كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{ فلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها طريق النجاة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنها جبل في جهنم ، قاله ابن عمر .
الثالث : أنها نار دون الحشر ، قاله قتادة .
الرابع : أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف ، قاله الضحاك ، قال الكلبي : صعوداً وهبوطاً .
الخامس : أن يحاسب نفسه وهواه وعدوّه الشيطان ، قاله الحسن .
قال الحسن : عقبة والله شديدة .
ويحتمل سادساً : اقتحام العقبة خالصة من الغرض .
وفي معنى الكلام وجهان :
أحدهما : اقتحام العقبة فك رقبة ، قاله الزجاج .
الثاني : معناه فلم يقتحم العقبة إلا مَنْ فكَّ رقبة أو أطعم ، قاله الأخفش .
ثم قال : { وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه اقتحام العقبة .
ثم بين تعالى ما تقتحم به العقبة .
فقال : { فَكُّ رَقَبَةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : إخلاصها من الأسر .
الثاني : عتقها من الرق ، وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط من رقبته ، وسمي عتقاً فكها لأنه كفك الأسير من الأسر ، قال حسان بن ثابت :
كم مِن أسيرٍ فككناه بلا ثَمنٍ ... وجَزّ ناصية كُنّأ مَواليها
وروى عقبة بن عامر الجهني أن النبي عليه السلام قال : من أعتق مؤمنة فهي فداؤه من النار .
ويحتمل ثالثاً : أنه أرد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات ، لا يمنع الخبر من هذا التأويل ، وهو أشبه الصواب .
ثم قال تعالى : { أو إطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبَةٍ } أي مجاعة ، لقحط أو غلاء .
{ يتيماً ذا مَقْرَبةٍ } ويحتمل أن يريد ذا جوار .
{ أو مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ } فيه سبعة أوجه :
أحدها : أن ذا المتربة هو المطروح على الطريق لا بيت له ، قاله ابن عباس ، الثاني : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه ذو العيال ، قاله قتادة .
الرابع : أنه المديون ، قاله عكرمة .
الخامس : أنه ذو زمانة ، قاله ابو سنان .
السادس : أنه الذي ليس له أحد ، قاله ابن جبير .
السابع : أن ذا المتربة : البعيد التربة ، يعني الغريب البعيد عن وطنه ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
{ ثُمَّ كانَ مِنَ الذين آمَنوا وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالصبر على طاعة الله ، قاله الحسن .
الثاني : بالصبر على ما افترض الله عليه ، قاله هشام بن حسان .
الثالث : بالصبر على ما أصابهم ، قاله سفيان .
ويحتمل رابعاً : بالصبر على الدنيا وعن شهواتها .
{ وتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ } أي بالتراحم فيما بينهم ، فرحموا الناس كلهم ويحتمل ثانياً : وتواصوا بالآخرة لأنها دار الرحمة ، فيتواصوا بترك الدنيا وطلب الآخرة .
{ أولئك أصحابُ المَيْمَنَةِ } يعني الجنة ، وفي تسميتهم أصحاب الميمنة أربعة أوجه :
أحدها : لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيمن ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : لأنهم أوتوا كتابهم بأيمانهم ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : لأنهم ميامين على أنفسهم ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : لأنه منزلهم على اليمين ، قاله ميمون .
{ والّذِين كَفَروا بآياتِنا } فيه وجهان :
أحدهما : بالقرآن ، قاله ابن جبير .
الثاني : هي جميع دلائل الله وحُججه ، قاله ابن كامل .
{ هُمْ أصحابُ المشْأَمةٍ } يعني جهنم ، وفي تسميتهم بذلك أربعة أوجه :
أحدها : لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيسر ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : لأنهم أُوتوا كتابهم بشمالهم ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : لأنهم مشائيم على أنفسهم ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : لأن منزلهم عن اليسار ، وهو مقتضى قول ميمون .
{ عليهم نارٌ مُّؤصَدَةٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : المؤصدة المطبقة ، قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة .
الثاني : مسدودة ، قاله مجاهد .
الثالث : لها حائط لا باب له ، قاله الضحاك .
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
مكية عند جميعهم
قوله تعالى { والشّمْسِ وضُحاها } هذان قسمان :
قَسَمٌ بالشمس ، وقَسَم بضحاها ، وفي ضحاها أربعة أوجه :
أحدها : هو إشراقها ، قاله مجاهد .
الثاني : هو إنبساطها ، قاله اليزيدي .
الثالث : حرها ، قاله السدي .
الرابع : هذا النهار ، قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أنه ما ظهر بها من كل مخلوق ، فيكون القسم بها وبالمخلوقات كلها .
{ والقَمَرِ إذا تَلاها } ففيه وجهان :
أحدهما : إذا ساواها ، قاله مجاهد .
الثاني : إذا تبعها ، قاله ابن عباس .
وفي اتباعه لها ثلاثة أوجه :
أحدها : أول ليلة من الشهر إذا سقطت الشمس يرى القمر عند سقوطها ، قاله قتادة .
الثاني : الخامس عشر من الشهر يطلع القمر مع غروب الشمس ، قاله الطبري .
الثالث : في الشهر كله فهو في النصف الأول يتلوها ، وتكون أمامه وهو وراءها ، وإذا كان في النصف الأخير كان هو أمامها وهي وراءه ، قاله ابن زيد .
ويحتمل رابعاً : أنه خلفها في الليل ، فكان له مثل ما لها في النهار لأن تأثير كل واحد منهما في زمانه ، فللشمس النهار . وللقمر الليل .
{ والنّهارِ إذا جَلاَها } فيه وجهان :
أحدهما : أضاءها ، يعني الشمس لأن ضوءها بالنهار يجلي ظلمة الليل ، قاله مجاهد .
الثاني : أظهرها ، لأن ظهور الشمس بالنهار ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
تجلب لنا كالشمس بين غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّتْ بحاجب
ويحتمل ثالثاً : أن النهار جلّى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر لاستتاره ليلاً وانتشاره نهاراً .
{ والليل إذا يَغْشاها } فيه وجهان :
أحدهما : أظلمها ، يعني الشمس ، وهو مقتضى قول مجاهد .
الثاني : يسترها ، ومنه قول الخنساء :
أرْعَى النجومَ وما كُلِّفْتُ رِعْيَتَها ... وتارةً أتغشى فَضْلَ أطْماري
{ والسّماءِ وما بَناها } فيه وجهان :
أحدهما : والسماء وبنائها ، قاله قتادة .
الثاني : معناه ومن بناها وهو الله تعالى ، قاله مجاهد والحسن .
ويحتمل ثالثاً : والسماء وما في بنائها ، يعني من الملائكة والنجوم ، فيكون هذا قسَماً بما في السماءِ ، ويكون ما تقدمه قسَماً بما في الأرض .
{ والأرْضِ وما طَحَاهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه بَسطها ، قاله سفيان وأبو صالح .
الثاني : معناه قسَمها ، قاله ابن عباس .
الثالث : يعني ما خلق فيها ، قاله عطية العوفي ، ويكون طحاها بمعنى خلقها ، قال الشاعر :
وما تَدري جذيمةُ مَنْ طحاها ... ولا من ساكنُ العَرْشِ الرّفيع
ويحتمل رابعاً : أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز ، لأنه حياة لما خلق عليها .
{ ونَفْسٍ وما سَوَّاها } في النفس قولان :
أحدهما : آدم ، ومن سواها : الله تعالى ، قاله الحسن .
الثاني : أنها كل نفس .
وفي معنى سواها على هذا القول وجهان :
أحدهما : سوى بينهم في الصحة ، وسوى بينهم في العذاب جميعاً ، قاله ابن جريج .
الثاني : سوى خلقها وعدل خلقها ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : سوّاها بالعقل الذي فضّلها به على جميع الحيوانات .
{ فأَلْهَمَهَا فجُورَها وتَقْواها } في « ألهمها » تأويلان :
أحدهما : أعلمها ، قاله مجاهد .
الثاني : ألزمها ، قاله ابن جبير .
وفي « فجورها وتقواها » ثلاثة تأويلات :
أحدها : الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد .
الثاني : الشر والخير ، قاله ابن عباس .
الثالث : الطاعة والمعصية ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : الرهبة والرغبة لأنهما داعيا الفجور والتقوى .
وروى جوبير عن الضحاك عن ابن عباس أن النبي عليه السلام كان إذا قرأ هذه الآية « فألهمها فجورها وتقواها » رفع صوته : اللهم آتِ نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وأنت خير من زكّاها .
{ قد أفْلَحَ مَن زكّاها } على هذا وقع القسم ، قال ابن عباس : فيها أحد عشر قسماً .
وفيه وجهان : أحدهما : قد افلح من زكى الله نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال .
الثاني : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال .
وفي زكاها وجهان :
أحدهما : طهّرها ، وهو قول مجاهد .
الثاني : أصلحها ، وهو قول سعيد بن جبير .
{ وقد خابَ من دَسّاها } فيه وجهان :
أحدهما : على ما قضى وقد خاب من دسّى الله نفسه .
الثاني : من دسّى نفسه .
وفي « دسّاها » سبعة تأويلات :
أحدها : أغواها وأضلها ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، لأنه دسّى نفسه في المعاصي ، ومنه قول الشاعر :
وأنت الذي دَسْيت عَمْراً فأصْبَحَتْ ... حلائلهم فيهم أراملَ ضُيّعاً
الثاني : إثمنها وفجورها ، قاله قتادة .
الثالث : خسرها ، قاله عكرمة .
الرابع : كذبها ، قاله ابن عباس .
الخامس : أشقاها ، قاله ابن سلام .
السادس : جنبها في الخير ، وهذا قول الضحاك .
السابع : أخفاها وأخملها بالبخل ، حكاه ابن عيسى .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{ كذّبَتْ ثمودُ بِطَغْواها } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بطغيانها ومعصيتها ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : بأجمعها ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : بعذابها ، قاله ابن عباس .
قالوا كان اسم العذاب الذي جاءها الطّغوى .
{ فدمْدم عليهم ربهم بذَنْبِهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه فغضب عليهم .
الثاني : معناه فأطبق عليهم .
الثالث : معناه فدمّر عليهم ، وهو مثل دمدم ، كلمة بالحبشية نطقت بها العرب .
{ فسوّاها } فيه وجهان :
أحدهما : فسوى بينهم في الهلاك ، قاله السدي ويحيى بن سلام .
الثاني : فسوّى بهم الأرض ، ذكره ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : فسوّى مَن بعدهم مِنَ الأمم .
{ ولا يخافُ عُقباها } فيه وجهان :
أحدهما : ولا يخاف الله عقبى ما صنع بهم من الهلاك ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يخاف الذي عقرها عقبى ما صنع من عقرها ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : ولا يخاف صالح عقبى عقرها ، لأنه قد أنذرهم ونجاه الله تعالى حين أهلكهم .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قوله تعالى { واللّيلِ إذا يَغْشَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا أظلم ، قاله مجاهد .
الثاني : غطى وستر ، قاله ابن جبير .
الثالث : إذا غشى الخلائق فعّمهم وملأهم ، قاله قتادة ، وهذا قَسَم .
{ والنّهارِ إذا تَجَلّى } فيه وجهان :
أحدهما : إذا أضاء ، قاله مجاهد .
الثاني : إذا ظهر ، وهو مقتضى قول ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : إذا أظهر ما فيه من الخلق ، وهذا قسم ثانٍ .
{ وما خَلَقَ الذّكّرّ والأُنثى } قال الحسن : معناه والذي خلق الذكر والأنثى فيكون هذا قسماً بنفسه تعالى .
ويحتمل ثانياً : وهو أشبه من قول الحسن أن يكون معناه وما خلق من الذكر والأنثى ، فتكون « من » مضمرة المعنى محذوفة اللفظ ، وميزهم بخلقهم من ذكر وأنثى عن الملائكة الذين لم يخلقوا من ذكر وأنثى ، ويكون القسم بأهل طاعته من أوليائه وأنبيائه ، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفاً .
وفي المراد بالذكر والأنثى قولان :
أحدهما : آدم وحواء ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : من كل ذكر وأنثى .
فإن حمل على قول الحسن فكل ذكر وأنثى من آدمي وبهيمة ، لأن الله خلق جميعهم .
وإن حمل على التخريج الذي ذكرت أنه أظهر ، فكل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته ، وهذا قسم ثالث :
{ إنّ سَعْيَكم لشَتّى } أي مختلف ، وفيه وجهان :
أحدهما : لمختلف الجزاء ، فمنكم مثاب بالجنة ، ومنكم معاقب بالنار .
الثاني : لمختلف الأفعال ، منكم مؤمن وكافر ، وبر وفاجر ، ومطيع وعاص .
ويحتمل ثالثاً : لمختلف الأخلاق ، فمنكم راحم وقاس ، وحليم وطائش ، وجواد وبخيل ، وعلى هذا وقع القسم .
وروى ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وفي أمية وأبّي ابني خلف حين عذّبا بلالاً على إسلامه ، فاشتراه أبو بكر ، ووفي ثمنه بردةً وعشر أوراقٍ ، وأعتقه للَّه تعالى ، فنزل ذلك فيه .
{ فأمّا من أَعْطَى واتّقَى } قال ابن مسعود يعني أبا بكر .
وفي قوله « أعطى » ثلاثة أوجه :
أحدها : من بذل ماله ، قاله ابن عباس .
الثاني : اتقى محارم الله التي نهى عنها ، قال قتادة .
الثالث : اتقى البخل ، قاله مجاهد .
{ وصَدَّق بالحُسْنَى } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : بتوحيد الله ، وهو قول لا إله إلا الله ، قاله الضحاك .
الثاني : بموعود الله ، قاله قتادة .
الثالث : بالجنة ، قاله مجاهد .
الرابع : بالثواب ، قاله خصيف .
الخامس : بالصلاة والزكاة والصوم ، قاله زيد بن أسلم .
السادس : بما أنعم الله عليه ، قاله عطاء .
السابع : بالخلف من عطائه ، قاله الحسن ، ومعاني أكثرها متقاربة .
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرىَ } فيه تأويلان :
أحدهما : للخير ، قاله ابن عباس .
الثاني : للجنة ، قاله زيد بن أسلم .
ويحتمل ثالثاً : فسنيسر له أسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها .
{ وأمّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغنَى } قال ابن مسعود : يعني بذلك أُمية وأبيّاً ابني خلف . وفي قوله « بخل » وجهان :
أحدهما : بخل بماله الذي لا يبقى ، قاله ابن عباس والحسن .
الثاني : بخل بحق الله تعالى ، قاله قتادة .
« واستغنى » فيه وجهان :
أحدهما : بماله ، قاله الحسن .
الثاني : عن ربه ، قاله ابن عباس .
{ وكَذَّبَ بالحُسْنَى } فيه التأويلات السبعة .
{ فَسنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى } فيه وجهان :
أحدهما : للشر من الله تعالى ، قاله ابن عباس .
الثاني : للنار ، قاله ابن مسعود .
ويحتمل ثالثاً : فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها فعند نزول هاتين الآيتين يروي قتادة عن خليد عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وملكان يناديان : اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً » ، ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى } .
الآية والتي بعدها .
{ وما يُغْنِي عنه ماله إذا تَرَدَّى } فيه وجهان :
أحدهما : إذا تردّى في النار ، قاله أبو صالح وزيد بن أسلم .
الثاني : إذا مات فتردى في قبره ، قاله مجاهد وقتادة .
ويحتمل ثالثاً : إذا تردى في ضلاله وهوى في معاصيه .
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{ إنّ علينا لَلْهُدَى } فيه وجهان :
أحدهما : أن نبيّن سبل الهدى والضلالة قاله يحيى بن سلام .
الثاني : بيان الحلال والحرام ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : علينا ثواب هداه الذي هدينا .
{ وإنَّ لنا لَلآخِرةَ والأُولى } فيه وجهان :
أحدهما : ثواب الدنيا والآخرة ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : ملك الدنيا وملك الآخرة ، قاله مقاتل .
ويحتمل ثالثاً : الله المُجازي في الدنيا والآخرة .
{ فأنذَرْتُكم ناراً تَلَظَّى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه تتغيظ ، قاله الكلبي .
الثاني : تشتعل ، قاله مقاتل .
الثالث : تتوهج ، قاله مجاهد ، وأنشد لعلّي رضي الله عنه :
كأن الملح خالطه إذا ما ... تلظّى كالعقيقة في الظلال
{ لا يَصلاها إلا الأشْقَى } أي الشقّي .
{ والذي كذّب وتولّى } فيه وجهان :
أحدهما : كذّب بكتاب الله وتولّى عن طاعة الله ، قاله قتادة .
الثاني : كذّب الرسولَ وتولّى عن طاعته .
{ وما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمةٍ تُجْزَى * إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأَعْلَى } فيه وجهان :
أحدهما : وما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجازيه بها إلا أن يفعلها ابتغاء وجه ربه فيستحق عليها الجزاء والثواب ، قاله قتادة .
الثاني : وما لبلال عند أبي بكر حين اشتراه فأعتقه من الرق وخلّصه من العذاب نعمةٌ سلفت جازاه عليها بذلك إلا ابتغاء وجه ربه وعتقه ، قاله ابن عباس وابن مسعود { ولَسوفَ يَرْضَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : يرضى بما أعطيه لسعته .
الثاني : يرضى بما أعطيه لقناعته ، لأن من قنع بغير عطاء كان أطوع لله .
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
قوله تعالى { والضُّحَى } هو قَسَمٌ ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس ، قاله السدي .
الثاني : أنه صدر النهار ، قاله قتادة .
الثالث : هو طلوع الشمس ، قاله قطرب .
الرابع : هو ضوء النهار في اليوم كله ، مأخوذ من قولهم ضحى فلان الشمس ، إذا ظهر لها ، قاله مجاهد ، والاشتقاق لعلي بن عيسى .
{ والليلِ إذا سَجى } وهو قَسَم ثان ، وفيه خمسة تأويلات :
أحدها : إذا أقبل ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : إذا أظلم ، قاله ابن عباس .
الثالث : إذا استوى ، قاله مجاهد .
الرابع : إذا ذهب ، قاله ابن حنطلة عن ابن عباس .
الخامس : إذا سكن الخلق فيه ، قاله عكرمة وعطاء وابن زيد ، مأخوذ من قولهم سجى البحر إذا سكن ، وقال الراجز :
يا حبذا القمراءُ والليلِ الساج ... وطُرُقٌ مِثْلُ ملاءِ النسّاج
{ ما ودَّعَكَ ربُّكَ وما قَلَى } اختلف في سبب نزولها ، فروى الأسود بن قيس عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمي بحجر في إصبعه فدميت ، فقال :
هل أنت إلاّ أصبعٌ دَميتِ ... وفي سبيل اللَّه ما لَقِيتِ
قال فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم ، فقالت له امرأة يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزل عليه : { ما ودعك ربك وما قلى } . وروى هشام عن عروة عن أبيه قال : أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع لذلك جزعاً شديداً ، قالت عائشة : فقال كفار قريش : إنا نرى ربك قد قلاك ، مما رأوا من جزعه ، فنزلت : { ما ودعك ربك وما قلى } ، وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشرة ليلة فقال المشركون : لقد ودع محمداً ربُّه ، فنزلت : { ما ودعك ربك وما قلى } .
وفي « وَدَّعَك » قراءتان :
أحدهما : قراءة الجمهور ودّعك ، بالتشديد ، ومعناها : ما انقطع الوحي عنك توديعاً لك .
والثانية : بالتخفيف ، ومعناها : ما تركك إعراضاً عنك .
« وما قلى » أي ما أبغضك ، قال الأخطل :
المهْديات لمن هوين نسيئةً ... والمحْسِنات لمن قَلَيْنَ مقيلاً
{ ولَلآخرةُ خير لك مِنَ الأُولى } روى ابن عباس قال : عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده ، فسُرّ بذلك ، فأنزل الله تعالى : « وللآخرة خير لك من الأُولى » الآية .
وفي قوله { وللآخرة خير لك من الأولى } وجهان :
أحدهما : وللآخرة خير لك مما أعجبك في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن مآلك في مرجعك إلى الله تعالى أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا ، قاله ابن شجرة .
{ ولسوف يُعْطيك ربُّك فَتَرْضَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعطيك من النصر في الدنيا ، وما يرضيك من إظهار الدين .
الثاني : يعطيك المنزلة في الآخرة ، وما يرضيك من الكرامة .
{ ألمْ يَجِدْك يتيماً فآوَى } واليتيم بموت الأب ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبويه وهو صغير ، فكفله جده عبد المطلب ، ثم مات فكفله عمه أبو طالب ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد يتم الأبوة بموت من فقده من أبويه ، فعلى هذا في قوله تعالى « فآوى » وجهان :
أحدهما : أي جعل لك مأوى لتربيتك ، وقيمّاً يحنو عليك ويكفلك وهو أبو طالب بعد موت عبد الله وعبد المطلب ، قاله مقاتل .
الثاني : أي جعل لك مأوى نفسك ، وأغناك عن كفالة أبي طالب ، قاله الكلبي .
والوجه الثاني : أنه أراد باليتيم الذي لا مثيل له ولا نظير ، من قولهم درة يتيمة ، إذا لم يكن لها مثيل ، فعلى هذا في قوله « فآوى » وجهان :
أحدهما : فآواك إلى نفسه واختصك برسالته .
الثاني : أن جعلك مأوى الأيتام بعد أن كنت يتيماً ، وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولاً ، تذكيراً بنعمه عليه ، وهو محتمل .
{ وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ووجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها ، قاله الطبري .
الثالث : ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم ، وهذا معنى قول السدي .
الرابع : ووجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها .
الخامس : ووجدك ناسياً فأذكرك ، كما قال تعالى : { أن تَضِل إحداهما } .
السادس : ووجدك طالباً القبلة فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى الطلب ، لأن الضال طالب .
السابع : ووجدك متحيراً في بيان من نزل عليك فهداك إليه ، فيكون الضلال بمعنى التحير ، لأن الضال متحير .
الثامن : ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع ، لأن الضال ضائع .
التاسع : ووجدك محباً للهداية فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة ، ومنه قوله تعالى : { قالوا تاللَّه إنك لفي ضلالك القديم } أي في محبتك ، قال الشاعر :
هذا الضلال أشاب مِنّي المفرقا ... والعارِضَيْن ولم أكنْ مُتْحقّقاً
عَجَباً لَعِزّةَ في اختيارِ قطيعتي ... بعد الضّلالِ فحبْلُها قد أخْلقاً
وقرأ الحسن : ووجدَك ضالٌّ فهُدِي ، أي وجَدَك الضالُّ فاهتدى بك ، { ووجَدَك عائلاً فأَغْنَى } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وجدك ذا عيال فكفاك ، قاله الأخفش ، ومنه قول جرير :
الله أنْزَلَ في الكتابِ فَرِيضةً ... لابن السبيل وللفقير العائلِ
الثاني : فقيراً فيسَّر لك ، قاله الفراء ، قال الشاعر :
وما يَدْري الفقيرُ متى غناه ... وما يَدْري الغنيُّ متى يَعيِلُ
أي متى يفتقر .
الثالث : أي وجدك فقيراً من الحُجج والبراهين ، فأغناك بها .
الرابع : ووجدك العائلُ الفقير فأغناه الله بك ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصوته الأعلى ثلاث مرات : « يَمُنّ ربي عليّ وهو أهلُ المَنّ »
{ فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : فلا تحقر ، قاله مجاهد .
الثاني : فلا تظلم ، رواه سفيان .
الثالث : فلا تستذل ، حكاه ابن سلام .
الرابع : فلا تمنعه حقه الذي في يدك ، قاله الفراء .
الخامس : ما قاله قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم ، وهي في قراءة ابن مسعود : فلا تكْهَر ، قاله أبو الحجاج : الكهر الزجر .
روى أبو عمران الجوني عن أبي هريره أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه ، فقال : « إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطْعِم المسكينَ »
{ وأَمّا السائلَ فلا تَنْهَر } في رده إن منعته ، ورُدّه برحمة ولين ، قاله قتادة .
الثاني : السائل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجِبْهُ برفق ولين ، قاله سفيان .
{ وأمّا بِنَعْمِة ربِّكَ فحدِّثْ } في هذه النعمة ثلاثة تأويلات :
أحدها : النبوة ، قاله ابن شجرة ، ويكون تأويل قوله فحدث أي ادعُ قومك .
الثاني : أنه القرآن ، قاله مجاهد ، ويكون قوله : فحدث أي فبلّغ أمتك .
الثالث : ما أصاب من خير أو شر ، قاله الحسن .
« فحدث » فيه على هذا وجهان :
أحدهما : فحدّث به الثقة من إخوانك ، قاله الحسن .
الثاني : فحدِّث به نفسك ، وندب إلى ذلك ليكون ذِكرها شكراً .
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قوله تعالى { أَلمْ نَشْرَحْ لك صَدْرَكَ } وهذا تقرير من الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم عند انشراح صدره لما حمله من نبوّته .
وفي « نشرح » وجهان :
أحدهما : أي أزال همك منك حتى تخلو لما أُمِرت به .
الثاني : أي نفتح لك صدرك ليتسع لما حملته عنه فلا يضيق ، ومنه تشريح اللحم لأنه فتحه لتقديده .
وفيما شرح صدره ثلاثة أقاويل :
أحدها : الإسلام ، قاله ابن عباس .
الثاني : بأن ملىء حكمة وعلماً ، قاله الحسن .
الثالث : بما منّ عليه من الصبر والاحتمال ، قاله عطاء .
ويحتمل رابعاً : بحفظ القرآن وحقوق النبوّة .
{ ووَضَعْنا عنك وِزْرَكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : وغفرنا لك ذنبك ، قاله مجاهد ، وقال قتادة : كان للنبي ذنوب أثقلته فغفرها الله تعالى له .
الثاني : وحططنا عنك ثقلك ، قاله السدي . وهي في قراءة ابن مسعود ، وحللنا عنك وِقرك .
الثالث : وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس حتى نزل عليك الوحيُ وأنت مطهر من الأدناس .
ويحتمل رابعاً : أي أسقطنا عنك تكليف ما لم تُطِقْه ، لأن الأنبياء وإن حملوا من أثقال النبوة على ما يعجز عنه غيرهم من الأمة فقد أعطوا من فضل القوة ما يستعينون به على ثقل النبوة ، فصار ما عجز عنه غيرهم ليس بمطاق .
{ الذي أنقَضَ ظَهْرَكَ } أي أثقل ظهرك ، قاله ابن زيد كما ينقض البعير من الحمل الثقيل حتى يصير نِقْضاً .
وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أثقل ظهره بالذنوب حتى غفرها .
الثاني : أثقل ظهره بالرسالة حتى بلّغها .
الثالث : أثقل ظهره بالنعم حتى شكرها .
{ ورَفَعْنا لك ذِكْرَكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ورفعنا لك ذكرك بالنبوة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ورفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا .
الثالث : أن تذكر معي إذا ذكرت ، روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أتاني جبريل عليه السلام فقال : إن الله تعالى يقول أتدري كيف رفعْت ذكرك؟ فقال : الله أعلم ، فقال : إذا ذُكرتُ ذُكِرْتَ » قاله قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب يخطب ولا يتشهد ، ولا صاحب صلاة إلا ينادي :
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
{ فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً } فيه وجهان :
أحدهما : إن مع اجتهاد الدنيا خير الآخرة .
الثاني : إن مع الشدة رخاء ، ومع الصبر سعة ، ومع الشقاوة سعادة ، ومع الحزونة سهولة .
ويحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن مع العسر يسراً عند الله ليفعل منهما ما شاء .
الثاني : إن مع العسر في الدنيا يسراً في الآخرة .
الثالث : إن مع العسر لمن بُلي يسراً لمن صبر واحتسب بما يوفق له من القناعة أو بما يعطى من السعة .
قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده لو كان العسر في حَجَرٍ لطلبه اليسر حتى يدخل عليه « ولن يغلب عسْرٌ يُسْرَين » .
وإنما كان العسر في الموضعين واحداً ، واليسر اثنين ، لدخول الألف واللام على العسر وحذفها من اليسر .
وفي تكرار « مع العسر يسرا » وجهان : أحدهما : ما ذكرنا من إفراد العسر وتثنية اليسر ، ليكون أقوى للأمل وأبعث على الصبر ، قاله ثعلب .
الثاني : للإطناب والمبالغة ، كما قالوا في تكرار الجواب فيقال بلى بلى ، لا لا ، قاله الفراء وقال الشاعر :
هممتُ بِنْفسيَ بَعْضَ الهُموم ... فأَوْلَى لنفْسِيَ أولى لها .
{ فإذا فَرَغتَ فانَصَبْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : فإذا فرغت من الفرائض فانصب من قيام الليل ، قاله ابن مسعود .
الثاني : فإذا فرغت من صلاتك فانصب في دعائك ، قاله الضحاك .
الثالث : فإذا فرغت من جهادك عدوك فانصب لعبادة ربك ، قاله الحسن وقتادة .
الرابع : فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك ، قاله مجاهد .
ويحتمل تأويلاً خامساً : فإذا فرغت من إبلاغ الرسالة فانصب لجهاد عدّوك .
{ وإلى ربِّكَ فارْغَبْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فارغب إليه في دعائك قاله ابن مسعود .
الثاني : في معونتك .
الثالث : في إخلاص نيتك ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : فارغب إليه في نصرك على أعدائك .
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : هي مدنية .
قوله تعالى { والتّينِ والزَّيْتُونِ } هما قَسَمان ، وفيهما ثمانية تأويلات :
أحدها : أنهما التين والزيتون المأكولان ، قاله الحسن وعكرمة ومجاهد .
الثاني : أن التين دمشق ، والزيتون بيت المقدس ، قاله كعب الأحبار وابن زيد .
الرابع : أن التين مسجد دمشق ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، قاله الحارث وابن زيد .
الخامس : الجبل الذي عليه التين ، والجبل الذي عليه الزيتون ، قاله ابن قتيبة ، وهما جبلان بالشام يقال لأحدهما طور زيتا ، وللآخر طور تيناً ، وهوتأويل الربيع .
وحكى ابن الأنباري أنهما جبلان بين حلوان وهمدان ، وهو بعيد .
السادس : أن التين مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون مسجد ايليا ، قاله محمد بن كعب .
السابع : أن التين مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، قاله ابن عباس .
الثامن : أنه أراد بهما نعم الله تعالى على عباده التي منها التين والزيتون ، لأن التين طعام ، والزيتون إدام .
{ وطورِ سِينينَ } وهو قَسَم ثالث وفيه قولان :
أحدهما : أنه جبل بالشام ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام ، قاله كعب الأحبار .
وفي قوله « سينين » أربعة أوجه :
أحدها : أنه الحسن بلغة الحبشة ، ونطقت به العرب ، قاله الحسن وعكرمة .
الثاني : أنه المبارك ، قاله قتادة .
الثالث : أنه اسم البحر ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : أنه اسم للشجر الذي حوله ، قاله عطية .
{ وهذا البلدِ الأَمينِ } يعني بالبلد مكة وحرمها ، وفي الأمين وجهان :
أحدهما : الآمن أهله من سبي أو قتل ، لأن العرب كانت تكف عنه في الجاهلية أن تسبي فيه أحداً أو تسفك فيه دماً .
الثاني : يعني المأمون على ما أودعه الله تعالى فيه من معالم الدين ، وهذا قَسَم رابع .
{ لقد خَلَقْنا الإنسانَ } وفي المراد بالإنسان ها هنا قولان :
أحدهما : أنه أراد عموم الناس ، وذكر الإنسان على وجه التكثير لأنه وصفه بما يعم لجميع الناس .
الثاني : أنه أراد إنساناً بعينه عناه بهذه الصفة ، وإن كان صفة الناس .
واختلف فيمن أراده الله تعالى ، على خمسة أوجه :
أحدها : أنه عنى كلدة بن أسيد ، قاله ابن عباس .
الثاني : أبا جهل ، قاله مقاتل .
الخامس : أنه عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله { في أَحْسَنِ تقْويمٍ } أربعة أقاويل :
أحدها : في أعدل خلق ، قاله ابن عباس .
الثاني : في أحسن صورة ، قاله أبو العالية .
الثالث : في شباب وقوة ، قاله عكرمة .
الرابع : منتصب القامة ، لأن سائر الحيوان مُنْكَبٌّ غير الإنسان ، فإنه منتصب ، وهو مروي عن ابن عباس .
ويحتمل خامساً : أي في أكمل عقل ، لأن تقويم الإنسان بعقله ، وعلى هذا وقع القَسَم .
{ ثم ردَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ } فيه قولان :
أحدهما : إلى الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، قاله الضحاك والكلبي ، ويكون أسفل بمعنى بعد التمام .
الثاني : بعد الكفر ، قاله مجاهد وأبو العالية ، ويكون أسفل السافلين محمولاً على الدرك الأسفل من النار .
ويحتمل ثالثاً : إلى ضعف التمييز بعد قوّته .
{ فلهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنونٍ } فيه ستة أوجه :
أحدها : غير منقوص ، قاله ابن عباس ، وقال الشاعر :
يا عين جودي بدمع غير ممنون ... . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثالث : غير مكدر بالمنّ والأذى ، قاله الحسن .
الرابع : غير مقطوع ، قاله ابن عيسى .
الخامس : أجر بغير عمل ، قاله الضحاك .
وحكي أن من بلغ الهرم كتب له أجر ما عجز عنه من العمل الصالح .
السادس : أن لا يضر كل أحد منهم ما عمله في كبره ، قاله ابن مسعود .
{ فما يُكذِّبُكَ بَعْدُ بالدِّينِ } فيه وجهان :
أحدهما : حكم الله تعالى ، قاله ابن عباس .
الثاني : الجزاء ، ومنه قول الشاعر :
دِنّا تميماً كما كانت أوائلُنا ... دانَتْ أوائلَهم في سالفِ الزَّمَنِ
{ أليْسَ اللهُ بأحْكَمِ الحاكِمينَ } وهذا تقرير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم ، وفيه وجهان :
أحدهما : بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلاً بين الخلق وفيه مضمر محذوف ، وتقديره : فلِمَ ينكرون مع هذه الحال البعث والجزاء .
وكان عليّ رضي الله عنه إذا قرأ { أليس الله بأحكم الحاكمين } قال : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ونختار ذلك .
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
قوله : { اقرأ باسْمِ ربِّك الذي خَلَقَ } روي عن عبيد بن عمير قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتاه بنمط فغطّه فقال : اقرأ ، فقال : والله ما أنا بقارىء ، فغطّه ثم قال : اقرأ ، فقال : والله ما أنا بقارىء فغطّه غطاً شديداً ثم قال : { اقرأ باسم ربك الذي خَلَقَ } أي استفتح قراءتك باسم ربك الذي خلق وإنما قال الذي خلق لأن قريشاً كانت تعبد آلهة ليس فيهم خالق غيره تعالى ، فميّز نفسه بذلك ليزول عنه الالتباس .
روت عائشة رضي الله عنها أنها أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعدها « نون والقلم » ثم بعدها « يا أيها المدثر » ثم بعدها « والضحى » .
{ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ } يريد بالإنسان جنس الناس كلهم ، خلقوا من علق بعد النطفة ، والعلق جمع علقة ، والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفت لم تكن علقة ، قال الشاعر :
تركْناه يخرُّ على يديْه ... يَمُجُّ عليهما عَلَقَ الوتين
ويحتمل مراده بذلك وجهين :
أحدهما : أن يبين قدر نعمته على الإنسان بأن خلقه من علقة مهيئة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً متميزاً .
الثاني : أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل ، كذلك نقلك من الجهالة إلى النبوة حتى تستكمل محلها .
{ اقْرَأ وربُّكَ الأكْرَمُ } أي الكريم .
ويحتمل ثانياً : اقرأ بأن ربك هو الأكرم ، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه دل بها على نعمة كرمه . قال إبراهيم بن عيسى اليشكري : من كرمه أن يرزق عبده وهو يعبد غيره .
{ الذي علّمَ بالقَلَمِ } أي عَلّم الكاتب أن يكتب بالقلم ، وسمي قلماً لأنى يقلم أي يقطع ، ومنه تقليم الظفر .
وروى مجاهد عن ابن عمر قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ثم قال لسائر الخلق : كن ، فكان ، القلم والعرش وجنة عدن وآدم .
وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أراد آدم عليه السلام ، لأنه أول من كتب ، قاله كعب الأحبار .
الثاني : إدريس وهو أول من كتب ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه أراد كل من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله له ، وجمع بذلك بين نعمته تعالى عليه في خلقه وبين نعمته تعالى عليه في تعليمه استكمالاً للنعمة عليه .
{ علَّمَ الإنسانَ مالم يَعْلَمْ } فيه وجهان :
أحدهما : الخط بالقلم ، قاله قتادة وابن زيد .
الثاني : علمه كل صنعه علمها فتعلم ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : علمه من حاله في ابتداء خلقه ما يستدل به على خلقه وأن ينقله من بعد على إرادته .
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ كلا إنّ الإنسانَ لَيطْغَى } في « كلا » ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه ردّ وتكذيب ، قاله الفراء .
الثاني : أنه بمعنى إلا ، وكذلك { كلا سوف يعلمون } ، قاله أبو حاتم السجستاني .
وفي قوله « ليطغى » أربعة أوجه :
الثاني : ليبطر ، قاله الكلبي .
الثالث : ليرتفع من منزلة إلى منزلة ، قاله السدي .
الرابع : ليتجاوزه قدره ، ومنه قوله تعالى { إنّا لما طَغَى الماءُ } قاله ابن شجرة .
{ أَن رآه اسْتَغْنَى } أي عن ربه ، قاله ابن عباس .
ويحتمل ثانياً : استغنى بماله وثروته ، وقال الكلبي : نزلت في أبي جهل .
{ إنّ إلى ربِّك الرُّجْعَى } فيه وجهان :
أحدهما : المنتهى ، قاله الضحاك .
الثاني : المرجع في القيامة .
ويحتمل ثالثاً : يرجعه الله إلى النقصان بعد الكمال ، وإلى الموت بعد الحياة .
{ أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى } نزلت في أبي جهل ، روى أبو هريرة أن أبا جهل قال : واللات والعزّى لئن رأيت محمداً يصلّي بين أظهركم لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه في التراب ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته ، فما فجأه منه إلا وهو ينكص ، أي يرجع على عقبيه ، فقيل له : ما لك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهواء وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً » .
وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل » .
وكانت الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله صلاة الظهر . وحكى جعفر بن محمد أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام ، يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل ، صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ رضي الله عنه فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال : صل جناح ابن عمك ، وانصرف مسروراً يقول :
إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي ... عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
والله لا أخذل النبيّ ولا ... يخذله من كان ذا حَسَبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... أخي لأمي من بنيهم وأبي
فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .
{ أرأيْتَ إن كان على الهُدَى أو أمَرَ بالتّقْوَى } فيه قولان :
أحدهما : يعني أبا جهل ، ويكون فيه إضمار ، وتقديره : ألم يكن خيراً له . الثاني : هو النبي صلى الله عليه وسلم كان على الهدى في نفسه ، وأمر بالتقوى في طاعة ربه . وفي قوله « أرأيْتَ » احتمال الوجهين :
أحدهما : أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : خطاب عام له ولأمته ، والمراد به على الوجهين هدايته ، ويكون في الكلام محذوف ، وتقديره : هكذا كان يفعل به .
{ أرأَيْتَ إن كَذَّبَ وَتَوَلّى } يعني أبا جهل ، وفيه وجهان :
أحدهما : كذب بالله وتولى عن طاعته .
الثاني : كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان .
ويحتمل ثالثاً : كذب بالرسول وتولى عن القبول .
{ ألم يَعْلَمْ بأنَّ الله يَرَى } يعني أبا جهل ، وفيه وجهان :
أحدهما : ألم تعلم يا محمد أن الله يرى أبا جهل؟
الثاني : ألم تعلم يا أبا جهل أن الله يراك؟
وفيه وجهان :
أحدهما : يرى عمله ويسمع قوله .
الثاني : يراك في صلاتك حين نهاك أبو جهل عنها .
ويحتمل ثالثاً : يرى ما همّ به أبو جهل فلا يمكنه من رسوله .
{ كلا لئِن لم يَنْتَهِ لنسفعاً بالنّاصِيةِ } يعني أبا جهل ، وفيه وجهان :
أحدهما : يعني لنأخذن بناصيته ، قاله ابن عباس ، وهو عند العرب أبلغ في الاستذلال والهوان ، ومنه قول الخنساء :
جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنّون أنْ لن تُجَزَّا
الثاني : معناه تسويد الوجوه وتشويه الخلقة بالسفعة السوداء ، مأخوذ من قولهم قد سفعته النار أو الشمس إذا غيرت وجهه إلى حالة تشويه ، وقال الشاعر :
أثافيَّ سُفْعاً مُعَرَّس مِرَجلٍ ... ونُؤْياً كجِذم الحوضِ لم يَتَثَلّمِ
والناصية شعر مقدم الرأس ، وقد يعبّر بها عن جملة الإنسان ، كما يقال هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان .
ثم قال : { ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ } يعني ناصية أبي جهل كاذبة في قولها ، خاطئة في فعلها .
{ فلْيَدْعُ نادِيَةُ } يعني أبا جهل ، والنادي مجلس أهل الندى والجود ومعنى « فليدع نادية » أي فليدع أهل ناديه من عشيرة أو نصير .
{ سَنَدْعُ الزّبانِيةَ } والزبانية هم الملائكة من خزنة جهنم ، وهم أعظم الملائكة خلقاً وأشدهم بطشاً ، والعرب تطلق هذا الإسم على من اشتد بطشه ، قال الشاعر :
مَطاعيمُ في القُصْوى مَطاعينُ في الوَغى ... زبانيةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلومها
{ كلا لا تُطِعْهُ } قال أبو هريرة : كلا لا تطع أبا جهل في أمره .
ويحتمل نهيه عن طاعته وجهين :
أحدهما : لا تقبل قوله إن دارك ولا رأيه إن قاربك .
الثاني : لا تجبه عن قوله ، ولا تقابله على فعله ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اللهم لا تطع فينا مسافراً » أي لا تجب دعاءه لأن المسافر يدعو بانقطاع المطر فلو أجيبت دعوته لهلك الناس .
{ واسْجُدْ واقْتَرِبْ } فيه وجهان :
أحدهما : اسجد أنت يا محمد مصلياً ، واقترب أنت يا أبا جهل من النار ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : اسجد أنت يا محمد في صلاتك لتقرب من ربك ، فإن أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى إذا سجد له .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : أنزل في أبي جهل أربع وثمانون آية ، وأنزل في الوليد بن المغيرة مائة وأربع آيات ، وأنزل في النضر بن الحارث اثنتان وثلاثون آية .
وإذا كانت هذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الأكثرين فقد روي في ترتيب السور بمكة والمدينة أحاديث ، أوفاها ما رواه آدم ابن أبي أناس عن أبي شيبة شعيب بن زريق عن عطاء الخراساني قال : بلغنا أن هذا ما نزل من القرآن بمكة والمدينة الأول فالأول ، فكان أول ما نزل فيما بلغنا : « اقرأ باسم ربك » ثم « ن والقلم ، المزمل ، المدثر ، تبّت ، إذا الشمس كورت ، سبّح اسم ربك ، الليل ، الفجر ، الضحى ، ألم نشرح ، العصر ، العاديات ، الكوثر ، ألهاكم ، أرأيت ، الكافرون ، الفيل ، الفلق ، الإخلاص ، النجم ، عبس ، القدر ، والشمس ، البروج ، التين ، لإيلاف ، القارعة ، القيامة ، الهُمزة ، المرسلات ، ق ، البلد ، الطارق ، القمر ، ص ، الأعراف ، قل أوحى ، يس ، الفرقان ، الملائكة ، مريم ، طه ، الواقعة ، الشعراء ، النمل ، القصص ، بنو إسرائيل ، يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، الأنعام ، الصافات ، لقمان ، سبأ ، الزمر ، المؤمن ، حم السجدة ، عسق ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف ، الذاريات ، الغاشية ، الكهف ، النحل ، نوح ، إبراهيم ، الأنبياء ، قد أفلح ، السجدة ، الطور ، الملك ، الحاقة ، سأل سائل ، النبأ ، النازعات ، الانفطار ، الانشقاق ، الروم ، العنكبوت ، المطففين .
فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة .
وكان فيما نزل بالمدينة البقرة ، ثم الأنفال ، آل عمران ، الأحزاب ، الممتحنة ، النساء ، الزلزلة ، الحديد ، سورة محمد ، الرعد ، الرحمن ، هل أتى ، الطلاق ، لم يكن ، الحشر ، النصر ، النور ، الحج ، المنافقون ، المجادلة ، الحجرات ، التحريم ، الجمعة ، الصف ، الفتح ، المائدة ، براءة .
فهذه سبع وعشرون سورة نزلت بالمدينة .
ولم تكن الفاتحة والله أعلم ضمن ما ذكره ، وقد اختلف الناس في نزول السور اختلافاً كثيراً ، لكن وجدت هذا الحديث أوفى وأشفى فذكرته .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فيه وجهان :
أحدهما : يعني جبريل ، أنزله الله في ليلة القدر بما نزل به من الوحي .
الثاني : يعني القرآن؛ وفيه قولان :
أحدهما : ما روى ابن عباس قال : نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمته السفرة على جبريل في عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة ، وكان ينزل على مواقع النجوم أرسالاً في الشهور والأيام .
القول الثاني : أن الله تعالى ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر ، قاله الشعبي .
واختلف في ليلة القدر مع اتفاقهم أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها في وتر العشر أوجد ، إلا ابن عمر فإنه زعم أنها في الشهر كله .
فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري ، وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس إلى أنها في ليلة سبع وعشرين .
واختلف في الدليل ، فاستدل أبيّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من علامتها أن تصبح الشمس لا شعاع لها » ، قال : وقد رأيت ذلك في صبيحة سبع وعشرين ، واستدل ابن عباس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سورة القدر ثلاثون كلمة فهي في قوله « سلام » و « هي » الكلمة السابعة والعشرون ، فدل أنها فيها .
وقال آخرون : هي في ليلة أربع وعشرين للخبر المروي في تنزيل الصحف ، وقال آخرون : إن الله تعالى ينقلها في كل عام من ليلة إلى أخرى ليكون الناس في جميع العشر مجتهدين ، ولرؤيتها متوقعين .
وفي تسميتها ليلة القدر أربعة أوجه :
أحدها : لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن .
الثاني : لأن الله تعالى يقدر فيها أمور السنة ، أي يقضيها ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : لعظم قدرها وجلالة خطرها ، من قولهم رجل له قدر ، ذكره ابن عيسى .
الرابع : لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً .
{ وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ } تنبيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على فضلها ، وحثّاً على العمل فياه ، قال الشعبي : وليلتها كيومها ، ويومها كليلتها .
قال الفراء : كل ما في القرآن من قوله تعالى : « وما أدراك » فقد أدراه ، وما كان من قوله « وما يدريك » فلم يدره .
قال الضحاك : لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم ، ويقدر في غيرها البلايا والنقم ، وقال عكرمة : كان ابن عباس يسمي ليلة القدر ليلة التعظيم ، وليلة النصف من شعبان ليلة البراءة ، وليلتي العيدين ليلة الجائزة .
{ ليلةُ القدْرِ خيرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : ليلة القدر خير من عمر ألف شهر ، قاله الربيع .
الثاني : أن العمل في ليلة القدر خير من العمل في غيرها ألف شهر ، قاله مجاهد .
الثالث : أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، قاله قتادة .
الرابع : أنه كان رجل في بني إسرائيل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدوّ حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأخبر الله تعالى أن قيام ليلة القدر خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر ، رواه ابن أبي نجيح ومجاهد .
الخامس : أن ملك سليمان كان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين كان خمسمائة شهر ، فصار ملكهما ألف شهر ، فجعل العمل في ليلة القدر خيراً من زمان ملكهما .
{ تَنَزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها } قال أبو هريرة : الملائكة في ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى .
وفي « الروح » ها هنا أربعة أقاويل :
أحدها : جبريل عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : حفظة الملائكة ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : أنهم أشرف الملائكة وأقربهم من الله ، قاله مقاتل .
الرابع : أنهم جند من الله من غير الملائكة ، رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً .
ويحتمل إن لم يثبت فيه نص قولاً خامساً : أن الروح والرحمة تنزل بها الملائكة على أهلها ، دليله قوله تعالى : { ينزّل الملائكة بالرُّوح من أمْره على من يشَاءُ من عباده } أي بالرحمة .
{ بإذْن ربِّهم } يعني بأمر ربهم .
{ مِن كل أمْرٍ } يعني يُقضى في تلك الليلة من رزق وأجل إلى مثلها من العام القابل .
وقرأ ابن عباس : من كل امرىء ، فتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة فيسلمون على كل امرىء مسلم .
{ سلامٌ هي حتى مطلع الفَجْر } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن ليلة القدر هي ليلة سالمة من كل شر ، لا يحدث فيها حدث ولا يرسل فيها شيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : أن ليلة القدر هي سلام وخير وبركة ، قاله قتادة .
الثالث : أن الملائكة تسلم على المؤمنين في ليلة القدر إلى مطلع الفجر ، قاله الكلبي .
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قوله تعالى { لم يَكُنِ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكينَ مُنفَكِّينَ } معناه لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب ، وغيرهم الذين ليس لهم كتاب . . « منفكين » فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لم يكونوا منتهين عن الشرك { حتى تأتيهم البَيِّنَةُ } حتى يتبين لهم الحق . وهذا قول ثان : لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة ، يعنى الرسل ، قاله الربيع .
الثالث : لم يفترقوا ولم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم رسولاً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وتفرقوا ، فمنهم من آمن بربه ، ومنهم من كفر ، قاله ابن عيسى .
الرابع : لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله تعالى ، حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها عليهم الحجة ، قال امرؤ القيس :
إذا قُلْتُ أَنْفَكَّ مِن حُبّها ... أبى عالقُ الحُبِّ إلا لُزوما
وفي « البيّنة » ها هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : الرسول الذي بانت فيه دلائل النبوة .
الثالث : بيان الحق وظهور الحجج .
وفي قراءة أبيّ بن كعب : ما كان الذي كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، وفي قراءة ابن مسعود : لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين .
{ رسولٌ مِن الله } يعني محمداً .
{ يَتْلُواْ صُحُفاً مُطَهّرَةً } يعني القرآن .
ويحتمل ثانياً : يتعقب بنبوته نزول الصحف المطهرة على الأنبياء قبله . وفي { مطهرة } وجهان :
أحدهما : من الشرك ، قاله عكرمة .
الثاني : مطهرة الحكم بحسن الذكر والثناء ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : لنزولها من عند الله .
{ فيها كُتُبٌ قَيِّمةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها ، وثبت فيه صدقها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : يعني فروض الله العادلة ، قاله السدي .
{ وما تَفَرَّقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ } يعني اليهود والنصارى .
{ إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءتْهم البْيِّنَةُ } فيه قولان :
احدهما : القرآن ، قاله أبو العالية .
الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : البينة ما في كتبهم من صحة نبوته .
{ وما أُمِروا إلاّ ليَعْبُدوا الله مُخْلِصينَ له الدِّينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مُقِرِّين له بالعبادة .
الثاني : ناوين بقلوبهم وجه الله تعالى في عبادتهم .
الثالث : إذا قال لا إله إلا الله أن يقول على أثرها « الحمد لله » ، قاله ابن جرير .
ويحتمل رابعاً : إلا ليخلصوا دينهم في الإقرار بنبوته .
{ حُنفاءَ } فيه ستة أوجه :
أحدها : متبعين .
الثاني : مستقيمين ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : مخلصين ، قاله خصيف .
الرابع : مسلمين ، قاله الضحاك ، وقال الشاعر :
أخليفة الرحمنِ إنا مَعْشرٌ ... حُنفاءُ نسجُدُ بُكرةً وأصيلاً
الخامس : يعني حجّاجاً ، قاله ابن عباس؛ وقال عطية العوفي : إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد الحنيف كان معناه المسلم ، وقال سعيد بن جبير : لا تسمي العرب الحنيف إلا لمن حج واختتن .
السادس : أنهم المؤمنون بالرسل كلهم ، قاله أبو قلابة .
{ ويُقيموا الصّلاةَ ويُؤْتُوا الزّكاةَ وذلكَ دينُ القَيِّمَةِ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه وذلك دين الأمة المستقيمة .
الثاني : وذلك دين القضاء القيم ، قاله ابن عباس .
الثالث : وذلك الحساب المبين ، قاله مقاتل .
ويحتمل رابعاً : وذلك دين من قام لله بحقه .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية * إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله تعالى { إذا زُلزِلت الأرض زِلزالها } أي حركت الأرض حركتها ، والزلزلة شدة الحركة ، فيكون من زل يزل .
وفي قوله { زِلزالها } وجهان :
أحدهما : لأنها غاية زلازلها المتوقعة .
الثاني : لأنها عامة في جميع الأرض ، بخلاف الزلازل المعهودة في بعض الأرض .
وهذا الخطاب لمن لا يؤمن بالبعث وعيد وتهديد ، ولمن يؤمن به إنذار وتحذير ، واختلف في هذه الزلزلة على قولين : أحدهما : أنها في الدنيا من أشراط الساعة ، وهو قول الأكثرين .
الثاني : أنها الزلزلة يوم القيامة ، قاله خارجة بن زيد وطائفة .
{ وأَخْرَجَتِ الأرضُ أَثْقَالَها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : . . . . . . . . . . . .
الثاني : ما عليها من جميع الأثقال ، وهذا قول عكرمة .
ويحتمل قول الفريقين .
ويحتمل رابعاً : أخرجت أسرارها التي استودعتها ، قال أبو عبيدة : إذا كان الثقل في بطن الأرض فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها .
{ وقالَ الإنسانُ ما لَها } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما لها زلزلت زلزالها .
الثاني : ما لها أخرجت أثقالها .
وفي المراد بهذا « الإنسان » قولان :
أحدهما : أن المراد جميع الناس من مؤمن وكافر ، وهذا قول من جعله في الدنيا من أشراط الساعة لأنهم لا يعلمون جميعأً أنها من أشراط الساعة في ابتداء أمرها حتى يتحققوا عمومها ، فلذلك سأل بعضهم بعضاً عنها .
الثاني : أنهم الكفار خاصة ، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة ، لأن المؤمن يعترف بها فهو لا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها فلذلك يسأل عنها .
{ يومئذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها ، قاله أبو هريرة ورواه مرفوعاً ، وهذا قول من زعم أنها زلزلة القيامة .
الثالث : تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها ، قال ابن مسعود : فتخبر بأن أمر الدنيا قد انقضى ، وأن أمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك منها جواباً عند سؤالهم ، وعيداً للكافر وإنذاراً للمؤمن .
وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك .
الثاني : أن الله تعالى يُحدث الكلام فيها .
الثالث : يكون الكلام منها بياناً يقوم مقام الكلام .
{ بأنَّ ربّك أوْحَى لَهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أوحى إليها بأن ألهمها فأطاعت ، كما قال العجاج :
أَوْحى لها القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ ... وشَدَّها بالراسياتِ الثُّبّتِ
الثاني : يعني قال لها ، قاله السدي .
الثالث : أمرها ، قاله مجاهد .
وفيما أوحى لها وجهان :
أحدهما : أوحى لها بأن تحدث أخبارها .
الثاني : بأن تخرج أثقالها .
ويحتمل ثالثاً : أوحى لها بأن تزلزل زلزالها .
{ يومئذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشْتاتاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه يوم القيامة يصدرون من بين يدي الله تعالى فرقاً فرقاً مختلفين في قدرهم وأعمالهم ، فبعضهم إلى الجنة وهم أصحاب الحسنات ، وبعضهم إلى النار وهم أصحاب السيئات ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم في الدنيا عند غلبة الأهواء يصدرون فرقاً ، فبعضهم مؤمن ، وبعضهم كافر ، وبعضهم محسن ، وبعضهم مسيء ، وبعضهم محق ، وبعضهم مبطل .
{ ليُرَوْا أَعْمالَهم } يعني ثواب أعمالهم يوم القيامة .
ويحتمل ثالثاً : أنهم عند النشور يصدرون أشتاتاً من القبور على اختلافهم في الأمم والمعتقد بحسب ما كانوا عليه في الدنيا من اتفاق أو اختلاف ليروا أعمالهم في موقف العرض من خير أو شر فيجازون عليها بثواب أو عقاب ، والشتات : التفرق والاختلاف ، قال لبيد :
إنْ كُنْتِ تهْوينَ الفِراقَ ففارقي ... لا خيرَ في أمْر الشتات
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه } في هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن معنى يَرَه أي يعرفْهُ .
الثاني : أنه يرى صحيفة عمله .
الثالث : أن يرى خير عمله ويلقاه .
وفي ذلك قولان :
أحدهما : يلقى ذلك في الآخرة ، مؤمناً كان أو كافراً ، لأن الآخرة هي دار الجزاء .
الثاني : أنه إن كان مؤمناً رأى جزاء سيئاته في الدنيا ، وجزاء حسناته في الآخرة حتى يصير إليها وليس عليه سيئة .
وإن كان كافراً رأى جزاء حسناته في الدنيا ، وجزاء سيئاته في الآخرة حتى يصير إليها وليس له حسنة ، قاله طاووس .
ويحتمل ثالثاً : أنه جزاء ما يستحقه من ثواب وعقاب عند المعاينة في الدنيا ليوفاه في الآخرة .
ويحتمل المراد بهذه الآية وجهين :
أحدهما : إعلامهم أنه لا يخفى عليه صغير ولا كبير .
الثاني : إعلامهم أنه يجازي بكل قليل وكثير .
وحكى مقاتل بن سليمان أنها نزلت في ناس بالمدينة كانوا لا يتورعون من الذنب الصغير من نظرة أو غمزة أو غيبة أو لمسة ، ويقولون إنما وعد الله على الكبائر ، وفي ناس يستقلون الكسرة والجوزة والثمرة ولا يعطونها ، ويقولون إنما نجزى على ما تعطيه ونحن نحبه ، فنزل هذا فيهم .
وروي أن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فقال صعصعة : حسبي حسبي إن عملت مثقال ذرة خيراً رأيته ، وإن عملت مثقال ذرة شراً رأيته .
وروى أبو أيوب الأنصاري : قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يتغذيان إذا نزلت هذه السورة ، فقاما وأمسكا .
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
قوله تعالى : { والعادياتِ ضَبْحاً } في العاديات قولان :
أحدهما : أنها الخيل في الجهاد ، قاله ابن عباس وأنس والحسن ، ومنه قول الشاعر :
وطعنةٍ ذاتِ رشاشٍ واهيهْ ... طعنْتُها عند صدور العاديْه
يعني الخيل .
الثاني : أنها الإبل في الحج ، قاله عليٌّ رضي الله عنه وابن مسعود ومنه قول صفية بنت عبد المطلب :
فلا والعاديات غَداة جَمْعٍ ... بأيديها إذا صدع الغبار
يعني الإبل ، وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو ، وهو تباعد الرجل في سرعة المشي؛ وفي قوله « ضبحاً » وجهان :
أحدهما : أن الضبح حمحمة الخيل عند العدو ، قاله من زعم أن العاديات الخيل .
الثاني : أنه شدة النّفس عند سرعة السير ، قاله من زعم أنها الإبل ، وقيل إنه لا يضبح بالحمحمة في عدوه إلا الفرس والكلب ، وأما الإبل فضبحها بالنفَس؛ وقال ابن عباس : ضبحها : قول سائقها أج أج؛ وهذا قَسَمٌ ،
{ فالموريات قَدْحاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنها الخيل توري النار بحوافرها إذا جرت من شدة الوقع ، قاله عطاء .
الثاني : أنها نيران الحجيج بمزدلفة ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنها نيران المجاهدين إذا اشتعلت فكثرت نيرانها إرهاباً ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها تهيج الحرب بينهم وبين عدوهم ، قاله قتادة .
الخامس : أنه مكر الرجال ، قاله مجاهد؛ يعني في الحروب .
السادس : أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأقيمت بها الدلائل وأوضح بها الحق وفضح بها الباطل ، قاله عكرمة ، وهو قَسَمٌ ثانٍ .
{ فالمغيرات صُبْحاً } فيها قولان :
أحدهما : أنها الخيل تغير على العدو صبحاً ، أي علانية ، تشبيهاً بظهور الصبح ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها الإبل حين تعدو صبحاً من مزدلفة إلى منى ، قاله عليّ رضي الله عنه .
{ فأثَرنَ به نَقْعاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : فأثرن به غباراً ، والنقع الغبار ، قاله قتادة ، وقال عبد الله بن رواحة :
عدمت بُنَيّتي إن لم تَروْها ... تثير النقْعَ من كنفي كَداءِ
الثاني : النقع ما بين مزدلفة إلى منى ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه بطن الوادي ، فلعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع .
{ فَوَسَطْنَ به جَمْعاً } فيه قولان :
أحدهما : جمع العدو حتى يلتقي الزخف ، قاله ابن عباس والحسن .
الثاني : أنها مزدلفة تسمى جمعاً لاجتماع الحاج لها وإثارة النقع في الدفع إلى منى ، قاله مكحول .
{ إنّ الإنسانَ لِربِّه لَكَنُودٌ } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : لكفور قاله قتادة ، والضحاك ، وابن جبير ، ومنه قول الأعشى :
أَحْدِثْ لها تحدث لوصْلك إنها ... كُنُدٌ لوصْلِ الزائرِ المُعْتادِ
وقيل : إن الكنود هو الذي يكفر اليسير ولا يشكر الكثير .
الثاني : أنه اللوام لربه ، يذكر المصائب وينسى النعم ، قاله الحسن ، وهو قريب من المعنى الأول .
الثالث : أن الكنود الجاحد للحق ، وقيل إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها ، وقال إبراهيم بن زهير الشاعر :
دع البخلاءَ إن شمخوا وصَدُّوا ... وذكْرى بُخْلِ غانيةٍ كَنوُدِ
الرابع : أن الكنود العاصي بلسان كندة وحضرموت ، وذكره يحيى بن سلام .
الخامس : أنه البخيل بلسان مالك بن كنانة ، وقال الكلبي : الكنود بلسان كندة وحضرموت : العاصي ، وبلسان مضر وربيعة : الكفور ، وبلسان مالك بن كنانة : البخيل .
السادس : أنه ينفق نعم الله في معاصي الله .
السابع : ما رواه القاسم عن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الكنود الذي يضرب عبده ويأكل وحده ويمنع رفده » وقال الضحاك : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وعلى هذا وقع القسم بجميع ماتقدم من السورة .
{ وإنَّه على ذلك لَشهيدٌ } فيه قولان :
أحدهما : أن الله تعالى على كفر الإنسان لشهيد ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن الإنسان شاهد على نفسه ، لأنه كنود ، قاله ابن عباس .
{ وإنه لِحُبِّ الخيرِ لشديدٌ } يعني الإنسان ، وفي الخير ها هنا وجهان :
أحدهما : المال ، قاله ابن عباس ، ومجاهد وقتادة .
الثاني : الدنيا ، قاله ابن زيد .
ويحتمل ثالثاً : أن الخير ها هنا الاختيار ، ويكون معناه : وإنه لحب اختياره لنفسه لشديد .
وفي قوله { لشديد } وجهان :
أحدهما : لشديد الحب للخير ، وشدة الحب قوته وتزايده .
الثاني : لشحيح بالمال يمنع حق الله منه ، قاله الحسن ، من قولهم فلان شديد أي شحيح .
{ أفَلاَ يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما في القُبورِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من فيها من الأموات .
الثاني : معناه مات .
الثالث : بحث ، قاله الضحاك ، وهي في قراءة ابن مسعود : بُحْثِرَ ما في القبور .
{ وحُصِّلَ ما في الصُّدُورِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ميز ما فيها ، قاله الكلبي .
الثاني : استخرج ما فيها .
الثالث : كشف ما فيها .
{ إنَّ ربَّهم بهم يومئذٍ لَخبيرٌ } أي عالم ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : لخبير بما في نفوسهم .
الثاني : لخبير ، بما تؤول إليه أمورهم .
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
قول تعالى { القارِعَةُ * ما القارِعَةُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها العذاب ، لأنها تقرع قلوب الناس بهولها .
ويحتمل ثانياً : أنها الصيحة لقيام الساعة ، لأنها تقرع بشدائدها .
وقد تسمى بالقارعة كل داهية ، كما قال تعالى : { ولا يزالُ الذِّين كفروا تُصيبُهم بما صَنَعوا قارعةٌ } [ الرعد : 31 ] قال الشاعر :
متى تُقْرَعْ بمرْوَتكم نَسُؤْكم ... ولم تُوقَدْ لنا في القدْرِ نارُ
{ ما القارعة } تعظيماً لها ، كما قال تعالى : { الحاقّة ما الحاقّة } .
{ يومَ يكونُ النّاسُ كالفَراشِ المبْثُوثِ } وفي الفراش قولان :
أحدهما : أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره ، ومنه الجراد ، قاله الفراء ، الثاني : أنه طير يتساقط في النار ليس ببعوض ولا ذباب ، قاله أبو عبيدة وقتادة .
وفي { المبثوث } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المبسوط ، قاله الحسن .
الثاني : المتفرق ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : أنه الذي يحول بعضه في بعض ، قاله الكلبي .
وإنما شبه الناس الكفار يوم القيامة بالفراش المبثوث لأنهم يتهافتون في النار كتهافت الفراش .
{ وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنْفُوشِ } والعِهن : الصوف ذو الألوان في قول أبي عبيدة ، وقرأ ابن مسعود : « كالصوف » .
وقال { كالْعِهْنِ المَنْفُوشِ } لخفته ، وضعفه ، فشبه به الجبال لخفتها ، وذهابها بعد شدَّتها وثباتها .
ويحتمل أن يريد جبال النار تكون كالعهن لحمرتها وشدة لهبها ، لأن جبال الأرض تسير ثم تنسف حتى يدك بها الأرض دكّا .
{ فأمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُه } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه ميزان ذو كفتين توزن به الحسنات والسيئات ، قاله الحسن ، قال أبو بكر رضي الله عنه : وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً .
الثاني : الميزان هو الحساب ، قاله مجاهد ، ولذلك قيل : اللسان وزن الإنسان ، وقال الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكل مُخاصِمٍ مِيزانُه
أي كلام أعارضه به .
الثالث : أن الموازين الحجج والدلائل ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، واستشهد فيه بالشعر المتقدم .
وفي الموازين وجهان :
أحدهما : جمع ميزان .
الثاني : أنه جمع موزون .
{ فهو في عِيشةٍ راضِيةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني في عيشة مرضية ، قال قتادة : وهي الجنة .
الثاني : في نعيم دائم ، قاله الضحاك ، فيكون على الوجه الأول من المعاش ، وعلى الوجه الثاني من العيش .
{ وأمّا مَنْ خَفّتْ مَوازِينُه * فأمُّهُ هاويةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الهاوية جهنم ، سماها أُمَّا له لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أُمّه ، قاله ابن زيد ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت .
فالأرضُ مَعْقِلُنا وكانتْ أُمّنا ... فيها مقابِرُنا وفيها نُولَدُ
وسميت النار هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها .
الثاني : أنه أراد أُمّ رأسه يهوي عليها في نار جهنم ، قاله عكرمة .
وقال الشاعر :
يا عَمروُ لو نَالَتْك أَرْحامُنا ... كُنْتَ كَمن تَهْوِي به الهاوِيَة .
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قوله تعالى : { ألْهاكُم التّكاثُرُ } في { ألهاكم } وجهان :
أحدهما : شغلكم .
الثاني : أنساكم ، ومعناه ألهاكم عن طاعة ربكم وشغلكم عن عبادة خالقكم .
وفي { التكاثر } ثلاثة أقاويل :
أحدها : التكاثر بالمال والأولاد ، قاله الحسن .
الثاني : التفاخر بالعشائر والقبائل ، قاله قتادة .
الثالث : التشاغل بالمعاش والتجارة ، قاله الضحاك .
{ حتى زُرْتُم المقابِرَ } فيه وجهان :
أحدهما : حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زوّاراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار .
الثاني : ما حكاه الكلبي وقتادة : أن حيّين من قريش ، بني عبد مناف وبني سهم ، كان بينهما ملاحاة فتعادّوا بالسادة والأشراف أيهم أكثر ، فقال بنو عبد مناف : نحن أكثر سيّداً وعزاً وعزيزاً وأعظم نفراً ، وقال بنو سهم مثل ذلك ، فكثرهم بنو عبد مناف ، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعُدّوا الأحياء والأموات ، فعدّوهم فكثرتهم بنو سهم ، فأنزل الله تعالى { ألهاكم التكاثر } يعني بالعدد { حتى زرتم المقابر } أي حتى ذكرتم الأموات في المقابر .
{ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمونَ * ثم كلاّ سَوْفَ تَعلَمونَ } هذا وعيد وتهديد ، ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ .
ويحتمل أن يعدل به عن التأكيد فيكون فيه وجهان :
أحدهما : كلا سوف تعلمون عند المعاينة أن ما دعوتكم إليه حق ، ثم كلا سوف تعلمون عند البعث أن ما وعدتكم صدق .
الثاني : كلا سوف تعلمون عند النشور أنكم مبعوثون ، ثم كلا سوف تعلمون في القيامة أنكم معذَّبون .
{ كلاّ لو تَعْلَمون عِلْمَ اليَقِين } معناه لو تعلمون في الحياة قبل الموت من البعث والجزاء ما تعلمونه بعد الموت منه .
{ عِلْمَ اليقين } فيه وجهان :
أحدهما : علم الموت الذي هو يقيني لا يعتريه شك ، قاله قتادة .
الثاني : ما تعلمونه يقيناً بعد الموت من البعث والجزاء ، قاله ابن جريج .
وفي { كَلاَّ } في هذه المواضع الثلاثة وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى « إلا » ، قاله أبو حاتم .
الثاني : أنها بمعنى حقاً ، قاله الفراء .
{ لَتَروُنَّ الجَحيمَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار .
الثاني : أنه عام ، فالكافر هي له دار والمؤمن يمر على صراطها .
روى زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يرفع الصراط وسط جهنم ، فناج مسلّم ، ومكدوس في نار جهنم » .
{ ثم لَتَروُنَّها عَيْنَ اليَقين } فيه وجهان :
أحدهما : أن عين اليقين المشاهدة والعيان .
الثاني : أنه بمعنى الحق اليقين ، قاله السدي .
ويحتمل تكرار رؤيتها وجهين :
أحدهما : أن الأول عند ورودها .
والثاني : عند دخولها .
{ ثم لتُسْأَلُنَّ يومَئذٍ عن النَّعيمِ } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : الأمن والصحة ، قاله ابن مسعود؛ وقال سعيد بن جبير : الصحة والفراغ ، للحديث .
الثاني : الإدراك بحواس السمع والبصر ، قاله ابن عباس .
الثالث : ملاذّ المأكول والمشروب ، قاله جابر بن عبد الله الأنصاري .
الرابع : أنه الغداء والعشاء ، قاله الحسن .
الخامس : هو ما أنعم الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله محمد بن كعب .
السادس : عن تخفيف الشرائع وتيسير القرآن ، قاله الحسن أيضاً والمفضل .
السابع : ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثم لتسألن يومئذٍ عن النَعيم » عن شبع البطون وبارد الماء وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم ، وهذا السؤال يعم المؤمن والكافر ، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن جمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ، وسؤال الكافر تقريع لأنه قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية ، ويحتمل أن يكون ذلك تذكيراً بما أوتوه ، ليكون جزاء على ما قدموه .
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قوله تعالى { والعَصْرِ } وهذا قَسَمٌ ، فيه قولان :
أحدهما : أن العصر الدهر ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم .
الثاني : أنه العشي ما بين زوال الشمس وغروبها ، قاله الحسن وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
تَرَوّحْ بنا يا عمرُو قد قصر العَصْرُ ... وفي الرَّوْحةِ الأُولى الغنيمةُ والأَجْرُ
وخصه بالقسم لأن فيه خواتيم الأعمال .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لفضله بتجديد النبوة فيه .
وفيه رابع : أنه أراد صلاة العصر ، وهي الصلاة الوسطى ، لأنها أفضل الصلوات ، قاله مقاتل .
{ إنّ الإنسانَ لَفي خُسْر } يعني بالإنسان جنس الناس .
وفي الخسر أربعة أوجه :
أحدها : لفي هلاك ، قاله السدي .
الثاني : لفي شر ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : لفي نقص ، قاله ابن شجرة .
الرابع : لفي عقوبة ، ومنه قوله تعالى : { وكان عاقبة أمْرِها خُسْراً } وكان عليّ رضي الله عنه يقرؤها : والعصر ونوائب الدهر إنّ الإنسان لفي خُسْرِ وإنه فيه إلى آخر الدهر .
{ إلا الذين آمنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ وتَواصَوْا بالحَقِّ } في الحق ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه التوحيد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الله ، قاله السدي .
ويحتمل رابعاً : أن يوصي مُخَلَّفيه عند حضور المنية ألا يمُوتنَّ إلا وهم مسلمون .
{ وتَوَاصوا بالصَّبْر } فيه وجهان :
أحدهما : على طاعة الله ، قاله قتادة .
الثاني : على ما افترض الله ، قاله هشام بن حسان .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : بالصبر عن المحارم واتباع الشهوات .
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
قوله تعالى { وَيْلٌ لكلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الهمزة المغتاب ، واللمزة العيّاب ، قاله ابن عباس ، ومنه قول زياد الأعجم :
تُدْلي بوُدّي إذا لاقيتني كَذِباً ... وإن أُغَيّبْ فأنْتَ الهامزُ اللُّمَزة
الثاني : أن الهمزة الذي يهمز الناس ، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ، قاله ابن زيد .
الثالث : أن الهمزة الذي يهمز في وجهه إذا أقبل ، واللمزة الذي يلمزه من خلفه إذا أدبر ، قاله أبو العالية ، ومنه قول حسان :
همزتك فاخْتَضَعْتَ بذُلَّ نفْسٍ ... بقافيةٍ تأَجج كالشُّواظِ
الرابع : أن الهمزة الذي يعيب جهراً بيد أو لسان ، واللمزة الذي يعيبهم سراً بعين أو حاجب ، قاله عبد الملك بن هشام .
قال رؤبة :
في ظل عَصْرَيْ باطِلي وَلَمزِي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واختلفوا فيمن نزلت فيه على خمسة أقاويل :
أحدها : في أُبي بن خلف ، قاله عمار .
الثاني : في جميل بن عامر الجمحي ، قاله مجاهد .
الثالث : في الأخنس بن شريق الثقفي ، قاله السدي .
الرابع : في الوليد بن المغيرة ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنها مرسلة على العموم من غير تخصيص ، وهو قول الأكثرين .
{ الذي جَمَعَ مَالاً وعَدَّدَه } فيه اربعة أوجه :
أحدها : يعني أحصى عدده ، قاله السدي .
الثاني : عددّ أنواع ماله ، قاله مجاهد .
الثالث : لما يكفيه من الشين ، قاله عكرمة .
الرابع : اتخذ ماله لمن يرثه من أولاده .
ويحتمل خامساً : أنه فاخر بعدده وكثرته .
{ يَحْسَبُ أَنّ مالَه أَخْلَدَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : يزيد في عمره ، قال عكرمة .
الثاني : يمنعه من الموت ، قال السدي .
ويحتمل ثالثاً : ينفعه بعد موته .
{ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ في الحُطَمَةِ } وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه اسم باب من أبواب جهنم ، قاله ابن واقد ، وقال الكلبي هو الباب السادس .
الثاني : أنه اسم درك من أدراك جهنم ، وهو الدرك الرابع ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه اسم من أسماء جهنم ، قاله ابن زيد .
وفي تسميتها بذلك وجهان :
أحدهما : لأنها تحطم ما أُلقي فيها ، أي تكسره وتهده ، ومنه قول الراجز :
إنا حَطْمنا بالقضيب مُصْعَبا ... يومَ كَسَرنا أَنْفَه ليَغْضَبا
{ التي تَطّلِعُ على الأَفئدةِ } روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت ، ثم إذا صدروا تعود ، فذلك قوله { نار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة } ويحتمل اطلاعها على الأفئدة وجهين :
أحدهما : لتحس بألم العذاب مع بقاء الحياة ببقائها .
الثاني : استدل بما في قلوبهم من آثار المعاصي وعقاب على قدر استحقاقهم لألم العذاب ، وذلك بما استبقاه الله تعالى من الإمارات الدالة عليه .
{ إنَّها عليهم مْؤْصَدَةٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مطبقة ، قاله الحسن والضحاك .
الثاني : مغلقة بلغة قريش ، يقولون آصد الباب إذا أغلقه ، قاله مجاهد ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات :
إن في القَصْر لو دَخَلنْا غَزالاً ... مُصْفقاً مُوصَداً عليه الحجابُ
الثالث : مسدودة الجوانب لا ينفتح منها جانب ، قاله سعيد بن المسيب ، وقال مقاتل بن سليمان : لا يدخلها روْح ولا يخرج منها غم .
{ في عَمَدٍ مُمَدَّدةٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها موصدة بعمد ممددة ، قاله ابن مسعود ، وهي في قراءته « بعَمَدٍ ممدّدة » .
الثاني : أنهم معذبون فيها بعُمد محددة ، قاله قتادة .
الثالث : أن العُمد الممدة الأغلال في أعناقهم ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها قيود في أرجلهم ، قاله أبو صالح .
الخامس : معناه في دهر ممدود ، قاله أبو فاطمة .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قوله تعالى : { ألمْ تَرَ كيفَ فَعَلَ ربُّكَ بأصْحابِ الفِيل } فيه وجهان :
أحدهما : ألم تخبر فتعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .
الثاني : ألم ترَ آثار ما فعل ربك بأصحاب الفيل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل .
واختلف في مولده عليه السلام من عام الفيل على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن مولده بعد أربعين سنة من عام الفيل ، قاله مقاتل :
الثاني : بعد ثلاث وعشرين سنة منه ، قاله الكلبي وعبيد بن عمير .
الثالث : أنه عام الفيل ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه أنه قال : ولدت يوم الفيل .
واختلف في سبب الفيل على قولين :
أحدهما : ماحكاه ابن عباس : أن أبرهة بن الصباح بنى بيعة بيضاء يقال لها القليس ، وكتب إلى النجاشي إني لست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع ذلك رجل من كنانة ، فخرج إلى القليس ودخلها ليلاً فأحدث فيها ، فبلغ ذلك أبرهة فحلف بالله ليسيرن إلى الكعبة فيهدمها ، فجمع الأحابيش وجنّد الأجناد ، وسار ، ودليله أبو رغال ، حتى نزل بالمغمّس ، وجعل على مقدمته الأسود بن مقصود حتى سبى سرح مكة وفيه مائتا بعير لعبد المطلب قد قلّد بعضها ، وفيه يقول عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف :
لأهمّ أخْزِ الأسود بن مقصودِ ... الآخذ الهجمة فيها التقليدْ
بين حراء ، وثبير فالبيد ... يحبسها وفي أُولات التطريدْ
فضمّها إلى طماطم سُودْ ... قد أجْمعوا ألا يكون معبودْ .
ويهْدموا البيت الحرام المعمود ... والمروتين والمشاعر السودْ
اخْفره يا ربِّ وأنت محمودْ ... وتوجه عبد المطلب وكان وسيماً جسيماً لا تأخذه العين إلى أبرهة ، وسأله في إبله التي أخذت ، فقال أبرهة : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد زهدت الآن فيك ، قال : ولم؟ قال : جئت لأهدم بيتاً هو دينك ودين آبائك فلم تكلمني فيه ، وكلمتني في مائتي بعير لك ، فقال عبد المطلب : الإبل أنا ربها ، وللبيت رب سيمنعه ، فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني ، فقال عبد المطلب : لقد طلبته تبّع وسيف بن ذي يزن وكسرى فلم يقدروا عليه ، وأنت ذاك فرد عليه إبله ، وخرج عبد المطلب وعاد إلى مكة ، فأخبر قريشاً بالتحرز في الجبال ، وأتى البيت وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
لاهمّ إنّ العْبدَ يَمْ ... نَعُ رحْلَهُ فامْنَع حَلالَكْ .
لا يَغْلبنّ صَليبُهم ... ومحالُهم غَدْواً مِحالكْ .
إنْ كنتَ تاركَهم وقب ... لَتَنا فأمْرٌ ما بدا لَكَ .
المحال : القوة . الثاني : ما حكاه الكلبي ومقاتل يزيد أحدهما وينقص أن فتية من قريش خرجوا إلى أرض الحبشة تجاراً ، فنزلوا على ساحل البحر على بيعة النصارى في حقف من أحقافها ، قال الكلبي تسمى البيعة ما سرجيان ، وقال مقاتل : تسمى الهيكل ، فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح عاصف فاضطرمت البيعة ناراً فاحترقت ، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ، فاستشاط غضباً ، وأتاه أبرهة بن الصبّاح وحجر بن شراحبيل وأبو يكسوم الكِنْديون ، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة ، وكان النجاشي هو الملك ، وأبرهة صاحب الجيش ، وأبو يكسوم نديم الملك وقيل وزيره ، وحجر بن شراحبيل من قواده ، وقال مجاهد : أبو يكسوم هو أبرهة بن الصبّاح ، فساروا بالجيش ومعهم الفيل ، قال الأكثرون : هو فيل واحد ، وقال الضحاك : كانت ثمانية فيلة ، ونزلوا بذي المجاز ، واستاقوا سرح مكة ، وفيها إبل عبد المطلب ، وأتى الراعي نذيراً فصعد الصفا وصاح : واصباحاه! ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل ، فخرج عبد المطلب وتوجه إلى أبرهة وسأله في إبله ، فردّها مستهزئاً ليعود لأخذها إذا دخل مكة .
واختلف في النجاشي هل كان معهم أم لا ، فقال قوم : كان معهم ، وقال الآخرون : لم يكن معهم .
وتوجه الجيش إلى مكة لإحراق الكعبة ، فلما ولى عبد المطلب بإبله احترزها في جبال مكة ، وتوجه إلى مكة من طريق منى ، وكان الفيل إذا بعث إلى الحرم أحجم ، وإذا عدل به عنه أقدم ، قال محمد بن إسحاق : كان اسم الفيل محمود ، وقالت عائشة : رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين مقعدين يستطعمان أهل مكة .
ووقفوا بالمغمّس فقال عبد الله بن مخزوم :
أنت الجليل ربنا لم تدنس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس
حبسته في هيئة المكركس ... وما لهم من فرجٍ ومنفسِ .
المكركس : المطروح المنكوس .
وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر ، فقال عبد المطلب : إن هذه لطير غريبة بأرضنا ، ما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية ، وإنها أشباه اليعاسيب ، وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة ، فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا ، قال عطاء بن أبي رباح : جاءت الطير عشية فبانت ، ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم ، وقال عطية العوفي : سألت عنها أبا سعيد الخدري : فقال : حمام مكة منها .
وأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فهلك في الطريق .
وقال الواقدي : أبرهة هو جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أيقنوا بهلاك القوم ، قال الشاعر :
أين المفر والإله الطالبْ ... والأَشرمُ المغلوبُ ليس الغالبْ
يعني بالأشرم أبرهة ، سمي بذلك لأن أرياط ضربه بحربة فشرم أنفة وجبينه ، أي وقع بعضه على بعض .
وقال أبو الصلت بن مسعود ، وقيل بل قاله عبد المطلب :
إنّ آياتِ ربِّنا ناطِقاتٌ ... لا يُماري بهنّ إلا الكَفُور .
حَبَسَ الفيلَ بالمغّمس حتى ... مَرَّ يعْوي كأنه مَعْقورُ .
{ ألمْ يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضْليل } لأنهم أرادوا كيد قريش بالقتل والسبي ، وكيد البيت بالتخريب والهدم .
يحكى عن عبد المطلب بعد ما حكيناه عنه أنه أخذ بحلقة الباب وقال :
يا رب لا نرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا .
إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا .
ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس له سريع ، ينظر ما لقوا فإذا القوم مشدخون ، فرجع يركض كاشفاً عن فخده ، فلما رأى ذلك أبوه قال : إن ابني أفرس العرب وما كشف عن فخذه إلا بشيراً أو نذيراً . فلما دنا من ناديهم بحيث يُسمعهم قالوا : ما وراءك؟ قال : هلكوا جميعاً ، فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم ، فكانت أموال بني عبد المطلب ، وبها كانت رياسة عبد المطلب لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء ، ثم خرج أهل مكة بعده فنهبوا ، فقال عبد المطلب :
أنتَ مَنعْتَ الحُبْشَ والأَفْيالا ... وقد رَعَوا بمكةَ الأَجيالا
وقد خَشِينا منهم القتالا ... وكَلَّ أمرٍ لهمن مِعضالا
وشكراً وحْمداً لك ذا الجلالا . ... ويحتمل تضليل كيدهم وجهين :
أحدهما : أن كيدهم أضلهم حتى هلكوا .
الثاني : أن هلاكهم أضل كيدهم حتى بطل .
{ وأرْسَلَ عليهم طَيْراً أَبابِيلَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من طير السماء ، قاله سعيد بن جبير : لم ير قبلها ولا بعدها مثلها ويروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنها طير بين السماء والأرض تعشعش وتفرخ » .
القول الثاني : أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال ، قاله عكرمة .
الثالث : أنها من طير الأرض ، أرسلها الله تعالى من ناحية البحر ، مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، قاله الكلبي ، وكانت سوداً ، خضر المناقير طوال الأعناق ، وقيل : بل كانت أشباه الوطاويط ، وقالت عائشة : كن أشباه الخطاطيف .
واختلف في « أبابيل » على خمسة أقاويل :
أحدها : أنها الكثيرة ، قاله الحسن وطاوس .
الثاني : المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثالث : أنها المتفرقة من ها هنا وها هنا ، قاله ابن مسعود والأخفش ، ومنه قول الشاعر :
إن سلولاً عداك الموت عارفة ... لولا سلول مشينا أبابيلا
أي متفرقين .
الرابع : أن الأبابيل المختلفة الألوان ، قاله زيد بن أسلم .
الخامس : أن تكون جمعاً بعد جمع ، قاله أبو صالح وعطاء ، ومنه قول الشاعر :
وأبابيل من خيول عليها ... كأسود الأداء تحت العوالي .
وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث : الأبابيل مأخوذ من الإبل المؤبلة ، وهي الأقاطيع .
واختلف النحويون هل للأبابيل واحد من جنسه ، فذهب أبو عبيدة والفراء وثعلب إلى أنه لا واحد له كالعباديد والسماطيط ، وذهب آخرون إلى أن له واحد ، واختلفوا في واحده ، فذهب أبو جعفر الرؤاسي إلى أن واحدة إبّالة مشددة ، وقال الكسائي : واحدها إبول ، وقال ابن كيسان واحدة إبيّل .
{ تَرْميهم بحجارةٍ مِن سِجّيلٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن السجيل كلمة فارسية هي سنك وكل ، أولها حجر ، وآخرها : طين ، قال ابن عباس .
الثاني : أن السجيل هو الشديد ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول ابن مقبل :
ورجْلةٍ يضْرِبون البَيْضَ عن عَرَضٍ ... ضَرْباً تواصى به الأَبطالُ سِجِّيلاً
الثالث : أن السجيل اسم السماء الدنيا ، فنسبت الحجارة إليها لنزولها منها ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه اسم بحر من الهواء ، منه جاءت الحجارة فنسبت إليه ، قاله عكرمة وفي مقدار الحجر قولان :
أحدهما : أنه حصى الخذف ، قاله مقاتل .
الثاني : كان الحجر فوق العدسة ودون الحمصة ، قاله أبو صالح : رأيت في دار أم هانىء نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة كأنها الجزع ، وقال ابن مسعود : ولما رمت الطير بالحجارة بعث الله ريحها فزادتها شدة ، وكانت لا تقع على أحد إلا هلك ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة ، فقال :
فإنكِ لو رأيْتِ ولم تريهِ ... لدى جِنْبِ المغَمِّسِ ما لَقينا
خَشيتُ الله إذ قدْبَثَّ طَيْراً ... وظِلَّ سَحابةٍ مرَّتْ علينا
وباتت كلُّها تدْعو بحقٍّ ... كأنَّ لها على الحُبْشانِ دَيْنا
{ فجعَلَهم كعَصْفٍ مأكولٍ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن العصف ورق الزَّرع ، والمأكول الذي قد أكله الدود ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن العصف المأكول هو الطعام ، وهذا قول حسين بن ثابت .
الثالث : أنه قشر الحنطة إذا أكل ما فيه ، رواه عطاء بن السائب .
الرابع : أنه ورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن العصف التين والمأكول القصيل للدواب ، قاله سعيد بن جبير والحسن ، واختلف فيما فعله الله بهم ، فقال قوم : كان ذلك معجزة لنبيّ كان في ذلك الزمان ، وقيل إنه كان خالد بن سنان .
وقال آخرون : بل كان تمهيداً وتوطيداً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ولد في عامه وقيل في يومه .
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وفي قوله تعالى { لإيلافِ قُريْشٍ } الإيلاف مأخوذ من أَلِف يأْلَف ، وهي العادة المألوفة ، ومنه قولهم ائتلف القوم .
وفي قوله { لإيلاف قريش } أربعة أقاويل :
أحدها : نعمتي على قريش ، لأن نعمة الله عليهم أن ألفه لهم ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : لإيلاف الله لهم لأنه آلفهم إيلافاً ، قاله الخليل بن أحمد .
الثالث : لإيلاف قريش حَرَمي وقيامهم ببيتي ، وهذا معنى قول الحسن .
الرابع : لإيلاف ما ذكره من رحلة الشتاء والصيف في معايشهم ، قاله مكحول .
وفي اللام التي في « لإيلاف قريش » قولان :
أحدهما : أنه صلة يرجع إلى السورة المتقدمة من قولهم { ألم تر كيف } إلى أن قال : { فجعلهم كعصْف مأكولٍ } لإيلاف قريش ، فصار معناه أن ما فعله بأصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش ، قاله ثعلب ، وكان عمر وأبيّ بن كعب لا يفصلان بين السورتين ويقرآنهما كالسورة الواحدة ، ويريان أنهما سورة واحدة ، أي : ألم تر لإيلاف قريش .
الثاني : أن اللام صلة ترجع إلى ما بعدها من قوله { فَلْيَعْبُدوا رب هذا البَيْتِ } ويكون معناه لنعمتي على قريش فَلْيَعْبُدوا رَبَّ هذا البيت ، قاله أهل البصرة ، وقرأ عكرمة ، ليألف قريش ، وكان يعيب على من يقرأ « لإيلاف قريش » .
وقرأ بعض أهل مكة : إلاف قريش ، واستشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم :
فلا تَتْركْنهُ ما حَييتَ لمعظمٍ ... وكن رجلاً ذا نَجدةٍ وعفافِ
تَذودُ العِدا عن عُصْبةٍ هاشميةٍ ... ألا فُهُمُ في الناس خيرُ إلافِ
وأما قريش تلده فهم بنو النضير بن كنانة ، وقيل بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، ومن لم تلده فهر فليس من قريش ، وعلى المشهور أن بني النضر بن كنانة ومن تلده : من قريش ، وإن لم يكونوا من بني فهر ، وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً ، قال الشاعر :
أبونا قصيٌّ كان يُدْعى مجمّعاً ... به جمع اللَه القبائلَ مِن فهر
واختلفوا في تسميتهم قريشاً على أربعة أقاويل :
أحدها : لتجمعهم بعد التفرق ، والتقريش التجميع ، ومنه قول الشاعر :
إخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا ... في حَديثٍ مِن دَهْرِهم وقَديمِ
الثاني : لأنهم كانوا تجاراً يأكلون من مكاسبهم ، والتقريش التكسب .
الثالث : أنهم كانوا يفتشون الحاج عن ذي الخلة فيسدون خلته ، والقرش : التفتيش ، قال الشاعر :
أيها الشامتُ المقِّرشُ عَنّا ... عند عَمرو فهل له إبْقاءُ
الرابع : أن قريشاً اسم دابة في البحر ، من أقوى دوابه ، سميت قريشاً لقوتها وأنها تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، قاله ابن عباس واستشهد بقول الشاعر :
هكذا في العباد حيُّ قريش ... يأكلون البلادَ أكْلاً كشيشاً
ولهم آخرَ الزمان نبيٌّ ... يَكثر القتل فيهمُ والخموشا
يملأُ الأرضَ خَيلةً ورجالاً ... يحشُرون المطيَّ حشْراً كميشاً
تأكل الغثَّ والسَمينَ ولا تت ... رُكُ يوماً في جناحين ريشاً .
وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشاً .
سلّطت بالعلو في لجج البحر ... على سائر البحور جيوشاً .
{ إيلافِهم رِحْلَةَ الشتاءِ والصَّيْفِ } كانت لقريش في كل عام رحلتان والرحلة السفرة ، لما يعانى فيها من الرحيل والنزول ، رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء طلباً للتجارة والكسب .
واختلف في رحلتي الشتاء والصيف على قولين :
أحدهما : أن كلتا الرحلتين إلى فلسطين ، لكن رحلة الشتاء في البحر ، طلباً للدفء ، ورحلة الصيف على بصرى وأذرعات ، طلباً للهواء ، قاله عكرمة .
الثاني : أن رحلة الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية ، ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة ، قاله ابن زيد .
فإن قيل فما المعنى في تذكيرهم رحلة الشتاء والصيف؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنهم كانوا في سفرهم آمنين من العرب لأنهم أهل الحرم ، فذكرهم ذلك ليعلموا نعمته عليهم في أمنهم مع خوف غيرهم .
الثاني : لأنهم كانوا يكسبون فيتوسعون ويطعمون ويصلون ، كما قال الشاعر فيهم :
يا أيها الرجلُ المحوِّل رَحْلَه ... هَلاَّ نَزَلْتَ بآلِ عبدِ مَنافِ .
الآخذون العهدَ من آفاقِها ... والراحلون لرحلة الإيلافِ .
والرائشون وليس يُوجد رائشٌ ... والقائلون هَلُمَّ للأَضْيافِ .
والخالطون غنيَّهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرُهم كالكافي .
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجافِ .
فذكرهم الله تعالى هذه النعمة .
ولابن عباس في رحلة الشتاء والصيف قول ثالث : أنهم كانوا يشتون بمكة لدفئها ، ويصيفون بالطائف لهوائها ، كما قال الشاعر :
تَشْتي بِمكة نعمةً ... ومَصيفُها بالطائِف
وهذه من جلائل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف ، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة .
{ فَلْيَعْبدوا ربَّ هذا البَيْتِ } أمرهم الله تعالى بعبادته ، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان :
أحدهما : لأنه كانت لهم أوثان ، فميز نفسه عنها .
الثاني : أنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب ، فذكر لهم ذلك تذكيراً بنعمته .
وفي معنى هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله « فليعبدوا » أربعة أوجه :
أحدها : فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة الشتاء والصيف .
الثاني : فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف .
الثالث : فليعبدوا رب هذا البيت لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
الرابع : فليتركوا رحلة الشتاء والصيف بعبادة رب هذا البيت ، فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ليتوفروا بالمقام على نصرة رسوله والذب عن دينه .
{ الذي أطْعَمَهم من جُوعٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أطعمهم من جوع بما أعطاهم من الأموال وساق إليهم من الأرزاق ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أطعمهم من جوع بما استجاب فيهم دعوة إبراهيم عليه السلام . حين قال : { وارْزُقهم من الثمرات } قاله ابن عباس .
الثالث : أن جوعاً أصابهم في الجاهلية ، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً ، فحملوه ، فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم ، فخرجوا إليهم متحرزين ، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات ، فهو معنى قوله { الذي أطعمهم من جوع } .
{ وآمَنَهُم مِنْ خوْفٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : آمنهم من خوف العرب أن يسبوهم أو يقاتلوهم تعظيماً لحرمة الحرم ، لما سبقت لهم من دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال :
{ ربِّ اجْعَلْ هذا بلداً آمِناً } ، قاله ابن عباس .
الثاني : من خوف الحبشة مع الفيل ، قاله الأعمش .
الثالث : آمنهم من خوف الجذام ، قاله الضحاك والسدي وسفيان الثوري .
الرابع : يعني آمن قريشاً ألا تكون الخلافة إلا فيهم ، قاله علّي رضي الله عنه .
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
قوله تعالى { أرأيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدِّينِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بالحساب ، قاله عكرمة ومجاهد .
الثاني : بحكم الله تعالى ، قاله ابن عباس .
الثالث : بالجزاء الثواب والعقاب .
واختلف فيمن نزل هذا فيه على خمسة أوجه :
أحدها : أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : في الوليد بن المغيرة ، قاله السدي .
الثالث : في أبي جهل .
الرابع : في عمرو بن عائذ ، قاله الضحاك .
الخامس : في أبي سفيان وقد نحر جزوراً ، فأتاه يتيم ، فسأله منها ، فقرعه بعصا ، قاله ابن جريج .
{ فذلك الذي يَدُعُّ اليتيمَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بمعنى يحقر البيت ، قاله مجاهد .
الثاني : يظلم اليتيم ، قاله السدي .
الثالث : يدفع اليتيم دفعاً شديداً ، ومنه قوله تعالى : { يوم يُدَعُّونَ إلى نارِ جهنَّمَ دعّاً } أي يُدفعون إليها دفعاً .
وفي دفعه اليتيم وجهان :
أحدهما : يدفعه عن حقه ويمنعه من ماله ظلماً له وطمعاً فيه ، قاله الضحاك .
الثاني : يدفعه إبعاداً له وزجراً ، وقد قرىء « يَدَعُ اليَتيم » مخففة ، وتأويله على هذه القراءة يترك اليتيم فلا يراعيه اطراحاً له وإعراضاً عنه .
ويحتمل على هذه القراءة تأويلاً ثالثاً : يدع اليتيم لاستخدامه وامتهانه قهراً واستطالة .
{ ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ } أي لا يفعله ولا يأمر به ، وليس الذم عاماً حتى يتناول من تركه عجزاً ، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم يقولون { أنطعم من لو يشاءُ الله أطْعَمَهُ } فنزلت هذه الآية فيهم ، ويكون معنى الكلام لا يفعلونه إن قدروا ، ولا يحثون عليه إن عجزوا .
{ فَويْلٌ للمُصَلَّينَ } الآية ، وفي إطلاق هذا الذم إضمار ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه المنافق ، إن صلاها لوقتها لم يرج ثوابها ، وإن صلاها لغير وقتها لم يخش عقابها ، قاله الحسن .
الثاني : أن إضماره ظاهر متصل به ، وهو قوله تعالى : { الذين هم } الآية . وإتمام الآية في قوله : { فويل للمصلين } ما بعدها من قوله : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } إضماراً فيها وإن كان نطقاً ظاهراً .
وليس السهو الذي يطرأ عليه في صلاته ولا يقدر على دفعه عن نفسه هو الذي ذم به ، لأنه عفو .
وفي تأويل ما استحق به هذا الذم ستة أوجه :
أحدها : أن معنى ساهون أي لاهون ، قاله مجاهد .
الثاني : غافلون ، قاله قتادة .
الثالث : أن لا يصلّيها سراً ويصليها علانية رياء للمؤمنين ، قاله الحسن .
الرابع : هو الذي يلتفت يمنة ويسرة وهواناً بصلاته ، قاله أبو العالية .
الخامس : هو ألا يقرأ ولا يذكر الله ، قاله قطرب .
السادس : هو ما روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « الذين هم عن صلاتهم ساهون » فقال : « هم الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها » .
{ الذين هم يُراءونَ } فيه وجهان :
أحدهما : المنافقون الذين يراءون بصلاتهم ، يصلّونها مع الناس إذا حضروا ، ولا يُصلّونها إذا غابوا ، قاله علي وابن عباس .
الثاني : أنه عامّ في ذم كل من راءى لعمله ولم يقصد به إخلاصاً لوجه ربه . روي عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه قال : « يقول الله تعالى : مَن عَمِل عملا لغيري فقد أشرك بي وأنا أغنى الشركاء عن الشرك » .
{ ويَمْنَعُونَ الماعونَ } فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : أن الماعون الزكاة ، قاله علي وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة ، قال الراعي :
أخليفة الرحمن إنا مَعْشَرٌ ... حُنَفاءُ نسجُد بكرةً وأصيلاً .
عَرَبٌ نرى لله في أمْوالِنا ... حقَّ الزكاة مُنزّلا تنزيلاً
قَوْمٌ على الإسلام لمّا يَمْنعوا ... ماعونَهم ويضَيِّعوا التهْليلا
الثاني : أنه المعروف ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه الطاعة ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه المال بلسان قريش ، قاله سعيد بن المسيب والزهري .
الخامس : أنه الماء إذا احتيج إليه ومنه الماء المعين وهو الجاري ، قال الأعشى :
بأجود منا بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغِم
السادس : أنه ما يتعاوره الناس بينهم ، مثل الدلو والقدر والفاس ، قاله ابن عباس ، وقد روي مأثوراً .
السابع : أنه منع الحق ، قاله عبد الله بن عمر .
الثامن : أنه المستغل من منافع الأموال ، مأخوذ من المعنى وهو القليل ، قاله الطبري وابن عيسى .
ويحتمل تاسعاً : أنه المعونة بما خف فعله وقل ثقله .
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله تعالى { إنّا أَعْطَيْناك الكَوْثَر } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : أن الكوثر النبوة ، قاله عكرمة .
الثاني : القرآن ، قاله الحسن .
الثالث : الإسلام ، حكاه المغيرة .
الرابع : أنه نهر في الجنة ، رواه ابن عمر وأنس مرفوعاً .
الخامس : أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة قاله عطاء .
السادس : أنه الخير الكثير ، قاله ابن عباس .
السابع : أنه كثرة أمته ، قاله أبو بكر بن عياش .
الثامن : أنه الإيثار ، قاله ابن كيسان .
التاسع : أنه رفعة الذكر ، وهو فوعل من الكثرة .
{ فَصَلِّ لِربِّكَ وانحَرْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصلاة المكتوبة ، وهي صلاة الصبح بمزدلفة ، قاله مجاهد .
الثاني : صلاة العيد ، قاله عطاء .
الثالث : معناه اشكر ربك ، قاله عكرمة .
{ وانحَرْ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : وانحر هديك أو أضحيتك ، قاله ابن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة .
الثاني : وانحر أي وسل ، قاله الضحاك .
الثالث : معناه أن يضع اليمين على الشمال عند نحره في الصلاة ، قاله عليّ وابن عباس رضي الله عنهما .
الرابع : أن يرفع يديه في التكبير ، رواه عليّ .
الخامس : أنه أراد واستقبل القبلة في الصلاة بنحرك ، قاله أبو الأحوص ومنه قول الشاعر :
أبا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجالدٍ ... وسيدُ أهْلِ الأبْطحِ المتناحرِ
أي المتقابل .
{ إنّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ } في شانئك وجهان :
أحدهما : مبغضك ، قاله ابن شجرة .
الثاني : عدوّك ، قاله ابن عباس .
وفي « الأبتر » خمسة تأويلات :
أحدها : أنه الحقير الذليل ، قاله قتادة .
الثاني : معناه الفرد الوحيد ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه الذي لا خير فيه حتى صار مثل الأبتر ، وهذا قول مأثور الرابع : أن قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده ، قد بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم بمكة ، وابراهيم بالمدينة ، قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده ، فنزلت الآية ، قاله السدي وابن زيد .
الخامس : أن الله تعالى لما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا قريش إلى الإيمان ، قالوا ابتتر منا محمد ، أي خالفنا وانقطع عنا ، فأخبر الله تعالى رسوله أنهم هم المبترون ، قاله عكرمة وشهر بن حوشب .
واختلف في المراد من قريش بقوله { إنّ شانئك هو الأبتر } على ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه أبو لهب ، قاله عطاء .
الثاني : أبو حهل ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه العاص بن وائل ، قاله عكرمة ، والله أعلم .
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{ قُل يا أيُّها الكافِرونَ } الآيات ، ذكر محمد بن إسحاق أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد . ونعبد ما تعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله تعالى { قل يا أيها الكافرون } فصار حرف الأمر في هذه السورة وسورة الإخلاص والمعوذتين متلوّاً ، لأنها نزلت جواباً ، عنى بالكافرين قوماً معينين ، لا جميع الكافرين ، لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات أو قتل على كفره ، وهم المخاطبون بهذا القول فمنهم المذكورون .
{ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ } يعني من الأوثان .
{ ولا أنتم عابدون ما أَعْبُدُ } يعني الله تعالى وحده ، الآيات .
فإن قيل : ما فائدة هذا التكرار؟
قيل : فيه وجهان : أحدهما : أن قوله في الأول « لا أعبد » و « لا تعبدون » يعني في الحال ، وقوله الثاني : يعني في المستقبل ، قاله الأخفش .
الثاني : أن الأول في قوله « لا أعبد » و « لا أنتم » الآية يعني في المستقبل ، والثاني : إخبار عنه وعنهم في الماضي ، فلم يكن ذلك تكراراً لاختلاف المقصود فيهما .
فإن قيل : فلم قال « ما أَعْبُدُ » ولم يقل « من أَعبُدُ »؟
قيل : لأنه مقابل لقوله : { ولا أنا عابد ما عَبَدْتُم } وهي أصنام وأوثان ، ولا يصلح فيها إلا « ما » دون « من » فحمل الثاني على الأول ليتقابل الكلام ولا يتنافى .
{ لكم دِينكم ولي دينِ } فيه وجهان :
أحدهما : لكم دينكم الذي تعتقدونه من الكفر ، ولي ديني الذي أعتقده من الإسلام ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : لكم جزاء عملكم ، ولي جزاء عملي .
وهذا تهديد منه لهم ، ومعناه وكفى بجزاء عملي ثواباً ، قاله ابن عيسى .
قال ابن عباس : ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة ، لأنها توحيد وبراءة من الشرك .
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
قوله تعالى { إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ } أما النصر فهو المعونة مأخوذ من قولهم قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها ، قال الشاعر :
إذا انسلَخَ الشهرُ الحرامُ فَودِّعي ... بلادَ تميمٍ وانْصُري أرضَ عامِرِ
وفي المعنيّ بهذا النصر قولان :
أحدهما : نصر الرسول على قريش ، قاله الطبري .
الثاني : نصره على كل من قاتله من أعدائه ، فإن عاقبة النصر كانت له .
وقيل : إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك ، والفتح : فتحه مكة وقيل المراد حين نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم . وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين إلى أوقاتها المعينة لها ، فتعرف منها شيئاً فشيئاً ، وقد قرب النصر من قوته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره .
وفي هذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة ، قاله الحسن ومجاهد .
الثاني : فتح المدائن والقصور ، قاله ابن عباس وابن جبير ، وقيل ما فتحه عليه من العلوم .
{ ورأيْتَ الناسَ يَدْخُلون في دِيْنِ اللهِ أَفْواجاً } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل اليمن ، ورورى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الدين يمانٍ والفقه يمانٍ والحكمة يمانية » وروي عنه عليه السلام أنه قال : « إني لأجد نَفَس ربكم مِن قِبل اليمن » وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً .
الثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه بأهل اليمن ، وهم الأنصار .
القول الثاني : أنهم سائر الأمم الذين دخلوا في الإسلام ، قاله محمد بن كعب .
وقال الحسن : لما فتح الله على رسوله مكة ، قالت العرب بعضهم لبعض : أيها القوم ليس لكم به ولا بالقوم يد ، فجعلوا يدخلون في دين الله أفواجاً أمة أمة .
قال الضحاك : والأمة أربعون رجلاً ، وقال ابن عباس : الأفواج « الزمر » ، وقال الكلبي : الأفواج القبائل .
وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون أفواجاً » .
« أفواجاً » جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وقبائل سائر العرب .
« يدخلون » حال ، على أن « رأيت » بمعنى أبصرت ، أو مفعول ثان على أن رأيت بمعنى علمت .
{ فسبّحْ بحْمد ربِّك واسْتَغْفِره إنه كان توّاباً } في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان : أحدهما : أنه أراد بالتسبيح الصلاة ، قاله ابن عباس ، وبالاستغفار مداومة الذكر .
الثاني : أنه أراد صريح التسبيح ، الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب .
روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها؟ فقال :
« جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها »
وفي قوله { إنه كان توّاباً } وجهان :
أحدهما : قابل التوبة .
والثاني : متجاوز عن الصغائر .
وفي أمره بهذابعد النصر والفتح وجهان :
أحدهما : ليكون ذلك منه شكراً لله تعالى على نعمه ، لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر .
الثاني : أنه نعى إليه نفسه ، ليجد في عمله .
قال ابن عباس : وداعٌ من الله ، ووداعٌ من الدنيا ، فلم يعش بعدها إلا سنتين مستديماً التسبيح والاستغفار كما أُمِرَ ، وكان قد لبث أربعين سنة لم يوح إليه ، ورأى رؤيا النبوة سنتين ، ومات في شهر ربيع الأول وفيه هاجر .
وقال مقاتل : نزلت هذه السورة بعد فتح الطائف ، والفتح فتح مكة ، والناس أهل اليمن ، وهي آية موت النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت قرأها على أبي بكر وعمر ففرحا بالنصر وبدخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل ، وسمعها العباس فبكى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك يا عم؟ » فقال : نعيت إليك نفسك ، قال : « إنه لكما تقول » .
وهذه السورة تسمى التوديع ، عاش النبي بعدها حولاً على قول مقاتل ، وحولين على قول ابن عباس ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل ، فنزل { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فعاش بعدها ثمانين يوماً ، ثم نزلت « لقد جاءكم رسول » فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ، ثم نزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً .
وقال مقاتل : عاش بعدها سبعة أيام ، والله أعلم وصلوات الله عليه متتابعة لا تنقطع على مر الأزمان وكر الأوان ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين .
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قوله تعالى : { تبّتْ يدا أبي لهب } اختلف في سبب نزولها في أبي لهب على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا أُعطَى إن آمنتُ بك يا محمد؟ قال : ما يعطَى المسلمون ، قال : ما عليهم فضل؟ قال : وأي شيء تبتغي؟ قال : تبَّا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل الله فيه : { تبت يدا أبي لهب } .
الثاني : ما رواه ابن عباس أنه لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين } أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليها ، ثم نادى يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟! فأنزل الله تعالى هذه السورة .
الثالث : ما حكاه عبد الرحمن بن كيسان أنه كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفْدٌ انطلق إليهم أبو لهب ، فيسألونه عن رسول الله ويقولون : أنت أعلم به ، فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر ، فيرجعون عنه ولا يلقونه ، فأتاه وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه ، فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبّاً له وتعساً ، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاكتأب له ، فأنزل الله تعالى « تَبّتْ » السورة ، وفي « تبّتْ » خمسة أوجه :
أحدها : خابت ، قاله ابن عباس .
الثاني : ضلّت ، وهو قول عطاء .
الثالث : هلكت ، قاله ابن جبير .
الرابع : صفِرت من كل خير ، قاله يمان بن رئاب .
حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان بن عفان سمع الناس هاتفاً يقول :
لقد خلّوْك وانصدعوا ... فما آبوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرِهمُ ... فيا تبَّا لما صَعنوا
والخامس : خسرت ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
تواعَدَني قوْمي ليَسْعوْا بمهجتي ... بجارية لهم تَبّا لهم تبّاً
وفي قوله { يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وجهان :
أحدهما : يعني نفس أبي لهب ، وقد يعبر عن النفس باليد كما قال تعالى { ذلك بما قدمت يداك } أي نفسك .
الثاني : أي عمل أبي لهب ، وإنما نسب العمل إلى اليد لأنه في الأكثر يكون بها .
وقيل إنه كني أبا لهب لحُسنه وتلهّب وجنته ، وفي ذكر الله له بكنيته دون اسمه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه .
الثاني : لأنه كان مسمى بعبد هشم ، وقيل إنه عبد العزى فلذلك عدل عنه .
الثالث : لأن الاسم أشرف من الكنية ، لأن الكنية إشارة إليه باسم غيره ، ولذلك دعا الله أنبياءه بأسمائهم .
وفي قوله { وتَبَّ } أربعة أوجه :
أحدها : أنه تأكيد للأول من قوله { تبت يدا أبي لهب } فقال بعده « وتب » تأكيداً . الثاني : يعني تبت يدا أبي لهب بما منعه الله تعالى من أذى لرسوله ، وتب بما له عند الله من أليم عقابه .
الثالث : يعني قد تبّ ، قاله ابن عباس .
الرابع : يعني وتبّ ولد أبي لهب ، قاله مجاهد .
وفي قراءة ابن مسعود : تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب ، جعله خبراً ، وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول .
وفيما تبت عنه يدا أبي لهب وجهان :
أحدهما : عن التوحيد ، قاله ابن عباس .
الثاني : عن الخيرات ، قاله مجاهد .
{ ما أَغْنَى عَنْه مالُه وما كَسَب } في قوله « ما أغنى عنه » وجهان :
أحدهما : ما دفع عنه .
الثاني : ما نفعه ، قاله الضحاك .
وفي { مالُه } وجهان :
أحدهما : أنه أراد أغنامه ، لأنه كان صاحب سائمة ، قاله أبو العالية .
الثاني : أنه أراد تليده وطارفه ، والتليد : الموروث ، والطارف : المكتسب .
وفي قوله { وما كَسَبَ } وجهان :
أحدهما : عمله الخبيث ، قاله الضحاك .
الثاني : ولده ، قاله ابن عباس .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أولادكم من كسبكم »
وكان ولده عتبة بن أبي لهب مبالغاً في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كأبيه ، فقال حين نزلت { والنجم إذا هوى } كفرت بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، وتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » فأكله الأسد .
وفيما لم يغن عنه ماله وما كسب وجهان :
أحدهما : في عداوته النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : في دفع النار عنه يوم القيامة .
{ سَيَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ } في سين سيصلى وجهان :
أحدهما : أنه سين سوف .
الثاني : سين الوعيد ، كقوله تعالى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } و { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا } وفي { يَصْلًى } وجهان :
أحدهما : صلي النار ، أي حطباً ووقوداً ، قاله ابن كيسان .
الثاني : يعني تُصليه النار ، أي تنضجه ، وهو معنى قول ابن عباس ، فيكون على الوجه الأول صفة له في النار ، وعلى الوجه الثاني صفة للنار .
وفي { ناراً ذاتَ لَهَبٍ } وجهان :
أحدهما : ذات ارتفاع وقوة واشتعال ، فوصف ناره ذات اللهب بقوتها ، لأن قوة النار تكون مع بقاء لهبها .
الثاني : ما في هذه الصفة من مضارعة كنيته التي كانت من نذره ووعيده .
وهذه الآية تشتمل على امرين :
أحدهما : وعيد من الله حق عليه بكفره .
الثاني : إخبار منه تعالى بأنه سيموت على كفره ، وكان خبره صدقاً ، ووعيده حقاً .
{ وامرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ } وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان .
وفي { حمالة الحطب } أربعة أوجه : أحدها : أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها كانت تعيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر ، فكان يحتطب فعيرت بأنها كانت تحتطب ، قاله قتادة .
الثالث : أنها كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة ، قاله الحسن والسدي فسمي الماشي بالنميمة حمال الحطب لأنه يشعل العداوة كما تشعل النار الحطب ، قال الشاعر :
إنّ بني الأَدْرَمِ حَمّالو الحَطَبْ ... هم الوُشاةُ في الرِّضا وفي الغَضَبْ .
عليهمُ اللعْنةُ تَتْرى والحرَبْ . ... وقال آخر :
مِنَ البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظهر لأمةٍ ... ولم تمشِ بَيْن الحيّ بالحَطَب والرطْبِ .
الرابع : أنه أراد ما حملته من الآثام في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كالحطب في مصيره إلى النار .
{ في جِيدِها حَبْل مِنْ مَسَدِ } جيدها : عنقها .
وفي { حبل من مسد } سبعة أقاويل :
أحدها : أنه سلسلة من حديد ، قاله عروة بن الزبير ، وهي التي قال الله تعالى فيها : { ذرعها سبعون ذراعاً } قال الحسن : سميت السلسلة مسداً لأنها ممسودة ، أي مفتولة .
الثاني : أنه حبل من ليف النخل ، قاله الشعبي ، ومن قول الشاعر :
أعوذ بالله مِن لَيْل يُقرّبني ... إلى مُضاجعةٍ كالدَّلْكِ بالمسَدِ .
الثالث : أنها قلادة من ودع ، على وجه التعيير لها ، قاله قتادة .
الرابع : أنه حبل ذو ألوان من أحمر وأصفر تتزين به في جيدها ، قاله الحسن ، ذكرت به على وجه التعيير أيضاً .
الخامس : أنها قلادة من جوهر فاخر ، قالت لأنفقنها في عداوة محمد ، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة .
السادس : أنه إشارة إلى الخذلان ، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوطة في جيدها بحبل من مسد .
السابع : أنه لما حملت أوزار كفرها صارت كالحاملة لحطب نارها التي تصلى بها .
روى الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر أنه لما نزلت « تبت يدا » في أبي لهب وامرأته أم جميل أقبلت ولها ولولة وفي يدها قهر وهي تقول :
مُذَمَّماً عَصَيْنَا ... وأَمْرَهُ أَبَيْنا
ودِينَه قَلَيْنا . ... ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وإني أخاف أن تراك ، فقال : إنها لن تراني ، وقرأ قرآناً اعتصم به ، كما قال تعالى : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } فأقبلت على أبي بكر ، ولم تر رسول الله ، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، فقال : لا ورب هذا البيت ، ما هجاك ، فولت فعثرت في مرطها ، فقالت : تعس مذمم ، وانصرفت .
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قوله تعالى : { قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ } اختلف في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الله خَلَق الخلْق ، فمن خلَقَ الله؟ فنزلت هذه السورة جواباً لهم ، قاله قتادة .
الثاني : أن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك ، فأنزل الله هذه السورة ، وقال : يا محمد انسبني إلى هذا ، وهذا قول أُبي بن كعب .
الثالث : ما رواه أبو روق عن الضحاك أن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : قل له شققت عصانا وسببت آلهتنا وخالفت دين آبائك ، فإن كنت فقيراً أغنيناك وإن كنت مجنوناً داويناك ، وإن هويت امرأة زوجناكها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة ، أنا رسول الله إليكم ، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته » ، أرسلوه ثانية وقالوا له : قل له بيّن لنا جنس معبودك ، فأنزل الله هذه السورة ، فأرسلوه ثالثة وقالوا : قل له لنا ثلاثمائة وستون صنماً لا تقوم بحوائجنا ، فكيف يقوم إله واحِد بحوائج الخلق كلهم؟ فأنزل الله سورة الصافات إلى قوله { إن إلهاكم لواحد } يعني في جميع حوائجكم ، فأرسلوه رابعة وقالوا : قل له بيّن لنا أفعال ربك ، فأنزل الله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } الآية ، وقوله { الذي خلقكم ثم رزقكم } .
{ قل هو الله أحد } خرج مخرج جواب السائل عن الله تعالى ، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم { قل هو اللهُ أحَدٌ } والأحد : هو المتفرد بصفاته الذي لا مِثل له ولا شبه .
فإن قيل : فلم قال « أحَدٌ » على وجه النكرة ، ولم يقل الأحَدُ؟ قيل عنه جوابان :
أحدهما : أنه حذف لام التعريف على نية إضمارها فصارت محذوفة في الظاهر ، مثبتة في الباطن ، ومعناه قل هو الله الأحد .
الثاني : أنه ليس بنكرة ، وإنما هو بيان وترجمة ، قاله المبرد .
فأما الأحد والواحد ففيهما وجهان :
أحدهما : أن الأحد لا يدخل العدد ، والواحد يدخل في العدد ، لأنك تجعل للواحد ثانياً ، ولا تجعل للأحد ثانياً .
الثاني : أن الأحد يستوعب جنسه ، والواحد لا يستوعب ، لأنك لو قلت فلان لا يقاومه أحد ، لم يجز أن يقاومه اثنان ولا أكثر ، فصار الأحد أبلغ من الواحد .
وفي تسميتها بسورة الإخلاص ثلاثة أوجه :
أحدها : لأن في قراءتها خلاصاً من عذاب الله .
الثاني : لأن فيها إخلاص لله من كل عيب ومن كل شريك وولد ، قاله عبد الله ابن المبارك .
الثالث : لأنها خالصة لله ليس فيها أمر ولا نهي .
{ اللَّهُ الصّمَدُ } فيه عشرة تأويلات :
أحدها : أن الصمد المصمت الذي لا جوف له ، قاله الحسن وعكرمه والضحاك وابن جبير ، قال الشاعر :
شِهابُ حُروب لا تَزالُ جيادُه ... عوابسَ يعْلُكْنَ الشكيمَ المُصَمّدا
الثاني : هو الذي لا يأكل ولا يشرب ، قاله الشعبي .
الثالث : أنه الباقي الذي لا يفنى ، قاله قتادة ، وقال الحسن : إنه الدائم الذي لم يزل ولا يزال .
الرابع : هو الذي لم يلد ولم يولد ، قاله محمد بن كعب .
الخامس : أنه الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
ألا بكّر الناعي بخَيريْ بني أسدْ ... بعمرِو بن مَسعودٍ وبالسيّد الصَّمَد .
السادس : أنه السيد الذي قد انتهى سؤدده ، قاله أبو وائل وسفيان وقال الشاعر :
عَلوْتُه بحُسامٍ ثم قلت له ... خُذْها حُذَيْفَ فأنت السيّد الصَّمَدُ .
السابع : أنه الكامل الذي لا عيب فيه ، قاله مقاتل ، ومنه قول الزبرقان :
ساروا جَميعاً بنصْفِ الليلِ واعْتَمدوا ... ألاّ رهينةَ إلا السيّدُ الصَمَدُ .
الثامن : أنه المقصود إليه في الرغائب ، والمستغاث به في المصائب ، قاله السدي .
التاسع : أنه المستغني عن كل أحد قاله أبو هريرة .
العاشر : أنه الذي يفعل مايشاء ويحكم بما يريد ، قاله الحسين بن فضيل .
{ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ } فيه وجهان :
أحدهما : لم يلد فيكون والداً ، ولم يولد فيكون ولداً ، قاله ابن عباس .
الثاني : لم يلد فيكون في العز مشاركاً ، ولم يولد فيكون موروثاً هالكاً ، قاله الحسين بن فضيل .
وإنما كان كذلك لأمرين :
أحدهما : أن هاتين صفتا نقص فانتفتا عنه .
الثاني : أنه لا مثل له ، فلو وَلَدَ أو وُلدِ لصار ذا مثل ، والله تعالى منزه عن أن يكون له مثل .
{ ولم يَكُن له كُفُواً أَحَدٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لم يكن له مثل ولا عديل ، قاله أبي بن كعب وعطاء .
الثاني : يعني لم تكن له صاحبة ، فنفى عنه الولد والوالدة والصاحبة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه لا يكافئه في خلقه أحد ، قاله قتادة وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولم يكن له أحدٌ كُفواً ، فقدم خبر كان على اسمها لتنساق أواخر الآي على نظم واحد .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
وهذه والناس معوذتا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود ، وقيل إن المعوذتين كان يقال لهما « المقشقشتان » أي مبرئتان من النفاق ، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به وليستا من القرآن ، وهذا قول خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت .
{ قُلْ أَعُوذُ بربِّ الفَلَقِ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الفلق سجن في جهنم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء جهنم ، قاله أبو عبد الرحمن .
الثالث : أنه الخلق كله ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه فلق الصبح ، قاله جابر بن عبد الله ومنه قول الشاعر :
يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتفقا ... أرْعى النجومَ إلى أنْ نوَّرَ الفَلَقُ .
الخامس : أنها الجبال والصخور تنفلق بالمياه .
السادس : أنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره ، قاله الحسن .
ولأصحاب الغوامض أنه فلق القلوب للأفهام حتى وصلت إليها ووصلت فيها ، وأصل الفلق الشق الواسع ، وقيل للصبح فلق لفلق الظلام عنه كما قيل له فجر لانفجار الضوء منه .
{ مِن شَرِّ ما خَلَق } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن شر ما خلق جهنم ، قاله ثابت البناني .
الثاني : إبليس وذريته ، قاله الحسن .
الثالث : من شر ما خلق في الدنيا والآخرة ، قاله ابن شجرة .
وفي هذا الشر وجهان :
أحدهما : أنه محمول على عمومه في كل شر .
الثاني : أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب .
{ ومن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني الشمس إذا غربت ، قاله ابن شهاب .
الثاني : القمر إذا ولج أي دخل في الظلام .
روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم نظر إلى القمر فقال : يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسقٍ إذا وقب ، وهذا الغاسق إذا وقب .
الثالث : أنه الثريا إذا سقطت ، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عنذ وقوعها ، وترتفع عند طلوعها ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه الليل ، لأنه يخرج السباع من آجامها ، والهوام من مكامنها ويبعث أهل الشر على العبث والفساد ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ، قال الشاعر :
يا طيْفَ هِنْدٍ لقد أبقيْتَ لي أرَقا ... إذ جئْتَنا طارِقاً والليلُ قد غَسَقا
وأصل الغسق الجريان بالضرر ، مأخوذ من قولهم غسقت القرحة إذا جرى صديدها ، والغسّاق : صديد أهل النار ، لجريانه بالعذاب وغسقت عينه إذا جرى دمعها بالضرر في الحلق .
فعلى تأويله أنه الليل في قوله « إذا وقب » أربعة تأويلات :
أحدها : إذا أظلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : إذا دخل ، قاله الضحاك .
الثالث : إذا ذهب ، قاله قتادة .
الرابع : إذا سكن ، قاله اليمان بن رئاب .
{ ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ } قال أهل التأويل : من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر ، قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ... تِ في عِضَه العاضه المعْضِه
وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك ، طلباً للشفاء ، كما قال متمم بن نويرة :
نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى ... من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ .
وقد روى الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئاً وكل إليه » ، النفث : النفخ في العقد بلا ريق ، والتفل : النفخ فيها بريق ، وفي { شر النفاثات في العقد } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه إيهام للأذى وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض ، إلا استشعار ربما أحزن ، أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية .
الثاني : أنه قد يؤذى بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور فيؤثر فيه كتأثير العين ، وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله .
الثالث : أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن يمتحن الله بعض عباده .
فأما المروي من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أثبته أكثرهم ، وأن قوماً من اليهود سحروه وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها .
روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة ، فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : ما شكواه؟ فقال الآخر : مطبوب ، ( أي مسحور ، والطب : السحر ) قال : ومن طبّه؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها ، ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة ، فأمر بحل العقد ، فكان كلما حل عقدة وجد راحة ، حتى حلت العقد كلها ، فكأنما أنشط من عقال ، فنزلت عليه المعوذتان ، وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد ، وأمر أن يتعوذ بهما .
وأنكره آخرون ، ومنعوا منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صح في غيره ، لما في استمراره عليه من خبل العقل ، وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول : { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } .
{ ومن شر حاسد إذا حسد } أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها ، والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل ، فالحسد شر مذموم ، والمنافسة رغبة مباحة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المؤمن يغبط والمنافق يحسد » .
وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان :
أحدهما : من شر نفسه وعينه ، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر ، والمعيون المصاب بالعين ، وقال الشاعر :
قد كان قومُك يَحْسبونك سيّدا ... وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ
الثاني : أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فإنه يتبع المساوىء ويطلب العثرات ، وقد قيل إن الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة ، وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله ، نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه .
وافتتح السورة ب « قُلْ » لأن الله تعالى أمر نبيه أن يقولها ، وهي من السورة لنزولها معها ، وقد قال بعض فصحاء السلف : احفظ القلاقل ، وفيه تأويلان :
أحدهما : قل « قل » في كل سورة ذكر في أوائلها لأنه منها .
والثاني : احفظ السورة التي في أولها « قل » لتأكيدها بالأمر بقراءتها .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{ قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ } وإنما ذكر أنه رب الناس ، وإن كان ربّاً لجميع الخلق لأمرين :
أحدهما : لأن الناس معظمون ، فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا .
الثاني : لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم ، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم . { مَلِكِ النّاسِ * إلَهِ النّاسِ } لأن في الناس ملوكاً ، فذكر أنه ملكهم ، وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم .
{ مِن شَرَّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ } الخّناس هو الشيطان ، وفي تسميته بذلك وجهان : أحدهما : لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى :
{ فلا أُقْسِمُ بالخُنَّس } يعني النجوم لاختفائها بعد الظهور .
الثاني : لأنه يرجع عن ذكر الله ، والخنس الرجوع ، قال الراجز :
وصاحب يَمْتَعِسُ امْتِعاسا ... يزدادُ من خَنسِه خناسا
وأما « الوسواس » ها هنا ففيه وجهان :
أحدهما : أنه الشيطان لأنه يوسوس للإنسان ، وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله « الوسواس الخناس » قال : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله تعالى خنس ، فعلى هذا يكون في تأويل الخناس وجهان :
أحدهما : الراجع بالوسوسة على الهوى .
الثاني : أنه الخارج بالوسوسة في اليقين .
الوجه الثاني : أنه وسواس الإنسان من نفسه ، وهي الوسوسة التي يحدث بها نفسه .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنّ الله تعالى تجاوز لأمتى عما وسوست به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به » .
{ الذي يُوسْوِسُ في صُدورِ النّاسِ } وسوسة الشيطان هي الدعاء إلى طاعته بما يصل إلى القلب من قول متخيل ، أو يقع في النفس من أمر متوهم ومنه الموسوس إذا غلب عليه الوسوسة ، لما يعتريه من المسرة ، وأصله الصوت الخفي ، قال الأعشى :
تسمع للحلْي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل .
{ من الجِنّة والنّاسِ } أما وسواس الجنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه ، وأما وسواس الناس ففيه وجهان :
أحدهما : أنها وسوسة الإنسان من نفسه ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه إغواء من يغويه من الناس .
قال قتادة : إن من الإنس شياطين ، وإن من الجن شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ حسناً وحسيناً فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عْينٍ لامّةٍ ، ونحن نسعتيذ بالله مما عوذ ونستمده جميل ما عوّد .
وفقنا الله وقارئه لتدبر ما فيه وتفهم معانيه ، فيه توفيقنا وعليه توكلنا ، والحمد لله وحده وكفى ، وصلواته على رسوله محمد المصطفى ، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه الطاهرين .