كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي
. ولقد كان ذلك . كما لا بد أن يكون
قال البخاري بإسناده إلى ابن عباس - : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبة له يوم بدر : « أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً . فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر . . . } » .
وفي رواية لابن أبي حاتم بإسناده إلى عكرمة ، قال : « لما نزلت { سيهزم الجمع ويولون الدبر } قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ، وهو يقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } . فعرفت تأويلها يومئذ »
وكانت هذه هزيمة الدنيا . ولكنها ليست هي الأخيرة . وليست هي الأشد والأدهى؛ فهو يضرب عن ذكرها ليذكر الأخرى :
{ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرُّ } . .
أدهى وأمر من كل عذاب رأوه أو يرونه في هذه الأرض . وأدهى وأمر من كل مشهد رأوه مرسوماً فيما مر . من الطوفان ، إلى الصرصر . إلى الصاعقة . إلى الحاصب . إلى أخذ فرعون وآله أخذ عزيز مقتدر
ثم يفصّل كيف هي أدهى وأمر . يفصل هذا في مشهد عنيف من مشاهد القيامة :
{ إن المجرمين في ضلال وسعر . يوم يسحبون في النار على وجوههم : ذوقوا مسَّ سقر } . .
في ضلال يعذب العقول والنفوس ، وفي سعر تكوي الجلود والأبدان . . في مقابل ما كانوا يقولون هم وأمثالهم من قبل : { أبشراً منا واحداً نتبعه؟ إنا إذن لفي ضلال وسعر } . ليعرفوا أين يكون الضلال وأين تكون السعر
وهم يسحبون في النار على وجوههم في عنف وتحقير ، في مقابل الاعتزاز بالقوة والاستكبار . وهم يزادون عذاباً بالإيلام النفسي ، الذي كأنما يشهد اللحظة حاضراً معروضاً على الأسماع والأنظار : { ذوقوا مس سقر }
وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة ، وإلى القوم خاصة . ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره . .
إن ذلك الأخذ في الدنيا ، وهذا العذاب في الآخرة . وما كان قبلهما من رسالات ونذر ، ومن قرآن وزبر . وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود . .
إن ذلك كله ، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر ، مصرفة بقصد ، مدبرة بحكمة . لا شيء جزاف . لا شيء عبث . لا شيء مصادفة . لا شيء ارتجال :
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
كل شيء . . كل صغير وكل كبير . كل ناطق وكل صامت . كل متحرك وكل ساكن . كل ماض وكل حاضر . كل معلوم وكل مجهول . كل شيء . . خلقناه بقدر . .
قدر يحدد حقيقته . ويحدد صفته . ويحدد مقداره . ويحدد زمانه . ويحدد مكانه . ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء .
وتأثيره في كيان هذا الوجود .
وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة ، مصداقها هذا الوجود كله . حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، ويتجاوب معه ، ويتلقى عنه ، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقاً دقيقاً . كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق ، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود .
ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل ، ويطيقه العقل البشري ، ويملك معرفته عن هذا الطريق . ووراء هذا القدر يبقى دائماً ما هو أعظم وأكمل ، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها ، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق كل شيء فيه بقدر .
ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة ، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له . . وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها . فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها . . ثم يتحقق هذا الذي فرضوه . ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام ، في هذا الفضاء الهائل ، بهذه النسب المقدرة ، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب
ووصل في إدراك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها ، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يؤدي بهذه الحياة كلها ، أو لا يسمح أصلاً بقيامها . فحجم هذه الأرض ، وكتلتها ، وبعدها عن الشمس . وكتلة هذه الشمس ، ودرجة حرارتها . وميل الأرض على محورها بهذا القدر ، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس . وبعد القمر عن الأرض . وحجمه وكتلته . وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض . . إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً ، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء ، ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض
ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط التي تضبط الحياة؛ وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها؛ وبين بعضها وبعض . . إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية . فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء وعوامل الموت والفناء في البيئة وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائماً بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها . وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف المهيأة للأحياء ، في وقت ما ، لإعالتهم وإعاشتهم
ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى أي شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض . إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون ، وفي ظروف الأرض .
.
« إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ، لأنها قليلة البيض ، قليلة التفريخ ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة . وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار . ولو كانت مع عمرها الطويل ، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن ، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها . أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان ، وللقيام بأدوارها الأخرى ، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مِقلاتٌ نَزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا ، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث
والذبابة تبيض ملايين البويضات . ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين . ولو كانت تعيش بضعة أعوام ، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض . ولكن عجلة التوازن التي لا تختل ، في يد القدرة التي تدبر هذا الكون ، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عدداً ، وأسرعها تكاثراً ، وأشدها فتكاً - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمراً . تموت بملايين الملايين من البرد ، ومن الحر ، ومن الضوء ، ومن أحماض المعدات ، ومن أمصال الدم ، ومن عوامل أخرى كثيرة . ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان . ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء . وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع . فكثرة العدد سلاح . وقوة البطش سلاح . وبينهما ألوان وأنواع . .
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها . والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل ، ومن ثم ينذر فيها السام
والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة ، تصبها على كل من يلمسها ، وقاية من الأعداء
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز ، والأسود مزودة بقوة ألباس والافتراس
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء .
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه ، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام . . الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء . .
البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه ، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله ، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء اليه بما قد يؤذيه .
والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع السائل الأبيض مائلاً إلى الإصفرار .
ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض . وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين . ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقداراللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم ، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة ، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات . ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته ، وتتركز مواده ، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر ، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى ، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو « .
وتتبع الأجهزة المختلفة في تكوين الإنسان ، ووظائفها ، وطريقة عملها ، ودور كل منها في المحافظة على حياته وصحته . . يكشف عن العجب العجاب في دقة التقدير وكمال التدبير . ويرينا يد الله وهي تدبر أمر كل فرد . بل كل عضو . بل كل خلية من خلاياه . وعين الله عليه تكلؤه وترعاه . ولن نستطيع هنا أن نفصل هذه العجائب فنكتفي بإشارة سريعة إلى التقدير الدقيق في جهاز واحد من هذه الأجهزة . جهاز الغدد الصم » تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتركيبات الكيماوية الضرورية ، والتي يبلغ من قوتها أن جزءاً من ألف بليون جزء منها تحدث آثاراً خطيرة في جسم الإنسان . وهي مرتبة بحيث أن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى . وكل ما كان يعرف عن هذه الإفرازات أنها معقدة التركيب تعقيداً مدهشاً ، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفاً عاماً في الجسم ، يبلغ حد الخطورة . إذا دام هذا الاختلال وقتاً قصيراً « .
أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته . .
» زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع ، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة ، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها ، والتغلب عليها ، بأنياب قاطعة ، وأسنان حادة ، وأضراس صلبة . ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها ، فلأرجلها عضلات قوية ، سلحت بأظافر ومخالب حادة ، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام « .
فأما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي ، فهي تختلف فيما زودت به . .
» وقد صممت أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة ، فأفواهها واسعة نسبياً؛ وقد تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة . وبدلاً منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاصمة قاطعة؛ فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة ، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة ، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات . وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة الهضم ، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش ، وهو مخزن له ، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة ، يذهب الطعام إلى تجويف يسمى « القلنسوة » .
ثم يرجع إلى الفم ، فيمضغ ثانية مضغاً جيداً ، حيث يذهب إلى تجويف ثالث يسمى « أم التلافيف » ، ثم إلى رابع يسمى « الإنفحة » وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان ، إذ كثيراً ما يكون هدفاً لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي ، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي . ويقول العلم إن عملية الاجترار ضرورية بل وحيوية ، إذ أن العشب من النباتات العسرة الهضم ، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية ، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جداً ، فلو لم يكن مجتراً ، وبمعدته مخزن خاص ، لضاع وقت طويل في الرعي ، يكاد يكون يوماً بأكمله ، دون أن يحصل الحيوان على كفايته من العذاء ، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ . إنما سرعة الأكل ، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئاً من التخمر ، ليبدأ المضغ والطحن والبلع ، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وعذاء وحسن هضم . فسبحان المدبر « .
» والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم . بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة ، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء . وعلى جانب المنقار زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش .
« أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض . بينما منقار البجعة مثلاً طويل طولاً ملحوظاً ، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد . إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي .
» ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب ، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان ، التي غالباً ما تكون تحت سطح الأرض . ويقول العلم : إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره .
« أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب . فلما لم يعط أسناناً فقد خلقت له حوصلة وقانصة تهضم الطعام . ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام » .
ويطول بنا الاستعراض ، ونخرج على منهج هذه الظلال ، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو ، فنسرع الخطى إلى « الإميبا » وهي ذات الخلية الواحدة ، لنرى يد الله معها ، وعينه عليها ، وهو يقدر لها أمرها تقديراً .
« والإميبا كائن حي دقيق الحجم . يعيش في البرك والمستنقعات ، أو على الأحجار الراسبة في القاع . ولا يرى بالعين إطلاقاً . وهو يرى بالمجاهر ، كتلة هلامية ، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات . فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد ، تستعملها كالأقدام ، للسير بها إلى المكان المرغوب .
ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة . وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين ، وتفرز عليه عصارة هاضمة ، فتتغذى بالمفيد منها ، أما الباقي فتطرده من جسمها وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء . . فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقاً بالعين ، يعيش ويتحرك ، ويتغذى ويتنفس ، ويخرج فضلاته فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين ، ليكون كل قسم حيواناً جديداً « . .
» وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير والتقدير فيها لا يقل ظهوراً وبروزاً عنه في تلك الأحياء . { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير . إن حركة هذا الكون كله بأحدثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها . كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد ، ككل نفس يخرج من صدر إن هذا النفس مقدر في وقته ، مقدر في مكانه ، مقدر في ظروفه كلها ، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون ، محسوب حسابه في التناسق الكوني ، كالأحداث العظام الضخام
وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء . . إنه هو الآخر قائم هناك بقدر . وهو يؤدي وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة . وهذه الخلية السابحة في الماء . كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء
تقدير في الزمان ، تقدير في المكان ، تقدير في المقدار ، وتقدير في الصورة . وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال .
من ذا الذي يذكر مثلاً أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه ، لم يكن حادثاً شخصياً فردياً . . إنما كان قدراً مقدوراً ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه ، فيأخذوه فيلقوه في الجب - ولا يقتلوه - لتلتقطه السيارة . لتبيعه . في مصر . لينشأ في قصر العزيز . لتراوده امرأة العزيز عن نفسه . ليستعلي على الإغراء . ليلقى في السجن . . لماذا؟ ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك . ليفسر لهما الرؤيا . . لماذا؟ إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب ويقف ناس من الناس يسألون : لماذا؟ لماذا يا رب يتعذب يوسف؟ لماذا يا رب يتعذب يعقوب؟ لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن؟ ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم ، المنوع الأشكال؟ لماذا؟ ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب ، لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة ثم ماذا؟ ثم ليستقدم أبويه وإخوته . ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل . ليضطهدهم فرعون . لينشأ من بينهم موسى - وما صاحب حياته من تقدير وتدبير - لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه
ومن ذا الذي يذكر مثلاً أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثاً شخصياً فردياً .
إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر ، ليأخذ منها هاجر ، لتلد له إسماعيل . ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم . لينشأ محمد - صلى الله عليه وسلم - من نسل إبراهيم - عليه السلام - في هذه الجزيرة . أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام . . ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام
إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد . لكل حادث . ولكل نشأة . ولكل مصير . ووراء كل نقطة ، وكل خطوة ، وكل تبديل أو تغيير .
إنه قدر الله النافذ ، الشامل ، الدقيق ، العميق .
وأحياناً يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد . وأحياناً يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير ، فتخفى عليهم حكمة التدبير . فيستعجلون ويقترحون . وقد يسخطون . أو يتطاولون
والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر ، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق ، وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق . .
ومع التقدير والتدبير ، القدرة على تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات :
{ وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر } . .
فهي إشارة واحدة . أو كلمة واحدة يتم بها كل أمر : الجليل والصغير سواء . وليس هنالك جليل ولا صغير . إنما ذلك تقدير البشر اللأشياء . وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر . إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر . فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشئ من دورة أرضهم الصغيرة ، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة
واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل . وواحدة تبدل فيه وتغير . وواحدة تذهب به كما يشاء الله . وواحدة تحيي كل حي . وواحدة تذهب به هنا وهناك . وواحدة ترده إلى الموت . وواحدة تبعثه في صورة من الصور . وواحدة تبعث الخلائق جميعاً . وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب .
واحدة لا تحتاج إلى جهد ، ولا تحتاج إلى زمن . واحدة فيها القدرة ومعها التقدير . وكل أمر معها مقدر ميسور .
وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون . وفي هذه يذكرهم بمصير أمثالهم من المكذبين :
{ ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر؟ وكل شيء فعلوه في الزبر ، وكل صغير وكبير مستطر } .
فهذه مصارع المكذبين ، معروضة في الحلقات التي تضمنتها السورة من قبل . { فهل من مدكر؟ } . . يتذكر ويعتبر؟
ولم ينته حسابهم بمصارعهم الأليمة ، فوراءهم حساب لا يفلت منه شيء : { وكل شيء فعلوه في الزبر } . . مسطر في الصحائف ليوم الحساب : { وكل صغير وكبير مستطر } . . لا ينسى منه شيء وهو مسطور في كتاب
وعند هذا الحد من العرض والتعقيب ، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ . إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير ، وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة ، في جميل صنعه ، وإبداع خلقه؛ وفي فيض نعمائه؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم . . وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين : الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء ، في ساحة الوجود ، على مشهد من كل موجود ، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله ، تحدياً يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ، ويجعل الكون كله معرضاً لها ، وساحة الآخرة كذلك .
ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله ، وفي إيقاع فواصلها . . تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى ، وامتداد التصويت إلى بعيد؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار . . الرحمن . . كلمة واحدة . مبتدأ مفرداً . . الرحمن كلمة في معناها الرحمة ، وفي رنتها الإعلان ، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن .
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان . تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان .
ثم يذكر خلق الإنسان ، ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى . . البيان . .
ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله . . الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة . والميزان الموضوع . والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان . والجن والإنس . والمشرقان والمغربان . والبحران بينهما برزخ لا يبغيان ، وما يخرج منهما وما يجري فيهما .
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار . عرض مشهد فنائها جميعاً . مشهد الفناء المطلق للخلائق ، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي . الذي إليه تتوجه الخلائق جميعاً ، ليتصرف في أمرها بما يشاء .
وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس : { سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ، يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . .
ومن ثم يعرض مشهد النهاية . مشهد القيامة . يعرض في صورة كونية . يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة ، ومشهد العذاب للمجرمين ، والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل .
ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } . .
إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير . إعلان ينطلق من الملأ الأعلى ، فتتجاوب به أرجاء الوجود . ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود . .
{ الرحمن } . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا المطلع المقصود بلفظه ومعناه ، وإيقاعه وموسيقاه .
{ الرحمن } . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة في أرجاء هذا الكون ، وفي جنبات هذا الوجود .
{ الرحمن } . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد ، يجلجل في طباق الوجود ، ويخاطب كل موجود ، ويتلفت على رنته كل كائن ، وهو يملأ فضاء السماوات والأرض ، ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب . .
{ الرحمن } . . . . . . . . . . . . .
ويسكت . وتنتهي الآية . ويصمت الوجود كله وينصت ، في ارتقاب الخبر العظيم . بعد المطلع العظيم .
ثم يجيء الخبر المترقب ، الذي يخفق له ضمير الوجود . .
{ علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان . الشمس والقمر بحسبان . والنجم والشجر يسجدان . والسمآء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . والأرض وضعها للأنام . فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } .
هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن . وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان . .
{ علم القرآن } . .
هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان . . القرآن . . الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود . ومنهج السماء للأرض . الذي يصل أهلها بناموس الوجود . ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود . فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس .
القرآن الذي يفتح حواسهم ومشاعرهم على هذا الكون الجميل ، كأنما يطالعهم أول مرة ، فيجدد إحساسهم بوجودهم الذاتي ، كما يجدد إحساسهم بالكون من حولهم . ويزيد فيمنح كل شيء من حولهم حياة نابضة تتجاوب وتتعاطف مع البشر؛ فإذا هم بين أصدقاء ، ورفاق أحباء ، حيثما ساروا أو أقاموا ، طوال رحلتهم على هذا الكوكب
القرآن الذي يقرأ في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض ، أنهم كرام على الله ، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . فيشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا ، بوسيلتها الوحيدة . . الإيمان . . الذي يحيي في أرواحهم نفخة الله . ويحقق نعمته الكبرى على الإنسان .
ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان . فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان .
{ خلق الإنسان علمه البيان } . .
وندع - مؤقتاً - خلق الإنسان ابتداء ، فسيأتي ذكره في مكانه من السورة بعد قليل . إذ المقصود من ذكره هنا هو ما تلاه من تعليمه البيان .
إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين ، ويتفاهم ، ويتجاوب مع الآخرين . . فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة ، وضخامة هذه الخارقة ، فيردنا القرآن إليها ، ويوقظنا لتدبرها ، في مواضع شتى .
فما الإنسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف يُعلم البيان؟
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم . خلية ساذجة صغيرة ، ضيئلة ، مهينة . ترى بالمجهر ، ولا تكاد تَبين . وهي لا تُبين
ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين . الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة . . عظمية . وغضروفية . وعضلية . وعصبية . وجلدية . . ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة : السمع . البصر . الذوق . الشم . اللمس . ثم . . ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم : الإدراك والبيان ، والشعور والإلهام . . كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة ، التي لا تكاد تَبين ، والتي لا تُبين
كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن ، وبصنع الرحمن .
فلننظر كيف يكون البيان؟ : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب . . اللسان والشفتان والفك والأسنان . والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان . . إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان . وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة ، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب . ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه . ولا ندري شيئاً عن ماهيته وحقيقته . بل لا نكاد ندري شيئاً عن عمله وطريقته
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة . مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن .
إنها تبدأ شعوراً بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين . هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية . . المخ . . ويقال : إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب . واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه . وهنا تطرد الرئة قدراً من الهواء المختزن فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتيه صنعها الإنسان ، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام فيصوت الهواء في الحنجرة صوتاً تشكله حسبما يريد العقل . . عالياً أو خافتاً . سريعاً أو بطيئاً . خشناً أو ناعماً . ضخماً أو رفيعاً . . إلى آخر أشكال الصوت وصفاته . ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان ، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة . وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين ، يتم فيه الضغط المعين ، ليصوّت الحرف بجرس معين . .
وذلك كله لفظ واحد . . ووراءه العبارة . والموضوع . والفكرة . والمشاعر السابقة واللاحقة . وكل منها عالم عجيب غريب ، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب ، بصنعة الرحمن ، وفضل الرحمن .
ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام :
{ الشمس والقمر بحسبان } . .
حيث تتجلى دقة التقدير ، في تنسيق التكوين والحركة ، بما يملأ القلب روعة ودهشة ، شعوراً بضخامة هذه الإشارة ، وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار .
إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام . فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدوداً ، ملايين الملايين من النجوم ، منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءاً . فالشعرى اليمانية أثقل من الشمس بعشرين مرة ، ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس . والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس ونوره ثمانية آلاف ضعف . وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة .
. وهكذا . .
ولكن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا - نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير ، الذي يعيش هو وسكانه جميعاً على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها .
وكذلك القمر هو تابع صغير للأرض . ولكنه ذو أثر قوي في حياتها . وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمد في البحار .
وحجم الشمس ، ودرجة حرارتها ، وبعدها عنا ، وسيرها في فلكها . وكذلك حجم القمر وبعده ودورته . . كلها محسوبة حساباً كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض . وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى .
ونتاول طرفاً من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء . .
إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال . ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخاراً يتصاعد في الفضاء ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءاً من مليوني جزء من حرارتها . وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا . ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية ، وذهبت بدداً
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض . فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافياً لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها . وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها ، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب ، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه نحو برج الجبار . ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة ، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة .
صدق الله العظيم . . { الشمس والقمر بحسبان } .
{ والنجم والشجر يسجدان } . .
وقد كانت الإشارة السابقة إلى الحساب والتقدير في بناء الكون الكبير . فأما هذه فهي إشارة إلى اتجاه هذا الكون وارتباطه . وهي إشارة موحية إلى حقيقة هادية .
إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول ، وخالقه المبدع . والنجم والشجر نموذجان منه ، يدلان على اتجاهه كله . وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء . كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر . وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد . ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه .
والكون خليقة حية ذات روح . روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن . ولكنها في حقيقتها واحدة .
ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله .
وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه . أدركها بالإلهام اللدني فيه . ولكنها كانت تغيم عليه ، وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس
ولقد استطاع أخيراً أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون . ولكنه لا يزال بعيداً عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق
والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون ، وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع . وأن الحركة هي قاعدة الكون ، والخاصية المشتركة بين جميع أفراده .
فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته؟
القرآن يقول : إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه - وهي الحركة الأصيلة فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيراً عن حركة روحه - وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه { والنجم والشجر يسجدان } . . ومنها : { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ومنها : { ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صآفات . كل قد علم صلاته وتسبيحه } وتأمل هذه الحقيقة ، ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه ، مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيباً ، وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها ، وهي تدب فيها جميعاً ، وتحيلها إخواناً له ورفقاء
إنها إشارة ذات أبعاد وآماد وأعماق . .
{ والسمآء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . }
والإشارة إلى السماء - كباقي الإشارات القرآنية إلى مجالي هذا الكون - تقصد إلى تنبيه القلب الغافل ، وإنقاذه من بلادة الألفة ، وإيقاظه لعظمة هذا الكون وتناسقه وجماله ، وإلى قدرة اليد التي أبدعته وجلالها .
والإشارة إلى السماء - أياً كان مدلول السماء - توجه النظر إلى أعلى . إلى هذا الفضاء الهائل السامق الذي لا تبدو له حدود معروفة؛ والذي تسبح فيه ملايين الملايين من الأجرام الضخمة ، فلا يلتقي منها اثنان ، ولا تصطدم مجموعة منها بمجموعة . ويبلغ عدد المجموعة أحياناً ألف مليون نجم ، كمجموعة المجرة التي ينتسب إليها عالمنا الشمسي ، وفيها ما هو أصغر من شمسنا وما هو أكبر آلاف المرات . شمسنا التي يبلغ قطرها مليونا وثلث مليون كيلو متر وكل هذه النجوم ، وكل هذه المجموعات تجري في الكون بسرعات مخيفة ، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة ، لا تلتقي ، ولا تتصادم
وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة { وضع الميزان } ميزان الحق . وضعه ثابتاً راسخاً مستقراً . وضعه لتقدير القيم . قيم الأشخاص والأحداث والأشياء . كي لا يختل تقويمها ، ولا يضطرب وزنها ، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى . وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن :
وضع الميزان . . { ألا تطغوا في الميزان } .
. فتغالوا وتفرطوا . . { وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان } . . ومن ثم يستقر الوزن بالقسط ، بلا طغيان ولا خسران .
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر ، ببناء الكون ونظامه . يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي الله ونهجه . ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته . . ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية .
{ والأرض وضعها للأنام . فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان } .
ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض ، وألفتنا لأوضاعها وظواهرها ، ولوضعنا نحن كذلك عليها . نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي « وضعت » هذه الأرض للأنام . وجعلت استقرارنا عليها ممكناً وميسوراً إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به . ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار ، وعظمة نعمة الله علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان ، أو يمور زلزال ، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا ، فتضطرب وتمور . عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة الله .
والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة ، لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها ، إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء الله الوسيع . هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق . تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة . وتسبح - مع هذا - حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة . بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء
أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهباً بهذه السرعة معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة الله . . لظلوا أبداً معلقي القلوب والأبصار ، واجفي الأرواح والأوصال ، لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام ، وأقرهم عليها هذا الإقرار
ولقد يسر لهم فيها الحياة ، وهي تدور بهم حول نفسها وحول الشمس ، وتركض مع الشمس وتوابعها بتلك السرعة المذهلة . وقدر فيها أقواتها التي يذكر منها هنا الفاكهة - ويخص منها النخل ذات الأكمام - ( والكم كيس الطلع الذي ينشأ منه الثمر ) ليشير إلى جمال هيئتها بجانب فائدة ثمرتها . ويذكر منها الحب ذا الورق والسيقان التي تعصف وتصير طعاماً للماشية . ويذكر منها الريحان . النبات ذات الرائحة . . وهي ألوان من نبات الأرض شتى . منها ما هو طعام للإنسان ومنها ما هو طعام للدواب ، ومنها ما هو روْح للناس ومتاع .
وعند هذا المقطع من تعداد أنعم الله وآلائه : تعليم القرآن . وخلق الإنسان . وتعليمه البيان . وتنسيق الشمس والقمر بحسبان . ورفع السماء ووضع الميزان . ووضع الأرض للأنام . وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان .
. عند هذا المقطع يهتف بالجن والإنسان ، في مواجهة الكون وأهل الكون : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . . وهو سؤال للتسجيل والإشهاد . فما يملك إنس ولا جان أن يكذب بآلاء الرحمن في مثل هذا المقام .
ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون ، إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما ، وفي خاصة وجودهما وإنشائهما :
{ خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار . . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . .
ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة . والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر . فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم ، هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود . أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدراك البشر بحال ونحسب الجن كذلك ، فإن هم إلا خلق مقاييس المخلوقات
فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك .
ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن ، وهي كذلك من خلق الله . والصلصال : الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه . وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب . كما أنها قد تكون تعبيراً عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين .
« وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض . فهو يتكون من الكربون ، والأكسيجين ، والأيدروجين ، والفسفور ، والكبريت ، والآزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم ، والحديد ، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسلكون ، والألمنيوم . وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب . وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر ، وفي الإنسان عن التراب ، إلا أن أصنافها واحدة »
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني . فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم ، أو تعني شيئاً آخر سواه . وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو طين أو صلصال .
والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة . فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية - تجريبية أو افتراضية - بنية بيان ما في القرآن من إعجاز . فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها . ونصوصه أوسع مدلولاً من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائماً للتبديل والتعديل ، بل للخطأ والصواب من الأساس وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن ، وهو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق ، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم .
إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه .
فأما خلق الجان من مارج من نار . فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية . والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن . خبر الله الصادق . الذي خلق وهو أعلم بمن خلق . . والمارج : المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس . ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله . فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن كما سبق بيانه عند تفسير قوله تعالى : { وإذ صرفنآ إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن . . } وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن .
والخطاب هنا للجن والإنس ، لتذكيرهما بنعمة الوجود . كلٌّ من الأصل الذي أنشأه الله منه . وهي النعمة التي تقوم عليها سائر النعم . ومن ثم يعقب عليها بتعقيب التسجيل والإشهاد العام : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . . ولا تكذيب في هذا المقام المشهود
{ رب المشرقين ورب المغربين . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
وهذه الإشارة التي تملأ القلب بفيض غامر من الشعور بوجود الله ، حيثما توجه ، وحيثما تلفت ، وحيثما امتد به النظر حوله في الآفاق . . فحيث الشروق وحيث الغروب هناك الله . . ربوبيته ومشيئته وسلطانه ، ونوره وتوجيهه وهدايته . .
والمشرقان والمغربان قد يكون المقصود بهما شروق الشمس وشروق القمر . وغروبهما كذلك ، بمناسبة ذكر الشمس والقمر فيما تقدم من آلاء الله . وقد يكون المقصود مشرقي الشمس المختلفي الموضع في الصيف والشتاء ومغربيها كذلك .
وعلى أية حال فإن ظلال هذه الإشارة هي الأولى بالالتفات . ظلال الاتجاه إلى المشرق والمغرب ، والشعور بالله هناك ، والإحساس بيده تحرك الكواكب والأفلاك ، ورؤية نوره وربوبيته في الآفاق هنا وهناك . والرصيد الذي يؤوب به القلب من هذا التأمل والتدبر والنظر في المشارق والمغارب ، والزاد الشعوري الذي تفيض به الجوانح وتذخره الأرواح .
وربوبية الله للمشرقين والمغربين ، بعض آلائه في هذا الكون . ومن ثم يجيء التعقيب المعهود في السورة ، بعد هذه اللفتة القصيرة : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } والمشرقان والمغربان فوق أنهما من آيات الله هما من آلاء الله على الجن والإنس ، بما يتحقق فيهما من الخير لسكان هذه الأرض جميعاً . بل من أسباب الحياة التي تنشأ مع الشروق ، وتحتاج كذلك إلى الغروب . ولو اختل أحدهما أو كلاهما لتعطلت أسباب الحياة . .
ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض ، وما فيها من ماء ، جعله الله بقدر . قدر في نوعه ، وقدر في تصريفه ، وقدر في الانتفاع به :
{ مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وله الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } .
.
والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب ، ويشمل الأول البحار والمحيطات ، ويشمل الثاني الأنهار . ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان ، ولكنهما لا يبغيان ، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر ، ووظيفته المقسومة ، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله .
وتقسيم الماء على هذا النحو في الكرة الأرضية لم يجيء مصادفة ولا جزافاً . فهو مقدر تقديراً عجيباً . الماء الملح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض؛ ويشغل اليابس الربع . وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائماً صالحاً للحياة .
« وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع - ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - » .
ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس؛ وهي التي تعود فتسقط أمطاراً يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله . وأعظمها الأنهار . والتوافق بين سعة المحيط وحرارة الشمس وبرودة طبقات الجو العليا ، والعوامل الفلكية الأخرى هو الذي ينشأ عنه المطر الذي تتكون منه كتلة الماء العذب .
وعلى هذا الماء العذب تقوم الحياة ، من نبات وحيوان وإنسان . .
وتصب جميع الأنهار - تقريباً - في البحار . هي التي تنقل إليها أملاح الأرض ، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها . ومستوى سطوح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر ، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه ، ولا يغمر مجاريها بمائه الملح ، فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها وبينهما دائماً هذا البرزخ من صنع الله . فلا يبغيان .
فلا عجب يذكر البحرين ، وما بينهما من برزخ ، في مجال الآلاء { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } .
ثم يذكر من آلاء الله في البحرين بعض ما هو قريب منهم في حياتهم .
{ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } . .
واللؤلؤ - في أصله - حيوان . و « لعل اللؤلؤ أعجب ما في البحار ، فهو يهبط إلى الأعماق ، وهو داخل صدفة من المواد الجيرية لتقيه من الأخطار ، ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته ، فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد ، عجيبة النسج ، تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه ، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها . وتحت الشبكة أفواه الحيوان ، ولكل فم أربع شفاه ، فإذا دخلت ذرة رمل ، أو قطعة حصى ، أو حيوان ضار عنوة إلى الصدفة ، سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها ، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤة » . .
« والمرجان من عجائب مخلوقات الله ، يعيش في البحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاث مائة متر ، ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخر أو عشب .
وفتحة فمه التي في أعلى جسمه ، محاطة بعدد من الزوائد يستعملها في غذائه . فإذا لمست فريسة هذه الزوائد ، وكثيراً ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء ، أصيبت بالشلل في الحال ، والتصقت بها ، فتنكمش الزوائد وتنحني نحو الفم ، حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناة ضيقة تشبه مريء الإنسان .
« ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه ، يتم بها إخصاب البويضات ، حيث يتكون الجنين الذي يلجأ إلى صخرة أو عشب يلتصق به ، ويكون حياة منفردة ، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي .
» ومن دلائل قدرة الخالق ، أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التزرر . وتبقى الأزرار الناتجة متحدة مع الأفراد التي تزررت منها ، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميكة . تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها . ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمتراً . والجزر المرجانية الحية ذات ألوان مختلفة ، نراها في البحار صفراء برتقالية ، أو حمراء قرنفلية ، أو زرقاء زمردية ، أو غبراء باهتة .
« والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان ، وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة .
» ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير ، الموجود بالشمال الشرقي لأستراليا . ويبلغ طول هذه السلسلة ، ألفا و 350 ميلاً وعرضها 50 ميلاً . وهي مكونة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم « .
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ حلى غالية الثمن عالية القيمة ، ويمتن الله على عباده بهما ، فيعقب على ذكرهما في السورة ذلك التعقيب المشهود : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
ثم ينتقل إلى الفلك التي تجري في البحار ، كأنها لضخامتها الجبال :
{ وله الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام } . .
ويجعل هذه الجواري المنشآت { له } سبحانه وتعالى . فهي تجري بقدرته . ولا يحفظها في خضم البحر وثبج الموج إلا حفظه ولا يقرها على سطحه المتماوج إلا كلاءته . فهي له سبحانه . وقد كانت - وما تزال - من أضخم النعم التي منّ الله بها على العباد ، فيسرت لهم من أسباب الحياة والانتقال والرفاهية والكسب ما هو جدير بأن يذكر ولا ينكر . فهو من الضخامة والوضوح بحيث يصعب التكذيب به والإنكار . . { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } .
والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور ، وتطوى صفحة الخلق الفاني ، وتتوارى أشباح الخلائق جميعاً ، ويفرغ المجال من كل حي ، ويتجلى وجه الكريم الباقي ، متفرداً بالبقاء ، متفرداً بالجلال؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء ، وهو يشهد ظلال الفناء :
{ كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . .
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس ، وتخشع الأصوات ، وتسكن الجوارح . . وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ، ويغمر آفاق السماوات والأرض .
. وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح ، والزمان والمكان ، ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار . .
ولا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف؛ ولا يملك أن يزيد شيئاً على النص القرآني ، الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع ، والجلال الغامر ، والصمت الرهيب ، والذي يرسم مشهد الفناء الخاوي ، وسكون الموت المخيم بلا حركة ، ولا نأمة في هذا الكون الذي كان حافلاً بالحركة والحياة . ويرسم في الوقت ذاته حقيقة البقاء الدائم ، ويطبعها في الحس البشري لا يعرف في تجاربه صورة للبقاء الدائم؛ ولكنه يدركها بعمق في ذلك النص القرآني العجيب
ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب . فيعد استقرار هذه الحقيقة . حقيقة الفناء لكل من عليها ، وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده . يعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس في معرض الآلاء : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . .
وإنها لنعمة ، بل هي أساس النعم كلها جميعاً . فمن حقيقة الوجود الباقي ينبثق كل هذا الخلق؛ وناموسه ونظامه وخصائصه . كما تستقر سننه وقيمه ومآله وجزاؤه . والحي الباقي هو الذي يخلق ويبدع ، وهو الذي يحفظ ويكلأ ، وهو الذي يحاسب ويجزي . وهو الذي يشرف من أفق البقاء على ساحة الفناء . . فمن حقيقة البقاء إذن تنبثق جميع الآلاء . وما يبزغ هذا العالم وما يستقيم أمره إلا ووراءه هذه الحقيقة . حقيقة البقاء وراء الفناء .
ومن حقيقة البقاء الدائم وراء الخلق الفاني ، تنبثق حقيقة أخرى . . فكل أبناء الفناء إنما يتجهون في كل ما يقوم بوجودهم إلى الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم :
{ يسأله من في السماوات والأرض ، كل يوم هو في شأن . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
يسأله من في السماوات والأرض ، فهو مناط السؤال؛ وغيره لا يسأل لأنه فان لا يتعلق به سؤال . . يسألونه وهو وحده الذي يستجيب ، وقاصده وحده هو الذي لا يخيب . وما يتجه احد إلى سواه إلا حين يضل عن مناط السؤال ومعقد الرجاء ومظنه الجواب . وماذا يملك الفاني للفاني وماذا يملك المحتاج للمحتاج؟
وهو سبحانه - كل يوم هو في شأن . وهذا الوجود الذي لا تعرف له حدود ، كله منوط بقدره ، متعلق بمشيئته ، وهو قائم بتدبيره . هذا التدبير الذي يتناول الوجود كله جملة؛ ويتناول كل فرد فيه على حدة ، ويتناول كل عضو وكل خلية وكل ذرة . ويعطي كل شيء خلقه ، كما يعطيه وظيفته ، ثم يلحظه وهو يؤدي وظيفته .
هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت وما يسقط من ورقة ، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض ، وكل رطب وكل يابس . يتبع الأسماك في بحارها ، والديدان في مساربها ، والحشرات في مخابئها . والوحوش في أوكارها ، والطيور في أعشاشها . وكل بيضة وكل فرخ . وكل جناح . وكل ريشة . وكل خلية في جسم حي .
وصاحب التدبير لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف .
.
ومن هذا الشأن شأن العباد في الأرض من إنس وجن . ومن ثم فهو يواجههما بهذه النعمة مواجهة التسجيل والإشهاد : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } . .
وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء ، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي ، وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها ، فضلاً منه ومنة على العباد . .
بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني ، ومواجهة الجن والإنس به؛ ويبدأ مقطع جديد . فيه تهديد وفيه وعيد . تهديد مرعب مفزع ، ووعيد مزلزل مضعضع . تمهيداً لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك :
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان } . .
يا للهول المرعب المزلزل ، الذي لا يثبت له إنس ولا جان . ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك
الله . جل جلاله . الله القوي القادر ، القهار الجبار ، الكبير المتعال . الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين : الجن والإنس ، في وعيد وانتقام
إنه أمر . إنه هول . إنه فوق كل تصور واحتمال
والله - سبحانه - ليس مشغولاً فيفرغ . وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري . وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة ، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقاً . فهذا الوجود كله نشأ بكلمة . كلمة واحدة . كن فيكون . وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر . . فكيف يكون حال الثقلين ، والله يفرغ لهما وحدهما ، ليتولاهما بالانتقام؟
وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل ، يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض :
{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } . .
وكيف؟ وأين؟
{ لا تنفذون إلا بسلطان } .
ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان . .
ومرة أخرى يواجههما بالسؤال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ؟
وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟
ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها ، والتهديد الرعيب يلاحقهما ، والمصير المردي يتمثل لهما :
{ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران } . .
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر - وفوق مألوف كل خلق - وفق تصور البشر وتصور كل خلق . وهي صورة فريدة ، وردت لها نظائر قليلة في القرآن ، تشبهها ولا تماثلها . كما قال تعالى مرة : { وذرني والمكذبين أولي النعمة } وكما قال : { ذرني ومن خلقت وحيداً } وما يزال قوله تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } . . أعنف وأقوى وأرعب وأدهى .
.
ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر . مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة . وما يعقبه من مشاهد الحساب . ومشاهد العذاب والثواب .
ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني :
{ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } .
وردة حمراء ، سائلة كالدهان . . ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب ، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن ، وينسق بين مداراتها وحركاتها . منها هذه الآية . ومنها : { إذا رجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت هباء منبثا } ومنها : { فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر } ومنها { إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت . وإذا العشار عطلت . وإذا الوحوش حشرت . وإذا البحار سجرت } ومنها { إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت . وإذا البحار فجرت } { إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت } وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله . ولا يعلم حقيقته إلا الله . .
{ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } . . { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } ولا تكذيب عندئذ ولا نكران . .
{ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } . . وذلك في موقف من مواقف ذلك اليوم المشهود . الذي ستكون فيه مواقف شتى . منها ما يسأل فيه العباد ، ومنها ما لا يسألون فيه عن شيء . ومنها ما تجادل كل نفس عن نفسها ، وما تلقي به التبعة على شركائها ، ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام فهو يوم طويل مديد . وكل موقف من مواقفه هائل مشهود .
وهنا موقف : لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . ذلك حين تعرف صفة كل فرد وعمله . وتبدو في الوجوه معالم الشقوة سواداً ، ومعالم النجوة بياضاً ، ويظهر هذا وذاك في سيما الوجوه . ففي هذا الموقف هل من تكذيب ونكران : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
{ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } .
وهو مشهد عنيف ومع العنف الهوان . حيث تجمع الأقدام إلى الجباه ، ثم يقذف المجرمون على هذه الهيئة إلى النار . . فهل حينذلك من تكذيب أو نكران .
وبينما المشهد معروض ، والأخذ بالنواصي والأقدام والقذف في النار مستمر ، يلتفت السياق إلى شهود هذا الاستعراض ، وكأنهم حاضرون عند تلاوة السورة فيقول لهم :
{ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } . . هذه هي حاضرة معروضة - كما ترون - { يطوفون بينها وبين حميم آن } . . متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار وهم يتراوحون بين جهنم وبين هذا السائل الآني . انظروا إنهم يطوفون الآن { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ }
هذه ضفة العذاب الأليم . والآن إلى ضفة النعيم والتكريم :
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان } . .
وللمرة الأولى - فيما مر بنا من سور القرآن - تذكر الجنتان .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
الواقعة . . اسم للسورة وبيان لموضوعها معاً . فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة ، رداً على قولة الشاكين فيها ، المشركين بالله ، المكذبين بالقرآن : { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟ } . .
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة . وصفها بصفتها التي تنهي كل قول ، وتقطع كل شك ، وتشعر بالجزم في هذا الأمر . . الواقعة . . { إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة } . . وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم ، حيث تتبدل أقدار الناس ، وأوضاع الأرض ، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض ، كما يبدل القيم غير القيم سواء : { خافضة رافعة . . إذا رجت الأرض رجاً ، وبست الجبال بساً ، فكانت هباء منبثاً . وكنتم أزواجاً ثلاثة . . الخ } .
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة : السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفاً مفصلاً أوفى تفصيل ، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع ، لا مجال للشك فيه ، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان . حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين . وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه : { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين . وكانوا يصرون على الحنث العظيم . وكانوا يقولون : أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آبآؤنا الأولون } . . وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح . ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة . ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها ، متوخياً توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول؛ بلمسات مؤثرة ، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر ، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان ، أياً كانت بيئته ، ودرجة معرفته وتجربته .
يعرض نشأتهم الأولى من منيٍّ يُمنى . ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى ، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى ، التي يعرفونها جميعاً .
ويعرض صورة الحرث والزرع ، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها . إنشاؤها بيد الله وقدرته . ولو شاء الله لم تنشأ ، ولو شاء لم تؤت ثمارها .
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها . وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب . ولو شاء جعله ملحاً أجاجاً ، لا ينبت حياة ، ولا يصلح لحياة .
وصورة النار التي يوقدون ، وأصلها الذي تنشأ منه . . الشجر . . وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذراً . ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها .
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة ، يلمس بها قلوبهم ، ولا يكلفهم بها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها .
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن { الواقعة } فيشكون في وعيده .
فيلوح بالقسم بمواقع النجوم ، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين .
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار . في لمسة عميقة مؤثرة . حين تبلغ الروح الحلقوم ، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين ، لا يملكون له شيئاً ، ولا يدرون ما يجري حوله ، ولا ما يجري في كيانه . ويخلص أمره كله لله ، قبل أن يفارق هذه الحياة . ويرى هو طريقه المقبل ، حين لا يملك أن يقول شيئاً عما يرى ولا أن يشير
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق ، وتسبيح الله الخالق : { إن هذا لهو حق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم } . . فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام . .
{ إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة . إذا رجت الأرض رجاً . وبست الجبال بَسَّا . فكانت هبآء منبثاً . . . }
هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل . وهو يتبع أسلوباً خاصاً يلحظ فيه هذا المعنى ، ويتناسق مع مدلولات العبارة . فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها { إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة } . . ولا يقول : ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة وهي خافضة رافعة . ولكن يبدأ حديثاً جديداً : { إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . } . . ومرة أخرى لا يقول : ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم . . فكأنما هذا الهول كله مقدمة ، لا يذكر نتائجها ، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ ، أو تعبر عنها العبارة
هذا الأسلوب الخاص يتناسب مع الصورة المروّعة المفزِّعة التي يرسمها هذا المطلع بذاته . فالواقعة بمعناها وبجرس اللفظ ذاته - بما فيه من مدّ ثم سكون - تلقى في الحس كأنما هي ثقل ضخم ينقض من علٍ ثم يستقر ، لغير ما زحزحة بعد ذلك ولا زوال { ليس لوقعتها كاذبة } . .
ثم إن سقوط هذا الثقل ووقوعة ، كأنما يتوقع له الحس أرجحة ورجرجة يحدثها حين يقع . ويلبي السياق هذا التوقع فإذا هي : { خافضة رافعة } وإنها لتخفض أقداراً كانت رفيعة في الأرض ، وترفع أقداراً كانت خفيضة في دار الفناء ، حيث تختل الاعتبارات والقيم؛ ثم تستقيم في ميزان الله .
ثم يتبدى الهول في كيان هذه الأرض . الأرض الثابتة المستقرة فيما يحس الناس . فإذا هي ترج رجاً - وهي حقيقة تذكر في التعبير الذي يتسق في الحس مع وقع الواقعة - ثم إذا الجبال الصلبة الراسية تتحول - تحت وقع الواقعة - إلى فتات يتطاير كالهباء . . { وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثاً } فما أهول هذا الهول الذي يرج الأرض رجاً ، ويبس الجبال بساً ، ويتركها هباء منبثاً .
وما أجهل الذين يتعرضون له وهم مكذبون بالأخرة ، مشركون بالله ، وهذا أثره في الأرض والجبال
وهكذا تبدأ السورة بما يزلزل الكيان البشري ، ويهول الحس الإنساني ، تجاه القضية التي ينكرها المنكرون ، ويكذب بها المشركون . وينتهي هذا المشهد الأول للواقعة لنشهد آثارها في الخفض والرفع ، وفي أقدار البشر ومصائرهم الأخيرة :
{ وكنتم أزواجاً ثلاثة . فأصحاب الميمنة . ما أصحاب الميمنة؟ وأصحاب المشأمة . ما أصحاب المشأمة؟ والسابقون السابقون . . . }
ونجد الناس هنا أصنافاً ثلاثة - لا صنفين اثنين كما هو السائد في مشاهد الاستعراض القرآنية - ويبدأ بالحديث عن أصحاب الميمنة - أو أصحاب اليمين - ولكنه لا يفصل عنهم الحديث إنما يصفهم باستفهام عنهم للتهويل والتضخيم : { فأصحاب الميمنة . ما أصحاب الميمنة؟ } . وكذلك يذكر أصحاب المشأمة بنفس الأسلوب . ثم يذكر الفريق الثالث ، فريق السابقين ، يذكرهم فيصفهم بوصفهم : { والسابقون السابقون } . . كأنما ليقول إنهم هم هم . وكفى . فهو مقام لا يزيده الوصف شيئاً
ومن ثم يأخذ في بيان قدرهم عند ربهم ، وتفصيل ما أعده من النعيم لهم ، وتعديد أنواعه التي يمكن أن يدركها حس المخاطبين ، وتتناوله معارفهم وتجاربهم :
{ أولئك المقربون . في جنات النعيم . ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين . على سرر موضونة . متكئين عليها متقابلين . يطوف عليهم ولدان مخلدون . بأكواب وأباريق وكأس من معين . لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزفون . وفاكهة مما يتخيرون . ولحم طير مما يشتهون . وحور عين . كأمثال اللؤلؤ المكنون . جزآء بما كانوا يعملون . لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً . إلا قيلاً سلاماً سلاماً }
إنه يبدأ في بيان هذا النعيم ، بالنعيم الأكبر . النعيم الأسنى . نعيم القرب من ربهم :
{ أولئك المقربون في جنات النعيم } . . وجنات النعيم كلها لا تساوي ذلك التقريب ، ولا تعدل ذلك النصيب .
ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها . . إنهم { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } . . فهم عدد محدود . وفريق منتقى . كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين . واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون . فالقول الأول : إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام . وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه . . والقول الثاني : إن الأولين والآخرين هم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فالأولون من صدرها ، والآخرون من متأخريها . وهذا القول الثاني رجحه ابن كثير . وروى في ترجيحه للحسن وابن سيرين : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني ، سمعت الحسن أتى على هذه الآية : { والسابقون السابقون أولئك المقربون } فقال : « أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين » ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا السري بن يحيى . قال : قرأ الحسن : { والسابقون السابقون .
أولئك المقربون في جنات النعيم . ثلة من الأولين } . . قال : ثلة ممن مضى من هذه الأمة . . وحدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري ، حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال في هذه الآية : { ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين } . . قال : كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة .
وبعد بيان من هم يأخذ في تفصيل مناعم الجنة التي أعدت لهم . وهي بطبيعة الحال المناعم التي في طوقهم أن يتصوروها ويدركوها؛ ووراءها مناعم أخرى يعرفونها هنالك يوم يتهيأون لإدراكها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
{ على سرر موضونة } . . مشبكة بالمعادن الثمينة . { متكين عليها متقابلين } . في راحة وخلو بال من الهموم والمشاغل ، وفي طمأنينة على ما هم فيه من نعيم ، ولا خوف من فوته ولا نفاده وفي إقبال بعضهم على بعض يتسامرون . . { يطوف عليهم ولدان مخلدون } . . لا يفعل فيهم الزمن ، ولا تؤثر في شبابهم وصباحتهم السن كأشباههم في الأرض . يطوفون عليهم { بأكواب وأباريق وكأس من معين } . . من خمر صافية سائغة { لا يُصَدَّعون عنها ولا ينزفون } . . فلا هم يفرقون عنها ولا هي تنفد من بين أيديهم . فكل شيء هنا للدوام والأمان . { وفاكهة مما يتخيرون . ولحم طير مما يشتهون } . . فهنا لا شيء ممنوع ، ولا شيء على غير ما يشتهي السعداء الخالدون . { وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون } . . واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون ، الذي لم يتعرض للمس والنظر ، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين وفي هذا كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون . وذلك كله : { جزاء بما كانوا يعملون } . . فهو مكافأة على عمل كان في دار العمل . مكافأة يتحقق فيها الكمال الذي كان ينقص كل المناعم في دار الفناء . ثم هم بعد ذلك كله يحيون في هدوء وسكون ، وفي ترفع وتنزيه عن كل لغو في الحديث ، وكل جدل وكل مؤاخذة : { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً . إلا قيلاً سلاماً سلاماً } . . حياتهم كلها سلام . يرف عليها السلام ويشيع فيها السلام . تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن؛ ويسلم بعضهم على بعض . ويبلغهم السلام من الرحمن . فالجو كله سلام سلام . .
فإذا انتهى الحديث عن ذلك الفريق السابق المختار ، بدأ الحديث عن الفريق الذي يليه : فريق أصحاب اليمين :
{ وأصحاب اليمين . مآ أصحاب اليمين؟ في سدر مخضود ، وطلح منضود . وظل ممدود . ومآء مسكوب . وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة . وفرش مرفوعة . إنآ أنشأناهن إنشآءً . فجعلناهن أبكاراً . عرباً أتراباً . لأصحاب اليمين . ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين }
وأصحاب اليمين هم أصحاب الميمنة الذين أشار إليهم تلك الإشارة المجملة في أول السورة . ثم أخر تفصيل نعيمهم ، إلى موعده هنا بعد السابقين المقربين . وهو يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل : { ما أصحاب اليمين؟ } .
.
ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس ، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة ، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم
إنهم { في سدر مخضود } . . والسدر شجر النبق الشائك . ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع . { وطلح منضود } . . والطلح شجر من شجر الحجاز من نوع العضاة فيه شوك . ولكنه هنا منضود معد للتناول بلا كدٍ ولا مشقة . { وظل ممدود ، وماء مسكوب } . . وتلك جميعاً من مراتع البدوي ومناعمه ، كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه { وفاكهة كثيرة . لا مقطوعة ولا ممنوعة } . . تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين . { وفرش مرفوعة } . . وهي هنا لا موضونة ولا ناعمة . وبحسبها أنها مرفوعة . وللرفع في الحس معنيان . مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر ، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس . فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها . والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها . ولهذا ينتقل السياق من الفرش المرفوعة إلى ذكر من فيها من الأزواج : { إنا أنشأناهن إنشاءً } إما ابتداء وهن الحور . وإما استئنافاً وهن الزوجات المبعوثات شواب : { فجعلناهن أبكاراً } لم يمسسن { عرباً } . . متحببات إلى أزواجهن { أتراباً } متوافيات السن والشباب . { لأصحاب اليمين } . . مخصصات لهم . ليتسق ذلك مع { الفرش المرفوعة } . .
فأما أصحاب اليمين هؤلاء فهم { ثلثة من الأولين وثلة من الآخرين } . . فهم أكثر عدداً من السابقين المقربين . على الاعتبارين اللذين ذكرناهما في معنى الأولين والآخرين .
وهنا يصل بنا السياق إلى أصحاب الشمال - وهم أصحاب المشأمة الذين سبقت الإشارة إليهم في مطلع السورة :
{ وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال؟ في سموم وحميم . وظل من يحموم . لا بارد ولا كريم . إنهم كانوا قبل ذلك مترفين . وكانوا يصرون على الحنث العظيم . وكانوا يقولون : أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آبآؤنا الأولون؟ قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم . ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون . لآكلون من شجر من زقوم . فمالئون منها البطون . فشاربون عليه من الحميم . فشاربون شرب الهيم . هذا نزلهم يوم الدين } . .
فلئن كان أصحاب اليمين في ظل ممدود وماء مسكوب . . فأصحاب الشمال { في سموم وحميم . وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم } . . فالهواء شواظ ساخن ينفذ إلى المسام ويشوي الأجسام . والماء متناه في الحرارة لا يُبرد ولا يُروي . وهناك ظل ولكنه { ظل من يحموم } . . ظل الدخان اللافح الخانق . . إنه ظل للسخرية والتهكم . ظل { لا بارد ولا كريم } . . فهو ظل ساخن لا روْح فيه ولا برد؛ وهو كذلك كز لا يمنح وراده راحة ولا إنعاشاً . . هذا الشظف كله جزاء وفاق : { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } . . وما آلم الشظف للمترفين { وكانوا يصرون على الحِنث العظيم } . . والحنث الذنب . وهو هنا الشرك بالله .
وفيه إلماع إلى الحنث بالعهد الذي أخذه الله على فطرة العباد أن يؤمنوا به ويوحدوه . { وكانوا يقولون : أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟ } كانوا . . . هكذا يعبر القرآن ، كأنما الدنيا التي فيها المخاطبون قد طويت وانتهت فإذا هي ماض . والحاضر هو هذا المشهد وهذا العذاب ذلك أن الدنيا كلها ومضة . وهذا الحاضر هو العقبى والمآب .
وهنا يلتفت السياق إلى الدنيا في أنسب الأوقات لهذه اللفتة ليرد على سؤالهم ذاك : { قل : إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } . . هو هذا اليوم الحاضر المعروض المشهود
ثم يعود إلى ما ينتظر المكذبين . فيتم صورة العذاب الذي يلقاه المترفون :
{ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون . لآكلون من شجر زقوم } . . ولا يدري أحد ما شجرة الزقوم إلا ما وصفها الله به في سورة أخرى من أن طلعها كرؤوس الشياطين . ورؤوس الشياطين لم يرها أحد ولكنها تلقي في الحس ما تلقيه على أن لفظ { الزقوم } نفسه يصور بجرسه ملمساً خشناً شائكاً مدبباً يشوك الأكف - بله الحلوق - وذلك في مقابل السدر المخضود والطلح المنضود - ومع أن الزقوم كرؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها { فمالئون منها البطون } . . فالجوع طاغ والمحنة غالبة . . وإن الشوك الخشن ليدفع إلى الماء لتسليك الحلوق وري البطون وإنهم لشاربون { فشاربون عليه من الحميم } . . الساخن الذي لا يبرد غلة ولا يروي ظمأ . { فشاربون شرب الهيم } . . وهي الإبل المصابة بداء الاستسقاء لا تكاد ترتوي من الماء { هذا نزلهم يوم الدين } . . والنزل للراحة والاستقرار . ولكن أصحاب الشمال هذا نزلهم الذي لا راحة فيه ولا قرار هذا نزلهم في اليوم الذي كانوا يشكون فيه ، ويتساءلون عنه ، ولا يصدقون خبر القرآن به . كما كانوا يشركون بالله ولا يخافون وعيده بذلك اليوم المشهود . .
بهذا ينتهي استعراض المصائر والأقدار ، يوم تقع الواقعة . الخافضة الرافعة . وينتهي كذلك الشوط الأول من السورة .
فأما الشوط الثاني في السورة فيستهدف بناء العقيدة بكليتها ، وإن كان التوكيد البارز فيه على قضية البعث والنشأة الأخرى . وفيه تتجلى طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية ، وفي تناول الدلائل الإيمانية ، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر ، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة . .
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة ، قضايا كونية كبرى؛ يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود؛ وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود . كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير ، وحياة للأرواح والقلوب ، ويقظة في المشاعر والحواس . يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها؛ ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة . كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم ، ولا عن مألوف حياتهم ، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم .
. إنه لا يُبعد لهم في فلسفات معقدة ، أو مشكلات عقلية عويصة ، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد . . لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة ، وتصوراً للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة .
إن أنفسهم من صنع الله؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته . والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده . وهذا القرآن قرآنه . ومن يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم . يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم ، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها . لأنهم لطول ألفتهم لها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها . يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها؛ فتطلع على السر الهائل المكنون فيها . سر القدرة المبدعة ، وسر الوحدانية المفردة ، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم؛ والذي يحمل دلائل الإيمان ، وبراهين العقيدة ، فيبثها في كيانهم ، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق .
وعلى هذا المنهج يسير في هذا الشوط من السورة؛ وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم . وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم . وفي الماء الذي يشربون . وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية . نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر . اللحظة التي يواجهها كل أحد ، والتي تنتهي عندها كل حيلة ، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة ، لا محاولة فيها ولا مجال حيث تسقط جميع الأقنعة ، وتبطل جميع التعلات .
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره . . إنه المصدر الذي صدر منه الكون . فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون . فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال ، وأضخم الخلائق . . الذرة يظن أنها مادة بناء الكون ، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة . . والذرة على صغرها معجزة في ذاتها . والخلية على ضآلتها آية في ذاتها . . وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني . . المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل . والزرع . والماء . والنار . والموت . . أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية ، ونشأة نبتة . ومسقط ماء . وموقد نار . ولحظة وفاة؟ . . من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة . . وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية ، وأعظم الأسرار الربانية - بالإضافة إلى الإشارة إلى مواقع النجوم - فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان . وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان :
مواقع النجوم تعني هندسة الكون .
نشأة الحياة الإنسانية . . وهي سر الأسرار .
نشأة الحياة النباتية . . وهي كالحياة الحيوانية معجزة المعجزات .
والماء . . أصل الحياة .
والنار . . المعجزة التي صنعت الحضارة الإنسانية .
هذه الطريقة في تناول الأشياء ، وبناء العقيدة والتفكير ، ليست طريقة البشر . فالبشر حين يخوضون في هذه المجلات لا يلتفتون إلى هذه المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية . وإذا التفتوا إليها لم يتناولوها بهذا اليسر وبهذه البساطة . بل يحاولون وضع المسألة في قالب فلسفي تجريدي معقد لا يصلح إلا لخطاب طبقة خاصة من الناس
أما الله فطريقته هي هذه . . تناول المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية . وبناء العقيدة بها في يسر وسهولة . تماماً كما يصنع - سبحانه - في تناول المواد الأولية التي هي مواد كونية ويصنع منها الكون . .
هذا من ذاك . وعلامة الصنعة واحدة ، واضحة هنا وهناك
{ نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت ، وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون }
إن هذا الأمر أمر النشأة الأولى ونهايتها . أمر الخلق وأمر الموت . إنه أمر منظور ومألوف وواقع في حياة الناس . فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم؟ إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري أو يجادل فيه : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون؟ } . .
{ أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ } . .
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يُمنى رحمَ امرأة . ثم ينقطع عمله وعملها . وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين . تعمل وحدها في خلقه وتنميته ، وبناء هيكله ، ونفخ الروح فيه . ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة ، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله . والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها؛ كما لا يعرفون كيف تقع . بله أن يشاركوا فيها
وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان . وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها . ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى ، إلى أن تصير خلقاً ، قصة أغرب من الخيال . قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلاً ، ويشهد وقوعها كل إنسان
هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر ، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا . كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى؛ لأنها مكلفة أن تنشئ جانباً خاصاً من المخلوق البشري فهذه خلايا عظام . وهذه خلايا عضلات . وهذه خلايا جلد . وهذه خلايا أعصاب . . ثم . . هذه خلايا لعمل عين . وهذه خلايا لعمل لسان . وهذه خلايا لعمل أذن .
وهذه خلايا لعمل غدد . . وهي أكثر تخصصاً من المجموعات السابقة . . وكل منها تعرف مكان عملها ، فلا تخطئ خلايا العين مثلاً ، فتطلع في البطن أو في القدم . مع أنها لو أخذت أخذاً صناعياً فزرعت في البطن مثلاً صنعت هنالك عيناً ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذناً هناك . . إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق ، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال
هذه هي البداية . أما النهاية فلا تقل عنها إعجازاً ولا غرابة . وإن كانت مثلها من مشاهدات البشر المألوفة :
{ نحن قدرنا بينكم الموت ، وما نحن بمسبوقين } . .
هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي . . ما هو؟ وكيف يقع؟ وأي سلطان له لا يقاوم؟
إنه قدر الله . . ومن ثم لا يفلت منه أحد ، ولا يسبقه فيفوته أحد . . وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل . .
{ على أن نبدل أمثالكم } . .
لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم . والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة . قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون ، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا . . فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى :
{ وننشئكم فيما لا تعلمون } . .
في ذلك العالم المغيب المجهول ، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله . وعندئذ تبلغ النشأة تمامها ، وتصل القافلة إلى مقرها .
هذه هي النشأة الآخرة . . { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } . . فهي قريب من قريب . وليس فيها من غريب .
بهذه البساطة وبهذه السهولة يعرض القرآن قصة النشأة الأولى والنشأة الآخرة . وبهذه البساطة وهذه السهولة يقف الفطرة أمام المنطق الذي تعرفه ، ولا تملك أن تجادل فيه . لأنه مأخوذ من بديهياتها هي ، ومن مشاهدات البشر في حياتهم القريبة . بلا تعقيد . ولا تجريد . ولا فلسفة تكد الأذهان ، ولا تبلغ إلى الوجدان . .
إنها طريقة الله . مبدع الكون ، وخالق الإنسان ، ومنزل القرآن . .
ومرة أخرى في بساطة ويسر يأخذ بقلوبهم إلى أمر مألوف لهم ، مكرر في مشاهداتهم ، ليريهم يد الله فيه؛ ويطلعهم على المعجزة التي تقع بين أيديهم ، وعلى مرأى من عيونهم ، وهم عنها غافلون :
{ أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لجعلناه حطاماً ، فظلتم تفكهون : إنا لمغرمون . بل نحن محرومون } . .
هذا الزرع الذي ينبت بين أيديهم وينمو ويؤتي ثماره . ما دورهم فيه؟ إنهم يحرثون ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله . ثم ينتهي دورهم وتأخذ يد القدرة في عملها المعجز الخارق العجيب .
تأخذ الحبة أو البذرة طريقها لإعادة نوعها . تبدؤه وتسير في سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله ، ولا ينحرف عن طريقه ، ولا يضل الهدف المرسوم إن يد القدرة هي التي تتولى خطاها على طول الطريق .
. في الرحلة العجيبة . الرحلة التي ما كان العقل ليصدقها ، وما كان الخيال ليتصورها ، لولا أنها حدثت وتحدث ويراها كل إنسان في صورة من الصور ، ونوع من الأنواع . . وإلا فأي عقل كان يصدق ، وأي خيال كان يتصور أن حبة القمح مثلاً يكمن فيها هذا العود وهذا الورق ، وهذه السنبلة ، وهذا الحب الكثير؟ أو أن النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه؟
أي عقل كان يمكن أن يتطاول به الخيال إلى تصور هذه العجيبة . لولا أنه يراها تقع بين يديه صباح مساء؟ ولولا أن هذه القصة تتكرر على مرأى ومسمع من جميع الناس؟ وأي إنسان يمكنه أن يدعي أنه صنع شيئاً في هذه العجيبة سوى الحرث وإلقاء البذور التي صنعها الله؟
ثم يقول الناس : زرعنا وهم لم يتجاوزوا الحرث وإلقاء البذور . أما القصة العجيبة التي تمثلها كل حبة وكل بذرة . وأما الخارقة التي تنبت من قلبها وتنمو وترتفع فكلها من صنع الخالق الزارع . ولو شاء لم تبدأ رحلتها . ولو شاء لم تتم قصتها . ولو شاء لجعلها حطاماً قبل أن تؤتى ثمارها . وهي بمشيئته تقطع رحلتها ، من البدء إلى الختام
ولو وقع هذا لظل الناس يلونون الحديث وينوعونه يقولون : { إنا لمغرمون } : غارمون { بل نحن محرومون } . . ولكن فضل الله يمنحهم الثمر ، ويسمح للنبتة أن تتم دورتها ، وتكمل رحلتها ، وهي ذاتها الرحلة التي تقوم بها الخلية التي تمنى . . وهي صورة من صور الحياة التي تنشئها القدرة وترعاها .
فماذا في النشأة الأخرى من غرابة . وهذه هي النشأة الأولى؟ . .
{ أفرأيتم الماء الذي تشربون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟ لو نشاء جعلناه أجاجاً . فلولا تشكرون }
وهذا الماء أصل الحياة ، وعنصرها الذي لا تنشأ إلا به كما قدر الله . ما دور الإنسان فيه؟ دوره أنه يشربه . أما الذي أنشأه من عناصره ، وأما الذي أنزله من سحائبه ، فهو الله سبحانه . وهو الذي قدر أن يكون عذباً فكان { لو نشاء جعلناه أجاجاً } . مالحاً لا يستساغ ، ولا ينشئ حياة . فهلا يشكرون فضل الله الذي أجرى مشيئته بما كان؟
والمخاطبون ابتداء بهذا القرآن كان الماء النازل من السحائب ، في صورته المباشرة ، مادة حياتهم ، وموضع احتفالهم ، والحديث الذي يهز نفوسهم ، وقد خلدته قصائدهم وأشعارهم . . ولم تنقص قيمة الماء بتقدم الإنسان الحضاري ، بل لعلها تضاعفت . والذين يشتغلون بالعلم ويحاولون تفسير نشأة الماء الأولى أشد شعوراً بقيمة هذا الحدث من سواهم . فهو مادة اهتمام للبدائي في الصحراء ، وللعالم المشتغل بالأبحاث سواء .
{ أفرأيتم النار التي تورون؟ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين } . .
ولقد كان كشف الإنسان للنار حادثاً عظيماً في حياته . ربما كان أعظم حادث بدأت منه حضارته .
ولكنها أصبحت أمراً مألوفاً لا يثير الاهتمام . . والإنسان يوري النار : أي : يوقدها . ولكن من الذي أنشأ وقودها؟ من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار؟ لقد مر حديث الزرع . والشجر من هذا الزرع . . على أن هناك لفتة أخرى في ذكر { شجرتها } . فمن احتكاك فرع من شجرة بفرع آخر من شجرة أخرى كان العرب يوقدون نارهم . على الطريقة البدائية التي لا تزال مستعملة في البيئات البدائية حتى الآن . فالأمر أظهر وأقرب إلى تجاربهم المعروفة . أما معجزة النار وسرها عند العلماء الباحثين فهو مجال للبحث والنظر والاهتمام . وبمناسبة ذكر النار يلمع السياق إلى نار الآخرة : { نحن جعلناها تذكرة } تذكر بالنار الأخرى . . كما جعلناها { متاعاً للمقوين } . . أي للمسافرين . وكان لهذه الإشارة وقعها العميق في نفوس المخاطبين ، لما تمثله في واقع حياتهم من مدلول حي حاضر في تجاربهم وواقعهم .
وحين يبلغ السياق إلى هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار ، الناطقة بدلائل الإيمان . الميسرة للقلوب والأذهان . يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق . حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته . وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان . فيهيب بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها؛ ويلمس القلوب بها في حينها :
{ فسبح باسم ربك العظيم } . .
ثم يلتفت التفاتة أخرى إلى المكذبين بهذا القرآن؛ فيربط بينه وبين هذا الكون في قسم عظيم من رب العالمين :
{ فلا أقسم بمواقع النجوم - وإنه لقسم لو تعلمون عظيم - إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . تنزيل من رب العالمين } . .
ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل ، الذي يدركونه بعيونهم المجردة . ومن ثم قال لهم : { وإنه لقسم - لو تعلمون - عظيم } . . فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به ، نصيباً أكبر بكثير مما كانوا يعلمون . وإن كنا نحن أيضاً لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم . .
وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة ، المحدودة المناظير ، يقول لنا : إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدوداً . مجموعة واحدة - هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية - تبلغ الف مليون نجم
« ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه . هذه كلها تسبح في الفلك الغامض؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر ، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة .
وهو احتمال بعيد ، وبعيد جداً . إن لم يكن مستحيلاً «
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته ، قد وضع هناك بحكمة وتقدير . وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب ، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل .
فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم ، وهو أكبر كثيراً جداً مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة . وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم
{ فلا أقسم بمواقع النجوم } . . فالأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم . . { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } . . وهذا التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم لأنها ثابتة واضحة . .
{ إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . تنزيل من رب العالمين } . .
إنه لقرآن كريم . وليس كما تدعون قول كاهن ، ولا قول مجنون ، ولا مفترى على الله . من أساطير الأولين . ولا تنزلت به الشياطين . . . إلى آخر هذه الأقاويل . إنما هو قرآن كريم . كريم بمصدره ، وكريم بذاته ، وكريم باتجاهاته .
{ في كتاب مكنون } . . مصون . . وتفسير ذلك في قوله تعالى بعدها : { لا يمسه إلا المطهرون } . . فقد زعم المشركون أن الشياطين تنزلت به . فهذا نفي لهذا الزعم . فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه . إنما تنزل به الملائكة المطهرون . . وهذا الوجه هو أظهر الوجوه في معنى { لا يمسه إلا المطهرون } . ف { لا } هنا نافية لوقوع الفعل . وليست ناهية . وفي الأرض يمس هذا القرآن الطاهر والنجس . والمؤمن والكافر ، فلا يتحقق النفي على هذا الوجه . إنما يتحقق بصرف المعنى إلى تلك الملابسة . ملابسة قولهم : تنزلت به الشياطين . ونفي هذا الزعم إذ لا يمسه في كتابه السماوي المكنون إلا المطهرون . .
ومما يؤيد هذا الاتجاه قوله تعالى بعد هذا : { تنزيل من رب العالمين } . . لا تنزيل من الشياطين
وقد روي حديثان يقرران معنى آخر . وهو أن لا يمس القرآن إلا طاهر . . ولكن ابن كثير قال عنهما : » وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره . ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به . وقد أسنده الدارقطني عن عمرو ابن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص . وفي إسناد كل منهما نظر والله أعلم « .
ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة . . لحظة الموت . . اللمسة التي ترجف لها الأوصال . واللحظة التي تنهي كل جدال . واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق . حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النكوص :
{ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون؟ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون . فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين } . .
أفأنتم شاكون في هذا الحديث الذي يقال لكم عن النشأة الآخرة؛ مكذبون بالقرآن وما يقصه عليكم من شأن الآخرة ، وما يقرره لكم من أمور العقيدة؟ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } .
. فإذا التكذيب هو رزقكم الذي تحصلون عليه في حياتكم وتدخرونه لآخرتكم؟ وما أسوأه من رزق
فماذا أنتم فاعلون إذ تبلغ الحلقوم ، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟
ثم يصور الموقف التصوير القرآني الموحي ، الذي يرسم ظلال الموقف كلها في لمسات سريعة ناطقة بكل ما فيه ، وبكل ما وراءه ، وبكل ما يوحيه .
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } . .
لنكاد نسمع صوت الحشرجة ، ونبصر تقبض الملامح ، ونحس الكرب والضيق من خلال قوله : { فلولا إذا بلغت الحلقوم } . . كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله : { وأنتم حينئذ تنظرون } . .
هنا . في هذه اللحظة . وقد فرغت الروح من أمر الدنيا . وخلفت وراءها الأرض وما فيها . وهي تستقبل عالماً لا عهد لها به ، ولا تملك من أمره شيئاً إلا ما أدخرت من عمل ، وما كسبت من خير أو شر .
هنا . وهي ترى ولا تملك الحديث عما ترى . وقد انفصلت عمن حولها وما حولها . الجسد هو الذي يراه الناظرون . ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئاً .
هنا تقف قدرة البشر ، ويقف علم البشر ، وينتهي مجال البشر .
هنا يعرفون - ولا يجادلون - أنهم عجزة عجزة . قاصرون قاصرون .
هنا يسدل الستار دون الرؤية . ودون المعرفة . ودون الحركة .
هنا تتفرد القدرة الإلهية ، والعلم الإلهي . ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال :
{ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون }
وهنا يجلل الموقف جلال الله ، ورهبة حضوره - سبحانه وتعالى - وهو حاضر في كل وقت . ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر . فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله . فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع .
وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة يجيء التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال :
{ فلولا إن كنتم غير مدينين : ترجعونها إن كنتم صادقين }
فلو كان الأمر كما تقولون : إنه لا حساب ولا جزاء . فأنتم إذن طلقاء غير مدينين ولا محاسبين . فدونكم إذن فلترجعوها - وقد بلغت الحلقوم - لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء . وأنتم حولها تنظرون . وهي ماضية إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون
هنا تسقط كل تعلة . وتنقطع كل حجة . ويبطل كل محال . وينتهي كل جدال . ويثقل ضغط هذه الحقيقة على الكيان البشري ، فلا يصمد له ، إلا وهو يكابر بلا حجة ولا دليل
ثم يمضي السياق في بيان مصير هذه الروح الذي يتراءى لها من بعيد حين تبلغ الحلقوم ، وتستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي يتحقق في ذاتها حقيقة إيمانها . هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله؛ فلا تضن عليها بشيء ، ولا تحتجز دونها شيئاً . . لا الأرواح ولا الأموال؛ ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور . . وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض . موازينها هي موازين الله ، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين . كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله ، فتخشع لذكره ، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه .
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله . بذل النفس وبذل المال : { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وإن الله بكم لرءُوف رحيم . وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ، ولله ميراث السماوات والأرض . لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . وكلاً وعد الله الحسنى . والله بما تعملون خبير }
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون } وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق؛ وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة ، والسباق إلى القيمة الباقية : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يكون حطاماً . وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيآ إلا متاع الغرور : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم } وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة .
فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية ، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم ، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم ، في خلوص نادر ، وتجرد كامل ، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى الله .
.
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة ، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوى الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عندما ظهر الإسلام ، ودخل فيه الناس أفواجاً ، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة ، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله .
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل الله؛ وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال؛ وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها؛ فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها .
وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها ، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب ، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى ، التي تصغر معها كل قيم الأرض ، وتذوب في حرارتها كل عوائقها
كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين ، مختلطة غير متميزة . وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام ، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء؛ مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن . وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم . قيل : ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نوراً . فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم : ألم نكن معكم؟ قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأمانيّ ، حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم . وبئس المصير } . .
وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى . والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان؛ كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا { كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } وهي إشارة إلى اليهود خاصة في الغالب . . وكالإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله : { ثم قفَّينا على آثارهم برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب؛ وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى ، ومن خلوص وتجرد ، ومن بذل وتضحية ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس التي كانت تواجهها - والتي توجد في كل مجتمع إسلامي - على نسق مؤثر ، أشبه ما يكون بنسق السور المكية ، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر
وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير؛ تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه .
فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له ، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة ، وسيطرتها المطلقة على الوجود ، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف ، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور ، واتجاه كل شيء إليها بالعبادة والتسبيح : { سبح لله ما في السماوات والأرض . وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها ، وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور } . .
وهذا المطلع بذاته وبإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزاً . ويوقع فيها الرهبة والخشية والارتعاش ، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص لله والالتجاء إليه ، والتجرد من العوائق والأثقال المعوقة عن تلبية الهتاف إلى الخلاص من الشح بالأنفس والأموال . ولكن سياق السورة تضمن كثيراً من المؤثرات تتخلل ذلك الهتاف وتؤكده في مواضع شتى . كتلك الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة وقيمها إلى جانب قيم الآخرة وما يتم فيها من الأمور الكبار .
كذلك جاءت لمسة أخرى ترد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطرة على الوجود : { مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ . إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم . والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } كي تستقر النفس وتطمئن لما يصيبها من خير أو شر ، وهي في طريقها إلى الله . فلا تطير جزعاً ، ولا تبطر فرحاً ، وهي تواجه الضراء والسراء . ولا تشرك بالله سبباً ولا ظرفاً ولا حادثاً . فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم . ومرد الأمر كله في النهاية إلى الله .
وقد سار سياق السورة في علاج موضوعها في شوطين اثنين أثبتنا أولهما في صدر هذا التقديم . وجاءت فقرات كثيرة من الشوط الثاني في خلاله . وهما مترابطان مطردان . فنكتفي بهذا القدر ، لنسير مع سياق السورة بالتفصيل .
{ سبح لله ما في السماوات والأرض .
وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها ، وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور } . .
هذا المطلع الموحي المختار . وما حشد فيه من خصائص الألوهية الفاعلة المؤثرة المبدعة لكل شيء ، المحيطة بكل شيء ، المهيمنة على كل شيء ، العليمة بكل شيء . وما تعرضه من إبداع اليد القادرة وهي تجول في محيط السماوات والأرض ، وتتلطف إلى خبايا الصدور وطوايا القلوب ، وتشرف من عل على الوجود وما فيه ومن فيه . .
هذا المطلع الموحي المختار يتناول القلوب ، فيهزها هزاً ، ويأخذها أخذاً ، وهو يجول بها في الوجود كله فلا تجد إلا الله ، ولا ترى إلا الله ، ولا تحس بغير الله ، ولا تعلم لها مهرباً من قدرته ولا مخبأ من علمه ، ولا مرجعاً إلا إليه ، ولا متوجهاً إلا لوجهه الكريم :
{ سبح لله ما في السماوات والأرض . وهو العزيز الحكيم } . .
هكذا ينطلق النص القرآني الكريم في مفتتح السورة؛ فتتجاوب أرجاء الوجود كله بالتسبيح لله . ويهينم كل شيء في السماوات والأرض ، فيسمعه كل قلب مفتوح غير محجوب بأحجبة الفناء . ولا حاجة لتأويل النص عن ظاهر مدلوله . فالله يقول . ونحن لا نعلم شيئاً عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه . . ف { سبح لله ما في السماوات والأرض } تعني { سبح لله ما في السماوات والأرض } . . ولا تأويل ولا تعديل ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السماوات والأرض له روح ، يتجه بها إلى خالقه بالتسبيح وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ما وردت به الآثار الصحيحة ، كما تصدقه تجارب بعض القلوب في لحظات صفائها وإشراقها ، واتصالها بالحقيقة الكامنة في الأشياء وراء أشكالها ومظاهرها . .
وقد جاء في القرآن الكريم : { يا جبال أوبي معه والطير } . فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود وجاء في الأثر : أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « إن بمكة حجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت . إني لأعرفه الآن » . وروى الترمذي - بإسناده - عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال : كنت مع رسول الله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول « السلام عليك يا رسول الله » . . وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال :
« خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى لزق جذع . فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة ، فنزل الرسول فمسحه ، فسكن » .
وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية : { ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن . فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولاً من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود .
{ وهو العزيز الحكيم } . . فتسبيح ما في السماوات والأرض له فرع عن العزة الغالبة والحكمة البالغة . فهو المهيمن على كل شيء بقوته ، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته .
وما يكاد القلب البشري يفيق من فيض هذا النص ، ومن مهرجان الوجود المسبح لخالقه في السماوات والأرض ، حتى يعالجه السياق برحلة جديدة في ملكوت السماوات والأرض :
{ له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير } . .
إن كل شيء في السماوات والأرض سبح لله . مالك السماوات والأرض . الذي لا شريك له في ملكه . فهو تسبيح المملوك لمالكه المتفرد ، الذي يحيي ويميت ، فيخلق الحياة ويخلق الموت . ويقدر الحياة لكل حي ويقدر له الموت؛ فلا يكون إلا قدره الذي قضاه .
والحياة ما تزال سراً في طبيعتها ، وسراً في مصدرها؛ ولا يملك أحد أن يقول من أين جاءت ، ولا كيف جاءت فضلاً على أن أحداً لا يدري ما هي على وجه الحقيقة . والنص القرآني يقول : إن الله هو الذي يحيي . الذي يعطي الحياة للأحياء . وما يملك أحد أن ينكر هذا ولا أن يثبت غيره . والموت كالحياة سر مغلف . لا يعرف أحد طبيعته ولا يملك أحد أن يحدثه . لأن أحداً غير واهب الحياة لا يملك سلبها . . وهذا وذلك من مظاهر الملكية المطلقة لله في السماوات والأرض يحيي ويميت . . .
{ وهو على كل شيء قدير } . . إجمالاً بغير حد ولا قيد . فالمشيئة المطلقة تمضي بغير حد ولا قيد . وتتعلق بما تشاء أن تتعلق به كما تشاء . وكل قيد يتصوره العقل البشري بمنطقه هو لهذه المشيئة من أي نوع وأي لون هو تصور باطل ، ناشئ من طبيعة العقل البشري المحدود واختيار المشيئة لنواميس وسنن لهذا الوجود داخل في حقيقة انطلاقها بلا قيود ولا حدود . فهي تختار هذه النواميس والسنن اختياراً طليقاً ، وتعملها في الكون غير مقيدة بها بعد إعمالها ، ولا محصورة في نطاقها .
والاختيار دائم ومطرد وراء هذه السنن والنواميس . .
والقرآن يولي هذه الحقيقة عناية كبيرة ، فينص عليها في كل مناسبة بما يفيد طلاقة المشيئة من كل قيد يرد عليها حتى من عملها هي . لتبقى هذه الحقيقة واضحة ، ويبقى تصورها غير مشوب . فقد وعد الله أهل الجنة بالخلود فيها وأهل النار كذلك . وهذا الوعد صادر من المشيئة . ولكنه أبقى المشيئة طليقة خارج نطاق هذا الوعد ذاته وهو من عملها وباختيارها . فقال عن هؤلاء وهؤلاء : { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك . . } وهكذا في كل موضع وردت فيه مثل هذه المناسبة . ولا مجال لمنطق العقل البشري ولا لمقرراته في هذا المجال . وعليه أن يأخذ مقرراته كلها من هذا القرآن ، لا من معين آخر غير القرآن
ومن ثم يتمثل للقلب البشري من خلال هذه الآية سلطان الله المطلق في ملكه الذي لا شريك له فيه ، والذي يتوجه إليه سبحانه بالتسبيح وحق له أن يتوجه ، وحق عليه أن يسبح .
وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض ، حتى تطالعة حقيقة أخرى ، لعلها أضخم وأقوى . حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة . فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء ، عليمة بكل شيء :
{ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } . .
الأول فليس قبله شيء . والآخر فليس بعده شيء . والظاهر فليس فوقه شيء . والباطن فليس دونه شيء .
الأول والآخر مستغرقاً كل حقيقة الزمان ، والظاهر والباطن مستغرقاً كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان . ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه . حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمداً من وجود الله . فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود . .
{ وهو بكل شيء عليم } . . علم الحقيقة الكاملة . فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها . فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها . العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته . مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء
فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه؟ وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى؟ وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء؟
وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة .
فأما قبل أن يصل الى هذا الاستقرار ، فإن هذه الآية القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها ، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد وكفى
ولقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ، بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله فلم ير شيئاً غيره في الوجود . . وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال . إلا أن ما يؤخذ عليها - على وجه الإجمال - هو أنهم أهملوا الحياة بهذا التصور . والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها ، بينما هو يقوم بالخلافة في الأرض بكل مقتضيات الخلافة من احتفال وعناية وجهاد وجهد لتحقيق منهج الله في الأرض ، باعتبار هذا كله ثمرة لتصور تلك الحقيقة تصوراً متزناً ، متناسقاً مع فطرة الإنسان وفطرة الكون كما خلقهما الله .
وبعد إطلاق تلك الحقيقة الكبرى جعل يذكر كيف انبثقت منها حقائق الوجود الأخرى :
{ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة ايام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وهو معكم أين ما كنتم . والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض ، وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور } . .
حقيقة خلق السماوات والأرض . وحقيقة الإستواء على العرش ، والهيمنة على الخلق . وحقيقة العلم بأشياء بعينها من هذا الخلق . وحقيقة الوجود مع كل أحد أينما وجد . وحقيقة رجعة الأمور إليه وحده . وحقيقة تصرفه اللطيف في كيان الوجود ، وعلمه الخفي بذات الصدور . .
وكلها حقائق منبثقة عن تلك الحقيقة الأولى . . ولكن عرضها في هذا المجال الكوني يجعل لها في القلب البشري إيقاعات وظلالاً . . والسماوات والأرض تواجه هذا القلب وتروعه بضخامتها وجلالها ، وتناسقها وجمالها ، كما تواجهه وتروعه بدقة نظامها وانضباط حركاتها ، واطراد ظواهرها . ثم إنها خلائق من خلق الله كالقلب البشري . فله بها صلة الأسرة وأنس القرابة . وهي توقع على أوتاره إيقاعات لدنية حين يتوجه إليها ، ويسمع لها ، ويعاطفها وهي تقول له : إن الذي خلقها هو الذي خلقه . وهي تسبح لخالقها فليسبح لخالقه كما تقول له : إنها تستمد حقيقة وجودها من وجود خالقها وأنه هو كذلك . فليس هنالك إذن إلا هذه الحقيقة تستحق الاحتفال بها
والأيام الستة لا يعلم حقيقتها إلا الله . فأيامنا هذه ليست سوى ظلال ناشئة عن حركة الأرض حول نفسها أمام الشمس . وجدت بعد خلق الأرض والشمس فليست هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض .
فنترك علمها لله يطلعنا عليه إن أراد .
وكذلك العرش . فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته . أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق . استناداً إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله - سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش ، ثم تتبعها حالة استواء . والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى : { ثم استوى } . . والأولى أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا . والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفاً لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا . إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته ، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته .
ومع الخلق والهيمنة العلم الشامل اللطيف ، يصور النص القرآني مجاله تصويراً عجيباً يشغل القلب بتتبعه في هذا المجال الوسيع وبتصوره في حركة دائمة لا تفتر . وهذا أمر غير مجرد ذكر العلم وحقيقته المجردة . أمر مؤثر موح يملأ جوانب النفس ، ويشغل خوالج القلب ، وتترامى به سبحات التصور ووثبات الخيال :
{ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } . .
وفي كل لحظة يلج في الأرض ما لا عداد له ولا حصر من شتى الأحياء والأشياء؛ ويخرج منها ما لا عداد ولا حصر من خلائق لا يعلمها إلا الله . وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والنيازك والشهب ، والملائكة والأقدار والأسرار؛ ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور ما لا يحصيه إلا الله . . والنص القصير يشير إلى هذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع ، وإلى هذه الأحداث الضخام التي لا تحصى؛ ويدع القلب البشري في تلفت دائم إلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وفي تصور يقظ لعلم الله الشامل وهو يتبع هذه الحركات والأحداث ، في مساربها ومعارجها .
والقلب في تلفته ذاك وفي يقظته هذه يعيش مع الله ، ويسيح في ملكوته بينما هو ثاوٍ في مكانه؛ ويسلك فجاج الكون ويجوب أقطار الوجود في حساسية وفي شفافية ، وفي رعشة من الروعة والانفعال .
وبينما القلب في تلفته ذاك في الأرض والسماء ، إذا القرآن يرده إلى ذاته ، ويلمسه في صميمه . وإذا هو يجد الله معه ، ناظراً إليه ، مطلعاً عليه ، بصيراً بعمله قريباً جد قريب :
{ وهو معكم أين ما كنتم ، والله بما تعملون بصير } . .
وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز . فالله - سبحانه - مع كل أحد ، ومع كل شيء ، في كل وقت ، وفي كل مكان ، مطلع على ما يعمل بصير بالعباد .
وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب . حقيقة مذهلة من جانب ، ومؤنسة من جانب . مذهلة بروعة الجلال . ومؤنسة بظلال القربى . وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره ، وتدعه مشغولاً بها عن كل أعراض الأرض؛ كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة ، مع الحياة والتحرج من كل دنس ومن كل إسفاف .
ومرة أخرى يعود إلى ملكية السماوات والأرض في مجال آخر غير الذي وردت فيه أول مرة :
{ له ملك السماوات والأرض . وإلى الله ترجع الأمور } . .
ففي المرة الأولى جاء ذكرها في معرض الإحياء والإماتة والقدرة المطلقة . وهنا يجيء ذكرها في معرض رجعة الأمور كلها إلى الله . وهي متصلة بملكية الله للسماوات والأرض ومكملة لحقيقتها .
والشعور بهذه الحقيقة يحرس القلب من كل لفتة لغير الله في أي أمر . في أول الأمر وفي آخره . ويحميه من التطلع لغير الله في أي طلب ، ومراقبة غير الله في أي عمل . ويقيمه على الطريق إلى الله في سره وعلنه ، وحركته وسكونه ، وخوالجه ونجواه . وهو يعلم أن لا مهرب من الله إلا اليه ، ولا ملجأ منه الا الى حماه
وينتهي هذا المطلع بحركة لطيفة من حركات القدرة في مجال الكون ، وفي أطواء الضمير :
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل . وهو عليم بذات الصدور } . . .
ودخول الليل في النهار ، ودخول النهار في الليل ، حركة دائبة ، وهي في الوقت ذاته حركة لطيفة سواء كان المعنى طول الليل وأخذه من النهار ، وطول النهار وأخذه من الليل؛ أو كان المعنى مجرد تداخل الليل في النهار عند الغروب ، وتداخل النهار في النهار في الليل عند الشروق . . ومثل هذه الحركة في خفائها ولطفها ، حركة العلم بذات الصدور . وذات الصدور هي الأسرار المصاحبة لها . التي لا تفارقها ولا تبرحها
والشعور بيد الله تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ، في لطف؛ ينشيء في القلب حالة من التأمل الرفيق ، والحساسية الشفيفة . كالشعور بعلم الله يتلطف في الاطلاع على ذات الصدور ، الساكنة في خبايا الصدور
هذا المطلع بإيقاعاته تلك ، يدع القلوب في حساسية مرهفة للتلقي . ومن ثم يجيء الهتاف لها بالإيمان والبذل في أنسب أوان . وقد تفتحت مداخلها ، وتوفزت مشاعرها واستعدت للاستماع . وهنا يجيء ذلك الهتاف في المقطع التالي في السياق . ولكنه لا يجيء مجرداً . إنما يجيء ومعه مؤثراته وإيقاعاته ولمساته :
{ آمنوا بالله ورسوله ، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير . وما لكم لا تؤمنون بالله ، والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ، وقد أخذ ميثاقكم؟ إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم .
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض؟ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى ، والله بما تعملون خبير } . .
إن الله - سبحانه- يخاطب القلوب التي خلقها ، فهو يعلم أحوالها ، ويعرف مداخلها ، ويطلع على خوافيها . . وهو يعلم أن نقاء العقيدة ، وخلوص القلب واستقرار حقيقة الإيمان استقراراً تنبثق منه آثاره ونتائجه في واقع الحياة ، من بذل وتضحية وتقدمه خالصة لله . أن هذا أمر يكلف الطاقة البشرية كثيراً؛ ويحتاج منها إلى جهد ومجاهدة طويلة . ومن ثم يحشد لها هذه الإيقاعات وهذه المؤثرات؛ ويكشف لها عن الحقائق الكونية لتراها وتتأثر بها ، وتزن كل شيء بميزانها الكبير الدقيق . ويعالجها المرة بعد المرة ، والخطوة بعد الخطوة؛
ولا يكلها إلى هتاف واحد ، أو بيان واحد ، أو مؤثر واحد يوقع على أوتارها ثم يغيب . . ومنهج القرآن الإلهي في علاج القلوب جدير بأن يقف الدعاة إلى الله أمامه طويلاً؛ ليتدبروه ويحاولوا أن يقلدوه
إن الإيقاعات الأولى في مطلع السورة من القوة والتوالي والعمق والتاثير ، بحيث تزلزل القلوب الجامدة ، وتلين القلوب القاسية وتدعها مرهفة الحساسية . ولكن القرآن لا يكل قلوب المخاطبين إلى هذه اللمسات الأولى ، وهو يدعوهم إلى الإيمان والبذل في الفقرة التالية . { آمنوا بالله ورسوله ، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } . .
والمخاطبون هنا هم مسلمون ، ولكنهم يُدعون إلى الإيمان بالله ورسوله . فهي إذن حقيقة الإيمان يدعون لتحقيقها في قلوبهم بمعناها . وهي لفتة دقيقة . وهم يُدعون إلى الإنفاق ، ومع الدعوة لمسة موحية . فهم لا ينفقون من عند أنفسهم . إنما ينفقون مما استخلفهم الله فيه من ملكه . وهو الذي { له ملك السماوات والأرض } . . فهو الذي استخلف بني آدم جملة في شيء من ملكه . وهو { يحي ويميت } . . فهو الذي استخلف جيلا ًمنهم بعد جيل .
وهكذا ترتبط هذه الإشارة بما سبق من الحقائق الكلية في مطلع السورة . ثم تقوم هي بدورها في استثارة الخجل والحياء من الله ، وهو المالك الذي استخلفهم وأعطاهم ، فماذا هم قائلون حين يدعوهم إلى إنفاق شيء مما استخلفهم فيه ومما أعطاهم؟ وفي نهنهة النفوس عن الشح ، والله هو المعطي ولا نفاد لما عنده فماذا يمسكهم عن البذل والعطاء ، وما في أيديهم رهن بعطاء الله؟
ولكنه لا يكلهم إلى هذا التذكير وما يثيره من خجل وحياء ، ومن سماحة ورجاء . إنما يخاطبهم بمؤثر جديد . يخجلهم من كرم الله ويطمعهم في فضله :
{ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } . .
فكيف يتخلف متخلف عن الإيمان والبذل في مواجهة هذا الكرم والفضل؟
غير أن القرآن لا يكلهم إلى هذه اللمسات الأولى .
إنما يلح على قلوبهم بموحيات الإيمان وموجباته من واقع حياتهم وملابساتها :
{ وما لكم لا تؤمنون بالله ، والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ، وقد أخذ ميثاقكم ، إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور . وإن الله بكم لرؤوف رحيم } . .
فما الذي يعوقهم عن الإيمان - حق الإيمان - وفيهم الرسول يدعوهم إلى الإيمان . وقد بايعوه عليه وأعطوه ميثاقهم؟ وما الذي يعوقهم عن الإيمان بالله وهو ينزل على عبده آيات بينات تخرجهم من ظلمات الضلال والشك والحيرة إلى نور الهدى واليقين والطمأنينة؟ وفي هذا وذاك من دلائل الرأفة والرحمة بهم ما فيه .
إن نعمة وجود الرسول بين القوم ، يدعوهم بلغة السماء ، ويخاطبهم بكلام الله ، ويصل بينهم وبين الله في ذوات نفوسهم وخواص شؤونهم . . نعمة فوق التصور حين نتملاها نحن الآن من بعيد . . فهذه الفترة - فترة الوحي وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فترة عجيبة حقاً . . إن الله - جل جلاله - يخاطب هذا البشر من صنع يديه ، على لسان عبده - صلى الله عليه وسلم - وفي رحمة علوية ندية يقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك ها هو ذا طريقي فاسلكوه لقد تعثرت خطاكم فهاكم حبلي لقد أخطأتم وأثمتم فتوبوا وها هو ذا بابي مفتوح . تعالوا ولا تشردوا بعيداً ، ولا تقنطوا من رحمتي التي وسعت كل شيء . . وأنت يا فلان - بذاتك وشخصك - قلت كذا . وهو خطأ . ونويت كذا . وهو إثم . وفعلت كذا وهي خطيئة . . فتعال هنا قدامي وتطهر وتب وعد إلى حماي . . وأنت يا فلان - بذاتك وشخصك - أمرك الذي يعضلك هذا حله . وسؤالك الذي يشغلك هذا جوابه . وعملك الذي عملت هذا وزنه
إنه الله . هو الذي يقول . يقول لهؤلاء المخاليق . وهم يعيشون معه . يحسون أنه معهم . حقيقة وواقعاً . أنه يستمع إلى شكواهم في جنح الليل ويستجيب لها . وأنه يرعاهم في كل خطوة ويعنى بها . .
ألا إنه لأمر فوق ما يطيق الذي لم يعش هذه الفترة أن يتصور . ولكن هؤلاء المخاطبين بهذه الآيات عاشوها فعلاً . . ثم احتاجوا إلى مثل هذا العلاج ومثل هذه اللمسات ، ومثل هذا التذكير . . وهو فضل من الله ورحمة فوق فضله ذاك ورحمته . يدركهما ويشعر بهما من لم تقدر له الحياة في هذه الفترة العجيبة :
ورد في صحيح البخاري أن « رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً لأصحابه أي المؤمنين أعجب عليكم؟ قالوا الملائكة . قال » وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ « قالوا : فالانبياء . قال » وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ « قالوا فنحن . قال وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها » .
وصدق رسول الله . إنه لأمر متفاوت . وإن موحيات الإيمان وموجباته لديهم لشيء هائل ، هائل ، عجيب عجيب . وهو يعجب : ما لهم لا يؤمنون؟ ثم يطلب إليهم تحقيق الإيمان في نفوسهم إن كانوا مؤمنين
ثم ينتقل بهم من موحيات الإيمان وموجباته إلى موحيات الإنفاق وموجباته في توكيد وتكرير :
{ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض } . .
وفي هذه الإشارة عودة إلى حقيقة : { له ملك السماوات والأرض والى الله ترجع الأمور } . . فميراث السماوات والأرض ملكه وراجع إليه ، وما استخلفوا فيه إذن سيؤول اليه في الميراث فما لهم لا ينفقون في سبيله حين يدعوهم الى الإنفاق . وهو استخلفهم فيه كما قال لهم هناك . وكله عائد إليه كما يقول لهم هنا؟ وما الذي يبقى من دواعي الشح وهواتف البخل أمام هذه الحقائق في هذا الخطاب؟
ولقد بذلت الحفنة المصطفاة من السابقين ، من المهاجرين والأنصار ، ما وسعها من النفس والمال ، في ساعة العسرة وفترة الشدة - قبل الفتح - فتح مكة أو فتح الحديبية وكلاهما اعتز به الإسلام أيام أن كان الإسلام غريباً محاصراً من كل جانب ، مطارداً من كل عدو ، قليل الأنصار والأعوان . وكان هذا البذل خالصاً لا تشوبه شائبة من طمع في عوض من الأرض ، ولا من رياء أمام كثرة غالبة من أهل الإسلام . كان بذلاً منبثقاً عن خيرة اختاروها عند الله؛ وعن حمية لهذه العقيدة التي اعتنقوها وآثروها على كل شيء وعلى أرواحهم وأموالهم جميعاً . . ولكن ما بذلوه - من ناحية الكم - كان قليلاً بالقياس إلى ما أصبح الذين جاءوا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه . فكان بعض هؤلاء يقف ببذله عند القدر الذي يعرف ويسمع أن بعض السابقين بذلوه هنا نزل القرآن ليزن بميزان الحق بذل هؤلاء وبذل أولئك ، وليقرر أن الكم ليس هو الذي يرجح في الميزان؛ ولكنه الباعث وما يمثله من حقيقة الإيمان :
{ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل . أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } . .
إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة ، والأنصار قلة ، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء . غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة ، والأنصار كثرة ، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال . ذلك متعلق مباشرة بالله ، متجرد تجرداً كاملاً لا شبهة فيه ، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده ، بعيد عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب . لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته . وهذا له على الخير أنصار حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد الأولين .
قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زهير ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال :
« كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد - -أو مثل الجبال - ذهبا ما بلغتم أعمالهم » .
وفي الصحيح : « لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه » .
وبعد أن قرر القيم الحقيقية في ميزان الله لهؤلاء ولهؤلاء عاد فقرر أن للجميع الحسنى :
{ وكلاً وعد الله الحسنى } . .
فقد أحسنوا جميعاً ، على تفاوت ما بينهم في الدرجات .
ومرد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم ، وما وراء أعمالهم من عزائمهم ونواياهم . وخبرته تعالى بحقيقة ما يعملون :
{ والله بما تعملون خبير } . .
وهي لمسة موقظة للقلوب ، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة ، وهي التي تناط بها القيم ، وترجح بها الموازين . .
ثم مرحلة أخرى في استجاشة القلوب للإيمان والبذل ، ومؤثرات أخرى وراء تلك المؤثرات :
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم؟ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً . فضرب بينهم بسورٍ له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . ينادونهم : ألم نكن معكم؟ قالوا : بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم ، وتربصتم ، وارتبتم ، وغرتكم الأمانيّ ، حتى جاء أمر الله ، وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم ، وبئس المصير } . .
إنه هتاف موح مؤثر آسر . وهو يقول للعباد الفقراء المحاويج : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً؟ } . . ومجرد تصور المسلم أنه هو الفقير الضئيل يقرض ربه ، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيراناً إن الناس ليتسابقون عادة الى إقراض الثري الملىء منهم -وهم كلهم فقراء- لأن السداد مضمون . ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري المليء فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد؟ ولا يكلهم - سبحانه - إلى هذا الشعور وحده ، ولكن يعدهم على القرض الحسن ، الخالص له ، المجرد من كل تلفت إلى سواه . يعدهم عليه الضعف في المقدار ، والأجر الكريم بعد ذلك من عند الله : { فيضاعفه له ، وله أجر كريم } .
ثم يعرض لهم صفحة وضيئة من ذلك الأجر الكريم ، في مشهد من مشاهد اليوم الذي يكون فيه ذلك الأجر الكريم .
والمشهد هنا بإجماله وتفصيله جديد - بين المشاهد القرآنية - وهو من المشاهد التي يحييها الحوار بعد أن ترسم صورتها المتحركة رسماً قوياً .
فنحن الذين نقرأ القرآن اللحظة نشهد مشهداً عجيباً . هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم . ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعاً لطيفاً هادئاً . ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم . فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت وأشعت نوراً يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها . . إنه النور الذي أخرجها الله اليه وبه من الظلمات . والذي أشرق في أرواحها فغلب على طينتها . أم لعله النور الذي خلق الله منه هذا الكون وما فيه ومن فيه ، ظهر بحقيقته في هذه المجموعة التي حققت في ذواتها حقيقتها ثم ها نحن أولاء نسمع ما يوجه إلى المؤمنين والمؤمنات من تكريم وتبشير { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ذلك هو الفوز العظيم } . .
ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم } . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام؟ إن صوتاً مجهلاً يناديهم : { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور
وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت . فها هم أولاء المنافقون ينادون المؤمنين { ألم نكن معكم؟ } . . فما بالنا نفترق عنكم؟ ألم نكن معكم في الدنيا نعيش في صعيد واحد؟ وقد بعثنا معكم هنا في صعيد واحد؟ { قالوا : بلى } كان الأمر كذلك . { ولكنكم فتنتم أنفسكم } . . فصرفتموها عن الهدى . { وتربصتم } . . فلم تعزموا ولم تختاروا الخيرة الحاسمة . { وارتبتم } . . فلم يكن لكم من اليقين ما تعزمون به العزمة الأخيرة . { وغرتكم الأمانيّ } . الباطلة في أن تنجوا وتربحوا بالذبذبة وإمساك العصا من طرفيها { حتى جاء أمر الله } . . وانتهى الأمر . { وغركم بالله الغرور } . . وهو الشيطان الذي كان يطمعكم ويمنيكم .
ثم يستطرد المؤمنون في التذكير والتقرير ، كأنما هم أصحاب الموقف المحكومون فيه :
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } أم لعلها كلمة الملأ الأعلى ، أو نطق الله الكريم .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
هذا الشوط امتداد لموضوع السورة الرئيسي : تحقيق حقيقة الإيمان في النفس ، حتى ينبثق عنها البذل الخالص في سبيل الله . وفيه من موحيات الإيمان ، ومن الإيقاعات المؤثرة ، قريب مما اشتمل عليه الشوط الأول ، بعد ذلك المطلع العميق المثير .
وهو يبدأ برنة عتاب من الله - سبحانه - للمؤمنين ، الذين لم يصلوا الى تلك المرتبة التي يريدها الله لهم؛ وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب وفسق في الأعمال ، وتحذير من هذا المآل ، الذي انتهى إليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم . مع إطماعهم في عون الله الذي يحيي القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها .
فإذا انتهت هذه اللمسة تبعتها لمسة أخرى - مجالها العالم الآخر - وتكررت الدعوة إلى إقراض الله قرضاً حسناً ، مع بيان ما أعده الله لمن يقرضونه في الدنيا من العوض المضاعف والأجر الكريم . . على نحو مما جاء في الشوط الأول .
ولمسة ثالثة بوضع قيم الدنيا كلها في ميزان الله إلى جانب قيم الآخرة . . حيث تبدو قيم الأرض لُعباً خفيفة الوزن؛ وترجح كفة الآخرة ويبدو فيها الجد الذي يستحق الأهتمام .
ومن ثم يهتف بهم ليسابقوا إلى قيم الآخرة . . في جنة عرضها كعرض السماء والأرض . أعدت للذين آمنوا بالله ورسله .
ولمسة رابعة ترجع بهم من ساحة الآخرة إلى ما هم فيه من واقع الحياة وأحداثها ، فتعلق قلوبهم بقدر الله فيها . في السراء والضراء سواء . ومن ثم يهون عليهم البذل . ولا يزدهيهم من أعراض الأرض شيء؛ وترتبط أحاسيسهم كلها بالسماء .
وبعد ذلك يعرض عليهم طرفاًً من تاريخ دعوة الله في الأرض ، تبدو فيه وحدة المنهج ، واستقامة الطريق . وأن الذي يحيد عنه في كل عهد هم الفاسقون . ويلوح لهم بما كان من بعض أهل الكتاب كما لوح لهم في أول الشوط . لينتهي من هذا الهتاف الأخير لهم بتقوى الله والإيمان برسوله ، ليؤتيهم كفلين من رحمته ، ويجعل لهم نوراً يمشون به ويغفر لهم . ففضل الله ليس وقفاً على أهل الكتاب كما يزعمون . إنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء { والله ذو الفضل العظيم } . .
وهكذا تكون السورة من أولها إلى آخرها مترابطة الحلقات ، في خط واحد ثابت ، تتوالى إيقاعاتها على القلوب ، منوعة ومتشابهة . فيها من التكرار القدر اللازم لتعميق أثر الإيقاع في القلب ، وطرقه وهو ساخن بحرارة الإيقاع بعد الإيقاع .
{ ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق؟ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها . قد بيَّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون } .
.
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم؛ واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله؛ فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها ، ونزّل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور؛ وأراها من الآيات في الكون والخلق ما يبصّر ويحذّر .
عتاب فيه الود ، وفيه الحض ، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله ، والخشوع لذكره ، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام ، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال :
{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق؟ } . .
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة ، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء ، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله ، وحين لا تخشع للحق :
{ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون } . .
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج .
إن هذا القلب البشري سريع التقلب ، سريع النسيان . وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ، ويرف كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقساً . وانطمست إشراقته ، وأظلم وأعتم فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع ، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة .
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد . فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة ، وأن يشرق فيه النور ، وأن يخشع لذكر الله . فالله يحيي الأرض بعد موتها ، فتنبض بالحياة ، وتزخر بالنبت والزهر ، وتمنح الأكل والثمار . . كذلك القلوب حين يشاء الله :
{ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } . .
وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض؛ وما يمدها بالغذاء والري والدفء . .
{ قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون } . .
ويتبع هذه اللمسة المحيية ، وذلك العتاب المخجل ، وذاك التذكير والتحذير ، بحافز جديد للبذل والفداء :
{ إن المصدقين والمصدقات ، وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، يضاعف لهم ولهم أجر كريم . والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ، والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم؛ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
إن المصدقين والمتصدقات لا يتفضلون على آخذي الصدقات ، ولا يتعاملون في هذا مع الناس . إنما هم يقرضون الله ويتعاملون مباشرة معه . فأي حافز للصدقة أوقع وأعمق من شعور المعطي بأنه يقرض الغني الحميد ، وأنه يتعامل مع مالك الوجود؟ وأن ما ينفقه مخلف عليه مضاعفاً؛ وأن له بعد ذلك كله أجراً كريماً؟
ومقام الصديقين مقام رفيع كما تصوره الأحاديث النبوية الشريفة . ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراده ، وليس وقفاً على أفراد ولا على طائفة .
فكل من يحقق إيمانه بالله ورسله يطمع في هذا المقام الرفيع ، ولا حجر على فضل الله :
{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } . .
وتلك خاصية هذا الدين وميزته . إنه طريق مفتوح لجميع البشر ، وأفق يتطلع إليه الجميع ، ليس فيه احتكار للمقامات ، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم . وليس إلا العمل يصعد بصاحبه الى أرقى الدرجات . إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام
روى الإمام مالك في كتابه « الموطأ » عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم . . قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم . قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » .
فهذه لمسة الإيمان . فأما لمسة الفداء فقوله بعد ذلك :
{ والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } . .
والحديث عن مقام الشهداء ورد مرات في القرآن ، وتواترت به الأحاديث النبوية . فهذا الدين لا يقوم بغير حراسة؛ ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد . جهاد لتأمين العقيدة وتأمين الدعوة وحماية أهله من الفتنة وشريعته من الفساد . ومن ثم كان للشهداء في سبيل الله - وهم وحدهم الذين يسمون شهداء - مقامهم ، وكان لهم قربهم من ربهم . القرب الذي يعبر عنه بأنهم { عند ربهم } . .
جاء في الصحيحين : « أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل . فاطلع عليهم ربهم اطلاعة ، فقال : ماذا تريدون فقالوا : نحب أن تردنا الى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة . فقال : إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون » .
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء - إلا الشهيد - يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة » .
وكذلك كانت تهون الحياة على من يسمع هذه الموحيات ، ويعرف مقام الشهادة عن الله . . روى الإمام مالك . . عن يحيى بن سعيد « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الجهاد وذكر الجنة ، ورجل من الأنصار يأكل تمرات في يده . فقال : » إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن فرمى ما في يده وحمل بسيفه حتى قتل « .
. وقد روي أن هذا كان هو عبير بن الحمام عليه رضوان الله .
وبينما الصديقون في ذلك المقام والشهداء في هذا المقام يقول النص القرآني عن الكافرين المكذبين :
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
فمن ذا الذي يترك الكرامة والنعيم ، ويختار أن يكون من أصحاب الجحيم؟
واللمسة الثالثة في هذا الشوط تجيء تعقيباً على دعوة الإيمان والبذل ، ودعوة الفداء والتضحية . تعقيباً يصور الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تهّون من شأنها وترفع النفوس عنها ، وتعلقها بالآخرة وقيمها :
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، وتفاخر بينكم ، وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يكون حطاماً . وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } . .
والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمراً عظيماً هائلاً . ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئاً زهيداً تافهاً . وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة
لعب . ولهو . وزينة . وتفاخر . وتكاثر . . . هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جد حافل واهتمام شاغل . . ثم يمضي يضرب لها مثلاً مصوراً على طريقة القرآن المبدعة . . { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } . . والكفار هنا هم الزراع . فالكافر في اللغة هو الزارع ، يكفر أي يحجب الحبة ويغطيها في التراب . ولكن اختياره هنا فيه تورية وإلماع إلى إعجاب الكفار بالحياة الدنيا { ثم يهيج فتراه مصفراً } للحصاد . فهو موقوت الأجل ، ينتهي عاجلاً ، ويبلغ أجله قريباً { ثم يكون حطاماً } . . وينتهي شريط الحياة كلها بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة . . ينتهي بمشهد الحطام
فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن ، شأن يستحق أن يحسب حسابه ، وينظر إليه ، ويستعد له : { وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان } فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا . وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله . . إنها حساب وجزاء . . ودوام . . يستحق الاهتمام
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } . .
فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية ، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع؛ كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله إلى غرور خادع .
وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة . حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض ، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري . إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية ، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض . هذا الاستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم . والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة ، ليحقق عقيدته؛ ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذة الحياة الدنيا جميعاً .
ومن ثم يدعوهم إلى السباق في ميدان السباق الحقيقي ، للغاية التي تستحق السباق . الغاية التي تنتهي إليها مصائرهم ، والتي تلازمهم بعد ذلك في عالم البقاء :
{ سابقوا الى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم } . .
فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق ، وتركوا عالم اللهو واللعب للأطفال والصغار إنما السباق إلى ذلك الأفق ، وإلى ذلك الهدف ، وإلى ذلك الملك العريض : { جنة عرضها كعرض السماء والأرض } . .
وربما كان بعضهم في الزمن الخالي - قبل أن تكشف بعض الحقائق عن سعة هذا الكون - يميل إلى حمل مثل هذه الآية على المجاز ، وكذلك حمل بعض الأحاديث النبوية . كذلك الحديث الذي أسلفنا عن أصحاب الغرف التي يتراءاها سكان الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب . . فأما اليوم ومراصد البشر الصغيرة تكشف عن الأبعاد الكونية الهائلة التي ليس لها حدود ، فإن الحديث عن عرض الجنة ، والحديث عن تراءي الغرف من بعيد ، يقع قطعاً موقع الحقيقة القريبة البسيطة المشهودة ، ولا يحتاج إلى حمله على المجاز إطلاقاً فإن ما بين الأرض والشمس مثلاً لا يبلغ أن يكون شيئاً في أبعاد الكون يقاس
وذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد ، ويسابق إليه كل من يشاء . وعربونه : الأيمان بالله ورسله . { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } . . { والله ذو الفضل العظيم } . . وفضل الله غير محجوز ولا محجور . فهو مباح متاح للراغبين والسابقين . وفي هذا فليتسابق المتسابقون ، لا في رقعة الأرض المحدودة الأجل المحدودة الأركان
ولا بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير؛ ولا يحصر نفسه ونظره وتصوره واهتمامه ومشاعره في عالم الأرض الضيق الصغير . . لا بد له من هذا ليؤدي دوره اللائق بصاحب العقيدة . هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم ، كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس . ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الأرض ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة ، وأوسع من هذه الأرض ، وأبقى من ذلك الفناء . .
إن مقاييس هذه الأرض وموازينها لا تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب العقيدة . وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إلا بقدر ما يبلغ حجم الأرض بالقياس إلى حجم الكون؛ وما يبلغ عمر الأرض بالقياس إلى الأزل والأبد . والفارق هائل هائل لا تبلغ مقاييس الأرض كلها أن تحدده ولا حتى أن تشير إليه
ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعلياً على واقع الأرض الصغير .
مهما تضخم هذا الواقع وامتد واستطال . يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا الوقع الصغير . ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الأزل والأبد . وفي ملك الآخرة الواسع العريض . وفي القيم الإيمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة . . وتلك وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها ، لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها . . .
ثم تجيء اللمسة الرابعة في إيقاع عميق ، عن قدر الله ، الذي لا يكون سواه :
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
أن هذا الوجود من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدر من قبل في تصميمه ، محسوب حسابه في كيانه . . لا مكان فيه للمصادفة . ولا شيء فيه جزاف . وقبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور . . وفي علم الله لا شيء ماض ، ولا شيء حاضر ، ولا شيء قادم . فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا - نحن أبناء الفناء - نرى بها حدود الأشياء . فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها . حدود من الزمان وحدود من المكان . نحن لا نملك إدراك المطلق إلا في ومضات تتصل فيها أرواحنا بذلك المطلق ، عن طريق غير الطريق الذي اعتدناه في إدراك الأشياء . فأما الله - سبحانه - فهو الحقيقة المطلقة التي تطلع جملة على هذا الوجود ، بلا حدود ولا قيود . وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته كائن في علم الله جملة لا حدود فيها ولا فواصل من زمان أو مكان . ولكل حادث موضعه في تصميمه الكلي المكشوف لعلم الله . فكل مصيبة - من خير أو شر فاللفظ على إطلاقه اللغوي لا يختص بخير ولا بشر - تقع في الأرض كلها وفي أنفس البشر أو المخاطبين منهم يومها . . هي في ذلك الكتاب الأزلي من قبل ظهور الأرض وظهور الأنفس في صورتها التي ظهرت بها . . { إن ذلك على الله يسير } . .
وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى . قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها . فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعاً وتذهب معه حسرات عند الضراء . ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء :
{ لكي لا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم } .
.
فاتساع أفق النظر ، والتامل مع الوجود الكبير ، وتصور الأزل والأبد ، ورؤية الأحداث في مواضعها المقدرة في علم الله ، الثابتة في تصميم هذا الكون . . كل أولئك يجعل النفس أفسح وأكبر وأكثر ثباتاً ورزانة في مواجهة الأحداث العابرة . حين تتكشف للوجود الإنساني وهي مارة به في حركة الوجود الكوني .
إن الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود . ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير . فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به ، وتمر بغيره ، والأرض كلها . . ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود . . وأن هذه الذرات كائنة في موضعها في التصميم الكامل الدقيق . لازم بعضها لبعض . وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون . . حين يستقر هذا في تصوره وشعوره ، فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء . فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله ، ولا يفرح بحاصل فرحاً يستخفه ويذهله . ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضى . رضى العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون
وهذه درجة قد لا يستطيعها الا القليلون . فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء ، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه الى الله ، وذكره بهذه وبتلك ، والاعتدال في الفرح والحزن . قال عكرمه - رضي الله عنه - « ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً » . . وهذا هو اعتدال الإسلام الميسر للأسوياء . .
{ والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } . .
ووجه الصلة بين الحقيقة السابقة وبين الاختيال والفخر ، ثم بين هذا وذلك وبين البخل والأمر بالبخل ، هو أن من يشعر بأن كل ما يصيبه هو من أمر الله ، لا يختال ولا يفخر بما يعطاه . ولا يبخل ولا يأمر بالبخل في عطاء . فأما الذي لا يشعر بتلك الحقيقة فيحسب أن ما يؤتاه من مال وقوة وجاه هو من كسبه فيفخر ويختال به؛ ثم يبخل كذلك ببذل شيء منه ، ويحث غيره على البخل ليحقق مبدأه ومنهجه
{ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
فمن ينفق فإنما ينفق لنفسه ، ومن يستجب فإنما يستجيب لمصلحته . والله هو الغني فما به من حاجة إلى العباد المحاويج . والله هو الحميد بذاته فما يناله شيء من حمد الحامدين
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة ، يعرض باختصار خط سير الرسالة ، وتاريخ هذه العقيدة ، من لدن نوح وإبراهيم؛ مقرراً حقيقتها وغايتها في دنيا الناس؛ ملماً بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى - عليه السلام .
بصفة خاصة .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . ثم قفَّينا على آثارهم برسلنا ، وقفَّينا بعيسى ابن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } . .
فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول { وأنزلنا معهم الكتاب } بوصفهم وحدة . وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إالى وحدة الرسالة في جوهرها .
{ والميزان } . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزاناً لا يحابي أحداً لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف الزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . { ليقوم الناس بالقسط } . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء
{ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } . .
والتعبير { بأنزلنا الحديد } كالتعبير في موضع آخر بقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحدث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .
أنزل الله الحديد { فيه بأس شديد } . . وهو قوة في الحرب والسلم { ومنافع للناس } . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } . وهي إشارة الى الجهاد بالسلاح؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أم الله سبحانه فلا يحتاج منهم الى نصر : { إن الله قويٌ عزيز } . .
ولما انتهى من تقرير وحدة الرسالة في جوهرها وكتابها وميزانها عاد يقرر وحدتها في رجالها ، فهم من ذرية نوح وإبراهيم .
{ ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } . .
فهي شجرة واحدة باسقة ، متشابكة الفروع ، فيها النبوة والكتاب . ممتدة من فجر البشرية منذ نوح ، حتى إذا انتهت إلى إبراهيم ، تفرعت وامتدت وانبثقت النبوات من ذلك الفرع الكبير الذي صار أصلاً باسقاً ممتداً إلى آخر الرسالات .
فأما الذرية التي جاءتها النبوات والكتب فلم تكن على شاكلة واحدة : { فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } . .
وهو تلخيص قصير لذلك الخط الطويل
وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :
{ ثم قفَّينا على آثارهم برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم } . .
أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .
ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت اليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صوراً يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .
كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم { ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله } . .
والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختياراً من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعاداً عن أوضار الحياة - ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأ ن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتظياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .
ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوساً وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهراً عارياً من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :
{ فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } . .
والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .
وبعد هذا العرض السريع يجيء الهتاف الأخير للذين آمنوا ، وهم الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤمنين برسالة الله في تاريخها الطويل؛ وورثة هذه الرسالة الذين يقومون عليها الى يوم الدين :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ، ويجعل لكم نوراً تمشون به ، ويغفر لكم ، والله غفور رحيم .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
نحن في هذه السورة وفي هذا الجزء كله تقريباً مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تُربى وتقوّم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدّراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعداداً كاملاً .
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناساً من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفاً من قدر الله في الكون؛ لا يجدون في أنفسهم عوجاً عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفاً عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئاً إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم او أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون } . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب حتى قبل الفتح ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دَخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود
ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهوداً ضخمة ، وصبراً طويلاً ، وعلاجاً بطيئاً ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .
ونحن نشهد في هذه السورة وفي هذا الجزء كله طرفاً من تلك الجهود الضخمة ، وطرفاً من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات؛ كما نشهد جانباً من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعاً .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير } . . فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع سبحانه للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه { والله على كل شيء شهيد } . .
ثم توكيد وتذكير بحضور الله سبحانه وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم } . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم والجد في هذا الأمر والتوقير .
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين .
وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهويناً لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام وبعض المسلمين يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله . . } الخ الآية . . كما وردت في أول هذا التقديم . .
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركمآ ، إن الله سميع بصير . الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم ، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً ، وإن الله لعفو غفور . والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا ، ذلكم توعظون به ، والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا ، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ، ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله . وتلك حدود الله ، وللكافرين عذاب أليم } . .
كان الرجل في الجاهلية يغضب لأمر من امرأته فيقول : انت عليّ كظهر أمي . فتحرم عليه ، ولا تطلق منه . وتبقى هكذا ، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية؛ ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقاً آخر . وكان هذا طرفاً من العنت الذي تلاقيه المرأة في الجاهلية .
فلما كان الإسلام وقعت هذه الحادثة التي تشير إليها هذه الآيات ، ولم يكن قد شرع حكم للظهار . قال الإمام أحمد : حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب ، قالا : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني معمر ابن عبد الله بن حنظلة ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خويلة بنت ثعلبة . قالت : « فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة . قالت : كنت عنده ، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه ، قالت : فدخل علي يوماً فراجعته بشيء فغضب ، فقال : أنت علي كظهر أمي . قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل علي ، فإذا هو يريدني عن نفسي ، قالت : قلت : كلا والذي نفس خويلة بيده ، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه . قالت : فواثبني ، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني . قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً ، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه « قالت : فوالله ما برحت حتى نزل فيّ قرآن؛ فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سري عنه ، فقال لي : » يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً « . . ثم قرأ علي : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير } . . إلى قوله تعالى : { وللكافرين عذاب أليم } . . قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - : » مريه فليعتق رقبة « . قالت : فقلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق . قال : » ليصم شهرين متتابعين « . قالت : فقلت : والله إنه لشيخ ماله من صيام . قال : » فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر « . قالت : فقلت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : » فإنا سنعينه بعرق من تمر « . قالت : فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر . قال : » قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيراً « . قالت : ففعلت » .
فهذا هو الشأن الذي سمع الله ما دار فيه من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة التي جاءت تجادله فيه . وهذا هو الشأن الذي أنزل الله فيه حكمه من فوق سبع سماوات ، ليعطي هذه المرأة حقها ، ويريح بالها وبال زوجها ، ويرسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية اليومية
وهذا هو الشأن الذي تفتتح به سورة من سور القرآن : كتاب الله الخالد ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكل كلمة من كلماته ، وهي تتنزل من الملأ الأعلى . . تفتتح بمثل هذا الإعلان : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها . . } فإذا الله حاضر هذا الشأن الفردي لامرأة من عامة المسلمين ، لا يشغله عن سماعه تدبيره لملكوت السماوات والأرض؛ ولا يشغله عن الحكم فيه شأن من شؤون السماوات والأرض
وإنه لأمر . . إنه لأمر أن يقع مثل هذا الحادث العجيب؛ وأن تشعر جماعة من الناس أن الله هكذا معها ، حاضر شؤونها ، جليلها وصغيرها ، معنيّ بمشكلاتها اليومية ، مستجيب لأزماتها العادية .
. وهو الله . . الكبير المتعال ، العظيم الجليل ، القهار المتكبر ، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد .
تقول عائشة رضي الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات . لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت ، ما أسمع ما تقول . فأنزل الله عز وجل : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . . الآية } .
وفي رواية خولة أو خويلة للتصغير والتدليل للحادث ، وتصرفها هي فيه ، وذهابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجادلتها له ، ونزول القرآن بالحكم . . في هذا كله صورة من حياة تلك الجماعة الفريدة في تلك الفترة العجيبة . وشعورها بتلك الصلة المباشرة ، وانتظارها التوجيه من السماء في كل شأن من شؤونها واستجابة السماء لهذا الانتظار ، الذي يجعل الجماعة كلها عيال الله هو يرعاها وهي تتطلع إليه تطلع الطفل الصغير لأبيه وراعيه
وننظر في رواية الحادث في النص القرآني ، فنجد عناصر التأثير والإيحاء والتربية والتوجيه تسير جنباً إلى جنب مع الحكم وتتخلله وتعقب عليه ، كما هو أسلوب القرآن الفريد :
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركمآ ، إن الله سميع بصير } . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .
وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب . .
ثم يقرر أصل القضية ، وحقيقة الوضع فيها :
{ الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم . إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم . وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً ، وإن الله لعفو غفور } . .
فهو علاج للقضية من أساسها . إن هذا الظهار قائم على غير أصل . فالزوجة ليست أماً حتى تكون محرمة كالأم . فالأم هي التي ولدت . ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أماً بكلمة تقال . إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع . وكلمة مزورة ينكرها الحق . والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع ، في وضوح وتحديد ، فلا تختلط ذلك الاختلاط ، ولا تضطرب هذا الاضطراب . . { وإن الله لعفو غفور } فيما سلف من هذه الأمور .
وبعد تقرير أصل القضية على هذا النحو المحدد الواضح يجيء الحكم القضائي في الموضوع . { والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا . ذلكم توعظون به ، والله بما تعملون خبير } . .
وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة ، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل ، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها .
وهناك أقوال كثيرة في معنى : { ثم يعودون لما قالوا } . . نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار . فهذا أقرب ما يناسب السياق . فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله . . ثم التعقيب : { ذلكم توعظون به } . . فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف { والله بما تعملون خبير } . . خبير بحقيقته ، وخبير بوقوعه ، وخبير بنيتكم فيه .
وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب ، وتربية النفوس ، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه . ثم يتابع بيان الحكم فيه :
{ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا . فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً } . .
ثم التعقيب للبيان والتوجيه :
{ ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } . . وهم مؤمنون . . ولكن هذا البيان ، وهذه الكفارات وما فيها من ربط أحوالهم بأمر الله وقضائه . . ذلك مما يحقق الإيمان ، ويربط به الحياة؛ ويجعل له سلطاناً بارزاً في واقع الحياة . { وتلك حدود الله } . . أقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها . وهو يغضب على من لا يرعاها ولا يتحرج دونها : { وللكافرين عذاب أليم } . . بتعديهم وتحديهم وعدم إيمانهم وعدم وقوفهم عند حدود الله كالمؤمنين . .
وتلك العبارة الأخيرة : { وللكافرين عذاب أليم } . . تناسب ختام الآية السابقة ، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادّون الله ورسوله . على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب :
{ إن الذين يحآدّون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ، وقد أنزلنآ آيات بينات وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعاً ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه ، والله على كل شيء شهيد } . .
إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة . وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر . فريق الذين يحادون الله ورسوله ، أي الذين يأخذون لهم موقفاً عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله وذكر المحادّة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله . فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله ، بل عند الحد الآخر المواجه وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين ، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم . وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه ، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده
هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون : { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } . . والأرجح أن هذا دعاء عليهم . والدعاء من الله سبحانه حكم . فهو المريد وهو الفعال لما يريد . والكبت القهر والذل . والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية ، كما حدث في غزوة بدر مثلاً .
{ وقد أنزلنا آيات بينات } . .
تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة . . لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات . وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة ، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات .
ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس :
{ وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعاً ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه . والله على كل شيء شهيد } . .
والمهانة جزاء التبجح . وهي مهانة يوم يبعثهم الله جميعاً . مهانة على رؤوس الجموع ، وهو عذاب يقوم على حق وبيان لما عملوا . إن كانوا هم قد نسوه فإن الله أحصاه بعلمه الذي لا يند عنه شيء ، ولا يغيب عنه خاف : { والله على كل شيء شهيد } . .
وتلتقي صورة الرعاية والعناية ، بصورة الحرب والنكاية ، في علم الله واطلاعه ، وشهوده وحضوره . فهو شاهد حاضر للعون والرعاية؛ وهو شاهد حاضر للحرب والنكاية . فليطمئن بحضوره وشهوده المؤمنون . وليحذر من حضوره وشهوده الكافرون
ويستطرد السياق من تقرير حقيقة : { والله على كل شيء شهيد } . . إلى رسم صورة حية من هذا الشهود ، تمس أوتار القلوب :
{ ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، أين ما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم } . .
تبدأ الآية بتقرير علم الله الشامل لما في السماوات وما في الأرض على إطلاقه ، فتدع القلب يرود آفاق السماوات وأرجاء الأرض مع علم الله المحيط بكل شيء في هذا المدى الوسيع المتطاول . من صغير وكبير ، وخاف وظاهر ، ومعلوم ومجهول . .
ثم تتدرج من هذه الآفاق وتلك الأرجاء ، وتزحف وتقرب حتى تلمس ذوات المخاطبين وتمس قلوبهم بصورة من ذلك العلم الإلهي تهز القلوب :
{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } . .
وهي حقيقة في ذاتها ، ولكنها تخرج في صورة لفظية عميقة التأثير . صورة تترك القلوب وجلة ترتعش مرة ، وتأنس مرة ، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل المأنوس . وحيثما اختلى ثلاثة تلفتوا ليشعروا بالله رابعهم . وحيثما اجتمع خمسة تلفتوا ليشعروا بالله سادسهم . وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك وحيثما كانوا أكثر فالله هناك
إنها حالة لا يثبت لها قلب؛ ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز . . وهو محضر مأنوس نعم .
. ولكنه كذلك جليل رهيب . محضر الله : { هو معهم أين ما كانوا } . .
{ ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } . .
وهذه لمسة أخرى تُرجف وتزلزل . . إن مجرد حضور الله وسماعه أمر هائل . فكيف إذا كان لهذا الحضور والسماع ما بعده من حساب وعقاب؟ وكيف إذا كان ما يسره المتناجون وينعزلون به ليخفوه ، سيعرض على الأشهاد يوم القيامة وينبئهم الله به في الملأ الأعلى في ذلك اليوم المشهود؟
وتنتهي الآية بصورة عامة كما بدأت :
{ إن الله بكل شيء عليم } .
وهكذا تستقر حقيقة العلم الإلهي في القلوب ، بهذه الأساليب المنوعة في عرضها في الآية الواحدة . الأساليب التي تعمق هذه الحقيقة في القلب البشري ، وهي تدخل بها عليه من شتى المسالك والدروب
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين ، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد الجماعة المسلمة بالمدينة . مع التعجيب من موقفهم المريب :
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله ، ويقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } .
والآية توحي بأن خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص ، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدينة وبوحيهم . وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة ، وفي دسائسهم الخفية ، وفي التدبير السيئ للجماعة المسلمة ، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين .
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيِّئ خفي : { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } . كأن يقولوا كما كان اليهود يقولون السام عليكم . وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليكم . بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم أو أية صيغة أخرى ظاهرها برئ وباطنها لئيم وهم يقولون في أنفسهم : لو كان نبياً حقاً لعاقبنا الله على قولنا هذا . أي في تحيتهم ، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات .
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولونه في أنفسهم ، وبمجالسهم ومؤامراتهم . فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . . الخ . مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم وبما يقولونه كذلك في أنفسهم .
ثم رد عليهم بقوله تعالى :
{ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } . .
وكشف هذه المؤامرات الخفية ، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها ، وكذلك فضح ما كانوا يقولونه في أنفسهم : { لولا يعذبنا الله بما نقول } . . هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض ، وحضوره لكل نجوى ، وشهوده لكل اجتماع . وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح ، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق .
وهنا يلتفت إلى الذين آمنوا ، يخاطبهم بهذا النداء : { يا أيها الذين آمنوا } لينهاهم عن التناجي بما يتناجي به المنافقون من الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، ويذكرهم تقوى الله ، ويبين لهم أن النجوى على هذا النحو هي من إيحاء الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، فليست تليق بالمؤمنين :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وتناجوا بالبر والتقوى ، واتقوا الله الذي إليه تحشرون . إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
ويبدو أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي ، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم . الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية ، وروح التنظيم الإسلامي ، التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة وكل اقتراح على القيادة ابتداء ، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة . كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة ، وما يؤذي الجماعة المسلمة ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم ، قد يؤدي إلى الإيذاء ، وإلى عدم الطاعة .
وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به ، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره : { يا أيها الذين آمنوا } لينهاهم عن التناجي إذا تناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول . ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون : { وتناجوا بالبر والتقوى } . . لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما . والبر : الخير عامة . والتقوى : اليقظة والرقابة لله سبحانه ، وهي لا توحي إلا بالخير . ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه ، فيحاسبهم بما كسبوا . وهو شاهده ومحصيه . مهما ستروه وأخفوه .
قال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان ، قالا : أخبرنا همام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : « كنت آخذاً بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل ، فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول إن الله يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته . وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين » .
ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة ، التي هم منها ، ومصلحتهم مصلحتها ، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون . فيقول لهم : إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس ، وتخلق جواً من عدم الثقة؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم . ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد :
{ إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله . فليس وراء ذلك توكل ، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس :
جاء في الصحيحين من حديث الأعمش بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه » .
وهو أدب رفيع ، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك . فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر ، أو ستر عورة ، في شأن عام او خاص ، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم . وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة . ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة . فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهي عنه الرسول . وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة . وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا . ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة ، لأن الله حارسها وكالئها؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاه ، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر . ولن يضر الشيطان المؤمنين . . { إلا بإذن الله } . . وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم ، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم . .
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . . فهو الحارس الحامي ، وهو القوي العزيز ، وهو العليم الخبير . وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب . ولا يكون في الكون إلا ما يريد . وقد وعد بحراسة المؤمنين . فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
ثم يأخذ الذين آمنوا بأدب آخر من آداب الجماعة :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم : تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم .
وإذا قيل : انشزوا فانشزوا ، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . والله بما تعملون خبير } . .
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين ، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق .
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق . وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار . فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم . ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم . فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يُفسح لهم . . فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : « قم يا فلان . وأنت يا فلان » فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر . فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه . . فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله رجلاً يفسح لأخيه » فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً ، فيفسح القوم لإخوانهم . ونزلت هذه الآية يوم الجمعة
وإذا صحت هذه الرواية فإنها لاتتنافى مع الأحاديث الأخرى التي تنهى عن أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه . كما جاء في الصحيحين : « لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا » .
وما ورد كذلك من ضرورة استقرار القادم حيث انتهى به المجلس . فلا يتخطى رقاب الناس ليأخذ مكاناً في الصدر
فالآية تحض على الإفساح للقادم ليجلس ، كما تحض على إطاعة الأمر إذا قيل لجالس أن يرفع فيرفع . وهذا الأمر يجيء من القائد المسئول عن تنظيم الجماعة .
لا من القادم .
والغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجاد الفسحة في المكان . ومتى رحب القلب اتسع وتسامح ، واستقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة ، فأفسح لهم في المكان عن رضى وارتياح ، فأما إذا رأى القائد أن هناك اعتباراً من الاعتبارات يقتضي إخلاء المكان فالطاعة يجب أن ترعى عن طواعية نفس ورضى خاطر وطمأنينة بال . مع بقاء القواعد الكلية مرعية كذلك ، من عدم تخطي الرقاب أو إقامة الرجل للرجل ليأخذ مكانه . وإنما هي السماحة والنظام يقررهما الإسلام . والأدب الواجب في كل حال .
وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف ، فإنه يعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله لهم وسعة : { فافسحوا يفسح الله لكم } . . ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } . . وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام .
وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول صلى الله عليه وسلم لتلقي العلم في مجلسه . فالآية تعلمهم : أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر ، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات . وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول صلى الله عليه وسلم { والله بما تعملون خبير } . . فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون ، وبما وراءه من شعور مكنون .
وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها ، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة . فالدين ليس بالتكاليف الحرفية ، ولكنه تحول في الشعور ، وحساسية في الضمير . .
كذلك يعلمهم القرآن أدباً آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فيبدو أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه كل فرد في شأن يخصه؛ ويأخذ فيه توجيهه ورأية؛ أو ليستمتع بالانفراد به مع عدم التقدير لمهام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعية؛ وعدم الشعور بقيمة وقته ، وبجدية الخلوة به ، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال . فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة . في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة . ذلك خير لكم وأطهر . فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } . .
وقد عمل بهذه الآية الإمام علي كرم الله وجهه فكان معه كما روي عنه دينار فصرفه دراهم .
. وكان كلما أراد خلوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر تصدق بدرهم ولكن الأمر شق على المسلمين . وعلم الله ذلك منهم . وكان الأمر قد أدى غايته ، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها . فخفف الله عنهم ونزلت الآية التالية برفع هذا التكليف؛ وتوجيههم إلى العبادات والطاعات المصلحة للقلوب :
{ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله . والله خبير بما تعملون } . .
وفي هاتين الآيتين والروايات التي ذكرت أسباب نزولهما نجد لوناً من ألوان الجهود التربوية لإعداد هذه الجماعة المسلمة في الصغير والكبير من شؤون الشعور والسلوك .
ثم يعود السياق إلى المنافقين الذين يتولون اليهود ، فيصور بعض أحوالهم ومواقفهم ، ويتوعدهم بافتضاح أمرهم ، وسوء مصيرهم ، وانتصار الدعوة الإسلامية وأصحابها على الرغم من كل تدبيراتهم :
{ ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم؟ ما هم منكم ولا منهم ، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون . أعد الله لهم عذاباً شديداً ، إنهم سآء ما كانوا يعملون . اتخذوا أيمانهم جُنة فصدوا عن سبيل الله ، فلهم عذاب مهين . لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء . ألا إنهم هم الكاذبون . استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، أولئك حزب الشيطان ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } . .
وهذه الحملة القوية على المنافقين الذين يتولون قوماً غضب الله عليهم وهم اليهود تدل على أنهم كانوا يمعنون في الكيد للمسلمين ، ويتآمرون مع ألد أعدائهم عليهم؛ كما تدل على أن سلطة الإسلام كانت قد عظمت ، بحيث يخافها المنافقون ، فيضطرون عندما يواجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بما يكشفه الله من تدبيراتهم ومؤمراتهم إلى الحلف بالكذب لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال؛ وهم يعلمون أنهم كاذبون في هذه الأيمان . إنما هم يتقون بأيمانهم ما يتوقعونه من مؤاخذتهم بما ينكشف من دسائسهم : { اتخذوا أيمانهم جنة } أي وقاية . وبذلك يستمرون في دسائسهم للصد عن سبيل الله
والله يتوعدهم مرات في خلال هذه الآيات : { أعد الله لهم عذاباً شديداً . إنهم ساء ما كانوا يعملون } . . { فلهم عذاب مهين } . . { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . .
ويصور مشهدهم يوم القيامة في وضع مزر مهين ، وهم يحلفون لله كما يحلفون للناس : { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم } . . مما يشير إلى أن النفاق قد تأصل في كيانهم ، حتى ليصاحبهم إلى يوم القيامة . وفي حضرة الله ذي الجلال . الذي يعلم خفايا القلوب وذوات الصدور { ويحسبون أنهم على شيء } .
. وهم على هواء لا يستندون إلى شيء . أي شيء
ويدمغهم بالكذب الأصيل الثابت : { ألا إنهم هم الكاذبون } . .
ثم يكشف عن علة حالهم هذه . فقد استولى عليهم الشيطان كلية { فأنساهم ذكر الله } . . والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر : { أولئك حزب الشيطان } . . الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه ، ويعمل باسمه ، وينفذ غاياته ، وهو الشر الخالص الذي ينتهي إلى الخسران الخالص : { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } . .
وهي حملة شديدة عنيفة تناسب الشر والأذى والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين . وتطمئن قلوب المسلمين . والله سبحانه وتعالى يتولى عنهم الحملة على أعدائهم المستورين
ولما كان أولئك المنافقون يأوون إلى اليهود شعوراً بأنهم قوة تخشى وترجى . ويطلبون عندهم العون والمشورة . فإن الله ييئسهم منهم ، ويقرر أنه كتب على أعدائه الذلة والهزيمة ، وكتب لنفسه ولرسوله الغلبة والتمكين :
{ إن الذين يحآدون الله ورسوله أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . إن الله قوي عزيز } . . وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحياناً من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق .
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض؛ ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد . وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلاً على أن فترات الإلحاد . والوثنية إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء . والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد .
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة . فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة ، فهذا الواقع هو الباطل الزائل . الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة . لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم .
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة ، من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة ، بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية . ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين ، يحميهم من الانهيار ، ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ، ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه .
. حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى . يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود ، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون ، وأن الله ورسله هم الغالبون . وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون . ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون
وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآدّ الله ورسوله ، ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون } . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودّين : ودّاً لله ورسوله ووداً لأعداء الله ورسوله فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معاً فلا يجتمعان .
{ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان : إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين : لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } . .
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض
{ وأيدهم بروح منه } . .
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
{ ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
نزلت هذه السورة في حادث بني النضير حي من أحياء اليهود في السنة الرابعة من الهجرة . تصف كيف وقع؟ ولماذا وقع؟ وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية . . ترويها بطريقة القرآن الخاصة ، وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات .
وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة ، نعرض شيئاً مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه؛ لنرى ميزة العرض القرآني ، وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص ، فتفي بمقتضيات الأحداث ، وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودة بالزمان والمكان .
كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب . ومما يذكر عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم إلى محلة بني النضير ، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة . فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم ، بينما كانوا يدبرون أمراً لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . وكان صلى الله عليه وسلم جالساً إلى جدار من بيوتهم . فقال بعضهم لبعض : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه . فمن رجل منكم يعلو هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جَحاش بن كعب . فقال : أنا لذلك . فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال . فألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبيت اليهود من غدر . فقام كأنما ليقضي أمراً . فلما غاب استبطأه من معه ، فخرجوا من المحلة يسألون عنه ، فعلموا أنه دخل المدينة .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم . وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف من بني النضير في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأليبه الأعداء عليه . وما قيل من أن كعباً ورهطاً من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه . مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف . فقتله .
فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم .
وفق القاعدة الإسلامية : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين } فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر محلة بني النضير ، وأمهلهم ثلاثة أيام وقيل عشرة ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم ، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم . ولكن المنافقين في المدينة وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة ، وقالوا لهم : أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم . وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم .
وفي هذا يقول الله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبداً ، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . . . } .
فتحصن اليهود في الحصون؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم والتحريق فيها . فنادوه : أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه : فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } . .
ولما بلغ الحصار ستاً وعشرين ليلة ، يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم ، وقدف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، كما سبق جلاء بني قينقاع ( وقد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين ) على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح . فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل . فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره؛ أن يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين؛ وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصوناً في أيام الحصار .
وفي هذا يقول الله في هذه السورة : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يأولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب } . .
وكان منهم من سار إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام .
وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحي بن أخطب ، ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة ( في سورة الأحزاب ) وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر ( في سورة الفتح ) .
وكانت أموال بني النضير فيئاً خالصاً لله وللرسول؛ لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال . فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف ، وأبو دجانة سماك بن خرشة . وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم . وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم ما لهم في أريحية عالية ، وأخوة صادقة ، وإيثار عجيب . فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي ، كي يكون للفقراء مال خاص ، وكي لا يكون المال متداولاً في الأغنياء وحدهم . ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما . .
وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم والراجح أنهم من المنافقين فقال تعالى : { ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، ولكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شيء قدير } . .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار : « إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة . وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة » فقالت الأنصار : بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها .
وفي هذا نزل قوله تعالى : { للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً ، وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم الصادقون . والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } .
فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة ، وتعلقت به نصوصها ، بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك . على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها ، وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة . . ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات الله الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن . وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون؛ وعلى أساس تصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير .
وتبدأ السورة وتختتم بتسبيح الله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
فيتناسق البدء والختام ، مع موضوع السورة ، ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله الحكيم .
والآن نسير مع النصوص القرآنية لنرى كيف تصور الأحداث ، وكيف تربي النفوس بهذه الأحداث . .
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، وهو العزيز الحكيم } . .
بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود . حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله ، واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد . . تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، وإعطائها للمؤمنين به المسبحين بحمده الممجدين لأسمائه الحسنى . . { وهو العزيز الحكيم } . . القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه . . الحكيم في تدبيره وتقديره .
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يأولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ، ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب } .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
{ ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون
{ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب } .
أتاهم من داخل أنفسهم لا من داخل حصونهم أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم فضلاً على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمراً . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير .
فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائماً والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
{ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله سبحانه يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
والآية التالية تقرر أن إرادة الله في النكاية بهم ما كانت لتعفيهم بأية حالة من نكال يصيبهم في الدنيا غير ما ينتظرهم في الآخرة :
{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار } . .
فهو أمر مقرر أن ينالهم النكال من الله . بهذه الصورة التي وقعت أو بصورة أخرى . ولولا أن اختار الله جلاءهم لعذبهم عذاباً آخر . غير عذاب النار الذي ينتظرهم هناك . فقد استحقوا عذاب الله في صورة من صوره على كل حال
{ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومن يشاقق الله فإن الله شديد العقاب } . .
والمشاقة أن يأخذوا لهم شقا غير شق الله ، وجانباً غير جانبه . وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله حين وصف علة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية . فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها . ثم ليقف المشاقون في ناحية أمام الله سبحانه وهو موقف فيه تبجح قبيح ، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يشاقونه وموقف كذلك رعيب ، وهذه المخاليق الضئيلة الهزيلة تتعرض لغضب الله وعقابه . وهو شديد العقاب .
وهكذا تستقر في القلوب حقيقة مصائر المشاقين لله في كل أرض وفي كل وقت . من خلال مصير الذين كفروا من أهل الكتاب ، وما استحقوا به هذا العقاب .
ولا يفوتنا أن نلحظ تسمية القرآن ليهود بني النضير بأنهم { الذين كفروا من أهل الكتاب } وتكرار هذه الصفة في السورة . فهي حقيقة لأنهم كفروا بدين الله في صورته العليا التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان اليهود ينتظرونها ويتوقعونها . وذكر هذه الصفة في الوقت نفسه يحمل بياناً بسبب التنكيل بهم؛ كما أنه يعبئ شعور المسلمين تجاههم تعبئة روحية تطمئن لها قلوبهم فيما فعلوا معهم ، وفيما حل بهم من نكال وعذاب على أيديهم .
فذكر هذه الحقيقة هنا مقصود ملحوظ
ثم يطمئن المؤمنين على صواب ما أوقعوه بهؤلاء الذين كفروا وشاقوا الله ورسوله من تقطيع نخيلهم وتحريقه ، أو تركه كذلك قائماً ، وبيان حكم الله فيه . وقد دخل نفوس بعض المسلمين شيء من هذا :
{ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } . . واللينة الجيدة من النخل ، أو نوع جيد منه معروف للعرب إذ ذاك . وقد قطع المسلمون بعض نخل اليهود ، وأبقوا بعضه . فتحرجت صدورهم من الفعل ومن الترك . وكانوا منهيين قبل هذا الحادث وبعده عن مثل هذا الاتجاه في التخريب والتحريق . فاحتاج هذا الاستثناء إلى بيان خاص ، يطمئن القلوب . فجاءهم هذا البيان يربط الفعل والترك بإذن الله . فهو الذي تولى بيده هذه الموقعة؛ وأراد فيها ما أراد ، وأنفذ فيها ما قدره ، وكان كل ما وقع من هذا بإذنه . أراد به أن يخزي الفاسقين . وقطع النخيل يخزيهم بالحسرة على قطعه؛ وتركه يخزيهم بالحسرة على فوته . وإرادة الله وراء هذا وذاك على السواء .
بذلك تستقر قلوب المؤمنين المتحرجة ، وتشفى صدورهم مما حاك فيها ، وتطمئن إلى أن الله هو الذي أراد وهو الذي فعل . والله فعال لما يريد . وما كانوا هم إلا أداة لإنفاذ ما يريد .
فأما المقطع الثاني في السورة فيقرر حكم الفيء الذي أفاءه الله على رسوله في هذه الوقعة وفيما يماثلها ، مما لم يتكلف فيه المسلمون عزواً ولا قتالاً . . أي الوقائع التي تولتها يد الله جهرة ومباشرة وبدون ستار من الخلق كهذه الوقعة :
{ ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب . ولكن الله يسلط رسله على من يشآء ، والله على كل شيء قدير . مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . كي لا يكون دولة بين الأغنيآء منكم . ومآ آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب . للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم الصادقون . والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . والذين جآءوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا . ربنآ إنك رؤُوف رحيم } . .
وهذه الآيات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وأمثاله ، تحوي في الوقت ذاته وصفاً لأحوال الجماعة المسلمة في حينها؛ كما تقرر طبيعة الأمة المسلمة على توالي العصور ، وخصائصها المميزة التي تترابط بها وتتماسك على مدار الزمان ، لا ينفصل فيها جيل عن جيل ، ولا قوم عن قوم ، ولا نفس عن نفس ، في الزمن المتطاول بين أجيالها المتعاقبة في جميع بقاع الأرض .
وهي حقيقة ضخمة كبيرة ينبغي الوقوف أمامها طويلاً في تدبر عميق . .
{ ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، ولكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شيء قدير } .
والإيجاف : الركض والإسراع . والركاب : الجمال . والآية تذكر المسلمين أن هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير لم يركضوا هم عليه خيلاً ، ولم يسرعوا إليه ركباً ، فحكمه ليس حكم الغنيمة التي أعطاهم الله أربعة أخماسها ، واستبقى خمسها فقط لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، كما حكم الله في غنائم بدر الكبرى . إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه . وذو القربى المذكورون في الآيتين هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كانت الصدقات لا تحل لهم ، فليس لهم في الزكاة نصيب ، وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء . وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم . فجعل لهم من خمس الغنائم نصيباً ، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيباً . فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف . والرسول صلى الله عليه وسلم هو المتصرف فيها .
هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات . ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة . إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة : { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } . . فهو قدر الله . وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء . { والله على كل شيء قدير } . .
بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر؛ ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار . ويتبين أنهم ولو أنهم بشر متصلون بإرادة الله ومشئيته اتصالاً خاصاً ، يجعل لهم دوراً معيناً في تحقيق قدر الله في الأرض ، بإذن الله وتقديره . فما يتحركون بهواهم ، وما يأخذون أو يدعون لحسابهم . وما يغزون أو يقعدون ، وما يخاصمون أو يصالحون ، إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض . والله هو الفاعل من وراء ذلك كله . وهو على كل شيء قدير . .
{ مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . كي لا يكون دولة بين الأغنيآء منكم . ومآ آتاكم الرسول فخذوه .
وما نهاكم عنه فانتهوا . واتقوا الله إن الله شديد العقاب } . .
وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلاً . ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي : { كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم } . . كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . . ولو أن هاتين القاعدين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه ، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي .
والقاعدة الأولى ، قاعدة التنظيم الاقتصادي ، تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام . فالملكية الفردية معترف بها في هذه النظرية . ولكنها محددة بهذه القاعدة . قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، ممنوعاً من التداول بين الفقراء . فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفاً من أهداف التنظيم الاجتماعي كله . وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة . ففرض الزكاة . وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفاً في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية ، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك في الأنعام . وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي . وهي نسب كبيرة . ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء . وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها . وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال . وحرم الاحتكار . وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيداً أصيلاً على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .
ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية ، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي ، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولاً عنه ، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقاً بدون ربا وبدون احتكار ، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير . نشأ وحده . وسار وحده ، وبقي حتى اليوم وحده . نظاماً فريداً متوازن الجوانب ، متعادل الحقوق والواجبات ، متناسقاً تناسق الكون كله . مذ كان صدوره عن خالق الكون . والكون متناسق موزون
فأما القاعدة الثانية قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية . فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قرآناً أو سنة .
والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول . فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان ، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان . . وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية ، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات ، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء ، وكل ما تشاء ، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان . فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها والإمام نائب عن الأمة في هذا وفي هذا تنحصر حقوق الأمة . فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع .
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلاً من أصول ما جاء به الرسول . وهذا لا ينقض تلك النظرية ، إنما هو فرع عنها ، فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص ، وألا يخالف أصلاً من أصوله فيما لا نص فيه . وتنحصر سلطة الأمة والإمام النائب عنها في هذه الحدود . وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعيه . وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله ، وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله . كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون ، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرها الأول . . وهو الله . . فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } . . وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه ، ولا هروب منه . فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر ، خبير بالأعمال ، وإليه المرجع والمآب . وعلموا أنه شديد العقاب . وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم ، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة ، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب . .
ولقد كان توزيع ذلك الفيء فيء بني النضير على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصاً بهذا الفيء ، تحقيقاً لقاعدة : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } . . فأما الحكم العام ، فهو أن يكون للفقراء عامة . من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال . وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق .
ولكن القرآن لا يذكر الأحكام جافة مجردة ، إنما يوردها في جو حيّ يتجاوب فيه الأحياء .
ومن ثم أحاط كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث بصفاتها الواقعية الحية التي تصور طبيعتها وحقيقتها؛ وتقرر الحكم حياً يتعامل مع هؤلاء الأحياء :
{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم الصادقون } . .
وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين : أخرجوا إخراجاً من ديارهم وأموالهم . أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة . لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله . . وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه . لا ملجأ لهم سواه ، ولا جناب لهم إلا حماه . . وهم مع أنهم مطاردون قليلون { ينصرون الله ورسوله } . . بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات . { أولئك هم الصادقون } . . الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وصدقوها بعملهم . وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه . وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه . وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس
{ والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاماً طائرة ورؤى مجنحة ومثلاً عليا قد صاغها خيال محلق . .
{ والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم } . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
{ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئاً من هذا . ولا يقول : حسداً ولا ضيقاً ، إنما يقول : { شيئاً } . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئاً أصلاً .
{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
. والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيراً . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديماً وحديثاً .
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } . . فهذا الشح . شح النفس . وهو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائماً أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوّق عن الخير ، فانطلق إليه معطياً باذلاً كريماً . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
{ والذين جآءوا من بعدهم ، يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا . ربنآ إنك رءُوف رحيم } . .
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان .
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة ، إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة ، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان؛ وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق ، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله ، ورحمته ، ودعائه بهذه الرحمة ، وتلك الرأفة : { ربنا إنك رءُوف رحيم } . .
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها ، وآخرها بأولها ، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف ، وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب؛ وتتفرد وحدها في القلوب ، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة ، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة ، كما يذكر أخاه الحي ، أو أشد ، في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفاً واحداً وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان ، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم ، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم .
إنها صورة باهرة ، تمثل حقيقة قائمة؛ كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلاً إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور ، وينخر في الضمير ، على الطبقات ، وعلى أجيال البشرية السابقة ، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم .
وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة ، ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ، وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . وصورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله ، بريئة الصدور من الغل ، طاهرة القلوب من الحقد ، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضاً بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة ، والدين كله ليس إلا فخاً ينصبه رأس المال للكادحين
{ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا . ربنآ إنك رءُوف رحيم } . .
هذه هي قافلة الإيمان . وهذا هو دعاء الإيمان . وإنها لقافلة كريمة . وإنه لدعاء كريم .
وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة ، ورفعها على الأفق في إطار النور . يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة ، ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها . فريق المنافقين :
{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولا نطيع فيكم أحداً أبداً ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ، ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من ورآء جدر ، بأسهم بينهم شديد ، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ، ولهم عذاب أليم . كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر . فلما كفر قال : إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهمآ أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزآء الظالمين } . .
وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير ، ثم لم يفوا به ، وخذلوهم فيه ، حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر حقيقة ، وتمس قلباً ، وتبعث انفعالاً ، وتُقر مقوماً من مقومات التربية والمعرفة الإيمان العميق .
وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } . فأهل الكتاب هؤلاء كفروا . والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام
ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم : { لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً ، وإن قوتلتم لننصرنكم } . .
والله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون ، ويؤكد غير ما يؤكدون : { والله يشهد إنهم لكاذبون .
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولن الأدبار . ثم لا ينصرون } . .
وكان ما شهد به الله . وكذب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه
ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله . ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } .
فهم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله . ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من عباده . فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة . ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه . فالعزة لله جميعاً ، وكل قوى الكون خاضعة لأمره ، { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف الله؟ ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله . . { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } . .
وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة . ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة . ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب ، تنشأ من حقيقتهم السابقة ، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله .
{ لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من ورآء جدر . بأسهم بينهم شديد . تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى . ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } . .
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في « تشخيص » حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان . بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة . فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان . حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء . وسبحان العليم الخبير
وتبقى الملامح النفسية الأخرى { بأسهم بينهم شديد } . . { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم ، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان ، والجنس والوطن والعشيرة . . { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } . .
والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم ، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض ، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم؛ إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع . فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور ، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد ، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء ، وتصادم الاتجاهات . وما صدق المؤمنون مرة ، وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال . وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار ، وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب .
. من المسلمين . . عندما تتفرق قلوب المسلمين ، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة . فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز ، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب { بأسهم بينهم شديد } . . { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } . .
والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين ، ليهون فيها من شأن أعدائهم؛ ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم . فهو إيحاء قائم على حقيقة؛ وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت . ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله؛ وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد ، فلم تقف لهم قوة في الحياة .
والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم . فهذا نصف المعركة . والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع ، وفي سياق التعقيب عليه ، وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل ، شرحاً يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه ، ويتدبره كل من جاء بعدهم ، وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة
ولم يكن حادث بني النضير هو الأول من نوعه ، فقد سبقه حادث بني قينقاع الذي تشير إليه الآية بعد ذلك غالباً :
{ كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم } . .
ووقعة بني قينقاع كانت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد . وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . فلما انتصر المسلمون على المشركين في بدر كره اليهود ذلك ، وحقدوا على المسلمين أن ينالوا هذا الانتصار العظيم ، وخافوا أن يؤثر هذا على موقفهم في المدينة فيضعف من مركزهم بقدر ما يقوي من مركز المسلمين . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتهامسون به وما يفكرون فيه من الشر ، فذكرهم العهد وحذرهم مغبة هذا الاتجاه . فردوا رداً غليظاً مغيظاً فيه تهديد . قالوا : يا محمد . إنك لترى أنا قومُك لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة . إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس
ثم أخذوا يتحرشون بالمسلمين؛ وذكرت الروايات من هذا أن امرأة من العرب قدمت ببضاعة لها فباعتها بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت : فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله . وشدت يهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين . فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه .
فقام رأس المنافقين عبد الله ابن أبي ابن سلول يجادل رسول الله عنهم ، باسم ما كان بينهم وبين الخزرج من عهد ولكن الحقيقة كانت هي هذه الصلة بين المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهاية أن يجلوا عن المدينة ، وأن يأخذوا معهم أمواهم ومتاعهم إلا السلاح ورحلوا إلى الشام .
فهذه هي الواقعة التي يشير إليها القرآن ويقيس عليها حال بني النضير وحقيقتهم . . وحال المنافقين مع هؤلاء وهؤلاء
ويضرب للمنافقين الذين أغروا إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بالمقاومة ، فانتهوا بهم إلى تلك النهاية البائسة . يضرب لهم مثلاً بحال دائمة . حال الشيطان مع الإنسان ، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير :
{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر . فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهمآ أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزآء الظالمين } . .
وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان ، تتفقان مع طبيعته ومهمته . فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان . وحاله هو هذا الحال
وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة . فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية ، في مجال حي من الواقع؛ ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن . فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر ، ولا تستجيش القلوب للاستجابة . وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين
وبهذا المثل الموحي تنتهي قصة بني النضير . وقد ضمنت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات . واتصلت أحداثها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة . وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير ، تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته ، وتفترق روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر بمقدار ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقاس
وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه وربطه بالحقائق البعيدة المدى يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين ، يهتف بهم باسم الإيمان ، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب ، وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه . يتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى . والنظر فيما أعدوه للآخرة ، واليقظة الدائمة ، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل ، ممن رأوا مصير فريق منهم ، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون . لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . أصحاب الجنة هم الفآئزون } . .
والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله ، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها .
حالة تجعل القلب يقظاً حساساً شاعراً بالله في كل حالة . خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها . وعين الله على كل قلب في كل لحظة . فمتى يأمن أن لا يراه؟
{ ولتنظر نفس ما قدمت لغد } . .
وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه . . ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته . لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة . . وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير ، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد . فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ، ونصيبه من البر ضئيلاً؟ إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكف عن النظر والتقليب
ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع :
{ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } . .
فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء . . والله خبير بما يعملون . .
وبمناسبة ما تدعوهم إليه هذه الآية من يقظة وتذكر يحذرهم في الآية التالية من أن يكونوا { كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } . . وهي حالة عجيبة . ولكنها حقيقة . . فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى ، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى . وفي هذا نسيان لإنسانيته . وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى ، وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر له زاداً للحياة الطويلة الباقية ، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد .
{ أولئك هم الفاسقون } . . المنحرفون الخارجون .
وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار ، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقاً غير طريقهم وهم أصحاب الجنة . وطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار :
{ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . أصحاب الجنة هم الفائزون } . .
لا يستويان طبيعة وحالاً ، ولا طريقاً ولا سلوكاً ، ولا وجهة ولا مصيراً ، فهما على مفرق طريقين لا يلتقيان أبداً في طريق . ولا يلتقيان أبداً في سمة . ولا يلتقيان أبداً في خطة . ولا يلتقيان أبداً في سياسة . ولا يلتقيان أبداً في صف واحد في دنيا ولا آخرة . .
{ أصحاب الجنة هم الفائزون } . . يثبت مصيرهم ويدع مصير أصحاب النار مسكوتاً عنه . معروفاً . وكأنه ضائع لا يعني به التعبير
ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه؛ وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله . وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } .
وهي صورة تمثل حقيقة . فإن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته . ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجد ، عندما سمع قارئاً يقرأ : { والطور ، وكتاب مسطور ، في رق منشور ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع ، والبحر المسجور ، إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع } فارتكن إلى الجدار . ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهراً مما ألم به
واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحاً لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازاً ويرتجف ارتجافاً . ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام . أو أشد .
والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } . . والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي .
{ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } . .
وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكير . .
وأخيراً تجيء تلك التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى؛ وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله ، ينطلق بها لسانه وتتجاوب بها أرجاؤه؛ وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود وفي حركته وظواهره ، فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها :
{ هو الله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، هو الرحمن الرحيم } .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو ، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، سبحان الله عما يشركون } . .
{ هو الله الخالق البارىء المصور ، له الأسمآء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } .
إنها تسبيحة مديدة بهذه الصفات المجيدة . ذات ثلاثة مقاطع . يبدأ كل مقطع منها بصفة التوحيد : { هو الله الذي لا إله إلا هو } . . أو { هو الله } . .
ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ ، واثر في حياة البشر ملموس . فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات . فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء . وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود ، وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } . . فتتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد ، ووحدانية العبادة ، ووحدانية الاتجاه ، ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه . ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفكير والشعور والسلوك ، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء . وارتباطات الناس بعضهم ببعض على أساس وحدانية الإله .
{ عالم الغيب والشهادة } . . فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور . ومن ثم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية؛ ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقب من الله المراقِب لله ، الذي لا يعيش وحده ، ولو كان فيه خلوة أو مناجاة ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام
{ هو الرحمن الرحيم } فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح .
ويتعادل الخوف والرجاء ، والفزع والطمأنينة . فالله في تصور المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم . ولا يريد الشر بهم بل يحب الهدى ، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } . . يعيدها في أول التسبيحة التالية ، لأنها القاعدة التي تقوم عليها سائر الصفات . .
{ الملك } . . فيستقر في الضمير أن لا ملك إلا الله الذي لا إله إلا هو . وإذا توحدت الملكية لم يبق للمملوكين إلا سيد واحد يتجهون إليه ، ولا يخدمون غيره . فالرجل لا يخدم سيدين في وقت واحد { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } { القدوس } وهو اسم يشع القداسة المطلقة والطهارة المطلقة . ويلقي في ضمير المؤمن هذا الإشعاع الطهور ، فينظف قلبه هو ويطهره ، ليصبح صالحاً لتلقي فيوض الملك القدوس ، والتسبيح له والتقديس .
{ السلام } . . وهو اسم كذلك يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود ، وفي قلب المؤمن تجاه ربه . فهو آمن في جواره ، سالم في كنفه . وحيال هذا الوجود وأهله من الأحياء والأشياء . ويؤوب القلب من هذا الاسم بالسلام والراحة والاطمئنان . وقد هدأت شرته وسكن بلباله وجنح إلى الموادعة والسلام .
{ المؤمن } واهب الأمن وواهب الإيمان . ولفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان ، حيث يلتقي فيه بالله ، ويتصف منه بإحدى صفات الله . ويرتفع إذن إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان .
{ المهيمن } . . وهذا بدء صفحة أخرى في تصور صفة الله سبحانه إذ كانت الصفات السابقة : { القدوس السلام المؤمن } صفات تتعلق مجردة بذات الله . فأما هذه فتتعلق بذات الله فاعلة في الكون والناس . توحي بالسلطان والرقابة .
وكذلك : { العزيز . الجبار . المتكبر } . . فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء . فلا عزيز إلا هو . ولا جبار إلا هو . ولا متكبر إلا هو . وما يشاركه أحد في صفاته هذه . وما يتصف بها سواه . فهو المتفرد بها بلا شريك .
ومن ثم يجيء ختام الآية : { سبحان الله عما يشركون } . .
ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة .
{ هو الله } . . فهي الألوهية الواحدة . وليس غيره بإله .
{ الخالق } . . { البارئ } . . والخلق : التصميم والتقدير . والبرء : التنفيذ والإخراج ، فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق . .
{ المصور } . وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها . ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة .
وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق ، يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة حسب التصور الإنساني فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات . وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني . حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كما يستقر في الأرض نظاماً ذا معالم وحدود وشخصية مميزة؛ تبلغ إليه البشرية أحياناً ، وتقصر عنه أحياناً ، ولكنها تبقى معلقة دائماً بمحاولة بلوغه؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوماً في هذه الأرض .
وقد اقتضى هذا كما قلنا في أول هذا الجزء إعداداً طويلاً في خطوات ومراحل . وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد . مادة مقدرة في علم الله ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه .
وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض . فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة . وكانت التربية المستمرة متجهة دائماً إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة . أما الناس الذين يُنشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوماً بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى . وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة . وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي . . فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله ، وتتوالى الموعظة بها . والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس . والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه صلى الله عليه وسلم حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله . بتوفيق الله . على يدي رسول الله .
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم .
عالم محوره الإيمان بالله وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى . عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة . ليجعل في مكانها جميعاً عقدة واحدة . هي عقدة الإيمان بالله . والوقوف تحت راية الله . في حزب الله .
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله في رحاب العقيدة وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنساناً عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثيرمن ذوات الصدور
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو سبحانه يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعاً وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالاً بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت فكان يأخذهم يوماً بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن
وتذكر الروايات حادثاً معيناً نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائماً أبعد من الحوادث المباشرة .
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلاً من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضاً . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفاً لعثمان .
فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : « اللهم عَمِّ عليهم خبرنا » . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مشركة قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يداً . فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه قال : « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلعتة إلى المشركين » . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً . فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي متحجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما حملك على ما صنعت؟ » قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : « صدق لا تقولوا إلا خيراً » فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : « أليس من أهل بدر؟ فقال : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم » فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم « . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة } وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .
والوقوف قليلاً أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن « ظلال القرآن » والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي العظيم . .
واول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل : « ما حملك على ما صنعت » في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : « صدق لا تقولوا إلا خيراً » . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحداً يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : « إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه » . . فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : « أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي » . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : « وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله » فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم - : « صدق . لا تقولوا إلا خيراً » .
وأخيراً يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة .
وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . .
والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية؛ ولكن مضمون النص القرآني كما قلنا أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيماً جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمراً ، ويحقق بهم قدَراً . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعاً . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .
والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون } . .
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : { يا أيها الذين آمنوا } . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه .
يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
{ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :
{ وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم } . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم؟ إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهاداً في سبيله :
{ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وإبتغاء مرضاتي } . .
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهاداً في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله
ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها :
{ تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } .
ثم يهددهم تهديداً مخيفاً ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
{ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } . .
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :
{ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطون إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } . .
فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل . ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل .
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى :
{ وودوا لو تكفرون } . .
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان . فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز . كنز الإيمان . ويرتد إلى الكفر ، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر ، ويهتدي بنوره بعد الضلال ، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار .
أو أشد . فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان ، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور .
لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم : { وودوا لو تكفرون } . .
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة . ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جراً إلى المودة؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . يوم القيامة يفصل بينكم . والله بما تعملون بصير } .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . ويزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه { يوم القيامة يفصل بينكم } . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
{ والله بما تعملون بصير } . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير .
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة : أمة التوحيد . وهذه القافلة الواحدة : قافلة الإيمان . فإذا هي ممتدة في الزمان ، متميزة بالإيمان ، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة . . إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم . أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى . وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها ، بل كذلك في السيرة ، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه ، وتجرد لعقيدته وحدها :
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه؛ إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ، ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا ربنا ، إنك أنت العزيز الحكيم . . لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .
ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان ، وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : { إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } . .
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : { لأستغفرن لك } . .
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . . كما جاء في سورة أخرى .
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال :
{ وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } . .
وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه :
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم ، إذ يقولون : لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور ، حين يتمكن الباطل من الحق ، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات .
والمؤمن يصبر للابتلاء ، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء :
{ واغفر لنا } . .
يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه ، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه ، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه ، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء :
{ ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } . .
العزيز : القادر على الفعل ، الحكيم : فيما يمضي من تدبير .
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه ، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين :
{ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه سبحانه { فإن الله هو الغني الحميد } . .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد ، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة ، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين ، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة . ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام ، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين . . ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم ، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان .
فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البر لمن يستحق البر ، وهو القسط في المعاملة والعدل :
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير والله غفور رحيم . لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم . إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم . ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } . .
إن الإسلام دين سلام ، وعقيدة حب ، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله ، وأن يقيم فيه منهجه ، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين . وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله . فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة ، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع . ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس ، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم .
وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس؛ في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين ، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة :
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } . .
وهذا الرجاء من الله ، معناه القطع بتحققه . والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به ، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة ، وأن أسلمت قريش ، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد ، وأن طويت الثارات والمواجد ، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب .
{ والله قدير } . . يفعل ما يريد بلا معقب .
{ والله غفور رحيم } . . يغفر ما سلف من الشرك والذنوب . .
وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم . ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم ، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئاً . ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم . وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون . . ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } . . وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن ، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع .
وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد . وهو كذلك اعتداء . وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها . فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون . فمن وقف معهم تحتها فهو منهم . ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم . ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله . فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية أي عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب . إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة .
ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . الخ } فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة . بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل ، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة . ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون فانطبقت القاعدة الأخرى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين } وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود . وهي حالة اعتداء في صميمها ، تنطبق عليها حالة الاعتداء . وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره ، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية . فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك .
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : { يا أيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم مآ أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا .