كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي
كان من أحسن الأشكال وأتمها، وأجمعها للمحاسن وأعمها، يميل إلى الأفاضل، وذيله بالإحسان إليهم فاضل، وله دين، وفيه خير وإحسان وبر، يسقط على حبه الطير، وكان خطه كحظه زائد الحسن والقوه، فائق الرونق، كأنه في العلامة عروساً على البصائر مجلوه.
تولى نيابة طرابلس، فأحسن فيها الولاية، وأظهر الاحتفال بعدله والعنايه.
ولم يزل بها على حاله إلى أن كست كستاي أكفانه، وجرى عليه من الدمع غدرانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبع مئة.
كان في رفعة طغاي الكبير، وهو ثانيه في المنزلة، ثم إن السلطان الملك الناصر أخرجه إلى نيابة طرابلس في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة عوضاً عن تمر الساقي.
كشتغذيالأمير الكبير المعمر علاء الدين أبو أحمد الخطائي.
كان شيخاً معمراً، جاوز التسعين. وسمع من النجيب الحراني ومن بعض أصحاب البوصيري والخشوعي.
توفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبع مئة.
اللقب والنسبالكفري: الشيخ شهاب الدين الحسين بن سليمان.
ابن كسيرات: تاج الدين علي بن إسماعيل.
ابن الكلاس: علاء الدين علي بن محمد.
كماليهبفتح الكاف وبعدها ميم وألف ولام وياء مشددة وهاء.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: كانت المذكورة أديبة شاعرة، ذكرها لي ناصر الدين شافع وقال: إنها كاتبت شعراء عصرها من أهل مصر. قال: وأخبرني فتح الدين البكري، وأنشدني قال: كتبت كماليه إلي:
سمعت من شعرك سحراً غدا ... يخامر الألباب إذ ينفث
أصبح كالخمرة في فعلها ... فهو بألباب الورى يعبث
الكمالي: الأمير شمس الدين سنقر الحاجب.
كنجشكببالكاف المضمومة والنون الساكنة والجيم والشين المعجمة الساكنة وبعدها كاف أخرى وباء ثانية الحروف، ابنة أبغا.
كانت من الخواتين الكبار، وكان الأمير سيف الدين تنكز يبالغ في تعظيمها، ويكرم قصادها ومن يحضر من عندها أو يأتي بكتاب منها، وكانت تعلمه بأخبار القوم ومتجدداتهم، وما يدور بينهم، وكانت تجهز إليه في كل سنة من عندها كاملية طلسمو إما لون فاختي أو لون بنفسجي، أو غير ذلك من الألوان بطراز زركش، عمل الموصل، وداير باولي من أفخر ما يكون، وأصنعه بأزرار مرجان ملبسة ذهباً على فرو قاقم له داير سنجاب في عرض أصبع أزرق طري غض كشن من خيار ما يكون. وكان تنكز تعجبه هذه الكامليات، ويديم لبسها، لما فيها من الطرافة وحسن الصياغة، وكان هو يهدي إليها أضعاف ذلك.
وعهدي بها في حياة تنكز في سنة أربعين وسبع مئة.
الألقاب والأنسابالكنجي: نائب مصياف، اسمه: آقوش.
والكنجي: محمد بن محمد بن أبي بكر. ومحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن.
ومحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن.
كندغديالأمير سيف الدين العمري.
أعرفه وهو والي باب القلعة بالديار المصرية، أقام على ذلك مدة.
وكان حسن الصوت والوجه، نقي الشيب، أحمر الوجنة.
ثم إن السلطان الملك الناصر محمد بعثه إلى إلبيرة نائباً، فتوجه إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة - فيما أظن - ، وأقام بها إلى أن حضرت مطالعة الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب حلب تتضمن الشكوى منه، ويذكر أنه وقعت فيه قصص كثيرة ومحاضر، فرسم السلطان الملك الصالح إسماعيل بإحضاره إلى حلب، ومحاققته على ذلك في محفة، وكان مريضاً، فوصل إليها، وأقام ساعة واحدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
كهرداسالأمير سيف الدين الرزاق أحد الأمراء بدمشق.
كان ذكياً فطناً حذقاً، له اعتناء بالمجلدات النفيسة والخطوط المنسوبة وغير ذلك من الأصناف الغريبة، وأنفق على ذلك أموالاً جمة، عمل له قدمةً بالبندق غرم عليها ثلاث آلاف درهم، وهي مليحة، رأيتها وهي ناقصة الغالقة.
توفي - رحمه الله تعالى - بداره، وهي دار القيمري خلف المدرسة القيمرية بدمشق في سلخ شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
كوجباالأمير سعد الدين الناصري.
كان نائباً بثغر الإسكندرية.
روى للشيخ شمس الدين الذهبي أحاديث عن النجيب عبد اللطيف، وكان ختن ابن الظاهري.
توفي - رحمه الله تعالى - بمصر سنة سبع وتسعين وست مئة، وهو من أبناء السبعين.
كوكاي
الأمير سيف الدين أحد الأمراء المشايخ بالقاهرة.
تزوج ابنته ستيته - المقدم ذكرها - في حرف السين - الأمير سيف الدين تنكز - رحمهما الله تعالى.
ولم يزل أميراً كبيراً مقدم ألف من الأيام الناصرية إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وخلف من الأموال على ما قيل ألف ألف ومئتي ألف درهم وسبعة وعشرين ألف دينار عيناً غير الخيل والبرك والعدة والبيوتات والقماش وغير الأملاك الكثيرة.
كوكنجارالأمير سيف الدين المحمدي، أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق.
كان يسكن إلى جوار الأمير صارم الدين صاروجا، قريباً من الشامية البرانية.
توجه إلى الحج سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة منتصف القعدة سنة ثلاثين وسبع مئة.
اللقب والنسبالكولمي: عز الدين عبد العزيز بن منصور.
ابن الكويك: سراج الدين عبد اللطيف بن أحمد. وشمس الدين محمد بن محمود.
كيتمرالأمير سيف الدين، بفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف وبعدها تاء ثالثة الحروف وميم بعدها راء.
كان من خوشداشية الحاج أرقطاي والأمير سيف الدين البشمقدار، أظنه أمر طبلخاناه في أيام نيابة الأمير سيف الدين أرقطاي بمصر، والظاهر أنه كان أميراً قبل ذلك، عينه الأمير سيف الدين أرغون شاه أمير الحج.
فمات بالطاعون في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومات أيضاً جماعة من أولاده ومماليكه. وكان له ولدان هما في سماء الحسن فرقدان، ومات وصيه الأمير سيف الدين حاجي، الجميع في جمعة واحدة، وتأسف الناس على ولديه.
الكيزاني: سديد الدين عبد الرحمن بن عبد الرحيم.
حرف اللام
لاجين
السلطان الملك المنصور حسام الدين المنصور، مملوك السلطان الملك المنصور قلاوون.كان من خيار الملوك في الإسلام، وأفضل من خفقت على رأسه البنود والأعلام، شجاعاً معدوداً في الفرسان، بطلاً في وقت تمرح جياده في الأرسان، جواداً يخجل الغمام إذا هتن أو همى، كريماً أنسى جوده كرم حاتم الذي سما، له ذب عن الإسلام وبيضته، وحماية في جلوسه ونهضته، أحق الناس بقول أبي الطيب:
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وكان صحيح الوداد لمن يصحبه، مليح الاعتقاد فيمن يألف به ويعجبه. تعجبه الفضائل ويعظم أهلها، ويذكر أنسها ويغض فضلها، ويجمع عليها شملها، ويتطفل على طفلها، ويوقر كهلها. شديد الغيرة على حريمه، لا يدع الأسد تقارب كناس ريمه.
سن لما ملك أشياء حسنه، وأزاح من جفن الملك بها وسنه. أحبه أهل دمشق لما كان عندهم نائبا، واستصحبوا ذلك لما كان عنهم غائبا، ولكن خان الزمان ملكه، وأوقف في وسط بحره فلكه، وجال الحسام في الحسام، وفصل أوصاله الجسام، وما راعى سميه، ولا حفظ وليه وسميه.
وكانت قتلته - رحمه الله تعالى - ليلة الجمعة، وقد صام نهار الخميس عاشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة.
أمره الملك المنصور أستاذه عندما ملك، وبعثه نائباً على قلعة دمشق، فلما تسلطن سنقر الأشقر، ودخل القلعة قبض عليه، ولما انكسر سنقر الأشقر أخرجه الأمير علم الدين سنجر الحلبي.
ثم إنه رتب في نيابة السلطنة بمرسوم السلطان، ودخل في خدمته إلى دار السعادة في أوائل شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة، وعمل النيابة إحدى عشرة سنة، وأحب أهل دمشق وأحبوه، وأحسن إليهم.
ثم إن الأشرف عزله من نيابة دمشق بالشجاعي لما أمسكه على عكا، وأفرج عنه، وحضر معه إلى قلعة الروم، ولما كانوا بعدها بدمشق هرب يوم العيد مستهل شوال سنة إحدى وتسعين، وركب الأشرف والعسكر في طلبه، وكان قد توجه إلى بعض عرب صرخد، ليتوجه به إلى الحجاز، فأمسكه وجاء به للأشرف فقيده، وجهزه إلى مصر هو وسنقر الأشقر، ثم إنه أفرج عنه، وأعطي إمرة مئة بالقاهرة.
وفي شوال سنة اثنتين وتسعين قطع الأشرف خبز الأفرم الكبير، وأعطاه للاجين المذكور، وكان عظيماً، وخنق بين يدي الأشرف ثم خلي عنه، فإذا فيه روح، فرق له السلطان، وأطلقه، ورده إلى رتبته.
وقيل: إن السلطان الملك المنصور قال لولده الأشرف: هذا طرنطاي، لا تؤذه ولا تتعرض له أبداً، فإنه ما يؤذيك، وهذا لاجين، لا تمسكه، وإن أمسكته لا تبقيه، فإنه يحقد عليك، ويعمل على قتلك. فخالف والده في الجهتين، فأول ما تسلطن أمسك طرنطاي، وقتله وأمسك لاجين وأطلقه فقتله. وقيل إنه إنما قام على الأشرف لأنه تعرض لزوجته بنت طقصو فعز ذلك عليه.
ولما قتل الأشرف هو وبيدرا، كان بيدرا الذي تقدم إلى الأشرف وضربه وهو على الأرض يحصل طيراً صاده، وكانت ضربة غير طائلة، فجاء بعده لاجين، وهو سائق فرسه، فرأى ضربة بيدرا، فقال: يا مأبون، هذه ضربة من يطلب الملك، ثم إنه ضربه ضربة حل منها كتفه، فقضى عليه.
ولما قتله اختفى حسام الدين لاجين، وقيل: إنه هرب وقراسنقر، وعديا النيل، وجاءا إلى جامع ابن طولون، واختبأ في المئذنة، وبقيا فيها أكثر من يومين، ونذر لاجين إن سلم أنه يعمر الجامع المذكور، ووفى بنذره. وتنقل بعد ذلك في البيوت، وقاسى أهوالاً وشدائد من الجوع والعطش والخوف.
ثم إن كتبغا أجاره وأجار قراسنقر، وأحسن إليه، ودخل به إلى السلطان الملك الناصر وقرر معه أن يخلع عليه ويحسن إليه، ففعل به ذلك، وأعطاه خبزاً كان مع الأمير بدر الدين بكتوت العلائي بالديار المصرية وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
ولما ملك كتبغا جعله نائبه في مصر، فوثب عليه - كما تقدم في ترجمة كتبغا - وقتل مملوكيه الأزرق وبتخاص، وتغافل عنه لما عليه من الأيادي، وهرب كتبغا - كما تقدم - وساق لاجين والعساكر بين يديه من الغور، وما دخل غزة إلا وهو سلطان، وهو لم يختلف عليه اثنان.
وتملك في أول صفر سنة ست وتسعين وست مئة، وخطب له بغزة وبلد الخليل عليه السلام والقدس.
ولما دخل القاهرة جلس على سرير الملك، وبعث قبجق نائباً إلى دمشق؛ لأنه خوشداشه، وجعل قراسنقر نائبه بمصر إلى أن تمكن ثم قبض عليه، وأقام في النيابة مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر، فحسن له القبض على الأمراء، فأمسك البيسري وقراسنقر وأيبك الحموي، وسقى جماعة السم، ولذلك هرب قبجق وألبكي وبكتمر السلاح دار وبزلار إلى التتار - كما تقدم في تراجمهم - ولم يخرج إلى الشام مدة ملكه.
ولما كان يوم الخميس في التاريخ المذكور ركب موكبه وهو صائم، عمل عليه جماعة من الأشرفية، ودخلوا عليه بعد العشاء الآخرة، وهو مكب على الشطرنج وما عنده إلا القاضي حسام الدين الحنفي وعبد الله الأمير وبريد البدوي وإمامه محب الدين بن العسال، فأول من ضربه بالسيف كرجي - مقدم البرجية - وتوجه طغجي وكرجي إلى دار منكوتمر، ودقا عليه الباب، وقالا: السلطان يطلبك، فنكرهما، وقال: قد قتلتماه؟، فقال كرجي: نعم يا مأبون، وجئنا لنقتلك، فاستجار بطغجي، فأجاره، وحلف له، فخرج إليهما، فذهبا به الجب، وأنزلاه، فاغتنم كرجي الغفلة، وحضر إلى الجب، وأخرجه من الجب، وذبحه، وقال: نحن ما قتلنا أستاذه إلا من أجله فما في بقائه فائدة، ونهبوا داره في الحال، واتفقوا على إعادة الملك الناصر ثانياً إلى الملك، واتفقوا على أن يكون طغجي نائباً، وحلفوا له على ذلك، وأرسلوا سلار - وهو إذ ذاك أمير صغير - إلى الكرك، لإحضار الناصر محمد، وعمل طغجي النيابة أربعة أيام.
ولما حضر أمير سلاح من غزوة الشام؛ وطلعوا للقياه جرى ما جرى - على ما تقدم في ترجمة طغجي وأمير سلاح - وقتل طغجي وكرجي، وكان يعلم على الكتب إذ ذاك ثمانية أمراء: سلار والجاشنكير وبكتمر أمير جاندار وآقوش الأفرم والحسام أستاذ الدار وكرت وأيبك الخزندار والأمير عبد الله.
وقتل لاجين وهو في عشر الخمسين:
قدر عدت فيه الحوادث طورها ... وتجاوزت أقدارها الأيام
لأنه كان سلطاناً جيداً، عادلاً خبيراً، درباً كريماً، جواداً شجاعاً، كان يسل سيفه، ويهزه في يده، ويقول: أشتهي أرى أبغا وهذا في يدي.
ولمل ملك أخرج الخلفاء من الاعتقال، وأبطل تجهيز الثلج من بيروت وطرابلس، وقال: لا حاجة لي به، فإني كنت في دمشق، وأدري ما يجري على الرعايا في وسق الثلج في المراكب، وما يجدونه من التعب والمغارم والكلف.
وكان ذكياً يقظاً: أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: حكى لي والدي أنه وصل إليه في بعض الأيام بريد من مصر على يده كتاب من طرنطاي، ومما فيه بخطه أن الخروف نطح كبشه قلبه، فقال لي: ما هذا يا محيي الدين؟! قلت: ما أعلم، فقال: هذا كلام معناه أن بيدرا قد وثب على عمه الشجاعي، وكذا كان، فإن الشجاعي كان زوج أم بيدرا، فعمل عليه عند المنصور، وأمسكه، وعزله، وصادره. وهذا في غاية الفهم من مثل هذه الإشارة.
وحكى لي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر بك، قال: قال لي السلطان حسام الدين لاجين يوماً: يا حسين، رأيت البارحة أخاك مظفر الدين في النوم وهو يقول لي: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، فما كان بعد ثلاث ليال حتى قتل رحمه الله تعالى.
وحكى عنه الشيخ علاء الدين بن غانم - رحمه الله تعالى - مكارم كثيرة ولطفاً زائداً وإحساناً جماً ومودة يرعاها لمن يعرفه.
وكذلك حكى لي عنه شيخنا فتح الدين بن سيد الدين لما دخل إليه لم يدعه يبوس الأرض، وقال: أهل العلم ينزهون عن هذا وأجلسه عنده - أظنه قال لي: على المقعد - ، ورتبه موقعاً في ديوان الإنشاء، فباشر ذلك أياماً، ثم استعفى فأعفاه، وجعل المعلوم له راتباً، فأقام يتناوله الشيخ إلى أن مات سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان شيخنا العلامة شهاب الدين محمود يوماً بين يديه، وهو بدمشق يكتب، فوقع شيء من الحبر على ثيابه، فأعلمه لاجين بذلك، قال لي: فنظمت في الحال بين يديه:
ثياب مملوكك يا سيدي ... قد بيضت حالي بتسويدها
ما وقع الحبر عليها بلى ... وقع منك بتجديدها
قال: فأمر لي بتفصيلتين ومبلغ خمس مئة درهم، فقلت: يا خوند مماليكك الجماعة رفاقي يبقى ذلك في قلوبهم، فأمر لكل منهم بمثل ذلك، ثم صار ذلك راتباً لنا في كل سنة عليه.
وندب الأمير علم الدين الدواداراي، وهو سلطان، فعمر جامع ابن طولون، واشترى له وقوفاً كثيرة، وجدد فيه وظائف كثيرة من التفسير والحديث والفقه والقراءات والطب وعمر بدمشق الخان المنسوب إليه تحت ثنية العقاب.
وكان أشقر، في لحيته طول يسير، وخفه. وجهه رقيق معرق وعليه هيبه، وهو تام القامة، في قده رشاقة وهيف. وكان وهو سلطان يجهز البريدية، ويحملهم السلام إلى الموقعين الذين كان يعرفهم.
وأنشدني شيخنا أبو الثناء محمود إجازة قصيدة مدحه بها وهي:
أطاعك الدهر فأمر فهو ممتثل ... واحكم فأنت الذي تزهى به الدول
واشرف فلو ملكت شمس النهار علاً ... ملكتها لم يزد في سعدها الحمل
وانهض بعزمك فهو الجيش يقدمه ... من بأسك المنذران الرعب والوجل
وسر به وحده لا بالجيوش وإن ... لم يحوها الأرحبان السهل والجبل
تلقى الفتوح وقد جاءتك وافدةً ... يحثها المزعجان الشوق والأمل
قد أرهف الملك المنصور منك على ... جيش الأعادي حساماً حده الأجل
تهوى أسنته بيض النحور فمن ... آثارها الحمر في أجيادها قبل
تدمي سطاه وتندى كفه كرماً ... كالغيث يهمي وفيه البرق يشتعل
سل يوم حمص جيوش المغل عنه وقد ... ضاق الفضاء بهم واستدت السبل
والهام تسجد والأجسام راكعة ... والموت يقبل والأرواح تنتقل
والبيض تغمد في الأبطال عاريةً ... وتنثني وعليها منهم حلل
والخيل تحفى وتخفى في العجاج فإن ... بدت غدت وهي بالهامات تنتعل
يخبرك جمعهم والفضل ما شهدت ... به العدا أنه ليث الشرى البطل
وأنه خاض في هيجائها وجلا ... غمارها واصطلاها وهي تشتعل
وصدهم وهم كالبحر إذ صدموا ... ببأسه وحمى الإسلام إذ حملوا
فمزقتهم سطاه ذا يسير وذا ... عان أسير وذا في الترب منجدل
كأن أسهمه والموت يبعثها ... بين المنايا وأرواح العدى رسل
كأن هاربهم والخوف يطلبه ... يبدو لديه مثال منه أو مثل
فإن تنبه يوماً راعه وإذا ... أغفى جلته عليه في الكرى المقل
وعاد والنصر معقود برايته ... والمغل ما بين أيدي خيله خول
قد جمع الله فيه مل مفترق ... في غيره فهو دون الناس مكتمل
فعن ندى يده حدث ولا حرج ... اليم ثم وعم العارض الهطل
أستغفر الله أين الغيث منفصلاً ... من بره وهو طول الدهر متصل
عطاء من ليس يثني قط راحته ... عن الندى سأم يوماً ولا ملل
من حاتم؟ عد عنه، واطرح فبه ... فيالجود لا بسواه يضرب المثل
أين الذي بره الآلاف يتبعها ... كرائم الخيل ممن جوده الإبل
لو مثل الجود سرحاً قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
أحاط بالناس سور من كفالته ... ظل لهم وعلى أعدائهم ظلل
أضحوا به في مهاد الأرض يكلؤهم ... من رأفة بهم يقظان إن غفلوا
يحنوا عليهم ويعفو عن مسيئهم ... حلماً ويصفح عنهم إن هم جهلوا
وأعدل الناس أياماً بلا شطط ... في الحكم منه ولا حيف ولا ميل
أطاع خالقه فيما تقلده ... فما عن الدين بالدنيا له شغل
إن رام صيداً فما الكندي مفتخراً ... بالخيل في الصيد إلا مطرق خجل
بكل طرف يفوت الطرف رؤيته ... لا يأخذ الصيد إلا وهو منفتل
في فتية من كماة الترك ليس لهم ... إلا التعلم من إقدامه أمل
إن يقتلوا الصيد في أيدي الجوارح ... جوارح اللحظ إن يرموا بها قتلوا
عزاً وصوناً لمن دان الأنام له ... حتى السهام إلى أغراضه ذلل
أو حاول اللعب المعهود بالكرة ال ... تي بها تستعين البيض والأسل
حيث السوابق تجري في أعنتها ... طوعاً وتعطف أحياناً فتمتثل
كأنه وهو والبردي في يده ... على الجواد وكل نحوها عجل
شمس على البرق حاز البدر يرفعه ... عن الهلال فيعلو ثم يستفل
لا زال بالملك المنصور منتصراً ... ما قال بالدوح غصن البانة الثمل
ولما تولى السلطنة جاء غيث عظيم، بعدما كان تأخر، فقال علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت - :
يا أيها العالم بشراكم ... بدولة المنصور رب الفخار
فالله بارك فيها لكم ... فأمطر الليل وأضحى النهار
ولما أبطل المنكرات في أيامه؛ قال ابن دانيال:
احذر نديمي أن تذوق المسكرا ... أو أن تحاول قط أمراً منكرا
لا تشرب الصهباء صرفاً قرقفا ... وتزور من تهواه إلا في الكرى
أنا ناصح لك إن قبلت نصيحتي ... اشرب متى ما رمت سكراً سكرا
والرأي عندي ترك عقلك سالماً ... من أن تراه بالمدام تغيرا
ذي دولة المنصور لاجين الذي ... قهر الملوك فكان سلطان الورى
إياك تأكل أخضراً في عصره ... يا ذا الفقير يكون جنبك أحمرا
والمزر يا مسعود دعه جانباً ... واشرب من اللبن المخيض مكررا
وبنى حرام احفظوا أيديكم ... فالوقت سيف والمراقب قد درى
توبوا وصلوا داعيين لملكه ... فبه تنالون النعيم الأكبرا
ولما كان بدمشق نائباً - رحمه الله تعالى - ؛ أمسك نصراني في أوائل شهر رمضان سنة سبع وثمانين وست مئة عند امرأة مسلمة جميلة يشرب الخمر، فأمر بإحراقه ففدى النصراني نفسه بمال جزيل، فلم يقبله، وأمر بنار عظيمة، فأضرمت، وألقي النصراني فيها، فقال العلامة شهاب الدين محمود يمدحه، أنشدنيه لنفسه إجازة:
يا من به وبرأيه وروائه ... بلغ المراد الدين من أعدائه
أنت الذي لم يخش لومة لائم ... في الله فابشر فزت عند لقائه
ما يومك الماضي لديك بضائع ... والله والأملاك من شهدائه
يا كافل الإسلام قبلك لم يقم ... هذا المقام سواك من كفلائه
بالسيف قام ولا اختلاف بأنه ... أنت الحسام وذاك من أسمائه
أقسمت لو آلى امرؤ لك أنه ... أحد الفتوح لبر في آلائه
أرسلتها في العدل أحسن سيرة ... بك يقتدي من كان في ألفائه
وغضبت للإسلام غضبة ثائر ... لله غير مشارك في رائه
وحميت سرح الدين من متخلس ... رجس يسر الغدر في استخفائه
أخفى سراه إلى الحريم وما درى ... أن الإله وأنت من رقبائه
جمع الخيانة والخنا في الأرض والإ ... شراك بالرحمن فوق سمائه
فأمرت أمراً جازماً بحريقه ... ورأيت أن القتل دون جزائه
أحرقت من أدنت عداوة كفره ... يده من الإسلام في استعلائه
طهرت من دمه الثرى وقذفته ... في النار عن تنجيسه بدمائه
ورفعت قدر السيف عنه وإنه ... ليجل عن تنجيسه بدمائه
أرعبت أهل الشرك منك وكلهم ... يلقى خيالك واقفاً بإزائه
وسلبتم طيب الرقاد فمن غفا ... ألفى دبيب النار في أعضائه
أو لو تخيل في المنام بحرمه ... خشي الحريق ومات في إغفائه
راموا شفيعاً عنده ذنبهم ... كي يسخط الرحمن في إرضائه
غابوا وهل في الأرض من يثنيه عن ... تنفيذ حكم الله في إمضائه
ماض حكيم ثابت متمسك ... بالشروع في أحكامه وقضائه
وكما البزاة أمن سطوة بأسه ... فكذا البغاة يئسن من إبقائه
كالسيف يبدو في توقد حده ... في الناظرين إليه رونق مائه
يا راعي الإسلام صنت السرب أن ... تدنو كلاب الشرك من ضعفائه
عاملت ربك بالذي أسلفته ... في دينه فابشر بحسن وفائه
ما غرت إلا للإله وخلقه ... من فتك شر عبيده بإمائه
نزهت شرعة دينه فابشر بها ... هي خير ما أولاك من ألائه
ولك الهناء إذ النبي محمد ... وافيته بالحوض تحت لوائه
فاستشهد الشهر الشريف فإنه ... يثني بما أبديت في أثنائه
أحييته بالعدل فارقد إن تشا ... فلقد بلغت القصد من إحيائه
عظمت حرمته وأهلكت الذي ... لم يرع حق الله في آنائه
فاسلم لهذا الدين تحرس سربه ... ويغض جفن الشرك منك بدائه
واشكر إلهك بالذي ألهمته ... فيما فعلت فذاك من نعمائه
لاجينالأمير حسام الدين الأستاذ الدار الرومي.
كان من كبار الأمراء مقدمي الألوف بالديار المصرية. وكان مقدم الميسرة في يوم شقحب، ثبت هو ومن معه من أصحابه وكان معه ثمانية أمراء مقدمون أبلوا جميعهم بلاءً حسناً، وثبتوا لحملات التتار، فاستشهدوا جميعهم في الواقعة المذكورة - رحمهم الله تعالى - وذلك في شهر رمضان سنة اثنتين وسبع مئة.
وقبره هو وحده هناك على جبل عليه قبة يراها المسافرون على يمين المار من دمشق إلى الصنمين.
وكانت قتلته في عصر السبت ثاني شهر رمضان - رحمه الله تعالى.
ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف الصفدي الطبيب بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة من مرثية كتب بها إلى الأمير ركن الدين عمر بن الأمير حسام الدين لاجين الرومي أولها:
كأس الحمام على الأنام يدور ... والعمر ماض والزمان يسير
أنفاسنا كرواحل لنفوسنا ... لمراحل فيها الأنام تصير
يا من يسير على اليسير وحوله ... عبر وخلق في القبور عبور
انظر إلى الدنيا وما فعلت بمن ... ترنو إليه بطرفها وتسير
كم خولت فتحولت ولئن حلت ... قد أنحلت وأصابها التغيير
منها:
يا مرج صفر أصفرت بك أربع ... وجرت دموع نظمها منثور
جاء التتار تدفقاً تترى له ... فترى... والجبال تسير
وردوا بمائة ألف مغلاً بعدها ... عشرون ألفاً بأسها محذور
لله من فادى الأنام بنفسه ... لم يرهباه منكر ونكير
في محضر شرع الأسنة شاهد ... إن الثناء لغيره محظور
فالسيف يكتب والمثقف ناقط ... والسهم يشكل والطلا المسطور
حضن السيوف به وهن ذكور ... وقدحن ناراً والأكف بحور
هذا حسام الدين والدنيا فما ... يلقى له بين الأنام نظير
كم خاض أهوال المعارك عاركاً ... والحرب تقدح والشرار يطير
والخيل تعثر بالنواصي والقنا ... والأرض راجفةٌ تكاد تمور
فرماحه مثل الرجوم نصالها ... شهب يراها في النحور تغور
تبكي عليه محافل وجحافل ... ومناصل وذوابل وقصور
وهي أربعة وستون بيتاً وهذا القدر منها كاف.
لاجينالأمير حسام الدين الحموي.
كان أولاً بحماة أستاذ دار الملك المؤيد صاحب حماة. ولما ولي الأمر الملك الأفضل وقع بينهما، فنزح عن حماة، وتوجه إلى مصر، وعاد إلى دمشق أميراً.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يكرمه، ولم يزل بدمشق إلى أن أمسك تنكز، وحضر بشتاك إلى دمشق، فولاه المهمندارية بدمشق. فأقام يويمات ثم ولي مدينة دمشق - فيما أظن - ، فأقام قليلاً وطلب الإقالة.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن توفي بدمشق في مستهل صفر سنة ست وأربعين وسبع مئة.
لاجينالأمير حسام الدين المنصوري المعروف بالصغير.
كان أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق، وولي البر في وقت في المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ثم إنه قيد واعتقل بقلعة دمشق بعد قتل حسام الدين لاجين السلطان في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وأفرج عنه في جمادى الآخرة.
وعزل وجهز إلى ولاية الولاة بالقبلية عوضاً عن الحاج بهادر في شوال سنة إحدى عشرة، وتوجه أمير الحج في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وولي غزة بعد الجاولي.
ثم إنه توجه لنيابة إلبيرة، وأقام بها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وصل تابوته إلى دمشق في خامس صفر من السنة المذكورة وكان قد نقل أولاً إلى حلب ودفن بها ثم إن أستاذ داره نقله إلى دمشق، وكان قد أسند وصيته إلى الأمير سيف الدين تنكز، ولأجل ذلك لما اتفق ما اتفق لابنته أمر بخنقها، وكانت واقعة عجيبة.
لاجينالشيخ الصالح حسام الدين الأزهري.
كان شيخاً كبيراً تجاوز المئة بثلاث سنين، وجاور بالجامع الأزهر في القاهرة مدة سبعين سنة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، وكانت جنازته حافلةً، وصلي عليه غائباً بالجامع الأموي بدمشق.
لاجينالأمير حسام الدين المنصوري المعروف بالزيرباج.
كان قد حبسه السلطان الملك الناصر محمد، فأقام في الحبس مدة سبع عشرة سنة، ثم إنه أفرج عنه وعن الأمير فرج بن قراسنقر وعن الأمير علم الدين وخلع عليهم في ليلة عرفة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
لاجينالأمير حسام الدين الإبراهيمي أمير جاندار.
توفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشري ذي الحجة سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ودفن بالروضة تحت قلعة الجبل ظاهر القاهرة.
كان أمير خمسين، وفيه دين ومروءة.
لاجينالأمير حسام الدين الغتمي نائب الرحبة.
كان من مماليك الغتمي نائب الرحبة، ولم يكن هو في نفسه غتمياً. وانتشا بالرحبة، وعمل بها ولاية البر مدة. ثم إنه أقام بدمشق وخدم القاضي محيي الدين بن فضل الله، فخلص له ولاية البقاع، فأظهر نهضة كافية وكفاية تامة، فنقله إلى ولاية نابلس، فأبان فيها عن سداد وشهامة، فأحبه الأمير تنكز، فقال له: يا خوند إن وليتني نيابة الرحبة، وفرت العسكر الدمشقي من التجريد إليها، فكتب له إلى السلطان، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه إمرة طبلخاناه، فتوجه إليها، ووفى بما التزمه من عدم تجريد العسكر إلى الرحبة. وفرح بذلك تنكز، وأحبه.
وحضر العربان والناس ورافعوه، ولم يلتفت إليهم، وأمسك غرماءه ورماهم في الحبس، وتوجه العربان الكبار من آل مهنا وغيرهم، وشكوا منه إلى السلطان شكوى كبيرة، فطلبه السلطان إلى مصر، فتوجه إليها في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب تنكز على يده، فلم يسمع فيه كلاماً، وخلع عليه، وجهزه إليها مكرماً، وتوجهت أنا إليها موقعاً في آخر هذه السنة المذكورة، وكتبت إليه من قباقب على جناح الحمام بطاقة بوصولي، وفيها:
هذي بطاقة خادم ... قد جاء يلهج بالمدح
حملتها قلبي الذي ... قد طار نحوك بالفرح
ولما قدمت إليها انجمع مني وانزوى عني مدة تزيد على شهرين، ثم إنه أقبل علي إقبالاً عظيماً، وأفضى إلي بأسراره، وأحسن إلي غاية الإحسان، وقال: يا مولانا، خوفوني منك، وقالوا: هذا واحد قد سيروه من مصر عيناً عليك، وزال ذلك.
ولما انفصلت من الرحبة وعدت إلى دمشق زودني وأعطاني مبلغ ألف درهم وقماشاً وحجراً عربية ثمينة واستمر لي عليه راتب في دمشق من الشعير لخيلي ومن التبن في كل سنة. وتوجهت إلى مصر، وهو يخدمني ويحسن إلي بأنواع، ويطلب الناس مني الشفاعات إليه، فلا يردها، إلا أنه كان جباراً سفاكاً للدماء يعاقب عقاب المغل، ويتنوع في ذلك بأنواع العذاب.
ولم يزل على حاله في الرحبة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
لاجينالأمير حسام.
كان قد تزوج بأم المظفر حاجي، وجعله أمير آخور على حاله وقدم في أيام المظفر إلى دمشق أمير مئة مقدم ألف، ووصل معه الأمير سيف الدين بتخاص في تاسع شهر رجب سنة ثمان وأربعين.
وكان أمير آخور في أيام الكامل أيضاً - فيما أظن - ، ووصل طلبه بعده، ومعه الأمير ناصر الدين محمد على إقطاعه في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وطلب الأمير حسام الدين لاجين وولده إلى مصر، وأظنه أخرج بعد ذلك، ثم إلى مصر.
ولم يزل بها مقيماً على طبلخاناه إلى أن توفي في شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة بالقاهرة في طاعون مصر.
اللقب والنسباللحياني: صاحب تونس: زكريا بن أحمد.
ابن اللمطي: محب الدين عمر بن عيسى.
ابن اللبان: محمد بن أحمد.
لولوالأمير بدر الدين الحلبي المعروف بغلام فندش، بالفاء المفتوحة والنون الساطنة والدال المهملة المفتوحة والشين المعجمة.
كان المسكين جباراً خواناً أثيماً خواراً خداعاً غداراً مكاراً غراراً، حقوداً حسودا، عنيداً مريدا، قصياً من الخير بعيدا. مبيراً مبيدا، لو عاصر الحجاج لم يدعه يفرح بإمرة الكوفه، ولا اشتهر دونه من قبح سجاياه الموصوفه، ولم يكن قدامه إلا جلوازا، أو ماراً في طريقه مجتازا، أو مشاءً بنميم همازا:
مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
دخل إلى السلطان ورافع كتاب حلب، وجلب إليهم الويل والشوم فيما جلب، وسلمهم السلطان إليه، وعول في استصفاء أموالهم عليه، فمزق جلودهم بالسياط، وأهلك البريء والمتهم عملاً بالاحتياط، فباع بعض الناس موجودهم، وبعضهم باع مولوده. وكانت نوبة دون نوبة هولاكو وشراً منها، وواقعة تحدث الناس في سائر الأقطار عنها.
ثم إنه نكب فيها، وطلب إلى مصر وأخذ منحوسا، وظن الناس أنه يكون فيها مرموسا، فنجا وليته لا نجا، ووجد بين الأسنة مخرجا.
ثم إن السلطان ندبه لشد الجهات، فسد الجهات على من تنفس، ووصل شره حتى إلى الجواري الكنس، وأساء إلى من اصطنعه من تلك الورطه، وأخرجه من مصر بعد أي ضغطه، فولاه السلطان بمصر شد الدواوين بالقاهره، وتولى ذلك والناس أحياء " فإذا هم بالساهره " ونوع العذاب على المصادرين، وابتدع من العقاب ما لا مر بذهن الواردين ولا الصادرين، ثم إنه نكب بالقاهرة نكبة عظيمه، وانفرطت منها حبات سعادته النظيمه.
إلى النار يا ولد الزانية ... وهذا الهوي إلى الهاوية
وقعت فيا بردها في القلو ... ب، فيا ليتها كانت القاضية
ثم إنه جهز إلى حلب، وقدر الله أنه منها انقلب، فذاق فيها وبال أمره، وأفاق من سكرة خمره، وقاء ما كان أكل واتخم، وشكا وهو تحت العقوبة شكوى الجريح إلى العقبان والرخم، ومنها قضى، وأسفر الوجود بموته من الظلم وأضا.
وكان هلاكه في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
أول ما عرفت من أمره أنني رأيته بحلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة وهو ضامن المدينة، وكان ضامنها من قبل بمدة، وطلع مرات إلى مصر ورافع الناس، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش يصده ويرده ويكذبه قدام السلطان، ولم يبلغ مرامه مدة حياته، فلما مات طلع إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ودخل إلى السلطان ورمى بين يديه ديناراً ودرهماً وفلساً، وقال: يا خوند الدينار في حلب للمباشرين، والدرهم للنائب، والفلس لك، فتأذى السلطان من ذلك واستشاط غضباً وطلب الجميع من حلب على البريد، وسلمهم إليه وكان يقعد في قاعة الوزارة ويستحضرهم ويقتلهم بالمقارع، وكان الناس قد طال عهدهم بالمقارع لأن القاضي كريم الدين - رحمه الله تعالى - كان قد أبطلها، واستمر إبطالها بعده إلى أن جاء هذا لولو فأعادها وبالغ في أذى أهل حلب، فأنكر أهل مصر ذلك، وساءت سمعته ذلك اليوم ورثى الناس لمباشري حلب، ووقف الناس له ليرجموه إذا نزل ذاك النهار من القلعة، فأحس بذلك، ودخل إلى السلطان وعرفه ذلك، فزاد غضب السلطان، ولم ينزل لولو من القلعة، وربما جعل معه أو شاقية يحفظونه من الناس.
ولم يزل يعاقبهم بمصر حتى استصفى أموالهم وأخذهم معه، وتوجه بهم إلى حلب، وقد أمره السلطان وجعله مشد الدواوين بحلب.
ولما وصل إليها صادر وعاقب وتنوع في ذلك حتى أباع الناس أولادهم، وزاد في الخيانة، فبلغ الخبر إلى السلطان، فسير السلطان للكشف عليه الأمير سيف الدين الأكز فصانعه وداراه وقدم له، فأخذه معه وطلع إلى مصر بما معه من التقادم العظيمة فقبلها السلطان منه، وجعله بين يدي الأكز مشد الجهات بمصرف القاهرة، فزاد تسلطه على الناس، وكرهه الأكز، فأخذ العصا يوماً، وضربه إلى أن خرب عمامته، وخرج إلى برا وهو كذلك، فتوجه إلى القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، ودخل عليه واتفق معه، وعملا على الأكز، وأخرجاه إلى الشام، وولاه السلطان شد الدواوين بالقاهرة، فعمل ذلك بجبروت عظيم، وزاد طغيانه وعتوه.
ثم إن السلطان غضب عليه، فأمسك لولو، وطلب الأمير علم الدين سنجر الحمصي من الشام وولاه شد الدواوين بالقاهرة، وسلم لولو إليه، فضربه بعض ضرب، وأقام مدة في الاعتقال ثم إنه خرج إلى حلب مشداً - والله أعلم - ، فأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر نائب حلب، ومعه الأمير سيف الدين بهادر الكركري مشد الدواوين، فغضب على لولو، وسلمه إلى ابن الكركري فقتله بالمقارع إلى أن مات - رحمه الله تعالى - سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
حكى لي الشيخ شمس الدين بن الأكفاني قال: أعرف هذا لولو وهو عند فندش - أو قال: قبل وصوله إلى فندش - وهو يبيع أسقاط الغنم والأقصاب والتعاشير وغير ذلك في لقين بحماة على الطريق، وربما حمل ذلك على رأسه ودار به يبيعه.
أنشدني لنفسه إجازة القاضي زين الدين عمر بن الوردي - رحمه الله تعالى - :
أشكو إلى الرحمن لؤلؤ فندش ... أضحى يصادر سادة وصدورا
نثر الجنوب بل القلوب بسوطه ... فمتى أشاهد لؤلؤاً منثورا
حرف الميم
النسب والألقاب
ابن الماسح: نجم الدين أحمد بن إبراهيم.مالك بن عبد الرحمنابن علي بن عبد الرحمن، أبو الحكم بن المرحل الأديب الشاعر المغربي.
أخذ عن الشلوبين، وابن الدباج، وعده.
وروى عنه أبو القاسم بن عمران، ومحمد بن أحمد القيسي، وغيرهما.
واستوطن سبتة.
له الشعر الرائق، والنظم الفائق، لطف ألفاظه ورققها، وزخرف أبياته ونمقها. وكان من أفاضل شعراء المغرب وأدبائهم الذين يأخذون من كلامهم ب المرقص والمطرب.
ولم يزل على حاله إلى أن رحل ابن المرحل إلى الآخرة، وأقام تحت الأرض إلى أن تنشر العظام الناخره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة بسبتة. وقيل: سنة سبع مئة بفاس - والله أعلم - .
ومولده بمالقة سنة أربع وست مئة، فمات عن خمس وتسعين سنة.
وكان قد نظم " التيسير " في قصيدة تزيد على ألفي بيت ورويها يلازم، وما أحسن قوله:
يا أيها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشراً بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصبا ... فحدك الدهر ثمانينا
وليته زادك من بعدها ... لأجل تخليطك عشرينا
ووقع بينه وبين ابن أبي الربيع في مسألة " كان ماذا " ؟ فنظم مالك بن المرحل:
عاب قوم " كان ماذا " ... ليت شعري لم هذا
وإذا عابوه جهلاً ... دون علم كان ماذا
وجهله ابن أبي الربيع، وصنف في المنع من المسألة مصنفاً.
وأنشدني العلامة شيخنا أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا مالك بن المرحل لنفسه:
مذهبي تقبيل خد مذهب ... سيدي ماذا ترى في مذهبي
لا تخالف مالكاً في رأيه ... فبه يأخذ أهل المغرب
ومن شعر ابن المرحل:
يا راحلين ولي في قربهم أمل ... لو أغنت الحالتان القول والعمل
سرتم فكان اشتياقي بعدكم مثلاً ... من دون السائران الشعر والمثل
قد ذقت وصلكم دهراً فلا وأبي ... ما طاب لي الأسمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى في حبكم وجوى ... وشب مني اثنتان الحرص والأمل
غدرتم أو ملكتم يا ذوي ثقتي ... وبئست الخلتان الغدر والملل
عطفاً علينا ولا تبغوا بنا بدلا ... فما استوى التابعان العطف والبدل
قالوا: كبرت ولم تبرح كذا غزلاً ... أودى بك الفاضحان الشيب والغزل
لم أنس يوم تدانوا للرحيل ضحىً ... وقرب المركبان الطرف والجمل
وأشرقت بهواديهم هوادجهم ... ولاحت الزينتان الحلي والحلل
كم عفروا بين أيدي العيس من بطل ... أذابه المضنيان الغنج والكحل
دارت عليهم كؤوس الحب مترعة ... وإنما المسكران الراح والمقل
وآخرون اشتفوا منهم بضمهم ... يا حبذا الشافيان الضم والقبل
وقال قبل وفاته وأمر أن يكتب ذلك على قبره:
زر غريباً بمغرب ... نازحاً ما له ولي
تركوه موسداً ... بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره ... بلسان التذليل
رحم الله عبده ... مالك بن المرحل
اللقب والنسبابن مالك: شمس الدين محمد بن محمد. وجمال الدين بن محمد بن محمد.
المارستاني: محيي الدين محمد بن علي.
المأمون: ناظر الكرك زكي الدين عبد الله بن عبد الكافي.
مبارك بن نصيرالفقيه الشافعي المعيد بالمشهد الجيوسي.
كان من أهل قوص ومن الصالحين المتواضعين يخدم الطلبة بنفسه، ويعالج المرضى، ويطبخ لهم، ويقوم بالوظائف من الإعادة والإمامة والآذان، من غاب قام عنه بوظيفته.
ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى الحج فغرق في سنة إحدى وسبع مئة.
مباركالأمير زين الدين المنصوري.
كان أمير فارساً بدمشق. ثم إنه نقل إلى طرابلس، فعمي هناك، وقطع خبزه. ثم إنه قدح عينيه فأبصر، ولم يعد إليه خبزه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
اللقب والنسبالمجير الخياط: أحمد بن حسن.
ابن المحسني: شهاب الدين أحمد بن بيليك.
ابن المحدث الكاتب: الشيخ بدر الدين حسن بن علي.
ابن المحب: الشيخ محب الدين عبد الله بن أحمد.
المحار: سراج الدين عمر بن مسعود.
محفوظابن رشيد الدين العراقي الشاعر.
قدم إلى دمشق بعد السبع مئة، وكان شاعراً مطيقا، متكلماً منطيقا، يغوص على المعاني البعيده، ويبرزها في الألفاظ السديده، له مقاطيع راقت، وأبيات ساقت النفوس إلى الطرب وشاقت، فكان شعر محفوظ محفوظا، وشعر من سواه ملفوظا. إلا أنه كان الهجو عليه غالبا، ولسانه للأعراض ثالبا، ومدحه للأموال سالبا.
عاد إلى البلاد وانقطع خبره، وكأن الموت جبره لما زاد دبره.
وكان لما دخل الشام ووصل حماة اتصل بابن قرناص وطلب إيصاله إلى الملك المظفر صاحب حماة، وكان ابن قرناص كاتب سره، فأطال الشرح عليه، فلما يئس منه الرشيد عدل إلى كشتغدي الأستاذ دار وأنشده:
ولقد ركبت هجين عزم ساقه ... مني الرجاء إلى الأغر الأبلج
ملك توغره جنود حوله ... كالروض بات مسيجاً بالعوسج
فأنشدها كشتغدي للمظفر، فاستحضره وابن قرناص حاضر، فاستنشده البيتين فأنشدهما، وقال في الثاني:
ملك تزان به جنود حوله ... كالروض بات مسيجاً ببنفسج
فقال له المظفر: ما هكذا قلت، فقال: كان ذاك قبل أن أحضر لديك، فأما الآن؛ فهو كما قلت، فأسنى عطاءه.
ثم إن الرشيد وصل إلى حصن الأكراد، وعمل قصيدة في نائبها وأعطاها كاتبه ابن الذهبي، ليوصلها، فعاد إليه بعد مدة وزعم أنها ضاعت من حزره فقال:
لا الذهبي اشترى المديح ولا ... أعذبه منهلاً وعذبه
أهديت سراً مدحي إليه فما ... ذهبه بل علي أذهبه
ومن شعره أيضاً:
ركب الله في فتاء بنى فع ... لان معنى النيران والجنات
أوجه القوم بالمكاره تحفى ... وفروج النساء بالشهوات
ومنه:
فرقت بيننا الحوادث لكن ... لي نفس إليكم أدنيها
فكأني في الود فارة مسك ... أفرغوها ونفحة الطيب فيها
وقال وقد رأى مشجر الفسيفساء في الجامع الأموي بدمشق:
ألم تر أشجاراً بجامع جلق ... حكت للورى لو أن صانعها باق
نضارتها أن لا تدانى فروعها ... بشمس ولا سقي مغارسها ساقي
ومنه
هيج البرق لوعة المشتاق ... بوميض لقلبه الخفاق
هذه مزنة إلي حدتها ... نسمة الصبح من نواحي العراق
يا قساة القلوب رقوا فإني ... لا غرامي فإن ولا أنا باق
هل لبؤس لاقيته من فراق ... ونعيم فارقته من تلاق
قلت: هذا البيت الثاني من هذه القطعة ذكرت به ما اتفق لي نظمه بالديار المصرية، وقد توجهت إليها في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وتركت أولادي بدمشق وهو:
قلت إذ رق لي النسيم وقلبي ... يتلظى بالشوق في أرض مصرا
هذه نفحة هدتها لبرئي ... وحدتها أنفاس سطرى ومقرى
محمد بن إبراهيمابن علي فتح الدين القوصي، ابن الفهاد.
كان فقيهاً حسناً مشكور السيرة، اشتغل بفقه الشافعي على أبيه وغيره، وتولى الحكم بسمهود، ثم إنه استوطن القاهرة، وجلس بحانوت الشهود، يعقد الأنكحة، وعرف بذلك، ومضى على جميل.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن إبراهيم بن محمدابن أبي نصر الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين أبو عبد الله بن النحاس النحوي شيخ العربية بالديار المصرية.
سمع من ابن اللتي، والموفق بن يعيش النحوي، وابن رواحة، وابن خليل، ووالده. قرأ القرآن على أبي عبد الله الفاسي. وأخذ العربية عن الشيخ جمال الدين محمد بن عمرون. ودخل مصر لما خربت حلب، وقرأ القرآن على الكمال الضرير، وأخذ عن بقايا شيوخها، ثم جلس للإفادة.
كان حسن الأخلاق، منبسطأ على الإطلاق، متسع النفس في حالتي الغنى والإملاق، ذكي الفطره، زكي المخالطة والعشره، مطرح التكلف مع أصحابه، عديم التخلف عن أشكاله وأضرابه، ومع ذلك فلم يرزق أحد سعادته في صدور الصدور، ولا فرح أحد بسيادته التي أربت على تمام البدور.
وكان معروفاً بحل المشكلات، موصوفاً بإيضاح المعضلات، كثير التلاوة والأذكار، كثير الصلاة في نوافل الأسحار، موثوقاً بديانته، مقطوعاً بأمانته.
وأما علمه بالعربية فإليهالرحلة من الأقطار، ومن فوائدها تدرك الأماني، وتنال الأوطار، قد أتقن النحو وتصريفه، وعلم حد ذلك ورسمه وتعريفه، ما أظن ابن يعيش مات إلا من حسده، ولا ابن عصفور لأجله طار ذكره إلا في بلده، ولا المرسي رست له معه قواعد، ولا لأبي البقاء العكبري معه ذكر خالد، بذهن نحى النحاس القديم عن مكانه، وجعل ابن بري برياً من فصاحة لسانه، وتحقيق ما اهتدى ابن جني إلى إظهار خباياه، ولا نسبت إلى السخاوي هباته ولا عطاياه.
تخرج به الأفاضل، وتحرج منه كل مناظر ومناضل، وانتفع الناس به وبتعليمه، وصاروا فضلاء من توقيفه وتفهيمه، وكتب خطاً أزرى بالوشي إذا حبك، والذهب إذا سبك.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ من الحياة أمدها، وأهدى الزمان إلى عينيه بفقده رمدها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقاهرة.
ومولده بحلب في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وست مئة.
وكان من العلماء الأذكياء الشعراء، له خبرة بالمنطق، وخط من إقليدس، وكان على ما قيل يحفظ ثلث " صحاح " الجوهري وثلث " سيبويه " ، وكان مطرحاً صغير العمامة، يمشي في الليل بين القصرين بقميص وطاقية فقط، وربما ضجر من الاشتغال فأخذ الطلبة، ومشى بهم بين القصرين وألقى لهم الدروس.
وكان متين الديانة، وله أبهة وجلالة في صدور الناس، وكان بعض القضاة إذا انفرد بشهادة حكمه فيها وثوقاً بديانته، واقتنى كتباً نفيسة.
أخبرني الشيخ نجم الدين الصفدي، وكان ممن قرأ عليه، قال: قال الشيخ بهاء الدين: ما يزال عندي كتب بألف دينار، وأحضر سوق الكتب دائماً ولا بد أن يتجدد لي علم باسم كتاب ما سمعت به انتهى.
ولم يتزوج قط، وكانت له أوراد من العبادة. وكان يسعى في حوائج الناس ويقضيها.
وأخبرني القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسراني أنه لم يكن يأكل العنب، قال لأنه كان يحبه، فآثر أن يكون نصيبه في الجنة.
وأخبرني الحافظ بن سيد الناس، قال: زكى بعض الفقهاء تزكية عند بعض القضاة ما زكاها أحد قط، لأنه أمسك بيد الذي زكاه، وقال للقاضي: يا مولاي الناس ما يقولون: ما يرمن على الذهب والفضة إلا حمار، قال: نعم، وهذا حمار، وانصرف فحكم القاضي بعدالة ذلك الفقيه.
وأخبرني أيضاً أن الأمير علم الدين الشجاعي لما فرغت المدرسة المنصورية بين القصرين في أيام السلطان الملك المنصور قلاوون طلبه الأمير المذكور، فتوجه إليه وعمامته صغيرة بكراثة، على مصطلح أهل حلب، فلما جلس عنده، ولم يكن رآه، أخذ الأمير يتحدث بالتركي مع بعض مماليكه، فقال: يا أمير، المملوك يعرف بالتركي، فأعجب الأمير هذه الحركة منه، وقال له: السلطان قد فوض إليك تدريس التفسير بالقبة المنصورية، ونهار غد يحضر السلطان والأمراء والقضاة والناس، فغداً تحضر وتكبر عمامتك هذه قليلاً، فانصرف، ولما كان من الغد رآه الأمير علم الدين من بعيد، وهو جائز إلى المدرسة بتلك العمامة، فجهز إليه يقول له: ما قلت لك تكبر عمامتك قليلاً؟، فقال: يا مولانا، تعملوني مسخرة، وأراد أن يرجع، فقال الأمير علم الدين: دعوه يدخل، فلما جلس مع الناس؛ نظر الملك المنصور إلى الذين هناك، فقال: هذا ما هو الشيخ بهاء الدين بن النحاس؟، قالوا: نعم، فقال: هذا أعرفه، لما كنت ساكن في المدينة والناس يقرؤون عليه، وشكر الشجاعي على إحضاره، قال الشيخ فتح الدين: فلم يعرف السلطان غيره، ولا أثنى إلا عليه.
وأخبرني عنه غير واحد أنه لم يزل عنده في بيته من أصحابه ومن الطلبة من يأكل على مائدته لا يدخر شيئاً، ولا يخبئه عنهم، وهنا أناس يلعبون الشطرنج، وهنا أناس يطالعون، وكل واحد في شأنه لا ينكر على أحد شيئاً. ولم تزل أخلاقه مرتاضةً حتى يكون وقت الاشتغال يتنكر، وكان لا يتكلم في حل النحو للطلبة إلا بلغة العوام لا يراعي الإعراب.
وأخبرني الإمام أثير الدين، وعليه قرأ بالديار المصرية، قال: كان الشيخ بهاء الدين والشيخ محيي الدين محمد بن عبد العزيز المازوني المقيم بالإسكندرية شيخي الديار المصرية، ولم ألق أحدا أكثر سماعاً منه لكتب الأدب، وانفرد بسماع " صحاح " الجوهري.
وكان كثير العبادة والمروءة والترحم على من يعرفه من أصحابه، لا يكاد يأكل وحده، ينهى عن الخوض في العقائد، وله ترداد إلى من ينتمي إلى أهل الخير. ولي التدريس بجامع ابن طولون وبالقبة المنصورية، وله تصدير في الجامع الأقمر، وتصادير بمصر، ولم يصنف شيئاً إلا ما وجدناه من إملائه على الأمير سنان الدين الرومي شرحاً لكتاب " المقرب " لابن عصفور، وذلك من أول الكتاب إلى باب الوقف أو نحوه.
قال: وكنت وإياه نمشي بين القصرين، فعبر علينا صبي يدعى بجمال وكان مصارعاً، فقال الشيخ بهاء الدين: لينظم كل منا في هذا المصارع، ونظم الشيخ بهاء الدين:
مصارع تصرع الآساد شمرته ... تيهاً فكل مليح دونه همج
لما غدا راجحاً في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج
قال أثير الدين: ونظمت أنا:
سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دليل للملاحة واضح
لئن عز منه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح
قال: وسمع الشيخ شهاب الدين العزازي نظمنا، فنظم فيه، وأنشدنيه:
هل حكم ينصفني في هوى ... مصارع يصرع أسد الشرى
مذ فر عني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى
أباح قتلي في الهوى عامداً ... وقال: كم لي عاشق في الورى
رميته في أسر حبي ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى
قلت: أما قول الشيخ بهاء الدين - رحمه الله تعالى - فإنه منحط وما أتى فيه من مصطلح القوم إلا بلفظة " الراجح " لا غير. وأما قول شيخنا أثير الدين فإنه غاية لأنه أتى فيه بلفظ " المثل " و " الدون " و " الراجح " . وأما قول الشيخ شهاب الدين العزازي فبين بين، لم ينحط ولم يرتفع، لأنه أتى فيه بلفظة " حكى عليه " و " الإباحة " و " الرمي " و " أخذ الكرى " في أربعة أبيات وفيها عيب وهو التضمين وهو تعلق الثالث بالرابع، وقوله " الكرى " أخطأ فيه، لأن الكرى بمعنى النوم بفتح الكاف، والكرى بمعنى الأجرة بكسر الكاف فتنافيا وقد أشبعت القول في هذا في كتابي " فض الختام عن التورية والاستخدام " .
وأنشدني شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدني الشيخ بهاء الدين لنفسه يخاطب الشيخ رضي الدين الشاطبي، وقد كلفه أن يشتري له قطراً:
أيها الأوحد الرضي الذي طا ... ل علاء وطاب في الناس نشرا
أنت بحر، لا غرو إن نحن وافي ... ناك راجين من نداك القطرا
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه يرثي الشيخ أحمد المصري النحوي:
عزاؤك زين الدين في الفاضل الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا
فهم فقدوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه مما يكتب على منديل:
ضاع مني خصر الحبيب نحولاً ... فلهذا أضحي عليه أدور
لطفت خرقتي ودقت فجلت ... عن نظير لما حكتها الخصور
أكتم السر عن رقيب لهذا ... بي يخفي دموعه المهجور
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
إني تركت لذا الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقار يخرب
وأنشدني شيخنا نجم الدين الصفدي من لفظه قال: أنشدنا الشيخ بهاء الدين لنفسه:
قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القاني على الخد اليقق
ليس بدعاً ما أتوا في فعله ... ستروا البدر بمحمر الشفق
قلت: ذكرت أنا هنا ما نظمته في هذا:
قلت إذ شرطوا الحبيب وقد ضا ... ق علي الغرام في كل مسلك
قد ملكت الفؤاد من غير شرط ... قال: لكنني مع الشرط أملك
وقلت أنا فيه أيضاً:
تشرط من أحب فذبت خوفاً ... وقال وقد رأى جزعي عليه
عقيق دم جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه
وأخبرني شيخنا الذهبي قال: قرأت على الشيخ بهاء الدين - رحمه الله - جزأين.
قلت: وغالب روايات الشيخ أثير الدين كتب الأدب عنه - أعني الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى - .
محمد بن إبراهيم بن عليابن أحمد بن فضل الشيخ الموفق ابن الشيخ القدوة تقي الدين.
كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وكان كثير التلاوة، قليل الاجتماع بالناس، لا يعرف له صاحب ولا عشير، وسمع كثيراً من الحديث على المشايخ الذين أدركهم بالصالحية.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس شهر المحرم سنة سبع مئة، ودفن عند والده.
محمد بن إبراهيم بن يحيىابن علي الأنصاري المروي الأصل، المصري المولد، جمال الدين الكتبي المعروف بالوطواط.
كان من كبار الأدباء، وأعيان الألباء، ألف وجمع، وصنف فأبرق ولمع. وكان نثره جيدا، وطبعه عن النظم متحيدا، لم يقدر ينظم البيت الواحد، ولو لحده اللاحد، وينثر جيداً ما شاء، ويتقن في هذا الفن الإنشاء.
وكانت له معرفة بالكتب وقيمتها، ودربة بوجودها وعدمها، وله فهم وذوق ومعرفة، وفضل يد له في مجاميعه على ما يريد أن يورده أو يصرفه، تدل تواليفه على ذلك، وتشهد له بحسن السلوك في تلك المسالك، وكان يرتزق بالوراقه، ويجمع في أثنائه ما راقه.
ولم يزل على ذلك إلى أن بلغت حياته غايتها، وتناولت وفاته رايتها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ...... وسبع مئة.
ومولده بمصر سنة اثنتين وثلاثين وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين، قال: كان له معرفة بالكتب وقيمتها، وله نثر حسن، ومجاميع أدبية. وكان بينه وبين ابن الخويي قاضي القضاة مودة، لما كان بالمحلة، فلما تولى قضاء الديار المصرية، توهم جمال الدين أنه يحسن إليه، ويبره، وسأله فلم يجبه إلى شيء من مقصوده، فاستفتى عليه فضلاء الديار المصرية، فكتبوا له على فتياه بأجوبة مختلفة، وصير ذلك كتاباً، وقد راحت به نسخة إلى بلاد المغرب. وكان قد سألني على أن أجيب على ذلك، فامتنعت لأن الإجابة اقتضت ذم المستفتى عليه، وكذلك أجاب جميع من كتب عليها. انتهى.
قلت: أما هذه الفتيا فقد رأيتها، ونقلتها بخطي، وهي في الجزء الثاني عشر من " التذكرة " التي لي، وقد سماها " فتوى الفتوة ومرآة المروة " . وكتب له الشيخ بهاء الدين بن النحاس وناصر الدين حسن بن النقيب، ومحيي الدين بن عبد الظاهر كتب له جوابين أحدهما له والآخر عليه، وشرف الدين بن فضل الله والسراج الوراق، وناصر الدين شافع، وشرف الدين القدسي، وشرف الدين بن قاضي إخميم، ومكين الدين الجزري كتب له جوابين، والنصير الحمامي وكمال الدين بن القليوبي، وعلم الدين بن بنت العراقي، وشمس الدين الخطيب الجزري، وعلم الدين القمني، وبدر الدين الحلبيالموقع، وعماد الدين بن العفيف الكاتب، وشمس الدين بن مهنا، بدر الدين المنبجي، وأمين الدين بن الفارغ، وشمس الدين بن دانيال، والفقيه شعيب، وناصر الدين بن الإسكاف، ونور الدين المكي، وآخر لم يذكر اسمه لأنه عاهده على ذلك.
ومن تصانيف جمال الدين المذكور كتاب " مناهج الفكر، ومناهج العبر " أربع مجلدات، تعب عليه، وجوده، وما قصر فيه، وكتاب " الدرر والغرر والدرر والعرر " .
وملكت بخطه تاريخ " الكامل " لابن الأثير، قد ناقش المصنف في حواشيه، وغلطه، وواخذه.
وفي جمال الدين هذا يقول شمس الدين بن دانيال وقد حصل للوطواط رمد:
ولم أقطع الوطواط بخلاً بكحله ... ولا أنا من يعييه يوماً تردد
ولكنه ينبو عن الشمس طرفه ... وكيف به لي قدرة وهو أرقد
وأنشدني إجازة له ناصر الدين بن شافع:
كم على درهم يلوح حراماً ... يا لئيم الطباع سراً تواطي
دائماً في الظلام تمشي مع النا ... س، وهذي عوائد الوطواط
وأنشدني له أيضاً:
قالوا: ترى الوطواط في شدة ... من تعب الكد وفي ويل
فقلت: هذا دأبه دائماً ... يسعى من الليل إلى الليل
وكان المسكين جمال الدين لا يزال الواقع بينه وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، فكتب تقليداً على سبيل المداعبة لشخص يعرف بابن غراب يعرض فيه بالوطواط، وهو: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " إلى كل ذي جناح، وكل اجتراء من الطير واجتراح، وإلى كل ذي صيال منهم، وكل ذي صياح، وإلى كل ذي عفاف منهم، وكل ذي جماح.
أما بعد:
فإنه لما علمنا من الله كلام الطير وفهمناه من منطقه، وألزمناه من عهده وموثقه، فقال: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " ترى أن من برز لعجز من أولي المخالب وذوي المناسر، صار على ذي مسالمه، وإن غدا بعضها لبعض طعماً، ولا يتجاوز أحد منها مقامه المحمود في المكارمه، وإن اتفقت الأجناس واختلفت الأسماء للوضيع والأسمى، وأن يشكر للورق حسن شجعها وعفاف طبعها، مساعدتها للخلي بغنائها في دوحها، وللحزين بترجيع ندبها ونوحها، ولأنها متجملة بتخضيب الكف وتطويق الأعناق، ومتحملة من القدود إلى الغصون رسائل العشاق بالأشواق، حتى وسمت بأنها على تعانق القضب رقبا، وسمت حتى أصبحت على منابر الأشجار خطبا. ويؤثر أن يحمل لذوات الاصطياد من الجوارح تحصيل ما تقتات به النفوس، وتمتار منه الجوارح لأنها شرفت بنفوسها حتى علت على أيدي الملوك، وقيل لابنها: لله أبوك، وأن يصف بحسن اعتذاره في جيئته وذهابه، وأن ينثني على حسن خطبته وجميل خطابه، إلى غير ذلك من قطا لو ترك لهدأ ونام، وإلى بلابله الملوك من الحمام، وإلى غرانيق تهرب الثعابين من أصواتها، وإلى سباطر ترتج الأرض بأكلها لحياتها، وإلى لغالغ تنطق، وكأنما ألبست ملابس أهل الجنان من السندس والاستبرق، وإلى ما ينجلي من طواويس كأنما استعار منها قوس قزح أثواباً دبجتها الشمس بشعاعها، وأهلتها الأهلة لإيداع إبداعها، وإلى ديكة مباركه، يؤذن آذانها بمرور ملك من الملائكة، وإلى نسر عظيم التأمير، وإلى نعام كاد يطير.
وإنا فكرنا في بعض ذوات الأجنحة خبيث حقير السمات، أسود الوجه والقفا والصفات، لا يألف إلا قبور الأموات، ولا يسعى إلا في الظلم والظلمات، ذو أذن ناتئة وما هذه الصفة من صفات الطيور، وإنه يولد والطير لا يعرف منها إلا أنها تحضن بيضها في أعشاشها والوكور، وإنه لا يقع في الشباك ولا في الفخوخ، وإنه يمني كما يمني الرجل وليس من الأنس، وإن كان شيطاناً فإنه شيطان ممسوخ، ولا يسمع منه هديل ولا هدير، ولا يصير مسرور حيث يصير، يغدو على الروضات متلصصا، ويغدو للثمار منقصا، مشؤوم الطلعه، مذموم النجعه، مرجوم البقعه سيئ الجوار قبيح الآثار، مؤذن بخراب الديار، أسود من قار، وأفسد من فار، لا يحسن به الانبساط، ولا يمكن معه الاحتياط، أخس مخلوقات الله تعالى، وهو المسمى بالوطواط. كم ضري وكم ضر، وكم ساء وما سر، وما أبرأ قط ولا أبر، ولا هو حيوان من بحر ينتفع به ولا من بر.
وهذا كتابنا إلى كل ذي بسط وقبض، وإلى كل ذي انتهاس وانتهاش وعض، وكل رب مقبرة مظلمه، وكل ذي موحشة معتمه، وكل من إليه توغل الأعماق المقتمه، يتضمن إهلاك هذا الحيوان الخبيث وتطهير الأمكنة من رجسه، وسد المنافس على الكريهين من نفسه ونفسه، وأن لا ترعى له حرمه، ولا يرقب فيه إل ولا ذمه، بحكم أنه ليس من الطير ولا من الوحش، ولا ذو قوة ولا بطش، ولا فيما ينتفع به صائل ولا صائد ولا آكل، ولا هو معين ذي فرج ولا ثاكل، وإن ضرره للأحياء والأموات فاش. ولأنه إذا دعي بأحب الأسماء إليه قبل له: خفاش، لا يكرع في نهر النهار، ولا يحوم مع ذوات الجناح في مطار، وأكره شيء إليه الأنواء والأنوار، ولا يوصف بأنه الشهم، ولا هو ذو ريش ينتفع به بإراشة السهم، لا تحد له الصفائح، ولا يعد في جملة الذبائح، ولا ريح له في الشواء، ولا ريح له في الشرائح.
ورسمنا أن يفوض أمره وحسبة الطير للإمام شرف الدين بن غراب، فليتق الله في كل ذات طوق وغير طوق، وليراقبه مراقبة أبيه إذا قنع من إيمانه بما اقتنع به صلى الله عليه وسلم من السوداء بأن قال لها: أين الله؟، فقالت: في السماء. وأبوه، فلا يزال يقول: الله فوق، وليحتسب على هذا الخبيث المشوه، وهذا الخسيس المنوه، فقد فوضنا ذلك إليه إذ هو كأبيه منطق مفوه، وليترك في أمره النعيق والنعيب، وليعلن بلغته إعلاماً فصيحاً يستوي فيه البعيد والقريب، ويتجاوز فيه في ذلك كل سمي بهذا الاسم المشؤوم، إذ لكل امرئ من نعته نصيب، وليقرأ هذا المرسوم على رؤوس الأشهاد وعند الآبار المعطلة والبراني والخراب واليباب، ويزيل من الترب المظلمة والقباب عند كل باب، والخاتم الشريف السليماني أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن سعد الله
ابن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر، الإمام العالم قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله الكناني الحموي الشافعي قاضي قضاة الديار المصرية.
سمع سنة خمسين من شيخ الشيوخ الأنصاري بحماة وبمصر من الرضي بن البرهان والرشيد العطار وإسماعيل بن عزرون وعدة. وبدمشق من ابن أبي اليسر، وابن عبد، وطائفة. وأجاز له عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة وطائفة. وحدث " بالشاطبية " عن ابن عبد الوارث صاحب الشاطبي. وله إجازة في سنة ست وأربعين أجازه فيها الرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان، وإسماعيل العراقي، واليلداني، والصفي عمر بن عبد الوهاب الراذعي، وخطيب مردا، وغيرهم.
وسمع من والده، وأحمد بن القاضي زين الدين الدمشقي، وابن علاق، وعثمان بن رشيق، والحافظ العطار، والنجيب عبد اللطيف الحراني، والرضي بن البرهان الواسطي، وشمس الدين إسحاق بن بلكويه الصوفي المعروف بالمشرف، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والقاضي شمس الدين بن عطا الحنفي، وكمال الدين عبد العزيز بن عبد، وشيخ الشيوخ شرف الدين، والشيخ ناصح الدين القسطلاني، وأخيه قطب الدين، والشيخ محب الدين بن دقيق العيد، والشيخ جمال الدين بن مالك، والشيخ جمال الدين الصيرفي، وجماعة غيرهم.
وطلب الحديث بنفسه، وقرأ على الشيوخ وحدث ب " صحيح " البخاري بطريق البوصيري.
وحدث بالشام ومصر والحجاز، وخرج له المحدثون عوالي ومشيخات بمصر وبدمشق، وخرج هو لنفسه أربعين حديثاً من الأحاديث التساعيات العوالي، وسمعت عليه مع جماعة بمنزله بمصر المجاور للجامع الناصري، وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وحدث بالكثير، وتفرد في وقته.
كان إمام زمانه، وصدر أوانه، وانتهت إليه رياسة الدين والدنيا، رقى بسيادته في مراتب العليا، وجمع له من المناصب ما لم يجمع في وقته لسواه، وترك كل عدو له وحاسد ينطوي على نيران جواه، اشتغل بالعلم من صغره، واستمر على ذلك في مدة كبره. وصحب قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وانتفع به وقرأ عليه كثيراً من كتبه، ولازم طريق الخير وصحبة الصالحين، واتحد بالفقراء العاملين العالمين، واشتهر بهذه الطريقة، وعرف بهذا الخير الذي هو نعم الرفيق في كل فريق، فترشح بذلك للوظائف الكبار، والمناصب التي ما على حسنها غبار، ومع هذا كله لازم طريقة واحدة، وباشر القضاء والحكم وقد جعل الله فضله شاهده ورزق السعادة العظمى في كل ما تولاه، وزانه من محاسنه ما تحلاه، واتصف بصفات، وما يقول الناس في البدر إذا محا سواد الدجى وجلاه:
وجلال لو كان للقمر البد ... ر جاز فيه حكم المحاق
ثم إنه ضعف بصره واستعفى من المباشره، وترك الخلطة بالناس والمعاشره، وانقطع في منزله قريباً من ست سنين يزوره الناس للبركه، ويقصدونه للتملي بمحاسنه، والأخذ من فوائده المشتركه.
ولم يزل على حاله إلى أن كسف بدره، وأزلف قبره، وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين بعد العشاء الآخرة الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده ليلة السبت عند مضي الثلث الأول من ليلة رابع شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وصلي عليه بجامع دمشق صلاة الغائب يوم الجمعة بعد الصلاة عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
وكان قد درس أولاً بدمشق في المدرسة القيمرية مضافاً إلى الخطابة في أول دولة لاجين. ثم إنه نقل إلى قضاء القدس مع الخطابة به في شوال سنة سبع وثمانين وست مئة عوضاً عن فخر الدين الزرعي. ثم إنه طلب لقضاء الديار المصرية، فتوجه إليها في شهر رمضان سنة تسعين بدل ابن بنت الأعز، وجمع له بين قضاء البلدين، فأحسن السيرة هناك، وأقام مدة، وتجمعت له هناك مناصب جليلة.
أقام بالقاهرة على حاله، إلى أن قتل الأشرف، وأمسك الصاحب بن السلعوس، فصرف القاضي بدر الدين بن جماعة وأعيد قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز إلى ما كان عليه.
واستقر ابن جماعة هناك في تدريس وكفاية؛ إلى أن توفي قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن الخوبي، فنقل إلى قضاء الشام، ووصل إلى دمشق رابع عشر ذي الحجة من السنة قاضي قضاة الشام، وجمع له مع القضاء الخطابة - وليها بعد الشيخ شرف الدين المقدسي في شوال سنة أربع وتسعين وست مئة - ومشيخة الشيوخ، وأقام على ذلك مدة، ولم يتفق هذا لغيره، وازداد على ذلك التداريس الكبار ونظر الأوقاف وغير ذلك.
ولم يزل على ذلك إلى أن طلب ثانياً لقضاء الديار المصرية في شعبان سنة اثنتين وسبع مئة عوضاً عن ابن دقيق العيد، فأقام على ذلك إلى أن حضر السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مئة، فعزله، وولى مكانه قاضي القضاة جمال الدين الزرعي في شهر ربيع الأول سنة عشر وسبع مئة مستهل الشهر. وعزل أيضاً شمس الدين السروجي قاضي القضاة الحنفي، وطلب ابن الحريري، فولاه مكانه، وتولى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في هذه العطلة تدريس المدرسة الناصرية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ثم إنه أعيد إلى منصبه قضاء القضاة بالديار المصرية عوضاً عن القاضي جمال الدين الزرعي في الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة واستقر له مع الحكم مشيخة الحديث بالكاملية وجامع ابن طولون، وتدريس الصالحية والناصرية.
ولم يزل على حاله إلى أن استعفى من القضاء في جمادى الآخرة - فيما أظن - سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فاستمرت بيده الزاوية المنسوبة إلى الشافعي - رضي الله عنه - بجامع مصر، وقرر له السلطان الملك الناصر راتباً في الشهر مبلغ ألف درهم وعشرة أرادب قمحاً، وكان قد ترك تناول المعلوم قبل انفصاله عن القضاء بمدة.
وحج ست مرات، أولها سنة ست وخمسين وست مئة، وجاوز التسعين سنة، وكان قد رزق القبول عند الخاصة والعامة، وصنف في التفسير والحديث والفقه والأصول والنحو وعلم الميقات وغير ذلك، وقرئت عليه مصنفاته. وكان يخطب غالباً من إنشائه، ويؤدي الخطابة بفصاحة، ويقرأ في النهار طيباً. واجتمع له من الوجاهة والمناصب والعمر المديد في العز والعمل والتقدم ما لا اجتمع لغيره، وانقطع نظراؤه، وانقرضوا، وساد هو عليهم في حياتهم.
ومن نظمه - رحمه الله تعالى - ما أنشدنيه له إجازة:
يا لهف نفسي لو تدوم خطابتي ... بالجامع الأقصى وجامع جلق
ما كان أهنأ عيشنا وألذه ... فيها وذاك طراز عمري لو بقي
الدين فيه سالم من هفوة ... والرزق فوق كفاية المسترزق
والناس كلهم صديق صاحب ... داع وطالب دعوة بترقق
وأنشدني له أيضاً إجازة:
لما تمكن من فؤادي حبه ... عاتبت قلبي في هواه ولمته
فرثى له طرفي، وقال: أنا الذي ... قد كنت في شرك الهوى أوقعته
عاينت حسناً باهراً فاقتادني ... سراً إليه عندما أبصرته
وأنشدني لنفسه إجازة:
أحن إلى زيارة حي ليلى ... وعهدي من زيارتها قريب
وكنت أظن قرب العهد يطفي ... لهيب الشوق فازداد اللهيب
قلت: ما أحسن قول القائل:
وكلما زدتني دنواً ... زدت إلى وجهك اشتياقاً
وأنشدني لنفسه إجازة:
وإذا ما قصدت طيبة شوقاً ... صار سهلاً لدي كل عسير
وإذا ما ثنيت عزمي عنها ... فعسير علي كل يسير
قلت: ما أحسن القائل:
يا ليل ما جئتكم زائراً ... إلا وجدت الأرض تطوى لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي
محمد بن إبراهيم بن محمدابن طرخان، الصدر الشيخ بدر الدين بن الحكيم، العالم رئيس الأطباء عز الدين أبي إسحاق السويدي - من سويداء حوران - من أولاد سعد بن معاذ.
سمع من جماعة فوق المئة منهم الرشيدي مسلمة، وابن علان، وإبراهيم بن خليل، والعراقي، وعبد الله بن الخشوعي، والصدر البكري، ومحمد بن عبد الهادي، وأخوه عبد الحميد، واليلداني، والكفر طابي، ومحمد بن سعد المقدسي، وخطيب مردا. وأجاز له من بغداد بعض أصحاب ابن شاتيل، وبعض أصحاب شهدة.
وكان مستوفي الأوقاف، وخدم بديوان الجامع مدة، وسمع منه الطلبة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة.
محمد بن إبراهيمابن معضاد... .
توفي - رحمه الله تعالى - ..... سنة سبع وثلاثين وسبع مئة بمصر.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - قام أخوه عمر.
قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين - رحمه الله - : هؤلاء أهل بيت لا يتكلم فيهم أحد حتى يموت واحد قبله.
محمد بن إبراهيم بن غنايمالصالحي الحنفي المحدث العدل، شمس الدين بن المهندس الشروطي.
سمع من ابن أبي عمر، وابن شيبان، والفخر، وطبقتهم. وكتب العالي والنازل، ورحل إلى مصر بابنه، ونسخ الكثير، وحصل الأصول، وخرج، وأفاد مع التصون والتواضع وطيب الخلق وصحة النقل. وخلف أولاداً وملكاً.
وكان رأسه يضطرب دائماً لا يفتر، وصى بوقفية أجزائه، وكتب شيخنا الذهبي عنه، وأجاز له.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وخمسين وست مئة تقريباً.
محمد بن إبراهيم بن محمدابن أحمد الفقيه المفيد الرحال أمين الدين الواني الدمشقي الحنفي، رئيس المؤذنين بدمشق وابن رئيسهم برهان الدين. وقد تقدم ذكر والده شرف الدين.
كتب أمين الدين، وتعب، وحصل الأصول، وحدث بمصر ودمشق ومكة عن أبي الفضل بن عساكر، والتقي بن مؤمن، وجماعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بعد والده بشهر، ودفن إلى جانبه... سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، عاش إحدى وخمسين سنة.
قال شيخنا الذهبي: كان من خير الطلبة، وأجودهم نقلاً.
محمد بن إبراهيم بن عبد اللهالشيخ الجليل الفاضل القدوة أبو عبد الله بن الشيخ السيد القدوة ابن الشيخ السيد القدوة الأرموي.
روى " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم.
كان من كبار الأدباء، وجلة العلماء، وسادة العارفين، وأئمة المصنفين، ديانته متينه، وصيانته مبينه، له فضائل، وفيه تودد ولطف شمائل، يكرم من يزوره، ويقبل عنده لكرم طباعه حقه وزوره. له وجاهة عند الأمراء والأكابر، وأرباب الطيالس والمحابر، وكلمته نافذة فيما يراه، وقوله يسمع فيما يأمر به ويراه. وشعره أرق من دموع العشاق وعتاب الأحباب إذا وصلوا بعد الصد والفراق، ونسيم الرياض إذا هب في وقت الاغتباط بالاعتباق:
تسمع من شعره بيوتاً ... ألذ من غفلة الرقيب
كأنما إذا صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب
لم أر مثل نظمه العذب، وقريضه الذي هو في سلالة الماء وصقال العضب، يهزأ بسجع الحمام، ويهز عطفي بالطرب؛ حتى كأني ثملت من المدام. وقد أوردت منه جملة في الجزء والثامن والثلاثين من " التذكرة " لي.
ولم يزل الشيخ على حاله إلى أن رمي الأرموي بسهم الحمام، وبكى عليه يوم مات حتى جفون الغمام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في عاشر شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة، بزاويته بسفح قاسيون، وصلي عليه بالجامع المظفري، ودفن عند والده، وحضر جنازته خلق كثير من الأمراء والقضاة والفقهاء والصدور وعامة الناس. وغلق سوق الصالحية بأسره، وكان يوماً مطيراً كثير الوحل والطين.
وكان فيه خير وتودد ومواظبة على المشيخة، وإكرام من يزوره.
ومولده في شهر رجب سنة خمس وأربعين وست مئة.
جمع جزءاً في السماع وجزءاً في أخبار جده.
ومن كلامه في السماع قال: افتقار السماع إلى الوجد افتقار الصلاة إلى النية، فكما لا تصح الصلاة إلا بالنية والقصد؛ كذلك لا يباح السماع إلا بالوجد، فمن كانت حركته في السماع طبيعيه؛ كانت نشوته به حيوانيه، ألا ترى أن كثيراً من الحيوانات ينشأ له حال غير المعتاد عند سماع المطربات، وقوة حركة لسماع النغمات، فمن كان هذا السماع الحيواني في ذلك أقصى أربه؛ كان مقصوراً فيه على لهوه ولعبه، وهو سماع الطبيعة لا سماع الأرواح، فجدير أن يجتنب، فإنه يستعمل الطبيعة فيه غير مباح، والسماع الذي اختلفت فيه الأقوال، إنما هو سماع أهل المقامات والأحوال، فمنهم من أباحه على حكم الاختصاص، ومنهم من جعله زلة الخواص، ومنهم من توقف، ولم يجد إلى إقامة الدليل على كلا أمريه نشاطا، ورأى الاستغفار منه إذا قدر له الحضور فيه احتياطا، فهو متردد في أمريه، فتركه لمثل ذلك أولى، ولم يدر على من حضره من السلف، ولكن لم ير نفسه لحضوره أهلاً، فهذه جملة إقناعية مما قيل فيه، ونبذة لعل من تأملها تكفيه:
إذا حرك الوجد السماع إليكم ... يباح، وإلا فالسماع حرام
ومن هزه طيب السماع حديثكم ... ومال من الأشواق ليس يلام
ولا عجب إن شتت الحب جمعه ... فليس لأحوال المحب نظام
غذي بلبان الحب قدماً وماله ... سواه إذا آن الفطام فطام
يسير مع الأشواق أنى توجهت ... وليس له في الكائنات مقام
ولا غرو إن ضلت مذاهب عقله ... فإن مقر العز ليس يسام
حمى لا سبيل أن يباح مصونه ... وكل الورى طافوا عليه وحاموا
وقاموا وقد جدوا لأول منزل ... فقاموا حيارى فيه حيث أقاموا
ومن شعره أيضاً:
وافى الربيع فعاد الروض مبتسماً ... وطالما انتحبت فيه سحائبه
والغصن من فوقه الشحرور تحسبه ... يتلو الزبور بأعلى الدير راهبه
وشاطئ النهر قد دبت عوارضه ... وافتر مبسمه واخضر شاربه
فصفق الدوح لما أن رأى عجباً ... من أجل ذلك قد شابت ذوائبه
ومنه:
لم أنس ليلة بات البدر يخدمنا ... إلى الصباح ولم يشعر بنا الرقبا
والنهر يجري لجيناً والدجى سيج ... فمذ بدا الصبح ياقوتاً جرى ذهبا
ومنه:
وافى النسيم أمام القطر فانثنت ال ... أغصان ترقص من تيه ومن مرح
وأعين الروض تجري وهو مبتسم ... وقد تفيض دموع العين بالفرح
ومنه:
أصبحت أسجع من ورقاء فاقدة ... تنوح في الدوح طول الليل لم تنم
بعد الأحبة لا تهوى المنام بلى ... إن سامحوها وزار الطيف في الحلم
ومنه:
رأيت الصبا لما استعنت بلطفها ... على حمل ما لاقيته تتعلل
وقمت بحفظ العهد للنجم في الدجى ... فما باله في صحبتي يتنقل
وقلب الدجى ما زال للسر كاتماً ... وها هو عما خلته يتحول
ومنه:
سكرت كما تهب صباً صباحاً ... فرق لأنه بر كريم
فلا تعجب له إن مال عطفاً ... فإن الغصن يعطفه النسيم
ومنه:
لطفت شمائله فعدن شمائلاً ... من أجلها عرف النسيم معطر
لو لم ينم عبيره بعبوره ... كان الرقيب للطفه لا يشعر
ومنه:
أصافح الأغصان أبغي الحيا ... مستسقياً أكؤس جريالها
وكيف لا يدركني جودها ... وقد تعلقت بأذيالها
ومنه:
يا معرضاً عني وفي إعراضه ... لطف يفي بفضائل القرب
من دون سفك دمي بحبك عامداً ... معنى يقيك بواعث العتب
ومنه:
كأنما النهر في ظل الغصون وقد ... ألقى السحاب عليه حمرة الشفق
خد تكنفه فرط الحياء وقد ... مد العذار عليه خضرة الورق
ومنه:
وربوع يكاد طيب شذاها ... يفضح المسك في نحور العذارى
أشرقت شمس نورها فرأينا ... نحوها في الدجى نؤم نهارا
وأتى القابسون نحو سناها ... فرأوا جل نارها جلنارا
ومنه:
أنا مستجير بالدجى ... من سل سيف صباحه
فعساه يكلأ ذا هو ... كرماً بظل جناحه
ومنه:
كأن سماءنا والبدر فيها ... وأنجمها محدقة إليه
حديقة نرجس من حور عين ... تدفق ماؤها فطفا عليه
ومنه:
تبسم ثغر الروض بعد قطوبه ... سروراً بإقبال الربيع إليه
ألم تر أن الغصن إذ رقت الصبا ... يصفق مسروراً لها بيديه
وأن ثياب الورد وهي شقيقة ... يشققها حتى تمر عليه
ومنه:
خلت أن الغصون ترقص لما ... أن أتاها النسيم بالأمطار
فلهذا ألقت له ما عليها ... فهي من شدة السرور عواري
لبست في الثياب ثوب وقار ... ورأت في المشيب خلع عذاري
محمد بن إبراهيم بن أبي بكرشمس الدين المؤرخ الجزري.
لهج بالتاريخ، وجمعه، وسمع من إبراهيم بن أحمد بن كامل، والفخر علي، وابن الواسطي، والأبرقوهي، وابن الشقاري، وغيرهم من الشعراء.
وكان حسن المذاكرة، سليم الباطن صادقاً، وفي تاريخه عجائب وغرائب عامية. أجاز لي بخطه - رحمه الله تعالى - سنة ثلاثين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ... سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بدمشق، ودفن في مقابر الباب الصغير.
وروى عنه الشيخ علم الدين البرزالي هذه الأبيات:
إلهي قد أعطيتني ما أحبه ... وأطلبه من أمر دنياي والدين
وأغنيتني بالقنع عن كل مطمع ... وألبستني عزاً يجل عن الهون
وقطعت عن كل الأنام مطامعي ... فنعماك تكفيني إلى يوم تكفيني
ومن دق باباً غير بابك طامعاً ... غدا راجعاً عنه بصفقة مغبون
قلت: وأنا أستكثر هذه الأبيات عليه، وإن لم تكن في الذروة.
محمد بن إبراهيم بن إبراهيمابن داود بن حازم، الشيخ الإمام الصدر الكامل قاضي القضاة الأذرعي شمس الدين الحنفي.
كان فاضلاً من أعيان مذهبه، يعرف الفقه والأصول والنحو، ودرس بالمدرسة الشلبية، وولي القضاء بدمشق سنة كاملة، وروى عن ابن عبد الدائم.
قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه بدمشق وبتبوك. توجه إلى القاهرة متمرضاً، ونزل بخانقاه سعيد السعداء، فأقام خمسة أيام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان قد ولي القضاء بدمشق في ثاني عشر ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة عوضاً عن القاضي شمس الدين بن الحريري، ولما وصل توقيعه في شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة غلط البريدي، وتوجه بالتوقيع إلى ابن الحريري، ولما قرئ علم أنه قد غلط، فعاد به إلى الأذرعي.
محمد بن إبراهيمالعدل الرئيس الفاضل صلاح الدين أبو عبد الله الطيب المعروف بابن البرهان. كان أبوه جرائحياً، وفي أبيه يقول القائل، وقد ظرف:
كل من عالج الجراحة فدم ... وأقيم الدليل بالبرهان
ولما نشأ صلاح الدين المذكور لأبيه أقرأه أبوه القرآن، فحفظ منه نحو النصف، وقرأ طرفاً من العربية على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وقرأ الطب على العماد النابلسي، ثم على الشيخ علاء الدين بن النفيس.
وكان قد أجيز أولاً بالكحل، ثم بالتصرف في الطب، وكان فاضلاً في فروع الطب، مشاركاً في الحكمة، مائلاً إلى علم النجوم والكلام على طبائع الكواكب وأسرارها، وقرأ في آخر عمره على الشيخ شمس الدين الأصفهاني كثيراً من الحكمة، وسمع بقراءة فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج كتاب " الشفاء " لابن سينا على الشيخ شمس الدين، وهو يشرحه لصلاح الدين ميعاداً فميعاداً إلى أن أكمله.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: وسألت الشيخ شمس الدين عنه، فقال: اشتغاله أكثر من ذهنه، وكان علمه بالطب أكثر من معالجته.
وقال لي شيخنا شمس الدين: إنه طلعت في أصبعه سلعة، فاستطب لها صلاح الدين، فبهت، ثم وصف أشياء لم تفده، فقال له فخر الدين عبد الوهاب: لو عملت كذا وكذا كان أنفع له، فعمله، فنفعه، وبرئ به.
وكان صلاح الدين المذكور ذا مال ومتجر، وأكثره في إخميم، وكان من أعيان أطباء السلطان الذين يدخلون عليه، ويعرف له السلطان مكانته وفضله، وكان خصيصاً بالنائب الأمير سيف الدين أرغون. ثم إنه اختص بعده بالأمير سيف الدين طقزتمر، ويطلع معه في كل سنة إلى الصعيد، فيكون في خدمته، ويستعين بجاهه على استخراج أمواله وإنفاق متاجره.
وصحب قاضي القضاة تاج الدين القزويني، وكان يسفر عنده لقضاة الصعيد، يقدم كتبهم، ويتنجز أجوبتهم. وكان لا يزال ضيف الذرع من تقدم القاضي جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء عليه، وسأل من السلطان الإعفاء من الطب، وأن يكون من تجار الخاص، فقال السلطان: نحن نعرف أنه إنما قال هذا لكون ابن المغربي هو الرئيس، وكونه هو أكبر وأفضل، فلا يأخذ في خاطره من هذا، فهو عندنا عزيز كريم، ولكن إبراهيم صاحبنا، ونعرف أنه ما يستحق التقدم عليه. فطاب قلب صلاح الدين بهذا الكلام، وخطب بعد ذلك أخت ابن المغربي، وتزوج بها، واتحدا بعد مباينة البواطن.
وكان صلاح الدين يثبت علم الكيمياء، ويقول إنه صحب ابن أمير كان اسمه ابن سنقر الرومي، وقال: عملها بحضوري غير مرة.
وكان مغرى بالروحانيات، واعتقاد ما يقال من مخاطبات الكواكب، حدثني بهذا جميعه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وكان كثير التردد إليه والاجتماع به، وقد اجتمعت به أنا غير مرة، وسمعت كلامه، وكان يستحضر كليات " القانون " ، وكان يلثغ بالراء لثغة مصرية، وعلى ذهنه شيء من الحماسة والمقامات وشعر أبي الطيب.
وكان في ذهنه جمود، وكان يجتمع هو والشيخ ركن الدين بن القوبع - رحمه الله تعالى - في دكان الشهود التي على باب الصالحية، فيذكر صلاح الدين شيئاً من كلام الرئيس ابن شينا، إما من الإشارات أو من غيرها، ويشرح ذلك شرحاً غير مطابق، فما يصبر له الشيخ ركن الدين، ويقول: سبحان الله! من يكون ذهنه هكذا يشتغل فلسفة، هذا الكلام معناه كيت وكيت، فهو في واد وأنت في واد، وهذا الذي يفهم من كلام الشيخ هو المطابق للقواعد عند القوم. فيعود صلاح الدين في خجل كبير من الجلوس. وأظنه فارق الزوجة أخت ابن المغربي قبل وفاته.
ولما مرض النائب أرغون بحلب أول مرة طلبه من السلطان، فجهزه إليه فحضر وعالجه، ثم توجه إلى القاهرة، ثم إنه مرض الثانية، فطلبه، فوصل إلى إربد، وبلغته وفاته، فعاد من إربد إلى القاهرة.
وتوفي صلاح الدين - رحمه الله تعالى - في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكنت أراه دائماً يحمل " شرح الإشارات " للنصير الطوسي ويتوجه به إلى الشيخ شمس الدين الأصفهاني ليقرأه عليه.
محمد بن إبراهيم بن يحيىالشيخ الإمام الفقيه العالم شمس الدين الصنهاجي المالكي، إمام محراب المالكية بالجامع الأموي.
كان فقيهاً فاضلاً من أهل العلم والصلاح وملازمة الاشتغال.
توفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وسبع مئة، ودفن برا الباب الصغير.
وتولى الإمامة بعده الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي.
محمد بن إبراهيم بن ساعدالشيخ الإمام الفريد المحقق النحرير الفاضل الحكيم شمس الدين أبو عبد الله الأنصاري، السنجاري الأصل والمولد، المصري الدار والوفاة، المعروف بابن الأكفاني.
كان فاضلاً قد برع في علوم الحكمه، وجمع شتات العلوم من غيرها بماله من الهمه، لو رآه الرئيس لكانت إليه إشاراته، وبه صح شفاؤه، وتمت نجاته، ولم يكن قانونه يطرب، ولا حكمته المشرقية مما يأتي بالفوائد فيغرب. ولو عاصره النصير الطوسي لما بنى الرصد، وكف من طول باعه في التصنيف واقتصد، ولم يعد الناس متوسطاته في المبادي، وعلم أنه ما ظفر بهيبة من الهيئة إلى يوم التنادي. ولو عاينه بطليموس لما وضع اسرلابا، ولم يدر مجس المجسطي، ولم يجد له فيه طلابا. ولو ناظره الخونجي لما أجلسه على خوانه، وعلم أن منطقه في " كشف الأسرار " هذر عند بيانه. هذا إلى توسع في علم الأدب على كثرة فنونها، واتساع بحرها لملاعب نونها، وفهم نكته ودقائقه، ومعرفة مجازاته وحقائقه. واستحضار كثير من وقائع العرب وأيامها وتواريخ الأعيان وأحكامها.
اجتمعت به فكنت أرى العجائب، وأسير في فضاء غرائبه على متون الصبا والجنائب، أخذت عنه فوائد في الرياضي، وملأت بقطر علومه حياضي، ولم أر مثل عبارته، ولا لطف إشارته، فكنت أحق بقول أبي الطيب:
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل العالمين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
ولم يزل الشيخ على حاله إلى أن اندرج ابن الأكفاني في الأكفان، وتحقق معنى قوله: " كل من عليها فان " .
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة، في طاعون مصر، تعجيزاً من الله تعالى لما يعرفه، وينفقه من حواصل علومه ويصرفه.
كان هذا الشيخ شمس الدين، قد برع في علوم الحكمة، وتفرد بإتقان الرياضي، فإنه كان إماماً في الهندسة والحساب والهيئة، وله في ذلك تصانيف وأوضاع مفيدة، قرأت عليه قطعة جيدة من كتاب إقليدس، وكان يحل لي ما أقرأه عليه بلا كلفة، كأنه ممثل بين عينيه، فإذا ابتدأت في الشكل شرع هو يسرد باقي الكلام سرداً، وأخذ الميل، ووضع الشكل، وحروفه في الرمل على التخت، وعبر عنه بعبارة جزلة فصيحة بينة واضحة، كأنه ما يعرف شيئاً غير ذلك. وقرأت عليه مقدمة في وضع الأوفاق، فشرحها لي أحسن شرح، وقرأت عليه أول " الإشارات " ، فكان يحل شرحه نصير الدين الطوسي بأجل عبارة، وأجلى إشارة، وما سألته عن شيء في وقت من الأوقات عما يتعلق بعلوم الحكمة من المنطق والطبيعي والرياضي والإلهي إلا وأجاب بأحسن جواب، كأنه كان في بارحته يطالع في تلك المسألة طول الليل.
وقرأت عليه " رسالة الاستبصار فيما يدرك بالأبصار " ، وهو كتاب صغير في علم المناظر، تصنيف الشيخ شهاب الدين القرافي الأصولي المالكي، فحل كلامه، وواخذه في أشياء.
وأما الطب فإنه كان فيه إمام عصره، وغالب طبه بخواص ومفردات يأتي بها إلى المريض، وما يعرفها أحد، لأنه يغير كيفيتها وصورتها، حتى لا تعلم، وله إصابات غريبة في علاجه.
وأما الأدب - وكان فيه فريداً، يفهم نكته، ويذوق غوامضه، ويستحضر من الأخبار والوقائع للناس قاطبةً جملة كبيرة - فحفظ من الشعر شيئاً كثيراً إلى الغاية للعرب والمولدين والمحدثين والمتأخرين والعصريين. لوه في الأدب تصانيف، وكان يعرف العروض والبديع جيداً، ولم أر مثل ذهنه يتوقد ذكاءً بسرعة ما لها روية، وما رأيت فيمن رأيت أصح ذهناً منه، ولا أذكى.
وأما عبارته الفصيحة الموجزة الخالية من الفضول فما رأيت مثلها. قال لي شيخنا الحافظ فتح: ما رأيت من يعبر عما في ضميره بعبارة موجزة مثله. انتهى.
ولم أر أمتع منه، ولا أفكه من محاضرته، ولا أكثر اطلاعاً منه على أحوال الناس وتراجمهم ووقائعهم، ممن تقدم، وممن عاصره.
وأما أحوال الشرق ومتجددات التتار في بلادهمفي أوقاتها فكأنها كانت القصاد تجيء إليه، والملطفات تتلى عليه، بحيث إنني كنت أسمع منه ما لم أطلع عليه في ديوان الإنشاء عند كاتب السر.
وأما الرقى والعزائم فيحفظ منها جملاً كثيرة، يسردها سرداً. وله اليد الطولى في الروحانيات والطلاسم وإخراج الخبايا، وما يدخل في هذا الباب، وله اليد الطولى والباع المديد في معرفة الأصناف من الجواهر والقماش والآلات وأنواع العقاقير والحيوانات، وما يحتاج إليه البيمارستان المنصوري لا يشترى شيء، ولا يدخل البيمارستان إلا بعد عرضه عليه، فإن أجازه اشتراه الناظر، وإن لم يجزه؛ لم يشتر البتة، وهذا اطلاع كثير ومعرفة تامة، فإن البيمارستان يريد كل ما في الوجود، مما يدخل في الطب والكحل والجراح والترايق، وغير ذلك.
وأما معرفة الرقيق من المماليك والجواري فإليه المآل في ذلك، ورأيت المولعين بالصنعة يحضرون إليه ويذكرون ما وقع لهم من الخلل في أثناء ذلك العمل، فيرشدهم إلى الصواب، ويدلهم على إصلاح ذلك الفساد، ولم أر شيئاً يعوزه من كمال أدواته، إلا أن عربيته كانت ضعيفة، وخطه أضعف من مرضى مارستانه، ومع ذلك فله كلام حسن، ومعرفة جيدة بأصول الخط المنسوب، والكلام على ذلك وأنشدني من لفظه لنفسه:
ولقد عجبت لعاكس للكيميا ... في طبه قد جاء بالشنعاء
يلقي على العين النحاس يحيلها ... في لمحة كالفضة البيضاء
وقرأت عليه من تصانيفه " إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد " عوداً على بدء، ومن هذا المصنف يعرف قدره، وكتبت عليه:
لقد وضع الشيخ تصنيفه ... ولكن على زهرات النجوم
جلا كل فضل بمرآته ... فيها تطالع كل العلوم
وقرأت عليه " اللباب في الحساب " ، وكتاب " نخب الذخائر في معرفة الجواهر " ، وكتاب " غنية اللبيب عند غيبة الطبيب " ، وقد جوده. ومما لم أقرأه عليه من تصانيفه، بل أجازه لي كتاب " كشف الرين في أمراض العين " ، وتألمت لفقده لما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - .
وكان له تجمل زائد في بيته وفي ملبوسه ومركوبه من الخيول المنسوبة والبزة الفاخرة، ثم إنه اقتصر على الخيل، وآلى على نفسه أن لا يطلب أحداً إلا إن جاءه إلى بيته أو في الطريق أو البيمارستان، وامتنع من التوجه إلى بيت أحد.
وكان مرصداً لتركيب الترياق في كل سنة بالبيمارستان المنصوري، وله في كل سنة مبلغ ست مئة درهم، ولما باشر الأمير جمال الدين نائب الكرك نظر البيمارستان أعجبه كثيراً، وأضعف معلومه - لأنه كان ستين درهماً - فجعله مئة وعشرين درهماً، وكان يعطيه الذهب من عنده خارجاً عن الجامكية المقررة له، وكان من أطباء البيمارستان، ومن نصيبه فيه مداواة الممرورين، ولما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - ؛ قلت أنا فيه:
من الطاعون قلبي في انقلاب ... فإن لكل من تلقاه فاني
ولما مات شمس الدين نادى ... كفاني فقد الأكفاني كفاني
وكنت قد كتبت أنا إليه من الرحبة:
أمولاي شمس الدين قد كنت أولاً ... تحل محل النور في العين بالأمس
فلا بدع أن يسود يومي وليلتي ... وقد حجبت عيناي عن طلعة الشمس
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
طبيبك في مصر مريض من الجوى ... وقد قص منه بالبعاد جناحه
فيا من لذي سقم تمكن داؤه ... وأفسده مذ غاب عنه صلاحه
وكتبت أنا إليه أيضاً من الرحبة:
سلام فض من مسك ختاماً ... وفتق زهره منه كماما
ووصف محبة وحفاظ عهد ... وشوق سل في كبدي حساما
وكم لي في النسيم إليك شكوى ... أضمنها اشتياقي والغراما
وكم فيها تحيات لطاف ... حكت أنفاسها ريح الخزاما
تجانس فعل أجفاني وقلبي ... فتلك همت، وهذا فيك هاما
فنار القلب ليس لها خمود ... ودمع العين قد فاق الغماما
وأما الحال لست أطيل فيها ... شروحاً مل سامعها الكلاما
بليت بعكس آمالي وظني ... وحظ عنده تنسى الظلاما
وعيش ضاق فاتسعت همومي ... وكان فراق مولانا تماما
يقبل الأرض، وينهي بعد سلام اتسم برقه، وارتسم برقه، وشوق منع طرفه القريح لذة الهجوع، ووحشة علمت جفنه كيف تجري الدموع، وأسف خيم بين المنحنى من الضلوع، ووجد يشب له جمر الفؤاد، كلما أضاء له البرق اللموع، وورود المثال العالي فقبل كل حرف منه ألفا، وصاغ لجيده ورأسه وأذنه عقداً وتاجاً وشنفا، يا له من أفق فضل كلما غاب بدر أطلع شمسا، وبحر أدب إن أعطى سائله لؤلؤاً رطبا قذف بعده دراً نفيساً، وغادة فضح الغزالة نورها، وتحية فضح قلائد العقيان منثورها.
غريبة تؤنس الآداب وحشتها ... فما تمر على سمع فترتحل
محمد بن إبراهيم بن يوسفابن حامد الشيخ الإمام تاج الدين المراكشي الشافعي.
كان فقيهاً، نبيهاً نبيلاً، نحوياً فاضلا، أصولياً مناظراً مناضلا، عنده غرائب ونكت، وفوائد لو سمعها الرازي ما وسعه إلا أن سكت. جيد الذهن والفهم، سريعاً إلى إدراك المعاني يكاد يسبق السهم، قوي النفس، لا يخضع لأحد، ولا يكون له دون السمو والرفعة ملتحد، ضيق العطن، لا يصبر على أذى، ولا يغضى جفونه من السلطان على قذى. أساء الأدب مرات على قاضي القضاة جلال الدين القزويني، واحتمله، ونشر له رداء الحلم واشتمله، ولما زاد عليه رصع التاج بالدره، وكسر دالها، فكانت في أيامه بلا نقطة غره. ثم إنه زاد في تسلط لسانه عليه، فشكاه إلى السلطان، فبقاه مصحفا، وأخرج إلى الشام، فنشر فيه من فضائله برداً مفوقا.
ولم يزل بدمشق إلى أن ارتدى بالترب، وأصبح بعيداً عن العيان، وهو في غاية القرب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة بعد العصر من يوم الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده بالقاهرة بعد الشبع مئة.
تفقه بالديار المصرية على الشيخ علاء الدين القونوي - رحمه الله تعالى - ، ولازم الشيخ ركن الدين بن القوبع كثيراً، وأخذ عنه فوائد وإيرادات ومآخذ، وما يعظم أحداً مثله. وأعاد في القاهرة بقبة الشافعي، وتولى بدمشق تدريس المسرورية، وأقام على ذلك مدة، ثم إنه قبل موته بسنة نزل عنها، وقال: شرط المدرس أن يعرف الخلاف، وما أعرف أحق بهذا الشرط من قاضي القضاة تقي القضاة تقي الدين السبكي، وانقطع بدار الحديث بالأشرفية معتكفاً على طلب العلم، ولم أر أحرص منه على ذلك ليلاً ونهاراً، يدع طعامه وشرابه لأجل القراءة والاشتغال. وكان ضريراً، ليس له إلا بعض نظر من عين واحدة، وكان لا يفتر عن الطلب إلا إذا لم يجد من يقرأ له ما يريد.
محمد بن إبراهيم بن عبد اللهالإمام العالم الثقة الصالح عز الدين أبو عبد الله ابن الإمام عز الدين ابن شيخ الإسلام أبي عمر المقدسي الصالحي الحنبلي.
حدث ب " صحيح " مسلم عن ابن عبد الدائم. ودرس بأماكن. وخطب بالجامع المظفري.
وكان على سمت السلف، مواظباً على الجماعات، وتشييع الجنائز، وتلقين الموتى. طلق الوجه، حسن البشر.
خرج له ابن المحب " مشيخة " في أربعة أجزاء، حدث بها غير مرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن إبراهيمالشيخ شمس الدين الكردي، إمام مشهد علي بالجامع الأموي.
حدث عن ابن الواسطي وغيره، وكان يحفظ " التنبيه " ، ويفتى. وكان إماماً في صناعة الحساب.
توفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
وكان عسراً في مباشرة الوظائف التي يليها.
محمد بن أحمدابن عثمان بن سياوش، الشيخ الإمام المقرئ الفقيه الصالح، بقية السلف، شمس الدين أبو عبد الله الخلاطي الدمشقي الشافعي الصوفي، إمام الكلاسة وابن إمامها.
كان ديناً خيراً وقوراً، حسن الشكل، طيب الصوت إلى الغاية، جيد المشاركة في القراءات، والفقه مليح الكتابة.
خطب بالجامع الأموي بدمشق بعد الشيخ شرف الدين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة بعد سنة من ولايته في بكرة يوم الأربعاء ثامن شوال سنة ست وسبع مئة، وحضر الأفرم والأعيان جنازته.
عاش اثنتين وستين سنة. وولي الخطابة بعده جلال الدين القزويني. وكان الناس يقبلون يده، ويتباركون به، وما تصل أيديهم إليه من الزحام.
وهو ممن كان كاملاً في الإمامة والخطابة لورعه ودينه وصلفه وتواضعه وفضيلته وطيب نغمته وحسن أدائه ومعرفة الأنغام وفقهه، وكل ما كان فيه غاية.
محمد بن أحمدالشيخ سعد الدين الكاساني، شيخ خانقاه الطاحون بدمشق.
كان فاضلاً في فنه على رأي الصوفية، بصيراً بأقوالهم. قرأ هو والشيخ شمس الدين الأيكي على الشيخ صدر الدين القونوي.
وهو قرأ على الشيخ محيي الدين بن عربي، وقد شرح قصيدة ابن الفارض التائية في مجلدين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن عبد العزيزابن عبد الله بن علي بن عبد الباقي، العدل الخطيب معين الدين أبو المعالي بن الصواف الإسكندري المالكي الشروطي.
سمع " أربعين " السلفي من جده. قال شيخنا الذهبي: قرأتها عليه، وهو أخو شيخنا شرف الدين يحيى. وكان شيخاً صالحاً جليلاً حسن البزة، ينوب في خطابة الثغر، ويعقد الوثائق.
توفي - رحمه الله تعالى - في سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده في سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
محمد بن أحمد بن نوحابن أحمد بن زيد بن محمد بن عصفور، الأديب الفاضل أبو عبد الله الإشبيلي ابن أخت الإمام ابن عصفور صاحب " المقرب " .
كان شيخاً مطبوعاً حلو المجالسة، دمث الأخلاق، متفنناً في الآداب واللغة، وله نصيب من علوم القرآن والأثر والبلاغة والحساب، وله اليد الطولى في الشعر.
وكانت فيه ديانة وعفاف، أخذ عن علماء المغرب، قال شيخنا الذهبي: جالسته مرات.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده، بإشبيلية سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
محمد بن أحمد بن صلاح
شمس الدين السرواني الصوفي، شيخ الخانقاه الشهابية بدمشق.كان عارفاً بالنجوم والأرصاد والأحكام، ويقرئ الفلسفة، وله مشاركات جيدة في المعقولات.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن محمدابن أبي بكر بن محمد، الشيخ المقرئ العابد المسند أبو عبد الله الحراني القزاز أبوه، الحنبلي ابن أخت المحدث سراج الدين بن شحانة.
سمع " صحيح " البخاري من ابن روزبة أو بعضه، وسمع من إبراهيم بن الخير، والمؤتمن بن قميرة، وأبي الوقت الركبدار، ومحمد بن أبي البدر بن المني، وعلي بن بكروس، ومحمد بن إسماعيل بن الطبال، وتفرد بأشياء.
وسمع بمصر من ابن الجميزي، وسمع " الصحيح " من صالح المدلجي صاحب المأموني. وسمع من الضياء بن النعال، والشرف المرسي، وابن بنين، ومحمد بن إبراهيم المخزومي، وبحلب من ابن خليل.
وكان زاهداً تالياً لكتاب الله تعالى، صاحب نوادر ودعابة.
قال شيخنا الذهبي: حدثني أنه تلا بمكة أزيد من ألف ختمة، وأنه اتكأ في ميزاب الرحمة، فتلا فيه ختمة، فلعله قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً. حدث بدمشق والحجاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة ثماني عشرة بحران - فيما زعم - .
محمد بن أحمدابن قاضي الجماعة، أبو الوليد بن أبي عمر محمد بن عبد الله بن القاضي أبي جعفر بن الحاج التجيبي الأندلسي القرطبي الإشبيلي المالكي نزيل دمشق، إمام محراب المالكية بالجامع الأموي.
كان وقورا، ونصيبه من الديانة قد جعله موفورا، لم يزل عن الناس في انقباض، وبمعارفه في رياض، منور الشيبه، موفر الهيبه. كتب بخطه المليح الصحيح المغربي عدة كتب، وأتى بها وهي أضوأ من الشهب. وذكر لنيابة القضاء فما وافق، بل واقف في الإباء وحاقق.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح أبو الوليد، وهو تحت الصعيد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة وقت الآذان ثامن عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة.
ومات أبوه وجده كلاهما في عام إحدى وأربعين وست مئة، وورث مالاً جزيلاً، فتمحق بمصادرة السلطان ابن الأحمر له، أخذ منه في وقت عشرين ألف دينار، وعدمت له كتب جليلة.
ونشأ يتيماً في حجر أمه، وتحولوا إلى شريش ثم إلى غرناطة. ثم إنه شب، وقدم تونس، وسكنها خمس سنين. ثم إنه رحل بولديه إمامي المالكية إلى دمشق، وسكنوها، وسمعوا من الفخر بن البخاري، وكانت له جنازة حافلة مشهودة.
قال شيخنا الذهبي: سمعت عليه حديثاً واحداً، وملكت أنا بخطه الظريف " الأذكار " للشيخ محيي الدين، و " رياض الصالحين " له، وكتاب " المفصل " للزمخشري، ورأيت بخطه " شرح مسلم " و " شرح الموطأ " في عدة مجلدات، وكتاب " جامع الأصول " في عشرة وغير ذلك، وكتب بخطه نحو المئة مجلد.
وكان منجمعاً عن الناس، وله عدة كاملة من السلاح والخيل، يعدها للغزاة من ماله.
وكان له ورد من الليل، ورؤيت له المنامات الصالحة.
محمد بن أحمد بن أبي نصرالقدوة الزاهد شمس الدين بن الدباهي البغدادي الحنبلي.
كان من أكابر التجار كأبيه، ثم إنه تزهد، وقوى نفسه على الوجود، فتفهد، ولبس العباءه، ورفض الملاءه، واللذة برفيع الملاءه. وجاوز بمكة مده، وتصوف ولقي من المشايخ عده، وكان ذا صدق وإنابه، وخضوع وكآبه، وله مواعظ نفع بها، وجر الخير بسببها.
وكان بالحق قوالا، وعلى أولي اللعب صوالا، وصفاته حميده، وحركاته سديده.
ولم يزل على حاله إلى أن حلت أم الدواهي بابن الدباهي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان قد قدم دمشق وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية.
محمد بن أحمد بن إبراهيمالقاضي عز الدين الأميوطي.
تفقه على ضياء الدين عبد الرحيم، والنصير بن الطباخ. وأخذ أيضاً مذهب مالك عن ابن الأبياري قاضي الثغر، وبحث " مختصر ابن الحاجب " ، وقرأ بالسبع على النور الكفتي، والمكين الأسمر، وجماعة.
وتصدر للإقراء، وتخرج به جماعة من الفقهاء، وكان فيه ورع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الخميس سادس شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقد أكمل خمسة وسبعين عاماً.
وكان حاكماً بالكرك ثلاثين سنة، وكان يروي كتاب " التنبيه " بالسند عن القسطلاني عن شيخ ابن سكينة، عن ابن عبد السلام، عن المؤلف. ويروي " مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه " عن شيخ له عن المصنف، كذا نقلته من خط شيخنا علم الدين البرزالي. وقال: اجتمعت به في سنة ثلاث وسبع مئة بالكرك، وأراني " التنبيه " و " المختصر " وعليهما طبقة السماع.
محمد بن أحمد بن محمودابن أسد بن سلامة بن سلمان بن فتيان الشيباني القاضي الصدر الرئيس بدر الدين بن العطار، تقدم ذكر والده القاضي كمال الدين في الأحمدين مكانه.
حضر على الشيخ تقي الدين بن أبي اليسر في السنة الثالثة، وروى عنه. وسمع من ابن الصيرفي، والقاضي ابن عطاء، وابن علان، وابن الصابوني، والمقداد، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، وغيرهم.
قال شيخنا: علم الدين البرزالي، ورافقني في سماع " مسند أحمد " و " صحيح " البخاري وغير ذلك، كتب المنسوب، وأتى به آنق من تخارج العذار في خد المحبوب، ونظم القريض، وباهى به زهر الروض الأريض، وباشر نظر الجيش في أيام الأفرم، فخظي عنده، وصار عضده في ذلك الوقت وزنده، وسمر عنده ونادمه، وصد عنه الأذى وصادمه، واختص به كثيرا، وأحله من العز محلاً أثيرا، وما أحمد عقبى ذلك لما عاد الناصر من الكرك، ووقع من الردى في حبائل موبقة الشرك، فغودر، وقد صودر، ثم انتاشه الله من تلك الورطة، وأجاب الخلاص شرطه.
ولم يزل بعد ذلك على حاله إلى أن لحق أباه، وسلب الموت قلبه، وسباه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة السبت رابع عشري ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بتربة والده بسفح قاسيون.
ومولده في ليلة الجمعة سادس جمادى الأولى سنة سبعين وست مئة.
وكان في أيام الأفرم زائد الحظوة لديه، نادمه، وعاشره، وطلع يوماً إلى بستانه، فوجد الفعول يعملون في طين السطوح، فأخذ الأفرم الحبل بيده، ومتح به أسطال طين، ولما جاء الأمير سيف الدين تنكز في الرسلية إلى الأفرم من عند أستاذه الناصر إلى الكرك قام إليه، وفتش حتى تكة لباسه، لئلا يكون فيها كتب إلى الأمراء بدمشق. ولما توجه مع الناس صحبة السلطان إلى أن عوقه في مصر، وصادره، وأخذ منه مالاً، وعاد بعد الناس بمدة إلى دمشق، وكان قد ولي نظر الأشراف وكتابة الإنشاء بدمشق وغير ذلك. وكان حسن المباشرة، شديد التصرف، وشكره الناس عند موته، وتألموا، وتأسفوا عليه.
محمد بن أحمد بن شبلالفقيه الإمام المفتي شمس الدين أبو عبد الله الحريري المعروف بالبغدادي المالكي.
أسره التتار، وعمره اثنتا عشر سنة، ونشأ ببغداد وغيرها، وتفقه لمالك - رضي الله عنه - ، وكان كثير الاشتغال والمطالعة، وأقام بدمشق مدة، وعرض عليه نيابة الحكم، فامتنع، وقال: الشهادة أسلم، وكان رجلاً مباركاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشري شعبان سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمدالشيخ الصدر الرئيس الفاضل المسند تاج الدين أبو المكارم ابن الشيخ الجليل المسند الزاهد بقية المشايخ كمال الدين زين الدين محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي الحلبي.
حضر على ابن قميرة، وسمع من يوسف بن خليل جملة من الأجزاء والكتب، وسمع من أبي طالب عبد الرحمن بن العجمي وجماعة.
وولي وكالة بيت المال بحلب مع تدريس العصرونية. وولي نظر الأوقاف وكتابة الدرج.
وجرت له نكبة في أيام طرنطاي في الأيام المنصورية، وقيد، وسجن بالقاهرة مدة. وكان من رؤساء حلب المعروفين.
وتوفي في ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن عيسىابن رضوان القليوبي المحتد، القاضي الفاضل الأديب فتح الدين.
اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي على أبيه وعلى غيره، وتأدب. له الشعر الجيد، والنظم الذي به السمع متقيد، يلهي الندامى عن الأوتار، ويغنيهم عن معاطاة كؤوس العقار.
وكانت فطرته ذكيه، ونفسه فيها بقايا من لوذعيه، واسع الكرم والجود، لا يبقي على موجود، كثير التبذير، غزير التنديب والتنذير، واسع الخيال، زائد التوهم والاحتيال، إلا أنه تعب بخياله، وحصل له أنكاد منعته من طيف خياله.
ولم يزل بذلك في نكد، وما يهب نسيم سعوده، حتى يراه وقد ركد.
ولم يزل على حاله إلى أن انقلب القيلوبي في حفرته، وأورث أصحابه دوام حسرته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وست مئة.
حضر هذا فتح الدين إلى صفد قاضي القضاة، بعدما عزل عنها القاضي شرف الدين محمد النهاوندي، وأقام بها قليلاً، وعاد إلى الديار المصرية. وكان كثير التخيل والتوهم، فتوهم شيئاً في قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فحصلت الوحشة بينهما، فأعرض عنه بعد الإقبال عليه، وجفاه، وأعده، وألجأته الضرورة والحاجة إلى قيام الصورة، حتى ناب القاضي عز الدين عبد العزيز بن أحمد الأشمومي بمدينة المحلة. ثم إنه حصلت بينهما نفرة من خياله، فعاد إلى القاهرة، وأقام بها مدة لطيفة، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور.
وله نوادر طريفة، منها: قال كمال الدين الأدفوي - رحمه الله تعالى - : حكى لي فتح الدين قال: كنت أجلس دائماً فوق الصدر سليمان المالكي، فجاء مرةً لمجلس قاضي القضاة ابن مخلوف المالكي، فجلس فوقي، فقلت لقاضي القضاة: قال ابن شاس: إن مالكاً - رضي الله عنه - كره طول اللحية جداً، - قوله " جداً " وصف للكراهة أو للحية - وكان الصدر طويل اللحية، فقام من المجلس. وقلت له مرة: من أي بلد أنت؟ فقال: من شبرا مريق، فقلت له: بلدة مليحة هي! فقال: ما فيها أكثر من الشعير، فقلت له: لأجل ذلك أخذت في وجهك مخلاة.
وطلبوه مرة ليرسلوه إلى العراق، فجلس معي، يشكو إلي، فقلت: يا صدر الدين! ما أوقعك في هذه الحرية إلا هذه الذقن، فتوجه الصدر رسولاً، ثم حضر، فقال له فتح الدين: أي شيء غنمت في هذه السفرة؟ قال: كبرت لحيتي، قال: هذه الغنيمة الباردة.
وجمع فتح الدين من هذه الأشياء كراسة، وسماها " نتف الفضيلة في اللحية الطويلة " .
قلت: لو قال: " نتف الفضيلة في نتف اللحية الطويلة " ؛ لكان ذلك حسناً، وقد ذكرت هنا ما اتفق للشيخ تاج الدين الكندي والحافظ ابن دحية، وكان الشيخ تاج الدين جالساً إلى جانب الوزير - أظنه ابن شكر - ، فجاء ابن دحية، فجلس من الجانب الآخر، فأورد ابن دحية حديث الشفاعة، فلما وصل إلى قول إبراهيم عليه السلام: " إنما كنت خليلاً من وراء وراء " ، وفتح ابن دحية الهمزتين؛ فقال الكندي: وراء وراء بضم الهمزتين، فعز ذلك على ابن دحية، وقال للوزير: من ذا الشيخ؟! فقال: هذا الشيخ تاج الدين الكندي، فتسمح ابن دحية في حقه بكلمات، فلم يسمع الكندي إلا قوله: هو من كلب قبيح. وصنف ابن دحية في ذلك مصنفاً، وسماه " الصارم الهندي في الرد على الكندي " ،وبلغ ذلك تاج الدين الكندي، فعمل مصنفاً، وسماه " نتف اللحية من ابن دحية " .
قلت: قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: رأيت في " أمالي " أحمد بن يحيى ثعلب جواز الأمرين. انتهى.
قلت: قال الأخفش: يقال من وراء، فترفعه على الغاية، إذا كان غير مضاف تجعله اسماً وهو غير متمكن. كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء
هكذا أثبته بالرفع.
رجع ما انقطع من بقية ترجمة القاضي فتح الدين القليوبي: وقال له يوماً فخر الدين الأحدب المعروف بابن القابلة: كان والدي يدعو الله تعالى أن يرزقه ولداً نجيباً، فقال فتح الدين: لا جرم أنك جئت بختياً، قال فتح الدين: كان بيني وبين الجلال الهوريني صحبة ورفقة، فولي قضاء منية بني خصيب، فأهدى إلى بسراً، فوجدت نواه كثيراً، فكتبت إليه:
أرسلت لي بسراً حقيقته نوى ... عار فليس لجسمه جلباب
ولئن تباعدت الجسوم فودنا ... باق، ونحن على النوى أحباب
قلت: سبقه إلى هذا التضمين سراج الدين الوراق - رحمه الله تعالى - ، ونقلته من خطه، قال: أهدى إلي الرشيد الماوردي قدور تمر كربس، فكتبت إليه من أبيات:
يا من غدا لي واضعاً بقدوره ... قدراً له فوق السماء قباب
جاءت بأنواع النوى، فمجلبب ... أدماً، وعار ماله جلباب
وعلى النقير لتمرها أثر عفى ... فهدى إليه الحائرين ذباب
أرجيع ما لاك الحجاز بعثته ... والرزق سد فما لديه باب
أم خلت زجاجاً أخاك ومصر من ... شؤم النوى قفر الرحاب يباب
وإذا تباعدت الجسوم فودنا ... باق، ونحن على النوى أحباب
وأنشدني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: أنشدني فتح الدين المذكور لنفسه:
تظافر الموت والغلاء ... هذا لعمري هو البلاء
والناس في غفلة وجهل ... لو فطن الناس ما أساؤوا
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني لنفسه:
إني لأؤثر أن أرا ... ك، ولست أوثر أن تراني
علماً بأني في السما ... ع أجل مني في العيان
قلت: من قول الأول:
أنا المعيدي، فاس ... مع بي، ولا تراني
والأصل في هذا المثل المشهور: " يسمع بالمعيدي خير من أن تراه " .
وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه:
علقته محدثاً ... شرد من عيني الوسن
حديثه ووجهه ... كلاهما عندي حسن
قلت: ذكرت هنا ما قلته أنا في محدث:
محدث ذو قوام ... قوامه في العوالي
وطرفه ليس يغرى ... إلا بجرح الرجال
وقلت فيه أيضاً:
قال حبيبي لا تحدث بأو ... صافي من لا عنده معرفه
فإنه لين قدي وإن ... حدثته عن ناظري ضعفه
وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني في فتح الدين لنفسه:
يا أيها المولى الوزير الذي ... إفضاله أوجب تفضيله
أحسنت إجمالاً ولم ترض بال ... إجمال إذ أرسلت تفصيله
قلت: وذكرت أنا هنا قولي:
وقف القضيب لما مشى ... وجرت دموع العين في تحصيله
رشأ كساه الحسن منه حلةً ... جاءت بجملتها على تفصيله
قلت: ولفتح الدين المذكور موشحة مليحة أولها:
قد حدثت ألسن التجارب ... بكل ما فيه معتبر
وأنت يا حاضراً كغائب ... فلست تصغي إلى الخبر
تعايش الناس منذ كانوا ... بالمكر والحقد والحسد
وخلفوا ذكرهم وبانوا ... لم يصلحوا منه ما فسد
إلا القليل الذين دانوا ... بالحق في المسلك الأسد
والكل للترب في سباسب ... قد أودعوا ضيق الحفر
قد عوملوا بالذي يناسب ... من كل خير وكل شر
وقد ذكرتها كاملة في الجزء السابع والثلاثين من " التذكرة " التي لي، وهي موشحة جيدة صنعة.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمنابن علي، الشيخ الصالح المقريء أبو عبد الله البجدي - بالباء الموحدة والجيم المشددة والدال المهملة - الصالحي الحنبلي.
سمع من المرسي، وخطيب مردا، وإبراهيم بن خليل، وأجاز له الكثير، منهم عبد اللطيف بن القبيطي، وعلي بن أبي الفخار، وكريمة القرشية. وطال عمره، وروى الكثير، وسمعوا منه قديماً في صباه ابن عبد الدائم ثلاثيات البخاري عن ابن الزبيدي، ثم إنهم ترددوا فيه.
قال شيخنا الذهبي - رحمه الله - : سألته سنة ثلاث وسبع مئة بكفر بطنا عن جلية الأمر، فذكر ما يقتضي أن مولده سنة ست وثلاثين وست مئة، وأنه من أقران عبد الله بن الشيخ. وقال: كان لي أخ اسمه امسي، ذاك من أقران القاضي تقي الدين سليمان، ذاك مات صبياً.
وكان البجدي ذا نصيب من صلاة وتأله وتواضع وقناعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ... سنة فثنتين وعشرين وسبع مئة.
وبجد: قرية قريبة من الزبداني.
محمد بن أحمد بن عبد الخالقابن علي بن سالم بن مكي شيخ القراء ومسندهم تقي الدين أبو عبد الله المصري الشافعي، المشهور بالصائغ.
تلا بعدة كتب على الكمال " الضرير والكمال " بن فارس، والتقي الناشري، وسمع من الرشيد العطار وجماعة. وأعاد بالطيبرسية وغيرها.
وكان شاهداًَ عاقداً خيراً صالحاً متواضعاً صاحب فنون، صحب الرضي الشاطي مدة، وتضلع من اللغة، وسمع مسلم عن ابن البرهان. وكان يدري القراءات وعللها، وتفاصيل إعرابها وجملها، يبحث، ويناظر فيها، ويعرف غوامض تواجيهها وخوافيها.
صنف خطباً للجمع، وأظهر فيه أنه تعب وجمع، وقرأ عليه الأئمة، وفضلاء الأمة، وقصد من أطراف الأرض، وقام بنفل الإتقان والفرض.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الصائغ في الأحياء ضائعاً، وأمسى نشر الثناء عليه ضائعاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الأحد ثامن عشر صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة بمصر.
وتلا عليه أئمة مثل إبراهيم الحكري، وإسماعيل العجمي، وابن غدير، وبرهان الدين الرشيدي، وجمال الدين بن عوسجة، وتاج الدين بن مكتوم، وعلي الحلبي الضرير، وعوض السعدي، ومحمد بن الزمردي، وأبي العباس العكبري النحوي، والقاضي بهاء الدين بن عقيل، والشمس العزب، وخلق سواهم.
وكتب الختمة في سبعة وعشرين يوماً، وصنف خطباً جمعية، وابتدأ كل خطبة بعلامة قاض.
وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بعد الظهر بجامع مصر، وحضره خلق كثير، وحمل على الأيدي، ودفن بالقرافة، وكان آخر من بقي من مشايخ الإقراء.
محمد بن أحمد بن أبي الهيجاءالشيخ المسند الرحلة الصدوق شمس الدين أبو عبد الله الصالحي بن الزراد الحرير.
سمع بعد الخمسين من البلخي، ومحمد بن عبد الهادي وأخيه، والعماد بن النحاس، واليلداني، والصدر البكري، وخطيب مردا، وابن خليل، والفقيه اليونيني، وعدة.
وسمع من الكتب الكبار، وتفرد، وروى الكثير، وخرج له شيخنا الذهبي مشيخة.
وكان ديناً متواضعاً، يتجر، ويرتفق، ثم ضعف حاله، وافتقر، وساء ذهنه قبل موته، وتبلغم. وكان له نظم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمدالشيخ أبو عبد الله بن الشيخ المحدث كمال الدين عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، المعروف بالضياء السالك طريق الفقر.
كان شيخاً يخالط الفقراء طول عمره، وحضر غزوات الظاهر مع المشايخ، وسمع من المزي حضوراً، ومن خطيب مردا، والبكري، وابن سعد، ومحمد بن عبد الدائم، وجماعة. وله إجازة بعض أصحاب السلفي، وشهدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن هبة اللهابن قدس تاج الدين الأرمنتي.
كان مقرئاً فاضلاً، وكان يؤم بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة.
توفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في حدود السبع مئة.
ومن شعره:
قد قلت إذ لج في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي
خدك ذا الأشعري حنفي ... وكان من أحمد المذاهب لي
حسنك ما زال شافعي أبداً ... يا مالكلي كيف صرت معتزلي
قلت: سبقه إلى هذا الأول، فقال:
وعطلت من وجهه ... تلك الخدود الصقلة
يا أشعري خده ... إني من المعتزلة
والآخر أيضاً فقال:
وابن عجوز قال لي مرةً ... يا هاجري ظلماً ولم أهجر
معتزلي صرت، فقلت اتئد ... واعتب على مبعرك الأشعري
ولكن قول الشيخ تاج الدين الأرمنتي أجمع، وألطف، وأحسن من هذا كله قول القائل - وقد نسب إلى الشيخ صدر الدين بن الوكيل:
قويت شيعي ومن حظي أنا سني ... لولا الذهب شافعي كان انتفى مني
ظهر وسريجي وكنت أحسن به ظني ... صار مالكي أشعري قلت اعتزل عني
ومن شعر تاج الدين الأرمنتي:
احفظ لسانك لا أقول فإن أقل ... فنصيحة تخفى على الجلاس
وأعيد نفسي من هجائك فالذي ... يهجى يكون معظماً في الناس
محمد بن أحمد بن فتوحالمحدث العالم أبو الفضل المصغوني - بالميم المفتوحة والصاد المهملة الساكنة والغين المعجمة وبعدها واو ونون - الإسكندراني.
قد دمشق، وطلب الحديث سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وقرأ الحديث، وسمع من القاضي تقي الدين، وطائفة، وقرأ الصحيح على بنت المنجا.
قال شيخنا الذهبي: وعلقت عنه شيئاً. وكان ديناً عاقلاً فاضلاً، وحدث عن التاج الغرافي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده قبل الثمانين وست مئة.
محمد بن أحمد بن منعةبالنون بعد الميم والعين المهملة - ابن مطرف بن طريف، شمس الدين أبو يوسف القنوي الصالحي، الشيخ الصالح المعمر.
سمع من عبد الحق بن خلف جزء ابن عرفة حضوراً، وسمع من ابن قميرة - إن شاء الله - والمرسي، واليلداني، وأجز له ابن يعيش النحوي والحافظ الضياء، وإبراهيم بن الخشوعي. وحدث بالكثير.
قال شيخنا الذهبي: كان خيراً أميناً.
توفي - رحمه الله تعالى - في سابع المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وله اثنتان وتسعون سنة.
وكان يعرف مضيه للسماع من ابن قميرة بدرب السوسي، وإنما لم يجزم لأن له أخوين باسمه.
قال شيخنا البرزالي: كان الأخوة الثلاثة يسمعون، ولكن يترجح هذا لأنه الأكبر.
محمد بن أحمد بن محمدابن أحمد بن محمود، الصدر الرئيس القاضي عز الدين بن القلانسي العقيلي، ناظر الخزانة بقلعة دمشق، ومحتسب البلد.
سمع من ابن البخاري مشيخته. وحدث، وسمع منه بعض الطلبة.
وكانت له ديانه، وفيه مسكة وصيانه، وعنده للخير محبة وإيثار، وعنه في حسن المباشرات أحاديث مروية وآثار.
وكان كافياً فيما يتولاه من الوظائف، وله على العوام سائق من مهابته وظائف، شكرت سيرته، وظهرت لما ظهرت بالأمانة سريرته، لم يعهد الناس منه إلا عفافاً، ولم يباشر الحسبة إلا ودخل الناس منها جنات ألفافاً.
وما زال إلى أن لبى داعيه، وسمع الناس ناعيه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الاثنين تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان شكلاً ضخماً، عليه مهابة ووقار، يتحدث وهو مطرق، ولم يضرب أحداً من السوقية إلا دون العشرة ضرباً خفيفاً، وله في قلوبهم المهابة العظمى، باشر الحسبة مدة سنين، ووصل من مصر إلى دمشق في أوائل صفر مباشراً نظر الخزانة عوضاً عن نجم الدين البصروي بحكم ولايته الوزارة.
ولما شهد جماعة من رؤساء دمشق بأن الصاحب شمس الدين غبريال، إنما عمر أملاكه من بيت المال، لأنه كان فقيراً طلب عز الدين المذكور ليشهد بذلك، فقال. كيف أشهد وهو في كل شهر يصرف له جامكية من بيت المال بمبلغ عشرة آلاف درهم؟ وله هذه المدة الطويلة يتناول ذلك، ومن كان كذلك لا يكون فقيراً، ولم يشهد. فقالوا له: تعزل من وظائفك، فلم يوافق. وعزل من الحسبة، وبقي بيده نظر الخزانة. وأعجب ذلك الأمير سبف الدين تنكز، وأثنى عليه، ولما بلغ السلطان أعجبه دينه، ولم يحل أملاك الصاحب شمس الدين.
محمد بن أحمد بن محمدالقاضي الرئيس الأصيل، بقية الرؤساء، عماد الدين بن الصاحب تاج الدين بن الشيرازي، ناظر الجامع الأموي، ومحتسب دمشق.
كان من الرؤساء بالشام، ومن أولي الحشمة الذين لهم فيها الوجوه الوسام والأيادي الجسام، عريق في الرئاسة، غريق في السيادة والمباشرة والسياسة، يخدم الناس، ويتقرب إلى القلوب بسائر أنواع المكارم والأجناس. يزته فاخره، ووجاهته من شكله ظاهره. بقية أولئك الرؤساء الأول، والأكابر الذين تجملت بهم الأيام والدول، باشر الجامع مرات، وأثر فيه من العمارة ما يجلب للنفس المسرات. وباشر الحسبة مرات عده، فما رأى الناس إلا كل خير أعده واستجده.
ولم يزل على حاله متنقلاً فيما يتولاه، ويباشر أمره، فيملؤه ما جلاه وحلاه، إلى أن دارت عليه طاحون الطاعون، وراح مع أولئك القوم الذين هم إلى الساعة ساعون.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
وكان قد تولى نظر الجامع الأموي بعد تقي الدين بن مراجل في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول. وفي هذا اليوم دخلت أنا في ديوان الإنشاء بدمشق. وأقام فيه مدة سنين. ثم إنه نقل إلى نظر الحسبة، وأقام بها مدة. ثم إنه جاء المرسوم في أيام الصالح بعزله، فأقام في المدرسة الطرخانية جوار داره تقدير شهرين، ووزن بعض شيء، ثم أعيد إلى الحسبة.
وكتبت أنا له عدة تواقيع منها ما هو بنظر الحسبة، ومنها ما هو بنظر الجامع الأموي، فمن ذلك توقيع كتبت له بالحسبة مضافاً إلى نظر الجامع الأموي في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة ارتجالاً من رأس القلم، وهو: الحمد لله الذي جعل ولي هذه الدولة القاهرة عماداً، وملكه من الرئاسة التي امتاز بها من غيره قياداً، وثنى الجوزاء تحت يده لما ساد وساداً، وبلغ همته العلية من المفاخر السامية مراماً ومراداً.
نحمده على نعمه التي حسنت مواقعها عند من ألفها معاجاً ومعاداً، ومنته التي فاقت جواهرها ازدواجاً وازدياداً، وعوارفه التي تجد النفوس لعرفها ارتياحاً وارتياداً، وأياديه التي تتخير الاقتراح محاسنها انتقاءً وانتقاداً.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزعم معاطس من أنكرها عناداً، وتخجل من تلفظ بها تقية وأضمر الباطل اعتقاداً، وتدحص حجج من أصر على البهتان، وتمالا ضلالاً وتمادى، وتنير وجوه قائلها بياضاً يوم تدلهم وجوه جاحديها سواداً.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي ارتقى شبعاً شدادا، وأبلى في أعداء الدين القيم لله جهادا، وجلى غياهب العجاج والأسنة تحكي النجوم اتقادا، وحمى سرح الحق فما ضره من عاد إلى الباطل وكاد وعادى.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تسابقوا في حلبة الهدى جياداً، واتحدوا في سبيل الله محبة وودادا، وتقلدوا لنصر دينه بيضاً صفاحا، واعتقلوا سمراً صعادا، ونظمت جواهر معاليهم على جيد الزمان تؤاماً وفرادى صلاةً لا يمل طرف السهى من مراقبتها سهادا، ولا يعرف الأبد لأمدها ولا مددها نفادا، ما نزعت يد الصباح عن منكب الظلماء حدادا، ونفت نسمات الصبا عن عيون الأزهار رقادا، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فإن نظر الحسبة الشريفة بالشام المحروس منصب جليل القدر، ومحل سامي الأفق، لا يطلع في أوجه إلا من تم تمام البدر، ومكان لا يستكن في ذراه إلا من رفض عش الغش، ولم يخض في غدير الغدر، من ولي أمره غدقت به الأمور، وعلقت به مصالح الجمهور، وساس الرعية سياسةً محبتها في القلوب ومحلتها في الصدور، لأنه ينظر فيما دق وجل، وكثر وقل، وانحصر بمقدار، وضبط بمثقال ورطل وقنطار، وكل ما ابتلعته فم كيل وامتد له باع ذراع، أو تحدث فيه لسان ميزان مما يجلب من تحف البلاد ونفائس البقاع، وكل ما يعمل من أنواع المعايش، وكل ما أمره محرر أو سهم تقديره طائش، وله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحديث فيما شأنه أن يشكى أو يشكر، فهو الآمر في كل ذلك أجمع، وشآبيب تأديبه تهمع، وبروق تهديده تلمع.
وكان الجناب الكريم العالي المولوي القضائي العمادي محمد بن الشيرازي ممن قتل هذا المنصب خبرا، وقلبيته معرفته بطناً وظهرا، باشره مدة أمدها الله بالمحاسن الباهره، وجعل رياضها بالعدل زاهره، وأتى بيوت الرئاسة من أبوبها، وجنى ثمر السعادة من حدائق الإقبال متشابها، وجاذبته السيادة أهداب هدابها، ومدت له المعالي من المجرة طويل أطنابها، وذرب هذه الوظيفة فعرفها جيداً، كما أن أهل مكة أخبر بشعابها، وتشوقت عوده إليها تشوق الروض إذا ذوى إلى صوب الغمام، وتشوقت إلى رجوعه تشوق المشتاق إلى نوح الحمام.
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الكاملي السيفي - أعلاه الله تعالى - أن يفوض إليه نظر الحسبة الشريفة بالشام المحروس، لأنه أفضل من سكته التجارب ذهبا، وأولى من دربته المعارف، فأظهرته حساماً ماضي الشبا.
فليباشر ما فوض إليه مباشرةً ألفها الناس من سياسته، وعرفها الأنام من حميد رئاسته، وعهدها الرعية لما أنامهم الأمن في مهد حراسته، وشهدها البرية من جميل أصله ونفاسته، لأن آثار اعتماده في الجامع المعمور للعيون مشاهدة، وحسنات صنيعه في صحائف الأيام والليالي خالده، ومحاسن ما زخرفه في جدرانه على كل عامود حالة وعلى كل قاعدة قاعده. هذا إلى ما أنماه من أجوره، وأسماه من إدرار ما عليه من الرواتب، حتى شارك بها الواقف في أجوره، وأتعب من يأتي بعده حتى يسد مسده، أو يلبث مدة ما يمد قلمه من الدواة مدة.
ووصايا هذه الحسبة الشريفة كثيرة إلى الغاية، عزيزة لا يقف القلم في سردها عند نهاية، شهيرة عند معارفه التي أصبح فيها آية، ولكن القلم يطرق عند مثله لائذاً بالصمت، ويجف ريق المداد في لهوات الدواة هيبةً لما يراه فيه من عظمة الوقار وحسن السمت. فاجر فيها على عادتك الحسنى، وأول الناس فيها أمناً ومنا، واستعمل البأس في موضعه الذي يليق به وضعا، والرفق ولكن عز مكانه، فإن الغدر والخيانة يكونان في أكثر الناس طبعا، وأمر نوابك - أعزك الله - أن يحذروا في العفة والأمانة حذوك، وأن يتلوا في حسن السياسة تلوك، وأن يصبروا على مر طريقك في المباشرة، إن أرادوا أن تسوغهم حلوك، ولا شيء يزين الإنسان مثل تقوى الله فإنه واسطة العقود في الصفات المحموده، وزينة الوجوه في السمات المشهوده، تصدق يوم القيامة، إذا كذبت الظنون، وتنفع " يوم لا ينفع مال ولا بنون " ، وأنت بحمد الله لا ينوب فيها أحد منابك، ولا يزر عليها سواك ثيابك، وإنما الخطاب لك ظاهراً، وأردنا بباطنه نوابك، فلتكن خطوتهم كل خطوه، وجلوتهم في كل جلوه، والله يتولى إعانتك على ما ولاك ويزيدك مما أولاك، والخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن أحمدالإمام الفاضل الرئيس الأصيل الشيخ عز الدين ابن الشيخ شمس الدين بن المنجا التنوخي الحنبلي، ناظر الجامع الأموي، ومحتسب دمشق أخيراً.
كان حسن الشكل والعمه، مليح الوجه، يحكي البدر وتمه، فيه مكارم وإحسان، ومحاسن قلما تجتمع في إنسان، غزير المروه، كثير الفتوه. حنبلي كثير الاختلاط بالشافعية، ظاهر الذكاء فيما يباشره والألمعيه، أثر في الجامع آثاراً حسنه، وجدد فيه الترخيم والزخرفة، وما أسهر له العيون الوسنه.
وكان جماعة للكتب النظيفه، والمجلدات الطريفه، خلف منها أشياء نفائس، وكتباً عدة كالنجوم الزاهرة أو الكواعب العرائس، وبهضه ما تحمل من الديون، وكانت جملة لو صورت خارت لها القوى، وحارت العيون، ولكن لنيته الجميلة، قام ولده بحملتها الثقيله.
ولم يزل على حاله في الحسبة إلى أن جاء ما لا أحتسب، وقدم على ما قدم واكتسب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في العشرين من جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ومولده...
وحدث عن زينب بنت مكي، وكان قد ولي نظر الجامع الأموي عوضاً عن عماد الدين بن الشيرازي في يوم عرفة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وانتقل ابن الشيراوي إلى الحسبة.
محمد بن أحمد بن محمدالإسكندراني الصوفي، شمس الدين المعروف بابن الفويه - بضم الفاء وتشديد الواو والياء آخر الحروف - .
كان ظريفاً لطيفاً شاعراً، حسن المحاضره، جميل المذاكره، اجتمعت به غير مرة بالقاهره، وأنشدني من شعره كثيراً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر، وكان قد نسك آخر عمره، واقتصر.
ومما أنشدني له قوله:
لي أم من أصلح الناس تدعو ... لي رب السماء سراً وجهرا
جعل الله كل يابسة يا نو ... ر عيني بين كفيك خضرا
فاستجيب الدعاء في وما رد ... ت يداها من المواهب صفرا
فلذا لا أفيق ظهراً وعصراً ... سكرةً لا ولا عشاءً وفجرا
وأنشدني له أيضاً:
أعجامنا قد أصبحت قلوبهم ... وجداً بحب الخاتقاه خافقه
لا تعجبوا فكل كلب نابح ... ولا يحب الكلب إلا خانقه
وأنشدني له أيضاً:
وقالوا الشيخ مجد الدين ... شيخ الجهالة والبلاده
فقلت وأوحد في ال ... لياط وفي القياده
وزيدوا إن أردتم ... وشيخ النحس زاده
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً في نجم الدين وكيل الفخر، وكان أعور:
يا ربنا لي صاحب ... بالذنب مدحو شقي
غطيت منه عورةً ... يا خير رب مشفقي
وسترت منه ما مضى ... يا رب فاستر ما بقي
ذكرت بهذا التهكم في الدعاء ما نقلته من خط السراج الوراق:
طالت مسافة بيني ... بين الصفي وبيني
فلا أموت إلى أن ... أرى الصفي بعيني
قلت: هذه تورية، خدمت معه من ثلاثة وجوه: أحدها: وهو الظاهر في بادئ الرأي، من أنه يراه بعينه.
والثاني: أن يراه ضعيفاً، " فعيلاً " بمعنى " مفعول " .
والثالث: أن يراه بفرد عين أي أعور، وهكذا يكون النظم الذي يسمع.
وكتب الشيخ جمال الدين بن نباتة إلى ابن الفويه:
واحربا من سوالف الخشف ... والنواعس الوطف
كم لك يا خشف من فتى وامق
لنون صدغيك يعبد الخالق
يا لكما من رشا ومن عاشق
من ذا ومن نون صدغ ذا قل في ... عابد على حرف
سكنت عندي بيتاً هو القلب
وغبت عن ناظري فلا عتب
يفديك يا بدر هائم صب
بمنزل القلب منه تستكفي ... لا بمنزل الطرف
جادت جفوني بالأدمع الحمر
جود ابن فضل الإله بالتبر
لله منه جواد ذا الدهر
يمسك جود الحيا عن الوكف ... وهو جائد الكف
انظر لآثار مجده العالي
وصنعه بالعدا وبالمال
صنعة نحو بديعة الحال
فالمال نحو العفاة للصرف ... والعداة للحدف
ختام ذكر العلا به مسك
وأن لفظي لفظه سلك
وصفي وجدواه ليس ينفك
فليس يخلي يدي من عرف ... أو علاه من وصف
وأغيد زاره مخالفه
وعاد بعد الجفا يساعفه
وقال لما مشى يكاتفه
أصبح بعد الجفاء والخلف ... كالطراز على كتفي
فكتب شمس الدين بن الفويه الجواب:
زهر أم الزهر يانع القطف ... من كمائم السجف
رياض حسن قد راضها الدل
من ورد خد فيه الحيا طل
وآس صدغ فيه الحيا ظل
كففت عن هصر كفي ... إذ رعيت بالطرف
من لي ببدر حشاشتي أفقه
يزيده حسن وجهه طلقه
لو جال في سمع عاذلي نطقه
لقال فيه بالصوت والحرف ... عاذلي بلا خلف
قلت وصدغ في الخد قد عقرب
ونمل ذاك العذار فيه دب
وحسنه في طرازه المذهب
يا واو صدغ من لين العطف ... هل أتيت للعطف
قال وأبدى ابتسامة درا
أعطيت نظم الجمال والنثرا
ونطقه فاتخذتهم ثغرا
وصنتهم في مواضع الرشف ... لا مواضع الشنف
أشرف يا بني نباتة الأدب
وقد نشا في القريض والخطب
فهم ولو لم يضمهم نسب
بينهم نسبة من الظرف ... والبيان واللطف
وغادةً دون حسنها الوصف
يثقلها عند خطوها الردف
قالت وأمواج ردفها تطفو
هذا الثقيل ردفي يعتمد خلفي ... أمشي ينقطع خلفي
قلت: ما أبدع هذه الخرجة الداخلة والألفاظ الجادة، وهي هازلة، رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن إبراهيمابن حيدرة بن علي القاضي الإمام الفاضل شمس الدين أبو عبد الله المعروف بابن القماح المصري الشافعي.
سمع من أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر " صحيح " مسلم إلا قليلاً، ومن النجيب عبد اللطيف والعز عبد العزيز ابني عبد المنعم بن علي بن الصيقل الحراني، وعبد الرحيم بن يوسف بن خطيب المزة، وقاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي في آخرين.
وحدث، وتفقه، وبرع، وأجاد، وأفتى، وأفاد، وجاد بالعلم، فأجاد، وناب في الحكم بالقاهره، وشكرت سيرته الزاهره، وكانت فتاويه مسدده، ولياليه وأيامه بالعدل مجدده، وهو آية في الحفظ الذي لا يحكيه فيه نظير، ولا يضبطه فيه حوزة ولا حظير.
ولم يزل إلى أن بان وباد، وسكن الأرض إلى يوم المعاد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ست وخمسين وست مئة.
وقد أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان متى سئل عن آية، ذكر ما قبلها، وكذلك يفعل في التنبيه، وهذه غاية لم يصل إليها أحد إلا من من الله عليه بها، ولعل الإنسان ما يقدر يفعل هذا في الفاتحة. ويحكى أن الحجاج بن يوسف ما كان يمتحن القراء إلا بذلك ما يسأل أحداً منهم إلا يقول له: إيش قبل الآية الفلانية، فيبهت ذلك المسكين.
وكان ينوب في الحكم على باب الجامع الصالحي بظاهر القاهرة، ودرس بالمدرسة المجاورة لقبر الإمام الشافعي بالقرافة - رضي الله عنه - ، وناب عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في تدريس الكاملية مدة غيبته في الحجاز، وجمع مجاميع مفيدة، وكان على ذهنه تواريخ ووفيات وحكايات وفوائد، واختصر كتباً في الفقه، ولكن كان يتسامح في الأحكام حتى إن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة كان يمنعه من إثبات كتب الأوقاف.
ولما تولى ولده قاضي القضاة عز الدين بن جماعة لم يوله القضاء، فانقطع للاشتغال، وقراءة القرآن.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمنابن محمد تاج الدين بن الشيخ جلال الدين، الدشناوي محتداً، القوصي مولداً وداراً ووفاةً.
قرأ القراءات على الشيخ نجم الدين عبد السلام بن حفاظ، وسمع على المنذري، والرشيد العطار، وتقي الدين بن دقيق العيد، وشرف الدين الدمياطي، وغيرهم.
وحدث بقوص ومصر والقاهرة والإسكندرية. وسمع منه شيخنا أبو الفتح، والشيخ عبد الكريم بن عبد النور، وفخر الدين النويري، وسراج الدين بن الكويك، وغيرهم.
وأخذ الفقه عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد، وعن والده جلال الدين، والشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي.
ودرس بالفاضلية بالقاهرة نيابة عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد، ودرس بالعزية بظاهر قوص، والمدرسة النجمية والمدرسة السراجية. وأفتى، وحدث، واستبقى الخيرات وما تلبث.
وكان قوي الجنان، فصيح اللسان، طيب الأخلاق، كريم المعاشره، جميل الأوصاف فيما تولاه أو باشره، مقرئاً محدثاً أديباً، شاعراً لبيباً أريباً.
لم يزل على حاله إلى أن فارق العيش واستوى عنده الحلم والطيش.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
قال كمال الدين الأدفوي: أنشد شيخنا تاج الدين، قال: أنشدنا الشيخ شمس الدين التونسي:
اصبر على حادثه أقبلت ... فهي سواء والتي ولت
وأرهف العزم فليس الظبى ... تفري وتبري كالتي كلت
قال: فنظمت هذه الأبيات، وأنشدتها للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فاستحسنها، وهي:
ليت يداً صدت حبيباً أتى ... للوصل يشفي غلتي غلت
قضيت قدماً معه عيشةً ... يا ليت فيها مدتي مدت
لو لم أرض نفسي بصبرغدا ... ساعة صد جنتي جنت
قلت: كذا رأيت البيتين الأولين قد ساقهما الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي، ولو أن فيهما حكماً، لقلت: " اصبر إذا ما حالة حلت " ، فإنها أنسب من قوله: " حادثة أقبلت " ، وأما بيتا الشيخ تاج الدين الدشناوي الأولان فإنهما في الحسن غاية، ولكن البيت الثالث في تركيبه قلق، وليس بأخ لما تقدمه، ولو كان لي فيه حكم؛ لقلت:
أقبح بصد جاء لو لم يكن ... صبري لنفسي جنتي جنت
على أن الأول أيضاً فيه قلق، وأما الأوسط فإنه في الذروة.
وقد كنت نظمت قديماً، لما وقفت على البيتين الأولين، وهما مشهوران أبياتاً من جملتها:
هذي التي نلت بها ذلتي ... وحلتي في الصبر قد حلت
وأدمعي في وجنتي أطلقت ... وفي فؤادي غلتي غلت
خلائقي وفق غرامي بها ... فاستخبروها ما التي ملت
وقلت في جارية لي توفيت:
دفنتها كالبدر تحت الثرى ... ومن شقائي مدتي مدت
كانت إذا ما سيف أجفانها ال ... مرهف يدعو لبتي لبت
ما سجعت في الأيك ورق الحمى ... لكنها في عزتي عزت
قال كمال الدين الأدفوي: وأنشدني لنفسه:
الشين في الشيخ من شرب غدا كدراً ... فلم تعفه نفوس الغانيات سدى
والياء من يأس أن تصبو إليه وقد ... بدت لها لحمة من شيبه وسدى
والخاء من خوف أن تقضي له فترى ... ما ابيض من شعره في جيدها مسدا
قلت: شعر كمال الدين أخصر وأحسن وأفصح وأمتن. وقد نظمت أنا في هذا المعنى في أقصر وأخصر فقلت:
الشين في الشيخ شين ... والياء يأس تبين
والخاء خسران عمر ... والحين من ذا تعين
ومن شعر تاج الدين الدشناوي:
ولولا رجائي أن شملي بعدما ... تشتت بالبين المشت سيجمع
لما بقيت مني بقايا حشاشة ... تحال على طيف الخيال فتقنع
قلت: لولا الزيادة التي ألحقها في آخر البيت الثاني؛ لكان معنى بيتيه في بيت واحد من قول الأول:
ولولا رجاء القلب أن تعطف النوى ... لما حملته بينهن الأضالع
ومن شعر تاج الدين - وقد جوده - :
عجزت عن قصة الطيب وعن ... قصة أخذ الشراب إن وصفه
والحال أبدت لمن يميزها ... تعجباً ساء مصدراً وصفه
قلت: جمع في هذا البيت الثاني الحال والتمييز والتعجب والمصدر والصفة بتركيب سهل عذب.
محمد بن أحمد بن تمامابن كيسان أبو عبد الله الصالحي الخياط، الشيخ البركة، أخو الشيخ تقي الدين بن تمام - وقد تقدم ذكره - .
سمع من عمر بن غوة التاجر، وتمام السروري ومن ابن عبد الدايم، وعبد الوهاب بن محمد، ومن والده عن القزويني.
كان رجلاً صالحاً، منجمعاً عمن يراه طالحاً، له أبهة في الصدور، وعلى وجهه لمحة من جمال البدور، هشاً بشاً بساما، لين الكلمة بالمعروف، قوالاً قواماً. صحب الأخبار، وأسمع الأحاديث والأخبار، يرتزق من الخياطة، ومما يفتح عليه ممن يأتي رباطه. يؤثر من جمع ما يملك ويؤثر، ويصبر ولا يمنن بذاك ولا يستكثر. وكان قد تفقه قليلاً، واعتزل طويلاً.
ولم يزل على حاله إلى أن التحق بالرحمن، وأدرج في الأكفان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وشيعه خلق كثير، وموته في ثالث عشر شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
خرج له شيخنا الذهبي مشيخةً في جزء ضخم.
وسمع منه خلق كثير، وطال عمره، وحدث أكثر من أربعين سنة، وصحب الأخبار، ورافق الإمام شمس الدين بن مسلم، والشيخ علي بن نفيس.
وكان الأمير سيف الدين يكرمه ويزوره، ويذهب هو إليه، ويشفع عنده.
ومتع بحواسه، وأبطأ شيبه، وروى عن المؤتمن بن قميرة.
وأجاز لي بخطه في سنى تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
محمد بن أحمد بن عبد الهاديابن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة، الشيخ الإمام الفاضل المفنن الذكي النحرير شمس الدين الحنبلي.
سمع القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة، وأبا بكر بن عبد الدايم، وعيسى المطعم، وأحمد الحجار. وأكثر عن محمد بن الزراد وسعد الدين بن سعد، وعدة. وتقفه بالقاضي شمس الدين بن مسلم، وتردد كثيراً إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية. وأخذ العربية عن أبي العباس الأندرشي، وعلق على " التسهيل " ، مجلدين تأذى بذلك منه أبو العباس الأندرشي، وأخذ بعض القراءات تفقهاً عن ابن بصخان.
وحفظ كتباً منها " أرجوزة " الخوبي في علم الحديث و " الشاطبية " و " الرائية " و " المقنع " و " مختصر ابن الحاجب " . وعلق على أحاديثه وعمل تراجم الحفاظ، وعمل " كتاب الأحكام " ولم يكمل. قيل لي بأنه مجلدات. وله غير ذلك.
كان ذهنه صافياً. وفكره بالمعضلات وافياً، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث. صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد، قد أتقن العربيه، وغاص في لجتها على فوائدها ونكتها الأدبية، وتبحر في معرفة أسماء الرجال، وضيق على المزي فيها المجال.
نزل أخيراً عما بيده من المدارس، وعدها من الأطلال الدوارس ليكون مفرغاً للإشغال، ويترك ما هو دون ويأخذ ما هو غال، ولو عمر لكان عجباً في علومه، ونقطه البدر طرباً منه بنجومه، ولكن اجتث يانعا، ولم يجد له من الحمام مانعا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأول من جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبع مئة.
كان من أفراد الزمان، رأيته يواقف شيخنا جمال الدين المزي، ويرد عليه في أسماء الرجال، واجتمعت به غير مرة، وكنت أسأله أسئلة أدبية وأسئلة عربية، فأجده فيها سيلاً يتحدر، ولو عاش كان عجباً.
محمد بن أحمد بن بدر بن تبعالشيخ المقرئ صلاح الدين أبو الحسن البعلبكي القصير.
روى عن ابن عبد الدائم. قال شيخنا البرزالي: وذكر لنا أنه حدث ببغداد لما سافر إليها لاستنفاذ ولده.
وكان رجلاً جيداً فيه خير ودين ومعروف، وعنده مروءة، مواظب على قراءة القرآن.
توفي - رحمه الله تعالى - بالمدرسة الرواحية سابع عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. وشيعه جماعة.
محمد بن أحمد بن سليمان الدلاصي
الشيخ المعمر صدر الدين.حدث عن ابن خطيب المزة، تجاوز الثمانين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
محمد بن أحمد بن يعقوبكمال الدين أبو عبد الله الدمشقي الكاتب.
باشر كتابة الإنشاء، وتنقل بها في حنايا بلاد وأحشاء، وكان يكتب سريعاً، ويجعل الطرس بقلمه روضاً مريعاً، إلا أنه لا ينشئ شيئاً، ولكنه يجعل له في التقييد ظلاً وفيئاً.
وكان في خلقه حده، وفي ممارسته شده. لا يزال طالباً ما لا يمكنه، جالباً لنفسه من الشر والنكد ما يوهي جلده ويوهنه، يتخيل حتى من حبيبه، ويتخيل على من يكون من أنصاره ليجعله بمنزلة رقيبه، فمضى عمره في أنكاد، وقضى وفي القلوب منه أحقاد.
ولم يزل على حاله إلى أن نقص كماله، وذهب في طلب المحال روحه وماله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
ومولده في نيف وسبع مئة.
طلب الحديث في وقت، ودار على الشيوخ، وكتب الطباق، وسمع من الحجار، والعفيف الآمدي.
وكان قد توجه لتوقيع الرحبة، ووكالة بيت المال عوضاً عني في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وأقام بها مدة ثم حضر إلى دمشق.
وتوجه لتوقيع جعبر، وأقام بها مديدة، وحضر إلى دمشق، وباشر ديوان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - . ثم توجه إلى مصر، وباشر في ديوان الأسرى بدمشق، وبيده فقاهات في المدارس.
ولما كان في أواخر أيام الأمير سيف الدين يلبغا نائب دمشق نزل له ابن البياعة عما باسمه على كتابة الإنشاء بدمشق، فدخل ديوان الإنشاء، ثم إنه توجه إلى الحجاز في سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وعاد مع الركب المصري. فاتفق أنه مات في تلك الأيام شرف الدين موقع غزة، فاستخدمه القاضي علاء الدين بن فضل الله في توقيع غزة، فحضر إليها، وباشرها مدة بنفس قوية حتى على النواب. فنفرت القلوب منه، وكثرت الشكاوى عليه بباب السلطان، فرسم بعزله، ومع عناية القاضي علاء الدين معه خرج منها، وقد كاد يعطب. وكان قد نزل عن بعض جهاته لقاضي غزة من مباشرة الأسرى، وقام باسم أولاده على كتابة الإنشاء بدمشق، وأخذ من القاضي الخطابة بجامع الجاولي، والتدريس.
حكى لي القاضي شرف الدين قاضي غزة أنه صعد المنبر، فقال: الحمد لله، وسكت ساعة، ثم قال: الحمد لله، وسكت ساعة، فعل ذلك مراراً! حتى إنه قال لي النائب: قم أنت اخطب، فخطبت عنه ذلك النهار، ولما حضر إلى دمشق رسم السلطان الملك الناصر حسن بإبطال من استجد بديوان الإنشاء بعد الشهيد، فبطل هو لأنه كان قد قايض قاضي غزة بماله على كتابة الإنشاء من الأيام الشهيدية، وأبقى له على ذلك ما استجد، فجرت بينه وبين القاضي مخاصمات ومحاورات ومحاكمات كادت تفضي إلى ملاكمات، ولم يثبت له شيء، فتوجه إلى مصر، فمرض مرضةً طويلة بالبيمارستان المنصوري، ثم إنه خرج في محارة مع العرب، فلما كان بين سرياقوس والقاهرة، أو بعد سرياقوس، توفي - رحمه الله تعالى - فحمله العرب إلى بلبيس، ودفن بها عفا الله عنه وسامحه.
وكان أولاً يعرف بالزينبي، ثم إنه أخيراً كتب عن نفسه الجعفري. وكان إذا خاصم أحداً يقول: أنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا مولانا السيد كن، أعرف ما تقول إن كنت جعفرياً فهذه نسبة إلى جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجعفر ما تزوج ببنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تزوج بها أخوه علي بن أبي طالب، فإن أردت النسبة إلى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل أنا علوي، لأنك تكون من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهم. فأخجله هذا، ولم يرجع عن هذه الدعوى، سامحه الله وعفا عنه.
وكان مبغضاً إلى كل من يرافقه من فقهاء المدارس، وكتاب الجامع الأموي وكتاب الإنشاء حتى أنشدني فيه بعض الناس:
يا حب لي فيك واش ... بيني وبينك يوقع
وماله من محب ... مثل الشريف الموقع
وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن شرف الدين عيسى بن قاضي شهبة في ذلك:
ولرب خل قال لي يهنيك قد ... عطف الحبيب وزار بعد تجنب
وكستك أيدي الدهر ثوب شبيبة ... ما عشت عنك جديده لم يذهب
وأنا لك الدهر الخؤون قياده ... وأمنت من صرف الردى المتغلب
وصفت لك الدنيا ووسع رزقها ... فتمل بالمحبوب واشرب واطرب
فأحببت قد أفرحت لكن لم تقل ... وكذاك قد مات الكمال الزينبي
وأنشدني من لفظه لنفسه غير ذلك في هذا المعنى، والجميع مثبت في الجزء الثالث والثلاثين من " التذكرة " التي لي.
الشيخ محمد بن أحمد بن علي بن عبد الكافيالشيخ تقي الدين أبو حاتم ابن الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبي حامد ابن شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي.
تقدم ذكر جده وذكر عمه في مكانيهما من حرف العين والحاء.
شاب شب على الهدى، ودب إلى الندى، وحث في طلب العلم، ودب في حمى الكرم والحلم، فخطب ودرس، وسرى إلى المعالي وما عرس، ما وصل هلاله إلى الإبدار، ولا انفصل زلاله عن الإكدار حتى قصف غصنه المائل، وخسف بدره الكامل، وفجع به أبوه وعمه، ودفع إلى كل منهما فيه همه وغمه، فعطلت غصون المنابر من ورقائه، وخملت فنون المدارس من إلقائه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في... من شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة.
ومولده في غالب الظن في شهر رجب الفرد سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
كان هذا تقي الدين أبو حاتم قد نشأ أحسن نشأة، وربي خير مربى، اجتهد جده قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى لما كان عنده بدمشق، وحفظه القرآن، و " التنبيه " ، و " العمدة " في الأحكام. وحفظ هو بالديار المصرية كتاب " جمع الجوامع " لعمه قاضي القضاة تاج الدين. وولاه السلطان مدارس والده وخطابة جامع ابن طولون، فقام بجميع ذلك أتم قيام، وسد وظائفه كلها على أحسن نظام، ولبس تشريفاً في دمشق وألقى به الدرس في العادلية في حياة جده سنة ست وخمسين وسبع مئة، وعمره يومئذ دون الاثنتي عشرة سنة.
وعلى الجملة، فكان من نجباء الأبناء، ولكن جاءه أجله مبكراً.
ولما مات توجه والده إلى الحجاز ولحق بالركب الرحبي، ولم يلق بعده قراراً، وضاقت رحاب القاهرة به، وهو معذور في هذا الولد إذا ضاقت به الأرض فضلاً عن البلد.
وكتبت إلى عمه قاضي القضاة تاج الدين أعزيه بقصيدة هي:
الموت ختم يا أبا حاتم ... وغير مستثنى بنو آدم
وليس تنجو من ورود الردى ... لا نفس مخدوم ولا خادم
وكل عمر فله عروة ... ولا بد أن تفضي إلى فاصم
والموت يقظان لهذا الورى ... وكلنا في غفلة النائم
كالذود في الرعي به غفلة ... عن ملتقى جزاره الغاشم
وكلنا يسعى إلى غاية ... لا بد من إدراكها اللازم
ونشرب الكأس التي ذقتها ... من كف ساق للمنى حاسم
وقد تساوى الناس في شربها ... تأتي على المحسن والجارم
لهفي على نجمك لما هوى ... وليل شعر للصبا فاحم
لهفي على علمك ذاك الذي ... قد كنت فيه ندرة العالم
ودرسك الفقه الذي قال في ... ه الناسي ما دار على الدارمي
كأن من جدك فيه غدا ... جدك يمليه على الراقم
كذلك التفسير قالوا أبو ... حيان حي أو أبو حاتم
كم منبر تحتك يهتز من ... بلاغة ما حازها الغانمي
تملي عليه خطباً شجعها ... كالدر يزهى في يد الناظم
فصاحة يعجب من لفظها ال ... جاحظ والراغب والحاتمي
وأنت في أعلاه قمرية ... وذاك مثل الغصن الناعم
فما لنا اليوم ولا للعلا ... ولا دروس العلم من راحم
وكلنا بعدك في ضيعة ... كالذود إذ أمسى بلا سائم
لهفي على الشيخ أبيك الذي ... تركته بعدك كالهائم
قد كان على بلواه في غفلة ... بل كان في إغفاءة الحالم
فاعتاقه صرف الردى دون ما ... أمله في ظنه الزاعم
قد كنت منه مثل ما قال عب ... د الله في أمر ابنه سالم
جلدة بين العين لكنه ... راح بأنف في الورى راغم
هج إلى مكة من حزنه ... يعض كف النادم السادم
وأم بيت الله مستصرخاً ... في الضر بالصفوة من هاشم
رحت إلى الله خفيف المطا ... غير مسيء لا ولا آثم
تصافح الولدان والحور في ... جنات عدن برضى دائم
فأين تلك الحركات التي ... أنحى عليها الموت بالجازم
لهفي على نفسي فقد كنت لي ... ركناً محته صدمة الهادم
أراك في الأنصار لي عدةً ... ولم أخل أن الردى فاطمي
وكنت من شوق كطير قد ان ... قض إلى منهله حائم
وكان ذاك البعد من قبل ذا ... دخان هذا الضرم الجاحم
كم قلت لما أن سمعت الذي ... يسرني من خبر القادم
ترى أرى الناشي وقد خصني ... بنظمه الزاهي على الناجم
وهل أرى ذاك المحيا الذي ... بارقه راق لدى السائم
والآن لا الصبر غدا نافعي ... وليس من بحر البكا عاصمي
تعز يا مولاي عن ذاهب ... مضى به سيل ردى عارم
وأنت في بيت دراريه أم ... ثال الذراري في الدجى العاتم
قد زينوا الدهر الذي ضمهم ... فراح ذا ثغر بهم باسم
واصبر لخطب قد عرا واحتسب ... تظفر بأجر الصائم القائم
والله يسقي ترب من قد مضى ... صوب الحيا من جوده الساجم
محمد بن أحمد بن بصخانبفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، وبعدها خاء معجمة وألف ونون، ابن عين الدولة، شيخ القراء بدمشق، الشيخ الإمام بدر الدين أبو عبد الله بن السراج الدمشقي، المقرئ النحوي.
سمع الكثير بعد الثمانين من أبي إسحاق اللمتوني، والعز بن الفراء، والإمام عز الدين الفاروثي، وطائفة. وعني بالقراءات سنة تسعين وبعدها، فقرأ للحرميين وأبي عمرو على رضي الدين بن دبوقا، ولابن عامر على جمال الدين الفاضلي، ولم يكمل عليه ختمة الجمع، ثم كمل على الدمياطي وبرهان الدين الإسكندري، وتلا لعاصم ختمة على الخطيب شرف الدين الفزاري، ولازمه مدةً، وقرأ عليه القصيدة لأبي شامة.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: وترددنا جميعاً إلى الشيخ المجد نبحث عليه في القصيد، ثم إنه حج غير مرة، وانجفل عام سبع مئة إلى مصر، وجلس في حانوت تاجر، وأقبل على العربية فأحكم كثيراً منها، وقدم دمشق بعد ستة أعوام، وتصدى لإقراء القراءات والنحو، وقصده الطلبة، وظهرت فضائله، وبهرت معارفه، وبعد صيته، ثم إنه أقرأ لأبي عمرو بإدغام " الحمير لتركبوها " ، وبابه ورآه سائغاً في العربية، والتزم إخراجه من القصيد، وصمم على ذلك، مع اعترافه بأنه لم يقل به أحد، وقال: أنا قد أذن لي في الإقراء بما في القصيد، وهذا يخرج منها.
فقام عليه شيخنا المجد وابن الزملكاني وغيرهما، فطلبه قاضي القضاة ابن صصرى بحضورهم، وراجعوه وباحثوه فلم ينته، فمنعه الحاكم من الإقراء بذلك، وأمره بموافقة الجمهور، وذلك في عشري شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة وسبع مئة، فتألم وامتنع من الإقراء جملة. ثم إنه استخار الله تعالى في الإقراء بالجامع، وجلس للإفادة، وازدحم عليه المقرئون وأخذوا عنه، وأقرأ العربية.
قال: وذهنه متوسط لا بأس به، ثم ولي بلا طلب مشيخة التربة الصالحية بعد مجد الدين التونسي بحكم أنه أقرأ من بدمشق في زمانه، انتهى.
قلت: وكان بهي المحيا، يطوي السكون طيا، ظاهر الوقار، بادي التكبر على الناس والاحتقار، نظيف اللباس، طيب الرائحة في الانطلاق والاحتباس، ظريف العمامه، كأنه من بياض ثيابه حمامه، له قعدد في جلوسه، وتسدد في ناموسه، وكذا إذا مشى لا يلتفت ولو زحمه الليث والرشا. وإذا كان في حالة تصدره للقراءة يتلبس بالتوفر على التوقر والأناة، لا يتنحم ولا يتلفت لا يعير بصره وسمعه غير من يقرأ عليه إن عطس أو شمت، مشغولاً بمن قد أمه قدامه، مجموع الحواس على القارئ الذي جعله إمامه أمامه:
ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
ولم يزل على حاله إلى مات به شاطبي عصره، وأنزل إلى قعر لحد من علو مجده في قصره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
واشتهر عنه أنه كان لا يأكل اللحم إلا مصلوقاً والحلاوة السكرية لا غير. وقيل إنه لم يأكل المشمش في عمره؛ ومن شعره في المشمش:
قد كسر المشمش قلبي ولم ... أكسر له لما أتى قلبا
لسعره الغالي وعسري معاً ... وأستحي أن ألقط الحبا
وكان له ملك يرتفق بمصالحه، ولم يتناول من الجهات درهماً ولا طلب جهةً كمال أهليته.
وكان يدخل الحمام وعلى رأسه قبع لباد غليظ إذا تغسل رفعه وإذا أبطل قلب الماء أعاده، فأفاده ذلك ضعفاً في بصره، وكان طيب النغمة.
دخل يوماً هو والشيخ نجم الدين القحفازي في درب العجم وفيه ظروف زيت، فعثر في أحدها، فقال نجم الدين: تسعنا في ظرف المكان. فقال له الشيخ بدر الدين: لا بل تمشي بلا تمييز، فقال: إن ذا حال نحس.
وقد أجاز لي رحمه الله تعالى جميع ما صنفه ونظمه بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وأنشدني شمس الدين محمد الخياط الشاعر، قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
كلما اخترت أن ترى يوسف الحس ... ن فخذ في يمينك المرآة
وانظرن في صفائها تبصرنه ... واعذرن من لأجل ذا الحسن باتا
لا يذوق الرقاد شوقاً إليه ... قلق القلب لا يطيق ثباتا
قلت: كان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى لما سمع كلام الناس في كلامه هذه المادة مثل قول القائل:
ما أخذ المرآة في كفه ... ينظر فيها للجمال المصون
إلا رأى الشمس وبدر الدجى ... ووجهه في فلك يسبحون
وقول أبي الحسن بن يونس بن عبد الأعلى:
يجري النسيم على غلالة خده ... وأرق منه ما يمر عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه
وقول الآخر:
وأهيف ظل بالمرآة مغرى ... يواظب رؤية الوجه المليح
يقول طلبت معشوقاً مليحاً ... فلما لم أجده عشقت روحي
وقول الآخر:
أخذ المرآة بكفه كيما يرى ... فيها محاسن وجهه فتحيرا
ما كان يدري ما جنت عيني على ... قلبي فحين رأى محاسنه درى
وقول الآخر:
عجبت لبدر التم أصبح عاشقاً ... هلالاً وأمسى مغرماً فيه قلبه
ولو أخذ المرآة ينظر وجهه ... لأبصر ما يسليه عمن يحبه
وقول ابن الساعاتي:
يقول ماذا ترى وفي يده ... مرآته وهو ناظر فيها
قلت أرى البدر في السماء وقد ... أفاض نوراً على نواحيها
وقلت أنا في هذه المادة:
لو أخذت المرآة يا من سباني ... لترى طلعة سمت كل بدر
وتحققت أن عذري باد ... في غرامي وفي تهتك ستري
وللناس في هذا كثير، وهذا القدر كاف.
وأراد الشيخ بدر الدين أن ينظم مثل ذلك في رقته وطلاوة تراكيبه فأتى بما أتى وزاد علواً في الثقالة وعتا.
وأنشدني شمس الدين الخياط أيضاً، قال: أنشدني لنفسه في مليح دخل الحمام مع عمه، فلما جعل السدر في وجهه قلب الماء عليه عبد أسود كان هناك:
وبروحي ظبي على زجهه السد ... ر وقد أغمض الجفون لذلك
قائلاً عند ذاك حين أتاه ... يسكب الماء عليه أسود حالك
من ترى ذا الذي يصب أعمي ... قلت بل ذا الذي يصب كخالك
قلت: قد حقق الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى ما قيل عن شعر النحاة من الثقالة، على أنني ما أعتقد أن أحداً رضي لنفسه أن ينظم هكذا، والذي أظنه أنه تعمد هذه التراكيب القلقة وإلا فما في طباع أحد يعاني النظم هذا التعاظل، ولا هكذا التعسف ولا هذه الركة، ولكني المعاني جيدة، فهي عروس تجلى في ثياب حداد.
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايمازالشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، شيخنا الإمام حافظ الشام.
كان في حفظه لا يجارى، وفي لفظه لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، عرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبه وانتماؤه.
جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مونة التطويل في التأليف، وكتب بخطه ما لا يحصى، ولا يوقف له على حد يستقصر ولا يستقصى.
ومنذ انتشا لم يضع له زمان، ولا ظفر الفراغ منه بأمان، أخذنا من فوائده الجليلة وفرائده الجميله، وأضحت دمشق بعده من فنه دمنةً والعيون كليله:
أطل على الأخبار من كل وجهة ... وشارفها من كل شرق ومغرب
وأضر قبل موته بسنوات، وحصل للناس بذلك في تلك الحال هفوات.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الذهبي وقد ذهب، ونهب الأجل من عمره ما وهب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر.
ومولده سألته عنه فقال: في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وقلت أنا أرثيه:
لما قضى شيخنا وعالمنا ... ومات فن التاريخ والنسب
قلت عجيب وحق ذا عجب ... كيف تخطى البلى إلى الذهب
وقلت فيه أيضاً:
أشمس الدين غبت وكل شمس ... تغيب وزال عنا ظل فضلك
وكم ورخت أنت وفاة شخص ... وما ورخت قط وفاة مثلك
وارتحل وسمع بدمشق وبعلبك وحمص وحماة وطرابلس ونابلس والرملة وبلبيس والقاهرة والإسكندرية والحجاز والقدس وغيرها.
سمع بدمشق من عمر بن القواس وغيره، وببعلبك من عبد الخالق بن علوان وغيره. وبالقاهرة من الحافظين ابن الظاهري والشيخ شرف الدين الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن أبي المعالي الأبرقوهي. وسمع بالإسكندرية من الغرافي وغيره.
وسمع بمكة من التوزري وغيره، وسمع بنابلس من العماد بن بدران، وباشر تدريس الحديث بالتربة الصالحية بدمشق عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الشريشي.
أخبرني شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة قال: عدته ليلة مات، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: في السياق.
وكان قد أضر قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأن بصري لا زال ينقص قليلاً قليلاً إلى أن تكامل عدمه.
اجتمعت بع غير مرة، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه. ولم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة والسلف وأرباب المقالات.
وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواية وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده.
ومن تصانيفه " تاريخ الإسلام " ، وقد قرأت عليه منه المغازي والسيرة النبوية إلى آخر أيام الحسن، وجميع الحوادث إلى آخر سنة سبع مئة. وكانت القراءة في أصله بخطه، و " تاريخ النبلاء " ، ونقل عني فيه أشياء، و " الدول الإسلامية " و " طبقات القراء " سماه: " معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار " ، تناولته منه، وأجازني روايته عنه، وكتبت أنا عليه:
عليك بهذه الطبقات فاصعد ... إليها بالثنا إن كنت راقي
تجدها سبعةً من بعد عشر ... كنظم الدر في حسن اتساقي
تجلي عنك ظلمة كل جهل ... به أضحى مقالك في وثاق
فنور الشمس أحسن ما تراه ... إذا ما لاح في السبع الطباق
و " طبقات الحفاظ " مجلدان، " ميزان الاعتدال في الرجال " في ثلاث أسفار، كتاب " المشتبه في الأسماء والأنساب " ، " نبأ الدجال " مجلد، " تذهيب التهذيب " ، " اختصار تهذيب الكمال " للحافظ شيخنا المزي، اختصار كتاب " الأطراف " أيضاً للمزي، " الكاشف " ، " اختصار التذهيب " ، " اختصار السنن الكبير " للبيهقي، تنقيح أحاديث " التعليق " لابن الجوزي، " المستحلى في اختصار المحلى " ، المقتنى في الكنى " ، " المغني في الضعفاء " ، " العبر في خبر من غبر " ، مجلدان، " اختصار المستدرك " للحاكم، " اختصار ابن عساكر " في عشرة أسفار، " اختصار تاريخ الخطيب " مجلدان، وملكتهما بخطه، " اختصار تاريخ نيسابور " مجلد، " الكبائر " جزءان، " تحريم الأدبار " جزءان، " أخبار السد " ، " أحاديث مختصر ابن الحاجب " ملكته بخطه، " توقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق " ، " نعم السمر في سيرة عمر " ، " التبيان في مناقب عثمان " ، " فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب " ، قرأتهعليه كاملاً، " معجم أشياخه " ، وهم ألف وثلاث مئة شيخ، وملكته بخطه، " اختصار كتاب الجهاد " لبهاء الدين بن عساكر، " ما بعد الموت " مجلد، " اختصار كتاب القدر " للبيهقي ثلاث مجلدات، " هالة البدر في عدد أهل بدر " ، " اختصار تقويم البلدان " لصاحب حماة، " نفض الجعبة في أخبار شعبة " ، " قض نهارك في أخبار ابن المبارك " ، " أخبار أبي مسلم الخراساني " ، وله في تراجم الأعيان في كل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمة الأربعة، ومن جرى مجراهم، ولكنه أدخل الكل في " النبلاء " ، ومن تكلم فيه، وهو موثق كتبته من خطه، وقرأته عليه، و " الثلاثين البلدية " كتبتها من خطه، وقرأتها عليه.
وكتب بخطه من الأجزاء شيئاً كثيراً، وملكت منها جملة.
أنشدني من لفظه لنفسه، وجود ما شاء:
إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعاً لوفاة مثلي
فما جازى بإحسان لأني ... أريد حياته ويريد قتلي
فنظمت أنا وأنشدته:
خليلك ما له في ذا مراد ... فدم كالشمس في عليا محل
وحظي أن تعيش مدى الليالي ... وأنك لا تمل وأنت تملي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تولى شبابي كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى
ومن عاين المنحنى والنقا ... فما بعد هذين إلا المصلى
قلت: الشيخ رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول الأول:
ألا يا سارياً في بطن قفر ... ليقطع في الفلا وعراً وسهلا
قطعت نقا المشيب وبنت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى
قلت: ولكن شيخنا العلامة رحمه الله تعالى زاد عليه المنحنى، وهي زيادة مليحة، زيادة من له ذوق، ولو كان لي في قوله حكم لقلت: " ومن وصل المنحنى والنقا " وهو أحسن، وكذا في قول الأول لكان في حكم لقلت: " ليقطع في المدى " .
وكتب شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى إلى شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولعله آخر شعر نظمه:
تقي الدين يا قاضي الممالك ... ومن نحن العبيد وأنت مالك
بلغت المجد في دين ودنيا ... ونلت من العلو مدى كمالك
ففي الأحكام أقضانا علي ... وفي الخدام مع أنس بن مالك
وكابن معين في حفظ ونقد ... وفي الفتوى كسفيان ومالك
وفخر الدين في جدل وبحث ... وفي النحو المبرد وابن مالك
تشفع بي أناس في فراء ... لتكسوهم ولو من رأس مالك
لتعطى في اليمين كتاب خير ... ولا تعطى كتابك في شمالك
ثم إنه استطرد إلى مديح ولده قاضي القضاة تاج الدين، فقال بعد ذلك:
والمذهبي إدلال الموالي ... على المولى لحلمك واحتمالك
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لو أن سفيان على حفظه ... في بعض همي نسي الماضي
نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا ... في غربتي والشيخ والقاضي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
العلم: قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالةً ... بين الرسول وبين رأي فقيه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أفق يا معنى بجمع الحطام ... ودرس الكلام ومين يصاغ
ولازم تلاوة خير الكلام ... وجانب أناساً عن الحق زاغوا
ولا تخدعن عن صحيح الحدي ... ث فما في محق لرأي مساغ
وما للتقي وللبحث في ... علوم الأوائل يوماً فراغ
بلاغاً من الله فاسمع وعش ... قنوعاً فما العيش إلا بلاغ
ولما توفي شيخنا علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - تولى الشيخ شمس الدين - رحمه الله تعالى - تدريس المدرسة النفيسية وإمامتها عوضاً عنه، فكتبت له توقيعاً بذلك، وهو: " رسم بالأمر العالي لا زالت أوامره المطاعة تطلع في أفق المدارس شمسا، وتذيل بمن توليه عن المشكلات لبسا، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الشمس في كذا وكذا، علماً بأنه علامة، وحافظ متى أطلق هذا الوصف كان علماً عليه وعلامة، ومتبحر أشبه البحر إطلاعه والدر كلامه، ومترجم رفع لمن ذكره في تاريخ الإسلام أعلامه، فالبخاري طاب أرج ثنائه عليه، ومسلم أول مؤمن بأن هذا الفن انتهى إليه. وأبو داود يحمد آثاره في سلوك سنن السنن، والترمذي يخال أنه فداه بنور ناظره من آفات دار الفتن، والنسائي لو نسأ الله في أجله لرأى منه عجبا. وابن ماجه لو عاين ما جاء به ماج له طربا.
فليباشر ما فوض إليه مباشرة تليق بمحاسنه وتدل طالبي السواد على مظانه وأماكنه، ويبين لهم طرق الرواية. فالفقه حلة وعلم الحديث علمها وطرازها، والرواية حقيقة، ومعرفة الرجال مجازها، ويتكلم على الأسانيد، ففي بعض الطرق ظلم وظلام، ويورد ما عنده كامن الجرح والتعديل إن بعض الكلام فيه كلام، ويوضح أحوال الرواة الذين سلفوا فليس ذاك بعيب. وما لجرح بميت إيلام، ويتم بما أطلع عليه من تدليسهم فما أحسن روضةً هو فيها تمام، ويسرد تراجم من مضى من القرون التي انقضت " فكأنها وكأنهم أحلام " ، ويحرص على اتصال السند بالسماع ليكون له من الورق والمدار " رصدان ضوء الصبح والإظلام " . ولا يدع لفظة يوهم إشكالها، " فالشمس تمحو حندس الأوهام " .
حتى يقول الناس إن شعبةً منك شعبه، وأبا زرعة لم يترك عنده من الفضل حبه، وابن حزم ترك الحزم وما تنبه، وابن عساكر توجس منك رغبه، وابن الجوزي عدم لبه وأكل الحسد قلبه. ولا تغفل عن إلزام الطلبة بالتكرار على المتون الصحيحة دون السقيمة فيما يستوي الطيب والخبيث. وذكرهم بقوله عليه الصلاة والسلام: " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً " ، وإن كان الحفظ بمعنى الجمع فالعمل بظاهر الحديث، فأنت ذو الصفات التي اشتهرت، والفضائل التي بهرت، والدربة التي اقتدرت على هذا الفن ومهرت، والفوائد التي ملأت الأمصار وظهرت، والحجج التي غلبت الخصوم وقهرت.
لم تضع وقتاً من زمانك إما أن تسمع أو تلقي أو تنتقي، وإما أن تجتهد في نصرة مذهب الشافعي حتى كأنك البيهقي، وإما أن يصنف ما يود بقي بن مخلد لو عاش له وبقي.
وأنت أدرى بشروط الواقف رحمه الله تعالى، فارعها وابتع أصلها وفرعها، وأهد الدعاء له عقيب الميعاد، وأشركه مع المسلمين في ذلك فآثار الرحمة تلمع على هذا السواد، واذكر من تقدمك فيها بخير ففضله الباهر كان مشهورا، واسأل له من الله الجنة ليسرك يوم القيامة أن تراه علماً منشورا.
والوصايا كثيرة، ومثلك لا ينبه، ولا يقاس بغيره ولا يشبه، وملاك الأمور تقوى الله تعالى، وقد سلكت منها المحجه، وملكت بها الحجة، فلا تعطل منها جيدك الحالي، وارو ما عندك فيها فسندك فيها عالي، والله يمدك بالإعانة، ويوفقك للإنابة والإبانة، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عثمانابن إبراهيم بن عدلان بن محمود بن لاحق بن داود، الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله الكناني المصري الشافعي، المعروف بابن عدلان.
سمع من العز بن الصقيل الحراني، ومن النظام محمد بن الحسين بن الخليلي، مشيخة عمر بن طبرزد تخريج ابن الدبيثي بإجازتهما منه، ومن محمد بن إبراهيم بن ترجم، ومن الدمياطي أخيراً. وأجاز له عبد الله بن الواحد بن علاق، وعبد الرحيم بن خطيب المزة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني، وغيرهم.
وتفقه على الشيخ وجيه الدين البهنسي. وقرأ في الأصول على الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني شارح " المحصول " . وقرأ " المفصل " على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وكان قد قرأ القرآن على الصفي خليل بن أبي بكر المراغي.
وكان في الفقه بارعاً، وإلى استحضار الفروع ونقلها مسارعاً. لو عاصره المزني غرق قطره في بحره، أو الماوردي لاستطاب نفحة ذكره، أو الغزالي لسدى تحت طاقه، أو القاضي أبو الطيب لقضى أن المرارة ساعة فراقه.
شرح " مختصر المزني " وما أظنه كمله، ولو أتمه طرز به المذهب وجمله، إلا أنه مع عظم قدره، وسمو بدره، كان الملك الناصر يكرهه، ويصده بالكلام المؤلم ويجبهه، لأنه أفتى الجاشنكير في تلك المرة بما أفتاه من خلعه، وكان ذلك سبباً إلى صرم ثمره، وشرط طلعه.
ولم يزل إلى أن تسجى، وعد فيما لا يرجى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بين العيدين في سنة تسع وأربعين في طاعون القاهرة.
ومولده سنة نيف وستين وست مئة.
قال القاضي تاج الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي: أفتى ابن عدلان في واقف وقف مدرسة على الفقهاء ومدرس ومعيد وجماعة عينهم، قال: ومن شروط المذكورين أن لا يشتغلوا بمدرسة أخرى غير هذه المدرسة ولا يكون لواحد منهم تعلق بمدرسة أخرى ولا مباشرة تجارة ولا بزازة يعرف بها غير تجارة الكتب، ولا ولاية بأنه يجوز للمقرر في هذه المدرسة الجمع بينهما وبين إمامة مسجد قريب منها، ووافقه شيخ الحنفية في زمانه قاضي القضاة بالديار المصرية علاء الدين علي بن عثمان المارديني رحمه الله تعالى، وهذا فيه نظر؛ لنص الشافعي على أن الإمامة ولاية حيث يقول ولا أكره الإمامة إلا من جهة أنها ولاية، وأنا أكره سائر الولايات.
قال: ومن محاسن ابن عدلان أنه سئل أيهما أفضل أبو بكر أو علي في مكان لا يمكنه التصريح بمذهب أهل السنة، فقال: علي أفضل القرابة وأبو بكر أفضل الصحابة.
قلت أنا: جواب حسن، لكنه لا يرضي السائل من كل وجه، لأن علياً رضي الله عنه من الصحابة، وأحسن ما مر بي في ذلك قول ابن الجوزي وقد سئل من أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ومماليك الخليفة واقفون فرقتين، فقال: من كانت ابنته تحته. فقالت كل فرقة قال بتفضيل من ذهبنا إليه، وتركهم في الخصام، ونزل عن المنبر حتى لا يستفسروه في الضمير إلى من يعود، وهذا في غاية الحسن، لأنها عبارة أوهمت كل فرقة نصرة مذهبها.
قلت: وتوجه الشيخ شمس الدين رسولاً إلى اليمن في أيام سلار والجاشنكير، وباشر الوكالة لأمير موسى بن الصالح علي بن الملك المنصور، وهذه أيضاً من أسباب الجاشنكير، فنقم السلطان عليه هذا الأمر، وبقي إلى آخر أيامه، وهو عنده ممقوت. قرأ له في وقت القاضي شهاب الدين بن فضل الله قصةً على السلطان، فقال: قل له: الذين كانوا يعرفونك ماتوا، ثم إنه - رحمه الله تعالى - ولي قضاء العسكر في أيام الناصر أحمد لما حضر من الكرك إلى أن مات ودرس بعدة مدارس، وأفتى وولي نيابة القضاء للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الإسعرديالشيخ الإمام أبو عبد الله شمس الدين لمعروف بابن اللبان الدمشقي.
سمع بدمشق من أبي حفص عمر بن عبد المنعم بن القواس، وانجفل إلى مصر، وسمع بها من الدمياطي، ومن عبد الرحمن بن عبد القوي بن عبد الحكيم الخثعمي رطهرمس من الجيزية، وحدث بالديار المصرية، وسمع منه الطلبة، وخرج له شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي جزءاً من حديثه، وتفقه وبرع وأخذ في الإشغال وشرع، ولم يترك ابن اللبان لغيره في الفقه زبدة.
وروى الحديث، وكان لحلاوة روايته كأنما أسند عن شهدة، ودرس بزاوية الشافعي في جامع عمرو بن العاص، وعقد مجالس الوعظ، فاشتمل عليه العام والخاص، واشتهر ولا شهرة ابن الجوزي في بغداد، وطارت سمعته كأنه ابن سمعون الأستاذ.
ولم يزل على حاله إلى أن نقل ابن اللبان إلى الجبانه، وراح بفقره إلى الغني سبحانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
ومولده في حدود سنة خمس وثمانين وست مئة.
وكان قد قام عليه في وقت قاضي القضاة القزويني بالديار المصرية، وربما أنه كفره في سنة ست ثلاثين وسبع مئة وقام في أمره القاضي شهاب الدين بن فضل الله وناصر الدين خزندار الأمير سيف الدين تنكز وغيرهما من أصحابه فسكت عنه وعمل في ذلك كمال الدين الأدفوي مقامةً.
محمد بن أحمد بن عليالإمام المفتي شيخ القراء شمس الدين أبو عبد الله الرقي.
سمع الحديث ورافق الطلبة، ودار على المشايخ، وتميز في الفقه والقراءات وغير ذلك. وتلا بالسبع على الفاروثي وابن مزهر وغيرهما.
وأقرأ ودرس وأفتى، وروى الكثير عن ابن البخاري وطبقته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة سبع وستين وست مئة.
محمد بن أحمدالإمام المفتي الشيخ بدر الدين بن الحبال الحنبلي، فاضل الحنابلة في عصره.
سألت عنه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، فقال لي: فقيه فاضل، كان ينوب للقاضي تقي الدين الحنبلي.
توفي - رحمه الله تعالى - في سلخ ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
محمد بن أحمد بن شويشالفيه نجم الدين محتسب قلعة الجبل بالقاهرة الحنفي.
كان كثير التلاوة، وفيه مروءة وخير.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن شوال سنة ثلاثين وسبع مئة.
محمد بن أحمد بن عبد الرحيمالإمام شمس الدين أبو عبد الله المزي الموقت بالجامع الأموي بدمشق.
كان قد حفظ " الشاطبيه " ، وينقل القراءات، وعلى ذهنه عربيه، برع في وضع الإسطرلابات والأرباع، وتأنق فيها ودقق من حسن الرسوم والأوضاع، لم يلحقه أحد في زمانه في ذلك، ولم يسلك طريقه فيه سالك، وكان على ذهنه شيء من حيل بني موسى، ولديه صنائع لو يعيش بها لم يلق بوسا، قل أن رأيت مثله في ذكائه أو وصل أحد فيما يعانيه إلى مدى اعتنائه.
ولم يزل على حاله إلى أن ذاق المزي طعم الموت خلا، وترك أقرانه على إثره وولى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة خمسين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين فما فوقها.
قرأ أولاً على الشيخ شمس الدين الأكفاني، وكان يشكر ذهنه وإتقانه لما يعلمه بيده، ثم انتقل عائداً إلى الشام، وسكن دمشق، وكان أولاً يوقت بالربوة، ثم انتقل إلى الجامع، وكان قد برع في وضع الاسطرلابات والربع، ولم أر أحسن من أوضاعه، ولا أظرف ولا أتقن ولا أكثر تحريراً، كان يباع اسطرلابه في حياته بمئتي درهم، وربعه بخمسين درهماً وأكثر، ولعله إذا تقادم زمانه غلا أكثر من ذلك. وبرع في دهن القسي، ومن ملازمته للشمس نزل في عينيه ماء، ثم أنه قدحه فأبصر بالواحدة، وله رسائل في الإسطرلاب ورسالة سماها " كشف الريب في العمل بالجيب " ، وله نظم أيضاً.
محمد بن أحمد بن يمنقاضي القضاة شمس الدين الحنفي الحاكم بطرابلس.
هو أول من ولي قضاء الحنفية بطرابلس بعد السلطان الملك الناصر محمد. ولم يكن فيها في أيامه إلا حاكم واحد شافعي، وصل إليها في غالب ظني إما في أوائل سنة أربع وأربعين وسبع مئة، أو في أواخر سنة ثلاثين وأربعين.
ولم يزل على حاله إلى أن وجد في بيته مذبوحاً بطرابلس، وقد أخذ ما في بيته من المال، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبع مئة رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عمر بن إلياسالصدر عز الدين ابن العدل شهاب الدين الرهاوي.
شاب بلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، وكان كاتباً جيداً، باشر استيفاء الأوقاف وغير ذلك، وكانت له خصوصية بالصاحب أمين الدين، فلما أمسك الصاحب بمصر، اعتقل عز الدين بالمدرسة العذراوية.
وتوفي بها في تاسع عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
محمد بن أحمد بن مفضلابن فضل الله المصري القاضي الرئيس علم الدين بن قطب الدين. تقدم ذكر والده في الأحمدين.
