثال منه على السايل كثيب مهيل، ينقل الفقه منسوباً إلى أمانة، ومنوطاً برجاله، والحديث بأسانيده ومتونه، خوار العنان، وساع الخطو، بعيد الشأو، يفيض من حديث إلى فقه، ومن أدب إلى حكاية، ويتعدى ذلك إلى غرايب المنظومات، مما يختص بنظمه أولو الشطارة والحرفة من المغاربة، ويستظهر مطولات القصاص، وطوابير الوعاظ، ومساطير أهل الكدية، في أسلوب وقاحٍ يفضحه الإعراب، حسن الخلق جم الاحتمال. مطرح الوقار، رافض التصنع، متبذل اللبسة، رحيب أكناف المرارة لأهل الولايات، يلقى بمعاطنهم البرك، وينوط بهم الوسائل، كثير المشاركة لوصلايه، محصب على أهل بيته، حدب على بنيه. قدم على الأندلس عام اثنين وعشرين وسبعماية، فأقام بالجزيرة مقرياً بمسجد الصواع منها، ومسجد الرايات. ثم قدم على مالقة وأقرأ بها، ثم قدم على غرناطة عام خمسة وعشرين وسبعماية، فتعرف على أرباب الأمر، بما نجحت حيلته، وخف به موقعه، فلم يعدم صلة، ولافقد مرفقة، حتى ارتاش وتأثل بمحل سكناه من مالقة، مدرة مغلة، وعقارا مفيدا. وطال قعوده لسرد الفقه بمسجدها الجامع، نمير في الركب، مهجور الحلقة، حملا من الخاصة والعامة، لتلبسه بالعرض الأدنى. وهو الآن خطيب مسجد القصبة بها، ومحله من الشهرة، بالحفظ والاستظهار لفوع الفقه، كبير.
مشيختهقرأ القرآن على الجماعة بالمغرب والأندلس، منهم أبوه، والأستاذ أبو الحسن القيجاطي البلوى، وأبو إسحق الحريرى، وأبو الحسن بن سليمن، وأبو عبد الله بن أجروم. وقرأ الفقه على أبي زيد الجزولي، وعبد الرحمن بن عفان، وأبي الحسن الصغير، وعبد المؤمن الجاناتي، وقرأ الكتاب بين يديه مدة، ثم عزله، ولذلك حكاية. حدثني الشيخ أبو عبد الله الكرسوطي، المترجم به، قال قرأت بين يديه، في قول أبي سعيد في التهذيب، والدجاج والأوز المخلات، فقال أنظر هل يقال الدجاج أو الجداد، لغة القرآن أفصح، قال الله تعإلى: وجدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سودٍ. فأرزى به، ونقل إليه إزاره، فعزله. وقعد بعد ذلك للاقراء بفاس، كذا حدث. وأخذ عن أبي إسحق الزناتي، وعن خلف الله المجاصى، وأبي عبد الله بن عبد الرحمن الجزولى، وأبي الحسين الزدغى، وأبي الفضل ابنه، وأبي العباس بن راشد المراني، وأبي عبد الله بن رشيد. وروى الحديث بسبتة عن أبي عبد الله الغمارى، وأبي عبد الله بن هاني، وذاكر أبا الحسن بن وشاش، وبمالقة عن الخطيب الصالح الطنجالي، وأبي عمرو بن منظور. وبغرناطة عن أبي الحسن القيجاطى، وأبي إسحق بن أبي العاصي. وببلش عن أبي جعفر الزيات.
تواليفه
منها الغرر في تكميل الطرر، طرر أبي إبراهيم الأعرج. ثم الدرر في اختصار الطرر المذكور. وتقييدان على الرسالة، كبير وصغير، ولخص التهذيب لابن بشير، وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة، البخاري، والرمذي، ومسلم، والزم إسقاط التكرار، واستدراك الصحاح الواقعة في التهذيب على مسلم والبخاري. وقيد على مختصر الطليطلى، وشرعي تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عياض بن موسى ابن عياضن برسم ولدى أسعده الله.شعرهأنشدني، وأنا أحاول بمالقة لوث العمامة، وأستعين بالغير على إصلاح العمل، وإحكام اللياثة:
أمعمما قمرا تكامل حسنه ... أربى على الشمس المنبرة في البها
لا تلتسم ممن لديك زيادة ... فالبدر لا يمتاز من نور السها
ويصدر منه الشعر مصدراً، لا تكنفه العناية
محنته
أسر ببحر الزقاق، قادماً على الأندلس، في جملة من الفضلاء، منهم والده. واستقر بطريف عام ستة وعشرين وسبعماية، لقى بها شدة ونكالاً، ثم شرح والده، لمحاولة فكاك نفسه، وفك ابنه، ويسر الله عليه، فتخلصا من تلك المحنة في سبيل كدية، وأفلت من بين أنياب مشقة.
بعض أخبارهقال، لقيت الشيخ ولي الله أبا يعقوب بساحل بادس، في جملة من الفضلاء، منهم والده. واستقر بطريف عام ستة وعشرين وسبعماية، ولقى بها شدة ونكالاً، ثم سرح والده، لمحاولة فكاك نفسه، وفك ابنه، ويسر الله عليه، فتخلصا من تلك المحنة في سبيل كدية، وأفلت من بين أنياب مشقة.
بعض أخبارهقالن لقيت لاشيخ ولي اله أبا يعقوب بساحل بادس، قاصداً الأخذ عنه، والتبرك به، ولم يكن رآني قط، وألفيت بين يديه عند دخولي عليه، رجلاً يقرأ عليه القرآن. فلما فرغ، أراد أن يقرأ عليه أسطراً من الرسالة، فقال له، اقرأها على هذا الفقيه، وأشار إلى، ورأيت في عرصةٍ له أصول خص، فتمنيت الأكل منها، وكان رباعها غير حاضر، فقام عن سرعة، واقتلع منها أصولاً ثلاثة، ودفعها إلى، وقال كل. فقلت في نفسي، تصرف في الخضرة قبل حضور رباعها، فقال لي، إذا أردت الأكل من هذه الخضر، فكل من هذا القسم فإنه لي. قلت، وخبرت من اضطلاع هذا المترجم به بعبارة الرؤيا، ماقضيت منه العجب في غير ماشيء جربته. وهو الآن بحاله الموصوفة. وأصابه لهذا العهد جلاء عن وطنه، لتوفي الحمل عليه من الخاص والعام، بما طال به نكده. ثم آلت حاله إلى بعض صلاحن والله يتولاه.
مولده: بمدينة فاس عام تسعين وستماية.
محمد بن عبد المنعم الصنهاجي الحميرييكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عبد المنعم، من أهل سبتة، الأستاذ الحافظ.
حالهمن العايد: كان رحمه الله رجل صدق، طيب اللهجة، سليم الصدرن تام الرجولة، صالحاً، عابداً، كثير القرب والأوراد في آخر حاله، صادق اللسان. قرأ كثيراً، وسنه تنيف على سبع وعشرين، ففات أهل الدؤب والسابقة، وكان من صدور الحفاظ، لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره، فكاد يستظهر كتاب التاج للجوهري وغيره، آية تتلى، ومثلاً يضرب، قايماً على كتاب سيبويه، يسرده بلفظه. اختبره الفاسيون في ذلك غير ما مرة. طبقة في الشطرنج، يلعبها محجوباً، مشاركاً في الأصول آخذاً في العلوم العقلية. مع الملازمة للسنة، يعرب أبداً كلامه ويزينه.
مشيختهأخذ ببلده عن الأستاذ أبي إسحق الغافقي، ولازم أبا القاسم بن الشاط، وانتفع به وبغيره من العلماء.
دخوله غرناطةقدم غرناطة مع الوفد من أهل بلده، عندما صارت إلى إيالة الملوكح من بني نصرن لما وصلوا بالبيعة.
وفاته: كان من الوفد الذين استأصلهم الموتان عند منصرفهم عن باب السلطان، ملك المغرب، بأحواز تيزى، حسبما وقع التنبيه على بعضهم.
ابن رشيدمحمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد ابن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهرى من أهل سبتة، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن رشيد
حاله
من عيد الصلة: الخطيب المحدث، المتبحر في علوم الرواية والإسناد. كان رحمه الله فريد دهره عدالة وجلالة، وحفظاً وأدباً، وسمتاً وهدياً، واسع الأسمعة، عالي الإسناد، صحيح النقل، أصيل الضبط، تام العناية بصناعة الحديث، قيماً عليها بصيراً بها، محققا فيها، ذاكراً فيها للرجال، جماعة للكتب، محافظاً على الطريقة، مضطلعاً بغيرها، من العربية واللغة والعروض، فقيهاً أصيل النظر، ذاكراً للتفسير، ريان من الأدب، حافظاً للأخبار والتواريخ، مشاركاً في الأصلين، عارفاً بالقراءات، عظيم الوقار والسكينة، بارع الخط، حسن الخلق، كثير التواضع، رقيق الوجه، متجملاً، كلف الخاصة والعامة، مبذول الجاه ولا شفاعة. كهفاً لأصناف الطلبة. قدم على غرناطة في وزارة صديقه، ورفيق طريقه في حجه وتشريقه، أبى عبد الله بن الحكيمن فلقى براً، وتقدم للخطابة بالمسجد الأعظم، ونفع الله لديه بشفاعته المبذولة، طايفة من خلقه، وانصرف إثر مقتله إلى العدوة، فاستقر بمدينة فاس، معظماً عند الملوك والخاصة، معروف القدر عندهم.
مشيختهقرأ ببلده سبتة على الأستاذ إمام النحاة أبي الحسن بن أبي بالربيع كتاب سيبويه، وقيد على ذلك تقييداً مفيداً، وأخذ عنه القراءات. وأخذ أيضاً عن الأستاذ أبي الحسن بن الخطار. ورحل من بلده سبتة لأداء الفريضة.
حج ولقى المشايخ عام ثمانية وثمانين وستماية، فوافى في طريقه الحاج المحدث الراوية، ذا الوزاريتين بعد، أبا عبد الله الحكيم، وأخذ عن الجلة الذين يشق إحصاؤهم. فممن لقى بإفريقية الراوية العدل أبا محمد عبد الله بن هارون يروى عن ابن بقى، والأديب المتبحر أبا الحسن حازم ابن محمد القرطاجني. وروى بالمشرق عن العدد الكثير كالإمام جار الله أبي اليمن بن عساكر، لقيه بباب الصفا تجاه الكعبة المعظمة، وهو موضع جلوسه للسماع، غرة شوال عام أربعة وثمانين وستماية، وعن غيره، كأبي العز عبد الرحمن بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منظور بن هبة الله وغيرهم ممن ثبت في اسم مرافقة في السماع والرحلة أبي عبد الله بالحكيم رحمه الله، فلينظر هنالك.
تواليفهألف فوايد رحلته في كتاب سماه ملئ العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين، إلى مكة وطيبة. قال شيخنا أبو بكر ابن شبرين، وقفت على مسودته، ورأيت فيه فنوناً وضروباً من الفوايد العلمية والتاريخ، وطرفاً من الأخبار الحسان. والمسندات العوالي والأناشيد. وهو ديوان كبير، ولم يسبق إلى مثله. قلت ورأيت شيئاً من مختصره بسبتة.
دخوله غرناطةورد على الأندلس في عام اثنين وتسعين وستماية. فعقد مجالس اللخاص والعام، يقرى بها فنوناً من العلم. وتقدم خطيباً وإماماً بالمسجد الأعظم منها. حدثني بعض شيوخنا، قال، قعد يوماً على المنبر، وظن أن المؤذن الثالث قد فرغ، فقام يخطب والمؤذن قد رفع صوته بإذانه، فاستعظم ذلك بعض الحاضرين، وهم آخر بأشعاره وتنبيهه. وكلمه آخر، فلم يثنه ذلك عما شرع فيه، وقال بديهة، أيها الناس، رحمكم الله، إن الواجب لا يبطله المندوب، وأن الإذان الذي بعد الأول غير مشروع الوجوب، فتأهبوا لطلب العلم، وانتبهوا، وتذكروا قوله عز وجل: وما أتاكم الرسول فحدوء، ومانهاكم عنه فانتهوا، وقد روينا عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال، من قال لأخيه والإمام يخطب، وأصمت، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له. جعلنا الله وإياكم ممن علم فعملن وعمل فقبل، وأخلص فتخلص. وكان ذلك مما استدل به على قوة جناته، وانقياد لسانه لبيانه.
شعرهوله شعر يتكلفه إذا كان لا يزن أعاريضه إلا بميزان العروضن فمن ذلك ما حدث به، قال لما حللت بدمشق، ودخلت دار الحديث الأشرفيه، برسم رؤية النعل الكريمة، نعل المصطفى صلوات الله عليه، ولثمتها، حضرتني هذه الأبيات:
هنيئاً لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بأسعد
وقبلتها أشفى الغليل فزادني ... فيا عجباً زاد الظما عند مورد
فلله ذاك اللثم فهو ألذ من ... لما شفة لميا وخد مورد
ولله ذاك اليوم عيداً ومعلماً ... بتاريخه أرخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيب كما ... يحب ويرضى ربنا لمحمد
وقال، وقلت في موسم عام ستة وثمانين وستماية، بثغر سبتة حرسها الله تعإلى:
أقول إذا هب النسيمن المعطر ... لعل بشيراً باللقاء يبشر
وعالي الصبا مرت على ربع جيرتي ... فعن طيبهم عرف النسيم يعبر
وأذكر أوقاتي بسلمى وبالحمى ... فتذكو لظى في أضلعي حين أذكر
ربوع يود المسك طيب رابها ... ويهوى حصى فيها عقيق وجوهر
بها جيرة لا يخفرون بذمة ... هم لمواليهم جمال ومفخر
إذا ما اجتلت زهر النجوم جمالهم ... تغار لباهي نورهم فتغور
ومن جود جدواهم يرى الليث ... يعمر ون خوف عدواهم يذعر
ومن سيب يمناهم يرى الروض يزهر ... ومن فيض نعماهم يرى البحر يزخر
رعى الله عهداً بالمصلى عهدته ... وروض المنى غض يرق وينضر
زماناً نعمنا فيه الظل وارف ... بجنات عدن تحتها العذاب يخضر
ولله أيام المصلى وطيبها وأنفسنا بالقرب والأنس تجبر
بحيث يرى بدر الكمال وشمسه ... وروضته فردوس وحوض ومنبر
أروم دنواً من بهاء جمالها ... ولثماً فتأبى هيبة وتوقر
خضعت وذلي للحبيب تعزز ... فطرفي مغضوض وخدي معفر
ووجه سروري سافر متهلل ... وحالي بهم حلل وعيشي أخضر
فطوبى لمن أضحى بطيبة ثاوياً ... يجر أذيال الفخار وينشر
وإذ فات عيني أن تراهم فرددوا على مسمعي ذكر المصلى وكرروا
وردت فيا طيب الورود بطيبة ... صدرت فوا حزني فلا كان مصدر
رماني زماني بالفراق فغرني ... على مثل من فارقت عز التصبر
وأضمرت أشجاني ودمعي مظهر ... وأسررت هجراني وحالي تخبر
فمن أدمعي ماء يفيض ويهمر ... ومن أضلعي نار تفور وتسعر
فجسمي مصفر وفودي أبيض ... وعيشي مغبر ودمعي أحمر
وحين دنا التوديع ممن أحبه ... وحان الذي ما زلت منه أحذر
ونادى صحابي بالرحيل وأزمعوا ... وسارت مطاياهم وظلت أقهقر
وألوي إليه الجيد حتى وجعته ... وظل فؤادي لوعة يتفطر
وقفت لأقضي زفرة وصبابة ... ولا أنثني فالموت أجدى وأجدر
ولو أنني بعت الحياة بنظرة ... لأبت وحظي فيه أوفى وأوفر
وما باختياري إنما قدر جرى ... رضيت بما يقضي الآله ويقدر
حنيني إلى مغنى الجمال مواصل ... وشوقي إلى معنى الجمال موفر
وغير جميل أن يرى عن جمالها ... فؤادي صبوراً والمسير ميسر
أيصبر ظمآن يغال بغلة ... وفي روضة الرضوان شهد وكوثر
فيا عينها الزرقاء إن عيونها ... من الحزن فيض بالنجيع تفجر
سأقطع ليلى بالسرى أو أزورها ... وأحمي الكرى عيناً لبعدك يظهر
وأنضي المطايا أو أوافي ربعها ... فتنجدني طوراً وطوراً تغور
حظرت على نفسي الحذار من الردى ... أتحذر نفس الحبيب تسير
أينكر تغرير المشوق بنفسه ... وقد علموا أن المحب مغرر
وقفت على فتوى المحبين كلهم ... فلم أجد التغرير في الوصل ينكر
وإني إذا ما خطرة خطرت قصت بهمي وعزمي همة لا تأطر
أقيم فألفي بين عيني وهمتي ... وسيري في سبل العلا ليس ينكر
إذا ما بدت للعين أعلام طيبة ولاحت قباب كالكواكب تزهر
وللقبة الزهراء سمك سما علاً ... وراق سنى كالشمس بل هو أزهر
لها منظر قيد النواظر والنهى ... لها ساكن من نوره البدر يبدر
فعرجوا على كمل الكمال وسلموا ... سلمتم وبلغتم مناكم فأبشروا
بنفسي لا بالمال أرضى بشارة ... إذا لاح نور في سناها مبشر
وما قدر نفسي أن تكون كفاً ... ولكنها جهد المقل فأعذر
أقول إذا أوفيت أكرم مرسل ... قراى عليكم أن ذنبي يغفر
وأحظى بتقريب الجوار مكرماً ... وأصفح عن جور البعاد وأعذر
وأرتع في ظل الجنان منعماً ... وأمني بقرب من حماك وأجبر
هناك هناك القرب فانعم بنيله ... بحيث ثوى جسم كريم مطهر
ودع عنك تطواف البلاد وخيمن ... بطيبة طابت فهي مسك وعنبر
فخرت بمدحي للنبي محمد ومن ... مدحه المداح يزهى ويفخر
أطلت وإني في المديح مقصر ... فكل طويل في معاليك يقصر
فما بلغت كف أمري متناول بها ... المجد إلا والذي نلت أكبر
وما بلغ المهدون في القول مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفخر
عليك صلاة الله ما مر سبق ... إليك وما هب النسيم المعطر
وقال يرثي إبنا نجيباً ثكله بغرناطة:
شباب ثوى شابت عليه المفارق ... وغصن ذوي تاقت إليه الحدايق
على حين راق الناظرين بسوقه ... رمته سهام للعيون رواشق
فما أخطأت منه الفؤاد بعمدها ... فلا أبصرت تلك العيون الروانق
وحين تداني للكمال هلاله ... ألم به نقص وجدت مواحق
إلى الله أشكو فهو يشكي نوازعاً ... عظاماً سطاها للعظام عوارق
ولا مثل فقدان البني فجيعة ... وإن طال ما لجت وجالت بوايق
محمد إن الصبر صبر وعلقم ... على أنه حلو المثوبة سابق
فإن جزعاً فالله للعبد عاذر ... وإن جلداً فالوعد لله صادق
وتالله ما لي بعد عيشك لذة ... ولا راقني مرأي لعيني رايق
فأني به والمذكرات عديدة ... فنبل وهم للعوايد خارق
فأين التفت فالشخص للعين مائل ... وإن أستمع فالصوت للأذن طارق
وإن أدع شخصاً باسمه لضرورة ... فإن اسمك المحبوب للنطق سابق
وإن تقرع الأبواب راحة قارع ... يطير عندها قلب لذكرك خافق
وكل كتاب قد حويت فمذكر ... آثاره كل إليك توايق
سبقت كهولة في الطفولة لا تني ... وأرهقت أشياخاً وأنت مراهق
فلو لم يغلك الموت دمت مجلياً ... واقبل سكيتاً وجيية ولاحق
على مهل أحرزت ما شيت ثانياً ... عنانك لا تجهد وأنت مسابق
رأتك المنايا سابقاً فأغرتها ... فجد طلاباً إنهن لواحق
لين سلبت مني نفيس ذخائر ... فإني بمذخور الأجور لواثق
وقد كان ظني أنني لك سابق ... فقد صار علمي أنني بك لاحق
غريبين كنا فرق البين بيننا ... فأبرح ما يلقى الغريب المفارق
فبين وبعد بالغريب توكلاً ... قد رعى بما حملت والله ضايق
عسى وطن يدنو فتدنو مني ... وأي الأماين والخطوب عوايق
فخط الأسى خطا تروق سطوره ... وتمحو البكا فالدمع ماح وساحق
فيا واحداً قد كان للعين نورها ... اتل ضياً بعد بعدك غاسق
عليك سلام الله ما جن ساجع ... وما طلعت شمس وما ذر شارق
وما همعت سحب غواد روايح ... وما لمعت تحدو الرعود بوارق
وجاد على مثواك غيث مروض ... عباد لرضوان الإله موافق
محنتهتعرض إليه قوم، يوم قتل صديقه أبي عبد الله الحكيم بإذاية قبيحة، وأسمع كل شارق من القول على ألسنة زعانفة فجر وترهم القتيل، فتخلص ولا تسل كيف، وأزمع الرحيل فلم يلبث بعد ذلك.
وفاته: كانت وفاته بمدينة فاس، في اليوم الثامن من شهرم المحرم
مفتتح عام أحد وعشرين وسبعماية. ودفن في الجبانة التي بخارج باب الفتوح بالروضة المعروفة بمطرح الجنة، التي اشتملت على العلماء والصلحاء والفضلاء، من الغرباء الواردين مدينة فاس. وكان مولده بسبتة عام سبع وخمسين وستماية.
محمد بن علي بن هاني اللخمي السبتييكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جده، أصلهم من إشبيلية
حالهكان رحمه الله فريد دهره في سمو الهمة، وإيثار الاقتصاد والتحلي بالقناعة، وشموخ الأنف على أهل الرياسة، مقتصراً على فايدة ربع له ببلده، يتبلغ مع الاستقامة، مع الصبر والعمل على حفظ المروءة، وصون ماء الوجه، إماماً في علم العربية، مبرزاً متقدماً فيه، حافظاً للأقوال، مستوعباً لطريق الخلاف، مستحضراً لحجج التوجيه، لا يشق في ذلك غباره، ريان من الأدب، بارع الخط، سهل مقادة الكلام، مشاركاً في الأصلين، قايماً على القراءات، حسن المجلس، رايق البزة، بارع المحاضرة، فايق الترسل، متوسط النظم، كثير الاجتهاد والعكوف، مليح الخلق، ظاهر الخشوع، قريب الدمعة، بيته شهير الحسب والجلالة.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: علم تشير إليه الأكف ويعمل إلى لقاية الحافر والخف، رفع للعربية ببلده راية لا تتأخر، ومرج منها لجة تزخر، فانفسخ مجال درسه، وأثمرت أدواح غرسه، فركض يماشا وبرح، ودون وشرح، إلى شمايل تملك الظرف زمامها، ودعابة راشت الحلاوة سهامها. ولما أخذ المسلمون في منازلة الجبل وحصاره، وأصابوا الكفر منه بجارحة أبصاره، ورموا بالثكل فيه نازح أمصاره، كان ممن انتدب وتطوع، وسمع الندا، فأهطع، فلازمه إلى أن نفد لأهله القوت، وبلغ من فتحة الأجل الموقوت، فأقام الصلاة محرابه، وقد غير محياه طول اغترابه، وبادره الطاغية قبل أن يستقر نصل الإسلام في قرابه، أو يعلق أصل الدين في ترابه. وانتدب إلى الحصار به وتبرع، ودعاه أجله فلبى وأسرع. ولما هدر عليه الفتيق، وركعت إلى قبلته المجانيق، أصيب بحجر دوم عليه كالجارح المحلق، وانقض إليه انقضاض البارق المتألق، فاقتنصه، واختطفه، وعمد إلى زهره فقطفه فمضى إلى الله طوع نيته، وصحبته غرابة المنازع حتى في منيته.
مشيختهقرأ على الأستاذ العلامة أبي إسحق الغافقي، وعلى الأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة، واعتمد عليه، وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله ابن حريث.
تواليفهألف كتباً، منها كتاب شرح التسهيل لابن مالك، وهو أجل كتبه، أبدع فيه، وتنافس الناس فيه. ومنها الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة، ومنها إنشاد الضوال، وإرشاد السوال في لحن العامة، وهو كتاب مفيد، وقوت المقيم. ودون ترسل رييس الكتاب أبي المطرف بن عميرة وضمه في سفرين. وله رجز في الفرايض مفيد.
شعرهحدثنا شيخنا القاضي الشريف، نسيج وحده، أبو القاسم الحسني، قال، خاطبت الأستاذ أبا عبد الله بن هاني رحمه الله بقصيدة من نظمي أولها:
هلت الحديث عن الكرب الذي شخصا
فأجابني عن ذلك بقصيدة في رويها:
لولا مشيب بفودى للفؤاد عصا ... نضيت في مهمه التشبيب لي قلصا
واستوقفت عبراتي وهي جارية ... وكفاء توهم ربعا ًللحبيب قصا
مسايلاً عن لياليه التي انتهزت ... أيدي الأماني بها ما شيته فرصا
وكنت جاريت فيها من جرى طلقاً ... من الإجادة لم يحجم ولا نكصا
أصاب شاكلة المرمى حين رمى ... من الشوارد ما لولاه ما اقتنصا
ومن أعد مكان النبل نبل حجاً ... لم يرض إلا بأبكار النهي قنصا
ثم انثنى ثانياً عطف النسيب إلى ... مدح به قد غلا ما كان قد رخصا
فظلت أرفل فيها لبسة شرفت ... ذاتاً ومنتسباً أعزز به قمصا
يقول فيها وقد خولت منحتها ... وجرع الكاشح المغري بها غصصا
هذي عقايل وافت منك ذا شرف ... لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا
فقلت هلا عكست القول منك له ... ولم يكن قابلاً من مدحه الرخصا
وقلت ذي بكر فكر من أخي شرف ... يردي ويرضى بها الحساد والخلصا
لها حلي حسنيات على حلل ... حسنية تستبي من حل أو شخصا
خولتها وقد اعتزت ملابسها ... بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا
خذها أبا قاسم مني نتيجة ذي ... ود إذا شيت وداً للورى خلصا
وهي طويلة. ومما ينسب إليه، وهو مليح في معناه:
ما للنوى مدت لغير ضرورة ... ولقبل ما عهدي بها مقصوره
إن الخليل وإن دعته ضرورة ... لم يرضى ذاك فكيف دون ضروره
وقال مضمنا:
لا يلمني عاذلي حتى يرى ... وجه من أهوى فلومي مستحيل
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
وقال في الفخر:
قل للموالي عش بغبطة حامد ... وللمعادي بت بضغنة حاسد
المزن كفى ولاثريا همتي ... وذكا ذكري والسعود مقاصد
وقال في غير ذلك
غنيت بي دون غيري الدهر عن مثل ... بعضي لبعض أضحى يضرب المثلا
ظهري انحنى لمشيب لاح واعجبا ... غض إذا أينعت أزهاره ذبلا
أذلك أم زهر لاحت تخبر أن ... يوم الصبا والتصابي آنس الطفلا
ومما جمع فيه بين نظمه ونثره، ما راجع به شيخنا القاضي الشريف أبا القاسم الحسني، عن القصيدة الهمزية التي ثبتت في اسمه:
يا أوحد الأدبا أو يا أوحد الفضلا أو يا أوحد الشرفاء
من ذا تراه أ منك إذا التوت ... طرق الحجاج بأن يجيب نداء
أدب أرق من الهواء وإن تشا ... فمن الهوى والماء والصهباء
وألذ من ظلم الحبيب وظلمه ... بالظاء مفتوحاً وضم الظاء
ما السحر إلا ما تصوغ بنانه ... ولسانه من حلية الإنشاء
والفضل ما حليته وحبيته ... وحبوتني منه بخير حباء
أبكار فكرك قد زففت بمدحتي ... تمشي روايعها على استحياء
لا من قصور بل لتقصيها من ... حيث لم يظفرن بالإرفاء
لاكن جبرن وقد فبلن على ... الرضا فالجبر للأبكار للإباء
هذا إلى الشرف الذي قد فزت ... من عليائه بالعزة القعساء
شرف السيل من الرسول وسيلة ... قامت بابن سناً وابن سناء
حسن وأبو حسن وفاطمة ابنة ... الهادي البرية خاتم النبلاء
شرف على شرف إلى شرفين ... من ذا حاز ما حزت من علياء
هذي ثلاث أنت واحد فخرها ... فاشمخ لها شرفاً بأنف علاء
من رام رتبتك السنية فليقف ... دون المرام مواقف الإقصاء
هذي مآثر قد شأوت بصيتها ... من كان من آب لها أو شاء
والليث يرهب زأره في موطن ... ما كان من نقد به أو شاء
يكفيك من نكد المعاند أن يرى ... متقلد الأعضاء بالبغضاء
السن يفنى بالأنامل قرعه ... أو عضه متوقد الأحشاء
أتحفتنى بقصيدة همزية ... مقصورة ممدودة الآراء
كم بين تلك وهذه لا كنها ... غطى على هذى ذهاب فتاء
ذو الشيب يعذره الشباب فما لهم بذكا نبل أو بنبل ذكاء
من قارب الخمسين خطواً سنه ... فمحاله مستوجب الإبطاء
أبني إنك أنت أسدى من به ... يتعاظم الآباء بالأبناء
لله نفثة سحر ما قد شدت لي ... من نفث سحرك في مشاد ثناء
عارضت صفواناً بها فأريت ما ... يستعظم الراوي له والراء
لو راء لؤلؤك المنظم لم يفز ... في نظم لؤلؤه بغير عناء
بوأتنى منها أجل مبوإ ... فلا خمصى مستطن الجوزاء
وسمى بها أسمى سايرً فأنابما ... أسديت ذو الأسماء في الأسماء
وأشدت ذكرى في البلاد فلى بها ... طول الثناء وإن أطلت ثواء
ولقومي الفخر المشيد بنيته ... بأحسن تشييد وحسن وبناء
فليهن هانيهم يد بيضاء ما ... أن مثلها لك من يد بيضاء
حليت أبياتا لهم لخمية ... بحلا علاً مضرية غراء
فليشمخوا أنفا بما أوليتهم ... يا محرز الآلاء بالإيلاء
هذا، بنى، وصل الله لك ولي بك علو المقدار، وأجرى وفق أو فوق إرادتك أو إرادتي لك جاريات الأقدار، ما سمح به الذهن الكليل واللسان الفليل في مراجعة قصيدتك الغراء، الجالية للسراء، الآخذة بمجامع القلوب، الآتية بجوامع المطلوب، الحسنة المهيع والأسلوب، المتحلية بالحلى الحسنية، العريقة المنتسب في العلى الحسنية، الجالية صدا قلوب ران عليها الكسل، وخانها المسعدان، السؤل والأمل، فمتى حامت المعاني حولها، ولو أقامت حولها، شكت ويلها وعولها، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها، وعهدى بها، والزمان زمان، وأحكامه الماضية أماني مقضية وأمان، تتوارد آلافها، ويجمع إجماعها وخلافها، ويساعدها من الألفاظ كل سهل ممتع، مفترق مجمع، مستأنس غريب، بعيد الغور قريب، فاضح الحلا، واضح العلا، وضاح الغرة والجبين، رافع عمود الصبح المبين، أيد من الفصاحة بإياد، فلم يحفل بصاحبي طي وإياد، وكسى بضاعة البلاغة، فلم يعباً بهمام وابن المراغة. شفاء المحزون، وعلم السر الخزون، مابين منثوره والموزون. والآن لا ملهج ولا مبهج ولا مرشد ولا منهج عكست القضايا فلم تنتج، فتبلد القلب الذكي، ولم يرشح القليب البكى، وعم الإفحام وغم الإحجام، وتمكن الإكداء والإجبال، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وعلت سآمة، وغلبت ندامة، وارتفعت ملامة، وقامت لنوعي الأدب قيامة. حتى إذا ورد ذلك المهرق، وفرع غصنه المورق، تغنى به الحمام الأورق، وأحاط بعداد عداته الغصص والشرق، وأمن من الغصب والسرق، وأقبل الأمن، وذهب بإقباله الفرق، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وتراءت للأدب صور، وعمرت للبلاغة كور، وهمت لليراعة درر، ونظمت للبراعة درر، وعندها يتبين أنك واحد حلبة البيان، والسابق في ذلك الميدان، يوم الرهان، فكان لك القدم، وأقر لك مع التأخر السابق الأقدم، فو حق نصاعة ألفاظ أجدتها، حين أوردتها، وأسلتها حين أرسلتها، وأزنتها حين وزنتها، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها، وأرويتها حين روأتها وأرويتها، وأصلتها حين فصلتها ووصلتها، ونظام جعلته لجسد البيان قلباُ، والمعصمة قلماً، وهصرت حدايقه غلباً، وارتكبت روية صعباً، ونثاراً أتبعته له خديماً، وصيرته لمدير كأسه نديماً، ولحفظ ذمامه المدامى، أو مدامه الذمامي مديماً، لقد فتنتني حين أتتني، وسبتني حين نصبتني، فذهبت خفتها بوقارى، ولم يرعها بعد شيب عذارى، بل دعت للتصابى فقلت مرحباً، وحللت لفتنتها الحبا، ولم أحفل بشيب، وألفيت مارد نصابي نصيب، وإن كنا فرسى رهان، وسابقي حلبة ميدان، غير أن الجلدة بيضاء، والمرجو الإغضاء، بل الإرضاء. بنى كيف رأيت للبيان هذا الطوع، والخروج فيه من نوع إلى نوع. أين صفوان بن إدريس، ومحل دعواه بين رحلة وتعريس، كم بين ثغاء بقر هذا الفلا، وبين زئير ليث العريس، كما أني أقطع علماً، وأعلم قطعاً، وأحكم مضاء، وأمضي حكماً، أنه لو نظر إلى قصيدتك الرائقة، وفريدتك الحالية الفايقة، المعارضة بها قصيدته، المتسخة بها فريدته، لذهب عرضاً وطولاً، ثم اعتقد لك اليد الطولى، وأقر بارتفاع النزاع، وذهبت له تلك العلالات والأطماع، ونسى كلمته اللؤلؤية، ورجع عن دعواه الأدبية، واستغفر الله ربه من تلك الإلهية. بنى وهذا من ذلك، من الجرى في تلك المسالك، والتبسط في تلك المآخذ والمتارك، أينزع غيرى هذا المنزع، أم المرء بشعره وابنه مولع. حياً الله الأدب وبنيه، وأعاد علينا من أيامه وسنيه، ما أعلى منازعه، وأكبا منازعه، وأجل مآخذه، وأجهل تاركه، وأعلم آخذه، وأرق طباعه، وأحق أشياعه وأتباعه، وأبعد طريقه، وأسعد فريقه، وأقوم نهجه، وأوثق نسجه، وأسمح الفاظه، وأفصح عكاظه، وأصدق معانيه وألفاظه، وأحمد نظامع ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره. فعايبه مطرود، وعاتبه مصفود، وجاهله محصود، وعالمه محسود. غير أن الإحسان فيه قليل، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل، من ظفر بهما وصل، وعلى الغاية القصوى منهما حصل، ومن نكب عن الطريق، لم يعد من ذلك الفريق، فليهنك أيها الإبن الذكى، البر الزكى، الحبيب الحفى، الصفى الوفى، أنك حامل رايته، وواصل غايته، ليس أولوه وآخروه لذلك بمنكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين. ولولا أن يطول الكتاب، وينحرف الشعراء والكتاب، لفاضت ينابيع هذا الفصل فيضاً، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضاً، قرت عيون
أودايك، وملئت غيظاً صدور أعدايك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعال. والسلام الأتم الأكمل الأعم يخصك به، من طال في مدحه أرقالك وأغذاذك، وراد روض حمده طلك ورذاذك وغدت مصالح سعيه في سعى مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته، وفضله ومنته معاذك ووسمت نفسك بتلميذه، فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هاني ورحمة الله وبركاته.دايك، وملئت غيظاً صدور أعدايك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعال. والسلام الأتم الأكمل الأعم يخصك به، من طال في مدحه أرقالك وأغذاذك، وراد روض حمده طلك ورذاذك وغدت مصالح سعيه في سعى مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته، وفضله ومنته معاذك ووسمت نفسك بتلميذه، فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هاني ورحمة الله وبركاته.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مع الوفد من أهل بلده عند تصيرها إلى الإيالة النصرية، حسبما ثبت في موضعه.
توفي بجبل الفتح، والعدو يحاصره، أصابه حجر المنجنيق في رأسه، فذهب به، تقبل الله شهادته ونفعه، في أواخر ذي قعدة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية.
وممن رثاه قاضي الجماعة شيخنا القاضي أبو القاسم الحسنى، وهي القصيدة التي أولها:
شقى الله بالخضراء أشلاء سؤدد ... تضمنهن الترب صوب الغمايم
وقد ثبت في بجهد المقل في اسم الذكور فلينظر هنالك.
