كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي
ولما توفي قاضي القضاة جلال الدين القزويني بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة طلبه السلطان الأعظم الملك الناصر محمد، وطلب الشيخ شمس الدين بن عدلان بحضور قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وقال له: يا شيخ تقي الدين قد وليتك قضاء الشام، وألبسه تشريفاً عظيماً وخرج صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى. وكنت أنا في خدمته طول الطريق فالتقطت الفوائد، وجمعت الفرائد التي ظل في طلبها ألف رائد، وسهلت بسؤاله ما كان عندي من الغوامض الشدائد، ووددت أن النوى لم تلق لها عصا، وأن اليعملات في كل هاجرة تنفي يداها الحصا.
يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر
ودخل دمشق، فقل في روض حياه الغمام، ومادت غصونه بالطرب لما غنى عليها الحمام. أحيا الله به معالم علومها، وأطلع في آفاقها للهدى نيرات نجومها، وباشر قضاءها بصلف زاد، وسلوك ما حال عن جادة الحق، ولا حاد، منزه النفس عن الحطام منقاداً إلى الزهد الصادق بخطام، مقبلاً على شأنه في العلم والعمل، منصرفاً إلى تحصيل السعادة الأبدية فما له في غيرها أمل، ناهيك به من قاضي حكمه في هذه الإقليم متصرف الأوامر، وحديثه في العفة عن الأموال علالة المسامر، ليس في بابه من يقول لخصم هات، ولا من يجمجم الحق أو يموه بالترهات.
ومات الأمير سيف الدين تنكز وهو يعظمه، ويختار أكبر الجواهر للثناء عليه وينظمه:
وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ولم يزل على حاله إلى أن حصل له من المرض ما حصل، وتماثل من سقمه ونصل، ونزل عن منصبه لولده قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، فتلقت الدولة ذلك منه بالترحاب، وقالوا سمعاً لما قاله وكرامة، وأهلاً بهذا النهر الذي غادرته تلك الغمامة.
ولما استقر الأمر لولده وثبت، ورأى غصنه الذي تفرغ عن أصله ونبت توجه إلى الديار المصرية شوقاً لأرض أول ما مس جلده ترابها، وأول ما ضمه جناتها واتسع له جنابها، فقال النيل: مرحباً بغمام الشام، وقالت نجومها: أهلاً بهذا القمر التام، فأقام بها ريثما بل صداه، ورد برؤية ربوعها رداه، ونقله الله إلى حضرة قدسه.
ومواطن رحمته وأنسه. فلبى المنادي، وخلا من نداه النادي، وقام الناعي فأسمع. وأوجد القلوب حزنها فأوجع.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده أول يوم من صفر سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
وتفقه في صغره على والده رحمه الله تعالى، ثم على جماعة آخرهم فقيه العصر نجم الدين بن الرفعة، ورأيته رحمه الله يثني عليه ثناء كثيراً، ويعظمه تعظيماً زائداً.
وقرأ الفرائض على الشيخ عبد الله الغماري المالكي.
وقرأ الأصلين وسائر المعقولات على الشيخ الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان يعظمه ويصفع بالدين.
وقرأ المنطق والخلاف على الشيخ سيف الدين البغدادي.
وقرأ النحو على الشيخ أثير الدين أبي حيان.
وقرأ التفسير على الشيخ علم الدين العراقي.
وقرأ القراءات على الشيخ تقي الدين بن الصائغ.
وتخرج في الحديث على الحافظ شرف الدين الدمياطي.
وصحب في التصوف الشيخ تاج الدين.
ورحل في طلب الحديث إلى الإسكندرية والشام، ومن مشاهير أشياخه في الرواية ابن الصواف، وابن جماعة، والدمياطي، وابن القيم، وابن عبد المنعم، وزينب، وهؤلاء بالإسكندرية وبمصر. والذين بالشام: ابن الموازيني، وابن مشرف، والمطعم، وغيرهم.
والذين بالحجاز: رضي الدين إمام المقام وغيره.
وخرج له شهاب الدين الدمياطي معجماً لشيوخه.
جلس بالكلاسة جوار الجامع الأموي بدمشق، وحدث به قراءة عليه الإمام أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح السبكي، وسمعه عليه خلائق منهم الحافظ الكبير جمال الدين المزي، والحافظ أبو عبد الله الذهبي، وروى عنه شيخنا الذهبي في معجمه.
وتولى بدمشق مع القضاء خطابة الجامع الأموي وباشرها مدة، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فقال شيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي: ما صعد هذا المنبر بعد ابن عبد السلام أعظم منه ونظم في ذلك:
ليهن المنبر الأموي لما ... علاه الحاكم ابر التقي
شيوخ العصر أحفظهم جميعاً ... وأخطبهم وأقضاهم علي
وتولى بعد وفاة شيخنا المزي رحمه الله تعالى مشيخة دار الحديث الأشرفية. فالذي نقول: إنه ما دخلها أعلم منه، ولا أحفظ في الرجال من المزي، ولا أورع من النووي وابن الصلاح، ولا يورد زين الدين الفارقي فإنه أفقه منه رحم الله كلاً.
وتولى تدريس الشامية البرانية بعد موت مدرسها قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب رحمه الله في أوائل سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وكتبت له بذلك توقيعاً هو مذكور في الجزء الخامس والعشرين من التذكرة التي لي.
ثم إنه ولي تدريس المسرورية بعد الشيخ تاج الدين المراكشي، وكتبت له توقيعاً بذلك هو في الجز الثاني من التذكرة التي لي.
وكان قد طلب في نهار الجمعة بعد الصلاة سادس عشري جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة إلى الديار المصرية، جاء البريد بطلبه ليجعل قاضي القضاة بالديار المصرية، فتوجه. ثم إن القضية فترت، وأقام بها قليلاً وعاد إلى دمشق على منصبه.
ومن مسموعاته الحديثية: الكتب الستة، والسيرة النبوية، وسنن الدار قطني، ومعجم الطبراني، وحلية الأولياء، ومسند الطيالسي، ومسند الحارث بن أبي أسامة، ومسند الدارمي، ومسند عبد، ومسند العدني، ومسند الشافعي رضي الله عنه، وسنن الشافعي، واختلاف الحديث للشافعي، ورسالة الشافعي، ومعجم ابن المقرئ، ومختصر مسلم، ومسند أبي والشفاء للقاضي عياض، ورسالة القشيري، ومعجم الإسماعيلي، والسيرة للدمياطي، وموطأ يحيى بن يحيى، وموطأ القعنبي.
وموطأ ابن بكير، والناسخ والمنسوخ للحازمي، وأسباب النزول للواحدي، وأكثر مسند أحمد، ومن الأجزاء شيء كثير.
ولقد كان عمره بالديار المصرية وجيهاً في الدولة الناصرية يعرفه السلطان الأعظم الملك الناصر ويوليه المناصب الكبار، مثل إدريس المنصورية وجامع الحاكم والكهارية. والأمير سيف الدين أرغون النائب يعظمه، والقاضي كريم الدين الكبير يقربه ويقضي أشغاله، والأمير سيف الدين قجليس، وأما الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار فكان لا يفارقه ويبيت عنده في القلعة غالب الليالي، ونائب الكرك والأمير بدر الدين جنكلي بن البابا والجاولي والخطيري وغيرهم جميعهم يعظمونه ويحترمونه ويشفع عندهم ويقضي الأشغال للناس.
وجاء إلى الشام قاضي القضاة من سنة تسع وثلاثين إلى بعض سنة ست وخمسين هذه المدة كلها، وجاء في أيامه الطاعون فلو شاء هو وولده أقضى القضاة جمال الدين حسين أخذا في إثبات الوصايا ودعاوى القرابات وما يرث الناس بأسبابه ثلاث مئة ألف دينار وأضعافها، وكان ينفرد هو رحمه الله تعلى بولايات الوظائف بنصف ذلك، ولم يقدر أحد يقول إنه وزن ديناراً ولا درهماً ولا أقل ولا أكثر. وأما لبسه الذي يكون عليه في غير دور العدل والمحافل فيما أظنه كان يساوي ثلاثين درهماً.
وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل
وبعد هذا جميعه يموت فيوجد عليه دين مبلغ اثنين وثلاثين ألف درهم، ولو لم يكن له داران بمصر اشترى الواحدة، وورث الأخرى مع مجلداته التي قناها في عمره، أبيع الجميع فكمل ثلثي الدين، والتزم ولداه مد الله في عمرهما بوفاء البقية، هكذا هكذا وإلا فلا لا.
ينسب إلى الشافعي أنه قال: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص، قدس الله روحه، ونور ضريحه، والذي استقر في ذهني منه أنه كان إذا أخذ أي مسألة كانت من أي باب كان، من أي علم كان عمل عليها مجلداً أو مصنفاً لطيفاً، أعني في علوم الإسلام من الفروع والأصلين والحديث والتفسير والنحو والمعاني والبيان. وأما العقليات فما كان في آخر وقته فيها مثله.
وأما فن الأدب فما احتاج مع أسماء كتبه وتصانيفه إلى بيان، هي تشهد له بأدبه وذوقه. وأما الهجاء وفن الكتابة فكان ما يلحق فيه. وأما صناعة الحساب فرأيت أئمتها يعترفون له فيها، ولم أره في مدة ولايته القضاء يستكثر على أحد شيئاً والعلة في ذلك إعراضه عن الدنيا وإلقاؤها وراء ظهره، حتى لم تكن له ببال حتى إنني قلت فيه:
لم يلتفت يوماً إلى زهرة الد ... نيا وإن كانت له زاهره
رئاسة العلم التي حازها ... تكفيه في الدنيا وفي الآخرة
ولم نر أحداً من النواب الذين هم كانوا ملوك الشام ولا من غيرهم تعرض له فأفلح بعدها، إما يموت فجأة أو يغتال أو يعطل ويستمر في عطلته إلى أن يموت، جربنا هذا غير مرة مع غير واحد، وهذا شاع وذاع. ولقد جئت إليه يوماً، وقلت له يا سيدي هذه قضية حديثاً، بالله دع أمرها فإنك قد أبلغت فيها عذراً، وهذا ملك الأمراء وغيره في ناحية وهم بمعزل، وأخشى يحصل بسببها شر، فما كان جوابي إلا أن أنشد:
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
فعلمت أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم.
ومن حين نافسه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي ما قر له قرار ولا هناه عيش بدمشق، وجرى له ما جرى، وعزل منها، وتولى حلب، وقاسى بها شدائد، ثم إنه عزل ونقل إلى مصر، ثم إنه أمسك واعتقل بالإسكندرية، ثم حضر إلى القدس. ولم يزل يدخل في مرض ويخرج منه إلى أن توفي رحمه الله تعالى، ولما طلب إلى مصر خوفوه من أمره، فقال: يروح إليها ومما يفلح، ويموت والله ولده قاضي القضاة تاج الدين حيث قال في ترجمته لما ذكره في طبقات الفقهاء:
وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الحسود يظن السوء عدوانا
هذا الذي تعرف الأملاك سيرته ... إذا ادلهم دجى لم يبق سهرانا
هذا الذي يسرع الرحمن دعوته ... إذا تقارب وقت الفجر أو حانا
هذا الذي يسمع الرحمن صائحه ... إذا بكى وأفاض الدمع ألوانا
هذا الذي لم يزل من حين نشأته ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
هذا الذي تعرف الصحراء جبهته ... من السجود طوال الليل عرفانا
هذا الذي لم يغادر سيل مدمعه ... أركان شيبته البيضاء أحيانا
والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجة في العصر برهانا
وحافظاً لنظام الشرع ينصره ... نصراً يلقيه من ذي العرش غفرانا
كل الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا
وصنف بالديار المصرية ودمشق ما يزيد على المئة والخمسين مصنفاً فمن ذلك: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، عمل منه مجلدين كبيرين ونصفاً، وتكملة المجموع في شرح المهذب ولم يكمل، والابتهاج في شرح المنهاج في الفقه، بلغ فيه إلى آخر وقت والتحقيق في مسألة التعليق رداً على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق، وكان فضلاء الوقت قد عملوا ردوداً ووقف عليها، فما أثنى على شيء منها غير هذا، وقال ما رد علي فقيه غير السبكي، وكتاب شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام رداً عليه في إنكاره سفر الزيارة، وقرأته عليه بالقاهرة في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة من أوله إلى آخره وكتبت عليه طبقة جاء مما فيها نظماً:
لقول ابن تيمية زخرف ... أتى في زيارة خير الأنام
فجاءت نفوس الورى تشتكي ... إلى خير حبر وأزكى إمام
فصنف هذا وداواهم ... فكان يقيناً شفاء السقام
والرفدة في معنى وحده وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه وكتبت عليها:
خل عنك الرقدة ... وانتبه للرفده
تجن منها علماً ... فاق طعم الشهده
والتعظيم والمنة في " لتؤمنن به ولتنصرونه " وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه وكتبت عليها:
غالب ما صنفه الناس في ... مسببات المال والجاه
فللربا ذلك قد كان وال؟ ... تعظيم والمنة لله
والحلم والأناة في إعراب " غير ناظرين إناه " وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
يا طالب النحو في زمان ... أطول ظلاً من القناة
وما تحلى منها بعقد ... عليك بالحلم والأناة
والإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض كتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
قل لمن راح باحثاً عن كلام ... في كناياته وفي التعريض
لا تغالط، ما يشبه الدر شيء ... إن تأملته سوى الإغريض
وورد العلل في فهم العلل، وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
أيا من شفى ما بنا من علل ... ورد ردانا بورد العلل
جزاك إلهك من محسن ... هدانا الصواب وروى الغلل
ونيل العلا في العطف بلا، وكتبتها بخطي وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
يا من غدا في العلم ذا همة ... عظيمة في الفضل تملا الملا
لم ترق في النحو إلى رتبة ... سامية إلا بنيل العلا
ومن تصانيفه أيضاً رافع الشقاق في مسألة الطلاق، والرياض الأنيقة في قسمة الحديقة، ومنية المباحث في حكم دين الوارث، ولمعة الإشراق في أمثلة الاشتقاق وإبراز الحكم من حديث: رفع القلم، وإحياء النفوس في حكمة وضع الدروس، وكشف القناع في إفادة لو الامتناع، وضوء المصابيح في صلاة التراويح، ومسألة كل وما عليها تدل، وكتب عليها الفاضل سراج الدين عبد اللطيف بن الكويك ثلاثة أبيات أوردتها في ترجمته، والرسالة العلانية والتحبير المذهب في تحرير المذهب، والقول الموعب في القول بالموجب، ومناسك أولى ومناسك أخرى، وبيع المرهون في غيبة المديون، وبيان الربط في اعتراض الشرط على الشرط، ونور الربيع من كتاب الربيع، والرقم الإبريزي في شرح التبريزي، وعقود الجمان في عقود الرهن والضمان، وطليعة الفتح والنصر في صلاة الخوف والقصر، والسيف المسلول على من سب الرسول، والسهم الصائب في بيع دين الغائب. وفصل المقال في هدايا العمال، والدلالة على عموم الرسالة. والتهدي إلى معنى التعدي، والنقول البديعة في أحكام الوديعة، وكشف الغمة في ميراث أهل الذمة، والطوالع المشرقة في الوقوف على طبقة بعد طبقة، وحسن الصنيعة في حكم الوديعة، وأجوبة أهل طرابلس، وتلخيص التلخيص وتاليه، والإبهاج في شرح المنهاج في الأصول، بدأ فيه قدر كراسين، وكمله ولده قاضي القضاة تاج الدين.
ورفع الحاجب في شرح ابن الحاجب في الأصول، والقراءة خلف الغمام، والرد على الشيخ زين الدين الكتاني، وكشف اللبس في المسائل الخمس ومنتخب طبقات الفقهاء، وقطف النوار في دراية الدور، والغيث المغدق في ميراث المعتق، وتسريح الناظر في انعزال الناظر والملتقط في النظر المشترط، وتنزيل السكينة على قناديل المدينة، ودفع من تغلبك في مسألة مدرسك بعلبك، وشي الحلى في تأكيد النفي بلا، الاعتبار ببقاء الجنة والنار، ضرورة التقدير في تقويم الخمر والخنزير، تقيدي التراجيح، الكلام على حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. الكلام مع ابن الدارس في المنطق، جواب سؤال علي بن عبد السلام، رسالة أهل مكة، أجوبة أهل صفد، فتوى: كل مولود يولد على الفطرة، مسألة فناء الأرواح، مسألة في التقليد، النوادر الهمذانية، الفرق في مطلق الماء والماء المطلق، المسائل الحلبية، أمثلة المشتق، القول الصحيح في تعيين الذبيح، القول المحمود في تنزيه داود، الجواب الحاضر في وقف عبد القادر، حديث نحر الإبل، قطف النور من مسائل الدور، مسألة ما أعظم الله، مسائل في تحرير الكتابة، مسألة هل يقال العشر الأواخر، مختصر كتاب الصلاة لمحمد بن نصر المروزي، الإقناع في قوله تعالى " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " ، جواب سؤال من القدس، منتخب تعليقة الأستاذ في الأصول، عقود الجمان في عقود الرهن والضمان، مختصر عقود الجمان، وقف بني عساكر، النصر الناهد في لا كلمت كل واحد، الكلام في الجمع في الحضر لعذر المطر، الصنيعة في ضمان الوديعة، النقول البديعة في ضمان الوديعة، بيان المحتمل في تعدية عمل، القول الجد في تبعية الجد، تفسير يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، المواهب الصمدية في المواريث الصفدية، كشف الدسائس في هدم الكنائس، حفظ الصيام عن فوت التمام، جواب سؤال ورد من بغداد، كتاب الخيل، جواب الأمير سيف الدين بيبغاروس ورد من حلب، كم حكمة أرتنا أسئلة أرتنا، جواب أهل مكة، جواب المكاتبة من حارة المغاربة، معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، سبب الانكشاف عن إقراء الكشاف، وقف على وقف أولاد الحافظ، النظر المعيني في محاكمة أولاد اليونيني، موقف الرماة من وقف حماة، مركز الرماة، القول في التقوي في الوقف التقوي، القول المختطف في دلالة: إذا اعتكف، كشف اللبس عن المسائل الخمس، غير الإيمان لأبي بكر وعمر وعثمان، زكاة مال اليتيم، الكلام على لباس الفتوة، وهو فتوى الفتوة، بيع المرهون في غيبة المديون، الألفاظ التي وضعت بإزاء المعاني الذهنية أو الخارجية، أجوبة مسائل سأله عنها ولده قاضي القضاة تاج الدين في أصول الفقه، العارضة في البينة المتعارضة، مسألة تعارض البينتين، كتاب بر الوالدين، أجوبة أسئلة حديثية وردت من الديار المصرية، نصيحة القضاة الكلام على قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " .
ولما وقف على رد الشيخ تقي الدين بن تيمية على ابن المطهر في الرفض قال: وأنشدنيها من لفظه، وهي:
إن الروافض قوم لا خلاق لهم ... من أجهل الناس في علم وأكذبه
والناس في غنية عن رد إفكهم ... لهجنة الرفض واستقبال مذهبه
وابن المطهر لم تطهر خلائقه ... داع إلى الرفض غال في تعصبه
لقد تقول في الصحب الكرام ولم ... يستحي مما افتراه غير منجبه
ولابن تيمية رد عليه وفى ... بمقصد الرد واستيفاء أضربه
لكنه خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدراً في صفو مشربه
يخالط الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدا لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به
لو كان حياً يرى قولي ويفهمه ... رددت ما قال أقفو إثر سببه
كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة رداً غير مشتبه
وبعده لا أرى للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أظن به
والرد يحسن في حالين واحدة ... لقطع خصم قوي في تغلبه
وحالة لانتفاع الناس حيث به ... هدى وربح لديهم في تطلبه
وليس للناس في علم الكلام هدى ... بل بدعة وضلال في تكسبه
ولي يد فيه لولا ضعف سامعه ... جعلت نظم بسيطي في مهذبه
وقال: ما أنشدنيه من لفظه لما رد على ابن تميمة في الطلاق، وقد أكثر من الاحتجاج بيمين ليلى:
في كل واد بليلى واله شغف ... ما إن يزال به من مسها وصب
ففي بني عامر من حبها دنف ... ولابن تيمية من عهدها شغب
وكتب لابنه الأكبر محمد رحمه الله تعالى في سنة عشر وسبع مئة، وأنشدنيه من لفظه رحمه الله تعالى:
أبني لا تهمل نصيحتي التي ... أوصيك واسمع من مقالي ترشد
احفظ كتاب الله والسنن التي ... صحت وفقه الشافعي محمد
وتعلم النحو الذي يدني الفتى ... من كل فهم في القران مسدد
واعلم أصول الفقه علماً محكماً ... يهديك للبحث الصحيح الأيد
وأسلك سبيل الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة في العلوم وأحمد
وطريقة الشيخ الجنيد وصحبه ... والسالكين طريقهم بهم اقتدي
وابتع طريق المصطفى في كل ما ... يأتي به من كل أمر تسعد
واقصد بعلمك وجه ربك خالصاً ... تظفر بسبل الصالحين تهتدي
واخش المهيمن وأت ما يدعو إلي؟ ... ه وانته عما نهى وتزهد
وارفع إلى الرحمن كل ملمة ... بضراعة وتمسكن وتعبد
واقطع عن الأسباب قلبك واصطبر ... واشكر لمن أولاك خيراً وأحمد
وعليك بالورع الصحيح ولا تحم ... حول الحمى واقنت لربك واسجد
وخذ العلوم بهمة وتفطن ... وقريحة سمحاء ذات توقد
واستنبط المكنون من أسرارها ... وابحث عن المعنى الأسد الأرشد
وعليك أرباب العلوم ولا تكن ... في ضبط ما يلقونه بمفند
فإذا أتتك مقالة قد خالفت ... نص الكتاب أو الحديث المسند
فاقف الكتاب ولا تمل عنه وقف ... متأدباً مع كل حبر أوحد
فلحوم أهل العلم سمت للجنا ... ة عليهم فاحفظ لسانك وابعد
هذي وصيتي التي أوصيكها ... أكرم بها من والد متودد
وكتب لولده قاضي القضاة تاج الدين وق رتب موقعاً بالدست الشريف بالشام في سنة خمس وسبع مئة:
أقول لنجلي البر المفدى ... مقالاً وثقت منه عراه
وليت كتابة في دست ملك ... رست أركانه وسمت ذراه
فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
ولا تأخذ من المعلوم إلا ... حلالاً طيباً عطراً شذاه
ونصحك صاحب الدست اتخذه ... شعارك فالسعادة ما تراه
ثلاث يا بني بها أوصي ... فمن يأخذ بها يحمد سراه
وتقوى الله رأس المال فالزم ... فما للعبد إلا من براه
قلت: التزم رحمه الله فيها الراء والثالث تضمين، وهو بيت مشهور جاء في موضعه متمكناً، وتراه في هذا البيت من الرؤية، وفي الخامس من الرأي فلا يظن أنه إيطاء.
وأجابه رحمه الله تعالى ولده قاضي القضاة تاج الدين عن ذلك بقوله:
أتت والقلب في الغفلات ساه ... تنبه كل ساه من كراه
وصية والد برشفوق ... يقوم مع ابنه فيما عراه
رؤوف بابنه لو بيع مجد ... بمقدور لبادر واشتراه
ألا يا أيها الرجل المفدى ... ومن فوق السماء يرى ثراه
أنلت فنلت في الدنيا منالاً ... يسرك في القيامة أن تراه
وقال رحمه الله تعالى في معنى قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك ... البيت، وأنشدني ذلك من لفظه:
قلبي ملكت فما به ... مرمى لواش أو رقيب
قد حزت من أعشاره ... سهم المعلى والرقيب
يحييه قربك إن مننت به ولو مقدار قيب
يا متلفي ببعاده ... عني أما خفت الرقيب
قلت: ليس لهذه القوافي خامس فيما أظن، وقد تلطف في القافية الثالثة حتى تركبت معه من كلمتين وامتزجت، وقيب لغة في قاب، وفي هذه الأبيات معنى من المعاني الأدبية، وهو مما يمتحن به الأدباء في قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك، البيت، لأن الأصمعي قال فيه ما هو باد لكل أحد، وهو أن عينيها سهمان ضربت بهما في قلبه المقتل الذي هو أعشار، أي مكسر، من قولك: برمة أعشار إذا كانت كذلك.
وأما ابن كيسان فقال ما هو أدق من هذا المعنى، فقال: ضربت بسهميك اللذين هما من سهام الميسر لتملكي أعشار القلب، وهي جميع ما يخص الميسر من القداح، فالمعلى له سبعة أسهم، والرقيب له ثلاثة أسهم، فيستغرق السهمان جميع الأعشار، وهذا وإن كان دقيقاً وفيه غوص ففيه تعسف، وتأويل فيه بعد، وأما هذا الذي نظمه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فهو صريح في هذا المعنى.
وكنت قد طلبت منه ما أستعين به على ترجمته لما وضعتها في تاريخي الكبير الوافي بالوفيات فكتب لي مسموعاته وأشياخه ومصنفاته، ولم يكتب شيئاً من نظمه، فكتبت إليه:
مولاي يا قاضي القضاة الذي ... أبوابه من دهرنا حرز
أفدتني ترجمة لم تزل ... بحسن أقمار الدجى تهزو
لبست منها حلة وشيها ... أعوزه من نظمك الطرز
فكتب الجواب رحمه الله تعالى:
لله مولى فضله باهر ... من كل علم عنده كنز
يا واحد الدهر ومن قد علا ... منه على هام العلا الغرز
تسألني النظم ومن لي به ... وعندي التقصير والعجز
قبل الداعي طرساً قد سما نوراً ونقساً، جمع أفانين العلوم في شبه الوشي المرقوم، ما بين خط إذا رمقته العيون قالت: هذا خط ابن مقلة، ونظم لا يطيق حبيب أن ينكر فضله، ونثر يرى عبد الرحيم عليه طوله، صدر عمن توقل ذروة البلاغة وسنامها، وامتطى غاربها وملك زمامها، وكملها من كل علم بأكمل نصيب، ضارباً فيه بالسهم المصيب، مشمراً فيه عن ساق الجد والاجتهاد، متوقداً ذكاء مع ارتياض وارتياد، إلى من هو عن ذلك كله بمعزل، ومن قعد به قصوره إلى حضيض منزل يطلب منه شيئاً مما نظم، ولعمري لقد استسمن ذا ورم، ومن أين لي النظم والرسائل إلا بنغبه من المسائل، على تبلد خاطر وكلال قريحه، وتقسم فكر بين أمور سقيمة وصحيح، فأنى لمثلي شعر ولا شعور، أو يكون له منظوم ومنثور، غير أني مضت لي أوقات استخفني فيها إما محبة التشبه بأهل الأدب، وإما ذهول عما يحذره العقلاء من العطب، وإما حالة تعرض للنفس فتنضح بما فيها، وأقول دعها تبلغ من أمانيها، فنظمت ما يستحيا من ذكره، ويستحق أن يبالغ في ستره، ولكنك أنت الحبيب الذي لا يستر عنه معيب، أذكر لك منه حسبما أشرت نبذاً، وأقطع لك منه فلذاً. وذكر أبياتاً أوردتها في ترجمته في تاريخي الكبير، ونقلت من خطه له وأنشدنيه من لفظه:
إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل
حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل
ونقلت من أيضاً له:
مثال عم وخال ... بقول صدق وجيه
بني بأخت أخيه ... لأمه لا أبيه
وذاك لا بأس فيه ... في قول كل فقيه
فنجلة هو داع ... بذاك لا شك فيه
وكتب إلي وقد وقع ثلج بدمشق في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وسبع مئة:
نطرت إلى أشجار جلق فوقها ... ثلوج أراها كالبروق تلوح
فشبهتها قضبان فضة اكتست ... وقابلها منا الغداة صبوح
ومن تحتها الأوراق خضر كأنها ... زمردة تغدو بنا وتروح
ومن بينها النارنج كالذهب الذي ... هواه به كل النفوس تبوح
فقلت: لقد أخطأت تشبيهي الذي ... يعز علي المعتز وهو فصيح
تشبه يبساً ذاوياً برطيبه ... وميتاً بمن فيه الحياة وروح
فول صلاح الدين هذا فإنه ... إذا قال تشبيهاً أقول صحيح
وبعده:
أقول للسرو قد كساه ... ثلج رواء عليه نور
زمرد أنت في لجين ... فقال مه إن ذا قصور
تشبيه ذاو بلا حياة ... بمن له منظر نضير
وبعده أيضاً:
أقول للسرو قد كساه ... ثلج بدا نوره وأنهج
زمرد أنت في لجين ... فقال أبهى سنا وأنهج
فهل ذكي يطيق وصفي ... أريه طرق الهدى وأنهج
تقول لي ذائب المعاني ... فلا تراني لذا أنهج
وأنت يا واصفي بشعر ... بغير ردف سواه أنهج
فكتبت أنا الجواب إليه رحمه الله تعالى يقبل الأرض ويقول:
أتتني سطور كالدياجي مدادها ... وفيها المعاني كالنجوم تلوح
يغني بها الشادي إذا ما حسا الطلا ... ويخلو بها عاني الهوى فيبوح
فكل معانيها غريب مصنف ... كما لفظها بين الأنام فصيح
ملوكية التشبيه فيما تخيلت ... كذلك تشبيه الملوك مليح
فقابلت منها نسخة تقويه ... على كل سطر قد حوته صحيح
فأعملت فكري فانثنى متقاعساً ... وعهدي به عند القريض لحوح
وعاد فقيراً في زوايا أضالعي ... وما عنده في نظم ذاك فتوح
ثم إن أعقله بارحته، وصبر إلى اليوم حتى رأى نشاطه لما كن عليه وجانحته، وغالطه في نظم شيء في هذه المادة، وقال: ما ضرك أن تسير جوادك في هذه الجادة، فلا بد له من العرض بين يدي مولانا قاضي القضاة أدام الله تعالى أيامه، وإغضاؤه مضمون الدرك فيما كل السوانح غزلان رامة، فانفعل لذلك بعدما استحيا وخجل، وقال وهو ما بين الجذل والوجل:
الثلج يسقط فوق أوراق حوت ... نارنج بستان سبى بروائه
فكأنما تلك الثلاث سرقن من ... قاضي القضاة الحسن يوم لقائه
فابيض ذا كثنائه واخضر ذا ... من جوده وأنار ذا كذكائه
فشكرت له هذا التخيل وعلمت أنه لطيف التحيل، وقلت: ما بك ما يعوق، فالحق ببضاعتك السوق، فإذا به قد نظم واستعمل القلم، وقال:
نارنجنا في الغصون يحكي ... والثلج في بعضهن رقم
خدا تبدى به عذار ... عاجله بالمشيب هم
فقلت له: لا بد من الزيادة، فإن الخيرة عادة، فقال: أزيدك شيئاً من الاستعارة فإنها لقمر التشبيه داره. وقال:
قد سقط الثلج فوق دوح ... نارنجها يفرح الحزينا
كورد خد وآس صدغ ... لاح به السيب ياسمينا
فقلت له: حسن، ولكن التشبيه الملوكي فات وهو من أعظم الآفات فقال:
كأن سقيط الثلج في الورق التي ... تضمنت النارنج عند التضرج
لآلي مشيب في زمرد عارض ... تبدى على ياقوت خد مضرج
فقلت: هذا كاف، فانظم في السرو بلا خلاف، فقال بعدما نضج ولم يبق فيه عرق يختلج:
عاينت سروة دوحة قد أشبهت ... والثلج يسقط فوقها متوالي
حسناء زفت في ملاءة مخمل ... خضراء كللها سموط لآلي
فكتب هو رحمه الله تعالى الجواب إلي عن ذلك:
تراقصت الأشجار عند سماعها ... قريضك واختلت كنشوان يطرب
وقالت: ألم أخبرك أنك قاصر؟ ... فقلت لها: باب صحيح مجرب
وركبت أنا مغلطة من مغالط المنطق، ونظمته وكتبت به إليه وهو:
أيا قاضي القضاة بقيت ذخراً ... لتشفي ما يعالجه الضمير
فأنت إمامنا في كل فن ... ومثلك لا تجيء به الدهور
كأنك للغوامض قطب فهم ... عليك غدت دقائقها تدور
بلغت بالاجتهاد إلى مدى لا ... يخونك في معارفه فتور
وبابك عاصم من كل جور ... وعلمك نافع ولنا كثير
وقلنا أنت شمس علا وعلم ... فكيف بنوك كلهم بدور
إليك المشتكى من سوء فهم ... يعسر إذ يسير له اليسير
بليت بفكرة قد أتعبتني ... تحور إلي كسلى إذ تخور
مقدمتان سلمتا يقيناً ... ولكن أنتجا ما لا يصير
تقول البدر في فلك صغير ... وذلك في كبير يستدير
فيلزم أن بدر التم ثاو ... بجانحة الكبير وذاك زور
فأوضح ما تقاعس عنه فهمي ... فأنت بحله طب خبير
وفهمك في الورى كضياء شمس ... وعلمك في الأنام هدى ونور
فكتب الجواب في ليلته وفرع عليه ثلاثة أجوبة، وهو:
سؤالك أيها الحبر الكبير ... سمت في حسن هالته البدور
وهمتك العلية قد تعالت ... فدون طلابها الفلك الأثير
ونظمك فوق كل النظم عال ... على هذا الزمان له وفور
فلو سمحت بك الأيام قدماً ... لقدمك الجحا جحة الصدور
سألت وأنت أذكى الناس قلباً ... وعندك كل ذي عسر يسير
وقلت المشتكى من سوء فهم ... وحاشى إن فهمك مستطير
وفكرتك الصحيحة لن تجارى ... ولم أرها تحور ولا تخور
ولا كسل بها كلا وأنى ... ودون نشاط أولها السعير
فهاك جواب ما قد سلت عنه ... وأنت بما تضمنه خبير
مقدمتان شرطهما اتحاد ... بأوسط إن يفت فات السرور
وهذا منه فالانتاج عقم ... وأعقبه عن التصديق زور
وذلك أن قولك في صغير ... هو المحمول ليس هو الصغير
وفي الكبرى هو الموضوع فاعلم ... فمن ذياك للشرط الثبور
وإن رمت التوصل باجتلاب ... مقدمة بها يقع العثور
على تحقيق مظروف وظرف ... فمشترك عن المعنى قصير
فمعنى البدر في فلك صغير ... يخالف ما تضمنه الكبير
فلم يحصل لشرطهما وجود ... لذلك أنتجا ما لا يصير
وفي التحقيق لا إنتاج لكن ... لأجلك قلت قولك لي عذير
وأما إن أردت عموم معنى ... وذلك فيهما معنى شهير
فينتج آمناً من كل شك ... وليس عليه إيراد يصير
فذاك جواب ما قد سلت يا من ... غدا في العلم ليس له نظير
وما عنه تقاعس منك فهم ... وكيف ومنك تنل الصخور
فأنت البدر حسناً وانتقالاً ... بأفلاك مضاعفة تسير
لحامله السريع وتالييه ... دليل أن خالقه قدير
يرى ذو الهيئة النحرير فيها ... عجائب ليس يحويها الضمير
فسبحان الذي أنشأه بر ... رحيم قاهر رب غفور
وصلى الله رب على نبي ... هو الهادي به قد تم نور
وكتبت أنا إليه سؤالاً من علم المناظر:
قاضي قضاة الشام يا من له ... فوائد كالديم الهاطلة
ومن له معرفة قد غدت ... لكل علم في الورى شاملة
ومن إذا حل بنا مشكل ... يلقا بالأجوبة الفاصلة
وهو إمام الناس في فنهم ... وفي فنون عنده حاصله
من كذب الحس فما عنده ... بينة تعضده عادله
لكن هذا القطر في جوه ... غدا خطوطاً للثرى نازله
كذلك النقطة فوق الرحى ... تبصرها دائرة جائله
فبين العلة في صدقنا ... أولا فدعواكم إذا باطله
وابق مدى الأيام في نعمة ... بدورها مشرقة كالمة
فكتب هو رحمه الله الجواب إلي مختصراً:
علتها السرعة مع وهمنا ... ومن خيال لم يزل خاتلة
يقضي بها الوهم ويأبى الحجى ... وهو الذي أحكامه عادلة
والحس مقصور على رؤية ... مبصرة للصورة الحاصلة
وكتب أيضاً رحمه الله تعالى جواباً مطولاً في ثلاثة وأربعين بيتاً وقد أثبتها بكمالها في كتابي ألحان السواجع بين البادي والمراجع، وقال لي يوماً: نظمت بيتاً مفرداً من ثماني عشرة سنة، وزدت الآن عليه بيتاً في هذه السنة، وكانت سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وهما:
لعمرك إن لي نفساً تسامى ... الى ما لم ينل دارا بن دارا
فمن هذا أرى الدنيا هباء ... ولا أرضى سوى الفردوس دارا
فأعجباني، وقلت في مادتهما، إلا أن بيتيه رحمه الله تعالى أحسن وأصنع من قولي:
لعمرك إن للباقي التفاتي ... ومالي نحو ما يغني طريقه
أرى الدنيا وما فيها مجازاً ... وما عندي سوى الأخرى حقيقه
وحصل له في وقت ما شرى، فكتب إليه جمال الدين محمد بن نباتة المصري:
يفديك يا قاضي القضاة عليهم ... من كل داء تشتكي كل الورى
شهد الشرى لك حين زارك بالتقى ... والصبر والصدقات لما خبرا
لا تعدم المدح الروائح سيداً ... هذي خلائقها بتخبير الشرى
فلما حضرت عنده أراني إياها، فلا وقفت عليها علمت ما أراده من خطأ التورية مع الناظم فمضيت من عنده وعدت إليه وقد كتبت أنا إليه بعد ذلك:
لما اشتكى قاضي القضاة فديته ... من كل سوء يشتكي منه الورى
عاينته لأذى الشرى متصبراً ... فعلمت حقاً أنه أسد الشرى
وربحت توريتي التي قعدت وما ... خسرت ولم أنطق بتخيير الشرى
فأعجبه ذلك وجبر على عادته معي، وفساد التورية مع الناظم الأول هو أن الشرى، بفتح الشين، مقصور؛ وهو المرض المعروف عند الأطباء بالماشرى، وهو الخراج الصغار التي تتولد من مادة دموية لذاعة، والشِرى بكسر الشين، مصدر شرت شرى، ففسدت توريته.