وكان هذا علم الدين أخيراً ناظر الجيوش المنصورة بدمشق، وكان في نفسه رئيساً، قضى عمره في نعمى عجيبة، إلا أنها ما خلت من بوسى، يتأنق في المأكل والملابس. ويتخرق بالتجمل والمجالس، بنفس يتدفق بحرها، ويتألق وفرها، يبالغ في إكرام من يعاشره، ويهش لوفادته عليه ويكاشره. قد اشتهر بالتوسع في الأطعمة والمشارب، والتنقل في النزه والمسارب، قل من رئي في دمشق من يدانيه في سماطه، أو تنخرط لآلئ حشمته في أسماطه.
من تعاطى تشبهاً بك أعيا ... ه ومن دل في طريقك ضلا
وكانت مساعيه دقيقه، ومجازاته في المناصب الكبار حقيقه، وثب من الثرى إلى الثريا، وطوى شقة المشقة طيا، وتنقل في الوظائف الكبار، وتوقل هضبات المجد من غير اعتناء ولا اعتبار، كأن له غصن الرياسة يجنى ويهتصر، أو كأن له طريقاً إلى العلياء تختصر.
ولم يزل في سعاداته، وما ألفه في اللذات من عاداته، إلى أن دك علمه، وفك من التصرفات قلمه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة نهار الاثنين ثاني جمادى الأولى سنة ستين وسبع مئة. ودفن في تربة بني هلال بالصالحية.
كان هذا القاضي علم الدين من بقايا رؤساء دمشق، رأى الناس وصحبهم وعاشرهم وخالطهم.
وكان جميل الصورة، أنيق الشكل، مديد القامة، حسن البزة، نظيف اللباس، عاطر الرائحة، يتجمل في الملابس، ويتأنق في المآكل، ويتوسع في المطاعم والمشارب، يمد في كل يوم من الطعام ألواناً، وينفق على مخالطيه المال مجاناً.
أول ما علمته من أمره أنه كان في خدمة عمه القاضي محيي الدين كاتب قبجق، وسيأتي ذكره في مكانه، وكان يميل إليه ويركن إلى تربيته له دون والده قطب الدين، وكان يتوجه معه إلى قسم النواحي، وينوبه في ديوان الأمير سيف الدين تنكز. ولما توفي قطب الدين رتب هو مكان والده في عمالة خانقاه الشميساطي.
ثم إنه بعد ذلك بمدة رتبة الأمير سيف الدين تنكز في استيفاء ديوانه، وأضاف إليه عمالة الأشراف، وفي ديوان الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، وكان مداخلاً سؤوساً، خبيراً بالمساعي عارفاً بالتوصل درباً بالتوسل، فداخل حمزة التركماني، وقد انفرد بالأمير سيف تنكز، وقد احتوى عليه، وكان يشكره للأمير سيف الدين تنكز ويرشحه عنده لكل وظيفة، ويستكتبه عنه في مكاتبات خاصة ما يرى أن كاتب السر يطلع عليها فيأتي فيها بالمراد فيعجبه ذلك. ولم يزل به إلى أن أحسن له أن يوليه كتابة سر دمشق، فكتب فيه إلى السلطان وشكره وبالغ في أمره، فأجابه الملك الناصر محمد إلى ذلك، وجهز توقيعه بكتابة السر بدمشق في سنة ست وثلاثين وسبع مئة ثاني شعبان المكرم، وكان قد باشرها في هذا اليوم قبل وصول توقيعه الشريف، ووصل التوقيع والتشريف من مصر في حادي عشري الشهر المذكور. وتولاها عوضاً عن القاضي جمال الدين عبد الله بن الأثير، فوليها وعملها على القالب الجائر. وخضع الناس له، وتمكن من قلب الأمير سيف تنكز، وكان يعجبه شكله وكتابته وتأنيه. إلى أن لم يكن عنده في دمشق غيره، وسلم قياده إليه، وتوجه معه إلى مصر، وشكره للسلطان، وبالغ في وصفه، فعظمه السلطان وألبسه تشريفاً بطرحة ولم يكن ذلك لغيره، وحضر بريد من الشام، فدخل به القاضي شهاب الدين بن فضل الله ليقرأه، فطلب السلطان علم الدين هذا، وقرأه عليه، فما حمل القاضي شهاب الدين ذلك، وجرى له مع السلطان ما جرى، وقدم الدواة الأمير سيف الدين تنكز لعلم الدين هذا بين يدي السلطان، فزادت عظمته عند الناس.
ولم يزل كذلك وهو في أوج سعده إلى أن تغير عليه في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فقبض عليه وضربه بالعصي ضرباً مبرحاً، واحتاط على موجوده، واعتقله مدة، ثم أفرج عنه وأمر أنه لا يخرج من داره، ولا يجتمع بأحد، فسكن عند حمام السلاري، وكان ليله ونهاره في تربة الكاملية المجاورة للجامع الأموي، وأقام على ذلك مدة إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز. فقال السلطان للأمير بشتاك: إذا وصلت إلى دمشق، اطلب العلم بن القطب الذي كان مستوفي تنكز، فهو يدلك على جميع ماله.
ولما وصل بشتاك إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، طلب القاضي علم الدين واستعان به على تطلب أموال تنكز، وتحكم علم الدين في تركة تنكز، وأخذ منها غالب ما وجده فيها من الأصناف التي أخذت منه، ودخل في الأمير بشتاك وخدمه، ودخل معه إلى مصر، فعينه السلطان لاستيفاء الصحبة بالديار المصرية، وأراد السلطان أن يمكنه ويتسلط على الكتاب، فأداه عقله إلى مصاحبة جمال الكفاة، ومن كان في ذلك الزمان، وداخلهم واتحد بهم، وصافوه.
ويئس السلطان منه فتركه ولم يزل في استيفاء الصحبة إلى أن توفي السلطان، ودخل الفخري وطشتمر إلى القاهرة، فسعى معهما في أن يكون ناظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب علاء الدين بن الحراني، فوصل إلى دمشق وباشر بها الوزارة، ولكنه تعب فيها تعباً كثيراً، فاستوخم مرعاها، وطلب النقلة من الأمير طقزتمر إلى نظر الجيوش بدمشق، فكتب له، فأجيب إلى ذلك، وحضر توقيعه، فباشر ذلك عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف، فحمد مسراه عند صباح هذه المباشرة، ورأى فيها ما رآه غيره، ودانت له الأيام، وطال عمره فيها، وطاب عرفه.
وكان كثير الهدية للمصريين والخدمة لهم، وما جاءت دولة إلا وهو فيها عزيز مكرم لا يبالي بمن ناواه، ولا يعبأ بمن جاراه، يقهر خصومه ولا يدرون سره ولا مكتومه، وباشر هذه الوظائف الثلاث التي هي أكبر مناصب دمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض بعلة الربو، فأقام على ذلك قريباً من خمسين يوماً، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وكان يعتريه وجع المفاصل في كل سنة فأنهكه ذلك، وهرم به وانحنت قامته وضعف.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بعمالة ديوان الأشراف بدمشق في شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة وهو: " رسم بالأمر العالي، لا زال يتلقى برفع علمه، ويكسب المناصب فخراً بمن يوليه لكفاية هممه أن يرتب المجلس السامي القضائي علم الدين في كذا،ثقةً بكفايته التي شهدت بها مخائله، ودلت عليها حركاته السعيدة وشمائله، وتكفلت حركاته المباركة أن تبلغه من العليا ما يحاوله، إذ هو الكاتب الذي أضحت نظراؤه في المعدوم معدوده، والبارع الذي مخزومة فضله لا تبيت إلا وهي بالمحاسن مسدوده، والماجد الذي خرج سيادته عن سلفه، فكانت أبواب النقص فيها مردودة. أقلامه في كفه أنابيب يضمها منه خير عامل، وأعنة يصرفها في السيادة بأطراف الأنامل. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً يطلب بها من الله رضاه، ويدخر عمله فيها عنده، فيا حبذا ما يعتمده ويتوخاه، ويحمل لواء الشرف لهذا الديوان، تولى خدمته وتوالاه، وينفق في الفضل من سعة مجده فقد كفاه ما نالته منه كفاه، ويثق بالسعادة التي أظفرته حتى ببركة آل البيت، ويشكر الله على هذه النعمة التي أدخلته في حساب حسبهم الذي هو شرف الحي والميت، مجتهداً على رضا السادة الأشراف بإيصال كل منهم ما يخصه، على اختلاف القسمة، محققاً معرفة بيوتهم الشريفة التي بقاؤها ما بين هذه الأمة نعمه، وتقوى الله تعالى معقل حصين، فلا يلتجئ إلى غيره، وحبل متين فلا يتمسك بغير عروته التي هي سبب خيره، وليقابل هذه النعمة بشكر يوصله إلى ما تستحقه أهليته في ذمتها، وتبلغه الرتب العلية التي لا تنالها النفوس إلا بشرف همتها، والله يتولى عونه فيما ولاه، ويزيده فضلاً إلى فضله الذي أولاه، والاعتماد فيما رسم به على الخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إليه من القاهرة وهو بدمشق:
من جود كفيك تخجل الديم ... ومن محياك تنجلي الظلم
يا من سما وارتقى وطال علاً ... حتى غدا وهو في الورى علم
ومن صفت للورى مكارمه ... وساعدتها الأخلاق والشيم
ومن إذا خط طرسه خجلت ... منه رياض بالزهر تبتسم
ومن إذا فاه بالكلام فما ... تراه إلا العقود تنتظم
لست أطيل الكلام في صفة ... ترضى بها في علوك الكلم
مثلك والله ما رأيت ولا ... يصلح إلا لمثلك الكرم
عندي من الشوق والتطلع ما ... يعجز عن بعض وصفه القلم
أوحشني وجهك الجميل فلم ... يلذ من بعده لي الحلم
فالقلب من لوعة ومن حرق ... مضطرب دائماً ومضطرم
والعين أفنى البكاء مدامعها ... فسال منها بعد الدموع دم
والله ما سار في الطريق معي ... بعدك إلا البكاء والندم
فليتني لا أطعت فيك نوىً ... ولا سعت لي الفرقة قدم
وكتبت إليه من مصر أهنئه بكتابة السر بدمشق:
قد علمنا هذا الهناء الذي ... حديثه عند العلا مسند
وهو من الأقلام والنفس قد ... حققه الأحمر والأسود
يا سيداً كم لمساعيه من ... فضل بإبلاغ العلا يشهد
نوديت مرفوعاً إلى رتبةٍ ... إذ أنت فيها علم مفرد
محمد بن أحمد بن محمدالقاضي الرئيس أمين الدين بن القلانسي التميمي، كاتب السر الشريف بدمشق.
تقدم نسبه في ترجمة والده القاضي جمال الدين في الأحمدين.
باشر وكالة بيت المال، ثم انتقل إلى كتابة السر في آخر الحال، وما لبث في ذلك إلا دون الثلاث سنين أو ما يزيد، وعزل منها عزلاً غير حميد.
وله الأملاك التي تكاثر الأفلاك وتفاخر الدر المنظم في الأسلاك من البساتين المونقه، والأراضي التي تمسي النواظر إلى حدائقها محدقه، والقاعات التي تبهت العيون في زخرفها، وتجتلي محاسن ما رأتها صواحب المكر من يوسفها، وحوانيت لكل آجرة منه أجره، وفي كل ذرة منها لولا الغلو لقلت درة، ومن ذلك ما جره الإرث إليه، ومن ذلك ما أنشأه بما لديه ولكنه " ما أغنى عنه ماله " ولا كثرة ملكه ولا باطن الأرض لمواراته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده فيما أظن في سنة إحدى وسبع مئة.
وله إجازةً من الحافظ شرف الدين الدمياطي وجماعة. وحدث عن ابن مكتوم، وعن عيسى المطعم وغيرهم.
وكان قد دخل إلى الديوان في حياة والده، واختص بالقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود لما كان كاتب السر بدمشق، ولما مات والده أعطي من وظائفه نظر الظاهرية وتدريس العصرونية، ووقع في الدست في أواخر أيام تنكز. ولم يزل يسد الغيبة عن كتابة السر في غيبة من يغيب. وتولى بيت المال مدة. وأخذها منه القاضي علاء الدين الزرعي، فما لبث فيها شهرين فيما دونها، حتى أعيدت إليه. ولما أخذ الزرعي منه الوكالة عوضوه عن ذلك بقضاء العسكر، ولما أعيد إلى الوكالة لم يزل فيها إلى أن رسم له بكتابة السر في دمشق عوضاً عن القاضي ناصر الدين، وذلك في أوائل صفر سنة ستين وسبع مئة. وتوجه القاضي ناصر الدين إلى كتابة سر حلب عوضاً عني، وحضرت أنا إلى دمشق عوضاً عن القاضي أمين الدين على وظيفته وكالة بيت المال، وتوقيع الدست.
ولم يزل في كتابة السر إلى أن حضر السلطان الملك المنصور وصلاح الدين محمد بن حاجي في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر، فعزل منها بالقاضي ناصر الدين، ورسم عليه، وأخذ منه مبلغ مئة وخمسين ألف درهم وأكثر، فوزنها، وأباع ما بيده من الوظائف وغيرها، وطرح الرياسة، وصار يمشي بلا كلفة في ملبوس ولا غيره. ولم يبق على ذلك إلا دون السبعة أشهر حتى انقطع يومين.
وتوفي - رحمه الله - في التاريخ المذكور. ولم تبق معه مدرسة ولا تصدير في الجامع الأموي، غير أنطار يسيرة نزل عنها لولده، ودفن في تربتهم عند حمام النحاس.
وبلغني أنه كان له أربعة جباة لأملاكه. ومن الغريب أنه هو وأبوه وعماه وجدهم كل منهم ما تعدى الاثنتين وستين سنة، وكان دائماً يقول: أنا ما أعدي أعمار أهلي، فكان الأمر كما قال.
وكان - رحمه الله - خاتمة رؤساء بيته.
وكان قد قرأ على شيخنا العلامة شهاب الدين أبي الثناء محمود كتابه " حسن التوسل " وكتابه " منح المدح " وغير ذلك.
محمد بن أحمدالشيخ الإمام ناصر الدين الحنفي المعروف بالربوة، بضم الراء وسكون الباء الموحدة وبعد الواو المفتوحة هاء.
كان من فضلاء الحنفية. وكان بيده تدريس المقدمية داخل باب الفراديس بدمشق، ونزل عنها لولده، واشتغل هو بخطابة جامع الأمير سيف الدين يلبغا - رحمه الله - بعد منازعات ومخاصمات.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة.
وتولي مكانه في الخطابة قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي.
وكان الشيخ ناصر الدين المذكور يعرف بالقونوي.
محمد بن إدريس بن محمدالشيخ الإمام الفاضل نجم الدين القمولي، بفتح القاف وضم الميم وسكون الواو وبعدها لام.
كان من الفقهاء النبلاء والأعيان الفضلاء، يكاد يستحضر " الروضة " ، ويترع من سردها حوضه، وينقل من شرح مسلم كثيراً، ويكر على شرحه مغيراً، ويفعل كذلك في " وجيز " الواحدي في التفسير، ويأتي على ما فيه من تقرير فوائده بأحسن تقريب وتقرير، ويده في العربية والأصول طولى، وإذا تكلم في الفرائض والجبر والمقابلة بلغ المطالب مراماً وسولا.
ولم يزل على حاله إلى أن التقم القمولي قبره، وطاب خبره، وعدم خبره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص في جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: كان لا يستغيب أصلا، ولا يستغاب بحضرته، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وملازماً للعبادة والإشغال، متقللاً من الدنيا، قليل النظر، وأظنه لو عاش ملأ الأرض علماًً.
حج وزار وعاد، فتوفي في قوص رحمه الله تعالى.
محمد بن أرغون بن أبغا
ابن هولاكو بن تولي بن جنكز خان المغلي، القان غياث الدين خدابندا، معناه بالعربي عبد الله وإنما الناس غيروه فقالوا خربندا، صاحب العراق وأذربيجان وخراسان.
ملك بعد أخيه غازان، وتقدم ذكره، وكانت دولته ثلاث عشرة سنة.
كان شاباً مليحاً، حسن الوجه صبيحاً، لكن شانه العور قليلاً، وما شان ذلك من حاز وجهاً جميلا.
وكان جواداً لا يلحقه في حلبة الكرم جواد، سمحاً تمحو أياديه البيض ما في الدياجي من السواد، محباً للعماره، معرضاً عما يتعلق بالمملكة والإمارة، قد استغرق في اللعب، وأعرض عما يجده الجاد التعب، لعب بعقله الروافض فرفضوه، وأجابهم إلى ذلك لما دعوه إلى الضلالة وفاوضوه.
فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل
ولم يزل في عيشه لا يرد فيضه، إلى أن فارق الحياة بهيضه.
وتوفي في شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بسلطانية. وسلطانية بلده أنشأها ورسم بعمارتها، وتوفي بقوص من أبناء الأربعين.
وكان قد حضر إلى الرحبة، وحاضرها في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وأخذها بالأمان، وعفا عن أهلها، ولم يسفك فيها دماً وبات بها، فما أصبح ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان المذكور، وترك لأهل الرحبة أشياء كثيرة من أثقال مجانيق وغيرها. وكان معه يومئذ قراسنقر والأفرام وسليمان بن مهنا، وذكرت في ترجمة جوبان ما اعتمده في أهل الرحبة من الخير في هذه الوقعة، وكان أهل الرحبة، قد حلفوا لخربندا، فلما ارتحل عنها، واستقر الأمر، التمس قاضيها، ونائبها وطائفة حلفت له من السلطان عزلهم فعزلهم لمكان اليمين من خربندا.
وكان مسلماً فما زال به الإمامية حتى رفضوه وغير شعار الخطبة، وأسقط منها ذكر الخلفاء سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصمم أهل باب الأزج عليه وخالفوه، فما أعجبه ذلك، وتنمر، ورسم بإباحة دمائهم وأموالهم، فعوجل بعد يومين بهيضة مزعجة، داواه فيها الرشيد بمسهل منظف فخارت قواه.
وكان قبل موته قد رجع عن التشيع، وقال بقول أهل السنة.
وفي رحيله عن الرحبة يقول علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت:
ما فر خربندا عن الرحبة ال ... عظمى إلى أوطانه شوقا
بل خاف من مالكها أنه ... يلبسه من سيفه طوقا
ولما تشيع السلطان خربندا قال جمال الدين إبراهيم بن الحسام المقدم ذكره يمدحه:
أهدي إلى ملك الملوك دعائي ... وأخصه بمدائحي وثنائي
وإذا الورى والوا ملوكاً غيره ... جهلاً ففيه عقيدتي وولائي
هذا خدابندا محمد الذي ... ساد الملوك بدولة غراء
ملك البسيطة والذي دانت له ... أكنافها طوعاً بغير غناء
أغنتك هيبتك التي أعطيتها ... عن صارم أو صعدة سمراء
ولقد لبست من الشجاعة حلةً ... تغنيك عن جيش ورفع لواء
ملأ البسيطة رحبةً ومهابةً ... فالناس بين مخافة ورجاء
من حوله عصب كآساد الشرى ... لا يرهبون الموت يوم لقاء
وإذا ركبت سرى أمامك للعدى ... رعب يقلقل أنفس الأعداء
ولقد نشرت العدل حتى إنه ... قد عم في الأموات والأحياء
فليهن ديناً، أنت تنصرملكه ... وطبيبه الداري بحسم الداء
نبهته بعد الخمول فأصبحت ... تعلو بهمته عن الجوزاء
وبسطت فيه بذكر آل محمد ... فوق المنابر ألسن الخطباء
وغدت دراهمك الشريفة نقشها ... باسم النبي وسيد الخلفاء
ونقشت أسماء الأئمة بعده ... أحسن بذاك النقش والأسماء
ولقد حفظت عن النبي وصيةً ... ورفعت قرباه على الغرباء
فابشر بها يوم المعاد ذخيرةً ... يجزيكها الرحمن خير جزاء
يابن الأكاسرة الملوك تقدموا ... وورثت ملكهم وكل علاء
ولما رجع عن الترفض وتسنن، وكتب على الدراهم والدنانير الشهادتين وأسماء الصحابة، قال بعض الشعراء في ذلك:
رأبت لخربندا اللعين دراهماً ... يشابهها في خفة الوزن عقله
عليها اسم خير المرسلين وصحبه ... لقد رابني هذا التسنن كله
محمد بن أرغونابن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون.
كان والده نائب الديار المصرية، وكافل الممالك، وتوجه مع والده لما توجه إلى حلب نائباً، وكان السلطان الملك الناصر محمد قد أمره بالديار المصرية طبلخاناه وأمر معه جماعة منهم الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام والأمير سيف الدين بيدمر البدري نائب حلب وغيرهما، وكان السلطان يحبه ويعظمه ويقربه.
وكان حسن الصورة، بديع الجمال، محاسنه للواصف غير محصورة، أخلاقه لطيفه، وحركاته ظريفة، أظن الشيخ أثير الدين أقرأه العربية، ودربه في النكت الأدبية، وله فيها أبيات نظمها غزلاً، وجودها عملاً، وكان يشكره ويوقره، وللمكارم يوفره:
أفعال من تلد الكرام كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم
كان يتأسى بأخلاق والده، ويتكسب من طارفه وتالده، وزاد عليها فبلغت بالإجادة، وأتى عليها والفرع فيه ما في الأصل وزيادة.
ولم يزل بحلب على حاله إلى أن كسف الموت شمسه، وأطبق على دره المكنون رمسه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة ثاني عشر شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن يوم السبت في تربة سودي خارج باب المقام.
محمد بن إسحاق بن محمدابن نصر بن صقر، شمس الدين الحلبي الحنبلي ناظر أوقاف حلب.
كان قد باشر نظر الأوقاف وبيده جهات، يلبس لبس الفقراء، وهمته همة الأمراء، يمدحه الشعراء ويجيزهم، وينفلهم عن غيرهم في العطاء ويميزهم، وفيه كرم وسماحه، وعلى محياه قبول وصباحه، وهو مقيم بالخانقاه، والعز والجاه، قد أقاما معه وما فارقاه. وحضر إلى دمشق صحبة قراسنقر فما لاقى بها ولا لاقت به، لمن بها من الكتبة، وكان إذ ضاق عطنه بها قال: ما يحملني إلا تلك الخرية.
وعاد إلى حلب وأحمد فيها المنقلب، وأقام بها إلى حلقت على ابن صقر من الموت عقابه الكاسر، ووقع بسياقه منها بين المخالب والمناسر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده بحلب ثالث عشري جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
كان يذكر أنه سمع من قرابته الضياء، ومن الحافظ يوسف بن خليل.
قال شيخنا البرزالي: وما وجدنا شيئاً من ذلك، وإنما روى عن النجيب عبد اللطيف، سمع منه بالقاهرة مشيخة بن كليب، انتهى.
قلت: وقد رأيته بحلب غير مرة في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وهو شيخ أبيض، أحمر الوجه، نقي الشيب، نظيف الثياب، ورأيت الحلبيين يشكون في شهاداته، وإنما كان فيه كرم وقيام بحقوق الواردين إلى حلب.
وممن امتدحه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة، وأنشدني من لفظه لنفسه:
.................... ... والله لولا شمسها المجتبى
لم يلق راجي حلب زبدةً ... ولم يصادف لبناً طيبا
وأنشدني:
حمى الله شمس المكرمات من الأذى ... ولا نظرت عيناي يوم مغيبه
لقد أبقت الأيام منه لأهلها ... بقية صافي المزن غير مشوبه
كأن سجاياه اللطيفة قهوة ... حباب حمياها بياض مشيبه
وبلغني أنه كان يأخذ القصيدة من شاعرها، ويكتب في قفاها تاريخ إيصالها إليه، ويذكر الجائزة ما هي، ويدعها عنده. فإذا تقدم ذلك الشاعر في الزمان أو صارت له صورة في الدولة، أحضر للناس تلك القصيدة، وقال: هذه أتى بها إلي في الوقت الفلاني، وأجزته عليها بكذا، فعل ذلك بجماعة كبار، وحكي أنه كان تاج الدين بن النصيبي له حجرة شقراء يركبها دائماً. فاتفق أن ركب غيرها في بعض الأيام فرآه شمس الدين بن صقر فقال له: يا تاج الدين أين الشقراء: فقال ابن النصيبي: في استي. فضحك هو ومن سمعه.
محمد بن إسحاق بن لولوالأمير جلال الدين بن الملك المجاهد سيف الدين بن السلطان بدر الدين الأتابكي، صاحب الموصل.
سمع من النجيب عبد اللطيف " جزء ابن عرفة " ، والحديث المسلسل، و " الثمانيات " و " المصافحات " المخرجة له، وسمع " الجمعة " للنسائي.
محمد بن أسعد بن عبد الكريمابن سليمان بن طحا القاياتي، الشيخ الإمام كمال الدين أبو بكر المنصوري.
سمع من النجيب عبد اللطيف وأخيه العز عبد العزيز، وابن الحامض، وغيرهم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
وقد أجاز لي رحمه الله تعالى.
وكان معيداً بزاوية الشافعي وبالزاوية المجدية.
محمد بن أسدالشيخ شمس الدين، الكاتب المجود، المعروف بابن النجار.
كتب عليه جماعة بمدرسة القليجية بدمشق وبداره، وانقطع في آخر عمره مدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وسبع مئة.
محمد بن أسعد بن حمزةالقاضي نجم الدين بن القاضي مؤيد الدين بن الصاحب عز الدين بن القلانسي التميمي، تقدم ذكر والده وجده.
كان نجم الدين رحمه الله تعالى كثير الأدب، وافر الحشمة، قد تمسك فيها بأقوى سبب، زائد التواضع في الرغب والرهب، متيماً عشاقا، يشرب كأس الحب دهاقاً، لا يزال يهيم من المحبة في كل واد، ولا يصده عمن يألفه يد عواد.
وكان في ديوان الإنشاء أولاً، ثم جعل له إلى ديوان الجيش متحولاً، وبيده أوقاف وأنظار، وماله في سعادته أشباه ولا أنظار. وكان يؤدي الأمانة فيما يباشره من الوقوف، ولم يكن له تربص عن الخروج من الحق ولا وقوف، وكان يرجع إلى ديانه وتمسك بعصم الأمانة. إلى أن انكدر نجمه، وانضم عليه لما نزل رجمه.
وكان لا يأكل إلا مما يدخله من وقف والدته دون أوقاف أبيه وجده.
وكان في ديوان الإنشاء أولاً، ولم يسمع له نظم ولا نثر، ويقول: أنا لا أدع الناس يضحكون علي.
ولما جاء الفخري وملك دمشق خرج من ديوان الإنشاء وباشر صحابة ديوان الجيش بدمشق، وكانت بيده أنظار وأوقاف وغيرها يؤدي فيها الأمانة، ويتحرى في مصروفها، وكان قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يثني عليه في ذلك، ويقول: ما رأيت في دمشق مثله.
وكان يدخله من ملكه ووقفه في كل سنة ما يقارب الأربعين ألف درهم، إلا أنه كان مبخلاً، وفي يده مسكة. ويكتب كتابة ضعيفة مرجوفة.
وقف يوم الخميس لملك الأمراء، وسأله الإعفاء من الجامكية إلا الكسوة لا غير، فتعجب ملك الأمراء منه، وخرج من عنده، فمرض يوم السبت وما جاء الخميس الآخر إلا وهو تحت التراب.
محمد بن إسماعيلالسلطان الملك الأفضل ناصر الدين ابن السلطان الملك العالم الفاضل عماد الدين المؤيد بن الأفضل علي ابن الملك المظفر ابن الملك المنصور ابن صاحب حماة تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي. ملك ابن ملك، وذو نسب في البيت الأيوبي يضيء به الليل الحالك، يعطي عطاء الملوك، ويجود بما تخجل من نفاسته الشمس في الدلوك، ويغنم من الثناء عليه بالجواهر التي تنتظم في السلوك، إلا أنه لم يكن محظوظاً في جوده، ولو سمح بما في موجوده.
كان والده رحمه الله تعالى في ذلك أسعد، وأرقى في درج الثناء وأصعد.
وكان الملك الأفضل سليم الباطن عديم الشر للنازح والقاطن، تنسك في وقت وجلس على لباد، ورفض سماع الشعر حتى نقائض الفرزدق وجرير.
وما كان يخلو من ذوق، وعنده فضيلة تزين رب التاج والطوق، كثير التأدب مع من يخاطبه، غزير التعتب على من يقاطعه أو يجانبه، كبير التألب على من يستدعيه لجوده ولا يجاوبه.
ورث السيادة كابراً عن كابر ... كالرمح أنبوباً على أنبوب
وقل أخيراً إلى دمشق من حماه، وترك ملكه فيها وحماه، فأكمده على ذلك الحزن، وطول الغم له الرسن، وحصل له قولنج أعقب بصرع، وألحق بالأصل الفرع. وجف من حياته الضرع، وضاق من أهله وخدمه الذرع، وأفضى الأفضل إلى ما قدم من عمل، وخاب ممن كان يقصده ويرجوه الأمل، ووضع في تابوت ونقل إلى حماه، ورشف العدو من السرور لماه، فعاد من وطنه إلى غير سكن، وناح عليه حتى ناعورة أم الحسن.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق ليلة الثلاثاء حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
كان والده رحمه الله تعالى، قد سماه في حياته بالمنصور، فلما توفي والده في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة رسم له السلطان الملك الناصر محمد بمكان أبيه في حماة، وسماه بالأفضل باسم جده، ورسم السلطان للأمير سيف الدين تنكز ولسائر نواب الشام أن يجروه على عادة والده في جميع أحواله من المكاتبة وقبول الهدية وسماع الشفاعة وغير ذلك.
وطلبه إلى مصر وأقبل عليه، وكتب تقليده بحماة على عادة والده، وأفاض عليه التشاريف الفاخرة، وكان يعطي الناس ويجود عليهم، ويخدم الأكابر وهو مذموم.
وما زال في حماة مروعاً مدة حياته تارة من جهة السلطان، وتارة من جهة تنكز، وتارة من جهة العربان، يأخذون إقطاعاته، وتارة من جهة أقاربه يشكون عليه.
وكان هو في حماة قد ولاني نظر المدرسة التقوية بدمشق نيابة عنه، وزاد معلوم النظر، ولما حضر إلى دمشق توجهت إلى خدمته، فتصدق وأحسن وأجمل، وترددت إليه، وسمعت كلامه غير مرة، وما كان يخلو من استشهاد على ما يقوله بشعر مطبوع، أو مثل مشهور.
ولم يزل على حاله في حماة إلى أن تولى الأشرف كجك، فرسم له بحضوره إلى دمشق، وولي الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حماة، وأن يكون الأفضل بدمشق أمير مئة رأس الميسرة، وأن يطلق له من دخل حماة ألف ألف درهم ومئتا ألف في كل سنة، فوصل إليها في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فلم يركب بها سوى مركبين، وحصل له قولنج أعقب بصرع، فتوفي في التاريخ المذكور.
ومن الغريب أن زوجته كانت قد مرضت وأشرفت على الموت، فعمل لها تابوتاً ليضعها فيه إذا توفيت، ويحملها إلى حماة، فتوفي هو قبلها، فوضعته والدته هو فيه بعينه ونقلته إلى حماة. ثم إن زوجته المذكورة توفيت عشية ذلك النهار، وتوجه ابناه إلى مصر صحبة جدتهما، فأكرم نزلها إكراماً لقومها، وأعطي ابنه الأكبر سبعين فارساً، فمات في مصر قبل خروجهم. فسبحان من يقرب الآجال، ويقطع الآمال.
وترك الملك الأفضل - رحمه الله تعالى - عليه من الدين على ما بلغني ممن له اطلاع على حاله فوق الألفي ألف درهم.
وكان الأمير سيف الدين تنكز قد حنا عليه آخراً حنواً كثيراً، وأراد السلطان أن يعزله عن حماة فتوجه تنكز إلى مصر، وشفع فيه، ولما أمسك تنكز تعب بعده، ولزمته مغارم كثيرة، وكثرت الشكاوى عليه، وقل ناصره فتضعضعت أحواله، واختلت أموره، وكان الموت فجاءة آخر خموله - نعوذ بالله من الخمول - .
وقال شاعره وشاعر أبيه جمال الدين محمد بن نباتة يرثيه وأنشدنيها من لفظه:
تغرب عن مغنى حماة مليكها ... وأودى بها من بعد ذاك مماته
وما مات حتى مات بعض نسائه ... بهم وكادت أن تموت حماته
وقال فيه أيضاً قصيدة منها:
بكى الشعر أيام المنى والمنائح ... ففي كل بيت للثنا صوت نائح
ولما ادلهمت صفحة الأفق بالأسى ... علمنا بأن الشهب تحت الصفائح
حيا المزن أسعدني على فقد سادتي ... بدمع كجدواهم على الخلق سافح
أبعد بني شاد وقد سكنوا الثرى ... قريض لشاد أو سرور لفارح
أبعد ملوك العلم والباس والندى ... تشب العلا نار القرى والقرائح
لئن أوحشوا منهم بيوت مقامهم ... لقد أوحشوا منا بيوت المدائح
منها:
تلا فقد إسماعيل فقد محمد ... فيا للأسى من فادح بعد فادح
وزالا فما إنسان عيني بممسك ... بكاه ولا إنسان عيني بكادح
كأن لم يجد بعد المؤيد أفضل ... فمن جذع بذ الجياد وقارح
كأن زناد الفضل لم يور منهما ... سنا شيم ما فيه قول لقادح
منها:
ووالله كانوا في صفات محمد ... إذا نحن أثنينا عليه بصالح
سلام على جنات أجداثهم ولا ... سلام لنار الحزن بين الجوانح
وأنشدني من لفظه لنفسه الأديب علاء الدين علي بن مقاتل الحموي بحماة يرثي صاحبها الملك الأفضل ويعرض بمجيء طقزتمر لحماة نائباً بدله، وهو مملوك لأبيه:
صاحب حماة ما عطي في الدست إلهامات ... بيدق تغرزن عقد بندو على الهامات
دارت عليه رخاخ أفيال وهامامات ... لعب بنفسو على خيل ركبها مات
وأنشدني أيضاً:
يا أولاد الأفضل كسرتوا كسر ما لو جبر ... فقدتم ابن المؤيد نجل ذاك الحبر
تصبروا واندبوا من قد حواه القبر ... فآل أيوب هم أهل البلا والصبر
وأنشدني له أيضاً:
بالأمس يا أولاد الأفضل صاح صايحكم ... على الملا بين غاديكم ورايحكم
واليوم صارت مغانيكم نوايحكم ... وابتدلت بمراثيكم مدايحكم
وأنشدني له أيضاً:
محمد المصطفى المختار من منشاه ... من شرف الكون في سابع سما ممشاه
أذاقه الموت من كل الورى تخشاه ... من هو ملك مصر أو من هو ابن شاهنشاه
ولما مات والده الملك المؤيد - رحمه الله تعالى - حضر منه كتاب إلى الأمير سيف الدين تنكز يعلمه بذلك فكتبت أنا الجواب إليه: " جعله الله خير خلف، وهنأ البيت الأيوبي بما ورثه من المجد المؤثل والشرف، وسقى صوب الرحمه أصله الذي فرع دولته الطاهرة وسلف، تقبيل من صدع الهناء جبر قلبه، ومسح كف السرور غمام دمعه الذي كاد هيدبه يذهب بهديه، وينهي بعد الدعاء الذي أجيب بالقبول لإخلاصه رفعه، والولاء الذي لم يضق بالعبودية ربعه ولا ذرعه، والثناء الذي أخجل تغريد الحمام في الخمائل سجعه، أن مثاله الكريم ورد على يد فلان يتضمن ما قدره الله تعالى من وفاة المقام الشريف العمادي الواد مولاناه قدس الله روحه الكريمه، وسقى تربةً ضمته صوب كل ديمه. فوقف للمملوك على الخبر الذي روع العباد، وغدا كل قلب كأنما يجربه على شوك القتاد، ونظر إلى النجوم كأنها خرائد سافرات في حداد، فأرسل المملوك دمعة الصب على الحبيب الذاهب، وأخذ من قسمة الأحزان بين الأنام نصيبه الواجب، وكيف لا يعم الوجود هذا المصاب، وتبين الدموع بسحها شح السحاب، وقد كورت الشمس، ولا تقول انقض الشهاب، وغيض البحر، ولا نقول انقشع الرباب ووهى عماد الملك، ولا نقول انقصمت الأطناب، وفجع بمن أثقلت أياديه الأعناق قبل أن حمل على الرقاب:
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
وللوقت طالع المملوك العلوم الشريفة بذلك، وورد الجواب الشريف يتضمن شمول مولانا بالصدقات الشريفة، وإقامته مقام والده قدس الله روحه، فهنأ الله مولانا بهذه البشرى التي صدقت الرجا، والمسرة التي رقمت سطورها على كافور النهار بعنبر الدجى. وما أحق هذه البشرى أن تهتز لها أعطاف المنابر، وأن تنطق بحمدها ألسنة الأقلام من أفواه المحابر، وأن تعد نعمها أنامل الرايات إذا خفقت، وأن تتورد صفحات السيوف من دم الأعادي إذا امتشقت، والله يجمل الأيام بدولته الزاهره، ويجعل الأقدار على مراده ومرامه متظافره، بمنه وكرمه - إن شاء الله تعالى - " .
فعاد جوابه يتضمن أنه واصل إلى دمشق ليتوجه منها إلى الديار المصرية، فكتبت أنا الجواب إليه: " أعز الله أنصار المقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضلي، ولا زال مقامه الشريف بالتحف ملتحفا، ومجده المؤثل بأزاهر المحامد روضه أنفا، وركابه العالي إذا سار أخذت الأرض زينتها، ولبست زخرفاً تقبيلاً يكسب به ثغر الثريا شرفاً، ويغدو على شفة الهلال شفا، بعد أن كان من السقم على شفا. وينهي بعد أدعية رقمت على سرادق الإجابة أحرفا، وعبودية لم يجد الولاء عن إخلاصها مصرفا، وأثنية تنشر على الروض بروداً وتقرأ الحمائم من سجعها صحفا. ورد المثال العالي يتضمن حركة الركاب الكريم إلى الأبواب الشريفة، فكاد قلب المملوك لتلقيه يطير فرحا، ويميد عطف الزمان ومن فيه مرحا، ويكون يوم قدومه يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فالله تعالى يجعلها حركةً مقرونةً بالسعود، موصولةً بالميامن التي بها جمال الأيام والأنام والوجود " .
وكتبت أنا إليه عن السلطان الملك الناصر محمد كتاباً ببشارة النيل عقيب وروده من الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة:
" أعز الله أنصار المقام الشريف، وجعل رسل الهنا تتوارد على مقامه تترى، وأبهجه بكل نبأ من الخصب يتحرق له البرق حسداً في قلب السحاب ويتحرى، وسره بكل خبر يتفرق به محل المحل ويتفرى، ويعمه بكل وارد يقص عليه حديثاً جعل البر بحراً وملأ البحر برا. أصدرناها إلى مقامه الكريم تجد رعي عهوده، وتفض سلاماً يتردد إليه تردد أمواج البحر في انحداره وصعوده، وتبث ثناء لا يزال بين خفق ألويته وبنوده، وتبدي إلى العلم الكريم أنه ورد ركابنا الشريف إلى محل ملكه، ومجرة فلكه، ومجرى فلكه، فوجدنا النيل المبارك قد جعل الأرض لجه، وأرخى نقاب تياره على وجه كل محجه، وارتفع إلى أن جعل على هضبات السحاب مقره، وزاد إلى أن كاد يمازج نهر المجره، وبعث سرايا مقدماته، فتحصنت في كل فج وفجوه، وانعطف حول أزرار الأهرام كالعروه، وشرب دم المحل فهو من تحت حباب القلوع كالقهوه، واتصف بصفات الأولياء، فبينا هو في أقصى الجنوب إذا هو في أقصى الشمال، والأرض للرجل الصالح خطوه، وأصبح في طلب تخليقه مجدا، وأعد للجدب من تياره سابغة وعداء علندى، ومرق كالسهم في خليجه من قسي قناطره، وخنق المحل بعبراته في محاجره، وبشر أن آلاف الأموال أضعاف ما فيه من الأمواج، وخبرت رقاعه أنه لم يبق فيها محتال ولا محتاج، فأكمل الستة عشرة ذراعاً.
وكتبت إليه أجوبة كثيرة عن الأمير سيف الدين تنكز، منها ما هو جواب على مشمش كافوري أهداه في باكورة السنة، ومنها ما هو عن رخام ملون أهداه وغير ذلك، وهي في الجزء الثامن عشر من " التذكرة " التي لي.
محمد بن إسماعيل بن أسعدوقيل: ابن أحمد بن علي بن منصور بن محمد بن الحسين الشيباني، الأمير شمس الدين بن الصاحب شرف الدين الآمدي، المعروف بابن التيتي، بتاء ثالثة الحروف مكسورة، وبعدها ياء آخر الحروف، وتاء ثانية وياء النسب.
كان وزيراً بماردين، وحضر أخيراً في الرسلية من الملك أحمد صحبة الشيخ عبد الرحمن الكواشي، ومات من أرسله وحبس رسله، ومات الشيخ عبد الرحمن، على ما ذكرته في ترجمته في " تاريخي الكبير " ، وطلب شمس الدين هذا إلى مصر، وأعطي إقطاعات الحلقة، وترقى إلى أن صار نائب دار العدل في أيام السلطان حسام الدين لاجين.
وجفل به فرس فوقع، فمات - رحمه الله تعالى - في ثامن جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة بمصر.
روى عن الشيخ بهاء الدين بن بنت الجميزي، وأبي الحسن بن المقبر، وجماعة.
وكانت له مشاركة في نحو ولغة. وروى عنه شيخنا الحافظ أبو الفتح، والشيخ قطب الدين عبد الكريم، وغيرهما.
ومن شعره:
إذا ما الدهر مال عليك يوماً ... وصال بصرفه وسطا وجارا
فثق بالله معتمداً عليه ... يكن لك من صروف الدهر جارا
وإن دارت دوائر ببغي ... عليك وعنك بالإقبال دارا
وشط بك المزار فلا مزار ... وباعد عنك أحباباً ودارا
فلا تجزع ودار وكن صبوراً ... فمن يرجو نجاةً منه دارى
ولا تركن إلى الدنيا وبادر ... بفعل الخير واغتنم البدارا
فإن أخا الجهالة من تولى ... ولم ينظر إلى الدنيا اعتبارا
أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين؛ قال: قال الأمير شمس الدين ابن التيتي: أنشدني الزين خالد:
قلت للزين: كيف لا تثبت البع ... ث وتنفي إنكارها للحشر
قال: أثبت. قلت: ذقنك في استي ... قال: انف. فقلت: في وسط حجري
قلت: أخذ هذا المأخذ من قول الأول:
جاء سد يد الدين في وجهه ... أنف له كاد يواريه
قلت له: ماذا القضا؟ قال لي: ... ذا منخري، قلت: أنا فيه
محمد بن إسماعيل بن موسىالشريف تقي الدين الحسيني الأشقر.
كان يتوكل للناس من الأمراء، وغيرهم وتوكل لأمير حسين بن جندر بك، وتوجه له إلى مصر، وعاد إلى دمشق.
ثم أنه شنق روحه في بيته بحارة بلاطة، وكتب ورقة وعلقها في عنقه، يقول فيها: ما آذاني أحد من خلق الله تعالى، وما فعلت هذا بنفسي إلا بسبب الديون التي علي، وخشيت أن أضرب بمقارع الأمير علم الدين الطرقجي. وما كان قد استدان من جامع السلامي، ومن غيره عشرة آلاف درهم وأكلها، فراح ابن جامع وشكاه إلى أوران الحاجب، فرسم عليه وتهدده بالطرقجي، ففعل بنفسه ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
محمد بن إسماعيل بن أحمد بن سعيدالقاضي الرئيس الكاتب كمال الدين بن الأثير، موقع الدست بالديار المصرية.
كان فاضلاً في صناعته، كاملاً في براعته، فصيحاً في عبارته، مليحاً في إشارته وشارته. يكتب خطاً آنق منالحدائق، وأرشق من الأغيد الذي لطفت منه الخلائق، كتب المناشير الكبار والتواقيع، وأتى فيها بمقاصد الكتاب المطابيع، فكان كما قال الغزي:
تصيخ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار ما دام كاتباً
ولم يزل على حاله في توقيع الدست بمصر إلى أن أصبح مسجى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة النصف منه سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة بأرباب الدولة والعلماء والصوفية، وصلي عليه بالجامع الأموي بدمشق، يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة.
ورثاه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود - رحمه الله تعالى - بقصيدة طنانة وهي... .
ومن إنشاء القاضي كمال الدين بن الأثير - رحمه الله تعالى - نسخة تقليد للأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري بنيابة دمشق عقيب قدوم الملك الناصر من الكرك وهو: " الحمد لله الذي أنجز من الألفة للإسلام ما وعد، وأطفأ لهب الخلف، وقد وقد، وأحسن عاقبة المسلمين فيما صدر من أمرهم وما ورد، جاعل الملك من هذا البيت الشريف منتقلاً في عقبه، آيلاً إلى من أصبح ومغناه أهل به لما حل في رتبه، وأضحى وهو مفروض الطاعة على الأولياء في تغير الدهر ومنقلبه. نحمده حمد من يعلم أنه يؤتي الملك من يشاء من عباده، وأن الأقدار جارية على مراده، غير معترض على مشيئته معرض نفسه لعناده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من رضي بقسمه، وفوض الأمر إلى حكمه، ووقف في زمرة قوم يعلمون أن الله " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه " .
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي وطأ للإسلام مهاده، وأزال عن جفن الإيمان غمض الشرك وسهاده، واستنفذ من يد الضلالة ربا الحق ووهاده.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أصحاب الحل والعقد ذوي الاجتهاد والجد، وأهل السعي المقترن بالسعد، صلاةً مستمرة الإيراد، متصلة الأوراد، موفيةً بالمراد مؤذنةً للرائد بخصب المراد، وسلم تسليماً.
وبعد: فإن الممالك أولى من قام بنصرها، وقعد بالمصلحة في أمرها، وأقيمت به دعوتها وعزت بعزمه ذروتها، وفوض تدبيرها إلى نظره، وحسنت فيها مواقع أثره، واستقامت هضبة أسها على رايه، واستقلت بمهامها كفالة ولائه، من حمى سرحها وبنى صرحها، وسدد أمورها، وسد ثغرها وثغورها، وحماها من الأيدي المتخطفه، وصانها من الأغراض المتحيفه، واستقل بأعبائها التي آدت، ونهض بحفظها، وقد كانت العزائم همت بأن تفل أو كادت، ووقف المواقف التي تهول، وثبت بحيث الأقدام تزل والأحلام تزول، واصطلى في مضائق الحروب جمرها، وكان فيها بحمد الله في الرأي قيسها، وفي الإقدام عمرها، وهو الجناب العالي الأميري الشمسي قراسنقر، ذو الصفات الكامله، والسيرة العادله، والأنا الجميلة والهمم الجليله، والمحاسن الجزيله، والطريقة المتبعه، والأفعال التي لا تخشى منها تبعه، والآراء الصائبه، والمساعي التي لم تشبها في نصرة الإسلام شائبه.
طالما خاض الغمرات، واصطلى الجمرات، وأقدم إقدام الليث، وحرس الممالك من العيث، وأقام الأدلة على فضله، وأجلب إلى الأعداء بخيله ورجله. إليه تشد الرحال في صون الأمور وصلاح الجمهور، واستطلاع خبايا المقاصد، وأخذ الأعداء بالمراصد، وإقامة شعائر الدين، ونصرة حزب الموحدين.
وقد اقتضى رأينا الشريف أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس من حدود العرائش إلى سلميه، وجعلنا كلمته في النفاذ باقيه، وعزمته في رتبة المضاء راقيه، واقتضينا في المهمات عقدة عزمه وحله، وأمضينا في مصلحة المملكة تصرفه كله، واستندنا من تدبيره إلى ركن شديد، وعطفنا إلى مضافرته كل جيد، إذ كان الملك بمثله يصان، وبمحاسنه يزان، وبتدبيره يستد ثلمه، وبتفويقه يستد سهمه. وقد قلدناه منا سيف اعتناء مطلق الحد، ومضافرة غير متناهية إلى حد، ومنحناه اهتماماً يكفيه ما أهم، ومعاضدةً لرأيه الذي يشرق في ليل الخطب إذ ادلهم، وقبولاً يبلغه من رفعة القدر ما يريد، واتحاداً أقرب إلى الداعي من حبل الوريد.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، لا زالت دولته مباركة على الإسلام وأيامه عائدةً بصلات الجميل التي لا تحصرها الأقلام، أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وأعمالها وعساكرها وممالكها وقلاعها وبلادها ورعاياها وذخائرها وأموالها، وثغورها ورجالها، وكبيرها وصغيرها، ومأمورها وأميرها، وكل ما يتعلق بها وينسب إليها، على عادة من تقدمه في ذلك كله، علماً منا بأنه أولى من فرع ذروتها، وقرع مروتها، وحلت له حباها، وحمي به حماها، واتسقت به عقودها، وحفظت به عهودها.
فليمض على رسله فيما رتبناه فيها وقررنا، ويتحقق حسن النية فيما أعلنا من أمره وأسررنا، ويدأب في بسط المعدلة والسيرة المجملة، والعمل بالعدل فإنه الطريق المسلوك، وليشمل الرعايا بنظره فإنهم عند الملوك هذه وصيتنا له، وأما عداها من مصالح المسلمين، واعتماد كل ما يقتضي بنصرة المؤمنين، وجند تعرض، وأرزاق تفرض، وأموال تثمر، وبلاد تعمر، وثغور تسد، وعقود تشد، وسطوة تكف الأيدي عن الجور، ومهابة تزعزع كل جبار متعدي الطور، ونظر في المصلحة الخاصة والعامه، وقصد يدل على الخبرة التامه، وشرع يتبع حكمه، وأمر بالمعروف يجدد رسمه، وقلوب تؤلف على الطاعه، وخدم يبذل فيها جهد الاستطاعه، فهو أدرى بما يعاد منها وما يبدا، ولم يزل في طرق الخيرات ولله الحمد أهدى أن يهدى. وهو غني عن شرح فيها يطول، والعمدة في ذلك على الله تعالى ثم على تدبيره المعول.
وسبيل كل من يقف على هذا التقليد الشريف من أمراء الدولة ونوابها ووزرائها ومتحفظي حصونها وولاة أمورها كافة أن يأتمروا بأمره، ويعرفوا له جلالة قدره، وينتهوا إلى إشارته في سر كل عمل وجهره.
والله يشد به قواعد الممالك ومبانيها، ويؤهل بجميل تدبيره معاهدها ومغانيها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
؟
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم
الشيخ المسند المعمر أبو عبد الله ابن المحدث نجم الدين.كان خاتمة أصحاب ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبد وغيرهم. وكان قد بقي مسند الوقف.
توفي رحمه الله تعالى في سنة ست وخمسين وسبع مئة عن تسعين سنة.
محمد بن إسماعيل بن عبد المؤمنابن عيسى بن أبي بكر بن أيوب الشيخ المسند المعمر الصوفي، المعروف بابن ملوك.
حدث عن العز الحراني وابن الأنماطي، وابن خطيب المزة، وطائفة، وتفرد.
وتوفي بالقاهرة في سنة ست وخمسين وسبع مئة وقد تجاوز الثمانين.
محمد بن إسماعيل بن عمرابن المسلم بن حسن بن نصر بن أبي الدم، القاضي الرئيس المعمر المسند عز الدين ابن القاضي الرئيس ضياء الدين ابن القاضي عز الدين أبي حفص الدمشقي، المعروف بابن الحموي.
حفظ في صغره " التنبيه " و " الفضول " لابن معط. وسمع الحديث الكثير من الشيوخ. وأجاز له جماعة من شيوخ مكة والمدينة ومصر وحلب وبعلبك وغيرها. وروى عن والده، وتفرد في آخر عمره برواية " السنن الكبير " للبيهقي. ومن مروياته " الموطأ " ، و " مسند " الإمام أحمد بن حنبل، و " صحيح " البخاري، و " صحيح " مسلم، و " سنن أبي داود " ، و " جامع " الترمذي، و " سنن " النسائي وابن ماجه، و " مسند عبد " ، و " مسند الدارمي " ، و " مسند ابن الزبير " ، و " مسند الطيالسي " ، وكتاب " المغازي " للزهري، و " عمل يوم وليلة " لأبي بكر أحمد بن السني، و " مكارم الأخلاق " للخرائطي، و " خطب ابن نباتة " ، و " فوائد " الرازي، و " شرح السنة " للبغوي، و " معالم التنزيل " له، و " الحجة على تارك المحجة " لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، و " الجعديات " و " الغيلانيات " و " الخلعيات " ، و " مشيخة " ابن البخاري مع ما ذيله الحافظ المزي عليها.
وحدث، وروى كثيراً.
وترك ما بيده من الأوقاف، وأقبل على الرواية، وألحق الصغار بالكبار.
ولم يزل على حاله وملازمة الجامع الأموي إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في أواخر جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة ثمانين وست مئة.
محمد بن إسماعيل...الأمير ناصر الدين أخو الأمير صارم الدين حاجب صفد. تقدم ذكر أخيه مكانه.
كان أحد أمراء العشرات بدمشق، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله يثق بعقله ودينه ومعرفته، فولاه نظر الأوقاف بدمشق في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، عوضاً عن بدر الدين بن معيد، وولاه نظر الحرمين بالقدس، فتوجه إليها، وعزل، وعاد إليه. وكانت الولاية الأولى في المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن ناجحالشيخ الفقيه الإمام الزاهد الخطيب ناصر الدين أبو عبد الله الحموي، المعروف بابن القواس وابن النقيري.
نِشأ في خير واشتغال وتصوف بدمشق، ثم إنه انتقل إلى حلب، وتزوج بها، وولي خطابة جامع ألطنبغا نائب حلب، والنظر عليه وعلى أوقافه، وتقدم عنده وأحبه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
محمد بن أسندمرالأمير ناصر الدين بن الأمير سيف الدين الجوكندار.
كان والده من أمراء الطبلخاناه، ثم إنه نقل من مصر إلى صفد، ومن صفد إلى دمشق، ومات بها. وولده هذا ناصر الدين كان أمير عشرة بدمشق.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
محمد بن آقوشالأمير ناصر الدين ابن الأمير جمال الدين المطروحي.
كان رجلاً جيداً، وعنده دراية.
قال شيخنا علم الدين: وسمع من شيخنا ابن النجار، وحدث.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن الآقوشالأمير ناصر الدين، أحد أخوته، وهم الأمير سيف الدين كجكن، والأمير زين الدين أمير حاج، وغرس الدين خليل، أولاد الآقوش.
كان أبوهم أميراً بطرابلس، ولهم وصلة بالأمير سيف الدين قرطاي نائب طرابلس، كان وكانوا آخر الحال مقيمين في حلب، ولما حضر لنيابة دمشق حضر معه ناصر الدين محمد هذا، وحصل له إمرة عشرة، ثم انتقل إلى إمرة الطبلخاناه. ثم إنه تولى نيابة بعلبك فتوجه إليها، وأقام بها قليلاً، ثم إنه عاد إليها نائباً مرة ثانية، ثم أعطي نيابة حمص، فتوجه إليها وأقام بها، فلما أمسك الأمير صرغتمش رسم السلطان الملك الناصر حسن بمصادرته، ومصادرة إخوته وعزلهم من وظائفهم، فأخذ منهم تقدير ثلاث مئة ألف درهم، وأقاموا بدمشق بطالين.
ثم رسم بتوجهه إلى حلب وتوجه أخيه سيف الدين كجكن إلى طرابلس، وبتوجه أخيه زين الدين أمير حاج إلى صفد، وأقاموا كذلك إلى أن خلع الناصر حسن، فرسم بإحضارهم إلى دمشق. ولما حضر السلطان الملك المنصور إلى دمشق في واقعة بيدمر أعطى الأمير ناصر الدين إمرة طبلخاناه.
وحصل له مرض توفي منه في بكرة الاثنين عشري شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
محمد بن أيبكالأمير صلاح الدين المعروف بابن أيبك الطويل.
تنقل في المباشرات في أيام الأمير سيف الدين تنكز، فباشر شد الساحل وولاية الولاة بالصفقة القبلية، ثم تنقل في نيابة الرحبة وجعبر مرات، وكاد في واقعة الأمير سيف الدين تنكز ينعطب، لأنه كان في جعبر نائباً، وكان قد أودع عنده زردخاناه، وطلب إلى مصر عقيب الواقعة، فأصلح أمره، ونجاه الله تعالى، وعاد.
ولما كان في آخر الأمر جهز إلى صفد صحبة الأمراء الذين جهزوا إلى محل إقطاعاتهم، فأقام بها قريباً من نصف سنة.
وتوفي في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون صفد.
وهو أخو الأمير علاء الدين علي بن أيبك الطويل.
محمد بن أيوب بن عليابن حازم الدمشقي الشافعي، المعروف بابن الطحان، نقيب السبع والشامية بدمشق.
تفقه وقرأ بروايات، وأذن مدة بتربة أم الصالح.
وكان فاضلاً مناظراً حسن الخلق، وفيه وسوسة في أمر المياه.
سمع مع زوج خالته النجم بن الشاطبي، ومن عثمان خطيب القرافة جزءاً، ومن الزين خالد والكرماني ويوسف بن يعقوب الإربيلي، وعجز وانقطع بالشامية، وسمع منه جماعة الطلبة.
قال شيخنا الذهبي: ورويت عنه " المعجم " .
قلت أنا: وسمعت عليه بقراءة ابن طغريل الجزء الثاني من الأول من " فرائد " القاضي أبي الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق الحافظ بالمدرسة الرواحية.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة في شهر ربيع الأول.
محمد بن أيوبالفقيه العالم شمس الدين أبو عبد الله الأشقر الزرعي.
سمع الكثير، ودار على الأشياخ في أيام ابن البخاري، ونظم الشعر وحدث.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده قبل الستين وست مئة.
محمد بن أيوب بن عبد القاهرالإمام بدر الدين التاذفي شيه القراء بحماة، الحنفي الحلبي.
تلا على الفاسي، وسمع من ابن علاق، وابن العديم، وجماعة. وقرأ بنفسه، وتميز وصنف.
قال شيخنا الذهبي: أخذت عنه مباحث، وسمعنا منه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بحماة في شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن علاق " جزء " القدوري، وأقرأ الناس زماناً بدمشق، وكان معيداً في المدارس الحنفية، وكان عارفاً بالعربية والقراءات و " شرح قصيدة الصرصري " الطويلة في مجلدين، ونسخ كثيراً. وكان يكتب المصاحف على الرسم، وأقام إمام الربوة مدة بعد الثمانين، وكان يقرئ نائب السلطنة عز الدين الحموي، ثم إنه سكن حماة.
محمد بن بادي بن أبي بكرابن عثمان بن بادي، شمس الدين الطيبي نسبة إلى الطيب، لأنه كان يصنع فتائل العنبر، وكان يهدي إلي منها كل قليل.
وكان يتطور أطواراً، مرة يكون معلم كتاب بدمشق، وتارة يسافر إلى طرابلس ويقيم بها، ثم ينتقل إلى حلب وغيرها.
وفي آخر أمره، أقام في بيروت واتخذها سكناً، ثم إنه كان يقرأ فيها الحديث بالجامع ويحضر إلى دمشق في كل سنة، لما كان يباشر في فرع الحرير، ويعود إلى بيروت.
وكان يحل التقويم، وعلى ذهنه أشعار وحكايات، وما تمل محاضرته.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغتني وفاته في ثغر بيروت في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده فذكر لي: أنه في سنة ثمان وثمانين وست مئة في شهر رمضان بالقاهرة.
وأنشدني من لفظه لنفسه في العيون الزجاج التي يعانيها من ضعف بصره لرؤية الخط الدقيق، ويضعها على أنفه:
لهفي على دولة التصابي ... وحق لي أن يزيد لهفي
كانت عيوني من فوق خدي ... فاليوم أمست من فوق أنفي
محمد بن بتخاصالأمير ناصر الدين بن الأمير الكبير سيف الدين بتخاص المنصوري العادلي.
كان قدم إلى الشام في خدمة الأمير سيف الدين سلار، ثم رجع معه وشوش ووصل إلى القاهرة مريضاً، وأقام عشرة أيام وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده في عاشوراء سنة سبع وسبعين وست مئة.
وكان شاباً حسناً فصيح العبارة، كثير الحياء، حسن الهيئة محباً للعلوم، واشتغل وحصل وسمع الحديث.
محمد بن بركاتابن أبي الفضل بن أبي علي الشيخ تقي الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الصالح البعلبكي.
سمع من الفقيه محمد اليونينى، وحدث عنه. وسمع بدمشق من ابن أبي اليسر، والنجم بن النشى، وشيخ الشيوخ، وهو سبط الشيخ إبراهيم بن محمود البطائحي البعلبكي، وكان شيخ الخانقاه الشبلية بظاهر دمشق.
قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه " جزء ابن عرفة " و " جزء ابن جوصا " .
وتوفي رحمه الله تعالى بحصن الأكراد في ثالث عشري شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين ببعلبك.
وقد تقدم ذكر أخيه إبراهيم وذكر أخيه الشيخ محيي الدين عبد القادر أيضاً.
محمد بن بكتاشالأمير ناصر الدين متولي دمشق كنت أعرفه أولاً مشد غزة والساحل في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز، وسرقت له عملة من بيته بدمشق، ولم يقع لها على خبر إلى آخر وقت، وقيل: إنها كانت بخمسين ألف درهم.
ثم إنه بعد ذلك تولى مدينة دمشق، فعمل الولاية على أتم ما يكون من الصلف الزائد والعفة والأمانة، ثم إنه وقع في أيامه حريق دمشق الذي أمسك بسببه النصارى وجرى لهم ما جرى، وورد كتاب الملك الناصر محمد إلى تنكز يقول فيه: هذا فعل أهل دمشق كراهةً في ابن بكتاش: فلما أمسك تنكز رسم بعزله، فبقي بطالاً مدة.
واحتيج إليه لأجل دربته ومهابته في الولاية، فأعيد إليها بلا انقطاع، ثم عزل عنها وبقي مدةً بطالاً. ثم إنه جهز إلى حماة مشد الدواوين بها، فأقام هناك سنة ونصفاً تقريباً، ثم إنه طلب هو وناظرها القاضي شرف الدين حسين بن ريان إلى مصر، فتوجها، وعاد القاضي شرف الدين وهو على حاله إلى حماة، وحضر الأمير ناصر الدين بن بكتاش نائب المرقب وأعطي طبلخاناه وخرجت عنه، وبقي في طرابلس أميراً، فلما كان طاعون طرابلس توفي ابنه الأصغر وجماعة من أهل بيته، فنزح عن طرابلس، فماتت ابنته في الطريق، فجاء إلى بعلبك ليدفنها، ونزل على رأس العين، فحضر إليه نائب بعلبك بطعام، وأقسم عليه أن يأكل، فأكل بعض شيء.
وتوفي إلى رحمة الله تعالى عقيب ذلك في أواخر شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة ودفن رحمه الله تعالى إلى جانب ابنته.
وكان قد ولي شد خاص داريا ودومة في أيام تنكز، وكان يهز رأسه دائماً، وكان مع هذه المعرفة والمهابة والدربة إذا أنشد الشعر لا يقيم وزنه، قال لي صلاح الدين محمد الكبتي الدمشقي وكان صاحبه كثيراً: كان ينشد:
قد أقبل المنثور يا سيدي وأمير الناس كلهم ومخ من يشناك مثل اسمه
محمد بن بكتاشالأمير ناصر الدين ابن الأمير بدر الدين أمير سلاح.
توفي في ثامن عشري جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة ودفن بتربة والده برا باب النصر بالقاهرة.
محمد بن بكتمرالأمير ناصر الدين بن الأمير الكبير سيف الدين الجوكندار، كافل المملكة بالديار المصرية.
كان من رشاقته كأنه غصن بان، ومن هيفه يكاد يعقده النسيم ألوان.
ولم يكن في مصر والشام من يلعب بالكرة مثله، وكل طبجي في الإثليمين يعرف في ذلك فضله. ويقول ما عندي منه إلا فضله، كأنه على ظهر جواده عقرب أبو برق يتسرع والكرة أمامه كوكب. رأيته بصفد وهو يلعب مرات، وللكرات قدامه غدوات وكرات.
وكان قد ربي هو والسلطان الملك الناصر محمد، وما يدعوه إلا بأخي، ولا يرى إلا وهو ينتخب له كل وقت وينتخي.
ولما كان في الكرك كانت كتبه لا تنقطع عنه البتة، إما أن تجيء إلى ميعاد وإما أن تجيء بغته. ولما توجهوا إلى مصر بقيت له المكانة العليا، وضاقت بسعادته الدنيا، إلا أن المدة ما طالت، وما زارت حتى زالت، وكان كأنه كوكب السحر في قصر عمره، أو الزهر الذي أينع فاجتني لطيب نشره.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وتجرع أبوه غصته. وما أمكنه أن يشرح قصته.
كان الأمير علاء الدين بن الجوكندار طبجي الشام يجيء إلى صفد كل قليل ويلعب هو وناصر الدين فيرى الناس منهما أمراً عجيباً.
محمد بن بكتوتناصر الدين بن بدر الدين، الكاتب المجود، المعروف بالقرندلي، لأنه لبس زيهم في حلب.
كان قادراً على الكتابة. وله فيها رأي، لا تفارقه الإصابة. كتب الأقلام السبعة، وكاد فيها يسمو على الثريا رفعة. يدعي أنه كتب على ابن الوحيد، وما قوله في ذلك بسديد، وإنما كتب في بعلبك على خطيبها، وفاز من طريقة ابن الوحيد بلذاتها وطيبها، ونسخ من المصاحف الكريمة والمجلدات كثيراً. وعلى الجملة فكان على الكتابة قديرا.
ولم يزل يكتب إلى أن محي اسمه من المحيا، ونزل إلى قرار اللحد بعد العليا.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، في يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول.
حكي له أنه لبس زي القرندلية بحلب ودخل بينهم وهو ينسخ فقالوا: ما هذا؟ ما هو طريقنا. قال: فقلت لهم: أنتم تعلمون هذه القلائد الصوف، فقال له من بينهم واحد: أريد أن أنزل أنا وأنت في هذه البركة بالبلاس، فقال: فنزلت معه في يوم بارد في مثل حلب، فبقينا نغطس إلى أن عجز هو وطلع، فلما أعياهم قالوا له: فينا واحد يكاثرك في أكل الحشيش، فقلت: أحضروه قال: فأحضروه وجعلوا يلقموننا وأنا وهو نأكل إلى أن نزل الدم من منخريه، وأظنه قال: مات، فعند ذلك أخرجوه من بينهم.
وكان الذي أغواه في الكتابة القاضي جمال الدين بن ريان - رحمه الله تعالى - فإنه رأى خط يده القابلة فلازمه، وجعل ينسخ له المجلدات، فنسخ له " الكشاف " وغيره، ورتب له الدراهم والطعام، وألزمه بالكتابة فأجاد، وكتب أولاده وغيرهم في حلب.
وحكى لي جماعة عنه أنه كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلد من الكشاف على ونده ويكتب منه وهو يغني ما شاء اللهولا يغلط، وكان قليل اللحن فيما يكتبه، وأما أنا فرأيته غير مرة يكتب ويغني ولا يغلط.
وكان قد أقام أولاً بحماة عند الملك المؤيد صاحبها ينسخ له، فأحب امرأة تعرف ببنت النصرانية، فكان كل ما يحصله ينفقه عليها، ويشتغل بها عن الكتابة، فشق أمره على الملك المؤيد، فنفاها إلى شيزر، فحكى لي أنه كان يكتب في حماة إلى المغرب، ويجري من حماة إلى شيزر، ويبيت عندها، ويقوم من آذان الفجر ويجري إلى حماة ويكتب، وأقام على ذلك سنة وكانت قد تعنتت عليه يوماً وقالت له: إن كنت تحبني فاكو لي في رأس صليباً. ورأيت أنا كي الصليب في يافوخه، وكتبت أنا عليه أربعة عشر سطراً قلم الرقاع، ثم إنه امتنع من توقيفي، ولم أكتب بعده على غيره.
وكان كاتباً مطيقاً كتب من الربعات والختم بقلم الفضاح والمحقق الكبير في قطع البغدادي كاملاً ومن الهياكل المدورة والمجلدات شيئاً كثيراً.
محمد بن أبي بكر بن محمدالشيخ الإمام، العالم شمس الدين الأيكي، بهمزة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وبعدها كاف، كان قاضي القضاة جلال الدين القزويني يقول: هو بكسر الهمزة.
وكان فاضلاً في المقولات، كاملاً في المنقولات، وكان يكشف أسرار " الكشاف " وهو لما فيه من أمراض الاعتزال كالشاف، يدري دقائقه، ويمري حقايقه، ويقرئه الطلبة ويقريه، ويفرق بذهنه ما فيه من الغمود في الغموض ويفريه.
وكان في علم التصوف إماما، وفي فن التعريف لمن تقدم ختاما، لو عاصر المعري لأملى في وصف الأيكي أيكه وغصونه، أو سنان الراشدي لأنزله معاقله وحصونه.
ولم يزل على حاله في الإفاده، والتفرد في فنونه بالإجاده، إلى أن خرست تلك الفصاحه، وكرر الحمام في الأيك عليه النياحه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة قبل العصر ثالث شهر رمضان سنة سبع وتسعين وست مئة، بالمزة في دمشق.
وله شرح على أول " مختصر " ابن الحاجب، تكلم على منطقه. ودرس بالغزالية، وولي مشيخة الشميساطية، وولي مشيخة الصلاحية بالقاهرة، وتكلم فيه الصوفية، وحضر قاضي القضاة تقي الدين وقال: يا شيخ شهد عليك جماعة من الصوفية بكذا وكذا، فقال: أنت تنكل بي في هذا الجمع نكل الله بك. فقال قيموه: فأقيم وهو يقرأ: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " ولما قال: " فسبح بحمد ربك " ما قال: ادفع بحيلك وقوتك، وتوجه إلى الشام وأقرأ الجماعة " الكشاف " .
وقيل إنه وصف للشيخ بدر الدين بن مالك ومعرفته " الكشاف " ، فحضر ليلةً درسه وسمعه وهو يتكلم، فلما فرغ قال له: يا شيخ بدر الدين ما سمعتك تتكلم. قال: كيف أتكلم ومن وقت تكلمت إلى أن سكت، عددت عليك ثلاثين لحنة.
وفيه يقول شيخنا العلامة شهاب الدين محمود:
بنت فبات الطيف لي مؤنساً ... يبيحني جنة خديك
وطالما أملتها يقظة ... فصد عنها سيف جفنيك
ولم أخل أن حمام اللوى ... في الأيك يغني عن رقيبيك
نفر نوماً كان مثل الصبا ... يعطف لي إن ملت عطفيك
فلا رعى الله حمام اللوى ... ولعنة الله على الأيك
وكان سبب نظمها أن الأيكي تكلم في حق الإمام أحمد رضي الله عنه وثار الحنابلة عليه. ولما بلغه قال: والله لقد تلطف في الهجو، وكان شيخنا أبو الثناء بعد موته لا ينشدها إلا ويقول: ورحمة الله على الأيك.
وبعض الناس قال فيه: اسمه أحمد بن أبي بكر.
قلت: واشتهرت هذه الأبيات كثيراً، وسلك هذه الطريقة جماعة ممن عاصره. فقال النصير الحمامي:
مذ أحضرتني زوجتي حاكما ... أنكرت ما قد كان من حقي
فأخرجت رق صداق لها ... رد كلام الكل في حلقي
وكان ذاك الرق أصل البلا ... فلعنة الله على الرق
وقال النور الإسعردي:
ورب خل قلت إذ قدم لي ... خلاً وقباراً على سماط
لا آكل القبار من بغضي له ... ولعنة الله على الخلاط
محمد بن أبي بكرابن عبد الرحمن بن عبد الله، الشيخ الصالح أبو عبد الله الكنجي.
جاور بالجامع الأموي مدة طويلة أكثر من ستين سنة، وسمع كثيراً بعد الخمسين وست مئة على الزين خالد، والخطيب عماد الدين بن الحرستاني وغيرهم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ربيع الآخر سنة سبع مئة، وحضر جنازته القضاة والعلماء والصلحاء، وكان قد بلغ التسعين سنة.
وسيأتي ذكره ولده محمد بن محمد بن أبي بكر.
محمد بن أبي بكر بن خليلابن إبراهيم بن يحيى بن فارس، الإمام رضي الدين المعروف بابن خليل المكي الشافعي.
كان فقيهاً عالماً، مفنناً، ذا فضائل ومعارف وعبادة وصلاح وحسن أخلاق، سمع منه شيخنا البرزالي وابن العطار، وأجاز لشيخنا الذهبي مروياته.
وولد في أيام التشريق بمنى سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكان يعرف " التنبيه " جيداً، وحفظ " المفصل " في النحو للزمخشري.
محمد بن أبي بكر بن عبد السلامابن إبراهيم الصالحي المقرئ الحفار، يعرف بابن الطبيل.
كان شيخاً معمراً ذا جلادة وهمة وملازمة للجماعة.
سمع " الصحيح " من ابن الزبيدي. وحدث عنه ابن الخباز في معجمه في حياة ابن عبد الدائم، وسمع منه ابن البرزالي، وأخذ شيخنا الذهبي عنه ثلاثيات البخاري وغير ذلك.
وتوفي في سنة إحدى وسبع مئة - رحمه الله تعالى - .
محمد بن أبي بكر بن إبراهيمابن هبة الله بن طارق الأسدي الحلبي الصفار، الشيخ الصالح المعمر المسند أمين الدين، نزيل دمشق، المعروف بابن النحاس.
سمع لما حج مع إخوته من صفية القرشية، ومن شعيب الزعفراني بمكة، ومن يوسف الساوي وابن الجمزي بمصر، ومن ابن خليل بحلب، وأجاز له أبو إسحاق الكاشغري وطائفة. وأضر، وتفرد، وعجز وانحطم، وأبطل الحانوت.
وكان ساكناً خيراً عامياً، وله دنيا، وفيه بر، وما تزوج قط ولا احتلم، ثم إنه قدح بعدما أضر فأبصر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
محمد بن أبي بكر بن أبي القاسمشيخ الإمامية وعالمهم شمس الدين الهمداني الدمشقي السكاكيني الشيعي.
قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: حفظ القرآن بالسبع، وتفقه وتأدب، وسمع في حداثته من الرشيد بن مسلمة، والرشيد العراقي، ومكي بن علان وجماعة، وخرج له ابن الفخر عنهم.
وربي يتيماً فأقعد في صناعة السكاكين عند شيخين رافضيين، فأفسداه، وأخذ عن أبي صالح الحلبي، وصاحب الشريف محيي الدين بن عدنان.
وله نظم وفضائل، ورد على التلمساني في الاتحاد. وأم بقرية جسرين مدة، ثم أخرج منها. وأم بالسامرية، ثم إنه أخذه منصور بن جماز الحسيني معه إلى المدينة، لأنه صاحبها، واحترمه. وأقام بالحجاز سبعة أعوام، ثم رجع.
وهو شيعي عاقل، لم يحفظ عنه سب، بل نظم في فضائل الصحابة.
وكان حلو المجالسة، ذكياً عالماً فيه اعتزال، وينطوي على دين وإسلام، وتعبد، على بدعته، وترفض به ناس من أهل القرى.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية، رحمه الله تعالى: هو ممن يتشيع به السني، ويتسنن به الرافضي. وكان يجتمع به كثيراً وقيل: إنه رجع آخر عمره عن أشياء.
نسخ " صحيح " البخاري، وكان ينكر الجبر ويناظر على القدر.
وتوفي في سادس عشري صفر سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
قلت: لما كان يوم الاثنين حادي عشري ذي الحجة سنة خمسين وسبع مئة، أحضر صلاح الدين محمد بن شاكر الكبتي بدمشق إلى شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى كتاباً في عشرين كراساً قطع البلدي في ورق جيد، وخط مليح سماه مصنفه " الطرائف في معرفة الطوائف " افتتحه بالحمد لله وشهادة أن لا إله إلا الله فقط. وقال بعد ذلك: " أما بعد فإنني رجل من أهل الذمة ولي على الإسلام حرمة، فلا تعجلوا بسفك دمي قبل سماع ما عندي، ثم أخذ في نقض عرا الدين عروة بعد عروة، وأورد أحاديث وتكلم على متونها، وتكلم في جرح الرجال وطعن عليهم، كلام محدث عارف بما يقول، وذكر أموراً دلت على زندقته وتشيعه، وختم ذلك بأن قال: ولله القائل:
فإن كنت أرضى ملةً غير ملتي ... فما أنا إلا مسلم أتشيع
وشهد صلاح الدين المذكور وآخر من أهل الحديث المعروفين بأن هذا خط شمس الدين السكاكيني، فظهر من ذلك أنه تصنيفه، لأنه قال في فهرست الكتاب المذكور: تصنيف عبد المحمود بن داود المصري، وقال شيخنا عماد الدين بن كثير: الأبيات التي كتبت للشيخ تقي الدين، أولها:
أيا معشر الإسلام ذمي دينكم ... ........................
وقد ذكرتها أنا في ترجمة الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي كاملة لهذا السكاكيني. فقطع شيخنا قاضي القضاة هذا الكتاب الملعون وغسله وحرقه، قال - رحمه الله تعالى: أخذته معي إلى بستان لأنظر فيه ونويت تقطيعه وغسله، ثم إنني انتبهت في الليل وقلت لنفسي: لعلك يا علي لا تصبح غداً، فقمت في الليل وقطعته وغسلته، قلت: والله أعلم لحقيقة حال هذا الرجل.
ولكن الذي ظهر لنا أنه كان متزندقاً، غير مسلم.
وقالوا: إن قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم رجع من جنازته.
ونقلت من خط شيخنا علم الدين البرزالي، قال أنشدني لنفسه:
أجزت لهم ما يسألون بشرطه ... أثابهم ربي ثواب أولي العلم
ووفقهم أن يعملوا بالذي رووا ... فعال أولي الإخلاص والجد والعزم
وكاتبها العبد الفقير محمد ... هو ابن أبي بكر بن قاسم العجم
ومولده في عام خمس وبعدها ... ثلاثون والست المئون لدى النجم
ونقلت منه أيضاً ما خاطب به صاحب المدينة منصور ورميثة صاحب مكة:
ألا يا ذوي الألباب أصغوا لناطق ... بحق وباغي الحق من ذا يدفعه
إذا لم نسل النبي محمد ... نتابعه في الدين من ذا نتابعه
فإن كان مسبوقاً وذو البعد سابقاً ... إلى المصطفى والدين من ذا يمانعه
فكم من بعيد للشريف معلم ... طرائق آباء له وهو سامعه
وهذا بديع في الزمان وأهله ... وما زال الدهر جم بدائعه
ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين بن غانم، قال أنشدني الشيخ شمس الدين السكاكيني لنفسه:
هي النفس بين العقل والطبع والهوى ... وما العقل إلا كالعقال يصونها
فداعي الهوى يدعو إلى ما يشينها ... وداعي النهى يدعو إلى ما يزينها
فإن أطلقت من غير قيد توثبت ... على حظها الأدنى وزاد جنونها
وإن نظرت بالعقل ينبوع نوره ... أضاءت لها الظلمات طاب معينها
وحنت إلى الذكر الحكيم تدبراً ... رياض معانيه وذاك يعينها
وفزت به منه إليه محققاً ... وعادت إلى الأكوان تزكو فنونها
فأكرم بها نفساً زكت مطمئنةً ... بمجبوبها قرت لديه عيونها
فياذا الذي ضيعت نفسك في الهوى ... تروم لها عزاً وأنت تهينها
أجب إذا دعاك الحق طوعاً لأمره بطيب رضا نفس قوي يقينها
ولا تبخلن بالنفس إذ هي ملكه ... إليه بها فارجع فأنت أمينها
قال شيخنا علم الدين البرزالي: حدثني قاضي القضاة شمس الدين محمد بن مسلم الحنبلي، قال: كنت بالجامع بعد الجمعة وقد أحضرت جنازته، فقمت وصليت عليه ومشيت مع الجنازة إلى قريب المدرسة الركنية، فأخبرت أنها جنازته، فرجعت من هناك، ولم أشهد دفنه، وذلك لأنه كان رافضياً داعية إلى الرفض، أقام بعدة قرى فرفض أهلها وأخرج من الصالحية لهذا السبب.
محمد بن أبي بكر بن عمرابن محمد، قاضي الممالك القانية، برهان الدين، أبو عبد الله السمرقندي النوجاباذي الحنفي البخاري، قاضي المغل.
كان صدراً معظما، وعالماً مفخما، كثير الكيس واللطافة، عزيز النفس التي تحف أخلاقه وأعطافه، حسن المذاكره، جميل المحاولة والمحاوره، يلازم الملوك والزراء، ووجوه الدول والأمراء.
ولم يزل على حاله في وجاهته وعظم قدره ونباهته إلى أن سلب روحه، وعمر بجسده ضريحه.
وتوفي - رحمه الله تعالى.... - سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
قدم بغداد مراراً، وروى بالإجازة عن سيف الدين الباخرزي، يقال إنه سمع منه. قال شيخنا الذهبي: ولم يصح.
ولما كمل من عمره ثمانين سنة عمل وليمة عظيمة، واتفق موته بعدها بجمعة، وكانت وفاته قريباً من تبريز.
وأخذ عنه السراج القزويني ومحمد بن يوسف الزرندي وأجاز لأولد شيخنا الذهبي.
محمد بن أبي بكر بن عيسىابن بدران بن رحمة، الإمام قاضي القضاة، علم الدين الأخنائي، بهمزة وخاء معجمة ونون وألف ممدودة، السعدي المصري الشافعي، قاضي قضاة الشام.
حدث عن أبي بكر الأنماطي، والأبرقوهي، وابن دقيق العيد، وتفقه، وشارك، وكان من عدول الخزانة بالديار المصرية. ثم إنه ندب لقضاء الإسكندرية.
ولما توفي شيخ الشيوخ علاء الدين القونوي بدمشق رسم له السلطان بقضاء الشام، وحضر صحبة الأمير سيف الدين تنكز من القاهرة، وكانت ولايته في الإصطبل السلطاني يوم السبت بعد العصر رابع المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة، ووصل إلى دمشق يوم الجمعة رابع عشري المحرم.
كان عالماً، ساكناً صيناً، وافر الجلاله، سافر البساله، متوسطاً في العلم، كتبسطاً في الحلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، سلفي الطريقه، سلفي الحقيقة، يحب الروايه، ويعتني بها أتم عنايه.
ولم يزل على حاله إلى أن أخنى على الأخناي دهره، وضمه بعد علو منصبه قبره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده عاشر شهر رجب سنة أربع وستين وست مئة.
وتولى بعده قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن جملة. وكان القاضي علم الدين قد لازم الدمياطي مدة.
ومن أمداح الشيخ جمال الدين محمد ابن نباته فيه، قوله:
قاضي القضاة بيمنى كفه القلم ... يا ساري القصد هذا البان والعلم
هذا اليراع الذي تجني الفخار به ... يد الإمام الذي معروفه أمم
معيي الأماثل في علم وفيض يد ... فالسحب باكية والبحر ملتطم
وافى الشآم وما خلنا الغمام إذاً ... بالشام ينشأ من مصر وينسجم
آهاً لمصر وقد شابت لفرقته ... فليس ينكر إذ يعزى لها الهرم
وأوحش الثغر من رؤيا محاسنه ... فما يكاد بوجه الدهر يبتسم
ينشي وينشد فيه الثغر من أسف ... بيتاً تكاد به الأحشاء تضطرم
يا من يعر علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
يزهى الشآم بمن فارقت طلعته ... واحر قلباه ممن قلبه شبم
محمد بن أبي بكر بن عيسىقاضي القضاة تقي الدين الأخنائي المالكي الحاكم بالديار المصرية.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة في شهر رمضان.
تولى الحكم بالديار المصرية في... وأقام على حاله إلى أن طلع القلعة ليحضر دار العدل، فرأى السلطان الملك الناصر من نظرة حاله فهم منها أنه يعمى، قال شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي: فأرسل إليه السلطان من قال له: انزل إليه فما تجده قد وصل إلى بيته إلا وهو أعمى، فلما وصل إليه الرسول وجده قد عمي بماء نزل في عينيه، فلما أخبره بذلك قال له: أشتهي من صدقات السلطان أنه كما فهم عني هذا الحال يكتمها علي ويدع منصبي علي إلى أن أعالج نفسي، فقبل السلطان ذلك، وترك منصبه عليه مدة ستة أشهر إلى أن قدح عينيه وأبصر وطلع القلعة ونزل، أو كما قال.
واستمر على حاله إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان السلطان يعظمه ويرجع إلى أقواله في أشياء، ولما عزل القضاة بمصر عزل قاضي القضاة جلال الدين القزويني وقاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق الحنفي، وعزل قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي، وأما قاضي القضاة تقي الدين بن الأخنائي فلم يغير عليه شيئاً من حاله، وكان السلطان الملك الناصر محمد قد قال في وقت يوم دار عدل للقضاة: أريد تبصرون لي رجلاً فاضلاً شافعياً يعرف عربية، ويكون ساكناً، لا يدخل في شيء غير التعليم، فأجمعوا كلهم على الشيخ برهان الدين الرشيدي خطيب جامع أمير حسين، وانفصل الحال على ذلك ولم يجر شيء غير ما جرى، ولا طلب الشيخ برهان الدين، وسكن الحال حتى نقب قاضي القضاة جلال الدين القزويني عن السبب، فوجد أن القاضي تقي الدين الأخنائي قال للسلطان: مالك به حاجة، فإنه من أصحاب ابن تيمية، فسكت السلطان ولم يجر بعد ذلك شيء. وكان في نفس قاضي القضاة تقي الدين منه من أيام واقعة شهاب الدين بن مري لما كان يتكلم عنده في الجامع، وجرى ما ذكرته في ترجمة شهاب الدين بن مري.
محمد بن أبي بكر بن ظافرابن عبد الوهاب، قاضي القضاة، شرف الدين الهمداني، بسكون الميم وبعدها دال مهملة، المالكي، ابن قاضي القضاة معين الدين أبي بكر ابن الشيخ ركن الدين أبي منصور.
حضر من الديار المصرية إلى دمشق في خامس جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
كان ساكناً، كثير الوقار، سعيد الحركات في المحافل الكبار، كثير التجمل في ملابسه، غزير الإطراق والصمت عند مجالسته، لا يرى من حاضره في دسته المكمل، غير أنه " كبير أناس في بجاد مزمل " . إلا أنه وادع السر ليس عنده أذى ولا يطبق أحد جفنه منه على قذى.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يجله ويضعه فوق النجوم ويحله.
ولم يزل على حاله إلى أن قضى قاضي القضاة نحبه، وفارق أعزاءه وصحبه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الأحد ثالث المحرم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وصلى عليه الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب دمشق والأمراء والقضاة والحجاب والأعيان بسوق الخيل، ودفن في تربته التي أنشأها بميدان الحصى، وفي يوم موته حررت قبلة الجامع الذي عمره يلبغا.
وكان شكلاً طويلاً مهيباً يعظمه النواب كلهم ويحترمونه، وكان يعاني الآلات الكبار في جميع ما عنده من دواة وقنديل ومغرز وطاسة، وما يرى أحد مثل القماش الذي يكون عليه ولا أغرب، ولا يرى ألطف من شاشة وقماشه، ولا أطيب من ريحه.
محمد بن أبي بكر بن محمدابن طرخان بن أبي الحسن، العالم الفاضل الأديب شمس الدين.
سمع حضوراً من إبراهيم بن خليل، والنجيب عبد اللطيف، وسمع الكثير من ابن عبد الدائم، وكتب المنسوب، وله نظم ونثر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس عشري ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وله حضور في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وست مئة، وهو في الثانية من عمره. وحضر على إبراهيم بن خليل، والنجيب عبد اللطيف الحراني، وأبي طالب بن السروري، وسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعبد الوهاب بن الناصح وجماعة وطلب بنفسه وكتب الطباق، وسمع من جماعة من أصحاب ابن طبرزد ومن بعده، وخرج له ابن خاله شمس الدين بن سعد " مشيخةً " في مجلدين وحدث بها غير مرة.
وكان كاتباً مجيداً، وكان يصحب الأكابر ويخدمهم وله مرتبات جيدة بالشام على الديوان السلطاني.
محمد بن أبي بكر بن أيوب
ابن سعد بن حريز الزرعي، الشيخ الإمام الفاضل المفتن شمس الدين الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية.
سمع على الشهاب العابر وجماعة كبيرة منهم سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وأبو نصر محمد بن عماد الدين الشيرازي، وابن مكتوم، والبهاء بن عساكر، وعلاء الدين الكندي الوداعي، ومحمد بن أبي الفتح البعلبكي، وأيوب بن نعمة الكحال، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وجماعة سواهم.
وقرأ العربية على ابن أبي الفتح البعلي، قرأ عليه " الملخص " لأبي البقاء، ثم قرأ " الجرجانية " ، ثم قرأ " ألفية ابن مالك " ، وأكثر " الكافية الشافية " وبعض " التسهيل " ، ثم قرأ على مجد الدين التونسي قطعة من " المقرب " .
وأما الفقه فأخذه عن جماعة منهم الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، قرأ عليه " مختصر " أبي القاسم الخرقي و " المقنع " لابن قدامة، ومنهم ابن أبي الفتح البعلي، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من " المحرر " تأليف جده، وأخوه الشيخ شرف الدين.
وأخذ الفرائض أولاً عن والده وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل بن محمد، قرأ عليه أكثر " الروضة " لابن قدامة، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من " المحصول " ومن كتاب " الأحكام " للآمدي.
وقرأ في أصول الدين على الهندي أكثر " الأربعين " و " المحصل " ، وقرأ على الشيخ تقي الدين بن تيمية قطعة من الكتابين، وكثيراً من تصانيفه.
وكان ذا ذهن سيال، وفكر إلى حل الغوامض ميال، قد أكب على الاشتغال، وطلب من العلوم كل ما هو نفيس غال، وناظر وجادل وجالد الخصوم وعادل، قد تبحر في العربية وأتقنها، وحرر قواعدها ومكنها، واستطال بالأصول، وأرهف منها الأسنة والنصول، وقام بالحديث وروى منه، وعرف الرجال وكل من أخذ عنه.
وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره الزخارة كل فائدة مهمه، ومن كواكبه السيارة كل نير يجلو حنادس الظلمه.
وأما الخلاف ومذاهب السلف فذاك عشه الذي منه درج، وغابه الذي ألفه ليثه الخادر ودخل وخرج.
وكان جريء الجنان ثابت الجأش لا يقعقع له بالشنان، وله إقدام وتمكن أقدام، وحظه موفور، وقبوله كل ذنب معه مغفور، وكان يسلك طريق العلامة تقي الدين بن تيمية في جميع أحواله، ومقالاته التي تفرد بها والوقوف عند نص أقواله.
وتوجه إلى الحجاز مرات، وحاز ما هناك من المبرات.
ولم يزل على حاله إلى أن دخل تحت رزة الرزيه، وعدم الناس منه لذة الحلوى السكرية وإن كانت نسبته إلى الجوزيه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى تسعين وست مئة.
وكان محظوظاً عند المصريين من الأمراء، يعطونه الذهب والدراهم، وهبه الأمير بدر الدين بن البابا مبلغ اثني عشر ألف درهم، والأمير سيف الدين بشتاك أعطاه في الحجاز مئتي دينار.
وكان قد اعتقل مع الشيخ تقي الدين بن تيمية في قلعة دمشق بسبب " مسألة الزيارة " ، ولم يزل إلى أن توفي الشيخ تقي الدين، فأفرج عنه في ثالث عشري الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وما جمع أحد من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك. ولما مات شيخنا فتح الدين اشترى من كتبه أمهات وأصولاً كباراً جيدة، وكان عنده من كل شيء في غير ما فن ولا مذهب، بكل كتاب نسخ عديدة، منها ما هو جيد نظيف، وغالبها من الكرندات. وأقام أولاده شهوراً يبيعون منها غير ما اصطفوه لأنفسهم.
واجتمعت به غير مرة، وأخذت من فوائده، خصوصاً في العربية والأصول.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
بني أبي بكر كثير ذنوبه ... فليس على من نال من عرضه إثم
بني أبي بكر جهول بنفسه ... جهول بأمر الله أنى له العلم
بني أبي بكر غدا متصدراً ... يعلم علماً وهو ليس له علم
بني أبي بكر غدا متمنياً ... وصال المعالي والذنوب له هم
بني أبي بكر يروم ترقياً ... إلى جنة المأوى وليس له عزم
بني أبي بكر يرى الغنم في الذي ... يزول ويفنى والذي تركه غنم
بني أبي بكر لقد خاب سعيه ... إذا لم يكن في الصالحات له سهم
بني أبي بكر كما قال ربه ... هلوع كنود وصفه الجهل والظلم
بني أبي بكر وأمثاله غدوا ... بفتواهم هذي الخليقة تأتم
وليس لهم في العلم باع ولا التقى ... ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم
فوالله لو أن الصحابة شاهدوا ... أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم
ومن تصانيفه: " زاد المعاد في هدى خير العباد " أربعة أسفار، " مفتاح دار السعادة " ، مجلد كبير، " تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته " ، نحو ثلاثة أسفار، " سفر الهجرتين وطريق السعادتين " سفر كبير، كتاب " رفع اليدين في الصلاة " ، سفر متوسط " معالم الموقعين عن رب العالمين " ، سفر كبير، كتاب " الكافية الشافية لانتصار الفرقة الناجية " ، وهو نظم نحو ستة آلاف بيت، وهذا الكتاب لما وقف عليه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي أنكره وتطلبه أياماً، " الرسالة الحلبية في الطريقة المحمدية " ، " بيان الاستدلال على بطلان محلل السباق والنضال " ، " التحبير بما يحل ويحرم لبسه من الحرير " ، " الفروسية المحمدية " ، " جلي الأفهام في أحكام الصلاة والسلام على خير الأنام " ، " تفسير أسماء القرآن " ، " تفسير الفاتحة " ، مجلد كبير، " اقتضاء الذكر بحصول الخير ودفع الشر " ، " كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء " ، " الرسالة الشافية في أسرار المعوذتين " ، " معاني الأدوات والحروف " ، " بدائع الفوائد " مجلد.
محمد بن أبي بكر بن إبراهيمابن عبد الرحمن الدمشقي، الشيخ الإمام قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب الشافعي، قاضي حمص، وقاضي قضاة طرابلس، وقاضي قضاة حلب، ومدرس الشامية الكبرى بدمشق أخيراً.
كان عالماً حبرا، وحاكماً برا، من قضاة العدل وأئمة الهدى، وحكام الحق الذين تساوى عندهم في القضاء الأحبة والعدا، مع لطف خلق كأنه نسيم، وتواضع يراه محادثه ألذ من كأس تنسيم، سالكاً طريق السلف والأخيار، ناهجاً سبيل السنة والآثار، لم يحك عنه ميل مذ حكمه ولا حيف، ولا جنف تزول به عن المظلوم لذة من قدوم ضيف الطيف، وكان من بقايا الأئمة، وخبايا هذه الأمه.
ولم يزل على حاله بدمشق إلى أن طرق الموت لابن النقيب طريقه، وترك العيون بالدموع غريقه، والقلوب بالأحزان حريقه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ومات عن بضع وثمانين سنة.
وحدث عن ابن النحاس وطائفة.
وكان قد تفقه على الشيخ محيي الدين النواوي - قدس الله روحه - وقال له يوماً: أهلاً بقاضي القضاة ومدرس الشامية، فما مات رحمه الله تعالى حتى نال ذلك أجمع ببشرى الشيخ له.
وسمع من ابن البخاري وغيره، وكان عنده خمائر في الفقه من الشيخ محيي الدين، ويعرف " شرح العمدة " للأحكام الذي لابن دقيق العيد معرفة جيدة ويقرئها لما كان بدمشق للطلبة.
ولما عزل القاضي فخر الدين ابن البارزي من حمص رسم الأمير سيف الدين تنكز للشيخ شمس الدين بالتوجه إلى قضاء حمص، فامتنع من ذلك، فتهدده، فما أمكنه إلا الرواح إليها، وتوجه إليها في يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وخرج الناس لوداعه واستناب في وظائفه.
محمد بن أبي بكر بن أحمدابن عبد الدائم المقدسي.
سمع الكثير من جده، ومن محمد بن إسماعيل خطيب مردا، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع ربيع الأول سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن بلبانالأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين البدري.
كان أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وكان قد زوج ابنته بركن الدين عمر بن الأمير ناصر الدين دوادار تنكز، ودخل بها في ليلة الجمعة عاشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، وكان عرس عظيم وزفة عظيمة، ثم إن تنكز ولاه الحجبة.
محمد بن تميمشرف الدين أبو عبد الله الإسكندري، نزيل اليمن، أحد كتاب الدرج للملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن.
نقلت من خط الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني. قال: نشأ المذكور في بلاد المعبر من بلاد الهند، وكان كاتب درج الملك الرحيم تقي الدين عبد الرحمن بن محمد الوساملي الطيبي، ثم لما مات مخدومه وفد إلى الملك المؤيد فاستكتبه.
وكان ذا لفظ صنيع، ونظم بديع وله إنشاء حسن، وكان يعرف بالمقاماتي وحاولته على أن أرى تلك المقامات، وكان يجيب ما هي مقامات بل قمامات. اجتمعت به في عدن سنة ثلاث وسبع مئة وأنشدني قصيدة مدح بها عز الدين عبد العزيز بن منصور الحلبي عرف بالكويكي وقد جاء إلى عدن بمال عظيم لم ير مثله، وأول القصيدة:
أتذكر ليلى عهدنا المتقدما ... أم البين أنساها عهوداً على الحمى
وأيامنا اللائي على الخيف قد مضت ... بمجلس أنس بالمسرة تمما
وكنت أنا وإياه يوماً على باب البحر بثغر عدن فمر خادم هندي بديع الصورة فقال لي: أنظم في هذا بيتين فنظمت بديهاً:
بأبي طبي من الهند حكى ... لحظه الهندي في أفعاله
جوهري الثغر يدعى جوهرا ... وأراه الفرد في أمثاله
فعجب من سرعة البديهة، قال: لكني أحكي لك حكاية اتفقت لي في بلاد الهند، اقترح علي بعض التجار الرعن اقتراحاً فيه قبح، وذاك أنه كان له خادم هندي يسمى جوهراً وكان مغرماً به، فقال لي تستطيع أن تنظم أبياتاً مضمونها أن فعلي لذلك الحال موجب لنفاسة هذا العلق عندي ومتى فعلت هذا أعطيك عشرين عيناً، فأنشدته أبياتاً من غير روية، وهي:
أقول للخل عداك الردى ... إني أنا الماس فلا تعتجب
في أصلي الحدة أسطو بها ... على أصم الجوهر المنتسب
والجوهر الشفاف ما لم يكن ... يثقبه الثاقب لم ينتسب
فلي على الجوهر فضل إذا ... صيرته بين الورى منثقب
قال الشيخ تاج الدين: وكان مولعاً بأكل البر شعثا أكثر أوقاته، غائب الذهن منها، وكرهه السلطان لذلك.
مات - رحمه الله تعالى - سنة خمس عشرة وسبع مئة وله موشحات بديعة.
محمد بن تمرالأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير سيف الدين الساقي نائب طرابلس.
كان شاباً حسن الصورة، كريماً، شجاعاً، فيه خير ودين، قرئ في داره " صحيح " البخاري، وسمعه معه جماعة، وكان عمره يوم مات خمسة وثلاثين سنة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق تاسع صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتقدم ذكر والده في حرف التاء مكانه.
محمد بن ثابتالفقيه شمس الدين الخبي الحنبلي الصالحي رفيق ابن سعد.
قال شيخنا الذهبي: عاقل، سمع ودار على الشيوخ، وتنبه قليلاً، ثم أم بقرية بالمرج، سمع مني.
وتوفي شاباً - رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن جابرالعالم المقرئ المحدث، الجليل، أبو عبد الله الأندلسي، الوادي آشي، ثم التونسي المالكي.
قرأ على والده، بالسبع على طائفة، وسمع من ابن هارون الطائي، وأبي العباس بن الغمار، وطائفة بتونس.
قال شيخنا الذهبي: وقرأ عندنا " صحيح " البخاري، وسمع من البهاء بن عساكر، وبمكة من الرضي الإمام، انتقى العلائي عليه جزءاً، وكان حسن المشاركة في الفضائل، خرج " الأربعين البلدانية " ، كتبها عنه شيخنا علم الدين البرزالي.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
محمد بن جعفر بن ضوء البعلبكيالفقيه شمس الدين الشافعي.
كان من فقهاء المدرسة القيمرية بدمشق، وكان له تردد إلى الناس واجتماع بهم، وله عليهم خدمة ومعرفة بقضاء حوائجهم وأشغالهم، على في نفوسهم، وهو مطبوع داخل. وكانت بينه وبين النجم هاشم البعلبكي مودة وصحبة واتحاد، وكان حسن الشكالة والصورة.
توفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس وأثنى الناس عليه وتأسفوا عليه.
محمد بن جعفر بن محمدابن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون الشيخ الإمام الشريف تقي الدين ابن الشيخ ضياء الدين القنائي، بالقاف والنون.
كان فقيهاً، شاعراً، صالحاً، سمع من أبي محمد عبد الغني بن سليمان، وأبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن نصر بن فارس.
وحدث بالقاهرة، وسمع منه الشيخ عبد الكريم بن عبد النور وجماعة، ودرس بالمدرسة المسرورية وتولى مشيخة خانقاه أرسلان الدوادار، وانقطع بها وتزوج بعلما أخت الشيخ تقي الدين، ورزق منها ابنين فقيهين، قال كمال الدين الأدفوي: كان خفيفاً، لطيفاً، وله شعر. أنشدني بعض أصحابنا بقوص مما نظمه سنة اثنتين وسبع مئة، عندما حصلت الزلزلة.
مجاز حقيقتها فاعبروا ... ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف ... تراه إذ زلزلت لم يكن
ومن شعره أيضاً:
من بعد فراقكم جرت لي أشيا ... لا يمكن شرحها ليوم اللقيا
كم قلت لقلبي بدلاً قال بمن ... والله ولا بكل من في الدنيا
قال: ووفاته بالقاهرة في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده بقوص ظناً سنة خمس وأربعين وست مئة.
قلت: أخبرني من لفظه القاضي الرئيس الكاتب تاج الدين محمد بن محمد البارنباري. قال: قال لي الشيخ تقي الدين المذكور لما نظمت: " مجاز حقيقتها فاعبروا " البيتين بقي في نفسي شيء من كوني ذكرت في الشعر أسماء سور القرآن العظيم، فأتيت الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - وأنشدتهما له، فقال: لو قلت: " وما حسن كهف له زخرف " لكنت قد زدت سورة رابعة. قال: فقلت له يا سيدي: قد أفدتني وأفتيتني، أو كما قال.
وأنشدني قال: أنشدني المذكور لغزاً في العين الباصرة:
ومحبوبة عند المنام ضممتها ... أحس بها لكنني ما نظرتها
لذيذة ضم لا أطيق فراقها ... وكم من ليال في هواها سهرتها
قلت: وما أحسن قوله " في هواها سهرتها " .
وقد ذكرت هنا لغزاً في العين للجهرمي وهو حسن:
إن التي أودت فؤادي تلت ... حزناً عليه وهو ملسوعها
جملتها واحد أجزائها ... طبيعة يعجب مطبوعها
فالكل إذ يقرأ بعض لها ... والبعض إذ يذكر مجموعها
عميتها في لحن قولي فمن ... يخرجها إذ كان يسطيعها
وقد رأيت لبعضهم ستة أسماء من سور القرآن العظيم في بيت واحد وهو قوله:
أقول وقد هبت لنا نسمة الصبا ... ترى دارت بنا كأس قرقف
وفاطر قلبي هل أتى نبأ الورى ... بتمل عذار جاء في صف يوسف
وما أحسن ما نقلته من خط السراج الوراق:
سامح بفضلك من أتى ... ذنباً ولقنه المعاذر
وبزخرف من قوله ... كن أنت للزلات غافر
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه أيضاً:
حياة المنازل سكانها ... هم روحها وهي جثمانها
أضاءت بمن حلها بهجةً ... كما حل بالعين إنسانها
وللظاعنين تحن الديا ... ر كأن الأحبة أوطانها
قلت: ذكرت بهذا قول أبي الحسين الجزار، وهو:
طرف المحب فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان
يا سائلي عما تكابد مهجتي ... إعراب طرفي بالدموع بيان
تبكي الجفون على الكرى فاعجب لمن ... تبكي عليه إذا نأى الأوطان
وأنشدني قال أنشدني المذكور لنفسه في باذهنج:
كأنما الباذهنج قلع ... علا على الفلك حين تسري
لكن ذاك الرياح أجرت ... وذا غداً للرياح يجري
وذكر هنا قول شهاب الدين مسعود بن محمد بن مسعود السبكي المالكي:
وباذهنج إذا حر المصيف أتى ... أهدى النسيم وقد رقت حواشيه
مصغ إلى الجو ما ناجاه نافحة ... إلا ونم عليه فهو واشيه
قلت: ومما قلته أنا في باذهنج:
بنينا للتنسم باذهنجا ... غلا فعلى إلى جو السماء
وراق به الهواء ورق لطفاً ... فسميناه راووق الهواء
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في شيخ منحن مطيلس:
كالعين شيخ منحن ... مطيلس أعرفه
تقويسها كظهره ... ورأسها رفرفه
قلت: هذا تشبيه عجيب، وتخيل غريب إلى الغاية.
وأنشدني قال أنشدني فيمن جهز إليه بوريه فايتة:
دع الاضطراب عن الحيا ... ة وخل نفسك ثابتة
وازرع فحبات القلو ... ب بها المحبة نابته
وذكرت فايتةً فقم ... للفور واقض الفايته
محمد بن جنكليالأمير ناصر الدين ابن الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا الحنبلي.
تقدم ذكر والده في حرف الجيم مكانه.
كان جمال المواكب، وثمال الكواكب، أحسن خلق الله وجهاً وقواما، كأنه غصن بان ركب الله في أعلاه قمراً تماما، مع أخلاق ما للنسيم لطفها، ولا لأزاهر الرياض اليانعة عرفها، ولا للغصون الناعمة لينها ولا عطفها، وسماح يتعلم السحاب سحه، ويظهر من البحر شحه، وكتابة إن وصفتها بالخمائل أخملتها، وإن قلت: هي كالعقود، فقد نقصت من قدرها وأهملتها، تصبح بها السطور وقد توشت، والعيون وقد تردت بالمحاسن وتغشت، وفقه ما لابن حزم حزمه، ولا لابن عبد البر نقله ولا جزمه، وحديث ما ترقى الخطيب درجه، ولا ألم به ابن عساكر ولا خرجه، وأسماء رجال يغرق فيها ابن نقطه، ويتحقق سامعه أنه ما عند السمعاني بعدها غبطه، وأدب ما وصل الحصري إلى أنماطه، ولا صاحب " الذخيرة " إلى التقاطه، ولا صاحب " القلائد " إلى تيجانه وأقراطه، وشعر راق نسجه، ولاق نهجه:
شخص الأنام إلى جمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد
ولم يزل على حاله إلى أن حل بحماه الحمام، وأبكى عليه حتى الحمام.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وتسعين وست مئة.
كان أولاً قد اشتغل بمذهب أبي حنيفة، ثم إنه تمذهب للإمام أحمد بن حنبل وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة:
بك استجار الحنبلي ... محمد بن جنكلي
فاغفر له ذنوبه ... فأنت ذو التفضل
وكتب طبقة واشتغل في غير ما فن، ولم يزل مواظباً على سماع الحديث، واختلط بشيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تخرج، وعنه أخذ معرفة الناس وأيامهم وطبقاتهم وأسماء الرجال.
وكان آية في معرفة فقه السلف ونقل مذاهبهم وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا أجود ما عرفه، مع مشاركة جيدة في العربية والطب والموسيقا.
وكان في النظم متوسط الطبقة وربما تعذر عليه حيناً، لكن له ذوق في الأدب، يفهم لطائف المعاني ويدركها ويهتز للفظ السهل، ويطرب لنكت الشعراء المتأخرين كأبي الحسين الجزار والوراق وابن النقيب وابن دانيال وابن العفيف ومن جرى مجراهم، ويستحضر من مجون ابن حجاج جملة.
وكان يلعب الشطرنج والنرد، وقل أن رأيت مجموعه في أحد.
رأيته غير مرة واجتمعت به كثيراً، وقد شاركته في بعض سماعاته، وسمع بقراءتي على شيخنا الحافظ أبي الفتح كثيراً، ورد علي يوماً بعض الأسماء صحفته أنا ذهولاً مني، ولما فرغنا أنشدته:
يرد علينا ما نقول أميرنا ... لئلا يرانا في النهى دون حدسه
ويختار منا أن نكون كمثله ... ويطلب عند الناس ما عند نفسه
فأعجبه هذا التضمين وطرب له.
وكان فيه بر وإيثار لأهل العلم والفقراء، ويخير مجالسة أهل العلم على مجالسة الأمراء والأتراك، وكان كثير الميل إلى من يهواه، لا يزال متيماً، هائماً، يذوب صبابة ويفنى وجداً، ويستحضر في هذه الحالة ما يناسبها من شعر الشريف الرضي ومهيار وابن المعلم، ومتيمي العرب جملة يترنم بها ويراسل بذلك، ويعاتب.
وخرج له شهاب الدين أحمد الدمياطي أربعين حديثاً، وحدث بها قبل موته، وأثنى عليه الفاضل كمال الدين الأدفوني في تاريخه: " البدر السافر " ثناء كثيراً.
ولما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - وأنا بدمشق قلت أرثيه، وضمنت القصيدة أعجاز أبيات قصيدة أبي الطيب:
هي الأيام ليس لها ذمام ... وليس لها على عهد دوام
نصبنا للردى غرضاً فأصمت ... حشانا من رزاياه السهام
وما بعد الرضاع وذاك حق ... تبين عندنا إلا الفطام
نسير على مطايا للمنايا ... وفي كف الزمان لها زمام
إذا متنا تنبهنا لهول ... نرى أن الحياة هي المنام
ألم تر كيف عاث الدهر فينا ... وأودى ناصر الدين الهمام
فشق الرعد جيب السحب لما ... تلهب برقها وبكى الغمام
فيا أسفاً لوجه كان يبدو ... فيستحيي له القمر التمام
وبالشمائل كم هام فيها ... فؤاد ما يسليه المدام
ويا لخلائق كالروض لما ... تفتح عن أزاهره الكمام
ويا لفضائل قلنا لديها ... أفدنا أيها الحبر الإمام
ويا لكتابة كالدر لما ... يؤلفه على النحر انتظام
وكان يرام في بذل العطايا ... وأما في الجدال فما يرام
ولم نر في الزمان له شبيهاً ... وإن كثر التجمل والكلام
أيا من في الرقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام
لئن عمت مصيبتك البرايا ... وصار بها على الدنيا ظلام
فكم حسنت بك الأوقات حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
ستندبك المواكب كل يوم ... ويبكيك المثقف والحسام
لأنك ما شهدت الحرب إلا ... تعالى الجيش وانحط القتام
فلو تفدى بذلنا كل نفس ... لأن حلال بقيانا حرام
ولو رد الردى حرب لشبت ... وكان وقودها جثث وهام
وكف الخطب عنك كفاة أهل ... هم في الروع أمجاد كرام
أب وأخ هما ليثا عرين ... إذا ما كان للحرب اصطلام
يعز عليهما أن بت فرداً ... وجالت في محاسنك الهوام
وما تركاك رهن الترب عندا ... ولكن معدن الذهب الرغام
فنم فلو افتقرت لفعل بر ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا
وما تحتاج عند الله قربى ... مواهبه لنا أبداً جسام
فللرحمن لطف واعتناء ... بمن بالعلم كان له اعتصام
فكم أذريت خوف الله دمعاً ... غمائمه إذا انهلت سجام
قضيتك بالوفا حقاً أكيداً ... لأن بصحبة يجب الذمام
سأجعل طيب ذكرك لي سميراً ... ومن يعشق يلذ له الغرام
وأرجو الله أن يوليك رحمى ... ومن إحدى عطاياه الدوام
فلا تبعد فنحن عليك وفد ... وغايتنا لهذا والسلام
وأورد الكمال الأدفوي في آخر ترجمة الأمير ناصر الدين، وأظن ذلك في نظم كمال الدين المذكور فيه:
أبكي عليك بدمعة كتبت على ... صفحات خد للكئيب سطورا
تجري من العين التي أنشأتها ... ما زال من إحسانه مسرورا
سالت عقيقاً فاستحالت عندما ... شابت فصارت لؤلؤاً منثورا
قلت: العين وإنسانها لا يوصفان بسرور البتة، وإنما السرور من صفات القلب.
وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - لما أخرج السلطان الملك الناصر محمد خليل بن بلغدار إلى الشام بسببه، وكان له إليه ميل عظيم:
ومن حيثما غيبت عني ظاهراً ... وسرت على رغمي وفارقتني قسرا
أقمت ولكني وعيشك آيس ... من الروح بعد الخل أن تسكن الصدرا
فكم عبرة للعين أجريتها دماً ... وكم حرق في القلب أذكيتها جمرا
لعل الذي أضحى له الأمر كله ... على طول ما ألقاه يحدث لي أمرا
وأنشدني من لفظه لنفسه في المذكور، اهتدم قول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وحولي... إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مناهل جلق ... ويبدو لعيني شامة وخليل
وقال كمال الدين الأدفوني نقلت من خطه له:
وإذا اعتبرت سني عمرك في الهوى ... ومرورها في أعصر الخسران
وعلمت أن المرء منها راحل ... سقراً به للسخط أو رضوان
أيقنت أن الفوز فيها للتقى ... ولمن يقوم بمحكم القرآن
فاجهد لنفسك يا أخي مخلصاً ... فلقد نصحتك في جميل بيان
وكتبت له وأنا بالقاهرة منشوراً بإمرة أحد وأربعين رمحاً في أيام السلطان الملك الناصر محمد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة وهو: " الحمد لله الذي نصر هذا الدين بمحمده، وجعل مفارق العدا من أغماد مهنده، وأطفأ بوبل نبله حر الوغى إذا زاد في توقده وجمع له بين فضل السيف والقلم، فكان هذا الجمع من مزايا تفرده.
نحمده على نعم التي منحت دولتنا القاهرة ولياً تعقد عليه الخناصر، وخصت أيامنا الزاهرة بماجد طابت منه الأصول، كما طابت العناصر، وزانت مواكبنا الوافرة بفارس يصبح النجم عن مداه وهو قاص والبرق قاصر، واعتزت جيوشنا الباهرة منه ببطل من لم يكن له وسمه واسمه " فماله من قوة ولا ناصر " .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترغم معاطس الكفر والضلال ونعلي بها كلمة الإيمان بصدور البيض البتر وكعوب السمر الطوال، ونطلع بها في ليل العجاج المظلم أسنة الذوابل تتقد كالذبال، وننال بإخلاصها النصر إذا تبت يد الكافر يوم الفتح في القتال.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده ونصر الدين الحنيف بأنواع أعوانه وأجياد جياده وأتعب السيوف في راحته حتى لقي الشرك وألوفه بالتوحيد وآحاده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعاهم إلى هداهم فثنوا إليه الأعنة ورأوا أفعاله فرووا عنه السنة وجالدوا عداه، فرووا منهم الأسنة واستبشروا ببيعهم الذي بايعهم بأن لهم الجنة، صلاة تتبلج بها نجوم الظلم، وتتأرج بها نسمات الضال والسلم ما خفقت عذبات علم وثل الإيمان عرش البهتان وثلم، وسلم تسليماً كبيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فإن أحق الأولياء بموالاة النعم ومغالاة القيم ومضاعفة الآلاء عليه حتى تخجل الديم، من تزاحم النجوم علياه بالمناكب، ويغدو بدر الجيوش في هالة المواكب، ويمتشق الصوارم بيمناه ويركب من شوق إلى كل راكب، ويعتقل الذوابل فتلج في علو " كأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب " .
وكان المجلس السامي الأميري وألقابه الناصري ونعوته محمد بن الجناب العالي الأميري البدري محمد بن جنكلي بن البابا الناصري من قوم ندعوهم فيلبون إلى طاعتنا مسرعين، ونرجو لفتاهم كمال المئة، فإنه قد تجاوز حد الأربعين، فهم أبطال تفرق الأسود الغلب من وثباتها وثباتها، وفرسان قوائم خيلهم صوالج تلعب من رؤوس العدى بكراتها في كراتها، وشجعان ألفوا مقاعد الخيل فكأنهم ولدوا على صهواتها، وأمراء زانوا مواكبنا السعيدة التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، قد احتكم إلى يمينه السيف والقلم، وانطوى على نشر العلم والعلم، ونقص عند أقوامه زيد الخيل، وشاب من شجاعته عامر بن الطفيل، وعجز ابن عساكر عن حفظه، وغرق ابن نقطة في بحر لفظه، فهو من المناضلة إلى المفاصلة، ومن تدبير العوالي إلى تسطير الأمالي، ومن جلاد الفوارس إلى جدال المدارس، ومن ظهور السابقة العراب، إلى بطون الناطقة بالصواب عملاً بقول القائل:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
لأنه نجل والده الذي ما رفعنا راية رأيه في أمر ففسد، وفرع أصله الذي نشأ في خدمتنا الشريفة، والشبل في المخبر مثل الأسد، كم لوالده من يوم حرب أذكر الناس بيوم بدر، وكم له من ليلة علا فيها قدره " وما أدراك ما ليلة القدر " .
وقد اقتضت آراؤنا الشريفة تغيير إقطاعه ليقوى حزبه على الحرب وينتقي من يكون أمامه من أبناء الطعن والضرب، وتمرح به كمت الجياد في الأرسان وتشاهد في مقامات حربه مقاتل الفرسان وينظم في صفاته " صحاح " الجوهري إذا نثر من الدماء " قلائد العقيان " ، فالفتوح تيسر للدين القيم بالحتوف، والجنة كمال قال صلى الله عليه وسلم تحت ظلال السيوف:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
يفوق الألوف فلذلك خرج الأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله تعالى وشرفه أن يجرى في إقطاعه.
فلما جهز المنشور إليه كتب هو إلي قرين تشريف جهزه والده رحمهما الله تعالى إلي: " يا مولانا ما هذا منشور إن هذا إلا لؤلؤ منثور، كل سطر منه جنة قد حفت بالثمار، وكل شطر من سطره لو يباع اشتري بألف دينار، تلعب فيه قلم مولانا بالعقول، وأدار بكلامه على الأسماع كأس الشمول، فعلم كل بليغ ما يقول، وتصدق على المملوك بأوصاف استعارها له بيانه، ورصع جواهرها بنانه، وقد وقف عليه محبكم الوالد وقال: بمثل هذا الفضل يحيى الذكر الخالد، وقد سير إليكم شيئاً من تمام الإحسان قبوله، وهو يعتذر بما إذا حضر المملوك يذكره ويقوله، والله تعالى يعلي لمولانا المكانة، ويديم لهذه الدولة الشريفة بيانه بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.