وممن رثاه شيهنا القاضي أبو بكر بن شبرين رحمه الله بقوله:
قد كان ما قال اليزيد ... فاصبر فحزنك لايفيد
أودى ابن هاني الرضا ... فاعتادني للشكل عبد
بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد
قد كان زيناً للوجود ... ففيه قد فجع الوجود
العلم والتحقيق والتوفيق والحسب التليد
تندى خلايقه فقل ... فيهاهي الروض المجرد
مغض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنرد
أودى شهيداً باذلاً ... مجهوده فعم الشهيد
لم أنسه حين المعا ... رف باسمه فينا تشيد
وله صبوب في طلا ... ب العلم يتلوه صعود
لله وقت كان ينظمنا كما نظم الفريد
أيام نغدو أو نرو ... ح وسعينا السعى الحميد
وإذا المشيخة جثم ... هضبات حلم لا تبيد
ومرادنا جم النبا ... ت وعيشنا خضر البرود
لهفى على الإخوان والأتراب كلهم فقيد
لو جيت أو طاني لأنكرني التهايم والنجود
ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد
ولطفت ما بين اللحو ... د وقد تكاثرت اللحود
سرعان ما عاث الحما ... م ونحن أيقاظ هجود
كم رمت إعمال المسير فقيدت عزمي قيود
والان أخلفت الوعو ... د وأخلقت تلك البرود
ما للفتى مايبتغير ... والله يفعل مايريد
أعلى القديم الملك يا ... ويلاد يعترض العبيد
يابين قد طال المدى ... أرعد وأبرق يا يزيد
ولك شيء عاية ... ولربما أن الحديد
إيه أبا عبد الآله ودوننا مرمى بعيد
أين الرسايل منك تأ ... تينا كما نظم المقود
أين الرسوم الصالحا ... ت تصرمت أين العهود
أنعم مساء لا تخطتك البشاير والسعود
وأقدم على دار الرضا ... حيث الإقامة والخلود
والق الأحبسة حيث دا ... ر الملك والقصر المشيد
حتى الشهادة لم تفتك فنجمك النجم السعيد
لا تبعدن وعد لو أن الميت في الدنيا يعود
ولين بليت فإن ذكرك في الدنا غض جديد
تالله لا تنساك أندبة العلى ما اخضر عود وإذا تسومح في الحقو - ق فحقك الحق الأكيد جادت صداك عمامة يروى بها ذاك الصعيد وتهدتك من المهيمن رحمة أبداً وجود
الصدفىمحمد بن يحيى العبدري من أهل فاس. يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالصدفى
حاله
قال الأستاذ في صلته: إمام في العربية، ذاكر للغات والآداب، متكلم، أصولى مفيد، متفنن، حافظ، ماهر، عالم، زاهد، ورع، فاضل. أخذ علم العربية والآداب عن النحوى أبي الحسن بن خروف، وعن النحوى الأديب الضابط أبي ذر الخشنى، وأكثر عنهما، وأكمل الكتاب على ابن خروف، تفقهاً وتقييدً وضبطاً. وكان حسن الإقراء، جيد العبارة، متين المعارف والدين، شديد الورع، متواضعاً جليلاً، عالماً عاملا، من أجل من لقيته، وأجمعهم لفتون المعارف، وضروب الأعمال، وكان الحفظ أغلب عليه، وكان سريع القلم إذا كتب أو قيد، وسمعته يقول، ما سمعت شيئاً من أحد من أشياخى، من نكت العلم، وتفسير مشكلٍ، ومايرجع إلى ذلك، إلا وقيدته، ولا قيدت بخطى شيئاً إلا حفظته، ولا حفظت شيئاً فنسيته. هذا ما سمعت منه.
مشيختهأخذ العربية عن الأستاذ أبي الحسن بن خروف، وعن النحوى الأديب الضابط أبي ذر الخشنى. وأكثر عنه، وأخذ معهما عن أبي محمد بن زيدان، ولازم ثلاثتهم، وسمع وقرأ على القيه الصالح أبي محمد صالح وأخذ عن غير من ذكر.
دخوله غرناطةقال، دخل الأندلس مراراً بيسير بضاعة كانت لديه يتجر فيها، ودخل إشبيلية. وتردد آخر عمره إلى غرناطة ومالقة إلى حين وفاته.
توفي برحمه الله شهيداً بمرسى جبل الفتح. دخل عليهم العدو فيه.
فقاتل حتى قتل، وذلك سنة أحد وخمسين وستماية. سمعته يتوسل إلى الله، ويسأله الشهادة.
المحدثون والفقهاء والطلبة النجباء وأولاد الأصليون
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبيرمن أهل غرناطة، ولد الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، يكنى أبا عمرو
حالههذا الشيخ سكيت حلبة، ولد أبيه في علو النباهة، إلا أنه لوذعى فكه، حسن الحديث، رافض للتصنع، ركض طرف الشبيبة في ميدان الراحة، منكباً عن سنن أبيه وقومه، مع شغوف إدراك، وجودة حفظ، كانا يطمعان والده في نجابته، فلم يعدم قادحاً. ورحل إلى العدوة، وشرق ونال حظوة، وجرت عليه خطوب. ثم عاد إلى الأندلس على معروف رسمه يتكور بها، وهو الآن قد نال منه الكبر. يزجى الوقت بمانقة، متعللاً بوقف من بعض الخدم المخزنية، لطف الله به.
مشيختهاستجاز له والده الطم والرم، من أهل المغرب والمشرق، ووقف عليه منهم في الصغر وقفاً لم يغتبط به عمره، وأدكره الآن بعد أمةٍ، عندما نقر عنه لديه، فأثرت به يده من علو رواية، وتوفر سبب مبرة، وداعيةٍ إلى إقالة عثرة، وستر هيبة شيبةٍ. فمن ذلك الشيخ الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد المشدالي، إجازة ثم لقاء وسماعاً، والشيخ الخطيب الراوية أبو عبد الله بن غريون. وأجازه الأستاذ أبو إسحق الغافقى، وأبو القاسم بن الشاط، والشريف أبو العباس أحمد الحسنى، والأستاذ الإمام أبو الحسين عبد الله بن أبي الربيع القرشى نزيل سبتة. ومحمد ابن صالح بن أحمد بن محمد الكتاني الشاطبي ببجاية، والإمام أبو اليمن ابن عساكر بالمسجد الحرام، وابن دقيق العيد وغيرهم. ومن أهل الأندلس أبو محمد بن السداد، وأبو جعفر بن الزيات، وأبو عبد الله بن الكماد، وأبو عبد الله بن ربيع الأشعري، وأبو عبد الله بن برطال، وأبو محمد عبد المنعم بن سماك، والعدل أبو الحسن بن مستقور. وأجازه من أهل المشرق والمغرب، عالم كبير.
شعرهوبضاعته فيه مزجاة، فمن ذلك ماخاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة عن السلطان:
نوإلى الشكر للرحمن فرضاً ... علم نعم كست طولاً وعرضاً
وكم لله من لطيف خفي لنا ... منه الذي يشاء...وأمضا
بمقدمك السعيد أتت سعود ... تنال بها نعيم الدهر محضاً
فيا بشرى لأندلسٍ بما قد ... به والاك بارينا وأرضا
ويا لله من سفر سعيد قد ... قد أقرضت المهيمن فيه قرضاً
نهضت بنيةٍ أخلصت فيها ... فأتت بكل ما يبغى ويرضا
وثبت لنصرة الإسلام لما ... علمت بأن الأمر إليك أفضا
لقد أحييت بالتقوى رسوماً ... كما أرضيت بالتمهيد أرضا
وقمت بسنة المختار فينا ... تمهد سنة وتقيم فرضا
ورضت من العلوم الصعب حتى ... جنيت ثمارها رطباً وغضا
فرأيك ناحج فيما تراه ... وعزمك من مواضى الهند أمضا
تدبر أمر مولانا فيلقى المسيء لديك إشفاقاً وإغضا
فأعقبنا شفاً وانبساطاً ... وقد كانت قلوب الناس مرضا
ومن أضحى على ظمإ وأمسى ... يرد إن شاء من نعماك خوضا
أبا عبد الآله إليك أشكو ... حين ناب الفقر عضا
ومن نعماك استجدى لباساً ... يفيض به على الجاه فيضا
بقيت مؤملاً ترجى وتخشى ... ومثلك من إذا ما جاد أرضا
توفي في التاسع لمحرم من عام خمسة وستين وسبعماية.
القليعىمحمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني من أهل غرناطة، يكنى أبا أبكر، ويعرف بالقليعى.
أوليته: قد جرى من ذكره، وذكر بيته في الطبقات ما فيه كفاية
حالهكان نبيه البيت، رفيع القدر، عالي الصيت. من أهل العلم والفضل والحسب والدين، وأجمع على استقضائه أهل بلده بعد أبي محمد بن سمحون سنة ثمان وخمسماية.
توفي بغرناطة، أوايل صفر عشرة وخمسماية. ودفن في روضة أبيه ذكره ابن الصيرفي وأطنب.
ابن قطبةمحمد بن أحمد بن محمد الدوسى من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن قطبة.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله شيخ الفقهاء والموثقين، صدر أرباب الشورى، نسيج وحده في الفضل، والتخلق والعدالة، طرفاً في الخير، مجباً إلى الكافة، مجبولاً على المشاركة، مطبوعاً على الفضيلة، كهفاً للغرباء والقادمين، مألفاً للمتعلمين، ثمالاً للأسرى والعانين، تخلص منهم على يديه أمم، لقصد الناس إياه بالصدقة، مقصوداً في الشفاعات، معتمداً بالأمانات، لا يسدل دونه ستر، ولا تحجب عنه حرمة، فقيها حافظاً، إخبارياً محدثاً ممتعا، متقدماً في صناعة التوثيق، حسن المشاركة في غيرها، كثير الحض على الصدقة في المحول والأزمات، يقوم في ذلك مقامات حميدة، ينفع الله بها الضعفاء، وينقاد الناس لموعظته، ويؤثر في القلوب بصدقه. فقد بفقدانه رسم من رسوم البر والصدقة.
مشيختهقرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، والخطيب ولي الله أبى الحسن ابن فضيلة، وروى عن الشيه الوزير المسن المحدث أبي محمد عبد المنعم ابن سماك، وأبي القاسم بن السكوت المالقى، والخطيب أبي عبد الله ابن رشيد. والقاضي أبي يحيى بن مسعود، والعدل أبي علي البجلى، وأبي محمد عبد المؤمن الخولاني. وأجازه جماعة من أهل المشرق والمغرب، وناب عن بعض القضاة بغرناطة. ولد عام تسعة وستين وستماية، وتوفي في الثالث لربيع الأول من عام ثمانية وثلاثين وسبعماية. وكانت جنازته مشهودة.
ابن السراجمحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أحمد بن محمد ابن يوسف بن روبيل الأنصاري من أهل غرناطة، ويكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن السراج. طليطلى الأصل، طبيب الدار السلطانية.
حالهمن العايد: كان رحمه الله من أهل التفنن والمعرفة، متناهي الأبهة والحظة، جميل الصورة، مليح المجالسة، كثير الدعابة والمؤانسة، ذاكراً للأخبار والطرف، صاحب حظ من العربية والأدب والتفسير، قارضاً للشعر، حسن الخط، ظريف الوراقة، طرفاً في المعرفة بالعشب، وتمييز أعيان النبات، سنياً، محافظاً، محبا في الصالحين، ملازماً لهم، معنياً بأخبارهم، متلمذاً لهم. انحاش إلى الولىأبي عبد الله التونسي، وانقطع إليه مدة حياته، ودون أحواله وكراماته. وعين ريع ما يستفيده في الطب صدقة على يديه، أجرى ذلك بعد موته لبنيه. ونال حظاً عريضاً من جاه السلطان، فاطرح حظ نفسه مع المساكين والمحتاجين، فكان على باوه على أهل الدنيا، يوثر ذوي الحاجة، ويخف إلى زيارتهم، ويرفدهم، ويعينهم على معالجة عللهم.
مشيختهقرأ الطب على الشيخ الطبيب. نسج وحده أبي جعفر الكزنى، رييس الصناعة في وقته، ولقى فيه الأستاذ إمام التعاليم إمام التعاليم والمعارف، أبا عبد الله الرقوطى المرسى وغيره. وقرأ القرآن على المقرى الشهير أبي جعفر الطباع بالروايات السبع، والعربية على الأستاذ أبي الحسن بن الصايغ الإشبيلي، وأكثر القراءة على شيخ الجماعة العلامة أبي جعفر بن الزبير.
تواليفه: ألف كتباً كثيرة، منها في النبات والرؤيا. ومنها كتا سماه، السر المذاع في تفضيل غرناطة على كثير من البقاع.
شعرهمن ذلك قوله ملغزاً في المطر:
وما زاير مهما أتى ابتهجت به ... نفوس وعم الخلق جوداً وإحساناص
يقيم فيشكو الخلق منه مقامه ... ويكربهم طرا إذا عنهم بانا
يسر إذا وافى ويكرب إن نأى ... ويكره منه الوصل إن زار أحياناً
وأعجب شيء هجر حب مواصل ... به حين يطل هواه إن لم يطل خانا
محنتهذكر أنه لما توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر فجأة، وهو يصلى المغرب، وباكر الطبيب بابه غداة ليلة موته. سأل عن الطعام القريب عهد موته بتناوله، فأخبر أنه تناول كعكاً وصلته من ولي عهده، فقال كلاماً أوجب نكبته، فامتحن بالسجن الطويل، والتمست الأسباب الموصلة إلى هلاكه، ثم أجلى إلى العدوة. ثم دالت الأيام، فعاد إلى وطنه مستآنفاً ما عهده من البر وفقده من التجلة.
ميلاده: بغرناطة عام أربعة وخمسين وستماية.
وفاته: ليلة الخميس التاسع من شهر ربيع الأول من عام ثلاثين وسبعماية.
ابن أبي زمنين المرىمحمد بن ابراهيم بن عبد الله بن أبي زمنين المرى يكنى أبا عبد الله، وبيته معلوم حاله: كان من أهل المعرفة والنبل والذكاء
مشيختهقرأ القرآن على أبي بكر بن النفيس، وأبي عبد الله بن شهيد المرى المقرى بطخشارش من غرناطة. ودرس الفقه عند المشاور أبي عبد الله بن مالك المقرى، وأبي الحسن علي بن عمر بن أضحى، وعلى غيرهما من شيوخ غرناطة.
توفي سنة أربعين وخمسماية.
قلت، وإنما ذكرت هذا المترجم به مع كوني اشترطت صدر خطبته، ألا أذكر هذا النمط لمكان مصاهرتي في هذا البيت. ولعل حافد هذا المترجم به من ولدي، يطلع على تعدادهم وذكرهم في هذا التاليف وتردادهم، فيكون ذلك محرضاً له على النجابة. محرضاً للإجابة، جعلنا الله ممن انتمى للعلم وأهله، واقتفى من سننه واضح سبله.
ابن جابرمحمد بن جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم بن حسان القيس الوادآشى الأصل والمعرفة، التونسى الاستيطان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر
حالهمن عايد الصلة: نشأ بتونس، وجال في البلاد المشرقية والمغربية، واستكثر من الرواية ونقب عن المشايخ، وقيد الكثير، حتى أصبح جماعة المغرب، وراوية الوقت. ثم قدم الأندلس ظريف النزعة، عظيم الوقار، قويم السمت، يأوى في فضل التعيش إلى فضل ما كان بيده، يصرفه في مصارف التجارة. وقعد للإسماع والرواية، وانتقل إلى بلش، فقرأ بها القرآن العظيم والروايات السبع، على الخطيب أبي جعفر بن الزيات. ثم رحل إلى المغرب، ثم أعاد الرحلة الحجازية، وأعرق، فلقى أمة من العلماء والمحدثين، وأصبح بهم شيخ وحده، انفساح رواية، وعلو إسناد.
مشيختهمن شيوخه قاضي الجماعة بتونس أبو العباس بن الغماز الخزرجى البلنس، وقاضي الجماعة بها أبو إسحق بن عبد الرفيع، وقاضي قضاة الديار المصرية بدر الدين بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن صخر الكناني. وقاضي الجماعة ببجاية، أبو العباس الغبريني، وسراج الدين أبو جعفر عمر بن الخضر بن طاهر بن طراد بن إبراهيم ابن محمد ابن منصور الأصبحى، وأبو محمد عبد الغفار بن محمد السعدي المصرى. ورضى الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الخليلي الجعفري.
وشرف الدين أبو عبد الله بن الحسن بن عبد الله ابن الحافظ عبد الغني ابن عبد الواحد بن سرور المقدسي. وأبو الفضل أبو القاسم بن حمادين أبي بكر بن عبد الواحد الحضرمي اللبيد. وعبد الله بن يوسف بن موسى الخلاسي. وعبد الله بن محمد بن هرون، وإبراهيم بن محمد بن أحمد أبن محمد بن عبد الله بن الحاج التجيبي، وأحمد بن يوسف بن يعقوب ابن علي الفهرى اللبلى، وولده جابر بن محمد بن قاسم معين الدين، وعز الدين أبو القاسم بن محمد بن الخطيب، وجمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن الصفار، وأبو بكر بن عبد الكريم بن صدقة العزفى، ومحمد بن إبراهيم بن أحمد التجيبي، وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن عقاب الجذامى الشاطبى، وعبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله الأنصاري الأسدي القيرواني، وأبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتورى، وعلي بن محمد بن أبي القاسم ابن رزين التجيبي، وأحمد بن موسى بن عيسى البطرني، وغر القضاة فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير، وتقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق المصري، وصدر النحاة أبو حيان، وظهير الدين أبو محمد بن عبد الخالق المخزومي المقدسي الدلاصى، ورضى الدين بن إبراهيم بن أبي بكر الطبري، والمعمر بهاء الدين أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود بن هبة الله بن عساكر الدمشقي.
وأما من كتب إليه فنحو ماية وثمانين من أهل المشرق والمغرب.
قدم غرناطة في أول عام ستة وعشرين وسبعماية، فهو باعتبار أصله أصلى، وباعتبار قدومه طارئ وغريب.
تواليفهله تواليف حديثية جملة، منها أربعون حديثاً، أغرب فيها بما دل على سعة خطوه وانفساح رحله.
وفاته كان حيا سنة أربعين وسبعماية، وبلغى أنه توفي عام سبعة بعدها.
محمد بن خلف بن موسى الأنصاري
الأوسي
من أهل إلبيرة، يكنى أبا عبد الله.حالهكان متكلماً، واقفاً على مذاهب المتكلمين، متحققاً برأي الأشعرية، ذاكراً لكتب الأصول والاعتقادات، مشاركاً في الأدب، مقدماً في الطب.
مشيختهروى عن أبي جعفر بن محمد بن حكم بن باق، وأبي جعفر بن خلف ابن الهيثم، وأبوى الحسن بن خلف العنسى، وابن محمد بن عبد العزيز ابن أحمد بن حمدين، وأبوى عبد الله بن عبد العزيز المورى، وابن فرج مولى الطلاع، وأبي العباس بن محمد الجذامي، وأبي علي الغساني، وأبي عمرو زياد بن الصفار، وأبي القاسم أحمد بن عمر. وأخذ علم الكلام عن أبي بكر بن الحسن المرادي، وأبي جعفر بن محمد بن باق، وأبي الحجاج ابن موسى الكلبي. وتأدب في بعض مسائل النحو بأبي القاسم بن خلف ابن يوسف بن فرتون بن الأبرش.
من روى عنه: روى عنه أبو إسحق بن قورقول، وأبو خالد المرواني، وأبو زيد بن نزار، وأبو عبد الله بن الصيقل المرسى، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن سمعان، وأبو الوليد بن خبرة.
تواليفهمن تواليفه: النكت والأمالي في الرد على الغزالي، والإيضاح والبيان في الكلام على القرآن، والوصول إلى معرفة الله ونبوة الرسول ورسالة الاقتصار على مذاهب الأيمة الأخيار، ورسالة البيان في حقيقة الإيمان، والرد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء الواقعة له في الجزء الأول من مقدماته، وشرح مشكل ما وقع في الموطإ وصحيح البخاري، وقد كان شرع في تصنيفه عام ثماينية عشر وستماية في شوال منه، وبلغ في الكلام فيه إلى النكتة الرابعة والخمسين، وقطعت به قواطع المرض، وشرع في معالجة العين لرؤيا رىها، يقال له ألفت في نور البصيرة، فألف في نور البصر تنفع وتنتفع، فأقبل على تأليفه في مداواة العين، وهو كتاب جم الإفادة، ثم أكمل النكت.
شعرهوكان له حظ من قرض الشعر، فمن ذلك مامدح به إمام الحرمين أبا المعالي الجوينى:
حب حبر يكنى أبا المعالي ... هو ديني ففيه لاتعذلوني
أناوالله مغرم في هواه ... عللوني بذكره عللوني
مولده: ولد يوم الثلاثاء لإثنى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وخمسماية.
الشريشىمحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الخولاني غرناطى يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشريشى
حاله
من أهل التصاون والحشمة والوقار، معرق في بيت الخيرية والعفة، وكان والده صاحبنا رحمه الله، آية في الدؤوب والصبر على انتساخ الدواوين العلمية والأجزاء، بحيث لامظنة معرفة أو حجرة طلب تخلو عن شيء من خطه إلا مايقل، على سكون وعدالة وانقباض وصبر وقناعة.
وأكتب للصبيان في بعض أطواره. ونشأ ابنه المذكور، ظاهر النبل والخصوصية مشاركاً في فنون، من عربية وأدب وحساب وفريضة، وتصر في الشهادة المخزنية برهة، ثم نزع عنها انقياداص لداعي النزاهة، وهو الآن بحاله الموصوفة.
شعرهوشعره من نمط الإجادة، فمن ذلك قوله:
بي شادن أهيف مهمى انثنى ... يحكى تثنيه القضيب الرطيب
ذو غرة كالبدر قد أطلعت ... فوق قضيب نابت في كثيب
خضت حشا الظلماء من حبه ... أختلس الوصل حذار الرقيب
فبت وللوصل لنا ثالث ... يضمنا ثوب عفاف قشيب
حتى إذا ما الليل ولى وقد ... مالت نجوم الأفق نحو الغروب
ودعته والقلب ذو لوعة ... أسيل من ماء جفوني غروب
فلست أدري حين أودعته ... قلب بأضلاعي غدا أم قليب
ومن ذلك في النسيب:
يا أجمل الناس ويا من غدت ... غرته تمحو سنا الشمس
أنعم على عبدك يا مالكي ... دون اشتراء ومني نفسى
بأن ترى وسطى لعقدى وأن ... تعيد ربعى كامل الأنس
وإن تكن ترجعني خايباً ... فإنني أدرج في رمس
وقال في فضل العلم:
يا طالب العلم اجتهد إنه ... خير من التالد والطارف
فالعلم يذكو قدر إنفاقه ... والمال إذا أنفقته تالف
وتراقى إلى هذا العهد بإشارتي إلى إلى لا فوقها من تعليم ولد السلطان، والرياسة القرآنية بباب الإمارة، والإمامة بالمسجد الجامع من القلعة حميد الطريقة في ذلك كله، معروف الحق، تولاه الله.
مولده: عام ثمانية عشر وسبعماية.
محمد بن محمد بن علي بن سودة
المرى
يكنى أبا القاسمأوليتهمن نبهاء بيوتات الأندلس وأعيانها، سكن سلفه البشارة، بشارة بني حسان، وولى جده الأشغال، حميد السيرة، معروف الإدانة.
حالههذا الفتى من اهل الخصوصية والسكون والحياء، المانع عن كثير من الأغراض. مال إلى العلوم العقلية، فاستظهر على المماسة في بعض أغراضها بالدؤوب والعكوف، والمورين تأثير حبل الركية في جحرها، فتصدر للعلاج، وعانى الشعر، وأرسم في الكتابة، وعد من الفضلاء، وظهرت على عباراته اصطلاحات الحكماء، وتشوف إلى العهد للرحلة الحجازية، والله ييسر قصده.
مشيختهقرأ الطب والتعديل على الحبر طبيب الدار السلطانية، فارس ذينك الفنين، إبراهيم بن زرزار اليهودى، ورحل إلى العدوة، فقرأ على الشريف العالم الشهير، رحلة الوقت في المغرب، أبي عبد الله العلوى، وبلقيايه نجح.
شعرهأنشد السلطان قوله:
جاد الحمى صوب الغمام هتونه ... تزجى البروق سحابه فتعينه
وسقى ديار العامرية بعدما ... وافى بجرعا الكثيب معينه
يندى بأفنان الأراك كأنه ... عقد تناثر بالعقيق ثمينه
ومحى الكثيب سكوبه فكأنه ... خط تطلس ميمه أو نونه
حتى إذا الأرواح هبت بالضحا ... مسحت عليه بالجناح تبينه
وكأنه والرعد يحدو خلفه ... صب يطول إلى اللقاء حنينه
أوسح دمعي فوق أكناف اللوى ... جادت بلؤلؤة النفيس عيونه
والبرق في حلل السحاب كأنه ... مكنون سر قد أذيع مضمونه
أو ثوب ضافية الملابس كاعب ... عمدت بحاشية النضار تزينه
هن الديار برامة لا دهرها ... سلس القياد ولا العتاب يلينه
ولقد وقفت برسمها فكأنني ... من ناحل الأطلال فيه أكونه
قلبي بذاك اللوى خلفته ... ألوى بمزدلف الرفاق ظعينه
لا تسل العذال عني فالهوى ... ذا يخامر بالضلوع دفينه
إن يخف عن شرحى حديث زميرتي ... فعلى الفنون فريضة تبينيه
عجباً لدمعي لا يكف كأنما ... جدوى أبي عبد الاله هتونه
محي المكارم بعد ما أودى بها ... زمن تقلب بالكرام خؤونه
مولى الملوك عميد كل فضيلة ... علق الزمان ثمينه ومكينه
يضفى إلى داعي الندى فيهزه ... وبملتقى الجمعين طال سكونه
من ذا يسابق فضله لوجوده ... ويلج فيض البحر فاض يمينه
إن تلقه تلق الجمال وقاره ... والحلم طبع والسماحة دينه
غمر الأنام نواله ومحا الضلال رشاده وجلا الظلام جبينه
أحيا رسوم الدين وهي دوارس ... ولطالما صدع الشكوك يقينه
شمس الهدى حتف العدا محي الندا بحر الجدا طول المدى تمكينه
ليث الشرى غوث الورى قمر السرى سن القرى عم القرى تأمينه
فلبأسه يوم الوغى ولعزمه ... جاش الهزبر إذا الهزبر يخونه
لا تسل الهيجاء عنه إنه ... يصل المراد كما تحب ظنونه
لو كان يشغله المنام عن العلا ... هجر المنام وباعدته جفونه
وإذا تطاولت الملوك بماجد ... بمحمد دون الأنام يكونه
يا بن الألي نصروا الرسول ومن بهم نطق الكتاب فصيحه ومبينه
خصوا ببيعته وحاموا دونه ... نهج الرضا حتى تقاوم دينه
أمعاضد الإسلام أنت عميده ... وخليفة الرحمن أنت أمينه
لم يبق إلا من بسيفك طايع ... وألفنش في أقصى البلاد رهينه
وبجيشك المنصور لو لاقيته ... أدرى بمشتجر الرماح طعينه
ولو اصطنعت إلى العدو إدالة ... طاعت إليك بلاده وحصونه
خذها إليك قصيدة من شاعر ... حلو الكلام مهذب تبيينه
جعل القوافي للمعالي سلماً ... فجنى القريض كما اقتضته فنونه
غطى هواه عقله واقتاده ... يحصى النجوم جهالة تزيينه
ولو أخذته أيدي التحرير والنقد، لرجى أن يكون شاعراً، وبالجملة فالرجل معدود من السراة بيتاً وتخصصاً.
محمد بن عبد العزيز بن سالم بن خلف القيسيمنكبي الأصل يكنى أبا عبد الله، طبيب الدار السلطانية.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله فذا في الانطباع واللوذعية، حين المشاركة في الطب، مليح المحاضرة، حفظة، طلعة، مستحضراً للأدب، ذاكراً لصناعة الطب، أخذها عن إمام وقته، أبي جعفر الكزني، وانتصب للعلاج، ثم انتقل إلى الخدمة بصناعته بالباب السلطاني، وولى الحسبة، ومن شعره يخاطب السلطان على ألسنة أصحابنا الأطباء الذين جمعتهم الخدمة ببابه يومئذ، وهم أبو الأصبغ بن سعادة، وأبو تمام غالب الشقورى:
قد جمعنا ببابكم سطر علم ... لبلوغ المنى ونيل الإرادة
ومن أسمائنا لكن حسن فال ... غالب ثم سالم وسعادة
توفي في شهر رجب من عام سبعة عشر وسبعماية.
محمد بن عبد الله بن أبي زمنينمن أهل إلبيرة، يكنى أبا عبد الله
حالهمن الملاحى: قال ولى الأحكام، وكان فقيها نبيها.
وفاته: توفي بغرناطة في عشر الستين وأربعمائة قلت، قد تقدم اعتذاري عن إثبات مثله في هذا المختصر، فلينظر هناك إن شاء الله.
بن أبي زمنين عدنان المرىمحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بان إبراهيم بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرى
حاله
كان من كبار المحدثين والعلماء الراسخين، وأجل وقته قدراً في العلم والرواية والحفظ للرأي والتمييز للحديث، والمعرفة باختلاف العلماء، متفنناً في العلم، مضطلعاً بالأدب، قارضاً للشعر، متصرفاً في حفظ المعاني والأخبار، مع النسك والزهد، والأخذ بسنن الصالحين، والتخلق بأخلاقهم. لم يزل أمة في الخير، قانتاً لله، منيباً له، عالماً زاهدا صالحاً خيراً متقشفاً، كثير التبتل والتزلف بالخيرات، مسارعاً إلى الصالحات، دايم الصلاة والبكاء، واعظاً، مذكراً بالله، داعياً إليه، ورعاً ملبى الصدقة، معيناً على النايبة، مواسياً بجاهه وماله، ذا لسانٍ وببان، تصغى إليه الافئدة، فصيحاً، بهياً، عربياً، شريفاً، أبى النفس، عالي الهمة، طيب المجالسة، أنيس المشاهدة، ذكياً، راسخاً في كل جم من العلوم، صيرفياً جهبذاً، ما رؤى قبله ولا بعده، مثله.
مشيختهسكن قرطبة، وسمع بها من أحمد بن مطرف، ووهب بن مسرة الحجارى، وعن أبان بن عيسى بن محمد بن دنير، وعن والده عبيد الله بن عيسى.
من روى عنه: روى عنه الزاهد أبو اسحق إبراهيم بن مسعود الإلبيرى وغيره.
تواليفهألف كتاب المغرب في اختصار المدونة ثلاثين جزءاً، ليس في المختصرات مثله بإجماع، والمهذب في تفسير الموطأ، والمشتل في أصول الوثايق، وحياة القلوب، وأنس الفريد، ومنتخب الاحكام، والنصائح المنظومة، وتفسير القرآن.
مولده: في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وفاته: توفي في شهر ربيع الثاني عام ثمانية وتسعين وثلاثمائة بحاضرة إلبيرة، رحمه الله ونفع به.
محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قاسم بن مشرف بن قاسم
ابن محمد بن هاني اللخمى القايصي
يكنى أبا الحسنحالهكان وزيراً جليلاً، فقيهاً رفيعاً، جوادا، أديباً، جيد الشعر، عارفاً بصناعة النحو والعروض، واللغة والأدب والطب، من أهل الرواية والدراية
مشيختهروى عن الحافظ أبي بكر بن عطية، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الوليد بن رشد القاضي الإمام، ولا قاضي أبي محمد عبد الله بن علي بن سمجون.
شعرهمن شعره قوله:
يا حرقة البين كويت الحشا حتى ... أذبت القلب في أضلعه
أذكيت فيه النار حتى غدا ... ينساب ذاك الذوب من مدمعه
يا سؤل هذا القلب حتى متى ... يوسى برشف الريق من منبعه
فإن في الشهد شفاً للورى ... لا سيما إن يصر من مكسرعه
والله يدني منكم عاجلاً ... ويبلغ القلب إلى مطمعه.
مولده: ولد في الثالث الأخير من ليلة الجمعة لثلاث بقين لذى حجة سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
توفي في آخر جمادى الأخرى سنة ست وتسعين وخمسمائة.
محمد بن أحمد الغسانيمحمد بن عبد الرحمن بن عبد السلام بن أحمد بن يوسف ابن أحمد الغساني من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله
حالهكان محدثاً نبيلاً حاذقاً ذكياً، وله شرح جليل على كتاب الشهاب، واختصار حسن في اقتباس الأنوار للرشاطى. وكان كاتباً وافر الحظ من الأدب، يقرض شعراً لا بآس به.
من شعره في ذكر أنساب طبقات العرب:
الشعب ثم قبيلة وعمارة ... بطن وفخذ الفصيلة تابعه
فالشعب يجمع للقبائل كلها ... ثم القبيلة للعمارة جامعة
والبطن يجمعه العمار فاعلمن ... والفخذ يجمعه البطون الواسعة
والفخذ يجمع للفصايل كلها ... جاءت على نسق لها متتابعة
فخزيمة شعب وإن كنانة ... لقبيلة عنها الفصايل شاسعة
وقريشها تسمو العبارة يافتى ... وقصى بطن الأعادي قامعة
ذا ما ثم فخذ وذا عباسها ... الا الفصيلة لا تناط بسايعة
ولد بغرناطة سنة ثمان وستين وخمسماية.
وفاته: بمرسية في رمضان تسع عشرة وستماية
ابن حقل الغافقيمحمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج بن أحمد بن عبد الواحد ابن حريث بن جعفر بن سعيد بن محمد بن حقل الغافقي من ولد مروان بن حقل النازل بقرية الملاحة من قنب قيس من عمل إلبيرة، يكنى أبا القاسم ويعرف بالملاحي. وقد نقلنا عنه الكثير، وهو من المفاخر الغرناطية.
حاله
كان محدثا راوية معتنيا، أديباً، مؤرخاً، فاضلاً جليلاً. قال الأستاذ في الصلة: كان من أفضل الناس، وأحسنهم عشرة، وألينهم كلمة، وأكثرهم مروءة، وأحسنهم خلقاً وخلقاً، ما رأيت مثله، قدس الله تربته. وذكره صاحب الذيل، الأستاذ أبو عبد الله بن عبد الملك، وأطنب فيه، وذكره المحدث أبو عبد الله الطنجالي، وذكره ابن عساكر في تاريخه.
مشيختهروى عن أبيه أبي محمد، وأبي القاسم بن بشكوال، وأبي العباس بن اليتيم، وعالم كثير من غير بلده، ومن أهل بلده سوى أبيه، وعن أبي سليمان داود بن يزيد بن عبد الله السعدي القلعي، لازمه مدة، وعن أبي خالد بن رفاعة اللخمي، وأبي محمد عبد الحق بن يزيد العبدري، وأبي جعفر عبد الرحمن بن الحسن بن القصير، وأبي بكر بن طلحة ابن أحمد بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم، وأبي جعفر بن حكم الحصار، وأبي عبد الله بن عروس، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي بكر الكتندي، وأبي إسحق بن الجلا، وأبي بكر بن زمنين، وأبي القاسم بن سمجون، وأبي محمد بن عبد الصمد ابن محمد بن يعيش الغساني. وكان من المكثرين في باب الرواية، أهل الضبط والتقييد والإتقان، بارع الخط، حسن الوراقة، أديباً بارعاً ذاكراً للتاريخ والرجال، عارفاً بالأنساب، نقاداً حافظاً للأسانيد، ثقة عدلاً، مشاركاً في فنون، سياسياً. وروى عنه الأستاذ، واعتنى بالرواية عنه. وقال الأستاذ، حدثني عنه من شيوخي جماعة، منهم القاضي العدل أبو بكر بن المرابط.
تواليفهألف كتابه في تاريخ علماء إلبيرة، واحتفل فيه. وألف كتاب الشجرة في الأنساب، وكتاب الأربعين حديثاً، وكتاب فضايل القرآن، وبرنامج روايته وغير ذلك.
مولده: سنة تسع وأربعين وخمسماية.
وفاته: توفي في شعبان سنة تسع عشرة وستماية ببلده.
الشقوريمحمد بن علي بن عبد الله اللخمي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشقوري، منسوباً إلى مدينة شقورة ومنها أهله، صاحبنا طبيب دار الإمارة، حفظه الله.
حالههذا الرجل طرف في الخير والأمانة، فذ في حسن المشاركة، نقي في حب الصالحين، كثير الهوى إلى أهل التقوى، حذر من التفريط، حريص على التعلق بجناب الله. نشأ سابغ رداء العفة، كثيف جلباب الصيانة، متصدراً للعلاج زمن المراهقة، معماً، مخولاً في الصناعة بادي الوقار في سن الحشمة. ثم نظر واجتهد، فأحرز الشهرة بدينه، ويمن نقيبته، وكثرة حيطته، ولطيف علاجه، ونجح تجربته. ثم كلف بصحبة الصالحين، وخاض في السلوك، وأخذ نفسه بالارتياض والمجاهدة، حتى ظهرت عليه آثار ذلك. واستدعاه السلطان لعلاج نفسه، فاغتبط به، وشد اليد عليه، وظهر له فضله، وهو لهذا العهد ببابه، حميد السيرة، قويم الطريقة، صحيح العقد، حسن التدبير، عظيم المشاركة للناس، أشد الخلق حرصاً على سعادة من صحبه، وأكثرهم ثناء عليه، وأصرحهم نصيحة له، نبيل الأغراض، فطن المقاصد، قايم على الصنعة، مبين العبارة، معتدل في البحث والمذاكرة، متكلم في طريقة الصوفية، عديم النظير في الفضل، وكرم النفس.
شيوخهقرأ على جده للأب، وعلى الحكيم الوزير خالد بن خالد من شيوخ غرناطة، وعلى شيخنا الحكيم الفاضل أبي زكريا بن هذيل ولازمه، وانتفع به، وسلك بالشيخ الصوفي أبي مهذب عيسى الزيات ثم أخيه الصالح الفاضل أبي جعفر الزيات، والتزم طريقته، وظهرت عليه بركته.
تواليفهألف كتباً نبيلة، منها تحفة المتوسل في صنعة الطب وكتاباً سماه الجهاد الأكبر، وآخر سماه قمع اليهودي عن تعدي الحدود أحسن فيه ما شاء.
شعرهأنشدني بعد ممانعة واعتذار، إذ هذا الغرض ليس من شأنه:
سالت ركاب العز أين ركابي ... فابدي عنادا ثم رد جوابي
ركابك مع سيري يسير بسيره ... بغير حول مذ حللت جنابي
فلا تلتفت سيراً لذاتك إنما ... تسير بها سيراً لغير ذهاب
وهي متعددة.
ولد في عام سبعة وعشرين وسبعماية.
الشفرةمحمد بن علي بن فرج القربلياني يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشفرة
حاله
كان رجلاً ساذجاً، مشتغلا بصناعة الطب، عاكفا عليها عمره محققاً لكثير من أعيان النبات، كلفاً به، متعيشاً من عشبه أول أمره، وارتاد المنابت، وسرح بالجبال، ثم تصدر للعلاج، ورأس به، وحفظ الكثير من أقوال أهله، ونسخ جملة من كنانيشه على ركاكة خطه، وعالج السلطان نصر المستقر بوادي آش، وقد طرق من بها مرض وافد حمل علاجه المشاقحة لأجله، وعظم الهلاك فيمن اختص بتدبيره، فطوف القلب المبارك بمبراه. ثم رحل إلى العدوة، وأقام بمراكش سنين عدة، ثم كر إلى غرناطة في عام أحد وستين، وبها هلك على أثر وصوله.
مشيختهزعم أنه قرأ على أبيه ببلده من قربليان بلد الدجن، وأخذ الجراحة عن فوج من محسني صناعة عمل اليد من الروح. وقرأ على الطبيب عبد الله بن سراج وغيره.
تواليفه: ألف كتاباً في النبات.
وفاته: في السابع عشر لربيع الأول عام أحد وستين وسبعماية.
محمد بن علي بن يوسف بن محمد السكوني
ابن اللؤلؤةيكنى أبا عبد الله ويعرف بابن اللؤلؤة، أصله من جهة قمارش.
حالهرحل في فتايه، بعد أن شدا شيئاً من الطلب، وكلف بالرواية والتقيد فلقي مشخة، وأخذ عن جلة، وقدم على بلده حسن الحالة، مستقيم الطريقة، ظاهر الانقباض والعفة، وأدخل الأندلس فوايد وقصايد، وكان ممن ينتفع به لو أمهلته المنية.
شعرهمما نسبه إلى نفسه من الشعر قوله:
يا من عليه اعتمادي ... في قل أمري وكثره
سهل على ارتحالي ... إلى النبي وقبره
فذاك أقصى مرادي ... من الوجود بأسره
وليس ذا بعزيز ... عليك فامنن بيسره
ومن ذلك:
أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي ... أميل لزور بالغرور مصاغ
وأرتاح للذات والشيب منذر ... بما ليس عنه للأنام مراغ
ومن يمت قبل المشيب فإنه ... يراع بهول بعده ويراغ
فيا رب وفقني إلى ما يكون لي ... به للذي أرجوه منك بلاغ
توفي معتبطاً في وقيعة الطاعون عام خمسين وسبعماية، خطيباً بحصن قمارش.
ابن سودة المريمحمد بن سودة بن إبراهيم بن سودة المري أصله من بشرة غرناطة، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن بعض التواريخ المتأخرة: كان شيخاً جليلاً، كاتباً مجيداً، بارع الأدب، رايق الشعر، سيال القريحة، سريع البديهة، عارفاً بالنحو واللغة والتاريخ، ذاكراً لأيام السلف، طيب المحاضرة، مليح الشيبة، حسن الهيئة، مع الدين والفضل، والطهارة والوقار والصمت.
مشيختهقرأ بغرناطة على الحافظ أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وغيره من شيوخ غرناطة. وبمالقة، على الأستاذ أبي القاسم السهيلي وبجيان على ابن يربوع، وبإشبيلية على الحسن بن زرقون وغيره من نظرائه.
أدبهقال الغافقي، كانت بينه وبين الشيخ الفقيه واحد عصره أبي الحسن سهل بن مالك، مكاتبات ومراجعات، ظهرت فيها براعته، وشهدت له بالتقدم يراعته.
محنتهأصابه في آخر عمره نكبة ثقيلة، أسر هو وأولاده، فكانت وفاته أسفاً لما جرى عليهم نفعه الله. توفي في حدود سبعة وثلاثين وستماية.
محمد بن يزيد ين رفاعة الأموي البيريأصله من قرية طرش
حالهطلب العلم وعني بسمعه، ونسخ أكثر كتبه بخطه، وكان لغوياً شاعراً، من الفقهاء المشاورين الموثقين، وولي الصلاة بالحاضرة، وعزل وسرد الصوم عن نذر لزمه عمره.
مشيختهسمع من شيوخ إلبيرة، محمد بن فطيس، وابن عمريل، وهاشم ابن خالد، وعثمان بن جهير، وحفص بن نجيح، وبقرطبة من عبيد الله ابن يحيى بن يحيى وغيره.
من حكاياته: قال المؤرخ، من غريب ما جرى لأبي علي البغدادي، في مقدمه إلى قرطبة، أن الخليفة الحكم، أمر ابن الرما حس عامله على كورتي إلبيرة وبجانة، أن يجيء مع أبي علي في وفد من وجوه رعيته، وكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، إلى أن تجاروا يوماً وهم سايرون، أدب عبد الملك بن مروان، ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل، وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب:
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرقهن لأيدينا مناديل
وكان الذاكر للحكاية أبو علي، فأنشد الكلمة في البيت أعراقها، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفاً، وقال، مع هذا يوفد على أمير المؤمنين، وتتجشم الرحلة العظيمة، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور في الناس، لا يغلط فيه الصبيان، والله لاتبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن الرماحس، ورامه بأن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، فكتب إلى الخليفة يعرفه بابن رفاعة، ويصف ما جرى معه، فأجابه الحكم على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وفد أهل العراق، وابن رفاعة بالرضا أولى منه بالسخط، فدعه لشأنه، وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه، فسوف يعليه الاختبار أو يحطه.
توفي سنة ثلاث أو أربع وأربعمائة.
محمد بن خميس الأنصاريمحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن أبي بكر بن خميس الأنصاري من أهل الجزيرة الخضراء
حالهكان فاضلاً وقوراً، مشاركاً، خطيباً، فقيهاً، مجوداً للقرآن، قديم الطلب، شهير البيت، معروف التعين، نبيه السلف في القضاء، والخطابة والإقراء، مضى عمره خطيباً بمسجد بلده الجزيرة الخضراء، إلى أن تغلب العدو عليها، وباشر الحصار بها عشرين شهراً، نفعه الله ثم انتقل إلى مدينة سبتة، فاستقر خطيباً بها إلى حين وفاته.
مشيختهقرأ على والده رحمه الله، وعلى شيخه، وشيخ أبيه أبي عمر، وعباس ابن الطفيل الشهير بابن عظيمة، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد بغرناطة عند قدومه عليها، والقاضي أبي المجد بن أبي الأحوص قاضي بلده، وكتب له بالإجازة الوزير أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع، وأجازه الخطباء الثلاثة أبو عبد الله الطنجالي، وأبو محمد الباهلي، وأبو عثمن بن سعيد، وأخذ عن القاضي بسبتة أبي عبد الله الحضرمي، والإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث، والمحدث أبي القاسم التجيبي، والأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم، والأخوين أبي عبد الله وأبي إبراهيم ابني يربوع. قال، وكلهم لقيته وسمعت منه. وأجاز لي إجازة عامة ما عدا الإمام ابن حريث فإنه أجاز لي، والخطيب ابن عزمون وغيرهم، ممن تضمنه برنامجه.
تواليفهقال، وكان أحد بلغاء عصره، وله مصنفات منها، النفحة الأرجية، في الغزوة المرجية، ودخل غرناطة مع مثله من مشيخته بلده في البيعات، أظن ذلك.
توفي في الطاعون بسبتة أخر جمادى الآخر من عام خمسين وسبعماية.
محمد بن أحمد بن عبد الله العطارمن أهل ألمرية.
حاله من بعض التقييدات، كان فتى وسيماً، وقوراً، صيباً، متعففاً، نجيباً، ذكياً. كتب عن شيخنا أبي البركات بن الحاج، وناب عنه في القضاء، وانتقل بانتقاله إلى غرناطة، فكتب بها. وكان ينظم نظماً مترفعاً عن الوسط. وجرى ذكره في الإكليل بما نصه ممن نبغ نوجب، وخلق له البر بذاته ووجب، تحلى بوقار، وشعشع للأدب كاس عقار، إلا أنه اخترم في اقتبالن وأصيب الأجل بنبال.
من شعرهقوله من قصيدة:
دعاني على طول البعاد هواها ... وقد سد أبواب اللقا نواها
وقد شمت برقا للقا مبشراً ... وقد نفحت ريح الصبا بشذاها
وجن دجى ليل بخيل بصبحه ... كما بخلت ليلى بطيف سراها
وقاد زمان قايد الحب قاصدا ... ربوعاثوت ليلى بطول قناها
وناديت والأشواق بالوجد برحت ... ودمعي أجرى سابغً للقاها
أبا كعبة الحسن التي لنفس ترتجي ... رضاها وحاشى أن يخيب رجاها
أحبك يا ليلى على البعد والنوى ... وبي منك أشوقا تشب لظاها
لين حجبت ليلى عن العين إنني ... بعين فؤادي لا أزال أراها
إلى أن بدا الصبح المشتت شملنا ... وما بلغت نفسي المشوق مناها
فمدت يميناً للوداع ودمعها ... يكفكفه خوف الرقيب سراها
وقالت وداعاً لا وداع تفرق ... لعل الليالي أن تديل نواها
تذكرنا ليلى معاهد باللوى ... رعى الله ليلات اللوى ورعاها
توفي في الطاعون الأعظم عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن المراكشي
من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالمراكشي
حالهكان فتى جميل الرؤيا، سكوتاً، مطبوعاً على المغافصة والغمز، مهتدياً إلى خفي الحيلة، قادراً على المباحثة، ذكياً، متسوراً على الكلام في الصنايع والألقاب، من غير تدرب ولا حنكة، دمث الأخلاق، لين العريكة، انتحل الطب، وتصدر للعلاد والمداواة، واضطبن أغلوطة صارت له بها شهرة، وهي رق يشتمل على أعداد وخطوط وزايرجة، وجداول غريبة الأشكال، تحتها علامات فيها اصطلاحات الصنايع والعلوم، ويتصل بها قصيدة رويها لأم الألف أولها، وهي منسوبة لأبي العباس السبتي.
يقول سبتي ويحمد ربه ... مصل على هاد إلى الناس أرسلا
وأنها مدخل للزيرجة ذكر أنه عثر عليها في مظنة غريبة، وظفر برسالة العمل بها، وتحرى بالإعلام بالكنايات، والإخبار بالخفي وتقدمة المعرفة، والإنذار بالوقايع، حتى استهوى بذلك جماعة من المشيخة، ممن كان يركن إلى رجحان نظره، وسلامة فطرته، واستغلت الشهادة له بالإصابة، سجية النفوس في حرصها على إثبات دعاوي المتحرفين، أخبرني بعهم أنه خبأ له عظماً صغيراً، يكون في أطراف أجنحة الطير، أخذه من جناح ديك، وزعم أرباب الخواص أنه يزيل الإعياء إذا علق، فتصرف على عاداته من الدخول في تلك الجداول، وأخذ الأعداد الكثير، يضربها آونة، ويقسمها أخرى، ويستخرج من تلك الجداول جيوباً وسهاماً، ويأخذ جذوراً، وينتج له العمل آخراً حروفاً مقطعة، ببقيها الطرح، يولف منها كلاماً، تقتنص منه الفائدة، فكان في ذلك بيت شعر:
وفي يدكم عظم صغير مدور ... يزيل به الإعياء من كان في السفر
وأخبرني آخرون أنه سيل في نازلة فقهية لم يلق فيها نص، فأخبر أن النص فيها موجود بمالقة، فكان كذلك. وعارض ذلك كله جلة من أشياخنا، فذكرني الشيخ نسيج وحده، أبو الحسن بن الجياب أنه سامره يخرج خبيئته سواد ليلة، فتأمل ما يصنعه، فلم يأت بشيء، ولا ذهب إلى عمل يتعقل، وظاهر الأمر أن تلك الحال كانت مبنية على تخيل وتخمين، وتختلف فيه الإصابة وضدها، بحسب الحالة والقايل، لتصرف الحيلة فيه، فاقتضى ذلك تأميل طائفة من أهل الدول إياه، وانتسخوا نظاير من تلك الزيرجة المموهة، ممطولين منه بطريق التصرف فيها إلى اليوم، واتصل بالسلطان، فأرسم ببابه، وتعدى الإنس إلى طب الجن، فافتضح أمره، وهم به، فنجا مفلتاً. ولم تزل حاله مضطربة، إلى أن دعى من العدوة وسلطانها، منازل مدينة تلمسان، ووصلت الكتب عنه، فتوجه في جفن هيئ له، ولم ينشب أن توفي بالمحلة في أوايل عام سبعة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن بكرون بن حزب اللهمن أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن أهل الخصوصية والفضل، ظاهر الاقتصاد، كثير التخلق، حسن اللقاء، دايم الطريقة، مختصر الملبس والمأكل، على سنن الفضلاء وأخلاق الجلة. انتظم لهذا العهد في نمط من يستجاز ويجيز. وكان غفلاً فأقام رسماً محموداً، ولم يقصر عن غاية الاستعداد.
مشيختهمنهم الأستاذ مولى النعمة على أهل بلده، أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي، قرأ عليه القرآن العظيم أربعة عشر ختمة قراءة تجويد وإتقان بالأحرف السبعة، وسمع عليه كتباً كثيرة، وقال عند ذكره في بعض الاستدعاءات: ولازمته رضي الله عنه وأرضاه إلى حين وفاته، ونلت من عظيم بركاته، وخالص دعواته، ما هو عندي من أجل الوسايل، وأعظم الذخيرة، وأفضل ما أعددته لهذه الدار والدار الآخرة. وكان في صدر هذا الشيخ الفاضل كثير من علم اليقين. وهو علم يجعله الله في قلب العبد إذا أحبه، لأنه يؤول بأهله إلى احتمال المكروه، والتزام الصبر، ومجاهدة الهوى، ومحاسبة النفس، ومراعاة خواطر القلب، والمراقبة لله، والحياء من الله، وصحة المعاملة له، ودوام الإقبال عليه، وصحة النية، واستشعار الخشية. قال الله تعإلى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ، فكفى بخشية الله علماً، وبالإقبال عليه عزاً. قلت، وإنما نقلت هذا، لأن مثله لا يصدر إلا عن ذي حركة، ومضطبن بركة، ومنهم الشيخ الخطيب الفاضل ولي الله، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الطنجالي.
دخل غرناطة راوياً، وفي غير ذلك في شئونه، وهو الآن ببلده مالقة يخطب ببعض المساجد الجامعة بها على الحال الموصوفة.
محمد بن الحسن الميورقي
محمد بن الحسن بن أحمد بن يحيى الأنصاري الخزرجي الميورقي الأصل، سكن غرناطة.
حالهكان محدثاً عالي الرواية، عارفاً بالحديث وعلله، وأسماء رجاله، مشهوراً بالإتقان والضبط، ثقة فيما نقل وروى، ديناً، زكياً، متحاملاً، فاضلاً، خيراً، متقللاً من الدنيا، ظاهري المذهب داوديه، يغلب عليه الزهد والفضل.
مشيختهروى بالأندلس عن أبي بكر بن عبد الباقي بن محمد بن الحجاري، وأبي علي الصدفي الغساني، وأبي مروان الباجي، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ بمكة كرمها الله، عن أبي ثابت وأبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم العمراني. قلت وغيرهم اختصرتهم لطولهم. وقفل إلى الأندلس فحدث بغير بلده منها، لتجواله فيها.
ومن روى عنه: روى عنه أبو بكر بن رزق، وأبو جعفر بن الغاسل وغيرهم.
محنتهإمتحن من قبل علي بن يوسف بن تاشفين، فحمل إليه صحبة أبي الحكم بن يوجان، وأبي العباس بن العريف، وضرب بالسوط عن أمره، وسجنه وقتاً، ثم سرحه وعاد إلى الأندلس، وأقام بها يسيراً، ثم انصرف إلى المشرق، فتوقف بالجزاير، وتوفي بها في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وخمسماية.
المعمم الساحليمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري الساحلي يكنى أبا عبد الله، ويعرف ببلده مالقة بالمعمم
حالهكان طبقة من طبقات الكفاة، ظرفاً ورواءً وعارضةً وترتيباً، تجلل بفضل شهرة أبيه، وجعل بعض المترفين من وزراء الدول بالمغرب أيام وجهته إليه، وصحبة الشيمخ الصالح أبيه في غرض السفارة، مالاً عريضاً لينفقه في سبيل البر، فبنى المدرسة غربي المسجد الأعظم، ووقف عليها الرباع، وابتنى غيرها من المساجد، فحصلت الشهرة، ونبه الذكر، وتطور، ورام العروج في مدارج السلوك، وانقطع إلى الخلوة، فنصلت الصبغة، وغلبت الطبيعة، وتأثل له مال جم، اختلف في سبب اقتنايه، وأظهر التجر المرهف الجوانب بالجاه العريض، والحرص الشديد، والمسامحة في باب الورع، فتبنك به نعيماً من ملبس ومطعم وطيب وترفه، وطارد به اللذة ما شاء في باب النكاح استمتاعاً وذواقاً يتبع رايد الطرف، ويقلد شاهد السمع، حتى نعى عليه. وولي الخطابة بالمسجد الأعظم بعد أبيه، فأقام الرسم، وأوسع المنبر ما شاء من جهورية وعارضة، وتسور على أعراض، وألفاظ في أسلوب ناب عن الخشوع، عريق في نسب القحة. ثم رحل إلى المشرق مرة ثانية، وكر إلى بلده، مليح الشيبة بادي الوقار، نبيه الرتبة، فتولى الخطابة إلى وفاته.
مشيختهحسبما قيدته من خط ولده أبي الحسن، وارثه في كثير من خلاله، وأغلبها الكفاية. فمنهم والده رحمه الله. قرأ عليه وتأدب به، ودون في طريقه، حسبما يتقرر ذلك، ومنهم الأستاذ أبو محمد بن أبي السداد الباهلي، ومنهم الشيخ الراوية أبو عبد الله بن عياش، والخطيب الصالح أبو عبد الله الطنجالي، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات، والأستاذ ابن الفخار الأركشي، والقاضي أبو عمرو بن منظور، والأستاذ ابن الزبير وغيرهم، كابن رشيد، وابن خميس، وابن برطال، وابن مسعدة، وابن ربيع، وبالمشرق جماعة اختصرتهم لطولهم.
تواليفهوتسور على التأليف، بفرط كفايته، فمما ينسب إليه كتاب: التجر الربيح في شرح الجامع الصحيح قال، منه ما جرده من المبيضة. ومنه ما لم يسمح الدهر بإتمامه، وكتاب بهجة الأنوار، وكتاب الأسرار، وكتاب إرشاد السايل لنهج الوسايل، وكتاب بغية السالك في أشرف المسالك في التصوف، وكتاب أشعة الأنوار في الكشف عن ثمرات الأذكار. وكتاب النفحة القدسية، وكتاب غنية الخطيب بالاختصار والتقريب في خطب الجمع والأعياد، وكتاب غرايب النجب في رغايب الشعب، شعب الإيمان، وكتاب في مناسك الحج، وكتاب نظم سلك الجواهر في جيد المعارف الصدور والأكابر، فهرسة تحتوي على فوايد من العلم وما يتعلق بالرواية، وتسوية الشيوخ وتحرير الأسانيد.
دخوله غرناطةدخلها مرات تشذ عن الإحصاء. ولد عام ثمانية وسبعين وستماية، وتوفي بمالقة في صبيحة ليلة النصف من شعبان عام أربعة وخمسين وسبعماية.
الطنجاليمحمد بن محمد بن يوسف بن عمر الهاشمي يكنى أبا بكر، ويعرف بالطنجالي، ولد الشيخ الولي أبي عبد الله.
حاله
من ذيل تاريخ مالقة للقاضي أبي الحسن بن الحسن. قال، كان هذا العالم الفاضل ممن جمع بين الدراية والرواية، والتراث والاكتساب. وعلو الانتساب، وهو من القوم الذين وصلوا الأصالة بالصول، وطول الألسنة بالطول، وهدوا إلى الطيب من القول، أثر الشموخ يبرق من أنفه، ونسيم الرسوخ يعبق من عرفه. وزاجر الصلاح يومي بطرفه، فتخاله من خوف الله ذا لمم، وفي خلقه دمائة، وفي عرنينه شمم. ووصفه بكثير من هذا النمط.
ومن العايد: كان من أهل العلم والتفنن في المعارف والتهمم بطلبها، جمع بين الرواية والدراية الصلاح. وكانت فيه خفة، لفرط صحة وسذاجة وفضل رجولة به، بارع الخط، حسن التقييد، مهيباً جزلاً، مع ما كان عليه من التواضع، يحبه الناس ويعظمونه، خطب بالمسجد الأعظم من مالقة، وأقرأ به العلم.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي، وأبيه الولي الخطيب رحمه الله. وروى عن جده أبي جعفر، وعن الراوية الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، والراوية أبي عبد الله بن عياش، والقاضي أبي القاسم بن السكوت، وغيرهم ممن يطول ذكره، من أهل المشرق والمغرب.
وفاته: توفي بمالقة في أول صفر من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية وكان عمره نحواً من تسع وخمسين سنة.
محمد ين محمد بن ميمون الخزرجييكنى أبا عبد الله، ويعرف بلا أسلم، لكثرة صدور هذه اللفظة عنه، مرسي الأصل، وسكن غرناطة ووادي آش وألمرية.
حالهمن كتاب المؤتمن: كان دمث الأخلاق، قبل أن يحرجه شيء من مضيقات الصدور يشارك في العربية، والشعر يا لنازل عن الدرجة الوسطى، لا يخلو بعضه عن الحن. وكان تيتعيش من صناعة الطب. وجرت له شهرة بالمعرفة ترفع به بتلك الصناعة على حد شهرةٍ ترك النصيحة فيها، فكانت شهرته بالمعرفة ترفع به. وشهرته بترك النصيحة تنز له، ، فيمر بين الحالتين بشظف العيش، ومقت الكافة إياه.
قلت، كان لا أسلم، طرفاً في المعرفة بطرق العلاج، فسيح التجربة، يشارك في فنون، على حال غريبة من قلة الظرف، وجفاء الآلات، وخشن الظاهر، والإزراء بنفسه بالناس، متقدم في المعرفة بالخصوم، يقصد في ذلك. وله في الحرب والحيل حكايات، قال صاحبنا أبو الحسن ابن الحسن: كانت للحكيم لا أسلم خمر مخبأ، في كرم كان له بألمرية عثر عليها بعض الدعرة، فسرقها له. قال، فعمد إلى جرة وملأها بخمر أخرى، ودفنها بالجهة، وجعل فيها شيئاً من العقاقير المسهلات، وأشاع أن الخمر العتيقة التي كانت له لم تسرف، وإنما باقية، بموضع كذا، فعمد إليها أولئك الدعرة، وأخذوا في استعمالها، فعادت عليهم بالاستطلاق القبيح المهلك، فقصدوا الحكيم المذكور، وعرضوا عليه ما أصابهم، فقال لهم إيه، أدوا إلى ثمن الشريبة، وحينئذ أشرع لكم في الدواء، ويقع الشفا بحول الله. فجمعوا له أضعاف ما كان يساويه خمخره وعالجهم حتى شفوا بعد مشقة. وأخباره كثيرة.
وفاته: توفي عقب إقلاع الطاغية ملك برجلونة عن المرية عام تسعة وسبعماية. وخلفه ابن كان له يسمى إبراهيم، ويعرف بالحكيم، وجرى له من الشهرة ما جرى لأبيه، مرت عليه ببخت وقبول، وتوفي بعد عام خمسين وسبعماية.
الشديدمحمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري جياني الأصل مالقيه، يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشديد على بنية التصغير، وهو كثير التردد والمقام بحضرة غرناطة.
حالهمن أهل الطلب والذكاء والظرف والخصوصية، مجموع خلال من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله. بلبل دوح السبع المثاني، وماشطة عروس أبي الفرج الجوزى، وآية صقعة في بالصوت، وطيب النغمة، اقتحم لذلك دسوت الملوك وتوصل إلى صحبة الأشراف، وجر أذيال الشهرة. قرأ القرآن والعشر بين يدى السلطان، أمير المسلمين بالعدوة، ودنا منه محله، لولا إيثار مسقط رأسه. وتقرب بمثل ذلك إلى ملوك وطنه، وصلى التراويح بمسجد قصر الحمراء، غريب المنزع، عذب الفكاهة، ظريف المجالسة، قادر على الحكايات، مستور حمى الوقار، ملب داعي الانبساط، على استراجاع واستقامة، مبرور الوفادة، منوه الإنزال، قلد شهادة الديوان بمالقة، معلاً عليه في ذلك، فكان مغار جبل الأمانة، صليب العود، شامخاً، صادق النزاهة، لوحاً للألقاب، محرزاً للعمل.
وولى الحسبة بمالقة حرسها الله تعالى، فخاطبته في ذلك أداعبه، وأشير إلى قوم من أجداده، وأولى الحمل عليه بما نصه:
يا أيها المحتسب الجزل ... ومن لديه الجد والهزل
تهنيك والشكر لمولى الورى ... ولاية ليس لها عزل
كتبت أيها المحتسب، المنتمى إلى النزاهة المنتسب، وأهنيك ببلوغ تمنيك، و أحذرك من طمع نفس بالغرور تمنيك، فكأني وقد طافت بركابك الساعة، ولزم لأمرك السمع والطاعة، وارتفعت في مصانعتك الطماعة، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم، وسكوتك الريح العقيم، وبين يديك القسطاس المستقيم، ولابد من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تتعصب، وحالة كيتٍ بها الجناب الأخصب، فإن غضضت طرفك، أمنت عن الولاية صرفك، وإن ملأت ظرفك، رحلت عنها حرفك، وإن كففت فيها كفك، حفك العز فيمن حفك. فكن لقالي المجبنة قالياً، ولحوت السلة سالياً. وابد لدقيق الحوارى زهد حوارى، وازهد فيما بأيدي الناس من العوارى.
وسر في اجتناب الحلو على السبيل السوا، وارفض في الشوا دواعي الأهوا، وكن على الهراس، وصاحب فريد الرأس، شديد المراس، وثب على بايع طبيخ الأعراس، ليئاً مرهوب الافتراس، وأدب أطفال السوق في السوق، سيما من كان قبل البلوغ والسبوق، وصمم في استخراج الحقوق، والناس أصناف، فمنهم خسيس يطمع منك في إكلة، ومستعد عليك بوكزة أو ركلة. وحاسد في مطية تركب، وعطية تسكب، فاخفض للحاسد جناحك، وسدد إلى حربه رماحك، وأشبع الخسيس منهم مرقة دسمة فإنه حنق، ودس له فيها عظماً لعله يختنق، واحف رلشريرهم حفرة عميقة، فأنه العدو حقيقة، حتى إذا حصل، وعلمت أن وقت الانتصار قد وصل، فأوقع وأوجع، ولا ترجع، واولياه من حزب الشيطان ففجع، والحق أقوى، وإن تعفو أقرب للتقوى. سددك الله إلى غرض التوفيقن وأعلقنا من الحق بالسبب الوثيق، وجعل قدومك مقروناً برخص اللحم والزيت والدقيق. بمنه وفضله.
مشيختهقرأ القرآن على والده المكتب النصوح رحمه الله، وحفظ كتباً كرسالة أبي محمد بن زيد، وشهاب القضاعي، وفصيح ثعلب، وعرض الرسالة على ولي الله أبي عبد الله الطنجالي، وأجازه. ثم على ولده الخطيب أبي بكر، وقرأ عليه من القرآن، وجود بحرف نافع على شيخنا أبي البركات. وتلا على شيخنا أبي القاسم بن جزى. ثم رحل إلى المغرب، قلقى الشيخ الستاذ الأوحد في التلاوة، أبا جعفر الدراج، وأخذ عن الشريف المقرى أبي العباس الحسنى بسبتة، وأدرك أبا القاسم التجيبي، وتلا على الأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم ولازمه، واختص بالأستاذ ابن هاني السبتي، ولقى بفاس جماعة كالفقيه أبي زيد الجزولي، وخلف الله المجاصي، والشيخ أبا العباس المكناسي، والشيخ البقية أبا عبد الله بن عبد الرازق، وقرأ على المقرى الفذ الشهير في الترنم بألحان القرآن أبي العباس الزواوي سبع ختمات، وجمع عليه السبع، والمقرى ابي العباس بن حزب الله، واختص بالشيخ الرييس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي.
شعرهمن شعره ما كتب به إلى وزير الدولة المغربية في غرض الاستلطاف:
يا من به أبدا عرفت ومن أنا ... لولاه لي دامت علاه وداما
لا تأخذنك في الشديد لومة ... فشخيص نشأته بفضلك قاماً
ربيته علمته أدبته ... قدمته للفرض منك إماماً
فجزاك رب الخلق خير جزاية ... عنى وبوأك الجنان مقاماً
وهو الآن بالحالة الموصوفة، مستوطناً حضرة غرناطة، وتالياً الأعشار القرآنية، بين يدي السلطان أعزه الله، مرفع الجانب، معزز الجراية بولايته أحباس المدرسة، أطروفة عصره، لولا طرش نقص الأنس به، نفعه الله.
ولد بمالقة في عاشر ربيع الأول من عام عشرة وسبعماية ومن الغرباء في هذا الاسم
التلمسانيمحمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التلمساني الأنصاري السبتي الدار، الغرناطي الاستيطان، يكنى أبا الحسين، ويعرف بالتلمساني
حاله
طرف في الخير والسلامة، معرق في بيت الصون والفضيلة، معم تخول في العدالة، قديم الطلب والاستعمال، معروف الحق، مليح البسط، حلو الفكاهة، خفيف إلى هيعة الدعابة، على سمت ووقار، غزل، لوذعي، مع استرجاع وامتساك، مترف، عريق في الحضارة، مؤثر للراحة، قليل التجلد، نافر عن الكد، متصل الاستعمال، عريض السعادة في باب الولاية، محمول على كتد المنبرة، جار على سنن شيوخ الطلبة والمقتاتين من الأرزاق المقدرة، أولي الخصوصية والضبط، من التظاهر بالجاه على الكفاية. قدم على الأندلس ثمانية عشر وسبعماية، فمهد كنف القبول والاستعمال، فولي الحسبة بغرناطة، ثم قلد تنفيذ الأرزاق، وهي الخطة الشرعية، والولاية المجدية، فاتصلت بها ولايته. وناب عني في العرض والجواب بمجلس السلطان، حميد المنأى في ذلك كله، يقوم على كتاب الله حفظاً وتجويداً، طيب النغمة، راوياً محدثاً، إخبارياً، مرتاحاً للأدب، ضارباً فيه بسهم، يقوم على كتب السيرة النبوية، فذاً في ذلك. قرأه بالمسجد الجامع للجمهور، عند لحاقه بغرناطة، معرباً عن نفسه، منبهاً على مكانه، فزعموا أن رجلاً فاضت نفسه وجداً لشجو نغمته، وحسن إلقايه. وقرأ التراويح بمسجد قصر السلطان إماماً به، واتسم بمجلسه بالسلامة والخير، فلم تؤثر عنه في أحد وقيعة، ولا بدرت له، في الحمل على أحد بنت شفه.
مشيختهمنهم الشريف أبو علي الحسن بن الشريف أبي التقا طاهر بن أبي الشريف ربيع بن علي بن أحمد بن علي بن أبي طاهر بن حسن بن موهوب بن أحمد بن محمد بن طاهر بن أبي الشرف الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن أبي طالب. ومنهم والده المترجم به، ومنهم أبوه وجده، ومنهم الأمير الصالح أبو حاتم أحمد بن الأمير أبي القاسم محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد العزفي، والمقري أبو القاسم بن الطيب، وإمام الفريضة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والأستاذ ملحق الأبناء بالآباء أبو إسحق الغافقي، والكاتب الناسك أبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري، والأستاذ المعمر أبو عبد الله بن الخضار، والخطيب المحدث أبو عبد الله ابن رشيد، والخطيب الأديب أبو عبد الله الغماري، والأستاذ أبو البركات الفضل بن أحمد القنطري، والوزير العابد أبو القاسم محمد بن محمد ابن سهل بن مالك، والولي الصالح أبو عبد اله الطنجالي، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات، والقاضي الأعدل أبو عبد الله بن برطال، والشيخ الوزير المعمر أبو عبد اله بن ربيع، والصوفي الفاضل أبو عبد الله ابن قطرال، والأستاذ الحسابي أبو إسحق البرغواطي، هؤلاء لقيهم وقرأ وسمع عليهم. وممن كتب له بالإجازة، وهم خلق كثير، كخال أبيه، الشيخ الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل، والخطيب أبي الحسن فضل ابن فضيلة، والأستاذ الخاتمة أبي جعفر بن الزبير، والعدل أبي الحسن ابن مستقور، والوزير المعمر أبي محمد بن سماك، والخطيب أبي محمد مولى الرييس أبي عثمن بن حكم، والشيخ الصالح أبي محمد الحلاسي، والقاضي أبي العباس بن الغماز، والشيخ أبي القاسم الحضرمي اللبيدي، والعدل المعمر الراوية أبي عبد الله بن هرون، والمحدث الراوية أبي الحسن القرافي، وأبي إسحق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن هبة الله بن أبي المنصور، والإمام شرف الدين أبي محمد الدمياطي، وبهاء الدين بن النحاس، وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، وضياء الدين أبي مهدي عيسى بن يحيى بن أحمد، وكتب في الإجازة له:
ولدت لعام من ثلاث وعشرة ... وست مئين هجرة لمحمد
تطوفت قدماً بالحجاز وإنني ... بمصر هو المربلي وسبتة مولد
إلى عالم كثير من أهل المشرق، يشق إحصاؤهم. قد ثبت معظمهم في اسم صاحبه أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي رحمه الله.
محنتهنالته محنة بجري الأمور الاشتغالية وتبعاتها، قال الله فيها لعثرته لغاً، فاستقل من النكبة، وعاد إلى الرتبة. ثم عفت عليه بآخرة، فهلك تحت بركها بعد مناهزة التسعين سنة، نفعه الله.
ولد عام ستة وسبعين وستماية، وتوفي في شهر محرم من أربعة وستين وسبعماية.
ابن قطرالمحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف بن قطرال الأنصاري من أهل مراكش، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن قطرال
حاله
من العايد: كان رحمه الله فاضلاً صوفياً، عارفاً، متحدثاً، فقيهاً، زاهداً، تجرد عن ثروة معروفة، واقتصر على الزهد والتخلي، وملازمة العبادة، والغروب عن الدنيا. وله نظم رايق، وخط بارع، ونثر بليغ، وكلام على طريقة القوم، رفيع الدرجة، عالي القدر. شرح قصيدة الإسراييلي، بما يشهد برسوخ قدمه، وتجول في لقاء الأكابر على حال جميلة من إيثار الصمت والانقباض والحشمة. ثم رحل إلى المشرق حاجاً صدر سنة ثلاث وسبعماية.مشيختهمن شيوخه القاضي العالم أبو عبد الله محمد بن علي، والحافظ أبو بكر بن محمد المرادي، والفقيه أبو فارس الجروي، والعلامة أبو الحسين بن أبي الربيع، والعدل أبو محمد بن عبيد الله، والحاج أبو عبد الله بن الخضار، وأبو إسحق التلمساني، وأبو عبد الله بن خميس، وأبو القاسم بن السكوت. وأبو عبد الله بن عياش. وأبو الحسن بن فضيلة، وأبو جعفر بن الزبير، وأبو القاسم بن خير الله. هؤلاء كلهم لقيهم. وأخذ عنهم. وكتب له بالإجازة جملة، كالقاضي أبي علي بن الأحوص، وأبي القاسم العزفي. وأبي جعفر الطنجالي. وصالح بن شريف، وأبي عمرو الداري. وأبي محمد بن الحجام. وأبي بكر بن حبيش، وأبي طرخان، وابن البواب، وأمين الدين بن عساكر. وقطب الدين بن القسطلاني. وغيرهم.
شعرهوأما شعره فكثير بديع. قال شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين كتبت إليه:
يا معمل السير أي إعمال ... سلم على الفاضل ابن قطرال
من أبيات راجعني عنها بأبيات منها:
زارت فأزرت بمسك دارين ... تفتن للحسن في أفانين
ومثلها في شتى محاسنها ... ليست ببدع من ابن شبرين
توفي بحرم الله عاكفاً على الخير وصالح الأعمال، معرضتاً عن زهرة الحياة الدنيا، إلى أن اتصل خبر وفاته، وفيه حكاية، عام تسعة وسبعماية ودخل غرناطة برسم لقاء الخطيب الصالح أبي الحسن بن فضيلة. وغير ذلك.
العمال في هذا الاسم وأولا الأصليون
محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحليكنى أبا يحيى.
حالهشيخ حسن الشيبة، شامل البياض، بعيد مدى الذقن، خدوع الظاهر، خلوب اللفظ، شديد الهوى إلى الصوفية، والكلف بإطراء الخيرية، سيما عند فقدان شكر الولاية، وجماح الحظوة، من بيت صون وحشمة، مبين عن نفسه في الأغراض، متقدم في معرفة الأمور العملية، خايض مع الخايضين في غمار طريق التصوف، وانتحال كيمياء السعادة، راكب متن دعوى عريضة في مقام التوحيد، تكذبها أحواله الراهنة جملة، ولا تسلم له منا نبذة، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره، وغلب سلطان الشهوة، فلم يجن من جعجاعه المبرم فيها إلا استغرق الوقت في القواطع عن الحق، والأسف على ما رزته الأيام من متاع الزور، وقنية الغرور، والمشاحة أيام الولاية، والشباب الشاهد بالشره، والحلف المتصل بياض اليوم، في ثمن الخردلة باليمين التي تجر فساد الأنكحة، والغضب الذي يقلب العين، والبذا الذي يصاحب الشين، ومغلوب عليه في ذلك، ناله بسببه ضيق واعتقال، وتفويت جدة، وإطباق روع، وقيد للعذاب، فألقيت عليه ردايي، ونفس الله عنه بسببي، محواً للسيئة بالحسنة، وتوسلاً إلى الله بترك الحظوظ، والمنة لله جل جلاله على ذلك.
شعرهخاطبني بين يدي نكبته أو خلفها بما نصه، ولم أكن أظن الشعر مما تلوكه جحفلته، ولكن الرجل من أهل الكفاية:
راجوتك بعد الله يا خير منجد ... وأكرم مأمول وأعظم مرفد
وأفضل من أملت للحادث الذي ... فقدت به صبري وما ملكت يد
وحاشى وكلا أن يخيب مأملي ... وقد علقت بابن الخطيب محمد
وما أنا إلا عبد أنعمه التي ... عهدت بها يمنى وإنجاح مقصد
وأشرف من حض الملوك على التقى ... وأبدى لهم نصحاً وصية مرشد
وساس الرعايا الآن خير سياسة ... مباركة في كل غيب ومشهد
وأعرض عن دنياه زهداً وإنها ... لمظهرة طوعاً له عن تودد
وما هو إلا الليث والغيث إن ... أتى له خايف أو جاء مغناه مجثد
وبحر علوم دره كلماته إذا ... رددت في الحفل أي تردد
صقيل مرأى الفكر رب لطايف ... محاسنها تجلى بحسن تعبد
بديع عروج النفس للملإ الذي ... تجلت به الأسرار في كل مصعد
شفيق رقيق دايم الحلم راحم ... وأي جميل للجميل معود
صفوح عن الجاني على حين قدرة ... يواصل تقوى الله في اليوم والغد
أيا سيدي يا عمدتي عند شدتي ... ويا شربي متى ظميت وموردي
حنانيك والطف بي وكن لي راحماً ... ورفقاً على شيخ ضعيف منكد
رجاك رجا الذي أنت أهله ... ووافاك يهدي الثنا المجدد
وأمك مضطراً لرحماك شاكياً ... بحال كحر الجمر حين توقد
وعندي افتقار لأنوال مواصلاً ... لأكرم مولى حاز أجراً وسيد
ترفق بأولاد صغار بكاؤهم ... يزيد لوقع الحادث المتزيد
وليس لهم إلا إليك تطلع ... إذا مسهم ضر أليم التعهد
أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق ... وجد بالرضا وانظر لشمل مبدد
وقابل أخا الكره الشديد برحمة ... وأسعف بغفران الذنوب وأبعد
ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى ... جريمة شيخ عن محلك مبعد
وإن كنت قد أذنبت إني تايب ... فعاود لي الفعل الجميل وجدد
بقيت بخير لأنوال وعزة ... وعيش هني كيف شيت وأسعد
وسخرك الرحمن للعبد إنه ... لمتن وداع للمحل المجدد
وقد ولي خططاً نبيهة، منها خطة الاشتغال على عهد الغادر المكايد للدولة، إذ كان من أولياء شيطانه وممديه في غيه، وسماسير شعوذته، فلم يزل من مسيطري ديوان الأعمال، على تهور واقتحام كبرة، وخط لا غاية وراءه في الركاكة، كما قال المعري:
تمشت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا
استحضرته يوماً بين يدي السلطان، وهو غفل لفك ما أشكل من معمياته في الأعمال عند المطالعة، فوصل بحال سيئة، ولما أعتب بسببه، ونعيت عليه هجنته، أحسن الصدر عن ذلك الورد، ونذر في نفسه، وقال حيا الله رداءة الخط، إذا كانت ذريعة إلى دخول هذا المجلس الكريم، فاستحسن ذلك، لطف الله بنا أجمعين.
توفي عام سبعة وستين وسبعماية.
ابن حامد الغافقيمحمد بن الحسن بن زيد بن أيوب بن حامد الغافقي يكنى أبا الوليد.
أوليتهأصله من طليطلة، انتقل منها جد أبيه، وسكنوا غرناطة، وعدوا في أهلها.
حالهكان أبو الوليد طالباً نبيلاً، نبيهاً، سرياً، ذكياً، ذا خط بارع، ومعرفة بالأدب والحساب، ونزع إلى العمل فكان محمود السيرة، مشكور الفعل. وولي الإشراف في غير ما موضع. قلت، وآثاره في الأملاك المنسوبة إليه، التي من جملة المستخلص السلطاني بغرناطة وغيرها، مما يدل على قدم، وتَعِمَّة أصيلة.
توفي بمدينة إشبيلية سنة ثمان وثمانين وخمسماية، وسنة دون الخمسين.
ابن حسانمحمد بن محمد بن حسان الغافقي إشبيلي الأصل، غرناطي المنشأ، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن حسان
حالهمن العايد: كان من أهل السرو والظرف والمروءة، وحسن الخلق. تولى الإشراف بغرناطة، وخطة الأشغال، فحسن الثناء عليه. وله أدب ومشاركة. حدثني بعض أشياخنا، قال، كنت على مائدة الوزير ابن الحكيم، وقد تحدث بصرف ابن حسان عن عمل كان بيده، وإذا رقعة قد انتهت إليه أحفظ منها:
لكم أياد لكم أياد ... كررتها إنها كثيرة
فإن عزمتم على انتقالي ... ريه أبغي أو الجزيرة
وإن أبيتم إلا مقامي ... فنعمة منكم كبيرة
وقال لي بعضهم، جرى بين ابن حسان هذا، وبين أحد بني علاق، وهم أعيان، كلام وملاحة فقال ابن حسان، إنما كان جدكم مولى بني أضحى، وجدبني مشرف، فاستعد عليه، ورفعه إلى الوزير ابن الحكيم فيما أظن، فلما استفهمه عن قوله، قال أعزك الله، كنت بالكتبيين، وعرض علي كتاب قديم في ظهره أبيات حفظتها وهي:
أضحى الزمان بأضحى وهو مبتسم ... لنوره في سماء المجد إشراق
فلم يزل ينتمي للمجد كل فتى ... تطيب منه مواليد وأعراق
فإن ترد شرفاً يمم مشرفه ... وإن ترد علق مجد فهو علاق
فعلم الوزير أن ذلك من نظمه، ونتيجة بديهته، فعجب من كفايته، وترضى خصمه، وصرفهما بخير. وتوفي في شهر رجب ثلاثة عشر وسبعماية.
ابن قاسم النميريمحمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم ابن عبد العزيز بن إسحق بن أحمد بن أسد بن قاسم النميري المدعو بابن الحاج يكنى أبا عمرو، وقد مر ذكر أخيه.
حالهتولي خطة الإشراف بلوشة وأندرش ومالقة. وولي النظر في مختص ألمرية، والأعشار الرومية بغرناطة. وكان له خط حسن، وجودة كاملة، وحسن خلق، ووطأة أكناف، تشهد له بجلالة قدره، ورفيع خطره. وصاهر في أعيان كالوزير أبي عبد الله بن أبي الحسن فاضل، سرى، مخلق، حسن الضريبة، متميز بخصال متعددة، من خط بديع، ونظم، ومشاركة في فنون، من طب وتعديل، وارتياض سماع، وذك التاريخ. حج وجال في البلاد. ولقي جلة، وتولى بالمغرب خططاً نبيهة علية. ثم كر إلى الأندلس عام ستين وسبعماية، فأجرى من الاستعمال على رسمه. ثم اقتضت له العناية السلطانية بإشارتي، أن يوجه في غرض الرسالة إلى تونس وصاحب مصر، لما تقدم من مرانه على تلك البلاد، وجولاته في أقطارها، وتعرفه بملوكها والجلة من أهلها، فآب بعد أعوام، مشكور التصرفات، جارياً على سنن الفضلاء، مضطلعاً بالأحوال التي أسندت إليه من ذلك. فلم يزل معتني به، مرشحاً إلى الخطط التي تطمح إليها نفس مثله، مسندا النظر في زمام العسكر الغربي إلى ولده، الذي يخلفه عند رحلته نابيا عنه، معززاً ذلك بالمرتبات والإحسان، تولاه الله وأعانه.
شعرهمدح السلطان، وأنشد له في المواليد النبوية. ورفع إلى السلطان بحضرتي هذه الأبيات:
مولاي يا خير أعلام السلاطين ... ومن له الفضل في الدنيا وفي الدين
ومن له سير ناهيك من سير ... وافت بأكرم تحسين وتحصين
شرفت عبدك تشريفاً له رتب ... فوق النجوم التي فوق الأفق تعلين
وكان لي موعد مولاي أنجزه ... وزاد في العز بعد الرتبة الدون
والله ما الشكر مني قاضياً وطرى ... ولو أتيت به حيناً على حين
ولا الثناء موف حق أنعمه ... ولو ملأت به كل الدواوين
لكن دعايي وحبي قد رضيتهما ... كفا أفعاله الغر الميامين
وعند عبدك إخلاص يواصله ... في خدمة لم يزل للخير تدنين
وسوف أنصح كل النصح مغتنما ... رضي إمام له فضل يرجين
جوزيت عني أمير المسلمين بما ... ترضاه للملك من نصر وتمكين
وأنت أكرم من ساس الأنام ... ومن عم البلاد بتسكين وتهدين
ومن كمثل أبي عبد الآله إذا أضحى ... الفخار لنا رحب الميادين
محمد بن أبي الحجاج خيرة من ... أهدى إليه مدحاً بالسعد يحظين
وجه جميل وأفعال تناسبه ... ودولة دولة المأمون تنسين
لا زال في السعد والإسعاد ما سجعت ورق الحمام على قضب البساتين
محمد بن عبد الرحمن الكاتبيكنى أبا عبد الله من أهل غرناطة، أصله من وادي آش
حالهكان طالباً نبيهاً كاتباً جليلاً، جيد الكتابة. كتب عن بعض أبناء الخليفة أبي يعقوب، واختص بالسيد أبي زيد بغرناطة، وبشرق الأندلس، وكان أثيراً عنده مكرماً. وكان رحمه الله شاعراً، مطبوعاً، ذا معرفة جيدة بالعدد والمساحة، ثم نزع عن الكتابة، واشتغل بالعمل، فراش فيه، وولي إشراف بنيات غرناطة. ثم ولي إشراف غرناطة، فكف يده، وظهرت نصيحته. ثم نقل إلى حضرة مراكش، فولى إشرافها مدة، ثم صرف عنها إلى غرناطة، وقدم على النظر في المستخلص إلى أن توفي.
مناقبه
أشهد لما قربت وفاته، أنه كان قد أخرج في صحته وجوازه، أربعة آلاف دنير من صميم ماله لتتميم القنطرة التي بنيت على وادي شنجيل بخارج غرناطة. وكان قبل ذلك قد بنى مسجد دار القضاء من ماله، وتأنق في بنائه، وأصلح مساجد عدة، وفعل خيراً، نفعه الله.
شعرهمن شعره ما كتب به إلى الشيخ أبي يحيى بن أبي عمران وزير الخلافة، وهو بحال شكاية أصابته:
شكوت فأضنى المجد برح شكاته ... وفارق وجه الشمس حسن آياته
وعادت بعديك الزمان زمانة ... تعدت إلى عواد وأساته
وغيض ما للبشر لما تبسطت ... يد للسقم في ساحات كافي كفاته
فكيف بمقصوص وصلت جناحه ... وأدهم قد سربلته بشاته
وممتحن لولاك أذعن خبرة ... وهان على الأيام غمز قناته
أمعلق آمالي ومطمح همتي ... وواهب نفسي في عداد مباته
سأستقبل النعمى ببرك غضة ... ويصغر ذنب الدهر في حسناته
وتسطو عين الحق منك بمرهف ... تراع الخطوب الجور من فتكاته
وتطلع في أفق الخلافة نيراً ... تطالعنا الأقمار من قسماته
حرام على الشكوى اعتياد مطهر ... حياة الدنا والدين طي حياته
فما عرضت في قصده بمساءة ... ولكن ترجت أن ترى في عفاته
مشيختهقال الغافقي، قرأ بمالقة على الأستاذ أبي زيد السهيلي رحمه الله.
وتوفي بغرناطة سنة سبع وستماية ودفن بداره بجهة قنطرة القاضي منها على ضفة الوادي.
محمد بن عبد الملك بن عمار بن ياسرمحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن الحسن بن عثمان ابن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر
أوليتهقد وقع التنبيه عليها ويقع بحول الله.
حالهكان وزيراً جليلاً بعيد الصيت عالي الذكر رفيع الهمة، كثير الأمل.
نباهتهذكره ابن صاحب الصلاة في تاريخه في الموحدين، فنبه على مكانة محمد بن عبد الملك منهم في الرأي والحظوة، والأخذ عنه في أمور الأندلس، وأثنى عليه. وذكره أبو زيد السهيلي في شرح السيرة الكريمة، حتى انتهى إلى حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموجه إلى هرقل، وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أذفونش، مكرماً، مفتخراً به. والقضية مشهورة. وأما محله من أمداح الشعراء، فهو الذي مدحه الأديب أبو عبد الله الرصافي بقوله:
أبداً تفيض وخاطراً متوقداً ... دعها تبت قبساً على علم الندا
وفيه يقول أبو عبد الله بن شرف من قصيدة:
يا رحمة الله للراجي ونقمته ... لكل باغ طغا عن خيرة الرسل
لم تبق منهم كفوراً دون مرقبة ... مطالعاً منك حتفاً غير منفصل
كما بزاتك لم تترك بأرضهم ... وحشا يفر ولا طيرا بلا وجل
وكان كثير الصيد، ومتردد الغارات.
مناقبه في الدينقالوا لما أنشده أبو عبد الله الرصافي في القصيدة التي مطلعها:
لمحلك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم
حلف ألا يسمعها، وقال على جايزتك، لكن طباعي لا تحتمل مثل هذا، فقال الرصافي، ومن مثلك، ومن يستحق ذلك في الوقت غيرك، فقال له، دعني من خداعك أنا وما أعلمه عن نفسي.
شعرهأنشده صاحب الطالع، ولا يذكر له غيره:
فلا تظهرن ما كان في الصدر كامناً ... ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر
ولا تبحثن في عذر من جاء تايباً ... فليس كريماً من يباحث في عذر
وولي من الأعمال للموحدين كثيراً، كمختص حضرة مراكش، ودار السلاح، وسلا، وإشبيلية، وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها.
محنته
وعمل فيه عقد بأن بداره من أصناف الحلي، ما لا يكون إلا عند الملوك، وأنه إذا ركب في صلاة الصبح، من دار الرخام التي يجري الماء فيها، في إثنى عشر مكاناً، شوش الناس في الصلاة، دوي الجلاجل بالبزاة، ومناداة الصيادين، ونباح الكلاب، فأمر المنصور بالقبض عليه، وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسين، في سنة ثلاث وسبعين وخمسماية. ثم رضي عنهما، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ له، فصرفه عليه، ولم ينقصه منه شيء، وغرم ما فات له.
ولد سنة أربع عشر وخمسماية، وتوفي بغرناطة سنة تسع وثمانين وخمسماية.
محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن الحسن
ابن عثمان العنسي
ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن عمار بن ياسر العنسي يكنى أبا بكر، وقد تقدم التعريف بأوليته.حالهقال في الطالع ساد في دولة الملثمين، وولوه بغرناطة الأعمال، وكانت له دار الرخام المشهورة بإزاء الجامع الأعظم بغرناطة. قال الغافقي فيه: شيخ جليل، فقيه نبيه من أهل قلعة يحصب. كان في عداد الفقهاء، ثم نزع إلى العمل، وولي إشراف غرناطة في إمارة أبي سعيد الميمون بن بدر اللمتوني. وقال صاحب المسهب وحسب القلعة كون هذا الفضل الكامل منها، وقد رقم برد مجده بالأدب، ونال منه بالاجتهاد والسجية القابلة، أعلى سبب، وله من المكارم ما يغير في وجه كعب وحاتم، لذلك ما قصدته الأدباء، وتهافتت في مدحه الشعراء، وفيه أقول:
وكان أبو بكر من الكفر عصمة ... ورد به الله الغواة إلى الحق
وقام بأمر الله حافظ أهله ... بلين وسبط في المبرة والخلق
وهذا أبو بكر سليل ابن ياسر ... بغرناطة ناغاه في الرأي والصدق
فهذا لنا بالغرب يجنى معالماً ... تباهى الذي أحيا الديانة بالشرق
وقد جرى من ذكره عند ذكر أبي بكر بن قزمان، ويجري عند ذكر نزهون بنت القلاعي ما فيه كفاية، إذ كان مفتوناً بها، وبحمدة وزينب بنتي زياد المؤدب من أهل وادي آش، وفيهما يقول:
ما بين زينب عمري ... أحث كأسي وحمده
وكل نظم ونثر ... وحكمة مستجده
وليس إلا عفاف ... يبلغ المرء قصده
ولذلك ما سعى به المخزومي الأعمى، وقد سها عن رسم تفقده، فكتب إلى علي بن يوسف في شأنه بما كان سبب عزله ونكبته:
إليك أمير المؤمنين نصيحة ... يجوز بها البحر المجعجع شاعر
بغرناطة وليت في الناس عاملاً ... ولكن بما تحويه منه المآزر
وأنت ما تخفي عليك خفية ... فسل أهلها فالأمر للناس ظاهر
وما لإلآه العرش تفنيه حمدة ... وزينب والكأس الذي هو داير
شعره: من ذلك قوله:
يا هذه لا ترومي ... خداع من ضاق ذرعه
تبكي وقد قتلتيني ... كالسيف يقطر دمعه
وقال عفى الله عنه:
لقد صدعت قلبي حمامة أيكة ... أثارت غراماً ما أجل وأكرما
ورق نسيم الريح من نحو أرضكم ... ولطف حتى كاد أن يتكلما
وقال في مذهب الفخر:
فخرنا بالحديث بعد القديم ... من معال توارثت كالنجوم
نحن في الحرب أجبل راسيات ... ولنا في الندى لطف النسيم
ولد في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسماية.
ومن الطارئين في هذا الاسم من العمال
محمد بن أحمد بن المتأهل العبدريمن أهل وادي آش، يكنى أبا عبد الله.
حالهكان رجلاً شديد الأدمة، أعين، كث اللحية، طرفاً في الأمانة، شديد الاسترابة بجليسه، مخيناً لرفيقه، سيئ الظن بصديقه، قليل المداخلة، كثير الانقباض، مختصر الملبس والمطعم، عظيم المحافظة على النفير والقطمير، مستوعب للحصر والتقييد، أسير محيي وعابد زمام، وجنيب أمانة، وحلس سقيفة، ورقيب مشرف، لا يقبل هوادة، ولا يلابس رشوة، كثير الالتفات، متفقداً للآلة، متمماً للعمل.
جرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بسبب شعر خامل نسب إليه بما نصه: رجل غليظ الحاشية معدود في جنس السايمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، ولي الأشغال السلطانية، فذعرت الجباة لولايته، وأيقنوا بقيام قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا جاءت الدابة تكلمنا، وهي إحدى الشروط، من رجل صايم الحسوة، بعيد عن المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخالطة لهم لا مساس، عهدي به في الأعمال يخبط ويتبر، وهو يهلل ويكبر، ويحسن ويقبح، وهو يسبح، انتهى. قلت، وولي الأشغال السلطانية، فضم النشر، وأوصد باب الحيلة، وبث أسباب الضياع، وترصد ليلاً وأصيب بجراحة أخطأته، ثم عاجلته الوفاة، فنفس عن أقتاله المخنق.
شعره: قال يخاطب بعض أثراء الدولة قبل نباهته:
عمادي ملاذي مويلي ومؤملي ... ألا انعم بما ترضاه للمتأهل
وحقق بنيل القصد منك رجاءه ... على نحو ما يرضيك يا ذا التفضل
فأنت الذي في العلم يعرف قدره ... بخير زمان منه لا زلت فيه تعتل
فهنيت يا مغنى الكمال برتبة ... تقر لكم بالسبق في كل محفل
توفي عام ثلاثة وأربعين بغرناطة أو قبل ذلك بيسير، وله خط حسن، وممارسة في الطلب، وقد توسط المعترك.
ابن عبد الواحد البلويمحمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد البلوي من أهل ألمرية، يكنى أبا بكر.
أوليتهمن كتاب المؤتمن قال، يشهر بنسبه وأصل سلفه من جهة بيرة إما من بجانة، وإما من البريج، واستوعب سبب انتقالهم.
حالهمن عايد الصلة، كان أحد الشيوخ من طبقته، وصدر الوزراء من نمطه ببلده، سراوة وسماحة، ومبرة وأدباً ولوذعية ودعابة، رافع راية الانطباع، وحايز قصب السبق في ميدان التخلق، مبذول البر، شايع المشاركة.
وقال في المؤتمن، كان رجلاً عاقلاً، عارفاً بأقوال الناس، حافظاً لمراتبهم، منزلاً لهم منازلهم، ساعياً في حوايجهم، لا يصدرون عنه إلا عن رضى بجميل مداراته. التفت إلى نفسه، فلم ينس نصيبه من الذل، ولا أغفل من كان يالفه في المنزل الخشن، واصلاً لرحمه، حاملاً لوطأة من يجفوه منهم، في ماله حظ للمساكين، وفي جاهه رفد للمضطرين، شيخاً ذكي المجالسة، تستطيب معاملته، على يقين أنه يخفى خلاف ما يظهر، من الرجال الذين يصلحون الدنيا، ولا يعلق بهم أهل الآخرة، لعروه عن النخوة والبطر، رحمه الله. تكررت له الولاية بالديوان غير ما مرة، وورد على غرناطة، وافداً ومادحاً ومعزياً.
مشيخته وما صدر منهقرأ على ابن عبد النور، وتأدب به، وتلا على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص أيام قضايه ببسطة، ونظم رجزاً في الفرايض.
شعرهقال الشيخ في المؤتمن، كانت له مشاركة في نظم الشعر الوسط، وكان شعر تلك الحلبة الآخذة عن ابن عبد النور، كأنه مصوغ من شعره شيخهم المذكور، ومحذو عليه، في ضعف المعاني، ومهنة الألفاظ. تنظر إلى شعره، وشعر عبد الله بن الصايغ، وشعر ابن شعبة، وابن رشيد، وابن عبيد، فتقول ذرية بعضها من بعض.
فمن ذلك ما نظمه في ليلة سماع واجتماع بسبب قدوم أخيه أبي الحسن من الحجاز:
إلهي أجرني إنني لك تايب ... وإني من ذنبي إليك لهارب
عصيتك جهلاً ثم جئتك نادماً ... مقراً وقد سدت علي المذاهب
مضى زمن بي في البطالة لاهياً ... شبابي قد ولى وعمري ذاهب
فخذ بيدي واقبل بفضلك توبتي ... وحقق رجائي في الذي أنا راغب
أخاف على نفسي ذنوباً جنيتها ... وحاشاك أن أشقى وأنت المحاسب
وإني لأخشى في القيامة موقفاً ... ويوماً عظيماً أنت فيه المطالب
وقد وضع الميزان بالقسط حاكما ... وجاء شهيد عند ذاك وكاتب
وطاشت عقول الخلق واشتد خوفهم وفر عن الإنسان خل وصاحب
فما ثم من يرجى سواك تفضلاً ... وإن الذي يرجو سواك لخايب
ومن ذا الذي يعطي إذا أنت لم تجد ... ومن هو ذو منع إذا أنت واهب
عبيدك يا مولاي يدعوك رغبة ... وما زلت غفاراً لمن هو تايب
دعوتك مضطراً وعفوك واسع ... فأنت المجازي لي وأنت المعاقب
فهب لي من رحماك ما قد رجوته ... وبالجود يا مولاي ترجي المواهب
توسلت بالمختار من آل هاشم ... ومن نحوه قصداً تحث الركايب
شفيع الورى يوم القيامة جاهه ... ومنقذ من في النار والحق واجب
ومما بلغ فيه أقصى مبالغ الإجادة، قوله من قصيدة هنا فيها سلطاننا أبا الحجاج بن نصر، لما وفد وهو وجملة أعيان البلاد أولها:
يهني الخلافة فتحت لك بابها ... فادخل على اسم الله يمنا غابها
منها وهو بديع، استظرف يومئذ:
يا يوسفياً باسمه وبوجهه اصعد لمنبرها وصن محرابها
في الأرض مكنك الإله كيوسف ... ولتملكن بربها أربابها
بلغت بكم آرابها من بعد ما ... قالت لذلك نسوة ما رابها
كانت تراود كفوها حتى إذا ... ظفرت بيوسف غلقت أبوابها
قلت، ما ذكره المؤلف ابن الخطيب رحمه الله، في هذا المترجم به، من أنه ينظم الشعر الوسط، ظهر خلافه، إذا أثبت له هذه المقطوعة الأخيرة. ولقد أبدع فيها وأتى بأقصى مبالغ الإجادة كما قال، وحاز بها نمطاً أعلى مما وصفه به. وأما القصيدة الأولى فلا خفاء أنها سهلة المأخذ، قريبة المنزع، بعيدة من الجزالة، ولعل ذلك كان مقصوداً من ناظمها رحمه الله.
توفي ببلده عن سن عالية في شهر ربيع الآخر عام ثمانية وثلاثين وسبعماية.
ورثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين رحمه الله بقوله:
يا عين سحي بدمع واكف سرب ... لحامل الفضل والأخلاق والأدب
بكيت إذ ذكرت الموتى على رجل ... إلى بلى من الأحياء منتسب
على الفقيه أبي بكر تضمنه رمس وأعمل سيرا ثم لم يؤب
قد كان بي منه ود طاب مشرعه ... ما كان عن رغب كلاً ولا رهب
لكن ولا على الرحمن محتسباً ... في طاعة الله لم يمذق ولم يشب
فاليوم أصبح في الأجداث مرتهنا ... ما ضرت الري أملودا من الغضب
إنا إلى الله من فقد الأحبة ما ... أشد لذعاً لقلب الثاكل الوصب
قل فيه أما تصف ركناً لمنتبذ ... روض لمنتجع أنس لمغترب
باق على العهد لا تثنيه ثانية ... عن المكارم في ورد ولا قرب
سهل الخليقة بادي البشر منبسط ... يلقى الغريب بوجه الوالد الحدب
كم غير الدهر من حال فقلبها ... وحال إخلاصه ممتدة الطنب
سامي المكانة معروف تقدمه ... وقدره في ذوي الأقدار والرتب
أكرم به من سجايا كان يحملها ... وكلها حسن تنبيك عن حسب
ما كان إلا من الناس الإلى درجوا عقلاً وحلماً وجوداً هامى السحب
أمسى ضجيع الثرى في جنب ... بلقعة لكن محامده تبقى على الحقب
ليست صبابة نفسي بعده عجباً ... وإنما صبرها من أعجب العجب
أجاب دمعي إذ نادى النعي به ... لو غير منعاه نادى الدمع لم يجب
ما أغفل المرء عما قد أريد به ... في كل يوم تناديه الردى اقترب
يا ويح نفسي الأنفاس مضت هدراً بين البطالة والتسويف واللعب
ظننت أني بالأيام ذو هزء ... غلطت بل كانت الأيام تهزأ بي
أشكو إلى الله فقرى من معاملة ... لله أنجو بها في موقف العطب
ما المال إلا من الله قوى فأفلح ... من جاء القيامة ذا مال وذا نشب
أبا بكر الأرضي نداء أخ باك ... عليك مدى الأيام مكتئب
أهلاً بقدمتك الميمون ظاهرها ... على محل الرضى والسهل والرحب
نم في الكرامة فالأسباب وافرة ... وربما نيلت الحسنى بلا سبب
لله لله والآجال قاطعة ما ... بيننا من خطابات ومن خطب
ومن فرايد آداب يحبرها ... فيودع الشهب أفلاكاً من الكتب
أما الحياة فقد مليت مدتها ... فعوض الله منها خير منقلب
لولا قواطع لي أشراكها نصبت ... لزرت قبرك لا أشكو من النصب
وقل ما شفيت نفس بزورة ... من حل البقيع ولكن جهد ذي أرب
يا نخبة ضمها ترب ولا عجب ... إن التراب قديماً مدفن النخب
كيف السبيل إلى اللقيا وقد ضربوا ... بيني وبينك ما بقي من الحجب
عليك مني سلام الله يتبعه ... حسن الثنا وما حييت من كثب
محمد بن محمد بن شعبة الغسانيمن أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله.
حالهقال شيخنا أبو البركات في الكتاب المؤتمن، من أهل ألمرية ووجوهها لا حظ له في الأدب، وبضاعته في الطلب مزجاة. قطع عمره في الأشغال المخزنية، وهو على ذلك حتى الآن. قلت هذا الرجل أحد فرسان الطريقة العملية، ماض على لين، متحرك في سكون، كاسد سوق المروءة، ضان بما يملك من جدة، منحط في هوة اللذة، غير معرج على ربع الهمة، لطيف التأني، متنزل في المعاملة، دمث الأخلاق، مليح العمل، صحيح الحساب، منجب الولد.
مشيخته: قرأ على ابن عبد النور، والقدر الذي يحس به عنه أخذه.
شعره: من شعره يخاطب أبا الحسن بن كماشة:
وافى البشير فوافى الأنس والجذل ... وأقبل السعد والتوفيق والأمل
وراقت الأرض حسناً زاهراً وسنى ... واخضرت منها الربى والسهل والجبل
ولاح وجه على بعد ذا فغدا ... له شعاع كضوء الشمس متصل
مذ غاب أظلمت الدنيا لنا بغرته ... عاد الظلام ضياء وانتفى الخبل
إيه أبا حسن أنت الرجاء لنا ... مهمى اعترت شدة أو ضاقت الحيل
وأنت كهف منيع من نحاك فقد ... نال المنى وبدا عيش له خضل
يا سيداً قد غدا في المجد ذا رتب ... مشيدة قد بنتها السادة الأول
بنو كماشة أهل الفضل قد شهروا ... باهت بهم في قديم الأعصر الدول
السالكون هدى السابقون مدى ... والباذلون ندى والناس قد بخل
أنت الأخير زماناً والقديم علاً ... والسيد المرتجى والفارس البطل
إن كنت جئت أخيراً فلقد ... أضحى بجود يديك يضرب المثل
حزت المآثر لا تحصى لكثرتها ... من رام إحصاءها سدت له السبل
جزت البدور سنى والفرقدين علا ... وأنت تجر الندى والوابل الهطل
من جاء يطلب منك السلم قابله ... وجه طليق ولفظ كله عسل
ومن يرد غير ذا تباً له وردى ... لقد ترفع في برج له زحل
هناك ربك ما أولاك من نعم ... وعشت في عزة تترى وتتصل
ولا عدمت مدى الأيام منزلة ... من دونها رفعة في الأبرج الحمل
وخذه بعد سلاماً عاطراً أرجاً ... يدوم ما دامت الأسحار والأصل
من خادم لعلاكم مخلص لكم ... من حبكم لا يرى ما عاش ينتقل
تقبيل كفك أعلى ما يؤمله ... فجد به فشفا الهايم القبل
وفاته، في أول عام أربعة وستين وسبعماية.
محمد بن محمد بن العراقيوادي آش، يكنى أبا عبد الله.
حالهفاضل الأبوة، معروف الصون والعفة، بادي الاستقامة، دمث الأخلاق، حسن الأدوات، ينظم وينثر، ويجيد الخط، تولى أعمالاً نبيهة، ثم علقت به الحرفة، فلقي ضغطاً، وفقد نشباً، واضطر إلى التحول عن وطنه إلى بر العدوة عام ستة وخمسين وسبع ماية، وتعرف لهذا العهد أنه تولى الأشغال بقسنطينة الهواء من عمل إفريقية.
شعرهكتب إلي وقد أبي عملاً عرض عليه:
أأصمت أنفاً ثم أنطق بالخلف ... وأفقد ألفاً ثم آنس بالجلف
وأمسك دهري ثم أنطلق علقماً ... ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف
وعزكم لا كنت بالذل عاملاً ... ولو أن ضعفي ينتمي إلى حتف
فإن تعملونى في تصرف عزة وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف
بقيت وسحب العطف منكم ... تظلني وعطف ثناتي دائماً ثاني العطف
الهنا
محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن
عبد الله بن فرتون الأنصاري من أهل مالقة، يكنى أبا القاسم ويعرف بالهناأوليتهينسب إلى القاضي ببطليوس، قاضي القضاة رحمه الله. وبمالقة دور تنسب إلى سلفه تدل على نباهة، وقد قيل غير ذلك. والنص الجلي أولى من القياس.
حالهمن عايد الصلة: الشيخ الحاج المحدث صاحب الأشغال بالدار السلطانية. صدر نمطه، وفريد فنه، رجولة وجزالة واضطلاعاً وإدراكاً وتجلداً وصبراً. نشأ بمالقة، معدوداً في أهل الطلب والخصوصية، ورحل إلى الحجاز الشريف في فتايه، فاستكثر من الرواية، وأخذ عن أكابر من أهل المشرق والمغرب، حسبما يشهد بذلك برنامجه.
وكان على سنن من السرو والحشمة، فذا في الكفاية، جرياً مقداماً مهيباً، ظريف الشارة، فاره المركب، مليح الشيبة، حسن الحديث، وقاد الذهن، صابراً على الوظايف، يخلط الخوض في الأمور الدنيوية، بعبادة باهظة، وأوراد ثقيلة، ويجمع ضحك الفاتك، وبكاء الناسك، في حالة واحدة، هشاً، مفرط الحدة، يثرد عليه مجل لسانه في المجالس السلطانية بما تعروه المندمة بسببه، قايماً على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته، ذا خصال حميدة، صناع اليد، مقتدراً على العمليات من نسخ ومقابلة وحساب، معدودا من صدور الوقت وأعلام القطر، ورجال الكمال.
مشيختهأخذ عن الجلة من أهل بلده كالأستاذ أبي محمد بن أبي السداد الباهلي، لازمه وانتفع به، والخطيب أبي عثمان بن عيسى أخذ عنه، والولي أبي عبد الله الطنجالي، وغيرهم مما يطول ذكرهم من العدوة والأندلس والمشارقة.
محنتهلقي نصباً في الخدمة السلطانية، وغضاً من الدهر لبأوه، بتعنته وعدم مبالاته مرات، ضيق لها سجنه، وعرض عليه النكال، ونيل منه بالإهانة كل منال، وأغرم مالا أجحف بمحتجنه، وعرض للأيدي نفايس كتبه، وعلى ذلك فلم يذعر سربه، ولا أضعفت النكبة جاشه.
ولد عام ثلاثة وسبعين وستماية. ومات ميتة حسنة. صلى الجمعة ظهراً، وقد لزم الفراش، ونفث دم الطاعون، ومات مستقبل القبلة، على أتم وجوه التأهب، سابع شوال من عام خمسين وسبعماية.
محمد بن عبد الله بن محمد بن مقاتلمن أهل مالقة، يكنى أبا القاسم، أزدي النسب، إشبيلي الأصل، من بيت نزاهة ونباهة.
حالهكان فاضلاً وقوراً سمحاً، مليح الدعابة، عذب الفكاهة، حلو النادرة، يكتب ويشعر، طرفاً في الانطباع واللوذعية، آية في خلط الجد بالهزل. ولي الإشراف بمدينة مالقة، وتقلب في الشهادة المخزنية عمره.
شعرهمن شعره يخاطب ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم رحمه الله:
فؤادي من خطب الزمان سقيم ... وفيه لسهم الحادثات كلوم
ولم أشك دايي في البرية لامرئ ... أأشكو به وابن الحكيم حكيم
توفي بمالقة يوم الخميس عاشر شهر رمضان من عام تسعة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن علي بن عبد ربه التجيبيمن أهل مالقة، يكنى أبا عمرو
حالهكان راوية ثقة، بارع الأدب، بليغ الكتابة، طيب النفس، كامل المروءة، حسن الخلق، جميل العشرة، تلبس بالأعمال السلطانية دهراً، وولي إشراف غرناطة وغيرها، إلى أن قعد لشكاية منعته من القيام والتصرف فعكف على النظر، فانتفع به.
مشيختهكانت له رحلة سمع فيها بالأسكندرية على أبي عبد الله بن منصور وغيره، وروى عنه الأخوان سالم وعبد الرحمن ابنا صالح بن سالم.
تواليفهله اختصار حسن في أغاني الإصبهاني، ورد جيد على ابن غرسية في رسالته الشعوبية لم يقصر فيها عن إجادة.
وتوفي لسبع خلون من محرم من عام اثنين وستماية.
الزهاد والصلحاء والصوفية والفقراء وأولا الأصليون
الصناعمحمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد اله ويعرف بالصناع.