ووصل الخبر مع البريد من مصر بوفاته قدس الله روحه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسين، فكتبت مرثية إلى ابنه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، وأنشدت في صبيحة العزاء بالعادلية، وهي:
أي طود من الشريعة مالا ... زعزعت ركنه المنون فزالا
أي ظل قد قلصته المنايا ... حين أعيا على الملوك انتقالا
أي بحر قد فاض بالعلم حتى ... كان منه بحر البسيطة آلا
أي حبر مضى وقد كان بحراً ... فاض للواردين عذباً زلالا
أي شمس قد كورت في ضريح ... ثم أبقت بدراً يضي وهلالا
مات قاضي القضاة من كان يرقى ... رتب الاجتهاد حالاً فحالا
مات من فضل علمه طبق الأر ... مسيراً وما تشكى كلالاً
كأن الشمس في العلوم إذا ما ... أشرقت أصبح الأنام ذبالا
كان كل الأنام من قبل ذا العص؟ ... ر عليه في كل علم عيالا
؟كان فرد الوجود في الدهر يزهى ... بمعالي أهل العلوم جمالا
فمضوا قبله وكان ختاماً ... بعدهم فاعتدى الزمان وصالا
كملت ذاته بأوصاف فضل ... علم البدر في الدياجي الكمالا
وأنام الأنام في مهد عدل ... شمل الخلق يمنة وشمالا
لمن بعده نشيد رحاباً ... ولمن بعده نشد رحالا
وهو إن رمت مثله في علاه ... لم تجد في السؤال عنه سوى لا
أحسن الله للأنام عزاهم ... فهم بالمصاب فيه ثكالى
ومصاب السبكي قد سبك القل؟ ... ب وأودى منا الجلود انتحالا
خزرجي الأصول لو فاخر النج؟ ... م علا مجده عليه وطالا
خلق كالنسيم مر على الرو ... ض سحيراً وعرفه قد توالى
ويد جودها يفوق الغوادي ... تلك ماء همت وذا صب مالا
أيها الذاهب الذي حين ولى ... صار منه عز الدموع مذالا
لو أفاد الفداء شخصاً لجدنا ... بنفوس على الفدا تتغالى
أنفس طالما تنفس عنها ... منك كرب يكظها واستحالا
أنت بلغتها المنى في أمان ... فاستفادت غنى غزت منالا
من لنا إن دجت شكوك شكونا ... من أذاها في الذهن داء عضالا
كنت تجلو ظلامها ببيان ... حل من عقلنا الأسير عقالا
من يعيد الفتوى إلى كل قطر ... منه جاءت جوابها يتلالا
قد صببت الصواب فيها وأهدي؟ ... ت هداها وقد محوت المحالا
فيقول الورى إذا ما رأوها ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
فليقل من يشاً ما شاء إن المو ... ت أردى الغضنفر الرئبالا
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
قد تقضى قاضي القضاة تقي ال؟ ... دين سبحان من يزيل الجبالا
فالدراري من بعده كاسفات ... وإذا ما بدت تراها خجالى
كان طوداً في علمه مشمخراً ... مد في الناس من بنيه ظلالا
فبهاء بها ونعمت وتاج ... فوق فرق العلياء راق اعتدالا
هو قاضي القضاة صان حماه ... من عوادي الزمان ربي تعالى
وهداه للحكم في كل يوم ... فيه يرعى الأيتام والأطفالا
وحباه الصبر الجميل ووفا ... ه ثواباً يهمي سحابا ثقالا
ليبيد العدى جلاداً ويغدو ... فيفيد الندى ويبدي الجدالا
وكتبت بعد ذلك إلى ولده الشيخ الإمام بهاء الدين أحمد بمصر أعزيه:
؟وهكذا جيشه المعهود نصرته ... على أعاديه بعد اليوم ينهزم
أهكذا جبل الإسلام ينهدم ... وهكذا سيفه المسلول ينثلم
وهكذا مجده الراسي قواعده ... تنحط منه أعاليه وتنحطم
وهكذا البدر في أعلى منازله ... وسعده قد محت أنواره الظلم
وهكذا البحر يمشي وهو ذو يبس ... من بعد ما كان في عرنينه شمم
وهكذا كل ميت حل في جدث ... بكى له الفاقدان العلم والكرم
وقد نعى العدل منه سيرة كرمت ... يحفها الزاهران الحلم والنعم
والورق تملي لنا في وصفه خطباً ... يقلها المنبران البان والسلم
ولو أراد الأعادي كتمها اعترفت ... بفضلها الشاهدان العرب والعجم
قل للعدى إن جهلتم قدر رتبته ... فالبيت يعرفه والحل والحرم
والليل والذكر والمحراب شاهده ... والشرع والحكم والتصنيف والقلم
ومن يقل إنه يدري مكانته ... فما خفي عنهم أضعاف ما علموا
فكم كماة من النظار قد مهروا ... في البحث جاؤوا بما ظنوا وما زعموا
فكر فيهم بلا فكر وجد لهم ... جداله ثم لما سلموا سلموا
؟وقصروا عن مبادي غاية حصلت ... له وأين عقاب الجو والرخم
ولوا فراراً وقد ألقوا سلاحهم ... وهم أناس على التحقيق قد وهموا
عليه هزمهم في كل معركة ... وما عليه بهم عار إذا انهزموا
شكوا فتوراً رأوه في بصائرهم ... ولو ألموا به من قبل ما ألموا
ما الناس إلا سواء في بيوتهم ... ما الشأن في أمرهم إلا إذا التحموا
كل يرى أنه راح منفرداً ... ليث وأقلامه من حوله أجم
فإن تضمهم وقت الجدال وغى ... فغندها تظهر الأقدار والقيم
تزايد الحلم من زاكي سجيته ... فلم يكن من عداه قط ينتقم
موفق الحكم والفتوى على رشد ... ما ند منه على ما قد مضى ندم
كم بات ينصر مظلوماً رآه وقد ... أودى وجانبه بالضعف يهتضم
كان ابن تيمية بالفضل معترفاً ... وهو الألد الذي في بحثه خصم
يثني عليه وقد أبدى بفكرته ... أوهامه فيراها وهو يبتسم
وما أقر لمخلوق سواه وفي ... زمانه كل حبر علمه علم
قاضي القضاة تقي الدين حين قضى ... غدا أولو العلم لم يهناهم حلم
وكيف يهنأ عيش بعده وبه ... قد كان شمل الهدى بالحق يلتئم
فاليوم أقفر ربع المكرمات وقد ... شط المزار وأقوت دونها الخيم
مات الذي كان إن تسأله غامضة ... خلاك من حلها في العلم تحتكم
يا سائراً فوق أعناق الرجال وكم ... سعت له في المعالي والهدى قدم
خدمت علمك وقتاً والأنام إلى ... يوم القيامة فيما قلته خدم
تركت فينا تصانيفاً تخاطبنا ... فأنت حي ولما تنشر الرمم
ما مثل سيرتك المثلى إذا ذكرت ... بالحمد تبدو وبالتقريظ تختم
أقمت في مصر والأخبار نافحة ... طيباً تسير بها الوخادة الرسم
ما كنت إلا إمام الناس قاطبة ... في النقل والعقل تقضي كلما اختصموا
وكل مشكلة في الدين معضلة ... يضيق فيها على سلاكها اللقم
تحل شبهتها من حيثما عرضت ... بالحق إذ لست في الترجيح تتهم
مطهر الذات من ريب تضيء لنا ... منك العوارف والأخلاق والشيم
يكاد من رقة فيه يهب صباً ... هذا وقد برحت أحداثه الحطم
من أجل ذا غدت أيامه غرراً ... بيضاً ولم يقض فيها أن يراق دم
كف على عدد الأنفاس في هبة ال؟ ... أموال ما سامها من بذلها الديم
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
لكن صبرنا على التفريق وهو أذى ... وما لجرح إذا أرضاكم ألم
مهما نسيت فما أنسيت برك بي ... عند الظما ونداك البارد الشبم
وفرط جبرك إذ تثنيني علي بما ... لا أستحق وذاك الحفل مزدحم
حتى أغالط نفسي في حقيقة ما ... أدريه منها وفي علمي بها أهم
فعال من طبع الباري سجيته ... على مكارم منها الناس قد حرموا
وكاد دهري لياليه تسالمني ... وكاد يصرف عني الشيب والهرم
والله لا فترت مني الشفاه عن الد ... عا ولا افتر لي من بعد ذاك فم
فاصبر أبا حامد فالناس قد فجعوا ... فيمن مضى لم تخصص أنت دونهم
تشارك الناس في هذا العزاء كما ... نعمى أياديه فيها الناس تقتسم
وانظر وقس يا إمام الناس كلهم ... فإن سلمت فكل الناس قد سلموا
هذي المصيبة بالإسلام قد نزلت ... فانظر عرا الدين منها كيف تنفصم
ما مثل من قد مضى يبكى عليه ولا ... تجري على وجنتيك الأدمع السجم
فإنه في جنان الخلد في دعة ... لكفه الحور والولدان تستلم
فقدس الله ذاك الروح منه ولا ... أراه يوم اللقا والحشر ما يصم
يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي أنكى، والحادث الذي ما يحيك في خلد ذي جلد ولا يحكى، والمصاب الذي عقد المناحات له بالمناجاة، فوقف واستوقف له، و بكى واستبكى:
ولو يغني البكا أو رد ميتاً ... بكيت فلم يساجلني الغمام
فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من فقد إمامه، وفجع بمن كان يهديه إلى رشده ويريه طرق السلامة، وأعدمته الأيام حبراً لم يلتفت معه إلى الدراري إذا سمع كلامه، وغيضت منه بحراً كان يقذف به من دره فذه وتوامه، وأخذت منه فريد عصره فما يدري ما يبكيه منه، أعلمه أم بركته أم لطفه أم جوده الذي فضح الغمامة، وابتزت منه شيخ الإسلام الذي ما يخلفه الوجود إلى يوم القيامة.
عمت فواضله فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كلمة تقولها الملوك لهذه المصيبة العظمى والرزية التي ما يجد الناس لها رحمى، ذهب والله من كان جمال الوجود، وإمام الأئمة وكعبة الجود، ومن كان بقاؤه بين ظهراني الناس رحمه، ومن بينه في العلوم وبين علو النجوم زحمه، ومن كان إذا كتب اهتزت من الطرب له الأقلام، وخضعت لأوامره السيوف، وسكنت خافقات الأعلام، وتملت بعلومه وتصانيفه الشريعة، فلما مات قال الناس أحسن الله عزاء الإسلام:
غدا طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر
ويقسم المملوك أن مولانا وأخاه أدام الله أيامهما ما انفردا بهذه الرزية، ولا ابتليا دون الناس بهذه البلية، يا مولانا هذا ركن الإسلام قد انهدم، وهذا بحر الإيمان قد ارتدم فمصابه قد عم وما خص، وتحيف جناح الصبر وما حص، فالله يعين على ما أبلى ويمسك رمق القلوب فإنها عريت من جبة الصبر وما تطيق من الأحزان نبلاً، وما بقي غير الأخذ بالسنة في الصبر، والتمسك بآثار السلف الصالح ممن أودع أحبابه القبر:
أنت يا فوق أن تعزى عن الأحباب فوق الذي يعزيك عقلاً
وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... اك قال الذي له قلت قبلا
ويقسم المملوك ثانياً أن فيكما خلفاً باقياً، وكلاكما، كلاكما الله، نير أصبح في درجات من درج السعد راقياً، وما السلوة إلا بهذا، وإلا كانت قلوب الأولياء قد أمست جذاذاً، فالله تعالى يمتع مصر والشام منكما بمطالع النيرين، ويديم للإسلام منكما من يحيي له سيرة العمرين، وقد جاء من مولانا قاضي القضاة تاج الدين ما نور الظلم، وبور أرباب السيف والقلم.
وقال الناس ليمن أيامه: " ومن يشابه أباه فما ظلم " . فمولانا يمده بالخاطر ولا ينسه من دعائه، فإنه في الأرض مثل الغمام الماطر، أنهي ذلك، والله الموفق بمنه وكرمه؛ إن شاء الله تعالى.
علي بن عبد الكريمابن طرخان بن تقي، الشيخ الإمام العالم علاء الدين أبو الحسن بن مهذب الدين الحموي الصفدي، وكيل بيت المال بصفد، المعروف بعلاء الدين الكحال.
كان شيخاً مليح الشيبة، ظاهر الهيبة، طاهر الحضرة والغيبة، أحمر المحيا، قد طال ريا وطاب ريا، له مطالعة واشتغال، وعنده على الطبة حنو واشتمال، جمع مجاميع حديثيه، وألف مؤلفات أدبية.
ولم يزل على حاله إلى أن كحل التراب أجفان الكحال، وغير بطن الأرض وجهه النير فاستحال.
وتوفي رحمه الله تعالى في حدود العشرين وسبع مئة، وكان قد تعدى السبعين.
رأيته بصفد مرات عديدة، وكان يركب فرسه ويقف على الخضري واللحام والخباز وغيرهم، ويشتري ذلك بنفسه ويخرج الفلوس من منديله وهو بعمة كبيرة وعذبة طويلة، إلا أنه كان خيراً لا شر فيه، ولا أعرف في صفد وكيل بيت مال غيره إلى أن مات.
وصنف كثيراً، من ذلك كتاب القانون في أمراض العيون، وكتاب الأحكام النبوية في الصناعة الطبية وكتاب مطالع النجوم في شرف العلماء والعلوم.
علي بن عبد الكريم بن أبي العدائرالعنبري ظهير الدين.
كان من الكتاب الكبار المعروفين، وله نظم، وهو خال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني.
توفي في المحرم سنة اثنتين وسبع مئة ببعلبك.
علي بن عبد الملكالأمير علاء الدين بن الملك القاهر بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة ست وسبع مئة. وكان يوماً مطيراً، ودفن بتربة والده، وعمل عزاؤه بكرة الأحد بتربة أم الصالح.
علي بن عبد المؤمن بن عبد العزيزالمسند نور الدين الشافعي.
سمع من جده لأبيه، ومن جده لأمه إسماعيل بن أبي اليسر، وأجاز لي بالقاهرة بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
علي بن عبد النصيرابن قاضي القضاة نور الدين أبو الحسن المالكي.
كان قيماً بمذهب مالك، عالماً بما فيه من الغوامض الدقيقة والمسالك، حج مرات وحج من ناظره فقطعه كرات، وكان متقشفاً، ظاهر التخلي عن الدنيا كأنه منها على شفا، يتردد على أصحابه ويتعهد أماكن لداته وأترابه، توجه إلى مصر آخر مرة، وتعرف بالأمير سيف الدين شيخو فأقسم أنه ما رأى مثله في عمره، وراج عنده لما راح، ونزل محادثته منزلة كأس الراح، فولاه قضاء القضاة بالديار المصرية ولبس التشريف لذلك، وفرح به أصحابه وقالوا: هذا مالك مذهب مالك.
فأقام على ذلك قليلاً، ثم اتخذ إلى ربه سبيلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وخمسين وسبع مئة ومولده ....
وكان قد ورد إلى دمشق صحبة قاضي القضاة فخر الدين أحمد بن سلامة المالكي، وناب له في دمشق، ثم إنه أقام بعده في دمشق، وكان بيده تصدير في الجامع الأموي، ولما توجه إلى مصر آخراً لازم الأمير سيف الدين شيخو فولاه القضاء في يوم الاثنين ثاني صفر سنة ست وخمسين وسبع مئة، وتوفي في التاريخ المذكور. فأقام في الحكم اثنين وسبعين يوماً، مرض منها مدة خمسين يوماً أو أقل، وما كان أقرب المأتم من العرس.
علي بن عبد الواحد بن الخضرالرئيس علاء الدين بن السابق - بالسين المهملة وبعد الألف باء موحدة وقاف - الحلبي، نزيل دمشق.
كان شيخاً جليلاً متميزاً، من رؤساء الدولة الناصرية يوسف. خدم في الجهات وولي نظر البيمارستان، ومات وهو ناظر العشر.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. وسيأتي بعده ذكر علاء الدين بن السايق، بالياء آخر الحروف ولكن ذاك علي بن عثمان بن السايق.
علي بن عبد الوهابابن علي بن خلف بن بدر علاء الدين ابن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز الشافعي.
كان مقيماً بمصر فنزح عنها هارباً من الشجاعي إلى أن وصل حلب وبلادها، وأقام في حماة مدة ثم حضر إلى دمشق وسعى أخوه القاضي تقي الدين في ترتيبه ناظراً بديوان الأمير حسام الدين طرنطاي بدمشق رفيقاً لبدر الدين المسعودي.
وحكى المسعودي قال: لما باشر علاء الدين عندنا في الديوان لم يكن له من الملبوس إلا ما هو عليه، وقد أخلق ولم يكن معه شيء، فأرسلت إليه جملة دراهم وقماشاً غير مفصل من مالي، وبحث فلم يجدني تعرضت إلى درهم واحد من مال مخدومي، قال وذكرني بكل سوء.
ولما تولى الشجاعي نيابة دمشق حضر عنده، وتوصل إليه بما يلائمه، وولاه نظر ديوانه، وبعد ذلك توجه إلى مصر، وتولى الحسبة بها.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
قال ابن الصقاعي: وكان فيه قلق وثلب للناس ومن شعره:
حماة غزالة البلدان أضحت ... لها من نهر عاصيها عيون
وقلعتها لها جيد بديع ... ومن سود التلول لها قرون
قلت: أخذه من قول ....
علي بن عتيقابن عبد الرحمن بن علي الشيخ الإمام العالم العلامة المفنن المحقق المدقق أبو الحسن المغربي القابسي المعروف بابن الصياد.
ورد إلى الشام وقدم علينا إلى صفد في سنة ست وعشرين وسبع مئة وقرأت عليه المقامات الحريرية كاملة، وقطعة من ديوان أبي تمام، وديوان أبي الطيب، وبعض كتاب أسرار العربية لابن الأنباري، وبعض درة الغواص للحريري، وكتاب العمدة في الأحكام، وبعض الحماسة لأبي تمام، وبعض المقامات اللزومية التي للسرقسطي، وذكرت إسناده لكل نسخة منها في النسخة المقروءة عليه. ثم إنني اجتمعت به في القاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومن هناك عاد إلى بلاده وكان آخر العهد به. إلا أنه كان أحد الأشياخ الذين أخذت عنهم، واقتطفت در الفوائد منهم، كان عالماً بالعربية، والمواد الأدبية، وكان له يد في الأصول فقهاً وديناً، وحاصله في مذهب الإمام مالك متوفر، كأنه ليث ولج منه عريناً، وأما التفسير فكان فيه علامة، ونهجه فيه واضح الاستقامة، وأما أسماء الرجال والسيرة النبوية فكان في ذلك قد بلغ الغاية، وأطل فيه على النهاية، وكان مع ذلك فقيراً، وورد إلى هذه الديار فلم يكن فيها أثيراً. وعاد إلى بلاده بخفي حنين، مثقل الجوانح بالأحزان، فارغ اليدين، وكان وجهه يتوقد حمرة، ويظن به أن قد شرب كأس خمره. قال لي ما افتصدت عمري.
وكان ينظم نظماً عجيباً، أنشدني من لفظه لنفسه بالقاهرة:
ما جاءك الوغد إلا كنت تكرمه ... ولا أتيتك إلا كنت منحرفا
كذلك الكلب لا يعبا بجوهرة ... ومن سجيته أن يألف الجيفا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
إنني من أرض فاسٍ ... كنت فيها كالقمر
فخرجنا فكسفنا ... هكذا جري القدر
علي بن عثمانابن يوسف بن عبد الوهاب الرئيس علاء الدين بن العدل، شرف الدين الدمشقي التغلبي الكاتب، ابن السايق، بالسين المهملة وبعد الألف ياء آخر الحروف وقاف، وقد تقدم ذكر ابن السابق، بالباء الموحدة، وكلاهما علي، ووفاتهما قريبة.
كان علاء الدين شيخاً له جلالة، و له مروءة وأصالة، يكتب خطاً بديعاً، ويوشي به الطرس فيخال روضاً مريعاً، نسخ كثيراً بخطه، ووشع بقلمه حاشية مرطه، وله أدب ونظم متوسط الرتبة، وإذا جلاه عروساً قوبل بالخطبة.
ولم يزل على حاله إلى أن حصل له صمم، ولمن يخاطبه ألم، وكان يكتب له في الهواء المراد فيفهم، وما يحوج الذي يخاطبه إلى أن يتكلم، أو أن يكتب له في الأرض ما يراد، فيعرف ذلك بالاقتصار والاقتصاد.
ثم إن الموت ساق ابن السايق، وقطع من دناه العلائق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ست مئة.
وروى عن الرشيد بن مسلمة كان قد تخلى عن الناس وانقطع.
علي بن عثمان بن عبد الواحدعلاء الدين المعروف بالطيوري، الحاسب.
كان رجلاً جيداً يشهد في القيمة، ويعلم الناس الحساب، وكان له مكتب وحلقة بالجامع الأموي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
علي بن عثمانالشيخ العادل المقرئ الفاضل نور الدين أبو الحسن بن الشيخ المقرئ فخر الدين أبي عمرو بن الشيخ الصالح نفيس الدين بن عبد الرحمن بن الشيخ الصالح زهري بن فارس بن قضاعة بن مدلج، ينتهي إلى مذحج بن عبد مناف القرشي، المصري الفرسيسي - بالفاء مفتوحة وراء ساكنة وسينين مهملتين بينهما ياء آخر الحروف - الشافعي.
سمع من زينب بنت سليمان الإسعردي من الخلعيات، وكان متصدراً بالجامع الحاكمي بالقاهرة، وفيه خير وصلاح وانجماع عن الناس. وقرأ القراءات على نور الدين الشطنوفي. ولم يحدث.
توفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين ثامن ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
علي بن عثمان بن محاسنالفقيه العالم المقرئ المحدث علاء الدين أبو الحسن الدمشقي الشاغوري الشافعي ابن الخراط، معيد الباذرائية، ونائب الخطابة.
سمع من ابن علان، والقاسم الإربلي، والفخر علي. وأكثر، وقرأ بنفسه، وسمع المسند كله والكتب المطولة، وتلا بالسبع على برهان الدين الإسكندري، وشارك في الفضائل، وظهرت عليه للخير والصلاح دلائل. وكتب بخطه كثيراً واختصر، وجمع في ذلك وحشر، اختصر تفسير ابن جرير بخطه، ويشنف أذن قرطاسه بقرطه، وكان فيه انجماع، وبعد عن الشر وامتناع، مع ملازمة الجماعة، والإمامة بالناس على أجمل طاعة.
ولم يزل على حاله إلى أن ركب نعشه ومحا الدهر من الكون نقشه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
قال شيخنا الذهبي: سمعنا منه وسمع مني.
علي بن عثمان بن إبراهيمابن مصطفى، الشيخ الإمام الفاضل المفنن علاء الدين قاضي القضاة بالديار المصرية، الحنفي، ابن التركماني، تقدم ذكر والده الشيخ فخر الدين، وذكر أخيه الشيخ تاج الدين أحمد.
اشتغل هذا الشيخ علاء الدين وأفنى في ذلك عمره، واجتمع بمن أخذ عنه زمرة بعد زمرة، وكتب ودأب وصنف في غير ما فن وأتى فيه بالعجب. وجمع المجاميع المفيدة، ونزل من العلوم بالقصور المشيدة. وكان هو وأخوه في سماء الديار المصرية قمرين، وفي جنة رياضها نهرين، ولكن أفل أخوه تاج الدين قبله، واقتضى عطف الدهر لهذا بالتراخي والمهلة، فتولى قضاء القضاة بالديار المصرية، ونال من ذلك سؤله ورضاه.
ولم يزل على حاله إلى أن غدت به أم حبو كرى، ونقلته من منصبه العالي إلى تحت الثرى.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده في شهور سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
وكانت ولايته القضاء بالديار المصرية في شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولبس تشريفه من قلعة الجبل، ونزل فلم يشعر به قاضي القضاة زين الدين البسطامي إلا ودخل عليه في تلك الصورة فبهت.
ومن تصانيف قاضي القضاة علاء الدين ابن التركماني بهجة الأريب لما في الكتاب العزيز من الغريب، والمنتخب في علوم الحديث، وكتاب المؤتلف والمختلف، وكتاب في الضعفاء، والمتروكين، وكتاب الرد على الحافظ البيهقي، ولم يكمل، مختصر المحصل في علم الكلام مقدمة في أصول الفقه الكفاية في مختصر الهداية مختصر رسالة القشيري. وشرع في كتب كثيرة وفي مقدمات في العلوم ولم تكمل.
ولما توفي رحمه الله تعالى تولى ولده قاضي القضاة جمال الدين عبد الله مكانه.
وله من قصيدة كتبها إلى الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار:
إذا شغل البرية فيك فاها ... فكل عنك بالخيرات فاها
فإنك في الشبيبة والمبادي ... بلغت من الفضائل منتهاها
وحزت جميع أنواع المعالي ... وفزت بها وجزت إلى مداها
وصمت عن الحرام على اقتدار ... وصنت النفس عنه في صباها
وملت بها إلى عمل وعلم ... فأضحى ذا الورى حقاً وراها
فلا برح الوجود لها مطيعاً ... ولا زال العدا أبداً فداها
علي بن عثمان بن أحمدابن هبة الله بن أحمد بن عقيل الحكيم، الفاضل بهاء الدين أبو الحسن القيسي المصري، المعروف بابن أبي الحوافر.
سمع من النجيب عبد اللطيف، والشريف العماد، وإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب المنقدي، والشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، ومحمد بن إبراهيم بن رسلان الكلي، وغيرهم. وسمع من قطب الدين القسطلاني، وابن الأنماطي، وحدث.
كان طبيباً فاضلاً حسن المعالجة، وبيته معروف ومشهور. وكان يكتب خطاً حسناً.
توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في تاسع عشري شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
علي بن عليابن أبي الحسن الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري.
كان شيخاً مشهوراً عند الناس مكرماً معظماً، له حرمة عند الدولة ووجاهة.
توفي رحمه الله تعالى في عشري جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسع مئة بقرية بسر من عمل زرع، وصلي عليه بجامع دمشق غائباً.
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
وتوفي والده سنة خمس وأربعين وهو طفل صغير.
علي بن عليالقاضي بهاء الدين بن أبي سوادة، كاتب سر حلب، تقدم ذكره في حرف السين.
علي بن عمر بن أبي بكرالشيخ الصالح المعمر المسند نور الدين أبو الحسن الواني بن الصلاح المصري الصوفي.
سمع من ابن رواج أربعين الثقفي، ومن السبط أربعين السلفي وجزء ابن عيينة والسابع من أمالي المحاملي، والعاشر من الثقفيات. وسمع صحيح مسلم من المرسي والبكري، وحدث به خمس مرات، وسمع من يوسف الساوي.
كان شيخاً من أهل الصلاح وأرباب الخير والفلاح، سهل القياد لمن يقصد سماعه، مطيعاً لمن حاول منه انتفاعه، أكثر المصريون عنه وأخذوا كثيراً من الرواية منه. تفرد في عصره وتجرد سيفه الماضي في مصره، فالحق الصغار بأكابدهم، وجمعهم بالرواية عنه يغابدهم. وكان قد أضر بأخرة، وعولج فأبصر، وطول به عمده فما قصر.
ولم يزل على حاله إلى أن رأى الواني من سكرات الموت ألوانا، وترك مجاج الحياة مجاناً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن عشر المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة. وهو آخر من روى حديث السلفي بالسماع المتصل.
علي بن عمر بن أحمد بن عمرابن أبي بكر بن عبد الله بن سعد، الصدر العدل الكبير الشروطي بهاء الدين بن العز المقدسي الأنصاري.
سمع من ابن عبد الدايم، وعمر بن محمد الكرماني، وغيرهما.
كانت له دربة كبيرة بالشروط ومعرفة تامة بما هو باد إليها منوط، يكتب خطاً آنق من الحدائق، وأنقى من محاسن الغيد العواتق. وعاش عمراً عامر الربوع، وأقام يمد له حبل الدهر وهو يبوع، ومتعة الله بحواسه لم يتغير فيها بضره ولا سمعه ولا نقص حرصه ولا جمعه.
ولم يزل على حاله إلى أن انتبه له الدهر من سنته، وأمسكه في سنته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء رابع عشر المحرم سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده في سنة ستين وست مئة.
وكان يستخصر أسماء الناس وتواريخهم عجباً في ذلك. وعاش هذه المدة إلى آخر وقت وهو يقرأ الخطوط الدقيقة. وكان قد شهد على قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان ومن بعده من القضاة إلى آخر وقت.
قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: إذا أشكلت علي قراءة كتاب امحى خطه أدفعه إليه فيقرأه بلا كلفة. وله مشيخة حدث بها، واجتمعت به غير مرة وكان يحضر إلى عندي وأملي عليه ما يكتبه من الأصدقة، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وفي سنة ثلاثين أيضاً بخطه.
علي بن عمر بن عبد اللهابن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي الأصل، الآباري، الشيخ الصالح علاء الدين أبو الحسن بن الخطيب نجيب الدين بن الخطيب محب الدين بن الخطيب الزاهد بقية السلف أبي حفص.
سمع من جده لأبيه الخطيب عماد الدين داود وأخويه الضياء يوسف الموفق محمد، وهم أعمام والده، ومن النجيب نصر الله بن الصفار المحدث.
حدث وسمع منه الطلبة.
مرض آخر عمره مدة، وضعف وتغيرت أحواله، وانقطع بالكلية. وكان يؤذن ببيت الآبار.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة خامس شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة.
علي بن عيسىابن سليمان بن رمضان بن أبي الكرم، الشيخ الرئيس الكاتب الفاضل المعمر بهاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ الفقيه ضياء الدين ناظر الأوقاف، وصهر الوزير بهاء الدين بن حنا، التغلبي المصري الشافعي، ابن القيم.
سمع من الفخر الفارسي، وعبد العزيز بن باقا وسبط السلفي، وتفرد مدة عن الفارسي.
وكان فيه قوة، وهمة مرجوه، يركب الخيل ويتصرف في مصالحه، ويسعى في مناجحه. وعنده دين واف، وخير كاف، ولطف مع من يلقاه، وتواضع وهو في أعلى مرقاه.
ولم يزل على حاله إلى أن آن انصرام حبله، وحان انصراف حبله.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشري القعدة سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وسمع منه الدمياطي، والحارثي، وشيخنا ابن سيد الناس، وابن حبيب، وشيخنا العلامة قاضي القضاة السبكي، والواني، والنور الهاشمي، وابن سامة، وابن المهندس، والشيخ رافع، وولده الشيخ تقي الدين حضوراً، وابن الفخر، وابن خلف.
وقرأ عليه شيخنا الذهبي الأول من عوالي ابن عيينة للرئيس الثقفي.
وكان يركب الخيل، ويقوم لكل من يدخل عليه، ويمشي في أموره. وكان ناظر الأحباس. وولي أمر التركة الظاهرية. وصاهر الصاحب بهاء الدين بن حنا.
علي بن عيسى بن المظفرابن إلياس ابن الشيرجي الدمشقي.
حدث عن ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وطائفة.
وأجاز له الكمال الضرير، والرشيد بن العطار، وآخرون.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة أربعين وسبع مئة. عن ثمان وثمانين سنة.
وكان يدعى بهاء الدين.
علي بن عيسى بن داودابن شيركوه الأمير علاء الدين بن الملك المعظم بن الملك الزاهر، مجير الدين ابن أسد الدين.
كان أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، أقام بها مدة، ثم إنه تولى نيابة حمص بعد الأمير ناصر الدين محمد بن ألاقوش. جاء إلها في .... سنة ست وخمسين وسبع مئة. فأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر رمضان سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
وكانت وفاته بحمص في عصر هذا النهار. وفي بكرة هذا النهار توفي ابن عمه الأمير أسد الدين أبو بكر بن الأوحد بدمشق. وكان ذلك عجيباً.
وكان بيد الأمير علاء الدين نظر كثير من أوقاف البيت الأيوبي، وبيده أيضاً نظر المدرسة التقوية والغور التقوي بدمشق نيابة عن زوجته، لأنه انتقل ذلك إليها بشرط الواقف.
علي بن أبي القاسمابن محمد بن عثمان بن محمد الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن بن الشيخ صفي الدين البصروي الحنفي قاضي دمشق.
سمع من ابن عبد الدائم، والصفي إسماعيل بن الدرجي، والقاضي ابن عطاء، وغيرهم.
وحج غير مرة، وحدث.
اشتغل على والده، ولازم القاضي شمس الدين بن عطاء، وتزوج بابنته، وأذن له في الفتوى في سنة أربع وستين وست مئة.
وكان ذا مال وثروة، وأموال لا ينفصم الدهر لها عروة.
تقدم في آخر عمره على جميع أبناء مذهبه، وحاز الرئاسة عليهم بعلمه ومنصبه. وولي الحكم أكثر من عشرين سنة مسدد الأحكام، ينظف العرض من الآثام، عنيناً في ولايته، كفيفاً عن رؤية ما يشينه في ولايته، معظماً بين أهل دمشق إلى الغاية، موفور الجانب لا يصل أحد إلى ثلمه ولا ثلبه بسعايه.
ولم يزل على حاله إلى أن طحنته رحى المنون الدائرة، وأصبح بسياقه في أول طلائع الآخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء بعد العصر ثالث شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ودفن بسفح قاسيون بالقرب من المدرسة المعظمية.
ومولده في ثالث شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وست مئة بقلعة بصرى، أيام الخوارزمية.
ولم يزل يترقى في المدارس الكبار إلى أن ولي قضاء القضاة بدمشق، وجمع بين تدريس المدرسة النورية والمقدمية والخاتونية البرانية.
وهو سبط القاضي شرف الدين عبد الوهاب الحوراني نائب الحكم، كان بدمشق.
وكان القاضي صدر الدين حفظة للحكايات والأشعار، حسن المحاضرة.
علي بن قراسنقرالأمير علاء الدين بن الأمير شمس الدين.
لم يزل مقيماً بالديار المصرية في جملة أمرائها إلى أن تحقق السلطان الملك الناصر موت والده في البلاد الشرقية، فأخرجه السلطان إلى دمشق أمي طبلخاناه أيضاً في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فيما أظن، أو في سنة تسع وعشرين في أوائلها.
ووصل الأمير علاء الدين من القاهرة إلى دمشق في أول شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يحبه أخيراً ويعظمه. ولما توجه الأمير سيف الدين تمر الساقي إلى مصر مع الفخري، أو لما أنه مات بمصر، أخذ الأمير علاء الدين تقدمته على الألف.
وكان مقدم ألف إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأحد ثامن عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وكان هشاً بشاً بالناس، فيه ود وصحبة ورعاية للناس، يحضر العقود والمحافل للمتعممين وغيرهم، ويجمل الناس. وكان الأمير سيف الدين يلبغا يحبه ويعظمه.
وهو والد الأمير ناصر الدين محمد. ولما توصل الأمير علاء الدين إلى دمشق أعيدت أملاكهم إليهم، وكانت أولاً تحت الحوطة. وأعطي بدمشق خبز الأبو بكري، وأفرج عن الأمير علم الدين الجاولي، وأعطي إقطاع الأمير علاء الدين للذكور بزيادة تليق به.
علي بن قيرانعلاء الدين أبو الحسن الكركي السكزي، بالسين المهملة والكاف والسزاي، الدمشقي الجندي ثم الصوفي نزيل القاهرة.
سمع الكثير سنة سبع عشرة، في الكهولة، وأخذ عن جماعة من أصحاب ابن الزبيدي. وحدث، ونسخ قليلاً.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: سمع معي.
قلت: ولد سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
كان يكتب أسماء السامعين في المواعيد، وكان مخلاً رحمه الله تعالى، رأيته غير مرة، وكتب اسمي في سماعاتي.
علي بن محمد بن إبراهيمالشيخ الإمام الزاهد بدر الدين السمرقندي الحنفي، شيخ خانقاه خاتون والخانقاه الشبلية.
كان شيخاً مليح الهيئة، عليه سكينة ووقار. وكان فاضلاً وله كلام حسن، وخطه جيد، ونسخ بخطه كثيراً، وكان كثير الاشتغال والمطالعة، وهمته عالية في أمور دينه ودنياه.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة.
علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللهالشيخ الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي، شيخ جماعته، شرف الدين، أبو الحسين، ابن الإمام البارع الشيخ الفقيه اليونيني البعلبكي الحنبلي.
سمع حضوراً من البهاء عبد الرحمن، وسمع من ابن صباح، وابن اللتي، والإربلي، وجعفر الهمداني، ومكرم، وموسى بن محمد صاحب دمشق. وفي الرحلة من ابن رواج، وابن الجميزي، والحافظ المنذري عبد العظيم، وعدة.
وعني بالحديث وضبطه، وبالفقه واللغة، وحصل الكتب النفيسة. وكان في وقته عديم النظير في بابه. ليس له مشارك في عشرته لأصحابه. حسن الملقى بلا ملق، جارياً في سجيته على المكارم كم انطلى لما انطلق. دينه متين، وهديه مبين. كثير الهيبة، يحفظ أصحابه في الحضور والغيبة.
يحفظ كثيراً من الأحاديث بلفظها، ويفهم معانيها، ويعرف كثيراً من اللغة، كان أصمعي بواديها. وكان فصيح العبارة لطيف الإشارة. له قبول كثير من الناس، وعليه أنس زائد ولباس عار من الإلباس. ومن جملة ماله من السعادة، أنه أحرز في شهر رمضان الشهادة، لأن موسى الفقير المصري الناشف ضربه بسكين فقضى عليه. وتوجه وقد توجه علمه وعمله المبرور بين يديه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة من شهر رمضان سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده ببعلبك في حادي عشر شهر رجب سنة إحدى وعشرين وست مئة.
قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: انتفعت به، يعني بصحبته، وأكثرت عنه.
وقال شيخنا البرزالي: دخلت بعلبك أربع مرات، قرأت عليه فيها مسند الشافعي رضي الله عنه، والثقفيات العشرة، ومشيخة تخريج الشيخ شمس الدين بن أبي الفتح، وهي ثلاثة عشر جزءاً، وسنن الشافعي، رواية الطحاوي، وعمن المزني، ونحواً من عشرين جزءاً.
وكان يقدم دمشق، وفي كل مرة نسمع عليه ونستفيد منه. كان قد قدم دمشق في شعبان، فحصل الأنس به والسماع عليه. وتوجه إلى بلده في آخر الشهر، فوصل أول شهر رمضان وأقام أياماً، ولما كان يوم الجمعة خامس شهر رمضان الرابعة دخل إلى خزانة الكتب التي في مسجد الحنابلة، فدخل هذا الفقير موسى المصري، فضربه بعصا على رأسه ضربات، ثم أخرج سكيناً صغيرة فجرحه في رأسه، فاتقى بيديه. فأمسك وحمل إلى والي البلد، وضرب، فأظهر الاختلال في عقله وتجانن، وحمل الشيخ إلى داره، وأتم صومه يومه. ثم إنه حصل له حمى، واشتد مرضه إلى يوم الخميس، دخل إلى رحمه الله تعالى في الساعة الثامنة، ودفن بباب سطحاً، وتأسف الناس عليه.
علي بن محمد بن أبي بكربن عبد الله بن مفرج الفقيه شمس الدين الأنصاري الإسكندري الشافعي.
كان جيد القريحة، ذكي الفطرة الصحيحة. له مشاركات في أصول دين وفروع، ودخول في النحو وشروع، واختصر الروضة، وملأ من معرفتها حوضه، وكابد من الفقر أنواعاً، أفضت به إلى أن تجرد وصار عرياناً، ولبس من القطوع والشدائد ألواناً، إلى أن أحسن إليه قاضي سيوط أبو الحجاج يوسف، وأطلقه من فقر كن في قيده يرسف. وأقرأ ولده أبا مدين شعيباً، وكشف عن ذهنه ريناً وريباً، ثم إنه صحب فخر الدين ناظر الجيش، ففاز بلذة العيش، وولاه قضاء بلده فوه، وأبرز سعده إلى الفعل بعد القوة.
ولم يزل إلى أن توجه إلى مكة، فجاءه الأمر الذي قد حتم، وطبع عليه الوجود وختم.
فتوفي رحمه الله تعالى هناك، وقال له سعد القعة: فزت بما هناك.
وكان قد سمع من الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ولازمه، وأملى عليه شرح الإلمام. وقرأ الفقه والأصول والنحو على علم الدين العراقي.
وتوجه إلى قوص، وتولى إعادة مدرسة ابن السيد، ثم أعرض عنه، وحصل له فقر شديد مدقع مدة، ثم تعرف بخفر الدين ناظر الجيش، فأعطاه شهادة الكارم بعيذاب وحصل مالاً. وشفع فيه عند قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فولاه قضاء فوه، وأجازه بالفتوى، ثم نقله إلى قضاء سيوط، ثم عزله، فتوجه إلى مكة، فتوفي هناك سنة أربعين وسبع مئة. وقد جاوز الستين.
وكتب بخطه كثيراً من الفقه واللغة والتصوف، ووقف كتبه على طلبة العلم.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
يا سائلي عن شامة في أنف من ... فضح الغصون بميسه في عطفه
إن الذي برأ الحواجب صاغها ... نونين في وجه الحبيب بلطفه
فتنازع النونان نقطة حسنه ... فأقرها ملك الجمال بأنفه
قلت: وقد نظم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في هذه المادة عدة مقاطيع، ومن أحسنها قوله:
ما خاله بأنفه ... كطابع الحسن فقط
بل إنه من كحل ... من مقلتيه قد نقط
وأنشدني من لفظه شيخنا الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان لنفسه في هذا المعنى:
عجبت لخال حل في وسط أنفه ... وعهدي به وسط الخدود غدا وشيا
ولكنما خداه فيه تغايرا ... هوى، فابتغى من وجهه أوسط الأشيا
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال صار له حليا
علي بن محمد بن جعفر
ابن محمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون، الشريف فتح الدين بن الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين.
سمع من أبي بكر بن الأنماطي وخاله قاضي القضاة ابن دقيق العيد، وغيرهما.
وجمع وألف وكتب وصنف واختصر الروضة، وخاض لجتها ألف خوضة.
وكانت له يد طولى في حل الألغاز، ونظم كثير يشهد له أنه في حربها وحربها أقوى مجاهد وأجل غاز، وشعره يطرب الثكالى، ويدع النجوم السائرات السافرات من حسنه خجالي. هذا إلى سكون وعفة، واتضاع لا يعادله معه أحد في كفه.
ولم يزل على حاله إلى أن انضم القبر على الفتح، وجرى عليه عقيق الدموع من السفح.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة.
ومن شعره:
كم من خليلين دام الود بينهما ... دهراً وما داما على الإنصاف واتفقا
رماهما الدهر إما بالمنية أو ... بالبعد أو بانصرام الود فافترقا
ومنه:
ما بال ليلي أمسى لا نفاد له ... وكان قبل النوى في غاية القصر
ولم يخص النوى دون اللقا سهر ... حتى أعلل طول الليل بالسهر
وإنما عيشي الصافي بقربكم ... تبدل الآن منه الصفو بالكدر
ومنه لغز في كمون:
يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك
تبصره بالعين في يقظة ... كما يرى بالقلب في نومك
قلت: هكذا تكون صنعة الألغاز، لقد تخيل جيداً وتحيل على إيراده في هذه الصورة.
علي بن محمد بن محمودابن أبي العز بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم، ظهير الدين الكازروني البغدادي الشافعي. سمع الحديث من الأمير أبي محمد الحسن بن علي بن المرتضى وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد، وأبي عبد الله محمد بن سعيد الواسطي.
كان فاضلاً حاسباً فرضياً متأدباً مؤرخاً شاعراً، مصنفاً ماهراً، كثر التلاوة والعبادة والإنابة، غزير الوقار والمهابة.
ولم يزل على حاله إلى أن أضمره الضريح، وغاب شخصه مع الموت الصريح.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى عشرة وست مئة. هكذا رأيت كمال الدين الأدفوي ذكر هذه الوفاة وهذا المولد، ووافقه على ذلك شيخنا الذهبي. والظاهر أن هذا هو الصحيح، لأن من يولد سنة إحدى عشرة وست مئة، يمكن وفاته سنة سبع وتسعين وست مئة.
ورأيت شيخنا البرزالي قد ذكر وفاته في تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، والله أعلم.
وذكر أنه أضر، وأنه رتب صوفياً في خانقاه الطاحون بدمشق.
وقال شيخنا الذهبي: كتب لي بمروياته في سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومن مصنفاته كتاب النبراس المضيء في الفقه، وكتاب المنظومة الأسدية في اللغة، مجلدة، وكتاب كنز الحساب في الحساب، مجلدة، وكتاب روضة الأريب في التاريخ، سبعة وعشرون مجلداً، وصنف في السيرة وفي التصوف، وله كتاب الملاحة في الفلاحة.
وله نظم، منه قوله:
زارني في الظلام أهيف كالبد ... ر بوجه منه يلوح النور
قلت: أهلاً لو كنت زرت نهاراً ... قال: مهلاً في الليل تبدو البدور
قلت: هو عكس قول أبي العلاء المعري:
هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكر وازورارا
أنا بدر وقد بدا الصبح في رأ ... سك والصبح يطرد الأقمارا
لست بدراً وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجا وتبدو نهارا
ومن شعر ظهير الدين الكازروني:
مقرطق بالجمال ذو هيف ... يضرب فيه بعشقي المثل
يرمي بسهم من غنج ناظره ... يا بأبي من نبالها المقل
أسهر طرفي فتور ناظره ... والعشق داء دواؤه القبل
ظلم ثناياه بارد شيم ... كأنه في مذاقه عسل
بدر جمال بقلب عاشقه ... عن لوم عذاله به شغل
تاه علينا بحسن صورته ... وغنج طرف يزينه الكحل
قلت: شعر مقبول، وقوله: " والعشق داء دواؤه القبل " ، ما له علاقة بنصفه الأول.
قال شيخنا الذهبي: كتب إلي بمروياته عام سبع وتسعين.
علي بن محمد بن خطابالشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الأصولي النظار علاء الدين الباجي الشافعي.
سمع بدمشق من أبي العباس التلمساني جزء ابن جوصا.
كان في أهل مصر شامه، ولكل من أم في علم إمامه، قل من جاء بعده مثله ورأى أمامه. طلق العبارة، إذا أرسل سهم بحث لا يخطئ الإشارة. ناظر العلامة تقي الدين بن تيمية، وفاز دونه بالأولوية. وكان يباحث كل من قل وجل. ويسقي الوبل الغدق لا الطل. ولم يسمع منه بحث نازل، ولا خلت من فوائده ربوع الديار المصرية ولا المنازل.
وكان آية من الآيات، وغاية نأت عن لحاق شأوها من الغايات:
لا تجسر الفصحاء تذكر عنده ... بحثاً ولو كان الهزبر الباسل
ولم يزل يقرئ الطلبة ويفيد، ويبدي الغرائب لهم ويعيد، إلى أن ناجى الباجي حمامه وبكاه حتى على الأراك حمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سادس ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
صنف وأفتى وناب في الحكم بالشارع خار القاهرة، واشتغل الناس عليه طائفة بعد طائفة. واختصر المحرر في الفقه، والمحصول في الأصول، مختصرين: كبيراً وصغيراً، واختصر كشف الحقائق في المنطق، وصنف في الفرائض والحساب، ورد على ما بيد اليهود من التوراة، ورد على ذلك اليهودي الذي سأل الفتيا نظماً، وقد تقدمت في ترجمة الشيخ علاء الدين القونوي، وعمل رده نظماً.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يقول: العلاء يطلق عليه عالم. وحضر درسه في المدرسة الصالحية، فوقع بحث في كلام الغزالي في الوسيط، فقال الباجي: الغزالي عدل في العبارة المقتضية كذا، حتى لا يرد عليه كذا. وهذا العبارة التي قالها يرد عليها خمسة عشر سؤالاً، وسردها. فقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: كم سنك؟ فقال: كذا، فقال: وهذا كله حصلته في هذا السن.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: قال شيخنا العالم الثقة نجم الدين الأصفوني: حضرت درس الشيخ تقي الدين، فقال: يا فقهاء جاء شخص يهودي، ويطلب المناظرة. فسكت الناس. وقال الباجي: أحضروه، فنحن بحمد الله مليون بدفع هذه الشبه. وقال لي رحمه الله تعالى لما أحضروا ابن تيمية، طلبت في جملة من طلب، فجئت لقيته يتكلم، فلما حضرت قال: هذا شيخ البلاد، فقلت: لا تطرني ما هنا إلا الحق، وحاقته على أربعة عشر موضعاً، وغير ما كان كتب به خطه.
وكان أخيراً قد نسب إليه كلام، واختفى بسببه مدة، وكان له ابنان فاضلان تكلما عنه، ثم إنه تقشف، وصار بفرجية مفتوحة لطيفة، وعمامة بكراثة لطيفة جداً لا تكاد تظهر.
وتولى تدريس السيفية، وكان معيداً بالمنصورية والصالحية.
ورأيت أنا شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يعظمه كثيراً إلى الغاية، ويثني على فضائله المنوعة. وكان قد ولي وكالة بيت المال بالكرك في الأيام الظاهرية.
وقال شيخنا البرزالي: أجاز لنا جميع ماله روايته.
وأنشدني قاضي القضاة تقي الدين السبكي من لفظه أبياتاً رثاه بها، ومنها:
فلا تعذليه أن يبوح بسره ... على عالم أودى بلحد مقدس
تعطل منه كل درس ومجمع ... وأقفر منه كل ناد ومجلس
ومات به إذا مات كل فضيلة ... وبحث وتحقيق وتصفيد مبلس
وإعلاء دين الله إن يبد زائغ ... فيخزيه أو يهدي بعلم مؤسس
وكان شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان يثني عليه كثيراً. أخبرني قال: قرأ عليه يسيراً من مختصره في أصول الفقه، وسمعن عليه دروساً، وأنشدني من لفظه لنفسه:
رثى لي عذلي إذ عاينوني ... وسحب مدامعي مثل العيون
وراموا كحل عيني، قلت: كفوا ... فأصل بليتي كحل العيون
قلت: كأن الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى نظر في هذا المعنى إلى قول السراج المحار:
شكوت الذي ألقاه من ألم الهوى ... وقلبي عن وصف الأطباء في شغل
وقالوا اشرب المغلي تجد فيه راحة ... فقلت: وذا أصل الذي بي من المغل
وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدنا الباجي لنفسه:
بالبلبل والهزار والشحرور ... يسبى طرباً قلب الشجي المهجور
فانهض عجلاً وانهب من اللذة ما ... جادت كرماً به يد المقدور
وأنشدني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي إجازة، قال: أنشدنا لنفسه:
حياة وعلم قدرة وإرادة ... وسمع وإبصار كلام مع البقا
صفات لذات الله، جل، قديمة ... كذا الأشعري الحبر ذو العلم والتقى
علي بن محمد بن عبد اللهابن عبد الظاهر بن نشوان، الصدر الكبير الرئيس النبيل الكاتب علاء الدين بن القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين.
سمع بقراءة الشيخ شمس الدين الذهبي من ابن الخلال.
وكان القاضي علاء الدين كثير المكارم، بيته مجمع الفضلاء والأدباء، ومحله محط الخاملين والنبهاء والنبلاء، لا يزلا يراعي مصالح الناس ويساعدهم على بلوغ مآربهم البعيدة من القياس. يؤثر الواردين والصادرين بملابيسه ومراكيبه، وينتاشهم من ورطاتهم، ولو كانوا بني ما ضغي الدهر ومخاليبه.
وكان في أيام سلار هو المشار إليه، والمعول فيما يرسم به عن الدولة عليه. وكان هو الذي خرج بهاء الدين أرسلان وهذبه، وفقهه وكتبه، لأنه كان يهواه، ويغضي طرفه، ويطوي على جوانحه جواه.
ولما عاد السلطان من الكرك، وتولى أرسلان الدوادارية ما شك هو ولا غيره أن كتابة السر تتعداه، ولا أن الملك يضطلع بغيره ويتحداه، فما قدر الله له ذلك، ولم يجئ حساب الدهر هنالك، ولكنه كان يوقع في الدست بين يدي السلطان إلى آخر وقت، والسلطان يضمر له البغض والمقت، ويقول إذا رآه من بعيد: سبحان الرازق، هذا يأكل رزقه على رغم أنفي وأنف الخلائق.
وكان القاضي علاء الدين حسن الشكل ظريف العمامة نظيف الملبوس ظاهر الوسامة طيب الرائحة، يعم مجلساً يكون فيه بهباته الفائحة. يكتب خطاً فائقاً من أين للعقود اتساقه، وللروض اليانع زهراته التي تضمنها أوراقه. قل أن اجتمعت مفرداته في غيره، أو بلغ مترفع في الجو مطار طيره، وإليه كانت الرياسة في زمانه، وإياه عنى مداح عصره وأوانه.
ولم يزل في توقيع الدست إلى أن اجتث منه الدهر جرثومة الرئاسة، وأخلى مصره من السيادة والنفاسة. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس رابع شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.
وكتب الإنشاء في الدولة المنصورية، وعمره إحدى عشرة سنة، سنة ست وثمانين وست مئة.
وكان الملك الناصر يكرهه لكونه قد اختص بالأمير سيف الدين سلار.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: قال لي السلطان الملك الناصر: ما كرهته لأجل شيء، وإنما خان مخدومه يعني سلار، لأنه استكتبه شيئاً واستكتمه إياه، فجاء إلي وعرفني به. وأخبرني أيضاً أن السلطان لما جاء من الكرك قال للأمير عز الدين الدوادار: الساعة يجيء إليك طعام من عند علاء الدين بن عبد الظاهر، فأقبله منه، فلم يكن قليل حتى جاءه ذلك فقبله. وعرف به السلطان، فقال له السلطان: الساعة يبعث إليك خرفاناً وأرزاً وسكراً، ويقول: يا خوند، أنا ما عندي من يطبخ ما يصلح لك، دع مماليك يشوون لك هذا، فما كان إلا عن قليل حتى جاء ذلك فأخذه وعرف السلطان به، فقال: الساعة يجهز إليك ذهباً ويقول: هذا أريده يكون وديعة في خزانة الأمير، فإنه أحرز عنده من بيتي، فما كان إلا أن جرى ذلك، وقال: يا خوند، قد بعت لي ملكاً، وأخاف أن يسرق ثمنه، وقد أرصدته للحجاز، وأريد أن يكون في خزائنك، فأخذ الورقة، وعرضها على السلطان، فقال له السلطان: اكتب في قفاها: يا علاء الدين، نحن ما نغير شرف الدين بن فضل الله، وإن غيرناه فما نولي إلا علاء الدين بن الأثير، فوفر ذهبك عليك، وخله عندك.
وكان القاضي علاء الدين كثير الرياسة والإحسان إلى من ينتمي إليه.
وللعلامة شيخنا شهاب الدين محمود فيه أمداح كثيرة، ولما مات رثاه بقصيدة طنانة كتب بها إلى ناصر الدين شافع رحمهم الله أجمعين أنشدنيها إجازة، وهي:
الله أكبر أي ظل زالا ... عن آمليه وأي طود مالا
أنعي إلى الناس المكارم والندى ... والجود والإحسان والإفضالا
ومهذباً ملأ القلوب مهابة ... والسمع وصفاً والأكف نوالا
حاز الرئاسة فاغتدى فيها به ... أهل المفاخر تضرب الأمثال
وحوى من الآدب ما أضحى به ... أهل البيان على علاه عيالا
طلق المحيا لو يقابل وجهه ال؟ ... أنواء ظل جهامها هطالا
متمكن من عقله فكأنه ... قد شد فيه عن الهنات عقالا
رحب الندى تنسي بشاشة وجهه ... ما زاده أوطانه والآلا
طرقته أيدي الحادثات فزعزعت ... منه مآلاً للعفاة ومالا
وسطت على الشرف الرفيع فقلصت ... عن ذك الحرم المنيع ظلالا
فجعت يتامى من ذؤابة هاشم ... أمسى أباً لهم وإن يك خالا
فقدت أياماهم بفقد عليهم ... وكذا اليتامى عصمة وثمالا
ونضت مكلاءة كل مكرمة ضفت ... عنها فعاد لباسها الأسمالا
وأعادت المجد المؤثل بعده ... كأنا غدير حياً فعادا آلا
من للسماحة والفصاحة بعده ... قولاً يقال وكان قبل فعالا
من للوجاهة والنباهة بعده ... إن قال في نادي الندى أو قالا
من للفتوة والمروة أزمعا ... لما ترحل بعده الترحالا
من للكتابة حين أضحى جيدها ال؟ ... حالي بدر بيانه معطالا
قد كان فارسها الذي بيراعه ... كم راع قبل أسنة ونصالا
وجوادها إن رام سبقا حازه ... فيها وقرطس إن أراد نضالا
وخطيبها ما أم منبر كفه ... قلم فغادر للأنام مقالا
من للبلاغة رامها من بعده ... كل فكانت كالنجوم منالا
يا نجل فتح الدين أغلق رزئكم ... باب الرجاء وأوثق الأقفالا
لهفي على تلك البشاشة كم بها ... بسطت لوافد رفده آمالا
لهفي على تلك المكارم كم سقت ... ظامي الرجاء البارد السلسالا
لهفي على تلك المروءة كم قضت ... سولاً لمن لم يبد منه سؤالا
لهفي على آلائه كم ثقلت ... ظهراً وكم قد خففت أثقالا
لهفي على تلك المآثر لم تطع ... في فعلها اللوام والعذالا
أبكي عليه وقل مني أنني ... أبكي عليه وأكثر الإعوالا
أدعو دموعي والعزا فيجيبني ... ذا هاملاً ويصد ذا إهمالا
وإذا اعتبرت الحزن كان حقيقة ... وإذا اعتبرت الصبر كان محالا
وإذا غفلفت أقام لي إحسانه ... في كل وقت من سناه مثالا
وإذا هجعت فإنما زار الكرى ... ليروع قلبي أن أراه خيالا
قد كان يكرم جانبي ويجلني ... وإذا ذكرت أطابه وأطالا
ويجلني كأبيه في تبجيله ... حتى أقول قد استوينا حالا
فعلام لا أبكي وأستسقي له ... سحب القبول من الكريم تعالى
ولقد صحبت أباه قبل وجده ... وهما هما مجداً سما وكمالا
فوجدته قد حاز مجدهما معاً ... فرداً ونال من العلا ما نالا
ومضى حميداً طاهراً ما دنست ... أيدي الهوى لبروده أذيالا
عجل الحمام على صباه فلا ترى ... إلا دموعاً تستفيض عجالا
يا ناصر الدين ادرع صبراً فقد ... فارقت ثم صبرت ذاك الخالا
ورزيت قبل فراق خالك بابنه ... فحملت أعباء الخطوب ثقالا
وختام هاتيك الحوادث فقد ذا ... فأعاد حزناً كان مر وزالا
فاسلم لتبلغ بابنه العليا التي ... فسحت لهم فيها النجوم مجالا
فالأجر جم والعزاء طريقه ... فاصبر فلست ترى لها أمثالا
هي هذه الدنيا كشمس إن علت ... وافت عزوباً بعده وزوالا
كم خيبت أملاً وأتبعت الرجا ... يأساً وغادرت المصون مذالا
يسري بنا الآمال فيها غرة ... فيزيرنا ذاك السرى الآجالا
تباً لها من غفلة فإلى متى ... نرجو البقاء ونرجئ الآمالا
أو ما ترى فعل المنون بغيرنا ... نادتهم فتتابعوا إرسالا
سيما لمن قد جاز معتك الردى ... وغدا لقطب رحى المنون ثفالا
عجباً لبال في غد تحت الثرى ... أنى يرى في اليوم ينعم بالا
كم تخطئ الأسقام من أضحى لها ... هدفاً وقد بعثت إليه نبالا
سيان من نزل القبور اليوم والسفر الذين غدوا غداً نزالا
مع أنهم قطعوا الطريق وخلفوا ... للخالف الأوجاع والأوجالا
فأعاننا الرب الرحيم على مدى ... بلغوا وحسن للجميع مآلا
وسقته من عفو الإله سحائب ... يتلو سرى غدواتها الآصالا
ومن إنشاء القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى رسالة في المفاخرة بين الرمح والسيف، وهي: بعثت إليك رسالتي وفي ذهني أنك الكمي الذي لا يجاريك ند، والشجاع الذي أظهر حسن الائتلاف لو شك الضد، والبطل المنيع الجار، والأسد الذي لك الأسل وجار، والباسل الذي كم لخمر الغمود بتجريدك عن وجوه البيض انحسار. ولك معرفة في الحرب ولاماتها، والشجاعة وآلاتها، وإليك في أمرها التفصيل، ولديك علم ما لجملتها من تفصيل. وها هي احتوت على المفاضلة بين الرمح والسيف، ولم تدر بعد ذلك كيف فإن السيف قد شرع يتقوى بحده، ولا يقف في معرفة نفسه عند حده، والرمح يتكسر بأنابيبه ويستطيل بلسان سنانه، ولم يثن في وصف نفسه فضل عنانه. قد أطرقتهما حماك لتحكم بنيهما بالحق السوي وتنصف بين الضعيف والقوي: أما السيف فإنه يقول: أنا الذي لصفحتي الغرر، ولحدي الغرار، وتحت ظلالي في سبيل الله الجنة، وفي إطلالي على الأعداء النار، ولي البروق التي هي للأبصار والبصائر خاطفه، وطالما لمعت فسحت سحب النصر واكفه، ولي الجفون التي ما لها غير نصر الله من بصر، وكم أغفت فمر بها طيف من الظفر، وكم بكت علي الأجفان لما تعوضت عنها الأعناق غموداً، وكم جابت الأماني بيضاً والمنايا سوداً، وكم ألحقت راساً بقدم، وكم رعيت في خصيب نبته اللمم، وكم جاء النصر الأبيض لما أسلت النجيع الأحمر، وكم اجتني ثمر التأييد من ورق حديدي الأخضر، وكم من آية ظفر تلوتها لما صليت وانقد لهيب فكري فأصليت فوصفي هو لذاتي المشهور، وفضلي هو المأثور، فهل يتطاول الرمح إلى مفاخرتي وأنا لجوهر وهو العرض، وهو الذي يعتاض عنه بالسهام وما عني عوض، وإن كان ذاك ذا أسنة، فأنا أتقلد كالمنة، كم حملته يد فكانت حمالة الحطب، وكم فارس كسبه بحملاته فما أغنى عنه ما كسب، حدث ليس من جنسه، ونفعه ليس من شأن نفسه، وأين سمر الرماح من بيض الصفاح، وأين ذو الثعالب من الذي تحمى به أسود الضرائب. وهل أنت إلا طويل بلا بركة، وعامل كم عزلتك النبال بزائد حركة؟! فنطق الرمح بلسان سنانه مفتخراً، وأقبل في علمه معتجراً، وقال: أنا الذي طلت حتى اتخذت أسنتي الشهب، وعلوت حتى كادت السماء تعقد علي لواء من السحب. كم ميل نسم النصر غصني وميد، وكم وهى بي ركن للملحدين، وللموحدين تشيد. وكم شمس ظفر طلعت وكانت أسنتي شعاعها. وكم دماء أطرت شعاعها. طالما أثمر غصني الرؤوس في رياض الجهاد، وغدت أسنتي فكأنما صيغت من سرور فما يخطرن إلا في فؤاد، وكم شبهت أعطاف الحسان بمالي بمن ميل، وضرب طبول ظل قناتي المثل، وزاحمت في المناكب للرياح بالمناكب، وحسبي الشرف الأسنى أن أعلى الممالك ما علي يبنى، ما لمع سناني في الظلماء إلا خاله المارد من رجوم السماء، فهل للسيف فخر يطال فخري، أو قدر يسامي قدري، ولو وقف السيف عند حده لعلم أنه القصير وإن كان ذا الحلى، وأنا الطويل ذو العلا، وطالما صدع هاماً، فعاد كهاما، وقصر عن العدى، وألم بصفحته كلف الصدا، وفل حده، وأذابه الرعب فلولا غمده.. فهل يطعن في بعيب، وأنا الذي أطعن حقيقة بلا ريب، ومن ههنا آن أن أمسك عنك لسان سناني، ونرجع إلى من يحم برفعه شانك وشأني، ونسعى إلى بابه ، ونبث محاورتنا برحابه.
وقد أوردهما المملوك حماك، فاحكم بما بصرك الله وأراك.
ومن شعر علاء الدين، وقد رتبت معاليمهم على شطنوف:
يا أميراً له من الجود بحر ... فهو يجري لنا بغير وقوف
قد غرقنا في بحر هم وغم ... فطلعنا بذاك من شنطوف
ولما دخلت أنا في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت جماعة قد لهجوا بالمقامة التي أنشأها القاضي علاء الدين وسماها مراتع الغزلان، فكلفني بعض أصحابي الأعزة أن أنشئ رسالة في مادتها، فأنشأت رسالتي عبرة اللبيب بعبرة الكئيب.
علي بن محمد بن سلمان بن حمائلالشيخ الإمام الصدر الرئيس الكاتب الشاعر، صدر الشام، القاضي علاء الدين بن غانم.
كان حسنة من حسنات الزمان، وبقية مما ترك أول الفضل والإحسان، ذا مروءة فاتت الواصف، وجود أخجل هتانه الغمام الواكف. تأذى من الدولة مرات، وما رجع عما له من العصبية والخير من كرات، يسدي الجميل إلى من يعرف والى من لا يعرف، ويتكل على الله تعالى فيما يتصرف بقلمه ويصرف. وكان وجيهاً في الدولة يعرف الناس قدره، ويعلمون أن المروءة لا تنزل إلا في قلبه، ولا تسكن إلا صدره.
وكان حسام الدين لاجين وقبجق والأفرم ومن بعده إلى تنكز يرعون قدره ويراعونه، ويعلمون أنه ما يبخل أ، يعير ماعونه، لا يبخل بجاهه وماله على أحد من أبناء جنسه، ولو أن ما يف كفه غير نفسه.
ولم يزل على حاله إلى أن حج وعاد إلى تبوك، فغنم ابن غانم أجله، وراح إلى الله تعالى، ولم يقصر به كرمه ولا اعتراه خجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وله ست وثمانون سنة.
وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى يقول: ما أعرف أحداً في الشام إلا ولعلاء الدين بن غانم في عنقه مانة قلدها بصنيعة أو ماله أو جاهه.
وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يكرهه ويؤذيه ويحط عليه ويقول: كيف أعمل بهذا ابن غانم، أي من أردت أن أذكره عنده بسوء يقول: ما في الدنيا مثل ابن غانم، أو كما قال.
وكان وقوراً مليح الهيئة منور الشيبة، ملازم الجماعة، مطرح الكلفة.
حدث عن ابن عبد الدائم، والزين خالد، وابن النشبي، وجماعة.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة، ولما دخلت ديوان الإنشاء اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، ووجدت منه خيراً وبراً رحمه الله تعالى.
وهو كان آخر من بقي من رؤساء دمشق، لأن بيته كان مقصداً لكل غريب وغياثاً لكل ملهوف.
كتب إليه الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض ما كتبه من أمداحه:
علوت اسماً ومقداراً ومعنى ... فيا لله من فضل جلي
كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... علي في علي في علي
قلت: أخذ الثاني برمته من قول علاء الدين الوداعي رحمه الله تعالى نقلت ذل من خطه، وقد اجتمع بأصحابه، وكلهم يدعى علياً:
لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي
تجمعنا فكنا ضرب خيط ... علي في علي في علي
وكان ينظم وينثر، وله أعمال جيدة في شبيبته، وبين الشيخ علاء الدين وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وبين الشهاب محمود وغيره من أهل عصره محاورات ومكاتبات على عادة الأدباء، مليحة.
وكان قد طلب هو وأخوه شهاب الدين أحمد بن غانم إلى مصر على البريد في شهر رجب سنة سبع عشرة وسبع مئة، فرسم للشيخ علاء الدين بكتابه السر بحلب، فاستعفى من ذلك. وعرض عليه الإقامة بمصر، فاختار العود إلى بلده، ورسم لهما بزيادتين وخلعتين، وأعيدا إلى دمشق.
ومن نثره رحمه الله يصف قلعة: " ذات أودية ومحاجر لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظر إلا أنها طالعة بين النجوم بمالها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر إلا أن " هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " ، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء ولا حر الهواجر، وقد توعرت مسالكه، فلا يداس فيه إلا على المحاجر، وتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه " فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " .
ومنه في صدر كتاب:
" وجعله لحقيقة العلياء نفساً وعيناً، ولا أعدم منه الملك ناظراً ولا عيناً. ولا زال على الأعداء يرسل من مهابته رقيبين، أذناً وعيناً وأغنى بمكارمه من أن نشيم من السماء خالاً وعيناً، أو نرد من الأرض منهلاً وعيناً، وأطلع طلعة لوائه في الخافقين حتى تخال الشمس عيناً، وسير ركائب ذكره في الآفاق لا تشتكي أينا ولا عيناً وأقام ميزان القسط بين الرعايا لا تجد فيه غبناً ولا عيناً " ، واستعبد بخدمته كل أصيد من الملوك، لكل جحفل قلباً ولك محفل عيناً، وأهلك كل عدو له وحاسد تارة فجأة وتارة عيناً، ومتعه بما خصه من استجلاء عرائس الحور العين بمجاهدته إذا شغل سواه عيناء من أسماء وعيناً، وسطر آثار مآثره محكمة على صفحات الأيام إذا لم يبق لمن سلف من الملوك أثراً ولا عيناً " .
وأنشدني من لفظه ما كتبه إلى شيخنا العلامة أبي الثناء محمود:
لقد غبت عنا والذي غاب محسود ... وأنت على ما اخترت من ذاك محمود
خللنا محلاً بعد بعدك ممحلاً ... به كل شيء ما خلا الشر مفقود
به الباب مفتوح إلى كل شقوة ... ولكن به باب السعادة مسدود
قال: فكتب الجواب:
أأحبابنا بنتم وشط مزاركم ... برغمي وحالت دون وصلكم البيد
وودعتم روض الحمى بفراقكم ... فشابت نواصي بانه وهو مولود
ومن لم تهجه الورق وجداً عليكم ... توهم أن النوح في الدوح تغريد
وكتب إليه شيخنا نجم الدين الصفدي:
شنف الأسماع بالدر الذي ... قد حكى الأنجم في ظلمائها
وبدا كالشمس إلا أنه ... زاد في الحسن على لألائها
فكتب الجواب إليه:
ليس للمملوك إلا مدحة ... في معاليك وفي آلائها
وبحار الفضل تجري منك لي ... فمقالي قطرة من مائها
ومن شعر:
سلب المهجة مني ... بالجفون الفاترات
لو يزور البيت لم ير ... م الحشا بالجمرات
وأخبرني من لفظه، قال: عتبني شهاب الدين محمود، وهو صاحب ديوان الإنشاء. وقال: بلغني أن جماعة من ديوان الإنشاء يذمونني، وأنت حاضر، ما ترد عني، فكتبت إليه:
ومن قال إن القوم ذموك كاذب ... وما منك إلا الفضل يوجد والجود
وما أحد إلا لفضلك حامد ... وهل عيب بني الناس أو ذم محمود
قال: فكتب إلي بأبيات منها:
علمت بأني لم أذم بمجلس ... وفيه كريم القوم مثلك موجود
ولست أزكي النفس إذ ليس نافعي ... إذا ذم مني الفعل والاسم محمود
وما يكره الإنسان من أكل لحمه ... وقد آن أن يبلى ويأكله الدود
قال: ولم يكن بعد ذاك إلا أيام حتى توفي رحمه الله تعالى وأكله الدود.
وكان القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى قد طلب مني كتابي جنان الجناس وكتب علي:
لقد ضم أجناس فأطربا ... وأعجز من باراه فيها وأعجبا
صلاح لدين الله أبدي بدائعاً ... تروق بألفاظ أرق من الصبا
يراه بليغ جاء بالمدح سائلاً ... مجيباً مجيزاً قوله لا مخيبا
بإنشاده هذا وإنشائه لقد ... به فات من قد فاق فضلاً ومنصبا
فقس إياد عند ذي الفضل باقل ... ولفظ امرئ القيس البديع هنا هبا
فكتبت أنا أشكره على ذلك:
ألا هكذا من قال شعراً فأطربا ... ووشى بروداً باليراع فأعجبا
جبرت انكساري إذا أجزت مصنفي ... بأبيات شعر قد حكت رقة الصبا
فما كل من وافى بحسنى يجيدها ... ولا كل من أولى الندى يجزل الحبا
فأقسم لو جاراك في الفضل فارس ال؟ ... كتابة أعني الفاضل ابن علي كبا
ومن للعماد الأصفهاني أن يرى ... ببابك دهراً واقفاً متأدبا
لأنت الذي أنسى بألفاظ نظمه ... ورونقها عصر الشبيبة والصبا
طريقتك المثلى التي اجتهد الورى ... على مثلها واستحسنوا منك مذهبا
ولم ير أحلى من يراعك أحمرا ... علت دهمة جاري من الطرس أشهبا
بقيت لنا ذخراً مآثر فضله ... يضوع لها في كل يوم لنانبا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وكم سرحة لي في الربا زمن الصبا ... أشاهد مرأى حسنها متمليا
ويسكرني عرف الصبا من نسيمها ... فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا
وأسأل فيها مبسم الروض قبلة ... فيبرز من أكمامه لي أيديا
فلله روض زرته متنزهاً ... فأبدى لعيني حسن مرأى بلا ريا
غدا الغصن فيه راقصاً ونسيمه ... يكر على من زاره متعديا
ترجلت الأشجار والماء خر إذ ... نسيم الصبا أضحى به متمشيا
يغني لديك الورق والغصن راقص ... فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا
فأنشدته أنا لنفسي في هذا المعنى:
حسدت نسيم الروض في كل حالة ... ولا سيما يوم قطعناه بالحمى
فكم م عطفاً للغصون مرنحا ... وعانق قداً للقضيب مقوما
وقبل خد الورد وهو مضرج ... وثغر الأقاحي في الربا إذا تبسما
وكم بات يستجلي عذار بنفسج ... سقته الغوادي صوبها فتنمنما
ولما أمال القضب نقش ظلها ... وكبت كفا للغدير ومعصما
وفتح أجفاناً من الزهر أغمضت ... ونبه قمري الحمي فترنما
ولم أنسى وجه الروض يسفر ضاحكاً ... بأزهاره كالدر لما تنظما
فمذ فتحت فيه البروق جفونها ... تبرقع منها بالحيا وتلثما
علي بن محمد بن عليابن وهب بن مطيع، الإمام الفاضل محب الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
سمع من أبيه، وحضر عند عبد الوهاب بن عساكر، وسمع من الزاهد عمر الحريري القوصي.
وحدث بالقاهرة، وسمع منه أمين الدين محمد بن الواني الدمشقي وغيره.
كان فاضلاً فقيهاً في مذهب الشافعي، يعترف له بذلك كتاب الروضة والرافعي. قوي النفس عزيزاً، قل أن يرى للذل مجيزاً. اتصل بابنة الخليفة الحاكم، فأصبح لذلك وهو حاكم. وناب عن والده في الدروس، وسمعت فيه فوائده، وكانت زاكية الغروس.
ولم يزل على حاله إلى أن لحق أباه، وأجاب داعية وما أباه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده بقوص سنة سبع وخمسين وست مئة.
علق على التعجيز شرحاً جيداً، ولم يكمله، وناب في الحكم في أيام والده.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: ذكر لي بعض أقاربه أن الخليفة هو الذي ولاه النيابة عن والده، فإنه كان تزوج بنت الخليفة أبي العباس أحمد.
ودرس بالفاضلية والمدرسة الصالحية نيابة عن والده، ودرس بالكهارية والسيفية. وكان عزيز النفس مترفعاً.
قال كمال الدين: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قال: كنت حاكماً بإخميم من جهة والده تقي الدين، فصحب محب الدين شخصاً من أهلها، فطلب منه كتاباً إلي في حاجة لذلك الشخص، فرسم بكتابته إلي، فلما كتب، قال له ذلك الشخص: إن أراد سيدنا أن شغلي ينقضي، يكتب له المملوك، فلم يوافق، فحلف عليه بالطلاق، فكتب: المملوك لله.
وكان يقال: إنه كان يأخذ الهدية في حال نيابته، ويأخذ معلوماً على السعي في الحاجات عند والده.
علي بن محمد بن عليهذا علي هو أحد الأخوين التوأمين الملقبين بالحن والبن، وهما حفيدا الشيخ علي الحريري الكبير المشهور.
وكان هذا وأخوه قد دخلا في أذية الناس أيام قازان، وغرق هذا علي في جامع بعلبك بالسيل الذي جاء في سنة سبع عشرة وسبع مئة.
علي بن محمد بن عليالشيخ الصالح الزاهد العابد بقية السلف، أبو الحسن البغدادي، الملقن بالجامع في الصالحية.
كان صالحاً خيراً، مجمعاً على صلاحه وحسن طريقته.
روى الحديث عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، والناصح بن الحنبلي، وابن صباح، والقاضي ابن الشيرازي، ومحمد بن غسان، والجمال أبي حمزة، وعلم الدين بن الصابوني، وكريمة القرشية، وغيرهم. وخرجت له مشيخة وحدث بها.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شوال سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وخرج جماعة من البلد لحضور جنازته والتبرك بها.
علي بن محمد بن علي بن أبي القاسم
علاء الدين أبو الحسن بن العدل بدر الدين العدوي الصالحي المعروف بابن السكاكري الشروطي.
أجاز له عبد العزيز بن الزبيدي، وابن العليق، وعبد الخالق النشتبري، وابن خليل. وسمع من ابن عبد الدائم، ومحيي الدين بن الزكي وجماعة.
حدث وتفرد ببعض شيوخه، وكانت له معرفة بإتقان المكاتيب، وعلم بغوامضها، وشهد على الحكام.
وكان قوي النفس، ثم إنه كبر وعجز، اعتراه نسيان وغفلة، وافتقر، وكان يلازم الجماعة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
علي بن محمد بن عمرابن عبد الرحمن بن هلال الصدر الكبير العالم نجم الدين أبو عبد الله الأزدي الدمشقي.
من أعيان رؤساء الدماشقة الأقدمين في الرئاسة، وقد ذكرهم ركن الدين الوهراني في أول منامة، فقال: " على أنه وجد من جوانح الخادم من نار الشوق أجيجاً، لو أن النار التي كلست الكلاسة واشتملت على الحائط الشمالي، وعرست في مئذنة العروس، وأذنت بهلاك المؤذنين وأهلت لغير الله بدار ابن هلال تكون مثلها لما اقتصرت على المقصورة، ولا بردتها البرادة حتى تصحن الصحن، وتنسر النسر " .
وكان قد أجاز له بهاء الدين بن الجميزي، وسمع من ابن البرهان وابن أبي اليسر والكرماني وطائفة. وطلب بنفسه وحصل أصولاً ودار على المشايخ. وقرأ عليه شيخنا الذهبي بكفر بطنا موافقات الموطأ.
وكان يذاكر بأشياء حسنة، وقاله سادته لسنه، وفيه مكارم، وعنده بالجود مساجلة للغمائم، تعمل في بيته الحلوى التي تفرد بإتقانها، وتعاهدت الناس من هديتها بإدمانها، وبيتهم في الدماشقة مشهورون بعمل القرن يا روق، وإذا أهدي منه شيء يعتقدون أنه ترياق الفاروق.
والى هذا نجم الدين رحمه الله تعالى كتب الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة. وقد طال نجاز وعده بذلك:
أصم حديث القرن يا روق مسمعي ... بتأخيره يا حابسين الندى عني
فلا تجعلوني في العفاة نعامة ... غدت تبتغي قرناً فعادت بلا أذن
ولم يزل نجم الدين المذكور على حاله إلى أن انكدر نجمه، وأصبح وقد ضمه تحت الأرض رجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
وكان على ذهن شيء من التواريخ، وكان يدعي أنه حفظ المتسظهري على ما قيل. وحدث بدمشق والقاهرة والقدس. وحج وسمع بمكة من أمين الدين بن عساكر في سنة خمس وثمانين وست مئة. وجمعت شيوخه فبلغوا مئة وخمسين شيخاً. وله إجازة في سنة خمس وخمسين وست مئة، فيها ابن خطيب القرافة، وجماعة من أصحاب الثقفي الخشوعي وغيرهم.
وكتب في الإجازات، و جمع فيها جماعة من أقاربه، وباشر نظر الأيتام غير مرة. وكان فيه نهضة وكفاية. وأمر أن يكتب على قبره: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله " ... الآية. ودفن بتربته قبالة تربة ابن قوام، رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن غالب بن مريالعدل الفقيه المحدث، كاتب الحكم، علاء الدين أبو الحسن ابن الإمام نصير الدين ابن القاضي كمال الدين الأنصاري الشافعي الدمشقي.
روى الشاطبية بسماعه بقوله من الكمال الضرير. وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعدة. وطلب الحديث، وقرأ النحو على ابن مالك، وقرأ كتباً وأجزاء. وكان يعرف نحواً وحساباً وشروطاً، وحصل من الشروط مالاً كثيراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
علي بن محمد بن فرحونالأديب الفاضل نور الدين أبو الحسن اليعمري المدني المالكي.
قدم علينا دمشق، ورأيته بها مرات في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان إنساناً شكله حشن، وعنده رواء وفيه لسن، حسن المحاضرة، لطيف المذاكرة، يحب الأدب، ويكثر منه الطلب.
وأقام بدمشق يجمع وينتقي، ويصعد في طلب العارية ويرتقي، إلى أن آن رحيل الراكب، وجرى على فراقه الدمع الساكب، فقفل معهم إلى وطنه، وحن إلى عطنه.
ولم يزل على حاله بالمدينة إلى أن أصبح في البقيع مزوراً، وأودع فيه ثم تولوا عنه نفوراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وأربعين وسبع مئة.
كتب إلي يطلب مني شرح لامية العجم:
قد طال هذا الوعد يا سيدي ... فانظر لمقصودي وكن مسعدي
أنت صلاح الدين حقاً فكن ... صلاح دنياي التي تعتدي
وجد بغيث الأدب المنتقى ... واسق رعاك الله قلباً صدي
بدأت بالإحسان فاختم به ... يا خاتم الخير ويا مبتدي
فكتبت أعتذر عن تجهيزه، لأنه في العارية:
أقسمت لو كان الذي تبتغي ... عندي لم أمنعه من سيدي
يا من له نظم علا ذروة ... وهادها تعلو على الفرقد
لقد تطولت ولم تقتصر ... ومن بدا في فضله يزدد
وأين من نال نهاياته ... ممن كما قلت له مبتدي
وكان قد ركب أعجازاً وصدوراً على قصيدة الطغرائي لامية العجم، فجهزها إلي لأقف عليها، وأولها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وشرعة الحزم ذادتني عن المذل
وحلة العلم أغنتني ملابسها ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... وسؤددي ذاع في حلي ومرتحلي
وهمتي في الغنى والفقر واحدة ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... دان ولا أنا في عيش بها خضل
وليس لي أرب فيها ولا خول ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
وهي كلها على هذا النمط، يأتي إلى كل بيت فيجعل لكل صدر عجزاً، ولكن عجز صدراً، وقد أثبتها بكمالها في الجزء العشرين من التذكرة التي لي، فأعدتها بعد ما كتبت عليها تقريظاً وهو حسبما قصده مني والتمسه: " وقفت على هذا النمط الغريب والأسلوب الذي ما سلك شعبه أديب، والألفاظ التي تجيد الجيد، وما تريب أنها حلي التريب، والعبارة التي هي أشهى من عصر شباب ما شيب بمشيب، والنظم الذي شاب منه رأس الوليد، ونقص أبو تمام فليس بحبيب، والمعاني التي هي أوقع في النفوس من وصل حبيب، نزهته اللذة عن الرقيب القري، والسطور التي هي جداول الروض والهمزة فيها على ألفها حمامة على قضيب " .
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويزعم أن يأتي لها بضريب
لقد أمتع ناظمها أمتع الله بفوائده ومحاسنه، وحلى جيد الزمن يدره الذي يثيره من معادنه، فجعل لآفاقها مشارق ومغارب، ولبيوتها في شعاب القلوب مراكز ومضارب، كيف أفادها أعجازاً وصدوراً، وكيف تنوع في الحسن حتى أفاد الحضور أردافاً، وركب على الأرداف حضوراً، وكيف اقتدر على البلاغة فأطلع في أفلاكها شموساً وبدوراً، فلو عاينها الطغرائي، رحمه الله تعالى جعلها لمنشور ديوانه طغره، وعلم أن روض نظمه إن كان فيه زهرة فهذا أفق أطلع في كل منزلة منه شمساً وبدراً وزهرة، فالله يعز حمى الأدب منه بفارس الجولة، ويديم لأيامه بفوائده خير دولة، ويلم شعث بنيه الذين لا صون لهم ولا صولة، ويمتعهم بمحاسنه التي لا يذكر معها أبيات عزة، ولا أطلال خولة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وطلاب مني عارية المقامات الجزرية ليقف عليها، فجهزتها إليه، فأعادها بعد ما كتب عليها بخطه يقول الفقير إلى الله تعالى علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري المدني عفا الله عنه: لما نظرت مقامات الجزرية رأيت ألفاظها حوشية، وحلل أسجاعها غير مطرزة ولا موشية، لم يسق روضها ماء البلاغة المستعذب، فما أنبتت أرضها زهر اللفظ المهذب، ومع هذا فطالما كلف نفسه فيها وعذب، وعندي أن من لم يستحسن كذبها لم يكذب:
ظن الفصاحة في الغريب فآثره ... فلكم له من فقرة هي فاقره
قرحت قريحته وفات قبولها ... يا كرة من بعد ذلك خاسره
وقد أثبت عندي منها المقامة الأولى، ورأيت أن ترك ما سواها أولى:
إذا الأسلوب في المجموع واحد ... وليس على كتابتها مساعد
علي بن محمد بن قلاوونالملك علاء الدين بن السلطان الملك الناصر بن الملك المنصور.
أخبرني الأمير شرف الدين حسن بن جندر بك، قال: جهزني السلطان الملك الناصر لإحضاره من الكرك، ولم يكن له في ذلك الوقت ولد ذكر غيره. قال: وجاءه الخبر بوفاته ونحن معه في الصيد، وكنت أنا والأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فانكمش وأطرق ولم ينشرح ولم يكلم أحداً. قال: فقلت له: يا خوند الله يطول عمرك، تريد تفرح بموته، فقال: لأي شيء؟ قلت: إذا كنت وحدك دام ملكك، وطالت دولتك، ففهم مقصودي، وساق وانشرح، وأخذ الجارح مني وحمله، أو كما قال.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشرة وسبع مئة.
علي بن محمد بن بن محمد نصر اللهابن المظفر بن أسعد بن حمزة الصدر الكبير الرئيس القاضي علاء الدين أبو الحسن بن القلانسي التميمي الدمشقي الشافعي، تقدم ذكر أخيه القاضي جمال الدين أحمد بن محمد.
سمع الحديث من ابن البخاري وزينب بنت مكي وعبد الواسع الأبهري. وحدث واشتغل وحصل وتفرغ في المباشرات وتأصل، وبلغ المعالي وتوسل بعقله إلى أن توصل. وكتب في ديوان الإنشاء، وأذن له بالإفتاء، ودرس بالمدارس الكبار، وصار به في الدولة الاعتناء والاعتبار.
وكان مليح الكون، صحيح اللون، ذا نفس متضعه، وهمة لأفاويق السكون والاقتصاد مرتضعه، علا إلى الثريا ثم هبط إلى الثرى، وحصلت له مصادرة مشيت معها سعادته القهقري.
وكان قد أسره التتار، وخلص منهم عند الفراغ بالفرار.
ولم يزل على حاله إلى أن زاره أبو يحيى فجأه، وعدم حواسه فلم يسمع له نبأه.
وتوفي رحمه الله فجاءة بدمشق في بكرة السبت خامس عشري صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
باشر كتابة الإنشاء مدة زمانية، وكان قد أخذه التتار في نوبة قازان هو والقاضي بدر الدين محمد بن فضل الله وابن شقير وابن الأثير رهينة إلى بلاد أذربيجان، وبقي عندهم معتقلاً مدة، ثم إنه تنكر محتالاً، وهرب. فنودي عليه، فاختفى بتبريز شهرين، وسمى نفسه يوسف، وتوصل إلى البلاد في زي فقير، ووصل إلى حلب، فأكرمه نائبها، وبعثه على خيل البريد إلى دمشق، وسربه أهله، وكان قدومه إلى دمشق في جمادى الأولى سنة إحدى وسبع مئة.
وتولى نظر ديوان الأمير سيف الدين تنكز، ونظر البيمارستان النوري مع توقيع الدست بدمشق في يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، فلما توفي أخوه القاضي جمال الدين أخذ وظائفه مضافة إلى ما بيده، وهي: نظر الظاهرية ودرسها، وتدريس العصرونية، ووكالة بيت المال، وقضاء العسكر، وتدريس الأمينية، فأعطى لابن أخيه القاضي أمين الدين نظر الظاهرية وتدريس العصرونية، وانفرد هو بالباقي.
وقلت له يوماً: يا مولانا أنت اليوم توقع عن الله تعالى وعن السلطان وعن ملك الأمراء وعن نور الدين الشهيد، وعن الملك الظاهر، فضحك وأعجبه ذلك.
وكان هشاً بشاً لم يتغير عما يعرفه أصحابه، ولا زاده هذا العلو إلا ضعة. وكان أخيراً يراعي الإعراب في كلامه المسترسل، ثم إن تنكز تنكر عليه، وصادره وصادر رفاقه، وأخذ منه جملة، ولم يكن خانه، وإنما دخل في شيء لم يكن يدريه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وأفرج عنه، ولم يبق بيده بعد هذه الوظائف كلها إلا تدريس الأمينية والظاهرية.
علي بن محمد بن محمدالشيخ للسند المقرئ المجود الزاهد العابد أبو الحسن البغدادي الرفا، سبط الشيخ عبد الرحيم بن الزجاج، فسمعه كثيراً.
سمع جامع المسانيد من ابن أبي الدنية وجزء الأنصاري من عبد الله بن ورد صاحب ابن الأخضر، ومن البخاري على أبي الحسن الوجوهي، وبعض مسند الإمام أحمد من الشيخ عبد الصمد بن أحمد ومن جده. وأجاز له من واسط الشريف الداعي صاحب ابن الباقلاني، وحدث بجامع المسانيد ثلاث مرات، وأول ما سمع منه في سنة ثلاث وسبع مئة.
فر من رؤية المنكرات ببغداد إلى قرية برقطا، واشترى أرضاً كان يستغل منها كفايته، فلقن هناك خلقاً كثيراً كتاب الله عز وجل، وقد أكثر عنه نجم الدين سعيد الدهلي وأهل بغداد.
وتوفي رحمه الله تعالى ببرقطا في وسط سنة أربعين وسبع مئة، وحمل إلى مقبرة الإمام أحمد بن حنبل فدفن بها.
وكان يعرف القراءات السبع.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة، أو في سنة ثلاث وستين.
كان مقرئاً مجيداً، وعالماً مفيداً، عارفاً بالقراءات، قريباً من المحاسن بعيداً من الإساءات. سمع الحديث، وروى عن القديم والحديث، وحظي أهل بغداد ببركته، وتألموا بعده لسكون حركته.
ولم يزل على حاله من الخير الصريح إلى أن ضمه الضريح، وأصبح بعد التعب وهو مستريح.
علي بن محمد بن ممدودابن جامع بن عيسى الشيخ الصالح المسند المعمر شمس الدين أبو الحسن بن الإمام المحدث العدل، محب الدين بالندنيجي البغدادي الصوفي.
كان بخانقاه الشميساطي بدمشق، كان والده من المحدثين العدول، سمعه صحيح مسلم على أحمد البادسني عن المؤيد الطوسي، وأسمعه جامع الترمذي على العفيف بن الهني، وحدث بالكتابين غير مرة، وله إجازة من النشتبري، ومحمد بن علي بن السباك، وإبراهيم الزعبي، ومحمد بن الحصري، وعبد الله بن عمر بن أبي السعادات البندنيجي، وعلي بن عبد اللطيف بن الخيمي، وهؤلاء الستة من أصحاب ابن شاتيل، وأجاز له إلياس الحجبي من أصحاب خطيب الموصل. وأجاز له جماعة من بغداد، وذكر أن عمره في الواقعة اثنتا عشرة سنة، وكان ببغداد بواب الحجر، والحجر هي دار الوكالة، وقدم الشام، وأقام بالقدس ودمشق نحو سبع عشرة سنة.
وكان طويلاً له مهابة، وعلى ذهنه من أخبار بغداد والواقعة شيء كثير، وكان سماع لجامع الترمذي سنة تسع وأربعين وست مئة، وسماعيه لصحيح مسلم سنة خمسين وست مئة، كلاهما بدار الخلافة ببغداد.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأحد سابع المحرم سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية بدمشق، وله ثلاث وتسعون سنة.
وكان قد سمع مسند ابن راهوية من العز أحمد بن يوسف الأكاف بإجازته من ابن الخير بن الطالقاني، وقيل: سمع من ابن الخير. سمعت عليه صحيح مسلم بكماله بدار الحديث الأشرفية بقراءة المحدث ناصر الدين محمد بن طغريل بحضور جماعة من الأشياخ، منهم شيخنا المزي وغيره. أجاز لي بخطه، وكان سماع صحيح مسلم في مدة آخرها سادس عشر شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. وكان يجلس للإسماع والقارورة مشدودة على وسطه للبول، لأنه كان ضعفت قوته الماسكة رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن نبهانالشيخ ابن الشيخ المشهور، شيخ البلاد الحلبية، وسوف يأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في المحمدين.
لما توفي والده رحمه الله تعالى جلس هو مكانه، وقدم إلى دمشق، وحج، وزرته واجتمعت به صادراً ووارداً في سنة ثمان وأربعين أو في سنة سبع وأربعين، وعاد إلى بيت جبرين قريتهم.
ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
علي بن محمد بن هارونابن محمد بن هارون بن علي بن أحمد الثعلبي الدمشقي، نزيل القاهرة، الشيخ المحدث الصالح المعمر المسند نور الدين أبو الحسن.
كان قارئ العامة.
سمع حضوراً في الرابعة وفي الخامسة من ابن صباح، وابن الزبيدي، والناصح بن الحنبلي. وسمع من الفخر الإربيلي والمسلم المازني ومكرم بن أبي الصقر، وعدة. وروى الكثير، وتفرد في وقته، وأكثر الطلبة عنه والرحالة.
وكان خيراً ناسكاً متواضعاً حسن القراءة محبباً إلى العامة.
خرج له شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى مشيخة. وسمع منه شيخنا أبو الفتح، وشيخنا البرزالي، وشيخنا الذهبي، وهو آخر من حدث وسمع من ابن صباح.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وعشرين وست مئة.
علي بن محمد بن علي بن عبد القادرالإمام الشيخ نور الدين ابن الإمام كمال الدين أبي عبد الله الهمداني.
كتب لي في إجازته ولأخي إبراهيم ولأختي يواش، ومن ذكر اسمه في الإجازة، بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة:
من بعد حمد الله ذي الإحسان ... ثم الصلاة على الرضي المنان
لهم أجزت جميع مالي أن أرو ... يه على من نص أهل الشان
وأنا علي بن محمد بن علي ابن ... الشيخ عبد القادر الهمداني
وإلى تميم نجل مر نسبتي ... لأبي وأمي قال ذا الجدان
وولدت عام اثني ثمانين التي ... بعد المئين الست في رمضان
قتل: قوله: المنان في وصف النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب الجزاء على بلاغ الرسالة، ولم يمن على أحد بذلك، كيف وقد قال له الله تعالى " ولا تمنن تستكثر " " بل الله يمن عليكم أن هداكم " .
ثم كتب بعض الفضلاء بخطه في النسخة التي بخط المصنف المنقول منها هذه النسخة ما صورته: " المنان هو ذو المن، سواء امتن بها أم لا، والنبي صلى الله عليه وسلم له المنن الجسيمة والأيادي التي لا تحصى، فإطلاق لفظ المنان عليه عندنا لا يمتنع، فإنها صفة مدح، ولذلك كانت من جملة الأسماء الحسنى، وهي قائمة به صلى الله عليه وسلم، فأي مانع من إطلاقها عليه، وأما قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر " فهو في غير ما نحن فيه " .
علي بن محمدالشيخ الإمام علاء الدين أبو الحسن الشافعي المعروف بابن الرسام، وكيل بيت المال والمدرس بصفد.
كان حسن الود، جميل التحية والرد، ليس فيه شر، ولا عنده أذى، إذا كر وإذا فر، يرعى عهود أصحابه، ويؤويهم إلى رحابه، ذا مروءة زائدة، وفتوة لمباني المجد شائدة.
وكان قد حفظ التعجيز، وطالع عليه شرح الوجيز، يكتب بيده اليسرى خطاً كأنه العقود المنظومة، أو حلل الوشي المرقومة، يعجب كل من يراه، ويجعل كل أحد إليه سيره وسراه.
لم يزل على حاله إلى أن جعل الموت ربع ابن الرسام رسماً، وعدم الوجود منه جسماً لا اسماً.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون صفد.
وقلت لما بلغتني وفاته بعد وفاة جماعة من الأصحاب في صفد:
لما افترست صحابي ... يا عام تسع وأربعينا
ما كنت والله تسعاً ... بل كنت سبعاً يقيناً
كان والده جندياً، واشتغل في مبادي أمره على شيخنا نجم الدين بن الكمال خطيب صفد، ثم إنه نزل إلى دمشق، واختص بالشيخ صدر الدين بن الوكيل بدمشق وبمصر، وقرأ عليه وعلى غيره، وسمع الحديث بدمشق وبمصر، وصحب الأمير بكتمر الحاجب، وتوكل له. ولما حضر إلى صفد نائباً جاء إليه فأعطاه بها التدريس بالجامع الظاهري، ثم فيما بعد أخذ وكالة بيت المال.
وكان عنده مشاركة في العربية والأصولين، وكان يلثغ في الجيم يجعلا كافاً، يشمها شيناً معجمة، وكان لو أكل فسقتة واحدة عرق لها من فرقة إلى قدمه.
وكنت قد قرأت عليه في صفد كتاب التعجيز وهو الذي نقلني إليه بعد ما حفظت ربع التنبيه، ولم يقطع عني مكاتباته في مصر ولا في الشام. رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن عبد العزيز بن فتوحابن إبراهيم بن أبي بكر بن القاسم بن سعيد بن محمد بن هشام بن عمرو. الصدر الرئيس الفاضل العالم النحرير المدقق المفنن الفريد الخواجة تاج الدين أبو الحسن بن الصاحب موفق الدين بن عز الدين بن موفق الدين أبي الفتح الثعلبي الشافعي المعروف بابن الدريهم الموصلي، مصغر درهم، والدريهم لقب لسعيد أخي محمد بن هشام، قال في وقت: دريهماً، فلزمه ذلك، وهو ابن أخت الشيخ بهاء الدين الحسين الموصلي المعروف بابن أبي الخير المقدم ذكره في حرف الخاء.
كان أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذكائه، وغريبة من غرائب الدهر تشرق سماء الفضل بذكائه، دقيق الغوص على المعاني شديد التنقيب على ما يتصف به من العلوم ويعاني، خاض بحار المنقول، وقطع مفاوز المعقول، خصوصاً فن الرياضي وما يتشعب فيه، والكلام على أسرار الحروف وما يلائم طبعه أو ينافيه. له قدرة على تأليف المناسبات واستحضار الأشباه والنظائر في المطارحات والمقايسات، تام الشاكلة، وافر الجلالة:
أدب لم تصبه ظلمة جهل ... وهو كالشمس عند وقت الطلوع
ويد لا يزال يصرعها الجو ... د ورأي في الخطب غير صريع
وله تصانيف كثيرة في غر ما فن، وتواليف قنصت ما شرد فيه وما عن، وكانت له نعمة طائلة فذهبت، وسعادة خدمته أياماً، فانجلت وما أنجبت، وسعى فأخفق، ولم بارق حده وما حقق.
وتوجه إلى مصر غير مرة فما أجدى، وكد حظه فأعطى قليلاً وأكدى، واستشار حتفه بسعيه الذي نبشه.
وآخر ما أولاه أن توجه رسولاً إلى الحبشة، فقطع الحين عليه الطريق قبل وصوله، ولم يقبض ابن الدريهم فيه فلساً من وصوله.
وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
ومولده ليلة الخميس منتصف شعبان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بالموصل.
سألته عن مولده فأخبرني بما أثبته، وقال لي: قرأت القرآن بالروايات على الشمس أبي بكر بن العلم سنجر الموصلي، وتفقهت على الشيخ زين الدين ابن شيخ العوينة الشافعي.
وحفظت الهادي وبحثت الحاوي الصغير على الأشياخ، منهم القاضي شرف الدين عبد الله بن يونس من شرح والده كمال الدين الصغير.
وحفظت في العربية الملحة وألفية ابن معط وألفية ابن مالك، وبحثت في التسهيل.
وقرأت شيئاً كثيراً من الرياضي على الشيخ زين الدين ابن الشيخ العوينة.
وسمع بالديار المصرية على الشيخ علاء الدين بن التركماني، وشمس الدين بن الأصفهاني، ونور الدين الهمذاني صحيح البخاري، وسمعت بها صحيح مسلم وسنن أبي داود وبعض الترمذي.
وأجازني الشيخ أثير الدين أبو حيان، وقرأت عليه بعض تصانيفه، وأجازني جماعة أشياخ انتهى.
وتوفي والده وهو صغير، خلف نعمة طائلة، فاستولى عليها بيت شيخ البلد بالموصل كمال الدين، ومعين الدين بن الريحاني ولم يطلعوه منها إلا على القليل، وانتشأ يتيماً وهو بنفسه وهمته يجتهد ويشتغل في العلم، ولم يكن له من يحرضه على ذلك، ثم إنه لما اشتد تسلم مقداراً يسراً من ماله من بيت شيخ البلد، وسافر به إلى الشام ومصر، وحصل من ذلك ثروة عظيمة، ثم ذهبت.
قلت: أول قدومه إلى مصر في متجر في زي الخواجية سنة اثنتي أو ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه عاد إلى البلاد، وتردد بعد ذلك إلى الشام ومصر غير مرة، ولم أر أحداً أحد ذهناً منه في الكلام على الحروف وخواصها، وما يتعلق بالأوفاق، وأوضعها. ورأيت منه عجباً، وهو أنه يقال له ضمير عن شيء يكتبه السائل بخطه، فيكتبه هو حروفاً مقطعة، ثم يكسر تلك الحروف على الطريقة المعروفة عندهم، فيخرج الجواب عن ذلك الضمير شعراً ليس فيه حرف واحد خارجاً عن حروف المضير، وكونه يخرج ذلك نظماً قدرة على تأليف الكلام، وله مشاركة في غير ما علم من فقه وحديث وأصول دين وأصول فقه وقراءات ومقالات ومعرفة فروع من غير مذهب وتفسير، وغير ذلك، يتكلم فيه جداً كلام من ذهنه حاد وقاد، وأما الحساب والأوفاق وخواص الحروف وحل المترجم والألغاز والأحاجي فأمر بارع، وكذلك النجوم وحل التقويم.
اجتمعت به غير مرة، وكتبت إليه:
نصحتك عن علم فكن لي مسلماً ... إذا كنت مشغوفاً بحل المترجم
تتلمذ لتاج الدين تظفر بكل ما ... أردت ورد بحر الفضائل واغنم
فلابن دنينير تصانيف ما لها ... نظير ولكن فاقها ابن الدريهم
وكانت له خصوصية بالملك الكامل شعبان وبغيره من أمراء الدولة الخاصكية وغيرهم من المتعممين أرباب الدولة، إلى أن أغري به الملك المظفر حاجي فأخرجه إلى الشام قبل قتله بقليل، فوصل إلى دمشق بعد شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وذكر لي أن له في ديوان الخاص أثمان مبيعات وغيره ما يزيد على المئتي ألف درهم، وتوجه مرات إلى مصر لخلص له في ذلك شيء، فتعذر عليه الحال، ولما وصل إلى دمشق سنة ثمان وأربعين وسبع مئة أقام بها قليلاً، فورد كتاب الأمير سيف الدين قرابغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام بإخراجه من دمشق، فكبس بيته، وأخذت كتبه، وأخرج من دمشق في إحدى الجماديين سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
فتوجه إلى حلب. وتوفي بعده دوادار بيبغاروس، فعاد إلى دمشق في سنة خمسين عازماً على الحج، فلم يقدر له، ثم عاد إلى حلب.
ثم إنه حضر إلى دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم توجه إلى مصر بطلب من هناك، ثم عاد إلى دمشق، ثم إنه رتب مصدراً بالجامع الأموي، ثم بعد قليل رتب في صحابة ديوان الجامع الأموي، فباشره وعرفه جيداً، فانحصر المباشرون منه، وناكدوه، فبطل المباشرة، ورتب في استيفاء ديوان الأسرى، ثم إنه توجه في أواخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة أو أوائل سنة ستين إلى الديار المصرية. فأقام هناك سنتين أو أكثر، ثم إن السلطان الملك الناصر بعثه رسولاً إلى ملك الحبشة، فتوجه غير منشرح، وجاء الخبر إلى الشام بوفاته رحمه الله تعالى في قوص ذاهباً.
ونظمه فيه تكلف وتعسف. وكتب إلي بعدة أحاج، وأجبته عنها، وكتبت أنا إليه بمثل ذلك، وأجابني عنها. وقد أودعت ذلك في كتابي المسمى نجم الدياجي في نظم الأحاجي.
وكان ابن الدريهم ديناره في العلم كامل، وغمام فضائله في فضاء الطروس هام هامل، فلو عاصره البوني لقال: هذا الذي يبرني ويحبوني، أو ابن الدنينير لقال: ما أنا كابن الدريهم عند لمح الطرف، وهو في عمله يفوق ويفوت وإن تفاوت فيما بيننا الصرف.
وعلى الجملة فكان في هذه العلوم آية وقدره قد تجاوز فيها كل حد، وانتهى إلى كل غاية، وعاكسته في مراده الأقدار، ولم يرفع له في المناصب مقدار، خلة ألفها الأفاضل من الدهر، وطريقة عوملوا بها في السر والجهر.
ومن تصانيفه ما نقلته من خطه: النسمات الفاتحة في آيات الفاتحة، وإشراق النفس في الحمدلات الخمس، الدراية في " ما ننسخ من آية " ، السبيل الأوطا في الصلاة الوسطى، لطائف الأحكام على " هو الذي يصوركم في الأرحام " مدة البحور على " إن عدة الشهور " ، إضاءة يوح على " ويسألونك عن الروح " ، مثاني الكتاب المبين على أن قلب القرآن " يس " ، الآثار الرائعة في أسرار الواقعة، منام النصوح في الكلام على سورة نوح، أسرار البدر في ليلة القدر، الافتحاص على سورة الإخلاص، العبارات في اختيار القراءات، مناسبة الحساب في أسماء الأنبياء المذكورين في الكتاب، نظائر الآيات والكلمات المكررات، النخب في التصاديق والخطب، كنز الدرر في حروف أوائل السور، سبر الصرف في سر الحرف، الزين في معاني العين، المناسبات العددية في الأسماء المحمدية، غاية المغنم في الاسم الأعظم، البرهان على عدم النسخ للملتين من القرآن، مداحض الإكراه في تناقض التوراة، تعريف التبديل في تحريف الإنجيل، نظم نفائس عقود الدرر الزاهرة في هدم كنائس اليهود بمصر والقاهرة، الإنصاف بالدليل في أوصاف ماء النيل، مكافأة الأقدار للأخيار والأشرار، بوادر الحلوم في نوادر العلوم، اليقين لمن به ندين في الدليل على خلافة الخلفاء الراشدين، زجر السفهاء بآداب الفقهاء، اختيار الراغب في اختيار المذاهب، أسرار العبادات بتفصيل الإعادات، شرح نظم الحاوي ولم يكمل، فائدة الأبحاث بأحوال الوالدة في الميراث، منسك الحج، الرد على تقي الدين الإخنائي المالكي في مسائل متفرقة، المعلم بمعاضدات مسلم، الخيرة في حسن مسائل الفال وكراهية الطيرة، نفع الجدوى في الجمع بين أحاديث العدوى، وشائع النوار في شرح لوامع الأنوار، ولم يكمل، تعريف الإفراد للمقتدي لتتمة الذهبي والصفدي، خلاصة الخلاصة، نحو خمس مئة بيت، تسهيل التسهيل، العروض المجملة من المسموعة والمهملة، الزناد القادح في اختيار الصادح، ذات القوافي، القصيدة الألفية، المبهم في حل المترجم، مختصر المبهم في حل المترجم، مفتاح النوز في حل الرموز، غاية الإعجاز في الأحاجي والألغاز، مشاجرة من انتصر في المفاخرة بين السمع والبصر، رسالة التراضي بين الأمين والقاضي، سيادة الخيم، والبصارة في أدب الأكل والزيارة، نظم السلوك في آداب الملوك، إيقاظ المصيب في الشطرنج والمناصيب، تنويل الراثي في تأويل المراثي، تنآئي المناظر في المنائي والمناظر، سلم الحراسة في علم الفراسة، الإنافة على الضيافة، تصاريف الدهر في تعاريف الزجر، افتقاد الخرائد المواهر في انتقاد فرائد الجواهر، تقرير الأبحاث في خواص المولدات الثلاث، اختباء الاختبار، الإساة بأدواء النسا والباه، اقتناع الحذاق في أنواع الأوفاق، بسط الفوائد ي شرح حساب القواعد، شرح الإسعردية في الحساب، المناسخات المصرية، الأجوبة القاهرية، المناسخات الحلبية، الأجوبة الحلبية، المسألة الحجموية، الأجوبة الحموية، الأجوبة الموصلية، الترسلات الشامية، الأجوبة الشامية، لم تكمل رسالة النصح العلوي على لسان الجامع الأموي، إخلاص الخواص. تمت.
وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه:
صد عني فلم تلم يا عذولي ... لست أسلو هواه حتى الممات
لا تقل قدأسا ففي الوجه منه ... حسنات يذهبن بالسيئات
علي بن محمدالصاحب علاء الدين بن الحراني
جاء إلى دمشق عوضاً عن الصاحب أمين الدين، فما أقبل عليه الأمير سيف الدين تنكز، ولا توهم فيه أنه لمثل درة الشام يحرز، ولا أن معرفته لإظهار سرائرها تبرز، فتركه واقفاً وما أجلسه، واستوحش منه فما أنسه. وكأن نفسه رحمه الله تعالى استشعرت بشؤمه، وأن هذا يستخرج مخبوء ماله ومكتومه، فما كان بعد قليل حتى أمسكه السلطان، وحكم أيدي العيث والفساد فيما عمره من الأوطان، وعرضت على الصاحب علاء الدين حواصله وأمواله، وآلات بيوته وغلاله، فلم يدع خبيثاً إلا أظهره، ولا مكتوماً إلا استخرج مضمره، حتى قال مماليكه: أين كان لنا هذا مخبوءاً، وما نرى هذا الصاحب إلا عدواً.
ثم إنه استمر بدمشق إلى أن جاء الفخري وملكها، وسلك تلك الطريق التي سلكها، فتلقى الصاحب علاء الدين ذلك المهم الأعظم بصدره ونهض بعبئه الذي يعجز غيره عن دفع شره، وأراد ذلك المهم أموالاً يفوت الحصر عدها ونفقات يخجل البحار نقدها، ثم إنه استعفى من نظر الشام فأجيب، وخلص من الأمر العجيب، ثم إنه تولى أيام الكامل شعبان فعاد إلى دمشق ثانياً، واتفق خروج يلبغا على السلطان وأصبح عن طاعته نائياً، فكلفه إلى نظير ذلك المهم. وعاوده ذلك الخطب الملم:
وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه
ولما انقضى ذلك الخطب الذي عرى والحادث الذي دهم الورى، استعفى فأعفي، وحظه لا يمكن طرفه أن يغفي. ثم لما أن قتل يلبغا حضر الحوطة على موجوده، وضبط ما في أغوار حاصلة ونجوده، فقضى هذا المهم وأكمله، وفصل طلب الإعفاء من أمر دمشق وأجمله. وقال: ما أدري حظي من دمشق ما هو؟، والناس بمثل حسنها لم يضاهوا:
أظمتني الدنيا فلما جبتها ... مستمطراً مطرت علي مصائبا
ولكنه في هذه المرات الثلاث، والكرات الخباث، يباشر بصلف زائد، وعفاف غضه بنسيم النزاهة مائد، لم يخن في قليل ولا كثير، ولا تعرض إلى فتيل ولا نقير. واشتهر بالأمانة عند الملوك، وصار خبره في ذلك كالشمس عند الدلوك.
وما زال بالقدس منقطعاً إلى أن نزل به ضيف المنية، وطفئت قناديله المضية.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة بالقدس.
وأول ما عرفت من أمره أنه كان يكتب الدرج عن الأمير فخر الدين أقجبا الفارسي مش الدواوين بصفد، وكان يعرف إذ ذاك بعلاء الدين بن المقابل، لأن أباه كان مقابل الاستيفاء بصفد، ثم إنه خدم كاتباً للأمير عز الدين أيدمر الشجاعي نائب قلعة صفد. وكان فيه إذ ذاك كيس ولطف وذوق وانهماك على عشر المطابيع والفضلاء، وبيته مجمع الأصحاب والعشراء، وفيه مكارم وخدمة للناس، ثم إن الشجاعي توجه إلى البيرة نائباً فلم يتوجه معه.
ثم إن الشجاعي جاء إلى القدس ناظر الحرمين، وكان الصاحب علاء الدين عنده، ثم إنه ترك ذلك جميعه، وتجرد ولبس زي الفقراء، ودخل اليمن بالكجكول والثوب العسلي، وغاب هناك مدة، وجرت له أمور شاقة، حكاها لي من الأمراض والوحدة والفقر.
ثم إنه حضر إلى دمشق، وتوجه إلى مصر في أواخر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ثم إنه خدم كاتباً عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب ولما مات خدم عند الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير. ولما مات خدم عند الأمير سيف الدين طغاي تمر، صهر السلطان الملك الناصر، واشتهر في مصر بالكفاية والأمانة. ولما مات جهزه السلطان إلى الكرك ناظراً فتقلق من ذلك، وحضر إلى مصر، فخدم عند الأمير سيف الدين قوصون مدة يسيرة. ثم إن السلطان جهزه إلى دمشق وزيراً عوضاً عن الصاحب أمين الدين، فباشرها مباشرة حسنة بعفة وصلف زائد، وجاء الفخري، وجرى ما جرى، فقام له بكل ما أراد، ومنعه من أشياء كان يريد فعلها من مصادرة الناس فقال له: مهما أردت عندي. وتوجه معه إلى مصر، وطلب الإقالة، فرتب له مرتب، وأقام مدة على ذلك.
ثم إن الكامل شعبان طلبه جهزه إلى دمشق وزيراً ثانياً، فلما وصل إليها اتفق خروج يلبغا على الكامل، وحضر إليه النواب من أطراف الشام وأراد لهم نفقات وكلفاً كثيرة فقام لهم بذلك المهم وسده، ولم يمكن يلبغا من التعرض إلى أموال الناس، وتوجه لمصر، وعمل تقديراً للشام، وحضر وهو على يده، فلم يمش له حال، فطلب الإقالة وتوجه إلى القدس، وانقطع به.
ثم حضر للحوطة على موجود يلبغا، فضبطه، وحرره، وعاد إلى القدس منقطعاً إلى الله تعالى.
وكان به فتق فعظم وتزايد، وكان في عانته، فلم يزل ينمو إلى أن كان يعلقه في فوطة إلى عنقه، وتفاقم أمره في ذلك الفتق إلى أن قتله، رحمه الله تعالى.
وفي هذه المرات التي يحضرها إلى دمشق لم يوسع له دائرة، ولا اتخذ مماليك ولا جواري ولا خدام ولا فعل ما يجب لمثل هذه الوظيفة من البذخ والخدم والحشم، بل له غلام يحمل الدواة وغلام للخيل، وغلام يطبخ له ويغسل لا غير، وإذا خلا سمع الحديث، أو طالع في مجلدات عنده.
ولما أن توفي السلطان الملك الناصر جلس ولده المنصور أبو بكر، وحلف عسكر دمشق، وقد كانت العادة أنه في مثل هذا الواقع يخلع على الموقعين وعلى كتاب الجيش كما فعل في كل مرة قبل هذه، فتحدث الجماعة معه في ذلك، فوعد بذلك، واجتمعت أنابه في ذلك، فقال: أنا ما ألبس تشريفاً حتى يلبس الجماعة تشاريفهم. فكتبت أنا إليه بعد ذلك:
مماليك مولانا الوزير جماعة ... لهم بتشاريف المليك غرام
ولا غرو أن هاموا بها في حدائق ... لأنهم بالمدح فيك حمام
علي بن محمد بن يوسف الموصليالشيخ المعروف بالبالي، بالباء الموحدة.
كان رجلاً مباركاً ينوب في الإمامة بمشهد عثمان بالجامع الأموي.
سمع من ابن البخاري مشيخته، وكتب في الإجازات، وحفظ التنبيه واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس عشر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب الفراديس.
علي بن محمد بن عبد القادرالعدل الرضي، علاء الدين ابن قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، أخو القاضي بدر الدين بن أبي اليسر بن الصائغ.
توفي علاء الدين بسكنه بالمدرسة العمادية، جوار قلعة دمشق سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
كان شهد على الحكام، والقضاة يعتمدون عليه في شهاداته، وأكثر أهل البلد يكتبون عنده.
علي بن محمدابن الكلاسوبابن الريس، وكان هو يكتب على المجلدات: علي الدواداري، الفاضل الأديب الماهر علاء الدين.
كان يتوقد ذكاؤه، وتشرق في سماء الأدب ذكاؤه. جمع مجاميع أدبية، وعلق نكتاً حديثية، واقتنى من الكتب جمله، وأثقل بها حمله.
وسمع من المشايخ وعلق، ووفى نبل أدبه وغلق. وكان خطه يتحدر كالسيل ويتألق كالبرق في الليل، يدل على قوة يده وتسرعها، وملاءتها من القدرة وتضلعها.
وكان جندياً في حلقة جلق، وحرفته من أرباب السيوف التي هو بها متعلق.
ولم يزل على حاله إلى أن انطفأ ابن الكلاس، ولم يضئ له جلاس بين الجلاس.
وتوفي رحمه الله تعالى بقرية حطين من بلاد صفد، قبل الثلاثين وسبع مئة، أو ما بعدها.
ورأيته بدمشق غير مرة. و كان قد وقع بينه وبين صاحبنا زين الدين الصفدي، وعبث به، وصنع فيه مقامة. ومن شعره:
خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعرفني بالحلو منه وبالمر
بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
ومنه:
سقطت نفوس بني الكرام فأصبحوا ... يتطلبون مكاسب الأنذال
ولقلما طلب الزمان إساءتي ... إلا صبرت وإن أضر بحالي
نفسي تطالبني وتأبى همتي ... أن استفيد غنى بذل سؤال
قلت: وقد أولع الشعراء بهذا المعنى، ومما قلت أنا فيه مضمناً قول المعري:
قضت لي أن لا اشتكي الدهر همتي ... ولو ساورتني أسده والأساود
وأن لا أنال الرزق في دار ذلة ... ولو أنني في هالة البدر قاعد
ومن شعر ابن الكلاس:
تقدمت فضلاً من تأخر مدة ... بوادي الحيا طل وعقباه وابل
وقد جاء وتر في الصلاة مؤخراً ... به ختمت تلك الشفوع الأوائل
ومنه:
فكرت في الأمر الذي أنا قاصد ... تحصيله فوجدته لا ينجح
وعلمت من نصف الطريق بأن من ... أرجوه يقضي حاجتي لا يفلح
ومنه يلغز في القلم:
ما اسم له في السماء فعل ... والأرض فيها له مكان
ينطق بين الأنام حقاً ... بصمته إذ له لسان
فأعجب له ناطقاً صموتاً ... له على الصمت ترجمان
ومنه يلغز في الرغيف:
ومستدير الوجه كالترس ... يجلس للناس على كرسي
يدخل فيه البدر حمامه ... وبعدها يخرج كالشمس
يواصل السلطان في دسته ... واللص في هاوية الحبس
لو غاب عن عنترة ليلة ... وهت قوى عنترة العبسي
ومنه:
من مبلغ غبريل أن رحيله ... جلب السرور وأذهب الأحزانا
والناس من فرط الشماتة خلفه ... كسروا القدور وأوقدوا النيرانا
ومنه:
وأهيف تحكي البدر طلعة وجهه ... وإن لم يكن في حسن طلعته البدر
خلوت به ليلاً يدير مدامة ... وجنح الدجا دون الرقيب لنا ستر
فلما سرت كاس الحميا بعطفه ... ومالت به تيهاً ورنحه السكر
هممت برشف الثغر منه فصدني ... عذار له في منع تقبيله عذر
حمى ثغره المعسول نمل عذاره ... ومن عجب نمل يصان به ثغر
وكان المجير الخياط قد كتب إلى علاء الدين بن الكلاس أبياتاً كتب بها إلى غيره أولاً وأولها:
علاء الدين إن تنسى الودادا ... وتمنحنا القطيعة والبعادا
فأجابه علاء الدين عنها بأبيات أولها:
مجير الدين فت الناس نظماً ... ونثراً واختياراً وانتقادا
ثم إن علاء الدين علم أن المجير كان قد كتب بها إلى غيره، فكتب المجير إليه، ومن خطه نقلت الأصل والجواب:
يا علاء الدين يا من ... طاب بالآداب ذكره
وله عرف ثناء عطر ... الأقطار نشره
نظمه فاق الدراري ... ونظام الدر نشره
أيها الصدر الذي حا ... ز علوم الناس صدره
والأديب الشهم قنا ... ص المعاني الغر فكره
والجواد الجائد الحا ... وي بحار الجود شبره
عندنا منك حياء ... جل عند الناس قدره
إذ بعثنا نحوك الشعر الذي فصل شذره
وبه غيرك من قبلك قد قلد نحره
فاغتفر هفوة هاف ... جاء بالأعذار شعره
وليفز منك بعفو ... وليقم عندك عذره
فكتب علاء الدين الجواب عن ذلك:
يا مجير الدين يا من ... أعجز الألسن شكره
وله بحر نوال ... عغمر العافين غمره
والذي يحلو بأفوا ... ه ذوي الألباب ذكره
والذي بذ فحول الشعر في المضمار شعره
والذي فوق السماكين وفوق النسر قدره
كل مفضال أياديه بها قلد نحره
أيها الحبر مجير الدين والمحمود خبره
جاءني منك قريض ... يسكر الألباب خمره
جامع در المعاني ... عونه فيه وبكره
حل في القلب كما حل بروض الحزن قطره
بل كما ضاء لساري الليل في الظلماء بدره
نحو من يطلب من جو ... دك أن يبسط عذره
عبد إخلاص تساوى ... سره فيك وجهره
وإلى رؤيا محيا ... ك فني والله عمره
علي بن محمد بن أحمدابن سعيد بن سالم بن عمر بن يعقوب، القاضي علاء الدين أبو الحسن المعروف بابن الفامي، المحتسب بدمشق.
اشتغل بمذهب الشافعي ودرس، وأدلج في طلب العلم وعرس، وسهر ودأب، ومهر لما طلب، واشتغل بالشام ومصر، وتوجه إلى الإسكندرية، ولم يؤخذ له على السعي إصر. وتولى تدريس المدرسة الأمينية، وصفا ظاهره في ذلك والنية. ثم باشر الحسبة، ووفر الله تعالى منها كسبه، وأقام فيها مدة وعزل، وكان قد طلع بدره فيها كاملاً، ثم أفل لا بل خسف وخزل، وتمر فيها أموالاً، ولم يبل بالدهر أعاداه أم والى. وعمر أملاكاً لها صورة، وذخائر غير محصور. ثم إنه وليها ثانياً، ورد الدهر عنان سعده ثانياً، إلا أنه أخنى عليه بعد مدة يسيرة، وجعل عين تطلعه إليها حسيرة. ولكنه جبر وقته مع الله بالتوبة منها، وترحل عن امتطاء صهوتها، ونزل عنها، وخف منها حاذه، وأقلع غيم وابله وقل رذاذه. وكان قد أنهكه المرض، وزال عن أعاديه إليه الغرض.
ثم إن ابن الفامي ألفى مي المنية، وسددت إليه سهام الحين من تلك الحنية.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة السبت سادس عشري صفر سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
كان قد حفظ التنبيه في الفقه، والعمدة في الأحكام ومقدمة ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب، وسمع من زينب بنت الكمال، وأبي عمر وعثمان بن سالم بن خلف، ومحمد ابن إسماعيل بن الخباز، والحافظ أبي الحجاج المزي، وزينب بنت الخباز، ومن بهاء الدين بن إمام المشهد، وعليه اشتغل بالعلم وبه تخرج.
وكان أولاً قد تزوج بابنة القاضي زين الدين بن النجيح الحنبلي نائب قاضي القضاة علاء الدين بن المنجا، وكان يكتب الحكم عنه بالمدرسة الجوزية، وكان تولى الأمينية مدرساً بها في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة لما كان السلطان الملك الصالح صالح بدمشق في واقعة بيبغاروس بعد وفاة ابن عمه بهاء الدين بن إمام المشهد، ثم إنه تولى حسبة دمشق في أوائل سنة أربع وخمسين وسبع مئة في أيام الأمير علاء الدين أمير علي المارديني، ثم تزوج زوجة ابن عمه أيضاً وهي الحموية، فورثه في مدرسته وفي الحسبة وفي الزوجة.
وعزل من الحسبة سنة تسع وخمسين بالقاضي عماد الدين الشيرجي، ثم تولاها في شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ثم إنه لما أثقل حاله في المرض نزل عنها من ذاته، وخلف عدة من الأولاد الذكور وغيرهم، واشتملت تركته على ثلاثة مئة ألف درهم ما بين عين وأملاك ومجلدات وغير ذلك.
كان لي تنور قد تعطل في أيام حسبته الأولى، فكتبت أنا إليه في ثامن شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وسبع مئة:
يا سيداً هو بالإحسان محتسب ... أجراً يوازنه في الحشر ثهلان
أشكو إليك من التنور عطلته ... وأنت في العلم والإفضال طوفان
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
يا سيداً هو في الإفضال مبتدأ ... وفي البلاغة والآداب سحبان
أشكو إليك من التنور عطلته ... وأنت في العلم والإفضال طوفان
علي بن محمود بن إسماعيل بن معيدالأمير علاء الدين البعلبكي.
كان شكلاً طوالاً، جسيماً لم ير له مثالاً، بديناً إلى الغاية، بديلاً من الفيل في العظم والنهاية؛ إلا أنه كان من رجالات الناس رياسة، ودربة وخبرة ومعرفة وسياسة، خبيراً بالأمور ومعالجة الجمهور، دون دهاء وخداع، وملقه ملق واتضاع، خدم الناس وتقدم، وتقرب إليهم فأحمد عقبى ذلك وما تندم، فانتقل من الجندية إلى إمرة العشرة، ثم إلى الطبلخانات والولايات المشتهرة، وولي نظر الأوقاف بدمشق مدة، ثم تولى القبلية ويده إلى أعلى من ذلك ممتدة.
وكان تنكز يحبه لمعرفته، ويقربه ويوليه لدرايته ودربته.
ولم يزل في صعود، ومراقي سعود، إلى أن مرض بالقبلية، وقدم إلى دمشق فطالت علته، ولم تستد بالعلاج خلته، ونشرت له من الكفن حلته.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة ودفن بالمزة.
وكان قد ليس للإمرة بدمشق في ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة. هو وعز الدين خطاب وسيف الدين بكتمر ومملوك الأمير سيف الدين بكتاش.
وولي البر بدمشق عوضاً عن الأمير شرف الدين بن البرطاسي في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة. ثم إنه ولي شد الأوقاف في سابع عشري شهر رجب سنة عشرين وسبع مئة مضافاً إلى ولاية البر، ثم إنه عزل منهما وتولى القبلية بحوران يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاة، وتولى أخوه الأمير بدر الدين بن معبد شد الأوقاف، وتولى ولاية البر علم الدين الطرقجي.
وكان أبوه شرف الدين تاجراً ببعلبك من عدولها، فنشأ ولده هذا وتعلق بالدول وخدمها إلى أن تولى شد الأوقاف بدمشق، وتولى البر مدة، ثم جهز إلى القبلية، فقلق فيها، ومرضن وحضر إلى دمشق إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان قد سمع من المسلم بن علان ببعلبك في سنة سبع وسبعين وست مئة قطعة من مسند الإمام أحمد.
قال شيخنا البرزالي: وسمع بقراءتي ببعلبك سنة إحدى وثمانين وست مئة.
وسيأتي ذكر أخيه الأمير بدر الدين محمد بن معبد في مكانه إن شاء الله تعالى.
وكان من سمنه إذا نام يحرسه اثنان، فإذا غط أنبهاه، فيقال إنهم غفلوا عنه فنام فغط فمات، والله أعلم. كذا جرى للأمير سيف الدين كشلي الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى.
علي بن محمود بن حميدالعلامة البارع علاء الدين أبو الحسن القونوي الحنفي الصوفي، المدرس بالقليجية.
سمع من الحجار، والجزري، وعدة. ودار على المشايخ قليلاً وحببت إليه الآثار، وخرجت له مشيخة، ولازم الكلاسة يقرئ العلوم فيها، وينفع من كان طالباً نبيهاً، مع ديانة لا تجهل، وصيانة لا يسمع أحد بذكرها إلا ويذهل، وتواضع على علو قدره، وسمو بدره، ودنو غيثه في العلم وقطره، أقام على ذلك برهة، ولأهل العلم بفوائده في كل وقت نزهة.
ولما توفي شيخ الشيوخ القاضي بدر الدين المالكي تولى هو مكانه، وقال له المنصب باستحقاقه،: كن، فكانه.
وأقام فيه قليلاً إلى أن حشرج صدره، وأفل من سماء الحياة بدره.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعو دمشق.
وكان يعرب لديوان الإنشاء الكتب التي ترد عليه بالعجمية من البلاد الشرقية. وكان يقرئ الطلبة في البزدوي وابن الساعاتي وفي منهاج البيضاوي، وفي مختصر ابن الحاجب، وفي الحاجبية، وربما أقرأ في الحاوي الصغير للشافعية.
ولما توفي قاضي القضاة شرف الدين المالكي تولى هو مشيخة الشيوخ مكانه، وكان القاضي شرف الدين يأخذ من كل خانقاه في الشام في كل شهر عشرة دراهم، وفي كل يوم نصيبين. ولما تولى القونوي ذلك أبطله ولم يتناوله.
وكان فيه سكون زائد إلى الغاية رحمه الله تعالى. وممن قرأ عليه أخي إبراهيم رحمه الله تعالى في المنهاج للبيضاوي.
علي بن محمود بن إبراهيمالشيخ الصدر الرئيس علاء الدين بن جوامرد الفراء.
كان رجلاً جيداً مشكور السيرة، يقصده الناس، ويقضي حوائجهم، قارب التسعين، وكان تاجر الخزانة، وله على ذلك معلوم.
توفي رحمه الله تعالى في سادس عشري المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون.
علي بن مخلوفابن ناهض بن مسلم النويري، قاضي القضاة زين الدين أبو الحسن المالكي.
حكم بالديار المصرية نيفاً وثلاثين سنة.
سمع المرسي، وروى عنه. وسمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيرهما.
كان كثير المروة، غزير الفتوة، وافر الاحتمال، كثير الإحسان إلى أهل العلم والاشتغال، يكرم العدول، ولا يرى له عن تعظيمه عدول، قد درب الأحكام فصار ابن بحدتها وخبر فصل القضايا، ما تخفي علي وهدتها من نجدتها، وكان به لمصر فخار، وللمنصب به اشتهار.
ولم يزل على حاله إلى أن اعترف أجله بما جحد، وأصبح ابن مخلوف، ولم يخلفه أحد. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري شهر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ومولده بالنويرة من أعمال البهنسة أربع وثلاثين وست مئة. وأظن الشيخ صدر الدين بن الوكيل فيه يقول:
إلى مالك يعزونه ونويرة ... فلا عجب إن كان يدعى متمما
ولولا أن هذا البيت من المرقص لم أذكره هنا.
وتولى القاضي زين الدين بن مخلوف رحمه الله تعالى قضاء الديار المصرية في أواخر سنة خمس وثمانين وست مئة عقيب وفاة ابن شاش. ولما توفي هو رحمه الله تعالى تولى المنصب بعده قاضي القضاة تقي الدين ابن الأخنائي.
وكان السلطان الملك الناصر في سنة إحدى عشرة وسبع مئة قد عزل ابن مخلوف وأمر القاضي الشافعي أن يتخذ قاضياً مالكياً نائباً له من جهته ففعل ذلك ثم أعيد القاضي زين الدين بن مخلوف إلى مكانه.
علي بن مسعود بن نفيس بن عبد اللهالفقيه المحدث الصالح الزاهد نور الدين أبو الحسن الموصلي الحنبلي الحلبي نزيل دمشق.
سمع من أبي القاسم بن رواحة وغيره بحلب، ومن إبراهيم بن خليل.
قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وحدثني أنه سمع من يوسف بن خليل، ولم يظفر بذلك، وسمع بمصر من الكمال بن الضرير، والرشيد، ومن أصحاب البوصيري، وعني بالحديث ودرب قراءته، وكانت مفسرة نافعة، وحصل الأصول ثم ارتحل إلى دمشق، فأكثر عن ابن عبد الدائم والكرماني وابن أبي اليسر والموجودين.
وكان يجوع ويشتري الأجزاء ويقنع بكسرة فيسوء خلقه مع التقوى والصلاح، وقرأ كتباً مراراً.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر صفر سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وست مئة.
ومات رحمه الله تعالى بالبيمارستان الصغرى.
علي بن المظفرابن إبراهيم بن زيد، الأديب البارع الكاتب الفاضل، المقرئ، المحدث، المنشئ، الناظم، علاء الدين الكندي الإسكندراني ثم الدمشقي المعروف بالوادعي، كاتب ابن وداعة.
وتلا بالسبع على علم الدين القاسم، وشمس الدين بن أبي الفتح. وطلب الحديث، ونسخ الأجزاء. وسمع من عبد الله الخشوعي، وعبد العزيز الكفرطابي، والصدر البكري، وعثمان ابن خطيب القرافة، وإبراهيم بن خليل، والنقيب بن أبي الجن، وابن عبد الدائم، ومن بعدهم. ونظر في العربية.
وكان ناظماً غواصاً على المعاني، شاعراً قادراً على إحكام ما للأبيات من المباني. جود المقاطيع دون القصائد، وأتى في كل بدر العقود وجواهر القلائد، يغوص على المعاني ويغور، ويفوح أرج نظمه ويفور.
وكتب المنسوب الذي أزرت لآليه بياقوت، وأذكر الناس بما يروى من السحر عن هاروت وماروت، ما كأن طروسه إلا حدائق، ولا كأن حروفه إلا رياض بين العذيب وبارق، ولا كأن مداده إلا شعرات في صدغي غلام مراهق.
جمع المجاميع الأدبية، وانتقى الأحاديث النبوية، وله التذكرة الكندية التي بخانقاه الشميساطي تشهد بفضله، وتعترف بنباهته ونبله، وديوانه يدخل في مجلدين كبيرين، وقفت عليهما فأطرباني، وقلت للدف والشبابة بعدهما لا تقرباني، ولملكتهما فملكا قلبي، ووضعتهما بين كتبي، وقد سكنا خلبي وقد انتقيت منهما ما راق نظمه، و كمل بدره تمه، ومن ذلك قطعة وافرة في الجزء الثالث والثلاثين من التذكر التي لي.
إلا أنه كان يتشيع، ويتوعر بذلك في ألفاظه وما يتورع.
وكتب الدرج موقعاً بالحصون مدة طويلة، ثم دخل آخر عمره ديوان الإنشاء بدمشق، على رأي العوام، بألف حيلة، وكان هجاماً على الأعراض، هجاء للجواهر والأعراض، وكان الناس ينفرون منه لذلك، ويرون فضائله المضيئة كأنها الليل الحالك، ومع تفنن فضائله وتوسع رسائله لما دخل الديوان لا راح ولا جا، ولم يره الجماعة في باب الكتابة ولا جا، كما جرى لبعض الناس، وقال الجماعة للمتعجب: " ما في وقوفك ساعة من باس " ، حتى قلت أنا:
لقد طال عهد الناس بابن فلانة ... وما جاء في الديوان إلا إلى ورا
فقلت كذا كان الوداعي قبله ... ولا شك فيه أنه كان أشعرا
ولم يزل على اله إلى أن تحقق الوداعي من الحياة وداعة، واسترجع الأجل ماله عنده من وداعة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الأربعاء سابع عشر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة تقريباً.
وتوفي ببستانه عند قبة المسجف.
قال شيخنا الذهبي: كان يخل بالصلوات فيما بلغني.
وكان شاهداً بديوان الجامع الأموي، وولي مشيخة الحديث بالنفيسية، وتولى نظر الصبية وبانياس فيما أظن، وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين بن فضل الله ما كتبه على ديوان الوداعي رحمهما الله تعالى:
بعثت بديوان الوداعي مسرعاً ... إليك وفي أثنائه المدح والذم
حكى شجر الدفلى رواء ومخبراً ... فظاهره شم وباطنه سم
ولما شاع عنه كثرة الهجو تطلب القاضي نجم الدين بن صصرى ديوانه، و تذكرته من خانقاه الشميساطي، وكشط من ذلك أهاجي الناس، ولم يقدر على استيعاب ذلك، فإنني وجدت له بعد ذلك بخطه كثيراً.
وكان شيخاً مسناً، وله ذؤابة بيضاء إلى أن مات، ونقلت من خطه له:
يا عائباً مني بقاء ذؤابتي ... تالله قد أفرطت في تعييبها
قد واصلتني في زمان شبيبتي ... فعلام أٌطعها أوان مشيبها
قلت: نقل هذا من الحكاية التي تحكى عن بعض الوعاظ أنه طلع المنبر ووعظ والسلطان قد حضر ميعاده على كراهية له وهو يتكلم والمقص إلى جانبه والطواقي، والناس يصعدون إليه ويتوبون على يديه، فيقص شعورهم ويلبسهم الطواقي، فما كان إلا أن طلع إليه بعض خواص السلطان ممن يحبه ويهواه، وله ذؤابة سوداء مليحة طويلة، فتغير السلطان، و قال لمن يعز عليه: والله إن قطع شعر هذا المملوك لأقطعن يده، فلما صعد إلى الواعظ علم أنه قد وقع في خطر، فأخذ شعره في يده، وأخذ يفكر في خلاصه من تلك الورطة، وشغل المجلس بأشعار وحكايات، ثم قال: يا جماعة! أتدرون ما يقول لسان حال هذه الذؤابة، فقالوا له: ما يقول؟ قال: يقول: أنا كنت معه في زمن المعصية بالله لا تفرق بيني وبينه في زمن الطاعة، انزل روح يا سيدي، فأعجب السلطان ذلك والناس، ووقع كلامه منهم بموقع جد.
وإنما سمي علاء الدين الوداعي، لأنه كان يكتب للصاحب علاء الدين بن وداعة، ولذلك قال، ونقلته من خطه:
ولقد خدمت الصاحب ابن وداعة دهراً طويلاً
فلقيت منه ما التقى ... أنس وقد خدم الرسولا
وأنشدني شيخنا شمس الدين الذهبي، قال: أنشدنا المذكور من لفظه لنفسه، ونقلته أنا من خطه:
من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروي محاسن ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن
ونقلت منه ما كتبه لبعض أصحابه بمصر:
رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي البالي
وصف لي القرط وشنف به ... سمعي وما العاطل كالحالي
وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال
فهو مرادي لا يزيد ولا ... ثورا وإن رقا وراقا لي
ونقلت منه:
وزائر مبتسم ... يقول لما جا: أنا
فقال أيري منشداً ... أهلاً بتين جاءنا
قلت: يشير إلى قول الشاعر:
أهلاً بتين جاءنا ... مفتح على طبق
كسفرة من أدم ... مجموعة بلا حلق
ونقلت منه له:
لله ما أرشقه من كاتب ... ليس له سوى دموعي مهرق
يميس رقصاً في قباء أسود ... فقلت: هذا ألف محقق
ونقلت منه له:
وذي دلال أحور أجحر ... أصبح في عقد الهوى شرطي
طاف على القوم بكاساته ... وقال: ساقي، قلت: في وسطي
ونقلت منه له:
ولم أرد الوادي ولا عدت صادراً ... مع الركب إلا قلت: يا حادي النوق
فديتك عرج بي وعرس هنيهة ... لعلي أبل الشوق من آبل السوق
ونقلت منه له:
سقيا لكرم مدامة ... أنشت لها النشوات ليلا
خلعت علينا سكرة ... بدوية كما وذيلا
ونقلت منه له:
ويوم لنا بالنيربين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه
وقفنا فسلمنا على الدوح غدوة ... فردت علينا بالرؤوس غصونه
ونقلت منه له:
ذكرت شوقاً وعندي ما يصدقه ... قلب تقلبه الذكرى وتقلقه
هذا على قرب دارينا ولا عجب ... فالطرف للطرف جار ليس يرمقه
قلت: أخذه من قول الأول، والأول أحسن:
لئن تفرقنا ولم نجتمع ... وعاقت الأقدار عن وقتها
فهذه العينان مع قربها ... لا تنظر الأخرى إلى أختها
ونقلت من خطه له:
الغرب خير وعند ساكنه ... أمانة أوجبت تقدمه
فالشرق من نيريه عندهم ... يودع ديناره ودرهمه
وقال أيضاً:
حوى كل من الأفقين فضلاً ... يقربه الغبي مع النبيه
فهذا مطلع الأنوار منه ... وهذا منبع الأنوار فيه
قلت: أخذ الوداعي معناه الأول وبعض الثاني من قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: " وتلك الجهة وإن كانت غربية فإنها مستودع الأنوار وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار " .
ونقلت من خطه له:
رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي
وما في ذاك من بدع ... سهام الليل ما تخطي
ونقلت منه له وظرف:
لنا صاحب قد هذب الطبع شعره ... فأصبح عاصية على فيه طيعا
إذا خمس الناس القصيد لحسنه ... فحق لشعر قاله أن يسبعا
ونقلت منه له:
قل للذي بالرفض أتهمني أضل الله قصده
أنا رافضي لاعن الشيخين والده وجده
ونقلت منه له:
ولا تسألوني عن ليال سهرتها ... أراعي نجوم الأفق فيها إلى الفجر
حديثي علا في السماء لأنني ... أخذت الأحاديث الطوال عن الزهري
ونقلت منه له:
امرؤ القيس بن حجر جدنا ... كان من أعجب أملاك الزمان
ضل لما ظل يبغي ملكهم ... وهدى الناس إلى طرق المعاني
ونقلت منه له:
كم رمت أن أدع الصبابة والصبا ... فثنى الغرام العامري زمامي
بذوائب ذابت عليها مهجتي ... ومناطق نطقت بفرط سقامي
ونقلت منه له:
تأمل إلى الزهر في دوحه ... ومن زاره من ملاح الفتون
تظن الوجوه التي تحته ... تساقطن من فوقه من عيون
ونقلت منه ما قاله في رأس العين ببعلبك:
لله در العين ليلة زرتها ... فوجدتها راقت ورقت مشرعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
ونقلت منه له:
يا عاذلي في وحدتي بعدهم ... وأن ربعي ما به من جليس
وكيف يشكو وحدة من له ... دمع حميم وأنين أنيس
ونقلت منه له:
قسماً بمرآك الجميل فإنه ... عربي حسن من بني زهران
لا حلت عنك ولو رأيتك من بني ... لحيان لا بل مني بني شيبان
ونقلت منه له:
قلت وقد ماس في الكسا رشاً ... يخجل بدر التمام حين بدا
إن الكسائي لم يمل أبداً ... أحسن من قده إذ أبدا
ونقلت منه له:
أدام الله أيام العذار ... وبارك في لياليه القصار
وأغنى الله روضة كل خد ... إذا استحيت من الديم الغزار
ولا زالت مباسم كل ثغر ... لشائم برقا ذات افترار
ولا برحت على العشاق تصفو ... ثياب العار في خلع العذار
قلت: قد حذا حذو شمس الدين بن العفيف التلمساني حيث قال وهو ألطف:
أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتداراً ... وإن تك أضعفت عقلي وديني
وأسبغ ظل ذاك الشعر يوماً ... على قد به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون
وخلد دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على قلبي الطعين
وقول شمس الدين محمد أيضاً:
أدام الله أيام الجمال ... وخلد ملك هاتيك الليالي
وأسبغ ظل أغصان التداني ... وزاد قدودها حسن اعتدال
ولا زالت ثمار الأنس فيها ... تزيد لطافة في كل حال
ولا برحت لنا فيها عيون ... تغازل مقلتي خشف الغزال
ونقلت من خطه له:
تعجبوا من أدمعي إذ غدت ... بيضاً وكانت من دم قان
لا تعجبوا طرفي رب الهوى ... وكل يوم هو في شان
ونقلت منه له:
قلت للعاذل المفند فيها ... حين وافت وسلمت مختاله
قم بنا ندعي النبوة في العشق فقد سلمت علينا الغزاله
ونقلت منه له أيضاً في شاهد:
قضيت نجبي في هوى شاهد ... أصبح عدل القد بين القدود
وليس لي من أمره مخلص ... وهكذا القاضي أسير الشهود
قلت: كان ينبغي أن يأتي بالتوطئة بذكر القاضي ليكون المثل كاملاً.
ونقلت منه له:
متى أرى النفس التي ... من بعدهم قد نحلت
تفتح أبواب الهنا ... إن هي إليهم قفلت
علي بن معاليالصدر الفاضل علاء الدين الأنصاري الحراني ثم الدمشقي المعروف بابن الزريزير الكاتب الحيسوب. كان مشكوراً، وانتفع به جماعة.
مات عن نحو أربعين سنة فجأة بدمشق في ثالث عشري صفر سنة خمس وسع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
علي بن مقاتلعلاء الدين التاجر الحموي، صاحب الأزجال المشهورة.
تفرد بنظم الأزجال في آخر عمره، وتحكم في فنها نبهية وأمره، وأتى بغرائب الصنعة واللزومات التي تضيق فيها على العوالي الرقعة، بحيث إنه أكثر من أنواعها، واستعمل أعوانها في مد أبواعها، وله شعر أيضاً إلا إنه في ذاك أمهر، وأزجاله أشهى إلى القلوب وأشهر.
اجتمعت به في حماة وفي دمشق غير مرة، وجلا علي من بنات فكره كل خريدة كأنها للشمس ضره، وديوانه يدخل في مجلدين، ويراهما أرباب هذا الفن في جنات الصدور مخلدين.
ولم يزل على حاله إلى أن قتل ابن مقاتل، ولم يقدر في معرك المنية على أن يخاتل.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة إحدى وستين وسبع مئة بحماة المحروسة.
ومولده بها في سنة أربع وستين وست مئة.
أنشدني كثيراً من أزجاله وأشعاره، ونقلت من خطه:
ومليح عمه الحسن بخال مثل حظي
وقع البحث عليه ... بينه وبين لفظي
قال هذا خال خدي ... قلت بل ابن أخت لحظي
ونقلت منه له:
إن الخراساني لما حوى ... حلاوة الإيمان من خوفه
فضله الله على غيره ... أما ترى قلبين في جوفه
ونقلت منه له:
إن كانون في الكوانين أمسى ... وبه حفلة من النيران
كصديق له ثلاث وجوه ... كل وجه منها بألف لسان
ونقلت منه له:
يا مرقصاً يا مطرباً غنى لنا ... أنعم لإخوان الصفا بتلاقي
فلقد رميت مقاتل الفرسان بين يديك عند مصارع العشاق
ونقلت منه له:
خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وةثغر وأرياق ولحن ومعرب
ورود وسوسان وبان ونرجس ... وكأس وجريال وجنك ومطرب
ونقلت منه له الأول تصحيف الثاني:
شفائي وجناتي حبيب بسربه ... لعوب بمرج تفرج البأس شيمته
سقاني وحياني حييت بشربة ... لغوت بمزح تفرح الناس سيمته
ونقلت منه له:
أسهرتني مليحة أسهرتني ... طول ليلي ظلامه الطرف يعشي
والسهى خيفة الغراق من السقم مسجى على بنيات نعشي
والثريا كأنها راحة تلطم خد المريخ والجو مغشي
ونقلت منه له:
فضوا كتابي واعذروا فأناملي ... منها اليراع إذا ذكرتم يسقط
والقلب يخفق لا ضطراب مفاصلي ... والخط يشكل والمدامع تنقط
قلت: أحسن منه وأجزل وأمتن قول ابن الساعاتي:
بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرع أشمط
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... نطم يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط
ونقلت منه له:
لا تنكروا حمرة خطي وقد ... فارقت من أحباب قلبي جموع
فإنني لما كتبت الذي ... أرسلته رملته بالدموع
ونقلت منه دوبيت في كل كلمتين قلب نفسها:
الخل خلا من نمعانق بقناعقانع بعناقألف لا عاد وداع
ما دام معانق ناعمعاش شاعألمى يملا ما أمعاطى وأطاع
ونقلت منه له موالياً:
على وفاكي وفاكي كم ذهب من عين ... وفي شفاكي شفاكي للذي بوعين
ما أحلى وماكي وماكي نبع أعذب عين ... وقد حماكي حماكي أن تراكي عين
ونقلت منه له موالياً:
قال الذي من يراه الطرف ما يسني ... أنا الذي إن نظرت بالبدر ما يسني
والغصن يا خجلتو إن قام ما يسني ... وعاشقي إن هجوتو شهر مايسني
ونقلت منه له أيضاً:
كلمت من لو بقلبي ألف تكليمة ... بسيف لحظو الذي ما فيه تثليمه
وقلت بعد الوفا تبخل بتسليمة ... أرخصت دمعي وما تغلى بتعليمه
وكان قد أنشدني لنفسه بحماه زجلاً وهو:
قلبي يحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه
فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه
بدر السما ويطبع ... من راد وصالو يعطب
صغير بحير في أمرو ... غزال قمر بشحرو
ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو
ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب
نذكر نهار تبعتو ... وروحي كنت بعتو
خيب ما كان طمعتو ... وقال كلام ما سمعتو
ارجع ولي لا تتبع ... نخشى عليك لا تتعب
كم قدامو وخلفو ... مشيت مطيع لخلفو
وقصدي لثم كفو ... قال دع مناك وكفو
فلثم كل إصبع ... من الثريا أصعب
ما زلت لو نداري ... حتى حصل في داري
ناديت ودمعي جاري ... أيش لو تكون يا جاري
تدعني من فيك أشبع ... قال أيش يكون لك أشعب
من في الجمال فريدو ... للصب من وريدو
يذبح وهو يريدو ... وكم ذا شيخ مريدو
خلاه ودمعو يبلغ ... وهو بعقلو يلعب
من حاز في حسنو خدجو ... لحظو لقتلي حدو
وورد خدو ندو ... ما في الرياض شي ندو
روض بالحيا مبرقع ... عليه سياج معقرب
كم خصم في المقاتل ... صابو ابن مقاتل
وكم ذا في المحافل ... قد أنشا غصن حافل
من كل بيت في مربع ... ملحون بألف معرب
فأعجبني هذا الذي فيه من قلب البعض في أغصانه وبعد حين خطر لي نظم شيء في هذا فقلت أنا وجعلت جميع قوافيه مقلوب البعض:
قلبي لو صلو ترقب ... وبالخضوع لو تقرب
وربع صبري تعرقب ... حين رأى عذار وتعقرب
ترجم جمالو وعبر ... وزان لشكو وعرب
في حسن حبي غرايب ... للعشق فيها رغايب
سرت إليها النجايب ... من الصبا والجنايب
رآه عاذلي فيه كبر ... وقام لعذري وركب
جيدو على الظبي راجح ... واللحظ من طرفو جارح
تراه إلى الصد جانح ... وعاشقو ليس هو ناجح
من صغر سنو تكبر ... وعاشقو قد تكرب
حكم الهوى منو قاسط ... وحظي من وصلو ساقط
مانا من الرحمة قانط ... والدمع من فوق خدي ناقط
لمن طغى أو تجبر ... يندم وهذا تجرب
غدا بوصلو مبخل ... خلاني كيف ريت مخبل
وأسرع في قتلي ما أمهل ... وعم سقمي وما أهمل
والدمع في الخد بحر ... والصدر للهم رحب
تراه يزيد في جمالو ... مالو نظير في مجالو
رأى ابن يعقوب لجالو ... كونو فريد في جلالو
في طلعة الشمس غبر ... وفي السيادات غرب
وفا وعودو تعود ... وما يفي إن توعد
كم راحة من كفو أوجد ... لنو من الغيث أجود
أبطل حسودو وأبطر ... ومدحو للسمع أطرب
لفن الإنشا ضراعه ... لو من زمان الرضاعه
وفي كلامه صناعه ... فيها بديع ونصاعه
ترسلو الحلو بور ... غيرو وعن مثلو ورب
كم من طويل فصل لخص ... ومن عق لفظ خلص
والخير كم فيه ترخص ... والحق قال ما تخرص
والملك بو قد تدبر ... والدهر بوقد تدرب
راح للحجاز وترفق ... بالناس ومالو تفرق
وحوض سيلو مروق ... وأمسى وجفنو مورق
يتلو وصار أشعث أغبر ... وعزمو أكبر وأرغب
شيخ الشيوخ لو مخايل ... تقول رياض أو خمايل
لو جاد في قفر ما حل ... كان تبصر السيل حامل
من أبصر وراح مبشر ... بوجه أبيض مشرب
ولما نظمت هذا الجزل كان في دمشق في أوائل سنة ست وخمسين وسبع مئة، وسمع بي، فجاء إلي وطلب الوقوف عليه، فأوقفته، فبهت له، وأنشدني له أشياء من هذا النوع، ولكنه لم يلتزم ذلك في جميع القوافي.
ولما وقف عليه الإمام مجير الدين محمد بن الحسن بن الشهرزوري كتب لهو إلي:
دمعي بأسراري خبر ... وربع سلواني خرب
في من لهجرو تبشر ... وللأعادي تشرب
خبر بأسرار دمعي ... ولم يجبيني وما ادعي
في حب أصلي وفرعي ... أعليه وما يهوى رفعي
عن مقلتي شخصو بذر ... ونطقو في مقتي ذرب
يا من هو لي مني سالب ... صدغيك عقربها لاسب
يا ولدي خالقك راقب ... فيا وسادد وقارب
سيف هجرك القلب هبر ... وعسكر الصبر هرب
يا أحلى الخلائق وأملح ... شخصك ترى يوم ألمح
ولي تجود وتسمح ... وأرضك أجفاني تمسح
هجرك بترني وتبر ... وخدي بالذل ترب
يا أحصف الناس وأفصح ... عن زلتي بالله أصفح
واغنم ثوابي واربح ... فعن هواك ليس أبرح
ما دام خدك معبقر ... وشعر صدغك معقرب
ازي رأى حبي أمرد ... ما ارجع يرى طرفو أرمد
الآس ترى أو زمرذ ... عذار هذا المزرد
طرز خدودو وحبر ... وحير الناس وحرب
أي من تصبح بخالو ... يزول عنو خبالو
لو رآه مشبه لخالو ... سيدي خليل في خلالو
لما غدا قدرو أكبر ... قلوب حسادو أكرب
أبو الصفا خير منشي ... إليه على رأسي نمشي
ترسلو الحلو حوشي ... من حشو ولفظ وحشي
فيه كيف أقبل وأدبر ... من سائر الناس هو أدرب
لو عاين ابن المقفع ... بيانو أضحى مفقع
وفي الكلام ما تشبع ... وكان بروح تبشع
لفظو في الآذان أغبر ... وأقعد فصاحة وأغرب
شعرو على الشعرى باسق ... وفحلو في النظم سابق
ما يلحقو قط لاحق ... قد اعتلى فوق حالق
مية ألف نظام يقبر ... ما يطيق منو يقرب
ولو رأى ابن هلالو ... خطر المعجز لهالو
للبحتري أو لخالو ... لوجا مكانو خلالو
لنو للأوزان أسبر ... وفي قوافيها أسرب
بقى إلى ظلو يهرب ... ودام يرجا ويرهب
ومن يجاريه يتعب ... وما ينالو ويعتب
ومن يعاديه يغبر ... ومن يواليه يرغب
عبدو المجيرحين تشرف ... ومن كلامو ترشف
زبب وما بعد نصف ... وجاز حدود وصنف
دمعي بأسراري خبر ... وربع سلواني خرب
وأنشدني علاء الدين بن مقاتل لنفسه:
يا من قطع أوصالي ... ولي نار فراقو صالي
يوسف بالجمال أوصى لك ... وأبوه بالحزن أوصي لي
ما أصبرني عليك من عاشق ... وما أقساك عليه معشوق
حاجبك بقوسو راشق ... وقلبي بنبلو مرشوق
فسبحان تبارك ما شق ... ألف ذا القوام الممشوق
قد أخلصت فيك أعمالي ... وعلقت بك أمالي
وذل الجمال راس مالك ... والصبر الجميل راس مالي
يا من خلى دمعي جاري ... وأوقف حالي الله جارك
ارعى لي الوداد يا جاري ... بالذي من السوء جارك
وقلبي بوصلك داري ... ولو فرد يوم في دارك
تستفيد شيء من أشغالي ... يا غريز عليه غالي
قال إياك يكون أشغالك ... بحال تاجر البرغالي
إن كان المعاشق جندك ... فأنا العاشقين من جندي
ولي حاجة سهلة عندك ... رقاد ليله تنتين عندي
وفوق عنقي تجعل زندك ... ومن تحت عنقك زندي
وأنشدك شيء من أغزالي ... في جدي وفي أهزالي
قال من حالك رقيق أغزالك ... قلتو جفنك الغزالي
قال فمن ذا حلاً لفظك ... قلت من ما أحلى لفظو
فيا ترى إيش حال حظك ... قلت يا سعيد في حظو
فيه شوي سواد من لحظك ... يا من حد صارم لحظو
فولاد ومجوهر حالي ... ولفظو مكرر حالي
ما دام سعد حالك حالك ... عن وصلي فحالي حالي
ارحم يا من الله حبو ... مجنون في سلاسل حبك
مسكين قد تفطر لبو ... وما ذاق خميرة لبك
ودمعو عليك قد صبو ... لهذا يسمى صبك
ولو كنت بالنار سالي ... قلبو ما هو عنك سالي
فقل ليمن فيه سالك ... ما لو خرجه من سلسالي
عندي لك فعال مخصومه ... وعندك فعالي خصه
وروحي معك مغصوصة ... وتجرعت فيك كم غصه
وأخباري عليك مقصوصه ... ولا بد لي من قصه
ترفع للجناب العالي ... وأشكو للقوي المتعالي
عسى بصلاح أفعالك ... يمتزج فساد أفعالي
زرني يا مليح بحياتي ... قال لا والله فوق وحياتك
قلت أنا أعشقك من ذاتي ... قال واش كنت أنا من ذاتك
قلت ما تطيب أوقاتي ... بغير ساعة من أوقاتك
فاجعل الوصال متوالي ... وكن في علي موالي
قال ما أقدر أجي لك والك ... قلت أيوه تجي بالوالي
علي بن مقلدعلاء الدين حاجب العرب في أيام الأمير سيف الدين تنكز، كان راجلاً طويلاً، أسمر اللون كحيلاً، يتحنك بعمامته، ويتقلد بسيفه طول قامته، ويلبس الثياب الطويلة المفرجة، ويسلك الطريقة التي هي عن العربان فحرجه، يتبادى في كلامه، ويتباده في معاجلة تحيته وسلامه.
قربه تنكز وأدناه، ومكنه فعناه وأغناه، وصارت له في الدولة وجاهة زائدة، ومكانة؛ إلا أنها كانت إلى الهلاك قائده، وزاد في طغواه، وأرخى له الدهر أعنة هواه دون تقواه، فطار في غير مطاره، ونال نهايات أمانيه، وأوطاره، إلى أن تنكر تنكز له، فلبس له جلد النمر، وصبحه بصوب من سوط عذاب منهمر، فقتله بين يديه بالمقارع إلى أن تهرا، وتفصل جلده وتفرى، ثم كحله فأعماه، وقطع لسانه فأصماه.
فما كان بأسرع من ولوج الحمام حماه، ونفاذ السهم الذي قصده الحتف به ورماه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
حكى لي علاء الدين بن مقلد من لفظه، قال: توجهت إلى الرحبة في شغل، فعدت وقد حصل لي ثمانية عشر ألف درهم، أو قال: خمسة عشر ألف درهم، من العربان، ولم أذكر أنا هذا القدر إلا أن هذا في أيام الأمير سيف الدين تنكز، كان فرطاً عظيماً لا يصل إليه أحد في أيامه. وكان ابن مقلد رحمه الله تعالى قد زاد في التعاظم والتيه والكبرياء، فلو جاءه علي بن مقلد صاحب شيزر لقال: هذا شي زري لا شيزري، ولكنه أقام على هذا القدم مدة طويلة، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يسأل عنه من دواداره ناصر الدين، ويقول له: هذا ابن مقلد ما يعجبني حاله، وربما أنه يشرب النبيذ. فيقول ناصر الدين الدوادار: ما أظن ذلك ولا يقدر يفعله وحاجه فيه مرات، فلما كانت واقعة حمزة التركماني المقدم ذكره ودخوله في أمر ناصر الدين الدوادار، وما أوحاه في حقه وحق جماعته، خرج لوالي المدينة وقال له: أريد منك أن تكبس ابن مقلد، فكبسه تلك الليلة، وعنده جماعة نسوة وحرفاؤهن، ولما أصبح دخل حمزة إلى تنكز وعرفه الصورة، فأحضر الدوادار وأنكر عليه ووبخه وعنفه، وكان ذلك سبب الإيقاع به، وأحضر ابن مقلد وقتله بالمقارع قتلاً عظيماً إلى الغاية، وكحله، واعتقله في قلعة دمشق، فبلغه عنه كلام لا يليق، فقطع لسانه من أصله، وأحضر إليه على ورقة، فمات فيما أظن من ليلته بعد ما سلب نعمة عظيمة، ورتبة مكينة، وجاهاً طويلاً عريضاً، نسأل الله خاتمة خير في عافية.
علي بن منجاابن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، الشيخ الإمام الفقيه البارع، قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ زين الدين أبي البركات ابن القاضي عز الدين أبي عمرو بن وجيه الدين أبي المعالي الحنبلي، قاضي دمشق.
ذكرت جماعة من أهل بيته في هذا التاريخ، وحدث عن ابن البخاري، وابن شيبان، وطائفة.
هو من بيت سعادة وحشمة، وسيادة ونعمة، وفتوى وفتوة، ومكارم للناس مرجوه، وأياد متلونة الأنواع متلوه.
من تلق منه تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يس بها الساري
وكان هذا القاضي علاء الدين كثير الرئاسة، غزيز السياسة، لا يكاد أحد يسبقه إلى عزاء ولا هناء، ولا ينزل من مضارب الرئاسة إلا في خباء مروءة وحياء، يود من يعرفه ومن لا يعرفه، ويسعف الخصم في الحق ولا يعسفه:
منجذ من بني المنجا ... نال من الفضل ما ترجى
أسرع في نيل كل مجد ... وهم في قصده ولجا
فصار بحراً في العلم يصفو ... ولم ير الوصف منه لجا
ولم يزل على حاله المرضية، وأوامره المقضية، إلى أن وقع ابن المنجا في شرك المنية وما نجا، وكاد النهار يكون لقده دجا.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس سابع شعبان سنة خمسين وسبع مئة.
وتولى القضاء بعد قاضي القضاة جمال الدين المرادوي الحنبلي.
نقلت مولده من خطه ليلة نصف شعبان سنة سبع وسبعين وست مئة.
وكان قد لبس تشريفه بقضاء قضاة الحنابلة بدمشق يوم الأربعاء حادي عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى كثير الرئاسة والحشمة، قل أن يسبقه أحد إلى هناء أو عزاء، ويشارك أهل العزاء والهناء في شأنهم. ولما توفي فتاي مراد حضر إلي إلى البيت وعزاني فيه، وتوجه إلى الجامع، وصلى عليه في الجامع الأموي، وتوجه إلى مقابر الصوفية، ووقف على قبره حتى دفن. ولما انصرف الناس وقف لهم، وشيعهم، وتشكر لهم حتى أخجلني من كثرة إحسان وتوجعه وتفجعه، ولذلك قلت أنا فيه:
لم لا أسح دموعي في رزية من ... قد كان يزهى على بدر السما تيها
وقد رماني القضا فيه بنائبة ... قاضي القضاة أراه نائبي فيها
علي بن منصور بن محمد بن المباركشمس الدين بن الإسنانئ المعروف بابن شواق الطبيب، بالشين المعجمة والواو المشددة، وبعدها ألف وقاف.
اشتغل بالطب، وناب في الحكم بأصفون وغيرها، وأخذ الطب عن ابن بيان، ومهر فيه واشتهر بالمعرفة، وكان يتبارك بطب المكرم دون شمس الدين هذا، فقيل له في ذلك، فقال: المكرم يطلب في ابتداء الأمراض، وفي الأمور السهلة، وأنا ما أطلب إلا إذا أيس من المريض، وإذا كان المرض مخوفاً.
وكان حسن الخلق.
توفي رحمه الله تعالى بعد التسعين وست مئة.
علي بن نصر اللهابن عمر بن عبد الواحد القرشي المصري الشافعي، الشيخ الإمام الفاضل الخطيب المعمر المسند نور الدين أبو الحسن.
كان خطيب قرية بظاهر القاهرة، روى أكثر صحيح النسائي عن عبد العزيز بن باقا، وسمع أيضاً من جعفر الهمذاني، والعلم بن الصابوني، وأجاز له أبو الوفا بن مندة، وأبو سعيد المديني، وعدة.
وتفرد، ورحل الناس إليه، وكان خاتمة من سمع شيئاً من ابن باقا.
وسمع منه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى والواني، وابن خلف، وابن المهندس، وابن حرمي، وعدة. وظهر للناس بعد رحلة شيمها الذهبي من مصر، وأثنى الناس عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشري شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة عن نيف وتسعين سنة.
علي بن هبة اللهابن أحمد بن إبراهيم بن حمزة نور الدين بن الشهاب الإسنائي.
كان فقيهاً مفتياً، سمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ عبد المؤمن، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وحفظ مختصر مسلم للحافظ المنذري، وأخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطي، والشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي.
وبرع في الفقه وأفتى وسلك في العلم طريقاً " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً " وكتب الروضة في مكة بخطه، واجتهد في ذلك فحصل له المراد على شرطه، وكان يستحضر أكثرها وغالبها، ويرغب بمعرفته فيها طالبها.
وهو أول من أدخل الروضة إلى قوص، وجعل قدرها بذلك صحيحاً غير منقوص، ودارت عليه الفتوى، وكان فيها مسدداً، ودر علومه مجموعاً في ذهنه لا مبدداً.
وكان أماراً بالمعروف ونهاء عن المنكر، كم وعظ غافلاً عن نفسه وكم ذكر.
وكان مهيباً مع اتضاعه، سامياً في قدره، يرى النجم في أفقه أنه دون ارتفاعه، يتهجد في دياجيه، ويخاطب من يعلم سره ونجواه فيناديه ويناجيه.
ولم يزل على حاله إلى أن تسجى، وانقطع ما أمل وترجى.
وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة سبع وسبع مئة.
ودرس بالعزية بقوص والمدرسة المجدية ورباط ابن الفقيه نصر. ودرس بدار الحديث بقوص، وتزوج بأخت الصاحب نجم الدين الأصفوني.
ولما توفي الصاحب طلب أصحابه فهرب الشيخ وتغيب سبعين يوماً، فحفظ فيها المنتخب في الأصول.
وكان بعض النصارى قد أسلم وله ولد نصراني وأولاد ولد أطفال، فقام في إلحاقهم بجدهم، وأفتى بذلك متبعاً ما حكاه الرافعي عن بعضهم، و قال إنه الأقرب، وجرى في ذلك صراع كثير، وألحق بعضهم بجده، فقيل إن النصارى تحيلوا وسقوه سماً، فحصل له ضعف وإسهال، فمات رحمه الله تعالى.
علي بن يحيىابن علي بن محمد بن أبي بكر، الشيخ الفقيه المقرئ العالم المسند علاء الدين، أبو الحسن التجيبي الشاطبي الدمشقي الشافعي الشاهد.
سمع من الرشيد بن مسلمة، والمجد الإسفرايني، والرشيد العراقي، والنور البلخي، واليلداني، والجمال الصوري، وعدة، وأجاز له ابن الجميزي وغيره، وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي، وطال عمره، وتفرد، وروى الكثير، وكان له مسجد وحلقة ومدارس، وعجز آخراً وانقطع، وكان يسمع في القباقبيين.
وتوفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة.
ودرس بالعزية بقوص والمدرسة المجدية ورباط ابن الفقيه نصر. ودرس بدار الحديث بقوص، وتزوج بأخت الصاحب نجم الدين الأصفوني.
ولما توفي الصاحب طلب أصحابه فهرب الشيخ وتغيب سبعين يوماً، فحفظ فيها المنتخب في الأصول.
وكان بعض النصارى قد أسلم وله ولد نصراني وأولاد ولد أطفال، فقام في إلحاقهم بجدهم، وأفتى بذلك متبعاً ما حكاه الرافعي عن بعضهم، وقال إنه الأقرب، وجرى في ذلك صراع كثير، وألحق بعضهم بجده، فقيل إن النصارى تحيلوا وسقوه سماً، فحصل له ضعف وإسهال، فمات رحمه الله تعالى.
علي بن يحيىابن علي بن محمد بن أبي بكر، الشيخ الفقيه المقرئ العالم المسند علاء الدين، أبو الحسن التجيبي الشاطبي الدمشقي الشافعي الشاهد.
سمع من الرشيد بن مسلمة، والمجد الإسفرايني، والرشيد العراقي، والنور البلخي، واليلداني، والجمال الصوري، وعدة، وأجاز له ابن الجميز وغيره، وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي، وطال عمره، وتفرد، وروى الكثير، وكان له مسجد وحلقة ومدارس، وعجز آخراً وانقطع، وكان يسمع في القباقبيين.
وتوفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة.
علي بن يحيى بن عثمانابن أحمد بن أبي المنى محمد بن نحلة، الشيخ علاء الدين بن نحلة.
كان مدرس الدولعية بدمشق والمدرسة الركنية. وباشر نظر ديوان بيت المال إلى أن مات رحمه الله تعالى في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وكان صدراً عاقلاً رئيساً، حفظ المحرر في الفقه للشافعيه، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي مدة، وكان مواظباً على لزوم الجماعة والتردد إلى الفقراء والصالحين، وله ورد من التلاوة. وروى جزء ابن الفرات عن ابن عبد الدائم، وسمع من غيره. وعمر داراً مليحة إلى جانب الركنية، ومات بعد فراغها بمدة يسيرة.
علي بن يحيى بن إسماعيل بن القيسرانيالقاضي علاء الدين ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي الصدر الكبير عماد الدين.
نشا في حياة والده، ودخل ديوان الإنشاء في دمشق في أواخر أيام سيف الدين تنكز، وقطع بعده، ثم إنه استخدمه الفخري.
وكان شاباً عاقلاً، ساكناً متثاقلاً، كثير الصمت، بهي السمت، كتب جيداً في قلم الرقاع، وروض به الطروس، فكانت كالزهر النابت في أخصب البقاع، واشتغل وحصل، واجتهد في طلب الأدب وأصل.
وكان والده يجتهد عليه، ويود لو ساق الفضائل بأزمتها إليه. وكان في ذهنه وقفة تقصر به عن اللحاق، وتجعل بدر فضله مخصوصاً بالمحاق؛ إلا أنه حفظ الحاجبية والمعلقات بعد القرى، العظيم، وأحرز غير ذلك في عقده النظيم.
ولم يزل على حاله إلى أن أذوى الموت زهرته الغضة، وجعل الدموع من الحزن عليه مرفضة.
وتوفي رحمه الله تعالى.... من شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
كان قد مرض مرضة طول فيها، وأقام قريباً من سنة، ثم إنه حصل له استقاء، ولوالده رحمهما الله تعالى، ومات والده قبله بشهر، وأفاق هو، ثم إنه نقض الاستسقاء عليه ومات.
وكان بعد إمساك تنكز، قد منع من مباشرة كتابة الإنشاء بدمشق، ولما جلس الفخري في القصر الأبلق استخدمه، فكتبت له توقيعاً ارتجالاً، ونسخته:
رسم بالأمر العالي لا زال وليه علياً، وحفيه بكل خير ملياً، وصفيه تقر به السيادة من الدول نجياً، أن يعاد المجلس السامي القضائي العلائي إلى كتابة الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، لأنه من قوم كل منهم كريم. وكاتب ورئيس، إذا ابتدع في المعالي طريقة لم يكن له فيها تابع ولا عاتب، ومدبر لم يرتب الزمان أن ذكر مجدهم المؤثل فيه راتب، نشأت أصولهم في رياض بلاغة ووزارة، وسارت محامدهم في الآفاق فأخجلت الكواكب السيارة، وجرت بسعودهم التي ورثوها من جدودهم الأفك المدارة. وسكن الزمان بجبال حلومهم الراسخة بعد الطيش، واستغنى الملوك بكتبهم عن تجهيز الكتائب إلى كل جيش، وطابت أنفاس السحر برياهم؛ لأن بني مخزوم ريحانة قريش، وضربت أعراقهم حتى اتصلت بخالد بن الوليد، ونظر الناس منهم كل كفو غناه كالذهب عتيد، وباسه كالحديد شديد، وتجمل الدهر منهم بمدبر كان موفقاً في خدمة نور الدين الشهيد، طالما جالسوا الملوك على أسرتهم، وجاودوا الغيوث فعموا الأنام بمبرتهم، ونادموا النجوم فعاطوهم كؤوس مسرتهم، كما أغاث قلمهم ملهوفاً، وكان بمعرته جارماً، وكم حلب في حلب وغيرها رزقاً، وفي غيرها، وما كان حارماً.
فليباشر ذلك مقتدياً بما لأبيه أدام الله تعالى نعمته في هذه الوظيفة من الآثار الحميدة، والمناقب التي أخذت أياديها على المحامد عهوداً أكيدة، والآثار التي لا يطاول الزمان قصورها المشيدة، والفضائل التي هي في الديوان بيت القصيدة، حتى تجملت به الدنيا، وأقسم الفضلاء أن القاضي الفاضل لم يقض نحباً، وأنه يحيا، مهتدياً بسمت عمه خلد الله سعوده، فإنه لهذه الدنيا شرف، ولهذه الأيام من أقلامه غاب لا يدخلها ليث خطب إلا انهزم وانصرف، ولهذه الأيام من تواقيعه جنات فيها حور الأرزاق، تأوي إلى غرف، وليدبج بأقلامه المهارق التي تمطرها البلاغة، وتعلم الناس بمعانيها كيف يكون السحر وبألفاظها صناعة الصياغة. والوصايا عنهم يؤخذ بيانها، ومنهم يشير إلى الهدى بنانها فما ينبه عليها، ولا يدل على الطريق الآخذة إليها، وتقوى الله هي العمدة، والذخر العتيد عند الشدة، فلا ينسى فيها نصيبه، ولا يقدم غيرها في المهمات كتيبة، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وكتب إليه رحمه الله تعالى وقد عرض علي من حفظه المعلقات السبع وملحة الإعراب للحريري: أما بعد حمد الله تعالى حق حمده، وصلاته على سيدنا محمد نبيه وعبده وسلامه، فقد عرض علي الجناب الكريم العلائي ابن المقر الشريف الشهابي بن القيسراني:
مولى إذا أعمل أقلامه ... لم يبق في الجود لغيث حصص
فالبرق من حرقته يلتظي ... والرعد في السحب كثير الغصص
لذا ألو الحاجات في بابه ... تطرب إن وقع فوق القصص
جميع المعلقات السبع من أولها إلى آخرها، وملحة الإعراب للشيخ أبي محمد القاسم بن الحريري رحمه الله تعالى في مجلس واحد عرضاً عن ظهر قلب، وهذا يتعدى إلى اللب بهمزة السلب، كالسيل إذا تحدر على الحقيقة من علي، والجود إذا أتى من كريم ملين والحق إذا توضح من جليل جلي:
فما رآه ناظري عارضاً ... لكنه صاحب ديوان
وما تفاءلت له كاتباً ... بل حاكماً في صدر إيوان
وقد شهدت له فراستي أنه ينزل من العلم الشريف في أعلى ربع، ويعرف اللغة، فلا يغيب شيء من غابها عنه، لأنه قد حفظ السبع، ويترقى في سماء الفضائل بدراً لا يغيب عنها، ولا يغرب، ويخرس الفصحاء ببيانه حتى لا يعرب كلامه يعرب، والله يسعده سعادة يزين الدياجي بسرجها، وتصعده رتباً، رقي أهل بيته في درجها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
علي بن يحيىابن محمد بن عبد الرحمن السلمي، الحنفي، الرئيس، القاضي، علاء الدين أبو الحسن بن جمال الدين بن الفويرة.
كتب هذا علاء الدين الخط المنسوب الباهر، وجود النسخ الذي يفضح الروض إذا كان بإزاء الأزاهر، وأتى بخطه في قوائم الحساب، كأنه عقود الجواهر، ونبغ بعد والده ورأس، واحترز من مطاعن السيادة. واحترس.
وكان بيده شهادة الخزانة ونظر الأسرى، ووجد من ألم هذا النظر ما رجعت به عينه حسرى، وخرج عنه مرات، وعاد إليه، ولكن بعد ما أتى على ما لديه، ثم خرج عنه آخراً، وعدم منه على ما قيل بحراً زاخراً.
ثم إنه رسم له بتوقيع الدست في الشام، فباشره دون نصف العام، وجاءه حينه، وملئت بالتراب عينه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء ثالث عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
كان في نظر الأسرى فسلط عليه القاضي علاء الدين بن الأطروش محتسب دمشق، فأخذها منه في أيام الأمير سيف الدين يلبغا، فاحتاج إلى كلفة حتى بطلت القضية. ثم إنه أخذها مرة أخرى فيما أظن أو غيره، فاحتاج إلى كلفة، ثم أخرجت عنه، فاحتاج إلى كلفة، ثم إنها خرجت عنه للأمير ناصر الدين بن المحسني، وبقي منها بطالاً إلى أن حضر القاضي علاء الدين بن فضل الله إلى دمشق صحبة السلطان الملك الصالح، فسأله أن يكون في الدست موقعاً، فوعده بذلك إذا وصلوا إلى مصر. ولما وصلوا جاءه التوقيع، وباشر، وجرى عليه ما لم يجر على غيره لكونه دخل في هذه الوظيفة، وليس من أهلها، ونظم الشاميون والمصريون في ذلك، فمن ذلك قول القاضي شمس الدين محمد بن قاضي شهبة، وأنشد فيه من لفظه:
توقيع مملكة الدست الشريف غدا ... يقول من حنق الأنفاس مغبون
صبرت للقط لما لم يكن نجساً ... صبر المؤمل من حين إلى حين
وبالفويرة قد أصبحت ذا نجس ... بالله يا أولياء الأمر كبوني
وأنشدني لنفسه أيضاً:
توقيع دست المسلمين يقول لم ... أذنب ولم أجرم ففيم قصاصي
في الشام تقرض بالفويرة حلتي ... والقط في مصر فكيف خلاصي
وأنشدني من لفظه لنفسه نجم الدين أحمد بن غانم:
أدست الملك أنت عظيم قدر ... وأنت كبدر أفق وسط داره
فما لك بالقذارة يا مفدى ... أهنت وحط فيك اليوم فاره
وأنشدني آخر:
توفيع ديواننا ينادي ... يا رب ما للأنام غيره
اضربي القط والزغاري ... وقد تنجست بالفويره
وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا وهو نائب دمشق قد رسم له بصحابة ديوان الجامع الأموي في سابع شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكتبت له توقيعاً بذلك ونسخته: " رسم بالأمر العالي لا زال علياً وليه، نجياً صفية، ملياً إحسانه إلى من يرى به المنصب وفيه وفيه، أن يرتب المجلس السامي القضائي العلائي في كذا، لأن الكاتب الذي راحت براحته الطروس مدبجة، والسطور شفاها، وحروفها لاختلاف وضعها ثغور مفلجة، والمداد مسكاً لأن المعاني به نافجة نافحة، ولا يقال نفجة، والحاسب الذي لو شاء لقط النيل على أصابعه، وحرر حركات البرق بعقود أنامله التي هي أسرع من لوامعه، وضبط حاصل الجامع حتى أصبح مأسوراً في جوامعه، والأصيل الذي تتردد الرئاسة خلال خلاله، وتتعدد السيادة من معاطفه إذا خطر في حلة كماله، وتشهد له المحاسن فإن الناس طالما شاهدوا إحسان جماله " .
فليباشر ذلك مباشرة تليق برئاسته، وتضمن له الفضل الذي يديم الله له ملابس تناسته، حتى يقول الناس: إن الليث قد فاز بمدح شبله، والغيث حاز المنح بوبله، ويقسم المجد بهذا البلد ووالد وما ولد إن الفضل به اتحد، واشتمل عليه وبه انفرد، وهذا الجامع عمره الله تعالى بذكره يتحقق أنه ذو حسن ورونق يطرب من يلقها ومن ذا الذي لم يطرب لمعبد أمواله جمة، وأحواله مهمة، ولياليه بوقودها متوضحة إذا كانت أيام غيره مدلهمة، عليه جملة من الرواتب، وعدة من الجوامك تدرها سحائب النفقات من يد كل كاتب، يسترفده حتى بيت المال، وناهيك بذلك وتستجديه بقية المساجد، فينير لياليها الحوالك.
فليعمل جهده في حراسة ماله، وصيانة ما يساق لزينته وجماله، وليجتهد فيما هو لازمه من وظيفة جملت الأوان، ويعتمد على السداد، فما له رفيق إلا وله بيت وهو صاحب الديوان. والوصايا كثيرة، وتقوى الله عز وجل أفضل ما شرحه لسان قلم، وخفق له في العمل الصالح عذبات علم، فليجعلها له حرماً، ويستدر بها من الله عز وجل نعماً.
والحظ الكريم أعلاه، حجة العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
علي بن يعقوب بن أحمدابن يعقوب علاء الدين ابن الشيخ شرف الدين بن الصابوني.
كان شاباً ابن ثلاثين سنة، وسمع الكثير بدمشق، والقاهرة.
توفي بكرة الجمعة تاسع عشري جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ودفن بمقابر باب النصر بالقاهرة.
علي بن يعقوب بن جبريلالشيخ الإمام العالم نور الدين أبو الحسن البكري المصري الشافعي.
كان يذكر له نسباً يتصل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، منه إليه عشرون اسماً.
قرأ بنفسه مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا.
وكان يطرح الكلف، ويمشي على طريق من سلف، ينهى عن المنكر، ويأمر بالمعروف، ويبالغ في ذلك وهو به موصوف. ووثب مرة على العلامة ابن تيمية، وأنكر عليه أموراً والله أعلم بالنية، وأنكر على الدولة أمراً لم يجد من يساعده، وتولى ذلك أجانبه وأباعده، فرسم السلطان بقطع لسانه، وكاد الأمر ينفصل في شانه، ولولا صدر الدين بن الوكيل صدر هذا الأمر إلى الخارج، وألقي النور من النار في مارج، فتلطف له مع السلطان، فرسم بنفيه من القاهرة، وعدت هذه المنقبة لابن الوكيل في الأمثال السائرة.
ولم يزل البكري على حاله إلى أن بكرت عليه مغيرة المنايا، وأصابت حبة قلبه منها بنات الحنايا.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان له تواليف، ولما استعيرت البسط والقناديل من جامع عمرو بن العاص بمصر لبعض كنائس النصارى في يوم من أعيادهم، ونسب هذا الأمر إلى القاضي كريم الدين الكبير، وفعل ما فعل، طلع البكري إلى السلطان وكلمه في ذلك، وأغلظ له القول، وكاد ذلك يحوز على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين عليه، وقال: ما قصر الشيخ، كالمستهزئ به، فحينئذ أغلظ السلطان في القول للبكري، فخارت قواه، وضعف ووهن، فازداد تأنيب بعض الحاضرين عليه، فأمر السلطان بقطع لسانه، فجاء الخبر إلى الشيخ صدر الدين، وهو في زاوية السعودي، فركب حماراً وصعد إلى القلعة، فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر به، فلم يملك دموعه أن تساقطت، وفاضت على خده، وبلت لحيته، فاستمهل الشرطة عليه، ثم إنه صعد الإيوان والسلطان جالس فيه، فتقدم إليه بغير إذن وهو باك، فقال له السلطان: خير يا صدر الدين! فزاد بكاؤه ونحيبه، فلم يزل السلطان يرفق به، ويقول: خير يا صدر الدين! إلى أن قدر على الكلام، فقال له: هذا البكري من العملاء الصلحاء، يرفق به، وما أنكر إلا في موضع الإنكار، ولكنه لم يحسن التلطف. فقال السلطان: إي والله، أنا أعرف هذا إلا حطبة، ثم انفتح الكلام، ولم يزل صدر الدين يلاطف السلطان ويرققه حتى قال له: خذه وروح، إلا أنه يخرج من القاهرة.
وكان البكري بعد ذلك يقيم بدهروط وبغيرها، وجرى هذا كله والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان، وما فيهم من ساعد الشيخ صدر الدين غير أمير واحد.
وكان نور الدين هذا فيه كرم مع الفاقة، وكانت له جنازة حافة إلى الغاية.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وصى له ابن الرفعة أن يكمل شرحه على الوسيط، وصنف كتابً في البيان، وكتب على الفاتحة مجلدة.
علي بن يوسف بن حريزبالحاء المهملة والراء والياء آخر الحروف الساكنة والزاي.
الشيخ نور الدين أبو الحسن الشطنوفي، شيخ القراء. قرأ القراءات على تقي الدين الجرائدي، وعلى ابن القلال، وقرأ النحو على صالح إمام جامع الحاكم.
وسمع من النجيب الحراني، وتولى التفسير بجامع ابن طولون، وتصدر للإقراء بجامع الحاك، وكان القضاة يكرمونه، والعلماء يعظمونه، ويعتقد الناس صلاحه، ويرون انه ممن جعل الدعاء سلاحه، وقرأ عليه جماعة وخلائق، وصفت منه له البواطن والخلائق.
ولم يزل على حاله إلى أن شط المزار من الشطنوفي، وبطل ما كان يسنده منه إلى البصري والكوفي.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
وصنف كرامات الشيخ عبد القادر الجيلي، وذكر فيها عجائب وغرائب، وطعن الناس عليه في أسانيدها وفيما حكاه.
علي بن يوسف بن الحسنالإمام المحدث الأديب نور الدين أبو الحسن الزرندين بفتح الزاي والراء وسكون النون، وبعدها دال مهملة، ثم المدني الحنفي.
تفقه وشارك في الفضائل، وكان عليه للعلم مخايل ودلائل، وله فهم ورزانة، ولكلامه رونق ورصانة، ونظم ونثر، وقرأ بنفسه الحديث والأثر.
ولم يزل على حاله إلى أن دثر، ودخل في خبر كان وغبر وتوفي رحمه الله تعالى....
ومولده بطيبة قبل السبع مئة.
قال شيخنا الذهبي: رحل إلى العراق مع أخيه، وسمع ببغداد، ودخل إلى خوارزم ودمشق، ومصر، وعني بالحديث والرواية، وسمع مني وأعجبتني فضائله، وله نظم ونثر.
علي بن يوسفالشيخ علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ الإمام المحدث الكاتب مجد الدين أبي الفضل بن المهتار محمد بن عبد الله المصري الأصل، ثم الدمشقي الشافعي.
سمع كثيراً بإفادة والده علي ابن أبي اليسر والضياء يوسف بن خطيب بيت الآبار، والبدر عمر بن محمد الكرماني، والمجد بن عساكر، والقاضيين شمس الدين بن أبي عمر الحنبلي، وشمس الدين بن عطا الحنفي وجماعة غيرهم.
ومن مسموعاته على ابن أبي اليسر صحيح البخاري وسنن النسائي والحبانيات وأكثر من عشرين جزءاً.
قال شيخناً علم الدين البرزالي: وجمعت من شيوخه ستين شيخاً، سمع منهم، وكان إماماً بمسدد الرأس، ويشهد تحت الساعات وله حلقة يقرئ فيها القرآن بالجامع.
ثم إنه ضعف بصره، وانقطع، وحدث هو وأبوه وأخوه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر المحرم سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وست مئة.
علي بن يوسف أمير علي بن أميرصلاح الدين بن الملك الأوحد شادي بن الزاهر، ابن صاحب حمص.
كان هذا أمير علي صورة أبدعها الخلاق، وأفرغ عليها من الجمال ما لاق، كأن الشمس قد طلعت من قده على رمح، والبدر قد طلع من أطواقه وبدا من جبينه الصبح، كأنما صب النديم على وجناته رحيقه، أو الورد لما ورد روضها شق من الغيظ شقيقه، أو المحب لما لمحها أودعها حريقه، بقوام كأنه غصن بانه، أو قضيب ريحانه، وثغر تحكيه الأقحوانة، وشفاه هي على در مبسمة أصداف مرجانة:
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
وعيون تنفث السحر في عقد الحشا، وتفعل في القلوب ما يريده الغرام وما يشا، جفونها سيوف في جفون، وأهدابها سهام يرميها حاجب قوسه كنون، وبشرة رقت فما مثلها في البشر، وشفت كأنها الجوهر إذا صفا، وانقشر، يرى الناظر وجهه غريقاً في مائه، ويقابله الهلال فينطلع في لألائه:
فانقش لما شئت على خاتم ... وحاذه تقرأه من خده
هذا إلى حياء كأنه مريب، وإطراق لا يملأ معه عينه من أحد، كأنه رقيب قريب، وصيانة كأن الجنيد من جندها، وتقوى كأن السري سرى إلى عندها.
وعلى الجملة فقل أن رأت العيون نظيره، أو دخل معه كفؤ في حظيره.
توجه إلى الحجاز، واحتفل بأثقاله، وبالغ في حمول جماله، فلم يزل إلى أن قارب المدينة النبوية، فتغير مزاجه، وتصعب عليه علاجه، واصطفاه ربه، وضم ذاك الجمال البارع تربه:
ما أنت يا قبر لا روض ولا فلك ... من أين جمع فيك الغصن والقمر
وتأسف الناس على شبابه كيف اختطف، وعلى زهر حسنه كيف اقتطف، ودفنته أمه في البقيع، وأودعته كنف الشفيع.
وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة فرحم الله شبابه، وكرم مآله ومآبه.
وكان أحد الأمراء العشرات بدمشق، ولم يكن في زمانه في موكب دمشق أحسن منه، ومات رحمه الله تعالى، ولم يبقل وجهه، وكان تقدير عمره ثمان عشرة سنة فما دونها.
الألقاب والأنسابابن العماد المقدسي: أحمد بن عبد الحميد.
وعماد الدين بن عماد الدين: أحمد بن محمد.
ابن العماد الكاتب: عز الدين حسن بن علي.
عمر بن إبراهيمابن حسني بن سلامة بن الحسيني، الإمام الأديب المسند المعمر جمال الدين أبو حفص الأنصاري العقيمي الرسعني.
ذكر أن الكندي أجاز له، وأن الاستدعاء كان بخط الموفق، وإنما ذهب منه أيام هولاكو.
سمع عليه شيخنا الذهبي والجماعة.
وسمع من المجد القزويني وابن روزبة وأبي القاسم بن رواحة، وقدم دمشق في شبيبته، وسمع من ابن الزبيدي، وعبد السلام بن أبي عصرون، ومحمود بن قرقين، والضياء الحافظ.
وقرأ العربية، ونظم جيداً، وكان يذكر في الأيام الناصرية الصلاحية يوسف، ويعد في الشعراء، وكتب عنه الصاحب كمال الدين بن العديم، وتنقل في الخدم، وكان يوصف بالديانة والعفة والأمانة. وانتهت إليه رئاسة الشعر، وغلا به من القريض السعر، وحصلت له رئاسة، واشتهر في خدمة بالنفاسة.
ولم يزل على حاله إلى أن درج إلى باريه، وراح ولك من بعده مباريه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده برأس العين سنة ست وست مئة.
وروى عنه الدمياطي في معجمه وابن الصيرفي والمقاتلي وطائفة.
وعقيمة: قرية من سنجار.
وكان قد اتفق حضور شخص من مصر يعرف بشهاب الدين بلاخصى، وولي نظر العمائر والسكر، وكان مطيلساً، وكان يحمل دواته شاب ملح، وكان يسكن جوار الملك الزاهر، فأفسد الزاهر الشاب المذكور، ووعده بخبز، فترك شهاب الدين بلا خصى، وخدم الزاهر، فلقي عنده كل سوء ولم يشبع الخبز، فقال جمال الدين العقيمي فيه:
يا شادناً ضل السبيل لرشده ... وعصى العذول سفاهة فيمن عصى
قد كنت عند بلا خصى في نعمة ... فتركتها سفهاً وجئت إلى خصى
ومن شعره:
عيون المها مني إليك رسول ... نسيم سرى بالواديين عليل
إذا ما انبرى يوري عن الروض نشره ... تقبل برديه صباً وقبول
وإن هب معتلاً لبث صبابتي ... تفهم حديث الوجد فهو يطول
وإن بان بان السفح عن أيمن الحمى ... فما مال إلا أنه ليقول
حديثاً رواه البان عن نسمة الصبا ... ومن حزني أن النسيم رسول
قلت: عكس هذا الشاعر المعنى، لأن الصبا تروي عن البان، وعن غيره مما تمر عليه.
عمر بن إبراهيم بن عمراننجم الدين البهنسي.
اشتغل بمصر، وحضر مع أخيه من أمه عماد الدين المهلبي إلى قوص، وتولى الحكم بهو وبإسنا وأدفو، وكان فقيهاً له أدب وخط حسن، و درس بالمدرسة العزية بإسنا، وأقم بها حاكماً، وبأدفو أكثر من سبع سنين.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: على طريقة مرضية، ووقعت بأسنا تركة عبد الملك بن الجبان الكارمي، فطب بسببها إلى القاهرة، فحصل له خوف شديد، ومرض بالبلينا، فرجع إلى قوص، وتوفي بها سنة عشر وسبع مئة، عن ثمانية وأربعين سنة.
عمر بن أحمد بن الخصر بن ظافرسراج الدين الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي.
سمع من الرشيد العطار، وتفقه أولاً على ابن عبد السلام، ثم على النصير بن الطباع، وأجاز له المرسي والمنذري.
وسمع منه شيخنا البرزالي وابن المطري، وخطب بالمدينة أربعين عاماً، وولي القضاء بعد ذلك ومرض، فسار إلى القاهرة، ليتداوى، فأدركه الموت بالسويس في العشر الأواخر من المحرم سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست أو سبع وثلاثين وست مئة.
عمر بن أحمد بن أحمد بن مهديعز الدين المدلجي النسائي الشافعي.
سمع من شرف الدين الدمياطي وغيره.
برع في الفقه ودقق، ونظر في الأدلة وحقق، وقاس ورجح وفرع وفرق، مع معرفة بالأصول وتوفير مواد ومحصول، وله على الوسيط إشكالات جودها، وبيض بها وجه المذهب لما سودها.
وكان زاهداً قانعاً برزقه عابداً، يحضر السماعات ويطيب، ويحصل له حال يأخذ من الوجد بنصيب.
ولم يزل على حاله إلى أن حج، فادلهم له ليل الحياة ودج.
وتوفي بمكة رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة عشر وسبع مئة.
وإشكالاته على الوسيط في مجلدين. وكان يدرس بالفاضلية والكهارية، ويعيد بالمدرسة الظاهرية.
عمر بن أحمد بن عبد الدائمابن نعمة المقدسي، الشيخ الصالح أبو حفص.
عذبه التتار بالصالحية عذاباً شديداً، ثم حمل إلى داخل البلد، فأقام أياماً يسيرة، ومات في درب القلي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. وحضر على الحافظ أبي موسى بن عبد الغني في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وسمع من ابن الزبيدي والهمداني والإربلي، وابن صباح، والناصح بن الحنبلي، وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وآخر ما قرأت عليه الثالث والرابع والخامس من الخلعيات لسماعه من ابن صباح.
عمر بن أحمدزين الدين بن الصدر شهاب الدين بن قطينة الزرعي التاجر.
توفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثامن عشر صفر سنة خمس وسبع مئة.
عمر بن أحمدالقاضي زين الدين، رئيس ديوان الإنشاء بطرابلس، الصفدي، المعروف بابن حلاوات.
كتب الإنشاء أولاً بصفد، وفاز من الدهر بالحظ والصفد، ثم نقل إلى طرابلس، فنال فيها الحظ والوجاهة والسيادة، وباهى فيها الكواكب بمعاليه وباده.
وكن من رجال الزمان إقداماً، وممن يتعب أعاديه إرغاماً، لا يهاب الأسود إذا فغرت فاها، ولا الأيام إذا أدبرت وأولته جفاها، خبيراً بمداخلة النواب، ومشاكلة الأنواع والأضراب، ما كتب قدام نائب إلا وخلبه، ونهب عقله وسلبه، وأصبح طوع مرامه، وقوساً في يده يرمي بها إلى غرضه بسهامه، ولا يرجع في المملكة لغيره في كلمة، و لا لصاحب وظيفة حركة في النفاد مصطلحة، ولا تجد في بلده أحداً يذكره إلا وهو يقول.
ذاك خليلي وذو يواصلني ... يرمي ورائي بأسهم وامسلمه
أطاعته المقادير وساعدته، وتأخرت عنه الخطوب وباعدته، ولو أخره الأجل تقدم، ولم يغادر للرؤساء غيره من متردم، فإن القاضي علاء الدين بن الأثير كان يطوي حشاه على محبته، ويرى أنه يستحق التقدم لرتبته، ولكن تقدم بين يديه فرطاً، وسطع له بارق السعد ثم سطا.
وكان فيه خدمة للناس في قضاء أشغالهم، ومبادرة إلى تلقي حوائجهم، وتمشية أحوالهم، لا يتوقف في أمر يقصد فيه، ولا يبالي إن كان تلافه فيه أم تلافيه. وكان يدعي معرفة علوم شتى، وربما تجاوز في بعض الأوقات وأفتى. وينظم وينثر، ويجري في حلبة الشعراء، وما يرى أنه يعثر، ولكنه كان بالنجامة مغرى، ويرى أنه هو بمفرده منها أكبر من أبي معشر قدراً، وهي أجود ما يعرفه، وخيار دينار يخرجه من كيس معرفته ويصرفه، والحظوظ ما تعلل، والدنيا ما تحتاج إلى تاج بالفضائل مكلل.
ولم يزل في إسعاف وإسعاد وإلطاف وإصعاد، إلى أن وصل إلى غاية ما قدر له من عمره وأعرب بعد رفعه ونصبه بجره.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس بكرة السبت رابع شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
كان هو أولاً بصفد، وله أخوان تاجران، أحدهما برهان الدين إبراهيم، وهو أوجه تاجر كان في صفد، والآخر يدعى يونس تاجر سفار، وتعلق هذا زين الدين بهذه الصناعة، وتردد إلى شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي، وقرأ عليه بعض شيء في العربية وتدرب به، وكان ذهنه جيداً، وصار يكتب الدرج عنده، فلما ورد الأمير بتخاص إلى صفد نائباً كان معه الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم، فانضم زين الدين إليه في الباطن، واستبد شهاب الدين بالوظيفة، وانفرد الشيخ نجم الدين بالخطابة، ثم اتفقوا عليه وأخرجوه من صفد، فتوجه إلى دمشق، وما كان إلا قليلاً حتى اتفق القاضي شرف الدين محمد بن النهاوندي الحاكم بصفد هو وزين الدين علي شهاب الدين بن غانم، وأوقعا بينه وبين النائب، وكتب النائب إلى مصر، وأحضر لزين الدين توقيعاً بكتابة سر صفد، وانفرد بالوظيفة.
وكان فيه مروءة وعصبية، وسعة صدر في قضاء أشغال الناس والمبادرة إلى نجاز مرادهم ومساعدتهم على ما يجادلونه، وأنشأ جماعة في صفد من أجنادها، وغيرهم، وكان ذا خبرة، وسياسة ومداخلة في النواب واتحاد بهم حتى لم يكن لأحد معه حديث. وكان هو المتصرف في المملكة، وتقدم، ورزق الوجاهة، وحظي ونال الدنيا، وجمع بين خطابة القلعة والتوقيع بصفد.
وانتمى إلى القاضي علاء الدين بن الأثير فمال إليه، ولما جاءه خبره من طرابلس بكى عليه، ولو أن زين الدين كان حياً لما انفلج ابن الأثير ما كان كاتب السر في باب السلطان غيره. ولما قال له السلطان من يصلح لهذا المنصب؟ قال: أما في مصر فما أعرف أحداً، وأما في الشام فما كنت أعرف أحداً غير ابن حلاوات وقد مات.
وكان ابن حلاوات قد داخل نواب صفد كثيراً، ويقع بين النواب وبين تنكز، وعزل جماعة منهم، ثم لما جاء إليها الأمير سيف الدين أرقطاي نائباً وقع بينهما، واتصلت القضية بالسلطان وهي واقعة طويلة، فرد فيها الأمر إلى تنكز، فطلب ابن حلاوات إلى دمشق وقد امتلأ غيظاً عليه، ولما دخل عليه رماه بسكين كان في يديه لو أصابته جرحته أو قضت عليه، ورسم علي وصادره، فوزن ثمانية آلاف درهم، فسعى له الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب والقاضي علاء الدين بن الأثير مع السلطان، واتفق أن مات موقع طرابلس في تلك الأيام فما كان بعد ثمانية أيام تقريباً حتى جاء ابريد بالإفراج عنه، وإعادة ما أخذ منه، وهذا أمر ما اتفق لغيره في تلك الأيام، وتجهيزه إلى طرابلس موقعاً، وكان المرسوم مؤكداً، فما أمكن تذكر إلا اعتماد ما رسم به في حقه، وتوجه إلى طرابلس رئيس ديوان الإنشاء، ودخلها في مستهل جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبع مئة، وأقام بها في وجاهة ورياسة وحرمة وافرة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان يعرف النجامة وعلم الرمل جيداً، ويدعي أنه من جماعة الشيخ محيي الدين بن عربي، وينتمي إلى مقالته، ويرى رأيه في الوحدة، ولم يتفق لي به اجتماع خاص، بل رأيته غير مرة، وسمعت خطبه كثيراً.
وأخبرني من رآه أنه كان يتعذر علي كتابة اسمه عمر، فيكتب صورة نمر، ثم بعد ذلك يركب عليها حرف العين، لتتكمل له صورة عمر.
ولما ورد في تلك المدة إلى دمشق دخل الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم إلى الأمير سيف الدين تنكز، وشكى منه شكوى بالغة، وقال: يا خوند! هذا فعل بي، هذا اعتمد معي، هذا حبس أولادي في قلعة صفد، وقيدهم، وزاد في ذلك، ثم إنه بعد ذلك اجتمع بقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، فقال له: يا شيخ شهاب الدين! أنت من بيت فقراء وصالحين، وهذا الذي فعلته بهذا المسكين ابن حلاوات بين يدي هذا الملك الجبار، ما كان يناسب طريقك، فقال له: يا مولانا قاضي القضاة لا تكن حليماً عند غضب غيرك، هذا حط رجلي في المعصار وعصرني، ولو كان ذلك على حوافر بغلتك ضرطت ناراً.
وكان قد كتب إليه شيخناً نجم الدين كتاباً يحرضه عليه فيه ويغريه به، ومنه:
ألا طعان ألا فرسان عادية ... إلا تجشوكم بين التنانير
فكتب الجواب إليه عن ذلك، ومنه أبيات وهي: ....
ودخل زين الدين بن حلاوت في تلك النازلة وهو بدمشق إلى الصاحب شمس الدين، وقال: يا مولانا الصاحب أنا ما بقيت أعمل صنعة التوقيع، اعملوا إلي معلوماً ودعوني في هذا الجامع الأموي أشغل الناس في ستة عشر علماً، وكان شهاب الدين بن غانم حاضراً. فقام وقال: يا مولانا الصاحب هذا غلط منه، وإنما يعرف ثمانية عشر علماً لأنها اثنا عشر برداة وست أواذات في علم النغم، وهذا إلا والده مشبب وهو مطنكل، وأنشده أبياتاً منها:
وإذا رأى المزمار هزت عطفه ... نسب إلى الأجداد والآباء
ومن شعر زين الدين بن حلاوات:
ولابسة البلور ثوباً وجسمها ... عقيق وقد حفت سموط لآلي
إذا جليت عاينت شمساً منيرة ... وبدراً حلاه من نجوم ليال
قلت: هذا القول فاسد؛ لأن البلور جسمها وهو الزجاج، ولباسها العقيق، وهو الخمرة، وأحسن من قول زين الدين رحمه الله تعالى قول الأول:
وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر السما بكواكب الجوزاء
ووجدت منسوباً إلى زين الدين رحمه الله تعالى:
خصت يداك بستة محمودة ... ممدوحة بالبأس والإحسان
قلم ولثم واصطناع مكارم ... ومثقف ومهند وسنان
وأنشد له يوماً بيتاً القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر لما فتح الأشرف قلعة الروم، وهما:
ألا أيها الحصن المنيع جنابه ... تطهرت من بعد النجاسة والشرك
وأمسيت تجلى بالخليلين دائماً ... خليل إله العرش والبطل التركي
فقال زين الدين رحمه الله تعالى:
قلعة المسلمين حزت كمالاً ... وجمالاً ورفعة بهاء
بالخليلين صرت تجلي مساء ... كعروس زادت سنا وسناء
قلت: ما كفاه أنه ما قال شيئاً يسمع حتى لحن وحذف النون من تجلين.
عمر بن آقوش
الشاعر زين الدين أبو حفص الشبلي الدمشقي الذهبي الشافعي المعروف بابن الحسام الافتخاري.
رأيته في صفد، واجتمعت به في دمشق غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وسمع الحديث على الحجار وغيره. وكان فيه تودد وتقرب، وحسن صحبة وطهارة لسان.
وكان بعضهم يلقبه براطيش، وبعضهم يسميه شراشط.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
وسألته عن مولده، فقال لي: في سنة أربع وثمانين وست مئة.
أنشدني من لفظه لنفسه يودعني عند توجهي إلى الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي القلب نيران لفرط غليله
بكيت وهل يغني البكا عند هائم ... وقد غاب عن عينيه وجه خليله
وكتبت أنا إليه من الرحبة:
كتبت والدمع قد غطى على بصري ... وبت فيك نجي الهم والفكر
وأشتهي من جوى قلبي وحرقته ... لو أشتري ساعة بالعمر من عمر
وأنشدني له:
قد أثقلتني الخطايا ... فكيف أخلص منها
يا رب فاغفر ذنوبي ... واصفح بحلمك عنها
وأنشدني له:
يا من عليه اتكالي ... ومن إليه مآبي
جد لي بعفوك عني ... إذا أخذت كتابي
وأنشدني له:
يا سائلي كيف حالي في مراقبتي ... وما العقيدة في سري وإعلاني
أخاف ذنبي وأرجو العفو عن زللي ... فانظر فبين الرجا والخوف تلقاني
أنشدني له:
يا سيد الوزراء دعوة قائل ... من بعد إفلاس وبيع أثاث
أبطت حوالتكم علي كأنها ... تأتي إذا ما صرت في الأجداث
فإذا أتت من بعد موتي فاحسنوا ... بوصولها للأهل في ميراثي
وأنشدني ما كتبه للصاحب شرف الدين يعقوب يشتكي من أيوب:
بليت بالصبر من أيوب حين غدا ... ينكد العيش في أكلي ومشروبي
وزاد يعقوب في حزني لغيبته ... فصبر أيوب لي مع حزن يعقوب
وأنشدني له:
إذا ما جئتكم للغناء فقري ... تقول أبشر إذا قدم الأمير
وقد طال المطال وخفت يأتي ... أميركم وقد مات الفقير
وأنشدني من لظفه له في الحمى:
زارتني الحمى فقلت لها ابعدي ... فغدت تخادعني بلثم شفاهي
قالت أروح فقلت هاذ بغيتي ... قالت أعود فقلت لا بالله
وأنشدني من لفظه له:
أمر على المنازل وهي تشكو ... من الأحباب ما أشكو إليها
كلانا يشتكي لهم فراقاً ... فما عطفوا علي ولا عليها
وأنشدني من لفظه له:
لي حبيب ما زال يتعب قلبي ... فرأيت السلو عين الصواب
تبت لله عنه توبة صدق ... واستراحت عواذلي من عتابي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
إذا أضمر المحبوب هجري وجفوتي ... وعاد ولم يجز المحبة بالبغض
أقول له أحسنت فيما فعلته ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
عمر بن أبي الحرمابن عبد الرحمن بن يونس، الشيخ الإمام العلامة شيخ الشافعية زين الدين أبو حفص الدمشقي المعروف بابن الكتاني..
حدث عن ابن عبد الدائم بالإجازة.
وسمع إسماعيل بن أبي اليسر، وإسماعيل بن المظفر، وعمر بن حامد القوصي، وإسرائيل بن أحمد، ومظفر بن أبي الدل الصالحي، والقاضي حسين بن علي القرشي وغيرهم.
تفقه وناظر، وبرع في الأصول والفروع، وذاكر وحاضر، وتحول من دمشق إلى مصر بعلم جم، وورد القاهرة، فأخجل اليم الذي ثم، وحل بأفقها فاستحيا من كماله البدر الذي تم.
وكان جيد الذهن كثير النقل لمذهبه، بارعاً في التفقه، لا يثبت له أحد إن ناظره أو تمسك بسببه، مائلاً إلى الدليل والحجة، قائلاً بالبحث لا يرى التقليد من عظيم المحجة، يوهي بعض المسائل لضعف دليلها، وخفاء صحتها، وظهور عليلها، يلقي دروساً مفيدة، ويأتي بأشياء فوائدها عتيدة، لا يحتمل أن أحداً يعارضه أو يراسله أو يقارضه، فينفر فيه ويزبره، يكسره بالقول ولا يجبره.
وكان في خلقه زعارة وشراسة، وحدة لا ينكس الكبر لها رأسه، لا يخضع لأمير ولا لقاض، ولا ينفعل لإبرام ولا لانتقاض، وله في ذلك حكايات مشهروة، ووقائع بين أهل مصر مأثورة، إلا أنه فرط في علم الحديث من حيث الرواية، وأهمل أمره، ولم يكن له فيه عناية، فكان صغار الطلبة يحضرونه دروسه، ويعيبونه عليه كثرة تصحيفه، وما يقع له من الخلل في أسماء الرجال، ولا يجسرون على تعنيفه، وكان به وسواس في تكبيره الإحرام، وتطويل حتى يفوته بالركون الإمام.
ولم يزل على حاله إلى أن دخل في العدم، وكثر عليه التأسف والندم.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة.
مولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وكان قد اشتغل بالفقه والأصولين على ابن أبي الثنا محمود بن عبيد الله المراغي، والعلامة الشيخ تاج الدين الفزاري، وغيرهما.
ودخل إلى مصر، فولاه قاضي القضاة ابن بنت الأعز قضاء الحكر مدة، ثم استنابه العلامة ابن دقيق العيد في مصر، وولاه دمياط الشرقية، ثم استنابه في القاهرة، ثم إن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ولاه الغربية، ثم إنه وقعت له بالمحلة واقعة، فعزل نفسه، وأقام بالقاهرة، وترك الاجتماع بقاضي القضاة ابن جماعة، وصار يتكلم فيه ويأسى إليه، وصارت الإساءة له عادة، فاستعملها مطلقاً، وتعدى إلى الأموات، ونفر الناس منه.
وتصدر بالجامع الأموي الحاكمي مدة، وأعاد بالقراسنقرية، ثم ولي تدريس المنكوتمرية.
ولما مات أبو الحسن بن جابر ولاه الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك درس الحديث بالقبة المنصورية، وذلك في شهر رجب سنة خمسة وعشرين وسبع مئة، فتكلم الناس في ذلك. وكان الطلبة الصغار يضحكون منه، ويجيؤون إلى العلامة شيخنا أبي الفتح، ويقولون: صحف اليوم في كذا. وهم في كذا، وقال في ذلك الفاضل كمال الدين الأدفوي:
بالجاه تبلغ ما تريد فإن ترد ... رتب المعالي فليكن لك جاه
أوما ترى الزين الدمشقي قد ولي ... درس الحديث وليس يدري ما هو
وولي مشيخة خانقاه طيبرس التي على البحر، وشكا منه بعض أولاد الواقف إلى الحاجب، فعزل منها، وكان و قد فهم من الناس هذا الحال، فيقول: ولونا ما يضحك فيه الصبيان علينا، ومنعونا ما نضحك فيه على الأشياخ.
وكان شيخنا فتح الدين إذا ذكروا أمر وسوسته يقول: هذا تصنع. ولما ولي خطابة جامع الصالح برا باب زويلة ترك الوسوسة ضرورة.
وكان في القضاء محمود السيرة، ظاهر العفة، طاهر الكف، وكان كثير الاشتغال، دائم المطالعة، وأولع في آخر عمره بمناقشة الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، وكتب على الروضة حواشي، ولما وقف عليها شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى أجاب عما وقف عليه من ذلك قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الروضة: وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة. وشك هل هو قلتان أو لا، الذي جزم به صاحب الحاوي وآخرون أنه نجس، لتحقق النجاسة، ولإمام الحرمين فيه احتمالان والمختار، بل الصواب الجزم بطهارته، لأن الأصل طهارته وشككنا في نجاسة منجسه، ولا يلزم من النجاسة التنجيس.
قال الشيخ زين الدين الكتاني رحمه الله تعالى: وإذا وقع في الماء القليل نجاسة وشك هل هو قلتان أو لا لفظ متناقض، وحكمه بالطهارة باطل إذ فرض الماء قليلاً، والقليل دون القلتين، وإلا فإن كان قلتين فهو كثير، وإن كان الماء دون القلتين وحصل فيه نجاسة غير معفو عنها فهو نجسن لا خلاف فيه، فعلم من هذا ا، قوله: الصواب الجزم بطهارته باطل، وكان صوابه أن يقول: ما شك في كثرته ووقعت النجاسة فيه، ولو فرضه لذلك، وهو مراده بحكمه بأن الصواب الجزم بطهارته غير صواب، بل الصواب: الحكم بالنجاسة، لأن النجاسة محققة، وبلوغ الماء قلتين الأصل عدمه، ولا يجوز للآخذ بالاستصحاب مع نفس ما يعارضه، وهو نفس وقوع النجاسة، إذاً لا خلاف في أن شرط الاستصحاب عند القائلين به أن لا يقطع بوجود المنافي له.
وقوله: لا يلزم من النجاسة التنجيس، إنما هو في نجاسة معفو عنها لاقت ماء كثيراً، ولم يتغير، وليس الكلام في ذلك إذ كثرة هذا الماء مشكوك فيها، بل ملاقاة النجاسة سبب للتنجيس، وقضية السبب إعماله إلا لمانع والأصل عدم المانع، وهو الكثرة، فصار في جانب التنجيس أصلان: عدم بلوغ الماء قلتين، وإعمال السبب الثاني الذي هو النجاسة، ومن جانب الطهارة أصل مستصحب مع يقين ما يعارضه، واستصحاب مثل هذا ممنوع، فصار الظاهر الحكم بالنجاسة وملاقاة النجاسة محسوسة، فتصير هذه الصورة كالغدير مع الظبية التي بالت فيه، ووجد الماء متغيراً، واحتمل التغير بول الظبية، وطول المكث، وقد نص الشافعي على نجاسته، وقطع به جمهور الأصحاب، ومع هذا البحث الراجح الواضح كيف يقول: الصواب الجزم بالطهارة، فلا الصواب الجزم بالطهارة، ولا الظاهر، فضلاً عن الجزم، وقد قال الغزالي في الوسيط: الأصل بقاء النجاسة إلى أن يتبين الكثرة الدافعة، أو يقال الأصل طهارة الماء إلى أن يستيقن الصنان.
والاحتمال الأول أظهر، فلو أصاب النووي لم يعتقد الجزم بالطهارة؛ بل لو تردد معذوراً مع أن الصواب الجزم بالنجاسة؛ لكنه وقف به نظره أو وقفه، وإنما بسطت وأسهبت لئلا يغلو فيه غر.
قال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى: أما المناقشة في لفظ قليل فصحيحة، وكان الأولى حذفها، لكنه تجوز فيها، واستصحب اسم القليل مع الشك، أو لأنه يعد في العرف قليلاً وإن لم يكن في الشرع كذلك، والإمعان في الحكم بنجاسته إذا كان قليلاً لا معنى له، إذ لا نزاع فيه، وليس بمراد، وأما كون الصواب الحكم بنجاسته ما شك في كثرته فيرد عليه أنه حكم بالنجاسة مع الشك إذ الأصلان متعارضان، وهما طهارة الماء وقتله المقتضية للتنجيس، وهنا إذا تعارض أمران متضادان وجب التوقف، فكيف والقلة ليست مضادة للطهارة؛ بل مقتضية لضدها في هذه الصورة، وهذا معنى يصلح لترجح الطهارة، لأن المعارض لها أضعف منها، لكونه مقتضياً للضد لا نفس الضد، وإنما كان أضعف لكون المقتضي قد يتخلف المقتضى.
وقوله: إن أصل الطهراة تيقناً ما يعارضه مع يقين ما يعارضه ممنوع إذ الغرض الشك، ومع الشك كيف يدعي اليقين.
وقوله: في جانب الطهارة أصل مستصحب مع يقين ما يعارضه، إن أراد ما يرفعه ممنوع، وإن أراد ما يعارضه ويقاومه فيحصل الشك ويمتنع الحكم بالنجاسة، على خلاف غرضه، فإنه متى تقاومت المعارضة لا يجوز الحكم بالنجاسة، ويبقى الحال على ما كان عليه من الطهارة.
وقوله: في جانب التنجيس أصلان، عدم بلوغ الماء قلتين، وإعمال السبب الذي هو النجاسة، أعلم أن عدم بلوغ قلتين وحده ليس بأصل معارض للطهارة بل بما ضم إليه من السبب، والسبب وحده لا يسمى أصلاً، وإنما يسمى ظاهراً، فإما أن يجعله مع عدم بلوغ الماء قلتين سبباً واحداً في التنجيس، وحينئذ يعارضه أصل الطهارة، وإما أن يجعله سبباً، والقلة شرط أو الكثرة مانعة وحينئذ يقال: إن الشرط أو انتقاء المانع يكتفي فيه بالأصل إذا لم يعارضه أصل آخر وهنا عارضه أصل آخر، والسبب وحده بدون شرطه أو انتفاء مانعه لا يعمل، وإما أن يجعل وقوع النجاسة محل الحكم ويقاوم، عليها أمران: أحدهم يقتضي التنجيس، والآخر ضده، فيقف الحكم. وعلى كل تقدير فيجب أن لا يحكم بالنجاسة، فخرج من هذا أن دعواه في جانب التنجيس أصلان ليس بصحيح، ولو قال: أصل وظاهر لكان أصح في العبارة، ويتوجه عليه المنع بأن ذلك إنما يكون في أصل مستقل بظاهر مستقل، وليس هنا كذلك؛ لأن القلة ليست بأصل، بل بما ضم إليها، على ما تبين.
وأما مسألة الظبية فإنما حمنا بالنجاسة لأن بول الظبية محقق، و استناد التغيير إليه ظاهر مستقل، لأن الأصل المعارض له معارض بالأصل النافي لطول المكث، ولا لما يقاوم الأصل إن علمنا بالسبب الظاهر المجرد الذي لا معارض له، فأين هذه المسألة من تلك، وقد جزم الصميري بالتنجيس متمسكاً بأن الأصل القلة، وسبق الغزالي دعوى ظهور التنجيس لتمسك بالقلة للتنجيس إمام الحرمي، فاقتصار الكتاني على كلام الغزالي دليل على أنه لم يقف على غيره.
قال كمال الدين جعفر الأدفوي: كان منازعة في النقل، قلت له يوماً: قال الرافعي إن أكثر الأصحاب على جواز النظر إلى الأجنبية في الوجه والكفين إذا أمن الفتنة، فأنكر ذلك، ثم اجتمعت به ثاني يوم بالمدرسة القراسنقرية، فقال: الرافعي قال ما قلت، ولكن من أين للرافعي هذا، وشرع يغالب ويتغلب. قال: وقلت له يوماً: قال النووي: الأصح العفو عن الكثير من دم البراغيث، ونحوها مطلقاً فنازع، وحضر منهاج النووي فرآه، فشرع يؤول.
وكان بعض الطلبة يقرأ عليه يوماً في أن المعير إذا رجع والذرع قائم، ولم يكن يحصد قصيلاً فإ(نه يبقى إلى الحصاد، فقال هو: واختلف ههنا: هل عليه الأجرة، وما قالوا بمثل ذلك فيما إذا باع مالك الأرض وفيها زرع فإنه يبقى ولا أجرة، وطلب الفرق. فقلت: الفرق أن البائع لما زرع تصرف في ملكه، والمشتري دخل على الإبقاء، والتصرف كان في الملك، فلا يناسب أجره، والمستعير تصرف في ملك غيره، والمالك بصدد الرجوع في كل وقت، لكن التصرف كان الإذن، فلا يناسب قلع الزرع وضياعه، ولا إشغال أرض المالك مجاناً، فجمعنا بني المصلحتين، فأبقيناه حتى لا يفسد، وألزمناه الأجرة حتى لا يشغل أرضه مجاناً، فنازع نزاعاً طويلاً، لا بالرد النظري، إلا بالإساءة. قال: فتركت الاجتماع به. ومع ذلك فكان محققاً مدققاً كثير النقل، يستحضر النظائر والأشباه، لم يكن في الفقه في زمنه مثله، انتهى.
قلت: ما صنف شيئاً ولا انتفع به أحد من الطلبة، وكان قل أن يفتي أحداً، ويقول لمن يأتيه بالفتوى: أنا ما أكتب لك عليها، روح إلى القضاة والى الذين لهم في الشهر من المعلوم كذا وكذا، وربما تحيل عليه بعض الناس فيما يرومه منه بأن يستصحب معه شاباً حسن الصورة فإنه كان يميل إلى ذلك لكن مع دين وعفاف وتصون كثير.
ولما دخلت إلى الديار المصرية قلت للأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي رحمه الله تعالى: أريد أن أرى الشيخ زين الدين، وأجتمع به، فقال لي: ما تنتفع به ولا تنال منه مقصودك، ولكن اصبر، أنا أروح معك إليه، فتوجهنا إليه إلى داخل باب السعادة إلى دار الفارقاني، فصعد بي في سلم حجر أعلاه طبقة، فطرق الباب، فقال من؟ قال: محمد بن حنكلي فقال: ومليحك معك؟ قال: نعم، فقام، وفتح الباب، وبش بنا وأجلسنا، وانشرح، وأحضر شراب ليمون، وفيه قلب فستق، وشراب حماض، وفيه قلب بندق، وأطعمنا من ذلك، وأحضر طعاماً شهياً طيباً وانشرح لنا مدة إقامتنا عنده لما كان معنا بعض مماليك الأمير، وهو وضيء الوجه، وفارقنا رحمه الله تعالى.
وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يثني عليه.
وقلت أنا فيه:
يا من يروم الفقه برد أصوله ... رقمت حواشيه بكل بيان
عرج بزين الدين تلق دروسه ... حللاً محررة من الكتاني
عمر بن حسن بن عمر بن حبيبالعالم المحدث الفاضل زين الدين أبو حفص الدمشقي، محتسب حلب.
سمع من ابن البخاري، وابن شيبن، وعلي بن بلبان، وطائفة. وعني بالحديث، ورحل وسمع من ابن حمدان، والأبرقوهي، وسدة بنت درباس، وخلق، ونسخ وحصل الأجزاء، وخرج له شيخنا الذهبي معجماً عن أزيد من خمس مئة شيخ بالسماع.
وكان كثير الأسفار، فدخل في آخر عمره إلى الروم، ثم إلى مراغة، فتوفي هناك رحمه الله تعالى في .... سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة تقريباً.
عمر بن داود بن هارون بن يوسفالقاضي زين الدين أبو حفص الصفدي، كاتب الإنشاء بالشام ومصر أصله من نين قرية من مرج بني عامر من صفد، بنونين، بينهما ياء آخر الحروف على وزن بين ودين.
كان كاتباً ذكياً، فاضلاً سرياً، يقع على المقاصد، ويرقب المجرات ويراصد، إذا أخذ كتاباً تأمل فضوله، وتصور محصوله، وأجاب عنه بأجوبة بليغة ساده، دالة على غزارة المادة، وكان قلمه بليغاً إذا كتب مسترسلاً من غير سجع، واتكل على ما عنده في ذلك من الطبع، لأنه يأتي بما يكتبه، بليغ المعاني، مستوفي المقاصد، تام المراد، غير مخل ببيان ولا فاسد.
أما نظمه فكان قليلاً مرذولاً، بطيئاً مهزولاً، ونثره كان أجود منه؛ إلا أنه كان وعر الجادة، ناب عن الطبع غير سار في المادة، وخطه أيضاً قوي منسوب، لكن ما عليه حلاوة، ولا له ما لخط غيره من اللطف والطلاوة؛ إلا أنه كان صبوراً على الكتابة، لا يسأم تواترها، ولا يمل تكاثرها، يقوم بتنفيذ ما في الديوان، ويسد مهماته على أحسن ما يكون وأسده، ولو بلغت إلى كيوان.
تنقل من صفد إلى دمشق إلى غزة إلى الرحبة، ثم إلى دمشق، ثم إلى مصر إلى دمشق إلى مصر كرتين هبة بعد هبة، مع عطلة تخللت ذاك، وكاد الأمر يكون حتماً بغير انفكاك، ولكنه لطفت به المقادير، وأعادت اسمه إلى الدساتير.
ولم يزل على حاله إلى أن بتر الله عمر عمر، وانقبض ابنساطه في الحياة وانقبر.
وتوفي رحمه الله وسامحه بالقاهرة في ثامن عشري صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة، بعد مرض طويل قاسى منه شدة.
ومولده في سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
قدم من قريته إلى صفد، وقد عذر في عام ستة عشر وسبع مئة فيما أظن أو قبل ذلك بقليل، ولازم شيخنا نجم الدين الصفدي، وأقام في بيته يبيت ويصبح، واشتغل عليه وكتبه وهذبه ودربه، فكان شيخنا في تلك المدة كاتب سر صفد، فاستكتبه عنده، وتخرج. وكان ذكياً فذاق هذه الصناعة، ومهر فيها. ولما بطل الشيخ نجم الدين من التوقيع كتب زين الدين الدرج للأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الدواوين بصفد ووالي الولاة، ولما هرب الأمير علم الدين سنجر الساقي من صفد فاراً من نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي توجه زين الدين معه، فأقام بدمشق مدة يتردد إلى شيخنا شهاب الدين أبي الثناء محمود والى القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وعرف بين أهل دمشق، وعامل أهلها معاملة جيدة إلى أن أجمعوا على الشكر منه والتوجع له في بطالته، فأقام بها مدة، وحضر شمس الدين الجاولي إذ ذاك نائب غزة، فرأى خط زين الدين وعبارته فأعجبه ذلك. وكان زين الدين شديد المداخلة للناس، لطيف المؤانسة جريا في الإدلال والكلام والمشاركة مع صاحب المجلس والانخراط في سلكه، فخاف ابن منصور من تقدمه، فعمل عليه وأعاده إلى دمشق. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، جهزه إلى الرحبة موقعاً بإشارة القاضي شمس الدين محمد بن شيخنا شهاب الدين محمود رحمه تعالى بعد ما أقام بدمشق بطالاً تسع سنين فأقام بها قريباً من سنتين.
ولما توجه القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى مصر قال الأمير سيف الدين تنكز لهما: ما بقي في الديوان أحد، فذكراه له، وقالا: يا خوند، كاتب الرحبة زين الدين الصفدي يصلح أن يكون في باب مولانا ملك الأمراء. وكان قد خلا مكان القاضي جمال الدين بن رزق الله من ديوان الإنشاء بدمشق لتوجهه إلى توقيع غزة، فرسم بإحضار زين الدين إلى دمشق، فجاء إليها، وأقام بها دون السنة، ثم إن القاضي شهاب الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فأقام يكتب بين يديه قريباً من ثماني سنين إلى أن رسم السلطان الملك الناصر محمد للقاضي شهاب الدين بن فضل الله بأن يلزم بيته، فعمل عليه هو الآخر، وأخرجه السلطان من الديوان، وأقام في القاهرة مدة ملازم بيته، ثم إن طاجار الدوادار أخرجه من القاهرة إلى صفد بطالاً، فأقام فيها إلى أن حضر القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، فتحدث له القاضي شهاب الدين وأحضره من صفد إلى دمشق، فبقي فيها بطالاً إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد فتحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله مع الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام، فأمر له بالدخول إلى ديوان الإنشاء، فأقام به إلى أن رسم السلطان الملك الصالح بإبطال من أحدث عبد أبيه السلطان الملك الناصر، فبطل، ولازم بيته مدة، ثم إنه دخل مع من دخل فيما بعد.
ولم يزل يكتب في ديوان الإنشاء بدمشق إلى أن حضر القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله، فسلم إليه الأمر، ورأى من السعادة ما لا رآه في عمره مدة ثلاث سنين. ثم إن القاضي علاء الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فتوجه هو ووالده القاضي شهاب الدين أحمد في البريد يوم عيد الأضحى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فأقام بها موقعاً في الدست، وولده في جملة كتاب الإنشاء، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكنت قد كتبت إليه إلى دمشق من صفد:
عن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
وكتبت إليه مع غلام حسن الوجه وهو بغزة:
يا نازحاً صورته في خاطري ... فرميت للتصوير بالنيران
إن لم يبلغك النسيم تحيتي ... فلقد أتاك بها قضيب البان
وكتب هو إلي من دمشق وأنا بصفد سنة ست عشرة وسبع مئة:
أشتاق من دون الأنام خليلا ... فلذاك أصبو بكرة وأصيلا
مولى رحلت وسرت عن معروفه ... فعدمت من إحسانه تنويلا
لو كان في عصر مضى لم يعتمد ... إلا على ألفاظه الترسيلا
هو فارس في فنه كم جدل الأقران في ميدانهم تجديلا
ليس اليراع بكفه في طرسه ... إلا حساماً هزه مصقولا
فإذا ترسل خلته من لطفه ... أضحى يدير على الأنام شمولا
نبت الكتابة عن سواه فلم تجد ... إلا بضافي الظل عنه بديلا
فلذاك وجه الدهر راح بفضله ... لمن اجتلاه أو رآه جميلا
أرجو اجتماع الشمل منه لأنه ... قد لا يكون به الزمان نحيلا
والله ما لاحت بروق في الدجا ... إلا تجدد لي بكى وعويلا
ولربما سمح الزمان بعودتي ... فأبل من شوقي إليه غليلا
لا زال جودك بالمرام كفيلا ... ولطيف صنعك بالأنام جميلا
أنس قريضك مذ تطلع نيراً ... بسما البديع كثيراً وجميلاً
قط اليراع لسانه عن وصفه ... مذ مد باعاً في البديع طويلا
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
يا سيداً أضحى عظيم فخاره ... أبداً على هام العلا إكليلا
وكسا برود النظم من ترصيعه ... غرر البيان وزادها تحجيلا
لاحت تباشير الصباح بطرسه ... من أسطر أفنيتها تقبيلا
راقت محاسنه ورق شمائلا ... فغدا يمج من البيان شمولا
أما التشوق والحنين فلا تسل ... فالخطب منه لا يزال جليلا
مذ غبت عني فالدموع على الولا ... لو كن سيلاً ما وجدن مسيلا
وتلهب الزفرات في طي الحشا ... خلى محل الصبر عنك محيلا
فاسعف بقربك إنه جل المنى ... لتكيد ضداً أو تسر خليلا
فالجسم في صفد أقام وقلبه ... بل قد تشحط في دمشق قتيلا
وكتبت أنا إليه من صفد:
يا بارقاً سال في عطف الدجى ذهبا ... أذكرتني زمناً في جلق ذهبا
لئن حكيت فؤادي في تلهبه ... فلست تحيكه لا وجداً ولا حربا
ويا نسمياً سرى والليل معتكر ... وهب وهناً إلى أن هزني طربا
أراك تنفح عطراً في صباك فهل ... تركت ذيلاً على جيرون منسحبا
أم قد تحملت من صحبي تحيتهم ... فكان ذلك في طيب الصبا سببا
قوم عهدت الوفاء المحض شيمتهم ... وإن شككت سل العلياء والأدبا
صرفت إلا عناني عن محبتهم ... وبت نضواً حيلف الشوق مكتئبا
لا الدار تدنو ولا السلوان ينجدني ... وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا
أحبابنا إن ونت عني رسائلكم ... فلست أسأل إلا الفضل والحسبا
وحياتكم ما لنفسي عنكم بدل ... كلا ولا اتخذت في غيركم أربا
أعيذ ودكم من أن يغيره ... نأي ولو جردت من دون ذاك ظبا
لعل دهراً قضى بالبعد يجمعنا ... وقلما جاد دهر بالذي سلبا
أرضى بحكم زماني وهو يظلمني ... فيكم وأجني ببعدي عنكم التعبا
ولن يظفرني إلا بودكم ... يا حيرتي فيكم إن رد ما وهبا
نسيتموني ولم أعتد سوى كرم ... منكم يبوؤني من فضلكم رتبا
حاشاكم أن تروا هجري بلا سبب ... أو تجعلوا البين فيما بيننا حجبا
عاقبتموني ولا ذنب أتيت به ... فقل عن الصخر إذ يقسوا ولا عجبا
عودوا إلى جبر كسري لا فجعت بكم ... فقد لقيت ببعدي عنكم نصبا
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
يا خير من خط في الأوراق أو كتبا ... وخير من حاول العلياء والأدبا
ومن علا فغلت فيه مودتنا ... وفاق فضلاً وفات العجم والعربا
أنت قصديك الغراء باسمة ... عن نقط أحرفها لما حكى الحببا
فرنحت أنفساً بالبعد قد تلفت ... وحركت كل عطف قد قسا طربا
فهل بعثت بعتب جاء عن قلق ... أو لطف نظمك قد أهدى نسيم صبا
حاشى المودة أن يعتادها ملك ... أو أن يكون النوى في مثله سببا
وإنما الدهر بالإزراء حاربني ... وجار في الحكم لما بت مغتربا
وما ترق على ذلي عواطفه ... ولا تمد إلى العلياء لي طنبا
وكلما قلت قد لينت شرته ... يزيد ناري على تأجيجها حطبا
فاعذز فإنك أولى الناس كلهم ... ببسط عذري إن لم أبعث الكتبا
فأنت تعلم أني قد جعلتك من ... دون البرية في الدنيا أخاً وأبا
فلا تؤاخذ إذا ما هفوة عرضت ... ممن يكون إلى علياك منتسبا
وكتبت أنا إليه من الرحبة أهنئه بمولود ذكر:
هناء به وجه الزمان تهللا ... وبشرى بها الإقبال وافى وأقبلا
فهنئت مولوداً أتى فتشوفت ... إليه عيون الفضل والمجد والعلى
وأكرم بنجم لاح فينا ومن يقل ... بنجل فحرف الميم باللام بدلا
إذا ضوأ الآفاق نور هلاله ... فكيف إذا ما صار بدراً مكملا
سيرضيك في أفعاله ومقاله ... إذا طال في أوج العلا أو تطولا
وترعف أقلام السيادة كفه ... ويرعف أعداء ويرعد ذبلا
ويستخدم البيض الرقاق يراعه ... إلى أن يرد الصعب سهلاً مذللا
ويسعى إلى أبوابه السعد صاغراً ... ويأتي إليه وهو طفل تطفلا
يقبل الأرض وينهي أنه جلس بهذه البشرى على سرر السرور، والتحف منها بحبر الحبور، وملأ كفه بالدرر من هذه الأفراح، وملأ طرفه بالبدور، ونطقته هذه المسرات بالمحامد فارتجل وارتجز، وأمكنته الفرصة من التهاني، فانتهب وانتهز، وقرن الهناء بالدعاء فابتهج وابتهل، تخير ساعات الإجابة فانتقد وانتقل، وكيف لا يبتهج المملوك بمخدوم تجدد، ويتمسك بفضل تعدد، ويسر بدوح تفرع، وإن كان أصله بالمزايا تفرد، وهو هذا إلا بيت تمد في العلياء أطنابه، ترفع في السيادة أعلامه وقبابه، وتتسع لبني الآمال ساحاته ورحابه:
وهذا هدية رب العلا ... فثق بهدايا هداياته
وما أقول إلا أن مولانا ليث وقد أشبل، وبحر زخر لجه حتى مد بجدول، ومن حرمان المملوك أنه ما شافه السمع الكريم بالتهاني، و لا فاز برصد هذا الهلال كيف يترقى إلى الإبدار على الدقائق والثواني، و لا عاين لسلوك المحبين إليه طريقة، ولا حضر لهذه الجوهرة النفيسة يوم عقيقة، وما ضر الأيام لو كنت لجوهره عرضاً أدنى، أو لو ساعفت بالقرب فأكون حاضراً بالصورة إذ قد حضرت بالمعنى، والله تعالى يمتع عينه الكريمة بهذه القرة، ويهبه أمثالها حتى يرى في كل ذرة من الزمان دره، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب عن ذلك:
أتاني كتاب منك كالبدر يجتلى ... فأصبحت أجلوه على سائر الملا
حكى الروض أمس بالأزاهر ناضراً ... أو العقد أضحى بالجمان مفصلا
يدير على سمع الأنام سلافة ... من القول فاتت منك مسكرة الطلا
لو أن أبا تمام أبصر حسنه ... لما قال في عصر تقدم أو خلا
تخال به برداً عليك محبراً ... وتحسبه عقداً عليك مفصلا
تهن به عبداً لعبدك قد أتى ... فناهيك من مولى به قد تطولا
لقد زاد عبد في عبيدك إذا أتى ... فتمم عداً حين جاء تكملا
وإني لأرجو أن يفوء بخدمة ... يفوق بها فوق السماكين منزلا
تربيه مملوكاً وتنشيه خادماً ... ويكفيه هذا للمعالي توسلا
وكتب هو إلي من صفد وأنا مقيم بالديار المصرة بعد ما خرج إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقد ظن أن لي في خروجه مدخلاً، وعلم الله تعالى كاف:
إن كان ظنك أنني لك ظالم ... فارحم لأن تسمى لأنك راحم
حسب المسيء من القصاص بأنه ... جرح بجرح والسعيد مسالم
كم قد حرصت على التنصل عندما ... وقع العتاب فما أقال الحاكم
الله يعلم أنني عاذر ... والله عني بالبراءة عالم
ها قد جرى لي ما جرى لك قبلها ... ووقعت في صفد وأنفي راغم
إن صح لي فيها عليك جناية ... فجزاؤها هذا العقاب اللازم
فاقنع به واذكر قديم مودتي ... فالعهد فيما بيننا متقادم
أو لم يكن ذنب وحالي ما ترى ... فامدد إلي يداً وجاهك قائم
فلقد تأتى ما تريد فوالني ... منك الجميل فإنه لك دائم
جار الزمان على وليك واعتدى ... وإليك للزمن الألد يخاصم
من كان ليس بنادم مستدرك ... فأنا عليك إلى مماتي نادم
كانت هناة وانقضت ومن الذي ... منا وليس له تعد جرائم
إن الذي قسم الحظوظ كما يشا ... للرزق ما بين البرايا قاسم
قل وكثر ليس تبقى حالة ... والدهر بين الناس بان هادم
يا من له أخلصت كن لي مخلصاً ... فعلى مجازينا كلانا قادم
أعلنت بالشكوى لضر مسني ... لكن ودي في الحقيقة سالم
ولك السيادة خلة ومكارم ال؟ ... أخلاق منها في يديك خواتم
فاقبل أخوتي الجديدة إنني ... فيها لمجدك أو لودك خادم
وإلى الرضى عد بي وللحسنى أعد ... حتى تقوم على الصفاء علائم
والبس رياستك السنية حلة ... أبداً لها من نسج سعدك راقم
واجعل لها شكراً إقالة عثرة ... من صاحب قد صد عنه العالم
أنت الخليل بل الخلي من الهوى ... وأخوتي قد جرها لك آدم
فأعن أخاك بحسن سعيك مرة ... إن المغارم في الإخاء مغانم
قلت: الأجوبة التي تقدمت أصلحت أنا فيها أماكن حتى رقت ولطفت، وأما هذه الأبيات الميمية فهي شعره على صرافته لم أغير منها شيئاً، وهي بخط يده في التاريخ الكبير في ترجمته.
وكتبت أنا الجواب إلهي عن ذلك:
يا من تعرضني وقلبي سالم ... من إثمه والله إنك آثم
أتظن أني فهت فيك بفظة ... لا والذي هو بالسرائر عالم
ما الأمر فيك كما زعمت وإنما ... أنت امرؤ فيما أهمك واهم
أنسيت أن الله في أحكامه ... عدل وأنك في الحقيقة ظالم
فاقتص لي منك الغداة بمثل ما ... عاملتني والله عدل حاكم
كم قد قطعت الليل منك مسهداً ... والقلب ملتهب وطرفي ساجم
أستصرخ الأنصار فيك وكلهم ... في غفلة عما دهاني نائم
وإذا طلبت الروح من نفس الصبا ... جاءتني النسمات وهي سمائم
فأقمت في صفد ودمعي مطلق ... حزناً ومالي في البرية راحم
حتى إذا علم الإله ضرورتي ... نجى وطرفك بالغواية حالم
فأنب وتب لله وارض بحكمه ... واصبر فحكم الله أمر لازم
لعساك تؤجر أو ترى لك مخلصاً ... من ضيق حال ضره متفاقم
والله مالي في خروجك مدخل ... كلا ولا طبعي لذاك ملائم
فعليك بالصبر الجميل فإنه ... لجراح ناب النائبات مراهم
ما دام لي بخلاف قصدك شدة ... وكذاك ما تخشاه ما هو دائم
أعزز علي بأن يسوءك حادث ... أو أن أنفك في الرزية راغم
ما احتجت للتذكار منك لأنني ... لك في الرخاء وفي الشقاء أقاسم
فلأبذلن عليك مجهودي إلى ... أن تنقضي البلوى وبالك ناعم
فتوخ في الأسحار أوقات الدعا ... إن الدعاء لدفع ذاك دعائم
فكأنني بك قد خلصت خلوص بد ... ر التم حيث سحابه متراكم
وصفوت كالإبريز يخرج من لظى ... والصبح قد أخفاه ليل عاتم
وأراك مسروراً ووجهك مسفر ... بشراً وثغرك بالأماني باسم
وكأنما قد كان من عبث الردى ... بك لم يكن ولك الزمان مسالم
وكان هو قد كتب بدمشق قبل الديوان كتاباً ببشارة النيل على وجه امتحان الخاطر، وجهز إلي نسخته، وهو: " أعز الله أنصار المقر ولا أخلاه من أثر رحمة يشاركه فيها الخلائق، وينبه ذوي الفضائل على التفكر في لطيف صنع الخالق، و يدخل في شمول عمومها وعموم شمولها الصامت والناطق، ويدل على إقبال الرخاء دلالة البرق المستطير على النوء الصادق:
حتى يكون مباركاً في نفسه ... وعلى الورى في سائر الأقطار
متقسم المعروف أحلى موقعاً ... عند النفوس من الخيل الساري
يحيكه مشبه كفه النيل الذي ... أغنى الثرى عن منة الأمطار
أربى عليها لونه لما جرى ... ما شانه الإرعاد بالأكدار
وهي نعمة تحدث عن عجائب بحرها على الحقيقة ولا حجر، ويتساوى في الانتفاع بها كل نام فضلاً عما دب ودرج. لقد أبرزت كنانة أرض الله في أثوابها القشب، وسرى ذكرها إلى الشام المرتقب، موسم الوسمي طليعة السحب تضمن ذلك المثال الشريف الوارد بخبر وفائه القائل من سمعه: هذا عذوبة ألفاظ ألبستها من حلاوة مائه. وإن المقياس أتى بتمام قياسه الثابت على عادة عدانه، ونادى وقد سقى الأرض غير مفسدها بالأمان من طوفانه. وإن أراقم غدرانه انسابت في ذلك الإقليم فابتلعت غدران أراقمه، ومحا سيله المتدفق معالمه المجهولة، فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه. وإنه أحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين ضائقة المحل بسور، وأخذ الطرق على السالكين فلا مراكب في البر ولا عاصم إلا الجسور. ولم تنتقض قاعدة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. على أن لله الحفي في هذا لطفاً خفياً وما هو بالخفي، فنقصها جاء " تماماً على الذي أحسن " ، ونجاة بدنها الهالك للنبات آية المأمن. وكأني بهذا المخبر عنه، وقد بلغ الزبا من الربا، فطار النسر مبلول الجناح، ودنا حين أطلق فركضه من مشى بالأرجل، لا أن رفعه من قام بالراح.
ومولانا يأخذ من هذه الأنباء بأحسنها وكلها حسنة، ومن هذه البشائر المنتظر قدومها بأبينها يمناً وكلها بينة متيمنة، وقد علم حق نعم الله الشكر فيوفيها منه حقها. ويتوقع رزق بلاده من السماء كما وعد، فقد أخرج لتلك من خزائن غيبه رزقها، ويوفر الرعايا من الجباية ليتوفروا على الدعاء، ويعرفوا نزاهة هذه الدولة القاهرة عن القوة على الضعفاء.
فإن المرسوم الشريف نص على هذه الخاتمة الجلية، وطهر هذه الموارد من قذى الأذى لتنقى القلوب من السخط كما كانت في نفسها نقية، ومن وعى فواضل هذا الكرم الطاهر فليقل: يا مقيلات الجدود العواثر.
والله تعالى يجعل مولانا من المتوكلين عليه ليزيده إيماناً، ويرزقه كما رزق تلك الديار التي غدت من الظمأ خماصاً، وراحت من الري بطاناً، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ولما كنت أنا بالديار المصرية سنة تسع وعشرين وسبع مئة ألزمني القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله تعالى أن أنشئ كتاباً في المعنى، فكتبت، وبالله التوفيق: ضاعف الله تعالى نعمةالجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية هي أكبر من الآخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق ليل الهم وتفرى، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا.
هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تخصه بسلام يرق كالماء انسجاماً، ويروق كالزهر ابتساماً، وتتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص الله الديار المصرية بوفادة وفائه، وأغنى قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منه الغمام الذي إن جاد فلا بد له من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي البلاد التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج فيها مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس. وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج من البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع.
والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها وجود الوفاء عند عدم الصفاء، و بلوغ الهرم إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر والماء كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمي، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى. إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في ذا العلم المبارك جذب البلاد من الجدب، وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحصنها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه.
وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة في مطالعتنا الشريفة في كل يوم بخير قاعة في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعاً، وأقبلت سوابق الخيرات سراعاً، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، وتضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفا بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلاب لكرم طباعه جبر العالم بكسره.
فرسمنا بأن يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فرح موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له في هذا خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله عز وجل على العباد. وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها.
ويخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.
فليأخذ الجناب العالي حظه من البشرى التي جادت المن والمنح وانهلت أياديها الغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجا أديم الأفق، ويتخذها عقداً يحيط به من العنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا المحروسة بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم الشريف حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة.
والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إلى زين الدين المذكور، وقد أعارني نسخة الفلك الدائر:
فديت مولى خالني مقتراً ... فعمني بالنائل الغامر
لم يرض بالأرض على قدره ... فجاد لي بالفلك الدائر
فراح وصفي في علا مجده ... مشتهراً كالمثل السائر
وأنشدني من لفظه لنفسه في ضوء البدر بين الغصون:
نظرت للشهب وقد أحدقت ... بالبدر منها في الدياجي عيون
والروض يستجلي سنا نوره ... فتحسد الأرض عليها الغصون
وكلما صانته أوراقه ... نازعها الريح فلاح المصون
فقلت حتى البدر لم تخله ... ريب الليالي في السما من عيون
فقلت له: والله حسن، ولكن أطلت فيه النفس في أربعة أبيات، ولو كان ذلك في بيتين لكان أحسن. وأنشدته لنفسي في ما بعد ذلك:
كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة جمال الدين يوسف النابلسي الصوفي شيء من هذا المعنى.
وأنشدته يوماً الأبيات التي أوردتها في ترجمة شيخنا نجم الدين حسن بن محمد خطيب صفد، وأولها:
ولقد ذكرتكم بحرب ينثنى ... غن بأسها الهزبر الأغلب
فأنشدني هو لنفسه في هذا المعنى:
ولقد ذكرتك عندما بلغ الزبا ... عرق الجياد وفاض ماء النيل
والبحر بر بالوحول وقد طمى ... بالبر بحر فرسخ في ميل
والناس قد خاضوا فأغرق بعضهم ... ونجا القليل بضجة وعويل
وقلوبهم من روعها في غمرة ... ويطب ذكرك بينهم تعويلي
ولما رسم بعوده إلى ديوان الإنشاء بدمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق، كتبت أنا إليه توقيعاً، ونسخته: رسم بالأمر العالي لا زال يزيد الأولياء زينا، ويزين الأكفاء بمن إذا حل صدراً كان عيناً، ويرتجع لكل مستحق ما كان له في ذمة الزمان ديناً، أن يستقر المجلس العالي الزيني في كذا، لأنه الكاتب الذي دبج المهارق، ورقم طورسها فكان لها نظرات الحدق ونضارة الحدائق، وخط سطورها التي إذا رملها غدت من الحسن كالريحان تحت الشقائق، وصرع بها أطيار المعاني لأن دالات السطور قسي، والنقط بنادق، وزان آفاقها بنجوم أسجاعه فلم يصل أحد إلى درجات فصاحتها لما فيها من الدقائق، وأصدرها في الروح والروع يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق، وأودعها نفائس إنشائه فأثنى عليها أئمة البلاغة، ولو سكتوا أثنت حقائب الحقائق. طالما كتب بالأبواب الشريفة تقليداً، وجهز في المهمات كتباً ملأت البحر حرباً والبر بريداً، ووشى أمثلة صدرت عنها فطارت في الآفاق، ولكن أوثقتها الأفهام تقييداً، وعاد الآن إلى الشام فنفس عنه خناق الوحشة بقربه، وتلقها بالرحب علماً بأنه يغني عن الكتائب بكتبه، وأحله في رتبة يشرفها الولي بسلمه ويسوء العدو بحربه، شوقاً إلى أنس ألفه من لطفه، وعرفه من عرفه في نفح عرفه، فطاب به الواديان كلاهما، وتنافسا في أخذ حظيهما من قربه، فما تساهلا تساهماً، فهو من القوم الذين تسقى البلاد بهم وتسعد، وإذا قربوا من مكان تخطاهم السوء للأبعد، وإذا قاموا بمهم كانوا فيه أقعد، وإذا باشروا المعالي كانوا أسعد الناس وأصعد، وإذا كتبوا كبتوا العدا، لأن كلامهم لمع فأبرق وطرسهم قعقع فأرعد.
فليباشر ذلك على ما عهد من أدواته الكاملة، وكلماته التي تركت محاسن البرايا بائرة وأزاهر الخمائل خاملة. والوصايا التي تملا كثيرة، وكم شرع لها قرطاسه وشرعها بأقلامه، ونضد عقودها بإحكام أحكامه، وملأ بجيوشها صدور مهامه. فما يلقى إلى بحره منها دره، ولا يذكر لطود فضله منها ذره، ولا يطلع القلم في أفق فضل كله شموس من ذلك بدره، ولا يدل مثله على صواب، فقبيح بالعوان أن تعلم الخمرة، ولكن لا بد للقلم من لفتة جيد، وفلتة نفث تكون كالخال في الوجنة ذات التوريد.
وهي الذكر بتقوى الله تعالى التي من عدمها فقد باء بخسران متين، ومن لزمها فقد جاء بسلطان مبين.
والله يتولى رفعة مجده وسعة رفده. والخط الكريم أعلاه حجة بالعمل بمقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى.
وقد أوردت كثيراً من كلامه في ترجمته في التاريخ الكبير الذي أسميته الوافي بالوفيات.
؟؟
عمر بن سعد الله
الإمام زين الدين الحراني الحنبلي، المعروف بابن بخيخ، بباء موحدة وخاء معجمة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وخاء ثانية.سمع الكثير، وحضر على الفخر، وكان بالفقه بصيراً، وبالنحو خبيراً، تخرج بالعلامة الشيخ تقي الدين بن تيمية وبغيره ممن ساد بعلمه في البرية. وناب في الحكم لابن المنجا، وخلص الحقوق ونجى، وكان يقول برأي الشيخ تقي الدين في المسائل التي انفرد بها ووقع له ما وقع بسببها، ويحكم بها وتسطر، ويذيب بها قلوب المخالفين فتفطر.
وكان شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يتألم ويتأذى منه وما يتحلم، ولا ينفذ ما يحكم به ولا ما يراه، ولا يصل به أسبابه ولا عراه، ونازعه في ذلك مرات ولم يرجع، وأصر عليها إلى أن ركب على الشرجع.
ولم يزل على حاله إلى أن بخبخ الموت لابن بخيخ، وأتاه ما يأتي على الطفيل والشييخ.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة بضع وثمانين وست مئة.
وتألم الناس له.
وكان قد ولي مشيخة الضيائية، وألقى فيها دروساً محررة، وكان قد ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بعد القاضي برهان الدين الزرعي رحمهم الله تعالى.
وقال يوماً قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا: إن كنت تقول إن هذه الأحكام التي يحكم بها نائبك مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فأنا أنفذها، قال: لا إلا إذا حكم بها هذا حكمت بصحتها، وطال التنازع في ذلك، ولم يرجع هذا، و لا نفذ هذا له هذا حكماً.
وأظنه مات معزولاً، والله أعلم.
وكان قد دخل في زمرة من توجه إلى غزة بسبب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحبس وأفرج عنه، وجاء إلى دمشق، هذا، على ما في ظني أو والده أو واحد من بيتهم.
أخبرني من لفظه الشيخ الإمام عز الدين حمزة بن شيخ السلامية قال: رأيته ليلة مات قبل دفنه، فقلت له: ما مت؟ قال: بلى، قلت: فما رأيت الله تعالى؟ قال: بلى، يغمى على الميت في النزع، ذلك الوقت يرى الميت الله تعالى. قلت: فما قال لك؟ قال: قال لي: أهلاً بعبدي وحبيبي، أو كما قال.
عمر بن طيدمر ككزالأمير ركن الدين.
كان أحد الأمراء العشرات بدمشق، وكان هو وأخوه علي المقدم ذكره في الحسن فرقدي سماء ونيري أفق تبرأ من الظلماء، كم زانا المواكب، وسيرا في سوق الخيل فأشبها الكواكب، إلى أن اجتحف سيل المنية أخاه، وبورك في عُمرِ عُمَر هذا وما توخاه، فأقام بعد أخيه يطلع في أفق الملاحة، ويسفر عن صباح الصباحة.
فودع الحياة واختطفها وتناول زهرة العيش واقتطفها، إلى أن انكدر نجمه الزاهر ونقل إلى باطن القبر حسنه الظاهر.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
عمر بن عبد الله بن عمر بن عوضقاضي القضاة عز الدين أبو حفص المقدسي الحنبلي.
سمع من جعفر الهمداني، والضياء محمد، وحضر ابن اللتي. انتقل إلى القاهرة، وسمع من ابن رواج، وسبط السلفي، وتفقه بها على شمس الدين بن العماد.
وبرع وأفتى ودرس، وكان متأنياً في الأحكام. وكان أبيض الرأس واللحية، سميناً، تام الشكل، كامل العقل.
توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في شهر صفر سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
وقرأ عليه شيخنا علم الدين البرزالي جزء الغضائري.
عمر بن عبد الله بن عبد الأحدتقي الدين أبو حفص الحراني الحنبلي المعروف بابن شقير، تصغير أشقر.
سمع الكثير بنفسه، ودار على المشايخ، وسمع من القاسم الإربلي، والفخر علي، وابن شيبان، وزينب، وخلق. ونسخ بعض الأجزاء، وروى الصحيحين.
قال شيخنا الذهبي: وسمعت منه: توفي رحمه الله تعالى ... سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
قلت: كان شيخاً فاضلاً ديناً صيناً مشهوراً.
عمر بن عبد الرحمن بن أحمدقاضي القضاة إمام الدين أبو المعالي القزويني الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، ابن القاضي سعد الدين، ابن القاضي إمام الدين. وهو أخو قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في المحمدين.
كان المذكور تام الشكل سميناً، جميل الوجه وسيماً مبيناً. أخلاقه لطيفة، وحركاته ظريفة. يتواضع لمن يلقاه، ويتنازل وهو في أعلى مرقاه، عقله جيد إلى الغاية، ونبله متصل بالنهاية. بارع الفضيلة، فارع الهضبة التي سمت عن كل رذيلة.
ساس الناس سياسة ملك بها قلوبهم، وستر عيوبهم، وتغمد بحمله خطأهم وذنوبهم. أحسن مداراتهم، وأمنهم في أماكنهم وداراتهم، ولما بلغه خبر التتار في نوبة غازان، انجفل مع الناس إلى القاهرة، ورأى الناس منه عياناً ما كانت تأتيهم به أنباؤه السائرة. فما أقام بها غير أسبوع واحد، حتى لحده اللاحد.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. وولد بتبريز سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
واشتغل في العجم والروم، وقدم دمشق في الدولة الأشرفية، وهو وأخوه جلال الدين، فأكرم مورده لرئاسته وفضله وعلمه وعقله. ودرس بعدة مدارس.
وولي القضاء بدمشق في أول دولة لاجين سنة ست وتسعين وست مئة، وصرف قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فأحسن إلى الناس وداراهم، وكان خروجه من دمشق في الجفل في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين، وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى، وخرج بجنازته خلق كثيرون من الأعيان. وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي، وفيه يقول الشيخ صدر الدين بن الوكيل، رحمهما الله تعالى:
انتسب القاضي إلى قاسم ... فصدقوا كلوتة الرجل
العجل من ثور يرى دائماً ... وما رأينا الثور من عجل
وكان القاضي إما الدين رحمه الله تعالى فاضلاً في الأصول والخلاف والمنطق، وشرح مختصر ابن الحاجب.
عمر بن عبد الرحيم بن يحيىابن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، القاضي عماد الدين أبو حفص قاضي القدس وخطيبه.
كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل بدمشق مدة، وأقام بها، ثم انتقل إلى نابلس، وأذن له هناك بالإفتاء، ورتب له هناك على ذلك معلوم مدة سنين، ثم إنه تولى خطابة القدس عليه وعلى ولده، ثم إنه نقل إلى قضاء القدس، وبقي على ذلك أشهراً.
ثم مات رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء عاشر المحرم سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وسمع من عمه رحمه الله تعالى الخطيب قطب الدين عبد المنعم خطيب القدس، وروى عنه.
وكان سريع الحفظ، سريع الكتابة، ولم أر أنا في الأئمة من يقرأ في المحراب أردأ من قراءته. ولما زار الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني رحمه الله تعالى القدس صلى خلفه، ولما فرغ قال له: اقعد اقرأ الفاتحة، فقرأها عليه وصححها، ولما صلى به الصلاة الأخرى قرأها أردأ من الأولى، فقال الشيخ: ما في يدي حيلة.
وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيوش كثير الاعتناء به، فلذلك جمع له بين الخطابة والقضاء، وكان قد زوج ابنه الخطيب شمس الدين بابنة قاضي القضاة شرف الدين النهاوندي قاضي صفد.
وتوفي الخطيب عماد الدين رحمه الله تعالى وله من العمر أربع وستون سنة. وله شرح جمعه لصحيح مسلم.
عمر بن عبد العزيز بن الحسنالصاحب فخر الدين بن الخليلي الداري.
كان من الفضلاء الوزراء النبلاء، أحسن إلى الناس في وزارته، وكل خير نجده إلى اليوم مكتوب على توقيعه بإشارته. قرر في مباشراته للفقراء جملة رواتب، ولم يخشى في ذلك العواقب ولا العواتب، وفاز إلى يوم القيامة بذكرها، وحاز محاسن حمدها وشكرها. عزل منها مرات، وقد حصل له فيها مبرات، وعاد إليها عود البدر إلى منازل سعوده، والهلال إلى مراقي صعوده. وشكر الناس أيامه، وأطلق بالجود أقلامه.
ولم يزل على حاله إلى أن جاء الأجل وزار الوزير، وصار من رحمة ربه إلى خير مصير.
وتوفي رحمه الله تعالى معزولاً يوم عيد الفطر سنة إحدى عشرة وسبع مئة عن اثنتين وسبعين سنة.
وكان يكتب عنه في التواقيع: بالإشارة العالية المولوية الصاحبية الوزيرية الفخرية، سدي العلماء والوزراء. وهذا لم يكتب لغيره.
وروى الحديث عن المرسي.
وسمع منه ابن المهندس وابن البعلبكي وجماعة.
وكان والده مجد الدين من الصلحاء. أقام بمصر مدة وحضر إلى دمشق، وكان يلوذ ببني صصرى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمانين وست مئة.
ثم إن ولده الصاحب فخر الدين لاذ ببني حنا، وصارت له بذلك صورة في الدول، وتولى نظر الصحبة، ووزر للملك الصالح علاء الدين علي بن المنصور، ثم إنه ولي الوزارة أيام كتبغا في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربعة وتسعين وست مئة.
وحضر معه إلى الشام سنة ست وتسعين وست مئة، وصرف بعد ذلك بالأعسر في أوائل دولة لاجين في شعبان سنة ست وتسعين وست مئة. ثم أعيد للوزارة في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم صرف عنها في الدولة الناصرية، ثم أعيد إلى الوزارة في ثاني عشري شوال سنة تسع وسبع مئة، ثم صرف.
وأول ما لبس للوزارة استحيا من الصاحب تاج الدين بن حنا، لأنه وليها عوضاً عنه، فنزل من القلعة إلى دار الصاحب بتشريفه، وقبل يده، وقال: أنا غلامكم ومملوككم، وخضع له خضوعاً كبيراً، وجلس بين يديه، فأراد الصاحب جبره في ذلك الوقت، فأخذ توقيعاً من بعض غلمانه يحتاج إلى خط الوزير، فقدمه له، وقال: مولانا يكتب على هذا، فقبله ووضعه على رأسه، وعلم عليه. وكان هذا من الصاحب تاج الدين إجازة بالوزارة لابن الخليلي.
وكان السلطان الملك الناصر إذا قدم له توقيع برزقة أو براتب، وهو بإشارة الصاحب فخر الدين، يقول: هذا بإشارة ابن الخليلي، والله كل هذا ما أدري به.
وكتب إليه سراج الدين الوراق، ومن خطه نقلت:
عسى خبر من الإنجاز شاف ... لمبتدأ من الوعد الجميل
فعلم النحو دان لسيبويه ... وكان الأصل فيه من الخليل
وكتب إليه شمس الدين الحكيم بن دانيال:
فصل الربيع بوجهه قد أقبلا ... متبسماً. ببدائع الأزهار
وغدا به نبت الخمائل مخضلا ... يحكي السما. بالنور والنوار
فكأنه حلى الربا أو كللا ... إذ أنجما. بجواهر ونضار
والطير بين رياضه قد رتلا ... مترنماً. يلهي عن المزمار
شكراً لمبدعه تعالى ذي العلا ... ما أعظما. من واحد قهار
وتخال هاتيك السحائب هطلاً ... لما همى. سحاحها بقطار
جود المليك الصالح الهامي علا ... من أعدما. بنواله الزخار
ملك إذا ما حل قطراً أمحلا ... متكرما. كالقطر للأقطار
ووزيره الفخر الذي قد خولا ... بالمنتمى. فخراً على النظار
والدار تممها لعز معقلا ... أسنى حمى. فغدا تميم الدار
فليهنه عيد أتاه مقبلا ... جذلاً بما. أولاه في الأمصار
لا زال ما تأتي أخيراً أولا ... متنعما. ما لاح ضوء نهار
وكان قد توجه يوماً شرف الدين البوصيري إلى زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه فوجد الصاحب فخر الدين هناك، فقال:
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... لزيارتي أبداً له بالتارك
فوجدت مولانا الوزير يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك
عمر بن عبد العزيز بن الحسين بن عتيقالفقيه المعمر، قطب الدين الربعي المالكي المعدل.
روى عن ابن المقير، ومحيي الدين بن الجوزي.
وتوفي رحمه الله تعالى... سنة ثماني عشرة وسبع مئة. وله سبع وتسعون سنة.
عمر بن عبد العزيز بن عبد الرحمنابن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن هلال.
سمع من إسماعيل بن أبي اليسر، والمؤمل بن محمد البالسي، ومحمد بن عبد المنعم بن القواس، وغيرهم.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
عمر بن عبد المنعم بن عمرابن عبد الله بن غدير، الشيخ المعمر المسند، مسند الشام، ناصر الدين أبو حفص بن القواس الطائي الدمشقي.
سمع حضوراً من ابن الحرستاني، ومن ابن أبي لقمة، ومن ابن أبي نصر الشيرازي، وكريمة. وأجاز له أبو اليمن الكندي، وابن الحرستاني، وابن مندويه، وابن ملاعب، وابن البناء، والجلاجلي، وخلق كثير.
وحج، وكان ديناً خيراً محباً للحديث وأهله، مليح الإصغاء، كثير التودد.
روى الكثير في آخر عمره. وقرأ عليه شيخنا الذهبي المبهج في القراءات وكتاب السبعة لابن مجاهد والكفاية في القراءات الست عن الكندي. وخرج له مشيخة صغيرة، وخرج له أبو عمرو المقاتلي مشيخة بالسماع وبالإجازة، وأكثرا عنه.
وسمع شيخنا المزي منه، وولده، وسمع منه شيخنا البرزالي، وابن سامة، والشيخ على الموصلي، والنابلسي سبط الزين خالد، وأبو بكر الرحبي، وأبو الفرج عبد الرحمن الحارثي، والشمس السراج سبط ابن الحلوانية، ومحمد بن البدر بن القواس.
وتوفي رحمه الله تعالى بدرب محرز بدمشق يوم السبت ثاني القعدة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وست مئة.
ودفن بسفح قاسيون.
عمر بن عبد النصير بن محمد
ابن هاشم بن عز العرب القرشي السهمي القوصي الإسكندري الأصل، المعروف بالزاهد الحريري.
كان من أصحاب الشيخ مجد الدين القشيري وطلبته. باشر مشارفة المدرسة النجيبية، وكان مؤذناً بالمدرسة السابقية.
وسمع من ابن المقير، والشيخ بهاء الدين بن الجميزي، وغيرهما.
وحدث بقوص ومصر والقاهرة والإسكندرية، وسم منه زين الدين عمر بن الحسن بن حبيب، والفقيه تاج الدين عبد الغفار بن عبد الكافي السعدي.
وشيخنا الحافظ فتح الدين، وشهاب الدين أحمد الهكاري، وشيخنا البرزالي، ومحب الدين بن دقيق العيد، وغيرهم. وكتب عنه شيخنا العلامة أبو حيان وغيره.
وكان شاعراً ظريفاً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية في منتصف المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده بقوص سنة خمس عشرة وست مئة.
وخمس القصائد الغازازية.
أنشدني إجازة الحافظ فتح الدين بن سيد الناس، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
عد للحمى ودع الرسائل ... وعن الأحبة قف وسائل
واجعل خضوعك والتذل؟ ... لل في طلابهم وسائل
؟والدمع من فرط البكا ... ء عليهم جار وسائل
واسأل مراحمهم فهن ... ن لكل محروم وسائل
ومن شعره:
ما لأجفاني جفت طيب كراها ... واستقلت بسهاد قد براها
وأتاح البين لي من بينها ... عبرات عبرت عما وراها
ومنه:
لست ممن يزور من يزدريه ... فيلاقي مذلة واحتقارا
وهو عندي أراه بين البرايا ... كهباء في عاصف الريح طارا
؟
عمر بن عبد الله بن أبي عمر
المقدسي.أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
وكان قد حضر على ابن الدائم، وسمع من الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وفاطمة بنت الملك المحسن أحمد بن أيوب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بن قدامة.
عمر بن عبد الوهاب بن ذؤيبالقاضي الفقيه العالم نجم الدين بن شرف الدين الأسدي الشهبي.
كان قاضياً بشهبة والسويدا نحوا من أربعين سنة. وحج. وكان حسن الهيئة.
سمع مع أخيه من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وعرض التنبيه على الشيخ تاج الدين الفزاري.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
عمر بن عليالإمام أبو علي قاضي الجماعة بتونس، الهواري التونسي المالكي.
كان في مذهب مالك رضي الله عنه رأساً، لا يرى أحد من الأفاضل به بأسا، عديم النظير في فنه، ماله مشابه في استحضاره وحدة ذهنه. له تصانيف وتلامذة كبار، ومريدون يودون من محبته أن لا يطير عليه غبار.
وممن أخذ عنه الإمام برهان الدين السفاقسي، كان في تعظيمه مبالغا، وفي دم من ذمه أو ادعى باطلاً والغا.
ولم يزل على حاله إلى أن أنهار جرف الهواري، وعدمه المجاري والمباري.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم عرفة سنة ست وثلاثين وسبع مئة، بعد أن نزل من عند السلطان.
وكان ذا عبادة وتقشف، وكان قد تفقه بأبي محمد الزواوي، وعاش بضعاً وثمانين سنة.
عمر بن علي بن سالم بن صدقةتاج الدين أبو حفص اللخمي الإسكندري المالكي، المعروف بابن الفاكهاني.
كان شيخاً فقيهاً مالكياً نحوياً، له ديانة وتصون ومصنفات. وقدم دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، بعد زيارته القدس، وتوجه منها إلى الحجاز، وحج ثلاث مرات.
وسمع الترمذي والشفا على ابن طرخان، وقرأ القرآن على المكين الأسمر، وحضر دروس ابن المنير، وأقام بمصر سنين، ثم عاد إلى بلده.
وتوفي في العشر الأول من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
وشرح العمدة في الأحكام، وله مقدمة في النحو، وله نظم ونثر.
وشرح العمدة في الأحكام، وله مقدمة في النحو، وله نظم ونثر.
عمر بن عوضابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب، قطب الدين الشارعي، المعروف بابن قليلة، تصغير قلة.
أخبرني الشيخ العلامة أثير الدين أبو حيان من لفظه، قال: حدث المذكور عن حاتم بن العفيف وغيره.
ومن شعره:
ألا يا سارياً في بطن قفر ... ليقطع في الفلا وعراً وسهلاً
بلغت نقا المشيب وبنت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى
ومنه:
عزمت على تزويج بكر مدامة ... بماء قراح والليالي تساعد
فأمهرتها در الحباب وإنه ... إذا جليت ليلاً عليها قلائد
وجاءت رياحين البساتين عرفت ... فطابت بذاك النفس واللوز عاقد
وكان حضور النبق فألا مهنئاً ... لنا بالبقا في العقد والورد شاهد
عمر بن عيس بن نصرابن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن حسن بن حسين التيمي، مجير الدين بن اللمطي، بلام وميم ساكنة وطاء مهملة.
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين أبو حيان رحمه الله تعالى قال: رأيته بقوص، وكتبت عنه شيئاً من شعره، ثم إنه قدم علينا القاهرة، وسكنها أيام كان أبو الفتح بن المطيع قاضياً، واشتغل عنده في أوقاف.
وكان قد نظر في العربية على أبي الطيب السبتي، قدم عليهم قوص، وكان من تلاميذ شيخنا أبي الحسين بن أبي الربيع.
وأنشدني لنفسه بمدرسة الأفرم سنة ثمانين وست مئة:
أبى الدمع إلا أن يفيض وأن يجري ... على ما مضى من مدة النأي من عمري
ومالي إن كفكفت ماء محاجري ... وقد بعدت دار الأحبة من عذر
أما إنه لولا اشتياق لذكرهم ... ولا شوق إلا ما يهيج بالذكر
لما شاقني نظم القريض ولا صبا ... فؤادي على البلوى إلى عمل الشعر
وكان لمثلي عن أفانين منطقي ... هنالك ما يلهي عن النظم والنثر
قال: وأنشدني أيضاً:
جفن قريح بالبكاء موكل ... فعلت به العبرات ما لا يفعل
وجوانح مني على شحط النوى ... أضحت تمزق في الهوى وتوصل
عجباً لحكم الحب في فليته ... يوماً يجور به ويوماً يعدل
إني وإن أمسى يحملني الهوى ... من ثقله في الحب ما لا يحمل
فلقد حلت منه مرارات الجوى ... عندي وخف لدي ما يستثقل
لا يطمع اللوام في تركي الهوى ... إن كثروا في لومهم أو قللوا
لهفي علي زمني بمنعرج اللوى ... والشمل مجتمع ووجدي مقبل
ما كان أهنا العيش منه فليته ... لو دام منه ريثما أتأمل
ومنه:
وزهدني في الخل أن وداده ... لرهبة جاه أو لرغبة مال
فأصبحت لا أرتاح منه لرؤية ... ولا أرتجي نفعاً لديه بحال
قلت: ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى ترك ما ولاه من نظر رباع الأيتام، وتوجه إلى قوص، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. وله من العمر ثلاث وثمانون سنة.
ويحكى عنه أنه كان صحيح الود، حافظاً للعهد، حسن الصحبة.
عمر بن عيسى بن مسعودالفقيه العالم المالكي، سراج الدين أبو عمر بن القاضي العلامة شرف الدين الزواوي.
ارتحل وأخذ عن زينب الكمالية وعدة، وقرأ سنن أبي داود وغير ذلك.
وكان شاباً فاضلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة عن إحدى وعشرين سنة.
عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعمابن أبي الطيب العجلي، نجم الدين الشافعي، وكيل بيت المال بدمشق.
كان نجم الدين ذا مروءة وافرة، وأخلاق على المكارم متضافرة. واختص بمنادمة الأمير عز الدين أيبك الحموي، نائب قلعة دمشق، ومجالسته، وتألف ذاك بمحادثته ومؤانسته.
وكان يجري بينه وبين شمس الدين بن غانم أنواع من المهاتره، وعجائب من المشاحنة والمشاجرة. وتبدو منهما أفانين الهزل والمجون، والتناديب التي هي أشهى من معاطاة ابنة الزرجون.
وجمع بين الوكالة ونظر الخزانة والبيمارستان، ومضت أوقاته بخير في أيام الأفرم، فما انتقل من الروضة إلا إلى البستان.
ولم يزل على حاله إلى أن تخبث الوقت على ابن أبي الطيب، وأصابه من وابل الوبال صيب.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة.
قال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: بيت أبي الطيب بيت قديم بدمشق، من بيوت التشيع، وكان منهم جلال الدولة بن أبي الطيب نائباً عن الدولة الفاطمية. ويقال إن أبا الطيب كان رجلاً فارسياً، قدم دمشق في خلافة يزيد بن معاوية، ولما طيف برأس الحسين بن علي رضي الله عنهما وتغير ريحه، اشترى له طيباً بمئة دينار، وطيبه به. ثم كان من ولده من يكتب إلى الشيعة بخراسان بأخبار بني أمية، ويكني عن نفسه بابن أبي الطيب، إشارة إلى تطييب أبيه رأس الحسين، فلما ظهرت الشيعة الخراسانية، وأظهروا كنايتهم هذه، فعرفوا بها. ولهم وقف قديم بدمشق، لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولما وقعت الكائنة للقاضي محيي الدين بن الزكي، كان نجم الدين هذا من أصدقائه فتعلق بالمنصور صاحب حماة، وتسيج بخدمته. وكان ناظر ديوانه بدمشق في أيام الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري. وصارت له وجاهة، ثم إنه اختص بالحموي وبعده بالأفرم.
ولما مات خلف مالاً، أنفقته زوجته على عوالم النساء وزواكرة الفقراء، وسيأتي ذكر ولده القاضي نجم الدين بن أبي الطيب في المحمدين.
عمر بن كثير بن ضوء بن كثيرالشيخ الخطيب بالقرية من عمل بصرى.
قال شيخنا البرزالي: كان فاضلاً لغوياً شاعرا، كتبنا عنه هناك من شعره بحضرة الشيخ تاج الدين.
توفي رحمه الله تعالى في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبع مئة.
عمر بن محمد بن عمرابن خواجا إمام، شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق، الشيخ الجليل الفاضل شرف الدين الفارسي الأصل، الدمشقي، الشاهد، أظنه المعروف بالياغرت، بياء آخر الحروف وألف وغين معجمة وراء ساكنة وتاء ثالثة الحروف.
سمع في شبيبته فخر الدين بن الشيرجي، وسراج الدين بن الزبيدي، وابن اللتي.
وكان يكتب المصاحف والعمر ويذهبها، ورأيت أنا بخطه ختمات.
سمع شيخنا الذهبي منه مشيخته.
ومتع شرف الدين بحواسه إلى أن مات رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة، ومتع بحواسه وكتابته.
وتوفي والده ضياء الدين سنة خمس وستين وست مئة.
عمر بن محمد بن يحيى بن عثمانالقرشي العتبي الإسكندراني، ركن الدين أبو حفص، الشيخ الفقيه المسند المعروف بابن جابي الأحباس.
سمع من سبط السلفي جزء الدعاء للمحاملي، وجزء ابن عيينة، وكتاب التوكل لابن أبي الدنيا، ومشيخة السبط، وتفرد في وقته، وكان من الشهود.
وكتب عنه أشياخنا: العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والحافظان فتح الدين والذهبي، والحلبي، وعدة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالثغر... سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة.
عمر بن محمد بن سليمانالدماميني، نجم الدين.
سمع وحدث بالإسكندرية، وسمع منه أبو الفتح محمد الدشناوي، ويوسف بن أحمد بن محمد السكندري.
عرف بابن غنوم، وكان من تجار الكارم، وكان رئيساً وله مكارم.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سنة سبع وسبع مئة.
نزل عنده بعض الأفاضل فأكرمه، فكتب على بابه لما ارتحل:
نزلت بدار نجم فاق بدراً ... أدام الله رفعته وجاهه
فأعذب موردي وأطاب نزلي ... وأهدت لي رياسته وجاهه
عمر بن محمد بن عثمانابن أبي الرجا بن أبي الزهر، القاضي الصدر تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السعلوس.
كان صاحب الديوان بدمشق، فطلبه السلطان إلى مصر، وولاه نظر الدولة، شريكاً للقاضي علم الدين إبراهيم بن تاج الدين إسحاق. وكان يعظمه ويكرمه.
وكان قد سمع في صغره من الفاروثي، وحج سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان قد باشر شغله بقلعة الجبل يوم الخميس قبل موته بيوم، ودخل إلى السلطان وخرج، فاضطرب وتغيرت حاله، وعجز عن الركوب إلى بيته إلا في محفة، وانقطع يوماً، ولم يسمع منه إلا: أنا ميت لا غير.
وتوفي يوم السبت بكرة حادي عشري القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وولي مكانه القاضي شهاب الدين بن الأفقهسي.
وكان قد باشر بدمشق عدة ولايات. وكان تنكز يمزح معه ويقربه.
عمر بن محمد بن عمر بن محمدالقاضي كمال الدين بن الخطيب شرف الدين بن الشيخ الخطيب كمال الدين المعري الأصل، العجلوني، قاضي غزة.