كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي
. فهي قريب . ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم . وتدبير أمرها لا يحتاج إلى وقت . طرفة عين . فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها { إن الله على كل شيء قدير } وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق ، وانتفاضها ، وجمعها ، وحسابها ، وجزاؤها . . كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء : كن . فيكون . إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر ، وينظرون بعين البشر ، ويقيسون بمقاييس البشر ، ومن هنا يخطئون التصور والتقدير
ويقرب القرآن الأمر بعرض مثل صغير من حياة البشر ، تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم ، وهو يقع في كل لحظة من ليل أو نهار :
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } . .
وهو غيب قريب ، ولكنه موغل بعيد . وأطوار الجنين قد يراها الناس ، ولكنهم لا يعلمون كيف تتم ، لأن سرها هو سر الحياة المكنون . والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب ، علم حادث مكسوب : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } ومولد كل عالم وكل باحث ، ومخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً قريب قريب وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر ، وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب ، في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود : { وجعل لكم السمع والأبصار والافئدة } والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية؛ وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل ، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل . جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة { لعلكم تشكرون } حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم . وأول الشكر : الإيمان بالله الواحد المعبود .
وعجيبة أخرى من آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون :
{ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ، ما يمسكهن إلا الله . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } . .
ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور ، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب ، وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ ، ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب . وإن تحليقة طائر في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه . فينتفض للمشهد القديم الجديد . . { ما يمسكهن إلا الله } بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها ، وجعل الطير قادرة على الطيران ، وجعل الجو من حولها مناسباً لهذا الطيران؛ وأمسك بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء : { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } . . فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين ، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر . وهو يعبر عن أحساسه بروعة الخلق ، بالإيمان والعبادة والتسبيح؛ والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير ، قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين ، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء .
ويخطو السياق خطوة أخرى في أسرار الخلق وآثار القدرة ومظاهر النعمة ، يدخل بها إلى بيوت القوم وما يسر لهم فيها وحولها من سكن ومتاع وأكنان وظلال
{ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين . والله جعل لكم مما خلق ظلالاً؛ وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم . كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } . .
والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة . وذكرها في السياق يجيء بعد الحديث عن الغيب ، وظل السكن ليس غريباً عن ظل الغيب ، فكلاهما فيه خفاء وستر . والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة .
ونستطرد هنا إلى شيء عن نظرة الإسلام إلى البيت ، بمناسبة هذا التعبير الموحي : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } . . فهكذا يريد الإسلام البيت مكاناً للسكينة النفسية والاطمئنان الشعوري . هكذا يريده مريحاً تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة ، أو باطمئنان من فيه بعضهم لبعض ، وبسكن من فيه كل إلى الآخر . فليس البيت مكاناً للنزاع والشقاق والخصام ، إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام .
ومن ثم يضمن الإسلام للبيت حرمته ، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه . فلا يدخله داخل إلا بعد الاستئذان ، ولا يقتحمه أحد بغير حق باسم السلطان ، ولا يتطلع أحد على من فيه لسبب من الأسباب ، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة ، فيروع أمنهم ، ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت ، ويعبر عنه ذلك التعبير الجميل العميق
ولأن المشهد بيوت وأكنان وسرابيل ، فإن السياق يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } . وهو هنا كذلك يستعرض من نعمة الأنعام ما يلبي الضرورات وما يلبي الأشواق ، فيذكر المتاع ، إلى جانب الأثاث . والمتاع ولو أنه يطلق على ما في الأرحال من فرش وأغطية وأدوات ، إلا أنه يشي بالتمتع والارتياح .
ويرق التعبير في جو السكن والطمأنينة ، وهو يشير إلى الظلال والأكنان في الجبال ، وإلى السرابيل تقي في الحر وتقي في الحرب : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً ، وجعل لكم من الجبال أكناناً ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ، وسرابيل تقيكم بأسكم } وللنفس في الظلال استرواح وسكن ، ولها في الأكنان طمأنينة ووسن ، ولها في السرابيل التي تقي الحر من الأردية والأغطية راحة وفي السرابيل التي تقي البأس من الدروع وغيرها وقاية .
. وكلها بسبيل من طمأنينة البيوت وأمنها وراحتها وظلها . . ومن ثم يجيء التعقيب : { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } والإسلام استسلام وسكن وركون . .
وهكذا تتناسق ظلال المشهد كله على طريقة القرآن في التصوير .
فإن أسلموا فبها . وإن تولوا وشردوا فما على الرسول إلا البلاغ . وليكونن إذا جاحدين منكرين ، بعد ما عرفوا نعمة الله التي لا تقبل النكران
{ فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين . يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها . وأكثرهم الكافرون } . .
ثم يعرض ما ينتظر الكافرين عندما تأتي الساعة التي ذكرت في مطلع الحديث :
{ ويوم نبعث من كل أمة شهيداً ، ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون . وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون . وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك . فألقوا إليهم القول : إنكم لكاذبون . وألقوا إلى الله يومئذ السلم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } . .
والمشهد يبدأ بموقف الشهداء من الأنبياء يدلون بما يعلمون مما وقع لهم في الدنيا مع أقوامهم من تبليغ وتكذيب والذين كفروا واقفون لا يؤذن لهم في حجة ولا استشفاع ولا يطلب منهم أن يسترضوا ربهم بعمل أو قول ، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء ، وجاء وقت الحساب والعقاب . { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون } . . ثم يقطع هذا الصمت رؤية الذين أشركوا لشركائهم في ساحة الحشر ممن كانوا يزعمون أنهم شركاء لله ، وأنهم آلهة يعبدونهم مع الله أو من دون الله . فإذا هم يشيرون إليهم ويقولون { ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك } فاليوم يقرون : { ربنا } واليوم لا يقولون عن هؤلاء إنهم شركاء لله . إنما يقولون : { هؤلاء شركاؤنا } . . ويفزع الشركاء ويرتجفون من هذا الاتهام الثقيل ، فإذا هم يجبهون عبادهم بالكذب في تقرير وتوكيد : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } ويتجهون إلى الله مستسلمين خاضعين { وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم } . . وإذا المشركون لا يجدون من مفترياتهم شيئاً يعتمدون عليه في موقفهم العصيب : { وضل عنهم ما كانوا يفترون } . . وينتهي الموقف بتقرير مضاعفة العذاب للذين كفروا وحملوا غيرهم على الكفر وصدوهم عن سبيل الله : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فالكفر فساد ، والتكفير فساد ، وقد ارتكبوا جريمة كفرهم ، وجريمة صد غيرهم عن الهدى ، فضوعف لهم العذاب جزاء وفاقاً .
ذلك شأن عام مع جيمع الأقوام . ثم يخصص السياق موقفاً خاصاً للرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه :
{ ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ، ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } .
.
وفي ظل المشهد المعروض للمشركين ، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم ، ويستسلمون لله متبرئين من دعوى عبادهم الضالين ، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة شهيد . فتجيء هذه اللمسة في وقتها وقوتها : { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } . . ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول { تبياناً لكل شيء } فلا حجة بعده لمحتج ، ولا عذر معه لمعتذر . { وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } . . فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب ، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون . .
وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق ، تتناسق مع جوه وتؤديه .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
ختم الدرس الماضي بقوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وفي هذا الدرس بيان لبعض ما في الكتاب من التبيان والهدى والرحمة والبشرى . فيه الأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وفيه الأمر بالوفاء بالعهد والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها . . وكلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها هذا الكتاب .
وفيه بيان الجزاء المقرر لنقض العهد واتخاذ الأيمان للخداع والتضليل ، وهو العذاب العظيم . والبشرى للذين صبروا وتوفيتهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
ثم يذكر بعض آداب قراءة هذا الكتاب . وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، لطرد شبحه من مجلس القرآن الكريم . كما يذكر بعض تقولات المشركين عن هذا الكتاب . فمنهم من يرمي الرسول صلى الله عليه وسلم بافترائه على الله . ومنهم من يقول : إن غلاماً أعجمياً هو الذي يعلمه هذا القرآن
وفي نهاية الدرس يبين جزاء من يكفر بعد أيمانه ، ومن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومن فتنوا عن دينهم ثم هاجروا وجاهدوا وصبروا . . وكل أولئك تبيان ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .
{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ، إن الله يعلم ما تفعلون . ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ، إنما يبلوكم الله به ، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ولتسألن عما كنتم تعملون } . .
لقد جاء هذا الكتاب لينشئ أمة وينظم مجتمعاً ، ثم لينشئ عالماً ويقيم نظاماً . جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس؛ إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية .
ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات ، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب ، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود :
جاء { بالعدل } الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل ، لا تميل مع الهوى ، ولا تتأثر بالود والبغض ، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب ، والغنى والفقر ، والقوة والضعف . إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع ، وتزن بميزان واحد للجميع .
وإلى جوار العدل . . { الإحسان } . . يلطف من حدة العدل الصارم الجازم ، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب ، وشفاء لغل الصدور . ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحاً أو يكسب فضلاً .
والإحسان أوسع مدلولاً ، فكل عمل طيب إحسان ، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل ، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه ، وعلاقاته بأسرته ، وعلاقاته بالجماعة ، وعلاقاته بالبشرية جميعاً .
ومن الإحسان { إيتاء ذي القربى } إنما يبرز الأمر به تعظيماً لشأنه ، وتوكيداً عليه . وما يبني هذا على عصبية الأسرة ، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام . وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل .
{ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } . . والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد . ومنه ما خصص به غالباً وهو فاحشة الاعتداء على العرض ، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها . والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة . وقد تنحرف الفطرة أحياناً فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها . والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل .
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي . . ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها ، والمنكر بكل مغرراته ، والبغي بكل معقباته ، ثم يقوم . .
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة ، مهما تبلغ قوتها ، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها . وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي . فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حيناً من الدهر ، فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة ، فهي تنتفض لطردها ، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه . وأمر الله بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة ، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم الله . لذلك يجيء التعقيب : { يعظكم لعلكم تذكرون } فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم .
{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون } . .
والوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله . والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس ، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع ، ولا تقوم إنسانية . والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله كفيلاً عليهم ، وأشهدوه عهدهم ، وجعلوه كافلاً للوفاء بها . ثم يهددهم خفياً { إن الله يعلم ما تفعلون } .
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبداً ، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم ، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال ، وتقبيح نكث العهد ، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات :
{ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، أن تكون أمة هي أربى من أمة .
إنما يبلوكم الله به . وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } .
فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعاً منكوثة ومحلولة وكل جزئية من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجب . وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب . وهو المقصود . وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل ، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه
وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن محمداً ومن معه قلة ضعيفة ، بينما قريش كثرة قوية . فنبههم إلى أن هذا ليس مبرراً لأن يتخذوا أقسامهم غشاً وخديعة فيتخلوا عنها : { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي بسبب كون أمة أكثر عدداً وقوة من أمة . وطلباً للمصلحة مع الأمة الأربى .
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقاً لما يسمى الآن « مصلحة الدولة » فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول ، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر ، تحقيقاً « لمصلحة الدولة » فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ، ويجزم بالوفاء بالعهد ، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل . ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهداً ولا تعاوناً على غير البر والتقوى . ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان ، وأكل حقوق الناس ، واستغلال الدول والشعوب . . وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام .
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر ، وينبه الى قيام مثل هذه الحالة : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه : { إنما يبلوكم الله به } :
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه : { وليبيِّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة : { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون } . . ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد ، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة ، نسخاً غير مكررة ولا معادة ، وجعل نواميس للهدى والضلال ، تمضي بها مشيئته في الناس ، وكل مسؤول عما يعمل . فلا يكون الاختلاف في العقيدة سبباً في نقض العهود .
فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله . والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات . وهذه قمة في نظافة التعامل ، والسماحة الدينية ، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن .
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود ، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة ، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية . ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية ، وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات . وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة ، ويلوح بما عند الله من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة . وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند الله الذي لا تنفد خزائنه ، ولا ينقطع رزقه :
{ ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم ، فتزل قدم بعد ثبوتها ، وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ، ولكم عذاب عظيم . ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً . إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون . ما عندكم ينفد وما عند الله باق . ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .
واتخاذ الأيمان غشاً وخداعاً يزعزع العقيدة في الضمير ، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين . فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه ، لا يمكن أن تثبت له عقيدة ، ولا أن تثبت له قدم على صراطها . وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث ، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل؛ ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين بالله .
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم ، ومن صدقهم في وعدهم ، ومن إخلاصهم في أيمانهم ، ومن نظافتهم في معاملاتهم . فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم .
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أثراً قوياً وطابعاً عاماً في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز . . روي أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك الروم أمد ، فسار إليهم في أخر الأجل . ( حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ) فقال له عمر بن عتبة : الله أكبر يا معاوية . وفاء لا غدر . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها » فرجع معاوية بالجيش . والروايات عن حفظ العهود مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها متواترة مشهورة .
وقد ترك هذا القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي البارز . وهو يرغب ويرهب ، وينذر ويحذر ويجعل العهد عهد الله ، ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيلاً هزيلاً ، وما عند الله على الوفاء عظيماً جزيلاً : { ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً .
إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون } . . ويذكر بأن ما عند البشر ولو ملكه فرد فإنه زائل ، وما عند الله باق دائم : { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } ، ويقوي العزائم على الوفاء ، والصبر لتكاليف الوفاء ، ويعد الصابرين أجراً حسناً { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } والتجاوز عما وقع منهم من عمل سيئ ، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه .
وبمناسبة العمل والجزاء ، يعقب بالقاعدة العامة فيهما :
{ ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } . . فيقرر بذلك القواعد التالية :
أن الجنسين : الذكر والأنثى . متساويان في قاعدة العمل والجزاء ، وفي صلتهما بالله ، وفي جزائهما عند الله . ومع أن لفظ { من } حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل : { من ذكر أو أنثى } لزيادة تقرير هذه الحقيقة . وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى ، وضيق المجتمع بها ، واستياء من يبشر بمولدها ، وتواريه من القوم حزناً وغماً وخجلاً وعاراً
وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها . قاعدة الإيمان بالله { وهو مؤمن } فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء ، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته ، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعاً ، وإلا فهي أنكاث . فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثاً وغاية . فتجعل الخير أصيلاً ثابتاً يستند إلى أصل كبير . لا عارضاً مزعزعاً يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل .
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض . لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال . فقد تكون به ، وقد لا يكون معها . وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية : فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه . وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة ، وسكن البيوت ومودات القلوب . وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة . . وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل ، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله .
وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة .
وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات . فما أكرمه من جزاء .
ثم يأخذ السياق في شيء عن خاصة الكتاب . عن آداب قراءته . وعن تقولات المشركين عليه :
{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } .
والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله ، وتطهير له من الوسوسة واتجاه بالمشاعر إلى الله خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي يمثله الشيطان .
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . . { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } فالذين يتوجهون إلى الله وحده ، ويخلصون قلوبهم لله ، لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم ، مهما وسوس لهم فإن صلتهم بالله تعصمهم أن ينساقوا معه ، وينقادوا إليه . وقد يخطئون ، لكنهم لا يستسلمون ، فيطردون الشيطان عنهم ويثوبون إلى ربهم من قريب . . { إنما سلطانه على الذين يتولونه } أولئك الذين يجعلونه وليهم ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم ، ومنهم من يشرك به . فقد عرفت عبادة الشيطان وعبادة إله الشر عند بعض الأقوام . على أن أتباعهم للشيطان نوع من الشرك بالولاء والاتباع .
وعند ذكر المشركين يذكر تقولاتهم عن القرآن الكريم :
{ وإذا بدلنا آية مكان آية ، والله أعلم بما ينزل قالوا : إنما أنت مفتر . بل أكثرهم لا يعلمون . قل : نزله روح القدس من ربك بالحق ، ليثبت الذين آمنوا ، وهدى وبشرى للمسلمين . ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر . لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ، وهذا لسان عربي مبين . إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم . إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ، وأولئك هم الكاذبون } . .
إن المشركين لا يدركون وظيفة هذا الكتاب . لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني ، وبناء أمة تقود هذا المجتمع العالمي . وأنه الرسالة الأخيرة التي ليست بعدها من السماء رسالة؛ وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع . فإذا بدل آية انتهى أجلها واستنفدت أغراضها ، ليأتي بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة ، وأصلح للبقاء بعد ذلك الدهر الطويل الذي لا يعلمه إلا هو ، فالشأن له ، ومثل آيات هذا الكتاب كمثل الدواء تعطى للمريض منه جرعات حتى يشفى ، ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية .
إن المشركين لا يدركون شيئاً من هذا كله ، ومن ثم لم يدركوا حكمة تبديل آية مكان آية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسبوها افتراء منه وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذباً قط . { بل أكثرهم لا يعلمون } . .
{ قل : نزله روح القدس من ربك بالحق } . . فما يمكن أن يكون افتراء . وقد نزله { روح القدس } جبريل عليه السلام { من ربك } لا من عندك { بالحق } لا يتلبس به الباطل { ليثبت الذين آمنوا } الموصولة قلوبهم بالله ، فهي تدرك أنه من عند الله ، فتثبت على الحق وتطمئن إلى الصدق { وهدى وبشرى للمسلمين } بما يهديهم إلى الطريق المستقيم ، وبما يبشرهم بالنصر والتمكين .
{ ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر . لسان الذي يلحدون إليه أعجمي . وهذا لسان عربي مبين } . . .
والفرية الأخرى بزعمهم أن الذي يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القرآن إنما هو بشر . سموه باسمه ، واختلفت الروايات في تعيينه . . قيل : كانوا يشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعاً يبيع عند الصفا ، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذلك أعجمي اللسان لا يعرف العربية ، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه .
وقال محمد بن اسحاق في السيرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى سبيعة . غلام نصراني يقال له : جبر . عبد لبعض بني الحضرمي ، فأنزل الله : { ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر . لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } .
وقال عبد الله بن كثير وعن عكرمة وقتادة كان اسمه « يعيش » .
وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قنا بمكة وكان اسمه بلعام . وكان أعجمي اللسان ، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا : إنما يعلمه بلعام . فأنزل الله هذه الآية . .
وأما ما كان فقد رد عليهم الرد البسيط الواضح الذي لا يحتاج إلى جدل : { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي . وهذا لسان عربي مبين } فكيف يمكن لمن لسانه أعجمي أن يعلم محمداً هذا الكتاب العربي المبين؟
وهذه المقالة منهم يصعب حملها على الجد ، واغلب الظن أنها كيد من كيدهم الذي كانوا يدبرونه وهم يعلمون كذبه وافتراءه . وإلا فكيف يقولون وهم أخبر بقيمة هذا الكتاب وإعجازه إن أعجميا يملك أن يعلم محمدا هذا الكتاب . ولئن كان قادرا على مثله ليظهرن به لنفسه
واليوم ، بعد ما تقدمت البشرية كثيرا ، وتفتقت مواهب البشر عن كتب ومؤلفات ، وعن نظم وتشريعات؛ يملك كل من يتذوق القول ، وكل من يفقه أصول النظم الاجتماعية ، والتشريعات القانونية أن يدرك أن مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من عمل البشر .
وحتى الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية ، عندما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر المستشرقين عام 1954كانت دعواهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد هو محمد بل من عمل جماعة كبيرة . وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها
دعاهم إلى هذا استكثار هذا الكتاب على موهبة رجل واحد .
وعلى علم أمة واحدة .
ولم يقولوا ما يوحي به المنطق الطبيعي المستقيم : إنه من وحي رب العالمين . لأنهم ينكرون أن يكون لهذا الوجود إله ، وأن يكون هناك وحي ورسل ونبوات
فكيف كان يمكن وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني فلان في الجزيرة العربية؟
ويعلل القرآن هذه المقولة الضالة فيقول :
{ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم } . .
فهؤلاء الذين لم يؤمنوا بآيات الله لم يهدهم الله إلى الحقيقة في أمر هذا الكتاب ، ولا يهديهم إلى الحقيقة في شيء ما . بكفرهم وإعراضهم عن الآيات المؤدية إلى الهدى { ولهم عذاب أليم } بعد ذلك الضلال المقيم .
ثم يثني بأن الافتراء على الله لا يصدر إلا من مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون . ولا يمكن أن يصدر من الرسول الأمين :
{ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله . وأولئك هم الكاذبون } . .
فالكذب جريمة فاحشة لا يقدم عليها مؤمن . وقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث له صدورها عن المسلم ، وإن كان يصدر عنه غيرها من الذنوب .
ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :
{ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم . ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وأولئك هم الغافلون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } . .
ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال .
والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه . لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة . فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من الهداية؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون . . ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح والخسارة . ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض؛ فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان . وليست العقيدة هزلا ، وليست صفقة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز . ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع للجريمة .
واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .
أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به . وقد روي أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر .
روى ابن جرير بإسناده عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : « أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم » كيف تجد قلبك «؟ قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عادوا فعد » . فكانت رخصة في مثل هذه الحال .
وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان . كذلك صنعت سمية أم ياسر ، وهي تطعن بالحربة في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر .
وقد كان بلال رضوان الله عليه يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد . أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله . فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تَنَصَّر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت . فقال : إذن أقتلك ، فقال : أنت وذاك . قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقدر . وفي رواية : بقرة من نحاس فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح . وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها . فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه . فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله .
وفي رواية أنه سجنه ، ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي .
وأنا أطلقك . فقال : تطلق معي جميع أسارى المسلمين . فقال : نعم . فقبل رأسه ، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ . فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .
ذلك أن العقيدة أمر عظيم ، لا هوادة فيها ولا ترخص ، وثمن الاحتفاظ بها فادح ، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن ، وعند الله . وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم .
{ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، ثم جاهدوا وصبروا ، إن ربك من بعدها لغفور رحيم . يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها . وتوفى كل نفس ما عملت ، وهم لا يظلمون } .
وقد كانوا من ضعاف العرب ، الذين فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب وغيره . ولكنهم هاجروا بعد ذلك عندما أمكنتهم الفرصة ، وحسن إسلامهم ، وجاهدوا في سبيل الله ، صابرين على تكاليف الدعوة . فالله يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم { إن ربك لغفور رحيم } .
ذلك يوم تشغل كل نفس بأمرها ، لا تتلفت إلى سواها؛ { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } وهو تعبير يلقي ظل الهول الذي يشغل كل امرئ بنفسه ، يجادل عنها لعلها تنجو من العذاب . ولا غناء في انشغال ولا جدال . إنما هو الجزاء . كل نفس وما كسبت . { وهم لا يظلمون } . .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
سبق أن ضرب الله في هذه السورة مثلين لتقريب حقيقة من حقائق العقيدة . وهو يضرب هنا مثلا لتصوير حال مكة ، وقومها المشركين ، الذين جحدوا نعمة الله عليهم . لينظروا المصير الذي يتهددهم من خلال المثل الذي يضربه لهم .
ومن ذكر النعمة في المثل ، وهي نعمة الرزق الرغد مع الأمن والطمأنينة ينتقل السياق بهم إلى الطيبات التي يحرمونها عليهم اتباعا لأوهام الوثنية ، وقد أحلها الله لهم ، وحدد المحرمات وبينها وليست هذه منها . وذلك لون من الكفر بنعمة الله ، وعدم القيام بشكرها . يتهددهم بالعذاب الأليم من أجله ، وهو افتراء على الله لم ينزل به شريعة .
وبمناسبة ما حرم على المسلمين من الخبائث ، يشير إلى ما حرم على اليهود من الطيبات . بسبب ظلمهم . جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم ولم يكن محرما على آبائهم في عهد إبراهيم الذي كان أمة قانتا لله حنيفا ، ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ، فكانت حلالا له الطيبات ولبنيه من بعده ، حتى حرم الله بعضها على اليهود في صورة عقوبة لهم خاصة . ومن تاب بعد جهالته فالله غفور رحيم .
ثم جاء دين محمد امتدادا واتباعا لدين إبراهيم ، فعادت الطيبات حلالا كلها . وكذلك السبت الذي منع فيه اليهود من الصيد . فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه ففريق كف عن الصيد وفريق نقض عهده فمسخه الله وانتكس عن مستوى الإنسانية الكريم .
وتختم السورة عند هذه المناسبة بالأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة . وأن يجادلهم بالتي هي أحسن . وأن يلتزم قاعدة العدل في رد الاعتداء بمثله دون تجاوز . . والصبر والعفو خير . والعاقبة بعد ذلك للمتقين المحسنين لأن الله معهم ، ينصرهم ويرعاهم ويهديهم طريق الخير والفلاح .
{ وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة ، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله ، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، فأخذهم العذاب وهم ظالمون } . .
وهي حال أشبه شيء بحال مكة . جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن ، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم . وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون . كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل .
ثم إذا رسول منهم ، يعرفونه صادقا أمينا ، ولا يعرف عنه ما يشين ، يبعثه الله فيهم رحمة لهم وللعالمين ، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد؛ فإذا هم يكذبونه ، ويفترون عليه الافتراءات ، وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى . وهم ظالمون .
والمثل الذي يضربه الله لهم منطبق على حالهم ، وعاقبة المثل أمامهم . مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ، وكذبت رسوله { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون .
ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا؛ ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا ، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد . وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس . لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون .
وفي ظل هذا المثل الذي تخايل فيه النعمة والرزق ، كما يخايل فيه المنع والحرمان ، يأمرهم بالأكل مما أحل لهم من الطيبات وشكر الله على نعمته إن كانوا يريدون أن يستقيموا على الإيمان الحق بالله ، وأن يخلصوا له العبودية خالصة من الشرك ، الذي يوحي إليهم بتحريم بعض الطيبات على أنفسهم باسم الآلهة المدعاة :
{ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً ، واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون } .
ويحدد لهم المحرمات على سبيل الحصر . وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق الله من بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حام :
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به } . . وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير ، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله . { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } فهذا الدين يسر لا عسر . ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر ( على خلاف فقهي ذكرناه من قبل ) غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور .
ذلك حد الحلال والحرام الذي شرعه الله في المطعومات ، فلا تخالفوه اتباعاً لأوهام الوثنية ، ولا تكذبوا فتدعوا تحريم ما أحله الله . فالتحريم والتحليل لا يكونان إلا بأمر من الله . فهما تشريع . والتشريع لله وحده لا لأحد من البشر . وما يدعي أحد لنفسه حق التشريع بدون أمر من الله إلا مفتر ، والمفترون على الله لا يفلحون :
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب : هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع قليل ولهم عذاب أليم } . .
لا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم وتحكيه : هذا حلال وهذا حرام .
فهذا حلال وهذا حرام حين تقولونها بلا نص هي الكذب عينه ، الذي تفترونه على الله . والذين يفترون على الله الكذب ليس لهم إلا المتاع القليل في الدنيا ومن ورائه العذاب الأليم ، والخيبة والخسران . .
ثم يجرؤ ناس بعد ذلك على التشريع بغير إذن من الله ، وبغير نص في شريعته يقوم عليه ما يشرعونه من القوانين ، وينتظرون أن يكون لهم فلاح في هذه الأرض أو عند الله
فأما ما حرمه الله على اليهود في قوله من قبل في سورة الأنعام . { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما ، أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } فقد كان عقوبة خاصة بهم لا تسري على المسلمين :
{ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا . إن ربك من بعدها لغفور رحيم } . .
ولقد استحق اليهود تحريم هذه الطيبات عليهم بسبب تجاوزهم الحد ومعصيتهم لله . فكانوا ظالمين لأنفسهم لم يظلمهم الله . فمن تاب ممن عمل السوء بجهالة ولم يصر على المعصية ، ولم يلج فيها حتى يوافيه الأجل؛ ثم أتبع التوبة القلبية بالعمل فإن غفران الله يسعه ورحمته تشمله . والنص عام يشمل التائبين العاملين من اليهود المذنبين وغيرهم إلى يوم الدين .
وبمناسبة ما حرم على اليهود خاصة ، ومناسبة ادعاء مشركي قريش أنهم على ملة إبراهيم فيما يحرمونه على أنفسهم ويجعلونه للآلهة ، يعرج السياق على إبراهيم عليه السلام يجلو حقيقة ديانته ، ويربط بينها وبين الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويبين ما اختص به اليهود من المحظورات التي لم تكن على عهد إبراهيم .
{ إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم؛ وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ، وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } .
والقرآن الكريم يرسم إبراهيم عليه السلام نموذجاً للهداية والطاعة والشكر والإنابة لله . ويقول عنه هنا : إنه كان أمة . واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة . ويحتمل أنه كان إماماً يقتدى به في الخير . وورد في التفسير المأثور هذا المعنى وذاك . وهما قريبان فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد .
{ قانتاً لله } طائعاً خاشعاً عابداً { حنيفاً } متجها إلى الحق مائلاً إليه { ولم يك من المشركين } فلا يتعلق به ولا يتمسح فيه المشركون { شاكراً لأنعمه } بالقول والعمل . لا كهؤلاء المشركين الذين يجحدون نعمة الله قولاً ، ويكفرونها عملاً ، ويشركون في رزقه لهم ما يدعون من الشركاء ، ويحرمون نعمة الله عليهم اتباعاً للأوهام والأهواء . { اجتباه } اختاره { وهداه إلى صراط مستقيم } هو صراط التوحيد الخالص القويم .
ذلك شأن إبراهيم الذي يتعلق به اليهود ويتمسح به المشركون . { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } فكان ذلك وصل ما انقطع من عقيدة التوحيد ، ويؤكدها النص من جديد على أن إبراهيم { وما كان من المشركين } فالصلة الحقيقية هي صلة الدين الجديد . فأما تحريم السبت فهو خاص باليهود الذين اختلفوا فيه ، وليس من ديانة إبراهيم ، وليس كذلك من دين محمد السائر على نهج إبراهيم : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } وأمرهم موكول إلى الله { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } .
ذلك بيان المشتبهات في العلاقة بين عقيدة التوحيد التي جاء بها إبراهيم من قبل ، وكملت في الدين الأخير ، والعقائد المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود . وهو بعض ما جاء هذا الكتاب لتبيانه . فليأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي هي أحسن . فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين عاقبهم بمثل ما اعتدوا . إلا أن يعفو ويصبر مع المقدرة على العقاب بالمثل؛ مطمئناً إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين . فلا يحزن على من لا يهتدون ، ولا يضيق صدره بمكرهم به وبالمؤمنين :
{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله . ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا ، والذين هم محسنون } . .
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها ، ويعين وسائلها وطرائقها ، ويرسم المنهج للرسول الكريم ، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن .
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله . لا لشخص الداعي ولا لقومه . فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله ، لا فضل له يتحدث به ، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به ، وأجره بعد ذلك على الله .
والدعوة بالحكمة ، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم ، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها ، والطريقة التي يخاطبهم بها ، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها .
فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه .
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق ، وتتعمق المشاعر بلطف ، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب ، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية . فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة ، ويؤلف القلوب النافرة ، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ .
وبالجدل بالتي هي أحسن . بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح . حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل ، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق . فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها ، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق ، حتى لا تشعر بالهزيمة ، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس ، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها . والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة ، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة ، وقيمته كريمة ، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها ، والاهتداء إليها . في سبيل الله ، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين . فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله .
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة . فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير ، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازاً لكرامة الحق ، ودفعاً لغلبة الباطل ، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع ، فالإسلام دين العدل والاعتدال ، ودين السلم والمسالمة ، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } . وليس ذلك بعيداً عن دستور الدعوة فهو جزء منه . فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها ، فلا تهون في نفوس الناس . والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد ، ولا يثق أنها دعوة الله . فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها ، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعاً . ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس ، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم ، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون ، ويعتدى عليهم فلا يردون؟ .
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل ، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر ، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان ، في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثراً .
وأكثر فائدة للدعوة . فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر . فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها ، فالقاعدة الأولى هي الأولى .
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال ، وضبط للعواطف ، وكبت للفطرة ، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه : { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله } . . فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس ، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره .
ويوصي القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي وصية لكل داعية من بعده ، الا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون ، فإنما عليه واجبه يؤديه ، والهدى والضلال بيد الله ، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال . وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله ، فالله حافظه من المكر والكيد ، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئاً لنفسه . .
ولقد يقع به الاذى لامتحان صبره ، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه ، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون .
هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله . والنصر مرهون باتباعه كما وعد الله . ومن أصدق من الله؟ .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
هذه السورة سورة الإسراء مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له . واستطراد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله سبحانه إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل { وكل شيء فصلناه تفصيلا } .
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . } وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح { إنه كان عبداً شكورا } . . وعند ذكر دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : { سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : { ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } وتختم السورة بالآية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا } في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بيّنا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } مع الكشف عن حكمة الإسراء { لنريه من آياتنا } . . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة { وإن عدتم عدنا } . . ثم يقرر أن الكتاب الأخير القرآن يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستنداً إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولاً آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعاً لسنة الله؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذار الله لهم في رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حرباً على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : { فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسراً ولم يخرج هو مهاجراً بأمر الله لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله على سعتها وعدم نفادها لأمسكوا خوفاً من الإنفاق وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلى إيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه .
القرآن الذي نزل مفرقاً ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلاً بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
وقصة الإسراء ومعها قصة المعراج إذ كانتا في ليلة واحدة الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى؛ وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسري منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم - « بينما أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق » وقيل : أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد .
« وروي أنه كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانئ وقال : » مثل لي النبيون فصليت بهم « ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانئ بثوبه ، فقال : » مالك؟ « قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال : » وإن كذبوني « . فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء . فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً؛ وارتد ناس ممن كان آمن به؛ وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : أوقال ذلك؟ قالوا نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء فسمي الصدّيق » وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية لمراقبة مقدم العير فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد .
. ثم لم يؤمنوا . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه عليه الصلاة والسلام لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك فراشه في بيت أم هانئ إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلاً لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديماً والذي يثور حديثاً حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئاً وكونها كشفاً وتجلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئاً من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئاً . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى على غير قياس أو عادة لبقية البشر وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر رضي الله عنه وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمع لتخوف أم هانئ رضي الله عنها من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له ، جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلاً ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالحق الذي آمن به .
. وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالواقعة ناشئاً عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهراً بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل :
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } . .
تبدأ السورة بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية : { أسرى بعبده } لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سبباً للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى : السير ليلاً . فكلمة { أسرى } تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكن السياق ينص على الليل { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } للتظليل والتصوير على طريقة القرآن الكريم فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعاً . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه { الذي باركنا حوله } وصف يرسم البركة حافةً بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات : { لنريه من آياتنا } والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول صلى الله عليه وسلم أياً كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . { إنه هو السميع البصير } . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } إلى صيغة التقرير من الله : { لنريه من آياتنا } إلى صيغة الوصف لله : { إنه هو السميع البصير } وفقاً لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصاً . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
هذا الإسراء من آيات الله . وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر . والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة . والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجهم منها . فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الايات التالية :
{ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً؛ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً . ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيراً . عسى ربكم أن يرحمكم ، وإن عدتم عدنا ، وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } . .
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة . وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها؛ ودالت دولتهم بها . وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها ، وفاقاً لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها . وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سبباً لهلاكها وتدميرها .
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى التوراة وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر نوح العبد الشكور ، وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة ، ولم يحمل معه إلا المؤمنون :
{ وآتينا موسى الكتاب ، وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ، ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } . .
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل . وذلك إلا يعذب الله قوماً حتى يبعث إليهم رسولاً ينذرهم ويذكرهم .
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب : { هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً } فلا يعتمدوا إلا على الله وحده ، ولا يتجهوا إلا إلى الله وحده . فهذا هو الهدى ، وهذا هو الإيمان . فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلاً .
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح ، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين ، مع نوح العبد الشكور ، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحاً بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر ، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمداً صلى الله عليه وسلم من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل ، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض ، تصديقاً لسنة الله الجارية التي لا تتخلف :
{ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً } . .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم ، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم؛ لا أنه قضاء قهري عليهم ، تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد { قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء } إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون بالقياس إلى علم الله كائن ، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد ، ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا :
{ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً } .
فهذه هي الأولى : يعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان ، فيفسدون فيها .
فيبعث الله عليهم عباداً من عباده أولي بأس شديد ، وأولي بطش وقوة ، يستبيحون الديار ، ويروحون فيها ويغدون باستهتار ، ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب { وكان وعداً مفعولاً } لا يخلف ولا يكذب .
حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل؛ فرجعوا إلى ربهم ، وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم . وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم ، فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض ، أدال الله للمغلوبين من الغالبين ، ومكن للمستضعفين من المستكبرين : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً } . .
ثم تتكرر القصة من جديد
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء :
{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } . .
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له ، بكل ثماره ونتائجه . وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل ، منه تنتج ، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه ، إن شاء أحسن إليها ، وإن شاء أساء ، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .
فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة :
{ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيراً } . .
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض ، اكتفاء بذكره من قبل : { لتفسدن في الأرض مرتين } ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم } بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه ، أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال . ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار { وليتبروا ما علوا تتبيراً } . . وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء ، والذي لا يبقي على شيء .
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد ، فسلط على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة ، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض ، ودمر مملكتهم فيها تدميرا .
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل ، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئاً . والعبرة هي المطلوبة هنا . وبيان سنة الله في الخالق هو المقصود .
ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول ، بأن هذا الدمار قد يكون طريقاً للرحمة : { عسى ربكم أن يرحمكم } إن أفدتم منه عبرة .
فأما إذا عاد بنوا إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية : { وإن عدتم عدنا } . .
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عباداً آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم « هتلر » .
. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة « إسرائيل » التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات . وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقاً لوعد الله القاطع ، وفاقاً لسنته التي لا تتخلف . . وإن غداً لناظره قريب
ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة :
{ وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } . . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد؛ وتتسع لهم فلا يند عنها أحد .
ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل ، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا؛ بل ضلوا فهلكوا . . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم :
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً } . .
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } . .
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } . . { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً } فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لاركيزة له . وبهما معاً تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معاً تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن ، فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره ، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له :
{ ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان
ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات؛ والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين؛ والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب ، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد ، ومن قواعد العمل والجزاء؛ والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم . .
من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود ، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم ، وجهدهم وجزاءهم ، وكسبهم وحسابهم ، فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى ، محكومة بالنواميس ذاتها ، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف ، دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار؛ مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار :
{ وجعلنا الليل والنهار آيتين ، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ، لتبتغوا فضلاً من ربكم ، ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً؛ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشوراً ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً . وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً؛ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا .
كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ، وما كان عطاء ربك محظوراً . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } . .
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار ، يرتبط به سعي الناس للكسب . وعلم السنين والحساب . ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر . وترتبط به عواقب الهدى والضلال ، وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى . ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولاً . وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها . وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة . . كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل ، ونظام لا يتحول . فليس شيء من هذا كله جزافاً .
{ وجعلنا الليل والنهار آيتين ، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ، وكل شيء فصلناه تفصيلاً } . .
والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة ، ولا يدركه التعطل مرة واحدة ، ولا يني يعمل دائباً بالليل والنهار . فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار؟ يبدو والله أعلم أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفى فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح . . فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء؛ وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار .
ذلك المحو لليل والبروز للنهار { لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب } . . فالليل للراحة والسكون والجِمام ، والنهار للسعي والكسب والقيام ، ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين ، ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات .
{ وكل شيء فصلناه تفصيلا } فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجزاف . ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل ، وهي عليه شاهد ودليل .
بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء .
{ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } .
وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله ، أي ما يقسم له من العمل ، وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته؛ على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه ، وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشوراً يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفاً ، لا يملك إخفاءه ، أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور ، فإذا هو أعمق أثراً في النفس وأشد تأثيراً في الحس؛ وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع طائر من اليوم العصيب ، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار ، ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيب : { اقرأ كتابك .
كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } .
وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء :
{ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } . .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه؛ إن اهتدى فلها ، وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله ، ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود ، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم ، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدينا ، مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار :
{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً } .
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق والمجانة ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً ، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها ، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي ، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها .
والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك ، فكثر فيها المترفون ، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها ، فعم فيها الفسق ، فتحللت وترهلت ، فحقت عليها سنة الله ، وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا ، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك ، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف ، وسنناً لا تتبدل ، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق ، لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته ، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها ، وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقاً .
وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجية القهري الذي ينشئ السبب ، ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمراً توجيهياً إلى الفسق ، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميراً .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح ، قرناً بعد قرن ، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير ، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير :
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } .
وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها ، فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها ، فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء ، ثم تنتظره في الاخرة جهنم عن استحقاق . فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها ، ويستمتعون فيها كالأنعام ، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات . ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم :
{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً } .
{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، فأولئك كان سعيهم مشكوراً } .
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها ، فيؤدي تكاليفها ، وينهض بتبعاتها ، ويقيم سعيه لها على الإيمان . وليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة ، إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية . ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك الإنسان نفسه ، فلا يكون عبداً لهذا المتاع .
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموماً مدحوراً ، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكوراً يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم ، وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء .
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام . فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ، الذي خلقه فسواه ، وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه .
على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله . سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها . وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه ، فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء :
{ كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا } .
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم ، ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة . فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول . كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة؟
{ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } .
فمن شاء التفاوت الحق ، ومن شاء التفاضل الضخم ، فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة ، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
في الدرس الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء ، والهدى والضلال ، والكسب والحساب . . إلى الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار . وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله ، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج ، في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة .
وفي الدرس الماضي ورد { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وورد : { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } ففي هذا الدرس يعرض شيئاً من أوامر هذا القرآن ونواهية ، مما يهدي للتي هي أقوم ، ويفصل شيئاً مما اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة .
يبدأ الدرس بالنهي عن الشرك ، وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده . ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف : بر الوالدين ، وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، في غير إسراف ولا تبذير . وتحريم قتل الذرية ، وتحريم الزنا ، وتحريم القتل . ورعاية مال اليتيم ، والوفاء بالعهد ، وتوفية الكيل والميزان ، والتثبت من الحق ، والنهي عن الخيلاء والكبر . . . وينتهي بالتحذير من الشرك . فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس وختامه ، مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة .
{ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموماً مخذولا } .
إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته ، والأمر عام ، ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به ، صادر إلى شخصه . فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته ، والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن { يقعد } { مذموماً } بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها ، { مخذولاً } لا ناصر له ، ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه . ولفظ { فتقعد } يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد ، ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزاً ، وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان ، لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع ، فهو لفظ مقصود في هذا المكان .
{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } . .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة { قضى } تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء { ألا تعبدوا إلا إياه } فتبدو في جو التعبير ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله ، إعلاناً لقيمة هذا البر عند الله :
{ وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } .
بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل وهما مع ذلك سعيدان
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدورهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقة كله حتى أدركه الجفاف
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان :
{ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } . . والكبر له جلاله ، وضعف الكبر له إيحاؤه؛ وكلمة { عندك } تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق ، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . { وقل لهما قولاً كريماً } وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما بشيء بالإكرام والاحترام . . { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } وهنا يشف التعبير ويلطف ، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً ، ولا يرفض أمراً . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام . { وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .
قال الحافظ أبو بكر البزار بإسناده عن بريدة عن أبيه :
« أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال : لا . ولا بزفرة واحدة » .
ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق ، فإنه يعقب على ذلك برجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا ، ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال :
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم ، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا } .
وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل؛ وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطئ أو يقصر ، ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير .
وما دام القلب صالحاً ، فإن باب المغفرة مفتوح . والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين .
ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين؛ ويصل بهم المساكين وابن السبيل ، متوسعاً في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير :
{ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً ، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، وكان الشيطان لربه كفوراً؛ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ، فقل لهم قولاً ميسورا } .
والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقاً في الأعناق يوفى بالإنفاق . فليس هو تفضيلاً من أحد على أحد؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله ، ووصله بعبادته وتوحيده . الحق الذي يؤديه المكلف فيبرئ ذمته ، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه ، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله .
وينهى القرآن عن التبذير كما يفسره ابن مسعود وابن عباس الإنفاق في غير حق . وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً ، ولو أنفق مُدًّا في غير حق كان مبذراً .
فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق . إنما هو موضع الإنفاق . ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين ، لأنهم ينفقون في الباطل ، وينفقون في الشر ، وينفقون في المعصية . فهم رفقاء الشياطين وصحابهم { وكان الشيطان لربه كفورا } لا يؤدي حق النعمة ، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة ، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق ، غير متجاوزين ولا مبذرين .
فإذا لم يجد إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم ، وتوجه إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم ، فليعدهم إلى ميسرة ، وليقل لهم قولاً ليناً ، فلا يضيق بهم صدره ، ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته ، ففي القول الميسور عوض وأمل وتجمل .
وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة :
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا } .
والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي ، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن . والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير؛ فيرسم البخل يداً مغلولة إلى العنق ، ويرسم الإسراف يداً مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئاً ، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور .
والحسير في اللغة الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفاً وعجزاً . فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف . وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير . ملوماً في الحالتين على البخل وعلى السرف ، وخير الأمور الوسط .
ثم يعقب على الأمر بالتوسط بأن الرازق هو الله . هو الذي يبسط في الرزق ويوسع ، وهو الذي يقدر في الرزق ويضيق . ومعطي الرزق هو الآمر بالتوسط في الأنفاق :
{ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه كان بعباده خبيراً بصيرا } .
يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر ، ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر . ويأمر بالقصد والاعتدال ، وينهى عن البخل والسرف ، وهو الخبير البصير بالأقوام في جميع الأحوال؛ وقد أنزل هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال .
وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق . فما دام الرزق بيد الله ، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل؛ إنما الأمر كله إلى الله . ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس ، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتهى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة :
{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطأً كبيرا } . .
إن انحراف العقيدة وفسادها ينشئ آثاره في حياة الجماعة الواقعية ، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية . وتصحيح العقيدة ينشئ آثاره في صحة المشاعر وسلامتها ، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها . وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية . وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة ، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة .
ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة .
ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء : { نحن نرزقهم وإياكم } وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء : { نحن نرزقكم وإياهم } وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين . فهذا النص : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } : والنص الآخر { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد . وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلاً . فقدم رزق الآباء . فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك .
ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا :
{ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } .
.
وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس لذات الصلة وذات المناسبة .
إن في الزنا قتلاً من نواحي شتى . إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها ، يتبعه غالباً الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق ، قبل مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة ، أو حياة مهينة ، فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء . . وهو قتل في صورة أخرى . قتل للجماعة التي يفشو فيها ، فتضيع الأنساب وتختلط الدماء ، وتذهب الثقة في العرض والولد ، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها ، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات .
وهو قتل للجماعة من جانب آخر ، أذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها ، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها ، والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة ، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه .
وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال ، منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث . وقد يغر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما . ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها . أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة ، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يصرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن ، كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده
والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا . وهي مبالغة في التحرز . لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة ، فالتحرز من المقاربة أضمن . فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان .
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة ، توقياً للوقوع فيه . . يكره الاختلاط في غير ضرورة . ويحرم الخلوة . وينهى عن التبرج بالزينة . ويحض على الزواج لمن استطاع ، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع . ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور . وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد . ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم . ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع ، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان . . إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج ، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال .
ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق :
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصوراً } .
.
والإسلام دين الحياة ودين السلام ، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله ، فالله واهب الحياة ، وليس لأحد غير الله ان يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها . وكل نفس هي حرم لا يمس ، وحرام إلا بالحق ، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه ، وليس متروكاً للرأي ولا متأثراً بالهوى . وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة » .
فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفساً فقد ضمن الحياة لنفوس { ولكم في القصاص حياة } حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء . وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل ، بل يمضوا في الثأر ، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء . وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص ، فينطلق آمناً يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة .
وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة ، وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه .
وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة ، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها ، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة . والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه ، ودخل في جسم الجماعة المسلمة ، واطلع على أسرارها ، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها . ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام . بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين . وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة .
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . . { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً } . .
تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل ، فمن قتل مظلوماً بغير واحد من تلك الأسباب ، فقد جعل الله لوليه وهو أقرب عاصب إليه سلطاناً على القاتل ، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية ، وإن شاء عفا عنه بلا دية . فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل ، لأن دمه له .
وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالاً لهذا السلطان الذي منحه إياه . والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل ، والولي مسلط على دمه بلا مثله .
فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها .
{ فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } يقضي له الله ، ويؤيده الشرع ، وينصره الحاكم . فليكن عادلاً في قصاصه ، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه .
وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي . الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يميناً وشمالاً في حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل ، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ .
والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص . لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضاً . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه ، ويأجر عليه . ولكن بعد أن يعطي الحق . فلولي الدم أن يقتص أو يصفح . وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح
وبعد أن ينتهي السياق من حرمة العرض وحرمة النفس ، يتحدث عن حرمة مال اليتيم ، وحرمة العهد .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } . .
والإسلام يحفظ على المسلم دمه وعرضه وماله ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم « كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله » ولكنه يشدد في مال اليتيم ويبرز النهي عن مجرد قربه إلا بالتي هي أحسن . ذلك أن اليتيم ضعيف عن تدبير ماله ، ضعيف عن الذود عنه ، والجماعة الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله وأن يدفع عنه .
ومما يلاحظ في هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد؛ أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة الجمع ، ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، وعدم التبذير ، والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف ، وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر . . كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية . وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس ، والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد ، وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة جماعية .
ومن ثم جاء النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع ، لتكون الجماعة كلها مسؤولة عن اليتيم وماله ، فهذا عهد عليها بوصفها جماعة .
ولأن رعاية مال اليتيم عهد على الجماعة ألحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقاً . { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } . . يسأل الله جل جلاله عن الوفاء به ، ويحاسب من ينكث به وينقضه .
وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد . لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة . وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن والحديث؛ سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس . عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة . عهد الحاكم وعهد المحكوم . وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام .
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان :
{ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا } . .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن ، أمانة في التعامل ، ونظافة في القلب ، يستقيم بهما التعامل في الجماعة ، وتتوافر بهما الثقة في النفوس ، وتتم بهما البركة في الحياة . { ذلك خير وأحسن تأويلا } . . خير في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك » .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة ، ويتبعها الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة ، فيرتد هذا على الأفراد؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وهو كسب ظاهري ووقتي ، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي ، أو الحافز الديني هو الباعث عليها؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقاداً . . أن هذا يحقق أهداف ذاك؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائماً أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ، ومجالاته الرحيبة .
والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة . فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة : { ولا تقف ما ليس لك به علم . إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } . .
وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً ، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة
فالتثبت من كل خير ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإسلام الدقيق .
ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة . ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل . ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم .
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى ، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده ، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد . .
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب . أمانة يسأل عنها صاحبها ، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً . أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة ، وكلما روى الإنسان رواية ، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة .
{ ولا تقف ما ليس لك به علم } . . ولا تتبع ما لا تعلمه علم اليقين ، وما لم تتثبت من صحته : من قول يقال ورواية تروى . من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية .
وفي الحديث : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » . وفي سنن أبي داود : « بئس مطية الرجل : زعموا » وفي الحديث الآخر « إن أفرى الفري أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا » .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه ، والتثبت في استقرائه : إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته ، وفي مشاعره وأحكامه ، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية ، ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها . { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } حقاً وصدقاً . .
وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة :
{ ولا تمش في الأرض مرحاً . إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا } . .
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان ، أو قوة أو جمال . ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله ، وأنه ضعيف أمام حول الله ، لطامن من كبريائه ، وخفف من خيلائه ، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً .
والقرآن يجبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته : { إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً } فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل ، لا يبلغ شيئاً من الاجسام الضخمة التي خلقها الله .
إنما هو قوي بقوة الله ، عزيز بعزة الله ، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه ، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه .
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء ، أدب مع الله ، وأدب مع الناس . أدب نفسي وأدب اجتماعي . وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات . يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته ، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه .
وفي الحديث : « من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير . ومن استكبر وضعه الله ، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير . حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير » .
وتنتهي تلك الأوامر والنواهي والغالب فيها هو النهي عن ذميم الفعال والصفات بإعلان كراهية الله للسيئ منها :
{ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } .
فيكون في هذا تلخيصاً وتذكيراً بمرجع الأمر والنهي وهو كراهية الله للسيئ من تلك الأمور . ويسكت عن الحسن المأمور به ، لأن النهي عن السيئ هو الغالب فيها كما ذكرنا .
ويختم الأوامر والنواهي كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك . وبيان أنها بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول :
{ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحورا } .
وهو ختام يشبه الابتداء . فتجيء محبوكة الطرفين ، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناء الحياة ، قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه . .
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
بدأ الدرس الثاني وانتهى بتوحيد الله والنهي عن الشرك به ، وضم بين البداية والنهاية تكاليف وأوامر ونواهي وآداباً مرتكزة كلها على قاعدة التوحيد الوطيدة . . ويبدأ هذا الدرس وينتهي باستنكار فكرة الولد والشريك ، وبيان ما فيها من اضطراب وتهافت ، وتقرير وحدة الاتجاه الكوني إلى الخالق الواحد : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ووحدة المصير والرجعة إلى الله في الآخرة ، ووحدة علم الله الشامل بمن في السماوات ومن في الأرض ، ووحدة التصرف في شؤون الخلائق بلا معقب : { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } . .
ومن خلال السياق تتهافت عقائد الشرك وتتهاوى ، وتنفرد الذات الإلهية بالعبادة والاتجاه والقدرة والتصرف والحكم في هذا الوجود ، ظاهره وخافيه ، دنياه وآخرته؛ ويبدو الوجود كله متجهاً إلى خالقه في تسبيحة مديدة شاملة تشترك فيها الأحياء والاشياء .
{ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً؟ إنكم لتقولون قولاً عظيماً؟ }
استفهام للاستنكار والتهكم . استنكار لما يقولون من أن الملائكة بنات الله ، تعالى عن الولد والصاحبة كما تعالى عن الشبيه والشريك . وتهكم على نسبة البنات لله وهم يعدون البنات أدنى من البنين ويقتلون البنات خوف الفقر أو العار؛ ومع هذا يجعلون الملائكة إناثاً ، وينسبون هؤلاء الإناث إلى الله فإذا كان الله هو واهب البنين والبنات ، فهل أصفاهم بالبنين المفضلين واتخذ لنفسه الإناث المفضولات؟
وهذا كله على سبيل مجاراتهم في ادعاءاتهم لبيان ما فيها من تفكك وتهافت . وإلا فالقضية كلها مستنكرة من الأساس :
{ إنكم لتقولون قولاً عظيماً } . . عظيماً في شناعته وبشاعته ، عظيماً في جرأته ووقاحته ، عظيماً في ضخامة الافتراء فيه ، عظيماً في خروجه عن التصور والتصديق .
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا ، وما يزيدهم إلا نفورا } . .
فقد جاء القرآن بالتوحيد ، وسلك إلى تقرير هذه العقيدة وإيضاحها طرقاً شتى ، وأساليب متنوعة ، ووسائل متعددة { ليذكروا } فالتوحيد لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والرجوع إلى الفطرة ومنطقها ، وإلى الآيات الكونية ودلالتها؛ ولكنهم يزيدون نفوراً كلما سمعوا هذا القرآن . نفوراً من العقيدة التي جاء بها ، ونفوراً من القرآن ذاته خيفة أن يغلبهم على عقائدهم الباطلة التي يستمسكون بها . عقائد الشرك والوهم والترهات .
وكما جاراهم في ادعاءاتهم في حكاية البنات ونسبتها إلى الله ليكشف عما فيها من تفكك وتهافت ، فهو يجاريهم في حكاية الآلهة المدعاة ، ليقرر أن هذه الآلهة لو وجدت فإنها ستحاول أن تتقرب إلى الله ، وأن تجد لها وسيلة إليه وسبيلاً :
{ قل : لو كان معه آلهة كما يقولون ، إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } . .
ولو كما يقول النحاة حرف امتناع لامتناع ، فالقضية كلها ممتنعة ، وليس هنالك آلهة مع الله كما يقولون والآلهة التي يدعونها إن هي إلا خلق من خلق الله سواء كانت نجماً أو كوكباً ، إنساناً أو حيواناً ، نباتاً أو جماداً .
وهذه كلها تتجه إلى الخالق حسب ناموس الفطرة الكونية ، وتخضع للإرادة التي تحكمها وتصرفها؛ وتجد طريقها إلى الله عن طريق خضوعها لناموسه وتلبيتها لإرادته :
{ إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } . . وذكر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتسامي على هذه الخلائق التي يدعون أنها آلهة { مع الله } . وهي تحت عرشه وليست معه . . ويعقب على ذلك بتنزيه الله في علاه :
{ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيرا } . .
ثم يرسم السياق للكون كله بما فيه ومن فيه مشهداً فريداً ، تحت عرش الله ، يتوجه كله إلى الله ، يسبح له ويجد الوسيلة إليه :
{ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليماً غفورا } . .
وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتنتفض روحاً حية تسبح الله . فإذا الكون كله حركة وحياة ، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية ، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال .
وإنه لمشهد كوني فريد ، حين يتصور القلب . كل حصاة وكل حجر . كل حبة وكل ورقة . كل زهرة وكل ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الارض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه ، وكلما همت يده أن تلمس شيئاً ، وكلما همت رجله أن تطأ شيئاً . . سمعه يسبح الله ، وينبض بالحياة .
{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده } يسبح بطريقته ولغته { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين ، ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم ، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية ، وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتتوجه بها إلى خالق النواميس ، ومدبر هذا الكون الكبير .
وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح ، ويتوجه بالتسبيح ، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى ، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون ، الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود ، النابضة في كل متحرك وساكن ، وفي كل شيء في هذا الوجود .
{ إنه كان حليماً غفورا } . . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله ، بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله ، ومن ينسب له البنات ، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه .
والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم { إنه كان حليماً غفورا } .
ولقد كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن ، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له ، ويمانعون فطرتهم ان تتأثر به؛ فجعل الله بينهم وبين الرسل حجاباً ، حجاباً خفياً ، وجعل على قلوبهم كالأغلقة فلا تفقه القرآن ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه :
{ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا . نحن أعلم بما يستمعون به ، إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى . إذ يقول الظالمون : إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال ، فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } . .
وقد روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته؛ فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ، فقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق . فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق؛ فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى ابا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : اخبرني يا ابا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا ، والذي حلفت به . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته؛ فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فاعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء .
فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه قال فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها ، وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها ، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجاباً خفياً لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب ، فإذا هم لا ينتفعون به ، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه . وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن ، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه؛ ثم يغلبهم التأثر به فيعودون ، ثم يتناجون من جديد ، حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا انفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها :
{ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } . .
نفوراً من كلمة التوحيد ، التي تهدد وضعهم الاجتماعي ، القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية ، وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت ، وما في الإسلام من تماسك ، وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز . وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به ، على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر؛ والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان؛ فيطلقون التهم على الرسول يعتذرون بها عن المكابرة والعناد :
{ إذ يقول الظالمون : إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا } . .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن؛ فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر؛ لأنهم يحسون فيه شيئاً غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر ، يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله ، وهذا التميز في حديثه ، وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه ، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ولو أنصفوا لقالوا : إنه من عند الله ، فما يمكن أن يقول هذا إنسان ، ولا خلق آخر من خلق الله .
{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } . .
ضربوا لك الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور ، إنما أنت رسول ، فضلوا ولم يهتدوا ، وحاروا فلم يجدوا طريقاً يسلكونه . لا إلى الهدى ، ولا إلى تعليل موقفهم المريب
ذلك قولهم عن القرآن ، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتلو عليهم القرآن . كذلك كذبوا بالبعث ، وكفروا بالآخرة :
{ وقالوا : أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً؟ قل : كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم . فسيقولون : من يعيدنا؟ قل : الذي فطركم أول مرة . فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون : متى هو؟ قل : عسى أن يكون قريباً ، يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } .
.
وقد كانت قضية البعث مثار جدل طويل بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين ، واشتمل القرآن الكريم على الكثير من هذا الجدل . مع بساطة هذه القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت ، وطبيعة البعث والحشر . ولقد عرضها القرآن الكريم في هذا الضوء مرات . ولكن القوم لم يكونوا يتصورونها بهذا الوضوح وبتلك البساطة؛ فكان يصعب عليهم تصور البعث بعد البلى والفناء المسلط على الأجسام :
{ وقالوا : أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديدا } ؟
ذلك انهم لم يكونوا يتدبرون أنهم لم يكونوا أحياء أصلاً ثم كانوا ، وأن النشأة الآخرة ليست أعسر من النشأة الأولى . وأنه لا شيء أمام القدرة الإلهية أعسر من شيء ، وأداة الخلق واحدة في كل شيء : { كن فيكون } فيستوي إذن أن يكون الشيء سهلاً وأن يكون صعباً في نظر الناس ، متى توجهت الإرادة الإلهية إليه .
وكان الرد على ذلك التعجب :
{ قل : كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم } . .
والعظام والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة؛ والحديد والحجارة أبعد عن الحياة . فيقال لهم : كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر أوغل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة . . فسيبعثكم الله .
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر ولكنه قول للتحدي . وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع ، فالحجارة والحديد جماد لا يحس ولا يتأثر ، وفي هذا إيماء من بعيد إلى ما في تصورهم من جمود وتحجر
{ فسيقولون : من يعيدنا } ؟
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتاً وعظاماً ، أو خلقاً آخر أشد إيغالاً في الموت والخمود؟ { قل : الذي فطركم أول مرة } . .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشأهم إنشاءً قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون :
{ فسينغضون إليك رؤوسهم } ينغضونها علواً أو سفلاً ، استنكاراً واستهزاء :
{ ويقولون : متى هو؟ } : استبعاداً لهذا الحادث واستنكاراً .
{ قل : عسى أن يكون قريباً } . . .
فالرسول لا يعلم موعده تحديداً . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون
ثم يرسم مشهداً سريعاً لذلك اليوم :
{ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ، وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } . .
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له ، وقد قاموا يلبون دعوة الداعي ، وألسنتهم تلهج بحمد الله . ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله ، فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا : الحمد لله . الحمد لله
ويومئذ تنطوي الحياة كما ينطوي الظل : { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } .
وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين ، فإذا هي قصيرة قصيرة ، لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس ، إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول ، ومتاع قليل .
ثم يلتفت السياق عن هؤلاء المكذبين بالبعث والنشور ، المستهزئين بوعد الله وقول الرسول ، المنغضين رؤوسهم المتهكمين المتهجمين . . يلتفت عنهم إلى عباد الله المؤمنين ليوجههم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائماً بالحسنى :
{ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم ، إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبينا } .
{ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه : بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة . فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت ، وبالرد السيئ يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء . والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب ، تندّي جفافها ، وتجمعها على الود الكريم .
{ إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبينا } . .
يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه ، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه . والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات ، وتقطع عليه الطريق ، وتحفظ حرم الأخوة آمناً من نزغاته ونفثاته .
وبعد هذه اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده ، فإذا المصير كله بيد الله وحده ، إن شاء رحم ، وإن شاء عذب ، وهم متروكون لقضاء الله ، وما الرسول عليهم بوكيل ، إن هو إلا رسول :
{ ربكم أعلم بكم ، إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ، وما أرسلناك عليهم وكيلا . وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } . .
فالعلم المطلق لله . وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم . وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول .
وعلم الله الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن ، وكائنات لا يعلم إلا الله ما هي؟ وما قدرها؟ وما درجتها .
وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض :
{ لقد فضلنا بعض النبيين على بعض } . وهو تفضيل يعلم الله أسبابه . أما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } فيراجع في موضعه هناك :
{ وآتينا داود زبورا } . . وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه ، ومن مظاهر التفضيل أيضاً . إذ كانت الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان .
وينتهي هذا الدرس الذي بدأ بنفي فكرة الأبناء والشركاء ، واستطرد إلى تفرد الله سبحانه بالاتجاه إليه ، وتفرده بالعلم والتصرف في مصائر العباد . . ينتهي بتحدي الذين يزعمون الشركاء ، أن يدعوا الآلهة المدعاة إلى كشف الضر عنهم لو شاء الله أن يعذبهم ، أو تحويل العذاب إلى سواهم :
{ قل : ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } .
. فليس أحد بقادر على أن يكشف الضر أو يحوله إلا الله وحده ، المتصرف في أقدار عباده .
ويقرر لهم أن من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس . . إن هم إلا خلق من خلق الله ، يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه ، ويخافون عذابه الذي يحذره من يعلم حقيقته ويخشاه :
{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا } . .
وقد كان بعضهم يدعو عزيزاً ابن الله ويعبده ، وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده . وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم ، وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فالله يقول لهم جميعاً : إن هؤلاء الذين تدعونهم ، أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة ، ويتقرب إليه بالعبادة ، ويرجو رحمته ، ويخشى عذابه وعذاب الله شديد يحذر ويخاف فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله ، كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله ، يبتغون رضاه .
وهكذا يبدأ الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها . وتفرد الله سبحانه بالألوهية والعبادة والاتجاه .
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
انتهى الدرس السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد ، إن شاء رحمهم وإن شاء عذبهم؛ وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى سواهم .
فالآن يستطرد السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعاً كما قدره الله في علمه وقضائه وهو انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة ، أو وقوع العذاب ببعضها إن ارتكبت ما يستحق العذاب . فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين : الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب .
وبمناسبة ذكر العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي الرسل قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة ، لأن الأولين الذين جاءتهم كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك . والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم يرسله بالخوارق المادية ، وما كانت الخوارق إلا تخويفاً للأمم الخالية مما يحل بها من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها .
وقد كف الله الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعصمه منهم فلا يصلون إليه . وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون ابتلاء للناس ، ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل ، وخوفهم الشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم التي رآها في أصل الجحيم ، فلم يزدهم التخويف إلا طغياناً . وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغياناً .
وفي هذا الموضع من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم ، وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه . . فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي تقود الناس إلى الكفر والطغيان ، وتبعدهم عن تدبر الآيات .
ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم ، ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود ، فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة . فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه . فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا . والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه ، ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون .
ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة؛ يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم ، فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه .
{ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً . كان ذلك في الكتاب مسطورا } . .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة ، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود .
كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب . ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان؛ أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم . ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق :
{ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها . وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } .
إن معجزة الإسلام هي القرآن . وهو كتاب يرسم منهجاً كاملاً للحياة . ويخاطب الفكر والقلب ، ويلبي الفطرة القويمة . ويبقى مفتوحاً للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة . أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلاً واحداً من الناس ، وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل .
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها . وقد ضرب السياق المثل بثمود ، الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة . فظلموا بها أنفسهم وأوردها موارد الهلكة تصديقاً لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة . وما كانت الآيات إلا إنذاراً وتخويفاً بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات .
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق . لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها . ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلاً بعد جيل ، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه .
أما الخوارق التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
{ وإذ قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيرا } .
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد حادثة الإسراء ، كما ثبت بعضهم وازداد يقيناً . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة { فتنة للناس } وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعداً من الله لرسوله بالنصر ، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكماً : هاتوا لنا تمراً وزبداً ، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين؟ وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغياناً كبيراً؟
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده .
ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن معجزة الإسلام كتاباً مفتوحاً لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وللأجيال بعده ، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتاباً مفتوحاً للأجيال ، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب ، وقد يكون منهم من هو أشد إيماناً وأصلح عملاً ، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه . .
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم واطلع فيها على ما اطلع من عوالم ، والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين . . يجيء مشهد إبليس الملعون ، يهدد ويتوعد بإغواء الضالين :
{ وإذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس . قال : أأسجد لمن خلقت طيناً؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرَّمت عليَّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً . واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ، وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم . وما يعدهم الشيطان إلا غروراً . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا } . .
إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين ، فيعرض هذا المشهد هنا ، ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية ، ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها ، عن إصرار سابق قديم
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال : أأسجد لمن خلقت طينا؟ }
إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية ، فيقول في تبجح :
{ أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ؟ } أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك؟
{ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا } . . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلاً بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية ، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقاً واحداً تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام ، يحاول محاولته مع بني الإنسان :
{ قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } .
.
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذوناً في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة ، يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك { فمن تبعك منهم } مغلباً جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية ، معرضاً عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان ، غافلاً عن آيات الله في الكون ، وآيات الله المصاحبة للرسالات ، { فإن جهنم جزاؤكم } أنت وتابعوك { جزاء موفورا } .
{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } .
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة ، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة ، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل ، وأحاطت بهم الرجال
{ وشاركهم في الأموال والأولاد } . .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية ، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيباً للآلهة المدعاة فهي للشيطان وفي أولادهم نذوراً للآلهة أو عبيداً لها فهي للشيطان كعبد اللات وعبد مناة . وأحياناً كانوا يجعلونها للشيطان رأساً كعبد الحارث
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام ، أو يتصرف فيه بغير حق ، أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها ، ومنها الوعود المغرية الخادعة : { وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة
اذهب مأذوناً في إغواء من يجنحون إليك . ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم ، لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك
{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا } . .
فمتى اتصل القلب بالله ، واتجه إليه بالعبادة . متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . متى ايقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت . . فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله ، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان . . { وكفى بربك وكيلا } يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان .
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده ، ويستذل عبيده . ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن ، فما له عليهم من سلطان .
ذلك ما يبيته للناس من شر واذى؛ ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان ، ويستمعون إليه ، ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته .
والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش ، وينجيهم من الضر والكرب ، ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق . . ثم إذا هم يعرضون ويكفرون :
{ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله ، إنه كان بكم رحيماً . وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ، وكان الإنسان كفورا } . .
والسياق يعرض هذا المشهد ، مشهد الفلك في البحر ، نموذجاً للحظات الشدة والحرج . لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى واشد حساسية ، ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم ، تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن .
إنه مشهد يحس به من كابده ، ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيراً كان أو كبيراً حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله { إنه كان بكم رحيما } فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان .
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله ، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحداً سواه : { ضل من تدعون إلا إياه } . .
ولكن الإنسان هو الإنسان ، فما إن تنجلي الغمرة ، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة ، فينسى الله ، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات ، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر : { فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر ، ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه ، لا في البحر ولا في البر؛ لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجأ الحصين والمنزل المريح :
{ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ، ثم لا تجدوا لكم وكيلاً؟ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ، فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا؟ } .
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة . إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر . فكيف يأمنون؟ كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان ، أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله؟ أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار ، فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلاً يحميهم ويدفع عنهم؟
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحاً قاصفة ، تقصف الصواري وتحطم السفين ، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم ، فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم؟
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا .
ثم يأمنوا أخذه وكيده . وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة . كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله
ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه . كرمه بخلقته على تلك الهيئة ، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة ، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض ، يغير فيها ويبدل ، وينتج فيها وينشئ ، ويركب فيها ويحلل ، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة .
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك . .
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود ، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض . . القرآن . .
{ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } . .
{ وحملناهم في البر والبحر } والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات ، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية ، وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر . ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها ، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها . وكله من فضل الله .
{ ورزقناهم من الطيبات } . . والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها . فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به ، ولكنه سرعان ما يعود فينسى . . هذه الشمس . هذا الهواء . هذا الماء . هذه الصحة . هذه القدرة على الحركة . هذه الحواس . هذا العقل . . هذه المطاعم والمشارب والمشاهد . . هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه ، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه .
{ وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض . وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذاً بين الخلائق في ملك الله . .
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيماً على نفسه ، محتملاً تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنساناً . حرية الاتجاه وفردية التبعة .
وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل ان يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب :
{ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادى بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته ، أو الرسول الذي اقتدت به ، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادى ليسلم لها كتاب عملها وجزاءها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه ، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئاً ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . واشد ضلالاً . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل ، أعمى ضالاً يتخبط ، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به ، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمراً ، لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب؛ يؤثر في القلوب
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
هذا الدرس الأخير في سورة الإسراء يقوم على المحور الرئيسي للسورة . شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القوم منه . والقرآن الذي جاء به وخصائص هذا القرآن .
وهو يبدأ بالإشارة إلى محاولات المشركين مع الرسول ليفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه ، وما هموا به من إخراجه من مكة وعصمة الله له من فتنتهم ومن استفزازهم ، لما سبق في علمه تعالى من إمهالهم وعدم أخذهم بعذاب الإبادة كالأمم قبلهم . ولو اخرجوا الرسول لحاق بهم الهلاك وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من الأقوام .
ومن ثم يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه يصلي لربه ويقرأ قرآنه ويدعو الله أن يدخله مدخل صدق ويخرجه مخرج صدق ويجعل له سلطاناً نصيراً ، ويعلن مجيء وزهوق الباطل . فهذا الاتصال بالله هو سلاحه الذي يعصمه من الفتنة ويكفل له النصر والسلطان .
ثم بيان لوظيفة القرآن فهو شفاء ورحمة لمن يؤمنون به ، وهو عذاب ونقمة على من يكذبون ، فهم في عذاب منه في الدنيا ويلقون العذاب بسببه في الآخرة .
وبمناسبة الرحمة والعذاب يذكر السياق شيئاً من صفة الإنسان في حالتي الرحمة والعذاب . فهو في النعمة متبطر معرض ، وهو في النقمة يؤوس قنوط . ويعقب على هذا بتهديد خفي بترك كل إنسان يعمل وفق طبيعته حتى يلقى في الآخرة جزاءه .
كذلك يقرر أن علم الإنسان قليل ضئيل . وذلك بمناسبة سؤالهم عن الروح . والروح غيب من غيب الله ، ليس في مقدور البشر إدراكه . . والعلم المستيقن هو ما أنزله الله على رسوله . وهو من فضله عليه ولو شاء الله لذهب بهذا الفضل دون معقب ، ولكنها رحمة الله وفضله على رسوله .
ثم يذكر أن هذا القرآن المعجز الذي لا يستطيع الإنسان والجن أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا وتظاهروا ، والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وكل قلب . . هذا القرآن لم يغن كفار قريش ، فراحوا يطلبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم خوارق مادية ساذجة كتفجير الينابيع في الأرض ، أو أن يكون له بيت من زخرف؛ كما تعنتوا فطلبوا ما ليس من خصائص البشر كأن يرقى الرسول في السماء أمامهم ويأتي إليهم بكتاب مادي يقرأونه ، أو يرسل عليهم قطعاً من السماء تهلكهم . وزادوا عنتاً وكفراً فطلبوا أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلاً
وهنا يعرض السياق مشهداً من مشاهد القيامة يصور فيه عاقبتهم التي تنتظرهم جزاء هذا العنت ، وجزاء تكذيبهم بالآخرة ، واستنكارهم البعث وقد صاروا عظاماً ورفاتاً .
ويسخر من اقتراحاتهم المتعنتة ، وهم لو كانوا خزنة رحمة الله ، لأدركهم الشح البشري فأمسكوا خشية نفاد الخزائن التي لا تنفد وهم مع ذلك لا يقفون عند حد فيما يطلبون ويقترحون
وبمناسبة طلبهم الخوارق يذكرهم بالخوارق التي جاء بها موسى فكذب بها فرعون وقومه فأهلكهم الله حسب سنته في إهلاك المكذبين .
فأما هذا القرآن فهو المعجزة الباقية الحقة . وقد جاء متفرقاً حسب حاجة الأمة التي جاء لتربيتها وإعدادها . والذين أوتوا العلم من قبله من مؤمني الأمم السابقة يدركون ما فيه من حق ويذعنون له ويخشعون ، ويؤمنون به ويسلمون .
وتنتهي السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده ، وإلى تسبيحه وحمده ، كما بدأت بالتسبيح والتنزيه . .
{ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذاً لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا . إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ، ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ، وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا } . .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء . . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها ، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة ، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوا خليلاً . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات ، دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله ، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً . محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل ، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة .
لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمناً بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه ، وهي كلٌّ متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم ، وعرف المتسلطون ان استمرار المساومة ، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها؛ هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عيه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة ، فلن تنقلب الهزيمة نصراً
لذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن ثبته على ما أوحى الله ، وعصمه من فتنة المشركين له ، ووقاه الركون إليهم ولو قليلاً ورحمه من عاقبة هذا الركون ، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً ، وفقدان المعين والنصير .
وعندما عجز المشركون عن استدارج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض أي مكة ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجراً ، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة . ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة وقسراً لحل بهم الهلاك { وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } فهذه هي سنة الله النافذة : { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، ولا تجد لسنتنا تحويلا } .
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول ، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة ، لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون ، إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشاً بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل ، لحكمة علوية ، لم يرسل الرسول بالخوارق ، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة ، بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
بعد ذلك يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاتصال به ، واستمداد العون منه ، والمضي في طريقه ، يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل :
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، وقرآن الفجر ، إن قرآن الفجر كان مشهودا؛ ومن الليل فتهجد به نافلة لك ، عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا ، وقل ربِّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا .
وقل : جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا . وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } . .
ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب . والأمر هنا للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة . أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتواترت بها سنته العملية . وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء ، والغسق بأول الليل ، وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر ، وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء من دلوك الشمس إلى الغسق ثم الفجر . وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأموراً به ، وأنه نافلة له . ونحن نميل إلى الرأي الأول . وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابته بالسنة القولية والعملية .
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } . . أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه؛ واقرأ قرآن الفجر { إن قرآن الفجر كان مشهودا } . . ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل . وإدبار الليل وإقبال النهار . ولهما وقعهما العميق في النفس ، فإن مقدم الليل وزحف الظلام ، كمطلع النور وانكشاف الظلمة . . كلاهما يخشع فيه القلب ، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة . وللقرآن كما للصلاة إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته ، ونسماته الرخية ، وهدوئه السارب ، وتفتحه بالنور ، ونبضه بالحركة ، وتنفسه بالحياة .
{ ومن الليل فتهجد به نافلة لك } . . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في { به } عائد على القرآن ، لأنه روح الصلاة وقوامها .
{ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } . . بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به ، وبهذه الصلة الدائمة بالله . فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به ، وهو المصطفى المختار ، فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم . فهذا هو الطريق . وهذا هو زاد الطريق .
{ وقل : رب أدخلني مدخل صدق . وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا } .
وهو دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به . ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه . دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج ، كناية عن صدق الرحلة كلها . بدئها وختامها . أولها وآخرها وما بين الأول والآخر . وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل الله عليه ليفتري على الله غيره .
وللصدق كذلك ظلاله : ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص . { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا } قوة وهيبة استعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين وكلمة { من لدنك } تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه .
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله . ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله . لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله . والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه ، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون ، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه ، فهي من أمر الله ، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه .
{ وقل : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } . .
بهذا السلطان المستمد من الله ، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته ، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت ، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
{ إن الباطل كان زهوقا } . . حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش ، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة؛ ومن ثم يحاول أن يموه على العين ، وأن يبدو عظيماً كبيراً ضخماً راسخاً ، ولكنه هش سريع العطب ، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عالياً ثم تخبو سريعاً وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتنفع وتبقى؛ وكالزبد يطغو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
{ إن الباطل كان زهوقا } . . لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته ، إنما يستمد حياته الموقوته من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل ، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . . ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء ، لأنه من عند الله الذي جعل { الحق } من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
{ إن الباطل كان زهوقاً } . . ومن ورائه الشيطان ، ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق ، وسلطان الله أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان ، إلا وذاق معه حلاوة الوعد ، وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثأً؟
{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } . .
وفي القرآن شفاء ، وفي القرآن رحمة ، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روْح ، وطمأنينة وأمان .
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله ، فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة؛ والقلق مرض ، والحيرة نصب ، والوسوسة داء .
ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب ، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط ، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ، ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي ، ويأخذه بمنهج سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجاً ومأموناً . ويعصمه من الشطط والزلل . كذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليماً معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات ، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها . فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
{ ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } . .
فهم لا ينتفعون بما فيه من شفاء ورحمة . وهم في غيظ وقهر من استعلاء المؤمنين به ، وهم في عنادهم وكبريائهم يشتطون في الظلم والفساد ، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن ، فهم خاسرون . وفي الآخرة معذبون بكفرهم به ولجاجهم في الطغيان ، فهم خاسرون : { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } . .
فأما حين يترك الإنسان بلا شفاء ولا رحمة . حين يترك لنزعاته واندفاعاته فهو في حال النعمة متبطر معرض لا يشكر ولا يذكر ، وهو في حال الشدة يائس من رحمة الله ، تظلم في وجهه فجاج الحياة :
{ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر كان يؤوسا } . .
والنعمة تطغى وتبطر ما لم يذكر الإنسان واهبها فيحمد ويشكر ، والشدة تيئس وتقنط ما لم يتصل الإنسان بالله ، فيرجو ويأمل ، ويطمئن إلى رحمة الله وفضله ، فيتفاءل ويستبشر .
ومن هنا تتجلى قيمة الإيمان وما فيه من رحمة في السراء والضراء سواء .
ثم يقرر السياق أن كل فرد وكل فريق يعمل وفق طريقته واتجاهه؛ والحكم على الاتجاهات والأعمال موكول لله :
{ قل : كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } . .
وفي هذا التقرير تهديد خفي ، بعاقبة العمل والاتجاه ، ليأخذ كل حذره ، ويحاول أن يسلك سبيل الهدى ويجد طريقه إلى الله .
وراح بعضهم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح ما هو؟ والمنهج الذي سار عليه القرآن وهو المنهج الأقوام أن يجيب الناس عما هم في حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته؛ فلا يبدد الطاقة العقلية التي وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به . فلما سألوه عن الروح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله ، اختص بعلمه دون سواه :
{ ويسألونك عن الروح .
قل : الروح من أمر ربي . وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } . .
وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل . ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي مجاله الذي يدركه . فلا جدوى من الخبط في التيه ، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه لأنه لا يملك وسائل إدراكه . والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه ، وسر من أسراره القدسية أودعه هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها . وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق ، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود . والإنسان لا يدبر هذا الكون فطاقاته ليست شاملة ، إنما وهب منها بقدر محيطة وبقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض ، ويحقق فيها ما شاء الله أن يحققه ، في حدود علمه القليل .
ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع؛ ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السر اللطيف الروح لا يدري ما هو ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يذهب ، ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل .
وما جاء في التنزيل هو العلم المستيقن ، لأنه من العليم الخبير . ولو شاء الله لحرم البشرية منه ، وذهب بما أوحى إلى رسوله؛ ولكنها رحمة الله وفضله .
{ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ، ثم لا تجد لك به علينا وكيلا . إلا رحمة من ربك ، إن فضله ، كان عليك كبيرا } . .
والله يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل . فضل إنزال الوحي ، واستبقاء ما أوحى به إليه؛ المنة على الناس أكبر ، فهم بهذا القرآن في رحمة وهداية ونعمة ، أجيالاً بعد أجيال .
وكما أن الروح من الأسرار التي اختص الله بها فالقرآن من صنع الله الذي لا يملك الخلق محاكاته ، ولا يملك الإنس والجن وهما يمثلان الخلق الظاهر والخفي ان يأتوا بمثله ، ولو تظاهروا وتعانوا في هذه المحاولة :
{ قل : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } . .
فهذا القرآن ليس ألفاظاً وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها . إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أن يصنعوه . هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل ، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره .
والقرآن بعد ذلك منهج حياة كامل . منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرف النفس البشرية في كل أطوارها وأحوالها ، والتي تصرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها . ومن ثم فهو يعالج النفس المفردة ، ويعالج الجماعة المتشابكة ، بالقوانين الملائمة للفطرة المتغلغلة في وشائجها ودروبها ومنحنياتها الكثيرة .
يعالجها علاجاً متكاملاً متناسق الخطوات في كل جانب ، في الوقت الواحد ، فلا يغيب عن حسابه احتمال من الاحتمالات الكثيرة ولا ملابسة من الملابسات المتعارضة في حياة الفرد وحياة الجماعة . لأن مشرع هذه القوانين هو العليم بالفطرة في كل أحوالها وملابساتها المتشابكة .
أما النظم البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان وملابسات حياته . ومن ثم فهي تقصر عن الإحاطة بجميع الاحتمالات في الوقت الواحد؛ وقد تعالج ظاهرة فردية أو اجتماعية بدواء يؤدي بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد
إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه ، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به .
{ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا؛ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا؛ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً؛ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا؛ أو يكون لك بيت من زخرف؛ أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه . . . } .
وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية ، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية ، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية ، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج . . لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر ، وشتى الأجيال والأطوار . { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } وعلقوا إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو أن يأخذهم بعذاب من السماء ، فيسقطها عليهم قطعاً كما أنذرهم أن يكون ذلك يوم القيامة أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً يناصره ويدفع عنه كما يفعلون هم في قبائلهم أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة . أو أن يرقى في السماء . ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه ، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب محبر يقرأونه
وتبدو طفولة الإدراك والتصور ، كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة . وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء أو بين تفجير الينبوع من الأرض ومجيء الله سبحانه والملائكة قبيلاً والذي يجمع في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق . فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له والتصديق به
وغفلوا عن الخارقة الباقية في القرآن ، وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه ، ولكنهم لا يلمسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس
والخارقة ليست من صنع الرسول ، ولا هي من شأنه ، إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته .
وليس من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها . فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في تدبيره يمنعان الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به . . { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا } يقف عند حدود بشريته ، ويعمل وفق تكاليف رسالته ، لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه .
ولقد كانت الشبهة التي عرضت للأقوام من قبل أن يأتيهم محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعد ما جاءهم ، والتي صدتهم عن الإيمان بالرسل وما معهم من الهدى ، أنهم استبعدوا أن يكون الرسول بشراً؛ ولا يكون ملكاً :
{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا؟ } .
وقد نشأ هذا الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله ، فاستكثروا على بشر أن يكون رسولاً من عند الله . كذلك نشأ هذا الوهم من عدم إدراكهم لطبيعة الكون وطبيعة الملائكة ، وأنهم ليسوا مهيئين للاستقرار في الأرض وهم في صورتهم الملائكية حتى يميزهم الناس ويستيقنوا أنهم ملائكة .
{ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولا } .
فلو قدر الله أن الملائكة تعيش في الأرض لصاغهم في صورة آدمية ، لأنها الصورة التي تتفق مع نواميس الخلق وطبيعة الأرض ، كما قال في آية أخرى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلاً } والله قادر على كل شيء ، ولكنه خلق نواميس وبرأ مخلوقاته وفق هذه النواميس بقدرته واختياره ، وقدر أن تمضي النواميس في طريقها لا تتبدل ولا تتحول ، لتحقق حكمته في الخلق والتكوين غير أن القوم لا يدركون
وما دامت هذه سنة الله في خلقه ، فهو يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينهي معهم الجدل ، وأن يكل أمره وأمرهم إلى الله يشهده عليهم ، ويدع له التصرف في أمرهم ، وهو الخبير البصير بالعباد جميعاً :
{ قل : كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ، إنه كان بعباده خبيراً بصيرا } . .
وهو قول يحمل رائحة التهديد . أما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف :
{ ومن يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ، ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ، مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا . ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا ، وقالوا : أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديدا؟ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه ، فأبى الظالمون إلا كفورا } . .
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سنناً ، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها ، ويتعرضون لعواقبها .
ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى والظلال ، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال . فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله؛ وهذا هو المهتدي حقاً ، لأنه اتبع هدى الله . والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله : { فلن تجد لهم أولياء من دونه } ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة : { على وجوهم } يتكفأون { عمياً وبكماً وصماً } مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام . جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى . و { مأواهم جهنم } في النهاية ، لا تبرد ولا تفتر { كلما خبت زدناهم سعيراً } .
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف . ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله : { ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا } واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه : { وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً؟ }
والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن ، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضياً بعيداً . . وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية ، تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان .
ثم يعود ليجادلهم بالمنطق الواقعي الذي يرونه فيغفلونه .
{ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ } فأية غرابة في البعث؛ والله خالق هذا الكون الهائل قادر على أن يخلق مثلهم ، فهو قادر إذاً على أن يعيدهم أحياء . { وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه } أنظرهم إليه ، وأجلهم إلى موعده { فأبى الظالمون إلا كفورا } فكان جزاؤهم عادلاً بعد منطق الدلالات ومنطق المشاهدات ، ووضوح الآيات .
على أن أولئك الذين يقترحون على الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المقترحات المتعنتة ، من بيوت الزخرف ، وجنات النخيل والأعناب ، والينابيع المتفجرة . . بخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها لأمسكوا وبخلوا خوفاً من نفادها ، ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض :
{ قل : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا } .
وهي صورة بالغة للشح ، فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، ولا يخشى نفادها ولا نقصها . ولكن نفوسهم لشحيحة تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها
وعلى أية حال فإن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة . وها هو ذا موسى قد أوتي تسع آيات بينات ثم كذب بها فرعون وملؤه ، فحل بهم الهلاك جميعاً .
{ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ، فقال له فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحورا . قال : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ، وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً .
فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا . وقلنا من بعده لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } . . .
وهذا المثل من قصة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة وذكر المسجد الأقصى في أولها وطرف من قصة بني إسرائيل وموسى . وكذلك يعقب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة ومصير المكذبين بالبعث الذي صوره هذا المشهد .
والآيات التسع المشار إليها هنا هي اليد البيضاء والعصا وما أخذ الله به فرعون وقومه من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . { فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم } فهم شهداء على ما كان بين موسى وفرعون :
{ فقال له فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحورا } . . فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني؛ ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية
فأما موسى فهو قوي بالحق الذي أرسل به مشرقاً منيراً؛ مطمئن إلى نصرة الله له وأخذه للطغاة :
{ قال : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض . بصائر . وإني لأظنك يا فرعون مثبورا } هالكاً مدمراً ، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد غيره يملك هذه الخوارق . وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر ، حتى لكأنها البصائر تكشف الحقائق وتجلوها .
عندئذ يلجأ الطاغية إلى قوته المادية ، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم ، { فأراد أن يستفزهم من الأرض } فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق .
وعندئذ تحق على الطاغية كلمة الله ، وتجري سنته بإهلاك الظالمين وتوريث المستضعفين الصابرين : { فأغرقناه ومن معه جميعاً . وقلنا من بعده لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض . فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } . .
وهكذا كانت عاقبة التكذيب بالآيات . وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون ، موكولين فيها إلى أعمالهم وسلوكهم وقد عرفنا كيف كان مصيرهم في أول السورة أما هنا فهو يكلهم هم وأعداءهم إلى جزاء الآخرة ، { فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } .
ذلك مثل من الخوارق ، وكيف استقبلها المكذبون ، وكيف جرت سنة الله مع المكذبين . فأما هذا القرآن فقد جاء بالحق ليكون آية دائمة ، ونزل مفرقاً ليقرأ على مهل في الزمن الطويل :
{ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ، وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيرا ، وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } . .
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، ويقيم لها نظاماً ، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل .
ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقاً وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى . والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل . جاء ليكون منهجاً عملياً يتحقق جزءاً جزءاً في مرحلة الإعداد ، لا فقهاً نظرياً ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني
وتلك حكمة نزوله متفرقاً ، لا كتاباً كاملاً منذ اللحظة الأولى .
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى . تلقوه توجيهاً يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي ، وكلما تلقوا منه أدباً أو فريضة . ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية . تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم . وفي بيوتهم ومعاشهم . فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن .
قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن .
ولقد انزل الله هذا القرآن قائماً على الحق : { وبالحق أنزلناه } فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : { وبالحق نزل } . . فالحق مادته والحق غايته . ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه . . الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبساً بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه . فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته . والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به .
وهنا يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ان يجبه القوم بهذا الحق ، ويدع لهم أن يختاروا طريقهم . إن شاءوا آمنوا بالقرآن وإن شاءوا لم يؤمنوا . وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم . ويضع أمام أنظارهم نموذجاً من تلقي الذين أوتوا العلم من قبله من اليهود والنصارى المؤمنين لهذا القرآن ، لعل لهم فيه قدوة وأسوة وهم الأميون الذين لم يؤتوا علماً ولا كتاباً :
{ قل : آمنوا به أو لا تؤمنوا . إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ، ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا؛ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } . .
وهو مشهد موح يلمس الوجدان . مشهد الذين أوتوا العلم من قبله ، وهم يسمعون القرآن ، فيخشعون ، و { يخرون للأذقان سجداً } إنهم لا يتمالكون أنفسهم ، فهم لا يسجدون ولكن { يخرون للأذقان سجداً } ثم تنطق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده : { سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } . ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه ، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ : { ويخرون للأذقان يبكون } .
. { ويزيدهم خشوعاً } فوق ما استقبلوه به من خشوع .
إنه مشهد مصور لحالة شعورية غامرة ، يرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه؛ العارفة بطبيعته وقيمته بسبب ما أوتيت من العلم قبله . والعلم المقصود هو ما أنزله الله من الكتاب قبل القرآن ، فالعلم الحق هو ما جاء من عند الله .
هذا المشهد الموحي للذين أوتوا العلم من قبل يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا القرآن أولا يؤمنوا ، ثم يعقب عليه بتركهم يدعون الله بما شاءوا من الأسماء وقد كانوا بسبب أوهامهم الجاهلية ينكرون تسمية الله بالرحمن ، ويستبعدون هذا الإسم من أسماء الله فكلها اسماؤه فما شاءوا منها فليدعوه بها :
{ قل : ادعوا الله أو ادعوا الرحمن . أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } .
وإن هي إلا سخافات الجاهلية وأوهام الوثنية التي لا تثبت للمناقشة والتعليل .
كذلك يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم ان يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت لما كانوا يقابلون به صلاته من استهزاء وإيذاء ، أو من نفور وابتعاد ولعل الأمر كذلك لأن التوسط بين الجهر والخفاء أليق بالوقوف في حضرة الله :
{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } . .
وتختم السورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيتة بلا ولد ولا شريك ، وتنزيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير . وهو العلي الكبير . فيلخص هذا الختام محور السورة الذي دارت عليه ، والذي بدأت ثم ختمت به :
{ وقل : الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك . ولم يكن له ولي من الذل . وكبره تكبيراً } . .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة . ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس . وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح . وفي نهايتها قصة ذي القرنين ، ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة ، فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية؛ ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها . وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعض مشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .
أما المحور الموضوعي للسورة الذي ترتبط به موضوعاتها ، ويدور حوله سياقها ، فهو تصحيح منهج النظر والفكر . وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة .
فأما تصحيح العقيدة فيقرره بدؤها وختامها .
في البدء : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . قيماً . لينذر بأساً شديداً من لدنه؛ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً وينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولداً . ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } .
وفي الختام : { قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } وهكذا يتساوق البدء والختام في إعلان الوحدانية وإنكار الشرك ، وإثبات الوحي ، والتمييز المطلق بين الذات الإلهية وذوات الحوادث .
ويلمس سياق السورة هذا الموضوع مرات كثيرة في صور شتى :
في قصة أصحاب الكهف يقول الفتية الذين آمنوا بربهم : { ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا } .
وفي التعقيب عليها : { ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحداً } . وفي قصة الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره : { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً ، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً } وفي التعقيب عليها : { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً ، هنالك الولاية لله الحق ، هو خير ثواباً وخير عقباً } وفي مشهد من مشاهد يوم القيامة : { ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، وجعلنا بينهم موبقاً } وفي التعقيب على مشهد آخر : { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً } أما تصحيح منهج الفكر والنظر فيتجلى في استنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم ، والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان . وفي توجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم ولا يتعداه ، وما لا علم له به فليدع أمره إلى الله .
ففي مطلع السورة : { وينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولداً ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم }
والفتية أصحاب الكهف يقولون : { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين }
وعندما يتساءلون عن فترة لبثهم في الكهف يكلون علمها لله : { قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم } .
وفي ثنايا القصة إنكار على من يتحدثون عن عددهم رجماً بالغيب : { سيقولون : ثلاثة رابعهم كلبهم؛ ويقولون : خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم . قل : ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل؛ فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ، ولا تستفت فيهم منهم أحدًا } .
وفي قصة موسى مع العبد الصالح عندما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول : { رحمة من ربك وما فعلته عن أمري } فيكل الأمر فيها لله .
فأما تصحيح القيم بميزان العقيدة ، فيرد في مواضع متفرقة ، حيث يرد القيم الحقيقية إلى الإيمان والعمل الصالح ، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر الأنظار .
فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار ، ونهايته إلى فناء وزوال : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ، وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } .
وحمى الله أوسع وأرحب ، ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق . والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون بعد اعتزالهم لقومهم : { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً }
والخطاب يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليصبر نفسه مع أهل الإيمان؛ غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن الله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا؛ واتبع هواه وكان أمره فرطاً . وقل : الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } وقصة الجنتين تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة . وكيف يجبه صاحبها المنتفش المنتفخ بالحق ، ويؤنبه على نسيان الله : { قال له صاحبه وهو يحاوره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً؟ لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً . ولولا إذ دخلت جنتك قلت : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله . إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً . فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ، ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ، أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً } وعقب القصة يضرب مثلاً للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيماً تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدراً }
ويعقب عليه ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً } وذو القرنين لا يذكر لأنه ملك ، ولكن يذكر لأعماله الصالحة . وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سداً يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالاً ، فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال ، لأن تمكين الله له خير من أموالهم { قال : ما مكني فيه ربي خير } وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية : { قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً } وفي نهاية السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالاً ، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه؛ وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعاً : { قل : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } وهكذا نجد محور السورة هو تصحيح العقيدة . وتصحيح منهج الفكر والنظر . وتصحيح القيم بميزان العقيدة .
ويسير سياق السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية في أشواط متتابعة :
تبدأ السورة بالحمد لله الذي أنزل على عباده الكتاب للإنذار والتبشير . تبشير المؤمنين وإنذار الذين قالوا : اتخذ الله ولداً؛ وتقرير أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والاختبار ، والنهاية إلى زوال وفناء . . ويتلو هذا قصة أصحاب الكهف . وهي نموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها ، والالتجاء إلى رحمة الله في الكهف ، هرباً بالعقيدة أن تمس .
ويبدأ الشوط الثاني بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأن يغفل الغافلين عن ذكر الله . . ثم تجيء قصة الجنتين تصور اعتزاز القلب المؤمن بالله ، واستصغاره لقيم الأرض . . وينتهي هذا الشوط بتقرير القيم الحقيقية الباقية .
والشوط الثالث يتضمن عدة مشاهد متصلة من مشاهد القيامة تتوسطها إشارة قصة آدم وإبليس . . وينتهي ببيان سنة الله في إهلاك الظالمين ، ورحمة الله وإمهاله للمذنبين إلى أجل معلوم .
وتشغل قصة موسى مع العبد الصالح الشوط الرابع . وقصة ذي القرنين الشوط الخامس .
ثم تختم السورة بمثل ما بدأت : تبشيراً للمؤمنين وإنذاراً للكافرين ، وإثباتاً للوحي وتنزيها لله عن الشريك . فلنأخذ في الشوط الأول بالتفصيل :
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً . قيماً . لينذر بأساً شديداً من لدنه ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً ، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم .
إن يقولون إلا كذباً . فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً . . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } . .
بدء فيه استقامة ، وفيه صرامة . وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب { على عبده } بهذه الاستقامة ، لا عوج فيه ولا التواء ، ولا مداراة ولا مداورة : { لينذر بأساً شديداً من لدنه } .
ومنذ الآية الأولى تتضح المعالم ، فلا لبس في العقيدة ولا غموض : الله هو الذي أنزل الكتاب ، والحمد له على تنزيله ، ومحمد هو عبد لله . فالكل إذن عبيد ، وليس لله من ولد ولا شريك .
والكتاب لا عوج له . . { قيماً } . . يتكرر معنى الاستقامة مرة على طريق نفي العوج ، ومرة عن طريق إثبات الاستقامة . توكيداً لهذا المعنى وتشديداً فيه .
والغرض من إنزال الكتاب واضح صريح : { لينذر بأساً شديداً من لدنه ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً } .
ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله . فهو يبدأ به على وجه الإجمال : { لينذر بأساً شديداً من لدنه } . ثم يعود إليه على وجه التخصيص : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } . . وبينهما تبشير للمؤمنين { الذين يعملون الصالحات } بهذا القيد الذي يجعل للإيمان دليله العملي الظاهر المستند إلى الواقع الأكيد .
ثم يأخذ في كشف المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها . قضية العقيدة : { ما لهم به من علم ولا لآبائهم } . .
فما أشنع وما أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم ، هكذا جزافاً :
{ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } . .
وتشترك الألفاظ بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها . فهو يبدأ بكلمة { كبرت } لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما . ويجعل الكلمة الكبيرة تمييزاً لضميرها في الجملة : { كبرت كلمة } زيادة في توجيه الانتباه إليها . ويجعل هذه الكلمة تخرج من أفواههم خروجاً كأنما تنطلق منها جزافاً وتندفع منها اندفاعاً { تخرج من أفواههم } . وتشارك لفظة { أفواههم } بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها ، فالناطق بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد : { أفوا . . . } ثم تتوالى الهاءان فيمتلئ الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة : { أفواههم } . وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل . ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء : { إن يقولون إلا كذباً } : ويختار للنفي كلمة : { إن } لاكلمة { ما } لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح ، وفي لفظ { ما } شيء من الليونة بالمد . . وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار ، ولزيادة التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة . .
وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مود بهم إلى الهلاك .
. فيما يشبه الإنكار يقول للرسول صلى الله عليه وسلم :
{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم . إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً }
أي فلعلك قاتل نفسك أسفاً وحزناً عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف . فدعهم فقد جعلنا ما على الأرض من زخرف ومتاع ، وأموال وأولاد . . جعلناه اختباراً وامتحاناً لأهلها ، ليتبين من يحسن منهم العمل في الدنيا ، ويستحق نعمتها ، كما يستحق نعيم الآخرة :
{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } .
والله يعلم . ولكنه يجزي على ما يصدر من العباد فعلاً ، وما يتحقق منهم في الحياة عملاً . ويسكت عمن لا يحسنون العمل فلا يذكرهم لأن مفهوم التعبير واضح .
ونهاية هذه الزينة محتومة . فستعود الأرض مجردة منها ، وسيهلك كل ما عليها ، فتصبح قبل يوم القيامة سطحاً أجرد خشناً جدباً :
{ وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } .
وفي التعبير صرامة ، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك . وكلمة { جرزا } تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي . كما أن كلمة { صعيدا } ترسم مشهد الاستواء والصلادة
ثم تجيء قصة أصحاب الكهف ، فتعرض نموذجاً للإيمان في النفوس المؤمنة . كيف تطمئن به ، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها ، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس . وكيف يرعى الله هذه النفوس المؤمنة ، ويقيها الفتنة ، ويشملها بالرحمة .
وفي القصة روايات شتى ، وأقاويل كثيرة . فقد وردت في بعض الكتب القديمة وفي الأساطير بصور شتى . ونحن نقف فيها عند حد ما جاء في القرآن ، فهو المصدر الوحيد المستيقن . ونطرح سائر الروايات والأساطير التي اندست في التفاسير بلا سند صحيح . وبخاصة أن القرآن الكريم قد نهى عن استفتاء غير القرآن فيها ، وعن المراء فيها والجدل رجماً بالغيب .
وقد ورد في سبب نزولها ونزول قصة ذي القرنين أن اليهود أغروا أهل مكة بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما وعن الروح . أو أن أهل مكة طلبوا إلى اليهود أن يصوغوا لهم أسئلة يختبرون بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يكون هذا كله أو بعضه صحيحاً . فقد جاء في أول قصة ذي القرنين : { ويسألونك عن ذي القرنين . قل : سأتلوا عليكم منه ذكراً } ولكن لم تجيء عن قصة أصحاب الكهف مثل هذه الإشارة . فنحن نمضي في القصة لذاتها وهي واضحة الارتباط بمحور السورة كما بينا .
إن الطريقة التي اتبعت في عرض هذه القصة من الناحية الفنية هي طريقة التلخيص الإجمالي أولاً ، ثم العرض التفصيلي أخيراً . وهي تعرض في مشاهد وتترك بين المشاهد فجوات يعرف ما فيها من السياق .
وهي تبدأ هكذا :
{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً . إذ أوى الفتية إلى الكهف ، فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة ، وهيىء لنا من أمرنا رشداً . فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } .
وهو تلخيص يجمل القصة ، ويرسم خطوطها الرئيسية العريضة . فنعرف أن أصحاب الكهف فتية لا نعلم عددهم آووا إلى الكهف وهم مؤمنون . وأنه ضرب على آذانهم في الكهف أي ناموا سنين معدودة لا نعلم عددها وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة . وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء . وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله . وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم .
وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ السياق في التفصيل . ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة ، وهو الحق اليقين :
{ نحن نقص عليك نبأهم بالحق . إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى . وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض ، لن ندعوا من دونه إلهاً . لقد قلنا إذا شططاً . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين . فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ، ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً } .
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة . { إنهم فتية آمنوا بربهم } . . { وزدناهم هدى } بإلهامهم كيف يدبرون أمرهم . { وربطنا على قلوبهم } فإذا هي ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت . معتزة بالإيمان الذي اختارت { إذ قاموا } . . والقيام حركة تدل على العزم والثبات . { فقالوا ربنا رب السماوات والأرض } . . فهو رب هذا الكون كله { لن ندعو من دونه إلهاً } . . فهو واحد بلا شريك . { لقد قلنا إذن شططاً } . . وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب .
ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه ، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة :
{ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين؟ } . .
فهذا هو طريق الاعتقاد : أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه ، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول . وإلا فهو الكذب الشنيع ، لأنه الكذب على الله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً؟ } .
وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحاً صريحاً حاسماً ، لا تردد فيه ولا تلعثم . . إنهم فتية ، أشداء في أجسامهم ، أشداء في إيمانهم . أشداء في استنكار ما عليه قومهم . .
ولقد تبين الطريقان ، واختلف المنهجان ، فلا سبيل إلى الالتقاء ، ولا للمشاركة في الحياة .
ولا بد من الفرار بالعقيدة . إنهم ليسوا رسلاً إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها ، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل . إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر ، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها ، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداوروهم ، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف . فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله ، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة . وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم :
{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً } . .
وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ، ويهجرون ديارهم ، ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . وهؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروحون رحمة الله . ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . { ينشر لكم ربكم من رحمته } ولفظة { ينشر } تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها ، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء . . إن الحدود الضيقة لتنزاح ، وإن الجدران الصلدة لترق ، وإن الوحشة الموغلة لتشف ، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .
إنه الإيمان . .
وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟ إن هنالك عالماً آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان ، المأنوس بالرحمن . عالماً تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان .
ويسدل الستار على هذا المشهد . ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس .
{ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، وهم في فجوة منه . ذلك من آيات الله . من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود . ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال . وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد . لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ، ولملئت منهم رعباً } .
وهو مشهد تصويري عجيب ، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف ، كما يلتقطها شريط متحرك . والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة . ولفظ { تزاور } تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها . والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه . .
وقبل أن يكمل نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل سياق القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة :
{ ذلك من آيات الله } . . وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب منهم بضوئها . وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون .
{ من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً } . . وللهدى والضلال ناموس . فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقاً . ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل ، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن ، ولن تجد له من بعد هادياً .
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظاً وهم رقود . وكلبهم على عادة الكلاب باسط ذراعية بالفناء قريباً من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياماً كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يعبث بهم عابث ، حتى يحين الوقت المعلوم .
وفجأة تدب فيهم الحياة . فلننظر ولنسمع :
{ وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . قال قائل منهم : كم لبثتم؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم . قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، ولن تفلحوا إذاً أبداً } . .
إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة ، فيعرض هذا المشهد ، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم ، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل : كم لبثتم؟ كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم }
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها ، ويدعوا أمرها لله شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة : { قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً ، فليأتكم برزق منه } . . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .
وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم ، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجماً بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلهاً واحداً في المدينة المشركة أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب . وهذه هي التي يتقونها . لذلك يوصون الرسول أن يكون حذراً لبقاً : { وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبدا } . . فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك ، وإنها للخسارة الكبرى .
وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم ، حذرين خائفين ، لا يدرون أن الأعوام قد كرت ، وأن عجلة الزمن قد دارت ، وأن أجيالاً قد تعاقبت ، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها ، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم ، وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف؛ وأن الأقاويل حولهم متعارضة؛ حول عقيدتهم ، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم .
وهنا يسدل على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر . وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني .
ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون ، فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام ، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد .
ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها؛ وأن الدنيا تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون . وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم ، فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين . وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد . . كله قد تقطع ، فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية . . فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم .
لنا أن نتصور هذا كله . أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير ، مشهد وفاتهم ، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم : على أي دين كانوا ، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال . ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب :
{ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها . إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا : ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم : لنتخذن عليهم مسجداً } .
إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس . يقرب إلى الناس قضية البعث . فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق ، وأن الساعة لا ريب فيها . . وعلى هذا النحو بعث الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم .
وقال بعض الناس : { ابنوا عليهم بنياناً } لا يحدد عقيدتهم { ربهم أعلم بهم } وبما كانوا عليه من عقيدة . وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان : { لنتخذن عليهم مسجداً } والمقصود معبد ، على طريقه اليهود والنصارى في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والقديسين . وكما يصنع اليوم من يقلدونهم من المسلمين مخالفين لهدى الرسول صلى الله عليه وسلم « لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد »
ويسدل الستار على هذا المشهد . ثم يرفع لنسمع الجدل حول أصحاب الكهف على عادة الناس يتناقلون الروايات والأخبار ، ويزيدون فيها وينقصون ، ويضيفون إليها من خيالهم خيالهم جيلاً بعد جيل ، حتى تتضخم وتتحول ، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون :
{ سيقولون : ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون : خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ، ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم .
قل : ربي أعلم بعدتهم . ما يعلمهم إلا قليل . فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ، ولا تستفت فيهم منهم أحداً } . .
فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه . وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة ، أو أكثر . وأمرهم موكول إلى الله ، وعلمهم عند الله . وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة . فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم . والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير . لذلك يوجه القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ترك الجدل في هذه القضية ، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم . تمشياً مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد . وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به عليم وثيق . وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله ، فليترك إلى علم الله .
وبمناسبة النهي عن الجدل في غيب الماضي ، يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه؛ فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه :
{ ولا تقولن لشيء : إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ، وقل : عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } . .
إن كل حركة وكل نأمة ، بل كل نفس من أنفاس الحي ، مرهون بإرادة الله . وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة؛ وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل؛ وعقله مهما علم قاصر كليل . فلا يقل إنسان : إني فاعل ذلك غداً . وغداً في غيب الله وأستار غيب الله دون العواقب .
وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان ، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له؛ وأن يعيش يوماً بيوم ، لحظة بلحظة . وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله . . كلا . ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره؛ وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم ، ويستشعر أن يد الله فوق يده ، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره . فإن وفقه الله إلى ما اعتزم فبها . وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس ، لأن الأمر لله أولاً وأخيراً .
فليفكر الإنسان وليدبر؛ ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله ، ويدبر بتوفيق الله ، وأنه لا يملك إلا ما يمده الله به من تفكير وتدبير . ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ ، أو ضعف أو فتور؛ بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة . فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره ، فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام .
لأنه الأصل الذي كان مجهولاً له فكشف عنه الستار .
هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم . فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكر ويدبر . . ولا يحس بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح ، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق . بل يبقى في كل أحواله متصلاً بالله ، قوياً بالاعتماد عليه ، شاكراً لتوفيقه إياه ، مسلماً بقضائه وقدره . غير متبطر ولا قنوط . { واذكر ربك إذا نسيت } . . إذا نسيت هذا التوجيه والاتجاه فاذكر ربك وارجع إليه .
{ وقل : عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } . . من هذا المنهج الذي يصل القلب دائماً بالله ، في كل ما يهم به وكل ما يتوجه إليه .
وتجيء كلمة { عسى } وكلمة { لأقرب } للدلالة على ارتفاع هذا المرتقى ، وضرورة المحاولة الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال .
وإلى هنا لم نكن نعلم : كم لبث الفتية في الكهف . فلنعرفه الآن لنعرفه على وجه اليقين :
{ ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين ، وازدادوا تسعاً . قل : الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . أبصر به وأسمع } . .
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم ، يقرره عالم غيب السماوات والأرض . ما أبصره ، وما أسمعه سبحانه . فلا جدال بعد هذا ولا مراء .
ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها : { ما لهم من دونه من ولي . ولا يشرك في حكمه أحداً } . .
وبتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه ، وفيه فصل الخطاب وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل والاتجاه إلى الله وحده ، فليس من حمى إلا حماه . وقد فر إليه أصحاب الكهف فشملهم برحمته وهداه :
{ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً } . .
وهكذا تنتهي القصة ، تسبقها وتتخللها وتعقبها تلك التوجيهات التي من أجلها يساق القصص في القرآن . مع التناسق المطلق بين التوجيه الديني والعرض الفني في السياق .
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
هذا الدرس كله تقرير للقيم في ميزان العقيدة . إن القيم الحقيقية ليست هي المال ، وليست هي الجاه ، وليست هي السلطان . كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة . . إن هذه كلها قيم زائفة وقيم زائلة . والإسلام لا يحرم الطيب منها؛ ولكنه لا يجعل منها غاية لحياة الإنسان . فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع ، ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها . وليشكره على النعمة بالعمل الصالح ، فالباقيات الصالحات خير وأبقى .
وهو يبدأ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله؛ وأن يغفل ويهمل الذين يغفلون عن ذكر الله . ثم يضرب للفريقين مثلاً رجلين : أحدهما يعتز بما أوتي من مال وعزة ومتاع . والآخرة يعتز بالإيمان الخالص ، ويرجو عند ربه ما هو خير . ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها ، فإذا هي قصيرة زائلة كالهشيم تذروه الرياح . وينتهي من ذلك كله بتقرير الحقيقة الباقية : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً } . .
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطاً . وقل : الحق من ربكم . فمن شاء فليؤمن . ومن شاء فليكفر } . .
يروي أنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش . أو أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس هؤلاء النفر ، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق ، فتؤذي السادة من كبراء قريش
ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه . فأنزل الله عز وجل : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . } انزلها تلعن عن القيم الحقيقية ، وتقيم الميزان الذي لا يخطئ . وبعد ذلك { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } فالإسلام لا يتملق أحداً ، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى ، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزاناً غير ميزانه .
{ واصبر نفسك } . . لا تمل ولا تستعجل { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } . . فالله غايتهم ، يتجهون إليه بالغداة والعشي ، لا يتحولون عنه ، ولا يبتغون إلا رضاه . وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة .
اصبر نفسك مع هؤلاء . صاحبهم وجالسهم وعلمهم . ففيهم الخير ، وعلى مثلهم تقوم الدعوات . فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع ، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له ، لا تبغي جاهاً ولا متاعاً ولا انتفاعاً ، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه .
{ ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } . . ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة { الدنيا } لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه .
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } . . لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء . فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم ، وخففوا من غلوائهم ، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة ، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة . ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم . أهواء الجاهلية . ويحكمون مقاييسها في العباد . فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله .
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله . فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه . فهذه قيم زائفة ، وقيم زائلة . إنما التفاضل بمكانها عند الله . ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له . وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان .
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } . . أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته ، وإلى ماله ، وإلى أبنائه ، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته ، فلم يعد في قلبه متسع لله . والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل ، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله ، فيزيده الله غفلة ، ويملي له فيما هو فيه ، حتى تفلت الأيام من بين يديه ، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم ، ويظلمون غيرهم :
{ وقل : الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } . .
بهذه العزة ، وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة ، فالحق لا ينثني ولا ينحني ، إنما يسير في طريقه قيماً لا عوج فيه ، قوياً لا ضعف فيه ، صريحاً لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب ، ومن لم يجعل هواه تبعاً لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه امام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .
إن العقيدة ليست ملكاً لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .
ثم يعرض ما أعد للكافرين ، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة :
{ إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها؛ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه .
بئس الشراب وساءت مرتفقاً . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب؛ ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق ، متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } .
{ أنا أعتدنا للظالمين ناراً } . . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها ، ولا تستغرق زمناً لإعدادها ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة : كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ { أعتدنا } يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد ، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين ، فلا سيبل إلى الهرب ، ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة ، أو يكون فيه استرواح
فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزين المغلي في قول ، وكالصديد الساخن في قول يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه { بئس الشراب } الذي يغاث به الملهوفون من الحريق ويا لسوء النار وسرادقها مكاناً للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق ، إنما هم للاشتواء ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان . . وشتان شتان
وبينما هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن . للإقامة . تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم . وهم هنالك للارتفاق حقاً { متكئين فيها على الأرائك } وهم رافلون في ألوان من الحرير . من سندس ناعم خفيف ومن إستبرق مخمل كثيف . تزيد عليها أساور من ذهب للزينة والمتاع : { نعم الثواب وحسنت مرتفقاً }
ومن شاء فليختر . ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن شاء فليجالس فقراء المؤمنين ، وجبابهم تفوح منها رائحة العرق أو فلينفر . فمن لم ترضه رائحة العرق من تلك الجباب ، التي تضم القلوب الزكية بذكر الله ، فليرتفق في سرادق النار ، وليهنأ بدردي الزيت أو القيح يغاث به من النار . .
ثم تجيء قصة الرجلين والجنتين تضرب مثلاً للقيم الزائلة والقيم الباقية ، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة ، والنفس المعتزة بالله . وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس : صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ، تذهله الثروة ، وتبطره النعمة ، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة . ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى ، فلن تخذله القوة ولا الجاه . وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه ، الذاكر لربه ، يرى النعمة دليلاً على المنعم . موجبة لحمده وذكره ، لا لجحود وكفره .
وتبدأ القصة بمشهد الجنتين في ازدهار وفخامة :
{ واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ، وحففناهما بنخل ، وجعلنا بينهما زرعاً .
كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً ، وفجرنا خلالهما نهراً . وكان له ثمر } . .
فهما جنتان مثمرتان من الكروم ، محفوفتان بسياج من النخيل ، تتوسطهما الزروع ، ويتفجر بينهما نهر . . إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال :
{ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } . . ويختار التعبير كلمة { تظلم } في معنى تنقص وتمنع ، لتقابل بين الجنتين وصاحبهما الذي ظلم نفسه فبطر ولم يشكر ، وازدهى وتكبر .
وها هو ذا صاحب الجنتين تمتلئ نفسه بهما ، ويزدهيه النظر إليهما ، فيحس بالزهو ، وينتفش كالديك ، ويختال كالطاووس ، ويتعالى على صاحبه الفقير : { فقال لصاحبه - وهو يحاوره - أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً } . .
ثم يخطو بصاحبه إلى إحدى الجنتين ، وملء نفسه البطر ، وملء جنبه الغرور؛ وقد نسي الله ، ونسي أن يشكره على ما أعطاه؛ وظن أن هذه الجنان المثمرة لن تبيد أبداً ، أنكر قيام الساعة أصلاً ، وهبها قامت فسيجد هنالك الرعاية والإيثار أليس من أصحاب الجنان في الدنيا فلا بد أن يكون جنابه ملحوظاً في الآخرة
{ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه . قال : ما أظن أن تبيد هذه أبداً ، وما أظن الساعة قائمة . ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلباً }
إنه الغرور يخيل لذوي الجاه والسلطان والمتاع والثراء ، أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى فما داموا يستطيلون على أهل هذه الأرض فلا بد أن يكون لهم عند السماء مكان ملحوظ
فأما صاحبه الذي لا مال له ولا نفر ، ولا جنة عنده ولا ثمر . . فإنه معتز بما هو أبقى وأعلى . معتز بعقيدته وإيمانه . معتز بالله الذي تعنو له الجباه؛ فهو يجبه صاحبه المتبطر المغرور منكراً عليه بطره وكبره ، يذكره بمنشئه المهين من ماء وطين ، ويوجهه إلى الأدب الواجب في حق المنعم . وينذره عاقبة البطر والكبر . ويرجو عند ربه ما هو خير من الجنة والثمار :
{ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً؟ لكنا هو الله ربي ، ولا أشرك بربي أحداً . ولولا إذ دخلت جنتك قلت : ما شاء الله لا قوة إلا بالله . إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً . فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ، ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ، أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً } . .
وهكذا تنتفض عزة الإيمان في النفس المؤمنة ، فلا تبالي المال والنفر ، ولا تداري الغنى والبطر ، ولا تتلعثم في الحق ، ولا تجامل فيه الأصحاب . وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال . وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة ، وأن فضل الله عظيم وهو يطمع في فضل الله .
وأن نقمة الله جبارة وأنها وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين .
وفجأة ينقلنا السياق من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار . ومن هيئة البطر ، والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار . فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن :
{ وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ، وهي خاوية على عروشها ، ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } . .
وهو مشهد شاخص كامل : الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء . والجنة خاوية على عروشها مهشمة محطمة . وصاحبها يقلب كفيه أسفاً وحزناً على ماله الضائع وجهده الذاهب . وهو نادم على إشراكه بالله ، يعترف الآن بربوبيته ووحدانيته . ومع أنه لم يصرح بكلمة الشرك ، إلا أن اعتزازه بقيمة أخرى أرضيه غير قيمة الإيمان كان شركاً ينكره الآن ، ويندم عليه ويستعيذ منه بعد فوات الأوان .
هنا يتفرد الله بالولاية والقدرة : فلا قوة إلا قوته ، ولا نصر إلا نصره . وثوابه هو خير الثواب ، وما يبقى عنده للمرء من خير فهو خير ما يتبقى :
{ ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان منتصراً . هنالك الولاية لله الحق ، هو خير ثواباً وخير عقباً } . .
ويسدل الستار على مشهد الجنة الخاوية على عروشها ، وموقف صاحبها يقلب كفيه أسفاً وندماً وجلال الله يظلل الموقف ، حيث تتوارى قدرة الإنسان . .
وأمام هذا المشهد يضرب مثلاً للحياة الدنيا كلها . فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلاً قصيرة قصيرة ، لا بقاء لها ولا قرار :
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيماً تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدراً } . .
هذا المشهد يعرض قصيراً خاطفاً ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال . فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض . والنبات لا ينمو ولا ينضج ، ولكنه يصبح هشيماً تذروه الرياح . وما بين ثلاث جمل قصار ، ينتهي شريط الحياة .
ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد . بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء :
{ كماء أنزلناه من السماء } ف { اختلط به نبات الأرض } ف { أصبح هشيماً تذروه الرياح } فما أقصرها حياة وما أهونها حياة
وبعد أن يلقي مشهد الحياة الذاهبة ظله في النفس يقرر السياق بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض ، والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام :
{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً ، وخير أملاً } . .
المال والبنون زينة الحياة؛ والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات . ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد .
إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة .
فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على اساسهما في الحياة . إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات .
وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين فإن الباقيات الصالحات خير ثواباً وخير أملا . عند ما تتعلق بها القلوب ، ويناط بها الرجاء ، ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء .
وهكذا يتناسق التوجيه الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم في أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه . مع إيحاء قصة الجنتين . مع ظل المثل المضروب للحياة الدنيا . مع هذا التقرير الأخير للقيم في الحياة وما بعد الحياة . . وتشترك كلها في تصحيح القيم بميزان العقيدة . وتتساوى كلها في السورة وفق قاعدة التناسق الوجداني في القرآن .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
انتهى الدرس السابق بالحديث عن الباقيات الصالحات؛ فهنا يصله بوصف اليوم الذي يكون للباقيات الصالحات وزن فيه وحساب ، يعرضه في مشهد من مشاهد القيامة . ويتبعه في السياق بإشارة إلى ما كان من إبليس يوم أمر بالسجود لآدم ففسق عن أمر ربه للتعجيب من ابناء آدم الذين يتخذون الشياطين أولياء ، وقد علموا أنهم لهم أعداء ، وبذلك ينتهون إلى العذاب في يوم الحساب . ويعرج على الشركاء الذين لا يستجيبون لعبادهم في ذلك اليوم الموعود .
هذا وقد صرف الله في القرآن الأمثال للناس ليقوا أنفسهم شر ذلك اليوم ، ولكنهم لم يؤمنوا ، وطلبوا أن يحل بهم العذاب أو أن يأتيهم الهلاك الذي نزل بالأمم قبلهم . وجادلوا بالباطل ليغلبوا به الحق ، واستهزأوا بآيات الله ورسله . ولولا رحمة الله لعجل لهم العذاب . .
هذا الشوط من مشاهد القيامة ، ومن مصارع المكذبين يرتبط بمحور السورة الأصيل في تصحيح العقيدة ، وبيان ما ينتظر المكذبين ، لعلهم يهتدون .
{ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ، وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً . وعرضوا على ربك صفاً . لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ، بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً . ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه؛ ويقولون : يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟ ووجدوا ما عملوا حاضراً ، ولا يظلم ربك أحداً } .
إنه مشهد تشترك فيه الطبيعة ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب . مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير ، فكيف بالقلوب ، وتتبدى فيه الأرض عارية ، وتبرز فيه صفحتها مكشوفة لا نجاد فيها ولا وهاد ، ولا جبال فيها ولا وديان . وكذلك تتكشف خبايا القلوب فلا تخفى منها خافية .
ومن هذه الأرض المستوية المكشوفة التي لا تخبئ شيئاً ، ولا تخفي أحداً : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً } .
ومن الحشر الجامع الذي لا يخلف أحداً إلى العرض الشامل : { وعرضوا على ربك صفاً } . . هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد ، منذ أن قامت البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة . . هذه الخلائق كلها محشورة مجموعة مصفوفة ، لم يتخلف منها أحد ، فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي أحداً .
وهنا يتحول السياق من الوصف إلى الخطاب . فكأنما المشهد حاضر اللحظة ، شاخص نراه ونسمع ما يدور فيه . ونرى الخزي على وجوه القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه : { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة . بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً } .
هذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه . كأنما هو حاضر اللحظة ، لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم الحساب .
وإننا لنكاد نلمح الخزي على الوجوه ، والذل في الملامح .
وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء المجرمين بالتأنيب : { ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون : { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً }
وبعد إحياء المشهد واستحضاره بهذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يعود إلى وصف ما هناك :
{ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه } فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم ، وهم يتملونه ويراجعونه ، فإذا هو شامل دقيق . وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب الذي لا يترك شاردة ولا واردة ، ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة : { يقولون : يا ويلتنا . مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها؟ } وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ العواقب ، وقد ضبط مكشوفاً لا يملك تفلتا ولا هرباً ، ولا مغالطة ولا مداورة : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } ولاقوا جزاء عادلاً : { ولا يظلم ربك أحداً } . .
هؤلاء المجرمون الذين وقفوا ذلك الموقف كانوا يعرفون أن الشيطان عدو لهم ، ولكنهم تولوه فقادهم إلى ذلك الموقف العصيب . فما أعجب أن يتولوا إبليس وذريته وهم لهم عدو منذ ما كان بين آدم وإبليس :
{ وإذا قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ، وهم لكم عدو ، بئس للظالمين بدلاً } .
وهذه الإشارة إلى تلك القصة القديمة تجيء هنا للتعجيب من أبناء آدم الذين يتخذون ذرية إبليس أولياء من دون الله بعد ذلك العداء القديم .
واتخاذ إبليس وذريته أولياء يتمثل في تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة .
ولماذا يتولون أعداءهم هؤلاء ، وليس لديهم علم ولا لهم قوة . فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فيطلعهم على غيبه . والله لا يتخذهم عضداً فتكون لهم قوة :
{ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ، وما كنت متخذ المضلين عضداً } . .
إنما هو خلق من خلق الله ، لا يعلمون غيبه ، ولا يستعين بهم سبحانه . .
{ وما كنت متخذ المضلين عضداً } فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضداً؟
وتعالى الله الغني عن العالمين ، ذو القوة المتين . . إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين لتتبعها واستئصالها . فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله ، إنما يسلكون هذا المسلك توهماً منهم أن للشيطان علماً خفياً ، وقوة خارقة . والشيطان مضل ، والله يكره الضلال والمضلين . فلو أنه على سبيل الفرض والجدل كان متخذاً له مساعدين ، لما اختارهم من المضلين
وهذا هو الظل الذي يراد أن يلقيه التعبير . .
ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين :
{ ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم . وجعلنا بينهم موبقا . ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ، ولم يجدوا عنها مصرفاً } .
.
إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان . والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا ، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا . . وإنهم لفي ذهول ينسون انها الآخرة ، فينادون . لكن الشركاء لا يجيبون وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً في الموقف المرهوب . وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء . . إنها النار { وجعلنا بينهم موبقاً } .
ويتطلع المجرمون ، فتمتلئ نفوسهم بالخوف والهلع ، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها . وما أشق توقع العذاب وهو حاضر ، وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص :
{ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ، ولم يجدوا عنها مصرفاً } .
ولقد كان لهم عنها مصرف ، لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن ، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به ، وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جيمع الأحوال :
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل ، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } . .
ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بانه { شيء } وأنه أكثر شيء جدلا . ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه ، ويقلل من غروره ، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة . وأنه أكثر هذه الخلائق جدلاً . بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل .
ثم يعرض الشبهة التي تعلق بها من لم يؤمنوا وهم كثرة الناس على مدار الزمان والرسالات :
{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلاً } . .
فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء . . ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك استبعاداً لوقوعه واستهزاء أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم . وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون
وليس هذا أو ذاك من شأن الرسل . فأخذ المكذبين بالهلاك كما جرت سنة الله في الأولين بعد مجيء الخوارق وتكذيبهم بها أو إرسال العذاب . . كله من أمر الله . أما الرسل فهم مبشرون ومنذرون :
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين . ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق . واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } .
والحق واضح . ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه . وهم حين يبطلون الخوارق ، ويستعجلون بالعذاب لا يبتغون اقتناعاً ، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر ويسخرون .
{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه . إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ، وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } . .
فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن ، ولا أن ينتفعوا به .
لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه . وقدر عليهم الضلال بسبب استهزائهم وإعراضهم فلن يهتدوا إذن ابداً . فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي .
{ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } . .
ولكن الله يمهلهم رحمة بهم ، ويؤخر عنهم الهلاك الذي يستعجلون به ، ولكنه لن يهملهم :
{ بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } . .
موعد في الدنيا يحل بهم فيه شيء من العذاب . وموعد في الآخرة يوفون فيه الحساب .
ولقد ظلموا فكانوا مستحقين للعذاب أو الهلاك كالقرى قبلهم . لولا أن الله قدر إمهالهم إلى موعدهم ، لحكمة اقتضتها إرادته فيهم ، فلم يأخذهم أخذ القرى؛ بل جعل لهم موعداً آخر لا يخلفونه :
{ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا . وجعلنا لمهلكهم موعداً } . .
فلا يغرنهم إمهال الله لهم ، فإن موعدهم بعد ذلك آت . وسنة الله لا تتخلف . والله لا يخلف الميعاد . .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
هذه الحلقة من سيرة موسى عليه السلام لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة . والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بإنه { مجمع البحرين } ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى ، هل كان ذلك هو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها؟ ومتى بعد الخروج : قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة ، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوماً جبارين؟ أم بعد ذهابهم في التيه ، مفرقين مبددين؟
كذلك لا يذكر القرآن شيئاً عن العبد الصالح الذي لقيه موسى . من هو؟ ما اسمه؟ هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟
وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة . ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن . لنعيش « في ظلال القرآن » ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به ، دون زيادة ، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء ، حكمة خاصة . فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه . . { وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا } . .
والأرجح والله أعلم أنه مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم . أي البحر الأبيض والبحر الأحمر . . ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح . أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر . فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر . وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة .
ونفهم من سياق القصة فيما بعد أنه كان لموسى عليه السلام هدف من رحلته هذه التي اعتزمها ، وأنه كان يقصد من ورائها أمراً ، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة ، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول . وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله : { أو أمضي حقبا } والحقب قيل عام ، وقيل ثمانون عاماً . على أية حال فهو تعبير عن التصميم ، لا عن المدة على وجه التحديد .
{ فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا . فلما جاوزا قال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . } . .
والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشوياً ، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سرباً كان آية من آيات الله لموسى ، يعرف بهما موعده ، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر ، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب .
ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية . فهذه إحداها .
وأدرك موسى أنه جاوز الموعد الذي حدده ربه له للقاء عبده الصالح . وأنه هنالك عند الصخرة ثم عاد على أثره هو وفتاه فوجداه :
{ قال : ذلك ما كنا نبغ . فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما } . .
ويبدو أن ذلك اللقاء كان سر موسى وحده مع ربه ، فلم يطلع عليه فتاه حتى لقياه . ومن ثم ينفرد موسى والعبد الصالح في المشاهد التالية للقصة :
{ قال له موسى : هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا؟ } .
بهذا الأدب اللائق بنبي ، يستفهم ولا يجزم ، ويطلب العلم الراشد من العبد الصالح العالم .
ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج ، إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده ، للحكمة التي أرادها . ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبياً رسولاً . لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي ، وبالأحكام الظاهرة ، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة؛ وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار . لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته :
{ قال : إنك لن تستطيع معي صبراً . وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً؟ } . .
ويعزم موسى على الصبر والطاعة ، ويستعين الله ، ويقدم مشيئته :
{ قال : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً } . .
فيزيد الرجل توكيداً وبياناً ، ويذكر له شرط صحبته قبل بدء الرحلة ، وهو أن يصبر فلا يسأل ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له عن سرها :
{ قال : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً } .
ويرضى موسى . . وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما :
{ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها } . .
سفينة تحملهما وتحمل معهما ركاباً ، وهم في وسط اللجة؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر؛ فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر؟
لقد نسي موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه ، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد ، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعاً غير التصور النظري . فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد . وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبراً على ما لم يحط به خبراً ، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط .
ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكراً .
نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية ، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته . منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله من اندفاعه . ثم أناب إلى ربه مستغفراً معتذراً حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر ، هم بالآخر مرة أخرى
نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة . ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها . ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعاً وطعماً غير التصور النظري . ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها .
ومن هنا اندفع موسى مستنكراً :
{ قال : أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا } .
وفي صبر ولطف يذكره العبد الصالح بما كان قد قاله منذ البداية :
{ قال : ألم أقل : إنك لن تستطيع معي صبراً؟ } .
ويعتذر موسى بنسيانه ، ويطلب إلى الرجل أن يقبل عذره ولا يرهقه بالمراجعة والتذكير :
{ قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً؟ } .
ويقبل الرجل اعتذاره ، فنجدنا أمام المشهد الثاني :
{ فانطلقا . حتى إذا لقيا غلاماً فقتله . . } .
وإذا كانت الأولى خرق سفينة واحتمال غرق من فيها؛ فهذه قتل نفس . قتل عمد لا مجرد احتمال . وهي فظيعة كبيرة لم يستطع موسى أن يصبر عليها على الرغم من تذكره لوعده :
{ قال : أقتلت نفساً زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئاً نكرا } .
فليس ناسياً في هذه المرة ولا غافلاً؛ ولكنه قاصد . قاصد أن ينكر هذا النكر الذي لا يصبر على وقوعه ولا يتأول له اسباباً؛ والغلام في نظره بريء . لم يرتكب ما يوجب القتل ، بل لم يبلغ الحلم حتى يكون مؤاخذاً على ما يصدر منه .
ومرة أخرى يرده العبد الصالح إلى شرطه الذي شرط ووعده الذي وعد ، ويذكره بما قال له أول مرة . والتجربة تصدقه بعد التجربة :
{ قال : ألم أقل لك : إنك لن تستطيع معي صبرا } . .
وفي هذه المرة يعين أنه قال له : { ألم أقل لك؟ } لك أنت على التعيين والتحديد . فلم تقتنع وطلبت الصحبة وقبلت الشرط .
ويعود موسى إلى نفسه ، ويجد أنه خالف عن وعده مرتين ، ونسي ما تعهد به بعد التذكير والتفكير . فيندفع ويقطع على نفسه الطريق ، ويجعلها آخر فرصة أمامه :
{ قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني . قد بلغت من لدني عذراً } .
وينطلق السياق فإذا نحن أمام المشهد الثالث :
{ فانطلقا . حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه } .
.
إنهما جائعان ، وهما في قرية أهلها بخلاء ، لا يطعمون جائعاً ، ولا يستضيفون ضيفاً . ثم يجد أن جداراً مائلاً يهم أن ينقض . والتعبير يخلع على الجدار حياة وإرادة كالأحياء فيقول : { يريد أن ينقض } فإذا الرجل الغريب يشغل نفسه بإقامة الجدار دون مقابل
وهنا يشعر موسى بالتناقض في الموقف . ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جداراً يهم بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان ، وقد أبوا أن يستضيفوهما؟ أفلا أقل من أن يطلب عليه أجراً يأكلان منه؟
{ قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا }
وكانت هي الفاصلة . فلم يعد لموسى من عذر ، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال :
{ قال : هذا فراق بيني وبينك . سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } .
وإلى هنا كان موسى ونحن الذين نتابع سياق القرآن أمام مفاجآت متوالية لا نعلم لها سراً . وموقفنا منها كموقف موسى . بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة ، فلم ينبئنا القرآن باسمه ، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا . وما قيمة اسمه؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا ، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة ، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة . فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها . وإن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها . فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود . فيمضي في طريقه؛ ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة ، وكأنما نسيه ليعودا . فيجد هذا الرجل هناك . وكان لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما ، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى . . كل الجو غامض مجهول ، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن .
ثم يأخذ السر في التجلي . .
{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ، فأردت أن أعيبها؛ وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } .
فبهذا العيب نجت السفينة من أن يأخذها ذلك الملك الظالم غصباً؛ وكان الضرر الصغير الذي أصابها اتقاء للضرر الكبير الذي يكنه الغيب لها لو بقيت على سلامتها .
{ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا . فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما } . .
فهذا الغلام الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل ، قد كشف ستر الغيب عن حقيقته للعبد الصالح ، فإذا هو في طبيعته كافر طاغ ، تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان ، وتزيد على الزمن بروزاً وتحققاً . . فلو عاش لأرهق والديه المؤمنين بكفره وطغيانه ، وقادهما بدافع حبهما له أن يتبعاه في طريقه . فأراد الله ووجه إرادة عبده الصالح إلى قتل هذا الغلام الذي يحمل طبيعة كافرة طاغية ، وأن يبدلهما الله خلفاً خيراً منه ، وأرحم بوالديه .
ولو كان الأمر موكولاً إلى العلم البشري الظاهر ، لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام ، ولما كان له عليه من سلطان ، وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعاً . وليس لغير الله ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس . ولا أن يرتب على هذا العلم حكماً غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة . ولكنه أمر الله القائم على علمه بالغيب البعيد .
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجراً من أهل القرية وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما كان يخبئ تحته كنزاً ، ويغيب وراءه مالاً لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحاً فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه { رحمة من ربك وما فعلته عن أمري } . .
فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحداً إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .
وهكذا ترتبط في سياق السورة قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
هذا الدرس الأخير في سورة الكهف قوامه قصة ذي القرنين ، ورحلاته الثلاث إلى الشرق وإلى الغرب وإلى الوسط ، وبناؤه للسد في وجه يأجوج ومأجوج .
والسياق يحكي عن ذي القرنين قوله بعد بناء السد : { قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً } . . ثم يعقب الوعد الحق ، بالنفخ في الصور ومشهد من مشاهد القيامة . . ثم تختم السورة بثلاثة مقاطع ، يبدأ كل مقطع منها : بقوله : { قل } .
وهذه المقاطع ، تلخص موضوعات السورة الرئيسية واتجاهاتها العامة . وكأنما هي الإيقاعات الأخيرة القوية في اللحن المتناسق . .
وتبدأ قصة ذي القرنين على النحو التالي :
{ ويسألونك عن ذي القرنين . قل : سأتلوا عليكم منه ذكراً } . .
وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة فقال : « حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . . فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول . ما كان من أمرهم؟ فإنهم كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها . ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أمرنا أحبار يهود ان نسأله عن أمور . . فأخبرهم بها . فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا . . فسألوه عما أمرهم به . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - » أخبركم غداً عما سألتم عنه « - ولم يستثن فانصرفوا عنه . ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً ، ولا يأتيه جبريل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة؛ وقالوا : وعدنا محمد غداً ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه؛ وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : { ويسألونك عن الروح . . } الآية » .
هذه رواية . وقد وردت عن ابن عباس رضي الله عنه رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة ، ذكرها العوفي . وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن الروح . وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله؟ ولم يكن نزل عليه شيء . فلم يحر إليهم شيئاً . فأتاه جبريل فقال له : { قل : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } . . إلى آخر الرواية .
ولتعدد الروايات في أسباب النزول ، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن . ومن هذا النص نعلم أنه كان هناك سؤال عن ذي القرنين . لا ندري على وجه التحقيق من الذي سأله . والمعرفة به لا تزيد شيئاً في دلالة القصة . فلنواجه النص بلا زيادة .
إن النص لا يذكر شيئاً عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه . وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن . فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود . إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة . والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان .
والتاريخ المدون يعرف ملكاً اسمه الاسكندر ذو القرنين . ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن . فالإسكندر الإغريقي كان وثنياً . وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله وحده معتقد بالبعث والآخرة .
ويقول أبو الريحان البيروني المنجم في كتاب : « الآثار الباقية عن القرون الخالية » إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلاً باسمه . فملوك حمير كانوا يلقبون بذي . كذي نواس وذي يزن . وكان اسمه أبو بكر بن افريقش . وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فمر بتونس ومراكش وغيرهما؛ وبنى مدينة إفريقية فسميت القارة كلها باسمه . وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس .
وقد يكون هذا القول صحيحاً . ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه . ذلك انه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفاً من سيرته ، شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن كقصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم . فالتاريخ مولود حديث العهد جداً بالقياس إلى عمر البشرية . وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئاً . فليس هو الذي يستفتى فيها
ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعاً يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث .
ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير . وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحي به من الله . فلم تعد التوارة مصدراً مستيقناً لما ورد فيها من القصص التاريخي .
وإذن فلم يبق إلا القرآن . الذي حفظ من التحريف والتبديل . هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي .
ومن البديهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين :
أولهما : أن التاريخ مولود حديث العهد ، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية ، لم يعلم عنها شيئاً . والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها
وثانيهما : أن التاريخ وإن وعى بعض هذه الأحداث هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف . ونحن نشهد في زماننا هذا الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى ، وينظر إليه من زوايا مختلفة ، ويفسر تفسيرات متناقضة . ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق
فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص ، كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر ، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل . وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن ، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء . إنما هو مراء
لقد سأل سائلون عن ذي القرنين . سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته . وليس أمامنا مصدر آخر غير القرآن في هذه السيرة . فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم . وقد وردت في التفاسير أقوال كثيرة ، ولكنها لا تعتمد على يقين . وينبغي أن تؤخذ بحذر ، لما فيها من إسرائيليات وأساطير .
وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات : واحدة إلى المغرب ، وواحدة إلى المشرق ، وواحدة إلى مكان بين السدين . . فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث .
يبدأ الحديث عن ذي القرنين بشيء عنه : { إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً } . .
لقد مكن الله له في الأرض ، فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم؛ ويسر له أسباب الحكم والفتح ، وأسباب البناء والعمران ، وأسباب السلطان والمتاع . . وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة .
{ فأتبع سببا } . ومضى في وجه مما هو ميسر له ، وسلك طريقه إلى الغرب .
{ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ، ووجد عندها قوماً . قلنا : يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً .
قال : أما من ظلم فسوف نعذبه ، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا . وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يسرا } .
ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب عنده وراء الأفق . وهو يختلف بالنسبة للمواضع . فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف جبل . وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الماء كما في المحيطات الواسعة والبحار . وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الرمال إذا كان في صحراء مكشوفة على مد البصر . .
والظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي وكان يسمى بحر الظلمات ويظن أن اليابسة تنتهي عنده فرأى الشمس تغرب فيه .
والأرجح أنه كان عند مصب أحد الأنهار . حيث تكثر الأعشاب ويتجمع حولها طين لزج هو الحمأ . وتوجد البرك وكأنها عيون الماء . . فرأى الشمس تغرب هناك و { وجدها تغرب في عين حمئة } . . ولكن يتعذر علينا تحديد المكان ، لأن النص لا يحدده . وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في تحديده . وكل قول غير هذا ليس مأموناً لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح .
عند هذه الحمئة وجد ذو القرنين قوماً : { قلنا : يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً } .
كيف قال الله هذا القول لذي القرنين؟ أكان ذلك وحياً إليه أم إنه حكاية حال . إذ سلطه الله على القوم ، وترك له التصرف في أمرهم فكأنما قيل له : دونك وإياهم . فإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً؟ كلا القولين ممكن ، ولا مانع من فهم النص على هذا الوجه أو ذاك . والمهم أن ذا القرنين أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة ، التي دان له أهلها وسلطه الله عليها .
{ قال : أما من ظلم فسوف نعذبه ، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا . وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يسرا } .
أعلن أن للمعتدين الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه ، وأنهم بعد ذلك يردون إلى ربهم فيعذبهم عذاباً فظيعاً { نكرا } لا نظير له فيما يعرفه البشر . أما المؤمنون الصالحون فلهم الجزاء الحسن ، والمعاملة الطيبة ، والتكريم والمعونة والتيسير .
وهذا هو دستور الحكم الصالح . فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم . والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء . . وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسناً ، ومكاناً كريماً وعوناً وتيسيراً؛ ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة . . عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج . أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة؛ وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون .
فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد . ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد .
ثم عاد ذو القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق ، ممكناً له في الأرض ، ميسرة له الأسباب :
{ ثم أتبع سبباً . حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا . كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا } .
وما قيل عن مغرب الشمس يقال عن مطلعها . فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي . والقرآن لم يحدد المكان . ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذي وجدهم ذو القرنين هناك : { حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً } . . أي إنها أرض مكشوفة ، لا تحجبها عن الشمس مرتفعات ولا أشجار . فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر . . وهذا الوصف ينطبق على الصحارى والسهوب الواسعة . فهو لا يحدد مكاناً بعينه . وكل ما نرجحه أن هذا المكان كان في أقصى الشرق حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على هذه الأرض المستوية المكشوفة ، وقد يكون ذلك على شاطئ إفريقية الشرقي . وهناك احتمال لأن يكون المقصود بقوله : { لم نجعل لهم من دونها سترا } إنهم قوم عراة الأجسام لم يجعل لهم ستراً من الشمس . .
ولقد أعلن ذو القرنين من قبل دستوره في الحكم ، فلم يتكرر بيانه هنا ، ولا تصرفه في رحلة المشرق لأنه معروف من قبل ، وقد علم الله كل ما لديه من افكار واتجاهات .
ونقف هنا وقفة قصيرة أمام ظاهرة التناسق الفني في العرض . . فإن المشهد الذي يعرضه السياق هو مشهد مكشوف في الطبيعة : الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر . وكذلك ضمير ذي القرنين ونواياه كلها مكشوفة لعلم الله . . وكذلك يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ضمير ذي القرنين على طريقة التنسيق القرآنية الدقيقة .
{ ثم أتبع سبباً . حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا . قالوا : يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ قال : ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً . آتوني زبر الحديد . حتى إذا ساوى بين الصدفين قال : انفخوا . حتى إذا جعله ناراً قال : آتوني أفرغ عليه قطراً . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً . قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقاً } .
ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين { بين السدين } ولا ما هما هذان السدان . كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين ، أو بين سدين صناعيين .
تفصلهما فجوة أو ممر . فوجد هنالك قوماً متخلفين : { لا يكاد يفقهون قولاً } .
وعندما وجدوا فاتحاً قوياً ، وتوسموا فيه القدرة والصلاح . . عرضوا عليه أن يقيم لهم سداً في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين ، ويغيرون عليهم من ذلك الممر ، فيعيثون في أرضهم فساداً؛ ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم . . وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم .
وتبعاً للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال؛ وتطوع بإقامة السد؛ ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين؛ فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية : { فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً . آتوني زبر الحديد } . . فجمعوا له قطع الحديد ، وكومها في الفتحة بين الحاحزين ، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما . { حتى إذا ساوى بين الصدفين } وأصبح الركام بمساواة القمتين { قال : انفخوا } على النار لتسخين الحديد { حتى إذا جعله ناراً } كله لشدة توهجه واحمراره { قال : آتوني أفرغ عليه قطراً } أي نحاساً مذاباً يتخلل الحديد ، ويختلط به فيزيده صلابه .
وقد استخدمت هذه الطريقة حديثاً في تقوية الحديد؛ فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته . وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين ، وسجله في كتابه الخالد سبقاً للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله .
بذلك التحم الحاجزان ، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج { فما اسطاعوا أن يظهروه } ويتسوروه { وما استطاعوا له نقباً } فينفذوا منه . وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين . فأمنوا واطمأنوا .
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولم تسكره نشوة القوة والعلم . ولكنه ذكر الله فشكره . ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه . وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وفوض إليه الأمر ، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحاً أجرد مستوياً .
{ قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء . وكان وعد ربي حقاً } . .
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسر له الأسباب؛ فيجتاح الأرض شرقاً وغرباً؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ، ولا يطغى ولا يتبطر ، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه . . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعبير والإصلاح ، ودفع العدوان وإحقاق الحق .
ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله .
وبعد فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ، وفي بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقاً } .
وهذا النص لا يحدد زماناً . ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ، وانساحوا في الأرض ، ودمروا الممالك تدميراً .
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق . . . } وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معيناً لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء في القرآن : { اقتربت الساعة وانشق القمر } والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر . فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون ، يراها البشر طويلة مديدة ، وهي عند الله ومضة قصيرة .
وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين : { اقتربت الساعة } ويومنا هذا . وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .
وهنالك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : « استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول : » ويل للعرب من شر قد اقتربت . فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا « وحلق ( بإصبعيه السبابة والإبهام ) . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبيث » .
وقد كانت الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن . وقد وقعت غارات التتار بعدها ، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين . وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلم ذلك عند الله . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
ثم نعود إلى سياق السورة . فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة .
{ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ، ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا؛ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً ، الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ، وكانوا لا يستطيعون سمعا } .
وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض . ومن كل جيل وزمان وعصر ، مبعوثين منشرين . يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه ، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج . . ثم إذا نفخة التجمع والنظام : { ونفخ في الصُّور فجمعناهم جمعا } فإذا هم في الصف في نظام
ثم إذا الكافرون الذين أعرضوا عن ذكر الله حتى لكأن على عيونهم غطاء ، ولكأن في أسماعهم صمماً . . إذا بهؤلاء تعرض عليهم جهنم فلا يعرضون عنها كما كانوا يعرضون عن ذكر الله . فما يستطيعون اليوم إعراضاً . لقد نزع الغطاء عن عيونهم نزعاً فرأوا عاقبة الإعراض والعمى جزاء وفاقاً
والتعبير ينسق بين الإعراض والعرض متقابلين في المشهد ، متقابلين في الحركة على طريقة التناسق الفني في القرآن .
ويعقب على هذا التقابل بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة :
{ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء . إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا } . .
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له انصاراً لهم من دونه ، ينصرونهم منه ويدفعون عنهم سلطانه؟ إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان : { إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا } . . ويا له من نزل مهيأ للاستقبال ، لا يحتاج إلى جهد ولا انتظار . فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار
ثم تختم السورة بالإيقاعات الأخيرة ، تلخص خطوطها الكثيرة ، وتجمع إيقاعاتها المتفرقة :
فأما الإيقاع الأول فهو الإيقاع حول القيم والموازين كما هي في عرف الضالين ، وكما هي على وجه اليقين . . قيم الأعمال وقيم الأشخاص . .
{ قل : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } .
{ قل : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً } الذين لا يوجد من هم أشد منهم خسراناً؟ { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } فلم يؤد بهم إلى الهدى ، ولم ينته بهم إلى ثمرة أو غاية : { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } لأنهم من الغفلة بحيث لا يشعرون بضلال سعيهم وذهابه سدى ، فهم ماضون في هذا السعي الخائب الضال ، ينفقون حياتهم فيه هدراً . .
قل هل ننبئكم من هم هؤلاء؟
وعندما يبلغ من استتارة التطلع والانتظار إلى هذا الحد يكشف عنهم فإذا هم :
{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم } . .
وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها . . وهو أنسب شيء لوصف الأعمال . . إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة . . ثم تنتهي إلى البوار
{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم } . . { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } . .
فهم مهملون ، لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة { يوم القيامة } .