حاله
من عايد الصلة: الشيخ الصوفي، الكثير الأتباع، الفذ الطريقة المجبب إلى أهل الثغور من البادية. كان رحمه الله شيخاً حسن السمت، كثير الذكر والمداومة، يقود من المخشوشنين عدد ربيعة ومضر، يعمل الرحلة إلى حصونهم، فيتألفون عليه، تألف النحل على أمرايها ويعاسيبها، معلنين بالذكر، مهرولين، يغشون مثواه، بأقواتهم على حالها، ويتناغون في التماس القرب منه، ويباشرون العمل في فلاحة كانت له بما يعود عليه بوفر وإعانة. وكان من الصالحين، وعلى سنن الخيار الفضلاء من المسلمين، وله حظ من الطلب ومشاركة، يقوم على ما يحتاد إليه من وظائف دينه، ويتكلم في طريق المتصوفة على مذهب أبي عبد الله الساحلي شيخه، كلاماً جهورياً، قريب الغمر. وكان له طمع في صناعة الكيمياء تهافت على دفاتيرها، وأهل متحليها، ليستعين بها بزعم على آماله الخيرية، فلم يحل بطايل.
مشيختهقرأ على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير، وكانت له في حاله فراسة. حدثني بذلك شيخنا أبو عبد الله بن عبد الولي رحمه الله. وسلك على الشيخ الصالح أبي عبد الله الساحلي.
وتوفي ليلة الاثنين السابع من شهر شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية، وكانت جنازته آخذة في الاحتفال، قدم لها العهد، ونفر لها الناس من كل أوب، وجيء بسريره، تلوح عليه العناية، وتحفه الأتباع المقتاتون من حل أموالهم وأيديهم من شيوخ البادية، فتولوا مواراته، تعلو الأصوات حوله، ببعض أذكاره.
المواقمحمد بن أحمد الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالمواق.
حالهكان معلماً لكتاب الله تعإلى، خطيباً بمسجد ربض الفخارين، طرفاً في الخير ولين العريكة، والسذاجة المشفوعة بالاختصار، وإيثار الخمول، مستقيماً في طريقته، خافتاً في خطبته، عاكفاً على وظيفته، مقصوداً بالتماس الدعاء، مظنة الصلاح والبركة.
توفي بغرناطة قبل سنة خمسين وسبعماية بيسير، وكلف الناس بقبره بعد موته، فأولوا حجارته من التعظيم، وجلب أواني المياه للمداواة، ما لم يولوه معشاره أيام حياته.
محمد بن حسنون الحميريمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله
حالهكان فاضلاً صالحاً، مشهور الولاية والكرامة، يقصده الناس في الشدايد، فيسألون بركة دعايه. ومن إملاء الشيخ أبي بكر بن عتيق بن مقدم، قال، أصله من بياسة، وكان عمه من المقربين المحدثين بها، وسكن هو مرسية، ونشأ بها، وقرأ على أشياخها، وحفظ كتاب التحبير في علم أسماء الله الحسنى للإمام أبي القاسم القشيري، ثم انتقل إلى غرناطة، فسكن فيها بالقصبة القديمة، وأم الناس في المسجد المنسوب إليه الآن. وكان يعمل بيده في الحلفا، ويتقوت من ذلك.
توفي عام خمسة وسبعماية بغرناطة، وهو من عدد الزهاد.
ومن مناقبه، ذكروا أنه سمع يوماً بعض الصبيان يقول لصبي آخر مر للحبس، فقال أنا المخاطب بهذا، فانصرف إلى السجن، فدخله، وقعد مع أهله، وبلغ ذلك السلطان، فوجه وزيره، فأخرجه، وأخرج معه أهل السجن كلهم، وكانت من كراماته.
ابن الحاجمحمد بن محمد بن البكري من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج كان رحمه الله شيخاً صالحاً، جهورياً، بعيداً عن المصانعة، متساوي الظاهر والباطن، مغلظاً لأهل الدنيا، شديداً عليهم، غير مبال في الله بغيره، يلبس خرقة الصوفية من غير التزامن لاصطلاح، ولا منقاد لرقو، ولا مؤثر لسماع. مشاركاً للناس، ناصحاً لهم، ساعياً في حوايجهم. خدم الصالح الكبير أبا العباس بن مكنون، وسلك به، وكان من بيت القيادة والتجند، فرفض زيه، ولبس المسوح والأسمال. وكان ذا حظ من المعرفة، يتكلم للناس. قال شيخنا أبو الحسن بن الجياب، سمعته ينشد في بعض مجالسه:
يا غادياً في غفلة ورايحاً ... إلى متى تستحسن القبايحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفاً ... يستنطق الله به الجوارحا
يا عجباً منك وأنت مبصر ... كيف تجتنب الطريق الواضحا
كيف تكون حين تقرأ في غد ... صحيفة قد مليت فضائحا
أم كيف ترضى أن تكون خاسراً ... يوم يفوز من يكون رابحا
ولما حاصر الطاغية مدينة ألمرية، وأشرفت على التلف، تبرع بالخروج منها ولحاقه بباب السلطان، لبث حالها، واستنفار المسلمين إلى نصرها، فيسر له من ستر غرضه، وتسهيل قصده، ما يشهد بولايته.
توفي بألمرية محل سكناه، في حدود عام خمسة عشر وسبعماية.
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاريغرناطي، قيجاطي الأصل يعرف بالسواس.
قال في المؤتمن في حاله: رجل متطبب، سهل الخلق، حسن اللقاء. رحل من بلده، وحج، وفاوض بالمشرق الأطباء في طريقته، وعاد فتصدر للطب، ثم عاد إلى بلاد المشرق. قلت، وعظم صيته، وشهر فضله، وقدم أمينا على أحباس مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الطاهرة وصدقاته، وذكر عنه أنه اضطره أمر إلى أن خصي نفسه، وسقطت لذلك لحيته.
قال شيخنا أبو البركات، أنشدنا بدكانه برحبة المسجد الأعظم، من حضرة غرناطة، قال أنشدنا أبو عبد الله المراكشي بالإسكندرية، قال أنشدنا مالك بن المرحل لنفسه:
أرى الكلاب بشتم الناس قد ظلمت ... والكلب أحفظ مخلوق لإحسان
فإن غضبت على شخص لتشتمه ... فقل له أنت إنسان ابن إنسان
وفاته: كان حياً عام خمسين وسبعماية فيما أظن.
ومن الطارئين عليها في هذا الاسم
ابن جعفر القونجيمحمد بن أحمد بن جعفر بن عبد الحق بن محمد بن جعفر بن محمد ابن أحمد بن مروان بن الحسن بن نصر بن نزار بن عمرو بن زيد بن عامر بن نصر بن حقاف السلمي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جعفر، ويشهر في الأخير بالقونجي، منسوباً إلى قرية بالإقليم، وكان من أهل غرناطة.
حالهمن خط شيخنا أبي البركات بن الحاج: كان هذا الرجل، رجلاً صالحاً فاضلا متخلقاً، سمحاً، جميل اللقاء على قدم الإيثار على رقة حاله، ممن وضع الله له القبول في قلوب عباده، فكانت الخاصة تبره ولا تنتقده، والعامة توده وتعتقده، وتترادف على زيارته، فئة بعد فئة، فلا تنقلب عنه إلا راضية، وكان جارياً على طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي إذ كان قد لقي بالمشرق الشيخ الإمام تاج الدين بن عطاء الله، ولازمه وانتفع به، كما لقي ولازم تاج الدين أبا العباس المرسي، كما لازم أبو العباس أبا الحسن الشاذلي. قال: ولقيه بعد هذا الشيخ أبي عبد الله جماعات في أقطار شتى، ينسبون إليه، ويجرون من ملازمته الأذكار في أوقات معينة على طريقته، وله رسايل منه إليهم طوال وقصار، يوصيهم فيها بمكارم الأخلاق، وملازمة الوظايف، وخرج عنه إليهم على طريقة التدوين، كتاب سماه بالأنوار في المخاطبات والأسرار مضمنه جملة من كلام شيخهم تاج الدين، وكلام أبي الحسن الشاذلي، ومخاطبات خوطب بها في سره، وكلام صاحبه أبي بكر الرندي، وحقايق الطريق، وبعض كرامات غير من ذكر من الأولياء، وذكر الموت، وبعض فضايل القرآن.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسن البلوطي وأجازه، وعلى أبي الحسن بن فضيلة وأجازه كذلك، وعلى أبي جعفر بن الزبير وأجازه، ثم رحل فحج ودخل الشام، وعاش مدة من حراسة البساتين، واعتنى بلقاء المعروفين بالزهد والعبادة، وكان ملياً بأخبار من لقي منهم، فمنهم الشيخ أبو الفضل تاج الدين بن عطاء الله، وصاحبه أبو بكر بن محمد الرندي.
مناقبهقال، دخلت معه إلى من خف على قلبي الوصول إلى منزله لما قدم ألمرية، وهو رجل يعرف بالحاج رحيب، كان من أهل العافية، ورقت حاله، ولم يكن ذلك يظهر عليه، لمحافظته على ستر ذلك لعلو همته، ولم يكن أيضاً أثر ذلك يظهر على منزله، بل أثاث العافية باق فيه من فرش وماعون. فساعة وصول هذا الشيخ، قال الله يجبر حالك، فحسبتها فراسة من هذا الشيخ. قال، وخاطبته عند لقائي إياه بهذه الأبيات:
أشكو إليك بقلب لست أملكه ... ما لم يرد من سبيل فهو يسلكه
له تعاقب أهواء فيقلقه ... هذا ويأخذه هذا ويتركه
طوراً يؤمنه طورا يخوفه ... طورا ييقنه طورا يشككه
حيناً يوحشه حينا يونسه ... حينا يسكنه حينا يحركه
عسى الذي يمسك السبع الطباق ... على يديك يا مطلع الأنوار يمسكه
فيه سقام من الدنيا وزخرفها ... مهمى أبيضه بالذكر تشركه
عسى الذي شانه الستر الجميل كما ... غطى عليه زماناً ليس يهتكه
فلم قرأ منها، فيه سقام من الدنيا وزخرفها، قال هذه علتي.
مولده: سألته عنه فقال لي عام ثمانية وستين بقرية الجيط من قرى الإقليم وفاته: بقرية قنجة خطيباً بها، يوم الاثنين عشرين من شهر شعبان المكرم عام خمسين وسبع ماية، في الوباء العام، ودفن بقرية قنجة، رحمة الله عليه ورضوانه.
ابن صفوانمحمد بن أحمد بن حسين بن يحيى بن الحسين بن محمد بن أحمد ابن صفوان القيسي وبيته شهير بمالقة يكنى أبا الطاهر، ويعرف بابن صفوان
حالهكان مفتوحاً عليه في طريق القوم، ملهماً لرموزهم، مصنوعاً له في ذلك، مع المحافظة على السنة، والعمل بها. آخر الرعيل، وكوكب السحر، وفذلكة الحساب ببلده، اقتداء وتخلقاً وخشوعاً وصلاحاً وعبادة ونصحاً. رحل فحج، وقفل إلى بلده، مؤثراً الاقتصار على ما لديه، فإذا تكلم في شيء من تلك النحلة، يأتي بالعجايب، ويفك كل غامض من الإشارات. وعني بالجزء المنسوب إلى شيخ الإسلام أبي إسمعيل الروبي المسمى بمنازل الساري إلى الله فقام على تدريسه، واضطلع بأعبايه، وقيد عليه ما لا يدركه إلا أولوا العناية، ولازمه الجملة من أولى الفضل والصلاح، فانتفعوا به، وكانوا في الناس قدوة. وولي الخطابة بالمسجد الجامع من الربض الشرقي، وبه كان يقعد، فيقصده الناس، ويتبركون به، وكان له مشاركة في الفقه، وقيام على كتاب الله.
تواليفهألف بإشارة السلطان على عهده، أمير المسلمين أبي الحجاج رحمه الله، كتاباً في التصويف والكلام على اصطلاح القوم، كتب عليه شيخنا أبو الحسن بن الجياب بظهره، لما وقع عليه، هذه الأبيات:
أيام مولاي الخليفة يوسف ... جاءت بهذا العالم المتصوف
فكفى بما أسدى من الحكم التي ... أبدين من سر الطريقة ما خف
وحقايق رفع الحجاب بهن عن ... نور الجمال فلاح غير مكيف
كالشمس لاكن هذه أبدي سناً ... للحسن والمعنى لعين المنصف
فيه حياة قلوبنا ودواؤهافمن استغاث بجرعة منها شف
إن ابن صفوان إمام هداية صافي فصوفي فهو صوفي صف
وإن اختبرت فإنه صفو ابن صفو ... ظاهر في طيه صفو خف
علم توارثه وحال قد خلت ... ذوقاً فنعم المقتدى والمقتف
فليهنلى المولى سعود إيالة ... فيها سراج نوره لا ينطف
جلى وجوه شريعة وحقيقة ... صبحاً سناه باهر لا يختف
لا زلت تسلك كل نهج واضح ... منها وتحيي كل سعي مزلف
ومن تواليفه جر الحر في التوحيد، وعلق على الجزء المنسوب لأبي إسمعيل الهروي.
من أخذ عنهأخذ عنه ببلده، وتبرك به، جلة، وكان يحضر مجلسه عالم، منهم شيخ الشيوخ الأعلام، أبو القاسم الكسكلان، وأبو الحسين الكواب، والأستاذ الصالح أبو عبد الله القطان، وصهره الأستاذ أبو عبد الله بن قوال والعاقد الناسك أبو الحسين الأحمر وغيرهم.
شعرهرأيت من الشعر المنسوب إليه، وقد رواه عنه جماعة من أصحابنا، يذيل قول أبي زيد رضي الله عنه:
رأيتك تدنيني إليك تباعدني ... فأبعدت نفسي الابتغاء التقرب
فقال:
هويت بدمنى إليه فلم يكن بي ... البعد بعدي فصح به قرب
فكان به سمعي كما بصري به ... وكان به لأئ لساني مع القلب
فقربي به قرب بغير تباعد ... وقربي في بعدي فلا شيء من قرب
وفاتهسافر من بلده إلى غرناطة في بعض وجهاته إليها، وذهب سحراً يرتاد ماء لوضويه. فتردى في حفرة تردياً أوهن قواه، وذلك بخارج بلش، فرد إلى مالقة، فكانت بها وفاته قبل الفجر من ليلة يوم الجمعة الرابع عشر لشعبان عام تسعة وأربعين وسبعماية.
الساحليمحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالساحلي
حاله
من عايد الصلة: المثل الساير في غمران أوقاته كلها بالعبادة، وصبره على المجاهدة. قطع عمره في التبتل والتهجد لا يفتر لسانه عن ذكر الله، والصلاة على نبيه، صلى الله عليه وسلم. خرج عن متروك والده، واقتصر على التمعش من حرفة الخيطاة. ثم تعداها إلى النسخ والتعليم، وسلك على الشيخ أبي القاسم المريد، نفع اله به، حتى ظهرت عليه سيما الصالحين، وأقام عمره مستوعباً ضروب الخير، وأنواع القرب من صوم وإذان وذكر، ونسخ وقراءة، وملازمة خلوة. ذا حظ من الفصاحة. وجرأة على الوعظ، في صوت جهير، وعارضة صليبة. اقتدى به طوايف من أصناف الناس على تباعد الديار، وألزمهم الأذكار، وحولهم للسلوك، فأصبح كثير الأتباع، بعيد الصيت. وولي الخطابة بالمسجد الجامع من بلده، ونقل إلى الخطابة، بجامع غرناطة في نبوة عرضت له بسبب ذنابى ذرية طرقوا الكدر إلى سربه، ثم عاد إلى بلده متين ظهر الحظوة، وثيق أساس المبرة.
مشيختهقرأ ببلده مالقة على الخطيب أبي محمد بن عبد العظيم بن الشيخ، وأبي عبد الله بن لب، وأبي جعفر الحرار، وأبي عبد الله بن الحلو، الخطيب أبي عبد الله بن الأعور.
محنتهابتلى بعد السبعين من عمره بفقد بصره، فظهر منه من الصبر والشكر والرضاء بقضاء الله، ما يظهر من مثله. وأخبرني بعض أصحابه أنه كان يقول، سألت الله أن يكف بصري خوفاً من الفتنة. وفي هذا الخبر نظر لمكان المعارضة في أمره صلى الله عليه وسلم بسؤال العافية، والإمتاع بالإسماع والإبصار.
شهرتهوجعل الله له في قلوب كثير من الخلق، الملوك فمن دونهم، من تعظيمه ما لا شيء فوقه، حتى أن الشيخ المعمر الحجة الرحلة أبا علي ناصر الدين الوشدالي كتب إليه من بجاية بما نصه: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجينا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل، وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. وبعده: من العبد الأصغر والمحب الأكبر فلان، إني سيد العارفين، وإمام المحققين، في ألفاظ تناسب هذا المعنى.
حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب، وكان من أعلام تلاميذه، وصدور السالكين على يديه، قال قصدت منه خلوة، فقلت يا سيدي، أصحابنا يزعمون أنك ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخبرني واشف صدري هل هذه الرؤيا عينية أو قلبية، قال، فأفكر ساعة، ثم قال، عندي شك في رؤية ابن الجياب الساعة ومحادثته، فقلت لا، فقال كذلك الحال، قلت وهذا أمر غريب، ولا يصح إلا رؤية القلب، ولكن غلبت عليه حتى تخيل في الحس الصورة الكريمة، إذ وجود جوهر واحد في محلين اثنين محال.
شعرهنظم الكثير من شعر منحط لا يصلح للكتب ولا للرواية، ابتلى به رحمه الله، فمن لبابه قوله، وهو من الوسط:
إن كنت تأمل أن تنال وصالهم ... فامح الهوى في القليل والأفعال
واصبر على مر الدواء فإنه ... ياتيك بعد بخالص السلسال
تواليفه: ألف كتاباً سماه إعلان الحجة في بيان رسوم المحجة.
توفي يوم الجمعة الرابع والعشرين لشوال عام خمسة وثلاثين وسبعماية، وكانت جنازته مشهودة، تزاحم الناس على نعشه، وتناولوه تمزيقاً على عادتهم من ارتكاب القحة الباردة في مسلاخ حسن الظن.
القطانمحمد بن أحمد بن قاسم الأمي من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالقطان، الفقيه الأواب المتكلم المجتهد.
حاله
من العايد: كان هذا الرجل غريب المنزع، عجيب التصوف. قرأ وعقد الشروط، وتصدر للعدالة، ثم تجرد، وصدق في معاملته لله، وعول عليه، واضطلع بشروط التوبة، فتحلل من أهل بلده، واستفاد واسترحم، واستغفر، ونفض يديه من الدنيا، والتزم عبادة كبيرة، فأصبح يشار إليه في الزهد والورع، لا تراه إلا متبسماً، ملازماً لذكر الله، متواضعاً لأصاغر عباده، محبا في الضعفاء والمساكين، جميل التخلق، مغضياً عن الهنات، صابراً على الإفادة. وجلس للجمهور بمجلس مالقة، يتكلم في فنون من العلم، يعظ الناس، ويرشدهم، ويزهدهم، ويحملهم على الإيثار، في أسلوب من الاستنفار والاسترسال، والدلالة، والفصاحة والحفظ، كثير التأثير في القلوب، يخبر بإلهام وإعانة. فمال الخلق إليه، وتزاحموا على مجالسته، وأعلنوا بالتوبة، وبادر مترفوهم إلى الإقلاع عن إجابة الشهوات، والاستقالة من الزلات. ودهم الوباء، فبذلوا من الأموال في أبواب البر والصدقة، ما لا يأخذه الحصر ولا يدركه الإحصاء ولو لا أن الأجل طرقه، لعظم صيته، وانتشر نفعه.
وفاتهتوفي شهيد الطاعون عصر يوم الأربعاء لصفر من عام خمسين وسبعماية، ودفن بجبانة جبل فاره، ضحى يوم الخميس الثاني من يوم وفاته. وصلى عليه خارج باب قنتنالة، وألحده في قبره الخطيب القاضي الصالح، أبو عبد الله الطنجالي، رحم الله جميعهم.
وممن رثاه الشيخ الأديب أبو الحسن الوراد فقال:
أبعد ولي الله دمعي يسجم ... وغمار قلبي من كلوم تترجم
فؤادي مكلوم بحزني لفقده ... لذاك جفوني دمعها كله دم
ومإذا عسى يغني التفجع والبكا ... ومإذا عسى يجدي الأسى والتبرم
سأصبر للبلوى وإن جل خطبها ... فصبر الفتى عند الشدايد يعلم
كذا العلم بالسيف الصقيل لدى الوغى فويق الذي من حسنه يوسم
على قدر صبر المرء تصغر عنده ... خطوب من الدنيا على الناس تعظم
إلا إنها الدنيا تعلة باطل ... ومخمضة أحلام لمن بات يحلم
تجنبها أهل العقول فأقصروا ... وأغرق فيها الجاهلون وأشأم
أعد نظراً فيها تجبك براحة ... وانس بما تقضي عليك وتحكم
أعد لها درياق صبرك إنها ... من البؤس والتلوين والله أرقم
تلفت إلى تعذيبها لمحبها ... ومإذا بها يلقى كثيب ومغرم
يظن بها ريحانة وهي سدرة ... ولا منتهى إلا الردى والتندم
عجبت لها تخفي علينا عيوبها ... وذاك لأنا في الحقيقة نوم
أليس عجيباً أن يعول عاقل ... على عاجل من وصلها يتصرم
وما وصلها معشار عشر صدورها ... ولكنه صرف للدهر أدوم
إذا ابتسمت يوماً ترقب عبوسها ... فما إن لنا منها يدوم التبسم
ضحى كان وجه الدهر سبر بشره ... فلم يمس حتى بان منه التجهم
ذرينا بعقد من ولي مكانه ... مكين لدي العلياء سام معظم
هوى مثل هوى من الأفق كوكب ... فجللنا ليل من الخطب مظلم
تساوى لديه صيدها وعبيدها ... وعالمها التحرير والمتعلم
هو الموت لا ينفك للخلق طالباً ... يروح ويغدو كل حين عليهم
ما هو إلا الداء عز دواؤه ... فليس لشيء في البسيطة يحسم
دها كل مخلوق فما منه سيد ... له الجاه عند الله ينجو فسلم
ولو كان ذا كان النبي محمد ... تجنبه صلوا عليه وسلم
تعنى به موسى ويوسف قبله ... ونوح وإدريس وشيث وآدم
به باد بهرام وتبر بهرم ... وكسر من كسري سوار ومعصم
وكم من عظيم الشأن حل بربعه ... فإن تختبره فهو رب وأعظم
ولكننا ننسى ونأبى حديثه ... وننجد في الإعراض عنه ونتهم
فحتى إذا حل ساحة ماجد ... نطل بها من حسرة نتكلم
نسينا حديث الموت جهلاً بغدره ... فألهمنا إذ هزنا منه ملهم
وفاة ورمى في التراب موسد ... وآثاره فوق السماك تخيم
خبا ضوء نادي أقفر ربعه ... من العلم والتعليم ربع ومعلم
تردى فأردى فقد أهل رية ... فما منهم إلا كثيب ومغرم
غدا أهلها من فجعة بمصابه ... وعيشهم صاب قطيع وعلقم
وهل كان إلا والد مات عنهم ... فيا من لقوم يتموا حين أو يتم
قضى نحبه الأستاذ واحد عصره ... فكاد الأسى يقضي إلى الكل منهم
قضى نحبه القطان فالحزن قاطن ... مقيم بأحناء الضلوع محكم
وهل كان إلا روضة رف ظلها ... أتيح له قيظ من الجون صيلم
وهل كان إلا رحمة عاد فقدها ... علامة فقد العلم والله أعلم
سل التائبين العاكفين على الهدى ... لكم منة أسدى وأهدى إليهم
أفادهم من كل علم لبابة ... وفهمهم أسراره فتفهم
جزى الله رب الناس خير جزائه ... دليلا بهم نحو الهدى حيث يمم
أبان لهم طرق الرشاد فأقدموا ... وحذرهم عن كل غي فأحجم
وجاء من التعليم للخير كله ... بأبين من يأتي به من يعلم
فصاحة ألفاظ وحسن عبارة ... مضى كما يمضي الحسام المصمم
يصيب فلا يخطي إذا مقصدا ... ولمن يجيب فلا يبطي ولا يتلعثم
يحدث في الآفاق شرقاً ومغرباً ... فأخباره أضحت تخط وترسم
سرى في الورى ذكر له ومدايح ... يكاد بها طير العلى يترنم
لعمرك ما يأتي الزمان بمثله ... وما ضرني لو كنت بالله أقسم
فقيه نزيه زاهد متواضع ... رؤوف عطوف مشفق مترحم
يود لو أن الناس أثرى جميعهم ... فلم يبق مسكين ولم يبق معدم
يود لو أن الله تاب على الورى ... فتابوا فما يبقى من الكل مجرم
عليه من الرحمن أوسع رحمة ... فقد كان فينا الدهر يحنو ويرحم
محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي بن خالد
ابن عبد الرحمن بن حميد الهاشمي الطنجالي
لوشي الأصل، مالقي النشأة والاستيطان.أوليتهبيتهم نبيه إلى هاشمية النبه وهم ببلدنا لوشة أشرف، وهم ببلدنا لوشة أشرف، وكانت لهم فيها ثروة وثورة، اجتثها الدهر ببعض طوارقه، في أبواب المغالبات. ويمت سلفنا إليهم بصحبة ومصاهرة في حديث يستدعي طولاً، وانتقل خلفهم إلى مالقة.
حالهمن عايد الصلة: كان هذا الولي الفاضل، المجمع على ولايته وفضله، سهل اللقاء، رفيقاً بالخلق، عطوفاً على الضعفاء، سالكاً سنن الصالح من السلف، سمتاً وهدياً، بصره مغضوض، ولسانه صامت، إلا من ذكر الله، وعلمه نافع وثوبه خشن، وطعمته قد نفدها الورع الشديد، حتى اصطفاها مختاره، إذا أبصرت بها العين، سبقتها العبرة. بلغ من الخلق، الملوك فمن دونهم الغاية، فكان يلجأ إليه المضطر، وتمدل إلى عنايته الأيدي، وتحط بفنايه الوسايل، فلا يرتفع عن كلف الناس ولا حوايجهم، ولا ينقبض عن الشفاعة لهم، وإصلاح ذات بينهم. له في ذلك كله أخبار طريفة. واستعمل في السفارة بين ملكي العدوة والأندلس، في أحوال المسلمين، فما فارق هيئته، وركوب حماره واستصحاب زاده، ولبس الخشن من ثوبه. وكان له حظ رغيب من فقه وحديث، وتفسير، وفريضة. ولي الخطابة ببلده مالقة، واستسقى في المحول، فسقى الناس.
حدثني بعض أشياخنا: قال، حضرت مقامه، مستسقياً، وقد امتنع الغيث، وقحط الناس، فما زاد عند قيامنا أن قال، أستغفر الله، فضج الخلق بالبكاء والعجيج، ولم يبرحوا حتى سقوا. وكراماته كثيرة، ذايعة من غير خلاف ولا نزاع.
حدث بعض أشياخنا عن الخطيب الصالح أبي جعفر الزيات، قال رأيت في النوم قايلاً يقول، فقد الليلة من يعمر بيت الإخلاص بالأندلس، فما انتصف النهار، من تلك الليلة، حتى ورد الخبر بموته.
مشيخته
من شيوخه الذين قرأ عليهم، وأسند إليهم الرواية والده رحمه الله، وأبو عمرو بن حوط الله، والخطيب ابن أبي ريحانة المربلي، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص، والراوية أبو الوليد بن العطار، والراوية المحدث أبو بكر بن مشليون، والمقري أبو عبد الله بن مستقور الطايي، والأستاذ أبو جعفر الطباع، وأبو الحسين بن أبي الربيع، والمحدث أبو عبد الله بن عياش، والأستاذ أبو الحسن السفاج الرندي، والخطيب بألمرية أبو الحسن الغزال. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير. وأجازه من أهل المشرق جماعة منهم أبو عبد الله بن رزيق الشافعي، والعباس أحمد ابن عبد الله بن محمد الطبري، وأبو اليمن عبد الصمد بن أبي الحسن عبد الوهاب بن أبي البركات المعروف بالنجام، والحسن بن هبة الله بن عساكر، وإبراهيم بن محمد الطبري إمام الخليل، ومحمد بن محمد بن أحمد بن عبد ربه الطبري، ومحمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، وأبو الفتح تقي الدين بن أبي الحسن فخر الدين، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي وغيرهم.
ميلاده: بمالقة في رجب سنة أربعين وستماية.
وفاته: بمالقة في يوم الخميس الثامن لجمادى الأولى من عام أربعة وعشرين وسبعماية. وقد ناهز الثمانين سنة، لم ينتقص شيء من أعماله المقربة إلى الله، من الصوم والصلاة، وحضور الجماعات، وملازمة الإقراء والرواية، والصبر على الإفادة.
حدث من يوثق به، أن ولده الفقيه أبا بكر دخل عليه، وهو في حال النزع، والمنية تحشرج في صدره، فقال يا والدي أوصني، فقال وعيناه تدمعان، يا ولدي اتق الله حيث كنت واتبع السيئة بالحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
ابن إبراهيم البلفيقيمحمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم البلفيقي ابن الحاج والد شيخنا أبي البركات. وقد مر في ذكر النسب المتصل بعباس ابن مرداس، والأولية النبيهة ما يغني عن الإعادة.
حالهمن خط ولده شيخنا على الاختصار، قال يخاطبني في بعض ما كتب به إلي: ذكر أبي، وهو ممن طلبتم ذكره إلي في أخباره جزءاً من نحو سبعين ورقة في المقسوم، لخصت لك من مبيضته ما يذكر: نشأ رحمه الله بسبتة على طهارة تامة، وعفة بالغة، وصون ظاهر، كان بذلك علماً لشبان مكتبه. قرأ القرآن بالقراءات السبع، وحفظ ما يذكر من المبادي، واتسم بالطلب. ثم تاقت نفسه إلى الاعتلاق بالعروة الوثقى، التي اعتلق بها سلفه، فنبذ الدنيا، وأقبل على الآخرة، وجرى على سنن المتقين، أخذاً بالأشد من ذلك والأقوى، طامحاً بهمته إلى أقصى ما يؤمله السالكون. فرفض زي الطلبة، ولبس الخشنية، وترك ملابسة الخلق بالجملة، وبالغ في الانقباض عنهم، وانقطع إلى الله برباطات سبتة وجبالها، وخصوصاً بمينايها، وعكف على ذلك سنين ثم سافر إلى المغرب، سايحاً في الأرض، على زي الفقهاء للقاء العباد وأهل العلم، فأحرز من ذلك ما شاء. ثم أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس، وورد ألمرية، مستقر سلفه، وأخذ في إيثار بقايا أملاك بقيت لأسلافه بها، على ما كان عليه من التبتل والإخبات. وكان على ما تلقينا من أصحابه وخدانه، صواماً، قواماً، خاشعاً ذاكراً، تالياً، قوالا للحق، وإن كان مراً كبيراً في إسقاط التصنع والمباهاة، لا يضاهي في ذلك، ولا يشق غباره. وقدم على غرناطة، ودخل على أمير المسلمين، وقال له الوزير، يقول لك السلطان ما حاجتك، فقال، بهذا الرسم رحلت، ثم ظهر لي أن أنزل حاجتي بالله، فعار على من انتسب إليه، أن يقصد غيره. ثم أجاز البحر وقد اشتدت أحوال أهل الأندلس بسبب عدوهم، وقدم على ملكه، ووعظه موعظة، أعنف عليه فيها، فانفعل لموعظته، وأجاز البحر بسببه إلى جزيرة الأندلس، وغزا بها، وأقام بها ما شاء الله، وتأدب الروم لو تم المراد قال، وأخبره السلطان أبو يوسف ملك المغرب، قال كل رجل صالح دخل علي كانت يده ترعد في يدي، إلا هذا الرجل، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته.
كراماته
وجلب له كرامات عدة، فقال في بعضها، ومن ذلك ما حدثني الشيخ المسلم الثقة أبو محمد قاسم الحصار، وكان من الملازمين له، المنقطعين إلى خدمته، والسفر معه إلى البادية، فقال، إني لأحفظ لأبيك أشياء من الأحوال العظيمة، منها ما أذكره، ومنها ما لا أستطيع ذكره. ثم قال، حدثني أهل وادي الزرجون، وهو حش من أعمال سبتة، قالوا، انصرف السيد أبو عبد الله من هنا، هذا لفظه، فلما استقر في رأس العقبة، المشرفة على الوادي، صاح عليه أهل القرى، إذ كانوا قد رأوا أسداً كبيراً جداً؛ قد تعرض في الطريق، ما نجا قط من صادفه مثله، فلما سمع الضياح قال ما هذا، فقيل له أهل القرى يصيحون عليه خيفة من السبع قال، فأعرض عنهم بيده، ورفع حاجبه كالمتكبر على ذلك، وأسكتهم، وأخذ في الطريق حتى وصل إلى الأسد، فأشار عليه بالقضيب، وقال له، من ها هنا من ها هنا، أخرج عن الطريق، فخرج بإذن الله عن الطريق، ولم يوجد هنالك بعد. وأمثال ذلك كثيرة.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع القرشي، وأجازه والده أبو إسحق إجازة عامة. ومن شيوخه القاضي المسن أبو عبد الله الأزدي، والمحدث أبو بكر بون مشليون، وأبو عبد الله بن جوهر، وأبو الحسين بن السراج، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزرجي، وأبو عبد الله بن الأبار، وأبو الوليد بن العطار، وأبو العباس بن عبد الملك، وأبو إسحق ابن عياش، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عطية، وأبو بكر القرطبي حميد، وأبو إبراهيم الطرسي، والقاضي أبو عبد الله بن عياض، والكاتب أبو الحسن الرعيني، وأبو الحسن الشاري، وأبو يحيى بن الفرس، وأبو إسحق بن عبيد الله، وأبو الحسن الغزال، وجماعة من الأندلس غير هؤلاء. ومن أهل العدوة كأبي يعقوب المحاسبي وابن فرتون وغيرهم.
محنتهنمى عنه إلى السلطان بالأندلس، أنه أغرى به ملك المغرب، وتخلص بعد لأي في خبر طويل، وانتهب السلطان ماله، وألحق أملاكه بالمختص واستمر. وذلك إلى دولة والده وامتحن الساعون به، فعجل الله عقوبتهم.
مولده: قال شيخنا نقلت من خط أبيه ما نصه: ولد ابني أبو بكر محمد أسعده الله ووفقه، في النصف الأول من ليلة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي قعدة من سنة ست وأربعين وستماية.
وفاته: قال ألفيت بخط القاضي الأديب الكاتب أبي بكر بن شبرين وكان ممن حضر جنازته بسبتة. وكانت وفاة الفقيه الناسك السالك الصالح أبي بكر محمد بن الشيخ الفقيه المحدث أبي إسحق السلمي البلفيقي في العشر الأواخر من رمضان أربعة وتسعين وستماية بمحروسة سبتة، ودفن إثر صلاة العصر بجبانة الخروبة من منارتها بمقربة من قبر ريحان الأسود العبد الصالح نفع الله به. وصلى عليه الإمام أبو عبد الله بن حريث.
ابن عباد النفزيمحمد بن يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى ابن عباد النفزي من أهل رندة، يكنى أبا عمرو، ويعرف بابن عباد، الحاج الصوفي
حالهنشأ ببلده رندة، وهو من ذوي البيوتات الأصلية بها، ثم رحل إلى المشرق، ولقي العلماء والصوفية، وحضر عند المشيخة، ثم كر إلى الأندلس، فتصوف، وجال في النواحي، واطرح السموت، وفوت ما كان بيده من متاع الدنيا، وكان له مال له خطر، وألقى التصنع لأهله رأساً. وكان فيه توله وحدة، وله ذهن ثاقب، يتكلم في المعقولات والمنقولات، على طريقة الحكماء والصوفية، ويأتي بكل عبارة غريبة، وآثاره هايلة من غير تمكن علم، ولا وثاقة إدراك، غير أنك لا تسمع منه إلا حسناً، وهو مع ذلك طواف على البلاد، زوار للربط، صبار على المجاهدة طوعاً وضرورة، ولا يسل ثياباً البتة إلا بذلة من ثوب أو غيره، صدقة واحد في وقته.
محنته وفضله وشعرهنمى عنه كلام بين يدي صاحب المغرب، أسف به مدبر الدولة يومئذ، فأشخص عند إيابه إلى رندة وسجن بسجن أرباب الجرايم، فكتب إلى ولي الأمر:
تركت لكم عز الغنى فأبيتم ... وأن تتركوني للمذلة والفقر
ونازعتموني في الخمول وإنه ... لذي مهجتي أحلى من البنى والأمر
ثم قال، يا من رماني بسهمه، الغرب، قد رد عليك مخضوباً بالدم. قال فوالله ما مرت ثلاثة، حتى نفذ حكم الله فيمن عدا عليه.
وشعره حسن يدل على طبع معين، فمن ذلك:
سرى يسر إلي أنك تاركي ... نفسي الفدا للطفك المتدارك
يا مالكي ولي الفخار بأنني ... لك في الهوى ملك وأنك مالك
الترك هالك فاعفني منه وعد ... بالوصل تحيي ذما محب هالك
وأعد جميلاً في الهوى عودتني ... إن لم تعده إلي من للهالك
يا منية القلب الذي بجماله ... فتن الورى من فاتك أو ناسك
أأتيه دونك أو أحار وفي سنى ... ذاك الجمال جلا الظلام الحالك
ولكم سلكت إليك لكن حين لم ... تكن الدليل اختل قصد السالك
ولقد عرفت بستر سري في الهوى ... فهجرتني فكسيت ثوب الهاتك
ما الستر إلا ما يحوك رضاك لا ... ما حاكه للبتر كف الحايك
ما الفضل إلا ما حكمت به فصن ... وأهتك وصل إن شيت أو كن تارك
ما لي سوى حبيك يا حبي فدع ... تركي فهلك الملك ترك المالك
وقال أيضاً:
هذا العقيق فسل معاطف بأنه ... هل نسمة عادته من نعمانه
واسأله إن زارته مإذا أخبرت ... عن أجرع العلمين أو سكانه
وأصخ لحسن حديثها وأعده للمضني ففيه البرء من أشجانه
يا حبذا ذاك الحديث وحبذا ... من قد رفاه وحبذا ببيانه
وسقى الآله زمانه ومكانه ... ويعز قدر زمانه ومكانه
يا سعد ساعد مستهاماً فيه لا ... ذقت الهوى ونجوت من عدوانه
وأصخ لما يتلو الوجود عليك من ... أنبائهم بلسان حال كيانه
وأبنه لي واقبل ذمامي بشارة ... ويقل بذل ذماي في تبيانه
وسل النسيم يهب من واديهم ... شذاً خزاماه وطيب لبانه
ارحم بروح منه روحي تحيه ... ويسقمه سقمي فديتك عانه
وبنشره انشر نفس مشتاق ... قضت شوقاً لنفحة نسمة من بانه
يا سعد حدثني فكل مخبر ... عن خسر من أهواه أو إحسانه
يا سعد طارحنيه واملأ مسمعي ... من سره إن شيت أو إعلانه
أنا في الغرام أخوك حقاً والفتى ... لا يكتم الأسرار من إخوانه
قل كيف وادي ود سكان الحمى ... ومنى أمانيه وروض لسانه
هل قلصت أيدي النوى من ظله ... أو ما جرى هل عاث في جريانه
وهل الربوع أواهل بجمالهم ... فسقى للربوع الودق من هتانه
وهل التقى بان على عهد النوى ... وهل اللوى يلوي بعود زمانه
فبروض أنسهم غمدت نضارة ... نزهت منها الطرف في بستانه
وأرى هجير أذبل يانعاً ... منه وأذوي الغض من ريحانه
وأحال حال الأنس فيه وحشة ... وطوى بساط الأنس في هجرانه
آهاً ووالهفي وويحي أن مضى ... عهد عرفت الأنس في أزمانه
وبأجرع العلمين من شرقيه ... حب غذاني حبه بلبانه
حاز المحاسن كلها فجمعن لي ... كل الهوى فحملت كل هوانه
وزها علي بعزة فبواجب ... أزهو بذلي في يدي سلعانه
وقضى بأن أقضي وليت بما قضى ... يرضى فطيب العيش في رضوانه
واختار لي أن لا أميل لسلوة ... عن حبه فسلوت عن سلطانه
يا عاذلي أو ناصحي أو لايمي ... تبغي السلو ولات حين أوانه
غلب الغرام وعز سلطان الهوى ... فالكل في علي من أعوانه
فعلام تعتب مستهاماً كلما ... في الكون عاذره على شيمانه
دع عنك لومي إنني لك ناصح ... أبدي الجمال العذر عن هيمانه
وإذا الفتى قام الجمال بعذره ... في الحب فاتركه وثنى عنانه
من سام قلبي في هواه سلوة ... قد سامه ما ليس في إمكانه
وقال في الغرض المذكور:
يا للرجال ألا حب يساعدني ... في ذا الغرام فأبكيه ويبكين
غلبت فيه وما أجدت مغالبتي ... وهنت والصب أولى الناس بالهون
ركبت لجته وجدي فأدهشني ... ومت في يده فردا فدلون
واضيعة العمر والبلوى مضاعفة ... ما بين يأس وآمال ترجين
والهف نفسي إن أودت وما ظفرت ... في ذا الهوى بتمن أو بتأمين
فليت شعري وعمري ينقضي طمعاً ... في ذا الهوى بين مغلوب ومغبون
هل الأولى ملكوا رقي وقد علموا ... بذلي وافتقاري أن يواسون
فكم أكفكف دمعي بعدهم وأرى ... مجدداً نار يأسي وهي تبلين
وكم أمر على الأطلال أندبها ... وبالمنازل من خيف ودارين
وفي الفؤاد لهم ما ليس يعلمه ... إلا هم علمهم بالحال يكفين
أهمي المدامع كي أروى فتعطشني ... وألزم الذكر للسلوى فيشجبن
يا أهل نجد وفخري أن أحبكم ... لا أطلب الوصل عز الحب يغنين
هل للهوى من سبيل للمنى فلقد ... عزت أمانيه في الدنيا وفي الدين
محمد بن يوسف بن خلصونيكنى أبا القاسم، روطي الأصل لوشيه. سكن لوشة وغرناطة ومالقة
حالهكان من جلة المشيخة وأعلام الحكمة، فاضلا، منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية، متبحراً في الإلهيات، إماماً في طريقة الصوفية، من أهل المقامات والأحوال، كاتباً بليغاً، شاعراً مجيداً، كثير الحلاوة والطلاوة، قايما على القرآن، فقيهاً أصولياً، عظيم التخلق، جميل العشرة، انتقل من حصن روطة إلى الخطابة والإمامة بلوشة، كثير الدؤوب على النظر والخلوة، مقصوداً من منتحلي ما لديه ضرورة. لم يتزوج، وتمالأت عليه طايفة ممن شانها الغض من مثله، فانزعج من لوشة إلى مالقة، فتحرف بها بصناعة الطب، إلى حين وفاته.
حدثني والدي، وكان خبيراً بأحواله، وهو من أصحاب أبيه، قال، أصابت الناس شدة قحط، وكانت طايفة من أضداده تقول كلاماً مسجعا، معناه، إنكم إن أخرجتم ابن خلصون من بينكم، مطرتم. قال، فانزعج عنها، ولما كان على أميال، نزل الغيث الرغد، قال فسجد بموضعه ذلك، وهو معروف، وقال، سيدي، وأساوري عندك هذا المقدار. وأوجب شكراناً. وقدم غرناطة، وبها الأستاذ أبو عبد الله الرقوطي، وله استيلاء على الحظوة السلطانية، و شأنه اختبار من يرد على الحضرة، ممن يحمل فناً، وللسلطان علي ابن خلصون موجدة، لمدحه في حداثته، أحد الثوار عليه وبقمارش، بقصيدة شهيرة. فلما حضر، سأله الأستاذ ما صناعتك، فقال التصوف، فالتفت إلى السلطان وقال: هذا رجل ضعيف لا شيء لديه، بحيث لا يفرق بين الصناعة وغيرها، فصرفه رحمه الله.
تواليفهوتواليفه كثيرة، تدل على جلالته وأصالة معرفته، تنطق علماً وحكمة، وتروق أدباً وظرفاً. فمن ذلك كتابه في المحبة، وقفت عليه بخط جدي الأقرب سعيد، وهو نهاية. وكتاب وصف السلوك، إلى ملك الملوك، عارض به معراج الحاتمي، فبان له الفضل، ووجبت المزية، ورسالة الفتق والرتق، في أسرار حكمة الشرق.
شعرهمن ذلك قوله:
هل تعلمون مصارع العشاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق
والبين يكتب من نجيع دمايهم ... إن الشهيد لمن يمت بفراق
لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق
منهم كثيب لا يمل بكاؤه ... قد أغرقته مدامع الآماق
ومحرق الأحشاء أشعل ناره ... طول الوجيب بقلبه الخفاق
وموله لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاق
خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم المرور وماله من راق
ما للمحب من المنون وقاية ... إن لم يغثه حبيبه بتلاق
مولاي عبدك ذاهب بغرامه ... فادرك بوصلك من دماه الباق
إني إليك بذلتي متوسل ... فاعطف منك أو إشفاق
ومن شعره أيضاً:
أعد الحديث إذا وصفت جماله ... فبه تهيج للمحب خياله
يا واصف المحبوب كرر ذكره ... وأدر على عشاقه جرياله
فبذكر من أهوى وشرح صفاته ... لذ الحديث لمسمعي وخلاله
طاب السماع بوصفه لمسامعي ... وقررت عيناً مذ لمحت هلاله
قلبي يلذ ملامة في حبه ... ويرى رشاداً في هواه ضلاله
يا عاذلي أو ما ترق لسامر ... سمع الظلام أنينه فرثا له
ومن شعره أيضاً:
إن كنت تزعم حبنا وهوانا ... فلتحملن مذلة وهوانا
فاسجر لنفسك إن أردت وصالنا ... واغصب عليها إن طلبت رضانا
واخلع فؤادك في طلاب ودادنا ... واسمح بموتك إن هويت لقانا
فإذا فنيت عن الوجود حقيقة ... وعن الفناء فعند ذاك ترانا
أو ما علمت الحب فيه عبرة ... فاخلص لنا عن غيرنا وسوانا
وابذل لبابك إن وقفت ببابنا ... واترك حماك إذا فقدت حمانا
ما لعلع ما حاجر ما رامة ... ما ريم أنس يسحر الأذهانا
إن الجمال مخيم بقبابنا ... وظباؤه محجوبة بظبانا
نحن الأحبة من يلذ بفناينا ... نجمع له حسننا إحسانا
نحن الموالي فاخضعن لعز نالنا ... إنا لندفع في الهوى من هانا
إن التذلل للتدلل سحر ... فأخلد إلينا عاشقاً ومهانا
واصبر على ذل المحبة والهوى ... واسمع مقالة هايم قد لانا
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ومن لطيف كلامه ورقيق شعره:
لو خيال من حبيبي طرقا ... لم يدع دمعي بخدي طرقا
ونسيم الريح منه لو سرى ... بشذاه لأزال الحرقا
ومتى هبت عليلات الصبا ... صح جسمي فهن لي نفث رقا
عجباً يشكو فؤادي في الهوى ... لهب النار وجفني الفرقا
يا أهل الحي لي فيكم رشا ... لم يدع لي رمقاً مذ رمقا
بدر تم طالع أثمره ... غصن بان تحته دعص نقا
راق حسناً وجمالا مثلما ... رق قلبي في هواه ورقا
أنسى الشمس ضياه ذهباً ... وكسى البدر سناه ورقا
حلل الحسن عليه خلعت ... فارتداها ولها قد خلقا
ومن شعره.
دعوت من شفتي رفقا على كبدي ... فقال لي خلق الإنسان في كبد
قلت الخيال ولو في النوم يقنعني ... فقال قد كحلت عيناك بالسهد
فقلت حسبي بقلبي في تذكره ... فقال لي القلب والأفكار ملك يدي
قلت الوصال حياتي منك يا أملي ... قال الوصال فراق الروح للجسد
فقلت أهلاً بما يرضى الحبيب به ... فإن قلبي لا يلوي على أحد
ومن أقواله الصوفية، وكلها تشير إلى ذلك المعنى
ركبنا مطايا شوقنا نبتغي السرى ... وللنجم قنديل يضيء لم سرا
وعين الدجا قد نام لم يدر ما بنا ... وأجفاننا بالسهد لم تطعم الكرا
إلى أن رأينا الليل شاب قذاله ... ولاح عمود الفجر غصناً منورا
لمحنا برأس البعد ناراً منيرة ... فسرنا لها نبغي الكرامة والقرا
وأفضى بنا السير الحثيث بسحرة ... لحانة دير بالنواقس دورا
فلما حللنا حبوة السير عنده ... وأبصرنا القسيس قام مكبرا
وحرك ناقوساً له أعجم الصدا ... فأفصح بالسر الذي شاء مخبرا
وقال لنا حطوا حمدتم مسيركم ... وعند الصباح يحمد القوم السرى
نعمتم صباحاً ما الذي قد أتى بكم ... فقلنا له إنا أتيناك زورا
وراحتنا في الراح إن كنت بايعاً ... فإن لدينا فيه أربح مشتري
فقال لكم عندي مدام عتيقة ... مخلدة من قبل آدم أعصرا
مشعشعة كالشمس لكن تروحنت ... وجلت عن التجسيم قدماً فلا ترى
وحل لنا في الحين ختم فدامها ... فأسدى لنا مسكاً فتيقاً وعنبرا
وقلنا من الساقي فلاح بوجهه ... فأدهش ألباب الأنام وحيرا
وأشغلنا عن خمرة بجماله ... وغيبنا سكراً فلم ندر ما جرا
ومن شعره في المعنى:
يا نايماً يطلب الأسرار إسراراً ... فيك العيان ونبغي بعد آثارا
أرجع إليك ففيك الملك مجتمع ... والفلك والفلك العلوي قد دارا
أنت المثال وكرسي الصفات فته ... على العوالم إعلاناً وإسراراً
والطور والدر منثوراً وقد كتبت ... أقلام قدرته في اللوح آثارا
والبيت يعمره سر الملايك في ... مشكاة قلبك قد أسرجن أنوارا
ورفع الله سقفاً أنت تسكنه ... سماوه أطلعت شهباً وأقماراً
وبحر فكرك مسجور بجوهره ... فغص به مخرجاً للدر أسرارا
فإن رأيت بوادي القدس نار هدى ... فاثبت فنورك فيها مازج النارا
واخلع لسمع الندا نعليك مفتقرا ... إلى المنادي تنل عزاً وإكباراً
وغب عن الكون بالأسماء متصفا ... واطلب من الكل رب الدار لا الدارا
ومن ذلك في هذا المعنى:
أطالب ما في الروح من غامض السر ... وقارع باب العلم من عالم الأمر
عرضت لعلم أبهم الشرع بابه ... لكل جهول لحقائق لا يدري
ولكن خبيرا قد سألت محققا ... فدونك فانظم ما نثرت من الدر
وبين يدي نجواك قدم وسيلة ... تقى الله واكتم ما فهمت من السر
ولا تلتفت جسما ولا ما يخصه ... من الحس والتخييل والوهم والفكر
وخذ صورة كلية جوهرية ... تجل عن التمييز بالعكس والسبر
ولكن بمرآة اليقين تولدت ... وليست بذاتي إن سألت ولا غير
كذلك لم تحدث وليست قديمة ... وما وصفت يوماً بشفع ولا وتر
ولكن بذات الذات كان ظهورها ... إذا ما تبدت في الدجا غرة الفجر
ومن هذا الغرض قوله:
مشاهدتي مغناك يا غايتي وقت ... فما أشتكى بعداً وحبك لي نعت
مقامي بقايي عاكفاً بجمالكم ... فكل مقام في الحقيقة لي تحت
لئن حالت الأحول دون لقايكم ... فإني على حكم المحبة ما حلت
وإن كان غيري في الهوى خان عهده ... فإني وأيم الله عهدي ما خنت
وما لي رجاً غير نيل وصالكم ... ولا خوف إلا أن يكون له فوت
نعم إن بدا من جانب الأنس بارق ... يحركني بسط به نحوكم طرت
ومهما تذكرت العتاب يهزني لهيبتكم قبض يغيب به النعت
تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا ... ولاح وجود للحقيقة إذ غبت
فها أنا بين الصحو والمحو داير ... أقول فلا حرف هناك ولا صوت
قصودي إليكم والورود عليكم ... ومنكم سهودي والوجود إذا عدمت
وفي غيبتي عني حضوري لديكم ... وعند امتحان الرسم والمحو أثبت
وفي فرقتي الباني بحق جمعتني ... وفي جمع جمعي في الحقيقة فرقت
تجليته لي حتى دهشت مهابة ... ولما رددت اللحظ بالسر لي عشت
موارد حق بل مواهب غاية إذا ... ما بدت تلك البوادة لي تهت
لوايح أنوار تلوح وتختفي ولكن ... وميض البرق ليس له ثبت
ومهمى بدت تلك الطوالع أدهشت ... وإن غيبت تلك اللوامع أظلمت
وهيهات هيبات الجلال تردني ... وعند التجلي لا محالة دكدكت
نسفن جبالي فهي قاع صفصف ... وليس يرى فيهن زيغ ولا أمت
ولي أدمع أججن نار جوانحي ولي ... نفس لولاه من حبكم ذبت
ألا فانظروا قلب العيان حقيقة ... فنايى ووجودي والحياة إذا مت
مراتب في التلوين نلت جميعها ... وفي عالم التمكين عن كلها بنت
وعند قيامي عن فنايى وجدتكم ... فلا رتبة علوية فوق ما نلت
ورود وشرب ثم لا أرى بعده ... لين كنت أروى من شرابك لا كنت
شربت أكواس الوجود مدامة ... فلست أجلى عن ورود متى شبت
وكيف وأقداح العوالم كلها ... ولكني من صاحب الدير أسكرت
تعلق قوم بالأواني وإنني ... جمال المعاني لا المغاني علمت
وأرضعت كأساً لم تدنس بمزجها ... وقد نلتها صرفاً فيا لعمري ما ضعت
شراب بها الأبرار طاب مزاجهم ... وأرضعتها صرفاً لأني قربت
بها آدم نال الخلافة عندما ... تبدت له شمساً لها نحوه سمت
ونجت لنوح حين فر لفلكه ... ومن بان عن أسرارها عمد الموت
وقد أخمدت نار الخليل بنورها ... وكان لموسى عن أشعتها بهت
وهبت لروح الله روح نسيمها ... فأبصره الأعمى وكلمه الميت
وسار بها المختار سيري لربه ... إلى حيث لا فوق هناك ولا تحت
هنياً لمن قد أسكرته بعرفها ... لقد نال ما يبغي وساعده البخت
ومن نثر الأستاذ الجليل أبي القاسم بن خلصون المترجم به، قوله من رسالة: وصلني أيها الإبن النجيب، المخلص الحبيب، كتابك الناطق بخلوص ودك، ورسوخ عهدك، وتلك سجية لايقة بمجدك، وشنشنة تعرف من والدك وجدك، وصل الله أسباب سعدك، وأنهض عزم جدك، بتوفيق جدك، وبلغك من مأمولك، أقصى قصدك، فلتعلم أيها الحبيب أن جناني ينطوي لكم أكثر مما ينشره لساني. فإني مغري بشكركم وإن أعجمت، ومفصح بجميل ذكركم وإن جمجمت، لا جرم أن الوقت حكم بما حكم، واستولى الهرج فاستحكم، حتى انقطعت المسالك، وعدم الوارد والسالك، وذلك تمحيص من الله جار على قضية قسطه، وتقليب لقلوب عباده بين إصبعي قبضه وبسطه، حين مد على الخليقة ظل التلوين، ولو شاء لجعله ساكناً، ثم جعل شمس المعرفة لأهل التمكين، عليه دليلا باطنا، ثم قبض كل الفرق عن خاصيته قبضاً يسيراً، حتى أطلع عليهم من الأنس بدراً منيراً. وإلى ذلك يا بني فإني أحمد الله تعإلى إليك على تشويقه إياك إلى مطالعة كتب المعارف، وتعطشك للورود على بحر اللطايف. وإن الإمام أبا حامد رحمه الله، لممن أحرز خصلها، وأحكم فرعها وأصلها، لا ينكر ذلك إلا حاسد، ولا يأباه إلا متعسف جاحد. هذا وصفه، رحمه الله، فيما يخصه في ذاته. وأما تعليمه في تواليفه، وطريقه التي سلكها في كافة تصانيفه؛ فمن علماينا رضي الله عنهم، من قال إنه خلط النهاية بالبداية، فصارت كتبه أقرب إلى التضليل منها إلى الهداية، وإن كان لم يقصد فيها إلا النفع، فيما أمه من الغرض، فوجد في كتبه الضرر بالعرض، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطفيل. قال، وأما أبو حامد، فإنه مضطرب التأليف، يربط في موضع، ويحل في آخر، ويتمذهب بأشياء، ويفكر بها، مثل أنه كفر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد روحاني، وإنكارهم حشر الأجساد. وقد لوح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب الجواهر والأربعين وخرج بأنه معتقد كبار الصوفية، في كتاب آخر، وقال إن معتقده كمعتقدهم، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد. قال، وإنما كلامه في كتبه، على نحو تعليم الجمهور. وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب ميزان العمل، على أغلب ظني، فإن لي من مطالعة الكتب مدة. قال، ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، يعنى التقليد، فإنه من لم يشك، لم ينظر، ومن لم ينظر، لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثل بقول الشاعر:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وذلك أنه قسم آراءه إلى ثلاثة: رأى يجاب به كل مسترشد سايل، بحسب سؤاله، وعلى مقدار فهمه. ورأى يجاب به الخاصة، ولا يصرح به للعامة. ورأى بين الإنسان وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا من شريكه في اعتقاده. وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد رحمه الله، فإنه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلة المتكلمين، فإنه لما تكلم على طرق الأشعرية والمعتزلة، والفلاسفة، والصوفية، والحشوية، وما أحدثته المتكلمون من الضرر في الشريعة بتواليفهم، انعطف فقال، وأما أبو حامد، فإنه طم الوداي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعرياً، ومع المعتزلة، معتزلياً، ومع الفلاسفة فيلسوفاً، ومع الصوفية، صوفياً، حتى كأني به
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدنان
ثم قال، والذي يجب على أهل العلم، أن ينهوا الجمهور عن كتبه، فإن الضرر فيها بالذات، والمنفعة بالعرض. قال، وإنما ذلك لأنه صرح في كتبه بنتائج الحكمة، دون مقدماتها، وأفصح بالتأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء، الراسخون في العلم، وهي التي لا يجوز أن تؤول للجمهور، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان. وأنا أقول إن كتبه في الأصلين، أعني أصول الدين، وأصول الفقه. في غاية النبل والنباهة، وبسط اللفظ، وحسن الترتيب والتقسيم، وقرب المسائل. وكذلك كتبه الفقيهة والخلافية والمذهبية، التي ألفها على مذهب الشافعي، فإنه كان شافعي المذهب، في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوفة. وقد نبه على ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطرطوشي في كتابه الذي سماه بمراقي العارفين. قال، وقد دخل على السالكين ضرر عظيم من كتب هذا الرجل الطوسي، فإنه تشبه بالصوفية ولم يلحق بمذاهبهم، وخلط مذاهب الفلاسفة بمذاهبهم، حتى غلط الناس فيها. على أنني أقول إن باعه في الفلسفة كان قصيراً، وإنه حذا حذو الشيخ أبي علي بن سينا في فلسفته التي نقلها في المقاصد، ومنطقه الذي نقله في معيار العلم، لكن قصر عنه. وتلك الاعتقادات، منها حق ومنها باطل، وتلخيصه لا يتأتى إلا لصنفين من الناس، أعني أهل البرهان، وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، أو رياضة أهل المكاشفة، وحينئذ ينظر ي ساير كتبه. وهذه الرسالة طويلة، تكلم فيها على كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله، بما يدل على تفننه، وعلى اضطلاعه، رحمه الله.
ومن الغرباء في هذا الاسم
محمد بن يوسف العراقيمحمد بن أحمد بن أمين بن معاذ بن إبراهيم بن جميل بن يوسف العراقي ثم الخلاطي، ثم الأقشري الفارسي، وينعت من النعوت المشرقية بجلال الدين، من بلاد فارس
حالهكان من الصوفية المتجردين من المال والعيال، ذا وقار وتودة، وسكون ومحافظة على ظاهره. أكثر في بلاد المشرق من الأخذ عن الشيوخ المحدثين والمتصوفين، ثم قدم المغرب، فاستوطن بعض بلاده، ثم أجاز البحر إلى الأندلس عام أربعة وسبعماية، وأخذ عمن بها من الشيوخ، ودخل غرناطة. وكان شافعي المذهب، يشارك في قرض الشعر.
مشيختهأخذ عن أبي مروان عبد الملك الشريثي بفاس، وعن أبي بكر محمد ابن محمد بن قسي المومياني، ولبس الخرقة الصوفية من جماعة بالمشرق، وبالمغرب، منهم الإمام أبو إبراهيم الماجري، عن أبي محمد صالح، عن أبي مدين.
تواليفه
أخذ عنه تاليفه في نحو اللغة الفارسية، وشرح ألفاظها. قال شيخنا، الوزير أبو بكر بن الحكيم، كتب إلي والدي ببابه، وقد أحس بغض من الشيخ الإمام أبي عبد الله بن خميس، عميد مجلس الوزارة الحكيمية:
عبيد بباب العلى واقف ... أيقبله المجد أم ينصرف
فإن قبل المجد نلت المنا ... وإلا فقدري ما أعرف
ثم كتب على لفظه ما من وصححه. قال فأذن له، واستظرف منزعه.
ابن شاطرمحمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن شاطر
حاله
فقير متجرد، يلبس أحسن أطوار الخرقة، ويوثر الاصطلاح، مليح الشيبة، جميل الصورة، مستظرف الشكل، ملازم للمسجد، مساكن بالمدارس، محبب إلى الخواص، كثير الذكر، متردد التأوه، شارد اللسان، كثير الفتات، مطرح في أكثر الأحاين للسمت، ينزع إلى هدف تايه، تشم عليه القحة والمجانة، مقتحم حمى الحشمة في باب إبهام التلبيس، يزلق سوء الاعتقاد عن صفاته، وإن قارب الانهماك، غير مبال بناقد، ولا حافل بدام، ولا حامد. كلما اتبع انفرد، ومهمى استقام شرد، تطيب النفس به على غرة، ويحسن الظن بباطنه على سوء ظاهره، مليح الحديث، كثير الاعتبار. دايم الاسترجاع والاستغفار. فعال الموعظة. عجيب الانتزاع من الحديث والقرآن، مع عدم الحفظ، مستشهد بالأبيات الغريبة على الأحوال. قال شيخنا القاضي أبو عبد الله بن المقري: لقيت فيمن لقيت بتلمسان رجلين. أحدهما عالم الدنيا، والآخر نادرتها. أما العالم فشيخنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي، وأما النادرة، فأبو عبد الله بن شاطر ثم قال، صحب أبو زيد الهزميري كثيراً، وأبا عبد الله بن تجلات، وأبا العباس بن البنا، وإخوانهم من المراركشيين ومن جاورهم، واختص بأبي زيد الهزميري، وآثره وتبناه، وكان يقول له، وألقيت عليك محبة مني، فيظهر أثر ذلك عليه، من ستر الهنات، ووضع القبول، فلا تجد من يستثقله من راض عنه أو ساخط دخل الأندلس، وقدم على غرناطة، وتلوم بها أياما.
نبذ من أقوالهفمن ذلك أنه إذا سئل عن نفسه يقول، أنا ولي مفسود، وفي هذا من النصفة، وخفة الروح ما لا خفاء به. قال بعض شيوخنا، قلت له يوماً، كيف أنت، فقال، كيف أنا محبوس في الدم. ومن حكمه، الليل والنهار حرسيان، أحدهما أسود، والآخر أبيض، وقد أخذ بمجامع الخلق إلى يوم القيامة، وإن مررنا إلى الله. ومر يوما بأبي العباس بن شعيب الكاتب وهو جالس في جامع الجزيرة، وقد ذهبت به الفكرة، فصاح به فلما رفع رأسه، قال، وله نعش خاطر، أنظر إلى مركب عزراييل، قد رفع شراعه، والندا عليه، اركبوا يا عزا. قال شيخنا أبو عبد الله المقري، وجدته يوماً في المسجد ذاكراً، فقلت له، كيف أنت، فقال مهيم في روضة يجبرون، فهممت بالانصراف، فقال أين تذهب من روضة من رياض الجنة، يقام فيها على رأسك بهذا التاج، وأشار إلى المنار، مملوءاً بالله أكبر. قال وأنشدني أبو العباس بن البنا، وكتبهما عنه:
قصدت إلى الوجازة في كلامي ... لعلمي بالصواب في الاختصار
ولم أحذر فهو ما دون فهمي ... ولكن خفت إزراء الكبار
فشأن فحولة العلماء شاني ... وشان البسط تعليم الصغار
قال، وأخبار ابن شاطر تحتمل كراسة، قلت رأيته بفاس في أخريات عام خمسة وخمسين، وهو الآن بحاله الموصوفة، قد أربى على السبعين.
ابن الحلفاويمحمد بن محمد بن عبد الرحمن التميمي، ابن الحلفاوي من أهل تونس، يكنى أبا عبد الله، نزيل غرناطة، ويعرف بالتونسي وبابن المؤذن ببلده.
حاله
من العايد: قال، ولي الله المجاب الدعوة، الظاهر الكرامة، المشهود له بالولاية. ورد الأندلس في جملة من تجار بلده، وبيده مال كبير، بذله في معاملة ربه، إلى أن استأصله بالصدق، وأنفقه في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، وتجرد عن الدنيا، وأخذ نفسه بالصلاة والصوم والتلاوة، وكثرة السجود، والتطارح على ذلك، محفوظاً في ذلك كله، حفظة الأولياء، مذكرا بمن سلفه من الزهاد، عازباً عن الدنيا أخذ نفسه بسلوك الإيتاب عنها، رحمة للخلق، وتمالأ للمساكين، بقصده الناس بصدقاتهم، فيبثها في ذوي الحاجات، فيتألف في باب مسجده آلاف من رجالهم ونسايهم وصبيانهم، حتى يعمه الرفد، وتسعهم الصدقة. وكان غريب الأحوال، إذا وصل وقت الصلاة، يظهر عليه البشر والسرور، ويدخل مسجده الذي ابتناه، واحتفل فيه، فيخلو بنفسه آخذاً في تعبدات كثيرة، غريبة شاملة لجميع أركان المسجد، ويزدحم الناس حول المسجد، وأكثرهم أهل الفاقة، فإذا تمكن الوقت، أذن إذانا مؤثراً في القلوب، جداً وصدقاً ووقاراً، كان صدره ينصدع عند قول، لا إله إلا الله، ثم يعيد التعبد والسجود في الصومعة وأدراجها، حتى يفتح باب المسجد، وينتقل إلى صدر المحراب، فيصلي ركعات خفيفة. فإذا أقام الصلاة، ووقف عند المحراب، ظهر عليه من الخوف والكآبة والحزن والانكسار والتضرع والتملق والرغبة، ما لا تفي العبارة بوصفه، كأن موقفه موقف أهل الجرايم بين أيدي الملوك الجبابرة. فإذا أتم الصلاة على أم هيئاتها، ترى كأن الغبار على وجهه، أو كأنه حشر من قبر، فإذا شرع في الدعاء بأثر الصلاة، يتلوه بترداد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل دعوة، ويتوسل به، وتظهر عليه أحوال من الحضور والمراقبة، وينجلي عن وجهه ما كان به. وكان يختم القرآن في شهر رمضان مائة ختمة، فما من ليلة، إلا ويحيي الليل كله فيها بمسجده. هذا ترتيبه، ولو تتبعنا ما شوهد من كراماته وأحواله، لخرجنا عن الغرض.
ولد بتونس في حدود الأربعين وستماية.
توفي في شهر بيع الثاني عام خمسة عشر وسبعماية. وكان الحفل في جنازته عظيماً، استوعب الناس كافة، وحضر السلطان، فمن دونه، وكانت تنم، زعموا، على نعشه وقبره رائحة المسك. وتبرك الناس بجنازته، وقصد قبره المرضي وأهل الحاجات، وبقي القراء يقرأون القرآن عليه مدة طويلة. وتصدق على قبره بجملة من مال، ففدى به طايفة من الأسرى. وقبره بباب إلبيرة عن يمين الخارج إلى مقبرة العسال، معروف هنالك.
ابن بطوطةمحمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن يوسف اللواتي من أهل طنجة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بطوطة
حالهمن خط شيخنا أبي البركات، قال، هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطلب، رحل من بلاده إلى بلاد المشرق يوم الخميس الثاني من رجب عام خمسة وعشرين وسبعماية، فدخل بلاد مصر والشام والعراق، وعراق العدم، وبلاد الهند والسند، والصين، وصين الصين، وبلاد اليمن. وحج عام ستة وعشرين وسبعماية. ولقي من الملوك والمشايخ عالماً، وجاور بمكة. واستقر عند ملك الهند، فحظي لديه، وولاه القاضاء، وأفاده مالاً جسيماً. وكانت رحلته على رسم الصوفية زيا وسجية، ثم قفل إلى بلاد المغرب، ودخل جزيرة الأندلس، فحكمى بها أحوال المشرق، وما استفاد من أهله، فكذب، وقال، لقيته بغرناطة، وبتنا معه ببستان أبي القاسم ابن عاصم بقرية نبلة، وحدثنا في تلك الليلة، وفي اليوم قبلها عن البلاد المشرقية وغيرها، فأخبر أنه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطنية العظمى، وهي على قدر مدينة مسقفة كلها، وفيها اثني عشر ألف أسقف. قلت، وأحاديثه في الغرابة أبعد من هذا. وانتقل إلى العدوة، فدخل بلاد السودان، ثم تعرف أن ملك المغرب استدعاه، فلحق ببابه. وأمر بتدوين رحلته.
ساير الأسماء في حرف الميم الملوك والأمراء، وما منهم إلا طارئ علينا أو غريب
مزدلي بن تيولتكان
بن حمني بن محمد بن ترقوت بن وربابطن بن منصور
ابن نصاله بن أمية بن واباتن الصنهاجي اللتمونيحاله
كان الأمير مزدلي عضد القايم بالدولة اللمتونية يوسف بن تاشفين، وقريبه لا لتقائهما في ترقوت، راش به وبرى، وجز وفرى، فهو شيخ الدولة اللمتونية، وكبير العصابة الصنهاجية، بطلاً ثبتاً، بهمة من البهم بعيد الصيت، عظيم الجلد، شهير الذكر، أصيل الرأي، مستحكم الحنكة، طال عمره، وحمدت مواقعه، وبعدت غاراته، وعظمت في العدو وقايعه، وشكرت عن سلطانه نيابته.
من مناقبه، استرجاع مدينة بلنسية من أيدي الروم بسعيه، ورده إلى ملكة الإسلام بحميد غنايه في منتصف رجب عام خمس وخمس ماية.
دخوله غرناطة، ولي قرطبة وغرناطة وما إليهما من قبل يوسف بن تاشفين سنة خمس وخمسماية.
قال ابن الصيرفي، توفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال عام ثمانية وخمس ماية، غازياً على مقربة من حصن قسطانية، طرق به إلى قرطبة، فوصل يوم الأربعاء ثاني يوم وفاته، وصلى عليه إثر صلاة العصر الفقيه القاضي بقرطبة أبو القاسم بن حمدين، ودفنه قرب أبيه، وبنيت عليه روضة حسنة. وكان، نضر الله وجهه، البقية الصالحة على نهج أمير المسلمين يوسف.
ابن علي الهنتاتي موسى بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الهنتاتيالسيد أبو عمران.
حالهبيته معروف. وكان أديباً شاعراً، جواداً، واختص بالعادل، فجل قدره في دولته، وأمله الناس بإشبيلية في حوايجهم لمحله منهم. ولما انصرف عنها العادل إلى طلب الخلافة، قدمه عليها، فبلغ الغاية.
وفي شوال من عام اثنين وعشرين وستماية، كانت على جيشه الوقيعة، أوقعها به السيد أبو محمد البياسي، وأخباره شهيرة.
وتوفي تغريقاً في البحر بعد أن ولي بجاية، رحمه الله وعفا عنه.
شعرهقال، وكان أبو المطرف بن عميرة، ينشد له، يخاطب الفقيه الأديب أبا الحسن بن حريق بستحثه على نظم الشعر في عروض الخبب:
خذ في الأشعار على الخبب ... فقصورك عنه من العجب
هذا وبنو الآداب قضوا ... بعلو مجدك في الرتب
فنظم له أبو الحسن القصيدة المشهورة، منها:
أبعيد الشيب هوى وصبا ... كلا لا لهواً ولا لعبا
ذرت الستون برادنها ... في مسك عذارك فاشتهبا
ومنها:
يا نفس أحيي تصلي أملاً ... عيشي روحيا تروي عجبا
وخذي في شكر الكبرة ما ... لاح إلا صباح وما ذهبا
فيها أحرزت معارف ما ... أبليت بجدته الحقبا
والخم إذا أعتقت وصفت ... أعلى ثمناً منها عنبا
وبقية عمر المرء له أن ... كان بها طبا دربا
دخل غرناطة، فوجب ذكره مع مثله.
منديل بن يعقوب
بن عبد الحق بن محيو الأمير أبو زيان
حاله
كان فاضلاً عاقلاً جواداً، عينه أبوه أمير المسلمين أبو يوسف بن عبد الحق، للضرب على أحواز مالقة عند الفتنة، فاضطرب المحلة تجاه سهيل، وضيق على تلك الأحواز، وبرز إليه الجيش لنظر موسى بن رحو من قرابته، النازعين عن إيالة المغرب من بني رحو. وكان اللقاء، فوقعت به الذبرة، وانهزم جيشه، وقبض عليه، وسيق إلى السلطان، فتلقاه بالبر، ورعى ما لبيته الكبير من الحق، وأسكنه مجاوراً لقصره بحمرايه، مرفهاً عليه، محجوزاً عن التصرف، إلى أن كان من تلاحق بهذه الحل من وفاة أبيه السلطان أبي يوسف بالجزيرة الخضراء، وتصير الأمر إلى ولده السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف. وتجدد الألفة وتأكدت المودة، وارتفعت الإحنة، فكان ما هو معروف من التقايهما على تعينة إجازة ملك المغرب أبي يعقوب البحر على ظاهر مربلة، وصرف الأمير أبو زيان محبواً بما يليق به.حدثني شيخنا أبو زكريا بن هذيل رحمه الله، قال، نصب للسلطان أبي يعقوب خباء احتفل في اتخاذه له أمير سبتة، فبلغ الغاية التي لا يستطيعها الملوك، سمو عماد، وامتداد ظل، وانفساح ساحة، إلى إحكام الصنعة، والإعياء في الزخرف. وقعد فيه السلطان ملك المغرب، وأجلس السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله ابن الغالب بالله، عن يمينه، وأخاه الأمير أبا زيان عن يساره، وقرأ عشاره المعروف بالوقاد، آية الله في حسن الصوت، وبعد مدي السمع، وطيب النغمة، قوله عز وجل، " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل، وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه، إذ أنتم جاهلون، قالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " . فكان مقاماً مبهتاً. كان السلطان رحمه الله يقول، لشد ما جنى علي عدو الله بقحته، والله لقد كان يشير بيده إلى السلطان وأخيه عند قوله، أنا يوسف وهذا أخي. ثم أجاز للعدوة، فطاح بها لعهد غير بعيد.
وكان الإيقاع بجيش الأمير أبي زيان في أخريات ذي الحجة عام أربعة وثمانين وستماية. فاتصل بذلك موت والد أمير المسلمين أبي يوسف بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين بعده، وكان لقاء السلطانين بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين هذه، وكان اللقاء كما ذكر في شهر ربيع الآخر من العام المذكور.
ومن الطارئين
ابن عبد الرحمن بن معاويةالمطرف بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام
حالهكان المطرف، ولد الخليفة عبد الله أمير المسلمين بالأندلس، شجاعاً مقداماً، جرياً، صرفه والده الخليفة في الغزوات، وقود العساكر، وهو الذي بنى حصن لوشة، ووقم كثيرا من الخوارج على والده.
دخوله غرناطةقال ابن حيان غزا المطرف ببشتر بسبب ابن حفصون، إذ كان صالح الأمير عبد الله، ودفع رهينة ابنه، فلما امتحن الطفل، وجد غير ابنه، فنهض إليه المطرف، وكان القايد على العسكر قبله عبد الملك ابن أمية، فنهض صحبته، ونازل المطرف ابن حفصون، فهتك حوزته، وتقدم إلى بنية كان ابتناها بموضع يعرف باللويات، فشرع في خرابها، وخرج ابن حفصون ومن معه من النصرانية يدافع عنها، وعن كنيسة كانت بقربها، فغلب ابن حفصون، وهدمت الكنيسة، وقتل في هذه الحرب حفص بن المرة قايده ووجوه رجاله، وعند الفراغ من ذلك. انصرف المطرف، فدخل كورة إلبيرة، وبنا لوشة، وتقدم منها إلى إلبيرة ودخلها، ثم طاف بتلك الجهات والحصون، ثم انصرف.
ذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب، الإحنة بينه وبين أبيه قال، وفي هذه اذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب، الإحنة بينه وبين أبيه قال، وفي هذه الحركة، أوقع بعبد الملك بن أمية، لما كان في نفسه لصرف والده عن عقد البيعة له، وتمزيق العهد في خبر يطول. وكان والده قد أخذ عليه الميثاق عند خروجه إلى شذونة، ألا يعرض إليه بمكروه، وأقسم له بالإيمان، لين نال منه شيئاً ليعاقبنه بمثله، فلما قتله، عقد الوثائق عليه، وأخذ الشهادات فيها بالظلم والشؤم خوفاً من أبيه، وكتب إليه يعتذر له، ويحكمه في نفسه.
مقتل المطرف
قال، وظهرت عليه، فعال قبيحة، من أذى جيرانه بما أكد غايلة أبيه عليه، وأعان عليه معاوية بن هشام، لما ذكروا أن المطرف كان قد خلا به، فذكروا أنه نزل يوماً عنده بمنزله، وأخذوا في حديث الأبناء، وكان المطرف عقيماً، فدعا معاوية بصبي يكلف به، فجاء وبرأسه ذؤابتان، فلما نظر إليه المطرف حسده، وقال يا معاوية، أتتشبه بأبناء الخلفاء في بنيهم، وتناول السيف فحز به الذؤابة، وكان معاوية حية قريش دهاء ومكراً، فأظهر الاستحسان لصنعه وانبسط معه في الأنس، وهو مضطغن. فلما خرج كتب إلى الخليفة يسأله اتصاله إليه، فلما أوصله كاشفه في أمر المطرف بما أزعجه، وأقام على ذلك ليلاً أحكم أمره عند الخليفة بلطف حيلته، فأصاب مقتله سهم سعايته. قال ابن الفياض، بعث الأمير عبد الله إلى دار ولده المطرف عسكراً للقبض عليه، مع ابن مضر، فقوتل في داره حتى أخذ، وجيء به إليه، فتشاور الوزراء في قتله، فأشار عليه بعضهم أن لا يقتله، وقال بعضهم إن لم تقتله قتلك، فأمر ابن مضر بصرفه إلى داره، وقتله فيها، وأن يدفنه تحت الريحانة التي كان يشرب الخمر تحتها، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وذلك في يوم الأحد ضحى لعشر خلون من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
منذر بن يحيى التجيبيأمير الثغر المنتزي بعد الجماعة بقاعدة سرقسطة، يكنى أبا الحكم ويلقب بالحاجب المنصور، وذي الرياستين.
حالهقال أبو مروان، وكان أبو الحكم رجلا من عرض الجند، وترقى إلى القيادة آخر دولة ابن أبي عامر. وتناهى أمره في الفتنة إلى الإمارة. وكان أبوه من الفرسان غير النبهاء. فأما ابنه منذر، فكان فارساً تقي الفروسية، خارجاً عن مدى الجهل، يتمسك بطرف من الكتابة الساذجة. وكان على غدره، كريماً، وهب قصاده مالاً عظيماً، فوفدوا عليه، وعمرت لذلك حضرته سرقسطة. فحسنت أيامه، وهتف المداح بذكره.
وفيه يقول أبو عمرو بن دراج القسطلي قصيدته المشهورة، حين صرف إليه وجهه، وقدم عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعماية:
بشراك من طول الترحل والسرى ... صبح بروح السفر لاح فأسفرا
من حاجب الشمس الذي حجب الدجا ... فجراً بأنهار الذرى متفجرا
نادى بحي على الندى ثم اعتلا ... سبل العفاة مهللاً ومكبرا
لبيك أسمعنا نداك ودوننا ... نوء الكواكب مخويا أو ممطرا
من كل طارق ليل هم ينتحي ... وجهي بوجه من لقايك أزهرا
سار ليعدل عن سمايك أنجمي ... وقد ازدهاها عن سناك محيرا
فكأنما أعدته أسباب النوى ... نور الهدى عن يديك منورا
أو غار رمن هممي فأنحى شأوها ... فلك البروج مغرباً ومغورا
حتى علقت النيرين فأعلقا ... مثنى يدي ملك الملوك النيرا
فسريت في حرم الأهلة مظلما ... ورفلت في خلع السموم مهجرا
وشعيت أفلاذ الفؤاد ولم أكد ... فحذوت من حذو الثريا منظرا
ست تسراها الجلاء مغرباً ... وحدا بها حادي النجاء مشمرا
لا يستفيق الصبح منها ما بدا ... فلقاً ولا جدى الفراقد ما سرا
ظعن ألفن القفر في غول الدجا ... وتركن مألوف المعاهد مقفرا
يطلبن لج البحر حيث تقاذفت ... أمواجه والبر حيث تنكرا
هيم وما يبغين دونك موردا ... أبدا ولا عن بحر جودك مصدرا
من كل نضو الآل محبوك المنى ... يزجيه نحوك كل محبوك القرا
بدن فدت منا دماء نحورها ... ببغائها في كل أفق منحرا
نحرت بنا صدر الدبور فأنبطت ... قلق المضاجع تحت جو أكدرا
وصبت إلى نحو الصبا فاستخلصت ... سكن الليالي والنهار المبصرا
خوص نفخن بنا البري حتى انثنت ... أشلاؤهن كمثل أنصاف البرا
نذرت لنا أن لا تلقي راحة ... مما تلاقى أو تلاقى منذرا
وتقاسمت أن لا تسيغ حياتها ... دون ابن يحيى أو تموت فتعذرا
لله أي أهلة بلغت بنا ... يمناك يا بدر السماء المقمرا
بل أي غصن في ذاك هصرته ... فجرى فأورق في يديك وأثمرا
فلئن صفا ماء الحياة لديك لي ... فبما شرقت إليك بالماء الصرى
ولئن خلعت على برداً أخضرا ... فلقد لبست إليك عيشاً أغبرا
ولئن مددت علي ظلا باردا ... فلكم صليت إليك جواً مسعرا
وكفى لمن جعل الحياة بضاعة ... ورأى رضاك يها رخيصاً فاشترى
فمن المبلغ عن غريب نازح ... قلبا يكاد علي أن يتفطرا
لهفان لا يرتد طرف جفونه ... إلا تذكر عبرتي فاستعبرا
أبني لا تذهب بنفسك حسرة ... عن غول رحلي منجدا أو مغورا
فلئن تركت الليل فوق داجيا ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
ولقد وردت مياه مأرب حفلاً ... وأسمت خيلي وسط جنة عبقرا
ونظمت للغيد الحسان قلائداً ... من تاج كسرى ذي البهاء وقيصرا
وحللت أرضاً بدلت حصباؤها ... ذهباً يرف لناظري وجوهرا
وليعلم الأملاك أني بعدهم ... ألفيت كل الصيد في جوف الفرا
ورمى علي رداءه من دونهم ... ملك تخير للعلا فتخيرا
ضربوا قداحهم علي ففاز بي ... من كان بالقدح المعلى أجدرا
من فك طرفي من تكاليف الفلا ... وأجار طرفي من تباريح السرى
وكفا عتابي من ألام معذرا ... وتذممى ممن تحمل معذرا
ومسائل عني الرفاق ووده ... لو تنبذ السانحات رحلي بالعرا
وبقيت في لجج الأسى متضللاً ... وعدلت عن سبل الهدى متحيراً
كلا وقد آنست من هود هدى ... ولقيت يعرب في القبول وحميرا
وأصبت في سبإ مورث ملكه ... يسبي الملوك ولا بدب لها الضرا
فكأنما تابعت تبع رافعاً ... أعلامه ملكاً يدين له الورى
والحارث الجفني ممنوع الحمى ... بالخيل والآساد مبذول القرى
وحططت رحلي بين نار حاتم ... أيام يقرى موسراً أو معسرا
ولقيت زيد الخيل تحت عجاجه ... يكسو غلايلها الجياد الضمرا
وعقدت في يمن مواثق ذمة ... مشدودة الأسباب موثقة العرى
وأتيت بحدل وهو يرفع منبرا ... للدين والدنيا وبخفض منبرا
وحططت بين جفانها وجفونها ... حرماً أبت حرماته أن تخفرا
تلك البحور تتابعت وخلفتها ... سعياً فكنت الجوهر المتخيرا
ولقد نموك ولادة وسيادة ... وكسوك عزاً وابتنوا لك مفخرا
فممرت بالآمال أكرم أكرم ... ملكاً ورثت علاه أكبر أكبرا
وشمايل عبقت بها سبل الهدى ... وذرت على الآفاق مسكاً أذفرا
أهدى إلى شغف القلوب من الهوى ... وألذ في الأجفان من طعم الكرى
ومشاهد لك لم تكن أيامها ... ظناً يريب ولا حديثاً يفترى
لاقيت فيها الموت أسود أدهما ... فذغرته بالسيف أبيض أحمرا
ولو اجتلى في زي قرنك معلماً ... لتركته تحت العجاج معفرا
يا من تكبر بالتكرم قدره ... حتى تكرم أن يرى متكبرا
والمنذر الأعداء بالبشرى لنا ... صدقت صفاتك منذرا ومبشرا
ما صور الإيمان في قلب امرئ ... حتى يراك الله فيه مصورا
فارفع لها علم الهدى فلمثلها ... رفعتك أعلام السيادة في الذرى
وانصر نصرت من السماء فإنما ... ناسبت أنصار النبي لتنضرا
واسلم ولا وجدوا لجوك منفساً ... في النائبات ولا لبحرك معبرا
سيرته
قال، وساس لأول ولايته عظيم الفرنحة. فحفظت أطرافه، وبلغ من استمالته طوايف النصرانية، أن جرى على يديه بحضرته. عقد مصاهرة بعضهم، فقرفته الألسنة لسعيه في نظام سلك النصارى. وعمر به الثغر إلى أن ألوت به المنية. وقد اعترف له الناس بالرأي والسياسة.
كتابه. واستكتب عدة كتاب كابن مدور وابن أزرق. وابن واحب وغيرهم.
وصوله إلى غرناطةوصل غرناطة صحبة الأمير المرتضى الآتي ذكره، وكان ممن انهزم بانهزامه. وذكروا أنه مر بسليمان بن هود، وهو مثبت للإفرنج الذين كانوا في المحلة لا يريم موقفه، فصاح به النجاة، يا بن الفاعلة، فلست أقف عليك، فقال له سليمان، جيت والله بها صلعاً، وفضحت أهل الأندلس، ثم انقلع وراءه.
وفاتهوكانت على يدي رجل من أبناء عمه يدعى عبد الله بن حكم، كان مقدماً في قواده، أضمر غدره، فدخل عليه، وهو غافل في غلالة، ليس عنده إلا نفر من خواص خدمه الصقلب، قد أكب على كتاب يقرؤه، فعلاه بسكين أجهز به عليه. وأجفل الخدم إلا شهم منهم أكب عليه فمات معه. وملك سرقسطة، وتمسك بها أياما، ثم فر عنها، وملكها ابن هود. وكان الإيقاع به غرة ذي حجة سنة ثلاثين وأربعمائة، رحمة الله عليه.
موسى بن يوسف بن عبد الرحمن
بن يحيى بن يغمراسن بن زيان
الأمير بتلمسان، يكنى أبا حمو.أوليتهأوليته معروفة تنظر فيما سلف من الأسماء.
حالههذا السلطان مجمع على حزمه، وضمه لأطراف ملكه. واضطلاعه بأعباء ملك وطنه، وصبره لدولة قومه. وطلوعه بسعادة قبيله. عاقل، حازم، خصيف، ثابت الجأش، وقور مهيب، جماعة للمال، مباشر للأمور، هاجر للذات، يقظ، متشمر. قام بالأمر غرة ربيع الأول في عام ستين، مرتاش الجناح بالأحلاف من عرب القبلة، معولاً عليهم عند قصد عدوه، وحلب ضرع الجباية، فأثرى بيت ماله، ونبهت دولته، واتقته جيرته، فهو اليوم ممن يشار إليه بالسداد.
أدبه وشعرهووجه لهذا العهد في جملة هدايا ودية، ومقاصد سنية، نسخة من كتابه المسمى بواسطة السوك في سياسة الملك، افتتحه بقوله: الحمد لله الذي جعل نعمته على الخلق، بما ألفهم عليه من الحق، شاملة شايعة، ويسر طوايف من عباده لليسرى، فأتت إليها مساعدة مسارعة، وحضهم على الأخذ بالحسنى، ولا أن أحسن من نفوس أرشدت، فأقبلت لإرثها طالبة ولربها طايعة. ولا أسمى من همم نظرت بحسن السياسة ي تدبير الرياسة، التي هي لأشتات الملك جامعة، ولأسباب الملك مانعة، وأظهرت من معادنها درر الحكم، وغرر الكلم لايحة لامعة، فاجتلت أقمارها طالعة، واجنت أزهارها يانعة. وصلى الله على سيدنا محمد الكريم، المبعوث بالآيات البينات، ساطية ساطعة، والمعجزات المعجمات قاصمة لظهور الجاحدين قاطعة. الذي زويت له الأرض، فتدانت أفكارها وهي نابية شاسعة، واشتاقت له المياه، فبرزت بين أصابعه يانعة، وامتثل السحاب أمره، فسح باستسقايه دراً هامية هامعة، وحن الجذع له، وكان حنينه لهذه الآيات الثلاث آية رابعة، إلى ما لا يحصى مما أتت به متواترات الأخبار، وصيحات الآثار، ناصرة لنبوته ساطعة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعترته التي أجابت داعي الله خاشية خاشعة، وأذعنت لأوامر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكانت من الاستبداد خالية، وللأنداد خالعه، صلاه ديمتها دايمة متتابعة، وسلم كثيرا.
جمع فيه الكثير من أخبار الملوك وسيرهم، وخص به ولده وولي عهده، فجاء مجموعاً يستظرف من مثله، ويدل على مكانه من الأدب ومحله.
وثبت فيه الكثير من شعره، فمن ذلك قصيدة أجاب فيها أحد رؤوس القبايل، وقد طلب منه الرجوع إلى طاعته، والانتظام في سلك جماعته، وهي:
تذكرت أطلال الربوع الطواسم ... وما قد مضى من عهد المتقادم
وقفت بها من بعد بعد أنسها ... بصبر مناف أو بشوق ملازم
تهيم بمغناهم وتندب ربعهم ... وأي فؤاد بعدهم غير هايم
تحن إلى سلمى ومن سكن الحمى ... وما حب سلمى للفتى بمسالم
فلا تندب الأطلال واسل عن الهوى ... ولا تقل في تذكار تلك المعالم
فإن الهوى لا يستفز ذوي النهى ... ولا يستبي إلا الضعيف العزايم
صبور على البلوى طهور من الهوى ... قريب من التقوى بعيد المآثم
ومن يبغ درك المعلوات ونيلها ... يساق بخلق الشهد مر العلاقم
ولايمة لما ركبنا إلى العلا ... بحار الردى في لجها المتلاحم
تقول بإشفاق أتنسى هوى الدما ... وتنثر درراً من دموع سواجم
إليك فإنا لا يرد اعتزامنا ... مقالة باك أو ملامة لايم
ألم تدر أن اللوم لوم وأننا ... لنجتنب اللوم اجتناب المحارم
فما بسوي العليا همنا جلالة ... إذا هام قوم بالحسان النواعم
بروق السيوف المشرفيات والقنا ... أحب إلينا من بروق المباسم
وأما صميل السابحات لذي الوغى ... فأشجى لدينا من غنا الحمايم
وأحسن من قد الفتاة وخدها ... قدود العوالي أو خدود الصوارم
إذا نحن جردنا الصوارم لم تعد ... إلا غمادها الأبحر الغلاصم
نواصل بين الهند وأني الطلا ... بتفريق ما بين الطلي والجماجم
فيرغب منا السلم كل محارب ... ويرهب منا الحرب كل مسالم
نقود إلى الهيجاء كل مضمر ... ونقدم إقدام الأسود الضراغم
وما كل من قاد الجيوش إلى العدا ... يعود إلى أوطنانه بالغنائم
وننصر مظلوما ونمنع ظالما ... إذا شيك مظلوم بشوكة ظالم
ويأوي إلينا المستجير ويلتجي ... ويحميه منا كل ليث صيارم
ألم تر إذ جاء السبيعي قاصدا ... إلى بابنا يبغي التماس المكارم
وذلك لما أن جفاه صحابه ... وكل خليل وده غير دايم
وأزمع إرسالاً إلينا رسالة ... بإخلاص ود واجب غير واجم
وكان رأى أن المهامة بيننا ... فخلى لذات الخف ذات المناسم
وقال ألا سل من عليم مجرب ... أبث له ما تحت طي الحيازم
فيبلغ عنه الآن خير رسالة ... تودي إلى خير الملوك الأعاظم
على ناقة وجناء كالحرف ضامر ... تخيرها بين القلاص الرواسم
من اللايي يظلمن الظليم إذا عدى ... ويشبهه في جيده والقوايم
إذا أتلعت فوق السحاب جوابها ... تخليتها تعض السحاب الرواكم
وإن هلمجت بالسير في وسط مهمه ... نزلت كمثل البرق لاح لشايم
ولم يأمن الخلان بعد اختلالهم ... فأمسى وفي أكبادها أي جاحم
فقالوا فحملها الحمايم قال لا ... لبعد المدا أو خوف صيد الحمايم
وما القصد إلا في الوصول بسرعة ... فقالوا فحملها أكف النواسم
فقال لنعم المرسلات وإنما ... لها ألسن مشهورة بالنمايم
فلم يلف فيها للأمانة موضعا ... وكل امرئ للسر ليس بكاتم
فحينئذ وافى إلينا بنفسه ... فكان لدينا خير واف وقادم
يجوب إلينا البيداء قصداً وبشرنا ... يضيء له الظلماء في كل عاتم
طلاب العلا تسري مع الوحش في الفلا ويصحب منها كل باغ وباغم
على سلهب ذي صوتين مطعم ... من المغربات الصافنات الصلادم
إذا شاء أي الوحش أدركه به ... فتحسبه في البيد بعض النعايم
ويقدمه طوعاً إلينا رجلؤه ... حمايتنا إياه من كل ظالم
ألا أيها الآتي لظل حناننا ... نزلت برحب في عراص المكارم
وقوبلت منا بالذي أنت أهله ... وفاض عليك الجود فيض الغمايم
كذا دأبنا للقادمين محلنا ... حمى ونداً ينسي به جود حاتم
وهذا جواب عن نظامك إننا ... بعثنا به كاللؤلؤ المتناظم
ونحن ذوو التيجان من آل حمير ... لعمرك ما التيجان غير العمايم
بهمتنا العليا سمونا إلى العلا ... وكم دون إدراك العلا من ملاحم
شددنا لها أزراً وشدنا بناءها ... وكم مكثت دهراً بغير دعائم
نظمنا شتيت المجد بعد افتراقه ... وكمم بات نهباً شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد افتراقه ... وكم بات نهباً شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد جماحها ... فذلت وقد كانت صعاب الشكايم
مناقب زيانية موسوية ... يذل لها عز الملوك القماقم
يقصر عن إدراكها كل مبتغ ... ويعجز عن إحصايها كل ناظم
فلله منا الحمد والشكر دايماً ... وصلى الله على المختار من آل هاشم
ونختصكم منا السلام الأثير ما ... تضاحك روض عن بكاء الغمايم
قلت، ولما تعرفت كلفه بالأدب، والإمام بمجاورته، عزمت على لقايه، وتشوقت عند العزم على الرحلة الحجازية، إلى زيارته، ولذلك كنت أخاطبه بكلمة منها:
على قدر قد جيت قومك يا موسى ... فجلت بك النعمى وزالت بك البوسى
فحالت دون ذلك الأحوال. وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد. وفقه الله، وساير من تولى أمراً من أمور المسلمين.
وجرى ذكره في رجز الدول من نظمي:
بادرها المفدى الهمام موسى ... فأذهب الرحمن عنها البوسى
جدد فيها الملك لما أخلقا ... وبعث السعد وقد كان لقا
ورتب الرتبا والرسوما ... وأطلع الشموس والنجوما
واحتجن المال بها والعدة ... وهو بها باق لهذي المدة
ولد بمدينة غرناطة حسبما وقعت عليه بخط الثقة من ناسه، في أول عام ثلاثة وعشرين وسبعماية.
مبارك ومظفر الأميران
موليا المنصور بن أبي عامر
حالهما
قال أبو مروان، ترقيا إلى تملك بلنسية من وكالة الساقية، وظهر من سياستهما وتعارضهما صحة الألفة طول حياتهما، ما فاتا به في معناها أشقاء الأخوة، وعشاق الأحبة، إذ نزلا معاً بقصر الإمارة مختلطين، تجمعهما مائدة واحدة من غير تميز في شيء، إلا الحرم خاصة. وكان التقدم لمبارك في المخاطبة، وحفظ رسوم الإمارة، أفضل صرامة وذكراً، قصر عنهما مظفر، لدمائه خلقه، وانحطاطه لصاحبه في ساير أمره، على نحلته بكتابة ساذجة وفروسة، فبلغا الغاية من اقتناء الأسلحة والآلات الملوكية، والخيل المغربات، ونفيس الحلى والحلل، وإشادة البناء للقصور. واشتمل هذا الرأي على جميع أصحابهم، ومن تعلق بهما من وزرايهما وكتابهما، ولم يعرض لهما عارض إنفاق بتلك الآفاق، فانغمسا في النعيم إلى قمم رؤوسهما حتى انقضى أمرهما.قال، وكان موت مبارك أنه ركب يوماً من قصر بلنسية، وقد تعرض أهلها مستغيثين من مال افترضه عليهم، فقال لهم، إن كنت لا أريد إنفاقه فيما يعم المسلمين نفعه، فلا تؤخر عقوبتي يومي هذا. وركب إثر ذلك. فلما أتى القنطرة، وكانت من خشب، خرجت رجل فرسه من خدها فرمى به أسفلها، واعترضته خشبة ناتئة شرخت وجهه، وسقط الفرس عليه، ففاضت نفسه، وكفاهم الله أمره يومئذ.
وفي مبارك ومظفر يقول أبو عمرو بن دراج القسطلي رحمه الله:
أنورك أم أوقدت بالليل نارك ... لباغ قراك أو لباغ جوارك
ورياك أم عرف المجامر أشعلت ... بعود الكباء والألوة نارك
ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق ... حداه دعائي أن يجود ديارك
وخلخالك استنضيت أم قمر بدا ... وشمس تبدت أم ألحت سوارك
وطرة صبح أم جبينك سافرا ... أعرت الصباح نوره أم أعارك
وأنت هجرت الليل إذ هزم الضحى ... كتائبه والصبح لما استجارك
فللصبح فيما بين قرطيك مطلع ... وقد سكن الليل البهيم خمارك
فيا لنهار لا يغيض ظلامه ... وبالظلام لا يغيض نهارك
ونجم الثريا أم لآل تقسمت ... يمينك إذ ضمختها أم يسارك
لسلطان حسن في بديع محاسن ... يصيد القلوب النافرات نفارك
وجند غرام في دروع صبابة ... تقلدن أقدار الهوى واقتدارك
هو الملك لا بلقيس أدرك شأوها ... مداك ولا الزباء شقت غبارك
وقادحة الجوزاء راعيت موهناً ... بحر هواك أم ترسمت دارك
وطيفك أسرى فاستثار تشوقي ... إلى العهد أم شوقي إليك استشارك
وموقد أنفاسي إليك استطارني ... أم الروح لمارد في استطارك
فكم جزت من بحر إلي ومهمة ... يكاد ينسي المستهام ادكارك
أذو الحظ من علم الكتاب حداك لي ... أم الفلك الدوار نحوي أدارك
وكيف كتمت الليل وجهك مظلماً ... أشعرك أعشيت السنا أم شعارك
وكيف اعتسفت البيد لافى ظعائن ... ولا شجر الخطي حف شجارك
ولا أذن الحي الجميع برحلة ... أراح لها راعي المخاض عشارك
ولا أرزمت خوص المهارى مجيبة ... صهيل جياد يكتنفن قطارك
ولا أذكت الركبان عنك عيونها ... حذار عيون لا ينمن حذارك
وكيف رضيت الليل ملبس طارق ... وما ذر قرن الشمس إلا استنارك
وكم دون رحلي من بروج مشيدة ... تحرم من قرب المزار مزارك
وقد زأرت حولي أسود تهامست ... لها الأسد أن كفى عن السمع زارك
وأرضي سيول من خيول مظفر ... وليلي نجوم من سماء مبارك
بحيث وجدت الأمن يهتف بالمنى ... هلمي إلى عينين جادا سرارك
هلمي إلى بحرين قد مرج الندى ... عبابيهما لا يسأمان انتظارك
هلمي إلى سيفين والحد واحد ... يجيران من صرف الحوادث جارك
هلمي إلى طرفي رهان تقدما ... إلى الأمد الجالي عليك اختيارك
هلمي إلى قطبي نجوم كتايب ... تنادي نجوم التعس غورى مغارك
وحيي على دوحين جاد نداهما ... ظلالك واستدني إليك ثمارك
وبشراك قد فازت قداحك بالعلا ... وأعطيت من هذا الأنام خيارك
شريكان في صدق المنى وكلاهما ... إذا قارن الأقران غير مشارك
هما سمعا دعواك يا دعوة الهدى ... وقد أوثق الدهر الخثون إسارك
وسلا سيوفاً لم تزل تلتظي أسى ... بثارك حتى أدركا لك ثارك
ويهنيك يا دار الخلافة منهما ... هلالان لاحا يرفعان منارك
كلا القمرين بين عينيه غرة ... أثارت كسوفيك وجلت سرارك
فقاد إليك الخيل شعثاً شوازيا ... يلبين بالنصر العزيز انتصارك
سوابق هيجاء كأن صهيلها ... يجاوب تحت الخافقات شعارك
بكل سرى العتق سرى عن الهدى ... وكل حمي الأنف أحمى ذمارك
تحلوا من المنصور نصراً وعزة ... فأبلوك في يوم البلاء اختيارك
إذا انتسبوا يوم الطعان لعامر ... فعمرك يا هام العدى لا عمارك
يقودهم منهم سراجاً كتايب ... يقولان للدنيا أجدى افتخارك
إذا افترت الريات عن غرتيهما ... فيا للعدى أضللت منهم فرارك
وإن أشرق النادي بنور سناهما ... فبشرى الأماني عينك لا ضمارك
وكم كشفنا من كربة بعد كربة ... تقول لها النيران كفي أوارك
وكم لبيا من دعوة وتداركا ... شفى رمق ما كان بالمتدارك
ويا نفس غاو كم أقر نفارك ... ويا رجل هاو كم أقالا عثارك
ولست ببدع حين قلت لهمتي ... أقلي لإعتاب الزمان انتظارك
فلله صدق العزم أية غرة ... إذا لم تطيعي في لعل اغترارك
فإن غالت البيد اصطبارك والسرى ... فما غال ضيم الكاشحين اصطبارك
ويا خلة التسويف قومي فأغدقي ... قناعك من دوني وشدي إزارك
وحسبك بي يا خلة الناي خاطري ... بنفسي إلى الحظ النفيس حطارك
فقد آن إعطاء النوى صفقة الهوى ... وقولك للأيام جوري مجارك
ويا ستر البيض النواعم أعلني ... إلى اليعملات والرحل بدارك
نواجى واستودعتهن نواجيا ... حفاظك يا هذي بذي وازدهارك
ودونك أفلاذ الفؤاد فشمري ... ودونك يا عين اللبيب اعتبارك
صرفت الكرى عنها بمغتبق السرى ... وقلت أديري والنجوم عقارك
فإن وجبت للمغربين جنوبها ... فداوي برقراق السراب خمارك
فأورى بزندي سدفة ودجنة ... إذا كانتا لي مرخك وعفارك
وإن خلع الليل الأصائل فاخلعي ... إلى الملكين الأكرمين عذارك
بلنسية مثوى الأماني فاطلي ... كنوزك في أقطارها وادخارك
سينبيك زجري عن بلاء نسيته ... إذا أصبحت تلك القصور قصارك
وأظفر سعي بالرضا من مظفر ... وبورك لي في حسن رأي مبارك
قصي المنى قد شام بارقة الحيا ... وانشقت يا ظئر الرجا حوارك
وحمداً يميني قد تملأت بالمنى ... وشكراً يساري قد حويت يسارك
وقل لسماء المزن إن شئت اقلعي ... ويا أرضها إن شيت غيضي بحارك
ولا توحشي يا دولة العز والمنى ... مساءك من نوريهما وابتكارك
وصولهما إلى غرناطةوصلا مع أمثالهما من أمراء الشرق صحبة المرتضى، وكان من انهزام الجميع بظاهرها، وإيقاع الصناهجة بهم ما هو معلوم حسبما مر ويأتي بحول الله.
ومن ترجمة الأعيان والوزراء بل ومن ترجمة الطارئين والغرباء منها
منصور بن عمر
بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا عليأوليتهمعروفة قد مرت عند ذكر اخوته وقومه.
حالهكان رحمه الله فتى القوم، لسناً، مفوهاً، مدركاً، متعاطياً للأدب والتاريخ، مخالطاً للنبلاء، متسورا خلق العلماء، غزلاً، كلفاً بالدعابة، طرفة من طرف أهل بيته، قوي الشكيمة، جواداً بما في وسعه، متناهياً في البدانة. دخل غرناطة في الجملة من إخوانه وبني عمه، مغربين عن مقر الملوك بالمغرب، وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وستين وسبعماية. وركب البحر في الخامس والعشرين منه، عندما لحق أخوه عبد الحكيم بالمغرب، وبايعه الناس، ولاحت له بارقة، لم تكد تقد حتى خبت، فبادر إلى مظاهرته في جفن غزوي من أسطول الأندلس، وصحبه قوم ممن يخطب الخطط، ويبتدر رمق الدول، وهال عليهم البحر، فطرح الجفن بأحواز غساسة، وقد عادتها ملكة عدوهم، فتقبض عليه، وأدخل مدينة فاس، في الثاني لربيع الآخر من العام، مشهور المركب على الظهر، يضرب بين يديه طبل للشهرة، وناقور المثلة، وأجلس بين يدي السلطان، فأبلى بما راق الحاضرين من بيانه من العذر للخروج بالاستمالة حتى لرجي خلاصه، واستقر مثقفاً تتعلق به الأراجيف، ويحوم حول مطرحة الاختبار إلى حين وفاته.
شعرهأنشدني الفقيه الأديب أبو بكر بن أبي القاسم بن قطبة من شعره، وكان صاحبه في الرحلة، ومزامله في أسطول المنحسة، وذلك قوله:
سوف ننال المنى ونرقى ... مراقي العز والمعال
إذا حططنا بأرض فاس ... وحكمت في العدى العوال
فأنت عندي بها حقيق ... يا حايز الفضل والكمال
وفاتهفي وسط جمادى الأولى من العام. دخل عليه في بيت معتقله فقتل، ودفن ببعض مدافنهم. رحمة الله عليه.
مقاتل بن عطية البرزالييكنى أبا حرب، وقال فيه أبو القاسم الغافقي، من أهل غرناطة، ويلقب بذي الوزارتين، ويعرف بالريه لحمرة كانت في وجهه.
حالهكان من الفرسان الشجعان لا يصطلى بناره، وكان معه من قومه نحو من ثلاث ماية فارس من بني برزال. وولاه الأمير عبد الله بن بلقين بن باديس مدينة اليسانة، والتقى به ابن عباد وأخذ بمخنقها، وكان عبد الله يحذره. وعندما تحقق حركة اللمتونيين إليه صرف عن جهته، فقل لذلك ناصره، وأسرع ذهاب أمره.
شجاعته
قال، وحضر مقاتل مع عبد الله بن بلقين أمير غرناطة وقيعة النيبل في صدر سنة ثمان وسبعين وأربع ماية، فأبلى فيها بلاء عظيما، وجرح وجهه، ومزق دعه بالطعن والضرب. وذكر من حضرها ونجا منها، قال، كنت قد سقط الرمح من يدي ولم أشعر، وحملت الترس ولم أعلم به، وحملني الله إلى طريق منجاة فركبتها، مرة أقع ومرة أقوم، فأدركت فارساً على فرس أدهم ورمحه على عاتقه، ودرقته على فخذه، ودرعه مهتكة بالطعن، وبه جرح في وجهه يثعب دما تحت مغفره، وهو مع ذلك ينهض على رسله، فرجعت إلى نفسي فوجدت ثقلاً، فتذكرت الترس، فأخرجت حمالته عن عاتقي، وألقيته عني، فوجدت خفة، وعدت إلى العدو، فصاح ذلك الفارس، خذ الترس، قلت لا حاجة لي به، فقال خذه، فتركته ووليت مسرعا، فهمز فرسه ووضع سنان رمحه بين كتفي، وقال خذ الترس، وإلا أخرجته بين كتفيك في صدرك، فرأيت الموت الذي فررت منه، ورجعت إلى الترس فأخذته، وأنا أدعو عليه، وأسرعت عدواً، فقال لي على ما كنت فليكن عدوك. فاستعذت وقلت، ما بعثه الله إلا لهلاكي، وإذا قطعة من خيل الروم قد بصرت به، فوقع في نفسه أنه يسرع الجري فيسلم وأقتل، فلما ضاق الطلق ما بينه وبين أقربهم منه، عطف عليه كالعقاب، وطعنه ففطره، وتخلص الرمح منه، ثم حمل على آخر فطعنه، ومال على الثالث فانهزم منه، فرجع إلي، وقد بهت من فعله، ورشاش دم الجرح، يتطاير من قناع المغفر لشدة نفسه، وقال لي يا فاعل يا صانع أتلقي الرمح ومعك مقاتل الريه.
انتهى اختصار السفر الثامن والحمد لله رب العالمين يتلوه في اختصار التاسع بعده ومن ترجمة القضاة مؤمل بن رجا بن عكرمة بن رجا العقيلي من إلبيرة ومن السفر التاسع من ترجمة القضاة
مؤمل بن رجاء بن عكرمة
بن رجاء العقيلي
من إلبيرةحالهكان شيخاً مضعوفاً يغلب عليه البله، من أهل التعين والحسب والأصالة، عريقاً في القضاء، قاض ابن قاض ابن قاض. ولى قضاء إلبيرة، للأمير محمد.
من حكاياته: رفعت إليه امرأة كتاب صداقها، فقال الصداق مفسوخ، وأنتما على حرام، فافترقا، فرق الله بينكما. ثم رمى بالصداق إلى من حوله، وقال عجباً لمن يدعي فقهاً ولا يعلمه، أو يزعم أنه بوثق ولا يتقنه، مثل أبي فلان وهو في المجلس يكتب هذا الصداق، وهو مفسوخ، ما أحقه أن يغرم ما فيه. فدار الصداق على يدي كل من حضر، وكل يقول ما أرى موضع فسخ، فقال أنتم أجهل من كاتبه، لكني أعذركم، لأن كل واحد منكم، يستر على صاحبه خطأه، أنظروا وأمنحكم اليوم، فنظروا فلم يجدوا شيئاً يوجب فسخاً. فدنا منه محمد ابن فطيس الفقيه، فقال أصلح الله القاضي، إن الله منحك من العلم والفهم، ما نحن مقرون بالعجز عنه، فأفدنا هذه الفايدة، فقال، ادن فدنا منه، فقال، أو ليس في الصداق " ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف " ، ولولا معرفتي بمحبتك ما أعلمتك. فشكره الشيخ. وأخذ بطرف لحيته يجره إليه حتى قبلها. وكان عظيم اللحية طويلها، شيمة أهل هذه الطبقة. قال ابن فطيس، أنا المخصوص بالفايدة، ولا أعرف بها إلا من تأذن بتعريفه إياها، فتبسم القاضي معجباً بما رأى، وشفعوا إليه أن لا يفسخ الصداق، وقيل للزوجين، لا تطلبا به عنده شيئاً. وولى قضاء جيان.
ومن الطاربين والغربا
المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسديمن أهل ألمرية يكنى أبا القاسم.
حالهكان من أدهى الناس وأنصحهم، ومن أهل التعين والعناية التامة، واستقضى بألمرية.
مشيختهسمع من أبي محمد الإصبهاني، ورحل وروى عن أبي ذر الهروي.
تواليفه: ألف كتاباً في شرح البخاري، أخذه الناس عنه.
وفاته: توفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة. وقيل سنة .......
ومن ترجمة الكتاب والشعراء وهم الأصليون
مالك بن عبد الرحمن
بن علي بن عبد الرحمن بن الفرج بن أزرق بن سعد بن سالم بن الفرج
المنزل بوادي الحجارة بمدينة الفرج المنسوبة إليه الآن.قالا ابن عبد الملك، كذا كتب لي بخطه بسبتة، وهو مصمودي ثم شصادى مولى بني مخزوم، ما لقي، سكن سبتة طويلاً ثم مدينة فاس، ثم عاد إلى سبيتة مرة أخرى، وبآخرة فاس، يكنى أبا الحكم وأبا المجد، والأولى أشهر، ويعرف بابن المرحل، وصف جرى على جده على بن عبد الرحمن لما رحل من شنتمرية حين إسلامها للروم عام خمسة وستين وخمسماية.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، شاعر رقيق مطبوع، متقدم، سريع البديهة، رشيق الأغراض، ذاكر للأدب واللغة. تحرف مدة بصناعة التوثيق ببلده، وولى القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها. وكان حسن الكتابة إذا كتب، والشعر أغلب عليه. وذكره ابن خلاد، وابن عبد الملك، فأما ابن عبد الملك فلم يستوف له ما استوفى لغيره. وأما ابن خلاد فقصر به، إذ قال، كانت نشأته بمالقة بلده، وقرارة مولده في ناسها ووسط أجناسها، لم يتميز بحسب، ولم بتقدم في ميدان نسب، وإنما أنهضه أدبه وشعره، وعوضه بالظهور من الخمول نظمه ونثره، فطلع في جبين زمانه غرة منيرة، ونصع في سلك فصحاء أوانه درة خطيرة، وحاز من جيله رتبة التقديم، وامتاز في رعيله بإدراك كل معنى وسيم. والإنصاف فيه منا ثبت لي في بعض التقييدات وهو، الشيخ المسن المعمر الفقيه، شاعر المغرب، وأديب صقعه، وحامل الراية، المعلم بالشهرة، المثل في الإكثار، الجامع بين سهولة الفظ، وسلاسة المعنى، وإفادة التوليد، وإحكام الاختراع، وانقياد القريحة، واسترسال الطبع، والنفاذ في الأغرض. استعان على ذلك بالعلم بالمقاصد اللسانية، لغة وبياناً وعربية وعروضاً، وحفظاً واضطلاعاً، إلى نفوذ الذهن، وشدة الإدراك، وقوة العارضة، والتبريز في ميدان اللوذعية، والقحة والمجانة، والمؤيد ذلك بخفة الروح، وذكاء الطبع، وحرارة النادرة، وحلاوة الدعابة، يقوم على الأغربة والأخبار، ويشارك في الفقه، ويتقدم في حفظ اللغة، ويقوم على الفرايض. وتولى القضاء. وكتب عن الأمراء، وخدم واسترفد، وكان مقصوداً من رواة العلم والشعر، وطلاب الملح، وملتمسي الفوايد، لسعة الذرع وانفساح المعرفة، وعلو السن، وطيب المجالسة، مهيباً مخطوب السلامة، مرهوباً على الأعراض، في شدقه شفرته وناره، فلا يتعرض إليه أحد بنقد، أو أشار إلى قناته بغمز، إلا وناط به آبدة، تركته في المثلات، ولذلك بخس وزنه، واقتحم حماه، وساءت بمحاسنه القالة، رحمه الله وتجاوز عنه.
مشيختهتلا بالسبع على أبي جعفر بن علي الفخار، وأخذ عنه بمالقة وعن غيره. وصحب وجالس من أهلها، أبا بكر عبد الرحمن بن علي بن دحمان، وأبا عبد الله إلاستجي، وابن عسكر، وأبا عمرو بن سالم، وأبا النعيم رضوان بن خالد، وانتفع بهم في الطريقة. وبفاس أبا زيد اليرناسني الفقيه. ولقى بإشبيلية أبا الحسن بن الدباغ، وأبا علي الشلوبين، وأبا القاسم بن بقى، وأجازوا له. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الملك وجماعة.
دخوله غرناطةقال ابن الزبير، تكرر قدومه علينا بغرناطة، وآخر انفصالاته عنها آخر سنة أربع وسبعين وستماية، وقال لي حفيده أبو الحسين التلمساني من شيوخنا، أنشد السلطان الغالب بالله، بمجلسه للناس من المقصورة بإزاء الحمراء، قبل بناء الحمراء. وقال غيره أقام بغرناطة، وعقد بها الشروط مدة. وقال لي سيخنا أبو الحسن الجياب، ولي القضاء بجهات من البشارات، وشكى للسلطان بضعف الولاية، فأضاف إليه حصن أشكر يانتشر، وأمر أن يهمل هذا الاسم ولا يشكل، فقال أبو الحكم رحمه الله عند وقوفه عليه، قال لي السلطان في تصحيف هذا الاسم، " أشكر يا تيس " وهي من المقاصد النبيلة.
تواليفهوهي كثيرة متعددة، منها شعره، والذي دون منه أنواع. فمنهمختاره، وسماه بالجولات. ومنه، الصدور والمطالع. وله العشريات والنبويات على حروف المعجم، والتزام افتتاح بيوتها بحرف الروى، وسماها، الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدنيا والأخرى. وعشرياته الزهدية. وأرجوزته المسماة سلك المنخل لمالك بن المرحل نظم فيها منخل أبي القاسم بن المغربي، والقصيدة الطويلة المسماة بالواضحة، والأرجوزة المسماة اللؤلؤ المرجان والموطأة لمالك. والأرجوزة في العروض. وكتابه في كان مإذا، المسمى بالرمي بالحصا، إلى ما يسق إحصاره، من الأغراض النبيلة، والمقاصد الأدبية.
شعره
قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، كان مكثراً من النظم، مجيداً، سريع البديهة، مستغرق الفكرة في قرضه، لا يفتر عنه حينا من ليل أو نهار. شاهدت ذلك وأخبرني أنه دأبه، وأنه لا يقدر على صرفه من خاطره، وإخلاء باله من الخوض فيه، حتى كان من كلامه في ذلك، أنه مرض من الأمراض المزمنة، واشتهر نظمه، وذاع شعره، فكلفت به ألسنة الخاصة والعامة، وصار رأس مال المستمعين والمغنين، وهجير الصادرين والواردين، ووسيلة المكدين، وطراز أوراد المؤذنين وبطايقة البطالين، ونحن نجتزئ منه بنبذ من بعض الأغراض تدل على ما وراءها إن شاء الله. فمن ذلك في غرض النسيب:
دنف تستر بالغرام طويلاً ... حتى تغير رقة ونحولا
بسط الوصال فما تمكن جالسا ... حتى أقيم على البساط دليلا
يا سادتي مإذا الجزا فديتكم ... الفضل لو غير الفتى ما قيلا
قالوا تعاطى الصبر عن أحبابه ... لو كان يصبر للصدود قليلا
ما ذاق إلا شربة من هجرنا ... وكأنه شرب الفرات شمولا
أيقول عشت وقد تملكه الهوى ... لو قال مت لكان أقوم قيلا
حلف الغرام بحبنا وجمالنا ... إن لم يدعه ميتاً فعليلا
إن الجفون هي السيوف وإنما ... قطعتن فلم تسمع لهن صليلا
قل للحبيب ولا أصرح باسمه ... مإذا الملال وما عهدت ملولا
بين وبينك ذمة مرعية ... أتراك تقطع حبلها الموصولا
ولكم شربت صفا ودك خالصاً ... ولبست ظلا من رضاك ظليلا
فيا غصن بان بان عني ظله ... عند الهجير فما وجدت مقيلا
إعطف على المضني الذي ... أحرقته في نار هجرك لوعة وغليلا
فارقته فتقطعت أفلاذه ... شوقاً وما ألفى إليك سبيلا
لو لم يكن منك التغير لم يسل ... بالناس لو حشروا إليه قبيلا
يا راحلاً عني بقلب مغضب ... أيطيق قلبي غضبة ورحيلا
قل للصبا هيجت أشجان الصبا ... فوجدت يا ريح القبول قبولا
هل لي رسول في الرياح فاز من ... فارقته بعث النسيم رسولا
يا ليت شعري أين قر قراره ... يا قلب ويك أما وجدت دليلا
إن لم يعد ذاك الوصال كعهدنا ... نكلت عيني بالبكا تنكيلا
وقال نسيباً ومدحاً:
أعدى على هواه خصم جفونه ... مالي به قبل ولا بفنونه
إن لم تجرني منه رحمة قلبه ... من ذا يجير عليه ملك يمينه
صاب من الأتراك أصبى مهجتي ... فعبدت نور الحسن فوق جبينه
متمكن في الحسن نون صدغه ... فتبين التمكين في تنوينه
تنساب عقرب صدغه في جنة ... لم يجن منها الصب غير منونه
ولوى ضفيرته فولى مدبراً ... فعل الكلم ارتاع من تبينه
قد أطمعتني فيه رقة خده ... لو أمكنتني فيه رقة دينه
ورجوت لمن قوامه لو لم يكن ... كالرمح شدة طعنه في لينه
شاكي السلاح وما الذي في جفنه ... أعدى على من الذي يجفونه
ناديته لما ندت لي سينه ... وشعرت من لفظ السلام بسينه
رحماك في دنف غدا وحياته ... مماته وحراكه كسكوته
إن لم تمن علي منة راحم ... فمناه أن يلقاه ريب منونه
ولذا أبيت سوى سمات عدوه ... فأمانه من ذاك ظهر أمونه
سننيخها في باب أروع ماجد ... فيرى محل الفصل حق يقينه
حيث المعارف والعوارف والعلا ... في حد مجد جامع لفنونه
بدر وفي الحسن بن أحمد التقت ... نجب مررن على العطا بركوبه
تبغي مناها في مناها عنده ... وتطوف بالحاجات عند حجونه
فرع من الأصل اليماني طيب ... ورث البيان وزاد في تبيينه
يبدى البشاشة في أسرة وجهه ... طوراً ويحمى العز في عرنينه
بسطت شمايله للزمان كمثل ما ... بسط الغنا نفوسنا بلحونه
يثنى عليه كل فعل ساير ... كالمسك إذ يثنى على دارينه
ومن النسيب قوله:
هو الحبيب قضى بالجور أم عدلا ... لبي الخيار وأما في هواه فلا
تالله ما قصر العذال في عذلي لكن ... أبت أذني أن تسمع العذلا
أما السلو فشيء لست أعرفه ... كفى بخلك غدراً أن يقال سلا
جفون غيري أصحت بعد ما قطرت ... وقلب غيري صحا من بعد ما ثملا
وغصن بان تثنى من معاطفه ... سقيته الدمع حتى أثمر العذلا
آثره نسيم الشعر آونة ... فكلما مال من أعطافه اعتدلا
أملت والهمة العلياء طامحة ... وليس في الناس إلا آمل أملا
وقال إيهاً طفيلي ومقترح ... ألست عبدي ومملوكي فقلت بلا
ما من تحدث عن حسنى وعن كلفي ... بحسنه وبحبي فأضرب المثلا
نيطت خدي خوف القبض من ملكه ... إذا أشار بأدنى لحظه قتلا
تقبل الأرض أعضائي وتخدمه ... إذا تجلى بظهر الغيب واتصلا
يا من له دولة في الحسن باهرة ... مثلي ومثل فؤادي يخدم الدولا
ومن نظمه في عروض يخرج من دوبيتي مجزواً مقصرا قوله: وملحه في اختراع الأعاريض كثيرة:
الصب إلى الجمال مايل ... والحب لصدقه دلايل
والدمع لسايلي جواب ... إن روجع سائل بسائل
والحسن على القلوب وال ... والقلب إلى الحبيب وايل
لو ساعد من أحب سعد ... ما حال من الحبيب حايل
يا عاذلي إليك عني لا ... تقرب ساحتي العواذل
ما نازلني كمثل ظبي ... يشفى بلحظة المنازل
ما بين دفونه حسام ... مخارقه له حمايل
والسيف يبت ثم ينبو ... واللحظ يطبق المفاصل
والسهم يصيب ثم يخطي ... واللحظ يمر في المقاتل
مهلاً فدمي له حلال ... ما أقبل فيه قول قايل
إن صدني فذاك قصدي ... أو جدلني فلا أجادل
يا حسن طلوعه علينا ... والسكر بمعطفيه مايل
ظمآن مخفف الأعالي ... ريان مثقل الأسافل
قد ثم به شذا الغوالي ... إذ هب ونمت الغلايل
والطيب منبه عليه ... من كان عن العيان غافل
والغنج محرك إليه ... من كان مسكن البلابل
والسحر رسول مقلتيه ... ما أقرب عهده ببابل
والروض يعير وجنتيه ... ورداً كهواى غير حايل
واللين يهز معطفيه ... كالغصن تهزه الشمايل
والكاس تلوح في يديه ... كالنجم بأسعد المنازل
يسقيك بريقه مداما ... ما أملح ساقياً مواصل
يسبيك برقة الحواشي ... عشقاً ولكافة الشمايل
ما أحسن ما وجدت خداً ... إذ نجم صباى غير آفل
ومن مستحسن نزعاته:
يا راحلين وبي من قربهم أمل ... لو أغنت الحليتان لي القول والعمل
سرتم وسار اشتياقي بعدكم مثلاً ... من دونه السامران الشعر والمثل
وظل يعذلني في حبكم نفر ... لا كانت المحنتان الحب والعذل
عطفاً علينا ولا تبغوا بنا بدلاً ... فما استوى التابعان العطف والعمل
قد ذقت فضلكم دهراً فلا وأبى ... ما طاب لي الأحمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى من هجركم وجوى ... وشب مني اثنتان الحرص والأمل
غدرتم أو مللتم يا ذوي ثقتي ... لبيست الخصلتان الغدر والملل
قالوا كبرت ولم تبرح كذا غزلاً ... أرى بك الفاضحان الشيب والعزل
لم أنس يوم ما نادوا للرحيل ضحى ... وقرب المركبان الطرف والجمل
وأشرقت بهواديهم هوادجهم ... ولاحت الزينتان الحلى والحلل
وودعوني بأجفان ممرضة تغضها ... الرقبتان الخوف والخجل
كم عفروا بين أيدي العيس من بطل ... أصابه المضنيان الغنج والكحل
دارت عليهم كؤوس الحب مترعة ... وأبا المسكران الخمر والمقل
وآخرين اشتفوا منهم بضمهم ... يا حبذا الشافيان الضم والقبل
كأنما الروض منهم روضة أنف ... يزهى بها المثبتان السهل والجبل
من المسترق الروابي والوهاد بهم ... ما راقه المعجبان الخصر والكفل
يا حادي العيس خذني مأخذاً حسناً ... لا يستوي الضدان الريث والعجل
لم يبقى لي غير ذكر أو بكا طلل ... لو ينفع الباقيان الذكر والطلل
يا ليت شعري ولا أنس ولا جذل ... هل يرفع الطيبان الأنس والجذل
ومن قوله على لسان ألثغ ينطق بالسين ثاء ويقرأ بالرويين:
عمرت ربع الهوى بقلب ... لقوة الحب غير ناكس ث
لبثت فيه أجر ذيل النحول ... أحبب به للابس ث
إن مت شوقاً فلى غرام ... نباته بالسقام وادس ث
أما حديث الهوى فحق ... يصرف بلواه كل حادس ث
تعبت بالشوق في حبيب ... أنا به ما حييت بايس ث
يختال كالغثن ماس فيه ... طرف فأزرى كل مايس ث
دنيا ندت لكل وأي ... فهو لدنياه أي حارس ث
يلعب بالعاشقين طراً ... والكل راضون وهو عابس ث
ومن شعره في الزهد يصف الدنيا بالغرور والحذايح والزور:
يا خاطب الدنيا طلبت غروراً ... وقبلت من تلك المحاسن زورا
دنياك إما فتنة أو محنة ... وأراك في كلتيهما مقهورا
وأرى السنين تمر عنك سريعة ... حتى لأحسبهن صرن شهورا
بينا ثريك أهلة في أفقها ... أبصرتها في إثر ذاك بدورا
كانت قسياً ثم صرن دوايرا ... لا بد أن ترمى الورى وتدورا
يأتي الظلام فما يسود رقعة ... حتى ترى مسطورها منشورا
فإذا الصباح أتى ومد رادءه ... نقض المساء رداء المنثورا
يتعاقبان عليك هذا ناشر ... مسكاً وهذا ناشر كافورا
ما المسك والكافور إلا أن ترى ... من فعلك الإمساك والتكبيرا
أمسى على فوديك من لونيهما ... سمة تسوم كآبة وبسورا
حتى متى لا ترعوى وإلى متى ... أو ما لقبت من المشيب نذيرا
أخشى عليك من الذنوب فربما ... تلفى الصغير من الذنوب كبيرا
فانظر لنفسك إنني لك ناصح ... واستغفر المولى تجده غفورا
من قبل ضجعتك التي تلقى لها ... خد الصغار على التراب حقيرا
وقال في المنى المذكور:
إشف الوجد ما أبكى العيونا ... وأشفى الدمع ما نكأ الجفونا
فيا ابن الأربعين اركب سفيناً ... من التقوى فقد عمرت حينا
ونح إن كنت من أصحاب نوح ... لكي تنجو نجاة الأربعينا
بدا الشيب في فوديك رقم ... فيا أهل الرقيم أتسمعونا
لأنتم أهل كهف قد ضربنا ... على إذانهم فيه سنينا
رأيت الشيب يجري في سواد ... بياضاً لا كعقل الكاتبينا
وقد يجري السواد على بياض ... فكأن الحسن فيه مستبينا
فهذا العكس يوذن بانعكاس ... وقد أشعرتم لو تشعرونا
نبات هاج ثم يرى حطاماً ... وهذا اللحظ قد شمل العيونا
نذير جاءكم عريان يعدو ... وأنتم تضحكون وتلعبونا
أخي إلى متى هذا التصابي ... جننت بهذه الدنيا جنونا
هي الدنيا وإن وصلت وبرت ... فكم قطعت وكم تركت بنينا
فلا تخدعنك أيام تليها ... ليال واخشها بيضاً وجونا
فذاك إذا نظرت سلاح دنيا ... تعيد حراك ساكنها سكونا
وبين يديك يوم أي يوم ... يدينك فيه رب الناس دينا
فإما دار عز ليس يفنى ... وإما دار هون لن يهونا
فطوبى في غد للمتقينا ... وويل في غد للمجرمينا
وآه ثم آه ثم آه على نفسي أكررها مئينا
أخي سمعت هذا الوعظ أم ... لا ألا ليتني في السامعينا
إذا ما الوعظ لم يورد بصدق ... فلا خسر كخسر الواعظينا
وقال يتشوق إلى بيت الله الحرام، ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شوق كما رفعت نار على علم ... تشب بين فروع الضال والسلم
ألفه بضلوعي وهو يحرقها ... حتى براني برياً ليس بالقلم
من يشتريني بالبشرى ويملكني ... عبداً إذا نظرت عيني إلى الحرم
دع للحبيب ذمامي واحتمل ... رمقي فليس ذا قدم من ليس ذا قدم
يا أهل طيبة طاب العيش عندكم ... جلورتم خير مبعوث إلى الأمم
عاينتم جنة الفردوس من كثب ... في مهبط الوحي والآيات والحكم
لنتركن بها الأوطان خالية ... ونسلكن لها البيداء في الظلم
ركابنا تحمل الأوزار مثقلة ... إلى محط خطايا العرب والعجم
ذنوبنا يا رسول الله قد كثرت ... وقد أتيناك فاستغفر لمجترم
ذنب يليه على تكراره ندم ... فقد مضى العمر في ذنب وفي ندم
نبكي فتشغلنا الدنيا فتضحنكا ... ولو صدقنا البكا شبنا دماً بدم
يا ركب مصر رويداً يلتحق بكم ... قوم مغاربة لحم على وضم
فيهم عبيد تسوق العيس زفرته ... لم يلق مولاه قد ناداه في النسم
يبغي إليه شفيعاً لا نظير له ... في الفضل والمجد والعلياء والكرم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته ... محمد خير خلق الله كلهم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته ... محمد خير خلق الله كلهم
صلى عليه إله الخلق ما طلعت ... شمس وما رفعت نار على علم
ومن مقطوعاته العجيبة في شتى الأغراض، وهي نقطة من قطر، وبلالة من بحر، قوله مما يكتب على حمالة سيف، وقد كلف بذلك غيره من الشعراء بسبتة. فلما رآها أخفى كل منظومه، وزعم أنه لم يأت بشيء، وهو المخترع المرقص:
جماله كرياض جاورت نهرا ... فأنبتت شجراً راقت أزاهرها
كحية الماء عامت فيه وانصرفت ... فغاب أولها فيه وآخرها
وقوله وقد تناول الرئيس ابن خلاص بيده مقصاً فأدمى يده فأنشده:
عداوة لا لكفك من قد نم ... فلا تعجب لقراض لئيم
لئن أدماك فهو لها شبيه ... وقد يسطو اللئيم على الكريم
وقوله في الخضاب:
سترت مشيبي بالخضاب تعللا ... فلم يحظ فشيب وراب خضابي
كأني وقد زورت لونا على الصبا ... أعنون طرساً ليس فيه كتاب
غراب خضاب لم يقف من حذاره ... وأغرب شيء في الحذار غراب
وقوله وهو من البديع المخترع:
لا بد من ميل إلى جهة فلا ... تنكر على الرجل الكريم مميلا
إن الفؤاد وإن توسط في الحشا ... ليميل في جهة الشمال قليلا
وقوله وهو معنى قد قيل فيه:
لا تعجبوا للمرء يجهل قدره ... أبداً ويعرف غيره فيصير
فالعين تبصر غيرها مع بعده ... ولكن نفسها لا تبصر
وقوله:
أرى المتعلمين عليك أعداء ... إذا أعلمتهم من كل عاد
فما عند الصغير سوى عقوق ... ولا عند الكبير سوى عناد
وقوله في وصفه ذي الجاه:
يضع الناس صاحب الجاه فيهم ... كل يوم في كفة الميزان
إن رأوه يوماً ترجح وزناً ... ضاعفوا البر فهو ذو رجحان
أو رأوا منه نقض حبة وزن ... ما كسوه في حبة الجلجلان
وأنشدنا عنه غير واحد من شيوخنا وقد بلغ الثمانين:
يا أيها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشراً بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصبا ... فحدك الدهر ثمانينا
وقال: هيهات ما أظنه يكملها، وقال في الكبرة:
يا من لشيخ قد أسن وقد عفا ... مذ جاوز السبعين أضحى مدنفا
خانته بعد وفايها أعضاؤه ... فغدا قعيداً لا يطيق تصرفا
هرماً غريبا ما لديه مؤانس ... إلا حديث محمد والمصطفى
وكتب إلى القاضي أبى الحجاج الطرسوني في مراجعة:
يا سيدي شاكركم مالك ... قد صيرت ميم اسمه هاء
ومن يعش خمساً وتسعين ... قد أنهى في التعمير إنهاء
ومن نظمه في عرس، صنعها بسبتة على طريقه في المجانة:
الله أكبر في منار الجامع ... من سبتة تاذين عبد خاشع
الله أكبر للصلاة أقيمها ... بين الصفوف من البلاط الواسع
الله أكبر محرماً وموجهاً ... ودبرة إلى ربي بقلب خاضع
الحمد لله السلام عليكم ... آمين لا تفتح لكل مخادع
إن النساء خدعنني ومكرن بي ... وملأن من ذكر النساء مسامع
حتى وقعت وما وقعت بجانب ... لكن على رأس لأمر واقع
والله ما كانت إليه ضرورة ... لكن أمر الله دون مدافع
فخطبن لي في بيت حسن قلن لي ... وكذبن لي في بنت قبح شائع
بكراً زعمن صغيرة في سنها ... حسناء تسفر عن جمال بارع
خوداً لها شعر أثيث حالك ... كالليل تجلى عن صباح ساطع
حوراء يرتاع الغزال إذا رنت ... بجفون خشف في الخمايل رافع
تتلو الكتاب بغنة وفصاحة ... فيميل نحو الذكر قلب السامع
بسامة عن لؤلؤ متناسق ... في ثغرها في نظمه متتابع
أنفاسها كالراح فض ختامها ... من بعد ما ختمت بمسك رائع
شماء دون تفاوت عربية ... ببسالة وشجاعة ومنازع
غيداء كالغصن الرطيب إذا ... مشت ناءت بردف للتعجل مانع
تخطو على رجلي حمامة أيكة ... مخضوبة تسبى فؤاد السامع
ووصفن لي من حسنها وجمالها ... ما البعض منه يقيم عذر الخالع
فدنوت واستامنت بعد توحشي ... وأطاع قلب لم يكن بمطاوع
فحملنني نحو الولي وجئنني ... بالشاهدين وجلد كبش واسع
وبعرفه من نافع لتعادل ... والله عز وجل ليس بنافع
فشرطن أشراطاً علي كثيرة ... ما كمنت في حملي له بمطاوع
ثم انفصلت وعلمت بأنني ... أوثقت في عنقي لها بجوامع
وتركنني يوما وعدن وقلن لي ... خذ في البناء ولكن بمرافع
واصنع لها عرساً ولا تحوج إلى ... قاض عليك ولا وكيل رافع
وقرعتن سني عند ذاك ندامة ... ما كنت لولا خدعت بقارع
ولزمتني حتى انفصلت بموعد ... بعد اليمين إلى النهار الرابع
فلو أنني طلقت كنت موفقاً ... ونفضت من ذاك النكاح أصابع
لكن طمعت بأن أرى الحسن الذي ... زورن لي فذممت سوء مطامع
فنظرت في أمر البناء معجلا ... وصنعت عرساً يا لها من صانع
وطمعت بأن تجلى ويبصر وجهها ... ويقر عيني بالهلال الطالع
وظننت ذاك كما ذكرن ولم يكن ... وحصلت أيضاً في مقام الفازع
وحملنني ليلاً إلى دار لها ... في موضع عن كل خير سامع
دار خراب في مكان توحش ... ما بين آثار هناك بلاقع
فقعدت في بيت صغير مظلم ... لا شيء فيه سوى حصير الجامع
فسمعت حساً عن شمالي منكراً ... وتنحنحاً يحكى نقيق ضفادع
فأردت أن أنجو بنفسي هارباً ... ووثبت عند الباب وثبة جازع
فلقيتهن وقد أتين بجذوة ... فرددنني وحبسنني بمجامع
ودخلن بي في البيت واستجلسنني ... فجلست كالمضرور يوم زعازع
وأشرن لي نجو السما وقلن لي ... هذي زويبعة وبنت زوابع
هذي خليلتك التي زوجتها ... فاجلس هنا معها ليوم سابع
وبتنا النعمى التي خولتها ... فلقد حصلت على رياض يانع
فنظرت نحو خليلتي متأملا ... فوجدتها محجوبة ببراقع
وأتيتها وأردت نزع خمارها ... فغدت تدافعني بجد وازع
فوجلتها في صدرها وحذوته ... وكشفت هامتها بغيظ صارع
فوجدتها قرعاء تحسب أنها ... مقروعة في رأسها بمقارع
حولاء تنظر فوقها في ساقها ... فتخالها مبهوتة في الشارع
فطساء تحسب أن روثة أنفها ... قطعت فلا شلت يمين القاطع
صماء تدعى بالبريح وتارة ... بالطبل أو تؤتى لها بمقامع
بكماء إن رامت كلاما صوتت ... تصويت معزى نحو جدي راضع
فقماء إن تلتقي أسنانها ... تقسو إذا نطقت فساء الشابع
عرجاء إن قامت تعالج مشيها ... أبصرت مكشية ضالع أو خامع
فلقيتها وجعلت أبصق نحوها ... وأفر نحو ذجاً وغيث هامع
؟حيران أغدو في الزقاق كأنني لص أحس بطالب أو تابع
حتى إذا لاح الصباح وفتحوا ... باب المدينة كنت أول كاسع
والله مالي بعد ذاك بأمرها ... علم ولا بأمور بيتي الضايع
؟؟؟
نثره
وفضل الناس نظمه على نثره، ونحن نسلم ذلك من باب الكثرة، لا من باب الإجادة. وهذه الرسالة معلمة بالشهادة بحول الله.كتب إلى الشيخين الفقيهين الأديبين البليغين أبي بكر بن يوسف بن الفخار وأبي القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري: لله دركما حليفي صفاء، وأليفى وفاء، يتنازعان كأس المودة، تنازع الأكفاء، ويتهاديان ريحان التحية بهادي الظرفاء. قسيمى نسب، وقريعى حسب، يتجاوزان بمطبوع من الأدب ومكتسب، ويتواردان على علم من الظرف ونسب، رضيعى لبان، ذريعى لبان، يحرزان ميراث قس وسحبان، ويبرزان من الذكاء، ما بان على أبان، قسيمي مجال، فصيحى روية وارتجال، يترعان في أشطان البلاغة، سجالاً بعد سجال، ويصرعان في ميدان الفصاحة رجالاً على رجال. ما بالكما لا حرمت حبالكما ولا قصمت نبالكما، لم تسمحا لي من عقودكما بدرء، ولم ترشحاني من نقودكما بدرة، ولم تفسحا لي بحلوة ولا مرة. لقد ابتليت من أدبكما بنهر أقربه ولا أشربه، وما أراده ولا أتبرده. ولو كنت من أصحاب طالوت لا فسحت لي غرفة، وأتيحت لي ترفة. بل لو كنت من الإبل ذوات الأظماء، ما جليت بعد الظماء عن الماء. ولا دخلت بالإشفاق مدخل العجماء. كيف وأنا و لا فخر في صورة إنسان، ناطق بلسان. أفرق بين الإساءة والإحسان. وإن قلت إن باعي في النظم قصير، وما لي على النثر ولي ولا نصير، وصنعة النحو عني بمعزل، ومنزل الفقيه ليس لي بمنزل، ولم أقدم على العلم القديم، ولا استأثرت من أهله بنديم. فأنا والحمد لله غني بصنعة الجفر، وأقتني اليراع كأنها شبابيك التبر، وأبرى البرية المغا تنيف على الشبر، وأزين خدود الأسطار المستوية، بعقارب اللامات الملتوية، ولا أقول كأنها، فلا ينكر السيدان أعزهما الله، أنها نعم بعود أزاعم، وبمثل شكسى تحضر الملاحم. فما هذا الازدراء والاجتراء في هذا الأمر مر المواقير. تالله لقد ظلمتماني على علم، واستندتما إلى غير حلم، أما رهبتما شبابي، أما رغبتما في حسابي، أما رفعتما بين نفح صبابي، ولفح صبابي. لعمري لقد ركبتما خطراً، وهجتما الأسد بطراً، وأبحتما حمى محتضراً، ولم تمعنا في هذا الأمر نظراً.
أعد نظراً يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا
ونفسي عين الحمار في هذا المضمار، لا أعرف قبيلا من دبير، ولا أفرق بحسي بين صغير وكبير، ولا أعهد أن حصاة الرمى أخف من ثبير، أليس في ذوي كبد رطبة أجر، وفي معاملة أهل التقوى والمغفرة تجر، وإذا خولتماني نعمة، أو نفلتماني نفلاً، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وما نقص مال من صدقة، ولا جمال من لمح حدقة، والعلم يزيد بالإنفاق، وكنمه حرام باتفاق، فإن قلتما لي إن فهمك سقيم، وعوجك على الرياضة لا يستقيم، فلعل الذي نصب قامتي، يمن باستقامتي، وعسى الذي يشق سمعي وبصري، أن يزيل عي وحصرى، فأعي ما تقصان، وأجتلي ما تنصان، وأجني ثمار تلك الأغصان، فقد شاهدتما كثيراً من الحيوان، يناغي فتتعلم، ويلقن فيتكلم. هذا والجنس غير الجنس، فكيف المشارك في نوعية الإنس، فإن قلنا إن ذلك يشق، فأين الحق الذي يحق، والمشقة أخت المروة، وينعكس مساق هذه الأخوة، فيقال المروة أخت المروة، وينعكس مساق هذه الأخوة، فيقال المروة أخت المشقة، والحجيج يصبر على بعد الشقة، ولولا المشقة، كثر السادة، وقلت الحسادة، فما ضشركما أيها السيدان، أن تحسبا تحويجي، وتكتسبا الأجر في تدريجي، فإنكما إن فعلتما ذلك، نسبت إلي ولايكما، كما حسبت على علايكما، وأضفت إلى نديكما، كما عرفت بمنتداكما. ألم تعلما أن المرء يعرف بخليله، ويقاس به في كثيره وقليله، ولعلى أمتحن في مرام، ويعجم عودي رام، فيقول هذا العود من تلك الأعواد. وما في الحلبة من جواد، فأكسو كما عاراً، وأكون عليكما شعاراً. على أني إذا دعيت باسمكما، استربت من الإدعاء، فلا أستجيب لهذا الدعاء، ولكن أقول كما قال ابن أبي سفيان، حين عرف الإدارة، وأنكر الإمارة، نعم أخوتي أصح، وأنها بها أشح، إلا أن غيري نظم في المسلك، وأسهم في الملك، وأنا بينكما كالمحجوب بين طلاب، يشاركهم في البكا لا في التراث، إن حضرت فكنتم في الإقحام، أو لمقعد في زحام، وإن غبت فيقضى الأمر، وقد سطر زيد وعمرو. ناشدتكما الله في الإنصاف، أن تربعا بواد من أودية الشحر. في ناد من أندية الشعر بل السحر، حيث تندرج الأنهار، وتتأرج الأزهار، ويتبرج الليل والنهار، ويقرأ الطير صحفاً منتشرة، ويجلو النور ثغورا مؤشرة، يغازل عيون النرجس الوجل دود الورد الخجل. وتتمايل أعطاف البان، على أرداف الكثبان، فيرقد النسيم العليل في حجر الروض وهو بليل، وتبرز هوادج الراح على الراح، وقد هديت بأقمار، وحديت بأزهار ومزمار، وركبتها الصبا والكميت في ذلك المضمار، ولم تزالا في طيب، وعيش رطيب، من قباب وخدور، وشموس وبدور، تصلان الليالي والأيام، أعجازاً بصدور، وأنا الطريد منبوذ بالعراء، موقوذ في جهة الوراء، لا يدني محلي ولا يعتني بعقدي ولا حلى، ولا أدرج من الحرور إلى الظل، ولا أخرج من الحرام إلى الحل، ولا يبعث إلي مع النسيم هبة، ولا يتاح لي من الآتي عبه. قد هلكت لغواً، ولم تقيما لي صفواً، ومت كمداً، ولم تبعثا لبعثي أمداً. أتراه خلفتماني جرضاً، وألقيتماني حرضاً، كم أستسقى فلا أسقى، وأسترقى فلا أرقى، لا ماء أشربه ولا عمل في وصلكما أدربه. لم يبق لي حيلة إلا الدعاء المجاب، فعسى الكرب أن ينجاب. اللهم كما أمددت هذين السيدين بالعلم الذي هو جمال، وسددتهما إلى العمل الذي هو كمال، وجمعت فيهما الفضايل والمكارم، وختمت بهما الأفاضل والمكارم، وجعلت الأدب الصريح أقل خصالهما، والنظر الصحيح أقلب نصالهما، فاجعل اللهم لي في قلوبهما رحمة وحناناً، وابسط لي منهما وجهاً، واشرح لي جناناً، واجعلني اللهم ممن اقتدى بهما، وتعلق بأهدابهما، وكان دأبه في الصالحات كدأبهما، حتى أكون بهما ثالث القمرين في الآيات، وثالث العمرين، في عمل البر وطول الحياة اللهم آمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين. وكأني أنظر إلى سيدي أعزهما الله، إذا وقفا على هذا الخطاب، ونظرا إلى هذا الاحتطاب، كيف يديران رمزاً، ويسيران غمزاً، ويقال استتب الفصال، وتعاطى البيذق ما تفعل النصال، وحن جذع ليس منهما، وخذ عجفاءك وسمنها، فأقول وطرفي غضيض، ومحلي الحضيض، مثلي كمثل الفروج أو ثاني البروج، وما تقاس الأكف بالسروج، فأضربا عني أيها الفاضلان ما أنا ممن تناضلان، والسلام.
مولده