كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي
. ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان ، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله ، لا يغشون ولا يخدعون ، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه - دون القتال - من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام ، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين . ليس عليهم جناح ، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون ، فلا جناح على المحسنين ، إنما الجناح على المسيئين .
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب ، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة . فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب ، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً ، لأنهم لا يجدون ما ينفقون .
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد ، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه . وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تختلف الروايات في تعيين أسمائهم ، ولكنها تتفق على الواقعة الصحيحة .
روى العوفي عن ابن عباس : « وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقوى المازني ، فقالوا : يا رسول الله احملنا ، فقال لهم : » والله لا أجد ما أحملكم عليه « فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً : فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه .
وقال مجاهد : نزلت في بني مقرن من مزينة .
وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف : سالم بن عوف ، ومن بني واقف : حرمي ابن عمر ، ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى ، ومن بني المعلى : فضل الله ومن بني سلمة : عمرو بن عتمة وعبد الله بن عمرو والمزني .
وقال ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ، وعلية بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة ، وعبد الله بن المغفل المزني ، وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو والمزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا أهل حاجة : قال : » لا أجد ما أحملكم عليه « تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام ، وبمثل هذه الروح عزت كلمته . فلننظر أين نحن من هؤلاء . ولننظر أين روحنا من تلك العصبة . ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر . وإلا فلنسدد ولنقارب والله المستعان .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولا يجد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه إلى أرض المعركة . . من جناح ولا حرج إذا هم تخلفوا عن المعركة . . إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القعود وهم أغنياء قادرون ، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج . . إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور . .
هؤلاء هم المؤاخذون بتخلفهم عن الخروج ، والاستئذان في القعود ، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون ، لا يؤدون حق الله عليهم وقد أغناهم وأقدرهم؛ ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم؛ ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم . . ومن ثم يختار الله - سبحانه - لهم هذا الوصف :
{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } . .
فهو سقوط الهمة ، وضعف العزيمة ، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد . . وهم معذورون . . فأما أولئك فما هم بمعذورين
{ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } . .
فقد أغلق الله فيهم منافذ الشعور والعلم ، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك ، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم ، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة ، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة . وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر ، وتطبع على القلوب والعقول . والحركة دليل الحياة ، ومحرك في الوقت ذاته للحياة . ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل ، وتشد العضل ، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة ، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة . . وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة .
ويمضي السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف . .
إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة ، سقوط الهمة ، وذلة النفس ، وانحناء الهامة ، والتهرب من المواجهة والمصارحة :
{ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } .
وهذا من إنباء الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة . مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة .
يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم ، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية ، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية؛ وهي ضعف الإيمان ، وإيثار السلامة ، والإشفاق من الجهاد
{ قل : لا تعتذروا . لن نؤمن لكم .
قد نبأنا الله من أخباركم }
قل : وفروا عليكم معاذيركم . فلن نطمئن إليكم ، ولن نصدقكم ، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل . ذلك أن الله قد كشف لنا حقيقتكم ، وما تنطوي عليه صدوركم؛ وقص علينا دوافع أعمالكم؛ وحدثنا عن حالكم ، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم .
والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى : { لن نؤمن لكم } ذو دلالة خاصة . فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان . تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب ، وثقة من المؤمن بربه ، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه . وللتعبير القرآني دائماً دلالته وإيحاؤه .
قل : لا تعتذروا . فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام . ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك ، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان :
{ وسيرى الله عملكم ورسوله } . .
والله لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها؛ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيزن قولكم بعملكم . وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم .
ولن ينتهي الأمر - على كل حال - بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا . فوراء ذلك حساب وجزاء ، يقومان على علم الله المطلق بالظواهر والسرائر :
{ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } . .
والغيب ما غاب عن الناس علمه ، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه . والله سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى . وبمعنى أشمل وأكبر . فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة . . وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبين : { فينبئكم بما كنتم تعملون } . . إيماءة مقصودة . فهم يعلمون ما كانوا يعملون . ولكن الله - سبحانه - أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله ، والله أعلم به منه وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها ، والله يعلمها دون صاحبها . . والمقصود - بطبيعة الحال - هو نتيجة الإنباء . وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال . ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها ، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق .
{ سيحلفون بالله لكم - إذا انقلبتم إليهم - لتعرضوا عنهم . فأعرضوا عنهم ، إنهم رجس ، ومأواهم جهنم ، جزاء بما كانوا يكسبون } . .
وهذا إنباء آخر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، عما سيكون من أمر القوم عندما يعود إليهم هو والمؤمنون الخلص معه سالمين آمنين . وكان المنافقون قد ظنوا أنهم لا يعودون من لقاء الروم
فقد علم الله وأخبر نبيه أنهم سيؤكدون معاذيرهم بالحلف بالله؛ لعل المسلمين يعرضون عن فعلتهم وتخلفهم عفواً وصفحاً؛ ولا يحاسبونهم عليها ويجازونهم بها .
ثم يوجهه ربه إلى الإعراض عنهم فعلاً ، لكن لا بمعنى العفو والصفح؛ إنما بمعنى الإهمال والاجتناب .
معللاً ذلك بأنهم دنس يتجنب ويتوقى :
{ فأعرضوا عنهم ، إنهم رجس } . .
وهو التجسيم الحسي للدنس المعنوي . فهم ليسوا رجساً - أي دنساً - بأجسادهم وذواتهم؛ إنما هم رجس بأرواحهم وأعمالهم . ولكنها الصورة المجسمة أشد بشاعة وأبين قذارة ، وأدعى إلى التقزز والاشمئزاز ، وإلى الاحتقار كذلك والازدراء
والقاعدون في الجماعة المكافحة - وهم قادرون على الحركة - الذين يقعد بهم إيثار السلامة عن الجهاد . . رجس ودنس . ما في ذلك شك ولا ريب . . رجس خبيث يلوث الأرواح ، ودنس قذر يؤذي المشاعر؛ كالجثة المنتنة في وسط الأحياء تؤذي وتعدي
{ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } . .
وهم يحسبون أنهم يكسبون بالتخلف؛ ويربحون بالقعود؛ ويجنون السلامة والراحة؛ ويحتفظون بالعافية والمال . . ولكن الحقيقة أنهم دنس في الدنيا ، وأنهم يضيعون نصيبهم في الآخرة . فهي الخسارة المطبقة بكل ألوانها وأشكالها . . ومن أصدق من الله حديثاً؟
ثم يمضي السياق ينبئ عما سيقع من هؤلاء القاعدين بعد عودة المجاهدين :
{ يحلفون لكم لترضوا عنهم . فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } . .
إنهم يطلبون ابتداء من المسلمين أن يعرضوا عن فعلتهم صفحاً وعفواً . ثم يتدرجون من هذا إلى طلب رضى المسلمين عنهم ليضمنوا السلامة في المجتمع المسلم بهذا الرضى ويضمنوا أن يظل المسلمون يعاملونهم بظاهر إسلامهم كما كانوا يعاملونهم؛ ولا يجاهدونهم ويغلظون عليهم كما أمرهم الله في هذه السورة أن يفعلوا؛ محدداً بذلك العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين فيهم .
ولكن الله سبحانه يقرر أنهم فسقوا عن دين الله بهذا القعود الناشئ عن النفاق؛ وأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين . حتى ولو استطاعوا أن يحلفوا ويعتذروا حتى يرضى عنهم المسلمون . . وحكم الله فيهم هو الحكم . ورضا الناس - ولو كانوا هم المسلمين - في هذه الحالة لا يغير من غضب الله عليهم ، ولا يجديهم فتيلاً . إنما السبيل إلى إرضاء الله هو الرجوع عن هذا الفسق ، والعودة إلى دين الله القويم
وهكذا كشف الله هؤلاء القاعدين - من غير عذر - في الجماعة المسلمة؛ وقرر العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين . كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين ، وبين المسلمين وأهل الكتاب . وكانت هذه السورة هي الحكم النهائي الأخير .
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
هذا الدرس بجملته تصنيف للمجتمع الإسلامي في ذلك الحين - إبان غزوة تبوك - يصور طوائفه وطبقاته الإيمانية الداخلة في تركيبه العضوي العام ، مع تميز كل منها بصفاته وأعماله .
ولقد فصلنا القول في الجزء العاشر عند تقديم السورة عن الأسباب التاريخية التي أنشأت هذه المستويات الإيمانية المتعددة في الجماعة المسلمة في المدينة . فنجتزئ هنا من ذلك التفصيل بالفقرات الأخيرة منه ، لاستحضار الملابسات التي كانت تحيط بوجود هذه المستويات المتعددة في المجتمع الواحد :
. . . « لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزاً قوياً دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية . فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة - فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك - فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد ، بهذه الصورة العنيدة ، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه ، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها . . . فلما دانت قريش بالفتح ، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف؛ وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائياً ، فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام ، وأبيدت بنو قريظة ، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير . . كان ذلك إيذاناً بدخول الناس في دين الله أفواجاً ، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد .
» غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر - ولكن على نطاق أوسع - بعدما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى ، المستمرة التأثير ، في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة ، والأساس الركين لهذا المجتمع؛ لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة . . ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه ، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر كما أنه - سبحانه - كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة . . والله أعلم حيث يجعل رسالته . .
« وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة : » التوبة « : { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين }
« وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من » الطلقاء « الذين أسلموا يوم الفتح ، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة . فكان وجود هذين الألفين - مع عشرة الآلاف - سبباً في اختلال التوازن في الصف - بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن - ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح .
» كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع؛ ودخول تلك الأفواج الجديدة ، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة . . هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة ، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب ، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة « . .
وفي ضوء هذا البيان المجمل نملك المضي مع نصوص هذا الدرس تفصيلاً :
{ الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، والله عليم حكيم . ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر ، عليهم دائرة السوء ، والله سميع عليم . ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم ، سيدخلهم الله في رحمته ، إن الله غفور رحيم } . .
بدأ بتصنيف الأعراب - وهم البدو - وقد كانت قبائل منهم حول المدينة ، وكانت لهم أدوار في الهجوم على دار الإسلام في المدينة - قبل إسلامهم - فلما أسلموا كانوا بوجه عام داخلين في الفئتين اللتين ورد وصفهما في هذه الآيات .
وقد بدأ الحديث عنهما بتقرير قاعدة كلية عن طبيعة الأعراب :
{ الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، والله عليم حكيم } . .
والتعبير بهذا العموم يعطي وصفاً ثابتاً متعلقاً بالبدو وبالبداوة . فالشأن في البدو أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً ، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله .
والجدارة بعدم العلم بما أنزل الله على رسوله ناشئة من ظروف حياتهم ، وما تنشئه في طباعهم من جفوة ، ومن بعد عن المعرفة وعن الوقوف عند الحدود ، ومن مادية حسية تجعل القيم المادية هي السائدة . وإن كان الإيمان يعدل من هذه الطباع ، ويرفع من تلك القيم ، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية .
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب . . ومما أورده ابن كثير في التفسير . .
» قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم « نهاوند » ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : وما يربيك من يدي؟ إنها الشمال فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد ابن صوحان : صدق الله ورسوله : { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } .
« وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن « .
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } » ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه أضعافها حتى رضي - ، قال : « لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي » لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء .
قال حديث مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ قالوا : نعم قالوا : لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟ » .
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب . حتى بعد الإسلام . فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عندما يقهرون غيرهم؛ أو بالنفاق والالتواء عندما يقهرهم غيرهم؛ وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية .
{ والله عليم حكيم } . .
عليم بأحوال عباده وصفاته وطباعهم . حكيم في توزيع المواهب والخصائص والاستعدادات ، وتنويع الأجناس والشعوب والبيئات .
وبعد الوصف الرئيسي العام للأعراب يجيىء التصنيف حسبما أحدث الإيمان في النفوس من تعديلات؛ وما أنشأه كذلك من فروق بين القلوب التي خالطتها بشاشته والقلوب التي بقيت على ما فيها من كفر ونفاق؛ مما يمثل الواقع في المجتمع المسلم حينئذاك :
{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بكم الدوائر . عليهم دائرة السوء ، والله سميع عليم } . .
وربما عجل بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقاً لهم بمنافقي المدينة الذين كان يتحدث عنهم في المقطع السالف كله؛ وليتصل جو الحديث عن المنافقين من هؤلاء ومن هؤلاء .
{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } . .
فهو مضطر لأن ينفق من ماله في الزكاة ، وفي غزوات المسلمين؛ تظاهراً بالإسلام ، ليستمتع بمزايا الحياة في المجتمع المسلم؛ ومداراة للمسلمين وهم أصحاب السلطان اليوم في الجزيرة وهو يعد ما ينفقه غرامة وخسارة يؤديها كارهاً ، لا مساعدة للغزاة المجاهدين ، ولا حباً في انتصار الإسلام والمسلمين .
{ ويتربص بكم الدوائر } . .
وينتظر متى تدور الدائرة على المسلمين ، ويتمنى ألا يعودوا من غزاة سالمين
وهنا يعاجلهم السياق بدعاء من الله - سبحانه - عليهم؛ ودعاء الله معناه وقوع مدلول الدعاء عليهم :
{ عليهم دائرة السوء } . .
كأن للسوء دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم؛ وتدور عليهم فلا تدعهم . وذلك من باب تجسيم المعنوي وتخييله ، الذي يعمق وقع المعنى ويحييه .
{ والله سميع عليم } .
والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة ، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم ، وتخفيه ظواهرهم . . والله سميع لما يقولون عليم بما يظهرون وما يكتمون .
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان :
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم . سيدخلهم الله في رحمته . إن الله غفور رحيم } . .
فهو الإيمان بالله واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق ، لا الخوف من الناس ، ولا الملق للغالبين ، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس
وهذا الفريق المؤمن بالله واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من الله؛ ويتطلب صلوات الرسول . . أي دعواته . . الدالة على رضاه صلى الله عليه وسلم ، المقبولة عند الله ، وهو يدعو بها للمؤمنين بالله واليوم الآخر ، المنفقين ابتغاء القربى من الله ورضاه .
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند الله :
{ ألا إنها قربة لهم } . .
ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من الله حقاً :
{ سيدخلهم الله في رحمته } . .
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم؛ وذلك في مقابل تجسيم { دائرة السوء } على الفريق الآخر ، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بالمؤمنين الدوائر .
{ إن الله غفور رحيم } . .
يقبل التوبة ، ويتقبل النفقة ، ويغفر ما كان من ذنب ، ويرحم من يبتغون الرحمة . .
وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله . . حاضره وباديه . . إلى أربع طبقات إيمانية . . السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . والمنافقين الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن الأعراب . والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً . والذين أرجىء الحكم في أمرهم حتى يقضي الله فيهم بقضائه :
{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبداً ، ذلك الفوز العظيم . .
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم .
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم . خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً . عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم . خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم . ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وأن الله هو التواب الرحيم؟ وقل : اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } .
{ وآخرون مُرجوْن لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والله عليم حكيم } . .
والظاهر أن هذا التصنيف قد نزلت به هذه الآيات بعد العودة من تبوك؛ وبعد اعتذار من اعتذر من المنافقين المتخلفين؛ ومن المؤمنين المتخلفين كذلك . سواء منهم من اعتذر صادقاً ومن ربط نفسه بسارية المسجد حتى يحله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يعتذر بشيء راجياً أن يقبل الله توبته بصدقه ، وهم الثلاثة الذين خلفوا فلم يحكم في شأنهم بشيء حتى تاب الله عليهم وقبل توبتهم - كما سيجيء - وكان مجموع هؤلاء مثل صنوف الناس من حول الدعوة في الجزيرة بعد غزوة تبوك . كان الله - سبحانه - يكشف أرض الحركة كلها وما عليها ومن عليها لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين الخلص ، هذا الكشف النهائي الكامل قرب نهاية المطاف في الجولة الأولى لهذا الدين ، في موطنه الأول ، قبل أن ينطلق إلى الأرض كلها بإعلانه العام بالعبودية لله وحده والدينونة له وحده ، وتحرير « الإنسان » في « الأرض » من العبودية للعباد في شتى الصور والأشكال .
ولا بد للحركة الإسلامية حين تنطلق أن تتكشف لها أرض المعركة ، وما عليها ومن عليها ، فهذا التكشف ضروري لكل خطوة؛ حتى يعرف أصحاب الحركة مواضع أقدامهم في كل خطوة في الطريق .
{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، ذلك الفوز العظيم } . .
وهذه الطبقة من المسلمين - بمجموعاتها الثلاث : { السابقون الأولون من المهاجرين . والأنصار . والذين اتبعوهم بإحسان } - كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح - كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة . وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة ، وفي كل رخاء كذلك : فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة
والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر ، وكذلك السابقون من الأنصار . أما الذين اتبعوهم بإحسان - الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك - فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك ، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني - وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر ، وهي أشد الفترات طبعاً .
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار . فقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل : هم الذين صلوا للقبلتين . وقيل : هم أهل بدر . وقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية . وقيل : هم أهل بيعة الرضوان . . . ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية ، أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح . . والله أعلم . .
ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكوُّن طبقاته الإيمانية ، يكون حاضراً بين يدي قارئ هذا الجزء ، خيراً من إحالته إلى الجزء السابق؛ لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا :
« لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة ، فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة : » أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله « وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله . ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية .
» لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة . . وعلى التجمع الجديد ، وعلى القيادة الجديدة؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة . .
« لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه . وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين ، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد ، يتبع في تحركة قيادة جديدة ، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض . .
» وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها ، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان . . ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد ، والدينونة لقيادته الجديدة ، إلا كل من نذر نفسه لله؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب ، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان .
« بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوظ فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى؛ وكان هذا النوع قليلاً ، فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب؛ إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين .
» وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة ، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار ، الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون ، إلا أن بيعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( بيعة العقبة ) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين . قال ابن كثير في التفسير : : « وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يعني ليلة العقبة ) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : » أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم « قالوا : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال : » الجنة « قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل » .
« ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة؛ ويوثقون هذا البيع ، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشاً وراءهم ، وأن العرب كلها سترميهم؛ وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة ، وبين ظهرانيهم في المدينة » . .
. . . « فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة . . ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها . . فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأُعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة . .
» ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء . . لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم .
. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء : عبد الله بن أبي بن سلول : هذا أمر قد توجه وأظهر الإسلام نفاقاً . ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه . . مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ، ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية .
« وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد ، بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد .
» وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذلك في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة؛ ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة .
« ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف والنفاق والتردد ، والشح بالنفس والمال ، والتهيب من مواجهة المخاطر . . وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية . . والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .
. . . » إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار؛ وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً ، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها .
« وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقتهم مع الآخرين . حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة ، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد . .
» نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوته أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها .
. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . وتميز أهل بدر . وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية . ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم ، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة ، وتنص عليها . . . « .
. . . » ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركه الإسلامية ، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف ، والكثير من ظواهر الضعف والتردد ، والشح بالنفس والمال ، وعدم الوضوح العقيدي ، والنفاق . . من ذلك المجتمع . بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية .
« إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري ، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف - وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة - قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر؛ وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية . . . » .
ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك { بإحسان } يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي . وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقى مؤثراً في التاريخ البشري كله ، كما نستشرف حقيقة قول الله سبحانه فيهم .
{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } . .
ورضى الله عنهم هو الرضى التي تتبعه المثوبة ، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة؛ ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه سبحانه ، والثقة بقدره ، وحسن الظن بقضائه ، والشكر على نعمائه ، والصبر على ابتلائه . . ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر ، المتبادل الوافر ، الوارد الصادر ، بين الله سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده؛ ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر - حتى ليبادلون ربهم الرضى؛ وهو ربهم الأعلى ، وهم عبيده المخلوقون . . وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أن تعبر عنه؛ ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول
ذلك حالهم الدائم مع ربهم : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى :
{ وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } . . { ذلك الفوز العظيم } . .
وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم؟؟؟
ذلك مستوى . . وفي مقابله مستوى :
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم } . .
ولقد سبق الحديث والكشف عن المنافقين عامة - سواء من منافقي المدينة أو منافقي الأعراب - ولكن الحديث هنا عن صنف خاص من المنافقين .
صنف حذق النفاق ومرن عليه ، ولجّ فيه ومرد ، حتى ليخفى أمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع كل فراسته وتجربته فكيف يكون؟
والله سبحانه يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودة في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة . ويطمئن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه ، من كيد هذه الفئة الخفية الماكرة الماهرة؛ كما ينذر هؤلاء الماكرين المهرة في النفاق بأنه سبحانه لن يدعهم ، فسيعذبهم عذاباً مضاعفاً في الدنيا والآخرة :
{ لا تعلمهم نحن نعلمهم . سنعذبهم مرتين . ثم يردون إلى عذاب عظيم } . .
والعذاب مرتين في الدنيا ، الأقرب في تأويله أنه عذاب القلق النازل بهم من توقع انكشاف أمرهم في المجتمع المسلم؛ وعذاب الموت والملائكة تسألهم أرواحهم وتضرب وجوههم وأدبارهم . أو هو عذاب الحسرات التي تصيبهم بانتصار المسلمين وغلبتهم؛ وعذاب الخوف من انكشاف نفاقهم وتعرضهم للجهاد الغليظ . . والله أعلم بما يريد . .
وبين المستويين المتقابلين ، مستويان بين بين . . أولهما :
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، عسى الله أن يتوب عليهم ، إن الله غفور رحيم . خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم . ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات؟ وأن الله هو التواب الرحيم؟ وقل : اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون . . } .
وأمر الله لرسوله بإجراء معين مع هذه الطائفة دليل على أنها كانت معينة بأشخاصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر .
وقد روي أن الآيات نزلت في جماعة خاصة معينة فعلاً ، ممن تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك ، ثم أحسوا وطأة الذنب ، فاعترفوا بذنوبهم ، ورجوا التوبة . فكان منهم التخلف وهو العمل السيء . وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح .
قال أبو جعفر بن جرير الطبري : حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ابن سلمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } . نزلت في أبي لبابة وأصحابه ، تخلفوا عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته ، وكان قريباً من المدينة ، ندموا على تخلفهم عن رسول الله ، وقالوا : نكون في الظلال والأطعمة والنساء . ونبي الله في الجهاد واللأواء والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يطلقنا ويعذرنا وأوثقوا أنفسهم ، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسواري . فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته ، فمر في المسجد ، وكان طريقه ، فأبصرهم فسأل عنهم ، فقيل له : أبو لبابة وأصحابه ، تخلفوا عنك ، يا نبي الله ، فصنعوا بأنفسهم ما ترى ، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله ، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين فأنزل الله : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } إلى { عسى الله أن يتوب عليهم } و { عسى } من الله واجب .
. فأطلقهم نبي الله وعذرهم .
ووردت روايات متعددة أخرى منها : أنها في أبي لبابة وحده لما وقع في غزوة بني قريظة من تنبيههم لما يراد بهم ، وأنه الذبح ، بالإشارة إلى عنقه ولكن هذا مستبعد فأين هذه الآيات مما وقع في بني قريظة كذلك ورد أنها في الأعراب . . وقد عقب ابن جرير على هذه الروايات كلها بقوله :
« وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخفلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركهم الجهاد معه ، والخروج لغزو الروم ، حين شخص إلى تبوك ، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة ، أحدهم أبو لبابة .
» وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه قال : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } . . فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم ، ولم يكن المعترف بذنبه ، الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة ، غير أبي لبابة وحده . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } بالاعتراف بذنوبهم جماعة ، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست بالواحد ، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذ لم تكن إلا لجماعة . وكان لا جماعة فعلت ذلك - فيما ينقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل - إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، صح ما قلنا في ذلك . وقلنا : « كان منهم أبو لبابة » لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك « .
ولما ذكر الله - سبحانه - صفة هذه الجماعة من الناس المتخلفين المعتذرين التائبين عقب عليها بقوله :
{ عسى الله أن يتوب عليهم ، إن الله غفور رحيم } . .
وكما قال ابن جرير : » وعسى من الله واجب « . . فهو رجاء من يملك إجابة الرجاء سبحانه والاعتراف بالذنب على هذا النحو ، والشعور بوطأته ، دليل حياة القلب وحساسيته ، ومن ثم فالتوبة مرجوة القبول ، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم . . وقد قبل الله توبتهم وغفر لهم . .
ثم قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :
{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم } . .
ولقد كانت تلك الحساسية التي بعثت الندم والتوبة في تلك القلوب ، جديرة بالطمأنينة ، حقيقة بالعطف الذي يسكب فيها الأمل ، ويفتح لها أبوب الرجاء .
. وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقود حركة ، ويربي أمة ، وينشئ نظاماً ، قد رأى الأخذ بالحزم في أمرهم حتى يأتيه أمر من ربه في شأنهم . .
قال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة وصاحبيه ، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم ، فأتوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : خذ من أموالنا فتصدق بها عنا وصل علينا . . يقولون : استغفر لنا . . وطهرنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لا أخذ منها شيئاً حتى أومر » فأنزل الله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } . يقول : استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا . فلما نزلت الآية أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزءاً من أموالهم ، فتصدق به عنهم « .
وهكذا منَّ الله عليهم لما علمه سبحانه من حسن سريرتهم ، وصدق توبتهم ، فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم ، وأن يصلي عليهم - أي يدعو لهم ، فالأصل في الصلاة الدعاء - ذلك أن أخذ الصدقة منهم يرد إليهم شهورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة ، فهم يشاركون في واجباتها ، وينهضون بأعبائها ، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها؛ وفي تطوعهم بهذه الصدقات تطهير لهم وتزكية ، وفي دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم طمأنينة وسكن .
{ والله سميع عليم } . .
يسمع الدعاء ، ويعلم ما في القلوب . ويقضي بما يسمعه ويعلمه قضاء السميع العليم . وهو وحده الذي يقضي في شأن العباد ، فيقبل منهم توبتهم ويأخذ منهم صدقاتهم ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفذ ما يأمره به ربه ، ولا ينشئ شيئاً من هذا من عنده . . وتقريراً لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية :
{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وأن الله هو التواب الرحيم؟ } .
وهو استفهام تقريري يفيد : فليعلموا أن الله هو يقبل التوبة؛ والله هو يأخذ الصدقة ، والله هو يتوب ويرحم عباده . . وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه . . » وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزة معه؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد .
وأن محمداً إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله « . .
كما يقول ابن جرير :
وفي النهاية يتوجه الحديث إلى المتخلفين التائبين :
{ وقل : اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } . .
ذلك أن المنهج الإسلامي منهج عقيدة وعمل يصدق العقيدة . فمحك الصدق في توبتهم إذن هو العمل الظاهر ، يراه الله ورسوله والمؤمنون . فأما في الآخرة فمردهم إلا عالم الغيب والشهادة الذي يعلم فعل الجوارح وكوامن الصدور .
إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف . ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة . فيصدق أو يكذب تلك المشاعر النفسية ويعمقها أو يكتسحها بعد أن تكون
إن الإسلام منهج حياة واقعية ، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا ، ما لم تتحول إلى حركة واقعية . وللنية الطيبة مكانها؛ ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء . إنما هي تحسب مع العمل ، فتحدد قيمة العمل . وهذا معنى الحديث : » إنما الأعمال بالنيات « . الأعمال . . لا مجرد النيات
والفريق الأخير هو الذي لم يبت في أمره ، وقد وكل أمره إلى ربه :
{ وآخرون مُرجَون لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والله عليم حكيم } . .
وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك - غير المنافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين - وهذا القسم لم يكن حتى نزول هذه الآية قد بت في أمره بشيء .
وكان أمرهم موكولاً إلى الله ، لم يعلموه ولم يعلمه الناس بعد . . وقد روي أن هذه الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا - أي أجل إعلان توبتهم والقضاء في أمرهم - وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال ابن أمية ، الذين قعدوا عن غزوة تبوك كسلاً وميلاً إلى الدعة واسترواحاً للظلال في حر الهاجرة ثم كان لهم شأن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيأتي تفصيله في موضعه من السورة في الدرس التالي .
روى ابن جرير بإسناده - عن ابن عباس - قال : لما نزلت هذه الآية . . يعني قوله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } . . أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم . . يعني أموال أبي لبابة وصاحبيه . . فتصدق بها عنهم ، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة ، ولم يوثقوا ولم يذكروا بشيء ، ولم ينزل عذرهم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وهم الذين قال الله : { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم } . . فجعل الناس يقولون . هلكوا إذ لم ينزل لهم عذر . وجعل آخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم فصاروا مرجئين لأمر الله ، حتى نزلت : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } الذين خرجوا معه إلى الشام . . { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم }
ثم قال : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } يعني المرجئين لأمر الله - نزلت عليهم التوبة فعموا بها ، فقال : { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم } إلى قوله : { إن الله هو التواب الرحيم } ( وكذلك روى - بإسناده - عن عكرمة وعن مجاهد ، وعن الضحاك وعن قتادة . عن ابن إسحاق ) . فهذه الرواية أرجح والله أعلم .
ولما كان أمرهم مرجأ ، فإننا نحب أن نرجئ الحديث فيه حتى يجيء في موضعه . إن شاء الله تعالى .
{ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً ، وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبداً ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المطهرين . أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تَقطع قلوبهم ، والله عليم حكيم } .
وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك ، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين ، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك .
قال ابن كثير في التفسير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية . وقرأ علم أهل الكتاب؛ وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرِق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أُحد فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله عز وجل ، وكانت العاقبة للمتقين . وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وشج رأسه - صلوات الله وسلامه عليه - وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله ونالوا منه وسبوه ، فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيداً طريداً ، فنالته هذه الدعوة .
. وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومناه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ، ويرده عما هو فيه؛ وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك؛ فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك؛ وجاءوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته؛ وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه ، فقال : « إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - » فلما قفل - عليه السلام - راجعاً إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلى يوم أو بعض يوم ، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم - مسجد قباء - الذي أسس من أول يوم على التقوى . فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة . . ( وكذلك روى - بإسناده - عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ) .
فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقوم فيه ، وأن يقوم في المسجد الأول - مسجد قباء - الذي أقيم على التقوى من أول يوم ، والذي يضم رجالاً يحبون أن يتطهروا . { والله يحب المطهرين } . .
هذا المسجد - مسجد الضرار - الذي اتخذ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيدة للإسلام والمسلمين ، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين ، وإلا الكفر بالله ، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة ، الكائدين لها في الظلام ، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين . .
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين .
تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام ، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس ورائها وهي ترمي هذا الدين وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق ، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق . . . وتتخذ في صور شتى كثيرة . .
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزل اللافتات الخادعة عنها؛ وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها . ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك البيان القوي الصريح :
{ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً ، وكفراً ، وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل . وليحلفن : إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبداً . لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المطهرين . أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تقطع قلوبهم ، والله عليم حكيم } .
والتعبير القرآني الفريد يرسم هنا صورة حافلة بالحركة ، تنبئ عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى ، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار ، وتكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة؛ وتطمئن العاملين المتطهرين من كل كيد يراد بهم ، مهما لبس أصحابه مسوح المصلحين :
{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين } . .
فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن . . ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار . . إنه قائم على شفا جرف هار . . قائم على حافة جرف منها . . قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار . . إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق . . إنه ينهار إنه ينزلق إنه يهوي إن الهوة تلتهمه يا للهول إنها نار جهنم . . { والله لا يهدي القوم الظالمين } . . الكافرين المشركين . الذين بنوا هذه البنية ليكيدوا بها هذا الدين
إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات . . ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم ، في مواجهة دعوات الكيد والكفر والنفاق وليطمئن البناة على أساس من التقوى كلما واجهوا البناة على الكيد والضرار
ومشهد آخر يرسمه التعبير القرآني الفريد لآثار مسجد الضرار في نفوس بُناته الأشرار؛ وبناة كل مساجد الضرار :
{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تقطع قلوبهم ، والله عليم حكيم } .
.
لقد انهار الجرف المنهار . انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه . انهار به في نار جهنم وبئس القرار ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته . بقي فيها { ريبة } وشكاً وقلقاً وحيرة . وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر . إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور
وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار . . تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية . . وهما تتقابلان في اللوحة العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد . وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان . فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة . حائر الوجدان ، لا يطمئن ولا يستقر ، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم ، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار .
وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني ، في مثل هذا التناسق؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء . .
وتبقى وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله ، وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة؛ وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية ، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه . .
لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم ، وفي توجيهه ، وفي توعيته ، وفي إعداده لمهمته الضخمة . . ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل؛ ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
هذا المقطع الأخير من السورة - أو الدرس الأخير فيها - بقية في الأحكام النهائية في طبيعة العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره؛ تبدأ من تحديد العلاقة بين المسلم وربه ، وتحديد طبيعة « الإسلام » الذي أعلنه؛ ومن بيان تكاليف هذا الدين ، ومنهج الحركة به في مجالاته الكثيرة .
* إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين . . الله - سبحانه - فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع . فهي بيعة مع الله لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله - سبحانه - ودون الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله العليا ، وليكون الدين كله لله . فقد باع المؤمن لله في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم ، هو الجنة : وهو ثمن لا تعدله السلعة ، ولكنه فضل الله ومَنَّه :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم } .
* والذين باعوا هذه البيعة ، وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة ، ذات صفات مميزة . . منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع الله في الشعور والشعائر؛ ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين الله في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود الله في أنفسهم وفي سواهم :
{ التائبون ، العابدون ، الحامدون ، السائحون ، الراكعون الساجدون ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله . وبشر المؤمنين } .
* والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة ، وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولى قربى - فقد اختلفت الوجهتان ، واختلف المصيران ، فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة ، والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم . ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم . وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة ، ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم :
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . إن إبراهيم لأواه حليم } . .
* وولاء المؤمن يجب أن يتمحض لله الذي عقد معه تلك الصفقة؛ وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة - وهذا بيان من الله للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة - وحسب المؤمنين ولاية الله لهم ونصرته؛ فهم بها في غنى عن كل ما عداه ، وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه :
{ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، إن الله بكل شيء عليم ، إن الله له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } .
* ولما كانت هذه طبيعة تلك البيعة؛ فقد كان التردد والتخلف عن الغزوة في سبيل الله أمراً عظيماً ، تجاوز الله عنه لمن علم من نواياهم الصدق والعزم بعد التردد والتخلف؛ فتاب عليهم رحمة منه وفضلاً :
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم؛ ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا ، إن الله هو التواب الرحيم } . .
* ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب؛ أولئك القريبون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية ، ومركز الانطلاق الإسلامي؛ واستنكار لما وقع منهم من تخلف؛ مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة :
{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . .
* ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام . وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد ، وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين؛ ويبقى البعض للقيام بحاجيات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض ، ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف :
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة . فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، لعلهم يحذرون } .
* وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية - بعدما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه - وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . . وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون :
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين } .
.
* وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي . . يعرض السياق مشهداً من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموحيات الإيمان القلبية ، وبالتكاليف والواجبات العملية . ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات ، ولا تعظهم النذر والابتلاءات :
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيماناً؛ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون . أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } . .
*ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته . مع توجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى الاعتماد على الله وحده ، والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون :
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم } . .
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد؛ وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة ، وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض - وفقاً للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال - لتقرير حدود الله والمحافظة عليها؛ أي لتقرير حاكمية الله للعباد ، ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات الله وشريعة الله في هذا الزمان؛ وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود الدفاع الإقليمي عن « أرض الإسلام » بينما كلمات الله - سبحانه - تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون « أرض الإسلام » هذه من الكفار؛ دون ذكر لأنهم معتدون فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية الله - سبحانه - بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير الله . وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد
وحسبنا هذه الإشارة في هذا التقديم المجمل للدرس الأخير ، لنواجه نصوصه بالتفصيل .
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ، التائبون العابدون الحامدون السائحون ، الراكعون الساجدون ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله ، وبشر المؤمنين } .
.
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات ، في أثناء حفظي للقرآن ، وفي أثناء تلاوته ، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان . . هذا النص - حين واجهته في « الظلال » أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان
إنه نص رهيب إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله؛ وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف ( المؤمن ) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء . . لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . . إنها صفقة مشتراة ، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء ، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد ، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم ، لا يتلفت ولا يتخير ، ولا يناقش ولا يجادل ، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . . والثمن : هو الجنة . . والطريق : هو الجهاد والقتل والقتال . . والنهاية : هي النصر أو الاستشهاد :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا . . ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً ، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال ، وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا لإنسان فجعله مريداً؛ وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع الله - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة : . . شر البهيمة . . { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } . .
عونك اللهم فإن العقد رهيب . . وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم « مسلمين » في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد .
ولا يقتلون . ولا يقتلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم ، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة ، لا إلى صورة متأملة . . هكذا أدركها عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يعني ليلة العقبة ) - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم » قال : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال : « الجنة » قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل .
هكذا . . « ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل » . . لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين؛ انتهى أمرها ، وأمضى عقدها ، ولم يعد إلى مرد من سبيل : « لا نقيل ولا نستقيل » فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار؛ والجنة : ثمن مقبوض لا موعود أليس الوعد من الله؟ أليس الله هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن وعداً قديماً في كل كتبه :
{ وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } . .
{ ومن أوفى بعهده من الله؟ } .
أجل ومن أوفى بعهده من الله؟
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله . . إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق . . بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . . إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . . ولا بد لدين الله أن ينطلق في « الأرض » كلها لتحرير « الإنسان » كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً . . وما دام في « الأرض » كفر . وما دام في « الأرض » باطل . وما دامت في « الأرض » عبودية لغير الله تذل كرامة « الإنسان » فالجهاد في سبيل الله ماض ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء .
وإلا فليس بالإيمان : و « من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو ، مات على شعبة من النفاق » ( رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ) .
{ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم } .
استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم لله ، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً ، كما وعد الله . . وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء . فالنفس إلى موت ، والمال إلى فوت . سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه والجنة كسب . كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة فالمقابل زائل في هذه الطريق أو ذاك
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله . ينتصر - إذ انتصر - لإعلاء كلمته ، وتقرير دينه ، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه . ويستشهد - إذا استشهد - في سبيله ، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة . ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض ، والإيمان ينتصر فيه على الألم ، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة .
إن هذا وحده كسب . كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم ، وانتصار العقيدة فيه على الحياة . . فإذا أضيفت إلى ذلك كله . . الجنة . . فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال :
{ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم فيه ، وذلك هو الفوز العظيم } .
ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية :
{ وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } . .
فوعد الله للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور . . وهو لا يدع مجالاً للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل الله في طبيعة هذا المنهج الرباني؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري - لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه - ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي ، يحمي نفسه بالقوة المادية؛ ويقاوم دين الله وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية الله وحده للعباد ، وتحرير « الإنسان » في « الأرض » من العبودية للعباد . كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد . . ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في « الأرض » لتحقيق إعلانه العام بتحرير « الإنسان » أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية؛ والتي تحاول بدورها - في حتمية لافكاك منها - أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري ، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد
فأما وعد الله للمجاهدين في التوراة والإنجيل .
فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان . .
إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما الله على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة . . وهو قليل . . أضيف إليه الكثير
ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد ، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين ، لنصر إلههم وديانته وعبادته وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم لله - سبحانه - وتصورهم للجهاد في سبيله .
فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد . . ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها - بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم - وقبل ذلك بشهادة الله سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والله سبحانه يقول في كتابه المحفوظ : إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن . . فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين الله . .
ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة ، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة :
{ التائبون . العابدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله } . .
{ التائبون } . . مما أسلفوا ، العائدون إلى الله مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى ، وتوجه إلى الله فيما بقي ، وكف عن الذنب ، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك ، فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
{ العابدون } . . المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية .
{ الحامدون } . . الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ، وتلهج ألسنتهم بحمد الله في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة ، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة .
وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن الله الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ، مهما خفي على العباد إدراكه .
{ السائحون } . . وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول : إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول : إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول : إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول : إنهم الصائمون . . ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق الله وسننه ، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك . . . } فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت الله على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى الله ، وإدراك حكمته في خلقه ، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك . .
{ الراكعون الساجدون } . . الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
{ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } . . وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله ، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه . . ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده ، وشريعة الله وحدها هي الحاكمية فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله . . والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم
{ والحافظون لحدود الله } . . وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس .
ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله؛ وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به الله . . والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها : توبة ترد العبد إلى الله ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته . وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك . .
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسوله ورسالاته . قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله؛ وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال .
وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . . إنما الحياة هي هذه : كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة الله ، أو استشهاد كذلك في سبيل الله . . ثم الجنة والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون بالله : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } وصدق الله . وصدق رسول الله . .
والمؤمنون الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، أمة وحدهم ، العقيدة في الله بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة . وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها ، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة . وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة ، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه؛ وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها . والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة :
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم .
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، إن إبراهيم لأواه حليم . وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، إن الله بكل شيء عليم . إن الله له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } .
والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم؛ فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم ، في غير صلة بالله ، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه . . ما كان لهم قطعاً وليس من شأنهم أصلاً . . أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك ، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان .
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية . فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها ، فلا لقاء بعد ذلك في نسب ، ولا لقاء بعد ذلك في صهر . ولا لقاء بعد ذلك في قوم . ولا لقاء بعد ذلك في أرض . . إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة ، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها . أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان .
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، إن إبراهيم لأواه حليم } . .
فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه . فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه ، ذلك إذ قال له : { سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً } فلما أن مات أبوه على الشرك ، وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه ، { تبرأ منه } وقطع صلته به .
{ إن إبراهيم لأواه حليم } . .
كثير التضرع لله ، حليم على من آذاه . ولقد آذاه أبوه فكان حليماً؛ وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعاً .
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر الله في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب ، وتقرر القاعدة الإسلامية أنه لا عقوبة بغير نص؛ ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل :
{ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون . إن الله بكل شيء عليم } .
.
إن الله لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه . وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل ، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلاً . . ذلك أن الإنسان قاصر والله هو العليم بكل شيء . ومنه البيان والتعليم .
ولقد جعل الله هذا الدين يسراً لا عسراً ، فبين ما نهى عنه بياناً واضحاً ، كما بين ما أمر به بياناً واضحاً . وسكت عن أشياء لم يبين فيها بياناً - لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير- ونهى عن السؤال عما سكت عنه ، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد . ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئاً من المسكوت عنه ، ولا أن ينهى عما لم يبينه الله . تحقيقاً لرحمة الله بالعباد . .
وفي نهاية هذه الآيات ، وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب ، بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو الله وحده . وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة .
{ إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } . .
فالأموال والأنفس ، والسماوات والأرض ، والحياة والموت ، والولاية والنصرة . . كلها بيد الله دون سواه . وفي الصلة بالله وحده كفاية وغناء .
وهذه التوكيدات المتوالية ، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة ، ورابطة العقيدة الجديدة . مما اقتضى هذا الحسم الأخير ، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله . . حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه . . ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة .
إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية . فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور : كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق . . وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضاً . .
ولما كانت تلك طبيعة البيعة ، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أياً كانت الأسباب - أمراً مستنكراً عظيماً؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها . . وفي الآيات التالية يبين مدى فضل الله ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين ، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من أخطاء صغرت أم كبرت . . كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم - وهم المرجون لأمر الله الذين سبق ذكرهم حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان :
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم .
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا . إن الله هو التواب الرحيم } . .
وتوبة الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال الله عنه لنبيه : { عفا الله عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم . وقد عفا الله عنه في اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين
وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى : { الذين ابتعوه في ساعة العسرة من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } . . وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل - وهم من خلص المؤمنين - وبعضهم ما استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم ثم ثبت الله قلبه ومضى بعد تردد .
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر الله - سبحانه - أنه كان { ساعة العسرة } . ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها ( ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام ، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي ، ومن البداية والنهاية لابن كثير ، ومن تفسير ابن كثير ) :
لما نزل قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . } أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ( ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن ) وذلك في زمن عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاء ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها ، واخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له ( أي يقصد إليه ) إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذي يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته . فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم .
واستأذن بعض المنافقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم فأذن وفي هذا نزل عتاب الله لنبيه في الإذن مصدرا بالعفو عنه في اجتهاده :
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ } وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر - زهادة في الجهاد ، وشكاً في الحق ، وإرجافاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم : { وقالوا : لا تنفروا في الحر ، قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون } وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، يثبطون الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك؛ فبعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا . ثم تاب الضحاك .
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع . وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند الله . وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين ، عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها . . قال ابن هشام : فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض » وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه - بإسناده - عن عبد الرحمن بن حباب السلمي ، قال : خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان : عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم نزل مرقاة من المنبر ، ثم حث ، فقال عثمان : عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بيده هكذا يحركها ( وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب ) : « ما على عثمان ما عمل بعد هذا » . . ( وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي ، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به . وقال : غريب من هذا الوجه ) . ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به ، وقال : ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها . .
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال : حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة ( يعني في غزوة تبوك ) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ( أي درهم ) ، فقال يا رسول الله ، مالي ثمانية آلاف ، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها .
فقال : « بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت » وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال : يا رسول الله أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال : فلمزة المنافقون ، وقالوا : ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟
في روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل ( وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون . وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة ، وكانوا أهل حاجة . فقال : « لا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل ( من السبعة البكائين ) وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما؟ قال : جئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه . فأعطاهما ناضحاً له ( أي جملاً يستقي عليه الماء ) فارتحلاه . وزودهما شيئاً من تمر ، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق : وأما علبة بن زيد ( أحد البكائين ) فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به ، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض . . ثم أصبح مع الناس . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أين المتصدق هذه الليلة؟ » فلم يقيم أحد ثم قال : « أي المتصدق؟ فليقم » فقام إليه فأخبره . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « أبشر ، فوالذي نفسي بيده ، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة » .
ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائل الأعراب من حولها . وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب ، منهم : كعب ابن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ( وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم ) وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي .
. وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عسكره على « ثنية الوداع » وضرب عبد الله بن أبي - رأس النفاق - عسكره على حدة ، أسفل منه ، قال ابن إسحاق : ( وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ) . . ولكن الروايات الأخرى تقول : إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة . . فلما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب .
ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائراً ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول الله ، تخلف فلان ، فيقول : « دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه حتى قيل : يا رسول الله ، قد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره ، فقال : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه » وتلوّم أبو ذر على بعيره ( أي انتظر عليه ) ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماشياً . ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كن أبا ذر » فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو ذر . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده » .
ثم إن أبا خيثمة رجع - بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً - إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه ( أي في حديقته ) قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء . وهيأت له فيه طعاماً . فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضحَّ ( أي الشمس ) والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهيئا لي زاداً . ففعلتا . ثم قدم ناضحة فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه حين نزل تبوك . . وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل .
حتى إذا دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كن أبا خيثمة » فقالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « أولى لك يا أبا خيثمة » ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - الخبر . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ، ودعا له بالخير .
قال ابن إسحاق : وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : « مُخشن بن حُمير » ( قال ابن هشام : ويقال : مخشى ) يشيرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر ( يعنون الروم ) كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . . فقال مخشن بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقاتلكم هذه . وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر : « أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا » فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على ناقته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها ( وهو الحبل يشد على بطن البعير ) يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب . فأنزل الله عز وجل : { ولئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض ونلعب . قل : أبالله وآياته ورسوله كنتم تسهزئون؟ } وقال مخشن بن حمير : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير . فتسمى عبد الرحمن . وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر . .
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : لما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك - بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً - هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به ، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق ، فأخبر بخبرهم ، فأمر الناس بالمسير من الوادي ، وصعد هو العقبة ، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه .
عمار آخذ بزمام الناقة ، وحذيفة يسوقها؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبصر حذيفة غضبه ، فرجع إليهم ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه ، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم فأسرعا حتى قطعوا العقبة ، ووقفوا ينتظرون الناس . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة : « هل عرفت هؤلاء القوم؟ » قال : ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم . ثم قال : « علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟ » قالا : لا . فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه ، وسماهم لهما ، واستكتمهما ذلك ، فقال : يا رسول الله ، أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال :
« أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه » .
قال ابن كثير في البداية والنهاية :
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده . وهذا هو الأشبه ، والله أعلم . .
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها . . قال ابن كثير في التفسير :
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } . . في غزوة تبوك . وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء . . قال قتادة : خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر ، على ما يعلم الله من الجهد ، فأصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم .
وروى ابن جرير - بإسناده - إلى عبد الله بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده .
وقال ابن جرير في قوله : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } - أي من النفقة والظهر والزاد والماء - { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } - أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرتاب للذين نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم - { ثم تاب عليهم } يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه { إنه بهم رؤوف رحيم } . .
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت { العسرة } كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية؛ من اليقين الجاد عند طائفة . إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة . إلى القعود والتخلف - بغير ريبة - عند طائفة . إلى النفاق الناعم عند طائفة . إلى النفاق الفاجر عند طائفة . إلى النفاق المتآمر عند طائفة . . مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة؛ ويشي ثانياً بمشقة الغزوة - في مواجهة الروم ومع العسرة - هذه المشقة الممحصة . الممتحنة الكاشفة؛ والتي لعل الله سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز .
هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم . ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكاً ولا نفاقاً ، إنما قعدوا كسلاً واسترواحاً للظلال في المدينة . وهؤلاء جماعتان؛ جماعة قضي في أمرهم من قبل ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، واعترفوا بذنوبهم ، وجماعة أخرى : { مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا ، أي تركوا بلا حكم . وأرجئوا حتى يحكم الله فيهم . وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق . .
وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئاً في تفسير النص المصور لحالهم؛ وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزه التي رسمها التعبير لهم ولحالهم ، ندع أحدهم يتحدث عما كان . . هو كعب بن مالك - رضي الله عنه - : أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال : سمعت كعب ابن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزة؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدواً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم بوجههم الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - .
قال كعب رضي الله عنه : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل . وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وأنا إليها أصغو ، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، وطفقت أغدوا لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئاً ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إن أردت . فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض في جهازي شيئاً ، فلم يزل يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليت أني فعلت؛ فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً من عذر الله . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : « ما فعل كعب بن مالك » ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي ، فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي .
فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم انج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له . وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً؛ فقبل رسول الله عليه وسلم منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله؛ حتى جئت؛ فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : « تعال » فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : « ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ » فقلت يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أُعطيت جدلاً ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه ، وإني لأرجو فيه عقبى من الله . والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلى الله عليه وسلم : « أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك » فقمت . وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . فقلت : من هما؟ قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي .
قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما . وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتىإذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه .
فوالله ما رد علي السلام . فقلت : له : يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى . هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت ، قال فعدت فنشدته فسكت؛ فعدت فنشدته . قال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .
وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب ابن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي ، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً ، فقرأته فإذا فيه :
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء . فتيممت بها التنور فسجرتها . . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك . فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربنها . وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . فجاءت امراة هلال بن أمية رسول الله صلى الله وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن هلالاً شيخ ضائع ، وليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال « لا ، ولكن لا يقربنك » فقالت : إنه والله ما به من حركة إلى شيء ، ووالله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .
قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا . قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً؛ وعرفت أن الفرج؛ فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر . فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إليَّ رجل فرساً وسعى ساع من أسلم قِبلي ، وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته ، والله ما أملك غيرهما يومئذ؛ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون : ليهنك توبة الله عليك .
حتى دخلت المسجد . فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إليّ طلحة ابن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة .
قال كعب رضي الله عنه : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : « أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك » قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : « لا بل من عند الله » وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال : « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذباً ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي . وأنزل الله : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله وكونوا مع الصادقين } .
قال كعب : فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه . فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس - إلى قوله - الفاسقين } هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا - كما رواها أحدهم كعب بن مالك - وفي كل فقرة منها عبرة ، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ، ومتانة بنائها ، وصفاء عناصرها ، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة ، ولتكاليف الدعوة ، ولقيمة الأوامر ، ولضرورة الطاعة .
فهذا كعب بن مالك - وزميلاه - يتخلفون عن ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ساعة العسرة . يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة ، فيؤثرونها على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب .
ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحس ما فعل ، يشعره به كل ما حوله : « فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر الله » - يعني بمن عذر الله الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون .
فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزوة البعيدة الشقة . لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق ، وإلا العاجزون الذين عذرهم الله . أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة ، وأصلب عوداً من الشدة . .
هذه واحدة .
والثانية هي التقوى . التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار . والأمر بعد ذلك لله : « فقلت : يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلاً . ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي . ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من الله . والله ما كان لي عذر . والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك » .
فالله حاضر في ضمير المؤمن المخطئ . ومع حرصه البالغ على رضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان - مع هذا فإن مراقبة الله أقوى وتقوى الله أعمق؛ والرجاء في الله أوثق .
« ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عن كلامنا . أيها الثلاثة . من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال : تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما؛ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم . فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد . وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة ، وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام .
فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى . هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال : فسكت . قال : فعدت فنشدته فسكت ، فعدت فنشدته . قال : الله ورسول أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار « .
هكذا كان الضبط ، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة - على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة - . . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة . فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة ، ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس ، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي . حتى ابن عمه وأحب الناس إليه ، وقد تسور عليه داره ، لا يرد عليه السلام ، ولا يجيبه عن سؤال . فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه ، إنما قال : » الله ورسوله أعلم « .
وكعب في لهفته - وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف - يتلمس حركة من بين شفتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول الله قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها ، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة ، ولم يكتب له الذبول والجفاف
وبينما هو طريد شريد ، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة - ولو على سبيل الصدقة - يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه . . ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله ، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار ، ويعد هذا بقية من البلاء ، ويصبر على الابتلاء .
وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه . لتدعه فريداً طريداً من الأنس كله ، مخلفاً بين الأرض والسماء . فيخجل أن يراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأته ، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب .
هذه صفحة . والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى . بشرى القبول . بشرى العودة إلى الصف . بشرى التوبة من الذنب . بشرى البعث والعودة إلى الحياة . . » فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا . قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفىَ على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج . فآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبلَ صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي رجل فرساً ، وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس . فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته . والله ما أملك غيرهما يومئذ ، فاستعرت ثوبين فلبستهما ، فانطلقت أؤم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة ، ويقولون : ليهنك توبة الله عليك .
حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحوله ، الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره . قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة « . .
هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة . وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم؛ كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها ، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة . وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه ، فهو في يوم كما قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك « قالها - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور . كما قال كعب ، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل الله توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته .
تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب الله عليهم ، وهذه هي بعض لمحات دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية ، وعلى القيم التي كانت تعيش بها .
والقصة كما رواها أحد أصحابها ، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية :
{ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه . . . } . .
{ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } . .
فما الأرض؟ إن هي إلا بأهلها . إن هي إلا بالقيم السائدة فيها . إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها . فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني ، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين ، وتتقاصر أطرافها ، وتنكمش رقعتها ، فهم منها في حرج وضيق .
{ وضاقت عليهم أنفسهم } . .
فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم ، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم .
{ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } . .
وليس هناك ملجأ من الله لأحد ، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات . ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق ، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب . .
ثم يجيء الفرج . . { ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } .
تاب عليهم من هذا الذنب الخاص ، ليتوبوا توبة عامة عن كل ما مضى ، ولينيبوا إلى الله إنابة كاملة في كل ما سيأتي . ومصداق هذا في قول كعب : قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال : » أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك « قال فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي إلا أحدث إلا صدقاً ما بقيت .
قال : فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا . وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا - في ظلال القرآن - مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها . فحسبنا هنا ما وفق الله إليه فيها .
وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعاً أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . .
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة ، فهم أهلها الأقربون . وهم بها ولها . وهم الذين آووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعوه؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله . وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة . . فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله . وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه . . وحين يخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحر أو البرد . في الشدة أو الرخاء . في اليسر أو العسر . ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها ، فإنه لا يحق لأهل المدينة ، أصحاب الدعوة ، ومن حولهم من الأعراب ، وهم قريبون من شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا ، أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا الله وأن يكونوا مع الصادقين الذين لم يتخلفوا ، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف ، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع . . وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } .
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول الله :
{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } .
وفي التعبير تأنيب خفي . فما يؤنب أحد يصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوجع من أن يقال عنه . إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله ، وهو معه ، وهو صاحبه
وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل . فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم
إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول الله - فضلاً على الأمر الصادر من الله - ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه
{ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . .
إنه على الظمأ جزاء ، وعلى النصب جزاء ، وعلى الجوع جزاء . وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء . وعلى كل نيل من العدو جزاء . يكتب به للمجاهد عمل صالح ، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم الله أجراً .
وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر . وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر . . أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة .
ألا والله ، إن الله ليجزل لنا العطاء . وإنها والله للسماحة في الأجر والسخاء . وإنه لمما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشدة واللأواء . في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء ، وعليها بعده أمناء
ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين؛ والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب؛ قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة . مما اقتضى بيان حدود النفير العام - في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية - فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام ، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد ، وقد بلغ من عددهم - بعد تخلف المتخلفين في تبوك - نحواً من ثلاثين ألفاً ، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين . وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة؛ وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة ، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية .
. ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء :
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } . .
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية ، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . . والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية : أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم ، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة . .
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي الله عنهما - ومن تفسير الحسن البصري ، واختيار ابن جرير ، وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي ، لا يفقهه إلا من يتحرك به؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا؛ ولا فقهوا فقههم؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن ، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة ، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ولكن هذا وهم ، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين؛ ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس ، وتغليبه على الجاهلية ، بالحركة العملية .
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية « يجددون » بها الفقه الإسلامي أو « يطورونه » - كما يقول المستشرقون من الصليبيين - وهم بعيدون عن الحركة التي تسهتدف تحرير الناس من العبودية للعباد ، وردهم إلى العبودية لله وحده ، بتحكيم شريعة الله وحدها وطرد شرائع الطواغيت .
. هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين؛ ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة لله وحده ، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه لله وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها؛ والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة لله وحده ، واستيحاء شريعته وحدها ، تحقيقاً لهذه الدينونة ، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية ، وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه ، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة ، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين ، يجيء فقههم للدين من تحركهم به ، ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي ، يعيش بهذا الدين ، ويجاهد في سبيله ، ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .
فأما اليوم . . « فماذا » . . ؟ أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته لله وحده؛ والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد؛ والذي قرر أن تكون شريعة الله شريعته؛ والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد؟
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه ، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو « تجديده » أو « تطويره » في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة لله وحده؛ وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا لله ، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة . .
إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو « تجديدة » أو « تطويره » في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد ، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة ، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة؛ . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .
إن الدينونة لله وحده أنشأت المجتمع المسلم ، والمجتمع المسلم أنشأ « الفقه الإسلامي » .
. ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشئ من الدينونة لله وحده ، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ ، وليس « جاهزاً » معداً من قبل ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة ، ذات حجم معين ، وشكل معين ، وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة ، داخل الإطار الإسلامي لا بعيداً عنه ، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها؛ ومن ثم « يفصل » لها حكم مباشر على « قدها » . . فأما تلك الأحكام « الجاهزة » في بطون الكتب؛ فقد « فصلت » من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شرعة الله فعلاً . ولم تكن وقتها « جاهزة » باردة كانت وقتها حية مليئة بالحيوية؛ وعلينا اليوم أن « نفصل » مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير الله في شرائعه؛ وألا يفصل حكماً شرعياً إلا من شريعة الله دون سواها .
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر ، اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر؛ ويمكن من التفقه في الدين حقاً . . وغير هذا لا يكون إلا هزلاً تفرضه طبيعة هذا الدين؛ وإلا هروباً من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار « تجديد الفقه الإسلامي » أو « تطويره » . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين
بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك . وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده بصفة عامة ، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة :
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين } . .
فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } . .
فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية ، تواجه من يلون « دار الإسلام » ويجاورونها ، مرحلة فمرحلة . فلما أسلمت الجزيرة العربية - أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة - كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم . ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس ، فلم يتركوا وراءهم جيوباً؛ ووحدت الرقعة الإسلامية ، ووصلت حدودها ، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء ، متماسكة الأطراف؛ . . ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها ، وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت ، أو على أساس القوميات وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون .
وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام « أمة واحدة » في « دار الإسلام » المتصلة الحدود - وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان - ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها ، وإلى رايته الواحدة؛ وإلا أن تتبع خطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين .
ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين } . .
فنجد أمراً بقتال الذين يلون المسلمون من الكفار . لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم . . وندرك أن هذا هو الأمر الأخير ، الذي يجعل « الانطلاق » بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد ، وليس هو مجرد « الدفاع » كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة .
ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام ، وعن أحكام الجهاد في الإسلام ، وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن . . أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة؛ فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء والنص القرآني بذاته مطلق ، وهو النص الأخير وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام ، أن يكون دقيقاً في كل موضع؛ وألا يحيل في موضع على موضع؛ بل يتخير اللفظ المحدد؛ ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص . إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص .
ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر ، وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب ، أو فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك .
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام ، وعن أحكام الجهاد في الإسلام ، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذا الأحكام ، يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام وأن يكون الله - سبحانه - قد أمر الذين آمنوا ان يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار ، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار ، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار . . يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا ، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة؛ ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة
إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو . . .
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في « سبيل الله » . . جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله .
. جهاد لتحرير « الإنسان » من العبودية لغير الله ، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد . . { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وأنه ليس جهاداً لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله . إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم ، إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد وليس جهاداً لإقامة مملكة لعبد ، وإنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض . . ومن ثم ينبغي له أن يطلق في « الأرض » كلها ، لتحرير « الإنسان » كله . بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها . . فكلها « أرض » يسكنها « الإنسان » وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعاً أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج ، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم . . إنها في هذا الوضع لا تستساغ وهي فعلاً لا تستساغ . . لولا أن الأمر ليس كذلك . وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش إنها كلها اليوم أنظمة بشرية . فليس لواحد منها أن يقول : إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعاً من ذلة العبودية للعباد؛ ويرفع البشر جميعاً إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبياً منظماً لئيماً ماكراً خبيثاً يقول لهم : إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف ، وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية؛ وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد
والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة . . لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق . . إن الإسلام يقوم على قاعدة : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهداً؛ ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } ؟ . . إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . . بل لأمر مناقض تماماً للإكراه على العقيدة . . إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد؛ . . لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير « الإنسان » في « الإرض » من العبودية للعباد؛ يواجه دائماً طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائماً أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد؛ تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور؛ وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية؛ كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم ، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله .
. ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة ، ويدمر هذه القوى التي تحميها . . ثم ماذا؟ . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام ، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات ، وكانوا إخواناً في الدين للسابقين في الإسلام وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية ، إعلاناً عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة؛ ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد ، وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .
إن الإسلام لم يكره فرداً على تغيير عقيدته؛ كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوباً بأسرها - كشعب الأندلس قديماً وشعب زنجبار حديثاً - لتكرههم على التنصر . وأحياناً لا تقبل منهم حتى التنصر ، فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . . وأحياناً لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلاً اثناء عشر ألفاً من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذا أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بانبثاق الروح القدس من الآب فقط ، أو من الآب والابن معاً أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية ، أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزئيات الاعتقادية الجانبية
وأخيراً فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحياً في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر . . وهو يهول فعلاً . . فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين ، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عموماً هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعاً بالقتال ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟ إنه لأمر لا يتصور عقلاً . . ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً
ولكن فات هؤلاء جميعاً أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين ، ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق ، فنصرها الله يوماً بعد يوم ، وغزوة بعد غزوة ، ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد استدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . . وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول .
. ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . . ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء؛ والذي تتقاسمة الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية : لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعاراً ، ولا تتخذ لها مذهباً ولا منهجاً من صنع العبيد في الأرض؛ إنما تنطلق باسم الله وعلى بركة الله . .
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين ، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت
إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين ، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة ، لا يؤهل لفقه هذا الدين ، ولم يكن مؤهلاً له في يوم من الأيام
وأخيراً فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين } . .
تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم . . وهم أهل كتاب . . ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي ، بما في عقيدتهم من انحراف ، وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد . .
وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب ، المنحرفين عن كتابهم ، المتحكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم . . وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون - راضين - إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه ، في أي زمان وفي أي مكان
ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة ، وعقب على هذا الأمر بقوله :
{ أن الله يحب المتقين } . .
ولهذا التعقيب دلالته . . فالتقوى هنا . . التقوى التي يحب الله أهلها . . هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار؛ وتقاتلهم في { غلظة } أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعاً أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم - وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين - وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب
إنه قتال يسبقه إعلان ، وتخيير بين : قبول الإسلام ، أو أداء الجزية ، أو القتال . . ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد - في حالة الخوف من الخيانة - ( والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية؛ ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها ) .
وهذه آداب المعركة كلها ، من وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
* « عن بريدة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال : » اغزوا باسم الله ، في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً . فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . وإن هم أبوا فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم . . . « . . ( أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ) .
* وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان » . . . ( أخرجه الشيخان ) .
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن معلماً فكانت وصيته له :
« إنك تأتي قوماً أهل كتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » .
وأخرج أبو داود - بإسناده - عن رجل من جهينة . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم ، فيصالحونكم على صلح ، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم » .
وعن العرباض بن سارية قال : « نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر ، ومعه من معه من المسلمين .
وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً . فأقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد لكم أن تذبحوا حمرنا ، وتأكلوا ثمرنا ، وتضربوا نساءنا؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : « يا ابن عوف اركب فرسك ، ثم ناد : إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة » فاجتمعوا . ثم صلى بهم ، ثم قام فقال : « أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء ، إنها لمثل القرآن أو أكثر . وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم ، إذا أعطوا الذي عليهم » .
ورفع إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف ، فحزن حزناً شديداً ، فقال بعضهم : ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؛ فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقال - ما معناه - إن هؤلاء خير منكم ، إنهم على الفطرة ، أو لستم أبناء المشركين . فإياكم وقتل الأولاد . إياكم وقتل الأولاد .
وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده :
روى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال : « ستجدون قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً » .
وقال زيد بن وهب : أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه : « لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليداً ، واتقوا الله في الفلاحين » .
ومن وصاياه « ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً ، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان ، وعند شن الغارات » .
وهكذا تتواتر الأخبار الخط العام الواضع لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعداءه ، وفي آدابه الرفيعة ، وفي الرعاية لكرامة الإنسان . وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه . أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة؛ وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة ، غير المحاربين أصلاً؛ وليست تمثيلاً بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان . وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين ، ولاحترام بشرية المحاربين . إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة؛ وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالحرمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب ، بقدر ما تقتضي حالة الحرب ، دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل .
وقبيل ختام السورة التي تكلمت طويلاً عن المنافقين ، تجيء آيات تصور طريقة المنافقين في تلقي آيات الله وفي استقبال تكاليف هذه العقيدة التي يتظاهرون بها كاذبين؛ وإلى جانبها صورة الذين آمنوا وتلقيهم لهذا القرآن الكريم :
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيماناً؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون؛ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون .
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون؟ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } . .
والسؤال في الآية الأولى :
{ أيكم زادته هذه إيماناً؟ } . .
سؤال مريب ، لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه . وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه ، بدل التساؤل عن غيره . وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب
لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا راد لما يقول :
{ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } . .
فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيماناً؛ وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم خفقة فزادتهم إيماناً؛ وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيماناً . . وأما الذين في قلوبهم مرض ، الذين في قلوبهم رجس من النفاق ، فزادتهم رجساً إلى رجسهم ، وماتوا وهم كافرون . . وهو نبأ من الله صادق ، وقضاء منه سبحانه محقق .
وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكراً حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء ، ولا يردهم الامتحان :
{ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟ } .
والفتنة كانت تكون بكشف سترهم ، أو بنصر المسلمين بدونهم ، أو بغيرهما من الصور ، وكانت دائمة الوقوع كثيرة التكرار في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون
فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة ، في شريط متحرك دقيق :
{ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } .
وإننا - حين نتلو الآية - لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة . فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب :
{ هل يراكم من أحد؟ } . .
ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر :
{ ثم انصرفوا } . .
تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة :
{ صرف الله قلوبهم } . .
صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون :
{ بأنهم قوم لا يفقهون } .
.
عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون
إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات ، فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه
وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان ، وورد أنهما مدنيتان . ونحن نأخذ بهذا الأخير ، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم . آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه ، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم . ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق . والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى ، فهو وليه وناصره وكافيه :
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تولوا فقل حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم } . .
ولم يقل : جاءكم رسول منكم . ولكن قال : { من أنفسكم } وهي أشد حساسية وأعمق صلة ، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به . فهو بضعة من أنفسهم ، تتصل بهم صلة النفس بالنفس ، وهي أعمق وأحس .
{ عزيز عليه ما عنتم } . .
يشق عليه عنتكم ومشقتكم .
{ حريص عليكم } . .
لا يلقي بكم في المهالك ، ولا يدفع بكم إلى المهاوي ، فإذا هو كلفكم الجهاد ، وركوب الصعاب ، فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة ، إنما هي الرحمة في صورة من صورها . الرحمة بكم من الذل والهوان ، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة ، وحظ رضوان الله ، والجنة التي وعد المتقون .
ثم ينتقل الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرفه طريقه حين يتولى عنه من يتولى ، ويصله بالقوة التي تحميه وتكفيه :
{ فإن تولوا فقل : حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم } .
فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه ، وهو حسب من لاذ به وحسب من والاه .
إنه ختام سورة القتال والجهاد : الارتكان إلى الله وحده ، والاعتماد على الله وحده ، واستمداد القوة من الله وحده . .
{ وهو رب العرش العظيم } . .
وبعد فإن هذه السورة المحكمة تحتوي بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله - كما بينا في خلال عرضها وتقديمها - ومن ثم ينبغي أن يرجع إلى نصوصها الأخيرة بوصفها الكلمة الأخيرة في تلك العلاقات؛ وأن يرجع إلى أحكامها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة ، حسبما تدل عليها نصوص السورة . كما ينبغي ألا تقيد هذه النصوص والأحكام النهائية بنصوص وأحكام وردت من قبل - وهي التي سميناها أحكاماً مرحلية - مستندين في هذه التسمية : أولاً وبالذات إلى ترتيب نزول الآيات . ومستندين أخيراً إلى سير الأحداث في الحركة الإسلامية ، وإدراك طبيعة المنهج الإسلامي في هذه الحركة .
. هذه الطبيعة التي بيناها في التقديم للسورة وفي ثناياها كذلك . .
وهذا هو المنهج الذي لا يدركه إلا الذين يتحركون بهذا الدين حركة جهادية لتقرير وجوده في واقع الحياة؛ برد الناس إلى ربوبية الله وحده ، وإخراجهم من عبادة العباد
إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة ، وفقه الأوراق إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه ، لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، وموقفاً موقفاً . ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك ، بحيث تجيء مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه؛ ومتجددة بتجدده كذلك
وأخيراً فإن تلك الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة؛ إنما جاءت وواقع المجتمع المسلم ، وواقع الجاهلية من حوله كذلك ، كلاهما يحتم اتخاذ تلك الإجراءات وتنفيذ تلك الأحكام . . فأما حين كان واقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله يقتضي أحكاماً أخرى . . مرحلية . . فقد جاءت في السور السابقة نصوص وأحكام مرحلية . .
وحين يوجد المجتمع المسلم مرة أخرى ويتحرك فإنه يكون في حل من تطبيق الأحكام المرحلية في حينها . ولكن عليه أن يعلم أنها أحكام مرحلية ، وأن عليه أن يجاهد ليصل في النهاية إلى تطبيق الأحكام النهائية التي تحكم العلاقات النهائية بينه وبين سائر المجتمعات . .
والله الموفق ، والله المعين . .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
السورة كلها - كما أسلفنا في تقديمها - لحمة واحدة ، يصعب تقسيمها إلى مقاطع : شأنها في هذه الخاصية شأن سورة الأنعام التي سبق الحديث عنها في الجزء السابع - مع تميز كل سورة بشخصيتها وطابعها الخاص - فهي تتدفق في هيئة موجات متوالية؛ تنصب بمؤثراتها الموحية على القلب البشري ، وتخاطبه بإيقاعات منوعة . . من التعجيب من أمر المشركين في استقبالهم للوحي والقرآن . إلى عرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها ألوهية الله سبحانه . . إلى عرض مشاهد القيامة . إلى عرض أحوال البشر في مواجهة الأحداث التي تمر بهم . إلى عرض مصارع الغابرين . . إلى آخر ما سبقت الإشارة إليه من الموضوعات والمؤثرات التي تحتويها السورة .
وإذا جاز تقسيم السورة إلى مقاطع مميزة . فإن أكثر من نصفها الأول يعد مقطعاً واحداً يتدفق بهذه الموجات المتتابعة . ثم تجيء قصة نوح - ومن بعده في اختصار - وقصة موسى والإشارة إلى قصة يونس؛ فتؤلف مقطعاً آخر . ثم تجيء الإيقاعات الأخيرة في السورة فتؤلف المقطع الأخير .
ونظراً لطبيعة السورة هذه فسنحاول عرضها موجة موجة - أو مجموعة من الموجات المتناسقة - كما هي طبيعتها المتميزة . .
أما هذا الدرس الأول منها فيبدأ بحروف ثلاثة . { ألف . لام . را } كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف بحروف ذكرنا الرأي الذي اخترناه في تفسيرها هناك . يبدأ بهذه الأحرف مبتدأ خبره : { تلك آيات الكتاب الحكيم } . .
ثم يأخذ السياق في عرض عدة أمور تبدو فيها الحكمة التي أشير إليها في وصف الكتاب . من الوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينذر الناس ويبشر المؤمنين ، والرد على المعترضين أن يوحي الله إلى بشر . . إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما . . إلى جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وتقدير منازل القمر ليعلموا عدد السنين والحساب . . إلى اختلاف الليل والنهار وما فيه من حكمة وتدبير . .
ويتطرق من عرض هذه الآيات الكونية إلى الغافلين عنها ، الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء ، وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير؛ وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم . ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود ، وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال .
ومن ثم وصف لطبيعة البشر في تلقيهم للشر والخير . وضراعتهم إلى الله عند مس الأذى ، ونسيانهم له عند كشف الضر . ولجاجهم فيما كانوا من قبل فيه ، دون اعتبار بالقرون الخالية التي سارت في الطريق ذاته ، ولقيت مصارعها في ذلك الطريق
ومع أن مصارع الغابرين كانت واضحة للعرب الذين يدعوهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن المكذبين كانوا يطلبون إلى الرسول أن يأتي لهم بقرآن غير هذا القرآن أو يبدل بعضه .
غير متدبرين ولا مدركين أن القرآن من عند الله ، وأن له حكمة ثابتة فهو لا يقبل التبديل . وهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم دون استناد إلى شيء ، ويتركون عبادة الله وحده وهي تستند إلى وحي من الله . ثم يطلبون خارقة من الخوارق غير ناظرين إلى آية الله الواضحة في القرآن ، غافلين عن آياته المعجزة في تضاعيف الكون .
ثم عودة إلى طبيعة البشر في تلقي الرحمة والضر ، وعرض نموذج حي من هذه الطبيعة ، في مشهد من المشاهد النابضة المتحركة المؤثرة . في ركوب البحر عندما تسير الفلك في أول الأمر رخاء ، ثم تعصف بها الريح ويأتيها الموج من كل مكان .
ومشهد آخر يمثل غرور هذه الحياة الدنيا ، وبريقها ولألاءها الذي ينطفئ في لحظة ، وأهلها مأخوذون بزخرفها غافلون عن المصير الخاطف المرهوب . . ذلك والله يدعو إلى دار السلام . دار الأمن والاطمئنان . الدار التي لا خوف من أخذها على حين غرة . . { كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } . . ويدركون حكمة الله في الخلق والتدبير .
{ ألر تلك آيات الكتاب الحكيم } . .
من هذه الحروف وأمثالها ، تتألف آيات الكتاب الحكيم ، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول . وهذه الحروف في متناول أيديهم ، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب - كما يتحداهم في هذه السورة - ولا يقودهم هذا إلى التدبر ، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول ، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزاً عن تأليف آية واحدة ، من هذه الحروف المبذولة للجميع .
{ تلك آيات الكتاب الحكيم } . .
الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر ، ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية ، نجد مصداقها في كل جيل .
والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه . في السماء والأرض . وفي الشمس والقمر ، وفي الليل والنهار . . وفي مصارع القرون الأولى ، وفي قصص الرسل فيهم . . وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود . .
{ أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ قال الكافرون . إن هذا لساحر مبين } . .
سؤال استنكاري . يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل .
لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول : أبعث الله بشراً رسولاً؟ ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة « الإنسان » . عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة « الإنسان » الذي يتمثل فيهم . فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله ، وأن يتصل الله به - عن طريق الوحي - فيكلفه هداية الناس .
إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكاً أو خلقاً آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله . غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق؛ ومن تكريمه أن يكون أهلاً لحمل رسالته؛ وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص :
هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشبهة أمثالهم في القرون الأولى . فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتاً عن تلك
إنهم يسألون : كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق .
والذي ليس كمثله شيء؟
وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علماً بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية ، كما أحاط علماً بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه . وهو ما لا يدعيه أحد يحترم عقله ، ويعرف حدود هذا العقل . بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد ، ولم يقف العلم بعد حتى يقال : إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك . فضلاً على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائماً آفاق من المجهول بعد آفاق
ففي الإنسان إذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله . والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة . وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس ، ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة . ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية ، وكل بنية ، وكل مخلوق؛ وقادر على أن يطوع لإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها .
ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب . ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه . فللعلم ميدان . هو الميدان الذي يملك أدواته . وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها . والعلم لم يدع أنه يعرف شيئاً حقيقياً عن الروح . فهي ليست داخلة في نطاق عمله ، لأنها ليست شيئاً قابلاً للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله . لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح . أما ما يسمى « بالعلوم الروحانية » فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاء من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس . إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية . والعقل هنا في غير ميدانه . وليس معه أدواته . لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان .
{ أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ } .
فهذه خلاصة الوحي : إنذار الناس بعاقبة المخالفة ، وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة . وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب . فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال .
والإنذار للناس جميعاً . فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير : والبشرى للذين آمنوا وحدهم . وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار . . تلك المعاني التي توحي بها كلمة ( صدق ) مضافة إلى القدم . في جو الإنذار والتخويف . { قدم صدق } . . قدم ثاتبة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد ، في جو الإنذار وفي ظلال الخوف ، وفي ساعات الحرج . . { قدم صدق عند ربهم } . . في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة . حينما تتزلزل القلوب والأقدام .
وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم . رجل يعرفهم ويعرفونه ، يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه ، بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج . أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح ، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر ، وعقله هو أداته للتمييز . ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائماً كلما غم عليه الأمر ، وأحاطت به الشبهات ، وجذبته التيارات والشهوات ، وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج ، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحياناً من النقيض إلى النقيض . هو في حاجة إلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه ، وينزل على إرشاده ، ويرجع إلى الصواب على هداه . وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله .
وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها؛ فيعرضها على هذا الميزان الثابت ، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها . . والقول بأن دين الله هو دائماً « مفهوم البشر لدين الله » وأنه من ثم « متطور في أصوله » يعرّض هذه القاعدة الأساسية في دين الله - وهي ثبات حقيقته وميزانه - لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية . بحيث لا يبقى هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية . .
والمسافة قصيرة بين هذا القول ، والقول بأن الدين من صنع البشر . . فالنتيجة النهائية واحدة ، والمزلق خطر وخطير للغاية ، والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد . . منه ومن نتائجة القريبة والبعيدة . .
ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو ، فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمراً عجيباً :
{ قال الكافرون : إن هذا لساحر مبين } . .
ساحر لأن ما ينطق به معجز . وأولى لهم - لو كانوا يتدبرون - أن يقولوا : نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز . فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة ، ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راقٍ ، وما يرتكز عليه نظام متفرد .
ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر ، لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها؛ ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله؛ فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها .
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يدبر الأمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون؟ إليه مرجعكم جميعاً ، وعد الله حقاً ، إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، يفصل الآيات لقوم يعلمون ، إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون } . .
وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة . قضية الربوبية . . فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين . فهم كانوا يعتقدون بوجود الله - لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف - ولكنهم كانوا يشركون مع الله أرباباً يتوجهون إليهم بالعبادة . إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله .
والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية - كالذي جدَّ فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية - إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر :
إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن . وجعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل . وقدر اختلاف الليل والنهار . . هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس ، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك . . إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه . . أليست قضية منطقية حية واقعية ، لا تحتاج إلى كد ذهن ، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة ، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟
إن هذا الكون الهائل . سماواته وأرضه . شمسه وقمره . ليله ونهاره . وما في السماوات والأرض من خلق ، ومن أمم ومن سنن ، ومن نبات ومن طير ومن حيوان ، كلها تجري على تلك السنن . .
إن هذا الليل الطامي السادل الشامل ، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح . وهذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي . وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء . وهذه الظلال الساربة يحسبها الرائي ساكنة وهي تدب في لطف . وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال . وهذا النبت النامي المتطلع أبداً إلى النمو والحياة . وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق .
وهذه الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلع ، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله . . .
إن هذا الحشد من الصور والضلال ، والأنماط والأشكال ، والحركات والأحوال ، والرواح والذهاب ، والبلى والتجدد ، والذبول والنماء ، والميلاد والممات ، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار . .
إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر ، حين يستيقظ القلب ، ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه . . والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات .
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } . .
إن ربكم الذي يستحق الربوبية والعبادة هو هذا الخالق ، الذي خلق السماوات والأرض . خلقها في تقدير وحكمة وتدبير :
{ في ستة أيام } . .
حسب ما اقتضت حكمته أن يتم تركيبها وتنسيقها وتهيئتها لما أراده الله .
ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة . فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها . وإنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية . .
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر . فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه . والمقصود بذكرها هو الإشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام ، الذي يسير به الكون من بدئه إلى منتهاه .
{ ثم استوى على العرش } . .
والاستواء على العرش . كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة ، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني ، على طريقة القرآن القرآن في التصور ( كما فصلنا هذه في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن ) .
و { ثم } هنا ليست للتراخي الزماني ، إنما هي للبعد المعنوي ، فالزمان في هذا المقام لا ظل له . وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله - سبحانه - ثم كانت . فهو - سبحانه - منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان والمكان . لذلك نجزم بأن { ثم } هنا للبعد المعنوي ، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم . لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات ، وعن مقتضيات الزمان والمكان .
{ يدبر الأمر } . .
ويقدر أوائله وأواخره ، وينسق أحواله ومقتضياته ، ويرتب مقدماته ونتائجه ، ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره .
{ ما من شفيع إلا من بعد إذنه } . .
فالأمر كله له ، والحكم كله إليه . وما من شفعاء يقربون إلى الله زلفى . وما من شفيع من خلقه إلا حيث يأذن له بالشفاعة ، وفقاً لتدبيره وتقديره ، واستحقاق الشفاعة بالإيمان والعمل الصالح ، لا بمجرد التوسل بالشفعاء . . وهذا يواجه ما كانوا يعتقدونه من أن للملائكة التي يعبدون تماثيلها شفاعة لا ترد عند الله
ذلكم الله الخالق المدبر الحاكم الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه .
. { ذلكم الله ربكم } . . الخليق بالربوبية { فاعبدوه } فهو الذي يستحق الدينونة له دون سواه . . { أفلا تذكرون } ؟ . . فالأمر من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلا لمجرد التذكر لهذه الحقيقة المعروفة . .
ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دلائل الألوهية في السماوات والأرض :
{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه } . .
وقد قلنا : إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين ، فقد كانوا يعترفون بأن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء . . ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته . فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم . . والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده؛ فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له؛ ولا يحكمون في أمرهم كله غيره . . وهذا معنى قوله تعالى :
{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه } . .
فالعبادة هي العبودية ، وهي الدينونة ، وهي الاتباع والطاعة ، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها ، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية .
وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية . ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان؛ وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية؛ دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية . . أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره ، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه . .
كذلك ينحسر معنى « العبادة » في الجاهلية ، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر . ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده ، فقد عبدوا الله وحده . . بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد . و « عبد » تفيد ابتداء « دان وخضع » . وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها .
والجاهلية ليست فترة من الزمان ، ولا مرحلة من المراحل . إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو ، معنى العبادة . هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض ، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين ، ويؤدون الشعائر لله ، بينما أربابهم غير الله ، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته ، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه ، ويتبعون ما يشرعه لهم ، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « . . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم » في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي .
ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى : { قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً . قل : آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟ }
وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله :
{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه . أفلا تذكرون } . .
اعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . فإن مرجعكم إليه ، وحسابكم عنده ، وهو يجزي المؤمنين والكافرين :
{ إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً } . .
إليه وحده لا للشركاء والشفعاء .
وقد وعد فلا خلف ولا تخلف ، فالبعث هو تتمة الخلق :
{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } . .
فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة :
{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط . . . } .
والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة . إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر ، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة ، أو من عقابيل تعقبها - إلا لذائذ الروح الخاصلة وهذه قلما تخلص لبشر - ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصاً منها وحائلاً دون كمالها . فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها ، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما ، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء . . وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل . فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية ، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم ، إلى أعلى مراتب البشرية .
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس ، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري ، بل جانبوه ، وهذا يقتضي - حسب السنة التي لا تتخلف - ألا يصلوا إلى مرتبة الكامل ، لأنهم جانبوا قانون الكمال؛ وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية . هذا يلقاه مرضاً وضعفاً ، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً ، وغصصاً بلا لذائذ - في مقابل اللذائذ بلا غصص .
{ والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } . .
وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده ، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء . . يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض :
{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق . يفصل الآيات لقوم يعلمون } . .
فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون ، ننساهما لطول الألفة ، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار ، وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب ، وأول مطلع قمر وأول مغيب؟
هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما ، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة ، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي ، والتأمل الذي لم يبلده التكرار ، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم :
{ هو الذي جعل الشمس ضياء } .
.
فيها اشتعال .
{ والقمر نوراً } . .
فيه إنارة .
{ وقدره منازل } . .
ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة ، كما هو مشهود في القمر ، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون .
{ لتعلموا عدد السنين والحساب } . .
وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس .
هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟
كلا ما يكون كل هذا النظام ، وكل هذا التناسق ، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة . ما يكون هذا كله عبثاً ولا باطلاً ولا مصادفة عابرة :
{ ما خلق الله ذلك إلا بالحق } . .
الحق قوامه . الحق أداته . والحق غايته . والحق ثابت راجح راسخ . وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة :
{ يفصل الآيات لقوم يعلمون } . .
فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر .
ومن خلق السماوات والأرض ، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار ، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب :
{ إن في اختلاف الليل والنهار ، وما خلق الله في السماوات والأرض . . لآيات لقوم يتقون } . .
واختلاف الليل والنهار تعاقبهما . ويشمل كذلك اختلافهما طولاً وقصراً ، وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس . إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس ، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب ، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون ، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب . وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية ، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الأستقبال والاستجابة . .
{ وما خلق الله في السماوات والأرض } . .
ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب { وما خلق الله في السماوات والأرض } ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس ، والهيئات والأحوال ، والأوضاع والأشكال . لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها ، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش . . ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب ، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة ، ثم يتركه ليتملاه . . إن في ذلك كله :
{ لآيات لقوم يتقون } . .
تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص . وجدان التقوى . الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة ، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع .
هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية ، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة ، وإيحاءات مسموعة
ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء
ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني - بأسلوبه هذا - هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً - وهذه ميزتها - فإن وجود هذا الكون ذاته أولاً .
ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة؛ وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر - حتى قبل أن يعرفها البشر - ثانياً . . إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة . .
والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلاً معقولاً . ولا يزيدون على أن يقولوا : إن الكون وجد هكذا بقوانينه؛ وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل؛ ووجوده يتضمن قوانينه فإن كان هذا كلاماً مفهوماً - أو معقولاً - فذاك
ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا؛ لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله ثم أصبح يقال هنا وهناك ، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله . ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله ، ثم يماري في ربوبيته ، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة . فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته . ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم؛ فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع . . فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء
ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى « إسلامية » يروَّج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم « العلم » و « العلمية » فيقال : إن « الغيبية » لا مكان لها في الأنظمة « العلمية » . . ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية . . ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب . لا يخشون الله إنما يخشون الناس ، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال
وما تزال دلالة وجود الكون ذاته ، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة . تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك . والفطرة البشرية بجملتها - قلباً وعقلاً وحساً ووجداناً - تواجه هذه الدلالة ، وتستجيب لها . وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها . يخاطبها من أقصر طريق ، ومن أوسع طريق وأعمق طريق
والذين يرون كل هذا ، ثم لا يتوقعون لقاء الله؛ ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة ، وأن الدنيا ليست النهاية ، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود؛ والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين ، لا تحرك فيهم قلباً يتدبر ، ولا عقلاً يتفكر .
. هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري ، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون . إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم :
{ إن الذين لا يرجون لقاءنا ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } . .
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً ، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام ، يتم فيها تحقيق القسط والعدل؛ كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا ، ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله ، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا ، بما فيها من نقص وهبوط ، ويرضونها ويستغرقون فيها ، فلا ينكرون فيها نقصاً ، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر؛ وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر ، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم . والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط ، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة ، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق . إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائماً إلى هذه الأرض وما عليها غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب ، وترفع الحس ، وتحفز إلى التطلع والكمال . .
{ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } . .
وبئس المأوى وبئس المصير
وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات . الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا ، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان ، تحقيقاً لأمر الله بعمل الصالحات ، وانتظاراً للآخرة الطيبة . . وطريقها هو الصالحات . . هؤلاء .
{ يهديهم ربهم بإيمانهم } . .
يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله ، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق ، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه . . هؤلاء يدخلون الجنة .
{ تجري من تحتهم الأنهار } . .
وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة . .
فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم ، وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها؟ إن همومهم ليست مالاً ولا جاهاً ، وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة . لقد كفو شر ذلك كله ، ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات ، ولقد استغنوا بما وهبهم الله ، ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم ، إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه { دعواهم } هو تسبيح الله أولاً وحمده أخيراً .
يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن :
{ دعواهم فيها : سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم : أن الحمد لله رب العالمين } . .
إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها ، والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها ، والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام . تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان .
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به؛ ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من الله ورحمة . ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلاً ، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها . فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة . ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم؛ ويلوح لهم بمثل هذا المصير؛ ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء . .
{ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون . وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً ، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون . ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } .
ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعجل لهم العذاب . . ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } وورد في غيرها : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات } كما حكى القرآن الكريم قولهم : { وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله . . وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم ، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعه بالمكذبين قبلهم . فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين ، فيقوم عليها ، وينطلق في الأرض بها . وكان ذلك بعد فتح مكة ، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي . لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر
والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى : إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله ، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه . . لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم ، وعجل بأجلهم ولكنه يستبقيهم لما أجلهم له . . ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما رواءه . فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون ، حتى يأتيهم الأجل المرسوم .
وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عندما يمسه الضر ، تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر ، فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه :
{ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً؛ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه .
كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } . .
إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور . . وإن الإنسان ليظل مدفوعاً مع تيار الحياة ، يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف ، والصحة موفورة ، والظروف مواتية . وليس - إلا من عصم الله ورحم - من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفاً وأن هناك عجزاً . وساعات الرخاء تُنسي . والإحساس بالغنى يُطغي . . ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع ، وإذا هو كثير الدعاء ، عريض الرجاء ، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء . فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر . انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار .
والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها ، والنموذج البشري الذي يعرضه . فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل :
{ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً } . .
يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر ، ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد ، فيقف أو يرتد . حتى إذا رفع الحاجز « مر » كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق . « مر » لا يتوقف .
ليشكر ، ولا يلتفت ليتدبر ، ولا يتأمل ليعتبر :
{ مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } . .
واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة
وبمثل هذه الطبيعة . طبيعة التذكر فقط عند الضر ، حتى إذا ارتفع انطلق ومر . بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم ، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود :
{ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } . .
فماذا كانت نهاية الإسراف في القرون الأولى؟
{ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين } . .
لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم - وهو الشرك - إلى الهلاك . وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط . .
وتلك القرون . جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم :
{ وما كانوا ليؤمنوا } . .
لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان ، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها ، فلم يعودوا مهيئين للإيمان . فلقوا جزاء المجرمين . .
{ كذلك نجزي القوم المجرمين } . .
وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين ، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا ، فحق عليهم العذاب ، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين ، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه :
{ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } . .
وهي لمسة قوية للقلب البشري؛ إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل ، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه ، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك ، وإنما هي أيام يقضيها فيه ، ممتحناً بما يكون منه ، مبتلى بهذا الملك ، محاسباً على ما يكسب ، بعد بقاء فيه قليل
إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري .
. فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع . . يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى ، هي صمام الأمن له ، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه .
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض ، وبكل شيء يملكه ، وبكل متاع يتاح له ، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة؛ ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا ، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه .
وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به ، والتي يصورها قول الله سبحانه :
{ لننظر كيف تعملون } . .
ليجعله شديد التوقي ، شديد الحذر ، شديد الرغبة في الإحسان ، وفي النجاة أيضاً من هذا الامتحان
وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية؛ والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها . . فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة . . لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة ، ولا في خلق ، ولا في حركة؛ كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان
والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان . ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي؛ وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة . وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة ، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضاً
والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية ، والنظام الإسلامي ، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر ، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان
وهنا يتحول السياق من خطابهم إلى عرض نماذج من أعمالهم بعد استخلافهم .
لقد استخلفوا بعد القوم المجرمين . فماذا فعلوا؟
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله . قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمراً من قبله . أفلا تعقلون؟ فمن أظلم من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح المجرمون } . .
{ ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم؛ ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
قل : أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون . وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون . ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ، فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين } . .
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف ، وهكذا كان سلوكهم مع الرسول
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله } . .
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد ، إنما يصدر عن عبث وهزل؛ وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله . وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله
إن هذا القرآن دستور حياة شامل ، منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية ، ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق ، ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف . ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه ، أو يطلب تبديل بعض أجزائه .
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله؛ كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة ، ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية . فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآناً آخر ، أو يؤلف جزءاً مكان جزء؟
{ قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } . .
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر . إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله ، وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه . فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه . وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه . وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم .
{ قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . فقد لبثت فيكم عمراً من قبله . أفلا تعقلون؟ } .
إنه وحي من الله ، وتبليغه لكم أمر من الله كذلك . ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته ، ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم . فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس . قل لهم هذا . وقل لهم : إنك لبثت فيهم عمراً كاملاً من قبل الرسالة . أربعين سنة . فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن . لأنك لم تكن تملكه . لم يكن قد أوحي إليك . ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمراً كاملاً؟
ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئاً إلا البلاغ . .
وقل لهم : ما كان لي أن أفتري على الله الكذب ، وأن أقول : إنه أوحي إلي إلا بالحق . فليس هنالك ما هو أشد ظلماً ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله :
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ } .
.
وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين ، وهي التكذيب بآيات الله ، فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله :
{ إنه لا يفلح المجرمون } . .
ويستمر السياق يعرض ما فعلوه وما قالوه بعد استخلافهم في الأرض ، غير هذا الهزل في طلب قرآن جديد . .
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، قل : اتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات والأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون } . .
والنفس حين تنحرف لا تقف عند حد من السخف . وهذه الأرباب المتعددة التي يعبدونها لا تملك لهم ضرراً ولا نفعاً ، ولكنهم يظنونها تشفع لهم عند الله :
{ ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله } . .
{ قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟ } . .
فالله سبحانه لا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه الله وتنبئونه بما لا يعلم له وجوداً في السماوات ولا في الأرض؟
إنه أسلوب ساخر يليق بهذا السخف الذي يلجون فيه . يعقبه التنزيه لله عما لا يليق بجلاله مما يدعون :
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } . .
وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه ، يعقب على هذا الشرك ، بأنه عارض . والفطرة في أصلها كانت على التوحيد ، ثم جد الخلاف بعد حين :
{ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } . .
وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعاً إلى أجل يستوفونه ، وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها :
{ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } . .
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون :
{ ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربهَ فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين } . .
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم . وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم . وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم . غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية . وطبيعة معجزتها . فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل ، إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل .
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه ، ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز :
{ فقل : إنما الغيب لله . فانتظروا إني معكم من المنتظرين } . .
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد . . وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية . فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الأنبياء المرسلين ، لا يملك من أمر الغيب شيئاً ، فالغيب كله لله . ولا يملك من أمر الناس شيئاً ، فأمرهم موكول إلى الله . . وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية ، ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة .
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون ، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر ، حين يذوقون الرحمة بعد الضر . كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه . ويضرب لهم مثلاً مما يقع في الحياة يصدق ذلك ، فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية :
{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، إذا لهم مكر في آياتنا . قل : الله أسرع مكراً ، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } . .
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة ، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة . فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان . . ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن ، مجلوة دائماً بجلاء الإيمان .
{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، إذا لهم مكر في آياتنا } . .
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى . فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه . فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها ، وقالوا : إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا . . وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك ، فجاءت محمداً تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا ، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان .
{ قل : الله أسرع مكراً . إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } . .
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون . ومكرهم مكشوف لديه ومعروف ، والمكر المكشوف إبطاله مضمون :
{ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } . .
فلا شيء منه يخفى ، ولا شيء منه ينسى . أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون ، فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئاً إلا من مثل هذا النص ، فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح .
ثم ذلك المشهد الحي ، الذي يعرض كأنه يقع ، وتشهده العيون ، وتتابعه المشاعر ، وتخفق معه القلوب ، يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون :
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر } . .
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك .
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب :
{ حتى إذا كنتم في الفلك } .
.
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء . .
{ وجرين بهم بريح طيبة } . .
وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها :
{ وفرحوا بها } . .
وفي هذا الرخاء الآمن ، وفي هذا السرور الشامل ، تقع المفاجأة ، فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين :
{ جاءتها ريح عاصف } . .
يا للهول
{ وجاءهم الموج من كل مكان } . .
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها ، ولاطمها الموج وشالها وحطها ، ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم . . وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص :
{ وظنوا أنهم أحيط بهم } . .
فلا مجال للنجاة . .
عندئذ فقط ، وفي وسط هذا الهول المتلاطم ، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب ، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات ، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه :
{ دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين }
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج ، وتهدأ الأنفاس اللاهثة ، وتسكن القلوب الطائرة ، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ ، ويوقن الناس بالحياة ، وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا؟
{ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } . .
هكذا بغتة ومفاجأة
إنه مشهد كامل ، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس ، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيراً للناس أجمعين :
{ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } . .
سواء كان بغياً على النفس خاصة ، بإيرادها موارد التهلكة ، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية؛ أو كان بغياً على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة .
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه ، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا ، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة . يذوقون هذه العاقبة فساداً في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به ، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضارّ به .
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض ، وربوبية الله وحدها في حياة البشر ، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة ، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد . ودنس المستنقع ، وامتهان الكرامة ، وفساد المجتمع ، ودناءة الحياة
{ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا } . .
لا تزيدون عليه
{ ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } . .
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك ، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء .
وما قيمة « متاع الحياة الدنيا » هذا وما حقيقته؟ يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة ، وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم ، ويمر عليها الأحياء دون انتباه :
{ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام .
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ، وظن أهلها أنهم قادرون عليها . . أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } . .
ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها ، حين يرضون بها ، ويقفون عندها ، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى . .
هذا هو الماء ينزل من السماء ، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر . وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج . وأهلها مزهوون بها ، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزينت ، وأنهم أصحاب الأمر فيها ، لا يغيرها عليهم مغير ، ولا ينازعهم فيها منازع .
وفي وسط هذا الخصب الممرع ، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع ، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق . .
{ أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } . .
في ومضة ، وفي جملة ، وفي خطفة . . وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان .
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس ، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا بعض المتاع .
هذه هي . لا أمن فيها ولا اطمئنان ، ولا ثبات فيها ولا استقرار ، ولا يملك الناس من أمرها شيئاً إلا بمقدار .
هذه هي . .
{ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . .
فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة ، وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس . . ودار السلام التي يدعو إليها الله ، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها . حينما تنفتح بصيرته ، ويتطلع إلى دار السلام .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة ، تنتهي كلها إلى هدف واحد : مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول ، واليقين باليوم الآخر . والعدل فيه .
لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها ، وتأخذ بها إلى أقطار الكون ، في جولة واسعة شاملة . جولة من الأرض إلى السماء . ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس . ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب . ومن الدنيا إلى الآخرة . . في سياق . .
وفي الدرس الماضي لمسات من هذه ، وجولات من هذه . . ولكنها في هذا الدرس أظهر . . فمن معرض الحشر ، إلى مشاهد الكون ، إلى ذات النفس ، إلى التحدي بالقرآن ، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين . ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد ، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس ، إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء ، إلى بعض آيات الله في الكون ، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب . .
إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة ، لا تملك فطرة سليمة التلقي ، صحيحة الاستجابة ، ألا تستجيب لها ، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة ، ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود . .
لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ، ما لهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . .
كانت آخر آية في الدرس السابق : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط المستقيم } فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين . ويكشف عن رحمة الله وفضله ، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء .
فأما الذين أحسنوا . أحسنوا الاعتقاد ، وأحسنوا العمل ، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم ، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام . . فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا ، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة :
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } . .
وهم ناجون من كربات يوم الحشر ، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق :
{ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } . .
والقتر : الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق . والذلة : الانكسار والمهانة أو الإهانة . فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة . . والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه ، فالنجاة من هذا كله غنيمة ، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه .
.
{ أولئك } . . أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق { أصحاب الجنة } وملاكها ورفاقها { هم فيها خالدون } .
{ والذين كسبوا السيئات } . .
فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة هؤلاء ينالهم عدل الله ، فلا يضاعف لهم الجزاء ، ولا يزاد عليهم السوء . ولكن :
{ جزاء سيئة بمثلها } . . { وترهقهم ذلة } . .
تغشاهم وتركبهم وتكربهم .
{ ما لهم من الله من عاصم } . .
يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم ، نفاذاً لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق ، ويخالف الناموس . .
ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب :
{ كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً } . .
كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعاً غشيت بها هذه الوجوه وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته ، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم . .
{ أولئك } . . المبعدون في هذا الظلام والقتام { أصحاب النار } . . ملاكها ورفاقها { هم فيها خالدون } . ولكن أين الشركاء والشفعاء؟ وكيف لم يعصموهم من دون الله؟ هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب :
{ ويوم نحشرهم جميعاً ، ثم نقول للذين أشركوا : مكانكم أنتم وشركاؤكم . فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ، وردوا إلى الله مولاهم الحق . وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة ، مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله ، ولن يملكوا لهم خلاصاً ولا نجاة .
هؤلاء هم محشورون جميعاً . . الكفار والشركاء . . وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله ، ولكن القرآن يسميهم { شركاءهم } تهكماً من وجهة ، وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوماً شركاء لله .
هؤلاء هم جميعاً كفاراً وشركاء . يصدر إليهم الأمر :
{ مكانكم أنتم وشركاؤكم } . .
قفوا حيث أنتم . ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم فالأمر يومئذ للنفاذ . ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف :
{ فزيلنا بينهم } . .
وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة . جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله ، أو من دون الله ، وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا ، فهم إذن لم يشتركوا في الجناية ، ويشهدون الله وحده على ما يقولون :
{ وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين } . .
هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون . هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم . ويجعلون الله وحده شهيداً ، ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه
عندئذ ، وفي هذا الموقف المكشوف ، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل ، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة :
{ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } .
.
وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع ، وما عداه باطل :
{ وردوا إلى الله مولاهم الحق } . .
وهنالك لا يجد المشركون شيئاً من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم ، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود :
{ وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
وهكذا يتجلى المشهد الحي ، في ساحة الحشر ، بكل حقائقه ، وبكل وقائعه ، وبكل مؤثراته واستجاباته . تعرضه تلك الكلمات القلائل ، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد ، ولا براهين الجدل الطويل
ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل ، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه . إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه ، وإلى أنفسهم التي يعلمونها ، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة . بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله :
{ قل : من يرزقكم من السماء والأرض؟ أم من يملك السمع والأبصار؟ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون : الله . فقل : أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون؟ } . .
ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله ، ولا أنه الخالق ، والرازق ، والمدبر . إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى ، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله . فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم ، ليصحح لهم - عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري - ذلك الخلط والضلال .
{ قل : من يرزقكم من السماء والأرض؟ } . .
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع ، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها ، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم . وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض . وهو أوسع من ذلك بكثير . وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض ، يستخدمونه أحياناً في الخير ويستخدمونه أحياناً في الشر حسبما تسلم عقادهم أو تعتل . وكله من رزق الله المسخر للإنسان . فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق . ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق . ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق . حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق
{ أم من يملك السمع والأبصار؟ } . .
يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها ، ويصححها أو يمرضها ، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها ، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره . . ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار . وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه . وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر ، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولاً وسعة . وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات ، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات ، لعالم وحده يدير الرؤوس ، عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان ، لا يقاس في شيء إلى صنع الله .
بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون
{ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ } . .
وكانوا يعدون الساكن هو الميت ، والنامي أو المتحرك هو الحي . فكان مدلول السؤال عندهم مشهوداً في خروج النبتة من الحبة ، والحبة من النبتة ، وخروج الفرخ من البيضة ، والبيضة من الفرخ . . إلى آخر هذه المشاهدات . وهو عندهم عجيب . وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء؛ بما فيها من حياة كامنة واستعداد . فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله . .
وإن وقفة أمام الحبة والنواة ، تخرج منهما النبتة والنخلة ، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان ، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش
وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق؟ . . وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء ، والساق السامقة والعراجين والألياف؟ وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة ، والبلح والتمر ، والرطب والبسر . . . ؟
وأين في البيضة كان الفرخ؟ وأين يكمن كان العظم واللحم ، والزغب والريش ، واللون والشيات ، والرفرفة والصوات . . . ؟
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب؟ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي؟ أين كانت نبرات الصوت ، ونظرات العين ، ولفتات الجيد ، واستعدادات الأعصاب ، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين؟ وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات؟
وهل يكفي أن نقول : إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامناً في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة ، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله؟
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة ، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة ، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة . وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي ، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق ، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها . وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار . وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله ، يهب الحياة
{ ومن يدبر الأمر؟ } . .
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر ، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد؟ ومن ومن؟
{ فسيقولون الله } .
.
فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله ، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار . ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله ، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه ، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله .
{ فقل : أفلا تتقون؟ } . .
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض ، والذي يملك السمع والأبصار ، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله ، وهو الرب الحق دون سواه :
{ فذلكم الله ربكم الحق } . .
والحق واحد لا يتعدد ، ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل ، وقد ضل التقدير :
{ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون } . .
وكيف توجهون بعيداً عن الحق وهو واضح بين تراه العيون؟
بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجة اللازمة ، ولا يقومون بمقتضياته الواجبة ، قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون :
{ كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } . .
لا لأنه يمنعهم من الإيمان . فهذه دلائله قائمة في الكون ، وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم . ولكن لأنهم هم يحيدون عن الطريق الموصل إلى الإيمان ، ويجحدون المقدمات التي في أيديهم ، ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم ، ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم .
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله ، وهل للشركاء فيها من نصيب .
{ قل : هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده . فأنى تؤفكون؟ قل : هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل : الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدِّي إلا أن يهدى؟ فما لكم؟ كيف تحكمون؟ } . .
وهذه الأمور المسؤول عنها - من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق - ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى . ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكاناً على مسلماتهم الأولى ، فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر . ثم لا يطلب إليهم الجواب ، إنما يقرره لهم اعتماداً على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات .
{ قل : هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ } . .
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته ، ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء . . ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق؛ ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض ، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم ، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم ، وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه .
إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم . وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته . ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعقتدون بأن الله هو الخالق ، وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت . والحياة الأخرة قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به :
{ قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده } . .
وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها :
{ فأنى تؤفكون } . .
فتوجهون بعيداً عن الحق إلى الإفك وتضلون؟
{ قل : هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ } . .
فينزل كتاباً ، ويرسل رسولاً ، ويضع نظاماً ، ويشرع شريعة ، وينذر ويوجه إلى الخير؛ ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس؛ ويوقظ القلوب الغافلة ، ويحرك المدارك المعطلة . كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق؟ وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم ، ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم . فليقررها لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليأخذهم بها :
{ قل : الله يهدي للحق } . .
ومن هذه تنشأ قضية جديدة ، جوابها مقرر :
{ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع؟ أم من لا يهدي إلا أن يهدى؟ } . .
والجواب مقرر . فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع ، ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره . .
وهذا ينطبق سواء كان المعبودون حجارة أو أشجاراً أو كواكب . أو كانوا من البشر - بما في ذلك عيسى عليه السلام ، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له ، وإن كان هو قد بعث هادياً للناس - ومن عدا عيسى عليه السلام أولى بانطباق هذه الحقيقة عليه :
{ فما لكم؟ كيف تحكمون؟ } . .
ما الذي وقع لكم وما الذي أصابكم؟ وكيف تقدرون الأمور ، فتحيدون عن الحق الواضح المبين؟
فإذا فرغ من سؤالهم وإجابتهم ، وتقرير الإجابة المفروضة التي تحتّمها البديهة وتحتّمها المقدمات المسلمة . . عقب على هذا بتقرير واقعهم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد . فهم لا يستندون إلى يقين فيما يعتقدون أو يعبدون أو يحكمون ، ولا إلى حقائق مدروسة يطمئن إليها العقل والفطرة ، إنما يتعلقون بأوهام وظنون ، يعيشون عليها ويعيشون بها؛ وهي لا تغني من الحق شيئا .
{ وما يتبع أكثرهم إلا ظناً ، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً . إن الله عليم بما يفعلون . . } .
فهم يظنون أن لله شركاء . ولا يحققون هذا الظن ولا يمتحنونه عملاً ولا عقلاً . وهم يظنون أن آباءهم ما كانوا ليعبدوا هذه الأصنام لو لم يكن فيها ما يستحق العبادة : ولا يمتحنون هم هذه الخرافة ، ولا يطلقون عقولهم من إسار التقليد الظني . وهم يظنون أن الله لا يوحي إلى رجل منهم ، ولا يحققون لماذا يمتنع هذا على الله . وهم يظنون أن القرآن من عمل محمد ولا يحققون إن كان محمد - وهو بشر - قادراً على تأليف هذا القرآن ، بينما هم لا يقدرون وهم بشر مثله .
. وهكذا يعيشون في مجموعة من الظنون لا تحقق لهم من الحق شيئاً . والله وحده هو الذي يعلم علم اليقين أفعالهم وأعمالهم . .
{ إن الله عليم بما يفعلون } . .
وتفريعاً على هذا التعقيب ، يأخذ بهم السياق في جولة جديدة حول القرآن تبدأ بنفي التصور لإمكان أن يكون القرآن مفترى من دون الله ، وتحديهم أن يأتوا بسورة مثله . وتثني بوصمهم بالتسرع في الحكم على ما لم يعلموه يقيناً أو يحققوه . وتثلث بإثبات حالتهم في مواجهة هذا القرآن ، وتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خطته أياً كانت استجابتهم أو عدم استجابتهم له ، وتنتهي بالتيئيس من الفريق الضال والإيماء إلى مصيرهم الذي لا يظلمهم الله فيه؛ وإنما يستحقونه بما هم فيه من ضلال :
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله؛ ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون : افتراه؟ قل : فأتوا بسورة مثله ، وادعوا استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . كذلك كذب الذين من قبلهم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين . ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ، وربك أعلم بالمفسدين . وإن كذبوك فقل : لي عملي ولكم عملكم؛ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون . ومنهم من يستمعون إليك ، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون؟ ومنهم من ينظر إليك ، أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون؟ إن الله لا يظلم الناس شيئاً . ولكن الناس أنفسهم يظلمون } . .
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } . .
فهو بخصائصه ، الموضوعية والتعبيرية . بهذا الكمال في تناسقه؛ وبهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها وفي النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده؛ وبهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية ، وفي تصوير طبيعة البشر ، وطبيعة الحياة ، وطبيعة الكون . . لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله ، لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله . القدرة التي تحيط بالأوئل والأواخر ، وبالظواهر والسرائر ، وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص من آثار الجهل والعجز . .
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } . .
ما كان من شأنه أصلاً أن يفترى . فليس الافتراء هو المنفي ، ولكن جواز وجوده هو المنفي . وهو أبلغ في النفي وأبعد .
{ ولكن تصديق الذي بين يديه } . .
من الكتب التي سبق بها الرسل . تصديقها في أصل العقيدة ، وفي الدعوة إلى الخير .
{ وتفصيل الكتاب } . . الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من عند الله ، تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته . . وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به ، ووسائل تحقيقه وصيانته .
فالعقيدة في الله واحدة ، والدعوة إلى الخير واحدة . ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل ، والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل ، يناسب نمو البشرية وقتها ، وتطورات البشرية بعدها ، بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين ، ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير .
{ لا ريب فيه ، من رب العالمين } . .
تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره : { من رب العالمين } . .
{ أم يقولون افتراه؟ } .
بعد هذا النفي والتقرير ، فهو إذان من صنع محمد ، ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها ، ولا يملك من حروفها إلا ما يملكون . ( ألف . لام . ميم ) . . ( ألف . لام . را . ) . . ( ألف . لام . ميم . صاد ) . . . الخ . فدونهم إذن - ومعهم من يستطيعون جمعهم - فليفتروا ، كما افترى ( زعمهم ) محمد . فليفتروا سورة واحدة لا قرآناً كاملاً :
{ قل : فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } . .
وقد ثبت هذا التحدي؛ وثبت العجز عنه ، وما يزال ثابتاً ولن يزال . والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان . وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة . . كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد ، أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال . ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه . .
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها . .
والذين زاولوا فن التعبير ، والذين لهم بصر بالأداء الفني ، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب . والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي ، والإنساني بصفة عامة ، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً .
ومع تقدير العجز سلفاً عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه؛ والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري . ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز - في حدود الطاقة البشرية - هو موضوع كتاب مستقل . فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا . .
إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري . . إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحياناً أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً . . وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل .
. ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري؛ ولكني أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة ، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً . . كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم . . وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة والله يعلم - أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا . . وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان إنجليزياً - أن نقيم صلاتنا؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن يصلي منهم معنا من لا يكون في « الخدمة » وقت الصلاة وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً ، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة . . وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة؛ والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا . . وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح « القدَّاس فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا ولكن سيدة من هذا الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم » تيتو « وشيوعيته - كانت شديدة التأثر والانفعال ، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها . جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول : - في إنجليزية ضعيفة - إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح . . وليس هذا موضع الشاهد في القصة . . ولكن ذلك كان في قولها : أي لغة هذه التي كان يتحدث بها » قسيسكم « فالمسكينة لا تتصور أن يقيم » الصلاة « إلا قسيس - أو رجل دين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة وقد صححنا لها هذا الفهم . . وأجبناها : فقالت : إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب ، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً . . ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه . . إن الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن » الإمام « كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً . . هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة إنها شيء آخر كما لو كان - الإمام - مملوءاً من الروح القدس - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها - وتفكرنا قليلاً . ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سيدة لا تفهم مما تقول شيئاً
وليست هذه قاعدة كما قلت .
ولكن وقوع هذه الحادثة - ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرّاً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته . وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها ، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها ، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب . . ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيراً من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافيةّ
ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب . قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير . ومن يزاولون التفكير والشعور
* إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض ، وذلك بأوسع مدلول ، وأدق تعبير ، وأجمله وأحياه أيضاً مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو . ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد ، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه ، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال . ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد ، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال . ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعاً .
* وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني . . هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها . بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى؛ ويبدو في كل مرة أصيلاً في الموضع الذي استشهد به فيه؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها ( ولو راجع القارئ المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى ، وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماماً . وليس هذا إلا مثالاً ) .
* وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد ، والتعبير المواجه كا لو كان المشهد حاضراً ، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها . لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلاً في مثل هذه المواضع :
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده - بغياً وعدواً - حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } ( وإلى هنا هي قصة تحكى . . ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر . . { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر : { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } { قل : أي شيء أكبر شهادة . قل الله ، شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى . . ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم : { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ } وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه - وأجابوه - : { قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون } وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات : { ويوم يحشرهم جميعاً . . يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس . . وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . قال : النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ، إن ربك حكيم عليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ . . قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . . ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } وأمثالها كثير في القرآن كله . وهو أسلوب متميز تماماً من الأسلوب البشري . وإلا فمن شاء أن يماري ، فليحاول أن يعبر على هذا النحو ، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم؛ فضلاً على أن يكون له هذا الجمال الرائع ، وهذا الإيقاع المؤثر ، وهذا التناسق الكامل
هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعاً . ويبقى الإعجاز الموضوعي؛ والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها؛ فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة . وقلبها الشاعر مرة . وحسها المتوفز مرة . ولكنه يخاطبها جملة ، ويخاطبها من أقصر طريق؛ ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها . . وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها ، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق ، وبهذا الشمول ، وبهذه الدقة وهذا الوضوح ، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً
وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب : « خصائص التصور ومقوماته » تعين على توضيح هذه الحقيقة؛ وهي تتحدث عن « المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي » في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة ، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض :
أنه يمتاز عن كل المناهج :
* أولاً : بكونه يعرض الحقيقة - كما هي في عالم الواقع - في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها ، وكل جوانبها ، وكل ارتباطاتها ، وكل مقتضياتها .
. وهو - مع هذا الشمول - لا يعقد هذه الحقيقة ، ولا يلفها بالضباب بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها . . ولم يشأ الله - سبحانه - رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها ، متوقفاً على سابق علم لهم . . إطلاقاً . . لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى؛ والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله؛ ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم ، ولطلب أية معرفة . . لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفاً على علم سابق . ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم - بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم ، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم - كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن . ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه - عن غير هذا المصدر - هو معرفة - « ظنية » ونتائج « محتملة » لا « قطعية » حتى ذلك « العلم التجريبي » . فطريق العلم التجريبي هو القياس - لا الاستقراء والاستقصاء - فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة . هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر إنما قصارى « العلم » أن يقوم بعدد من التجارب ، ثم يقيس على نتائجها . والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية ( وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة ، تقوم على ترجيح أحد « الاحتمالات » لا على القطع الحتمي ) . . فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير ، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين .
* ثانياً : بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات « العلمية » والتأملات « الفلسفية » والومضات « الفنية » جميعاً . فهو لا يفرد كل جانب من جوانب ( الكل ) الجميل المتناسق بحديث مستقل . كما تصنع أساليب الأداء البشرية . وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب . وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية . وتتصل فيه الدنيا بالآخرة . وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى . . في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده؛ لأن الأسلوب البشري عندما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة ، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة ، كما تبدو في المنهج القرآني
« وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد؛ قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع .
ولكن هذا الترابط يبدو دائماً . فعندما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلاً على تعريف الناس بربهم الحق ، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان . في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء . . وعندما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون ، تتجلى العلاقة بين « حقيقة الألوهية » و « حقيقة الكون » ، ويتطرق السياق كثيراً إلى حقيقة الحياة والأحياء ، وإلى سنن الله في الكون والحياة . . وعندما يكون التركيز على « حقيقة الإنسان » يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء ، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء . . وعندما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى . . وكذلك عندما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا . . إلى آخر هذا النسق من العرض ، الواضح الملامح في القرآن .
* ثالثاً : بكونه - مع تماسك جوانب « الحقيقة » وتناسقها - يحافظ تماماً على إعطاء كل جانب من جوانبها - في الكل المتناسق - مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله - وهو الميزان - ومن ثم تبدو « حقيقة الألوهية » وخصائصها ، وقضية « الألوهية والعبودية » بارزة مسيطرة محيطة شاملة؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي . . وتشغل حقيقة عالم الغيب - بما فيه القدر والدار الآخرة - مساحة بارزة . ثم تنال حقيقة الإنسان ، وحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع . . وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق ، ولا تهمل ، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق . . وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته - كما بينا في فصل « التوازن » في القسم الأول - حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه وتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه - كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديماً وحديثاً - ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها إلى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها - كأصحاب المذهب الحيوي - ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان ، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنه في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون ، إلى تأليه الإنسان - أو العقل - في صورة من الصور - كالمثاليين في عمومهم - ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني - كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة - .
. كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته ، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني
* رابعاً : بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية - مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم ، وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً ، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير . ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة ، وتحديد حاسم؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال ، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة
« ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري ، ملامح المنهج القرآني ، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج . كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن » خصائص التصور الإسلامي ومقوماته « شيئاً مما يبلغه القرآن في هذا الشأن . . وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات ، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن ، بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك . ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته ، والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته » . . . انتهت المقتطفات . .
والقرآن يقدم حقائق العقيدة - إحياناً - في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها ، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو .
من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته . .
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } فهذه المطارح المترامية ، الخفية والظاهرة ، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو؛ وهو في معرض تصوير شمول العلم؛ مهما أراد تصوير هذا الشمول . ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته . . وذلك كما قلنا في تفسير هذه الآية من قبل في الجزء السابع :
« ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن .
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع - موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق .
. إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع تآخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق
« وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : { ولا رطب ولا يابس } . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس ما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق
» ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة؛ وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا؟ وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
« إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً ، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ، المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء ، الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
» والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضاً . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلاً
« وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم . .
» كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } آماد وآفاق وأغوار في « المجهول » المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي و الحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان .
{ ويعلم ما في البر والبحر } آماد وآفاق وأغوار في « المنظور » على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .
{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } حركة الموت والفناء؛ وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .
{ ولا حبة في ظلمات الأرض } حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق .
{ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت . والأزدهار والذبول ، في كل حي على الإطلاق . .
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ من ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من؟ إلا الله؟
كذلك هذا النص الآخر عن شمول علم الله :
{ يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور } ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة؛ فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء ، والحركات ، والأحجام ، والأشكال ، والصور ، والمعاني ، والهيئات ، لا يصمد لها الخيال
ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين
فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها؟ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها؟
كم من شيء يلج في الأرض؟ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز ، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض ، وعين الله عليه ساهرة لا تنام؟
وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟ وكم من نبع يفور؟ وكم من بركان يتفجر؟ وكم من غاز يتصاعد؟ وكم من مستور يتكشف؟ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى ، ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو كثير؟؟
وكم مما ينزل من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق؟ وكم من شعاع منير؟ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد؟ وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر؟ . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله؟
وكم مما يعرج فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه؟
وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة؟ وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله؟ وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟
ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر ، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه؟
كم في لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟ وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان .
. وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات تحت عين الله ، وهو مع هذا يستر ويغفر . . { وهو الرحيم الغفور } وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر . فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر . ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر ، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد
كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . . كما يبدو في قوله تعالى :
{ نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى ، فلولا تذكرون } { أفرأيتم الماء الذي تشربون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟ لو نشاء جعلناه أجاجاً ، فلولا تشكرون } { أفرأيتم النار التي تورون؟ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين } { فسبح باسم ربك العظيم } إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة ، قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود ، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود ، كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير ، وحياة للأرواح والقلوب ، ويقظة في المشاعر والحواس . يقظة لظواهر هذا الوجود التي تتطالع الناس صباح مساء وهم غافلون ، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة . كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم ، ولا عن مألوف حياتهم ، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم . . إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة ، أو مشكلات عقلية عويصة ، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد . . لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة ، وتصوراً للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة .
إن أنفسهم من صنع الله؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته . والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده . وهذا القرآن قرآنه . ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم ، والمبثوثة في الكون من حولهم . يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم ، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها . لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها . يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها ، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها . سر القدرة المبدعة ، وسر الوحدانية المفردة ، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم؛ والذي يحمل دلائل الإيمان؛ وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم ، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق .
وعلى هذا المنهج يسير ، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم . وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم . وفي الماء الذي يشربون . وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية . نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر . اللحظة التي يواجهها كل أحد ، والتي تنتهي عندها كل حيلة ، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة ، لا محاولة فيها ولا مجال حيث تسقط جميع الأقنعة ، وتبطل جميع التعلات .
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره . . إنه المصدر الذي صدر منه الكون . فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون . فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال ، وأضخم الخلائق . . الذرة يظن أنها مادة بناء الكون؛ والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة . . والذرة على صغرها معجزة في ذاتها؛ والخلية على ضآلتها آية في ذاتها . . وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني . . المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل . الزرع . والماء . والنار . والموت . . أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية ، ونشأة حياة نباتية . ومسقط ماء . وموقد نار . ولحظة وفاة؟ . . من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة . . وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية ، وأعظم الأسرار الربانية؛ فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان؛ وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان .
ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة « هذا القرآن » الدالة على مصدره . ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة . .
وصدق الله العظيم :
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله . . . } .
{ أم يقولون افتراه؟ قل : فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } .
ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي ، ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن ، فهم يحكمون على ما لم يعلموه . والحكم يجب أن يسبقه العلم ، وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن . والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد . لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب ، ولما يأتهم تأويله الوقعي بوقوعه :
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، ولما يأتهم تأويله } . .
شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم ، الظالمين المشركين بربهم . فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين :
{ كذلك كذب الذين من قبلهم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } . .
وإذا كان أكثرهم لا يتبعون إلا الظن ، ويكذبون بما لم يحصل لهم عنه علم ، فإن هناك منهم من يؤمن بهذا الكتاب ، فليسوا جميعهم من المكذبين :
{ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به . وربك أعلم بالمفسدين } . .
والمفسدون هم الذين لا يؤمنون . وما يقع الفساد في الأرض كما يقع بضلال الناس عن الإيمان بربهم والعبودية له وحده . وما نجم الفساد في الأرض إلا من الدينونة لغير الله ، وما يتبع هذا من شر في حياة الناس في كل اتجاه . شر اتباع الهوى في النفس والغير؛ وشر قيام أرباب أرضية تفسد كل شيء لتستبقي ربوبيتها المزيفة . . تفسد أخلاق الناس وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم . . ثم تفسد مصالحهم وأموالهم . في سبيل بقائها المصطنع الزائف . وتاريخ الجاهلية في القديم والحديث فائض بهذا الفساد الذي ينشئه المفسدون الذين لا يؤمنون .
ويعقب على تقرير مواقفهم من هذا الكتاب بتوجيه الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - بألا يتأثر بتكذيب المكذبين ، وأن ينفض يديه منهم ، ويعلنهم ببراءته من عملهم ، ويفاصلهم على ما معه من الحق في وضوح وفي حسم وفي يقين :
{ وإن كذبوك فقل : لي عملي ولكم عملكم . أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا بريء مما تعملون } . .
وهي لمسة لوجدانهم ، باعتزالهم وأعمالهم ، وتركهم لمصيرهم منفردين ، بعد بيان ذلك المصير المخيف . وذلك كما تترك طفلك المعاند الذي يأبى أن يسير معك ، وفي وسط الطريق وحده يواجه مصيره فريداً لا يجد منك سنداً . وكثيراً ما يفلح هذا الأسلوب من التهديد
ويمضي السياق يستعرض حال بعضهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يستمعون إليه بآذانهم وقلوبهم مغلقة . وينظرون إليه بعيونهم وبصيرتهم مطموسة ، فلا يئوبون من السمع والنظر بشيء ، ولا يهتدون إلى الطريق :
{ ومنهم من يستمعون إليك . أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون؟ ومنهم من ينظر إليك . أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون؟ } . .
إن هؤلاء الخلائق الذين يستمعون ولا يعقلون ما سمعوا ، وينظرون ولا يميزون ما نظروا . . إن هؤلاء لكثير ، في كل زمان وفي كل مكان .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لهم شيئاً . لأن حواسهم وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم ، فكأنها معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها . والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع الصم ، ولا يبصر العمي . فذلك من شأن الله وحده عز وجل . والله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة . وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها؛ فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي ، ولقوا جزاءهم عدلاً ، ولم يظلمهم الله شيئاً :
{ إن الله لا يظلم الناس شيئاً ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون } . .
وفي هذه الآيات الأخيرة تسرية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يجده في نفسه من ضيق بهذا التكذيب لما معه من الحق ، وبهذا العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام ، وذلك بما يقرره له ربه من أن إباءهم الهدى لم يكن عن تقصير منه في الجهد . ولا قصور فيما معه من الحق . ولكن هؤلاء كالصم العمي . وما يفتح الآذان والعيون إلا الله . فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة والداعية داخل في اختصاص الله .
وفيها كذلك تحديد حاسم لطبيعة العبودية ومجالها - حتى ولو تمثلت في شخص رسول الله . فهو عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية . والأمر كله لله .
بعد ذلك يلمس وجدانهم لمسة خاطفة بمشهد من مشاهد القيامة ، تبدو فيه الحياة الدنيا التي تزحم حسهم ، وتشغل نفوسهم ، وتأكل اهتماماتهم . . رحلة سريعة ، قضاها الناس هناك ، ثم عادوا إلى مقرهم الدائم ودارهم الأصيلة .
{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، وما كانوا مهتدين } . .
وفي هذه الجولة الخاطفة ننظر فإذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة ، شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة ، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف ، ثم أسدل الستار .
أو هذا مجرد تشبيه لهذا الحياة الدنيا ، وللناس الذين دخلوا ثم خرجوا ، كأن لم يفعلوا شيئاً سوى اللقاء والتعارف؟
إنه لتشبيه ، ولكنه حق اليقين وإلا فهل ينتهي البشر في هذه الأرض من عملية التعارف؟ إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين ، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى . ثم يذهبون .
وإلا فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون ويقع من سوء التفاهم بينهم وبين بعضهم في كل ساعة ما يقع . . هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون؟
وهذه الشعوب المتناحرة ، والدول المتخاصمة - لا تتخاصم على حق عام ، ولا على منهج سليم ، إنما تتعارك على الحطام والأعراض - هذه . هل عرف بعضها بعضاً؟ وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام .
إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا .
ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة . . ثم يرحلون
وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة ، وكذبوا بلقاء الله ، وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة - بل تلك الومضة - فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم؛ ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية :
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، وما كانوا مهتدين } . .
ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر ، وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شأن وعيد الله للمكذبين؛ ذلك الوعيد الغامض ، لا يدرون إن كان سيعاجلهم غداً ، أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين . ليبقى مصلتاً فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون . . وشيئاً فشيئاً تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله ، ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحداً . . وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة ، في كلمات ولحظات ، في تصوير حي يلمس القلوب ، ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع ، وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح :
{ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ، ثم الله شهيد على ما يفعلون . ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل أرأيتم : إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون . أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟ ثم قيل للذين ظلموا : ذوقوا عذاب الخلد ، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون . ويستبئونك أحق هو؟ قل : إي وربي إنه لحق ، وما أنتم بمعجزين . ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } .
تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله ، سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغه لهم ، في حياته أو بعد وفاته . فالمرجع إلى الله في الحالين . وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة ، وفي غيبته بالوفاة . فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يوعدون .
{ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ، ثم الله شهيد على ما يفعلون } . . فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير ، لا يخرج منها حرف ، ولا يتغير بالطوارئ والظروف . ولكن كل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم ، فينذرهم ويبين لهم ، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوماً إلا بعد الرسالة ، وبعد الإعذار لهم بالتبيين .
وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول :
{ ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } .
ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله . وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة ، وفي صور شتى متنوعة . .
إنه يقال للرسول - صلى الله عليه وسلم - إن أمر هذه العقيدة ، وأمر القوم الذين يخاطبون بها . كله لله ، وأن ليس لك من الأمر شيء . دورك فيها هو البلاغ ، أما ما وراء لك فكله لله . وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك ، فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم ، وما ينزله بهم من جزاء . . هذا له وحده سبحانه أما أنت - وكل رسول - فعليك البلاغ . . ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله . . ذلك كي يعلم العبيد مجالهم ، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة ومهما تعرضوا فيها للعذاب
{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ } . .
وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال ، طالبين وقوع ما يوعدهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضاء الله فيهم ، كما قضى الله بين الأمم التي جاءتها رسلها فكذبت ، فأخذ الله المكذبين : والجواب :
{ قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } . .
وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال . ( وقد قدم ذكر الضر هنا ، وإن كان مأموراً أن يتحدث عن نفسه ، لأنهم هم يستعجلون الضر ، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر ، أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير ، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } { قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً . . إلا ما شاء الله . . } .
فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه . وسنة الله لا تتخلف ، وأجله الذي أجله لا يستعجل :
{ لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } . .
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي . هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية ، وقد ينتهي بالهلاك المعنوي . هلاك الهزيمة والضياع . وهو ما يقع للأمم ، إما لفترة تعود بعدها للحياة ، وإما دائماً فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة ، وإن بقيت كأفراد . . وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل ، لا مصادفة ولا جزافاً ولا ظلماً ولا محاباة .
فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها . والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها ، والرسول يدعوها لما يحييها . لا بمجرد الاعتقاد ، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة . وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها ، والشريعة التي أنزلها ، والقيم التي قررها . وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله .
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي ، إلى موقف المهدَّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار :
{ قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ، ماذا يستعجل منه المجرمون؟ } . .
فهذا العذاب المغيب الذي لا يُعلم موقعه وموعده؛ والذي قد يحل بياتاً وأنتم نيام ، أو نهاراً وأنتم أيقاظ ، لا يجديكم في رده الصحو . . ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال .
وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه ، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلاً . . وهو لم يقع بعد . . ولكن التصور القرآني يرسمه واقعاً ، ويغمر به المشاعر ، ويلمس به الوجدان :
{ أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟ } .
فكأنما قد وقع . وكأنما قد آمنوا به ، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن
وتتمة المشهد الحاضر :
{ ثم قيل للذين ظلموا : ذوقوا عذاب الخلد . هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون؟ } . .
وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب ، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب الله لرسوله عن هذا المصير
وختام هذه الجولة ، هو استنباء القوم للرسول : إن كان هذا الوعيد حقاً . فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين . والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين :
{ ويستنبئونك : أحق هو؟ قل : إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين } . .
{ إي وربي } . .
الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثاً ، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين . .
{ إنه لحق وما أنتم بمعجزين } . .
ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم ، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم ، وأن يجازيكم .
وبينما نحن معهم على هذه الأرض في استنباء وجواب . إذا نحن فجأة - مع السياق في نقلة من نقلات الأسلوب القرآني المصور - في ساحة الحساب والجزاء . مبدئياً على وجه الفرض والتقدير .
{ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به } . .
فلا يقبل منها حتى على فرض وجوده معها .
ولا تكتمل الآية حتى يكون الفرض قد وقع وقضى الأمر :
{ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } . .
أخذتهم وهلة المفاجأة فسقط في أيديهم ، والتعبير يرسم للخيال صورة الكمد يظلل الوجوه ، دون أن تنطق الشفاه
{ وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } .
.
وانتهى المشهد الذي بدأ منذ نصف آية فرضاً وانتهى واقعاً ، على طريقة التصوير القرآني المؤثر المثير .
والتعقيب المؤكد للحشر والحساب ، جولة أخرى مع القدرة في بعض مجاليها في السماء والأرض وفي الحياة والموت . جولة عابرة لتوكيد معنى القدرة الكفيلة بتحقق الوعد . ثم نداء عام للناس أجمعين للانتفاع بهذا القرآن الذي يحمل لهم الموعظة والهدى وشفاء الصدور .
{ ألا إن لله ما في السماوات والأرض . ألا إن وعد الله حق ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . هو يحيي ويميت . وإليه ترجعون . يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين ، قل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } . .
{ ألا . . . } بهذا الإعلان المدوي . { ألا إن لله ما في السماوات والأرض } . والذي يملك ما في السماوات والأرض يملك أن يجعل وعده حقاً فلا يعجزه عن تحقيقه معجز ، ولا يعوقه عن تصديقه معوق :
{ ألا إن وعد الله حق } . . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } . .
وهم لجهلهم يشكون أو يكذبون .
{ هو يحيي ويميت } . .
والذي يملك الحياة والموت ، يملك الرجعة والحساب . .
{ وإليه ترجعون } . .
إنه تعقيب سريع للتوكيد السريع بعد الاستعراض المثير .
ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعاً :
{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين } . . .
جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه . وجاءتكم الموعظة { من ربكم } فليس هو كتاباً مفترى ، وليس ما فيه من عند بشر . جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم ، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها ، والشك الذي يسيطر عليها ، والزيغ الذي يمرضها ، والقلق الذي يحيرها . جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان . وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل ، ورحمة من الضلال والعذاب :
{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، هو خير مما يجمعون } . .
فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده ، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان . . فبذلك وحده فليفرحوا . فهذا هو الذي يستحق الفرح . لا المال ولا أعراض هذه الحياة . إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة ، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها . والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها . إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد ، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض ، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض . الإيمان عندهم هو النعمة ، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف . والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم .
عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو : سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي الله عنه - خرج عمر ومولى له ، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل يقول : الحمد لله تعالى .
ويقول مولاه : هذا والله من فضله الله ورحمته ، فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى : { قل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .
هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة . كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى . فأما المال ، وأما الثراء ، وأما النصر ذاته فهو تابع . لذلك كان النصر يأتيهم ، وكان المال ينثال عليهم ، وكان الثراء يطلبهم . . إن طريق هذه الأمة واضح . إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها ، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها . . هذا هو الطريق .
إن الأرزاق المادية ، والقيم المادية ، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض . . في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى . . إن الأرزاق المادية ، والتيسيرات المادية ، والقيم المادية ، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية - لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة - كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة
إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية؛ وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس؛ وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان .
إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم . هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء . كما يجعلها سبباً للرقي الإنساني أو مزلقاً للارتكاس
ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله :
{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . قل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } . .
ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا ، فيقول عمر - رضي الله عنه - عن المال والأنعام : « ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى : { قل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } . .
لقد كان عمر - رضي الله عنه - يفقه دينه . كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم : موعظة من ربهم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق
لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين ، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها . . وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان . . بما فيها جاهلية القرن العشرين .
إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد؛ وتحريرهم من هذه العبودية ، وتعبيدهم لله وحده ، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم ، ويرفع قيمهم ، ويرفع أخلاقهم .
ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية :
ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية ، والتمكين المادي ، تبعاً لهذا التحرر وهذا الانطلاق . كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة ، وهي تكتسح الجاهليات حولها ، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض ، وتقود البشرية إلى الله ، لتستمتع معها بفضل الله . .
والذين يركزون على القيم المادية ، وعلى الإنتاج المادي ، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية ، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان .
وهم لا يطلقونها دعوة بريئة؛ ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية ، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان - دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية - وتجعل لهم مطالب أساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان
وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية ، والإنتاج المادي ، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها . . وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة ، وتعدها قيمة الحياة الكبرى؛ وتنسى في عاصفة الصياح المستمر . . الإنتاج . . الإنتاج . . كل القيم الروحية والأخلاقية؛ وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي . . هذا الصياح ليس بريئاً؛ إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى؛ وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً
وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام؛ فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك . . الأخلاق . الأسرة . الأعراض . الحريات الضمانات . . . كلها . . كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه؟ إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجراً أو خشباً . فقد يكون قيمة واعتباراً ولافتة ولقباً
إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور ، ويحرر الرقاب ، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان . وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله الذي أعطاه للناس في الأرض؛ وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي؛ وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح؛ وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض
وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس؛ لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية ، على حساب القيم الإنسانية العلوية .
وصدق الله العظيم :
{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . قل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا هو خير مما يجمعون } . .
وفي ظل هذا الحديث عن فضل الله ورحمته ، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور ، يتعرض السياق للجاهلية ، وهي تزاول حياتها العملية ، لا وفق ما جاء من عند الله؛ ولكن وفق أهواء البشر ، واعتدائهم على خصائص الله سبحانه ، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم الله :
{ قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل : آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة؟ إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون } .
.
قل : ماذا ترون في رزق الله الذي أنزله إليكم؟ - وكل ما جاء من عند الله في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى - ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم ، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه ، فإذا أنتم - من عند أنفسكم ودون إذن من الله لكم - تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً . والتحريم والتحليل تشريع . والتشريع حاكمية . والحاكمية ربوبية ، وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم :
{ قل : آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟ } . .
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم؛ وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين . . ذلك أنها القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا الله . بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة .
إن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون الله هو الرب المعبود؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله . . ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله للبشر ، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض . . والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود الله - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم « المسلمين » . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم الله - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم « المسلمين » - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود الله ومن أنه الخالق الرازق؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير الله تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . مهما اختلفت الأسماء واللافتات . فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم « المسلمين » - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به الله . أو كانوا يقولون عنه : شريعة الله
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه الله . . وذلك في قوله تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون }