كتاب : معانى القرآن للفراء
المؤلف : أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء
الفرّاء على رفع اليَاء ومدّ الألف فى (آتَوْا) حدَّثنا أبو العباس قالَ حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال: حدَّثنى مِنْدَل قال حدَّثنى عبد الملك عن عطاء عنْ عائشة أنها قرأت أو قالت ما كنا نقرأ إلاَّ {يَأتون ما أَتَوْا} وكانوا أعلم بالله من أن توجل قلوبهم. قال الفراء يعنى به الزكاة تقول: فكانوا أتقى لله من أن يؤتوا زكاتهم وقلوبهم وَجِلة.
وقوله {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ}: وَجِلَة من أنهّم. فإذا ألقيت (مِن) نصبت. وكل شىء فى القرآن حذفت منه خافضًا فإن الكسَائىّ كَانَ يَقول: هو خَفض عَلَى حَالِهِ. وقد فسّرنا أنه نصب إذا فُقد الخافض.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }
وقوله: {أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ...}
يبادرونَ بالأعمال {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} يقول: إليها سابقونَ. وقد يقال {وهم لها سَابقونَ} أى سبقت لهم السَّعادة.
{ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ }
وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ...}
يقول: أعمال منتظرة ممَّا سَيَعْمَلُونَهَا، فقال {مِّن دُونِ ذالِكَ}.
{ حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }
وقوله: {يَجْأَرُونَ...}:
يضجّون. وهو الجُؤار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ }
وقوله: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ...}
وفى قراءة عَبْدالله (عَلَى أدباركم تنكُصونَ) يقول: ترجعونَ وهو النكوص.
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ }
وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ...}
(الهاء للبيت العتيق) تقولونَ: نحن أهله، وإذا كان الليلُ وَسَمَرْتُمْ هجرتم القرآنَ والنبىّ فهذا من الهِجران، أى تتركونه وترفضونه. وقَرأ ابن عباس (تُهْجِرونَ) من أهجرت. والهُجْر أنهم كانوا يسُبّون النبىَّ صَلى الله عليه وسلم إذا خَلَوا حوْل البيت ليلاً. وإن قرأ قارئ (تَهْجُرونَ) يجعله كالهَذَيانِ، يقال: قد هَجَر الرجل فى منامه إذا هذى، أى إنكم تقولونَ فيه ما ليس فيه ولا يضرّه فهو كالهَذَيان.
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ }
وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ...}
أى نسب رسولهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ }
وقوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ...}
يقال: إن الحقّ هو الله. ويقال: إنه التنزيل، لو نزل بما يريدون {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} قال الكلبىّ (ومَنْ فِيهِنَّ) من خَلْقٍ. وفى قراءة عبدالله (لفسدت السّموات والأرض وما بينهما) وقد يجوز في العربيّة أنم يكون ما فيها ما بينهمَا ا لأن السماء كالسقْف على الأرض، وأنت قائل: فى البيت كذا وكذا، وبين أرضه وسمائه كذا وكذا، فلذلك جَاز أن تُجعل الأرض والسَّماء كالبيت.
وقوله {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}: بشرفهم.
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً...}
يقول: على ما جئت به، يريد: أجراً، فأجر ربّك خير.
{ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ }
وقوله: {لَنَاكِبُونَ...}
يقول: لمعرضون عن الدين. والصراط ها هنا الدين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
وقوله: {وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...}
يقول: هو الذى جَعَلهما مختلفَين، كما تقول فى الكلام: لك الأجر والصلة أى إنك تؤجَر وتَصِل.
{ قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
وقوله: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ...}
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ...}
هذه لا مسألة فِيهَا؛ لأنه قد اسْتفهم بلام فرجعت فى خبر المستفهِم. وأمَّا الأُخريان فإنَّ أهل المدينة وعامّةَ أهلِ الكوفة يقرءونها (للهِ)، (لله) وهما فى قرءة أُبَىّ كَذلك (لِله) (لِلهِ) (لله) ثلاثهنَّ. وأهْل البصرة يقرءون الأُخريَين (اللهُ)، (اللهُ) وهو فى العربيَّة أبين؛ لأنه مردود مرفوع؛ ألا ترى [أن] قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّموات} مرفوع لا خفض فيه، فجرى جَوَابه على مبتدأ به. وكذلكَ هى فى قراءة عبدالله (للهُ) (الله). والعلّة فى إِدخال اللام فى الأُخريين فى قول أبىّ وَأَصْحَابِهِ أنك لو قلت لرجل: من مَولاك؟ فقال: أنا لفلانٍ، كفاك من أن يقول: مولاى فلان. فلمَّا كان المعنيان واحداً أُجرى ذلكَ فى كلامهم. أنشدنى بعض بنى عامر:
وأَعلُم أننى سَأكُون رَمْساً * إذا سار النواجع لاَ يسيرُ
(يعنى الرمس)
فقال السَّائلُونَ لمن حفرتم * فقال المخبرونَ لهم: وزير
فرفع أراد: الميت وزير.
{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }
وقوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ...}:
تُصْرفون. ومثله تؤفكون. أُفِك وسُحر وصُرف سَوَاء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ اله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }
وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ اله...}
إِذاً جَواب لكلام مضمر. أى لو كانت مَعَهُ آلهة {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ اله بِمَا خَلَقَ} يقول: لاعتزل كلُّ إله بخَلْقه، {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ} يقول: لبغى بعضهم على بعض ولغلب بعضهم بَعْضاً.
{ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...}
وجه الكلام الرفع على الاستئناف. الدليل عَلى ذلكَ دخول الفاء فى قوله {فتَعالىَ} ولو خفضت لكان وَجْهُ الكلام أن يكون (وتعالى) بالواو؛ لأنه إذا خفض إنما أراد: سُبْحانَ الله عَالم الغيب والشهادة وتعالَى. فدلّ دخول الفاء أنه أراد: هو عَالم الغيب والشهادة فتعالى؛ ألا ترى أنك تقول: مررت بعبدالله المحسن وأحسنت إليه. ولو رفعت (المحسن) لم يكنْ بالواو؛ لانك تريد: هو المحسن فأَحْسنتُ إلَيْه. وقد يكون الخفض فى (عَالِم) تتبعه مَا قبله وإنْ كانَ بالفَاء؛ لأنّ العرب قد تستأنف بالفاء كما يستأنفون بالواو.
{ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي...}
هَذه الفاء جَوَابٌ للجَزَاء لقوله {إمّا تُرِيَنّى} اعتَرض النداءُ بينهُما كَمَا: تقول إن تأتنى يا زيد فعجِّل. ولو لم يكن قبله جَزَاء لم يجزأن تقول: يا زيد فقم، ولا أن تقول يا ربّ فاغفر لى؛ لأنَّ النداء مُسْتأنف، وكذلك الأمر بعده مُسْتأنف لا تدخله الفاء ولا الواو. لا تقول: يا قوم فقوموا، إلا أن يكون جَوَاباً لكلام قبله، كقول قائل: قد أقيمت الصَّلاة، فتقول: ياهَؤلاء فقومُوا. فهذا جَوَازه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ }
وقوله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ...}
فجعل الفعل كأنه لجميع وإنما دعا ربه. فهذا ممّا جرى على ما وصَفَ الله به نفسه من قوله {وَقَدْ خَلَقْنَاكَ مِنْ قَبْل} فى غير مكان من القرآن. فجرى هَذَا على ذلك.
{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
وقوله: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ...}
البرزخ من يوم يموت إلى يوم يبعث. وقوله {وَجَعَل بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} يقول حَاجزاً. والحاجز والمُهْلة متقاربان فى المعْنى، وذلك أنك تقول: بينهما حاجز, أن يتزاورَا، فتنوى بالحاجز المسافة البعيدة، وتنوى الأمر المانع، مثل اليمين والعداوة. فصار المانع فى المسَافة كالمانع فى الحوادث، فوقع عليهما البرزخ.
{ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ }
وقوله: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا...}
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى شَرِيك عن أبى إسحاق (وقيس) عن أبى اسحاق، وزهير ابن معاوية أبو خَيْثَمة الْجُعْفىّ عن ابى إسحاق عَنْ عَبدالله بن مسعود أنه قرأ (شَقَاوَتَنَا) بألفِ وفتح الشين. قيل للفراء أأخبرك زهير؟ فقال:
يا هؤلاء إنى لمْ أسمع من زهير شيئاً. وقَرَأ أهل المدينة وعاصم (شِقْوَتُنَا) وهى كثيرة. أنشدنى أبو ثَرْوَان:
كُلِّف من عَنَائه وشِقوتِهْ * بنتَ ثمانِى عَشْرَةٍ من حِجَّتهِ
قال الفراء: لولا عبدُالله ما قرأتُهَا إلا (شِقْوَتُنَا).
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ }
وقوله: {سِخْرِيّاً...}
و {سُخْرِيّا}. قد قرأ بهما جميعاً. والضمّ أجود. قال الذينَ كسروا ماكان منَ السُخْرَة فهو مرفوع، وما كان من الهُزُؤ فهو مكسور.
وقال الكسائى: سَمعت العرب تقول: بحر لُجّى وَلِجّى، ودُرىٌّ ودِرىٌّ منسوب إلى الدُّرّ، والكُرْسِىّ والكِرْسِىّ. وهو كثير. وهو فى مذهبه بمنزلة قولهم العُصِىّ والعِصىّ والأُسوة والإسوة.
{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ }
وقوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ...}
كسرها الأعمش على الاستئناف، ونصبها من سواه على: إنى جزيتهم الفوزَ بالجنَّة، فأنَّ فى موضع نصب. ولوجعلتها نصباً من إضمار الخفض جزَيتهم لأنهم هم الفائزون بأعمالهم فى السّابق.
{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ }
وقوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ...}
قراءة أهل المدينه {قالَ كَمْ لبِثْتُم} وأهل الكوفه {قُلْ كَمْ لبِثْتُمْ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المؤمنون )
{ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَآدِّينَ }
وقوله: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ...}
أى لا ندرى (فاسْأَلِ) الحفظة هم العَادُّونَ.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( النور )
{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا...}
تَرفع السُّورَة بإضمار هذه سُورة أنزلناها. ولا ترفعْها براجعِ ذكرِها لأنّ النكرات لا يُبتدأ بهَ قبل أخبارها، إلا أن يكون ذلك جَوَاباً؛ ألا ترى أنك لا تقول: رجل قام، إنما الكلام أن تقول: قام رجل. وقَبُح تقديم النكرة قبل خبرهَا أنّها توصل ثم يخبر عَنْها بخبر سوى الصلة. فيقال: رجل يقومُ أعجبُ إلىّ من رَجلٍ لا يقوم: فقبح إذ كنت كالمنتظر للخبر بعد الصلة. ا وحسن فى الجواب؛ لأنَّ القائلَ يقول: من فى الدار؟ فتقول: رَجُل (وإن قلت) رَجُلٌ فيها) فَلاَ بأسَ؛ لأنه كالمرفوع بالرَدّ لا بالصفة.
ولو نصبت السُّورة عَلى قولك: أنزلناهَا سورةً وفرضناهَا كما تقول: مُجرَّداً ضربته كان وجهاً. ومَا رأيت أحدا قرأ به.
ومن قال (فَرَضْنَاهَا) يقول: أنزلنا فيها فرائضِ مختلِفة. وإن شاء: فرضناها عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة. والتشديد لِهذين الوجهين حَسَن.
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا...}
رفَعَتهما بما عادَ من ذكرهما فى قوله {كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} ولا ينصب مثل هذا؛ لأن تأويله الجزاء (ومعناه) - وَالله أعْلم - مَن زنى فافَعلُوا به ذلكَ. ومثله {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ} مَعَنَاهُ - والله أعلَم: من قال الشعر اتّبعه الغُوَاة. وكذلك {وَالسَّارقُ والسَّارقة}، {والَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فآذُوهما} ولو أضمرت قبل كلّ ما ذكرنا فعلاً كالأمر جَاز نصبه، فقلت: الزانيةَ والزانى فاجلدوا: وهى فى قراءة عبدالله محذوفة الياء (الزانِ) مثل ما جرى فى كتَاب الله كثيرا من حذف اليَاء من الداع والمنادِ والمَهتدِ وما أشبه ذلكَ. وقد فُسّر.
وقوله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ} اجتمعت القراء على التّاء إلا أبا عبدالرحمن فإنه قَرَأ (ولا يَاخُذكم) باليَاء. وهو صواب؛ كما قال {وَأخَذَ الذِينَ ظَلَمُوا الصيَّحْةُ} وفى الرأْفة والكأْبة والسَّأْمَه لغتان السَّأْمة فَعْلة والسَّآمة مثل فعالة والرأفة والرآفة والكأْبة والكآبة وكأنّ السّأْمَة والرأْفة مرّة، والسّآمة المصدر، كما تقول: قد ضَؤُل ضآلةً، وقبُح قباحَة.
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفرّاء قال حدثنى قيس ومندل عن ليث عن مجاهد قال: الطّائِفة: الواحد فما فوقه قَالَ الفَرّاء: وكذلك حدثّنى حِبّان عن الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عباس أنه واحد فمَا فوقه. وذلكَ للبِكريْنِ لا للمحصنين ومعنى الرأفة يقول: لا ترأفوا بالزانية والزانى فتُعَطّلوا حدود الله.
{ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ...}
يقال: الزانى لا يزنى إلاّ بزانية من بَغَايَا كنَّ بالمدينة، فهَمَّ أصْحَاب الصُّفَّة أن يتزوجُوهُنَّ فيأْووا إليهنَّ ويُصيبوا من طعامهن، فذكروا ذلكَ للنبى عليه السَّلاَم فأنزل الله عزّ وجل هذا، فأمسكوا عن تزويجهن لَمَّا نزل {وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعنىالزانى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ...}
(وبالكسر) بالزنى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ} الحكام {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} القاذفُ لا تُقبل له شهادة، توبَتُهِ فيما بينه وبين رَبه، وشهادته ملقَاة. وقد كان بعضهم يرى شهادته جائزةً إذا تابَ ويقول: يقبل الله توبته ولا نقبل نحن شهادته!
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ...}
بالزنَى نزلت فى عاصم بن عَدِىّ لمّا أنزل الله الأربعة الشهودِ، قال: يا رسول الله إن دخل أحدنا فرأى على بطنها رجلاً (يَعنى امرأتَه) احتاج أن يخرجَ فيأتىَ بأربعة شهداء إلى ذلك ما قد قضى حَاجَته وخرج. وإن قتلته قُتلت ب به. وإن قلت: فُعِل بها جُلدت الحدّ. فابتُلِى بها. فدخل على امرأته وعلى بطنها رجل، فلا عن رسولُ الله صَلى الله عليه وسلم بينهما. وذلك أنها كذَّبته فينبغى أن يبتدئ الرجل فيشهدَ فيقول: واللهِ الذى لا إله إلا هو إنّى صادق فيما رميتُها به من الزنى، وفى الخامسة، وإنّ عليه لعنةِ الله إن كان من الكاذبينَ فيمَا رماهَا به منَ الزنى: ثم تقول المرأة فتفعَل مثل ذلك، ثم تقوم فى الخامسة فتقول: إنّ عليها غضبَ الله إن كان من الصَّادقينَ فيما رماها به مِن الزنى. ثم يفرَّق بينهما فلا يجتمِعان أبداً.
وأمّا رفع قوله {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} فإنه من جهتين. إحداهما: فعَليه أن يشهد فهى مضمرة، كما أضمرتْ ما يرفع {فصيَامُ ثلاثةِ} وأشباهه، وإن شئِت جعلت رفعه بالأربع الشهادات: فشهادته أربع شهادات كأنك قلت والذى يوجَب من الشهادة أربع، كما تقول: من أسلم فصلاته خمس. وكان الأعمش ويحيى يرفعان الشهادة والأربع، وسائر القراء يرفعون الشهادة وينصبونَ الأربع؛ لأنهم يُضمرونَ للشهادة ما يرفعها، ويوقعونها علىالأربع. ولنصب الأربع وجه آخر. وذلك أن يجعل {بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} رافعة للشهادة كما تقول: فشهادتى أن لا اله إلا الله، وشهادتى إن الله لَواحد. وكلّ يمين فهى تُرفع بجوابَها، العرب تقول: حلِفٌ صَادقٌ لأقومنّ، وشهادةُ عبدِالله لتقومَنّ. وذلك أن الشهادة كالقول. فأنت تراه حَسَناً أن تقول: قَوْلى لأقومنَّ وقولى إنك لَقَائم.
و (الخامسة) فى الآيتين مرفوعتان بما بعدهما من أنّ وأنّ. ولو نصبتهما على وقوع الفعل كان صَواباً: كأنك قلتَ: وليشهد الخامسةَ بأنَّ لَعنة الله عليه. وكذلك فعلها يكون نصب الخامسة فإضمارِ تشهد الخامسة بأن غضبت الله عَليهَا.
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ...}
متروك الجواب؛ لأنه معلوم المعنى. وَكَذلك كلّ مَا كان معلومَ الجوَاب فإن العرب تكتفى بترك جوابه؛ ألا ترى أن الرجل يشتم صَاحبه فيقول المشتوم: أَمَا والله لولا أبوك، فيُعلم أنه يريد لشتمتك، فمثل هذا يُترك جوابه. وقد قال بعد ذلكَ فبَيَّنَ جوابه فقال {لَمَسَّكم فيِما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {ومَا زَكىَ مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ} فذلكَ يبيّن لك المتروك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
وقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ...}
اجتمع القراء على كسر الكاف. قرأ حُمَيد الأعرج، كبْره بالضم. وهو وجه جَيّد فىالنحو لأن العرب تقول: فلان تولَّى عُظْم كذا وكذا يريدون أكثره.
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }
وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ...}
كان الرجل يلقى الآخر فيقول: أما بلغك كذا كذا فيذكر قصة عائشة لتشيع الفاحشة. وفى قراءة عبدالله (إذْ تَتَلَقَّونه) وقرأت عائشة (إذْ تَلِقُونه) وهو الوَلْق أى تردّدونه. والوَلْق فى السّير والوَلْق فى الكذب بمنزلته إذا استمرّ فى السّير والكذب فقد وَلَق. وقال الشاعر:
إن الجُلَيد زَلِق وزُمَّلقْ * جاءت به عَنْس من الشام تَلِقْ
* مجوَّع البطن كِلابىّ الخُلُقْ *
ويقال فى الوَلْق من الكذب: هو الألْق والإلْق! وفعلت منه: أَلقت وأنتم تَأْلِقونه. وأنشدنى بَعْضُهُمْ:
من لىَ بالمزرَّرِ اليلامق * صَاحب إدهانٍ وَأَلْقِ آلِقِ
{ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ...}
والائتلاء: الحِلف، وقرأ بعض أهل المدينة (ولا يتَالَّ أولو الفضل) وهى مخالفة للكتاب، من تألّيت. وذلك أن أبا لكرٍ حلف أَلاَّ يُنفق على مِسْطَح بن أُثاثة وقرابته الذين ذكروا عائشة. وكانوا ذوى جَهد فأنزل الله {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} فقال أبو بكرٍ: بلى يا ربِّ. فأعادهم إلى نفقته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ...}
القراء على التاء (يَوْم تَشْهَدُ) وقرأ يَحيى بن وثَّاب وأصحاب عبدالله (يشهد) التاء لتأنيث الألسنة والياء لتذكير اللسان، ولأن الفعل إذا تقدم كان كأنه لواحد الجمع.
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
وقوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ...}
الخبيثات من الكلام للخبيثينَ من الرجال. أى ذلك من فعلهم وممّا يليق بهم. وكذلك قوله {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} الطيِّبات من الكلام للطيِّبينَ من الرجال.
ثم قال {أُوْلَائِكَ مُبَرَّءُونَ} يعنى عائِشة وصفوان بن المُعَطَّل الذى قُذِفَ مَعَهَا. فقال {مُبَرَّءُونَ} للاثنين كما قال {فإنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِكُلِّ واحِدً} يريد أخوين فما زاد، لذلك حُجب بالإثنين. ومثله {وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} يريد داود وسليمَانَ. وقرأ ابن عباس (وكُنَّا لحكمهما شاهِدِينِ) فدلّ على أنهما إثنان.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
وقوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ...}
يقول: تستأذنوا. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفرّاء قال حدثنى حِبّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس (حتى تستأنِسُوا): تستأذنوا قال: هذا مقدّم ومؤخّر؛ إنما هو حتى تسلموا وتستأذنوا. وأمروا أن يقولوا: السّلام عليكم أأدخل؟ والاستئناس فى كلام العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحداً. فيكون هذا المعْنَى: انظروا من فى الدار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }
وقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ...}
وهى البيوت التى تُتِّخذ للمسافرين: الخانات وأشباهها.
وقوله {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} أى منافع لكم. يقول تنتفعون بها وتستظِلُّونَ بَها منَ الحَرّ والبرد (قال الفراء الفُنْدتُق مثل الخان قال: وسَمعت أعرابياً من قضاعة يقول فُنْتُق).
{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وقوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ...}
الزينة: الوِشاح والدُّمْلُّج {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} مثل الكحل والخَاتمَ والخِضاب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يقول لتُخَمِّر نحرها وصدرها بِخِمار. وذلك أن نساء الجاهلية كنَّ يَسْدُلن خُمُرهن من ورائهن فيَنكشف ما قدامها، فأُمرن بالاستتار.ثم قال مكرّراً {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعنى الوشاح والدُّمْلُوج لغة {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ} من النسب إلى قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.
وقوله {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يقول: نساء أهْل دِينهنَّ. يقول: لا بأسَ أن تنظر المسْلمة إلى جسَد المسلمة. ولا تنظر إليها يهوديةّ ولا نصرانيّة.
ورُخّص أن يرى ذلك مَن لم يكن له فى النساء أَرَب، مثل الشيخ الكبير والصبىّ الصغير الذى لم يُدرك، والعِنيِّن. وذلك قوله {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ}: التُبَّاع والأجَراء (قال الفراء يقال إرْب وأَرَب).
وقوله {لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} لم يبلُغُوا أن يطيقوا النِسَاء. وهو كما تقول: ظهرت على القرآن أى أخذته وأطقته. وكما تقول للرجل: صارع فلان فلاناً وظهر عَليه أى أطاقه وغلبه.
وقوله {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} يقول: لا تَضْرِبَنّ رِجلها بالأخرىَ فيسمعَ صَوْتُ الخَلخال. فذلك قوله {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ} وفى قراءة عبدالله (ليعلم مَا سُرَّ من زينتهن).
وأمّا قوله {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} فإنه يُخفض لأنه نعت للتابعينَ، وليسُوا بموَقّتينَ فلذلك صَلحَت (غير) نعتاً لهم وإن كانوا معرفةً. والنصب جائز قد قرأ به عاصم وغير عاصم. ومثله {لاَ يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ المؤمِنينَ غيرُ أولى الضَرَرِ} والنصب فيهمَا جميعاً على القطع لأن (غير) نكرة. وإن شئتَ جعلته علىالاسْتثناء فتوضع ( إلا) فى موضع (غير) فيصلح. والوجه الأول أجود.
{ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
وقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ...}
يعنىالحرائر. والأيامىالقرابات؛ نحو البنت والأخت وأشباههما. ثم قال {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} يقول: مِن عبيدكم وإمائكم ولو كانت (وإماءكم) تردّه عَلَى الصّالحينَ لجاز.
وقوله {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ} للأحرار خاصة من الرجال والنساء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ...}
يعنى المكاتبة. و (الذينَ) فى موضع رفع كما قال {وَالَّلذانِ يأتِيانِها مِنْكُمْ فآذُوهُمَا} والنصب جائز. وقوله {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} يقول إذا رجوتم عندهم وفاءَ وتأدية للمكاتبة {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} حثَّ الناسَ على إعطاء المكاتبين. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد حدثنا الفراء قال حدثنا حِبّان عن الكلبى عن أبى صالح عن علىّ بن أبى طالب قال: يعطيه ثُلث مكاتبته. يعنى المولى يهب له ثلث مكاتبته.
وقوله {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ} البِغاء: الزنى. كان أهل الجاهلية يُكرهون الإماء ويلتمسونَ منهنَّ الغَلَّة فيفجرن، فنُهى أهل الإسْلام عن ذلكَ {وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لهنَّ {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }
وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ...}
قرأ يحيى بن وَثّاب (مبَيِّنَاتٍ) بالكسر. والناس بعد {مُبَيَّنَاتٍ} بفتح الياء، هذه والتى فى سورة النساء الصغرى. فمنْ قال {مبيَّنات} جعل الفعل واقعاً عليهنَّ، وقد بيَّنهن الله وأوضحهُنَّ (ومبيِّنَات): هاديات واضحات.
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }
وقوله: {كَمِشْكَاةٍ...}
المِشكاة الكُوَّة التى ليست بنافذة, وهذا مَثَل ضربه الله لقلب المؤمن والإيمان فيه. وقوله {الزُّجَاجَة} اجتمع القراء على ضمّ الزجاجة. وقد يقال زَجَاجة وزِجَاجة.
وقوله {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} يُخفض أوله ويُهمز، حدثنا الفراء قال حدثنى بذلك المفضّل الضبىّ قال قرأها عاصم كذلك {دِرِّىء} بالكسر. وقال أبو بكر بن عيّاش: قرأها عاصم {دُرِّىءُ} بضم الدال والهمز. وذُكر عن الأعمش أنه قرأ {دُرِّىء} و {دُرِّىٌّ} بهمزٍوغير همز رُويا عنه جميعاً ولا تُعرف جهة ضمّ أوله وهمزه لا يكون فى الكلام فُعيل إلاّ عجمياً. فالقراءة إذا ضممت أوّله بترك الهمز. وإذا همزته كسرت أوّله. وهو من قولك: دَرَأ الكوكب إذا انحط كأنه رُجم به الشيطان فدمَغه. ويقال فى التفسير: إنه واحد منَ الخمسة: المشترِى وزُحَلَ عُطارد والزُهَرة والمرِيِّخ. والعرب قد تسمّى الكواكب العظام التى لا تعرِف أسماءها الدارارىّ بغير همز.
ومن العرب من يقول: كوكب دِرِّىٌّ فينسبُهُ إلى الدُّرّ فيكسر أوَّله ولا يهمز؛ كما قالوا: سُخْرِىّ وسِخْرِىّ، ولُجّىّ ولِجّىّ.
وقوله {تُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ} (تذهب إلى الزجاجة. إذا قال (تُوقَدُ) . ومن قال (يُوقَدُ) ذهب إلى المصباح ويقرأ (تَوَقّدُ) مرفوعة مشدّدة. ويقرأ (تَوَقّدَ) بالنصب والتشديد. من قال (تَوَقّدُ) ذهب إلى الزجاجة. ومن قال (توقّد) نصبا ذهب إلى المصباح) وكلّ صواب.
وقوله {شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} وهى شَجرة الزيت تَنْبُت عَلى تَلْعة من الأرض، فلا يَسترها عن الشمس شىء. وهو أجود لزيتها فيما ذُكر. والشرقيَّة: التى تأخذها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت لأن لها سترا. والغربية التى تصيبها الشمس بالعشىّ ولا تصيبها بالغداة، فلذلك قال لا شرقيّة وحدها ولا غربيّةٍ وحدهَا ولكنها شرقية غربية ا. وهو كما تقول فى الكلام: فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يُسَافر ويقيم، معناه؛ أنه ليس بمنفرد بإقامة ولا بسفر.
وقوله {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} انقطع الكلام ها هنا ثم استأنف فقال {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ولو كان: نوراً على نورٍ كان صواباً تخرجه من الأسماء المضمرة من الزجاجة والمصبَاح.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }
وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ...}
قرأ الناس بكسر الباء. وقرأ عاصم (يُسَبَّحُ) بفتح الباء. فمن قال {يسبَّح} رفع الرجال بنيَّة فعل مجدَّد. كأنه قال يُسَبِّح له رجال لا تلهيهم تجارة. ومن قال {يُسَبِّح} بالكسر جَعَله فعلاً للرجال ولم يضمر سواه.
وأمَّا وقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} فإن دخول (فى) لذكر المصباح الذى وصفه فقال: كمثل مصباح فى مسجد. ولو جَعلت (فى) لقوله {يسبّح} كان جَائزاً، كأنه: قال فى بيوت أذن الله أن ترفع يسبح له فيهَا رجال.
وَأمَّا قوله {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} أى تبنى.
{ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ }
وقوله: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ...}
فالتجارة لأهل الْجَلَب، والبيع ما باعه الرجل على يديه كذا جاء فى التفسْير.
وقوله {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} يقول: من كانَ فى دنياه شاكاً أَبصر ذلك فى أمر آخِرتته، ومن كان يشكّ ازداد قلبُه بصرا؛ لانه لم يره فى دنياهُ: فذلك تقلُّبها.
وأمَّا قوله {وَإِقَامِ الصَّلاَةِ...}
فإن المصدر من ذوات الثلاثة إذا قلت: أفْعلت كقِيلك: أقمت وأجَرْت وأجبْت يقال فيه كله: إقامةً وإجارةً وإجابةً لا يسقط منه الهاء. وإنما أدخلت لأن الحرف قد سقطت منه العين، كان ينبغى أن يقال: أقمته إقواماً وإجوابا فلمّا سُكّنت الواوُ وبعدهَا ألف الإفعال فسَكّنتا سقطت الأولى منهما. فَجعلوا فيها الهاء كانها تكثير للحرف. ومثله ممّا أُسْقط منه بَعْضه فجعلت فيهِ الهاء قولهم: وعدته عِدَة ووجدت فى المال جِدَةٍ، وزِنَة ودِيَة وما أشبه ذلكَ، لما أسْقطت الواو من أوّله كُثِّر من آخره بالهاء. وإنما اسْتجيز سقوط الهَاء من قوله {وَإِقَامِ الصَّلاَةِ} لإضافتهم إيّاه، وقالوا: الخافض وما خَفَضَ بمنزلة الحرف الواحد. فلذلك أسْقطوهَا فى الإضَافة. وقال الشاعر:
إنّ الخليط أجَدّوا البين فانجرَدُوا * وأخلفُوك عِدَ الأمر الذى وَعَدوا
يريد عِدَة الأمر فاستجاز إسْقاط الهاء حين أضافها.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ...}
القِيعة جماع القَاعِ واحدها قاع؛ كما قولوا: جارٌ وجِيرة. والقاع منَ الأرض: المنبسِط الذى لا نبت فيه، وفيه يكون السَّراب. والسَّراب ما لصِق بالأرض، والآل الذى يكون ضحى كالماء بين السّماء والأرض.
وقوله {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ} يعنىالسّراب {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} وهو مَثَل للكافر كان يحسب أنه عَلى شىء فلمَّا قدِم على ربّه لم يجد له عملاً، بمنزلة السراب {وَوَجَدَ اللَّهَ} عند عمله يقول: قدِم على الله فوفّاه حسابَه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }
قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ...}
والظلمات مثل لقب الكافر،أى أنه لا يعقل ولا يُبصر، فوصَف قلبه بالظلمات. ثم قال: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فقال بعض المفسّرينَ: لا يراها، وهو المعنى؛ لأن أقل من الظلمات التى وصفها الله لا يَرَى فيها الناظر كفّه. وقال بعضهم إنما هو مثَل ضربه الله فهو يراها ولكنه لا يرهَا إلاّ بطيئا؛ كما تقول: ما كدت أبلغ إليك وأنت قد بلغت. وهو وجه العربية. ومِن العرب ب مَن يُدخل كاد ويكاد فى اليقين فيجعلها بمنزلة الظن إذا دخل، فيمَا هو يقين؛ كَقوله {وَظَنُّوا مَالَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} فى كثيرٍ منَ الكلام.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }
وقوله: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ...}
وتسبيحَهُ ترفع كلاًّ بما عاد إليه من ذكره وهى الهاء فى (صلاته وتسبيحه) وإن شئت جعلت العلم لكل، أى كل قد عاد صلاته وتسبيحه فإن شئت جعِلت الهاء صلاةَ نفسه وتسبيحَهَا. وإن شئت: تسبيح الله وَصلاته التى نُصلّيها له وتسبيحها، وفى القول الأوّل: كلّ قد علم الله صَلاته وتَسْبِيحَهُ، ولو أتتْ كُلاًّ قَد علِم بالنصب عَلى قولك: علم الله صَلاة كلٍّ وتسبيحه فتنصب لوقوع الفعل على راجع ذكرهم، أنشدنى بعض العرب:
كُلاًَ قَرَعنا فى الحروب صَفَاتَه * ففررتم وأطلتم الخِذلانَا
ولا يجوز أن تقول: زيداً ضربتَهُ. وإنما جاز فى كلّ لأنها لا تأتى إلاّ وقبلَها كلام، كأنها مُتَّصِلَةٌ به؛ كما تقول: مررت بالقوم كلّهم وَرَأيت القومَ كلاّ يقولُ ذلكَ، فلمّا كانت نعتاً مستقصىً به كانت مَسْبُوقةً بأسمائهَا وليسَ ذلك لزيدٍ ولا لعبدِالله ونحوهما؛ لأنها أسْمَاء مبتدآتٌ.
وقد قال بعض النحَويين: زيداً ضربته، فنصَبَهُ بالفعلِ كما تنصبه إذا كان قبلَهُ كلامٌ. ولا يجوز ذلكَ إلا أن تنوى التكرير، كأنه نوى أن يوقع ب: يقع الضربَ على زيد قبل: أن يقع على الهاء، فلمّا تأخّر الفعل أدخل الهاء عَلى التكرِير، ومثله مّما يُوضحه.
قولك: بزيدٍ مََرَرْت به. ويدخل عَلى مَنْ قال زيدا ضَربتُهُ على كلمة أن يقول: زيداً مَرَرْتُ به وليس ذلك بشىء لأنه ليس قبله شىء يكون طَرَفاً للفعل.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ }
وقوله: {يُزْجِي سَحَاباً...}
يسوقه حيث يريد. والعرب تقول: نحن نُزْجى المطِىّ أى نسوقه.
وقوله {يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يَقول القائل: بين لا تصلح إلاّ مضَافة إلى اثنين فما زاد، فكيف قال {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} وإنما هو واحدٌ؟ قلنا: هو واحد فى اللفظ ومعناه جميع؛ ألا ترى قوله {يُنْشِئُ السَّحَابَ الثِقَالَ} ألا ترى أن واحدَتُه سَحَابَة، فإذا ألقيت الهاء كان بمنزلة نخلةٍ ونخلٍ وشجرة وشجر، وأنت قائل: فلان بين الشجرة وبين النخل، فصَلحت (بين) مع النخل واحده لأنه جمع فى المعنى. والذي لا يصلح من ذلكَ قولك: المال بين زيد، فهذا خطأ حتى تقول: بين زيد وعمرو وإن نويت بزيد أنه اسم لقبيلة جَاز ذلكَ؛ كما تقول: المال بين تميم تريد: المال بين بنى تميم وقد قال الأشهب بن رُمَيلةَ:
قفا نسألْ منازل آل ليلى * بتُوضِح بين حَوْملَ أو عُرَادا
أراد بحومَل منزلاً جامعاً فصلحت (بين) فيه لأنه أراد بين أهل حومل أو بين أهل عُرَاد.
وقوله {فَتَرَى الْوَدْقَ} الوَدْق: المطَرُ.
وقوله {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} يعذّب به من يشاء.
قوله {مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} والمعنى - والله أعلم - أَن الجبال فى السَّمَاء من بردِ خِلقةً مخلوقة. كما تقول فى الكلام. الآدمىُّ من لحمٍ ودم فـ (من) ها هنا تسقط فتقول: الآدمىُّ لحمٌ ودمٌ، والجبال بَرد، وكذا سَمعت تفسيره. وقد يكون فى العربيَّة أمثال الجبال ومقاديرُهَا منَ البَرَد، كما تقول: عندى بيتان تِبناً، والبَيتان ليسَا من التبن، إنما تريد: عندى قدر بيتين من التبن، فمنْ فى هذا الموضع إذا أُسقطت نصبت ما بعدها، كما قال {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} وكما قال {مِلءُ الأرْضِ ذهباً}.
وقوله {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} وقد قرأها أبو جعفر (يُذْهِبُ بالأبصارِ) ا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ...}
و (خَلَق) وأصحاب عبدالله قرأوا (خالق) ذُكر من أبى إسحاق السَّبِيِعىّ - قال الفَراء: وهو الهَمْدانى - أنه قال: صَليت إلى جنب عبدالله بن مَعْقِل فسمعته يقول (واللّهُ خَالِقُ كلّ دابَّة) والعوامُّ بعدُ {خَلَق كُلَّ}.
وقوله {كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} يقال: كيفَ قال {مَّن يَمْشِي} وإنما تكون (مَن) للناس وقد جعلها ها هنا للبهائم؟
قلت: لمَّا قال {خالق كل دابَّة} فدخل فيهم الناسُ كنى عنهم فقال (منهم) لمخالطتهم الناس، ثم فسَّرهم بَمن لمّا كنى عنهم كناية الناس خَاصّة، وَأنْت قائل فى الكلام: من هذان المقبلان لرجل وَدَابَّته، أو رجلٍ وبعيره. فتَقوله بِمَن وبما لاختلاطهما، ألا ترى أنك تقول: الرجل وَأباعِرهُ مقبلون فكأنهم ناس إذا قلت: مقبلونَ.
{ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ }
وقوله: {مُذْعِنِينَ...}:
مطيعينَ غير مستكرَهينَ. يقال: قد أذعن بحقّى وأمعنَ به واحِدٌ، أى أقرَّ به طائِعاً.
{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
وقوله عزّ وجلّ: {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ...}
فجعل الحيف منسوباًَ إلى الله وإلى رَسُوله، وإنما المعْنَى للرَّسُول، ألا ترى أَنه قال {وَإذَا دُعُوا إلى اللهِ ورسُولِهِ ليَحْكُمَ بَيْنهُمْ} ولم يقل (ليحكما) وإنما بدئ بالله إعظاماً له، كما تقول: ما شاءَ الله وشئتَ وانت تريد ما شئتَ، وكما تقول لعبدك: قد أَعتقك الله وأعتقتك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
وقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ...}
ليسَ هَذَا بخبرٍ ماضٍ يُخبرَ عنه، كما تقول: إنما كنتَ صبيّاً، ولكنه: إنما كان ينبغى أن يكون قول المؤمنينَ إذا دُعُوا أن يقولوا سَمعنا. وهو أدب منَ الله. كذا جَاء التفسير.
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }
وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ...}
واجه القوم ومعناه: فإن تَتَولَّوا. فهى فى موضع جزم. ولوكانت لقومٍ غير مخاطبين كانت نَصْباً، لأنها بمنزلة قولكَ: فإن قَامُوا. والجزاء يصْلح فيه لقظ فَعَل ويفعَل، كما قال {فإن فَاءُوا فَإنَّ الله غَفُورٌ رَحِيم}.
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ...}
العِدَة قول يصلح فيها أنْ وجوابُ اليمين. فتقول: وعدتك أن آتيك، ووعدتك لآتينَّك. ومثله {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} وإنَّ أنْ تصلح فى مثله من الكلام. وقد فُسِّرَ فى غير هذا الموضع.
وقوله {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأها عاصم بن أبى النَّجُود والأعمش (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتشديد. وقرأ الناس {وَليُبْدِلنَّهُمْ} خَفيفة وهما متقاربان. وإذا قلت للرجل قد بُدّلت فمعْنَاه غُيِّرت وغَيِّرت حالكَ ولم يأت مكانك آخر. فكل ما غُيِّر عن حاله فهو مُبَدَّل بالتشديد. وقد يجوز مُبْدَل بالتخفيف وليس بالوجه: وإذا جعلت الشىءَ مكان الشىء قلت: قد أبدلته كقولك (أبدل لى) هذا الدراهم أى أعطنى مَكَانه. وَبَدّلْ جَائزَةً فمن قال {وليُبَدِّلَنَّهُمْ من بَعْدِ خوفهم أَمْناً} فكانه جَعَل سبيل الخوف أمْناً. ومن قال (وليُبدِلَنَّهُم) بالتخفيف قال: الأمن خلاف الخوف فكانه جَعَل مكانَ الخوف أَمْنَا أى ذهب بالخوف وَجَاء بالأمْنِ. وهذا من سعة العربية وقال أَبو النجم:
* عزل الأمير للأَمير المبدَل *
فهذا يوضح الوجهين جميعاً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ...}
قرأها حمزة (لا يَحْسبنَّ) بالياء هَا هُنَا. وموضع (الذينَ) رفع. وهو قليل أن تعطّل (أظنّ) من الوقوع على أن أو على اثنين سِوَى مَرْفوعها. وكأنه جعل {مُعْجِزِينَ} اسماً وجعل {فِي الأَرْضِ} خبراً لهم؛ كما تقولُ: لاَ تحسبَنَّ الذين ب الذين كَفروا رجالا فى بيتكَ، وهم يريدونَ أنفسهم. وهو ضعيف فى العربية. والوجه أن تُقرأ بالتاء لكون الفعل واقعاً على (الذينَ) وَعَلى (معجزينَ) كذلك قرأ حمزة فىالأنفال (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا).
{ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صلاةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...}
يعنى الرجال والنسَاء. ثم قال {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ} الصبيانُ (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) ثم فسرهُنَّ فقال {مِّن قَبْلِ صلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صلاةِ الْعِشَآءِ} عند النوم. ثم قال (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ) فنصبها عاصم والأعْمَش، ورفع غيرهما. والرفع فى العربيّة أحبُّ إلىَّ. وكذلكَ أقرأ. والكسائى يقرأ بالنصب؛ لأنه قد فسرها فى المرات وفيما بعدها فكرهت أَنْ تُكَرَّ ثالثة واخترت الرفع لأنَّ المعنى - والله أعلم - هذه الخصال وقتُ العورات ليس عَليكم ولا عليهم جناح بعدهنَّ. فمعها ضَمير يَرفع الثلاث. كانك قُلت: هذه ثلاث خصال كَمَا قَالَ (سُورَة أنزلناها) أى هذه سورة، وكما قال {لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الفاسِقُون}.
وأمَّا قوله {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} فإنه أيضاً مُسْتأنَف كقولك فى الكلام: إنما هم خَدَمكم, وطوَّافونَ عليكم. ولو كان نَصْباً لكانَ صَوَاباً تخرِجُه مَن (عَليهم) لأنها معرفة {وطَوَّافونَ} نكرة ونصبه كما قال {مَلْعُونِينَ أيْنَمَا ثُقِفُوا} فنصب لأن فى الآية قبلها ذكرهم معرفة، و {ملعونين} نكرة.
{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ...}
يقول: لا يدخلُنّ عليكم فى هذه الساعات إلا بإذنٍِ ولا فى غَير هذه السَّاعات إلاَّ بإذن. وقوله {كَمَا اسْتأْذَنَ الذينَ من قبلهم} يريد الأحرار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }
وقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً...}
لا يطمعنَ فى أن يتزوَّجن من الكِبَر {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} و {من ثيابهنَّ} وهو الرَداء. فرخّص للكبيرة أن تضعه، لا تريد لذلك التزيُّن. ثم قال {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} فلا يضعن الأردية {خَيْرٌ لَّهُنَّ} وفى قراءة عبدالله (أن يضعن من ثيابهم).
{ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
وقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ...}
إلى آخر الآية، كانت الأنصار يتنزّهونَ عن مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض، ويقولون: نُبصر طيّب الطعام ولا يبصره فنسبقه إليه، والأعرج لا يستمكن منَ القعود فينالَ ما ينال الصحيح، والمريض يضعف عن الأكل. فكانوا يعزلونهم. فنزل: ليس عليكم فى مؤاكلتهم حرج. و (فى) تصلح مكان (على) هَا هنا تقول: ليس عَلَى صلةِ الرحم وإن كانت قاطعة إثم، وليس فيها إثم، لا تبالى أَيَّهما قلت.
ثم قَالَ {وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} إلى آخر الآية. لمَّا أنزل الله {لاَتَأْكُلُوا أَموالَكُمْ بينكُمْ بالباطِلِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} ترك الناسُ مؤاكلة الصَّغير والكَبير ممّن أذِن الله فى الأكل مَعَه ومنْه، فقال: وليسَ عَليكم (في أنفسكم) في عيالكم أن تأكلوا منهم ومعهم إلى قوله (أَوْ صَدِيقِكُم) مَعناه: أو بيوت صديقكُم، وقبلَها {أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} يعنى بيوت عبيدكم وأموالهم فذلك قوله (مفاتحه) خزائِنه وواحد المَفاتح مَفتح إذا أردت به المصدر وإذا كان من المفاتيح التى يفتح بهَا - وهو الإقليد - فهو مِفْتَح ومفتاح.
وقوله {فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} إذا دخل عَلَى أهله فليُسَلّم. فإن لم يكن فى بيتِهِ أحد فليقل السَّلام عَلينا من ربِّنا، وإذا دخل المسجد قال: السلام على رسول الله، السَّلام علينا وعَلَى خيار عباد الله الصالحين، ثم قال: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أى من أمر الله أمركم بها تفعلون تحيَّة منه وطاعةً له. ولو كانت رفعاً ا عَلَى قولكَ: هىَ تحيَّةٌ من عند الله (كان صواباً).
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ...}
كان المنافقون يشهدون الجُمُعة مع النبىّ صَلى الله عليه وسلم فيذكِّرهم ويعيبهم بالآياتِ التى تنزل فيهم، فيضجرون من ذلكَ. فإن خفى لأحدهم القيامُ قَامَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النور )
{ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ...}
أى يستتر (هَذَا بهذا) وإنَّما قَالُوا: لو اذا لأنها مصدر لاوَذْت، ولو كانت مصدراً لِلُذْت لكانت لِياذاً أى لذت ليَاذاً، كما تقول: قمت إليه قياماً، وقامتك قِوَاماً طويلا. وقوله {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} يقول: لاتدْعُوهُ يَا محمد كما يدعو يعضكم بعضاً. لكن وقِّرُوهُ فقولوا: يا نبىِّ الله يا رسول الله يَا أبا القاسم.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الفرقان )
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }
قوله: {تَبَارَكَ...}:
هو من البركة. وهو فى العربيَّة كقولك تقدَّس رَبُّنا. البركة والتقدُّس العظمة وهما بعد سوَاء.
{ وَقَالُواْ مَالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً }
وقوله: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ...}
جواب بالفَاء لأن (لولا) بمنزلة هَلاَّ.
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً }
قوله: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ...}
لهُ مرفوعان على الرّدّ عَلَى (لَولاَ) كقولك فى الكلام أو هلاّ يُلقى إليْه وقد قرئت (نَأْكُلُ مِنْهَا) و (يأكل بالياء والنون).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً }
وقوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً...}
يقول: لا يستطيعون فى أمركَ حيلةً.
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً }
وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ...}
جَزَاء {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} مجزومةٌ مردودةٌ على (جَعَل) و (جَعَلَ) فى معنى جَزْمِ، وقد تكون رَفعاً وهى فى ذلكَ مجزومةٌ لأنها لام لقِيت لام فسكنت. وإن رفعتها رفعاً بَيّناً فجائِز (ونصبها جَائز على الصَّرف).
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً }
وقوله: {تَغَيُّظاً وَزَفِيراً...}
هو كتغيظ الآدمىّ إذا غضِب فَغَلَى صَدرُه وَظهَرَ فى كلامه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }
وقوله: {ثُبُوراً...}
الثبور مصدر، فلذلك قال {ثُبُوراً كثيراً} لأن المصادر لا تُجمع: ألا ترى أنك تقول: قعدت قُعُوداً طويلاً، وضربته ضرباً كثيراً فلا تجمع. والعربُ تقول: ماثَبَرَك عن ذا؟ أى ما صَرفك عنه. وكأنهم دَعَوْا بما فَعلوا، كما يقول الرجل: واندامَتَاهُ.
{ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً }
وقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً...}
يقول: وعدهم الله الجنّة فَسَألوهَا إيَّاه فى الدنيا إذ قالوا {رَبَّنا وآتنا مَا وعَدْتَنَا عَلَى رُسُلك} يُريد على ألسنة رسلكَ، وهو يومَ القيامة غير مسئول. وقد يكون فىالكلام أن تقول: لأعطينَّك ألفاً وعداً مسئولاً أى هو واجبٌ لك فتسأله لأن المسئول واجب، وإن لم يُسأل كالدَّين.
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً }
وقوله: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ...}
قالت الأصْنَام: ما كانَ لنا أن نعبد غَيْرَكَ فكيف ندعُو إلى عبداتنا! ثم قالت: ولكنكَ يا ربّ متَّتعَهُمْ بالأموال والأولاد حَتَّى نَسُوا ذكركَ. فقال الله للآدميينَ {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} يقول: {كذَّبتكم الآلهة بما تقولونَ} وتقرأ {بِمَا يقولون} باليَاء (والتّاء) فمن قرأ بالتَّاء فهو كقولك كذّبكَ يكذّبك. ومن قرأ باليَاء قال: كذّبوكم بقولهم. والقراء مجتمعَة عَلَى نصب النون فى (نَتَّخِذَ) إلا أبا جعفر المدنىّ فإنه قرأ (أن نُتَّخَذَ) بضم النون {مِنْ دُونِكَ} فلو لم تكن فى الأوليَاء (مِنْ) كَانَ وجهاً جيِّداً، وهو على (شذوذه و) قلّة مَن قرأ به قد يجوز على أن يَجْعَل الاسم فى {مِن أوليَاء} وإن كَانت قد وقعت فى موقع الفعل ب وإنما آثرت قول الجماعة لأن العرب إنما تُدخل (مِن) فىالأسْمَاء لا فى الأخبار؛ ألا ترى أنهم يقولون: ما أخذت من شىء وما عندى من شىء، ولا يقولونَ ما رأيتُ عبدالله مِن رجل. ولو أرادوا ما رأيت من رجل عبدَالله فجعلوا عبدَالله هو الفعل جَاز ذلكَ. وهو مذهب أبى جعفر المدنىّ.
وقوله {قَوْماً بُوراً} والبور مصدر واحد وجمع؛ والبائِر الذى لا شىء فيه. تقول: أصبْحت منازلهم بُوراً أى لا شىء فيها. فكذلك أَعْمَال الكفار باطل. ويقال: رجل بُور وقوم بُور.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }
وقوله: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ...}
(ليأكلون) صلة لاسم متروك اكتفى بمن المرسَلينَ منه؛ كقيلك فى الكلام: ما بعثت إليْك من الناس إلا مَن إنه ليطيعُكَ، ألا ترى أن (إنه ليطيعَكَ) صلة لَمن. وجَازَ ضميرهَا كما قَالَ {ومَا مِنَّا إلا لَهُ مَقَام مَعْلومٌ} معناه - والله أعْلَمُ - إلا مَنْ له مَقام وكذلك قوله {وَإِن مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ما منكم إلا مَن يردهَا، ولو لم تكن اللام جَوَاباً لإنَّ كانَتْ إنَّ مَكسُورةً أيضاً، لأنها مبتدأة، إذْ كانت صلةً.
وقوله{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} كان الشريف من قريشٍ يقول: قد أسْلم هَذَا مِنْ قبلى - لمن هو دونه - أَفَأُسلم بَعْده فتكونَ له السَّابقة؛ فذلك افتتان بَعْضهم بِبَعْضٍ. قال الله{أَتَصْبِرُونَ} قال الفرّاء يقول: هو هذا الذى ترونَ.
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً }
وقوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا...}
لا يخافون لقاءنا وهى لغة تِهاميّة: يضعونَ الرجاء فى موضع الخوف إذا كان معه جحدٌ. من ذلكَ قوله {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وقاراً} أى لا تخافون له عظمةً. وأنشدنى بعضهم:
لا ترتجى حينَ تلاقى الذائدا * أسَبْعةً لاقَتْ مَعاً أم وَاحِداً
يريد: لا تخاف ولا تبالى. وقال لآخر:
إذا لسعته النحل لم يَرْجُ لَسْعَهَا * وَحَالفَهَا فى بيتِ نُوب عَوَامِلِ
يقال:نَوْب ونُوب. ويقال: أَوْب وأُوب من الرجوع قال الفراء: والنُوب ذكر النحل.
وقوله {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} جاء العُتوُّ بالواو لأنه مصدر مصرّح. وقال فى مريم {أيُّهُمْ أَشَدُّ على الرحمن عِتِيّاً} فَمَنْ جَعَلَهُ بالواو كان مصدراً محضا. ومن جعله باليَاء قال: عات وعُتِىّ فلمّا جَمَعُوا بُنى جَمْعهم على واحدهم. وجَاز أن يكون المصدر باليَاء أيضاً لأن المصْدر والأسماء تتّفق فى هَذا المعنى: ألا ترى أَنهم يقولون: قاعد وقوم قعود، وقعدت قعوداً. فلمّا استويا هَا هُنَا فىالقُعُود لم يبالوا أن يستويا فى العُتو والعتىّ.
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً }
وقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ...}
اليوم ليسَ بصلة للبشرى فيكونَ نصبُه بهَا. ولكنك مضمر للفاء؛ كقيلكَ فى الكلام: أمَّا اليومَ فلاَ مَال. فإذا ألقيت الْفَاء فأنت مضمِر لمثل اليوم بعد لا. ومثله فى الكلام: عندنا لا مال إن أردت لا مال عندنا فقدّمت (عندنا) لم يجز. وإن أضمرت (عندنا) ثانية بعد (لا مَال) صلح؛ ألا ترى أنَّكَ لا تقول: زيدا لا ضارِبَ (يا هذا) كَمَا تقول: لا ضارِبَ زَيداً.
وقوله: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} حَرَاماً محرّماً أن يكون لهم البشرى. والحِجْرُ: الحرام، كما تقول: حَجَر التاجر عَلَى غُلامه، وحجر عَلَى أهله. وأنشدنى بعضهم:
فهممتُ أن ألقى إليهَا مَحْجَراً * ولَمِثْلُها يُلْقى إِليْهِ المحجَرُ
قال الفراء: أَلْقى وإلْقى من لقِيت أى مِثلُها يُركبُ منه المحرّم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }
وقوله: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ...}
عَمَدْنا بفتح العين: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} أى باطِلا، والهباء ممدود غير مهموزٍ فىالأصل يصغر هُبَىٌّ كما يصغر الكِساء كُسَىّ. وجُفَاء الوادى مهموز فىالأصْل إن صغّرته قلت هذا جُفَىْء. مثل جُفَيع ويقاس على هذين كلُّ ممدود من الهمز ومن اليَاء ومن الواو.
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }
وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً...}
قال: بعض المحدِّثين يُرَون أنه يفرغ من حِسَاب الناس فى نصف ذلك اليوم فيقِيل أهلُ الجنَّة فى الجنّة وأهل النار فى النار. فذلكَ قوله {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وأهل الكلام إذا اجتمع لهم أحمق وعَاقل لم يستجيزوا أن يقولوا: هَذا أحمقُ الرَّجلين ولا أعقل الرجلين، وَيَقولون لا نقول: هذا أعقل الرجلين إلا لعَاقلينَ تفضّل أحدهما على صَاحبه. وقد سَمعت قول الله {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} فجعل أهل الجنة خيراً مُستقراً مِنْ أهْل النَارِ، ولْيسَ فى مستقرّ أهلِ النار شىء منَ الخير فاعرف ذلك من خَطَائهم.
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً }
وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ...}
ويقرأ {تَشَّقَّقُ} بالتشديد وقرَأها الأعمش وعَاصم (تَشَقَّقُ السَّمَاءُ) بتخفيف الشين فمنْ قَرَأ تَشَّقَّق أراد تتشقق بتشديد الشين والقاف فأدغم كما قال {لا يَسَّمّعون إلى الملأ الأعلى} ومعناه - فيما ذكروا - تشقُّق السماء (عن الغمام) الأبيض ثم تنزل فيه الملائكة وعَلَى وعن واليَاء فى هذا الموضع (بمعنى واحد) لأنَّ العَرَب تقول: رميت عن القَوس وبالقوس وعَلَى القوس، يراد به معنًى واحدٌ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً }
وقوله: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ...}
يقال: النبىّ ويقال: القرآن, فيهِ قولان.
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }
وقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً...}
مَتْرُوكاً. ويقال: إنهم جَعَلُوه كالهَذَيان والعرب تقول (هَجَر الرجل) فى منامه إذا هَذَى أو رَدَّد الكلمة.
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً...}
يقول: جَعَلنا بعض أمّة كل نبىّ أشدَّ عليه منْ بَعض وكان الشديدَ العدواة للنبىّ صَلى الله علَيْه وسَلم أبو جَهل بنُ هِشَامٍ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }
وقوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ...}
يقال: إنها من قول المشركينَ. أى هَلاّ أنزل عليه القرآن جملةً، كما أُنزِلت التوراة على موسى. قال الله {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} لنثبّت به فؤداكَ. كان يُنزِّل الآية والآيتين فمكان بَيْنَ نزول أوله وَآخرِه عشرون سنة {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} نزَّلناه تنزيلاً. ويقال: إن (كذلك) من قول الله، انقطع الكلام من قِيلهم (جملةً وَاحِدَةً) قال الله: كَذلك أنزلناه يا محمَّد متفرقاً لنثبِّت به فؤادكَ.
{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }
وقوله: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً...}
بمنزلة قوله {أصحابُ الجنَّة يوْمَئِذٍ وأحْسَنُ مَقِيلاً} فى معنى الكلام والنصب.
{ فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً }
وقوله: {فَقُلْنَا اذْهَبَآ...}
وإنما أُمر موسَى وحده بالذهاب فى المعنى، وهذا بمنزله قوله {نَسِيا حُوتَهُمَا}، وبمنزلة قوله {يَخرُجُ مِنْهُمَا اللؤلؤُ والمَرْجان} وإنما يخرج من أحدهما وقد فُسِّر شأنه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً }
وقوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ...}
نصبتهم بأغرقناهم وإن شئت بالتَدمير المذكور قبلهم.
{ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً }
وقوله: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً...}
منصوبوُن بالتدمير قال الفراء يقال: إن الرسّ بئر.
{ وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً }
وقوله: {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً...}
أهلكناهم وأبدناهم إبادةً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً }
وقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ...}
كَان أحدهم يمرُّ بالشىء الحَسَن من الحجارة فيعبُده فذلك قوله {اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ}.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً }
وقوله: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ...}
ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقوله {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} يقول دائماً. وقوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} يقول: إذا كان فى مَوْضعٍ ب شمسٌ كان فيه قبلَ ذلكَ ظِلّ، فجُعلت الشمس دَليلاً عَلَى الظلّ.
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً }
وقوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً...}
يعنى الظلّ إذا لحقته الشمس قُبض الظلُّ قبْضاً يَسِيراً، يقول: هيّنا خفيّا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً }
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى...}
قرأ أصحاب عبدالله (الرياح) ثلاثة مواضع. منهما حرفان فى قراءتنا، وحرف فى النحل وليسَ فى قراءتنا، مَكَان قوله {والنجوم مُسَخرات بأمره} وَهَذَا وَاحِدٌ يعنى الذى فى القرقان. والآخر فى الروم {الرياح مُبَشِّراتٍ} وكَانَ عَاصم يقرأ ما كانَ من رحمةِ الريح وما كان منْ عذاب قرأه ريح. وقد اختلف القراء فى الرحمة فمنهم من قرأ الرّيح ومنهم من قرأ الرياح ولم يختلفوا فى العذاب بالريح ونُرَى أنهم اختارُوا الرياح للرحمة لأن رياح الرَّحْمَة تكون من الصَّبَا والجَنُوب والشَّمال من الثلاث المعروفة؛ وأكثر ما تأتى بالعذاب وما لا مطر فيه الدَّبُورُ لأن الدَّبُور لا تكاد تُلْقِح فسمّيت ريحاً موحّدةً لأنها لا تدور كما تدور اللواقح.
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قالَ حدثنا الفرَّاء قال حَدثنى قَيس بن الربيع عن أبى إسحاق عن الأسْوَد بن يزيد ومسروق بن الأجدع أنهما قرءا (نَشْراً) وقد قرأت القراء (نُشُراً) و (نُشْراً) وقرأ عاصم (بُشراً) حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدّثنى قَيْس عن أبى إسْحَاق عن أبى عبدالرحمن أنه قرأ (بُشُراً) كأنه بشيرة وبُشُر.
{ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً }
وقوله: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً...}
واحَدهم إنْسِىّ وإن شئت جَعلته إنساناً ثم جَمَعته أناسىّ فتكون اليَاء عوضاً من النون والإنسان فىالأصْل إنْسِيَان لأن العرب تصغّره أُنيسيان. وإذا قالوا: أناسِين فهو بيِّن مثل بُستانٍ وبَساتِينَ، وإذا قالوا (أناسىَ كثيراً) فخفّفوا اليَاء أسقطوا اليَاء التى تكون فيمَا بَيْنَ عين الفعل ولامه مثل قراقِير وقراقر، ويبيّن جواز أناسَى بالتخفيف قول العرب أناسِيَةٌ كثيرة ولم نَسْمعه فى القراءة.
{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً }
وقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً...}
البرزخ: الحاجز، جَعَل بينَهمَا حاجزاً لئلاَ تغلب الملوحةُ العذوبةَ.
وقوله: {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} (من ذَلِكَ أى) حراماً مُحرّماً أن يغلب أحَدُهما صَاحِبه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً }
وقوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً...}
المُظاهِر المُعَاوِنُ؛ والظهير الْعَوْن.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }
وقوله: {قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ...}
ذكرُوا أنَّ مُسيلمةَ كان يقال له الرحمن، فقَالُوا: ما نعرف الرّحمن إلاّ الذى باليمامة، يعنون مُسَيْلمةَ الكّذَّاب، فأنزل الله {قُلْ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرحمنَ أيَّامَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى}.
وقوله: {أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا} و {وتأمرنا} فمن قرأ باليَاء أراد مُسَيْلمةَ: ومن قرأ بالتَاء جَاز أن يريد (مُسَيْلمةَ أيضا) ويكون للأمر أنَسْجُدُ لأمركَ إيانا ومن قرأ بالتّاء واليَاء يراد به محمد صَلى الله عليه وسلم (وهو بمنزلة قوله) {قُلْ للذين كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتحشرون} و {وسَيُغلبونَ} والمعنى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً }
وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سُرُجاً...}
قراءة العوام {سِرَاجاً} حَدِّثنا أبُو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا [الفرّاء] قال حدَّثنى هُشَيم عن مُغيرة عن إبراهيم أنه قرأ (سُرُجاً). وكذلكَ قراءة أصحاب عبدالله فمن قرأ {سراجاً} ذهب إلى الشمس وهو وجه حَسَن؛ لأنه قد قال {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} ومَن قال {سُرُجاً} ذهب إلىالمصَابيح إِذا كانت يُهتدى بها، جعلها كالسُرُج والمصْباح كالسراج فى كلام العرب ا وقد قال الله {المِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ}
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }
وقوله: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً...}
يذهب هذا ويجىء هَذَا، وقالَ زُهير فى ذلك:
بِها العِينُ والآرام يَمْشِين خِلفَةً * وأطلاؤهَا يَنْهَضْنَ من كل مَجْثَم
فمعنى قول زهير: خلفةً: مختلِفاتٍ فى أنها ضربان فى ألوانها وَهَيئتها، وتكون خلفة فى مشيتَها. وقد ذُكر أن قوله {خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ} أى من فاته عمل من الليل استدركه بالنهار فجَعَل هذا خَلَفا مِنْ هَذا.
وقوله: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} وهى فى قراءة أُبَىّ (يتذكّرَ) حجّة لمن شدَّد وقراءة أصْحَاب عبدالله وحمزة وكثيرٍ من الناس (لِمَنْ أَرادَ أنْ يَذْكُر) بالتخفيف، ويَذْكُر ويتذكر يأتيان بمعنى واحدٍ، وفى قراءتنا {واذكُرُوا ما فِيهِ} وفى حرف عبدالله (وَتذكَّرُوا ما فيه).
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }
وقوله: {عَلَى الأَرْضِ هَوْناً...}
حَدَّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حَدِّثنى شَرِيك عن جَابر الجُعْفىّ عن عكرمة ومَجاهِدٍ فى قوله {االَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} قال: بالسّكينة والوقار.
وقوله {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} كان أهل مكَّة إذا سَبُّوا المسْلمينَ رَدُّوا عليهم رَدّاً جميلاً قبل أن يؤمروا بقتالهم.
{ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً }
وقوله: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً...}
جاء فى التفسير أنّ مَن قَرَأ شيئاً منَ القرآن فى صَلاَة وإن قلّت، فقد بات سَاجداً وقائماً. وذكروا أنَّهُمَا الركعتان بعد المغرب وبَعد العِشاء ركعتان.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }
وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً...}
يقول مُلحّا دائماً. والعرب تقول: إن فلاناً لمُغْرَم بالنِّسَاء إذا كانَ مولَعاً بهنَّ، وإنى بك لمغرمٌ إذا لم تصبر عن الرجل ونُرَى أن الغريم إنما سُمّى غريما لأنَّه يَطلب حَقه ويُلِحّ حتى يقبضه.
{ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ...}
بكسر التاء. قرأ أبو عبدالرحمن وعاصم (ولم يُقْتِروا) من أقترت. وقرأ الحسنَ (وَلَمْ يَقْتِرُوا) وهى من قَتَرت؛ كقول مَنْ قرأ يَقْتُروا بضم الياء. واختلافهما كاختلاف قوله {يَعرِشُونَ} و{يَعْرُشُونَ} و {يَعْكِفُونَ} و {يعكُفونَ} وَمَعْنَاه {لم يُسْرِفُواْ} ففى نصب القوام وجهان إن شئت نصبت القوام بضمير اسمٍ فى كان (يكون ذلك الاسم من الإنفاق) أى وكان الانفاق {قَوَاماً بَيْنَ ذَلِكَ} كقولك: عدلاً بينَ ذلك أى بينَ الإسراف الإقتار. وإن شئت جَعَلْتَ (بين) فى معنى رفعٍ؛ كما تقول: كان دونَ هّذَا كافياً لك، تريد: أقلُّ من هذا كان كافياً لك، وتجعَل {وكان بينَ ذلك} كان الوسَطُ من ذلكَ قَوَاماً. والقوَام قَوَام الشىء بين الشيئين. ويقال للمرأة: إنها لحسنة القَوَام فى اعتدالها. ويقال: أنت قِوَام أهلِك أى بك يَقوم أمرُهم وشأنهم وقِيَام وقِيَمٌ وقَيِّمٌ فى معنى قِوَامٍ.
{ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً }
وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً...}
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ...}
قرأت القراء بجزم (يضاعف) وَرَفعَه عَاصم بن أبى النَّجُود. والوجه الجزم. وذلك أن كُلّ مجزوم فسَّرته ولم يكن فعْلاً لمَا قَبْلَهُ فالوجه فيه الجزم، وما كان فعلاً لما قَبلَهُ رَفَعْته. فأمّا المفسِّر للمجزوم فقوله {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ثم فسر الأثام، فقال {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} ومثله فى الكلام: إن تكلِّمنى تُوصِنى بالخير والبِرّ أقبلْ منك؛ ألا ترى أنك فسَّرت الكلام بالبِرّ ولم يكن فعلاً له، فلذلك جَزَمت. ولو كان الثانى فِعْلا للأوّل لرفعته، كقولك إن تأتنا تطلبُ الخير تجدْه؛ ألا تَرَى أنك تجِد (تطُلب) فعلاً للاتيانِ ب كقيلكَ: إن تأتنا طالباً للخير تجده.
قال الشاعر:
مَتى تأْتِهِ تَعْشُو إلى ََضَوْءِ نَارِه * تجد خير نار عندهَا خَيْرُ موقد
فرفع (تَعْشو) لأنه أراد: متى تأته عاشياً. ورفع عاصم (يُضاعف له) لأنه أراد الاسْتئنافَ كما تقول: إن تأتنا نكرمْك نعطيك كلّ ما تريد، لا على الجزاء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }
وقوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ...}
يقول: لا يحضرون مجَالسَ الكذب والمعاصِى.
ويقال (أعياد المشركينَ لا يشهدونَها) لأنها زُور وكذب؛ إذْ كانت لغير الله. وقوله {بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} ذُكِر أنهم كانوا إذا أجَروا ذكر النساء كَنَوا عن قبيح الكلام فيهنَّ. فذلك مرورهم به.
{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }
وقوله: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً...}
يقال: إذا تُلى عليهم القرآن لَمْ يقعدوا على حالهم الأولى كأنهم لم يَسْمَعُوه. فذلك الخرور. وسمعتُ العربَ تقول: قَعَدَ يشتمنى، وأقبل يشتمنى.
وأنشدنى بعض العرب:
لا يُقنع الجاريةَ الخِضَابُ * ولا الوشاحَان ولا الجِلبَابُ
من دون أن تلتِقىَ الأركَابُ * وَيَقْعُدَ الهَنُ لَهُ لُعَابُ
قال الفرّاء: يقال لموضع المذاكير: رَكَب. ويقعد كقولك: يَصيرُ.
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }
وقوله: {وَذُرِّيَّاتِنَا...}
قرأ أصحاب عبدالله (وَذُرِّيَّتِنَا) والأكثر {وذُرِّيَّاتِنَا} وقوله {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ولو قيل: {عَيْنٍ} كان صَوَاباً كَمَا قالت {قُرَّةُ عَيْنٍ لِى وَلَكَ} ولو قرئت: قُرَّاتِ أَعْيُن لأنهم كثير كانَ صَوَاباً. والوجه التقليل {قُرَّة أعين} لأنه فِعْلٌ والفِعْل لا (يَكَادُ يجمعُ) ألاَ تَرى أنه قالَ {لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فلم يجمعهُ وهو كثيرٌ. والقُرَّةُ مَصْدَرٌ. تقول: قَرَّت عينُكَ قُرّةً.
وقوله {لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} ولم يقل: أئِمَّةً وهو واحدٌ يجوز فى الكلام أن تقول: أصْحاب مُحمد أئِمَّةُ الناسِ وإمامُ الناسِ كَمَا قَالَ {إنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمينَ} للاثنين وَمَعْنَاه: اجعنا أئِمّةً يُقْتَدَى بنا. وقال مجاهد: اجعلنا نقتدِى بمن قبلنا حتى يَقْتدى بنَا مَن بعدنا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الفرقان )
{ أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً }
وقوله: {وَيَلْقَوْنَ...}
و {يُلَقَّوْنَ فِيهَا} كل قد قُرئَ به و {يَلْقَوْنَ} أَعْجَبُ إلىَّ؛ لأنَّ القراءة لو كانت عَلَى {يُلقَّونَ} كانت بالبَاء فى العربيَّة؛ لأنك تقول: فلان يُتَلقّى بالسَّلام وبالخير. وهو صَواب يُلَقَّونه ويلَقَّونَ به كما تقول: أخذت بالخطام وأخذته.
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }
وقوله: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي...}
مَا اسْتفهام أى مَا يَصنع بكم {لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} نصبَتْ اللزام لأنك أضمرت فى (يكون) اسماً إن شئت كان مَجْهُولاً فيكون بمنزله قوله فى قراءة أُبَىّ (وإنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) وإن شئتَ جعلت فسَوْفَ يكون تكذيبكم عذاباً لازِماً ذكر أنه ما نزل بهم بوم بَدْرٍ. والرفع فيه جَائز لو أتى. وقد تقول العَرب: لأضربنَّكَ ضَرْبَةً تكونُ لَزَامِ يا هَذَا، تخفض كَمَا تَقُولُ: دَرَاكِ وَنَظَارِ. وأنشد.
لا زلتَ مُحتمِلاً علىّ ضغينَةً * حَتى المماتِ تكونُ مِنْكَ لَزَامِ
قال: أنشدناهُ فى المصَادِرِ.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الشعراء )
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }
قوله: {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ...}
قاتل نفسكَ {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} موضع (أن) نصب لأنها جزاء، كأنك قلت: إن لم يؤمنوا فأنتَ قاتل نفسك. فلمّا كان ماضِياً نصبتَ (أن) كما تقول أتيتك أَنْ أتيتنى. ولو لم يكن مَاضياً لقلت: آتيكَ إلى تَأتنِى. ولو كانت مجزومةً وكسرْتَ (إن) فيها كَانَ صواباً. ومثله قول الله {وَلاَ يجْرِمَنّكم شَنَآنُ قَوْم أَنْ صَدُّوكُم} و {إن صَدُّوكم}. وقوله {من الشهدَاءِ أَن تَضِلّ} و {إِنْ تَضِلّ} وكذلك {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذكرَ صَفْحاً إنْ كُنْتُم} وَ {أن كنتم} وَجهَان جَيِّدَان.
{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }
وقوله: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً...}
ثم قال {فظلَّت} ولم يقل (فتَظللّ) كمَا قَالَ {ننزل} وذلك صواب: أن تعطف عَلَى مَجزوم المجَزاء بِفَعَلَ؛ لأنّ الجزاء يصلح فى موضع فعَل يفعل، وفى موضع يفعَل فعل، ألا ترى أنك تقول: إن زرتنى زرتكَ وإن تزرْنى أزركَ والمعنَى وَاحدٌ. فلذلك صَلح قوله {فظلّت} مَردودةً على يفعَل، وكذلك قوله {تباركَ الذى إن شاء جَعَل لكَ خَيرا من ذلكَ جَنّات} ثم قال {ويَجْعَلْ لك قصُوراً} فرَدَّ يفعَل عَلَى وهو بمنزلة ردّه (فظَلَّت) عَلَى (نُنَزِّل) وكذلك جَواب الجزاءِ يُلقَى يَفعْل بفَعَل، وفَعَل بيفعل كقولك: (إنْ قمت أقم، وإِن تقم قمت). وَأَحْسَنُ الكلام أن تجعَل جَواب يفعل بمثلها، وفَعَل بمثلهَا؛ كَقولك: إن تَتْجُرْ تَرْبَحْ، أَحْسَنُ مِن أن تقول: إن تَتْجُرْ ربِحتَ. وكذلك إن تَجَرْت ربحتَ أحسنُ مِن أن تقول: إن تَجَرتَ تربَحْ. وهما جَائزَان. قال الله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزينَتَها نُوَفِّ إليهم} فقال {نُوَفّ} وهى جواب لَكانَ. وقال الشاعر:
إن يَسمَعُوا سُبَّة طارُوا بهَا فَرَحاً * منى وما يَسَمَعُوا من صَالحٍ دَفَنُوا
فَرَدَّ الجَوَابَ بَفعَل وقبله يفعَلُ قال الفراء: (إن يسمعو سُبَّة على مثال غيَّة).
وقوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} والفعْل للأعناق فيقول القائِل: كيف لم يقل: خاضِعَةً: وفى ذلك وُجُوه كلّها صَوَاب. أوّلهَا أن مُجاهِداً جَعَلَ الأعناق: الرجَال الكُبَراء. فكانت الأعنَاق هَا هُنَا بمنزلة قولِكَ: ظلَّت رءوسهم رُءُوسُ القوم وكبراؤهم لها خَاضِعِينَ للآية. والوجه الآخر أن تجعَلَ الأعناق الطوائفِ، كما تقول: رأيتُ الناسَ إلى فُلانٍ عُنقاً وَاحِدَةً فتجعَل الأعناق الطّوائِف العُصَبَ وَأَحبُّ إليّ مِنْ هذين الوجهين فى العَربيّةِ أن الأعناق إذا خَضَعتْ فأربابها خاضِعُونَ فجعلْتَ الفعل أوّلا للأعنَاق ثم جَعَلت (خَاضِعِينَ) للرجال كما قال الشاعر:
عَلَى قَبِضة مَوْجُوءة ظهرُ كَفّه * فلا المرْءُ مُسْتَحْىٍ ولا هو طَاعِمُ
فأنَّث فعل الظهر لأن الكف تَجمع الظهر وتكفِى منه: كما أنكَ تكتفى بِأن تقولَ: خَضَعتْ لك رَقبتى؛ ألا ترى أن العرب تقول: كلُّ ذى عَيْنٍ ناظِرٌ وناظِرَةٌ إليكَ؛ لأن قولكَ: نظرَتْ إليك عينى ونظرتُ إليكَ بمَعْنى وَاحِدٍ فتُرك (كُلّ) وَلهُ الفِعْل ورُدّ إلى العيْن. فلو قلت: فظلَّت أعْنَاقهم لها خاضعة كانَ صَوَاباً. وقد قال الكسائىّ: هذا بمنزلة قول الشاعر:
ترى أرْبَاقَهُم متقلِّدِيهَا * إذا صَدِئ الحدِيدُ عَلَى الكُمَاةِ
ولا يشبه هذا ذلك لأن الفعل فى المتقلّدينَ قد عاد بذكر الأرباق فصَلح ذَلكَ لعودة الذكر. ومثل هَذَا قولك: ما زالت يدُك باسطَها لأن الفعل منكَ على اليد واقعٌ فَلاَ بُدَّ من عَوْدةِ ذكر الذى فى أول الكلام. ولو كانت فظلت أعنافهم لهَا خَاضعيها كان هذا البيت حُجَّة له. فإذا أوقعت الفعل عَلى الاسم ثم أضفته فلا تكتف بفعل المضاف إلا أنْ يوافق فعلَ الأول؛ كقولك مَا زالت يدُ عبدالله مُنفقاً ومنفقةً فهذا من الموافِقِ ب لأنك تقولُ يدُه مِنفقةٌ وهو منفقٌ ولا يَجوز كانت يده بَاسطاً لأنه باسطٌ لليد واليد مبسوطة، فالفعل مختِلف، لا يكفى فعل ذَا من ذا، فإن أعدت ذكر اليد صَلح فقلت: مَا زالت يده باسطها.
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }
وقوله: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ...}
يقولُ: حَسَنٍ، يقال: هو كما تقول للنخلة: كريمة إذا طابَ حِمْلها، أو أكثر كما يقال للشاة وللناقة كريمة إذا غَزُرتا. قال الفراء: مِنْ كُلِّ زوجٍ من كل لَوْنٍ.
وقوله: فى كلّ هذه السُّورة {وَمَا كان أكثرهم مؤمِنِينَ} فى علم الله. يَقول: لهم فى القرآنِ وتنزيلِه آية ولكنَّ أكثرَهُم فى عِلم الله لن يُؤمنُوا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ }
وقوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ...}
فقوله: {أَلا يَتَّقُونَ} لو كانَ مكانها: ألاَ تَتَّقون كان صَوَاباً؛ لأن موسَى أُمر أَن يقولَ لهم ألا تتَّقونَ. فكانت التّاء تجوز لخطاب موسَى إيَّاهم. وَجَازت اليَاء لأنَّ التَّنزيلَ قبل الخطاب، وهو بمنزلة قول الله {قُلْ لِلَّذينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} و {سيُغْلَبونَ}.
{ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ }
وقوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي...}
مرفوعة لأنَّها مردودة على (أخاف) ولو نُصبَت بالرد عَلَى {يُكَذبُونَ} كانت نَصباً صَوَاباً. والوجه الرفع؛ لأنَّه أخْبر أنّ صدرهُ يضيق وذكر العلَّة التى كانَتْ بلسانِه، فتلك مِمَّا لا تخاف؛ لأنها قد كانت.
وقوله: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} ولم يذكر مَعُونة ولا مؤازرة. وذلكَ أن المعنَى مَعْلوم كما تقول: لو أتانى مَكروهٌ لأرسلت إليك، ومعنَاهُ: لتعيننى وتغيثنى. وإذا كان المعنى مَعْلوماً طُرح منه ما يرد الكلام إلى الإيجاز.
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
وقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ...}
قتْلَه النفسَ فالفعلةَ منصوبة الفاء لانها مَرَّةٌ واحدةٌ. ولا تكون وَهى مَرَّة فِعلةً. ولو أريد بها مثل الجِلسة والمِشيَة جَاز كسرهَا. حدّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى موسَى الأنصَارىّ عن السَّرِىّ بن إسماعيل عن الشّعْبىّ أنه قرأ {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} بكسر الفاء ولم يقرأ بها غيره.
وقوله: {وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وأنت الآن من الكافرينَ لنعمتى أى لتربيَتى إياك وهى فى قراءة عبدالله (قال فعلتها إذاً وأنا من الجَاهلين) والضالّين والجاهلين يَكُونان بمعنى واحدٍ؛ لأنك تقول: جهلت الطريق وضَلَلَتْه. قال الفراء: إذا ضاعَ منك الشىء فقد أضللتَهُ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
وقوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً...}
التوراة.
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ...}
يقول: هى - لعمرى - نعمة إذْ رَبَّيتنى ولم تستعبدنى كاستعبادك بنى إسرائيل. فأنْ تدلّ على ذلك. ومثله فى الكلام أن تترك أحد عبديك أن تضربه وتضربَ الآخر، فيقول المتروكُ هذه نعمة علىَّ أَن ضربتَ فلانا وتركتنى. ثم يحذف (وتركتنى) والمعْنَى قائم معروف. والعرب تقول: عبَّدت العَبيدَ وأعبدتهم.
أنشدنى بعض العرب:
علام يُعْبِدُنى قَومى وقد كثُرت * فيهم أبا عرُمَا شاءُوا وعِبْدانَ
وقد تكون (أن) رفعاً ونصباً. أمَّا الرفع فعلى قولك وتلك نعمة تُمنّها علىَّ: تعبيدُك بنى إسرائيل والنصب: تمنَّها عَلَىَّ لتعبيدك بنى إسرائيل.
{ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ }
ويقول القائل: أين جَواب قوله: { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ...}
فيقال: إنه إنما أراد بقوله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} إلى قول مُوسَى. فردّ موسَى لأنه المراد بالجواب فقال: الذى أدعوكم إلى عبادته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }
وقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ...}
وكذلك قوله: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...}
يقول: أدعوكم إلى عبادة رَبّ المشرق والمغرب وما بينهما.
{ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ...}
وجه الكلام أن تفتح (أنْ) لأنها مَاضية وهى فى مذهب جزاءٍ. ولو كُسرت ونُوى بما بعدها الجزم كان صَوابَا. وقوله: {كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} يقولون: أول مؤمنى أهلِ زماننا.
{ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ }
وقوله: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ...}
يقول عُصْبَةٌ قليلة وقليلونَ وكثيرونَ وأكثر كلام العرب أن يقولوا: قومك قليل وقومنا كثير. وقليلُونَ وكثيرونَ جَائز عَرَبىّ وإنما جَاز لأن القِلَّة إنما تَدخلهم جَميعاً. فقيلَ: قليلٌ، وأوثر قليل على قليلينَ. وجاز الجمع إذ كانت القِلَّة تلزم جَميعهم فى المعنى فظهَرت أسماؤهم على ذلكَ. ومثله أنتم حَىٌّ واحد وحىّ واحِدُونَ. وَمَعْنَى وَاحِدُونَ وَاحدٌ كما قال الكميت:
فردّ قواصِىَ الأحيَاء منهم * قد رَجَعوا كحىّ وَاحِدِينا
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }
وقوله: {حَاذِرُونَ...}
وحِذرُونَ حدّثنا أبو العباس قال حَدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى أبو ليلى السجِستانىّ عن أبى جَرير قاضى سجستان أن ابن مسْعُود قرأ (وإنَّا لجَميِعٌ حَاذِرُونَ) يقولون: مُؤءدونَ فى السّلاح. يقول: ذَوُو أداةٍ من السّلاح. و {حذِرُونَ} وكأن الحاذِر: الذى يَحْذرك الآن, وكأنّ الحذِر: المخلوق حَذِراً لا تلقاه إلاَّ حَذِراً.
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }
وقوله: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ...}
و {لَمُدَّركُونَ} مفتعلون من الإدراك كما تقول: حفرت واحتفرت بمعنىً واحدٍ، فكذلك {لَمُدْرَكُونَ} و {لَمُدَّرَكُونَ} معناهما واحد والله أعلم.
{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ...}
أى كُلَّ آلهةٍ لكم فلاَ أعبدها إلا ربّ الْعَالمَينَ فإنى أعبده. ونصبه بالاستثناء, كأنه قال هم عدوّ غير معبود إلاَّ رب العالمين فإنى أعبده. وإنما قالوا {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} أىْ لو عبدتُهم كانوا لى يومَ القيامة ضِدّاً وعَدُوّاً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ }
وقوله: { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ...}
حدَّثنى عمرو بن أبى المقدام عن الحَكَم عن مجاهد قال: ثناء حسَناً.
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ }
وقوله: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ...}
وذُكر أن بعض القراء قرأ: وأتباعك الأرذلونَ ولكنّى لم أجدهُ عن القراء المَعْروفينَ وهو وجه حَسَنٌ.
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }
وقوله:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ...}
وَ (رَيْع) لغتان مثل الرِّيرِ والرار وهو المُخّ الردئ. وتقول راعَ الطَّعامُ إذا كان له رَيْعٌ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ }
وقوله:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ...}
معناه: كيَا تَخْلُدُوا.
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ }
وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ...}:
تقتُلونَ عَلَى الغَضب. هذا قول الكلبىّ. وقال غيره (بَطَشْتُم جَبّارينَ) بالسوط.
{ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ }
وقوله: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ...}
وقراءة الكسَائى (خَلْق الأوَّلِينَ) قال الفراء: وقراءتى (خَلَق الأولينَ) فمن قرأ (خَلْق) يقول: اختلاقهم وكذبهم ومن قرأ {خَلُق الأولينَ} يقول: عادة الأولين أى وراثة أبيك عن أول. والعرب تقول: حَدِّثنا بأحاديث الخَلْق وهى الخرافات المفتعلة وأشباهها فلذلك اخترت الخُلُق.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ }
وقوله: {هَضِيمٌ...}
يقول: ما دام فى كوافيره وهو الطَّلْع. والعرب تسمّى الطلع الكُفُرَّى والكوافِيرُ واحدته كافورة، وكُفُرَّاةٌ واحدة الكُفُرّى.
{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ }
وقوله: {بُيُوتاً فَارِهِينَ...}
حَاذقينَ و {فَرِهينَ} أَشِرين.
{ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ }
وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ...}
قالوا له: لست بملَك إنما أنت بشر مثلها. والمسحَّر: المجوَّف، كأنه - والله أعْلَم - منْ قولكَ: انتفخ سَحرْكَ أى أنك تأكل الطعام والشراب وتُسَحرَّ به وتعلَّل. وقال الشاعر:
فإن تسألينا فيمن نحن فإنَّنَا * عصَافير مِنْ هَذَا الأنامِ المسَحَّر
/ ب يريد: المُعَلَّل والمخدوع. ونُرَى أَنَّ السَّاحر من ذلك أُخِذ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ }
وقوله: {لَّهَا شِرْبٌ...}
لها حظّ من الماء. والشَّرْب والشُّرْب مصدران. وقد قالت العرب: آخرها أقلّهَا شُرْباً وشِرْباً وشَرْباً.
{ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ }
وقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ...}
ما جعل لكم من الفروج. وفى قراءة عَبدالله (ما أصلح لكم ربّكم).
{ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ }
وقوله: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ...}
والغابرونَ الباقونَ. ومن ذلك قول الشاعر: وهو الحارث بن حِلِّزَةَ:
لا تكْسَعِ الشَّوْل بأغبارهَا * إنَّكَ لا تَدْرى مَنِ الناتجُ
الأغبار هَا هُنا بقايا اللبن فى ضروع الإبل وغيرهَا، واحدهَا غُبْر. قال وأنشدنى بعض بنى أسَدٍ وهو أبو القَمْقام:
تَذُبُّ منها كُلَّ حَيزَبُونِ * مَانِعَةٍ لغُبْرِها زَبُونِ
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ }
وقوله: {وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ...}
قرأهَا عاصم والأعمش بكسر الجيم وتشديد اللام، ورفعها آخرون. واللام مشدّدة فى القولين: {والجُبُلّة}.
{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }
وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ...}
كذا قرأها القراء. وقرأها الأعمش وعاصم والحسَن (نَزَّلَ به) بالتشديد. ونصبوا (الرُوحَ الأمِين) وهو جبريل {عَلَى قَلْبِكَ} يتلوه عَليك. ورَفع أهْل المدينة {الرُّوح الأمين} وخَفَّفُوا {نَزل} وهما سواء فى المعنى.
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ }
وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ...}
وإنّ هذا القرآن لفى بَعض زُبُر الأولينَ وكتبهم. فقال: {فى زُبُر} وإنما هو فى بعضها، وذلك واسِع؛ لأنك تقول: ذهب الناس وإنما ذهب بعضهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
وقوله: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ...}
يقول: يعلمون عِلْم محمد صَلى الله عليه وسَلم أنه نبىّ فى كتابهم. (الآية) مَنْصُوبَة و (أنْ) فى موضع رفع. ولو قلت: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةٌ} بالرَّفع (أن يعلمه) تجعَل (أن) فى موضع نصب لجاز ذلكَ.
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ }
وقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ...}
الأعجم فى لسانه. والأعجمىّ المنسوب إلى أصْله إلى العَجَم وإِن كان فصِيحاً. ومن قال: أعجم قال للمرأة عجماء إذا لم تُحْسن العربيَّة ويجوز أن تقول عَجَمىّ تريد أعجمىّ تنسبه إلى أصْله.
{ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ }
وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ...}
يقول: سلكنا التكذيبَ فى قُلوب المجرِمين كى لا يؤمنُوا به {حَتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ} وإن كان موقع كى فى مثل هذا (لا) وأَنْ جميعاً صلح الجزم فى (لا) والرفع. والعرب تقول: ربطت الفرس لا يتفَلَّتُْ جزماً ورفعاً. وأوثقت العبد لا يَفِرر جزماً ورفعاً. وإنما جزم لأن تأويله إن لم أربطه فَرَّ فجزم على التأويل. أنشدنى بعض بنى عُقَيل:
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا * مُسَاكتةَ لا يقرف الشرَّ قارف
يُنشَد رفعاً وجزماً. وقال آخر:
لو كنت إذ جئتنا حَاولت رُؤْيتنَا * أو جئتنا مَاشياً لا يُعْرف الفرسُ
رفعاً وجزماً وقوله:
لطالما حَلأنماها لا ترِدْ * فخلِّياها والسِّجالَ تبتردْ
من ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }
وقوله: {لاَّ لَهَا مُنذِرُونَ...}
وفى موضع آخر: {إلاَ وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} وقد فُسّر هذا.
{ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ }
وقوله: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ...}
ذِكْرى فى مَوضع نصب أى ينذرونهم تذكرة وذِكرى. ولو قلت: (ذكرى) فى موضع رفعٍ أصَبت، أى: ذلك ذكرى، وتلكَ ذكرى.
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ }
وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ...}
ترفع النون.
قال الفراء: وجاء عن الحسن (الشياطونَ) وكأنه من غلط الشيخ ظنّ أنه بمنزلة المسْلمينَ والمسْلمُونَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ }
وقوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ...}
يعنى الشياطين برَجْم الكواكب.
{ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }
وقوله: {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ...}
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ...}
يقول: يرى تقبلكَ ا فىالمصَلّين. وتقلّبه قيامُهُ وركوعُهُ وسُجُوده.
{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ }
وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ...}
كانت الشياطين قبل أن تُرجم تأتى الكَهنَة مثل مسيلمة الكذّاب وطُلَيحة وسجاحِ فيُلقون إليهم بعض ما يسمعونَ ويكذبُونَ. فذلك {يُلْقُون} إلى كهنتهم {السَّمْعَ} الذى سمعُوا {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الشعراء )
{ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }
وقوله: {وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ...}
نزلت فى ابن الزَبَعْرَى وأشباهه لأنهم كانوا يهجون النبىّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} غُواتهم الذين يرونَ سَبَّ النبى عليه السلام.
ثم استثنى شعراء المسلمين. فقال:{إلا الذِينَ آمَنُوا}
{ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }
وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
لأنهم رَدُّوا عليهم: فذلك قوله: {وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} وقد قرئت {يَتَّبِعُهُم الغاوون} و {يَتْبَعَهُم} وكل صواب.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( النمل )
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ }
قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ...}
خَفْض {وكتابٍ مُبين} يريد: وآيات كتاب مبين، ولو قرئ {وكتابٌ مبينٌ} بالردّ على الآيات يريد: وذلك كتاب مبين. ولو كان نصباً على المدح كما يقال: مررت عَلى رجل جميلٍ وطويلاً شَرْمَحاً، فهذا وجه، والمدح مثل قوله:
إلى الملِك القَرْم وابنِ الهُمَام * وليْثَ الكَتيِبة فى المزدَحَمْ
والمدح تُنصب معرفته ونكرته.
{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {هُدًى وَبُشْرَى...}
رَفْع. وإن شئت نصبت. النَّصْبُ على القطع، والرفعُ على الاسئنافِ. ومثله فى البقرة: {هُدًى للمتَّقِين} فى لقمان: {هُدىً ورَحْمَةً لِلمُحْسِنِين} مثله.
{ إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }
وقوله: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ...}
نوَّن عاصم والأعمش فى الشهاب والقبس، وأضافه أهل المدينة: (بشهابِ قَبَسٍ) وهو بمنزلة قوله: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} ممَّا يضاف إلى اسمه إذا اختلف أسماؤه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وقوله: {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ...}
تجعل (أَنْ) فى موضع نصب إذا أَضمرتَ اسم موسى فى {نُودى} وإن لم تُضمر اسم موسى كانت (أن) فى موضع رفع: نودىَ ذلكَ وفى حرف أُبَىّ: (أَنْ بُورِكتِ النارُ) {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعنى الملائكة. والعرب تقول: باركك الله وبارك فيك وبَارك عَليْك.
{ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ...}
هذه الهاء هَاء عِمَاد. وهو اسْم لا يظهر. وقد فسّر.
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقوله: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ...}
الجانّ: الحيَّة: التى ليست بالعظيمَة ولا الصَّغيرة.وقوله: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ}: لم يَلتفت.
وقوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ثم استثنى فقال: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ...} فهذا مغفور له. فيقولُ القائل. كيف صُيّرَ خائفاً؟ قلت: فى هذه وجهان: أحدهما أن تقول: إن الرّسلَ معصُومَة مغفور لها آمنة يوم القيامَة. ومن خلط عَمَلاً صالحاً وآخر سَيّئاً فهو يخاف ويرجو: فهذا وجه. والآخر أن تجعَل الاستثناء من الذين تُركوا فى الكلمة؛ لأنَّ المعْنى: لا يخاف المرسَلُون إنما الخوف عَلى غيرهم.
ثم استثنى فقال: إلاّ منْ ظلم فإنَّ هذا لا يخاف يقول: كان مشركاً فتابَ وعمل حَسَناً فذلك مغفور له ليسَ بخائِف.
وقد قال بعض النحويّين: إن (إلا) فى اللغة بمنزلة الواو, وإنما مَعْنى هذه الآية: لا يخاف لدىَّ المرسلون ولا منْ ظلم ثم بَدَّل حسناً. وَجَعَلوا مثله قول الله: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَيْكمْ حُجَّةٌ إلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أى ولا الذين ظلموا. ولم أجد العربيَّة تحتمل ما قالوا، لأنى لا أجيز قام الناس إلا عبدالله، وهو قائم؛ إنما الاسْتثناء أن يخرج الاسم الذى بعد إلاّ من معنى الأسْمَاء قبل إِلاّ. وقد أُرَاه جَائزاً أن تقول: عَليْكَ ألف سوى ألفٍ آخر، فإن وضعت (إلاّ) فى هذا الموضع صَلحَتْ وكانت (إلاّ) فى تأويل مَا قالُوا. فأمَّا مجرَّدةً ب قد استُثنى قليلها من كثيرها فلا. ولكن مثلُهُ ممَّا يكون فى مَعْنى إلاّ كمعنى الولو وليَست بها.
قوله: {خَالِدِين فِيهَا ما دَامَتِ السَّموَاتُ والأرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} هو فى المعنى: إلاّ الذى شاءَ ربّك منَ الزيادة. فلا تجعل إلا (فى منزلة) الواو ولكن بمنزلة سِوَى. فإذا كانت سوى فى مَوضع إلاّ صلحت بمعنى الواو؛ لأنكَ تقول: عندى مال كثير سوَى هذا أى وهذا عندى؛ كأنك قلت: عندى مال كثير وهذا. وهو فى سوَى أَنفذ منه فى إلاّ لأنكَ قد تقول: عندى سوَى هَذَا، ولا تقول: إلاّ هذا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
وقوله: {واضْمُم يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ...}
معناه: افعل هذا فهى آية فى تسع. ثم قال {إِلَى فِرْعَوْنَ} ولم يقل: مرسل ولا مبعوث لأنَّ شأنه مَعروف أنه مبعوث إلى فرعون. وقد قال الشاعر:
رأتنى بحبليها فصَدَّت مخافةً * وفى الحبل رَوْعاء الفؤاد فَرُوق
أراد: رأتنى أقبلت بحبليهَا: بحبلى النَّاقة فأضمر فعلاً، كأنه قال: رأتنى مقبلاً.
وقوله {وَإلَى ثَمودَ أَخَاهُمْ صَالحاً} نَصْب بإضمار {أرسلنا}.
{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }
وقوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً...}
يقول: جحدوا بالآيات التسع بعدما استيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، ظلما وعُلُوّاً. وفى قراءة عَبْدِالله (ظلماً عُليّاً) مثل قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَر عُتيّاً} وَ {عِتِيّا}.
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ }
وقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ...}
كان لداوود - فيما ذكروا - تسعة عشر ولداً ذكراً، وإنما خُصّ سُليمان بالوراثة؛ لأنها وراثة المُلْك.
وقوله {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}: مَعنى كلام الطير، فجعَله كمنطق الرجل إذ فُهم، وقد قال الشاعر:
عجبت لَهَا أنَّى يكُون غِناؤها * رَفيعاً ولم تَفتح بمنطقهَا فما
فجعله الشاعر كالكلام لمّا ذهب به إلى أنها تبكى.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }
وقوله: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ...}
كانت هذه الأصْناف مع سُلَيمانَ إذا ركبَ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يُردّ أوَّلهم على آخرهم حتّى يجتمعوا. وهى من وَزَعت الرجل، تقول: لأزَعنَّكم عن الظلم فهذا من ذلكَ.
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }
وَأمَّا وقوله: {أَوْزِعْنِي...}
فمعناه: ألهمنى.
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }
وقوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ...}
قرأها الناس بالضمّ، وقرأها عاصم بالفتح: فَمَكَثَ. وهى فى قراءة عبدالله (فتمكَّث) ومعنى {غَيْرَ بَعِيدٍ} غير طويل من الإقامة. والبعيد والطويل مقاربان.
وقوله {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ} قال بعض العرب: أحَطُّ فأدخل الطاء مكانَ التّاء. والعربُ إذا لقيت الطاءُ التاءَ فسكنت الطاء قبلها صيَّروا الطاء تاء، فيقولون: أَحَتُّ، كما يحوّلونَ الظاء تَاءً فى قوله {أَوَعَتَّ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعِظِينَ} والذالَ والدال تاء مثل {أَخَتُّمْ} ورأيتُها فى بعض مصاحف عبدالله (وأَخَتُّمْ) ومن العرب من يُحَول التاء إذا كانت بعد الطاء طاءً فيقول: أَحَط.
وقوله {وجئْتُكَ مِنْ سبَأ بِنَبإٍ يَقِينٍ} القراء على إجرَاء {سَبأ} لأنه - فيما ذكروا - رجل وكذلك فأَجْرِه إن كان اسماً لجبل. ولم يُجْرِهِ أبو عمرو بنُ العلاء. وزعم الرؤامسىّ أنه سأل أبا عمرو عنه فقال: ليس أدرى ما هو. وقد ذهب مذهباً إذ لم يَدْر ما هو؛ لأنَّ العرب إذا سمَّتْ بالاسم المجهول تركوا إجراءه كما قال الأعشى:
وتدفنُ منه الصَّالحاتُ وإن يُسئْ * يكن ما أساء النارَ فى رأس كَبْكَبا
ا فكأنه جهل الكبكَب. وسَمعت أبا السَفّاح السَّلولىَ يقول: هذا أبو صُعْرورَ قد جاء، فلم يجره لأنه ليس من عادتهم فى التسميَة.
قال الفرّاء: الصُعرور شبيه بالصَمْغ.
وقال الشاعر فىلا إجْرائه:
الواردون وتيم فى ذُرَا سَبَأٍ * قد عضّ أعْنَاقَهم جلدُ الجواميسِ
ولو جَعلته اسماً للقبيلة أن كانَ رجلا أو جعَلته اسماً لما حَوله إن كان جبلاً لم تُجرِه أيضاً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
وقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ...}
تقرأ {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} ويكون {يَسجْدوا} فى موضع نصب، كذلك قرأها حمزة. وقرأها أبو عبد الرحمن السُّلمى والحسن وحُميد الأعرج مخفّفة (ألاَ يَسْجُدُوا) على معنى أَلاَ يا هؤلاء اسْجُدُوا فيضمر هؤلاء، ويكتفى منهَا بقوله (يا) قال: وسَمعت بعض العرب يقول: أَلاَ يا ارحمانا، أَلاَ يا تصدَّقا علينا قال: يعنينى وزميلى.
وقال الشاعر - وهو الأخطل -
أَلاَ يا اسلمى يا هند هندَ بنى بَدْر * وإن كان حَيَّاناَ عِدىً آخِر الدهر
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى بعض المشيخة - وهو الكسائى - عن عيسَى الهَمْدانى قال: ما كنت أسْمع المشيخة يقرءونها إلاّ بالتخفيف على نيّة الأمر. وهى فى قراءة عبدالله (هَلاّ تسجدونَ لله) بالتاءَ فهذه حُجّة لمنْ خفّف. وفى قراءة أُبَىَّ (أَلاَ تسجدونَ لله الذى يعلم سِرَّكم ومَا تَعلِنُون) وهو وجه الكلام لأنها سَجدة ومن قرأ {أَلاَّ يَسْجُدُوا} فشدَّد فَلاَ ينبغى لهَا أن تكون سَجدة؛ لأن المَعْنَى: زين لهم الشيطان أَلاَّ يَسْجُدُوا والله أعلم بذلكَ.
وقوله {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} مهموز. وهو الغيب غيبُ السَّموات وغيب الأرض. ويقال: هوالماء الذى يَنزل منَ السَّمَاء والنبت من الأرض وهى فى قراءة عبدالله (يخرج الخَبْءَ منَ السَّواتِ) وصلحت (فى) مكان (من) لأنك تقول: لأستخرجنّ العِلم الذى فيكم منكم، ثم تحذف أيَّهما شئت أعنى (من) وَ (فى) فيكونُ المعْنى قائِماً على حالِهِ.
{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ...}
يقول القائل: كيف أمره أن يتولَّى عنهم وَقَدْ قَالَ {فانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} وذلك فى العربيَّة بيّن أنه استحثّه فَقَالَ: اذهبْ بكتابى هَذَا وعجِّل ثم أُخّر {فانظر ماذا يَرجعونَ} ومعناهَا التقديم. ويقال: إنه أمر الهدهد أن يُلقى الكتاب ثم يتوارى عنها ففعَل: ألقى الكتاب وطار إلى كُوَّة فى مجلسها. والله أعلم بصواب ذلك.
{ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }
وقوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ...}
جَعلته كريماً لأنه كانَ مختوماً. كذلك حُدّثت. ويقال: وَصفت الكتاب بالكرم لقومها لأنها رأت كتاب مَلِكٍ عندها فجعلته كريماً لكرم صاحِبه. ويقال: إنها قَالَتْ (كريم) قبل أن تعلم أنه من سُليمانَ. وَما يعجبنى ذلكَ لأنها كانت قارئةً قد قرأت الكتاب قبل أن تخرج إلى ملئها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ }
وقوله: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ...}
مكسورتان أعنى إنّ وإنّ. ولو فُتحتا جميعاً كان جائزاً، على قولك: أُلقى إلَىّ أَنه مِن سليمان وأنّه بسم الله الرحمن الرحيم فموضعهما رفع على التكرير على الكتاب: ألقى إلىَّ أنه من سليمان وإن شئت كانتا فى موضع نصب لسقوط الخافض منهما. وهى فى قراءة أُبَىّ (وأَنْ بِسمِ الله الرحمن الرحيم) ففى ذلك حُجَّة لمن فتحهمَا؛ لأنَّ (أَن) إذا فُتتحت ألفُها مع الفعل أو ما يُحكى لم تكن إلاّ مخفّفة النون.
{ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }
وقوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ...}
فألِفها مفتوحة لا يجوز كسرها. وهى فى موضع رَفع إذا كررتها على {أُلْقِى} ونصب على: ألقِى إلىّ الكتاب بذا، وألقيت البَاءَ فنصبتَ. وهى فى قراءة عبدالله (وإنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) فهذا يدلّ على الكسر؛ لأنها معطوفة عَلى: إنى ألقى إلىّ وإنه من سليمان. ويكون فى قراءة أُبَىّ أن تجعل (أَن) التى فى بسم الله الرحمن الرحيم هى (أن) التى فى قوله {أن لا تعلوا عَلىَّ} كأنها فى المعْنى. ألقِى إلىّ أن لا تعلوا علىَّ. فلمَّا وُضعت فى (بسمِ الله) كُرِّرت عَلى مَوْضعهَا فى {أن لا تعلوا} كما قال الله {أَيَعِدُكُمْ أَنّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ} فأنكم مكررة ومعناها واحد والله أعلم. ألا ترى أن المعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا كنتم تراباً وعظاماً.
{ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ }
وقوله: {ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي...}
جَعلت المشورة فُتْيا. وذلك جائز لسعةِ العربية.
وقوله {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً} وفى قراءة عبدالله (ما كنتُ قاضيةً أمراً) والمعنى واحدْ تقول لا أقطع أمراً دونكَ، ولا أقضى أمراً دونك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ }
وقوله: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً...}
جواب لقولهم {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأولُو بأسٍ شَدِيدٍ} فقالت: إنهم إن دخلوا بلادكم أذلوكم وأنتم ملوك. فقال الله {وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ}
{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ }
وقوله: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ...}
نقصت الألف من قوله (بم) لأنها فى معنى بأىّ شىء يرجع المرسلون وإذا كانت (مَا) في موضع (أىّ) ثم وصلت بحرفٍ خافضٍ نُقصت الألف من (مَا) ليعرف الاستفهام من الخبر. ومن ذلك قوله: {فِيمَ كُنْتم} و {عَمَّ يتساءَلُونَ} وإن أتممتها فصواب. وأنشدنى المفضّل:
إنا قتلنا بقتلانا سَرَاتكم * أهلَ اللوَاء ففيما يكثر القِيلُ
وأنشدنى المفضَّل أيضاً:
على ما قام يشتمنَا لَئِيمٌ * كخنزير تمرَّغ فى رمَادِ
وقوله: {إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} وهى تعنى سليمان كقوله {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهمْ} وَقَالَتْ {بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ} وكان رسولها - فيما ذكروا - امرأةً واحدةٍ فجمعَتْ وإنما هو رسول، لذلكَ قالَ {فلمَّا جَاءَ سُلَيْمانَ} يريد: فلما جاء الرسولُ سليمانَ، وهى فى قرءة عبدالله (فلما جَاءوا سليمان) لما قال {المرسَلونَ} صَلح {جَاءوا} لأن المرسَل كان واحداً. يدلّ على ذلكَ قول سليمان {ارْجِعْ إليْهِمْ}.
{ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ }
وقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ...}
هى فى قراءة عَبدالله بنونين وبَاء مثبتة. وقرأها حمزة. (أَتُمِدُّونَّى بمالٍ) يريد قراءة عَبدالله فأدغم النونَ فى النونِ فَشَدَّدَهَا. وقرأ عاصم بن أبى النّجُود (أَتُمِدُّونَنِ بمالٍ) بنونين بغير يَاء. وكل صوابٌ.
وقوله: {فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ} ولم يقل {فما آتانِىَ الله} لأنها محذوفةُ اليَاء من الكتاب. فمَنْ كانَ ممّن يَسْتجيز الزيادَة فى القرآن. من الياء والواو اللاتى يحذفنَ مثل قوله {وَيَدْعُ الإنْسَان بالشَّرِّ} فيثبتُ الواو وليست فى المصحف، أو يقول المنادى للمنَاد جَاز له أن يقول فى {أتمدُّونَنِ} بإثبات اليَاء، وجاز له أن يُحّركها إلى ا النصب كما قيل {وَمَالِىَ لاَ أَعْبُدُ} فكذلك يجوز {فَمَا آتانِىَ الله} ولست أشتهى ذلكَ ولا آخذ به. اتّباعُ المصحف إذا وجدتُ له وجهاً من كلام العرب وقراءةِ القرّاء أحَبُّ إلىّ من خلافه. وقد كان أبو عَمْرٍو ويقرأ (إنَّ هَذَيْنِ لسَاحِرَان) ولست أجترئ على ذلك وقرأ {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ} فزاد واواً فى الكتاب. ولسْتُ أَسْتحبُّ ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }
وقوله: {لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا...}
وهى فى مُصْحف عبدالله (لَهُمْ بهم) وهو سَواء.
وقوله: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ...}
هذا من قول سليمان لرسولها، يعنى بِلقيسَ. وفى قراءة عبدالله (ارجعوا إليهم) وهو صَوَاب على مَا فسّرت لك منْ قوله {يأيُّها النَّبىّ إذا طلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} من الذهَاب بالواحد إلى الذينَ مَعَه، فى كثير من الكلام.
{ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ }
وقوله: {عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ...}
والعِفريت: القوىّ النافذ. ومن العرب من يقول للعفريت: عِفْرِية. فمن قال:عِفْرِية قال فى جمعه: عَفَارٍ. ومنْ قَالَ: عِفريت قال: عفاريت وَجَاز أن يقول: عَفارٍ وفى إحدى القراءتين (وَما أُهِلَّ بِهِ للطواغِى) يريد جمع الطاغوت. وقوله {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعنى أن يقوم من مجلس القضَاء. وكان يجلس إلى نصف النهار. فقال: أريد أعجل (من ذلك).
{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }
وقوله: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ...}
يقول: قبل أن يأتيكَ الشىء من مدّ بصرك فقال ابن عباسٍ فى قوله (عِنْدهُ عِلْمٌ مِنَ الكتاب) {يا حَىُّ يا قيُّوم} فذُكر أنّ عرشها غار فى موضعه ثم نَبَع عند مجلس سليمان.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ }
وأمَّا قوله: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا...}
فإنه أمرهم بتوسعته ليمتحِنَ عقلها إذا جاءتْ. وكان الشياطين قد خافت أن يتزوَّجَها سليمان فقالوا: إن فى عقلها شَيئاً، وإن رِجْلها كرجل الحمارِ: فأمر سليمان بتغيير العرش لذلكَ، وأمر بالمَاء فأَجرى من تحت الصَّرْح وفيه السمك. فلمَّا جاءت قِيل لها (أَهَكَذَا عَرْشُكِ) فعرفت وأنكرت. فلم تقل، هو هو، ولا ليْسَ به. فقالتْ (كَأنَّه هُوَ) ثم رفعت ثوبَهَا عن سَاقيها، وظنَّت أنها تسلُك لُجَّة، والُّلجَّة: الماء الكثير فنظر إلى أحسن سَاقين ورجلين: وفى قراءة عبدالله (وَكَشَفَ عَنْ رِجْليهَا).
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ }
وقوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ...}
يَقولُ: هى عاقلة وإنما صَدها عن عبادة الله عبادة الشمس والقمر. وكان عَادة مِن دين آبائِهَا، معنى الكلام: صدّهَا من أن تعبد الله ما كانت تعبدُ أى عبادتها الشمس والقمر. و (ما) فى موضع رَفعٍ. وقد قبلَ: {إن صدَّها} منعَهَا سليمان ما كانت تعبد. موضع (ما) نصب لأن الفعل لسليمان. وقال بعضهم: الفعل لله تعالى: صَدَّهَا الله ما كانت تعبد.
وقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} كُسرت الألف على الاستِئناف. ولو قرأ قارئ {أنَّها} يردّهُ عكلى موضع (ما) فى رفعِهِ: صَدَّهَا عن عبادة الله أنَّها كانت من قومٍ كافرينَ. وهو كقولك: منعنى من زيَارتك ما كنتُ فيه من الشُغُل: أنّى كنت أغدُو وأروح. فأنَّ مفسَّرة لمعنى ما كنت فيه من الشَغُل.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ }
وقوله: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ...}
ومعنى {يختصمُونَ} مختلفون: مؤمن ومُكذِّب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ }
وقوله: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ...}
يقول: فى اللوح المحفوظِ عند الله. تشاءَمون بى وتَطَيَّرُونَ بى، وذلك كلّه من عند الله. وهو بمنزلة قوله {قالوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أى لازم لكم ما كانَ منْ خَيرٍ أو شرٍّ فهو فى رقابكم لازم. وقد بيَّنَه فى قوله {وَكُلَّ إنْسَانٍ ألْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فىعُنُقِهِ}.
{ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }
وقوله: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ...}
وهى فى قراءة عبدالله (تقاسَمُوا بالله) ليسَ فيها {قالوا}. وقوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} التاء والنون واليَاء كُلّ قد قُرئ به فمن قال {تقاسموا} فجعل {تقاسموا} خبراً فكأنه قال: متقاسمينَ: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالنون. ثم يجوز اليَاء عَلَى هَذَا المعنَى فتقول: قالوا {ليبيتُنَّه} بالياء، كما تقول: لَنَقومَنَّ ولَيَقُومَنَّ ولَيَقُومُنَّ. ومن قال: تقاسَمُوا فجعَلهَا فى موضع جَزْمٍ فكأنه قال: تحالفوا وأقسِمُوا لتبيّتُنه بالتاء والنونُ تَجُوز من هذا الوجه لأن الذى قال لهم تقاسَمُوا معهم فى الفعل داخل، وإن كان قد أمرهم؛ ألا ترى أنك تقول: قومُوا نذهبْ إلى فلان، لأنه أمرهم وهو معهم فى الفعل. فالنون أعجبُ الوجوه إلىَّ، وإنّ الكسَائىّ يقرأ بالتاء، والعوامّ عَلَى النون. وهى فى قراءة عبدالله (تقاسَمُوا) (ثم لنُقْسِمَنًّ ما شهِدْنَا مَهْلك أهله) وقد قال الله {تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنا وأبْنَاءَكُمْ} لأنهم دَعَوهم ليفعوا جميعاً ما دَعَوا إِليه. وقرأها أهل المدينة وعَاصم والحسن بالنون، وَأَصْحَاب عبدالله بالتّاء. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفَراء قال حدَّثنى سفيان ابن عُيَيْنَة عن حُمَيد الأعرج عن مجاهد أنه قرأ (ليُبَيِّتُنَّه) باليَاء.
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }
وقوله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ...}
تقرأ بالكسر عَلَى الاستئناف مثل قوله: {فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ إلَى طَعَامِهِ أنّا صَبَبْنَا الماءَ} يَستَأنف وهو يفسّر به ما قبله وإن ردّه على إعلى ما قبله قال (أَنَّا) بالفتح فتكون (أَنَّا) فى مَوْضع رفع، تجعلها تابعة للعاقبة. وإن شئت جَعَلتهَا نصباً من جهتين: إحداهمَا أن تردَّهَا فى موضع (كيف) والأخرى أن تَكُرَّ (كان) كأنّك قلت: كان عاقبة مكرهم تدميرنا إيَّاهم. وإن شئت جَعَلتها كلمةً واحدةً فجعلت (أَنَّا) فى موضع نصبٍ كأنك قلت: فانظر كيف كَانَ عَاقبة مكرهم تدميرنا إياهم. وقوله: {وأنتم تبصرونَ تعلمون أَن فاحشة}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ }
وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى...}
قيل للوط: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هَلاك مَن هلك {وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} يقول: أعِبادةُ الله خير أم عبادة الأصنام.
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَاله مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }
وقوله: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ...}
فقال: {ذاتَ} ولم يقل: ذوات وكلّ صواب. وإنما جَاز أن يقول {ذات} للحدائق وهى جمع لأنك تقول، هذه حَدَائق كما تقول: هذه حديقة ومثله قول الله {وَلِلّهِ الأسْمَاءُ الحُسْنَى} ولم يقل الحسُنَ و (والقُرون الأولَي) ولو كانت حدائق ذوات بهجة كان صوابا. وقال الأعشى فى توحيدهَا:
فسوف يُعقبُنيهِ إن ظفرتَ به * ربٌّ غفورٌ وبِيض ذات أطهار
ولم يقل: ذوات أطهار. وإنما يقال: حديقة لكل بستان عليه حَائط. فما لم يكن عليْه حَائط لم يُقَل له: حديقة.
وقوله: {أَإله مَّعَ اللَّهِ} مردود على قوله {أَمْ مَنْ خَلَق} كذَا وكذا. ثم قال {أَاله مَّعَ اللَّهِ} خَلَقه. وإن شئت جعلت رفعه بمع؛ كقولك: أمع الله ويلكم إله! ولو جاء نصباً أَإِلهاً مع الله على أن تضمر فعلاً يكون به النصب كقولك: أتجعلون إلها مع الله، أو أتتَّخذونَ إلها مع الله.
والعرب تقول: أثعلباً وتفرّ كأنهم أرَادوا: أتُرَى ثعلباً وتفِرّ. وقال بعض الشعراء:
أَعبداً حلَّ فى شُعَبىَ غريباً * أَلُؤْماً لا أبالكَ واغترابَا
يريد: أتجمع اللؤم والاغتراب. وسَمعت بعض العرب لأسير أسَرَهُ ليْلاً، فَلَمَّا ا أصْبح رَآه أسود، فقال أعبداً سَائر الليلة، كأنه قال: ألاَ أُرانى أسَرْت عبداً منذ ليلتى. وقال آخر:
أجَخْفا تميميّاً إذا فتنة خَبَتْ * وجُبْناً إذا ما المشرفيّة سُلَّت
فهذا فى كل تعجُّب خاطَبُوا صاحبه، فإذا كَان يتعجّب من شىء ويخاطب غيره أَعملوا الفعل فقالُوا: أثعلب ورجل يفرّ منه، لأن هذا خطاب لغير صَاحب الثعلب. ولو نصب عَلى قوله أيفر رَجُل من ثعلبٍ فتجعل العطف كأنه السَّابق. يُبْنَى على هذا. وسمعت بعض بنى عُقَيل ينشد لمجنون بنى عامر:
أألبرقَ أم نارا لليلى بدت لنَا * بمُنْخَرقٍ من سَارياتِ الجنائبِ
وأنشدنى فيهَا:
بل البرقَ يبدو فى ذَرَى دَفَئيَّة * يضىء نَشَاصاً مشمخرّ الغَوارب
فنصب كل هذا وَمعه فعله على إضمار فعل منه، كأنه قَالَ أأرى ناراً بل أرى البرق. وكأنه قَالَ. ولو رأيتُ نار ليلى. وكذلك الآيتان الأُخريَان فى قوله {أَاله مَّعَ اللَّهِ}.
{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }
وقوله: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ...}
رفَعت ما بعد (إلاّ) لأن فى الذى قبلَها جحداً وهو مرفوع. ولو نصب كان صَوَاباً. وفى إحدى القراءتين {مَا فعَلوهُ إلا قليلاً منهم} بالنصب. وفى قراءتنا بالرَّفع. وكلّ صَوَاب، هَذا إذا كان الجحد الذى قبل إلا مع أسمَاء معرفة فإذا كانَ مع نكرة لم يقولوا إلا الاتباع لما قبل (إلاّ) فيقولون: ما ذهب أحد إلاّ أبوكَ، ولا يقولُونَ: إلا أباكَ. وذلكَ أن الأب خَلَفَ من أحَدٍ؛ لأن ذا واحِدٌ وذا واحد فآثروا الإتباع، والمسْأَلة الأولى ما قبل (إلاَّ) جمع وَمَا بعد (إلاّ) وَاحد منه أو بعضه، وليسَ بكلّه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ }
وقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ...}
معناه: لعَلَّهم تدارك علمهُم. يقول: تتابَعَ علمهم فى الآخرة. يريد: بعلم الآخرة انها تكون أوْ لاَ تكون، لذلكَ قال {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} وهى فى قراءة أُبَىّ (أَمْ تداركَ عِلمُهُم فى الآخرة) بأَمْ. والعرب تجعل (بل) مكانَ (أم) و (أم) مكان (بل) إذا كان فى أوَّل الكلام استفهَام، مثل قول الشاعر:
فواالله ما أجرِى أسَلْمَى تَغَوَّلتْ * أم النومُ أم كلّ إلى حَبِيبُ
فمعناهن: بل. وقد اختلف القراء فى {ادّارك} فقرأ يحيى والحسَن وشَيبْة ونافع (بل ادَّاركَ) وقرأ مجاهد أبو جعفر المدنى (بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الآخِرة) من أدركت وَمَعناه، كأنه قال: هل أدرك علمهم علم الآخرة. وبلغنى عن ابن عبّاس أنه قرأ (بَلَى أَدَّارك) يستفهم ويشدّد الدال ويجعَل فى (بلى) ياء. وهو وجه جيّد؛ لأنه أشبه بالاسْتهزاء بأهْل الجحد كقولك للرَّجُل تكذّبه: بَلَى لعمرى لقد أدركْت السَلَف فأنت تروِى ما لا نروى وأنت تكذّبه.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ }
وقوله: {أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ...}
و {إنَّنَا} وهى فى مصَاحف أهْل الشام {إنَّنَا}.
{ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ }
وقوله: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ...}
جَاء فى التفسير: دنا لكم بَعْضُ الذى تستعجلونَ، فكأن اللام دخلت إذْ كانَ المعنى دنا؛ كما قال الشاعر:
ا فقلت لها الحاجَاتُ يطرحن بالفتى * وهمٌّ تعَنّانى مُعَنّىً ركائبُهُ
فأدخل الباء فى الفتى؛ لأن معنى {يَطرحن} يرمين، وأنت تقول: رَميت بالشىء وطرحته، وتكون اللام داخلةً: والمعنى ردفكم كما قال بعض العرب: نفذت لها مائة وهو يريد: نفذتُها مائة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ إِنَّ هَاذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقوله: {إِنَّ هَاذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ...}
وذلك أن بنى اسرائيل اختلفوا حَتى لَعَنَ بعضهم بعضاً، فقال الله: إنّ هذا القرآن ليقصّ عليهم الهدى مما اختلفُوا فيه لو أَخَذوا به.
{ وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ }
وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ...}
لو قلت بهادٍ العمىَ كان صَوَاباً. وقرَأ حمزة (ومَا أنتَ تَهْدِى العُمْى عَن ضَلاَلتِهم) لأنها فى قراءة عبدالله (وما إن تهدى العمى) وهما جحدان اجتمعا كما قال الشاعر - وهو دَُرَيد بن الصِّمَّة -:
ما إن رَأيْتُ ولا سَمعتُ به * كاليوم طالِى أينْقُ جُرْبِ
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ }
وقوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم...}
معناه إذا وجب السَّخَطُ عليهم هو كقوله {حَقَّ عليهم القَوْلُ} فى موضع آخر. وقوله {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} اجتمع القراء عَلى تشديد {تكلّمهم} وهو من الكلام. وحدثنى بعض المحدِّثينَ أنه قال {تُكَلِّمُهُمْ} و {تَكْلِمُهم} وقوله (أَنَّ النَّاسَ) تفتح وتكسر. فمن فتحَها أوقع عليها الكلام: {تُكَلِّمُهُمْ بأَنَّ النَّاسَ}. وموضعها نصب. وفى حرف عبدالله {بأن الناس} وفى حرف أُبَىّ (تُنَبِّئهم أنّ الناسَ) وهَما حُجَّة لمنْ فتح وأهل المديَنه {تُكَلِّمُهُمْ إِنَّ النَّاسَ} فتكون (إنَّ) خبراً مسْتأنفاً ولكنه معْنى وُقوع الكلام. ومثله {فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طعَامِهِ} من قال (أَنَّا) جَعَله مخفوضاً مردوداً على الطعَام إلى أَنا صَببنَا الماء وَمَن كسره قال: إِنّا أخبر بسبب الطعام كيف قدَّره الله.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النمل )
{ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ }
وقوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ...}
ولم يقل فيفزعُ، فجعل فَعَل مردودة على يَفْعَل. وذلك أنه فى المعْنى: وإذا نفخ فى الصُّور ففزغ؛ ألا ترى أن قولكَ. أقوم يوم تقوم كقولك: أقوم إذا تقوم، فأجِيبتْ بفَعَل، لأن فعل ويفعل تصلحان مع إذا. فإن قلتَ فأن جَوَاب قوله {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}؟ قلت: قد يكون فى فَعَل مضمر مع الواو كأنه قال: وذلك يوم ينفخ فى الصور. وإن شئتَ قلت: جوابه متروك كما قال {وَلَوْ تَرَى إذ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ}.
وقولُه: {وَلَوْ يَرَى الذِينَ ظَلَموا} قد تُرك جَوابُه. والله أعلم.
وقوله {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} القُرّاء عَلَى تطويل الألف يريدونَ: فاعلوه. وقصرهَا حمزة حدَّثنا أبو العبَّاس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء حدثنى عدة منهم المفضل الضبى وقيسٌ وأبو بكر وكلهم عن جَحْش بن زياد الضبى عن تميم بن حَذْلَمٍ قال: قرأت عَلَى عبدالله بن مسعود (وَكُلٌّ آتَوْهُ دَاخِرِينَ) بتطويل الألِف. فقال {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} بغير تطويل الألف وهو وجه حسن مردود على قوله {فَفَزِع} كما تقول فى الكلام: رآنى ففزّ وعَاد وهو صَاغر. فكان رَدُّ فَعَل عَلَى مثلها أعجبَ إلىّ مع قراءة عبدالله. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال وحدثنى عبدالله بن إدريس عن الأعمش عن تميم عن عبدالله بمثل حديث أبى بكرٍ وَأصحَابه.
{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }
وقوله: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ...}
قراءة القراء بالإضافة. فقالوا {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} و {يَوْمَئِذٍ} وقرأ عبدالله بن مسعود فى إسْنادٍ بَعضُهم بعضُ الذى حدثتك (مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) قرأها عليهم تميم هكذا (وَهُمْ من فَزَعٍ يَوْمِئذٍ) فأخذها بالتنوين والنصب. والإضافةُ أعجب إلىّ وإن كنت أقرأ بالنصب لأنه فَزَع معلوم، ألا ترى أنه قال (لاَ يَحْزُنُهُمْ الفَزَعُ الأَكْبَرُ) فصيَّرهُ ا معرفةً. فأن أضِيفَهُ فيكونَ معرفةً أعجبُ إلىَّ . وهو صواب.
{ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ }
وقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ...}
وفى إحدى القراءتين (وَأَنِ اتْلُ) بغير واو مجزومةً على جهة الأمر. قد أُسقطت منها الواو للجزم على جهة الأمر؛ كما قال {قُلْ إنّى أُمِرْت أَنْ أَكُون أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ} فجعل الواو مردودة بالنهى عَلَى حرفٍ قد نُصب بأن؛ لأن المعنى يأتى فى (أمرت) بالوجهين جَميعاً، ألا ترى أنك تقول: أَمَرت عبد الله أن يقوم، وَأَنْ قُمْ. وقالَ الله {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالمينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَة} فهذا مِثْل قوله {وَأَنْ أَتْلُو القرآنَ}.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( القصص )
{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ }
وقوله: {وَيَري فِرْعَوْنُ وَهَامَانَ وَجُنُودُهُمَا...}
هكذا قراءة أصْحاب عَبدالله باليَاء والرفع. والنَاسُ بعدُ يقرءونها بالنُّون: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} بالنصب. ولو قرئِت باليَاء ونصب فرعون، يريد: {ويُرِىَ اللهُ فرعون} كان الفعْل لله. ولم أسمع أحداً قرأ به.
{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ }
وقوله: {عَدُوّاً وَحَزَناً...}
هذه لأصحاب عبدالله والعوامُّ {حَزَنا} وكأن الحُزْن الاسمُ والغَمّ وَمَا أشبهه، وكأنّ الحَزَن مصدر. وهما بمنزلة العُدْم والعَدَم.
{ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
وقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ...}
رفعت {قُرّةُ عَيْنٍ} بإضمار (هو) ومثلُه فى القرآن كثير يُرفعُ بالضمير.
وقوله: {لاَ تَقْتُلُوهُ} وفى قراءة عبدالله (لا تقتلوه قُرَّةُ عين لى ولك) وإنما ذكرت هذا لأنى سمعت الذى يقال له ابنُ مَرْوَانَ السُّدّىّ يذكر عن الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عبّاس أنه قال: إنها قالت (قُرَّةَ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ) وهو لَحْنٌ؟ ويقوّيك عَلَى رَدّه قراءة عبدالله.
وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} يعنى بنى إسرائيل. فهذا وجْه. وَيَجوز أن يكون هذا مِنْ قول الله. وهم لا يشعرونَ بأن موسى هو الذى يسلبهم مُلكهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً...}
قد فَرَغ لهمّه، فليس يَخلط هَمَّ موسَى شىء وقوله {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} يعنى باسم موسَى أنه ابنُهَا وذلك أن صدرها ضاق بقول آلِ فرعونَ: هو ابن فرعون، فكادت تُبدى [به] أى تظهره. وفى قراءة عَبدالله {إن كادت لَتُشعِرُ بِهِ} وحدّثنا أبو العَبَّاس قال حدّثنا محمد قال حدثنا الفرّاء قال: حدَّثنى ابن أبى يحيى بإسْنَادٍ له أن فَضَالة بن عُبَيد الأنصارىّ من أصْحَاب النبىّ عَليه السَّلام قرأ (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً) من الفزَع.
{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
وقوله: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ...}
قُصّى أثَره. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ}. يقول: كَانت عَلَى شَاطِئ البحر حَتَّى رأت آل فرعون قد التقطوه. وَقوله {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} يعنى آل فرعون لا يشعرون بأُخته.
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }
وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ...}
يقول: منعناه من قبول ثّدْى إِلاَّ ثدى أُمّه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ }
وقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ...}
وإنما قال (عَلَى) ولم يقل: ودخل المدينة حينَ غفلة، وأنت تقول: دخلت المدينةَ حين غَفَل أهلها، ولا تقول: دخلتها على حينَ غَفَل أهلهَا. وذلك أنّ الغفلَة كانت تُجزئ من الحين، ألا ترى أنك تقول: دخلت على غفلةٍ وجئت عَلَى غفلة، فلمَّا كان (حين) كالفضل فى الكلامُ، والمعنى: فى غفلة أدخلت فيه (على) ولو لم تكن كانَ صَواباً. ومثله قَوْل الله {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُسُلِ} ولو كان على حِين فترةٍ من الرسل لكان بمنزلة هذا. ومثله قوله العجَيز:
..... ومن يكن * فتى عامَ عام الماءِ فهْو كبير
كذلك أنشدنى العُقَيلىُّ. فالعَام الأول فَضْل.
وقوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} يريد: فَلَكزه. وفى قراءة عبد الله {فَنكَزهُ} ووَهَزه أيضاً لغة. كلٌّ سَوَاء. وقوله {فَقَضَى عَلَيْهِ} يعنى قَتَله.
وندِم موسَى فاستغفر اللهَ فغفر له.
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }
وقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ...}
قال ابن عبّاس: لم يَستَثن فابتُلِى، فجَعَل (لَنْ) خَبَراً لموسَى. وفى قراءة عَبدالله (فَلاَ تَجْعَلْنِى ظَهِيراً) فقد تكون {لَنْ أَكُونَ} عَلَى هَذَا المعْنى دُعاءً منْ مُوسَى: اللهمّ لن أكون لَهُمْ ظهيراً فيكونُ دعاءً وذلك أنَّ الذى من شِيعته لقيه رجل بعد قتله الأوَّلَ فتسخّر الذى من شيعة موسى، فمرّ به موسى عَلَى تلك الحال فاسْتصرخه - يعنى اسْتغاثه - فقال له موسى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} أى قد قتَلتُ بالأمس رجلا فتَدعونى إلى آخر. وأقبلَ إليهما فظنَّ الذى من شيعتِه أنه يريده. فَقَالَ {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} ولم يكن فرعون علم مَن قتل القبطىّ الأوَّل. فترك القبطى الثانى صَاحبَ مُوسى من يده وأخبر بأن موسى القاتلُ. فذلك قول ابن عَبَّاسٍ: فابتلى بأن صَاحبه الذى دَلّ عليه.
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ }
وقوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ...}
يريد: قَصد ماء مَدْيَن. ومَدْين لم تصرف لأنها اسم لتلك البلدة. وقال الشاعر:
رُهبانُ مَدْيَن لو رأوكِ تَنَزَّلُوا * والعُصْمُ من شَعَفِ العقول الفادر
وقوله: {أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ}: الطريق إلى مَدْين ولم يكن هَادياً لِطريقهَا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }
وقوله عَزّ وَجَلّ: {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ...}:
تحبسَان غنمهما. ولا يجوز أن تقول ذُدْتُ الرجل: حبسته. وإنما كان الذِّياد حَبْساً للغنم لأن الغنم والإبل إذا أراد شىء منها أن يَشِذّ ويذهب فرددته فذلك ذَوْد، وهو الحبس. وفى قراءة عَبْدِالله (وَدُونَهُمُ امْرَأَتَانِ حَابِسَتَانِ) فَسألهُمَا عن حبسهما فقالتا: لا نقوى على السقْى مع الناس حتى يُصْدِروا. فأتى أهل الماء فاسْتوهبهم دَلْواً فقَالُوا: استقِ إن قوِيت، وكانت الدلو يحملها الأربعون ونحوهم. فاستقى هو وحدَهُ، فسَقى غنمهما، فذلك قول إحدى الجاريتين {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِىُّ الأَمِينُ} فقُوّته إخراجه الدلو وَحْده، وأمانته أنّ إحدى الجاريتين قالت: إن أبى يدعوك، فقامَ معهَا فمرَّت بين يديه، فطارت الريح بثيابهَا فألصقتها بجسَدها، فقال لها: تأخّرى فإن ضللت فدُلّينى. فمشَتْ خلفه فتلك أمانته.
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
وقوله: {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ...}
يقول: أن تجعل ثوابى أن ترعَى عَلَىَّ غنمى ثمانى حجج {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} يقول: فهو تطوّع. فذَكر ابن عباس أنه قضى أكثر الأجلين وأطيبهما.
{ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
وقوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ...}
فجعل (ما) وهى صلة من صلات الجزاء مع (أى) وهى فى قراءة عبدالله (أىَّ الأجلين مَا قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ) وهذا أكثر فى كلام العرب من الأوَّل.
وقال الشاعر:
وأيَّهما ما أتْبَعَنَّ فإننى * حَريصٌ على إثْرِ الذى أنَا تابعُ
وسمع الكسائىُّ أَعرابيّاً يقول: فأيُّهم مَا أخذها ركِب على أيِّهم، يريد فى لُعْبة لهم. وذلك جائز أيضاً حسن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }
وقوله: {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ...}
قرأها عاصم (أَوْ جَذْوَةٍ) بالفتح والقراءة بكسر الجيم أو ا برفعها. وهى مثل أوطأتك عِشوةً وعُشوةً وعَشَوة والرّغوة والرُّغوة والرِّغْوة. ومنه رَبْوةً ورُبْوة ورِبْوة.
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرُّهْبِ...}
و {الرَّهَبِ} قرأها أهل المدينة {الرّهَب} وَعَاصم والأعمش (الرُّهْبِ).
وقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} اجتمع القراء عَلَى تخفيف النون من {ذَانِكَ} وكثير من العرب يقول {فذانّك} و {وهذانّ} قائمان {واللذانِّ يأْتِيانهِا مِنْكُمْ} فيشدِّدون النون.
وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يريد عَصَاه فى هذا الموضع. والجَنَاح فى الموضع الآخر: ما بين أسْفل العَضد إلى الرُّفْغ وهو الإبْط.
{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }
وقوله: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي...}
تقرأ جزماً رفعاً. مَن رفعها جعلها صلة للردْءِ ومن جزم فعلى الشرط. والرِّدْءُ: العَوْن. تقول: أردأت الرجل: أعنته. وأهل المدينة يقولونَ (رِداً يُصّدِّقْنِى) بغير همزٍ والجزم على الشرط: أرسِله معى يصَدِّقْنى مثل {يَرِثُنِى وَيَرِث}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى اله مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ...}
يقول: اطبخ لى الآجُر وهو الأجُور والآجُرّ. وأنشد:
كأنَّ عينيه من الغُؤور * قَلْتان فى جَوف صَفاً منقور
* عُولى بالطين وبالأجور *
{ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ }
وقوله: {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا...}
يعنون التوراة والقرآن، ويقال {سَاحِران تَظَاهَرَا} يعنونَ محمَّداً وموسى صلى الله عليهما وسلم. وقرأ عاصم والأعمش (سِحْرانِ).
حدّثنا أبو العباس قال: حدثنا محمد قال حدثنا الفرا، قال وحدَّثنى غير واحدٍ عن إسْمَاعيل ابن أبى خالد عن أبى رزين أنه قرأ (سِحْرانِ تَظَاهَرا).
قال: وقال سفيان بن عَيَينة عن حُميد قال: قال مجاهد: سألت ابن عباس وعنده عِكْرِمه فلم يجبنى، فلمَّا كانت فى الثالثة قال عكرمة أكثرتَ عليه (سَاحِرَان تَظَاهَرَا) فلم ينكر ابن عباس، أو قال: فلو أنكرَها لغيَّرها. وكان عكرمة يقرأ (سِحْرَانِ) بغير ألفٍ ويحتجّ بقوله: {قُلْ فأْتُوا بكِتابٍ مِنْ عندِ الله هُوَ أَهْدَى منهما أَتَّبِعْهُ} وقرأها أهْل المدينة والحسن (سَاحِرَان تظَاهَرَا).
{ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
وقوله: {أَتَّبِعْهُ...}
رَفْع لأنها صلة للكتاب لأنه نكرة وإذا جزمت - وهو الوجه - جعلته شرطاً للأمر.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
وقوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ...}
يقول: أنزلنا عليهم القرآن يَتْبَع بعضُه بعضاً.
{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ }
وقوله: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ...}
يقال: كيف أَسْلمُوا قبل القرآن وقبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ وذلك أَنهم كانوا يجدون صفة النبىّ صلى الله عليه وسلم فى كتابهم فصّدَّقوا به. فذلك إسْلامهم.
و {مِن قَبْلِهِ} هذه الهاء للنبى عليه السَّلام. ولو كانت الهاء كناية عن القرآن كان صواباً، لأنهم قد قالوا: إنه الحَقُّ من رَبنّا، فالهاء ها هنا أيضاً تكون للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم.
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ...}
يكون الحبّ على جهتين ها هنا:
إحداهما: إنك لا تهدى مَن تحبَّه للقرابة.
والوجه الآخر يريد: إنك لا تهدى من أحببت أن يَهتَدى؛ كقولك: إنك لا تهدى من تريد، كما تراه كثيراً فىالتنزيل {وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} أن يهديه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً...}
قالت قريش: يا محمد يا يمنعنا أن نؤمن بك ونصدّقك إلاّ أن العرب على دِيننا، فنخاف أن نُصطَلم إذا آمنّا بك. فأنزل الله {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} نسكنهم {حَرَماً آمِناً} لا يَخاف مَن دخله أن يقام عليه حَدّ ولا قصَاص فكيف يخافون أن تستحِلّ العَرب قتالهم فيه.
وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} و {تُجْبَى} ذُكِّرت يُجْبى، وإن كانت الثمرات مؤنثة لأنك فرقت بينهما بإليه، كما قال الشاعر:
ب إنّ امرءًا غَرَّه منكُنَّ واحدُةٌ * بعدى وَبعدك فى الدنيا لمغرور
وقال آخر:
لقد ولدَ الأُخيطلَ أُمُّ سَوْء * على قِمَع اسْتِها صُلُب وشَامُ
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }
وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا...}
بطرتها: كفرتهَا وخَسِرَتْها ونَصبُكَ المعيشة من جهة قوله {إلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إنما المعنى والله أعلم - أبطرتها معيشتُها؛ كما تقول: أبطركَ مالُك وبَطِرتَه، وأسْفهك رأيُكَ فسفِهته. فذُكرت المعيشة لأن الفعل كان لها فى الأصل، فحوِّل إلى ما أضيفت إِليه. وكأنّ نصبه كنصب قوله {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىءٍ مِنْهُ نَفْساً} أَلاَ ترى أن الطِيب كان للنفس فلمَّا حَوَّلته إلى صاحب النفْس خرجتِ النفسُ منصوبة لتفسِّر معنى الطيب. وكذلك {ضقنا به ذَْرْعاً} إنما كان المعنى: ضاق به ذَرْعُنا.
وقوله: {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} معناه: خرِبت من بعدهم فلم يُعمر منها إلاّ القليل، وسائرها خراب. وأنت ترى اللفظ كَأنها سُكنت قليلاً ثم تُركت، والمعنى على ما أنبأتكَ به مثلُه: ما أعطيتكَ دراهمكَ إلاَّ قليلاً، إنما تريد: إلاّ قليلاً منها.
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ }
وقوله: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا...}
أُمّ القُرَى مكَّة. وإنما سمّيتْ أمّ القرى لأن الأرض - فيما ذكروا- دُحِيت من تحَتها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ }
وقوله: {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ...}
يقول القائل: قال الله {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} كيف قال هنا: {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} فإن التفسير يقول: عَمِيت عليهم الحُجَج يومئذ فسَكَتُوا فذلك قوله {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} فى تلك السَّاعة، وهم لا يتكلّمون.
{ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }
وقوله: {فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ...}
وكلّ شىء فى القرآن من {عَسَى} فذُكِر لنا أنها واجبة.
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ...}
يقال الخِيَرَة والخيرَة والطَّيَرة والطَّيَرةُ. والعرب تقول: أَعطِنى الخَيْرَة منهن والخِيَرَة وكلّ ذلك الشىء المختار من رجل أو امرأة أو بهيمة، يَصْلُح إحدى هؤلاء الثلاتِ فيه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ }
وقوله: {إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً...}
دائماً لا نهار معه. ويقولون: تركته سَرْمَداً سمْداً، إتباع.
{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ...}
إن شئت جَعلت الهاء راجعةً على الليلِ خاصّة وأَضمرت للابتغاء هَاء أخرى تكون للنهار، فذلك جَائز. وإن شئت جعلت الليل والنهار كالفعلين لأنهما ظُلْمة وضوء، فرَجعت الهاءُ فى (فيه) عليهما جميعاً، كما تقول: إقبالُك وإدباركَ يُؤذينى؛ لأنهما فعل والفعل يَرَدّ كثيره وتثنيته إلى التوحيد، فيكون ذلك صواباً.
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }
وقوله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ...}
وكان ابن عمِّه { فَبَغَى عَلَيْهِمْ} وبَغْيه عليهم أنه قال: إذا كانت النبوّة لموسى، وكان المذبح والقُرْبان الذى يُقَرّب فى يد هَارون فمالى؟
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} نَوؤها بالعُصْبة أن تُثقلهم، والعُصْبة هَا هنا أربعون رجلاً ومفاتحه: خزائنه. والمعنى: مَا إن مفاتحه لتُنىء العُصْبة أى تميلهم من ثقلها فإذا أدخلت الباء قلت: تنوء بهم وتُنىء بهم، كما قال {آتُونى أُفرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} والمعنى: ائتونى بقِطْرٍ افرغ عَليه، فإذا حذفت الباء زدت فى الفعل ألِفاً فى أوَّله. ومثله {فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ} معناه: فجاء بها المخاض. وقد قال رجل من أهل العربية: إن المعنى: ما إن العُصْبة لتنوءُ بمفاتحه فحوّل الفعل إلى المفاتح كما قال الشاعر:
إن سراجاً لكريم مفخره * تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُه
وهو الذى يَحْلَى بالعين. فان كان سَمع بهذا أثراً فهو وجه. وإلاّ فإنّ الرجل جَهل المعنى. ولقد أنشدنى بعض العرب:
حتى إذا ما التأمَتْ مَوَاصِلُهْ * وناء فى شقٍّ الثِّمالِ كاهِلُهْ
يعنى الرامى لمَّا أخذ القوس ونزع مال على شِقِّه. فذلك نَوْؤه عَليها. ونُرى أن قول العرب: مَا ساءك وناءك من ذلكَ، ومَعناه ما سَاءك وأناءك، إلا أنّه أَلقى الألِف؛ لأنه مُتْبَع لساءك، كما قالت العرب: أكلت طعاماً فهَنَأَنِى ومَرَأَنى، ومَعْنَاه، إذا أفردت: وأمرأنى، فحذفت منه الألِف لمّا أن أُتبع ما لا ألفِ فيه.
وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ} ذكروا أن موسى الذى قال له ذلكَ؛ لأنه من قومه وإن كان على غير دينه. وجمعَه هَا هنا وهو وَاحد كقول الله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الناسُ إنَّ الناسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وإنما كان رَجُلاً من أَشْجع وقوله {الفَرِحين} وَلو قيلَ: الفارحين كان صواباً، كأنَّ الفارحينَ: الذين يفرحون فيما يَستقبِلون، والفرحين الذين هم فيه السَّاعة، مثل الطامع والطَمِع، والمائِت والميّت، والسَّالس والسَّلِس. أنشدَنى بعض بنى دُبَير، وهم فصحاء بنى أَسَدٍ:
ممكورةٌ غَرْثى الوشاحِ السَّالِسِ * تضحك عن ذى أُشُر عُضارس
العضارس البارد وهو مأخوذ من العَضْرس وهو البَرْد. يقال: سَالِس وسلِس.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }
وقوله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي...}:
عَلَى فَضْلٍ عندى، أى كنت أهله وَمُستحقّا له، إذْ أُعطيته لفضل علمى. ويقال: {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ثم قال {عِندِي} أى كذاكَ أَرَى كما قال {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِى فِتْنةٌ}.
وقوله: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} يقول: لا يُسأل المجرم عن ذنبه. الهاء والميم للمجرمينَ. يقول: يُعرفون بسيماهم. وهو كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جانٌّ} ثم بيَّن فقال: {يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسيمَاهُمْ}.
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ }
وقوله: {وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ...}
يقول: ولا يُلَقَّى أن يقول ثواب الله خير لمن آمن وعمل صَالحاً إلاّ الصابرونَ. ولو كانت: ولا يُلَقّاهُ لكان صَوباً؛ لأنه كلام والكلام يُذهب به إِلى التأنيث والتذكير. وفى قراءة عبدالله (بَلْ هِى آيات بيِّنات) وفى قراءتنا {بَلْ هُوَ آياتٌ} فمن قال (هى) ذهبَ إلى الآيات، ومَنْ قال (هو) ذهَبَ إلى القرآن. وكذلك {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ} و {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ} ومثله فى الكلام: قد غمَّنى ذاك وغمَّتنى تلك منكَ.
{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
وقوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ...}
فى كلام العرب تقرير. كقول الرجل: أَما ترى إلى صُنع الله. وأنشدنى:
وَيْكأنْ مَنْ يكن له نَشَبٌ يُحـ * ـبَبْ وَمَنْ يَفْتقِر يعش عيشَ ضُرّ
قال الفراء: وأخبرنى شيخ من أهْل البصرة قال: سَمعت أعرابيَّة تقول لزوجها: أين ابنكَ ويْلكَ؟ فقال: وَيْكأنّهُ وراء البيت. مَعْناه: أَمَا ترينه وراء البيت. وقد يذهب بعض النحوّيينَ إلى أنهما كلمتان يريد وَيْكَ أَنَّه، أراد ويلكَ، فحذف اللام وجعل (أنّ) مفتوحةً بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قال: ويلك أعلم أنه وراء البيت، فأضمر (اعْلم). ولم نجد العرب تُعمل الظنّ والعلم بإضمارٍ مضمرٍ فى أَنَّ. وذلك أنه يبطل إذا كان بين الْكَلِمَتَين أو فى آخِرِ ب الكلمة، فلمَّا أضمره جرى مَجْرى الترك؛ أَلاَ ترى أنه لا يجوز فى الابتداء أن تقول: يا هَذَا أنكَ قائم، ولا يا هذا أنْ قمت تريد: علِمت أو أعلمُ أوظننت أو أظنّ. وأمّا حذف اللام مِنْ (ويْلك) حَتى تصير (ويك) فقد تقوله العرب لكثرتهَا فى الكلام قَالَ عنترة:
ولقد شفى نفسى وَأبرأ سُقمها * قولُ الفوارس وَيْكَ عَنْتَرَ أقدِم
وقد قال آخرونَ: أن معنى (وَىْ كأنَّ) أَنّ (وَىْ) منفصلة من (كأنّ) كقولك للرجل: وَىْ، أمَا ترى ما بين يديكَ، فقال: وَىْ، ثم استأنف (كأنّ) يعنى {ْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} وهى تعجّب، و (كأنَّ) فى مذهب الظنّ والعلم. فهذا وجه مُستقيم. ولم تكتبها العرب منفصلةً، ولو كانت عَلى هذا لكتبوهَا منفصِلةً. وقد يجوز أن تكون كَثُر بها الكلام فوُصِلت بما ليست منه؛ كما اجتمعَت العرب على كتاب {يا بْنَ أُمَّ} {يابْنَؤُمَّ} قال: وكذا رأيتها فى مُصْحف عَبْدالله. وهى فى مصاحفنا أيضاً.
وقوله: {لَخَسَفَ بِنَا} قراءة العامة (لَخُسِفَ) وقد قرأها شَيْبة والحسن - فيما أعْلم - (لخَسَفَ بنا) وهى فى قراءة عبدالله (لانْخُسِف بِنَا) فهذا حُجّةٌ لمن قرأ {لخُسِفَ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( القصص )
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
وقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ...}
يقول: أنزَل عَليكَ القرآن {لَرَادُّكَ إلَى مَعَاد} ذكروا أن جبريل قال يا محمَّد أَشتقت إلى مولدكَ ووطنك؟ قال: نعم. قال فقال له ما أنزل عليه {نَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يعنى إلى مكَّة. والمَعَاد هَا هُنَا إنما أراد به حيث وُلِدت وليسَ من العَوْد. وقد يكون أن يجعَل قوله {لرادُّكَ} لمصيرك إلى أن تعود إلى مَكَّة مَفتُوحَةً لك فيكون المعاد تَعجّباً {إلى مَعَادٍ} أَيِّما مَعَادٍ! لِمَا وعده من فتح مكَّة.
{ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ }
وقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ...}
إلاَّ أن ربَّكَ رحمك {فأنزل عليك} فهو استثناء منقطِع. ومعناهُ: وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولينَ وَقِصَصهم تتلوهَا على أهْل مَكَّة ولم تحضُرهَا ولم تشهدها. والشاهد عَلى ذلكَ قوله فى هَذه السُّورة {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عليهِم آياتِنَا} أى إنك تتلو على أهل مَكَّة قِصَص مَدْيَن وَمُوسى ولم تكن هنالكَ ثاوياً مقيماً فنراه وتسمعَه. وكذلك قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبِىِّ} وهأنت ذا تتلُو قِصَصهم وأمرهم. فهذه الرَّحمة من ربّه.
{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لاَ اله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...}
إلاَّ هُوَ.
وَقال الشاعر:
أستغفرُ الله ذنباً لَسْتُ مُحْصِيهُ * رَبّ العِبَاد إليه الوَجْهُ وَالْعَمَلُ
أى إليه أُوَجّه عَمَلى.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( العنكبوت )
{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }
قوله: ألم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ...}
{يُتركوا} يقع فيهَا لام الخفض، فإذا نزعتها منها كانت مَنْصوبةً. وقلّما يقولون: تركتك أن تذهب، إنما يقولونَ: تركتكَ تذهب. ولكنها جُعلت مكتفِية بوقوعِهَا عَلى الناس وحدهم. وإن جعلتَ {حَسب} مَكرورة عليها كان صَوَاباً؛ كأنّ المعْنى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ}، أحسِبُوا {أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وقوله: {اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ...}
هو أمر فيه تأويل جزاءٍ، كما أن قوله {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} نَهْى فيه تأويل الجزاء. وهو كثير فى كلام العرب.
قال الشاعر:
فقلتُ ادعِى وأَدْعُ فإنَّ أندى * لصَوتٍ أن يُنَادىَ داعيانِ
إراد: ادعِى ولأَدْعُ فإِن أندى. فكأنه قال: إن دعوتِ دعوتُ.
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ...}
يَعْنى أوزارهم ا {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} يقول: أوزار مَنْ أضَلّوا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
وقوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً...}
(إنَّما) فى هذا الموضع حرفٌ واحدٌ، وليست على معنى (الذى) {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} مردودة عَلى (إنّما) كقولك: إنما تفعلونَ كذا، وإنما تفعلون كذا. وقد اجتمعُوا على تخفيف {تَخْلُقُونَ} إلاّ أبا عبدالرحمن السُلَمِىّ فإنه قرأ (وتَخَلّقُون إفْكا) ينصِب التاء ويُشدّد اللام وَهمَا فى المعْنى سَواء.
{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقوله: {النَّشْأَةَ...}
القراء مجتمعُونَ عَلى جزم الشين وقَصْرها، إلا الحسن البصرىّ فإنه مدّها فى كل القرآن فقال (النشَاءَة) ومثلها مما تقوله العرب الرأْفة، والرآفة، والكَأْبة والكآبة كلّ صواب.
{ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
وقوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ...}
يقول: القائل: وكيف وصفهم أَنهم لا يُعجزون فى الأرض ولا فى السماء، وليسُوا من أهْل السَّماء؟ فالمعنى - والله أعلم - ما أنتم بمعجزينَ فى الأرض ولا مَن فى السَّمَاء بمعجزٍ. وهو من غامِضِ العربيّه للضمير الذى لم يظهر فى الثانى.
ومثله قول حَسَّان:
أمَن يهجو رسولَ الله منكم * ويمدحُهُ وينصرهُ سَوَاءٌ
أراد: ومن ينصره ويمدحه فأضمر (مَنْ) وقد يقع فى وَهْم السَّامِع أن المدح والنصر لَمْن هذه الظاهرة. ومثله فى الكلام: أكرِم مَن أتاكَ وأتى أباكَ، وأكرم مَن أتاك ولم يأت زيداً، تريد: ومَن لم يأتِ زيدا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
وقوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ...}
نصبها حَمزة وأضافَها؛ ونصبهَا عاصم وأهل المدينة، ونوَّنوا فيهَا {أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} ورُفعَ ناسٌ منهم الكسائىّ بإضافة. وقرأ الحسَن (مَوَدّةٌ بَيْنَكُمْ) يَرفع ولا يضيف. وهى فى قرءاة أُبَىّ (إنَّما مَوَدَّةُ بَيْنهِمْ فى الحياة الدُّنْيَا) وفى قراءة عَبْدِالله (إنَّما مَوَدَّةُ بَيْنِكم) وهما شاهدان لمنْ رَفع. فمَن رفعَ فإنما يرفع بالصفة بقوله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وينقطع الكلام عند قوله {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} ثم قال: ليست مودّتكم تلك الأوثان ولا عبادتكم إيَّاها بشىء، إنَّما مودّة ما بينكم فى الحياة الدنيا ثم تنقطع. ومَن نصب أوْقع عَليهَا الاتّخاذ: إنما اتّخذتموهَا مَوَدّةً بينكم فى الحياة الدنيا. وقد تكون رفعاً على أَن تجعَلها خبراً لِمَا وتجعَل (ما) على جهة (الذى) كأنك قلت: إِن الذينَ اتخذتموهم أوثاناً مودَّةُ بينكم فتكون المودَّة كالخبر، ويكون رفعهَا على ضمير (هىَ) كقوله {لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعةً مِنْ نَهَارٍ} ثم قال {بَلاَغٌ} أى هذا بلاغ، ذلك بلاغ. ومثله {إنَّ الذينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} ثم قال {مَتَاعٌ فِى الدنيا} أى ذلك متاع فى الحياة الدنيا وقوله {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}: يتبرّأ بعضكم من بعضٍ والعابد والمعبود فى النار.
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي...}
هذا من قِيل إبراهيم. وكان مهاجَره من حَرَّان إلى فِلسطين.
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا...}
الثناءَ الحسن وأن أهل الأديان كلّهم يتولَّونه. ومِنْ أجره أن جُعلت النبوَّة والكتاب فى ذُرّيته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
وقوله: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ...}
قَطْعه: أنهم كانوا يعترضُونَ الناسَ منَ الطُرُق بعملهم الخبيث، يعنى اللوَاطَ. ويقال: وتقطُعونَ السَّبِيلَ: تقطُعونَ سَبِيلَ الوَلَد بتعطيلكم / ا النساء وقوله {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} فى مجالسكم. والمنكر منه الخَذْف، والصفير، ومَضْغ العِلْك، وحَلّ أزرار الأقبية والقُمُصِ، والرمى بالبُنْدُق. ويقال: هى ثمانىَ عشرة خَصْلةً من قول الكلبىّ لا أحفظها. وقال غيره: هى عشرٌ.
{ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }
وقوله: {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ...}
فى دينهم. يقول: ذوُو بصَائر.
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً...}
ضربه مثلاً لمن اتّخذ من دون الله وليّاً أنه لا ينفعه ولا يضرّه، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرّاً ولا بَرْداً. والعنكبوت أنثى. وقد يُذكِّرهَا بعض العرب. قال الشاعر:
على هَطّالهم منهم بيوتٌ * كأنَّ العنكبوت هو ابتناهَا
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }
وقوله: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ...}
يقول: ولذكر الله إيّاكم بالثواب خير من ذكركم إيّاه إذا انتهيتم. ويكون: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وأحَقّ أن يَنْهَى.
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ }
وقوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ...}
بمحمَّدٍ صَلى الله عيله وسلم. ويقال: إنه عبْدالله بن سَلاَم {وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ} يعنى الذين آمنو من أهل مَكَّة.
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }
وقوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ...}
من قَبْل القرآن {مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ولوكنت كذلكَ {لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} يعنى النصارى الذينَ وجَدُوا صفته ويكون {لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أى لكَانَ أشدّ لِريبة مَنْ كذَّب من أهل مكَّة وغيرهم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ }
وقوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ...}
يريد القرآن وفى قراءة عبدالله (بل هى آياتٌ)} يريد: بل آيات القرآن آيات بَيِّنات: ومثله {هَذَا بَصَائر لِلنَّاسِ} ولو كانت هذه بصَائر للناس كان صَوَاباً. ومثله {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّى} لو كان: هذه رحمة لجاز.
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
وقوله: {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى...}
يقول: لولاَ أن الله جَعَلَ عذاب هذه الأمّة مؤخّراً إلى يوم القيامة - وهو الأجل - لجاءهم العذاب. ثم قال {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} يعنى القيَامة فذكَّر لأنه يريدُ عذابَ القيَامة. وإن شئت ذكّرته على تذكير الأجَل. ولو كانت {وَلَتَأْتِيَنَّهُمْ} كان صَوَاباً يريد القيامة والسَّاعة.
{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
وقوله: {وَيِقُولُ ذُوقُواْ...}
وهى فى قراءة عبدالله (ويقال ذوقوا) وقد قرأ بعضهم (وَنَقُولُ) بالنون وكلّ صَواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }
وقوله: {ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ...}
هذا لِمُسلمة أهل مَكَّة الذينَ كانوا مقيمينَ مع المشركينَ. يقول {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} يعنى المدينة أى فلا تُجاوروا أهْل الكفر.
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ...}
قرأهَا العوام {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} وحدَّثنى قيس عن أبى إسْحَاق أن ابن مسعود قرأها (لنُثْوِيَنَّهُمْ) وقرأها كذلك يحيى بن وثَّاب وكلُّ حسن بَوَّأته منزلاً وأثويته منزلاً.
{ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وقولوا: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ...}
نزلت فى مؤمنى أهلِ مكَّة، لمّا أُمروا بالتحوّل عنها والخروجِ إلى المدينة قالوا: يا رسول الله ليسَ لنا بالمدينة منازل ولا أموال فمِنْ أين المعَاش؟ فأنزل اللهُ {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لا تدّخر رزقها ولا تجمعه، أى كذلكَ جميع هوامّ الأرض كلّهَا إلاّ النملة فإنها تدَّخر رزقها لسَنَتها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( العنكبوت )
{ وَمَا هَاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ...}
حياة لا موت فيها.
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
وقوله: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ...}
يقول: يُخلصونَ الدعاء والتوحِيد إلى الله فى البحر، فإذا نجَّاهم صاروا إِلى عبادة الأوثان.
{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ }
وقوله: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ...}
قرأها عاصم والأعمش على جهة الأمر والتوبيخ بجزم اللام وقرأها أهل الحجاز {وَلِيَتَمَتَّعوا} مكسُورة على جهة كى.
معانى القرآن للفراء الجزء الرابع
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الروم )
{ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
قوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ...}
القُراء مجتمعون على {غُلِبَت} إلاّ ابن عمر فإنه قرأها (غَلَبَتِ الرُّومُ) فقيل له: علاَم [] غَلبُوا؟ فقال: على أدنى رِيِف الشأم. والتفسير يردّ قول ابن عُمَر. وذلك أن فارس ظفرت بالروم فحزِن لذلكَ المسْلمُونَ، وفرح مشركو أهلِ مَكَّة؛ لأن أهل فارسَ يعبدونَ الأوثان ولا كتاب لهم، فأحبّهم المشركُونَ لذلك، ومال المسْلمونَ إلى الروم، لأنهم ذَوو كتابٍ ونبوّة. والدليل على ذلكَ قول الله {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ثم قال بعد ذلكَ: ويوم يغلِبونَ يفرح المؤمنون إذا غَلَبُوا. وقد كان ذلك كلّه.
وقوله: {مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} كلامُ العرب غَلَبته غَلَبةً، فإذا أضَافوا أسْقَطُوا الهاء كما أسْقطوهَا فى قوله {وإقام الصَّلاةِ} والكلامُ إقامة الصَّلاة.
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ }
وقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ...}
القراءة بالرفع بغير تنوينٍ؛ لأنهما فى المعْنَى يراد بهما الإضافَة إلى شىء لامحالة. فلمَّا أدّتا عن مَعْنى ما أُضيفتا إليه وسَمُوهما بالرفع وهما مخفوضتان؛ ليكون الرفع دليلاً عَلَى ما سَقط ممَّا أضفتهما إليه. وَكذلكَ ما أشبههما، كقول الشاعر:
* إن تأتِ من تحتُ أجِئْها من عَلُ *
ومثله قول الشاعر:
إذا أنا لم أُومَن عَليكِ ولم يَكُن * لقاؤكِ إلاَّ من ورَاءُ ورَاءُ
ترفع إذا جَعَلته غايةً ولم تذكر بعده الذى أضفته إليه فَإن نويت أن تظهره أو أظهرته قلت: لله الأمر منْ قبلِ ومن بَعْدِ: كأنكَ أظهرتَ المخفوض الذى أسْنَدْت إليه (قَبْل) و (بعد). وسمع الكسَائىُّ بعض بنى أسَدٍ يقرؤها (لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلِ وَمِن بَعْدُ} يخفض (قبل) ويرفع (بَعد) عَلَى ما نوى وأنشدنى (هو يعنى) الكسَائىّ:
أكابِدهَا حَتى أُعَرِّسَ بَعْد مَا * يكون سُحُيْراً أو بُعَيدَ فأهْجَعَا
أراد بُعَيدَ السحَّر فأضمره. ولو لم يُرِد ضمير الإضافة لرفع فقال: بُعَيْدُ. ومثله قول الشَّاعر:
لَعَمْركَ ما أدرى وإنى لأَوجَلُ * على أيِّنا تَعْدو المنيَّةُ أوّلُ
رفعت (أوّل) لأنه غاية؛ ألا ترى أنها مسنَدة إلى شىء هى أوّلهُ؛ كما تعرِف أنّ (قبل) لا يكون إلاَّ قبل شىء، وأنَّ (بعد) كذلكَ. ولو أطلقتهما بالعربيّة فنوَّنت وفيهما مَعْنى الإضَافة فخفضت فى الخفض ونوَّنت فى النصب والرفع لكان صَوَاباً، قد سُمع ذلكَ من العرب، وجَاء فى أشعارها، فقال بعضهم:
وساغَ لى الشرابُ وكنت قبلاً * أكاد أغَصُّ بالمَاء الحمِيم
فنوَّنَ وكذلكَ تقول: جئتك من قبل فرأيتكَ. وكذلك قوله:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبل مُدبرٍ معاً * كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من عَلِ
فهذا مخفوض. وإن شئت نوَّنت وأن شئت لم تنون على نيّتك؟ وقال الآخر فرفع:
كَأنّ مِحَطّا فى يدَى حارثيَّةٍ * صَنَاعٍ علت منّى به الجِلدَ من عَلُ
المِحَطّ: منقاش تشِم به يدها.
وأمّا قول الآخر:
هتكت به بيوتَ بنى طَرِيفٍ * على ما كان قبلٌ من عِتاب
فنوَّن ورَفَع فإن ذلك لضرورة الشعر، كما يُضطَرّ إليه الشاعر فينوّن فى النداء المفرد فيقول: يا زيدٌ أَقْبل؛ قَالَ:
قدَّمُوا إذْ قيل قيسٌ قدِّمُوا * وارفعُوا المجدَ بأطرافِ الأَسَل
وأنشدنى بعض بنى عُقيل:
ونحن قتلنا الأَسْدَ أَسْدَ شَنُوءَة * فما شرِبُوا بعدٌ عَلَى لذَّة خمرَا
ولو ردّه إلى النصب إذ نوّن كان وجهاً؛ كما قال:
وسَاغ لى الشراب وكنت قبلاً * أكاد أغَصَّ بالمَََاء الحَمِيم
وكذلك النداء لو رُدّ النصب إذا نُوَّن فيه كَانَ وَجْهاً؛ كما قال:
فطِر خالداً إن كنتَ تَسْطيع طَيْرةً * وَلا تَقَعْن إلاَّ وقلبُكَ حَاذِِر
ولا تنكرنَّ أن تضيف قبل وبعدَ وأشباههما وإن لم يظهر فقد قال:
إِلاَّ بُدَاهةَ أو عُلاَلَة * سَابحٍ نَهْدِ الجُزَاره
وقال الآخر:
يامن يرى عَرِضاً أكفكفُهُ * بين ذِرَاعىْ وجَبْهةِ الأَسَدِ
وسمعت أبا ثَرْوَان العُكْلِىّ يقول: قطع الله الغداة يد ورجل من قاله. وإنما يجوز هَذَا فى الشيئين يَصْطحبَان؛ مثل اليد والرجل، ومثل قوله: عندى نصفُ أو ربعُ درهَمٍ، وجئتك قبلَ أو بعدَ العصرِ. ولا يجوز فى الشيئين يتباعَدان؛ مثل الدار والغلام: فلا تُجيزنّ: اشتريت دارَ أو غلام زيد؛ ولكن عَبْدَ أَوْ أَمَةَ زَيدٍ، وعينَ أو أذُن، ويد أو رِجْلَ، وما أشبهه.
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }
وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...}
يعنى أهل مَكَّة. يقول: يَعلمونَ التجارات والمعاش، فجَعَلَ ذلك علمهم. وأمَّا بأمْرِ الآخرة فعَمُون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }
وقوله: {إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى...}
يقول: ما خلقناهما {إِلاَّ بِالْحَقِّ} للثواب والعقاب والعمَل {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}: القيامَة.
{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وقوله: {وَأَثَارُواْ الأَرْضَ...}:
حَرَثوها {وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ} مما كانوا يَعْمُرُونَ. يقول: كانوا يعمِّرونَ أكثر من تعمير أهْل مَكَّة فأُهلِكُوا.
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ }
وقوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى...}.
تنصب الْعَاقبة بكان، وتجعل مرفوع (كان) فى {السُّوءَى}. ولو رفعت الْعَاقبة ونصبت {السُّوءَى} كان صَوَاباً. و {السُّوءَى} فى هَذا الموضع: العذابُ، ويقال: النار.
وقوله {أَن كَذَّبُواْ} لتكذيبهم، ولأن كذَّبُوا. فإذا ألقيتَ اللام كان نصباً.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ }
وقوله: {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ...}:
ييأسون من كل خير، ويقطع كلامُهم وحججهم. وقرأ أبوُ عبدالرحمن السلمىّ (يُبْلَسُ الْمُجْرِمُونَ) بفتح اللام. والأولى أجود. قال الشاعر:
يا صَاحِ هل تعرف رَسماً مكرَساً * قال نعم أعرفُه وَأبلسَا
{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }
وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ...}
يقول: فصَلّوا لله {حِينَ تُمْسُونَ} وهى المغرب والعِشَاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صَلاة الفجر {وَعَشِيّاً} صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ }
وقوله: {لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ...}
يريد العالَم من الجِنِّ والإنسِ ومن قرأهَا {للعَالِمينَ} فهو وجه جيّد؛ لأنه قد قال {لآياتٍ لقومٍ يَعْقِلُونَ} و {لآياتٍ لأُولِى الأَلْبَابِ}
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً...}
وقبل ذلك وبعده (أنْ أنْ) وكلٌّ صَوَاب. فمن أظهر (أنْ) فهىَ فى موضع اسمٍ مرفوعٍ؛ كما قَالَ {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيِْلِ والنَّهَارِ} فإذا حَذفْت (أنْ) جَعَلْتَ (مِن) مؤدّية عن اسْمٍ متروكٍ يكون الفعل صلةً لهُ؛ كقول الشاعِر:
وما الدهر إِلاَّ تارتان فمنهُمَا * أمُوتُ وَأُخرى أبتغى العَيْش أكدح
ب / كأنه أراد: فمنها سَاعَة أموتها، وسَاعة أعيشها. وكَذلك من آياته آية للبرق وآية لكذا. وأن شئتَ: يريكم من آياته البرق فلا تضمر (أن) ولا غيره.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ }
وقوله: {أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ...}
يقول: أَن تدومَا قائمتين بأمره بغير عَمَدٍ.
{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ...}
حدّثنا أبو العبَّاس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفرّاء قال: حدّث الحسنُ بن عمارة عن الحَكَم عن مجاهد أَنه قال: الإنشاءة أهونُ عليه من الابتداء. قال أبو زكريّاء: ولا أشتهى ذلك والقولُ فيه أنه مَثَل ضَرَبه اللهُ فقال: أتكفرونَ بالبعث، فابتداءُ خَلْقكم من لاَ شىء أشدّ. فالإنشاءة من شىء عندكم بأهل الكفر ينبغى أن تكون أهْونَ عَليه. ثم قَالَ {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} فهذا شاهِدٌ أنه مَثَل ضربه الله. حدَّثنا أبو الْعَبَّاسِ، قال حدّثنا محمّد قال حدّثنا الفرّاء قال حدَّثنى حِبَّانُ عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عبَاسٍ قال {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}: على المخلوق، لأنه يقول له يوم القيامَة: كن فيكون وأوَّل خَلْقه نُطْفة ثم من عَلَقة ثم من مُضْغَةٍ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
وقوله: {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ...}
نصبتَ الأنفس؛ لأن تأويل الكاف والميم فى {خِيفَتِكُمْ} مرفوع. ولو نويْت به - بالكافِ والميم - أن يكون فى تأويل نصبٍ رفعت مَا بعدها. تقول فى الكلام: عجبت مِن موافقتك كثرةُ شربِ الماء، عجبت من اشترائِكَ عبداً لا تحتاج إليه. فإذا وقع مثلها فى الكلام فأجرِه بالمعنى لا باللفظ. والعرب تقول: عجبت من قيامكم أجْمعونَ وأجمعين، وقيامكم كُلُّكم وكُلِّكم. فمنْ خفض أتبعه اللفظ؛ لأنه خَفْض فى الظاهِرِ ومن رفع ذهب إلى التأويل. ومثله {لإيلاَفِ قرَيْشٍ إيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء والصَّيْفِ} أوقعت الفعل من قريش عَلى {رِحْلَة} والعرب تقول: عجبت من تساقطهَا بعضُها فوق بعض، وبعِضها، على مثل ذلك: هذا إذا كَنَوا. فإذا قالوا سَمْعت قرع أنيابه بعضِها بَعضاً خفضوا (بعض) وهو الوجه فى الكلام؛ لأن الذى قبله اسم ظاهر، فاتبعوه إيَّاه. لو رفعت (بعضهَا) كان على التأويل.
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ...}
يريد: دِين الله منصوب عَلى الفعل، كقوله {صِبْغَةَ اللهِِ}. وقوله {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} يقول: المولود عَلى الفِطرة حتى يكُون أبواهُ اللذان ينصِّرانه أو يُهوِّدانِهِ. ويقال فطرة الله أن الله فطر العِبَاد على هَذا: على أنْ يعرفُوا أَنّ لهم رَبّاً ومدبِّراً.
{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وقوله: {مُنِيبِينَ...}
منصوبة عَلى الفعل، وإن شئت على القطع.
فأقِمْ وجهك ومن مَعَك مُنيبينَ مقبلين إليه.
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. {مِنَ الَّذِينَ فَارَقُواْ دِينَهُمْ} فهذا وجهٌ. وإن شئت استأنفت فقلت: {مِنَ الَّذِينَ فَارَقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. كأنكَ قلت: الذينَ تفرقوا وتشايَعُوا كلُّ حِزْبٍ بما فى يده فرِح.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ }
وقوله: {أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً...}
كتاباً فهو يأمرهم بعبادة الأصنام وشِرْكهم.
{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }
وقوله: {لِّيَرْبُوَ...}
قرأهَا عاصم والأعمش ويحيَى بن وَثَّابٍ باليَاء ونصْب الواو. وقرأها أهل الحجاز {لِتُرْبُوَ} أنتم. وكلّ صواب ومن قرأ {ليَرْبوَ} كان الفِعل للربا. ومن قال {لتُرْبُوا} فالفعْل للقوم الذين خُوطبُوا. دَلّ عَلى نصبه سُقوطُ النُّون. ومعناه يقول: وما أعطيتم من شىء لتأخذوا أكثر منْهُ فَلَيسَ ذلكَ بزاكٍ عند الله {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ} بهَا {وَجْهَ اللَّهِ} فتلك تَرْبو للتضعيف.
وقوله: {هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أهل للمضاعفة؛ كما تقول العرب أصبحتم مُسْمِنينَ مُعْطِشين إذا عطِشت إليهم أو سَمنت. وسمع الكسائىُّ العرب تقول: أصْبحتَ مُقْوياً أى إبلك قويَّة، وأصبحتَ مُضعفاً أى إبلكَ ضعاف تريد ضعيفة من الضُّعف.
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ...}
يقول: أجدَبَ البَرُّ، وانقطعتْ مادَّة البحر بذنوبهم، وكان ذلك ليُذَاقوا الشدَّة بذنوبهم فى العاجل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ }
وقوله: {يَصَّدَّعُونَ...}
يتفرقون. قال: وسَمعت العرب تقول: صدَعت غنمى صِدْعتين؛ كقولك: فَرَقتهَا فِرقتين.
{ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقوله: {إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ...}
قرأها عاصم والأعمش (آثَارِ) وأهل الحجاز (أَثَر) وكلّ صواب.
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }
وقوله: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً...}
يخافونَ هلاكه بعد اخضراره، يعنى الزرع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الروم )
{ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ }
وقوله: {بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ...}
و {من ضَلاَلَتِهِمْ} كلّ صَوَاب. ومن قال {عَن ضَلاَلَتِهِمْ} كَأنه قالَ: ما أنت بصَارفٍ العمى عن الضلالة. ومَن قال (مِنْ) قَالَ: ما أنت بمانعهم من الضلالة.
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }
وقوله: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ...}
يَحْلفون حين يخرجُون: ما لبثوا فى قبورهم إلاَّ ساعةً. قال الله: كَذَبُوا فى هذا كما كذبوا فى الدنيا وجحدُوا. ولو كانت: ما لبثنا غير سَاعةٍ كان وجهاً؛ لأنه من قولهم؛ كقولكَ فى الكلام: حلفوا ما قامُوا، وحَلفوا ما قمنا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( لقمان )
{ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ }
وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً...}
أكثر القراءِ على نصب الهُدَى والرحمة على القطع. وقد رفعها حمزة على الائتِناف؛ لأنها مُسْتأنفة فى آية منفصلةٍ من الآية قبلها. وهى فى قراءة عبدالله (هُدًى وبُشْرى).
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...}
نزلت فى النَضْر بن الحارث الدارىّ. وكان يشترى كتب الأعاجم فارسَ والروم وكتب أهل الحِيرة (ويحدّث) بها أهل مكة؛ وإذا سمع القرآن أعرض عنه واستهزأ به. فذلكَ قوله {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} وقد اختلف القراء فى {وَيَتَّخِذَهَا} فرفع أكثرهم، ونصبها يحيى بن وَثَّاب والأعمش وأصحابُه. فمن رفع ردّها عَلى {يَشْتَرِي} ومن نصبها ردّها على قوله {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}: وليتَّخذهَا.
وقوله {وَيَتَّخِذَهَا} يذهب إلى آيات القرآن. وإن شئت جعلتها للسبيل؛ لأن السَّبيل قد تُؤنَّث قال {قُلْ هذِهِ سَبِيلِى أَدعُو إِلَي اللهِ} وفى قراءة أُبَىّ (وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُشْدِ لاَ يَتّخذُوهَا سَبِيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَىّ يَتّخِذُوهَا سَبِيلاً}.
حدَّثنا أبو العبَّاس قال حدَّثنا محمد قال حدَّثنا الفراء قال حَدَّثنى حِبَّان عن ليث عن مجاهد فى قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: هو الغِناء قال الفراء: والأوّل تفسيره عن ابن عباس.
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }
وقوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ...}
لئلاّ تِميد بكم. و (أَنْ) فى هذا الموضع تكفى من (لا) كما قال الشاعر:
* والمهرُ يأبى أن يزال مُلهِبا *
معناه: يأبى أن لا يزال.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( لقمان )
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ...}
من ذِكْره السمواتُ والأرضُ وإنزاله الماء من السمَاء وإنباتُه {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ} تعبدونَ {مِن دُونِهِ} يعنى: آلهتهم. ثمّ أكذبهم فقال {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ...}
حَدَّثنا أبو العباس قال حدَّثنا محمّد قال حدَّثنا الفراء قال: ا حدَّثنى حِبَّان عن بعض مْنَ حدَّثه قال: كان لقمان حبشِياً مجَدَّعاً ذا مِشْفَر.
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً...}
أى أحسِن صحبتَهما.
المعاني الواردة في آيات سورة ( لقمان )
{ يابُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
وقوله: {يابُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ...}
يجوز نصب المثقال ورفعُه. فمن رفع رفعه بتكُنْ واحتملت النكرة ألاَّ يكون لها فعل فى كانَ وليَس وأخواتها. ومن نصب جَعَل فى (تكن) اسماً مضمرا مجهولاً مثل الهاء التى فى قوله {إِنَّهَآ إِن تَكُ} ومثل قوله {فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصارُ} وجَاز تأنيث (تك) والمثقال ذكر لأنه مضاف إلى الحبَّة والمعنى للحبَّة، فذهب التأنيث إليها كما قال:
وتشرق بالقول الذى قد أَذَعتَه * كَمَا شَرِقت صَدرُ القناة من الدمِ
ولو كان: {إِن يَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} كان صواباً وجاز فيه الوجهان. وقوله {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} يقال: إنَّها الصَّخرة التى تحت الأرض: وهى سِجِّين: وتُكتب فيها أعمال الكفّار. وقوله {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فيجازى بها.
{ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
وقوله: {وَلاَ تُصَاعِرْ...}
قرأهَا أهل المدينة وعاصم بن أبى النَجُود والحسن: (تصعِّر) بالتشديد: وقرأها يحيى وأصحابُه بالألف {ولا تُصاعِرْ} يقول: لاَ تمِّيل خَدَّك عن الناس من قولك: رجل أَصعر. ويجوز ولا تُصْعِر ولم أسمع به.
{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }
وقوله: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ...}
يقول: إن أَقبح الأصوات لصوتُ الحمير. وأنت تقول: له وجه منكَر إذا كان قبيحاً. وقال {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ولو قيل: أصْوات الحمير لكان صواباً. ولكن الصَّوت وإن كان أُسْند إلى جمع فإن الجمع هذا الموضع كالواحد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( لقمان )
{ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ }
وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...}
حدَّثنا أبو العباس، قال: حَّدثنا محمد، قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى شَرِيك بن عبدالله عنْ خَصِيف الجَزَرىّ عن عِكْرِمة عن ابن عبّاس أَنه قرأ (نِعْمَةً) واحدة. قال ابن عباسٍ: ولو كانت {نِعَمَهُ} لكانت نعمة دون نِعمةً أو قال نعمة فوق نعمةٍ، الشكّ من الفراء. وقد قرأ قوم {نِعَمُه} عَلى الجمع. وهو وجه جيّد؛ لأنه قال {شَاكِراً لأنعُمِه اجْتَباهُ} فهذا جمع النِعَم وهو دليل على أَنَّ {نِعَمَهُ} جَائِز.
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأَمُورِ }
وقوله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ...}
قرأها القرّاء بالتخفيف، إلا أبا عبدالرحمن فإنه قرأها (وَمَنْ يُسَلِّم) وهو كقولكَ للرجل أَسْلِم أمرك إلى الله وسِلِّم.
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ...}
ترفع {البحر} ولو نصبته كان صواباً؛ كما قَرأت القراء {وَإذا قِيل إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ والسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا} و {الساعة} وفى قراءة عبدالله {وبَحْرُ يَمُدُّهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} يقول: يكون مِداداً كالمداد المكتوب به. وقول عبدالله يقوِّى الرفع. والشىء إذا مَدَّ الشىء فزاد فكان زيادةً فيه فهو يَمُدُّه؛ تقول دجلة تَمُدّ بِئارنا وأنهارنا، والله يُمِدّنا بها. وتقول: قد أمددتك بألفٍ فَمَدُّوك، يقاس على هذا كلّ ما ورد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( لقمان )
{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
وقوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ...}
إلا كبعث نفس واحدة. أضمر البعث لأنه فعل؛ كما قال {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذِى يُغْشَى عَلَيْهِ (مِنَ المَوْتِ)} المعنى - والله أعلم -: كدوران عين الذى يُغشى عليه / ب من الموت، فأضمر الدوران والعين جميعاً.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
وقوله: {بِنِعْمَةِ اللَّهِ...}
وقد قرئِتْ {بنعِمَاتِ الله} وقلَّما تفعل العرب ذلكَ بِفعِلةٍ: أن تُجمع عَلى التاء إنّما يجمعونها على فِعَلٍ؛ مثل سِدْرة وسِدَر، وخِرقة وخِرَق. وإنّما كرهوا جمعه بالتاء لأنهم يُلزمون أنفسهم كسرَ ثانية إذا جُمع؛ كما جمعُوا ظُلْمة ظُلُمات فرفعوا ثانَيها إتباعاً لرَفعة أوَّلها، وكما قالوا: حَسراتٌ فأَتبَعُوا ثانيها أولها. فلمَّا لزمهم أَن يقولوا: بِنِعِمات استثقلوا أن تتوالى كسرتان فى كلامهم؛ لأنا لم نجد ذلكَ إلاَّ فى الإبل وحدها. وقد احتمله بعض العرب فقال: نِعِماتٌ وسِدِراتٌ.
{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }
وقوله: {كُلُّ خَتَّارٍ...}
الختَّار: الغدَّار وقوله {مَوْجٌ كالظُلَلِ} فشبّهه بالظلل والموج واحد لأن الموج يركب بعضهُ بعضاً، ويأتى شىءٌ بعد شىء فقال {كالظُلَل} يعنى السحاب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( لقمان )
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
وقوله: {بِاللَّهِ الْغَرُورُ...}
ما غَرّك فهو غَرُور، الشيطان غَرور، والدنيا غرور. وتقول غررته غُروراً ولو قرئِت ولا يغرنّكم بالله الغُرور يريد زينة الأشياء لكان صواباً.
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ }
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ...}
فيه تأويل جحد المعنى: ما يعلمهُ غيره {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} خرج هذا على الجحد. والمعنى الظاهرُ والأوَّل معروف بالضمير للجحد.
وقوله {بِأَيِّ أَرْضٍ} وبأيَّة أرض. فمن قال {بِأَيِّ أَرْضٍ} اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يُظهِر فى أىّ تأنيثا آخر، ومن أنَّث قال قد اجتزءوا بأىّ دون ما أضيف إليه، فلا بدّ من التَّأنيث؛ كقولك: مررت بامرأة، فتقول: أَيَّةٍ، ومررت بجرلين فتقول أَيَّيْنِ:
المعاني الواردة في آيات
سورة ( السجدة )
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ }
وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ...}
يقول: أحسنه فجعله حَسَناً. ويقرأ (أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ) قرأها أبو جعفر المدنىّ كأنه قال: أَلهم خَلْقه كلّ ما يحتاجونَ إليه فالخلق، منصوبون بالفعل الذى وقع على (كلّ) كأنك قلت أعْلمهم كل شىء وأحسنهم. وقد يكون الخلق منصوبا كما نُصب قوله {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} فى أشباه له كثيرة من القرآن؛ كأنك قلت: كُلَّ شىء خَلْقاً منه وابتداء بالنعم.
{ وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }
وقوله: {ضَلَلْنَا...}
و {ضَلِلْنا} لغتان. وقد ذكر عن الحسن وغيره أَنه قرأ {إذا صَلِلنا} حتى لقد رُفعت إلى علىّ {صَلِلنا} بالصاد ولست أعرفها، إلا أن تكون لغةً لم نسمعها إنما تقول العرب: قد صَلّ اللحمُ فهو يَصِلّ، وأصَلّ يُصِلّ، وخَمّ يَخِمّ وأخمّ يُخمُّ. قال الفرّاء: لو كانت: صَلَلنا بفتح اللام لكان صوابا، ولكنى لا أعرفها بالكسر.
والمعنى فى {إذا ضَلَلْنا فى الأرْضِ} يقول: إذا صارت لحومنا وعظامنا تراباً كالأرض. وأنت تقول: قد ضلّ الماءُ فى اللبن، وضلَّ الشىءُ فى الشىءِ إذا أخفاه وغلبهُ.
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }
وقوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً...}
كان المنافقون إذا نودى بالصلاة فإنْ خَفُوا عن أعين المسْلمينَ تركوها، فأنزل الله. {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا} إذا نودوا إلى الصّلاة أتوها فركعُوا وسَجَدوا غير مستكبرين..
المعاني الواردة في آيات سورة ( السجدة )
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }
وقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ...}
يقال: هو النوم قبل العِشاء. كانوا لا يضعون جُنوبهم بين المغرب والعِشاء حتى يُصلّوها. ويقال: إنهم كانوا فى ليلهم كلِّه {تَتَجَافَى}: تقلق {عَنِ الْمَضَاجِعِ} عن النوم فى الليل / ا كلّه {خَوْفاً وَطَمَعاً}.
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله: {مَّآ أُخْفِيَ...}
وكلّ ينصب بالياء؛ لأنه فعل ماض؛ كما تقول: أُهلِك الظالمون. وقرأها حمزة (مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) بإرسال الياء. وفى قراءة عبد الله (مَّآ نُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فهذا اعتبار وقوَّة لحمزة. وكلٌّ صواب. وإذا قلت {أُخْفِيَ لَهُم} وجعلت (ما) فى مذهب (أى) كانت (ما) رفعاً بما لم تُسَمّ فاعلَه. ومن قرأ {أُخْفِيَ لَهُم} بإرسال الياء وجعَل (ما) فى مذهب (أىّ) كانت نصباً فى {أُخْفِى} و {نُخْفِى} ومَن جعلها بمنزلة الشىء أوقع عليها (تَعْلَمُ) فكانت نَصْباً فى كلّ الوجوه. وقد قرئت (قُرَّاتِ أعْيُن) ذُكرت عن أبى هريرة.
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ }
وقوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ...}
ولم يقل: يستويان؛ لأنها عامّ، وإذا كان الأثنان غير مصمود لهما ذَهَبَا مذهب الجمع تقول فى الكلام: ما جعل الله المسلم كالكافر فلا تَسوِّيَنَّ بينهم، وبينهما. وكلّ صواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( السجدة )
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
وقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى...}
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفرّاء قال: حدَّثنى شَرِيك بن عبدالله عن منصور عن إبراهيم أو عن مجاهد - شكَّ الفراء - فى قوله {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} قال مَصائبُ تصيبهم فى الدنيا دون عذاب الله يوم القيامة.
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ...}
القراء جميعاً على {لَمَّا صَبَرُواْ} بتشديد الميم ونصب اللام. وهى فى قراءة عبدالله (بما صَبَروا) وقرأها الكسائىّ وحمزة (لِما صَبَروا) على ذلك. وموضع (ما) خَفْض إذا كسرت اللام. وإذا فتحت وشدَّدت فلا موضع لها إنما هى إداة.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ }
وقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا...}
(كَمْ) فى موضع رفع بـ (يَهْدِ) كأنكَ قلت: أوَلم تهدهم القرون الهالكة. وفى قراءة عبدالله فى سورة طه (أَوَلَمْ يَهد لهم مَنْ أهلكنا) وقد يكون (كَم) فى موضع نصب بأَهلكنا وفيه تأويل الرفع فيكون بمنزلة قولك: سواءُ عَلىّ أزيداً ضربت أم عمراً، فترفع (سواء) بالتأويل.
وتقول: قد تبيّن لى أقام زيد أم عمرو، فتكون الجملة مرفوعة فى المعنى؛ كأنك قلت: تبيَّن لى ذاك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( السجدة )
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ }
وقوله: {إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ...}
والجُرُز: التى لا نباتَ فيها: ويقال للناقة: إنها لجُرَاز إذا كانت تأكل كلّ شىء، وللإنسان: إنه لجَرُوز إذا كان أكولاً، وسيف جُرَاز إذا كان لا يُبقى شيئاً إلاَّ قطعه. ويقالُ: أرض جُرُز وجُرْز، وأرْض جَرَز وَجَرْزٌ، لبنى تميم، كلّ لو قرئ به لكان حَسَناً. وهو مثل البُخُل والبُخْل والبَخَل والبَخْل والرُغب والرهب والشغل فيه أربع مثل ذلك.
{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
وقوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ...}
يعنى فتح مكة {لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ} فذكر ذلك لمن قتله خالد بن الوليد من بنى كنانة يومئِذٍ، قالوا: قد أسْلمنا، فقال خالد: إن كنتم أسلمتم فضَعُوا السّلاح ففعلوا، فلمَّا وضعوه أَثْخَنَ فيهم؛ لأنهم كانوا قتلوا عوفاً أبا عبدالرحمن بن عوف وجدّاً لخالدٍ قبل ذلكَ: المغيرة. ولو رفع {يوم الفتح} عَلى أَوّل الكلام لأن قوله {مَتَى هذا الفتح} (مَتى) فى موضع رفع ووجهُ الكلام أن يكون {مَتَى} فى موضع نصب وهو أكثر.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( الأحزاب )
{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
وقوله: {اتَّقِ اللَّهَ...}
(قال الفراء) يقول القائِل فِيمَ أُمِر النبى صَلى الله عليه وسلم بالتقوى.
فالسَّبب فى ذلك أنّ أبا سُفيان بن حَرْب وعِكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السُّلَمى قدموا إلى المدينة، فنزلوا على عبدالله بن أُبَىّ بن سَلُول ونظرائه مِن المنَافقينَ، فسَألُوا رسول الله أشياء يكرهها، فهمّ بهم المسلمون فنزل {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} فى نقض العهد؛ لأنه كانت بينهم موادَعة فأُمر بأَلاّ ينقض العهد {وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ} من أهْل مكَّة {وَالْمُنَافِقِينَ} من أهل المدينة فيما سألوك.
{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }
وقوله: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...}
إنما جرى ذكر هذا لِرجل كان يقال له جَمِيل بن أوس ويكنى أبا معمرٍ. وكان حَفِظاً للحديث كثيرهُ، فكان أهل مكّة يقولون: له قلبان وعقَلان من حفظه فانهزم يوم بدر، فمَرّ بأبى سُفيان وهو فى العِير، فقال: مَا حالُ الناس يا أبا معمرٍ؟ قال: بين مقتولٍ وهَارب. قال: فما بَالُ إحدى نعليكَ فى رجلك والأخرى فى يدك؟ قال: لقد ظننت أنهما جميعاً فى رِجلىّ؛ فعلم كذبهم فى قولهم: له قلبانِ. ثم ضم إليه {وَمَا جَعَلَ}.
وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} أى هذا باطل؛ كما أن قولكم فى جَميل باطل. إذا قال الرجل: امرأته عليه كظهر أُمّه فليسَ كذلكَ، وفيه من الكفّارة مَا جَعَل الله. وقوله {تُظَاهِرُونَ} خفيفة قرأهَا يحيى بن وثّاب. وقرأها الحسن (تُظَهِّرُونَ) مشدّدةً بغير ألفٍ. وقرأها أهل المدينة (تَظَّهَّرون) بنصب التاء، وكلّ صَوَاب معناه متقارِب العرب تقول: عَقّبت وعاقبت، {وَعَقَّدتُمُ الأيمَانَ} و {عَاقَدْتُمْ} {ولا تُصعِّرْ خَدَّكَ} و{لا تُصَاعِرْ} اللهمّ لا تُرَاءِبى، وتُرأبِّى. وقد قرأ بذلك قولم فقالُوا: {يُرَاءُونَ} و {يُرَءُّون} مثل يُرَعُّونَ. وقد قرأ بعضهم {تَظَاهَرُونَ} وهو وجه جَيّد لا أعرف إسْناده.
وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ}.
كان أهل الجاهليّة إذا أعجب أحدَهم جَلَدُ الرجل وظُرْفُه ضمَّه إلى نفسِهِ، وَجَعَل له مثلَ نصيب ذَكَر من ولده من ميراثه. وكانوا يُنسبون إليهم، فيقال: فلان بن فلان للذى أقطعه إليه. فقال الله {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ}. وهو بَاطل {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} غير مَا قلتم.
{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
ثم أمرهم فقال: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ...}
أى انسُبوهم إلى آبائِهم. وقوله {فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ} فانسبوهم إلى نسبة مواليكم الذين لا تعرفونَ آباءهم: فلان بن عبدالله، بن عبدالرحمن ونحوه.
وقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فيما لمْ تقصدُوا له منَ الخطأ، إنما الإثم فيما تعمَّدتُم. وقوله {وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (ما) فى موضع خفض مردودة على (ما) التى مع الخَطأ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }
وقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ...}
وفى قراءة عَبْدالله أو أُبىّ (النَّبيُّ أَوْلَى بالمؤمنينَ من أنفسهم وهو أب لهم)، وكذلك كلّ نبىّ. وجرى ذلكَ لأن المسْلمينَ كانوا متواخينَ، وكان الرجل إذا مات عن أخيه الذى آخاه وَرِثه دون عَصَبته وقرابته فأنزل الله {النَّبىّ أَوْلَى مِنَ} المسْلمينَ بهذه المنزلة، وليس يرثهم، فكيفَ يرث المواخى أخاه! وأنزل {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فى الميراث {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أى ذلكَ فى اللوح المحفوظ عند الله.
وقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}. إن شئت جعلت (من) دخلت لـ (أولى) بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين بعضِهم ببعض، وإنْ شئت جعلتها - يعنى مِن - يراد بهَا: وأولو الأرحام مَن المؤمنينَ والمهَاجرينَ أولى بالميراث.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }
وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا...}
يريد: وَأرسَلنا جُنُوداً لم تروها من الملائكة. وهذا يوم الخَنْدق وهو يوم الأحزاب.
{ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ }
وقوله: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ...}
ممَّا يلى مكَّة {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} ممَّا يلى المدينة. وقوله {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ}: زاغت عن كلّ شىء فلم تلتفِت إلا إلَى عَدُوّها. وقوله {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} ذُكر أَن الرجل منهم كانت تنتفخ رئته حتى ترفع قلبه إلى حنجرته من الفزع. وقوله {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ} ظنون المنافقينَ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً }
ثم قال الله: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً...}.
يقول: حُرِّكُوا تحريكاً إلى الفتنة فعُصِمُوا.
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }
وقوله: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً...}
وهذا قول مُعَتِّب بن قُشِير الأنصارى وحده. ذكروا أَن رسول الله صلى الله عَليه وسَلم أخذ مِعْولاً من سَلْمَان فى صخرة اشتدّت عليهم، فضربَ ثلاث ضَرَبات، مع كل واحدة كلَمْع البَرْق. فقال سلمان: والله يا رسول الله لقد رأيتُ فيهنّ عَجَباً قال فقال النبى عَليه السَّلام: لقد رأيْتُ فى الضربة الأولى أبيض المدائن، وفى الثانية قصُورَ اليمن، وفى الثالثة بلاد فارسُ والرُّوم. وليفتحنَّ الله عَلَى أمَّتى مبلغ مَدَاهُنّ. فقال معتتِّبٌ حين رَأَى الأحزاب: أيَعِدُنا محمَّد أن يُفتح لنا فارسُ والرُّوم وَأَحَدُنا لا يقدر أن يضرب الخَلاءَ فَرَقاً؟ ما وَعدنا الله ورسوله إلا غروراً.
{ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً }
وقوله: {لاَ مَقَامَ لَكُمْ...}
قراءة العَوامّ بفتح الميم؛ إلا أبا عبدالرحمن فإنه ضَمَّ الميم فقال (لاَ مُقَامَ لَكُمْ) فمن قال {لا مَقامَ} فكأنه أراد: لا موضع قيامٍ. ومن قرأ {لا مُقامَ} كأنه أراد: لا إقامة لكم (فَارْجِعُواْ).
كلّ القراء الذين نعرف على تسكين الواو (عَوْرَةٌ) وذُكر عن بعض القراء أَنه قَرأ (عَوِرة) عَلَى ميزان فَعِلة وهو وجه. والعرب تقول: قد أَعور منزلُك إذا بدت منه عَوْرة، وأَعور الفارسُ إذا كان فيه موضع خَلَل للضرب. وأنشدنى أبو ثَرْوانَ.
* لَهُ الشَّدَّةُ الأُولى إذا القِرنُ أَعورَا *
يعنى الأسد. وإنما أرادوا بقولهم: إن بيوتنا عورة أى مُمْكِنة للسُرَّاق لخلوتها من الرجال. فأكذبهم الله، فقال: ليست بِعورة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً }
وقوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا...}
يعنى نواحى المدينة {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ} يقول: الرجوع إلى الكفر {لآتَوْهَا} يقول. لأعطَوُا الفتنة. فقرأ عاصم والأعمش بتطويل الألف. وقَصَرها أهلُ المدينة: {لأَتَوْهَا} يريد: لفعلوهَا. والذين طَوَّلوا يقولونَ: لمّا وقع عليها السؤال وقع عليها الإعطاء؛ كما تقول: سألتنى حاجَةً فأعطيتُك وآتيتكها.
وقد يكون التأنيث فى قوله {لآتَوْهَا} للفَعْلة، ويكون التذكير فيه جائزاً لو أتى، كما تقول عند الأمرْ يفعله الرجل: قد فعلتَها، أما والله لا تذهب بها، تريد الفَعْلة.
وقوله: {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً} يقول: لم يكونوا ليلبثوا بالمدينة إلا قليلاً بعد إعطاء الكفر حتى يهلكوا.
{ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }
وقوله: {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ...}
مرفوعة؛ لأنَّ فيها الواوَ وإذا كانت الواو كان فى الواو فعل مضمر، وكان معنى (إذاً) التأخير، أى ولو فعلوا ذلكَ لا يلبثونَ خلافك إلا قليلاً إذاً. وهى فى إحدى القِراءتْين (وإذاً لا يَلْبَثوا) بطرح النون يراد بها النصب. وذلك جائز، لأنَّ الفعل متروك فصارت كأنها لأوَّل الكلام، وإن كانت فيها الواو. والعرب تقول: إذاً أكسِرَ أنفك، إذاً أضربَكَ، إذاً أغُمَّكَ إذَا أجابوا بها متكلّماً. فإذا قالوا: أَنا إِذاً أضرِبُكَ رفعوا، وجَعَلوا الفعل أولى باسمه من إذاً؛ كأنَّهُمْ قالوا أضربك إذاً؛ ألا ترى أنهم يقولونَ: أظنُّك قائماً، فيُعملونَ الظنَّ إذا بدءُوا به / ب وإذا وقع بين الاسم وخبره أبطلوه، وإذا تأخّر بعد الاسم وخبره أبطلوه. وكذلك اليمين يكون لَها جَواب إذا بُدئ بها فيقال: والله إنك لعاقل، فإذا وقعت بين الاسم وخبره قالوا: أنت والله عاقل. وكذلكَ إذا تأخّرَت لم يكن لها جَواب؛ لأنَّ الابتداء بغيرها. وقد تنصِب العربُ بإذاً وهى بين الاسم وخبره فى إنَّ وحدها، فيقولون: إنى إذاً أضربَك، قالَ الشاعر:
لا تَترُكنِّى فيهُم شطيراً * إنى إذاً أهلِكَ أوْ أطيرَا
والرفع جائز. وإنما جاز فى (إنّ) ولم يجز فى المبتدأ بغير (إنّ) لأن الفعل لا يكون مقدَّماً فى إنَّ، وقد يكون مقدّماً لو أسْقطت.
{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
وقوله: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ...}
منصوب عَلى القطع، أى مِنَ الأسْماء التى ذُكرِت: ذكر منهم. وإن شئتَ من قوله: {يعوِّقونَ} ها هنا عند القتال ويشحّون عن الإنفاق عَلى فقراء المسْلمينَ. وإن شئت من القائلينَ لإخوانهم (هَلُمّ) وهم هَكَذا. وإن شئت مِنْ قوله: {وَلاَ يأْتُونَ البأسَ إلا قلَيلاً أشِحَّةً} يقول: جُبنَاءَ عند البَأْس أشِحَّةً عند الإنفاق على فقراء المسْلمينَ. وهو أحبّها إلىّ. والرفع جَائز عَلَى الائتنَاف ولم أسمَعْ أحداً قرأ به و (أشحَّة) يكون عَلَى الذمّ، مثل ما تنصب على الممدوح عَلَى؛ مثل قوله {مَلْعُونِينَ}.
وقوله: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}. آذَوكم بالكلام عند الأمن {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}: ذَرِبةٍ. وَالعربُ تقول: صَلَقُوكم. ولا يجوز فىالقراءة لمخالفتها إيّاهُ: أنشدنى بعضهم:
أصْلقَ نَابَاه صِيَاح العُصْفورْ *إنْ زَلّ فوه عن جَواد مئشير
وذلكَ إذا ضربَ النّابُ الناب فسمعْتَ صَوته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً }
وقوله: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ...}
عن أنباء العسكر الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأها الحسنُ (يَسَّاءلون) والعَوَامّ على (يَسْألونَ) لأنهم إنما يَسْألون غيرهم عن الأخبارِ، وليسَ يسأل بعضُهم بعضاً.
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }
وقوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ...}
كان عاصم بن أبى النَجُود يقرأ (أُسْوة) برفع الألف فى كلّ القرآن وكان يحيى بن وثّاب يرفع بعضاً ويكسر بعضاً. وهما لغتان: الضَمْ فى قيس. والحسنُ وَأَهْل الحجاز يقرءونَ (إسْوَةٌ) بالكسر فى كلّ القرآن لا يختلفون. ومعنى الأُِسوة أنهم تَخلّفوا عنه بالمدينة يوم الخندق وهم فى ذلك يحبّون أن يظفر النَّبىُّ صلى الله عليه وسم إشفاقاً على بلدتهم، فقال: لقد كَانَ فى رَسُول الله أُسْوة حَسَنة إذ قاتل يوم أُحُد. وذلك أيضاً قوله {يَحْسَبُون الأحزْابَ لَمْ يَذْهَبُوا} فهم فى خَوف وفَرَق {وإنْ يَأْتِِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فى الأَعراب} (يقول فى غير المدينة) وفى فى قراءة عَبدالله (يحسبونَ الأحزابَ قد ذهبُوا، فإذا وجدوهم لم يذهَبُوا وَدُّوا لو أنهم بادُونَ فى الأعراب).
وقوله {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} خَصَّ بهَا المؤمنِين. ومثله فى الخصوص قوله: {فَمَنْ تَعَجّلَ فِى يَوْمَيْنِ فلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّر فَلاَ إثمَ عَليه} هذا {لمنْ اتّقَى} قتل الصيَّد.
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }
وقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ...}
صَدَّقوا فقالوا {هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} كان النبى عليه السلام قد أخبرهم بمسِيرهم إليه فذلك قوله {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} ولو كانت وما زادوهم يريد الأحزاب.
وقوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً} أى مَا زادهم النظر / ا إلى الأحزاب إلاّ إيماناً.
وقال فى سورة أُخرى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً} ولو كانت: مَا زادكم إلا خبَالاً كان صَوَاباً، يريد: ما زادكم خروجهم إِلاَّ خَبَالاً. وهذا من سعة العربيَّة التى تَسْمَع بها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً }
وقوله: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ...}
رفع الرجال بـ (مِنْ) {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ}: أجله. وهذا فى حمزة وأَصْحَابه.
{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }
وقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ...}
وقد كانوا طمِعُوا أَنْ يَصْطلمُوا المسلمين لكثرتهم، فسَلَّط الله عليهم رِيحاً باردةً، فمنعت أحدهم من أن يُلجم دابَّته. وجَالت الخيل فى العسكر، وتقطعتْ أطْنابهم فهزمهم الله بغير قتال، وضربتهم الملائكة.
فذلك قوله: {إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عليهمْ رِيحاً وجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} يعنى الملائكة.
{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً }
وقوله: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...}
هؤلاء بنو قُرَيظة. كانوا يهوداً، وكانوا قد آزروا أهل مَكّة عَلَى النبىّ عليه السلام. وهى فى قراءة عبدالله (آزروهم) مكان {ظاهروهم} {مِن صَيَاصِيهِمْ}: من حُصُونهم. وواحدتها صِيصِية وهى طَرَف القَرْن والجَبَل. وصيصية غير مهموز.
وقوله: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} يعنى قَتْل رجالهم واستبقاءَ ذرارِّيهم.
وقوله: {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} كلّ القُرّاء قد اجتمعُوا على كسر السين. وتأسُرُون لغة ولم يقرأ بها أحد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }
وقوله: {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا...}
عَنَى خَيْبَر، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم إيّاها الله.
{ يانِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }
وقوله: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ...}
اجتمعت القراء على قراءة {مَن يَأْتِ} بالياء واختلفوا فى قوله: {وَيَعْمَلْ صَالِحاً} فقرأها عاصم والحسَن وأهلُ المدينة بالتاء: وقرأها الأعمش وأبو عبدالرحمن السُلَمىّ بالياء. فالذين قرءوا بالياء أتْبعوا الفعْل الآخر بـ {يَأْتِ} إذْ كان مذكّرا. والذينَ أنّثوا قالوا لمَّا جاء الفعل بعدهُنَّ عُلِم أنه للأنثى، فأخرجنَاهُ على التأويل. والعرب تقول: كم بيع لك جاريةً، فإذا قالوا: كم جاريةً بيعت لك أنّثوا، والفعل فى الوجهين جميعاً لكُمْ، إلاّ أن الفعل لمّا أتى بعد الجارية ذُهِب به إلى التأنيث، ولو ذكّر كان صواباً، لأنَّ الجارية مفسِّرةٌ ليسَ الفِعْلُ لها، وأنشدنى بعض العرب:
أيام أم عمرٍو من يكن عقرَ داره * جواءٌ عدىٍّ ياكل الحشرات
ويسود من لفح السّموم جَبينه * ويَعْرَ وإن كانوا ذوى بكرات
وجواءَ عَدِىٍّ.
قال الفراء: سمعتها أيضاً نصباً ولو قال: (وإن كان) كانَ صَوَاباً وكل حَسَنٌ.
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً }
وقوله: {وَمَن يَقْنُتْ...}
بالياء لم يختلف القراء فيها.
وقوله: {نُؤْتِهَآ} قرَأَها أهل الحجاز بالنون. وقرأها يحيى بن وثّاب والأعمش وأبو عبدالرحمن السُلمىّ بالياء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ يانِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
وقوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ...}
يقول: لا تُلَيِّن القول {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أى الفجور {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}: صَحِيحاً لا يُطمِع فاجراً.
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
[قوله]: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ...}
من الوقارِ. تقول للرَّجل: قد وَقَرَ فى منزله يقِر وُقوراً. وقرأ عاصم وأهل المدينة (وَقرْنَ) بالفتح. ولا يكون ذلك من الوقار، ولكنا نُرى أنهم أرادوا: وَاقْرَرْن فى بيوتكنّ فحذفوا الرَّاء الأولى، فحوِّلت فتحها فى القاف؛ كما قالوا: هل أحَسْتَ صاحبك، وكمَا قال {فَظَلْتُمْ} يريد: فظلِلْتم.
ومنَ العَرب من يقول: واقرِرْن فى بيوتكُنّ، فلو قال قائل: وقِرنَ بكسر القاف يريد واقرِرن / ب بكسر الراء فيحوّل كسرة الراء (إذا سقطت) إلى القاف كان وجهاً. ولم نجد ذلك فى الوجهيْن جَميعاً مستعملاً فى كلام العرب إلاّ فى فعلت وفعلتم وفعلنَ فأمّا فى الأمر والنهى المستقبل فلا. إِلا أَنا جوَّزنا ذلكَ لأنَّ اللام فى النسوة ساكنة فى فعلن ويفعلنَ فجازَ ذلك. وقد قال أعرابىّ من بنى نُمَير: يَنْحَطْنَ من الجَبَل يريد: ينحطِطن. فهذا يقوّى ذلك.
وقوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} قال: ذلك فى زمنٍ ولد فيه إبراهيم النبىّ عليه السلام. كانت المرأة إذ ذاك تلبس الدِّرعَ من اللؤلؤ غير مخِيط الجانبين. ويقال: كانت تلبس الثياب تبلغ المال لا توارى جَسَدَها، فأُمرِن ألاّ يفعلن مثل ذلك.
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...}
ويقول القائل: كيف ذكر المسلمين والمسلمات والمعنى بأحدهما كافٍ؟
وذلك أنَّ امرأة قالت: يا رسول الله: ما الخير إلاّ للرجال. هم الذين يؤمرون ويُنهون. وذكرتْ غير ذلك من الحجّ والجهاد فذكرهن الله لذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً }
وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...}
نزلت فى زينب بنت جَحْش الأسَدية. أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يزوِّجها زيد بن حارثة، فذكر لها ذلك، فقالت: لا لعمر الله، أنا بنت عمّتك وأَيِّم نساء قريش. فتلاَ عليها هذه الآية، فَرضيت وسَلَّمتْ، وتزوَّجها زيد. ثم إن النبى عليه السلام أتى منزل زيدٍ لحاجةٍ، فرأى زينب وهى فى دِرْعٍ وخمارٍ، فقال: سُبحانَ مقلِّب القلوب. فلمَّا أتى زَيْدٌ أَهْله أخبرته زينب الخبر، فأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه. فقال: يا رسول الله إنَّ فى زينب كِبْراً، وإنها تؤذينى بلسانها فلا حاجة لى فيها. فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: اتّق الله وأَمسك عَليك زوجك. فأبى، فطلَّقها، وتزوّجها النبى عليه السلام بعد ذلك، وكان الوجْهَان جميعاً: تزوجَها زيد والنبى عليه السلام من بَعْد، لأن الناس كانوا يقولُون: زيد بن محمدٍ؛ وإنما كان يتيما فى حِجره. فأراهم اللهُ أنه ليس لَهُ بأبٍ، لأنه قد كان حَرَّم ان ينكح الرجلُ امرأة أبيه، أو أن ينكح الرجلُ امرأة ابنه إذا دخل بها.
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }
وقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ...}
مِنْ تزويجها {مَا اللَّهُ} مظهره. {وَتَخْشَى النَّاسَ} يقول: تستحى من الناس {وَاللَّهُ أَحَقُّ} أن تستحى منه.
ثم قال: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ}.
{ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً }
وقوله: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ...}
من هذا ومن تسع النسوة، ولم تحلّ لغيرِه وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ} يقول: هذه سُنّة قد مضت أيضاً لغيرك. كان لداوود ولسليمانَ مِنَ النساء ما قد ذكرناه، فُضِّلا به، كذلكَ أنت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }
ثم قال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ...}
فضَّلناهم بذلكَ، يعنى الأنبياء. و (الذين) فى موضع خفضٍ إن رددته عَلَى قوله: {سُنَّةَ اللهِ فى الذِينَ خَلوْا مِنْ قَبْلُ} وإن شئت رفعت عَلَى الاستئناف. ونَصْبُ السُنَّة على القطع، كقولك: فعل ذلكَ سنُة. ومثله كثير فى القرآن. وفى قراءة عبدالله: (الَّذِينَ بَلَّغُوا رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ) هذا مثل قوله: {إنَّ الذينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} يُرَدّ يفعل على فعَل، وفعَل عَلَى يفعل. وكلّ صواب.
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }
وقوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ...}
دليل عَلَى أمر تزوُّج زينب {وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ} مَعْنَاهُ: ولكن كانَ رسول الله. ولو رفعت على: ولكن هو رسولُ الله كان صَوَاباً وقد قرئ به. والوجه النصب.
وقوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} كسرها الأعمش وأهل الحجاز، ونصبها - يعنى التاء - عاصم والحسن وهى فى قراءة عبدالله: (ولكن نبيّاً خَتَم النبيِّين) فهذه حجَّةٌ لمنْ قَالَ {خاتِم} بالكسر، ومن قال {خاتَمَ} أرد هو آخر النبيِّينَ، كما قرأ عَلقمة فيما ذُكِرَ عنه (خاتَمُهُ مِسْكٌ) أى آخره مسك. حدثنا أبو العباس، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا الفراء، قال: حدثنا أبو الأحوص سَلاَّم ابن سُليم عن الأشعَث بن ابى الشعْثاء المحاربىّ قال: كانَ عَلقمة يقرأ (خاتَمُهُ مِسْكٌ) ويقول: أمَا سمعتَ المرأة تقول للعطّار: اجْعل لى خاتمهُ مِسْكاً أى آخره.
{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }
وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ...}
يغفر لكم، ويَستغفر لكم ملائكته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
وقوله: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ...}
وفى قراءة عبدالله (وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ واللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) فقد تكون المهاجرات من بنات الخال الخالة، وإن كان فيه الواو، فقال: (واللاتِى). والعرب تنعَت بالواو وبغير الواو كما قال الشاعر:
فإنَّ رُشيداً وابنَ مَرْوان لم يكن * ليفعل حتّى يُصدر الأمرَ مُصْدَرَا
وأنت تقول فى الكلام: إن زرتنى زرتُ أخاك وابن عمّكَ القريب لك، وإن قلتَ: والقريب لكَ كان صوابَا.
وقوله {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} نصبتها بـ {أحْلَلْنا} وفى قراءة عَبدالله {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً وَهَبَتْ} ليسَ فيها (أن) ومعناهُمَا واحد؛ كقولك فى الكلام: لا بأسَ أن تستَرِقَّ عبداً وُهبَ لكَ، وعبداً إن وُهب لك، سواء. وقرأ بعضهم {أَنْ وَهَبَتْ} بالفتح عَلَى قوله: {لا جناح عليه أن ينكحها} فى أن وهبت، لا جناح عَليه فى هبتها نفسها. ومن كسر جعله جزاء. وهو مثل قوله {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ} و {إنْ صَدُّوكُمْ} {إنْ أَرَادَ النَّبىُّ} مكسورة لم يُختَلف فيهَا.
وقوله {خَالِصَةً لَّكَ} يقول: هذه الخصلة خالصة لك ورُخصة دون المؤمِنين، فليسَ للمؤمنِين أن يتزوَّجُوا امرأة بغير مهر. ولو رفعتْ (خالصة) لك عَلَى الاستئناف كَان صَوَاباً؛ كما قال {لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ} أى هذا بلاغ: وما كان من سُنّة الله، وصبغة الله وشبهه فإنه منصوب لاتصاله بمَا قبله على مذهب حقّاً وشبهه. والرفع جَائز؛ لأنه كالجواب؛ ألا ترى أن الرجل يقول: قد قام عبدالله، فتقول: حقّا إذا وصلته. وإذا نويت الاستئناف رفعته وقطعته ممّا قبله. وهذه محض القطع الذى تسمعه من النحويينَ.
{ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً }
وقوله: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ...}
بهمز وغير همز. وكلّ صواب {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} هذا أيضاً ممَّا خُصّ به النبىّ صَلى الله عَليه وسلم: أن يجعل لمن أحبّ منهنّ يوماً أو أكثر أو أقلّ، ويعطّل مَنْ شاء منهنّ فلا يأتيَه. وقد كان قبل ذلكَ لكلّ امرأة من نِسَائه يوم وليلة.
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} يقول: إذا لم تجعل لواحدة منهنَّ يوماً وكنّ فى ذلكَ / ب سواء، كان أحرى أَن تطيب أنفسهنَّ ولا يحزَنَّ. ويقال إذا علمن أن الله قد أباح لك ذلكَ رضِين إذْ كان من عند الله. ويقال: إنه أدنى أن تقرّ أعينهنَّ إذا لم يحلّ لك غيرهنَّ من النساء وكلّ حَسَن.
وقوله: {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} رَفْع لا غير، لأن المْعنَى: وترضى كلّ واحدة. ولا يجوز أن تجعل {كلّهن} نعتاً للهاء فى الإيتاء؛ لأنه لا مَعنى له؛ ألا ترى أنك تقول: لأكرمنّ القوم ما أكَرمونى أجمعينَ، وليسَ لقولك {أجمعونَ} معنىً. ولو كان له مَعنى لجازَ نصبه.
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً * ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً }
قوله: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ...}
(أَنْ) فى موضع رفع؛ كقولك: لا يحلّ لَكَ النِّسَاءُ والاستبدال بهنَّ. وقد اجتمعت القراء على {لاَّ يَحِلُّ} باليَاء. وذلكَ أنَّ المْعنَى: لا يحلّ لك شىء من النساء، فلذلك اختير تذكير الفعل. ولو كان المعنى للنساء جَميعاً لكان التّأنيث أجود فى العربيّة. والتاء جَائزة لظهور النساء بغير مِنْ.
وقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} فغير منصوبة لأنها نعت للقوم، وهم معرفة و (غير) نكرة فنُصبت على الفعل؛ كقوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ} ولو خفضت {غَيْرَ نَاظِرِينَ} كَانَ صَوَاباً؛ لأنَّ قبلَها {طعامٍ} وهو نكرة، فتجعل فعلهم تابعاً للطعام؛ لرجوع ذكر الطعام فى (إنَاهُ) كَمَا تقول العرب: رأيت زيداً مع امرأة محسنٍ إليها، ومحسناً إليها. فمن قال: {محسناً} جعله من صفة زيد، ومَن خفضه فكأنه قال: رأيت زيداً مع التى يُحْسن إليها. فإذا صَارت الصلة للنكرة أتبعتها، وإن كان فعلاً لغيرهَا. وقد قال الأعشى:
فقلت له هذه هَاتِهَا * فجاء بأدماءَ مقتَادِهَا
فجعل المقتاد تابعَا لإعراب الأدماء؛ لأنه بمنزلة قولك: لأدماء يقتادهَا؛ فخفضته لأنه صلة لها. وقد ينشد بأدماءِ مقتادِهَا تخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد. ومعناه: بملء يَدىْ من اقتادها ومثله فى العربية أن تقول: إذا دعوتَ زيداً فقد استغثت بزيدِ مستغِيثِه. فمعنى زيد مدح أى أنه كافى مسْتغيثِه. ولا يجوز أن تخفض على مثل قولك: مررت على رجل حَسَنِ وجهه؛ لأن هذا لا يصلح حتى تسقط راجع ذكر الأول فتقول: حسن الوجه. وخطأ أن تقول: مررت على امرأة حسنِة وجهِها وحسنِة الوجه صواب.
وقوله: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ} فى موضع خفض تُتبعه الناظِرين؛ كما تقول: كنت غير قائم ولا قاعدٍ؛ وكقولك للوصىّ: كُلْ من مال اليتيم بالمعروف غيرَ متأثّل مالا، ولا واقٍ مالكَ بماله. ولو جعلت المستأنسينَ فى موضع نصب تتوهَّم أن تُتبعهُ بغير لمّا أن حُلْت بينهما بكلام. وكذلك كلّ معنىً احْتمل وجهين ثم فرّقت بينهما بكلام جَاز أن يكون الآخر معرباً بخلاف الأوَّل. من ذلك قولكَ: ما أنت بمحسن إلى مَن أحسن إليك لا مُجْمِلاً، تنصب المُجْمِل وتخفضه: الخفضُ عَلَى إتباعه المحسن والنصبُ أن تتوهم أنك قلت: ما أنت مُحسناً. وأنشدنى بعض العرب:
ولستُ بذى نَيْربٍ فى الصديق * ومنَّاعَ خَيرٍ وسبّابهَا
ولا من إذا كان فى جانب * أضاع العشيرة واغتابها
وأنشدنى أبو القماقم:
أجِدُّكَ لستَ الدهرَ رائىَ رامةٍ * ولا عاقلٍِ إلاّ وأنت جَنيب
ولا مصعدٍ فى المُصْعدين لمَنْعِجٍ * ولا هابطاً ما عشت هَضْب شَطِيب
وينشد هذا البيت:
مُعَاوِىَ إننا بَشَرٌ فَأَسجحْ * فلسنا بالجبالِ ولا الحديدَا
وينشد (الحديدا) خفضاً ونصباً. وأكثر ما سمعته بالخفض. ويكون نصب المسْتأنسينَ على فعْلٍ مضمرٍ، كأنه قال: فادخلوا غير مستأنسينَ. ويكون مع الواو ضميرُ دخولٍ؛ كما تقول: قم ومطيعاً لأبيك.
والمعنى فى تفسير الآية أنّ المسْلمينَ كانوا يدخلون على النبىّ عليه السلام فى وقت الغَدَاء، فإذا طعِمُوا أطالوا الجلوس، وسَألوا أزواجَهُ الحوائج. فاشتدّ ذلك علىالنبىّ صَلى الله عليه وسلم، حَتّى أنزل الله هذه الآية، فتكلّم فى ذلكَ بعضُ الناس، وقال: أننهى أن ندخل عَلَى بناتِ عَمِّنَا إلاّ بإذنٍ، أو من وَراء حجَاب. لئِنَ مَات محمد لأتَزوّجَنّ بعضهنّ. فقام الآباء أبو بكرٍ وذووه، فقالوا: يا رسول الله، ونحن أيضاً لا ندخل عليهنّ إلاّ بإذنٍ، ولا نسألهنّ الحوائج إلاّ من وراء حجاب، فأنزل الله {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فى آبائِهنّ} إلى آخر الآية. وأنزل فىالتزويج {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ...}
نزلت فى أهل الفسق والفجور، وكانوا يتّبعونَ الإمَاء بالمدينة فيَفجُرونَ بهنّ، فكان المسلمونَ فى الأخْبِية لم يَبْنُوا ولم يستقرّوا. وكانت المرأة منْ نساء المسلمينَ تتبرّز للحاجة، فيعرض لها بعض الفجّار يُرى أنها أمَة، فتصيح به، فيذهب. وكان الزِّىُّ واحداً فأُمرِ النبىُّ عليه السلام {قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَانِكَ ونساء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ والجِلبابُ: الرداء.
حَدثنا أبو العبّاس قال حدثنا محمد قال: حدَّثنا الفرّاء، قال حدَّثنى يحيى بن المُهَلَّب أبو كُدَيْنة عن ابن عون عن ابن سِيرين فى قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبهنّ}.
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
وقوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ...}
هكذا: قال تُغَطّى إحدى عينيهَا وجبهتَها والشِّقّ الآخر، إلاّ العين.
{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً }
وقوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...}
المرجفون كانوا من المسْلمين. وكان المؤلّفة قلوبهم يُرجفون بأهل الصُّفَّة. كانوا يشنِّعون على أهل الصُّفَّة أنهم هم الذينَ يتناولُونَ النساء لأنهم عُزَّاب. وقوله {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أى لنسلّطَّنك عليهم، ولنُولعنّك بهم. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً...}
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قَالَ ب حدّثنا الفرّاء قال: حدّثنى حِبّان عن الكلبىّ عن أبى صالح قال قال ابن عبَّاس لا يجاورونكَ فيها إلا يسيراً، حتَّي يهِلكوا. وقد يجوز أن تجعل القلّة من صفتهم صفة الملعونين، كانك قلت: إلا أقِلاّءَ ملعونين؛ لأنَّ قوله{أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا} يدلّ على انهم يَقِلُّون ويتفرّقون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }
وقوله: {مَّلْعُونِينَ...}
منصوبة على الشتم، وعلى الفعل أى لا يجاورنكَ فيها إلاّ ملعونين. والشتم على الاسْتئناف، كما قال:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالةَ الْحَطَبِ} لمن نصبه. ثم قال {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ} فاستأنف. فهذا جزاء.
{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ }
وقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ...}
والقراء على {تُقَلَّبُ} ولو قرئت {تَقَلَّبُ} و {نُقلَّبُ} كانا وجهين.
وقوله: {وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} يوقف عليها بالألِف. وكذلكَ {فأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} و {الظُّنُونَا} يوقف على الألف؛ لأنها مثبتة فيهِنّ، وهى مع آيات بالألف، ورأيتها فى مصَاحف عبدالله بغير ألف. وكان حمزة والأعمش يقفان عَلَى هؤلاء الأحرف بغير ألفٍ فيهنَّ. وأهلُ الحجاز يقفون بالألف. وقولهم أحبّ إلينا لاتّباع الكِتاب. ولو وُصلت بالألف لكان صَوَاباً لأن العرب تفعل ذلكَ. وقد قرأ بعضهم بالألف فى الوصل والقطع.
{ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ }
وقوله: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا...}
واحدة منصوبة. وقرأ الحسن (سَاداتنا) وهى فى موضع نصبٍ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأحزاب )
{ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً }
وقوله: {لَعْناً كَثِيراً...}
قراءة العوامّ بالثاء، إلاّ يحيى بن وثّاب فإنه قرأها (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) بالباء. وهى فى قراءة عبدالله. قال الفراء: لا نجيزه. يعنى كثيراً.
{ لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
وقوله: {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ...}
بالنصب عَلَى الإتباع وإن نويت به الائتناف رفعتة، كما قال {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فى الأرْحَامِِ} إلا إن القراءة (وَيَتُوبَ) بالنصب.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( سبأ )
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قوله: {عَلاَّمِ الغَيْبِ...}
قال رأيتها فى مصحف عبدالله (عَلاَّمِ) عَلَى قراءة أَصحابه. وقد قرأها عاصم (عَالِم الغَيْب) خفضاً فىالإعراب من صفة الله. وقرأ أهل الحجاز (عالِمُ الغَيْبِ) رفعَا عَلَى الائتناف إذْ حَال بينهما كلام؛ كما قال: {رَبِّ السمواتِ والأرْضِ وَمَا بَيْنَهُما الرحمنُ} فرفع. والاسم قبله مخفوض فى الإعراب. وكلّ صواب.
وقوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} و {يَعْزِبُ} لغتان قد قرئ بهما. والكسر أحبّ إلىّ.
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }
وقوله {عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ...}
قرءاة القراء بالخفض. ولو جُعل نعتاً للعذاب فرفع لجاز؛ كما قرأت القراء {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٍ} و {خُضْرٌ} وقرءوا {فى لَوْح محفوظٍ} لِلَّوح و {محفوظٌ} للقرآن. وكلّ صواب.
{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ...}
(يرى) فى موضع نصب. معناه: ليجزى الذين، وليرى الذين (قرأ الآية) وإن شئت استأنفتَهَا فرفعتهَا، ويكون المعنى مُستأنفاً ليسَ بمردود عَلَى كىْ.
وقوله {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} نصبت (العلم) لخروجه ممّا لم نُسمّ فاعله. ورفعت {الذينَ} بـ (يرى). وإنما مَعْناه: ويرى الذين أوتوا التوراة: عبدُالله بن سَلاَم وأصحابُه من مُسْلمة أهل الكتاب. وقوله {هُوَ الْحَقُّ} (هو) عماد للذى. فتنصب {الحقَّ} إذا جعلتها عماداً. ولو رفعتَ {الحقّ} عَلَى أن تجعل (هو) اسماً كان صَوَاباً. أنشدنى الكسائىُّ:
ليت الشباب هو الرجِيعُ عَلَى الفتى * والشيبَ كان هو البَدِئ الأوّلُ
فرفع فى (كان) ونصب فى (ليت) ويجوز النصب فى كلّ ألف ولام، وفى أفعلَ منك وجنسِه. ويجوز فى الأسمَاء الموضوعة للمعرفة. إلا أنَّ الرفع فى الأسماء أكثر. تقول: كان عبدُالله هو أخوك، أكثر من، كان عبدالله هو أخاك. قال الفراء: يجيز هذا ولا يجيزه غيره منَ النحويّينَ. وكان أبو محمّد هو زيدٌ كلامُ العرب الرفع. وإنما آثروا الرفع فى الأسماء لأن الألِف واللام أُحدِثتا ا عماداً لما هى فيه. كما أُحدثت (هو) عماداً للاسم الذى قبلهَا. فإذا لم يجدوا فى الاسم الذى بعدها ألفاً ولاماً اختاروا الرفع وشبَّهوها بالنكرة؛ لأنهم لا يقولونَ إلاّ كانَ عبدالله هو قائم. وإنما أجازوا النصب فى أفضل منك وجنسِه لأنه لا يوصَل فيه إلى إدخال الألف واللام، فاستجازوا إعمال معناهما وإن لم تظهر. إذ لم يمكن إظهارها. وأما قائم فإنك تقدر فيه عَلَى الألف واللام، فإذا لم تأتِ بهمَا جعلوا هو قبلها اسماً ليست بعمادٍ إذ لم يُعمد الفعل بالألف واللام قال الشاعر:
أجِدَّك لَنْ تزال نجِىَّ هَمٍّ * تبيتُ الليلَ أنت له ضجيع
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ }
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ...}
العرب تدغم اللام عند النون إذا سكنت اللام وتحركت النون. وذلك أَنها قريبة المخرج منها. وهى كثيرة فى القراءة. ولا يقولون ذلك فى لامٍ قد تتحرَّك فى حال؛ مثل ادخل وقل؛ لأن (قل) قد كان يُرفع ويُنصب ويدخل عليه الجزم، وهل وبل وأَجَلْ مجزومات أبداً، فشُبِّهن إذا أُدغمن بقوله {النار} إذا أدغمت اللام من النار فى النون منها. وكذلكَ قوله {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} تدغم اللام عند التاء من بل وهل وَأَجَلْ. ولا تدغم على اللام التى قد تتحرّك فى حَال. وإظهارهما جَائز؛ لأن اللام ليست بموصولة بما بعدهَا؛ كاتّصال اللام من النار وأشباه ذلك. وإنما صرت أختار {هَلْ تَسْتَطِيعُ} و {بَلْ نَظُنُّكُمْ} فأُظهر؛ لأنَّ القراءة من المولَّدينَ مصنوعَة لم يأخذوها بطباع الأعراب، إنما أخذوها بالصنعة. فالأعْرابىّ ذلكَ جَائز له لما يجرى على لسانه من خفيف الكلام وثقيله. ولو اقتسْتُ فى القراءة عَلَى ما يخِفّ عَلَى ألسن العرب فيخففون أو يدغمون لخفّفتُ قوله {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} فقلتُ: أَيْشٍ أكبرُ شهادة، وهو كلام العرب. فيلسَ القراءة عَلَى ذلك، إنما القراءة عَلَى الإشباع والتمكين؛ ولأن الحرف ليس بمتّصل مثل الألف واللام: ألا ترى أنك لا تقف عَلَى الألف واللام ممّا هى فيه. فلذلك لم أظهر اللام عند التاء وأشباههَا. وكذلك قوله: {اتَّخَذْتُم} و {عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} تُظهر وتدغم. والإدغام أحبّ إلىّ لأنها متَّصلة بحرف لا يوقف على ما دونه. فأمّا قوله {بَلْ
رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فإن اللام تدخل فى الراء دخولاً شديداً، ويثقل عَلَى اللسان إظهارها فأدغمت. وكذلك فافعل بجميع الإدغام: فما ثقُل على اللسان إظهارهُ فأدغم، وما سهل لك فيه الإظهار فأظهِر ولا تدغم.
وقوله: {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...}
{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً...}
هذه الألِف استفهام. فهى مقطوعة فى القطع والوصل؛ لأنها ألف الاستفهام، ذهبت الألف التى بعدها لأنها خفيفة زائدة تذهب فى اتّصال الكلام, وَكذلكَ قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} وقوله {أَسْتَكْبَرْتَ} قرأ الآية محمد بن الجهم، وقوله {أَصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِينَ} ولا يجوز أن تكسر الألف ها هنا؛ لأن الاستفهَام يذهب. فإن قلت: هَلاّ إذا اجتمعت ألِفان طوّلت كما قالَ {آلذكرين} {آلآنَ}؟ قلت: إنما طُوّلت الألف فى الآن وشبهه لأن ألِفهَا كانت مفتوحةً، فلو أذهبتها لم تجد بين الاستفهام والخبر / ب فَرْقاً، فجعَل تطويل الألِف فرقاً بين الاستفهَام والخبر، وقوله {أَفْتَرَى} كانت ألفها مكسورة وألف الاستفهام مفتوحة فافترقا، ولم يحتاجَا إلى تطويل الألِف.
{ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }
وقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ...}
يقول: أَما يعلمون أَنهم حيثما كانوا فهم يرون بين أيديهم من الأرض والسَّمَاء مثل الذى خلفهم، وأَنهم لا يخرجون منها. فكيف يأمنون أن نَخسف بهم الأرضَ أو نُسقط عليهم من السَّماء عذاباً.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }
وقوله: {ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ...}
اجتمعت القراء الذين يُعرفون عَلَى تشديد {أَوِّبِي} ومَعنَاه: سَبّحى. وقرأ بعضهم (أُوبِى مَعَهُ) من آب يؤوب أى تصرَّفى معه. و {وَالطَّيْرَ} منصوبة على جهتين: إحداهما أن تنصبها بالفعل بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً}. وسخَّرنا له الطيرَ. فيكون مثل قولك: أطعمته طعاماً وماء، تريد: وسَقيته مَاءً. فيجوز ذلك. والوجه الآخر بالنداء، لأنكَ إذا قلت: يا عمرو والصَلْت أقبِلا، نصبت الصّلت لأنه إنمَا يدعى بيأيُّهَا، فإذا فقدتها كان كالمعدُولِ عن جهته فنُصب. وقد يجوز رَفعه عَلَى أن تيبع ما قبله. وَيجوز رَفعه على : أوّبى أنت والطيرُ. وأنشدنى بعض العرب فى النداء إذا نُصب لفقده يأيُّهَا:
أَلا يَا عَمْرُو وَالضحّاكَ سِيَرَا * فقد جَاوزتُمَا خَمرَ الطريقِ
الخَمَر: ما سترك من الشجر وغيرها (وقد يجوز) نصب (الضحّاك) وَرَفعُه. وقال الآخر:
* يا طلحةُ الكاملُ وابن الكَامل *
والنعت يجرى فى الحرف المنادى، كما يجرى المعطوف: يُنصب ويرفع، ألا ترى أنك تقول: إن أخاكَ قائِم وزيد، وإن أخاك قائم [و] زيدا فيُجرى المعطوف فى إنّ بعد الفعل مجرى النعت بعد الفعل.
وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أُسِيل له الحديد، فكانَ يعمل به ما شاء كما يَعمل بالطين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
وقوله - عزّ وجلّ -: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ...}
الدروع {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} يقول: لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقْلق، ولا غليظاً فيقصِم الحَلَق.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }
وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ...}
منصوبة على: وسخّرنا لسليمان الريح. وهى منصوبة فى الأنبياء {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عاصِفَةً} أضمر: وسَخَّرنا - والله أعلم - وقد رَفَع عاصم - فيما أعلم - (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ) لمَّا لم يظهر التسْخير أنشدنى بعض العرب:
ورأيتُم لمُجَاشعٍ نَعَماً * وبنى أبيه جَامِلٌ رُغُب
يريد: ورأيتم لبنى أبيه، فلمّا لم يظهر الفعل رُفع باللام.
وقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} يقول: غدوّها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر ورَوحتها كذلك.
وقوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} مِثْل {وألَنَّا لَهُ الحَدِيدَ} والقِطْر: النحاس.
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }
وقوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ...}
ذُكر أنها صُوَر الملائِكة والأنبياء، كانت تصوَّر فى المسَاجد ليراها الناس فيزدادوا عبادةً. والمحاريب: المساجد.
وقوله: {وَجِفَانٍ} وهى القِصَاع الكبار (كالجَوابِ) الحياض التى للإبل (وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) يقول: عظام لا تُنزل عن مواضعها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }
وقوله: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ...}
همزهَا عاصم والأعمش. وهى العصَا العظيمة التى تكون مع الراعى: أُخذت من نسأت البعير: زجرته ليزداد سيره؛ كما يقال: نسأت اللبَن إذا صببتَ عليه الماء وهو النَّسِىء. ونُسِئت المرأَة إذا حبِلت. ونَسَأَ اللهُ فى / ا أجلك أى زاد الله فيه، ولم يهمزهَا أهلُ الحجاز ولا الحسن. ولعّلهم أرادوا لغة قريش؛ فإنهم يتركون الهمز. وزعم لى أبو جعفر الرؤاسىّ أَنه سأل عنها أبا عَمْرٍو فقال (مِنْسَاتَهُ) بغير همزٍ، فقال أبو عمرو: لأنى لا أعرفها فتركتُ همزها. ولو جاء فى القراءة: مِن ساتِهِ فتجعل (سَاةً) حرفاً واحداً فتخفضه بمن. قال الفراء: وكذلك حدَّثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عبَّاس أنه قال: تأكل من عصَاه. والعرب تسمّى رأس القوس السِّيَة، فيكون من ذلك، يجوز فتحهَا وكسرهَا، يعنى فتح السين، كما يقال: إِنّ به لضِعَةً وَضَعَة، وقِحَة وقَحَة من الوقاحة ولم يقرأ بهَا أحد علمناه.
وقوله: {دَابَّةُ الأَرْضِ}: الأَرَضة.
وقوله: {فَلَمَّا خَرَّ} سُليمانُ. فيما ذكر أكلت العصَا فخَرّ. وقد كان الناس يُرونَ أَنَّ الشياطِين تعلم السرّ يكون بين اثنين فلمّا خرّ تبيَّن أمرُ الجن للإنس أنهم لا يعلَمُونَ الغيب، ولو عَلِمُوهُ ما عمِلوا بَيْنَ يديه وهو ميّت. و (أَنْ) فى موضع رفعٍ: {تبيَّن} أن لو كانوا. وذُكر عن ابن عبّاس أَنه قَالَ: بيّنت الإنسُ الجِنّ، ويكون المعنى: تبيّنت الإنسُ أمرَ الجن، لأن الجِن، إذا تبيّن أمرهَا للإِنس فقد تبيَّنها الإنس، ويكون (أَنْ) حينئذٍ فى موضع نصب بتبيَّنت. فلو قرأ قارئ تبّينتِ الجنّ أن لو كانوا بجعل الفعل للإِنس ويضمر هم فى فعلهم فينصب الجنّ يفعل الإنس وتكون (أن) مكرورة على الجنّ فتنصبها.
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
وقرأ قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ...}
يحيى (فى مَسْكَنِهِمْ) وهى لغة يمانيّة فصيحة. وقرأ حمزة فى (مَسْكِنِهِمْ) وقراءة العوامّ (مَسَاكِنِهِمْ) يريدون: منازلهم. وكلّ صَوَاب. والفراء يقرأ قراءة يحيى.
وقوله: {آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} والمعنى: عن أيمانهم وشمائِلهم. والجنتان مرفوعتان لأنهما تفسير للآيةِ. ولو كان أحد الحرفين منصوباً بكان لكان صَواباً.
وقوله: {وَاشْكُرُواْ لَهُ} انقطع هَا هُنَا الكلام {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} هذه بلدة طيّبة ليستْ بسَبَخة.
{ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ }
وقوله: {سَيْلَ الْعَرِمِ...}
كانت مُسَنَّاة كانت تحبس الماء على ثلاثة أَبْوَاب منهَا، فَيَسقونَ من ذلكَ الماء من الباب الاول، ثم الثانى، ثم الآخِر، فلا ينفَد حتى يثوب الماءُ من السَّنة المقبلة. وكانوا أنعم قوم عيشا. فلمّا أعرضوا وجحدوا الرسل بثق الله عليهم المُسَنَّاة، فغرَّقت أرضهم ودفن بيوتَهم الرملُ، ومُزّقوا كل ممزَّقٍ، حَتى صَاروا مَثَلا عند العرب. والعرب تقول: تفرقوا أيادِى سَبَا وأيدى سَبَاً قَال الشاعر:
عيناً ترى النَّاس إليها نَيْسَبا * من صَادرٍ وواردٍ أيدى سَبَا
يتركونَ همزهَا لكثرة ما جرى على ألسنتهم ويُجرون سَبا، ولا يُجرونَ: مَن لم يُجر ذهب إلى البدلة. ومن أجرى جَعَل سَبَا رجلاً أو جبلاً، ويهمز. وهو فى القراءة كثير بالهمز لاَ أعلم أحداً ترك همزهُ أنشدنى:
الواردونَ وتيم فى ذرى سَبَأ * قد عَضَّ أعناقَهم جِلْدُ الجواميس
وقوله {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} يثقّل الأُكُل. وخفّفه بعض أهل الحجاز. وقد يقرأ بالإضافة وَغَير / ب الإضافة. فأمّا الأعمش وعاصم بن أبى النَجُود فثقَّلا ولم يضيفَا فنوّنا. وذكروا فى التفسير أنه البرير وهو ثمر الأراك. وأمَّا الأثْل فهو الذى يعرف، شبيه بالطرفاء، إلا أنه أعظم طُولاً.
وقوله: {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} قال الفراء ذكروا أنه السَّمُر واحدته سَمُرَة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ }
وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ...}
هكذا قرأه يَحيىَ وأبو عبدالرحمن أيضاً. والعوامّ: (وهَلْ يُجَازَى إلاَّ الكُفُورُ).
وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} موضع (ذَلِكَ) نَصْب بـ {جَزَيناهم}.
يقول القائل: كيف خَصَّ الكفُور بالمجازاة والمجازاة للكافر وللمُسْلم وكلِّ واحد؟ فيقال: إن جازيناه بمنزلة كافأناه، والسّيئة للكافر بمثلها، وأَمّا المؤمن فيُجزى لأنه يزادُ ويُتَفَضَّل عيله ولا يجازى. وقد يقال: جازيت فى معنى جَزَيت، إلا أنّ المعنى فى أبين الكلام على ما وصفت لك؛ ألا ترى أنه قد قال {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} ولم يقل {جازيناهم} وقد سمعت جازيت فى معنى جَزيت وهى مثل عاقبت وعقَبت، الفعل منك وحدك. و (بناؤها - يعنى -) فاعلتُ على أن تَفعل ويُفعل بكَ.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }
وقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ...}
جُعل ما بينَ القرية إلى القرية نصفَ يومٍ، فذلك تقديرهُ للسير.
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
وقوله: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا...}
قراءة العوامّ. وتقرأ على الخبر {رَبُّنَا بَعّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنا} وَ {بَاعَدَ} وتقرأ على الدعاء {رَبَّنَا بَعِّدْ} وتقرأ {رَبَّنا بَعُدَ بَيْن أسفارِنا} تكون (بَيْنَ) فى موضع رَفعٍ وهى منصوبة. فمن رفعها جعلها بمنزلة قوله {لقد تقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ...}
نصبت الظن بوقوع التصديق عليه. ومَعْنَاهُ أنه قالَ {فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} قال الله: صَدّق عليهم ظنَّه لأنه إنما قاله بِظنّ لا بعلمٍ. وتقرأ {وَلَقَدْ صَدَق عليهم إبليسُ ظَنَّه} نصبت الظن على قوله: ولقد صَدَق عليهم فى ظَنّه. ولو قلت: ولقد صدق عليه إبليسُ ظنُّه ترفع إبليسَ والظنّ كانَ صَوَاباً على التكرير: صدق عليهم ظنُّه، كما قالَ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهرِ الحرامِ قِتَالٍ فيه} يريد: عن قتالٍ فيه، وكما قالَ {ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِنْهُمْ} ولو قرأ قارئ ولقد صَدَق عليهم إبليسَ ظَنُّه يريد: صدَقه ظنُّه عليهم كما تقول صدقك ظنُّك الظنُّ يخطىءُ ويصيبُ.
{ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ }
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ...}
يُضِلّهم به حُجّة، إلاّ أنّا سلَّطْناهُ عليهم لِنعلم من يؤمن بالآخرة.
فإن قال قائل: إنّ الله يعلم أمرهم بتسليط إبليس وبغير تسليطه. قلتُ: مثل هذا كثير فى القرآن. قال الله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدينَ مِنْكُمْ والصّابِرينَ} وهو يعلم المجاهدَ والصّابِرَ بغير ابتلاء، ففيه وَجْهان. أحدهما أنّ العرب تشترط للجاهل إذا كلَّمتْه بشبه هذا شرطاً تُسنِده إلى أنفسها وهى عالمة؛ ومخْرج الكلام كأنه لمن لا يعلم. من ذلك أن يقول القائل: النَّار تُحرق الحطب فيقول الجاهِل: بل الحطب يُحرق النار، ويقولَ العالم: سنأتى بحطب ونارٍ لنعلم أيّهما يأكل صاحبه فهذا وَجْهُ بيّن. والوجْهُ / ا الآخر أن تقول {لنَبْلُونَّكُمْ حتَّى نَعْلَمَ} معناه: حتى نعلم عنكم فكأن الفعل لهم فى الأصل. ومثله مما يدلّك عليه قوله {وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ َهُوَ أهْوَنُ عَلَيْه} عندكم يا كَفَرَة؛ ولم يقل: (عندكم) يعنى: وليسَ فى القرآن (عندكم)؛ وذلك معناه. ومثله قوله {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ العزيزُ الكريمُ} عند نفسك إذك كنت تقوله فى دنياك. ومثله ما قال الله لعيسى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} وهو يعلم ما يقول وما يجيبه به؛ فردّ عليه عيسى وهو يعلم أن الله لا يحتاج إلى إجابته. فكما صَلح أن يَسأل عَمَّا يعلم ويلتمس من عبْده ونبيّه الجواب فكذلك يشرط من فعل نفسه ما يعلم، حتى كأنه عند الجاهل لا يعلم.
{ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
وقوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ...}
أى لا ينفع شفاعةُ مَلَكٍ مقرَّبٍ ولا نبىّ حتى يُؤذن له فى الشفاعة. ويقال: حتى يؤذن له فيمن يشفع، فتكون (مَنْ) للمشفوع له.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} قراءة الأعمش وعاصم بن أبى النجود وأبى عبدالرحمن السُّلَمىّ وأهل المدينة. وقراءة الحسن البصرى (فُرِّغَ) وقراءة مجاهد (حَتّى إِذَا فَزَّعَ) يجعل الفعل لله وأما قول الحسَن فمعنَاه حتى إذا كُشف الفزع عن قولبهم وفُرِّغَت منه. فهذا وجه. ومن قال فُزِّع أو فَزَّع فمعنَاهُ أيضاً: كُشف عنه الفزع (عن) تدلّ عَلَى ذلك كما تقول: قد جُلِّىَ عنك الفزع. والعرب تقول للرجل: إنه لمُغَلَّب وهو غالب، ومغَلَّب وهومغلوب: فمن قال: مغَّلب للمغلوب يقول: هو أبداً مغلوب. ومن قال: مغلّب وهو غالب أراد قول الناس: هو مغلَّب. والمفزَّع يكون جباناً وشجاعاً فمن جَعله شجاعاً قال: بمثله تنزل الأفزاع. ومنْ جعله جباناً فهو بَيّن. أراد: يَفزَع من كلّ شىء.
وقوله: {قَالُواْ الْحَقَّ} فالمعنى فى ذلكَ أنه كان بين نبيّنا وبين عِيسَى صَلى الله عليهمَا وسَلم فَتْرة، فلمّا نزل جبريل على محمدٍ - عليهما السّلام - بالوحى ظنّ أهل السموات أنه قيام السَّاعة. فقال بعضهم: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} فلم يدروا، ولكنهم قالوا: قال الحقّ. ولو قرئ {الْحَقّ} بالرفع أى هو الحقّ كان صَوَاباً. ومن نصب أوقع عَليه القول: قالوا قَالَ الحَقَّ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
وقوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى...}
قال المفسّرنَ مَعْناه: وإنا لعلى هدىً وأنتم فى ضَلالٍ مبين، معنى (أو) معنى الواو عندهم. وكذلك هو فى المعْنى .غير أن العربيّة عَلَى غَير ذلكَ: لا تكون (أو) بمنزلة الواو. ولكنها تكون فى الأمر المفوَّض، كما تقول: إن شئت فخذ درهماً أو اثنين، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذَ ثلاثةً. وفى قَولِ من لا يبصر العربيَّة ويجعَل (أو) بمنزلة الواو يجوز له أن يأخذ ثلاثة؛ لأنه فى قولهم بمنزلة قولك: خذ درهماً واثنين. والمعنى فى قوله {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ}: إنَا لَضالونَ أو مهتدونَ، وإنكم أيضاً لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أن رَسُوله المهتدِى وأن غيره الضَّال: الضالون. فأنت تقول فى الكلام للرجل: إن أحدنا لكاذب فكذّبته تكذيباً غير مَكشوف. وهو فى القرآن وفى كلام العرب كثير: أن يوجّه الكلام إلى أحسن مذاهبه إذا عُرف؛ كقولك: والله لقد قدم فلان وهو كاذب / ب فيقول العالم: قل: إن شاء الله أو قُلْ فيما أظنّ فيُكَذّبه بأحسن من تصريح التكذيب، ومن كلام العرب أن يقولوا. قاتله الله: ثم يستقبحونها، فيقولونَ: قاتعه وكاتعه. ويقولون جُوعاً دعاء على الرجل، ثم يستقبحُونها فيقولون: جُوداً، وبعضهم: جُوساً. ومن ذلك قولهم: وَيْحك وَوَيْسَكَ، إنما هى ويلْكَ إلاّ أنها دونها بمنزلة ما مَضَى.
{ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ }
وقوله: {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ...}
ولو قرئت: ميعادٌ يَوْمٌ. ولو كانت فى الكتاب (يوماً) بالألف لجاز، تريد: ميعاد فى يومٍ.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ }
وقوله: {لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ...}
التوارة لمّا قال أهل الكتاب: صفةُ محمّد فى كتابنا كفر أهل مكة بالقرآن وبالذى بَيْنَ يديه: الذى قبله التوراة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ...}
المكر ليسَ لليل ولا للنهار، إنما المعنى: بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن نضيف الفعل إلى الليْل والنهار، ويكونا كالفاعلين، لأن العرب تقول: نهارك صَائم، وليلك نائم، ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار، وهو فى المعنى للآدميّينَ، كما تقول: نام ليلُكَ، وعَزَم الأمر، إنما عَزَمه القوم. فهذا مما يُعرف معناه فتَتَّسع به العرب.
{ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }
وقوله: {زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ...}
(مَنْ) فى موضع نصب بالاستثناء. وإن شئت أوقعت عليها التقريبَ، أى لا تقرِّب الأموالُ إلاّ مَن كان مطيعاً. وإن شئت جَعَلته رفعاً، أى ما هو إلا من آمن.
ومثله {لاَيَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بقَلْبٍ سَلِيمٍ} وإن شئتَ جَعَلت (مَنْ) فى موضع نصبٍ بالاستثناء. وإن شئت نصباً بوقوع ينفع. وإن شئت رفعاً فقلت: مَا هُوَ إلا مَن أتى الله بقلبٍ سَليمٍ.
وقوله: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي} إن شئت جعلت (الَّتى) جامعة للأموال والأولاد؛ لأن الأولاد يقع فيهَا (الّتى) فلما أن كانا جمعاً صلح للّتى أن تقع عَليهما. ولو قال: (باللتَينِ) كان وجهاً صَواباً. ولو قال: باللّذَينِ كما تقول: أَمّا العسكر والإبل فقد أقبلا. وقد قالت العرب: مرَّت بنا غَنَمان سُودان، فقال: غَنَمان: ولو قال: غَنَم لجاز. فهذا شاهد لمن قال (بالتى) ولو وجّهت (التى) إلى الأواد واكتفيتَ بهَا من ذكر الأولاد صلح ذلكَ، كما قالَ مرَّار الأسَدى:
نحن بما عندنا وأنت بمَا * عِندك رَاضٍ والرأىُ مختلفُ
وقال الآخر:
إِنى ضمِنت لمن أتَانى مَا جَنَى * وأبى وكان وكنت غير غَدُور
ولم يقل: غير غَدُورين. ولو قال: وما أموالكم ولا أولادكم بالذِينَ. يذهب بهَا إلى التذكير للأولاد لجَاز.
وقوله: {لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ} لو نصبت بالتنوين الذى فى الجزاء كان صَوَاباً. ولو قيل {لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفُ} ولو قلت: جَزَاءٌ الضِّعْفُ كما قال {بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ} {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} و {الغُرْفة}.
{ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ }
وقوله: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ...}
أى من أين كذَّبوا بك ولم يأتهم كتاب ولا نذيرٌ بهذا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
وقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ...}
وما بلغ أهل مَكَّة معشار الذين أهلكْنا من القوّة فىالأجسَام والأموال. ويقال: ما بلغوا معشار ما آتيناهم فى العِدَّة. والمعشار فى الوجهين العُشْر.
{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }
وقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ...}
أى يكفينى منكم أن يقوم الرجل منكم وحده، أو هو وغيره، ثم تتفكروا هَلْ جرّبتم عَلَى محمدٍ كذباً أو رَأوا به جُنُوناً؛ ففى ذلكَ ما يتيقنونَ أنه بنىٌّ.
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }
وقوله: {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ...}
رفعت (عَلاّم) وهو الوجه؛ لأن النعت إذا جاء بعد الخبر رفعته العرب فى إنّ، يقولون: إن أخاك قائم الظريفُ. ولو نصبوا كان وجهاً. ومثله {إنّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النّارِ} لو قرئ نصباً كان صواباً، إلا أن القراءة الجيِّدة الرَّفع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( سبأ )
{ وَقَالُواْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
وقوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ...}
قرأ الأعمش وحمزة والكسائىّ بالهمز يجعلونه منَ الشىء البطىء من نأشت من النئيش، قال الشاعر:
* وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر *
وقال آخر:
تمنى نئيشاً أَن يكون أطاعنى * وقد حَدَثت بعد الأمور أمورُ
وقد ترك همزَها أهلُ الحجاز وغيرهم، جَعَلوها من نُشْته نَوْشا وهو التناول: وهما متقاربان، بمنزلة ذِمْتُ الشىء وذَأمْته أى عِبْته: وقال الشاعر:
فَهْى تَنُوش الحوض نَوْشاً من عَلاَ * نَوْشاً به تقطع أجواز الفَلاَ
وتناوش القومُ فى القتال إذا تناول بعضُهم بعضاً ولم يتدانَوا كل التدانى. وقد يجوز همزها وهى من نُشت لانضمام الواو، يعنى التناوش مثل قوله {وَإِذَا الرُسُلُ أُقِّتَتْ}.
{ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
وقوله: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ...}
يقولون ليسَ بنبىّ وقد باعدهم الله أن يعلموا ذلكَ لأنه لا علم لهم، إنما يقولون بالظن وبالغيب أن ينالوا أنه غير نبىٍّ.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( فاطر )
{ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ...}
هذا فى الأجنحة التى جَعَلها لجبريل وميكائيل يعنى بالزيادة فى الأجنحَة.
{ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقوله: {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ...}
ولم يقل: لهَا، وقد قال قبل ذلكَ {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} فكان التأنيث فى (لهَا) لظهور الرحمة. ولو قال: فلا مُمسكَ له لجاز، لأن الهَاء إنما ترجع عَلَى (ما) ولو قيل فى الثانية: فلا مرسل لها لأن الضمير عَلَى الرَّحمة جَاز، ولكنها لمّا سقطت الرحمة من الثانى ذُكّر على (ما).
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
وقوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...}
وَما كان فى القرآن من قوله {اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فمْعناه: احفظوا، كما تقول: اذكر أيادِىّ عنك أى احفظها.
وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} تقرأ {غيرُ} و {غيرِ} قرأها شقيق بن سَلَمة (غَيْرِ) وهو وجه الكلام. وقرأها عاصم (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} فمن خفض فى الإعراب جَعَل (غير) من نعت الخالِق. ومن رفع قال: أردت بغير إلاّ، فلمّا كانت ترتفع ما بعد (إلاّ) جعلت رفع ما بعدَ (إلاّ) فى (غيرَ) كما تقول: ما قام من أحدٍ إلاَّ أبوك. وكلّ حسَنٌ. ولو نصبت (غَير) إذا أريد بها (إلاّ) كان صَوَاباً.
العرب تقول: ما أتانى أحد غَيْرَك والرفع أكثر، لأنّ (إلا) تصلح فى موضعها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
وقوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً...}
يقول: شُبّه عليه عمله، فرأى سّيئه حَسَناً. ثم قال {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فكان الجواب مُتبعاً بقوله {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} واكتُفى بإتباع الجواب بالكملة الثانية؛ لأنها كافية من جواب الأولى: ولو أخرج الجواب كله كان: أفمن زين له سوءُ عَمله ذهبت نفسُك، أو تذهب نفسُك لأن قوله {فَلاَ تَذْهَبْ} نهى يدلّ عَلَى أن مَا نهى عنه قد مَضى فى صدر الكلمة. ومثله فى الكلام: إذا غضبت فلا تقتل، كأنّه كان يقتل على الغضب، فنُهى عن ذلكَ. والقراء مجتمعونَ على {تَذْهَبْ نَفْسُكَ} وقد ذكَر بعضهم عن أبى جعفر المَدَنِىّ (فلا تُذْهِبْ نفسَك عليهم) وكلّ صَوَابَ.
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ }
وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً...}
فان (العزَّة) معناه: من كان يريد عِلْم العزَّة ولَمنْ هى فإنها لله جميعاً، أىْ كل وجهٍِ من العزَّة فلله.
وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} القُرّاء مجتمعونَ على {الكَلِم} إلا أبا عبدالرحمن فإنه قرأ (الكلام الطيِّب) وكلّ حَسَنٌ، و {الكَلِم} أجود، لأنها كلمة وكلم. وقوله {الكلمات} فى كثير من القرآن يَدلّ على أن الكلم أجود: والعرب تقول كَلِمة وكَلِم، فأمَّا الكلام فمصدر.
وقد قال الشاعر:
مالكِ تَرْغين ولا يَرْغُو الخَلِفْ * وَتضْجَرين والمطىّ مُعترِف
فجمعَ الخَلِفة بطرح الهاء، كما يقال: شجرة وشجر.
وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أى يرفع الكلمَ الطيّب. يقول: يُتقبَّل الكلام الطيّب إذا كان معه عمل صَالح. ولو قيل: {والعَمَلَ الصَّالحَ} بالنصب على معنى: يرفع الله العملَ الصَّالح، فيكون المعْنَى: يرفع الله {الْعَمَلُ الصَّالِحُ} ويجوز عَلَى هذا المعْنى الرفعُ، كما جاز النصب لمكَان الواو فى أَوَّله.
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
وقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ...}
يقول: ما يُطَوَّل من عمر، ولا يُنْقَص من عمره، يرد آخر غير الأوّل، ثم كُنى عنه بالهاء كأنه الأوّل.
ومثله فىالكلام: عندى درهم ونصفه يعنى نصف آخر. فجاز أن يكنى عنه بالهاء؛ لأن لفظ الثانى قد يظهر كلفظ الاوّل. فكنى عنه ككناية الاوَّل.
وفيها قول آخر: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يقول: إذا أَتى عليه الليلُ والنهار نَقَصَا من عمره، والهاء فى هذا المْعنى للأوّل لا لغيره، لأن المعْنى ما يطوَّل ولا يذهب منه شىء إلا هو محصىً فى كتابٍ، وكلّ حسن وكأنَّ الأوَّل أشبه بالصواب.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً...}
يريد: من البَحرين جَميعاً: من المِلْح والعَذْب. {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} من المِلح دون العذب.
وقوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} ومَخْرها: خرقها للماء إذا مَرَّتْ فيه، واحدهَا ماخِرة.
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }
وقوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا...}
يقول: إن دعت داعية ذاتُ ذُنُوبٍ قد أثقلتها إلى ذنوبها ليُحمل عنها شىء من الذنوبِ لم تجد ذلكَ. ولو كانَ الذى تدعوه أباً أو ابنَا. فذلك قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كانت: {ذو قربى} لجَازَ؛ لأنه لم يُذكر فيصيرَ نكرة. فمَن رفع لم يضمر فى (كان) شيئاً، فيصيرُ مثل قوله: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} ومن نصب أضمر. وهى فى قراءة أُبَىّ: (وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) على ذلك. وإنما أنّث {مُثْقَلَةٌ} يذهب إلى الدابة أو إِلى النفس، وهما يعبِّران عن الذكر والأنثى، كما قَالَ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المُوْتِ} للذكَر والأنثى.
{ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ }
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ...}
فالأعمى ها هنا الكافر، والبصير المؤمنُ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ }
وقوله: {وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ...}
الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان.
{ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ }
وقوله: {وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ...}
الظّل: الجنة، والحَرور: النار.
{ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ }
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ...}
الأحياء: المؤمنون، والأموات: الكفّار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }
وقوله: {جُدَدٌ بِيضٌ...}
الخُطَط والطُرُق تكون فى الجبال كالعُروق، بَيض وسُود وحمر، واحدها جُدّة.
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
وقوله: {كَذَلِكَ...}
من صلة الثمرات. واختلاف ألوانها أى من الناس وغيرِهم كالأوّل. ثم اسْتأنف فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }
وقوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ...}
جواب لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} {أولئكَ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} فـ {يَرْجُونَ} جَوَاب لأوَّل الكلام.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }
وقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ...}
هذا الكافر {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} فهؤلاء أصْحَاب اليمين {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهذه موافقٌ تفسيرها تفسيرَ التى فى الواقعة. فأصْحَاب المَيْمنة هم المقتصِدونَ. ويقال: هم الوِلْدان. وأصحَاب المَشْأمة الكفّار. والمَشْأَمَة النار. والسَّابقون السَّابقون هؤلاء أهل الدرجات العُلَى أولئك المقرَّبونَ فى جناتِ عَدْنٍ.
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ...}
ومعْنى عَدْنٍ إقامة به. عَدَن بالموضع.
{ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }
وقوله: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ...}
الحَزَن للمعاش وهموم الدنيا. ويقال: الحزن حَزَن الموت. ويقال الحزن بالْجنة والنار لا ندرى إلى أيّهما نصير.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }
وقوله: {دَارَ الْمُقَامَةِ...}
هى الإقامة. والمَقَامة: المجلس الذى يُقام فيه. فالمجلس مفتوح لا غير؛ كما قال الشاعر:
يومَان يومُ مقاماتٍ وَأنديَة * ويومُ سير إلى الأعداءِ تأْويبِ
وقرأ السُّلِمىّ (لَغُوب) كأنه جعله ما يُلْغِب، مثل لَغُوب والكلام لُغُوب بضم اللام، واللُغوب: والإعياء.
{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ }
وقوله: {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ...}
يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم. وذْكر الشيبُ.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً }
وقوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ...}
أى إنهم لم يَخْلقُوا فى الأرض شيئاً. ثم قال: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أى فى خَلْقها، أى أعانوه على خلقها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( فاطر )
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }
وقوله: {وَلَئِن زَالَتَآ...}
بمنزلة قوله: ولو زالتا {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} (إنْ) بمعنَى (ما) وهو بمنزلة قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِه}.
وقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّّذِينَ أُوتُوا الكتابَ بكُلّ آيةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} المعنى معنى (لو) وهما متآخِيتان يجابان بجواب وَاحِدٍ.
{ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }
وقوله: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ...}
أى فعَلو ذلك استكباراً {وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} أُضيف المكر إلى السَّىء وهو هو كما قال: {إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقينِ} وتصديق ذلك فى قراء عبدالله (ومَكْراً سَيِّئا) وقوله {وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} الهمز فى {السَّيىء} مخفوضة / ب وقد جزمها الأعمش وحمزة لكثرة الحركات، كما قال {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ} وكما قال الشاعر:
* إذا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ *
يريد صَاحِب قَوِّم فجزم الباء لكثرة الحركات. قال الفراء: حدثنى الرؤاسى عن أبى عمرو ابن العلاء {لاَ يَحْزُنْهُمْ} جَزْم.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( يس )
{ يس }
وقوله: {يس...}
حَدّثنا أبو العباس قال حدّثنا محمد قال حدّثنا الفَرّاء قال: حدّثَنى شيخ من أهل الكوفة عن الحسن نفسِه قال: يس: يا رجل. وهو فى العربيَّة بمنزلة حرف الهجاء؛ كقولك: {حم} وأشباهها.
القراءة بوقف النون من يس. وقد سمعت من العرب من ينصبها فيقول: {ياسينَ والقرآنِ الحكِيم} كأنه يجعلها متحركة كتحريك الأدوات إذا سكن ما قبلهَا؛ مثل لَيْتَ وَلعلّ ينصبُ منها ما سَكنَ الذى يلى آخر حروفه. ولو خُفض كما خُفض جَيْرِ لا أفعلُ ذلكَ خُفضت لمكان اليَاء التى فى جَيْرِ.
{ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
وقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ...}
يكون خيراً بعد خبر: إنك لَمِن المرسلينَ، إنك على صراطٍ مُستقيم. ويكون: إنك لمن الذين أُرسِلوا على صراطٍ مستقيم على الاستقامة.
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ }
وقوله: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ...}
القراءة بالنصب، على قولك: حَقّاً إنك لَمِنَ المرسلينَ تنزيلاً حَقّاً. وقرأ أهل الحجاز بالرفع، وعاصم والأعمش ينصبانها. ومَن رفعهَا جَعَلَها خبراً ثالثاً: إنك لتنزيل العزيز الرحيم. ويكون رفعه على الاستئنَاف؛ كقولك: ذلك تنزيل العزيز الرحيم؛ كما قال {لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ} أى ذلكَ بلاغ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }
وقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ...}
يقال: لتنذر قوماً لم يُنذَر آباؤهم أى لم تنذرهم ولا أتاهم رسول قَبلك. ويقال: لتنذرهم بما أنذِر آباؤهم، ثم تُلقى البَاء، فيكون (ما) فى موضع نصبٍ كما قال {أنْذَرْتكُم صاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وثَمُودَ}.
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ }
وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ...}
فكنى عن هى، وهى للأيمَان ولم تذُكر. وذلك أن الغُلّ لايكون إلاّ باليمين، والعنق، جامِعاً لليمين، والعُنق، فيكفِى ذِكر أحدهما مِن صَاحِبه، كَمَا قَالَ {فمنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أو إثماً فأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} فضمّ الوَرَثة إلى الوصىّ ولم يُذكروا؛ لأن الصلح إنما يقع بين الوَصىّ والوَرَثة. ومثله قول الشاعر:
وما أدرى إذا يمّمت وجهاً * أُريد الخير أيُّهما يلينى
أَأَلخير الذى أَنَا أبتغيه * أم الشرّ الذى لا يأتلينى
فكنىعن الشرّ وإنما ذكر الخير وَحده، وذلكَ أن الشرّ يُذكر مع الخير، وهى فى قراءة عبدالله (إنا جعنا فى أَيْمانهم أغلالاً فهى إلى الأذقان} فكَفتِ الأَيمان من ذكر الأعناق فى حرف عبدالله، وكَفَت الأعناق من الأَيمان فى قراءة العامَّة. والذَقَن أسْفل اللَّحيين. والمُقمَح: الغاضّ بصره بعد رفع رأسِهِ. ومعناه: إنا حبسناهم عن الإنفاق فى سَبيل الله.
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }
وقوله: {فَأغْشَيْنَاهُمْ...}
أى فألبسنا أبصَارهم غِشَاوة. ونزلت هذه الآية فى قوم أرادوا قتل النبىّ صلى الله عليه وسلم من بنى مخزوم، فأَتوه فى مُصَلاَّهُ ليلا، فأعمى الله أبصارهم عنه، فجعلوا يسْمعونَ صوته بالقرآن ولا يرونه. فذلك قوله {فَأغْشَيْنَاهُمْ} وتقرأ {فأعْشَيْنَاهُمْ} بالعين. أعْشيناهم عنه؛ لأن العَشْو بالليل، إذا أمسيت وأنت لا ترى شيئا فهو العَشْو.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ }
وقوله: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ...}
أمّا ما قدّموا فما أسلفوا من أعمالهم. وآثارُهُم مَا اسْتُنّ به مِن بعدهم. وهو / ا مثل قوله {يُنَبَّأُ الإنْسانُ يَوْمَئذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ}.
وقوله {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} القراء مجتمعون على نصب (كُلّ) لما وقع من الفعل على راجع ذكرها. والرفع وجه جيّد؛ فد سمِعتُ ذلك من العرب؛ لأن (كُلّ) بمنزلة النكرة إذا صحبها الجحد؛ فالعرب تقول: هل أحد ضربته، وفى (كلّ) مِثْل هذا التأويل، ألا ترى أن مَعْنَاه: ما من شىء إلاّ قد أحصينَاه.
{ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ }
وقوله: {إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ...}
والثالث قد كان أُرسل قبل الاثنين فكُذِّبَ. وقد تراه فى التنزيل كأنه بعدهما. وإنما معنى قوله {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}: بالثالث الذى قبلهمَا؛ كقولك: فعزَّزنَا بالأوَّل. والتعزيز يقول: شدّدنا أمرهما بما علَّمهما الأوّل شمعون. وكانُوا أُرسِلُوا إلى أنطاكيَة. وهى فى قراءة عبدالله (فعَزَّزنا بالثالث) لأنه قد ذركر فى المرسلين، وإذا ذُكرت النكرة فى شىءٍ ثم أُعيدت خرجَت معرفةً كقولك للرجل: قد أعطيتك درهمين، فيقُول: فأين الدرهمان؟ وقرأ عاصم (فعَزَزْنا) خفيفة. وهو كقولك: شدّدنا وشدَدنا.
{ قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ...}
يريد: لنقتلنكم. وعامّة ما كان فى القرآن من الرجم فهو قتل، كقوله {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }
وقوله: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ...}
القراء مجتمعون على (طائركم) بالألف. والعرب تقول: طيركم معكم.
وقوله: {أَئِِن ذُكِّرْتُم} قراءة العَامَّة بالهمز وكسر أَلف (إنْ).
وقرأ أبو رَزِين - وكان من أصْحَاب عبدالله - {أََأَنْ ذُكِّرتم} ومَن كسر قال {أَئِن} جَعَله جزاء أُدخِل عليه ألف استفهام. وقد ذُكر عن بعض القرّاء (طائركم معكم أين ذُكِّرْتم) و {ذُكِرتم} يريد: طائركم معكم حيثما كنتم. والطائر هَا هنا: الأعمال والرزق. يقول: هو فى أعناقكم. ومن جَعَلها {أَين} فينبغى له أن يخفّف {ذكرتم} وقد خَفّف أبو جَعفر المدنىّ {ذُكرتم} ولا أحفظ عنه (أين).
{ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ }
وقوله: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ...}
أى فاشهدُوا لى بذلكَ. يقوله حبِيب للرسل الثلاثة.
{ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }
وقوله: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي...}
و (بمَا) تكون فى موضع (الذى) وتكون (ما) و (غفر) فى موضع مصدر. ولو جَعلت (مَا) فى معنى (أىّ) كان صَواباً. يكون المعْنى: ليتهم يَعلمونَ بأىّ شىء غَفَر لى رَبِّى. ولو كان كذلك لجاز له فيه: {بِمَ غَفَرَ لِي رَبِّي} بنُقصان الألف. كما تقول. سَلْ عَمَّ شئت، وكما: قال {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُون} وقد أتمَّها الشاعر وهى استفهام فقال:
إنا قتلنا بقتلانا سَرَاتَكُمُ * أهلَ اللواء ففِيما يُكثَر القِيل
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }
وقوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً...}
نصبتها القراء، إلا أبا جعفر، فإنه رفعها، عَلَى ألاّ يُضمِر فى (كانت) اسماً. والنصب إذا اضْمرت فيها؛ كما تقول: اذهب فليس إلاّ اللهُ الواحد القهّارُ والواحدَ القهَّار، على هذا التفسير، وسمعت بعض العرب يقول لرجل يصفه بالخِبّ: لو لم يكن إلاّ ظِلُّه لخَابَّ ظِلُّه. والرفع والنصب جَائزان. وقد قرأت القراء (إلاّ أنْ تكونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً) بالرفع والنصب. وهذا مِن ذاكَ.
وقوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} وفى قراءة عبدالله {إنْ كانَتْ إلاَّ زَقْيَةً} والزَقْيَة والزَقْوة لغتان. يقال زَقَيت وَزَقوت. وأنشدنى بعضهم وهو يذكر امرأة:
تلد غلاماً عَارماً يؤذيكِ * ولو زَقَوت كَزُقاء الدّيك
{ ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
وقوله: {ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ...}
المْعنَى: يا لهَا حَسْرةً على العباد. وقرأ بعضهم {يا حسرةَ العباد} والمعنى فىالعربيّة واحد. والله أعلم. والعرب إذا دعت نكرة موصولة بشىء آثرت النصب، يقولون: يا رَجلا كريماً أَقبِل، ويا راكباً على البعير أَقبل. فإذا أفردُوا رفعوا أكثر / ب ممّا ينصبون. أنشدنى بَعضهم:
يا سيّدا ما أنت من سَيّدٍ * موطّأ الأعقابِ رَحْبَ الذراع
قوَّال معروف وفعّاله * نحّار أُمَّات الرِّباع الرِّتَاع
أنشدنيه بعض بنى سُلَيم (موطّأ) بالرفع، وأنشدنيه الكسائىّ (موطأ) بالخفض. وأنشدنى آخر:
ألا يَا قتيلاً ما قتيلَ بنى حِلْس * إذا ابتلَّ أطرافُ الرماح من الدّعْسِ
ولو رفعت النكرة الموصولة بالصّفة كان صَوَاباً. قد قالت العرب:
* يا دار غيّرها البلى تغييرا *
تريد: يأيَّتها الدار غيَّرهَا. وسَمعت أبا الجراح يقول لرجلٍ: أَيا مَجْنُونُ مَجْنُونُ، إتباع. وسمعت من العرب: يا مهتمُّ بأمرنا لا تهتمّ، يريدون: يأيّها المهتمّ.
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
وقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا...}
(كَمْ) فى موضع نصب من مكانين: أحدهما أَن توقع {يَرَوْا} على {كَمْ} وهى فى قراءة عبدالله (ألم يروا مَن أهلكنا) فهذا وجه. والآخر أن توقع {اهلكنا} على (كم) وتجعله استفهَاماً. كما تقول: علمت كم ضربتَ غلامك. وإذا كان قبل مَن وأىّ وكم رَأيْت وما اشتُقّ منهَا، أو العِلْمُ وما اشتقّ منه وما أشبَه معنَاهمَا، جَازَ أن توقع مَا بعدكم وأىّ ومن وأشباهها عَلَيهَا، كمَا قَالَ الله {لِنَعْلَمَ أَىُّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى} ألا ترى أنك قد أبطلت العلم عن وقوعه على أىّ، ورفعت أيّا بأحصى. فكذلك تنصبُها بفعل لو وقع عليهَا.
وقوله {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ} فُتحت ألفهَا؛ لأن المعْنَى: أَلم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وقد كسرها الحسن البصرى، كأنه لم يوقع الرؤية عَلَى (كم) فلم يوقعهَا عَلى (أنّ) وإنْ شئت كسرتها على الاسْتِئنَاف وجَعَلت كم مَنصوبَةً بوقوع يروا عليهَا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }
وقوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ...}
شدّدها الأعمش وعاصم. وقد خفّفها قوم كثير منهم من قرَّاء أهل المدينة وبلغنى أن عليّاً خفَفها. وهو الوجه؛ لأنها (ما) أدخلت عَليهَا لام تكون جَوَاباً لإنْ؛ كأنك: قلت: وإن كلّ لجمع لدينا محضَرونَ. ولم يثقّلها مَن ثقّلها إلاَّ عن صَوَاب. فإن شئت أردت: وإن كل لِمَن ما جميع، ثم حُذفت إحدى الميمَات لكثرتهنَّ؛ كما قَالَ.
غداة طفَتْ عَلْماءِ بكرُ بن وائل * وعُجْنَا صدورَ الخيل نحوَ تميم
والوجه الآخر من التثقيل أَن يجعَلوا (لَمَّا) بمنزلة (إلاَّ) مع (إنْ) خاصة، فتكون فى مذهبها بمنزلة إنما إذا وضعتْ فى معنى إلاَّ، كأنها لَمْ ضُمّت إليها مَا فصارا جميعاً (استثناء وخرجتا من حدّ الجحد. ونُرى أن قول العرب (إلاَّ) إنما جمعوا بين إن التى تكون جحداً وضمّوا إليها (لا) فصارا جميعاً حرفاً واحداً وخرجا من حد الجحد إذ جمعتا فصارا حرفا واحداً. وكذلك لمّا. ومثل ذلك قوله: {لولا}، إنما هى لو ضمت إليها لا فصارتا حرفا واحدا. وكان الكسائى ينفى هذا القول. ويقول: لا أعرف جهة لَمّا فى التشديد فى القراءة.
{ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ }
وقوله: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ...}
وفى قرءاة عبدالله (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) وكلّ صَوَاب. والعرب تضمر الهاء فى الذى ومَن وَمَا، وتظهرها. وكلّ ذلكَ صواب {وَمَا عَمِلَتْ} (ما) إن شئت فى موضع خفضٍ: ليأكلوا منْ ثمره وممّا عملت أيديهم. وإن شئت جعلتها جحداً فلم تجعل لها موضعاً. ويكون المعْنى: أنا جَعَلنا لهم الجنات والنخيل والأعناب ولم تعمله أيديهم {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}.
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ }
وقوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ...}
فإن قال قائل: مَا قوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}؟ فإنما معناه: نسلخ عنه النهار: نرمى بالنهار عنه فتأتى الظلمة. وكذلك النهار يُسلخ منه الليل فيأتى الضوء. وهو عربىّ معروف، ألا ترى قوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أى خرج منها وتركها. وكَذلكَ الليل والنهار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
وقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا...}
إلى مقدار مجاريها: المقدار المستقر. من قال: {لا مستقرّ لهَا} أو {لا مُسْتَقَرٌّ لها} فهما وجهان حَسَنانِ، جعلهَا أبداً جاريةً. وأمّا أن يخفض المستقرَّ فلا أدرى ما هو.
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ }
وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ...}
الرفع فيه أعجب إلىّ من النصب، لأنه قال {وآيةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} ثم جعل الشمس والقمر مُتبَعين لليل وهما فى مذهبه آيات مثله. ومَن نصبَ أراد: وقدَّرنَا القمر منازل، كما فعلنا بالشمس. فردّه على الهاء من الشمس فى المعْنى، لا أنه أوقع عليه ما أوقع عَلَى الشمس. ومثله فى الكلام: عبدالله يقوم وجَاريتَه يضربها، فالجارية مردودة عَلَى الفعل لا عَلَى الاسمن لذلكَ نصبناهَا؛ لأنَّ الواو التى فيها للفعْل المتأخّر.
وقوله: {كَالعُرجُونِ} والعُرْجون ما بين الشمَاريخ إلى النابت فى النخلة. والقديم فى هذا الموضع: الذى قد أتى عليه حول.
{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
وقوله: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ...}
يقول: تطلع ليلا، ولا أن يسبق الليل النهار، يقول: ولا القمر له أن يطلُع نهاراً، أى لا يكون له ضَوء. ويقال: لا ينبغى للشمس أن تدرِك القمر فتُذْهِبَ ضوءه، ولا أن يسبق الليلُ النهار فيظلمه. وموضع {أَن تدْرِكَ} رفع.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يس )
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }
وقوله: {ذُرِّيَّتَهُمْ...}
إنما يخاطب أهل مكَّة، فجعَل الذرّية التى كانت مع نوح لأهل مكَّة؛ لأنها أصْل لهم، فقال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} هم أبناء الذُرِّيَّة.
{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ }