كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
{ خذوه فاعتِلوه } [ الحاقة : 30 ] .
الثامن : هو الفاحش اللئيم ، قاله معمر ، قال الشاعر :
يعتل من الرجال زنيم ... غير ذي نجدةٍ وغير كريم .
التاسع : ما رواه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غَنْم ، ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يدخل الجنةَ جواظٌ ولا جعظري ولا العتلّ الزنيم » فقال رجل : ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الجواظ الذي جمع ومنع ، والجعظري الغليظ ، والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف ، المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام ، الظلوم للناس » .
وأما الزنيم ففيه ثماني تأويلات :
أحدها : أنه اللين ، رواه موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنه الظلوم ، قاله ابن عباس في رواية ابن طلحة عنه .
الثالث : أنه الفاحش ، قاله إبراهيم .
الرابع : أنه الذي له زنمة كزنمة الشاة ، قال الضحاك : لأن الوليد بن المغيرة كان له أسفل من أذنه زنمة مثل زنمة الشاة ، وفيه نزلت هذه الآية ، قال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق ولذلك سمي زنيماً .
الخامس : أنه ولد الزنى ، قاله عكرمة .
السادس : أنه الدعيّ ، قال الشاعر :
زنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارعُ
السابع : أنه الذي يعرف بالأُبنة ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثامن : أنه علامة الكفر كما قال تعالى : { سنسمه على الخرطوم } ، قاله أبو رزين .
{ أنْ كان ذا مالٍ وبنينَ } قيل إنه الوليد بن المغيرة ، كانت له حديقة بالطائف ، وكان له اثنا عشر ابناً ، حكاه الضحاك .
وقال عليّ بن أبي طالب : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة .
{ إذا تتْلى عليه آياتُنا } يعني القرآن .
{ قال أساطيرُ الأوّلين } يعني أحاديث الأولين وأباطيلهم .
{ سَنَسِمُهُ على الخُرطومِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها سمة سوداء تكون على أنفه يوم القيامة يتميز بها الكافر ، كما قال تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } [ الرحمن : 41 ] .
الثاني : أنه يضرب في النار على أنفه يوم القيامة ، قاله الكلبي .
الثالث : أنه إشهار ذكره بالقبائح ، فيصير موسوماً بالذكر لا بالأثر .
الرابع : هو ما يبتليه اللَّه به في الدنيا في نفسه وماله وولده من سوء وذل وصَغار ، قاله ابن بحر واستشهد بقول الأعشى .
فدَعْها وما يَغنيك واعمد لغيرها ... بشِعرك واغلب أنف من أنت واسم .
وقال المبرد : الخرطوم هو من الناس الأنف ، ومن البهائم الشفة .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
{ إنا بَلَوناهم كما بَلَوْنا أَصْحابَ الجَنَّةِ } فيهم قولان :
أحدهما : إن الذين بلوناهم أهل مكة بلوناهم بالجوع كرتين ، كما بلونا أصحاب الجنة حتى عادت رماداً .
الثاني : أنهم قريش ببدر .
حكى ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذاً واربطوهم في الحبال ، ولا تقتلوا منهم أحداً ، فضرب اللَّه بهم عند العدو مثلاً بأصحاب الجنة .
{ إذ أَقْسموا لَيَصرِمُنّها مُصْبِحينَ } قيل إن هذه الجنة حديقة كانت باليمن بقرية يقال لها ضَروان ، بينها وبين صنعاء اليمن اثنا عشر ميلاً ، وفيها قولان :
أحدهما : أنها كانت لقوم من الحبشة .
الثاني : قاله قتادة أنها كانت لشيخ من بني إسرائيل له بنون ، فكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ، ويتصدق بالباقي ، فجعل بنوه يلومونه ويقولون : لئن ولينا لنفعلن ، وهو لا يطيعهم حتى مات فورثوها ، فقالوا : نحن أحوج بكثرة عيالنا من الفقراء والمساكين « فأقسموا ليصرُمنّها مصبحين » أي حلفوا أن يقطعوا ثمرها حين يصبحون .
{ ولا يَسْتَثْنونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يستثنون من المساكين ، قاله عكرمة .
الثاني : استثناؤهم قول سبحان ربنا ، قاله أبو صالح .
الثالث : قول إن شاء اللَّه .
{ فطاف عليها طائفٌ مِن ربِّك وهم نائمونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أمر من ربك ، قاله ابن عباس .
الثاني : عذاب من ربك ، قاله قتادة .
الثالث : أنه عنق من النار خرج من وادي جنتهم ، قاله ابن جريج .
{ وهم نائمون } أي ليلاً وقت النوم ، قال الفراء : الطائف لا يكون إلا ليلاً .
{ فأصبحت كالصَريم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كالرماد الأسود ، قاله ابن عباس .
الثاني : كالليل المظلم ، قاله الفراء ، قال الشاعر :
تطاولَ ليلُكَ الجَوْنُ البهيمُ ... فما ينجاب عن صبحٍ ، صَريمُ
الثالث : كالمصروم الذي لم يبق فيه ثمر .
روى أسباط عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « أياكم والمعاصي ، إن العبد ليذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له » ، ثم تلا : { فطاف عليها طائف من ربك . . . } الآيتين قد حرموا خير جنتهم بذنبهم .
{ فتنادَوْا مُصبِحينَ } أي دعا بعضعهم بعضاً عند الصبح .
{ أنِ اغْدُوا على حَرْثِكم } قال مجاهد : كان الحرث عنباً .
{ إن كنتم صارمين } أي عازمين على صرم حرثكم في هذا اليوم .
{ فانْطَلَقُوا وهم يتخافتونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يتكلمون ، قاله عكرمة .
الثاني : يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ، قاله عطاء وقتادة .
الثالث : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم .
الرابع : لا يتشاورون بينهم .
{ أن لا يدخُلَنّها اليومَ عليكم مِسكين } قاله يحيى بن سلام .
{ وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين } فيه تسعة أوجه :
أحدها : على غيظ ، قاله عكرمة .
الثاني : على جَدٍّ ، قاله مجاهد .
الثالث : على منع ، قاله أبو عبيدة .
الرابع : على قصد ، ومنه قول الشاعر :
أقْبَلَ سيلٌ جاء من عندِ اللّه ... يحْرِدُ حَرْدَ الجَنّة المُغِلّة
اُي يقصد قصد الجنة المغلة .
الخامس : على فقر ، قاله الحسن .
السادس : على حرص ، قاله سفيان .
السابع : على قدرة ، قاله ابن عباس .
الثامن : على غضب ، قاله السدي .
التاسع : أن القرية تسمى حرداً ، قاله السدي .
وفي قوله : « قادرين » ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قادرين على المساكين ، قاله الشعبي .
الثاني : قادرين على جنتهم عند أنفسهم ، قاله قتادة .
الثالث : أن موافاتهم إلى جنتهم في الوقت الذي قدروه ، قاله ابن بحر .
ويحتمل رابعاً : أن القادر المطاع بالمال والأعوان ، فإذا ذهب ماله تفرق أعوانه فعُصيَ وعجز .
{ فلمّا رأوْها قالوا إنا لَضالُّون } أي أنهم لما رأوا أرض الجنة لا ثمرة فيها ولا شجر قالوا إنا ضالون الطريق وأخطأنا مكان جنتنا ، ثم استرجعوا فقالوا :
{ بل نحن محرومون } أي حُرمنا خير جنتنا ، قال قتادة : معناه جوزينا فحُرمنا .
{ قال أَوْسَطُهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أعدلهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : خيرهم ، قاله قتادة .
الثالث : أعقلهم ، قاله ابن بحر .
{ أَلَمْ أقُل لكم لولا تُسَبَّحونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لولا تستثنون عند قولهم « ليصرمنها مصبحين » ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن التسبيح هو الاستثناء ، لأن المراد بالاستثناء ذكر اللَّه ، وهو موجود من التسبيح .
الثالث : أن تذكروا نعمة اللَّه عليكم فتؤدوا حقه من أموالكم .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{ أم لكم أيْمانٌ علينا بالغةٌ } والبالغة المؤكدة باللَه .
{ إنّ لكم لما تحْكُمُون } فيه وجهان :
أحدهما : أم لكم أيمان عيلنا بالغة أننا لا نعذبكم في الدنيا إلى يوم القيامة .
{ سَلْهم أيُّهم بذلك زعيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الزعيم الكفيل ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الرسول ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : أنه القيم بالأمر لتقدمه ورئاسته .
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
{ يومَ يُكْشَفُ عن ساقٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عن ساق الآخرة ، قاله الحسن .
الثاني : الساق الغطاء ، قاله الربيع بن أنس ، ومنه قول الراجز :
في سَنَةٍ قد كشفتْ عن ساقها ... حمراءَ تبري اللحم عن عراقها
الثالث : أنه الكرب والشدة ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصُّراح
الرابع : هو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا ، قال الضحاك : لأنه أول الشدائد ، كما قال الراجز :
قد كشفت عن ساقها فشُدُّوا ... وجدّت الحربُ بكم فجدوا
فأما ما روي أن اللَّه تعالى يكشف عن ساقه فإن اللَّه تعالى منزه عن التبعيض والأعضاء وأن ينكشف أو يتغطى ، ومعناه أنه يكشف عن العظيم من أمره ، وقيل يكشف عن نوره .
وفي هذا اليوم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يوم الكبر والهرم والعجز عن العمل .
الثاني : أنه يوم حضور المنية والمعاينة .
الثالث : أنه يوم القيامة .
{ ويُدْعَون إلى السجودِ فلا يستطيعون } فمن قال في هذا اليوم إنه يوم القيامة جعل الأمر بهذا السجود على وجه التكليف .
ومن جعله في الدنيا فلهم في الأمر بهذا السجود قولان :
أحدهما : أنه تكليف .
الثاني : تندم وتوبيخ للعجز عنه ، وكان ابن بحر يذهب إلى أن هذا الدعاء إلى السجود إنما كان في وقت الاستطاعة ، فلم يستطيعوا بعد العجز أن يستدركوا ما تركوا .
{ فذرْنِي ومَن يُكذّبُ بهذا الحديث }
قال السدي : يعني القرآن .
ويحتمل آخر أي بيوم القيامة .
{ سنستدرجهم مِن حيثُ لا يَعْلمون } فيه خمسة أوجه :
أحدها : سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون ، قاله السدي .
الثاني : نتبع النعمة السيئة وننسيهم التوبة ، قاله الحسن .
الثالث : نأخذهم من حيث درجوا ودبوا ، قاله ابن بحر .
الرابع : هو تدريجهم إلى العذاب بإدنائهم منه قليلاً بعد قليل حتى يلاقيهم من حيث لا يعلمون ، لأنهم لو علموا وقت أخذهم بالعذاب ما ارتكبوا المعاصي وأيقنوا بآمالهم .
الخامس : ما رواه إبراهيم بن حماد ، قال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مغبون بالثناء عيه ، وكم من مغرور بالستر عليه .
والاستدراج : النقل من حال إلى حال كالتدرج ، ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{ فاصْبِرْ لحُكمِ ربّك } فيه وجهان :
أحدهما : لقضاء ربك .
الثاني : لنصر ربك ، قاله ابن بحر .
{ ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ } قال قتادة : إن اللَّه تعالى يعزي نبيّه ويأمره بالصبر ، وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت وهو يونس بن متى .
{ إذ نادى وهو مكظوم } أما نداؤه فقوله : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
وفي مكظوم أربعة أوجه :
أحدها : مغموم ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : مكروب ، قاله عطاء وأبو مالك ، والفرق بينهما أن الغم في القلب ، والكرب في الأنفاس .
الثالث : محبوس ، والكظم الحبس ، ومنه قولهم : فلان كظم غيظه أي حبس غضبه ، قاله ابن بحر .
الرابع : أنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المبرد .
{ لولا أن تَدارَكه نِعْمةٌ مِن ربِّه } فيه أربعة أوجه :
أحدها : النبوة ، قاله الضحاك .
الثاني : عبادته التي سلفت ، قاله ابن جبير .
الثالث : نداؤه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن نعمة اللَّه عليه إخراجه من بطن الحوت ، قاله ابن بحر .
{ لنُبِذَ بالعراء } فيه وجهان :
أحدهما : لألقي بالأرض الفضاء ، قاله السدي ، قال قتادة : بأرض اليمن .
الثاني : أنه عراء يوم القيامة وأرض المحشر ، قاله ابن جرير .
{ وهو مذموم } فيه وجهان :
أحدهما : بمعنى مليم .
الثاني : مذنب ، قاله بكر بن عبد الله ، ومعناه أن ندعه مذموماً .
{ وإن يكادُ الذين كَفَروا ليُزْلِقونك بأَبَصارهم } الآية . فيه ستة أوجه :
أحدها : معناه ليصرعونك ، قاله الكلبي .
الثاني : ليرمقونك ، قاله قتادة .
الثالث : ليزهقونك ، قاله ابن عباس ، وكان يقرؤها كذلك .
الرابع : لينفذونك ، قاله مجاهد .
الخامس : ليمسونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك ، قاله السدي .
السادس : ليعتانونك ، أي لينظرونك بأعينهم ، قاله الفراء .
وحكي أنهم قالوا : ما رأينا مثل حجمه ونظروا إليه ليعينوه ، أي ليصيبوه بالعين ، وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله تجوّع ثلاثاً ثم يتعرض لنفسه أو ماله فيقول : تاللَّه ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر مالاً منه ولا أحسن ، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل اللَّه هذه الآية .
{ لّما سَمِعوا الذكْرَ } فيه وجهان :
أحدهما : محمد .
الثاني : القرآن .
{ وما هو إلا ذِكْرٌ للعالمين } فيه وجهان :
أحدهما : شرف للعالمين ، كما قال تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] .
الثاني : يذكرهم وعد الجنة ووعيد النار .
وفي العالمين وجهان :
أحدهما : الجن والإنس ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل أمة من أمم الخلق ممن يُعرف ولا يُعرف .
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
قوله تعالى { الحاقّةُ ما الحاقّةُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه ما حقّ من الوعد والوعيد بحلوله ، وهو معنى قول ابن بحر .
الثاني : أنه القيامة التي يستحق فيها الوعد والوعيد ، قاله الجمهور وفي تسميتها بالحاقة ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما ذكرنا من استحقاق الوعد والوعيد بالجزاء على الطاعات والمعاصي ، وهو معنى قول قتادة ويحيى بن سلام .
الثاني : لأن فيها حقائق الأمور ، قاله الكلبي .
الثالث : لأن حقاً على المؤمن أن يخافها .
وقوله « ما الحاقة » تفخيماً لأمرها وتعظيماً لشأنها .
{ وما أدْراكَ ما الحاقّة } قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شىء في القرآن فيه « وما أدراك » فقد أدراه إياه وعلّمه إياه ، وكل شيء قال فيه « وما يدريك » فهو ما لم يعلمه إياه .
وفيه وجهان :
أحدهما : وما أدراك ما هذا الاسم ، لأنه لم يكن في كلامه ولا كلام قومه ، قاله الأصم .
الثاني : وما أدراك ما يكون في الحاقة .
{ كذّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعةِ } أما ثمود فقوم صالح كانت منازلهم في الحجر فيما بين الشام والحجاز ، قاله محمد بن إسحاق : وهو وادي القرى ، وكانوا عرباً .
وأما عاد فقوم هود ، وكانت منازلهم بالأحقاف ، والأحقاف الرمل بين عُمان إلى حضرموت واليمن كله ، وكانوا عرباً ذوي خَلق وبَسطة ، ذكره محمد بن إسحاق .
وأما « القارعة » ففيها قولان :
أحدهما : أنها قرعت بصوت كالصيحة ، وبضرب كالعذاب ، ويجوز أن يكون في الدنيا ، ويجوز أن يكون في الآخرة .
الثاني : أن القارعة هي القيامة كالحاقة ، وهما اسمان لما كذبت بها ثمود وعاد .
وفي تسميتها بالقارعة قولان :
أحدهما : لأنها تقرع بهولها وشدائدها .
الثاني : أنها مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين ، قاله المبرد .
{ فأمّا ثمودُ فأهلِكوا بالطاغية } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : بالصيحة ، قاله قتادة .
الثاني : بالصاعقة ، قاله الكلبي .
الثالث : بالذنوب ، قاله مجاهد .
الرابع : بطغيانهم ، قاله الحسن .
الخامس : أن الطاغية عاقر الناقة ، قاله ابن زيد .
{ وأمّا عادٌ فأهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ } روى مجاهد عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نُصِرْتُ بالصَّبا وأُهلِكتْ عاد بالدَّبور » .
فأما صرصر ففيها قولان :
أحدهما : أنها الريح الباردة ، قاله الضحاك والحسن ، مأخوذ من الصر وهو البرد .
الثاني : أنها الشديدة الصوت ، قاله مجاهد .
وأما العاتية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : القاهرة ، قاله ابن زيد .
الثاني : المجاوزة لحدها .
الثالث : التي لا تبقى ولا ترقب .
وفي تسميتها عاتية وجهان :
أحدهما : لأنها عتت على القوم بلا رحمة ولا رأفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنها عتت على خزانها بإذن اللَّه .
{ سَخّرها عليهم سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً } اختلف في أولها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنّ أولها غداة يوم الأحد ، قاله السدي .
الثاني : غداة يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : غداة يوم الجمعة ، قاله الربيع بن أنس .
وفي قوله { حُسُوماً } أربعة تأويلات :
أحدها : متتابعات ، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والفراء ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
وكم يحيى بها من فرط عام ... وهذا الدهر مقتبل حسوم .
الثاني : مشائيم ، قاله عكرمة والربيع .
الثالث : أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها ، لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم ، وانقطعت مع غروب الشمس من آخر يوم ، قاله الضحاك .
الرابع : لأنها حسمتهم ولم تبق منهم أحداً ، قاله ابن زيد ، وفي ذلك يقول الشاعر :
ومن مؤمن قوم هود ... فأرسل ريحاً دَبوراً عقيماً
توالتْ عليهم فكانت حُسوماً ... { فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : البالية ، قاله أبو الطفيل .
الثاني : الخالية الأجواف ، قاله ابن كامل .
الثالث : ساقطة الأبدان ، خاوية الأصول ، قاله السدي .
وفي تشبيههم بالنخل الخاوية ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الريح كانت تدخل في أجوافهم من الخيشوم ، وتخرج من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : لأن الريح قطعت رؤوسهم عن أجسادهم ، فصاروا بقطعها كالنخل الخاوية .
{ وجاءَ فرعونُ ومَن قَبْلَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : ومن معه من قومه وهو تأويل من قرأ « ومن قِبلَهُ » بكسر القاف وفتح الباء .
والثاني : ومن تقدمه ، وهو تأويل من قرأ « ومن قَبْلَهُ » بفتح القاف وتسكين الباء .
{ والمؤتفِكاتُ بالخاطئة } في المؤتفكات قولان :
أحدهما : أنها المقلوبات بالخسف .
الثاني : أنها الأفكات وهي الاسم من الآفكة ، أي الكاذبة .
والخاطئة : هي ذات الذنوب والخطايا ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم قوم لوط .
الثاني : قارون وقومه ، لأن اللَّه خسف بهم .
{ فعصَوْا رسولَ ربِّهم } فيه وجهان :
أحدهما : فعصوا رسول الله إليهم بالتكذيب .
الثاني : فعصوا رسالة اللَّه إليهم بالمخالفة ، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ، قال الشاعر :
لقد كذَبَ الواشون ما بُحْت عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول .
{ فَأَخَذَهُمْ أَخذةً رابيةً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : شديدة ، قاله مجاهد .
الثاني : مُهلكة ، قاله السدي .
الثالث : تربوبهم في عذاب اللَّه أبداً ، قاله أبو عمران الجوني .
الرابع : مرتفعة ، قاله الضحاك .
الخامس : رابية للشر ، قاله ابن زيد .
{ إنا لما طَغَى الماءُ حَمَلْناكم في الجاريةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ظَهَر ، رواه ابن أبي نجيح .
الثاني : زادَ وكثر ، قاله عطاء .
الثالث : أنه طغى على خزانه من الملائكة ، غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه ، قاله عليّ رضي الله عنه .
قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً .
وروي عن ابن عباس أنه قال : ما أرسل من ريح قط إلا بمكيال .
وما أنزل الله من قطرة قط إلا بمثقال ، إلا يوم نوح وعاد ، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عيله سبيل ، ثم قرأ : « إنا لما طغى الماء » الآية . وإن الريح طغت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ . « بريح صرصر عاتية سخرها عليهم » الآية .
{ حملناكم في الجارية } يعني سفينة نوح ، سميت بذلك لأنها جارية على الماء .
وفي قوله حملناكم وجهان :
أحدهما : حملنا آباءكم الذين أنتم من ذريتهم .
الثاني : أنهم في ظهور آبائهم المحمولين ، فصاروا معهم ، وقد قال العباس بن عبد المطلب ما يدل على هذا الوجه وهو قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
من قبلها طِبتَ في الظلال وفي ... مُستودع حيث يُخْصَفُ الورقُ .
ثم هبطتَ البلادَ لا بشرٌ ... أنت ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ .
بل نطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ... ألجَمَ نَسراً وأهلَه الغرقُ .
{ لنجْعلهَا لكم تذكِرةً } يعني سفينة نوح جعلها اللَّه لكم تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم في قول قتادة ، وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي .
{ وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيةٌ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : سامعة ، قاله ابن عباس .
الثاني : مؤمنة ، قاله ابن جريج .
الثالث : حافظة ، وهذا قول ابن عباس أيضاً .
قال الزجاج : يقال وعيت لما حفظته في نفسك ، وأوعيت لما حفظته في غيرك .
وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : « سألت ربي أن يجلعها أُذُنَ عليٍّ » قال مكحول : فكان عليٌّ رضي اللَّه عنه يقول : ما سمعت من رسول الله شيئاً قط نسيته إلا وحفظته .
الرابع : [ أنالأذن الواعية ] أُذن عقلت عن اللَّه وانتفعت بما سمعت من كتاب اللَّه ، قاله قتادة .
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
{ فيومئذٍ وقَعَتِ الواقعةُ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : القيامة .
الثاني : الصيحة .
الثالث : أنها الساعة التي يفنى فيها الخلق .
{ وانْشَقّت السماءُ فهِي يومئذٍ واهيةٌ } في انشقاقها وجهان :
أحدهما : أنها فتحت أبوابها ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنها تنشق من المجرة ، قاله عليّ رضي الله عنه .
وفي قوله « واهية » وجهان :
أحدهما : متخرقة ، قاله ابن شجرة ، مأخوذ من قولهم وَهَى السقاءُ إذا انخرق ، ومن أمثالهم :
خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤه ... ومَن هُريق بالفلاةِ ماؤهُ
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه .
الثاني : ضعيفه ، قاله يحيى بن سلام .
{ والملَكُ على أَرجائها } فيه وجهان :
أحدهما : على أرجاء السماء ، ولعله قول مجاهد وقتادة .
الثاني : على أرجاء الدنيا ، قاله سعيد بن جبير .
وفي « أرجائها » أربعة أوجه :
أحدها : على جوانبها ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : على نواحيها ، قاله الضحاك .
الثالث : أبوابها ، قاله الحسن .
الرابع : ما استدق منها ، قاله الربيع بن أنس .
ووقوف الملائكة على أرجائها لما يؤمرون به فيهم من جنة أو نار .
{ ويَحْمِلُ عَرْشَ ربِّك فوقهم يَومئذٍ ثمانيةُ } يعني أن العرش فوق الثمانية وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : ثمانية أملاك من الملائكة ، قاله العباس بن عبد المطلب .
الثاني : ثمانية صفوف من الملائكة ، قاله ابن جبير .
الثالث : ثمانية أجزاء من تسعة ، وهم الكروبيون ، قاله ابن عباس ، وروى أبو هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « يحمله اليوم أربعة ، وهم يوم القيامة ثمانية » .
وفي قوله { فوقهم } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم يحملون العرش فوق رؤوسهم .
الثاني : أن حملة العرش فوق الملائكة الذين على أرجائها .
الثالث : أنهم فوق أهل القيامة .
{ يومئذٍ تُعْرَضونَ } يعني يوم القيامة ، روى الحسن عن أبي موسى قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، أما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف من الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله »
{ لا تَخْفَى منكم خافيةٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا يخفى المؤمن من الكافر ، ولا البر من الفاجر ، قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاص .
الثاني : لا تستتر منكم عورة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يحشر الناس حفاة عراة »
الثالث : أن خافية بمعنى خفيّة كانوا يخفونها من أعمالهم حكاه ابن شجرة .
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{ فأمّا مَنْ أُوتي كتابَه بيمينه } لأن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة .
{ فيقول هاؤم اقْرَؤوا كِتابيهْ } ثقة بسلامته وسروراً بنجاته ، لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج ، والشمال من دلائل الغم ، قال الشاعر :
أبيني أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني ... فأفرح أم صيرتني من شِمالِك
وفي قوله « هاؤمُ » ثلاثة أوجه :
أحدها : بمعنى هاكم اقرؤوا كتابيه فأبدلت الهمزة من الكاف ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أنه بمعنى هلموا اقرؤوا كتابيه ، قال الكسائي : العرب تقول للواحد هاءَ وللاثنين هاؤما وللثلاثة هاؤم .
الثالث : أنها كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح روي أن أعرابياً نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فأجابه هاؤم بطول صوته .
والهاء من « كتابيه » ونظائرها موضوعة للمبالغة ، وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد .
{ إني ظننتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَهْ } فيه وجهان :
أحدهما : أي علمت ، قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك ، وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك .
الثاني : ما قاله الحسن في هذه الآية ، أن المؤمن أحْسن بربه الظن ، فأحسن العمل ، وأن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل .
وفي الحساب ها هنا وجهان :
أحدهما : في البعث .
الثاني : في الجزاء .
{ فهو في عِيشَةٍ راضيةٍ } بمعنى مَرْضيّة ، قال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري يرفعانه : إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ، ويصحّون فلا يمرضون أبداً ، ويتنعمون فلا يرون بؤساً أبداً ، ويشبّون فلا يهرمون أبداً .
{ في جنة عالية } يحتمل وجهين :
أحدهما : رفيعة المكان .
الثاني : عظيمة في النفوس .
{ قطوفها دانيةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : دانية من الأيدي يتناولها القائم والقاعد .
الثاني : دانية الإدراك لا يتأخر حملها ولا نضجها .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
{ وأمّا من أُوتي كتابه بشماله } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه كان يقول ذلك راجياً .
الثاني : أنه كان مستوراً فافتضح ، ومن عادة العرب أن تفرق بين القبول والرد وبين الكرامة والهوان ، باليمين والشمال ، فتجعل اليمين بشيراً بالقبول والكرامة ، وتجعل الشمال نذيراً بالرد والهوان .
{ ولم أَدْرِ ما حِسابِيَهْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لما شاهد من كثرة سيئاته وكان يظنها قليلة ، لأنه أحصاه اللَّه ونسوه .
الثاني : لما رأى فيه من عظيم عذابه وأليم عقابه .
{ يَا لَيْتَها كانت القاضيةَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني موتاً لا حياة فيه بعدها ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه تمنى أن يموت في الحال ، ولم يكن في الدنيا أكره إليه من الموت ، قاله قتادة .
{ ما أغْنَى عَنيِّ مالِيَهْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن كثرة ماله في الدنيا لم يمنع عنه في الآخرة .
الثاني : لأن رغبته في زينة الدنيا وكثرة المال هو الذي ألهاه عن الآخرة . { هَلَكَ عني سُلْطانِيَهْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه ضللت عن حُجّتي ، قاله مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك .
الثاني : سلطانه الذي تسلط به على بدنه حتى أقدم به على معصيته ، وهذا معنى قول قتادة .
الثالث : أنه كان في الدنيا مطاعاً في أتباعه ، عزيزاً في امتناعه ، وهذا معنى قول الربيع بن أنس .
وحكي أن هذا في أبي جهل بن هشام ، وذكر الضحاك أنها نزلت في الأسود ابن عبد الأسد .
{ فليس له اليومَ ها هنا حَميمٌ } الحميم : القريب ، ومعناه ليس له قريب ينفعه ويدفع عنه كما كان يفعل معه في الدنيا .
{ ولا طعامٌ إلا مِنْ غِسْلين } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه غسالة أطرافهم ، قاله يحيى بن سلام ، قال الأخفش :
هو فعلين من الغسل .
الثاني : أنه صديد أهل النار ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه شجرة في النار هي أخبث طعامهم ، قاله الربيع بن أنس .
الرابع : أنه الحار الذي قد اشتد نضجه ، بلغة أزد شنوءة .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
{ فلا أُقْسِمُ بما تُبصِرون } قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال :
إن محمداً ساحر ، وقال أبو جهل : إنه شاعر ، وقال عقبة بن معيط : إنه كاهن فقال اللَّه تعالى قسماً على كذبهم « فلا أُقْسِم » أي أقسم ، و « لا » صلة زائدة .
{ وَما لا تُبْصِرونَ } فيه وجهان :
أحدهما : بما تبصرون من الخلق وما لا تبصرون من الخلق ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه رد لكلام سبق أي ليس الأمر كما يقوله المشركون .
ويحتمل ثالثاً : بما تعلمون وما لا تعلمون ، مبالغة في عموم القسم .
{ إنه لَقْولُ رسولٍ كريمٍ } فيه قولان :
أحدهما : جبريل ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال ابن قتيبة : وليس القرآن من قول الرسول ، إنما هو من قول اللَّه وإبلاغ الرسول ، فاكتفى بفحوى الكلام عن ذكره .
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ ولو تَقوَّل علينا بَعْضَ الأقاويل } أي تكلّف علينا بعض الأكاذيب ، حكاه عن كفار قريش أنهم قالوا ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم .
{ لأخْذنا منه باليمين } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لأخذنا منه قوّته كلها ، قاله الربيع .
الثاني : لأخذنا منه بالحق ، قاله السدي والحكم ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ ... تَلَقّاها عَرابةُ باليَمينِ
أي بالاستحقاق .
الثالث : لأخذنا منه بالقدرة ، قاله مجاهد .
الرابع : لقطعنا يده اليمنى ، قاله الحسن .
الخامس : معناه لأخذنا بيمينه إذلالاً له واستخفافاً به ، كما يقال لما يراد به الهوان ، خذوا بيده ، حكاه أبو جعفر الطبري .
{ ثم لَقَطَعْنا مِنه الوَتينَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه نياط القلب ويسمى حبل القلب ، وهو الذي القلب معلق به ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القلب ومراقّه وما يليه ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه الحبل الذي في الظهر ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه عرق بين العلباء والحلقوم ، قاله الكلبي .
وفي الإشارة إلى قطع ذلك وجهان :
أحدهما : إرادة لقتله وتلفه ، كما قال الشاعر :
إذا بَلَّغْتِني وَحَمَلْتِ رحْلي ... عرابة فاشربي بدَمِ الوَتينِ
الثاني : ما قاله عكرمة أن الوَتين إذا قطع لا إن جاع عَرَق ، ولا إن شبع عَرَقَ .
{ وإنه لتَذْكرةٌ للمُتّقِينَ } يعني القرآن ، وفي التذكرة أربعة أوجه :
أحدها : رحمة .
الثاني : ثَبات .
الثالث : موعظة .
الرابع : نجاة .
{ وإنّا لَنَعْلَمُ أنَّ منكم مُكذِّبينَ } قال الربيع : يعني بالقرآن .
{ وإنّه } يعني القرآن .
{ لَحسْرةٌ على الكافرين } يعني ندامة يوم القيامة .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يزيد حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم أن يأتوا بمثله .
{ وإنّه لَحقُّ اليقينِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي حقاً ويقيناً ليكونن الكفر حسرة على الكافرين يوم القيامة ، قاله الكلبي .
الثاني : يعني القرآن عند جميع الخلق أنه حق ، قال قتادة : إلا أن المؤمن أيقن به في الدنيا فنفعه ، والكافر أيقن به في الآخرة فلم ينفعه .
{ فَسَبِّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم } فيه وجهان :
أحدهما : فصلِّ لربك ، قاله ابن عباس .
الثاني : فنزهه بلسانك عن كل قبيح .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
قوله تعالى : { سأَل سائلٌ } قرأه الجمهور بهذين الحرفين في سأل سائل ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه استخبر مستخبر عن العذاب متى يقع ، على التكذيب .
الثاني : دعا داع أن يقع البلاء بهم على وجه الاستهزاء ، قاله مجاهد .
الثالث : طلب طالب .
{ بعذابٍ واقعٍ } وفي هذا الطالب ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهالنضر بن الحارث ، وكان صاحب لواء المشركين يوم بدر ، وقد سأل ذلك في قوله { اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنه أبو جهل : وهو القائل لذلك ، قاله ربيع بن أبي حمزة .
الثالث : أنه قول جماعة من قريش .
وفي هذا العذاب قولان :
أحدهما : أنه العذاب في الآخرة ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها نزلت بمكة وعذابه يوم بدر بالقتل والأسر ، قاله السدي .
وقرأ نافع وزيد بن أسلم وابنه « سأل سايل » غير مهموز ، وسايل واد في جهنم ، وسمي بذلك لأنه يسيل بالعذاب .
{ مِن اللَّهِ ذي المعارج } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : ذي الدرجات ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذي الفواضل والنعم ، قاله قتادة .
الثالث : ذي العظمة والعلاء .
الرابع : ذي الملائكة ، لأنهم كانوا يعرجون إليه ، قاله قتيبة .
الخامس : أنها معارج السماء ، قاله مجاهد .
{ تَعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليه } أي تصعد ، وفي الروح ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه روح الميت حين يقبض ، قاله قَبيصة بن ذؤيب ، يرفعه .
الثاني : أنه جبريل ، كما قال تعالى : « نزل به الروح الأمين » .
الثالث : أنه خلق من خلق اللَّه كهيئة الناس وليس بالناس ، قاله أبو صالح .
{ في يوم كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سنةٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله محمد بن كعب والحسن .
الثاني : أنها مدة الدنيا ، مقدار خمسين ألف سنة ، لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلا اللَّه ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه مقدار مدة الحساب في عرف الخلق أنه لو تولى بعضهم محاسبة بعض لكان مدة حسابهم خمسين ألف سنة ، إلا أن اللَّه تعالى يتولاه في أسرع مدة .
وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يحاسبهم اللَّه بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب ، وأسرع الحاسبين » .
{ فاصْبِرْ صَبْراً جَميلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الصبر الذي ليس فيه جزع ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه الصبر الذي لا بث فيه ولا شكوى .
الثالث : أنه الانتظار من غير استعجال ، قاله ابن بحر .
الرابع : أنه المجاملة في الظاهر ، قاله الحسن .
وفيما أُمر بالصبر عليه قولان :
أحدهما : أُمر بالصبر على ما قذفه المشركون من أنه مجنون وأنه ساحر وأنه شاعر ، قاله الحسن .
الثاني : أنه أُمر بالصبر على كفرهم ، وذلك قبل أن يفرض جهادهم ، قاله ابن زيد .
{ إنهم يَرَوْنه بعيداً } فيه قولان :
أحدهما : أنه البعث في القيامة .
الثاني : عذاب النار .
وفي المراد بالبعيد وجهان :
أحدهما : مستحيل غير كائن .
الثاني : استبعاد منهم للآخرة .
{ ونراه قريباً } أي كائناً ، لأن ما هو كائن قريب .
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
{ يومَ تكونُ السّماءُ كالمُهْلِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كدرديّ الزيت ، قاله ابن عباس .
الثاني : كمذاب الرصاص والنحاس والفضلة ، قاله ابن مسعود .
الثالث : كقيح من دم ، قاله مجاهد .
{ وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ } يعني كالصوف المصبوغ ، والمعنى أنها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع .
{ يُبْصّرُونَهم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه يبصر بعضهم بعضاً فيتعارفون ، قاله قتادة .
الثاني : أن المؤمنين يبصرون الكافرين ، قاله مجاهد .
الثالث : أن الكافرين يبصرون الذين أضلوهم في النار ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه يبصر المظلوم ظالمه ، والمقتول قاتله .
{ يَوَدّ المجْرِمُ } فيه وجهان :
أحدهما : يحب .
الثاني : يتمنى ، والمجرم هو الكافر .
{ لو يَفْتَدِي مِن عَذابِ يومِئذ } يعني يفتدي من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه ، فلا يقدر .
ثم ذكرهم فقال : { ببنيه } .
{ وصاحبته } يعني زوجته : { وأخيه } .
{ وفصيلته } فيه وجهان :
أحدهما : عشيرته التي تنصره ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنها أمه التي تربيه ، قاله مالك ، وقال أبو عبيدة : الفصيلة دون القبيلة .
{ التي تؤويه } فيه وجهان :
أحدهما : التي يأوي إليها في نسبه ، قاله الضحاك .
الثاني : يأوي إليها في خوفه .
{ كلا إنها لَظَى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها اسم من أسماء جهنم ، سميت بذلك لأنها التي تتلظى ، وهو اشتداد حرها .
الثاني : أنه اسم الدرك الثامن في جهنم ، قاله الضحاك .
{ نَزّاعة للشّوَى } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنها أطراف اليدين والرجلين ، قاله أبو صالح ، قال الشاعر :
إذا نَظَرْتَ عَرَفْت الفخر منها ... وعَيْنيها ولم تعْرِفْ شَواها .
الثاني : قال الضحاك : هي جهنم تفري اللحم والجلد عن العظم ، وقال مجاهد : جلدة الرأس ومنه قول الأعشى :
قالت قُتَيْلَةُ ما لَه ... قد جُلِّلَتْ شيْباً شَواتهُ .
الثالث : أنه العصب والعقب ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه مكارم وجهه ، قاله الحسن .
الخامس : أنه اللحم والجلد الذي على العظم ، لأن النار تشويه ، قاله الضحاك .
{ تَدْعو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلّى } وفي دعائها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تدعوهم بأسمائهم فتقول للكافر : يا كافر إليّ ، وللمنافق : يا منافق إليّ ، قاله الفراء .
الثاني : أن مصير من أدبر وتولى إليها ، فكأنها الداعية لهم ، ومثله قول الشاعر :
ولقد هَبَطْنا الوادِيَيْن فوادياً ... يَدْعو الأنيسَ به العَضيضُ الأبكمُ .
العضيض الأبكم : الذباب ، وهو لا يدعو وإنما طنينه ينبه عليه ، فدعا إليه .
الثالث : الداعي خزنة جهنم أضيف دعاؤهم إليها ، لأنهم يدعون إليها .
وفي ما { أدبر وتولى } عنه أربعة أوجه :
أحدها : أدبر عن الطاعة وتولى عن الحق ، قاله مجاهد .
الثاني : أدبر عن الإيمان وتولى إلى الكفر ، قاله مقاتل .
الثالث : أدبر عن أمر اللَّه وتولى عن كتاب اللَّه ، قاله قتادة .
الرابع : أدبر عن القبول وتولى عن العمل .
{ وجَمَع فأوْعَى } يعني الذي أدبر وتولى جمع المال فأوعى ، بأن جعله في وعاء حفظاً له ومنعاً لحق اللَّه منه ، قال قتادة : فكان جموعاً منوعاً .
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
{ إنّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً } قال الضحاك والكلبي : يعني الكافر . وفي الهلوع ستة أوجه :
أحدها : أنه البخيل ، قاله الحسن .
الثاني : الحريص ، قاله عكرمة .
الثالث : الضجور ، قاله قتادة .
الرابع : الضعيف ، رواه أبو الغياث .
الخامس : أنه الشديد الجزع ، قاله مجاهد .
السادس : أنه الذي قاله الله تعالى فيه : { إذا مسّه الشرُّ . . . } الآية ، قاله ابن ابن عباس .
وفيه وجهان :
أحدهما : إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الشر لم يصبر ، وهو معنى قول عطية .
الثاني : إذا استغنى منع حق اللَّه وشح ، وإذا افتقر سأل وألح ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
{ الذين هُمْ على صَلاتِهم دائمونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يحافظون على مواقيت الفرض منها ، قاله ابن مسعود .
الثاني : يكثرون فعل التطوع منها ، قاله ابن جريج .
الثالث : لا يلتفتون فيها ، قاله عقبة بن عامر .
{ والذين هم لأماناتِهم وعَهْدِهم راعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الأمانة ما ائتمنه الناس عليه أن يؤديه إليهم ، والعهد : ما عاهد الناس عليه أن يَفيَ لهم به ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الأمانة الزكاة أن يؤديها ، والعهد : الجنابة أن يغتسل منها وهو معنى قول الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : أن الأمانة ما نهي عنه من المحظورات ، والعهد ما أمر به من المفروضات .
{ والذين هُم بشهاداتِهم قائمونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها شهادتهم على أنبيائهم بالبلاغ ، وعلى أممهم بالقبول أو الامتناع .
الثاني : أنها الشهادات في حفظ الحقوق بالدخول فيها عند التحمل ، والقيام بها عند الأداء .
ويحتمل ثالثاً : أنهم إذا شاهدوا أمراً أقاموا الحق للَّه تعالى فيه ، من معروف يفعلونه ويأمرون به ، ومنكر يجتنبونه وينهون عنه .
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{ فما للذين كَفَروا قِبلَكَ مُهْطِعينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مسرعين ، قاله الأخفش ، قال الشاعر :
بمكةَ دارُهم ولقد أراهم ... بمكةَ مُهطِعين إلى السماع
الثاني : معرضين ، قاله عطية العوفي .
الثالث : ناظرين إليك تعجباً ، قاله الكلبي .
{ عن اليمين وعن الشِّمال عِزِينَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : متفرقين ، قاله الحسن ، قال الراعي :
أخليفةَ الرحمنِ إن عشيرتي ... أمسى سَراتُهُمُ إليك عِزينا .
الثاني : محتبين ، قال مجاهد .
الثالث : أنهم الرفقاء والخلطاء ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم الجماعة القليلة ، قاله ابن أسلم .
الخامس : أن يكونوا حِلقاً وفرقاً .
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق فقال : « ما لي أراكم عزين » قال الشاعر :
ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حِلقاً عِزينا .
{ يوم يَخْرجون من الأجداثِ سِراعاً } يعني من القبور .
{ كأنهم إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } في « نصب » قراءتان : إحداهما بتسكين الصاد ، والأخرى بضمها .
وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : معناهما واحد ، قاله المفضل وطائفة ، فعلى هذا في تأويله أربعة أوجه :
أحدها : معناه إلى علم يستبقون ، قاله قتادة .
الثاني : إلى غايات يستبقون ، قاله أبو العالية .
الثالث : إلى أصنامهم يسرعون ، قاله ابن زيد ، وقيل إنها حجارة طوال كانوا يعبدونها .
الرابع : إلى صخرة بيت المقدس يسرعون .
والوجه الثاني من الأصل أن معنى القراءتين مختلف ، فعلى هذا في اختلافهما وجهان :
أحدهما : أن النُّصْب بالتسكين الغاية التي تنصب إليها بصرك ، والنُّصُب بالضم واحد الأنصاب ، وهي الأصنام ، قاله أبو عبيدة ومعنى « يوفضون » يسرعون ، والإيفاض الإسراع ، ومنه قول رؤبة :
يمشين بنا الجد على الإيفاض ... بقطع أجواز الفلا انفضاض .
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قوله عز وجل : { إنا أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِه } روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أول نبي أُرسل نوح » قال قتادة : بعث من الجزيرة .
واختلف في سنه حين بعث :
قال ابن عباس : بعث وهو ابن أربعين سنة .
وقال عبد اللَّه بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة .
وقال إبراهيم بن زيد : إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه في الدنيا .
{ أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني عذاب النار في الآخرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : عذاب الدنيا ، وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان ، قاله الكلبي ، وكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيباً ، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، فيقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
{ يَغْفِرْ لكم مِن ذُنوبكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « من » صلة زائدة ، ومعنى الكلام يغفر ذنوبكم ، قاله السدي .
الثاني : أنها ليست صلة ، ومعناه يخرجكم من ذنوبكم ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : معناه يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها ، قاله ابن شجرة .
{ ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسمى } يعني إلى موتكم وأجلكم الذي خط لكم ، فيكون موتكم بغير عذاب إن آمنتم .
{ إنّ أَجَلَ اللَّه إذا جاءَ لا يُؤخَّرُ لو كنتم تَعْلَمونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بأجل اللَّه الذي لا يؤخر يوم القيامة ، جعله اللَّه أجلاً للبعث ، قاله الحسن .
الثاني : يعني أجل الموت إذا جاء لم يؤخر ، قاله مجاهد .
الثالث : يعني أجل العذاب إذا جاء لا يؤخر ، قاله السدي .
وفي قوله : « لو كنتم تعلمون » وجهان :
أحدهما : أن ذلك بمعنى إن كنتم تعلمون .
الثاني : لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل اللَّه إذا جاء لا يؤخر ، قاله الحسن .
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{ قال رَبِّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلاً ونهاراً } فيه وجهان :
أحدهما : دعوتهم ليعبدوك ليلاً ونهاراً .
الثاني : دعوتهم ليلاً ونهاراً إلى عبادتك .
{ فلم يَزدْهم دُعائي إلاّ فِراراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : إلا فراراً من طاعتك .
الثاني : فراراً من إجابتي إلى عبادتك .
قال قتادة : بلغنى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح ، فيقول لابنه : احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي غليه وأنا مثلك ، فحذرني كما حذرتك .
{ وإنِّي كلما دَعَوْتُهم لِتَغَفِرَ لهم } يعني كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ما تقدم من الشرك .
{ جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا دعاءه ليؤيسوه من إجابة ما لم يسمعوه ، قال محمد بن إسحاق : كان حليماً صبوراً .
{ واستغْشَوا ثيابَهم } أي عطوا رؤسهم وتنكروا لئلا يعرفهم .
{ وأَصَرُّوا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه إقامتهم على الكفر ، قال قتادة : قدماً قدماً في معاصي اللَّه لالتهائهم عن مخافة اللَّه حتى جاءهم أمر اللَّه .
الثاني : الإصرار : أن يأتي الذنب عمداً ، قاله الحسن .
الثالث : معناه أنهم سكتوا على ذنوبهم فلم يستغفروا قاله السدي .
{ واستكْبَروا استكباراً } فيه وجهان :
أحدهما : أن ذلك كفرهم باللَّه وتكذيبهم لنوح ، قاله الضحاك .
الثاني : أن ذلك تركهم التوبة ، قاله ابن عباس ، وقوله « استبكارا » تفخيم .
{ ثم إنّي دَعْوتُهم جِهاراً } أي مجاهرة يرى بعضهم بعضاً .
{ ثم إني أعْلَنْتُ لهم } يعني الدعاء ، قال مجاهد : معناه صِحْتُ .
{ وأسَرَرْتُ لهم إسْراراً } الدعاء عن بعضهم من بعض ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه دعاهم في وقت سراً ، وفي وقت جهراً .
الثاني : دعا بعضهم سراً وبعضهم جهراً ، وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء وتلطفاً في الاستدعاء .
{ فقلتُ استغْفِروا ربّكم إنّه كان غَفّاراً } وهذا فيه ترغيب في التوبة ، وقد روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الاستغفار ممحاة للذنوب » .
وقال : الفضيل : يقول العبد استغفر اللَّه ، قال : وتفسيرها أقلني .
{ يُرْسِلِ السماءَ عليكم مِدْراراً } يعني غيثاً متتابعاً ، وقيل إنهم كانوا قد أجدبوا أربعين سنة ، حتى أذهب الجدب أموالهم وانقطع الولد عن نسائهم ، فقال ترغيباً في الإيمان .
{ ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجْعَل لكم جَنّاتٍ ويَجْعَل لكم أنهاراً } قال قتادة :
علم نبي اللَّه نوح أنهم أهل حرص على الدنيا ، فقال هلموا إلى طاعة اللَّه فإن من طاعته درك الدنيا والآخرة .
{ ما لكم لا ترجون للَّه وقاراً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : ما لكم لا تعرفون للَّه عظمة ، قاله مجاهد ، وعكرمة .
الثاني : لا تخشون للَّه عقاباً وترجون منه ثواباً ، قاله ابن عباس في رواية ابن جبير .
الثالث : لا تعرفون للَّه حقه ولا تشكرون له نعمه ، قاله الحسن .
الرابع : لا تؤدون للَّه طاعة ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن الوقار الثبات ، ومنه قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } [ الأحزاب : 33 ] أي اثبتن ، ومعناه لا تثبتون وحدانية اللَّه وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه ، قال ابن بحر : دلهم على ذلك فقال : { وقد خلقكم أطواراً } في وجهان :
أحدهما : يعني طوراً نطفة ، ثم طوراً علقة ، ثم طوراً مضغة ، ثم طوراً عظماً ، ثم كسونا العظام لحماً ، ثم أنشأناه خلقاً آخر أنبتنا له الشعر وكملت له الصورة ، قاله قتادة .
الثاني : أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر ، والقوة والضعف والهم والتصرف ، والغنى والفقر .
ويحتمل ثالثاً : أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال .
{ ألمْ تَروْا كيف خَلَق اللَّهُ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً } فيها قولان :
أحدهما : أنهن سبع سموات على سبع أرضين ، بين كل سماء وأرض خلق ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أنهن سبع سموات طباقاً بعضهن فوق بعض ، كالقباب ، وهذا قول السدي .
{ وجَعَل القَمَرَ فيهنّ نُوراً } فيه قولان :
أحدهما : معناه وجعل القمر فيهن نوراً لأهل الأرض ، قاله السدي .
الثاني : أنه جعل القمر فيهن نوراً لأهل السماء والأرض ، قاله عطاء .
وقال ابن عباس : وجهه يضيء لأهل الأرض ، وظهره يضيء لأهل السماء .
{ وجَعَل الشّمْسَ سِراجاً } يعني مصباحاً لأهل الأرض ، وفي إضافته لأهل السماء القولان الأولان .
{ واللَّه أَنْبَتكُم مِنَ الأرضِ نَباتاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني آدم خلقه من أديم الأرض كلها ، قاله ابن جريج ، وقال خالد بن معدان : خلق الإنسان من طين ، فإنما تلين القلوب في الشتاء .
الثاني : أنبتهم من الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن جميع الخلق أنشأهم باغتذاء ما تنبته الأرض وبما فيها ، وهو محتمل .
{ ثم يُعيدُكم فيها } يعني أمواتاً في القبور .
{ ويُخْرِجُكم إخراجاً } لنشور بالبعث .
{ واللَّهُ جَعَل لكم الأرضَ بِساطاً } أي مبسوطة ، وفيه دليل على أنها مبسوطة .
{ لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً فجاجاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طرقاً مختلفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : طرقاً واسعة ، قاله ابن كامل .
الثالث : طرقاًً أعلاماً ، قاله قتادة .
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{ قال نوحٌ ربِّ إنهم عَصَوْني } قال أهل التفسير : لبث فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً داعياً لهم ، وهم على كفرهم وعصيانهم ، قال ابن عباس :
رجا نوح الأبناء بعد الآباء ، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبعة قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، حتى كثر الناس وفشوا .
قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين .
{ واتّبَعوا مَنْ لم يَزِدْه مالُه ووَلدُه إلاّ خَساراً } قرىء ولده بفتح الواو وضمها ، وفيهما قولان :
أحدهما : أن الولد بالضم الجماعة من الأولاد ، والولد بالفتح واحد منهم ، قاله الأعمش ، قال الربيع بن زياد :
وإن تكَ حَرْبُكم أمست عواناً ... فإني لم أكُنْ مّمن جَناها
ولكن وُلْدُ سَوْدةَ أرَّثوها ... وحَشّوا نارها لمن اصطلاها
{ ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً } أي عظيماً ، والكبّار أشد مبالغة من كبير .
وفيه وجهان ، أحدهما : ما جعلوه للَّه من الصاحبة والولد ، قاله الكلبي .
الثاني : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً } الآية ، قاله مقاتل .
وفي هذه الأصنام قولان :
أحدهما : أنها كانت للعرب لم يعبدها غيرهم ويكون معنى الكلام : كما قال قوم نوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم ، قالت العرب مثلهم لأولادهم وقومهم لا تذرنّ وداً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ، ثم عاد الذكر بعد ذلك إلى قوم نوح .
واختلف في هذه الأسماء ، فقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم وعنده بنوه ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان ود أكبرهم وأبرهم به ، وقال غيره : إن هذه الأسماء كانت لرجال قبل قوم نوح ، فماتوا فحزن عليهم أبناؤهم حزناً شديداً ، فزين لهم الشيطان أن يصورهم لينظروا إليهم ففعلوا ، ثم عبدها أبناؤهم من بعدهم . وقال محمد بن كعب : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح فحدث بعدهم من أخذ في العبادة مأخذهم ، فزين لهم إبليس أن يتصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم ، ثم عبدها من بعدهم قوم نوح ، ثم انتقلت بعدهم إلى العرب فعبدها ولد إسماعيل .
فأما ود فهو أول صنم معبود ، سمي بذلك لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل من قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ، وفيه يقول شاعرهم :
حيّاك ودٌّ فإنا لا يحل لنا ... لهْوُ النساءِ وإنّ الدينَ قد عزمَا .
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر ، في قولهم ، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة ، وقال مقاتل : حي من نجران .
قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه لا يهيجونه ، حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فيضربون عليه بناء وينزلون حوله .
وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع ، في قول قتادة وعكرمة وعطاء .
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول عطاء ونحوه عن مقاتل .
{ وقد أَضَلّوُا كثيراً } فيه وجهان :
أحدهما : يريد أن هذه الأصنام قد ضل بها كثير من قومه .
الثاني : أن أكابر قومه قد أضلوا كثيراً من أصاغرهم وأتباعهم .
{ ولا تَزِدِ الظّالمينّ إلاَّ ضَلالاً } فيه وجهان :
أحدهما : إلا عذاباً ، قاله ابن بحر واستشهد بقوله تعالى :
{ إن المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] .
الثاني : إلا فتنة بالمال والولد ، وهو محتمل .
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافرين دَيّارا } اختلفوا في سبب دعاء نوح على قومه بهذا على قولين :
أحدهما : أنه لما نزلت عليه قوله تعالى : { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] دعا عليهم بهذا الدعاء ، قاله قتادة .
الثاني : أن رجلاً من قومه حمل ولده صغيراً على كتفه ، فمر بنوح ، فقال لابنه :
إحذر هذا فإنه يضلك فقال : يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجّهُ ، فحينئذٍ غضب نوح ودعا عليهم .
وفي قوله { ديّاراً } وجهان :
أحدهما : أحداً ، قاله الضحاك .
الثاني : من يسكن الديار ، قاله السدي .
{ ربِّ اغْفِرْ لي ولوالدّيّ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد أباه ، واسمه لمك ، وأمه واسمها منجل ، وكانا مؤمنين ، قاله الحسن .
الثاني : أنه أراد أباه وجده ، قاله سعيد بن جبير .
{ ولمن دَخَل بَيْتِيِ مُؤْمِناً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني صديقي الداخل إلى منزلي ، قاله ابن عباس .
الثاني : من دخل مسجدي ، قاله الضحاك .
الثالث : من دخل في ديني ، قاله جويبر .
{ وللمؤمنين والمؤمنات } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد من قومه .
الثاني : من جميع الخلق إلى قيام الساعة ، قاله الضحاك .
{ ولا تَزِدِ الظالمينَ } يعني الكافرين .
{ إلا تباراً } فيه وجهان :
أحدهما : هلاكاً .
الثاني : خساراً ، حكاهما السدي .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
قوله تعالى { قل أُوحِيَ إليَّ أنّه إسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن الجنَّ } اختلف أهل التفسير في سبب حضور النفر من الجن إلى رسوله اللَّه صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى صرفهم إليه بقوله : { وإذا صَرَفْنا إليك نفراً من الجن } [ الأحقاف : 29 ] ، قاله ابن مسعود والضحاك وطائفة .
الثاني : أنه كان للجن مقاعد في السماء الدنيا يستمعون منها ما يحدث فيها من أمور الدنيا ، فلما بعث اللًّه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا من الجن ورجموا بالشهب ، قال السدي : ولم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو أثر له ظاهر ، قال : فلما رأى أهل الطائف اختلاف الشهب في السماء قالوا : هلك أهل السماء فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم ، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو : ويحكم أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم ، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها لم يهلك أهل السماء ، وإنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً فلما رأوها مستقرة كفّواً .
وفزعت الجن والشياطين ، ففي رواية السدي أنهم أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم ، فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوها فشمها فقال : صاحبكم بمكة فبعث نفراً من الجن . .
وفي رواية ابن عباس : أنهم رجعوا إلى قومهم فقالوا : ما حال بيننا وبين السماء إلا أمر حدث في الأرض ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، ففعلوا حتى أتوا تهامة ، فوجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم يقرأ . ثم اختلفوا لاختلافهم في السبب ، هل شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن أم لا؟
فمن قال إنهم صرفوا إليه قال إنه رآهم وقرأ عليهم ودعاهم ، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « قد أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا ، ثم الثانية فسكتوا ، ثم الثالثة ، فقال ابن مسعود أنا أذهب معك ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دُب ، فخط عليَّ خطاً ثم قال : لا تجاوزه ، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى غشوة فلم أره » قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل .
ومن قال إنهم صرفوا في مشارق الأرض ومغاربها لاستعلام ما حدث فيها ، قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها .
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم علىلجن ولا رآهم ، وإنما انطلق في نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ ، فأتوه وهو بنخلة عامداً ، إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء .
قال عكرمة : السورة التي كان يقرؤها { اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } واختلف قائلوا هذا القول في عددهم ، فروى عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، أتوه في بطن نخلة .
وروى ابن جريج عن مجاهد : أنهم كانوا سبعة ، ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم : حسى ومسى وماصر وشاصر والأرد وأتيان والأحقم .
وحكى جويبر عن الضحاك أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق ، وهم سليط وشاصر وماصر وحسا ومنشا ولحقم والأرقم والأرد وأتيان ، وهم الذين قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ، وكانوا قد أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة في صلاة الصبح فصلّوا معه : { فلما قضى ولّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللَّه وآمِنوا به } .
وقيل إن الجن تعرف الإنس كلها فلذلك توسوس إلى كلامهم .
واختلف في أصل الجن ، فروى إسماعيل عن الحسن البصري أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون وهم شركاء في الثواب والعقاب فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو ولي اللَّه ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان .
وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا شياطين وهم يموتون ، ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس .
أصلهم ، فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال يدخلون الجنة بإيمانهم ، ومن قال هم من ذرية إبليس فلهم فيها قولان :
أحدهما : يدخلونها وهو قول الحسن .
الثاني : وهو رواية مجاهد ، لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار .
وفي قوله تعالى : { إنا سَمِعْنا قُرآنا عَجَباً } ثلاثة أوجه :
أحدها : عجباً في فصاحة كلامه .
الثاني : عجباً في بلاغة مواعظة .
الثالث : عجباً في عظم بركته .
{ يَهْدِي إلى الرُّشْدِ } فيه وجهان :
أحدهما : مراشد الأمور .
الثاني : إلى معرفة اللَّه .
{ وأنّه تَعالى جَدُّ ربّنا } فيه عشرة تأويلات :
أحدها : أمر ربنا ، قاله السدي .
الثاني : فعل ربنا ، قاله ابن عباس .
الثالث : ذكر ربنا ، وهو قول مجاهد .
الرابع : غنى ربنا ، قاله عكرمة .
الخامس : بلاء ربنا ، قاله الحسن .
السادس : مُلك ربنا وسلطانه ، قاله أبو عبيدة .
السابع : جلال ربنا وعظمته ، قاله قتادة .
الثامن : نعم ربنا على خلقه ، رواه الضحاك .
التاسع : تعالى جد ربنا أي تعالى ربُّنا ، قاله سعيد بن جبير .
العاشر : أنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب ، ويكون هذا من قول الجن عن [ جهالة ] .
{ وأنه كان يقولُ سَفيهُنا على اللَّهِ شَطَطاً } فيه قولان :
أحدهما : جاهلنا وهم العصاة منا ، قال قتادة : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس .
الثاني : أنه إبليس ، قاله مجاهد وقتادة ورواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن قوله : « شططاً » وجهان :
أحدهما : جوراً ، وهو قول أبي مالك .
الثاني : كذباً ، قاله الكلبي ، وأصل الشطط البعد ، فعبر به عن الجور لبعده من العدل ، وعن الكذب لبعده عن الصدق .
{ وأنّه كانَ رجالٌ من الإنسِ يَعُوذون برجالٍ من الجنِّ } قال ابن زيد : إنه كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا نزل بواد قال : إني أعوذ بكبير هذا الوادي - يعني من الجن - من سفهاء قومه ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم ، وهو معنى قوله : « وأنه كان رجال » .
وفي قوله : { فَزَادُوهم رَهقاً } ثمانية تأويلات :
أحدها : طغياناً ، قاله مجاهد .
الثاني : إثماً ، قاله ابن عباس وقتادة ، قال الأعشى :
لا شىءَ ينفعني مِن دُون رؤيتها ... هل يَشْتفي عاشقٌ ما لم يُصبْ رهَقاً .
يعني إثماً .
الثالث : خوفاً ، قاله أبو العالية والربيع وابن زيد .
الرابع : كفراً ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : أذى ، قاله السدي .
السادس : غيّاً ، قاله مقاتل .
السابع : عظمة ، قاله الكلبي .
الثامن : سفهاً ، حكاه ابن عيسى .
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
{ وأنا لَمسْنا السّماءَ } فيه وجهان :
أحدهما : طلبنا السماءَ ، والعرب تعبر عن الطلب باللمس تقول جئت ألمس الرزق وألتمس الرزق .
الثاني : قاربنا السماء ، فإن الملموس مقارَب .
{ فوَجدْناها } أي طرقها .
{ مُلئتْ حَرَساً شديداً } هم الملائكة الغلاظ الشداد .
{ وشُهُباً } جمع شهاب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع ، واختلف في انقضاضها في الجاهلية قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين :
أحدهما : أنها كانت تنقض في الجاهلية ، وإنما زادت بمبعث الرسول إنذاراً بحاله ، قال أوس بن حجر ، وهو جاهلي :
فانقضّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعهُ ... نقعٌ يثورُ تخالُهُ طُنُباً
وهذا قول الأكثرين .
الثاني : أن الانقضاض لم يكن قبل المبعث وإنما أحدثه الله بعده ، قال الجاحظ : وكل شعر روي فيه فهو مصنوع .
{ وأنّا كُنّا نَقْعُدُ منها مَقَاعِدَ للسّمْعِ } يعني أن مردة الجن كانوا يقعدون من السماء الدنيا مقاعد للسمع يستمعون من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكهنة فتجري على ألسنتهم ، فحرسها اللَّه حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذٍ :
{ فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَصَداً } يعني بالشهاب الكوكب المحرق ، والرصد من الملائكة .
أما الوحي فلم تكن الجن تقدر على سماعه ، لأنهم كانوا مصروفين عنه من قبل .
{ وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أمْ أرادَ بهم ربُّهم رَشَداً } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم لا يدرون هل بعث الله محمداً ليؤمنوا به ويكون ذلك منهم رشداً ولهم ثواباً ، أم يكفروا به فيكون ذلك منهم شراً وعليهم عقاباً ، وهذا معنى قول السدي وابن جريج .
الثاني : أنهم لا يدرون حراسة السماء بالشهب هل شر وعذاب أم رشد وثواب ، قاله ابن زيد .
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{ وأنّا مِنّا الصّالحونَ } يعني المؤمنين .
{ ومنّا دون ذلك } يعني المشركين .
ويحتمل أن يريد بالصالحين أهل الخير ، وب « دون ذلك » أهل الشر ومن بين الطرفين على تدريج ، وهو أشبه في حمله على الإيمان والشرك لأنه إخبار منهم عن تقدم حالهم قبل إيمانهم .
{ كُنّا طَرائقِ قِدَداً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني فِرقاً شتى ، قاله السدي .
الثاني : أدياناً مختلفة ، قاله الضحاك .
الثالث : أهواء متباينة ، ومنه قول الراعي :
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قِدَدُ
{ وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به } يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته ، وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس .
قال الحسن : بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء ، وذلك قوله تعالى : { وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } .
{ فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً } قال ابن عباس :
لا يخاف نقصاً في حسناته ، ولا زيادة في سيئاته ، لأن البخس النقصان ، والرهق : العدوان ، وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم ، وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال : بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به رجل ، فقيل له : أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين؟ قال : ومن هو؟ قالوا : سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف ، وكان له رئيّ من الجن ، فأرسل إليه عمر فقال له : أنت سواد بن قارب؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك؟ قال : نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :
عجبْتُ للجنّ وتطلابها ... وشدِّها العِيسَ بأذْنابها .
تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى ... ما صادقُ الجن ككذّابها .
فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... فليس قد أتاها كاذباً بها .
فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً ، ولم أرفع بما قاله رأساً ، فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ، وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :
عجبْتُ للجنّ وتخيارها ... وشدِّها العيس بأكوارها .
تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما مؤمن الجن ككفّارِها
فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... ما بين رابيها وأحجارها .
فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً ، ولم أرفع بما قال رأساً ، فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله ، وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :
عجبت للجن وتحساسها ... وشدِّها العيسَ بأحْلاسها .
تهوي إلى مكة تبغي الهُدي ... ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها .
فارحلْ إلى الصفوة من هاشم ... واسم بيديْك إلى رأسها .
قال : فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام ، فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة ، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه ، قال : هات ، فأنشأت أقول :
أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ ... ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ
ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب
فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذملُ الوجناء بين السباسِب
فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ ... وأنك مأمولٌ على كل غالبِ .
وأنك أدني المرسلين وسيلةً ... إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب .
فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى ... وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب .
وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب .
ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحاً شديداً ، حتى رئي الفرح في وجوههم ، قال : فوثب عمر فالتزمه وقال : قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث ، فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم؟ قال : [ أما ] وقد قرأت القرآن فلا ، ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن .
{ وأنّا مِنّا المسْلِمونَ ومِنّا القاسِطونَ } وهذا إخبار عن قول الجن بحال من فيهم من مؤمن وكافر ، والقاسط : الجائر ، لأنه عادل عن الحق ، ونظيره الترِب والمُتْرِب ، فالترِب الفقير ، لأن ذهاب ماله أقعده على التراب ، والمترب الغني لأن كثرة ماله قد صار كالتراب .
وفي المراد بالقاسطين ثلاثة أوجه :
أحدها : الخاسرون ، قاله قتادة .
الثاني : الفاجرون ، قاله ابن زيد .
الثالث : الناكثون ، قاله الضحاك .
{ وأن لو استقاموا على الطريقة } ذكر ابن بحر أن كل ما في هذه السورة من « إن » المكسورة المثقلة فهو حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من « أن » المفتوحة المخففة أو المثقلة فهو من وحي الرسول .
وفي هذه الاستقامة قولان :
أحدهما : أنها الإقامة على طريق الكفر والضلالة ، قاله محمد بن كعب وأبو مجلز وغيرهما .
الثاني : الاستقامة على الهدى والطاعة ، قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد فمن ذهب إلى أن المراد الإقامة على الكفر والضلال فلهم في قوله { لأَسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً } وجهان :
أحدهما : بلوناهم بكثرة الماء الغدق حتى يهلكوا كما هلك قوم نوح بالغرق ، وهذا قول محمد بن كعب .
الثاني : لأسقيناهم ماء غدق ينبت به زرعهم ويكثر مالهم .
{ لِنَفْتِنَهم فيه } فيكون زيادة في البلوى ، حكى السدي عن عمر في قوله « لأسقيناهم ماء غدقاً » أنه قال : حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة ، فاحتملت الفتنة ها هنا وجهين :
أحدهما : افتننان أنفسهم .
الثاني : وقوع الفتنة والشر من أجله .
وأما من ذهب إلى أن المراد الاستقامة على الهدى والطاعة فلهم في تأويل قوله « لأسقيناهم ماءً غدقاً » أربعة أوجه :
أحدها : معناه لهديناهم الصراط المستقيم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأوسعنا عليهم في الدنيا ، قاله قتادة .
الثالث : لأعطيناهم عيشاً رغداً ، قاله أبو العالية .
الرابع : أنه المال الواسع ، لما فيه من النعم عليهم بحياة النفوس وخصب الزروع ، قاله أبو مالك والضحاك وابن زيد .
وفي الغدق وجهان :
أحدهما : أنه العذب المعين ، قاله ابن عباس ، قاله أمية بن أبي الصلت :
مِزاجُها سلسبيلٌ ماؤها غَدَقٌ ... عَذْبُ المذاقةِ لا مِلْحٌ ولا كدرٌ
الثاني : أنه الواسع الكثير ، قاله مجاهد ، ومنه قول كثير :
وهبتُ لسُعْدَى ماءه ونباته ... فما كل ذي وُدٍّ لمن وَدَّ واهبُ .
لتروى به سُعدى ويروى محلّها ... وتغْدقَ أعداد به ومشارب
فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه إخبار عن حالهم في الدنيا .
الثاني : أنه إخبار عن حالهم في الآخرة لنفتنهم فيه .
فإن قيل إن هذا وارد في أهل الكفر والضلال كان في تأويله ثلاثة أوجه :
أحدها : افتتان أنفسهم بزينة الدنيا .
الثاني : وقوع الفتنة والاختلاف بينهم بكثرة المال .
الثالث : وقوع العذاب بهم كما قال تعالى : { يوم هم على النار يُفْتًنون } [ الذاريات : 13 ] أي يعذبون .
وإن قيل إنه وارد في أهل الهدى والطاعة فهو على ما قدمنا من الوجهين .
وهل هو اختبارهم في الدنيا ففي تأويله ثلاثة أوجه :
أحدها : لنختبرهم به ، قاله ابن زيد .
الثاني : لنطهرهم من دنس الكفر .
الثالث : لنخرجهم به من الشدة والجدب إلى السعة والخصب .
فإن قيل إنه إخبار عمّا لهم في الآخرة ففي تأويله وجهان :
أحدهما : لنخلصهم وننجيهم ، مأخوذ من فَتَن الذهب إذا خلّصه مِن غشه بالنار كما قال تعالى لموسى عليه السلام : { وفَتَنّاك فُتوناً } [ طه : 40 ] أي خلصناك من فرعون . الثاني : معناه لنصرفنهم عن النار ، كما قال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أَوْحَينْا إليك لتفْتري علينا غيره } [ الإسراء : 73 ] أي ليصرفونك { ومَنْ يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه } قال ابن زيد : يعني القرآن وفي إعراضه عنه وجهان :
أحدهما : عن القبول ، إن قيل إنها من أهل الكفر .
الثاني : عن العمل ، إن قيل إنها من المؤمنين .
{ يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جب في النار ، قاله أبو سعيد .
الثاني : جبل في النار إذا وضع يده عليه ذابت ، وإذا رفعها عادت ، وهو مأثور ، وهذان الوجهان من عذاب أهل الضلال .
والوجه الثالث : أنه مشقة من العذاب يتصعد ، قاله مجاهد .
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
{ وأنَّ المساجدَ للَّهِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني الصلوات للَّه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنها الأعضاء التي يسجد عليها للَّه ، قاله الربيع .
الثالث : أنها المساجد التي هي بيوت اللَّه للصلوات ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه كل موضع صلى فيه الإنسان ، فإنه لأجل السجود فيه يسمى مسجداً .
{ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحَداً } أي فلا تعبدوا معه غيره ، وفي سببه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما حكاه الأعمش أن الجن قالت : يا رسول الله ائذن لنا نشهد معك الصلاة في مسجدك ، فنزلت هذه الآية .
الثاني : ما حكاه أبو جعفر محمد بن علّي أن الحمس من مشركي أهل مكة وهم كنانة وعامر وقريش كانوا يُلبّون حول البيت : لبيّك اللهم لبيّك ، لبيّك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل اللَّه هذه الآية نهياً أن يجعل للَّه شريكاً ، وروى الضحاك عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال : « وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً » اللهم أنا عبدك وزائرك ، وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار « وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال : » اللهم صُبَّ الخير صبّاً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الخير جداً « .
{ وأنه لما قام عبدُ اللَّهِ يدعوه } يعني محمداً ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه قام إلى الصلاة يدعو ربه فيها ، وقام أصحابه خلفه مؤتمين ، فعجبت الجن من طواعية أصحابه له ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه قام إلى اليهود داعياً لهم إلى اللَّه ، رواه ابن جريج .
{ كادوا يكونون عليه لِبَداً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أعواناً ، قاله ابن عباس .
الثاني : جماعات بعضها فوق بعض ، وهو معنى قول مجاهد ، ومنه اللبد لاجتماع الصوف بعضه على بعض ، وقال ذو الرمة :
ومنهلٍ آجنٍ قفرٍ مواردهُ ... خُضْرٍ كواكبُه مِن عَرْمَصٍ لَبِدِ .
وفي كونهم عليه لبداً ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم المسلمون في اجتماعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جبير . الثاني : أنهم الجن حين استمعوا من رسول اللَّه قراءته ، قاله الزبير بن العوام . الثالث : أنهم الجن والإنس في تعاونهم على رسول اللَّه في الشرك ، قاله قتادة .
{ قلْ إني لا أَمْلِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشَداً } يعني ضراً لمن آمن ولا رشداً لمن كفر ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عذاباً ولا نعيماً .
الثاني : موتاً ولا حياة .
الثالث : ضلالاً ولا هدى .
{ قل إني لن يُجيرَني مِنَ اللَّهِ أَحدٌ } روى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال : انطلقتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط خطاً ثم تقدم عليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له وردان : أنا أزجلهم عنك ، فقال :
« إني لن يجيرني من اللَّه أحد »
ويحتمل وجهين :
أحدهما : لن يجيرني مع إجارة اللَّه لي أحد .
الثاني : لن يجيرني مما قدره الله علي أحد .
{ ولن أجدَ مِن دُونهِ مَلْتَحداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني ملجأ ولا حرزاً ، قاله قتادة .
الثاني : ولياً ولا مولى ، رواه أبو سعيد .
الثالث : مذهباً ولا مسلكاً ، حكاه ابن شَجرة ، ومنه قول الشاعر :
يا لهفَ نفْسي ولهفي غيرُ مُجْديةٍ ... عني وما مِن قضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ .
{ إلا بلاغاً مِن اللَّه ورسالاتِه } فيه وجهان :
أحدهما : لا أملك ضراً ولا رشداً إلا أن أبلغكم رسالات اللَّه ، قاله الكلبي .
الثاني : لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالات اللَّه ، قاله مقاتل .
روى مكحول عن ابن مسعود : أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة ، وكانوا سبعين ألفاً ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر .
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{ عالِمُ الغيْب } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عالم السر ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما لم تروه مما غاب عنكم ، قاله الحسن .
الثالث : أن الغيب القرآن ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن الغيب القيامة وما يكون فيها ، حكاه ابن أبي حاتم .
{ فلا يُظْهِرُ على غيْبه أَحَداً ، إلا من ارتضى من رسول } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلا من ارتضى من رسول الله هو جبريل ، قاله ابن جبير .
الثاني : إلا من ارتضى من نبي فيما يطلعه عليه من غيب ، قاله قتادة .
{ فإنه يَسْلُكُ مِن بَيْن يَدَيْه ومِنْ خَلْفه رَصَداً } فيه قولان :
أحدهما : الطريق ، ويكون معناه فإنه يجعل له إلى علم بعض ما كان قبله وما يكون بعده طريقاً ، قاله ابن بحر .
الثاني : أن الرصد الملائكة ، وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الجن والشياطين من أمامه وورائه ، قاله ابن عباس وابن زيد ، قال قتادة : هم أربعة .
الثاني : أنهم يحفظون الوحي فما جاء من الله قالوا إنه من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان ، قاله السدي .
الثالث : يحفظون جبريل إذا نزل بالوحي من السماء أن يسمعه الجن إذا استرقوا السمع ليلقوه إلى كهنتهم قبل أن يبلغه الرسول إلى أمته ، قاله الفراء .
{ ليعْلَمَ أنْ قد أبْلَغوا رسالاتِ ربِّهم } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل إليه رسالات ربه ، قاله ابن جبير ، وقال : ما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة .
الثاني : ليعلم محمد أن الرسل قبله قد بلغت رسالات الله وحفظت ، قاله قتادة .
الثالث : ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغت عن ربها ما أمرت به ، قاله مجاهد .
الرابع : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : ليعلم الله أن رسله قد بلغوا عنه رسالاته ، لأنبيائه ، قاله الزجاج .
{ وأحاط بما لديهم } قال ابن جريج : أحاط علماً .
{ وأحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً } يعني من خلقه الذي يعزب إحصاؤه عن غيره .
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
قوله تعالى : { يا أيها المزمِّلُ } قال الأخفش : أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي ، وكذا المدثر .
وفي أصل المزمل : قولان :
أحدهما : المحتمل ، يقال زمل الشيء إذا حمله ، ومنه الزاملة التي تحمل القماش .
الثاني : المزمل هو المتلفف ، قال امرؤ القيس :
كأن ثبيراً في عرائين وبْله ... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمّلِ .
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يا أيها المزمل بالنبوة ، قاله عكرمة .
الثاني : بالقرآن ، قاله ابن عباس .
الثالث : بثيابه ، قاله قتادة .
قال إبراهيم : نزلت عليه وهو في قطيفة .
{ قُمِ الليلَ إلا قليلاً } يعني صلِّ الليل إلا قليلاً ، وفيه وجهان :
أحدهما : إلا قليلاً من أعداد الليالي لا تقمها .
الثاني : إلا قليلاً من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضاً عليه .
وفي فرضه على مَنْ سواه من أُمّته قولان :
أحدهما : فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه ، ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير .
الثاني : أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم ، قاله ابن عباس وعائشة .
وقال ابن عباس : كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة ، واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين :
أحدهما : بالصلوات الخمس وهو قول عائشة .
الثاني : بآخر السورة ، قاله ابن عباس .
واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين :
أحدهما : سنة ، قال ابن عباس : كان بين أول المزمل وآخرها سنة .
الثاني : ستة عشر شهراً ، قالته عائشة ، فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة .
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه ، وفي نسخه عنه قولان :
أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين .
الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة ، قاله سعيد بن جبير .
قوله « قم الليلَ إلاّ قليلاً » لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد ، والقليل من الشيء ما دون النصف .
حكي عن وهب بن منبه أنه قال : القليل ما دون المعشار والسدس .
وقال الكلبي ومقاتل : القليل الثلث .
وَحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني .
ثم قال تعالى : { نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلاً } فكان ذلك تخفيفاً إذا لم يكن زمان القيام محدوداً ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال : أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديم عليه .
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : « عَلِم أنْ لن تُحْصوه فتابَ عليكم فاقْرَؤوا ما تيسّر من القرآن » .
{ أوزِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بيّن القرآن تبياناً ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم .
الثاني : فسّرْه تفسيراً ، قاله ابن جبير .
الثالث : أن تقرأه على نظمه وتواليه ، لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها ، قاله ابن بحر .
{ إنّا سنُلْقي عليكَ قوْلاً ثَقيلاً } وهو القرآن ، وفي كونه ثقيلاً أربعة تأويلات :
أحدها : أنه إذا أوحي إليه كان ثقيلاً عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير .
الثاني : العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه ، قاله الحسن وقتادة .
الثالث : أنه في المزان يوم القيامة ثقيل ، قاله ابن زبير .
الرابع : ثقل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ ، قاله السدي .
ويحتمل تأويلً خامساً : أن يكون ثقيل بمعنى ثابت ، لثبوت الثقيل في محله ، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً .
{ إنّ ناشئةَ الليل هي أَشدُّ وطْئاً } فيها ستة تأويلات :
أحدها : أنه قيام الليل ، بالحبشية ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه ما بين المغرب والعشاء ، قاله أنس بن مالك .
الثالث : ما بعد العشاء الآخرة ، قاله الحسن ومجاهد .
الرابع : أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : أنه بدء الليل ، قاله عطاء وعكرمة .
السادس : أن الليل كل ناشئة ، قال ابن عباس : لأنه ينشأ بعد النهار .
وفي « أشد وطْئاً » خمسة تأويلات :
أحدها : مواطأة قلبك وسمعك وبصرك ، قاله مجاهد .
الثاني : مواطأة قولك لعملك ، وهو مأثور .
الثالث : مواطأة عملك لفراغك ، وهو محتمل .
الرابع : أشد نشاطاً ، قاله الكلبي ، لأنه زمان راحتك .
الخامس : قاله عبادة : أشد وأثبت وأحفظ للقراءة .
وفي قوله : { وأَقْوَمُ قِيلاً } ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل ، قاله الحسن .
الثاني : أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم ، قاله مجاهد وقتادة ، وقرأ أنس بن مالك « وأهيأ قيلاً » وقال أهيأ وأقوم سواء .
الثالث : أنه أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة .
{ إن لك في النهارِ سَبْحاً طويلاً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني فراغاً طوياً لنَومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، قاله ابن عباس وعطاء .
الثاني : دعاء كثيراً ، قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب ، ومنه سبح السابح في الماء .
{ واذكر اسم ربك } فيه وجهان :
أحدهما : اقصد بعملك وجه ربك .
الثاني : أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم ، قاله ابن بحر . ويحتمل وجهاً ثالثاً : واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته .
{ وتَبتَّلْ إليه تَبْتِيلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أخلص إليه إخلاصاً ، قاله مجاهد .
الثاني : تعبد له تعبداً ، قاله ابن زيد .
الثالث : انقطع إليه انقطاعاً ، قاله أبو جعفر الطبري ، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى ، وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات .
الرابع : وتضرّع إليه تضرّعاً .
{ ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ } فيه قولان :
أحدهما : رب العالَمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب ، قاله ابن بحر .
الثاني : يعني مشرق الشمس ومغربها .
وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه استواء الليل والنهار ، قاله وهب بن منبه .
الثاني : أنه دجنة الليل ووجه النهار ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه أول النهار وآخره ، لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق ، ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب .
{ فاتّخِذْهُ وَكيلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مُعيناً .
الثاني : كفيلاً .
الثالث : حافظاً .
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{ واهْجُرهم هَجْراً جَميلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اصفح عنهم وقل سلام ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم .
الثالث : أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة .
وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف .
{ وذَرْني والمُكَذِّبينَ أُولي النّعْمةِ } قال يحيى بن سلام :
بلغني أنهم بنو المغيرة ، وقال سعيد بن جبير : أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً من قريش .
ويحتمل قوله تعالى : « أولي النّعْمةِ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قال تعريفاً لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة .
الثاني : أنه قال ذلك تعليلاً ، أي الذين أطغى هم أولوا النعمة .
الثالث : أنه قال توبيخاًً أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة .
{ ومهِّلْهم قليلاً } قال ابن جريج : إلى السيف .
{ إنّ لدينا أنْكالاً وجَحيماً } في « أنكالاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : أغلالاً ، قاله الكلبي .
الثاني : أنها القيود ، قاله الأخفش وقطرب ، قالت الخنساء :
دَعاك فَقَطّعْتَ أنكاله ... وقد كُنّ قبْلك لا تقطع .
الثالث : أنها أنواع العذاب الشديد ، قاله مقاتل ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله تعالى يحب النكل على النكل ، قيل : وما النكل؟ قال : الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب » ومن ذلك سمي القيد نكلاً لقوته ، وكذلك الغل ، وكل عذاب قوي واشتد .
{ وطعاماً ذا غُصَّةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها شجرة الزقوم ، قاله مجاهد .
{ وكانت الجبالُ كَثيباً مَهيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : رملاً سائلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه ، قاله الضحاك والكلبي .
{ فأخَذْناه أَخْذاً وبيلاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدهما : شديداً ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : متتابعاً ، قاله ابن زيد .
الثالث : ثقيلاً غليظاً ، ومنه قيل للمطر العظيم وابل ، قاله الزجاج .
الرابع : مهلكاً ، ومنه قول الشاعر :
أكْلتِ بَنيكِ أَكْلَ الضّبِّ حتى ... وَجْدتِ مرارةَ [ الكلإ الوبيل ] .
{ فكيف تتّقونَ } يعني يوم القيامة .
{ إن كفَرتم يوماً يجْعَل الولدان شيباً } الشيب : جمع أشيب ، والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه ، وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه ، قال الشاعر :
طرْبتَ وما بك ما يُطرِب ... وهل يلعب الرجلُ الأَشْيَبُ
وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله .
{ السماءُ مُنفطرٌ به } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ممتلئة به ، قاله ابن عباس .
الثاني : مثقلة ، قاله مجاهد .
الثالث : مخزونة به ، قاله الحسن .
الرابع : منشقة من عظمته وشدته ، قاله ابن زيد .
{ وكانَ وعْدُه مَفْعولاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وعده بأن السماء منفطر به ، وكون الجبال كثيباً مهيلاً ، وأن يجعل الولدان شيباً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : وعده بأن يظهر دينه على الدين كله ، قاله مقاتل .
الثالث : وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه .
وفي المعنى المكنى عنه في قوله « به » وجهان :
أحدهما : أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيباً ، فيكون اليوم قد جعل الولدان شيباً ، وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء .
الثاني : معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً ، ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها .
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ . . . . واللَّهُ يُقدِّرُ الليلَ والنهارَ } يعني يقدر ساعتهما ، فاحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : تقديرهما لأعمال عباده .
الثاني : لقضائه في خلْقه .
{ عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : لن تطيقوا قيام الليل ، قاله الحسن .
الثاني : يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه ، قاله الضحاك .
{ فتابَ عليكم } يحتمل وجهين :
أحدهما : فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى ، فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر .
الثاني : فخفف عنكم .
{ فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ } فيه وجهان :
أحدهما : فصلّوا ما تيسّر من الصلاة ، فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن .
فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان :
أحدهما : ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر .
الثاني : أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها ، ويكون قوله « ما تيسر » محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف ، والصحة والمرض ، ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً .
الثاني : أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ .
فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجباً لوجوب القراءة في الصلاة .
واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة ، فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب ، لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت .
والوجه الثاني : أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة ، فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب أو على الاستحباب؟ على وجهين :
أحدهما : أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه ، ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ، لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة .
الثاني : أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب ، وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه . وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل :
أحدها : جميع القرآن ، لأن اللَّه تعالى قد يسره على عباده ، قاله الضحاك .
الثاني : ثلث القرآن ، حكاه جويبر .
الثالث : مائتا آية ، قاله السدي .
الرابع : مائة آية ، قاله ابن عباس .
الخامس : ثلاث آيات كأقصر سورة ، قاله أبو خالد الكناني .
{ عَلِم أنْ سيكونُ منكم مَّرْضَى } ذكر الله أسباب التخفيف ، فذكر منها المرض لأنه يُعجز .
ثم قال : { وآخرون يَضْرِبون في الأرض } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم المسافرون ، كما قال عز وجلّ : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } .
الثاني : أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى : { يبتغونَ من فضلِ اللَّه } ، قاله ابن مسعود يرفعه ، وهو قول السدي .
{ وآخَرونَ يُقاتِلون في سبيل اللَّهِ } يعني في طاعته ، وهم المجاهدون .
{ فاقْرؤوا ما تيسّر منه } نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعاً ونفلاً ، لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه .
وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض .
{ وأقيموا الصلاة } يعني المفروضة ، وهي الخمس لوقتها .
{ وآتُوا الزكاةَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ها هنا طاعة اللَّه والإخلاص له ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها صدقة الفطر ، قاله الحارث العكلي .
الثالث : أنها زكاة الأموال كلها ، قاله قتادة وعكرمة .
{ وأقْرِضوا اللَّه قَرْضاً حَسَناً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه النوافل بعد الفروض ، قاله ابن زيد .
الثاني : قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قاله ابن حبان .
الثالث : النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : النفقة من سبيل الله ، وهذا قول عمر رضي الله عنه .
الخامس : أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب .
{ تجدُوه عِندَ اللهِ } يعني تجدوا ثوابه عند الله { هو خيراً } يعني مما أعطيتم وفعلتم .
{ وأعظم أجرا } قال أبو هريرة : الجنة .
ويحتمل أن يكون « أعظم أجرا » الإعطاء بالحسنة عشراً .
{ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } يعني من ذنوبكم .
{ إنّ اللَّه غَفورٌ } لما كان قبل التوبة .
{ رحيمُ } بكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
قوله تعالى : { يا أيها المدَّثِّر } فيه قولان :
أحدهما : يا أيها المدثر بثيابه ، قاله قتادة .
الثاني : بالنبوة وأثقالها ، قاله عكرمة .
{ قم } من نومك { فأنذر } قومك عذاب ربك .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك .
ويحتمل هذا الإنذار وجهين :
أحدهما : إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة .
الثاني : دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها .
قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت .
{ وثيابَك فَطِّهرْ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن المراد بالثياب العمل .
الثاني : القلب .
الثالث : النفْس .
الرابع : النساء والزوجات .
الخامس : الثياب الملبوسات على الظاهر .
فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها » يعني عمله الصالح والطالح .
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرىء القيس :
وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ ... فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ
ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس ، واستشهد بقول الشاعر :
فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر ... لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع .
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب ، فكنى عنها بالثياب ، ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون ، رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد .
الثاني : ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر ، من قول الوليد بن المغيرة ، قاله عطاء .
الثالث : ونفسك فطهرها من الخطايا ، قاله عامر .
ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف .
الثاني : الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر ، وفي الطهر دون الحيض ، حكاهما ابن بحر .
ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر ، فلهم في تأويله أربعة أوجه :
أحدها : معناه وثيابك فأنْقِ ، رواه عطاء عن ابن عباس ، ومنه قول امرىء القيس :
ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ ... وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان
الثاني : وثيابك فشمّر وقصّر ، قاله طاووس .
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسات بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء .
الرابع : معناه لا تلبس ثياباً إلا [ من ] كسب حلال مطهرة من الحرام .
{ والرُّجْزَ فاهْجُرْ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني الآثام والأصنام ، قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي .
الثاني : والشرك فاهجر ، قاله ابن جبير .
الثالث : والذنب فاهجر ، قاله الحسن .
الرابع : والإثم فاهجر ، قال السدي .
الخامس : والعذاب فاهجر ، حكاه أسباط .
السادس : والظلم فاهجر ، ومنه قول رؤبة بن العجاج .
كم رامنا من ذي عديد منه ... حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ .
قاله السدي : الرَّجز بنصب الراء : الوعيد .
{ ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ، قال الضحاك : هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته .
الثاني : معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك ، قاله الحسن .
الثالث : معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً ، قاله ابن زيد .
الرابع : معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه ، قاله مجاهد .
ويحتمل تأويلاً خامساً : لا تفعل الخير لترائي به الناس .
{ ولِربِّك فاصْبِرْ } أما قوله « وَلِرَبِّكَ » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لأمر ربك .
الثاني : لوعد ربك .
الثالث : لوجه ربك .
وفي قوله « فاصْبِرْ سبعة تأويلات :
أحدها : فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد .
الثاني : على محاربة العرب ثم العجم ، قاله ابن زيد .
الثالث : على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من احد ، قاله السدي .
الرابع : فاصْبِرْ على عطيتك لله ، قاله إبراهيم .
الخامس : فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله ، قاله عطاء .
السادس : على انتظام ثواب عملك من الله تعالى ، وهو معنى قول ابن شجرة .
السابع : على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين ، حكاه ابن عيسى .
{ فإذا نُقِرَ في الناقُورِ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني نفخ في الصور ، قاله ابن عباس ، وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية؟ قولان :
أحدهما : الأولى .
والثاني : الثانية .
- الثاني : أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب ، حكاه ابن كامل .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض .
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
{ ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً } قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه ، وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول .
وفي قوله تعالى : « وحيداً » تأويلان :
أحدهما : أن الله تفرد بخلقه وحده .
الثاني : خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد ، قاله مجاهد ، فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان :
أحدهما : أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد .
الثاني : أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً .
{ وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً } فيه ثمانية أقاويل :
أحدها : ألف دينار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أربعة الآف دينار ، قاله سفيان .
الثالث : ستة الآف دينار ، قاله قتادة .
الرابع : مائة ألف دينار ، قاله مجاهد .
الخامس : أنها أرض يقال لها ميثاق ، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً .
السادس : أنها غلة شهر بشهر ، قاله عمر رضي الله عنه .
السابع : أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً ، قاله السدي .
الثامن : أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة ، قاله ابن بحر .
ويحتمل تاسعاً : أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً .
ويحتمل عاشراً : أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر .
{ وبَنينَ شُهوداً } اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا عشرة ، قاله السدي .
الثاني : قال الضحاك : كان له سبعة ولدوا بمكة ، وخمسة ولدوا بالطائف .
الثالث : أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً ، قاله ابن جبير .
وفي قوله « شهوداً » ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم حضور معه لا يغيبون عنه ، قاله السدي .
الثاني : أنه إذا ذكر ذكروا معه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم كلهم رب بيت ، قاله ابن جبير .
ويحتمل رابعاً : أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده ، والقيام بما كان يباشره .
{ ومَهّدْت له تَمْهيداً } فيه وجهان :
أحدها : مهدت له من المال والولد ، قاله مجاهد .
الثاني : مهدت له الرياسة في قومه ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة .
{ ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ } فيه وجهان :
أحدهما : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، كلاّ ، قاله الحسن .
الثاني : أن أزيده من المال والولد « كلاّ » قال ابن عباس :
فلم يزل النقصان في ماله وولده .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : ثم يطمع أن أنصره على كفره .
{ كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً } في المراد « بآياتنا » ثلاثة أقاويل :
أحدها : القرآن ، قاله ابن جبير .
الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثالث : الحق ، قاله مجاهد .
وفي قوله « عنيداً » أربعة تأويلات :
أحدها : معاند ، قاله مجاهد وأبو عبيدة ، وأنشد قول الحارثي :
إذا نزلت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العُنَّدا
الثاني : مباعد ، قاله أبو صالح ، ومنه قول الشاعر :
أرانا على حال تفرِّق بيننا ... نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود .
الثالث : جاحد ، قاله قتادة .
الرابع : مُعْرض ، قاله مقاتل .
ويحتمل تأويلاً خامساً : أنه المجاهر بعداوته .
{ سأرْهِقُه صَعُوداً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : مشقة من العذاب ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عذاب لا راحة فيه ، قاله الحسن .
الثالث : أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها ، فإذا صعدها زلق منها ، وهذا قول السدي .
الرابع : ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم « سأرهقه صعودا » قال : « هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده ، فإذا وضع يده عيله ذابت ، وإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت ، وإذا رفعها عادت » .
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً : أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه .
{ إنه فكَّر وقَدَّر } قال قتادة : زعموا أن الوليد بن المغيرة قال : لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يُعْلَى ، وما أشك أنه سحر ، فهو معنى قوله « فكر وقدّر » أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة .
{ فقُتِلَ كيف قَدَّرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أي عوقب ثم عوقب ، فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى .
الثاني : أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة ، وأنه سحر .
{ ثم نَظَرَ } يعني الوليد بن المغيرة ، وفي ما نظر فيه وجهان :
أحدهما : أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر ، ليعلم ما عندهم .
ويحتمل ثالثاً : ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر .
{ ثم عَبَسَ وبَسَرَ } أما عبس فهو قبض ما بين عينينه ، وبَسَرَ فيه وجهان :
أحدهما : كلح وجهه ، قاله قتادة ، ومنه قول بشر بن أبي خازم :
صبحنا تميماً غداة الجِفار ... بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ
الثاني : تغيّر ، قاله السدي ، ومنه قول توبة :
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه ... وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها .
واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه . واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره .
وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة .
{ ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة .
الثاني : أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله .
{ فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر } قال ابن زيد : إن الوليد بن المغيرة قال : إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه .
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر .
{ إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ } أي ليس من كلام الله تعالى ، قال السدي : يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك .
{ سأصْليه سَقَرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم : سقرته الشمس إذا آلمت دماغه ، فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها .
{ وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر } فيه وجهان :
أحدهما : لا تبقي من فيها حياً ، ولا تذره ميتاً ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله ، ولا تذره من العذاب ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : لا تبقيه صحيحاً ، ولا تذره مستريحاً .
{ لوّاحَةً للبَشَرِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مغيرة لألوانهم ، قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل .
الثاني : تحرق البشر حتى تلوح العظم ، قاله عطية .
الثالث : أن بشرة أجسادهم تلوح على النار ، قاله مجاهد .
الرابع : أن اللواح شدة العطش ، والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي لأهلها ، قاله الأخفش ، وأنشد :
سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً ... سقاها به الله الرهامَ الغواديا .
يعني باللوح شدة العطش :
ويحتمل خامساً : أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها ، وأسرّ لمن سلم منها .
وفي البشر وجهان :
أحدهما : أنهم الإنس من أهل النار ، قالهالأخفش والأكثرون .
الثاني : أنه جمع بشرة ، وهي جلدة الإنسان الظاهرة ، قاله مجاهد وقتادة .
{ عليها تسعةَ عَشَرَ } هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية ، وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى ، وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فأهوى بأصابع كفيه مرتين ، فأمسك الإبهام في الثانية ، وأخبر الله عنهم بهذا العدد ، وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد ، وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل .
وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً ، وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير ، لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف ، والآحاد أقل الأعداد ، وأكثر الآحاد تسعة ، وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة ، فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها ، وأقل كثيرها ، فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت ، وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً ، وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد ، لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن ، فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض ، وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه ، وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً ، واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً ، فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط ، والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه .
وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً : أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر برجاً ، فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة ، فلذلك حفظ جهنم ، وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره .
ثم نعود إلى تفسير الآية ، روى قتادة أن الله تعالى لما قال :
« عليها تسعة عشر » قال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم .
قال السدي : وقال أبو الأشد بن الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزئاً .
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
{ وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا } وروى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم نعت خزنة جهنم فقال : كأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصياصي ، يجرون شعورهم ، لأحدهم مثل قوة الثقلين ، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ، ويرمي الجبل عليهم .
{ ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل ، قاله مجاهد .
الثاني : ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة .
{ ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً } بذلك ، قاله جريج .
{ وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر ، قاله قتادة .
الثاني : وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : وما هذه السورة إلا تذكرة للناس ، قاله ابن شجرة .
{ كلا والقَمرِ } الواو في « والقمر » واو القسم ، أقسم الله تعالى به ، ثم أقسم بما بعده فقال :
{ والليلِ إذا أَدْبَرَ } فيه وجهان :
أحدهما : إذ ولّى ، قاله ابن عباس .
الثاني : إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة ، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر ، وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب .
واختلف في أدبر ودبر على قولين :
- أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، قاله الأخفش .
- الثاني : أن معناهما مختلفان ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه دبر إذا خلقته خلفك ، وأدبر إذا ولى أمامك ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر ، وأدبر إذا ولى مدبراً ، قاله ابن بحر .
{ والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ } يعني أضاء وهذا قسم ثالث .
{ إنها لإحْدَى الكُبَرِ } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر ، أي الكبيرة من الكبائر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أي أن هذه النار لإحدى الكبر ، أي لإحدى الدواهي .
الثالث : أن هذه الآية لإحدى الكبر ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل رابعاً : أن قيام الساعة لإحدى الكبر ، والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد ، قال الراجز :
يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ ... داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ .
{ نذيراً للبشر } فيه وجهان :
أحدهما : أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير للبشر حين قاله له « قم فأنذر » قاله ابن زيد .
الثاني : أن النار نذير للبشر ، قال الحسن : والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها .
ويحتمل ثالثاً : أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد .
{ لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر عن معصية الله ، وهذا قول ابن جريج .
الثاني : أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة ، قاله السدي .
ويحتمل رابعاً : لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر ، وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر .
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه ، إلا أصحاب اليمين ، وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم ، قاله عليٌّ رضي الله عنه .
الثاني : كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون ، فإنهم لا يرتهنون ، وهم إلى الجنة يسارعون ، قاله الضحاك .
الثالث : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة ، فإنهم لا يحاسبون ، قاله ابن جريج .
{ وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نكذب مع المكذبين ، قاله السدي .
الثاني : كلما غوى غاو غوينا معه ، قاله قتادة .
الثالث : قولهم محمد كاهن ، محمد ساحر ، محمد شاعر ، قاله ابن زيد .
ويحتمل رابعاً ، وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين .
{ وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين } يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة .
{ حتى أتانا اليقين } فيه وجهان :
أحدهما : الموت ، قاله السدي .
الثاني : البعث يوم القيامة .
{ فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين } قال قتادة : عن القرآن .
ويحتمل ثالثاً : عن الاعتبار بعقولهم .
{ كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ } قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء ، يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها ، يعني هاربة ، وأنشد الفراء :
أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ ... في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ .
{ فَرَّتْ من قَسْورةٍ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن القسورة الرماة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القناص أي الصياد ، ومنه قول علي :
يا ناس إني مثل قسورةٍ ... وإنهم لعداة طالما نفروا .
الثالث : أنه الأسد ، قاله أبو هريرة ، روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة ، قال الفرزدق :
إلى هاديات صعاب الرؤوس ... فساروا للقسور الأصيد .
الرابع : أنهم عصب من الرجال وجماعة ، رواه أبو حمزة عن ابن عباس .
الخامس : أنه أصوات الناس ، رواه عطاء عن ابن عباس .
السادس : أنه النبيل ، قاله قتادة .
{ بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً } يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد ، قاله قتادة .
الثاني : أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه ، قاله مقاتل .
الرابع : أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة ، فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية ، قاله الفراء .
{ هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو أهل أن تتقى محارمه ، وأهل أن يغفر الذنوب ، قاله قتادة .
الثاني : هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره ، وأهل لمن اتقاه أن يغفر له ، وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً .
الثالث : هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته .
ويحتمل رابعاً : أهل الانتقام والإنعام .
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى : { لا أُقسِم بيومِ القيامةِ } اختلفوا في « لا » المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة ، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ، ومثله قول الشاعر :
تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ ... وكاد ضمير القلْبِ لا يتَقطّع .
الثاني : أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله : لا والله ، وكقول امرىء القيس :
فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أَفِرْ .
قاله أبو بكر بن عياش .
الثالث : أنها رد لكلام مضى من كلام المشركين في إنكار البعث ، ثم ابتدأ القسم فقال : أقسم بيوم القيامة ، فرقاً بين اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً ، قاله الفراء .
وقرأ الحسن : لأقْسِمُ بيوم القيامة ، فجعلها لاماً دخلت على ما أُقسم إثباتاً للقسم ، وهي قراءة ابن كثير .
{ ولا أُقْسِم بالنّفْسِ اللوّامةِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه تعالى أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة ، قاله الحسن ، ويكون تقدير الكلام : أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة . وفي وصفها باللوامة قولان :
أحدهما : أنها صفة مدح ، وهو قول من جعلها قسماً :
الثاني : أنها صفة ذم ، وهو قول من نفى أن يكون قسماً .
فمن جعلها صفة مدح فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها التي تلوم على ما فات وتندم ، قاله مجاهد ، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته ، وعلى الخير أن لم تستكثر منه .
الثاني : أنها ذات اللوم ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها .
فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة .
ومن جعلها صفة ذم فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها المذمومة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها التي تلام على سوء ما فعلت .
الثالث : أنها التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها ، فهي كثيرة اللوم فيها ، فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة .
{ أيَحْسَب الإنسان } يعني الكافر .
{ أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه } فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً .
{ بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه } في قوله « بلى » وجهان :
أحدهما : أنه تمام قوله « أن لن نجمع عظامه » أي بلى نجمعها ، قاله الأخفش .
الثاني : أنها استئناف بعد تمام الأول بالتعجب بلى قادرين ، الآية وفيه وجهان :
أحدهما : بلى قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً ، قاله جرير بن عبد العزيز .
الثاني : بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير ، فلا يأكل إلا بفيه ، ولا يعمل بيده شيئاً ، قاله ابن عباس وقتادة .
{ بل يريد الإنسان ليَفْجُرَ أمامَه } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه أن يقدم الذنب ويؤخر التوبة ، قاله القاسم بن الوليد .
الثاني : يمضي أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور ، قاله الحسن .
الثالث : بل يريد أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله ، ولا يذكر الموت ، قاله الضحاك .
الرابع : بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار ، وهو معنى قول ابن زيد .
ويحتمل وجهاً خامساً : بل يريد أن يكذب بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا ، ثم وجدت ابن قتيبة قد ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها ، وسأله أن يحمله على غيرها ، فلم يحمله ، فقال الأعرابي :
أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ ... ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ
فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ ... يعني إن كان كذبني بما ذكرت .
{ فإذا بَرِقَ البصرُ } فيه قراءتان :
إحداهما : بفتح الراء ، وقرأ بها أبان عن عاصم ، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : يعني خفت وانكسر عند الموت ، قاله عبد الله بن أبي إسحاق .
الثاني : شخص وفتح عينه عند معاينة ملك الموت فزعاً ، وأنشد الفراء :
فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ .
أي ولا تفزع من هول الجراح .
الثانية : بكسر الراء وقرأ بها الباقون ، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : عشى عينيه البرق يوم القيامة ، قاله أشهب العقيلي ، قال الأعشى :
وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً ... فأبرِق مَغْشيّاً عليّ مكانيا .
الثاني : شق البصر ، قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي :
لما أتاني ابن عمير راغباً ... أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق .
{ وخَسَفَ القمرُ } أي ذهب ضوؤه ، حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من الأرض .
{ وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه جمع بينهما في طلوعهما من المغرب [ أسودين مكورين ] مظلمين مقرنين .
الثاني : جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل إظلام الأرض على أهلها ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : جمع بينهما في البحر حتى صارا نار الله الكبرى .
{ يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ } أي أين المهرب ، قال الشاعر :
أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ ... وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : « أين المفر » من الله استحياء منه .
الثاني : « أين المفر » من جهنم حذراً منها .
ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين :
أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة من عرصة القيامة دون المؤمن ، ثقة المؤمن ببشرى ربه .
الثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها .
ويحتمل هذا القول وجهين :
أحدهما : من قول الله للإنسان إذا قاله « أين المفر » قال الله له « كلاّ لا وَزَرَ » الثاني : من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه « كلا لا وَزَرَ » { كلاّ لا وَزَرَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أي لا ملجأ من النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا حصن ، قاله ابن مسعود .
الثالث : لا جبل ، [ قاله الحسن ] .
الرابع : لا محيص ، قاله ابن جبير .
{ إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المستقر المنتهى ، قاله قتادة .
الثاني : أنه استقرار أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، قاله ابن زيد .
{ يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ } يعني يوم القيامة وفي « بما قدم وأخر » خمسة تأويلات :
أحدها : ما قدم قبل موته من خير أو شر يعلم به بعد موته ، قاله ابن عباس وابن مسعود .
الثاني : ما قدم من معصية ، وأخر من طاعة ، قاله قتادة .
الثالث : بأول عمله وآخره ، قاله مجاهد .
الرابع : بما قدم من الشر وأخر من الخير ، قال عكرمة .
الخامس : بما قدم من فرض وأخر من فرض ، قاله الضحاك .
ويحتمل سادساً : ما قدم لدنياه ، وما أخر لعقباه .
{ بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه ، كما قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } .
الثاني : أن جوارحه شاهدة عليه بعمله ، قاله ابن عباس ، كما قال تعالى : { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون } .
الثالث : معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب .
والهاء في « بصيرة » للمبالغة .
{ ولو أَلْقَى معاذيرَه } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه لو اعتذر يومئذ لم يقبل منه ، قاله قتادة .
الثاني : يعني لو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه ، قاله ابن عباس .
الثالث : لو أظهر حجته ، قاله السدي وقال النابغة :
لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه . ... الرابع : معناه ولو أرخى ستوره ، والستر بلغة اليمن معذار ، قاله الضحاك ، قال الشاعر :
ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ ... علينا وأطّت فوقها بالمعاذرِ
ويحتمل خامساً : أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك .
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
{ لا تُحرِّكْ به لسانَكَ لِتعْجَلَ به } فيه وجهان :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن حرك به لسان يستذكره . مخافة أن ينساه ، وكان ناله منه شدة ، فنهاه الله تعالى عن ذلك وقال : { إنّ علينا جَمْعَه وقرآنه } ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه ، فنهي عن ذلك حتى يجتمع ، لأن بعضه مرتبط ببعض ، قاله عامر الشعبي .
{ إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرْآنَه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك ، قاله ابن عباس .
الثاني : عيلنا حفظه وتأليفه ، قاله قتادة .
الثالث : عيلنا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك ، قاله الضحاك .
{ فإذا قرأناه فاتّبعْ قُرْآنَه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فإذا بيّناه فاعمل بما فيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : فإذا تلي عليك فاتبع شرائعه وأحكامه ، قاله قتادة .
{ ثم إنْ علينا بَيانَه } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام ، قاله قتادة .
الثاني : علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه كما أقرأك ، قاله ابن عباس .
الثالث : علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد أو وعيد ، قاله الحسن .
{ كلاّ بل تُحِبُّونَ العاجلةَ * وتذَرُونَ الآخِرَة } فيه وجهان :
أحدهما : تحبون ثواب الدنيا وتذرون ثواب الآخرة ، قاله مقاتل .
الثاني : تحبون عمل الدنيا وتذرون عمل الآخرة .
{ وُجوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني حسنة ، قاله الحسن .
الثاني : مستبشرة ، قاله مجاهد .
الثالث : ناعمة ، قاله ابن عباس .
الرابع : مسرورة ، قاله عكرمة .
{ إلى رَبِّها ناظرةٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تنظر إلى ربها في القيامة ، قاله الحسن وعطية العوفي .
الثاني : إلى ثواب ربها ، قاله ابن عمر ومجاهد .
الثالث : تنتظر أمر ربها ، قاله عكرمة .
{ ووجوهُ يومئذٍ باسرةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : كالحة ، قاله قتادة .
الثاني : متغيرة ، قاله السدي .
{ تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرةٌ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الفاقرة الداهية ، قاله مجاهد .
الثاني : الشر ، قاله قتادة .
الثالث : الهلاك ، قاله السدي .
الرابع : دخول النار ، قاله ابن زيد .
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ كلا إذا بَلَغَتِ التّراقِيَ } يعني بلوغ الروح عند موته إلى التراقي ، وهي أعلى الصدر ، واحدها ترقوه .
{ وقيلَ مَنْ راقٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قال أَهْله : من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله الحسنى ، قاله ابن عباس .
الثاني : مَنْ طبيبٌ شافٍ ، قاله أبو قلابة ، قال الشاعر :
هل للفتى مِن بنات الدهرِ من واقى ... أم هل له من حمامِ الموتِ من راقي
الثالث : قال الملائكة : مَن راقٍ يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
{ وظَنَّ أنّه الفِراق } أي تيقن أنه مفارق الدنيا .
{ والْتَفّتِ الساقُ بالساقِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : اتصال الدنيا بالآخرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ ، وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع ، قاله عكرمة ومجاهد ، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي :
أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها ... وإن شمّرتْ عن ساقها الحرب شمّرا .
الثالث : التفّت ساقاه عند الموت ، وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن التفاف الساق بالساق عند الميثاق ، قال الحسن :
ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً .
الرابع : أنه اجتمع أمران شديدان عليه : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، قاله ابن زيد .
{ إلى ربِّك يومئذٍ المساقُ } فيه وجهان :
أحدهما : المنطلق ، قاله خارجة .
الثاني : المستقر ، قاله مقاتل .
{ فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى } هذا في أبي جهل ، وفيه وجهان :
أحدهما : فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى للَّه ، قاله قتادة .
الثاني : فلا صدّق بالرسالة ولا آمن بالمرسل ، وهو معنى قول الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه .
{ ولكن كَذَّبَ وتَوَلَّى } فيه وجهان :
أحدهما : كذب الرسول وتولى عن المرسل .
الثاني : كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة .
{ ثم ذَهَبَ إلى أَهْلِه يَتَمَطَّى } يعني أبا جهل ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يختال في نفسه ، قاله ابن عباس .
الثاني : يتبختر في مشيته ، قال زيد بن أسلم وهي مشية بني مخزوم .
الثالث : أن يلوي مطاه ، والمطا : الظهر ، وجاء النهي عن مشية المطيطاء وذلك أن الرجل يلقي يديه مع الكفين في مشيه .
{ أوْلَى لك فأوْلَى * ثم أوْلَى لك فأوْلَى } حكى الكلبي ومقاتل : أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل ببطحاء مكة وهو يتبختر في مشيته ، فدفع في صدره وهمزه بيده وقال :
« أوْلى لك فأولى » فقال أبو جهل :
إليك عني أوعدني يا ابن أبي كبشة ما تستطيع أنت ولا ربك الذي أرسلك شيئاً ، فنزلت هذه الآية .
وفيه وجهان :
أحدهما : وليك الشر ، قال قتادة ، وهذا وعيد على وعيد .
الثاني : ويل لك ، قالت الخنساء :
هَممْتُ بنفسي بعض الهموم ... فأوْلى لنَفْسيَ أوْلَى لها .
سأحْمِلُ نَفْسي على آلةٍ ... فإمّا عليها وإمّا لها .
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضاً الذي يحمل عليه الموتى .
{ أيَحْسَبُ الإنسانُ أنْ يُتْرَك سُدىً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فهل لا يفترض عليه عمل ، قاله ابن زيد .
الثاني : يظن ألا يبعث ، قاله السدي .
الثالث : ملغى لا يؤمر ولا ينهى ، قاله مجاهد .
الرابع : عبث لا يحاسب ولا يعاقب ، قال الشاعر :
فأُقسِم باللَّه جهدَ اليمين ... ما ترك اللَّه شيئاً سُدى
{ ألمْ يكُ نُطْفةً مِنْ مَنيٍّ يُمْنَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن معنى يُمنى يراق ، ولذلك سميت منى لإراقة الدماء فيها .
الثاني : بمعنى ينشأ ويخلق ، ومنه قول يزيد بن عامر :
فاسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ ... حتى تلاقيَ ما يُمني لك الماني .
الثالث : أنه بمعنى يشترك أي اشتراك ماء الرجل بماء المرأة .
{ ثم كان عَلَقَةً } يعني أنه كان بعد النطفة علقة .
{ فخَلَقَ فسوَّى } يحتمل وجهين .
أحدهما : خلق من الأرحام قبل الولادة وسوي بعدها عند استكمال القوة وتمام الحركة .
الثاني : خلق الأجسام وسواها للأفعال ، فجعل لكل جارحة عملاً ، والله أعلم .
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام : هي مكية ، وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى : { إنا نحن نزّلنا عليك القرآنَ تنزيلاً } إلى آخرها وما تقدم مدني .
قوله تعالى : { هلْ أتَى على الإنسان حينٌ من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً } في قوله « هل » وجهان :
أحدهما : أنها في هذا الموضع بمعنى قد ، وتقدير الكلام : « قد أتى على الإنسان » الآية ، على معنى الخبر ، قاله الفراء وأبو عبيدة .
الثاني : أنه بمعنى « أتى على الإنسان » الآية ، على وجه الاستفهام ، حكاه ابن عيسى .
وفي هذا « الإنسان » قولان :
أحدهما : أنه آدم ، قاله قتادة والسدي وعكرمة ، وقيل إنه خلقه بعد خلق السموات والأرض ، وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم الجمعة .
الثاني : أنه كل إنسان ، قاله ابن عباس وابن جريج .
وفي قوله تعالى : { حينٌ من الدهر } ثلاثة أقاويل :
أحدهأ : أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف ، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه .
الثاني : أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ، ثم نفخ فيه الروح ، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك .
الثالث : أن الحين المذكور ها هنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود ، قاله ابن عباس أيضاً .
وفي قوله { لم يكن شيئاً مذكوراً } وجهان :
أحدهما : لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق ، وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً ، لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدري ما اسمه ، ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً ، قاله الفراء ، وقطرب وثعلب .
وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً ، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً .
{ إنّا خلقْنا الإنسانَ من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ } يعني بالإنسان في هذا الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين .
وفي النطفة قولان :
أحدهما : ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة ، قاله السدي .
الثاني : أن النطفة ماء الرجل ، فإذا اختلط في الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً .
وفي الأمشاج أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الأخلاط ، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة ، قاله الحسن وعكرمة ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ ... لم يُكْسَ جلداً في دم أمشاج .
الثاني : أن الأمشاج الألوان ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد :
نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء .
روى سعيد عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه » .
الثالث : أن الأمشاج : الأطوار ، وهو أن الخلق يكون طوراً نطفة ، وطوراً علقة ، وطوراً مضغة ، ثم طوراً عظماً ، ثم يكسى العظم لحماً ، قاله قتادة .
الرابع : أن الأمشاج العروق التي تكون في النطفة ، قاله ابن مسعود .
وفي قوله { نَبْتَلِيه } وجهان :
أحدهما : نختبره .
الثاني : نكلفه بالعمل .
فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان :
أحدهما : نختبره بالخير والشر ، قاله الكلبي .
الثاني : نختبر شكره في السراء ، وصبره في الضراء ، قاله الحسن .
ومن جعل معناه التكليف ففيما كلفه وجهان :
أحدهما : العمل بعد الخلق ، قاله مقاتل .
الثاني : الدين ، ليكون مأموراً بالطاعة ، ومنهياً عن المعاصي .
{ فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً } ويحتمل وجهين :
أحدهما : أي يسمع بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه .
الثاني : ذا عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان .
وقال الفراء ومقاتل : في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً أن نبتليه ، فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في ابتلائه على قولين :
أحدهما : ما قدمناه من جعله اختباراً أو تكليفاً .
الثاني : لنبتليه بالسمع والبصر ، قاله ابن قتيبة .
{ إنّا هَدَيْناه السّبيلَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله عطية .
الثاني : الهدى من الضلالة ، قاله عكرمة .
الثالث : سبيل الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد .
الرابع : خروجه من الرحم ، قاله أبو صالح والضحاك والسدي .
ويحتمل خامساً : سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه ، وقيل : كمال عقله .
{ إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً } فيه وجهان :
أحدهما : إما مؤمناً وإما كافراً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها ، قاله قتادة .
وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور - مع إجتماعهما في معنى المبالغة - نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر ، لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة ، ولم تنتف عن الكفر المبالغة ، فقل شكره لكثرة النعم عليه ، وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
{ إن الإبرار يَشْربونَ } في الأبرار قولان :
أحدهما : أنهم الصادقون ، قاله الكلبي .
الثاني : المطيعون ، قاله مقاتل .
وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل :
أحدها : سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء ، قاله ابن عمر .
الثاني : لأنهم كفوا الأذى ، قاله الحسن .
الثالث : لأنهم يؤدون حق الله ويوفون بالنذر ، قاله قتادة .
وقوله { مِن كأسٍ } يعني الخمر ، قال الضحاك : كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر .
وفي وقوله { كان مِزاجها كافوراً } قولان :
أحدهما : أن كافوراً عين في الجنة اسمها كافور ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه الكافور من الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل :
أحدها : برده ، قال الحسن : ببرد الكافور وطعم الزنجبيل .
الثاني : بريحه ، قاله قتادة : مزج بالكافور وختم بالمسك .
الثالث : طعمه ، قال السدي : كأن طعمه طعم الكافور .
{ عَينْاً يَشْرَبُ بها عبادُ اللَّهِ } يعني أولياء اللَّه ، لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً وإن كان من عباد الله ، وفيه وجهان :
أحدهما : ينتفع بها عباد الله ، قاله الفراء .
الثاني : يشربها عباد الله .
قال مقاتل : هي التسنيم ، وهي أشرف شراب لاجنة ، يشرب بها المقربون صِرفاً ، وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل .
{ يُفَجِّرونَها تفْجيراً } فيه وجهان :
أحدهما : يقودونها إلى حيث شاءوا من الجنة ، قاله مجاهد .
الثاني : يمزجونها بما شاءوا ، قاله مقاتل .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة .
وفي قوله « تفجيراً » وجهان :
أحدهما : أنه مصدر قصد به التكثير .
الثاني : أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع .
{ يُوفُونَ بالنّذْرِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يوفون بما افترض الله عليهم من عبادته ، قاله قتادة .
الثاني : يوفون بما عقدوه على أنفسهم من حق الله ، قاله مجاهد .
الثالث : يوفون بالعهد لمن عاهدوه ، قاله الكلبي .
الرابع : يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها ، قاله مقاتل .
ويحتمل خامساً : أنهم يوفون بما أُنذِروا به من وعيده .
{ ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً } قال الكلبي عذاب يوم كان شره مستطيراً ، وفيه وجهان :
أحدهما : فاشياً ، قاله ابن عباس والأخفش .
الثاني : ممتداً ، قاله الفراء ، ومنه قول الأعشى :
فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ ... صَدْعاً على نأيها مُستطيرا
أي ممتداً .
ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً .
{ ويُطْعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : على حب الطعام ، قاله مقاتل .
الثاني : على شهوته ، قاله الكلبي .
الثالث : على قلته ، قاله قطرب .
{ مسكيناً ويتيماً وأسيراً } في الأسير ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المسجون المسلم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه العبد ، قاله عكرمة .
الثالث : أسير المشركين ، قاله الحسن وسعيد بن جبير .
قال سعيد بن جبير : ثم نسخ أسير المشركين بالسيف ، وقال غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه ، إلا أن يرى الإمام قتله .
ويحتمل وجهاً رابعاً : أن يريد بالأسير الناقص العقل ، لأنه في أسر خبله وجنونه ، وإن أسر المشركين انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان .
{ إنّما نُطْعِمُكم لوجْهِ اللهِ } قال مجاهد : إنهم لم يقولوا ذلك ، لكن علمه الله منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب .
{ لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً } جزاء بالفعال ، وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر ، وهم سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة .
{ إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره ، والقمطرير الشديد ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن العبوس الضيق ، والقمطرير الطويل ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ ... تزول الضحى فيه قرون المناكب .
الثالث : أن العُبوس بالشفتين ، والقمطرير بالجبهة والحاجبين ، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم ، قاله مجاهد ، وأنشد ابن الأعرابي :
يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ ... ويَقْمَطُّر ساعةً ويكْفَهِرّ .
{ فَوَقاهمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً } قال الحسن النضرة من الوجوه ، والسرور في القلوب .
وفي النضرة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها البياض والنقاء ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها الحسن والبهاء ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنها أثر النعمة ، قاله ابن زيد .
{ وجَزاهم بما صَبروا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بما صبروا على طاعة الله .
الثاني : بما صبروا على الوفاء بالنذر .
{ جَنَّةً وحريراً } فيه وجهان :
أحدهما : جنة يسكنونها ، وحريراً يلبسونه .
الثاني : أن الجنة المأوى ، والحرير أبد العيش في الجنة ، ومنه لبس الحرير ليلبسون من لذة العيش .
واختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين :
أحدهما : ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه .
الثاني : ما حكاه عمرو عن الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة . . . رضي الله عنهما - وذلك أن علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه ، وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر ، ويأكل الحسن والحسين الثالث ، فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها ، ثم سألها يتيم فتصدقت عيله بالآخر ، ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث ، وباتوا طاوين .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
{ مُتّكِئينَ فيها على الأرائِك } وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان :
أحدهما : أنها الأسرّة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها كل ما يتكأ عليه ، قاله الزجاج .
{ لا يَرَوْنَ فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً } أما المراد بالشمس ففيه وجهان :
أحدهما : أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء ، فيكون عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء .
الثاني : أنهم لا يرون فيها شمساً فيتأذون بحرها ، فيكون عدمها نفياً لأذاها .
وفي الزمهرير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه البرد الشديد ، قال عكرمة لأنهم لا يرون في الجنة حراً ولا برداً .
الثاني : أنه لون في العذاب ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه من هذا الموضع القمر ، قاله ثعلب وأنشد :
وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ
وروي ما زهر ، ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار ، لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر .
{ . . . وذُلِّلّتْ قُطوفُها تذْليلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد ، قاله قتادة .
الثاني : أنه إذا قام ارتفعت ، وإذا قعد نزلت ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها .
{ . . . وأَكْوابٍ كانت قَواريرَا * قواريرَا من فِضّةٍ } أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من جملة الأواني .
وفي قوله تعالى : « قوارير من فضة » وجهان :
أحدهما : أنها من فضة من صفاء القوارير ، قاله الشعبي .
الثاني : أنها من قوارير في بياض الفضة ، قاله أبو صالح .
وقال ابن عباس : قوارير كل أرض من تربتها ، وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة .
{ قَدَّرُوها تقْديراً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروها ، قاله الحسن .
الثاني : على قدر ملء الكف ، قاله الضحاك .
الثالث : على مقدار لا تزيد فتفيض ، ولا تنقص فتغيض ، قاله مجاهد .
الرابع : على قدر ريهم وكفايتهم ، لأنه ألذ وأشهى ، قاله الكلبي .
الخامس : قدرت لهم وقدروا لها سواء ، قاله الشعبي .
{ ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زَنْجبيلاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تمزج بالزنجبيل ، وهو مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول ، قاله السدي وابن أبي نجيح .
الثاني : أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها مزاج شراب الأبرار ، قاله مجاهد .
الثالث : أن الزنجبيل طعم من طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة ، حكاه ابن شجرة ، ومنه قول الشاعر :
وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به ... اذْ ذُقْتُه وسُلافَةَ الخمْرِ
{ عْيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنه اسم لها ، قاله عكرمة .
الثاني : معناه سلْ سبيلاً إليها ، قاله علّي رضي الله عنه .
الثالث : يعني سلسلة السبيل ، قاله مجاهد .
الرابع : سلسلة يصرفونها حيث شاءوا ، قاله قتادة .
الخامس : أنها تنسلّ في حلوقهم انسلالاً ، قاله ابن عباس .
السادس : أنها الحديدة الجري ، قاله مجاهد أيضاً ، ومنه قول حسان بن ثابت :
يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... كأساً تُصَفِّقُ بالرحيق السِّلْسَل
وقال مقاتل : إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم وغرفهم وطرقهم .
{ ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مخلدون لا يموتون ، قاله قتادة .
الثاني : صغار لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون ، قاله الضحاك والحسن .
الثالث : أي مُسَوَّرون ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما ... أعْجازُهنّ أقاوزُ الكُثْبانِ .
{ إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً } فيه قولان :
أحدها : أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم ، قاله قتادة .
الثاني : لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان .
{ وإذا رأَيْتَ ثمَّ } يعني الجنة .
{ رأَيْتَ نَعيماً } فيه وجهان :
أحدهما : يريد كثرة النعمة .
الثاني : كثرة النعيم .
{ ومُلْكاً كبيراً } فيه وجهان :
أحدهما : لسعته وكثرته .
الثاني : لاستئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام .
ويحتمل ثالثاً : أنهم لا يريدون شيئاً إلا قدروا عليه .
{ وسقاهم ربُّهم شَراباً طَهوراً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا يُحْدِثون عنه ، قاله عطية ، قال إبراهيم التميمي : هو عَرَق يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك .
الثاني : لأن خمر الجنة طاهرة ، وخمر الدنيا نجسة ، فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور ، قاله ابن شجرة .
الثالث : أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفوراً } قيل إنه عنى أبا جهل ، يريد بالآثم المرتكب للمعاصي ، وبالكفور الجاحد للنعم .
{ واذكُر اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً } يعني في أول النهار وآخره ، ففي أوله صلاة الصبح ، وفي آخره صلاة الظهر والعصر .
{ ومِنَ الليلِ فاسْجدْ له } يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة .
{ وسَبِّحْهُ ليلاً طويلاً } يعني التطوع من الليل .
قال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن هو صلاة .
{ إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ } يحتمل في المراد بهم قولين :
أحدهما : أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته . الثاني : أنه أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر .
ويحتمل قوله { يحبون العاجلة } وجهين :
أحدهما : أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود .
الثاني : طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون .
{ ويَذَرُونَ وراءَهم يوماً ثقيلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يحل بهم من القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود .
الثاني : يوم القيامة إذا قيل إنهم المنافقون .
فعلى هذا يحتمل قوله « ثقيلاً » وجهين :
أحدهما : شدائده وأحواله .
الثاني : للقِصاص من عباده .
{ نحن خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم } في أسرهم ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني مفاصلهم ، قاله أبو هريرة .
الثاني : خلقهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال لبيد :
ساهم الوجه شديد أسْرُه ... مشرف الحارك محبوك الكفل .
الثالث : أنه القوة ، قاله ابن زيد ، قال ابن أحمر في وصف فرس :
يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها ... صُمِّ السنابِك لاتقى بالجَدْجَدِ .
ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين :
أحدهما : امتناناً عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية .
الثاني : تخويفاً لهمن بسلب النعم .
{ وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أمثال من كفر بالنعم وشكرها .
الثاني : من كفر بالرسل بمن يؤمن بها .
{ إنّ هذه تَذْكِرةٌ } يحتمل بالمراد ب « هذه » وجهين :
أحدهما : هذه السورة .
الثاني : هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها .
ويحتمل قوله « تذكرة » وجهين :
أحدهما : إذكار ما غفلت عنه عقولهم .
الثاني : موعظة بما تؤول إليه أمورهم .
{ فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى ربِّه سَبيلاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : طريقاً إلى خلاصه .
الثاني : وسيلة إلى جنته .
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
قوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الملائكة ترسل بالمعروف ، قاله أبو هريرة وابن مسعود .
الثاني : أنهم الرسل يرسلون بما يُعرفون به من المعجزات ، وهذا قول أبي صالح .
الثالث : أنها الرياح ترسل بما عرفها الله تعالى .
ويحتمل رابعاً : أنها السحب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه ، ومن أرسلت إليه .
ويحتمل خامساً : أنها الزواجر والمواعظ .
وفي قوله « عُرْفاً » على هذا التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : متتابعات كعُرف الفرس ، قاله ابن مسعود .
الثاني : جاريات ، قاله الحسن يعني القلوب .
الثالث : معروفات في العقول .
{ فالعاصِفاتِ عَصْفاً } فيه قولان :
أحدهما : أنها الرياح العواصف ، قاله ابن مسعود .
الثاني : الملائكة ، قاله مسلم بن صبيح .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف .
وفي قوله « عصفاً » وجهان :
أحدهما : ما تذروه في جريها .
الثاني : ما تهلكه بشدتها .
{ والنَّاشِراتِ نَشْراً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها الرياح تنشر السحاب ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنها الملائكة تنشر الكتب ، قاله أبو صالح أيضاً .
الثالث : أنه المطر ينشر النبات ، قاله ابو صالح أيضاً .
الرابع : أنه البعث للقيامة تُنشر فيه الأرواح ، قاله الربيع .
الخامس : أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، قاله الضحاك .
{ فالفارِقات فَرقاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل ، قاله ابن عباس .
الثاني : الرسل الذين يفرقون بين الحلال والحرام ، قاله أبو صالح .
الثالث : أنها الرياح ، قاله مجاهد .
الرابع : القرآن .
وفي تأويل قوله « فَرْقاً » على هذا القول وجهان :
أحدهما : فرقه آية آية ، قاله الربيع .
الثاني : فرق فيه بين الحق والباطل ، قاله قتادة .
{ فالمُلْقِياتِ ذِكْراً } فيه قولان :
أحدهما : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي والقرآن إلى من أرسلت إليه من الأنبياء ، قاله الكلبي .
الثاني : الرسل يلقون على أممهم ما أنزل إليهم ، قاله قطرب .
ويحتمل ثالثاً : أنها النفوس تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال .
{ عُذْراً أو نُذْراً } يعني عذراً من الله إلى عباده ، ونُذْراً إليهم من عذابه .
ويحتمل ثانياً : عذراً من الله بالتمكن ، ونذراً بالتحذير .
وفي ما جعله عذراً أو نذراً ثلاثة أقاويل :
أحدها : الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : الرسل ، قاله أبو صالح .
الثالث : القرآن ، قاله السدي .
{ إنما تُوعَدُونَ لَواقعٌ } هذا جواب ما تقدم من القسم ، لأن في أول السورة قسم ، أقسم الله تعالى إنما توعدون على لسان الرسول من القرآن في أن البعث والجزاء واقع بكم ونازل عليكم .
ثم بيّن وقت وقوعه فقال :
{ فإذا النجومُ طُمِسَتْ } أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب .
{ وإذا السماءُ فُرِجَتْ } أي فتحت وشققت .
{ وإذا الجبالُ نُسِفَتْ } أي ذهبت ، وقال الكلبي : سويت بالأرض .
{ وإذا الرّسُلُ أُقِّتَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أُودت ، قاله إبراهيم .
الثاني : أُجلت ، قاله مجاهد .
الثالث : جمعت ، قاله ابن عباس .
وقرأ أبو عمرو « وقتت » ومعناها عرفت ثوابها في ذلك اليوم ، وتحتمل هذه القراءة وجهاً آخر أنها دعيت للشهادة على أممها .
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
{ ألم نُهلِكِ الأوَّلينِ } يعني من العصاة ، وفيمن أريد بهم وجهان :
أحدهما : قوم نوح عليه السلام لعموم هلاكهم بالطوفان لأن هلاكهم أشهر وأعم .
الثاني : أنه قوم كل نبي استؤصلوا ، لأنه في خصوص الأمم أندر .
{ ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخِرينَ } يعني في هلاكهم بالمعصية كالأولين ، إما بالسيف وإما بالهلاك .
{ كذلك نَفْعَلُ بالمْجرمين } يحتمل وجهين :
أحدهمأ : أنه تهويل لهلاكهم في الدنيا اعتباراً .
الثاني : أنه إخبار بعذابهم في الآخرة استحقاقاً .
{ أَلمْ نَخْلُقْكُم مِنْ ماءٍ مَهينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من صفوة الماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : من ماء ضعيف ، قاله مجاهد وقتادة .
الثالث : من مني سائل ، قاله ابن كامل .
{ فَجَعَلْناه في قرارٍ مَكينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : قاله وهب بن منبّه في رحم أُمّه لا يؤذيه حَرّ ولا برد .
الثاني : مكين حريز لا يعود فيخرج ولا يبث في الجسد فيدوم ، قاله الكلبي .
{ إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍِ } إلى يوم ولادته .
{ فقدرنا فنِعْم القادِرون } في قراءة نافع مشددة ، وقرأ الباقون مخففة ، فمن قرأ بالتخفيف فتأويلها : فملكنا فنعم المالكون . ومن قرأ بالتشديد فتأويلها :
فقضينا فنعم القاضون ، وقال الفراء : هما لغتان ومعناهما واحد .
{ ألمْ نجْعَلِ الأرضَ كِفاتاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني كِنّاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : غطاء ، قاله مجاهد .
الثالث : مجمعاً ، قاله المفضل .
الرابع : وعاء قال الصمصامة بن الطرماح :
فأنت اليومَ فوق الأرض حيٌّ ... وأنت غداً تَضُمُّكَ من كِفات .
{ أحْياءً وأَمْواتاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن الأرض تجمع الناس أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها ، قاله قتادة والشعبي .
الثاني : أن من الأرض أحياء بالعمارة والنبات ، وأمواتاً بالجدب والجفاف ، وهو أحد قولي مجاهد .
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
{ انْطَلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاثِ شُعَبٍ } قيل إن الشعبة تكون فوقه ، والشعبة عن يمينه ، والشعبة عن شماله ، فتحيط به ، قاله مجاهد .
الثاني : أن الشعب الثلاث الضريع والزقوم والغسلين ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثالثاً : أن الثلاث الشعب : اللهب والشرر والدخان ، لأنه ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت .
{ لا ظَليلٍ } في دفع الأذى عنه .
{ ولا يُغْني مِن اللّهَب } واللهب ما يعلو عن النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر .
{ إنها تَرْمي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ } والشرر ما تطاير من قطع النار ، وفي قوله « كالقصر » خمسة أوجه .
أحدها : أنه أصول الشجر العظام ، قاله الضحاك .
الثاني : كالجبل ، قاله مقاتل .
الثالث : القصر من البناء وهو واحد القصور ، قاله ابن مسعود .
الرابع : أنها خشبة كان أهل الجاهلية يقصدونها ، نحو ثلاثة أذرع ، يسمونها القصر ، قاله ابن عباس .
الخامس : أنها أعناق الدواب ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهاً سادساً : أن يكون ذلك وصفاً من صفات التعظيم ، كنى عنه باسم القصر ، لما في النفوس من استعظامه ، وإن لم يُردْ به مسمى بعينه .
{ كأنّه جِمالةٌ صُفْرٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني جِمالاً صُفراً وأراد بالصفر السود ، سميت صفراً لأن سوادها يضرب إلى الصفرة ، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة ، قال الشاعر :
تلك خَيْلي منه وتلك رِكابي ... هُنّ صُفْرٌ أولادُها كالزبيبِ .
الثاني : أنها قلوس السفن ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير .
الثالث : أنها قطع النحاس ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
وفي تسميتها بالجمالات الصفر وجهان :
أحدهما : لسرعة سيرها .
الثاني : لمتابعة بعضها لبعض .
{ فإنْ كانَ لكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ } فيه وجهان :
أحدهما : إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم ، قاله مقاتل .
الثاني : إن استطعتم أن تمتنعوا عني فامتنعوا ، وهو معنى قول الكلبي .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ وإذا قِيلَ لهم ارْكَعوا لا يَرْكَعون } أي صلّوا لا يصلّون ، قال مقاتل .
نزلت في ثقيف امتنعوا عن الصلاة فنزل ذلك فيهم ، وقيل إنه قال ذلك لأهل الآخرة تقريعاً لهم .
{ فبأيِّ حديثٍ بَعْدَه يُؤْمنُون } أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدّقون .
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
قوله تعالى { عَمَّ يتساءَلونَ عن النبإ العَظيمِ } يعني عن أي شيء يتساءل المشركون؟ لأن قريشاً حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تجادل وتَختصم في الذي دعا إليه .
وفي { النبأ العظيم } أربعة أقاويل :
أحدها : القرآن ، قاله مجاهد .
الثاني : يوم القيامة ، قاله ابن زيد .
الثالث : البعث بعد الموت ، قاله قتادة .
الرابع : عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
{ الذي هُمْ فيه مُختَلِفَونَ } هو البعث ، فأما الموت فلم يختلفوا فيه ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه اختلف فيه المشركون من بين مصدق منهم ومكذب ، قاله قتادة .
الثاني : اختلف فيه المسلمون والمشركون ، فصدّق به المسلمون وكذّب به المشركون ، قاله يحيى بن سلام .
{ كَلاَّ سيعْلَمون ثم كلا سيعلمون } فيه قولان :
أحدهما : أنه وعيد بعد وعيد للكفار ، قاله الحسن ، فالأول : كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في القيامة ، والثاني : كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في جهنم .
القول الثاني : أن الأول للكفار فيما ينالهم من العذاب في النار ، والثاني للمؤمنين فيما ينالهم من الثواب في الجنة ، قاله الضحاك .
{ وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : نعاساً ، قاله السدي .
الثاني : سكناً ، قاله قتادة .
الثالث : راحة ودعة ، ولذلك سمي يوم السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة ، قال أبو جعفر الطبري : يقال سبت الرجل إذا استراح .
الرابع : سُباتا أي قطعاً لأعمالهم ، لأن أصل السبات القطع ومنه قولهم سبت الرجل شعره إذا قطعه ، قال الأنباري : وسمي يوم السبت لانقطاع الأعمال فيه .
ويحتمل خامساً : أن السبات ما قرت فيه الحواس حتى لم تدرك بها الحس .
{ وجَعَلْنا اللّيلَ لِباساً } فيه وجهان :
أحدهما : سكناً ، قاله سعيد بن جبير والسدي .
الثاني : غطاء ، لأنه يغطي سواده كما يغطى الثوب لابسه ، قاله أبو جعفر الطبري .
{ وجَعَلنا النهارَ مَعاشاً } يعني وقت اكتساب ، وهو معاش لأنه يعاش فيه .
ويحتمل ثانياً : أنه زمان العيش واللذة .
{ وجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً } يعني بالسراج الشمس ، وفي الوهّاج أربعة أقاويل :
أحدها : المنير ، قاله ابن عباس .
الثاني : المتلألىء ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه من وهج الحر ، قاله الحسن .
الرابع : أنه الوقّاد ، الذي يجمع بين الضياء والجمال .
{ وأَنْزَلْنا من المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ان المعصرات الرياح ، قاله ابن عباس وعكرمة ، قال زيد بن أسلم هي الجنوب .
الثاني : أنها السحاب ، قاله سفيان والربيع .
الثالث : أن المعصرات السماء ، قاله الحسن وقتادة .
وفي الثجاج قولان :
أحدهما : الكثير قاله ابن زيد .
الثاني : المنصبّ ، قاله ابن عباس ، وقال عبيد بن الأبرص :
فثجّ أعلاه ثم ارتج أسفلُه ... وضاق ذَرْعاً بحمل الماء مُنْصاحِ
{ لنُخرج به حبّاً ونَباتاً } فيه قولان :
أحدهما : ان الحب ما كان في كمام الزرع الذي يحصد ، والنبات : الكلأ الذي يرعى ، وهذا معنى قول الضحاك .
الثاني : أن الحب اللؤلؤ ، والنبات : العشب ، قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة .
ويحتمل ثالثاً : أن الحب ما بذره الآدميّون ، والنبات ما لم يبذروه .
{ وجنّاتٍ أَلْفافاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها الزرع المجتمع بعضه إلى جنب بعض ، قاله عكرمة .
الثاني : أنه الشجرالملتف بالثمر ، قاله السدي .
الثالث : أنها ذات الألوان ، قاله الكلبي .
ويحتمل رابعاً : أنها التي يلف الزرع أرضها والشجر أعاليها ، فيجتمع فيها الزرع والشجر ملتفات .
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
{ إنّ يومَ الفصلِ } يعني يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يفصل فيه الحكم بين الأولين والآخرين والمثابين والمعاقبين .
{ كانَ مِيقاتاً } فيه وجهان :
أحدهما : ميعاداً للإجتماع .
والثاني : وقتاً للثواب والعقاب .
{ وسُيِّرتِ الجبالُ فكانتْ سَراباً } فيه وجهان :
أحدهما : سُيّرت أي أزيلت عن مواضعها .
الثاني : نسفت من أصولها .
« فكانت سراباً » فيه وجهان :
أحدهما : فكانت هباءً .
الثاني : كالسراب لا يحصل منه شيء كالذي يرى السراب يظنه ماء وليس بماء .
{ إنّ جهنّمَ كانت مِرْصاداً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني أنها راصدة فجازتهم بأعمالهم ، قاله أبو سنان .
الثاني : أن على النار رصداً ، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجىء بجواز لم يجز ، قاله الحسن .
الثالث : أن المرصاد وعيد أوعد الله به الكفار ، قاله قتادة .
{ للطّاغينَ مَآباً } فيه قولان :
أحدهما : مرجعاً ومنقلباً ، قاله السدي .
الثاني : مأولى ومنزلاً ، قاله قتادة .
والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه بالظلم .
{ لابِثينَ فيها أَحْقاباً } يعني كلما مضى حقب جاء حقب وكذلك إلى الأبد واختلفوا في مدة الحقب على سبعة أقاويل :
أحدها : ثمانون سنة ، قاله أبو هريرة .
الثاني : أربعون سنة ، قاله ابن عمر .
الثالث : سبعون سنة ، قاله السدي .
الرابع : أنه ألف شهر ، رواه أبو أمامة مرفوعاً .
الخامس : ثلاثمائة سنة ، قاله بشير بن كعب .
السادس : سبعون ألف سنة ، قاله الحسن .
السابع : أنه دهر طويل غير محدود ، قاله قطرب .
وفي تعليق لبثهم بالأحقاب قولان :
أحدهما : أنه على وجه التكثير ، كلما مضت أحقاب جاءَت بعدها أحقاب ، وليس ذلك بحد لخلودهم في النار .
الثاني : أن ذلك حد لعذابهم بالحميم والغسّاق ، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب .
{ لا يَذُوقونَ فيها بَرداً ولا شَراباً } في البرد ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه برد الماء ، وبرد الهواء ، وهو قول كثير من المفسرين .
الثاني : أنه الراحة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه النوم ، قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة .
وأنشد قول الكندي :
بَرَدَتْ مَراشِفُها علىَّ فَصَدَّني ... عنها وعن تَقْبيلِها البَرْدُ
يعني النوم .
والشراب ها هنا : العذاب .
ويحتمل أن يريد بالشراب الري ، لأن الشراب يروي وهم فيها عطاش أبداً .
{ إلاّ حَميماً وغَسّاقاً } أما الحميم ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الحارّ الذي يحرق ، قاله ابن عباس .
الثاني : دموع أعينهم في النار تجتمع في حياض في النار فيُسقونْه ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه نوع من الشراب لأهل النار ، قاله السدي . وأما الغسّاق ففيه أربعة أقاويل :
أحدهاك أنه القيح الغليظ ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنه الزمهرير البارد الذي يحرق من برده ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه صديد أهل النار ، قاله قتادة .
الرابع : أنه المنتن باللغة الطحاوية ، قاله ابن زيد .
{ جزاءً وِفاقاً } وهو جمع وفق ، قال أهل التأويل : وافق سوءُ الجزاء سوءَ العمل .
{ إنهم كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً } فيه وجهان :
أحدهما : لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يخافون وعيد الله بحسابهم ومجازاتهم ، وهذا معنى قول قتادة .
{ وكذّبوا بآياتِنا كِذّاباً } يعني بآيات القرآن ، وفي « كِذّاباً » وجهان :
أحدهما : أنه الكذب الكثير .
الثاني : تكذيب بعضهم لبعض ، ومنه قول الشاعر :
فَصَدَقْتُها وَكَذَبْتُها ... والمرءُ يَنْفعُهُ كِذابُهْ
وهي لغة يمانية .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{ إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } فيه وجهان :
أحدهما : نجاة من شرها ، قاله ابن عباس .
الثاني : فازوا بأن نجوا من النار بالجنة ، ومن العذاب بالرحمة ، قاله قتادة ، وتحقيق هذا التأويل أنه الخلاص من الهلاك ، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها .
{ وكَواعِبَ أَتْراباً } في الكواعب قولان :
أحدهما : النواهد ، قاله ابن عباس .
الثاني : العذارى ، قاله الضحاك ، ومنه قول قيس بن عاصم :
وكم مِن حَصانٍ قد حَويْنا كريمةٍ ... ومِن كاعبٍ لم تَدْرِ ما البؤسُ مُعْصر
وفي الاتراب أربعة أقاويل :
أحدها : الأقران ، قاله ابن عباس .
الثاني : الأمثال ، قاله مجاهد .
الثالث : المتصافيات ، قاله عكرمة .
الرابع : المتآخيات ، قاله السدي .
{ وكأساً دِهاقاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مملوءة ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
أتانا عامرٌ يَبْغي قِرانا ... فأَتْرَعنا له كأساً دِهاقاً
الثاني : متتابعة يتبع بعضها بعضاً ، قاله عكرمة .
الثالث : صافية ، رواه عمر بن عطاء ، قال الشاعر :
لأنْتِ آلى الفؤادِ أَحَبُّ قُرْباً ... مِن الصّادي إلى كأسٍ دِهَاقِ .
{ لا يَسْمعونَ فيها لَغْواً ولا كِذّاباً } في اللغو ها هنا أربعة أقاويل :
أحدها الباطل ، قاله ابن عباس .
الثاني : الحلف عند شربها ، قاله السدي .
الثالث : الشتم ، قاله مجاهد .
الرابع : المعصية ، قاله الحسن .
وفي « كِذّاباً » ثلاثة أقاويل :
أحدهاك لا يكذب بعضهم بعضاً ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنه الخصومة ، قاله الحسن .
الثالث : أنه المأثم ، قاله قتادة .
وفي قوله { لا يَسْمَعونَ فيها } وجهان :
أحدهما : في الجنة ، قاله مجاهد .
الثاني : في شرب الخمر ، قاله يحيى بن سلام .
{ جزاءً من ربكَ عَطاءً حِساباً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كافياً ، قاله الكلبي .
الثاني : كثيراً ، قاله قتادة .
الثالث : حساباً لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد .
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ يومَ يقومُ والرُّوحُ الملائكةُ صَفّاً } في الروح ها هنا ثمانية أقاويل :
أحدها : الروح خلق من خلق الله كهيئة الناس وليسوا أناساً ، وهم جند للَّه سبحانه ، قاله أبو صالح .
الثاني : أنهم أشرف الملائكة ، قاله مقاتل بن حيان .
الثالث : أنهم حفظة على الملائكة ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : أنهم حفظة على الملائكة خلقاً ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه ملك من أعظم الملائكة خلقاً ، قاله ابن عباس .
الخامس : هو جبريل عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير .
السادس : أنهم بنو آدم ، قاله قتادة .
السابع : أنهم بنو آدم ، قاله قتادة .
الثامن : أنه القرآن ، قاله زيد بن أسلم .
{ لا يتكلمونَ إلا مَنْ أَذِنَ له الرحمنُ } فيه قولان :
أحدهما : لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة ، قاله الحسن .
الثاني : لا يتكلمون في شيء إلا من أذن له الرحمن شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
{ وقالَ صَواباً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني حقاً ، قاله الضحاك .
الثاني : قول لا إله إلا الله ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن الروح يقول يوم القيامة : لا تُدخل الجنة إلا بالرحمة ، ولا النار إلا بالعمل ، فهو معنى قوله « وقال صواباًَ » قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أنه سؤال الطالب وجواب المطلوب ، لأن كلام الخلق في القيامة مقصور على السؤال والجواب .
{ ذلك اليومُ الحقُّ } يعني يوم القيامة ، وفي تسميته الحق وجهان :
أحدهما : لأن مجئيه حق وقد كانوا على شك .
الثاني : أنّ الله تعالى يحكم فيه بالحق بالثواب والعقاب .
{ فمن شاءَ اتّخَذ إلى ربِّه مآباً } فيه وجهان :
أحدهما : سبيلاً ، قاله قتادة .
الثاني : مرجعاً ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : اتخذ ثواباً لاستحقاقه بالعمل لأن المرجع يستحق على المؤمن والكافر .
{ إنّا أنذْرْناكم عَذاباَ قريباً } فيه وجهان :
أحدهما : عقوبة الدنيا ، لأنه أقرب العذابين ، قاله قتادة ، وقاله مقاتل : هو قتل قريش ببدر .
الثاني : عذاب يوم القيامة ، لأنه آت وكل آت قريب ، وهو معنى قول الكلبي .
{ يومَ ينظُرُ المْرءُ ما قدَّمَتْ يَداهُ } يعني يوم ينظر المرء ما قدّم من عمل خير ، قال الحسن : قدَّم فقَدِم على ما قَدَّم . ويحتمل أن يكون عامّاً في نظر المؤمن إلى ما قدّم من خير ، ونظر الكافر إلى ما قدّم من شر .
{ ويقولُ الكافرُ يا لَيْتني كنتُ تُراباً } قال مجاهد يبعث الحيوان فيقاد للمنقورة من الناقرة ، وللمركوضة من الراكضة ، وللمنطوحة من الناطحة ، ثم يقول الرب تعالى : كونوا تراباً بلا جنة ولا نار ، فيقول الكافر حينئذ : يا ليتني كنت تراباً وفي قوله ذلك وجهان :
أحدهما : يا ليتني صرت اليوم مثلها تراباً بلا جنة ولا نار ، قاله مجاهد . الثاني : يا ليتني كنت مثل هذا الحيوان في الدنيا وأكون اليوم تراباً ، قاله أبو هريرة : وهذه من الأماني الكاذبة كما قال الشاعر :
ألا يا ليتني والمْرءُ مَيْتُ ... وما يُغْني من الحدثانِ لَيْت .
قال مقاتل : نزل قوله تعالى : { يوم ينظر المرء ما قدّمت يداهُ } في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ونزل قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } في أخيه الأسود بن عبد الأسد .
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله تعالى { والنَّأزِعاتِ غَرْقاً } فيه ستة أقاويل :
أحدها : هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، قاله ابن مسعود ومسروق .
الثاني : هو الموت ينزع النفوس ، قاله مجاهد .
الثالث : هي النفوس حين تنزع ، قاله السدي .
الرابع : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، ومن المشرق إلى المغرب ، قاله الحسن وقتادة .
والخامس : هي القسيّ تنزع بالسهم ، قاله عطاء .
السادس : هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر ، حكاه يحيى بن سلام ، ومعنى « غرقاً » أي إبعاداً في النزع .
{ والناشِطات نَشْطاً } فيه ستة تأويلات :
أحدها : هي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين بسرعة كنشط العقال ، قاله ابن عباس .
الثاني : النجوم التي تنشط من مطالعها إلى مغاربها ، قاله قتادة .
الثالث : هو الموت ينشط نفس الإنسان ، قاله مجاهد .
الرابع : هي النفس حيث نشطت بالموت ، قاله السدي .
الخامس : هي الأوهاق ، قاله عطاء .
السادس : هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد ، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد ، قاله أبو عبيدة ، وانشد قول همام بن قحافة :
أمْسَتْ همومي تنشط المناشِطا ... الشامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسطاً .
{ والسّابحاتِ سَبْحاً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : هي الملائكة سبحوا إلى طاعة الله من بني آدم ، قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : هي النجوم تسبح في فلكها ، قاله قتادة .
الثالث : هو الموت يسبح في نفس ابن آدم ، قاله مجاهد .
الرابع : هي السفن تسبح في الماء ، قاله عطاء .
الخامس : هي الخيل ، حكاه ابن شجرة ، كما قال عنترة :
والخيلُ تعْلم حين تس ... بَحُ في حياضِ المْوتِ سَبْحاً
ويحتمل سادساً : أن تكون السابحات الخوض في أهوال القيامة .
{ فالسّابقاتِ سَبْقاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، قاله عليّ رضي الله عنه ومسروق .
وقال الحسن : سبقت إلى الايمان .
الثاني : هي النجوم يسبق بعضها بعضاً ، قاله قتادة .
الثالث : هوالموت يسبق إلى النفس ، قاله مجاهد .
الرابع : هي النفس تسبق بالخروج عند الموت ، قاله الربيع .
الخامس : هي الخيل ، قاله عطاء .
ويحتمل سادساً : أن تكون السابقات ما سبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار .
{ فالمُدَبِّرات أمْراً } فيهم قولان :
أحدهما : هي الملائكة ، قاله الجمهور ، فعلى هذا في تدبيرها بالأمر وجهان :
أحدهما : تدبير ما أمرت به وأرسلت فيه .
الثاني : تدبير ما وكلت فيه من الرياح والأمطار .
الثاني : هي الكواكب السبعة ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل؛ وعلى هذا في تدبيرها للأمر وجهان .
أحدهما : تدبير طلوعها وأفولها .
الثاني : تدبير ما قضاه الله فيها من تقلب الأحوال .
ومن أول السورة إلى هذا الموضع قسم أقسم الله به ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن ذكرها بخالقها .
الثاني : أنه أقسم بها وإن كانت مخلوقة لا يجوز لمخلوق أن يقسم بها ، لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه .
وجواب ما عقد له القسم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مضمر محذوف وتقديره لو أظْهر : لتُبْعَثُن ثم لُتحاسبُن ، فاستغنى بفحوى الكلام وفهم السامع عن إظهاره ، قاله الفراء .
الثاني : أنه مظهر ، وهو قوله تعالى : { إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى } قاله مقاتل .
الثالث : هو قوله تعالى :
{ يومَ ترْجفُ الراجفةُ * تَتْبعُها الرادِفةُ } وفيهما ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الراجفة القيامة ، والرادفة البعث ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الراجفة النفخة الأولى تميت الأحياء ، والرادفة : النفخة الثانية تحيي الموتى ، قاله الحسن وقتادة .
وقال قتادة : ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بينهما أربعون ، ما زادهم على ذلك ولا سألوه ، وكانوا يرون أنها أربعون سنة » .
وقال عكرمة : الأولى من الدنيا ، والثانية من الآخرة .
الثالث : أن الراجفة الزلزلة التي ترجف الأرض والجبال والرادفة إذا دكّتا دكة واحدة ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : أن الراجفة أشراط الساعة ، والرادفة : قيامها .
{ قلوبٌ يومئذٍ واجِفَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : خائفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : طائرة عن أماكنها ، قاله الضحاك .
{ أَبْصارُها خاشِعَة } فيه وجهان :
أحدهما : ذليلة ، قاله قتادة .
الثاني : خاضعة ، قاله الضحاك .
{ يقولون أئنا لَمْردودُونَ في الحافِرةِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الحافرة الحياة بعد الموت ، قاله ابن عباس والسدي وعطية .
الثاني : أنها الأرض المحفورة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنها النار ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنها الرجوع إلى الحالة الأولى تَكذيباً بالبعث ، من قولهم رجع فلان على قومه إذا رجع من حيث جاء ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
أحافرة على صَلَعٍ وشيْبٍ ... معاذَ اللَّه من جَهْلٍ وطَيْشِ
{ أَئِذا كْنَا عِظاماً نَخِرةً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بالية ، قاله السدي .
الثاني : عفنة ، قاله ابن شجرة .
الثالث : خالية مجوفة تدخلها الرياح فتنخر ، أي تصوّت ، قاله عطاء والكلبي .
ومن قرأ « ناخرة » فإن الناخرة البالية ، والنخرة التي تنخر الريح فيها .
{ تلك إذاً كَرّةٌ خاسِرةٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : باطلة لا يجيء منها شيء ، كالخسران ، وليست كاسبة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : معناه لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنخسرنّ بالنار ، قاله قتادة ومحمد بن كعب .
ويحتمل ثالثاً : إذا كنا ننتقل من نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة فهي كرة خاسرة .
{ فإنّما هي زجْرةٌ واحدةٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : نفخة واحدة يحيا بها الجميع فإذا هم قيام ينظرون ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : الزجرة الغضب ، وهو غضب واحد ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : أنه لأمر حتم لا رجعة فيه ولا مثنوية .
{ فَإذَا هم بالسّاهرةِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : وجه الأرض ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد ، والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره ، قال أمية بن أبي الصلت :
وفيها لحْمُ ساهرةٍ وبَحرٌ ... وما فاهوا به لهمُ مُقيم
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه :
أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره ... ولا يهولنّك رِجْلٌ بادِرهْ
فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ ... ثم تعودُ ، بَعْدها في الحافرهْ
من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ ... الثاني : أنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام ، وهو الصقع الذي بين جبل أريحا وجبل حسّان ، يمده الله تعالى كيف يشاء ، قاله عثمان بن أبي العاتكة .
الثالث : أنها جبل بيت المقدس ، قاله وهب بن منبه .
الرابع : أنه جهنم ، قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أنها عرضة القيام لأنها أول مواقف الجزاء ، وهم في سهر لا نوم فيه .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{ هلْ أتاكَ حديثُ موسى * إذ ناداه ربه بالوادِ المقدَّسِ طُوَىً } فيه قولان :
أحدهما : وهو قول مبشر بن عبيد هو واد بأيلة .
الثاني : وهو قول الحسن ، هو واد بفلسطين .
وفي « المقدَّس » تأويلان :
أحدهما : المبارك ، قاله ابن عباس .
الثاني : المطهر ، قاله الحسن : قدّس مرتين .
وفي « طُوَىً » أربعة أقاويل :
أحدها : أنه أسم الوادي المقدس ، قاله مجاهد وقتادة وعكرمة .
الثاني : لأنه مر بالوادي فطواه ، قاله ابن عباس .
الثالث : لأنه طوي بالبركة ، قاله الحسن .
الرابع : يعني طأ الوادي بقدمك ، قاله عكرمة ومجاهد .
ويحتمل خامساً؛ أنه ما تضاعف تقديسه حتى تطهّر من دنس المعاصي ، مأخوذ من طيّ الكتاب إذا ضوعف .
{ فَقُلْ هل لك إلى أن تَزَكّى } فيه قولان :
أحدهما : إلى أن تُسْلِم ، قال قتادة .
الثاني : إلى أن تعمل خيراً ، قاله الكلبي .
{ فأَراهُ الآيةَ الكُبْرَى } فيها قولان :
أحدهما : أنها عصاه ويده ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنها الجنة والنار ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : أنه كلامه من الشجرة .
قوله { فَحَشَرَ فنادَى } فيه وجهان :
أحدهما : حشر السحرة للمعارضة ، ونادى جنده للمحاربة .
الثاني : حشر الناس للحضور ونادى أي خطب فيهم .
{ فأخَذَهُ الله نَكالََ الآخرة والأُولى } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : عقوبة الدنيا والآخرة ، قال قتادة : عذبه الله في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار .
الثاني : عذاب أول عُمرِه وآخره ، قاله مجاهد .
الثالث : الأولى قوله : « ما علمت لكم مِن إلهٍ غيري » والآخرة قوله « أنا ربكم الأعلى » ، قاله عكرمة ، قال ابن عباس : وكان بينهما أربعون سنة ، وقال مجاهد : ثلاثون سنة ، قال السدي : وهي الآخرة ثلاثون سنة .
الرابع : عذاب الأولى الإمهال ، والآخرة في النار ، من قوله تعالى : { النار يعرضون عليها } الآية ، قاله الربيع .
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{ وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها } معناه أظلم ليلها ، وشاهد الغطش أنه الظلمة قول الأعشى :
عَقَرْتُ لهم مَوْهِنا ناقتي ... وغامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ
يعني يغمرهم ليلهم لأنه غمرهم بسواده .
وفي قوله : « وأخرج ضُحاها » وجهان :
أحدهما : أضاء نهارها وأضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منهما الظلمة والضياء .
الثاني : قال ابن عباس أن أخرج ضحاها : الشمس .
{ والأرضَ بَعْد ذلك دَحاها } في قوله « بَعْد » وجهان :
أحدهما : مع وتقدير الكلام : والأرض مع ذلك دحاها ، لأنها مخلوقة قبل السماء ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أن « بعد » مستعملة على حقيقتها لأنه خلق الأرض قبل السماء ثم دحاها بعد السماء ، قاله ابن عمر وعكرمة . وفي « دحاها » ثلاثة أوجه :
أحدها : بسطها ، قاله ابن عباس ، قال أمية بن أبي الصلت :
وَبَثَّ الخلْق فيها إذْ دَحاها ... فَهُمْ قُطّانُها حتى التنادي
قال عطاء : من مكة دحيت الأرض ، وقال عبد الله بن عمر : من موضع الكعبة دحيت .
الثاني : حرثها وشقها ، قاله ابن زيد .
الثالث : سوّاها ، ومنه قول زيد بن عمرو :
وأسْلَمْتُ وجهي لمن أسْلَمتْ ... له الأرضُ تحمل صَخْراً ثِقالا
دحاها فلما اسْتَوتْ شدّها ... بأيْدٍ وأرْسَى عليها الجبالا
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ فإذا جاءت الطامّةُ الكُُبْرى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها النفخة الآخرة ، قاله الحسن .
الثاني : أنها الساعة طمت كل داهية ، والساعة أدهى وأمّر ، قاله الربيع .
الثالث : أنه اسم من أسماء القيامة يسمى الطامة ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها الطامة الكبرى إذا سيق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، قاله القاسم بن الوليد ، وهو معنى قول مجاهد .
وفي معنى « الطامّة » في اللغة ثلاثة وجوه :
أحدها : الغاشية .
الثاني : الغامرة .
الثالث : الهائلة ، ذكره ابن عيسى ، لأنها تطم على كل شيء أي تغطيه .
{ وأمّا مَنْ خاف مَقام رَبِّهِ ونَهَى النفْسَ عن الهَوى } فيه وجهان :
أحدهما : هو خوفه في الدنيا من الله عند مواقعة الذنب فيقلع ، قاله مجاهد .
الثاني : هو خوفه في الآخرة من وقوفة بين يدي الله للحساب ، قاله الربيع بن أنس ، ويكون معنى : خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، قال الكلبي : وزجر النفس عن المعاصي والمحارم .
{ فإنّ الجنّةَ هي المأوَى } أي المنزل ، وذكر أنها نزلت في مصعب بن عمير .
{ يسألونَكَ عن الساعةِ أيّانَ مُرْساها } قال ابن عباس : متى زمانها ، قاله الربيع { فيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها } فيه وجهان :
أحدهما : فيم يسألك المشركون يا محمد عنها ولست ممن يعلمها ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : فيم تسأل يا محمد عنها وليس لك السؤال ، وهذا معنى قول عروة بن الزبير .
{ إلى ربِّك مُنْتَهاها } يعني منتهى علم الساعة : فكف النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال وقال : يا أهل مكة إن الله احتجب بخمس لم يُطْلع عيهن مَلَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فمن ادعى علمهن فقد كفر : { إن اللَّه عنده علم الساعة . . . } إلى آخر السورة .
{ إنّما أنْتَ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ مَنْذِرُ مَنْ يَخْشَاها } يعني القيامة .
{ كأنّهم يومَ يَرَوْنَها } يعني الكفار يوم يرون الآخرة .
{ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا .
{ إلاَّ عَشيّةً } وهي ما بعد الزوال .
{ أو ضُحاها } وهو ما قبل الزوال ، لأن الدنيا تصاغرت عندهم وقلّت في أعينهم ، كما قال تعالى : { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعةً من نهارٍ } .
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
قوله تعالى { عَبَسَ وتَوَلّى أنْ جاءَه الأَعْمَى } روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم ، وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر ، وكان ضريراً ، أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش - وقد طمع في إسلامهم - قال قتادة : هو أمية بن خلف ، وقال مجاهد : هما عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمى وعبس في وجهه ، فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال « عبس وتولّى » أي قطّب واعرض « أن جاءه الأعمى » يعني ابن ام مكتوم .
{ وما يُدريك لعلّه يَزَّكى } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يؤمن ، قاله عطاء .
الثاني : يتعبد بالأعمال الصالحة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن ، قاله الضحاك .
الرابع : يتفقه في الدين ، قاله ابن شجرة .
{ أوْ يَذَّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى } قال السدّي : لعله يزّكّى ويّذكرُ ، والألف صلة ، وفي الذكرى وجهان :
أحدها : الفقه .
الثاني : العظة .
قال ابن عباس : فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً له .
قال قتادة : واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من غزواته ، كل ذلك لما نزل فيه .
{ كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن هذه السورة تذكرة ، قاله الفراء والكلبي .
الثاني : أن القرآن تذكرة ، قاله مقاتل .
{ فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فمن شاء الله ألهمه الذكر ، قاله مقاتل .
الثاني : فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله ، وهو معنى قول الكلبي .
{ في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مكرمة عند الله ، قاله السدي .
الثاني : مكرمة في الدين لما فيها من الحكم والعلم ، قاله الطبري .
الثالث : لأنه نزل بها كرام الحفظة .
ويحتمل قولاً رابعاً : أنها نزلت من كريم ، لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه .
{ مرفوعةٍ } فيه قولان :
أحدهما : مرفوعة في السماء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : مرفوعة القدروالذكر ، قاله الطبري .
ويحتمل قولاً ثالثاً : مرفوعة عن الشُبه والتناقض .
{ مُطَهّرةٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدهأ : من الدنس ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : من الشرك ، قاله السدي .
الثالث : أنه لا يمسها إلا المطهرون ، قاله ابن زيد .
الرابع : مطهرة من أن تنزل على المشركين ، قاله الحسن .
ويحتمل خامساً : لأنها نزلت من طاهر مع طاهر على طاهر .
{ بأيْدِى سَفَرَةٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن السفرة الكتبة ، قاله ابن عباس ، قال المفضل : هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً ، إذا كتب ، قال الزجاج : إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه ، كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر ، وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها .
الثاني : أنهم القّراء ، قال قتادة لأنهم يقرؤون الأسفار .
الثالث : هم الملائكة ، لأنهم السفرة بين يدي الله ورسله بالرحمة ، قال زيد ، كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ صلاحاً ، وأنشد الفراء :
وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي ... وما أَمْشي بغِشٍ إنْ مَشَيْتُ
{ كِرام بَرَرةٍ } في الكرام ثلاثة أقاويل :
أحدها : كرام على ربهم ، قاله الكلبي .
الثاني : كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها ، قاله الحسن .
الثالث : يتكرمون على من باشر زوجته بالستر عليه دفاعاً عنه وصيانة له ، وهو معنى قول الضحاك .
ويحتمل رابعاً : أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم .
وفي « بررة » ثلاثة أوجه :
أحدها : مطيعين ، قاله السدي .
الثاني : صادقين واصلين ، قاله الطبري .
الثالث : متقين مطهرين ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل قولاً رابعاً : أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم ، والخيرة من كان خيرهم مقصوراً عليهم .
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
{ قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه } في « قتل » وجهان :
أحدهما : عُذِّب .
الثاني : لعن .
وفي « الإنسان » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه إشارة إلى كل كافر ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه أمية بن خلف ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه عتبة بن أبي لهب حين قال : إني كفرت برب النجم إذا هوى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهم سلّطْ عليه كلبك » فأخذه الأسد في طريق الشام ، قاله ابن جريج والكلبي .
وفي « ما أكْفَرَه » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « ما » تعجب ، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا .
الثاني : أي شيء أكفره ، على وجه الاستفهام ، قاله السدي ويحيى بن سلام .
الثالث : ما ألعنه ، قاله قتادة .
{ ثم السبيلَ يَسّرَهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : خروجه من بطن أمه ، قاله عكرمة والضحاك .
الثاني : سبيل السعادة والشقاوة ، قاله مجاهد .
الثالث : سبيل الهدى والضلالة ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : سبيل منافعه ومضاره .
{ ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : جعله ذا قبر يدفن فيه ، قاله الطبري ، قال الأعشى :
لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقلْ إلى قابر
الثاني : جعل من يقبره ويواريه ، قاله يحيى بن سلام .
{ ثُمَّ إذا شاءَ أَنشَرَهُ } يعني أحياه ، قال الأعشى :
حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا ... يا عجباً للميّت الناشِرِ
{ كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه الكافر لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه على العموم في المسلم والكافر ، قال مجاهد : لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه ، وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي موضوعة للرد .
ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه عمراً ، والمؤمن لا يقضيه شهراً .
{ فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه } فيه وجهان :
أحدهما : إلى طعامه الذي يأكله وتحيا نفسه به ، من أي شيء كان ، قاله يحيى .
الثاني : ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد .
قال الحسن : إن ملكاً يثني رقبة ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه .
ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين :
أحدهما : ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى .
الثاني : ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى .
{ أنّا صَبَبْنا الماءَ صبّاً } يعني المطر .
{ ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً } يعني بالنبات .
{ فَأَنْبَتْنَا فيها حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } والقضب : القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره .
{ وزَيْتوناً ونخْلاً * وحدائقَ غُلْباً } فيه قولان :
أحدهما : نخلاً كراماً ، قاله الحسن .
الثاني : الشجر الطوال الغلاظ ، قال الكلبي : الْغلب الغِلاط ، قال الفرزدق :
عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً ... فَوَيْلَ ابنِ المراغةِ ما استثار
وفي « الحدائق » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ما التف واجتمع ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه نبت الشجر كله .
الثالث : أنه ما أحيط عليه من النخل والشجر ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه أبو صالح .
ويحتمل قولاً رابعاً : أن الحدائق ما تكامل شجرها واختلف ثمرها حتى عم خيرها .
ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم تغلب فكان هيناً .
{ وفاكهةً وأبّاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأبّ ما ترعاه البهائم ، قاله ابن عباس : وما يأكله الآدميون الحصيدة ، قال الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها يُنْبِتُ الله الحصيدة والأَبّا
الثاني : أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه كل نبات سوى الفاكهة ، وهذا ظاهر قول الكلبي .
الرابع : أنه الثمار الرطبة ، قاله ابن أبي طلحة .
الخامس : أنه التبن خاصة ، وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً ، قال الشاعر :
فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا ... م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ
ووجدت لبعض المتأخرين سادساً : أن رطب الثمار هو الفاكهة ، ويابسها الأبّ .
ويحتمل سابعاً : أن الأبّ ما أخلف مثل أصله كالحبوب ، والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر .
روي أن عمر بن الخطاب قرأ { عبس وتولّى } فلما بلغ إلى قوله تعالى : { وفاكهة وأبّا } قال : قد عرفنا الفاكهة ، فما الأبّ؟ ثم قال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده .
وهذا مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد دثوره ، وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم .
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{ فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ } فيها قولان :
أحدهما : أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها ، قاله الحسن ، ومنه قول الشاعر :
يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه ... إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد
الثاني : أنه اسم من أسماء القيامة ، لإصاخة الخلق إليها من الفزع ، قاله ابن عباس .
{ يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه وابيه وصاحِبتِه وبنيه } وفي فراره منهم ثلاثة أوجه :
أحدها : حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم .
الثاني : حتى لا يروا عذابه .
الثالث : لاشتغاله بنفسه ، كما قال تعالى بعده :
{ لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيهِ } أي يشغله عن غيره .
{ وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : مشرقة .
الثاني : فرحة ، حكاه السدي .
{ ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ضاحكة من مسرة القلب .
الثاني : ضاحكة من الكفار شماتة وغيظاً ، مستبشرة بأنفسها مسرة وفرحاً .
{ ووجوهٌ يومَئذٍ عليها غبرَةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا به فيعرفوا .
الثاني : أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة .
{ ترْهقُها قَتَرةٌ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : تغشاها ذلة وشدة ، قاله ابن عباس .
الثاني : خزي ، قال مجاهد .
الثالث : سواد ، قاله عطاء .
الرابع : غبار ، قاله السدي ، وقال ابن زيد : القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة : ما انحطت إلى الأرض .
الخامس : كسوف الوجه ، قاله الكلبي ومقاتل .
{ أولئك هم الكَفَرَةُ الفَجرَةُ } يحتمل جمعه بينهما وجهين :
أحدهما : أنهم الكفرة في حقوق الله ، الفجرة في حقوق العباد .
الثاني : لأنهم الكفرة في أديانهم ، الفجرة في أفعالهم .
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
قوله تعالى : { إذا الشمسُ كُوِّرَتْ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني ذهب نورها وأظلمت ، قاله ابن عباس .
الثاني : غُوِّرَت ، وهو بالفارسية كوبكرد ، قاله ابن جبير .
الثالث : اضمحلت ، قاله مجاهد .
الرابع : نكست ، قاله أبو صالح .
الخامس : جمعت فألقيت ، ومنه كارة الثياب لجمعها ، وهو قول الربيع بن خيثم .
{ وإذا النجوم انْكَدَرَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : تناثرت ، قاله الربيع بن خيثم .
الثاني : تغيرت فلم يبق لها ضوء ، قاله ابن عباس .
الثالث : تساقطت ، قاله قتادة ، ومنه قول العجاج :
أبصَرَ خرْبان فضاء فانكَدَرْ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كَسَر
ويحتمل رابعاً : أن يكون انكدارها طمس آثارها ، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها .
{ وإذا الجبالُ سُيِّرتْ } يعني ذهبت عن أماكنها ، قال مقاتل : فسويت بالأرض كما خلقت أول مرة وليس عليها جبل ولا فيها واد .
{ وإذا العِشارُ عُطِّلتْ } والعشار : جمع عشراء وهي الناقة إذا صار لحملها عشرة أشهر ، وهي أنفس أموالهم عندهم ، قال الأعشى :
هو الواهبُ المائةَ المصْطفا ... ةَ إمّا مخاضاً وإمّا عِشاراً
فتعطل العشار لاشتغالهم بأنفسهم من شدة خوفهم .
وفي « عطلت » تأويلان :
أحدهما : أُهملت ، قاله الربيع .
الثاني : لم تحلب ولم تدر ، قاله يحيى بن سلام .
وقال بعضهم : العشار : السحاب تعطل فلا تمطر .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنها الأرض التي يعشر زرعها فتصير للواحد عُشراً ، تعطل فلا تزرع .
{ وإذا الوُحوشُ حُشِرتْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : جمعت ، قاله الربيع .
الثاني : اختلطت ، قاله أبي بن كعب فصارت بين الناس .
الثالث : حشرت إلى القيامة للقضاء فيقتص للجمّاء من القرناء ، قاله السدي .
الرابع : أن حشرها بموتها ، قاله ابن عباس .
{ وإذا البحارُ سُجِّرتْ } فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : فاضت ، قاله الربيع .
الثاني : يبست ، قاله الحسن .
الثالث : ملئت ، أرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها حتى امتلأت ، قاله أبو الحجاج .
الرابع : فجرت فصارت بحراً واحداً ، قاله الضحاك .
الخامس : سيرت كما سيرت الجبال ، قاله السدي .
السادس : هو حمرة مائها حتى تصير كالدم ، مأخوذ من قولهم عين سجراء أي حمراء .
السابع : يعني أوقدت فانقلبت ناراً ، قاله عليّ رضي الله عنه وابن عباس وأُبي بن كعب .
الثامن : معناه أنه جعل ماؤها شراباً يعذب به أهل النار ، حكاه ابن عيسى .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف « سجرت » إخباراً عن حالها مرة واحدة ، وقرأ الباقون بالتشديد إخباراً عن حالها في تكرار ذلك منها مرة بعد أخرى .
{ وإذا النفوسُ زُوِّجَتْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني عُمل بهن عملٌ مثل عملها ، فيحشر العامل بالخير مع العامل بالخير إلى الجنة ، ويحشر العامل بالشر مع العامل بالشر إلى النار ، قاله عطية العوفي : حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة .
الثاني : يزوج كل رجل نظيره من النساء فإن من أهل الجنة زوّج بامرأة من اهل الجنة ، وإن كان من أهل النار زوّج بامرأة من أهل النار ، قاله عمر بن الخطاب ، ثم قرأ :
{ احْشُروا الذين ظلموا وأزواجهم } الثالث : معناه ردّت الأرواح إلى الأجساد ، فزوجت بها أي صارت لها زوجاً ، قاله عكرمة والشعبي .
الرابع : أنه قرن كل غاو بمن أغواه من شيطان أو إنسان ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل خامساً : زوجت بأن أضيف إلى كل نفس جزاء عملها ، فصار لاختصاصها به كالتزويج .
{ وإذا الموءوجة سُئِلَتْ } والموءودة المقتولة ، كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت امرأته بنتاً دفنها حية ، إما خوفاً من السبي والاسترقاق ، وإما خشية الفقر والإملاق ، وكان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه حتى افتخر الفرزدق فقال :
ومِنّا الذي مَنَعَ الوائداتِ ... فأحْيا والوئيدَ فلم تُوأَدِ
وسميت موءودة للثقل الذي عليها من التراب ، ومنه قوله تعالى : { ولا يئوده حفظهما } أي لا يثقله ، وقال متمم بن نويرة :
وموءودةٍ مقبورة في مفازةٍ ... بآمتها موسودة لم تُمهّدِ
فقال توبيخاً لقاتلها وزجراً لمن قتل مثلها { وإذا الموءودة سئلت } واختلف هل هي السائلة أو المسئولة ، على قولين :
أحدهما : وهو قول الأكثرين أنها هي المسئولة : { بأيِّ ذَنْبِ قُتِلَتْ } فتقول : لا ذنب لي ، فيكون ذلك أبلغ في توبيخ قاتلها وزجره .
الثاني : أنها هي السائلة لقاتلها لم قتلت ، فلا يكون له عذر ، قاله ابن عباس وكان يقرأ : وإذا الموءودة سألت .
قال قتادة : يقتل أحدهما بنته ويغذو كلبه ، فأبى الله سبحانه ذلك عليهم .
{ وإذا الصُّحُف نُشِرَتْ } يعني صحف الأعمال إذا كتب الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر ، تطوى بالموت وتنشر في القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها قيقول : « { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحْصاها } .
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد نشّرت على تكرار النشر ، وقرأ الباقون بالتخفيف على نشرها مرة واحدة ، فإن حمل على المرة الواحدة فلقيام الحجة بها ، وإن حمل على التكرار ففيه وجهان :
أحدهما : للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع .
الثاني : لتكرير ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه .
{ وإذا السماءُ كُشِطَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها يعني ذهبت ، قاله الضحاك .
الثاني : كسفت ، قاله السدي .
الثالث : طويت ، قاله يحيى بن سلام ، كما قال تعالى : { يوم نطوي السماء } الآية .
{ وإذا الجحيمُ سُعِّرَتْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أحميت ، قاله السدي .
الثاني : أُوقدت ، قاله معمر عن قتادة .
الثالث : سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم ، قاله سعيد عن قتادة .
{ وإذا الجنّةُ أُزْلِفَتْ } أي قرّبت ، قال الربيع : إلى هاتين الآيتين ما جرى الحديث فريق في الجنة وفريق في السعير .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرتْ } يعني ما عملت من خير وشر . وهذا جواب { إذا الشمس كورت } وما بعدها ، قال عمر بن الخطاب : لهذا جرى الحديث ، وقال الحسن : { إذا الشمس كورت } قسم وقع على قوله { علمت نفسٌ ما أَحضَرَتْ } .
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ فلا أُقسِمُ بالخُنّسِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : خمسة الأنجم وهي : زحل وعطارد والمشتري والمريخ والزهرة ، قاله عليّ .
وفي تخصيصها بالذكر وجهان :
أحدهما : لأنها لا تستقبل الشمس ، قاله بكر بن عبد الله المزني .
الثاني : لأنها تقطع المجرة ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الخنس بقر الوحش ، قاله ابن مسعود .
الرابع : أنها الظباء ، قاله ابن جبير .
ويحتمل تأويلاً خامساً : أنها الملائكة لأنها تخنس فلا تُرى ، وهذا قَسَمٌ مبتدأ ، و « لا » التي في قوله { فلا أقسم بالخنس } فيها الأوجه الثلاثة التي في { لا أقسم بيوم القيامة } .
{ الجوار الكُنّسِ } فيها التأويلات الخمسة :
أحدها : النجوم ، قاله الحسن ، سميت بالجواري الكنس لأنها تجري في مسيرها .
الثاني : أنها النجوم الخمسة ، وهو قول عليّ .
والكنّس ، الغيّب ، مأخوذ من الكناس وهو كناس الوحش التي تختفي فيه ، قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مُزْنَهُ ... وعُفْرُ الظباءِ في الكِناس تَقَمّعُ
الثالث : أنها بقر الوحش لاختفائها في كناسها ، قاله ابن مسعود .
الرابع : الظباء ، قاله ابن جبير .
الخامس : هي الملائكة .
{ والليلِ إذا عَسْعَسَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أظلم ، قاله ابن مسعود ومجاهد ، قال الشاعر :
حتى إذ ما لَيْلُهُنَّ عَسْعَسا ... رَكِبْنَ مِن حَدِّ الظّلامِ حِنْدساً
الثاني : إذا ولى ، قاله ابن عباس وابن زيد ، قال الشاعر :
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
الثالث : إذا أقبل ، قاله ابن جبير وقتادة ، وأصله العس وهو الامتلاء ، ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه ، فانطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه ، وانطلق على ظلامه لاستكمال امتلائه ،
{ والصبحِ إذا تَنَفّسَ } فيه تأويلان :
أحدهما : طلوع الفجر ، قاله عليّ وقتادة .
الثاني : طلوع الشمس ، قاله الضحاك .
وفي « تنفّسَ » وجهان :
أحدهما : بان إقباله .
الثاني : زاد ضوؤه .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون تنفس بمعنى طال ، مأخوذ من قولهم قد تنفس النهار إذا طال .
{ إنه لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ } وهو جواب القسم ، يعني القرآن .
وفي الرسول الكريم قولان :
أحدهما : جبريل ، قاله الحسن وقتادة والضحاك .
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عيسى ، فإن كان المراد به جبريل فمعناه قول رسول للَّه كريم عن رب العاليمن لأن أصل القول الذي هو القرآن ليس من الرسول ، إنما الرسول فيه مبلغ على الوجه الأول ، ومبلغ إليه على الوجه الثاني .
{ مُطاعٍ ثَمَّ أمينٍ } هو جبريل في أصح القولين ، يعني مطاعاً فيمن نزل عليه من الأنبياء ، أميناً فيما نزل به من الكتب .
{ وما صاحبكم بمجنونٍ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم .
{ ولقد رآه بالأفق المبين } وفي الذي رآه قولان :
أحدهما : أنه رأى ربه بالأفق المبين ، وهو معنى قول ابن مسعود .
الثاني : رأى جبريل بالأفق المبين على صورته التي هو عليها ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه رآه ببصره ، قاله ابن عباس وعائشة .
الثاني : بقلبه ، ولم يره ببصره ، قاله أبو ذر .
وفي « الأفق » قولان :
أحدهما : أنه مطلع الشمس .
الثاني : أقطار السماء ونواحيها ، قال الشاعر :
أخَذْنا بآفاقِ السماءِ عليكمُ ... لنا قَمَراها والنُّجومُ الطّوالعُ
فعلى هذا فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه رآه في أفق السماء الشرقي ، قاله سفيان .
والثاني : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه رآه نحو أجياد ، وهو مشرق مكة ، قاله مجاهد ، { وما هو على الغَيْبِ بضنين } قرأ بالظاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفيه وجهان :
أحدهما : وما محمد على القرآن بمتهم أن يأتي بما لم ينزل عليه ، قاله ابن عباس .
الثاني : بضعيف عن تأديته ، قاله الفراء .
وقرأ الباقون بالضاد ، وفيه وجهان :
أحدهما : وما هو ببخيل أن يعلِّم كما تعلّم .
الثاني : وما هو بمتهم أن يؤدي ما لم يؤمر به .
{ فأيْنَ تَذْهَبون } فيه وجهان :
أحدهما : فإلى أين تعدلون عن كتاب الله تعالى وطاعته ، قاله قتادة .
الثاني : فأي طريق أهدى لكم وأرشد من كتاب الله ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : فأين تذهبون عن عذابه وعقابه .
{ وما تشاؤون إلا أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالَمين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما تشاؤون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله لكم .
الثاني : وما تشاؤون الهداية إلا أن يشاء الله بتوفيقه : وقيل إن سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى :
{ لمن شاء منكم أن يستقيم } قال أبو جهل : ذلك إلينا إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله ربّ العالمين } .
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
قوله تعالى : { إذا السماءُ انْفَطَرتْ } فيه وجهان :
أحدهما : انشقت .
الثاني : سقطت ، قال الشاعر :
كانوا سعوداً سماءَ الناس فانفطرت ... فأصبح الشمل لم ترفع له عُمُد
{ وإذا الكواكب انتَثَرتْ } يعني تساقطت ، قال ابن عباس ، تسقط سوداء لا ضوء لها .
{ وإذا البحار فُجِّرَتْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يبست ، قاله الحسن .
الثاني : خلطت فصارت بحراً واحداً ، وهذا معنى قول ابن عباس ، قال : وهو سبعة أبحر فتصير بحراً واحداً .
الثالث : فجر عذبها في مالحها : ومالحها في عذبها ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : أي فاضت .
{ وإذا القبور بُعْثِرتْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بحثت وثوّرت ، قاله ابن عباس وعكرمة ، وقال الفراء : فيخرج ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها ثم تخرج الموتى .
الثاني : حركت للبعث ، قاله السدي .
الثالث : بعث من فيها من الأموات ، قاله قتادة .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمَتْ وأَخرَتْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما عملت وما تركت ، قاله ابو رزين .
الثاني : ما قدمت من طاعة ، وأخرت من حق الله ، قاله ابن عباس .
الثالث : ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث .
ويحتمل ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة ، لأنه خارج مخرج الوعيد ، وهذا جواب { إذا السماء انفطرت } لأنه خبر ، وجعلها الحسن قَسَماً وقعت على قوله { علمت نفس } الآية .
والأظهر ما عليه الجماعة من أنه خبر وليس بقسم .
{ يا أيها الإنسان ما غّرَّك بربِّكَ الكريم } في الإنسان ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه إشارة إلى كل كافر .
الثاني : أنه أبي بن خلف ، قاله عكرمة .
الثاث : أنه أبو الأشد بن كلدة بن أسد الجمحي ، قاله ابن عباس .
وفي الذي غرَّه قولان :
أحدهما : عدوه الشيطان ، قاله قتادة .
الثاني : جهله ، وهو قول عمر بن الخطاب .
ويحتمل قولاً ثالثاً : إنه إمهاله .
« الكريم » الذي يتجاوز ويصفح ، وروى الحسن أن عمر بن الخطاب لما قرأ { يا أيها الإنسان } . . . . . الآية ، قال : حمقه وجهله .
{ الذي خَلَقَك فسَوَّاك فَعدَلك } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : فسوى خلقك وعدل خلقتك .
الثاني : فسوَّى أعضاءك بحسب الحاجة وعدلها في المماثلة لا تفضل يد على يد ، ولا رجل على رجل .
الثالث : فسواك إنساناً كريماً وعدل بك عن أن يجعلك حيواناً بهيماً .
قال أصحاب الخواطر : سوّاك بالعقل وعدلك بالإيمان .
{ في أَيِّ صورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما شاء ركبك من شبه أم أو أب أو خال أو عم ، قاله مجاهد .
الثاني : من حسن أو قبح أو طول أو قصر أو ذكر أو أنثى ، قاله ابن عيسى .
الثالث : في أي صورة من صور الخلق ركبك حتى صرت على صورتك التي أنت عليها أيها الإنسان لا يشبهك شيء من الحيوان .
وروى موسى بن علي بن رباح اللخمي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجده : « ما ولِدَ لك؟ » قال : يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية ، قال رسول الله : « ومن عسى أن يشبه؟ » قال : إما أباه وإما أمه ، فقال عليه السلام عندها : « مه لا تقولن هكذا ، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت في كتاب الله : في أي صورة ما شاء ركبك . »
{ كلاّ بَلْ تُكّذِّبونَ بالدِّين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بالحساب والجزاء ، قاله ابن عباس .
الثاني : بالعدل و القضاء ، قاله عكرمة .
الثالث : بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيسى .
{ وإنَّ عليكم لحافِظِينَ } يعني الملائكة ، يحفظ كلَّ إنسان ملكان ، أحدهما عن يمينه يكتب الخير ، والآخر عن شماله يكتب الشر .
{ كِراماً كاتِبينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كراماً على الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : كراماً بالإيمان ، قاله السدي .
الثالث : لأنهم لا يفارقون ابن آدم إلا في موطنين عند الغائط وعند الجماع يعرضان عنه ويكتبان ما تكلم به ، فلذلك كره الكلام عند الغائط والجماع .
ويحتمل رابعاً : كراماً لأداء الأمانة فيما يكتبونه من عمله فلا يزيدون فيه ولا ينقصون منه .
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وفي قوله تعالى : { إنّ الأبرارَ لفي نَعيم * وإن الفُجّارَ لقي جَحيمٍ } قولان :
أحدهما : في الآخرة فيكون نعيم الأبرار في الجنة بالثواب ، وجحيم الفجار في النار بالعقاب .
والقول الثاني : أنه في الدنيا ، فعلى هذا فيه أربعة أوجه ذكرها أصحاب الخواطر .
أحدها : النعيم القناعة ، والجحيم الطمع .
الثاني : النعيم التوكل ، والجحيم الحرص .
الثالث : النعيم الرضا بالقضاء ، والجحيم السخط فيما قدر وقضى .
الرابع : النعيم بالطاعة ، والجحيم بالمعيصية .
{ وما هُمْ عنها بغائبين } فيه وجهان :
أحدهما : عن القيامة تحقيق للبعث فعلى هذا يجوز أن يكون هذا الخطاب متوجهاً إلى الأبرار والفجار جميعاً .
الثاني : عن النار ، ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفجار دون الأبرار ، والمراد بأنهم لا يغيبون عنها أمران :
أحدهما : تحقيق الوعيد .
الثاني : تخليد الفجار .
{ وما أدْراك ما يومُ الدِّين * ثُمَّ ما أدْراكَ ما يومُ الدِّين } يعني يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، وفي تكراره وجهان :
أحدهما : تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره .
الوجه الثاني : أن الأول خطاب للفجار والثاني خطاب للأبرار ترغيباً .
{ يومَ لا تَمْلِك نفسٌ لنَفْسٍ شيئاً } يعني لا يملك مخلوق لمخلوق نفعاً ولا ضراً .
{ والأمر يومئذٍ للَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : في الجزاء بالثواب والعقاب .
الثاني : في العقوبة والانتقام .
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
قوله تعالى : { ويْلٌ للمطفّفين } قال ابن عباس : كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً ، إلى أن أنزل الله تعالى : { ويل للطففين } فأحسنوا الكيل ، قال الفراء : فهم من أوفى الناس كيلاً إلى يومهم هذا .
أعمض بعض المتعمقة فحمله على استيفاء العبادة بين الناس جهراً ، وفي النقصان سراً .
وفي « ويل » سبعة أقاويل :
أحدها : أنه واد في جهنم ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
الثاني : صديد أهل النار ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه النار ، قاله عمر مولى عفرة .
الرابع : أنه الهلاك ، قاله بعض أهل اللغة .
الخامس : أنه أشق العذاب .
السادس : أنه النداء بالخسار والهلاك ، وقد تستعمله العرب في الحرب والسلب .
السابع : أن أصله ويْ لفلان ، أي الجور لفلان ، ثم كثر استعمال الحرفين فوصلا بلام الإضافة .
والمطفف : مأخوذ من الطفيف وهو القليل ، والمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن .
قال الزجاج : بل مأخوذ من طف الشيء وهي جهته .
{ الذين إذا اكْتالوا على الناسِ يَسْتوْفُونَ } أي من الناس ، ويريد بالاستيفاء الزيادة على ما استحق .
{ وإذا كالُوهم أو وَزَنُوهم يُخْسِرون } يعني كالوا لهم أو وزنوا لهم بحذف هذه الكلمة لما في الكلام من الدلالة عليها ، { يخسرون } ، ينقصون فكان المطفف يأخذ زائداً ويعطي ناقصاً .
{ يومَ يَقُومُ الناسُ لربِّ العَالَمِينَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يوم يقومون من قبورهم ، قاله ابن جبير .
الثاني : يقومون بين يديه تعالى للقضاء ، قاله يزيد بن الرشك .
قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري : « كيف أنت صانع يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين ، لا يأتيهم فيه خبر ولا يؤمر فيه بأمر ، » قال بشير : المستعان الله .
الثالث : أنه جبريل يقوم لرب العالمين ، قاله ابن جبير .
ويحتمل رابعاً : يقومون لرب العالمين في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا .
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
{ كلاّ إنّ كتابَ الفُجّارِ لفي سِجِّينٍ } أما « كلا » ففيه وجهان :
أحدهما : حقاً .
الثاني : أن كلا للزجر والتنبيه .
وأما « سجّين » ففيه ثمانية أقاويل :
أحدها : في سفال ، قاله الحسن .
الثاني : في خسار ، قاله عكرمة .
الثالث : تحت الأرض السابعة ، رواه البراء بن عازب مرفوعاً .
قال ابن أسلم : سجّين : الأرض السافلة ، وسجّيل : سماء الدنيا .
قال مجاهد : سجّين صخرة في الأرض السابعة ، فيجعل كتاب الفجار تحتها .
الرابع : هو جب في جهنم ، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الفلق جُبٌّ في جهنم مغطّى ، وسجّين جب في جهنم مفتوح . »
الخامس : أنه تحت خد إبليس ، قاله كعب الأحبار .
السادس : أنه حجر أسود تحت الأرض تكتب فيه أرواح الكفار ، حكاه يحيى بن سلام .
السابع : أنه الشديد قاله أبو عبيدة وأنشد :
ضرباً تَواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينا ... الثامن : أنه السجن ، وهو فِعّيل من سجنته ، وفيه مبالغة ، قاله الأخفش عليّ بن عيسى ، ولا يمتنع أن يكون هو الأصل واختلاف التأويلات في محله .
ويحتمل تاسعاً : لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان { كِتابٌ مَرْقومٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : مكتوب ، قاله أبو مالك .
الثاني : أنه مختوم ، وهو قول الضحاك .
الثالث : رُقِم له بَشَرٌ لا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد ، قاله محمد بن كعب وقتادة .
ويحتمل قولاً رابعاً ، إن المرقوم المعلوم .
{ كلاّ بل رانَ على قُلوبِهم ما كانوا يَكْسبونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن « ران » : طبع على قلوبهم ، قاله الكلبي .
الثاني : غلب على قلوبهم ، قاله ابن زيد ، ومنه قول الشاعر :
وكم ران من ذنْب على قلب فاجر ... فتاب من الذنب الذي ران وانجلى
الثالث : ورود الذنب على الذنب حتى يعمى القلب ، قاله الحسن .
الرابع : أنه كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق ، وهذا قول الزجاج .
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
{ كلاّ إنّ كتابَ الأبرارِ لفِي علّيِّينَ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن عليين الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : السماء السابعة ، قاله ابن زيد ، قال قتادة : وفيها أرواح المؤمنين .
الثالث : قائمة العرش اليمنى ، قاله كعب .
الرابع : يعني في علو وصعود إلى الله تعالى ، قاله الحسن .
الخامس : سدرة المنتهى ، قاله الضحاك .
ويحتمل سادساً : أن يصفه بذلك لأنه يحل من القبول محلاً عالياً .
{ تَعْرِفُ في وُجوههم نَضْرَةَ النّعيم } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الطراوة والغضارة ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنها البياض ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها عين في الجنة يتوضؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم ، قاله عليّ .
ويحتمل رابعاً : أنها استمرار البشرى بدوام النعمة .
{ يُسقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } وفي الرحيق ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عين في الجنة مشوب بمسك ، قاله الحسن .
الثاني : أنه شراب أبيض يختمون به شرابهم ، قاله ابن أبي الدرداء .
الثالث : أنه الخمر في قول الجمهور ، ومنه قول حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم ... بَرَدَى يُصَفِّق بالرحيق السّلْسَلِ
لكن اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الصافية ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنها أصفى الخمر وأجوده ، قاله الخليل .
الثالث : أنها الخالصة من غش ، حكاه الأخفش .
الرابع : أنها العتيقة .
وفي « مختوم » ثلاثة أقاويل :
أحدها : ممزوج ، قاله ابن مسعود .
الثاني : مختوم في الإناء بالختم ، وهو الظاهر .
الثالث : ما روى أُبيّ بن كعب ، قال : قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال : « غُدران الخمر . »
{ خِتامُه مِسْكٌ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مزاجه مسك ، قاله مجاهد .
الثاني : عاقبته مسك ، ويكون ختامه آخره ، كما قال الشاعر :
صرف ترقرق في الحانوت باطنه ... بالفلفل الجون والرمان مختوما
قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك .
الثالث : أن طعمه وريحه مسك ، رواه ابن أبي نجيح .
الرابع : أن ختمه الذي ختم به إناؤه مِسْك ، قاله ابن عباس .
{ وفي ذلك فلْيَتنافَسِ المُتنافِسونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فليعمل العاملون ، قاله مجاهد .
الثاني : فليبادر المبادرون ، قاله أبو بكر بن عياش والكلبي .
وفيما أخذ منه التنافس والمنافسة وجهان :
أحدهمأ : أنه مأخوذ من الشيء النفيس ، قاله ابن جرير .
الثاني : أنه مأخوذ من الرغبة فيما تميل النفوس إليه ، قاله المفضل .
{ ومِزاجُهُ مِن تَسْنيمٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها أن التسنيم الماء ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها عين في الجنة ، فيشربها المقربون صرفاً ، وتمزج لأصحاب اليمين ، قاله ابن مسعود .
وقال حذيفة بن اليمان : تسنيم عين في عدْن ، وعدْن دار الرحمن وأهل عدْن جيرانه .
الثالث : أنها خفايا أخفاها الله لأهل الجنة ، ليس لها شبه في الدنيا ولا يعرف مثلها .
وأصل التسنيم في اللغة أنها عين ماء تجري من علو إلى سفل ، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه ، وكذلك تسنيم القبور .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : أن يكون المراد به لذة شربها في الآخرة أكثر من لذته في الدنيا ، لأن مزاج الخمر يلذ طعمها ، فصار مزاجها في الآخرة بفضل لذة مزاجها من تسنيم لعلو الآخرة على الدنيا .
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ وإذا انقَلَبوا إلى أهْلِهم انقَلَبوا فَكِهينَ } قرأ عاصم في رواية حفص فكهين بغير ألف وقرأ غيره بألف ، وفي القراءتين أربعة تأويلات :
أحدها : فرحين ، قاله السدي .
الثاني : معجبين ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
وقد فكهت من الدنيا فقاتلوا ... يوم الخميس بِلا سلاح ظاهر
الثالث : لاهين .
الرابع : ناعمين ، حكى هذين التأويلين عليّ بن عيس .
وروى عوف عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال ربكم عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمني في الدنيا أخفته يوم القيامة » .
{ هل ثوِّب الكفارُ ما كانوا يَفْعَلونَ } هذا سؤال المؤمنين في الجنة عن الكفار حين فارقوهم ، وفيه تأويلان :
أحدهما : معناه هل أثيب الكفار ما كانوا يعلمون في الكفر ، قاله قتادة .
الثاني : هل جوزي الكفار على ما كانوا يفعلون ، قاله مجاهد .
فيكون « ثُوِّب » مأخوذاً من إعطاء الثواب .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن يكون معناه هل رجع الكفار في الآخرة عن تكذيبهم في الدنيا على وجه التوبيخ ، ويكون مأخوذاً من المثابِ الذي هو الرجوع ، لا من الثواب الذي هو الجزاء ، كما قال تعالى : { وإذا جعَلْنا البيتَ مثابةً للناس } أي مرجعاً .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : هل رجع من عذاب الكفار على ما كانوا يفعلون ، لأنهم قد علموا أنهم عذبوا ، وجاز أن يظنوا في كرم الله أنهم قد رحموا .
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
قوله عز وجل : { إذا السماءُ انشَقّتْ } وهذا من أشراط الساعة ، قال عليّ رضي الله عنه : تنشق السماء من المجرة ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه محذوف الجواب وتقديره : إذا السماء انشقت رأى الإنسان ما قدّم من خير وشر .
الثاني : أن جوابه { كادح إلى ربك كدحاً } .
الثالث : معناه أذكر إذا السماء انشقت .
{ وأَذِنَتْ لِرّبها وحُقّتْ } معنى أذنت لربها أي سمعت لربها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أذن الله لشيء كإذانه لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع الله لشيء ، وقال الشاعر :
صُمٌّ إذا سَمِعوا خيْراً ذُكِرتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بسُوءٍ عندهم أَذِنوا
أي سمعوا .
{ وحُقّتْ } فيه وجهان :
أحدهما : أطاعت ، قاله الضحاك .
الثاني : معناه حق لها أن تفعل ذلك ، قاله قتادة ، ومنه قول كثيّر :
فإن تكُنْ العُتْبى فأهْلاً ومرحبا ... وحُقّتْ لها العُتبى لديْنَا وَقَلَّت .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنها جمعت ، مأخوذ من اجتماع الحق على نافيه وحكى ابن الانباري أن { أذنت لربها وحقت } جواب القسم ، والواو زائدة .
{ وإذا الأرضُ مُدَّتْ } فيها قولان :
أحدهما : أن البيت كان قبل الأرض بألفي عام ، فمدت الأرض من تحته ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنها أرض القيامة ، قاله مجاهد ، وهو أشبه بسياق الكلام .
وفي { مُدَّتْ } وجهان :
أحدهما : سويت ، فدكّت الجبال ويبست البحار ، قاله السدي .
الثاني : بسطت ، قاله الضحاك ، وروى عليّ بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مدّ الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه » .
{ وأَلقْتْ ما فيها وتَخلّتْ } فيه وجهان :
أحدهما : ألقت ما في بطنها من الموتى ، وتخلت عمن على ظهرها من الأحياء ، قاله ابن جبير .
الثاني : ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها وتخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها ، وهو معنى قول قتادة .
ويحتمل ثالثاً : هو أعم ، أنها ألقت ما استوعدت ، وتخلت مما استحفظت لأن الله استودعها عباده أحياء وأمواتاً ، واستحفظها بلاده مزارع وأقواتاً .
{ يا أيها الإنسانُ إنك كادحٌ إلى ربك كدْحاً فملاقيه } فيه قولان :
أحدهما : إنك ساعٍ إلى ربك سعياً حتى تلاقي ربك ، قاله يحيى بن سلام ، ومنه قول الشاعر :
ومَضَتْ بشاشةُ كلِّ عَيْشٍ صالحٍ ... وَبقيتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ
أي أعمل للحياة . ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الكادح هو الذي يكدح نفسه في الطلب إن تيسّر أو تعسّر .
{ فأمّا مَنْ أَوتي كِتابَه بيمينه } روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« يعرض الناس ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وفي الثالثة تطير الكتب من الأيدي ، فبين آخذٍ كتابه بيمينه ، وبين آخذٍ كتابه بشماله » .
{ فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً } وفي الحساب ثلاثة أقاويل :
أحدها : يجازى على الحسنات ويتجاوز له عن السيئات ، قاله الحسن .
الثاني : ما رواه صفوان بن سليم عن عائشة قالت : سئل رسول الله عن الذي يحاسب حساباً يسيراً ، فقال : « يعرف عمله ثم يتجاوز عنه ، ولكن من نوقش الحساب فذلك هو الهالك » .
الثالث : أنه العرض ، روى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } فقال : « ذلك العرض يا عائشة ، من نوقش في الحساب يهلك » .
{ وَيَنقَلِبُ إلى أهْلِه مَسْروراً } قال قتادة : إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يريد أهله الذين كانوا له في الدنيا ليخبرهم بخلاصه وسلامته .
{ إنَّه ظَنَّ أن لن يَحُورَ } أي لن يرجع حياً مبعوثاً فيحاسب ثم يثاب أو يعاقب ، يقال : حار يحور ، إذا رجع ، ومنه الحديث : « أعوذ بالله من الحْور بعد الكْور » ، يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة ، وروي : « بعد الكوْن » ، ومعناه انتشار الأمر بعد تمامه .
وسئل معمر عن الحور بعد الكْون فقال : الرجل يكون صالحاً ثم يتحول امرء سوء .
وقال ابن الأعرابي : الكُنْنّي : هو الذي يقول : كنت شاباً وكنت شجاعاً ، والكاني : هو الذي يقول : كان لي مال وكنت أهب وكان لي خيل وكنت أركب ، وأصل الحور الرجوع ، قال لبيد :
وما المرءُ إلا كالشهاب وضوئه ... يَحُورُ رماداً بَعْد إذ هو ساطعُ .
وقال عكرمة وداود بن أبي هند : يحور كلمة بالحبشية ، ومعناها يرجع وقيل للقصار حواري لأن الثياب ترجع بعمله إلى البياض .
{ بلى إنّ ربّه كان به بَصيراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : مشاهداً لما كان عليه .
الثاني : خبيراً بما يصير إليه .
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ فلا أُقْسِمُ بالشّفَقِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه شفق الليل وهو الحمرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه بقية ضوء الشمس ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه ما بقي من النهار ، قاله عكرمة .
الرابع : أنه النهار ، رواه ابن ابي نجيح .
{ واللّيلِ وما وَسقَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : وماجمع ، قاله مجاهد ، قال الراجز :
إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات أو يجدن سائقا
الثاني : وما جَنّ وستر ، قاله ابن عباس .
الثالث : وما ساق ، لأن ظلمة الليل تسوق كل شيء إلى مأواه ، قاله عكرمة . الرابع : وما عمل فيه ، قاله ابن جبير ، وقال الشاعر :
ويوماً ترانا صالحين وتارةً ... تقوم بنا كالواسق المتَلَبّبِ
أي كالعامل .
{ والقَمَرِ إذا اتّسَق } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : إذا استوى ، قاله ابن عباس ، وقولهم اتسق الأمر إذا انتظم واستوى .
قال الضحاك : ليلة أربع عشرة هي ليلة السواء .
الثاني : والقمر إذا استدار ، قاله عكرمة .
الثالث : إذا اجتمع ، قاله مجاهد ، ومعانيها متقاربة .
ويحتمل رابعاً : إذا طلع مضيئاً .
{ لَتَرْكَبُنَّ طُبقاً عَنِ طَبَقٍ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : سماء بعد سماء ، قاله ابن مسعود والشعبي .
الثاني : حالاً بعد حال ، فطيماً بعد رضيع وشيخاً بعد شاب ، قاله عكرمة ، ومنه قول الشاعر :
كذلك المرءُ إن يُنْسَأ له أجَلٌ ... يَرْكبْ على طَبَقٍ مِن بَعْده طَبَقٌ
الثالث : أمراً بعد أمر ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى بعد فقر ، وفقراً بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، وسقماً بعد صحة ، قاله الحسن .
الرابع : منزلة بعد منزلة ، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، وقوم كانوا مرتفعين في الدنيا فاتضعوافي الآخرة ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : عملاً بعد عمل ، يعمل الآخر عمل الأول ، قاله السدي .
السادس : الآخرة بعد الأولى ، قاله ابن زيد .
السابع : شدة بعد شدة ، حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء ، وفي كل حال من هذه شدة ، وقد روى معناه جابر مرفوعاً .
{ واللهُ أعْلَمُ بما يُوعُونَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بما يُسِرون في قلوبهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : بما يكتمون من أفعالهم ، قاله مجاهد .
الثالث : بما يجمعون من سيئاتهم ، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه وهو معنى قول ابن زيد .
{ فلهم أَجْرٌ غيرُ ممنون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثاني : غير منقوص ، قاله السدي .
الثالث : غير مقطوع ، قاله ابن عباس .
الرابع : غير مكدّر بالمن والأذى ، وهو معنى قول الحسن .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
قوله تعالى { والسماءِ ذاتِ البُروجِ } هذا قَسَمٌ ، وفي البروج أربعة أقاويل :
أحدها : ذات النجوم ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك .
الثاني : ذات القصور ، قاله ابن عباس .
الثالث : ذات الخلْق الحسن ، قاله المنهال بن عمرو .
الرابع : ذات المنازل ، قاله يحيى بن سلام وهي اثنا عشر برجاً رصدتها العرب والعجم ، وهي منازل الشمس والقمر .
{ واليومِ الموْعُودِ } روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوم القيامة ، وسمي بذلك لأنهم وعدوا فيه بالجزاء بعد البعث .
{ وشاهدٍ ومَشْهودٍ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، روى ذلك أبو عرفة ، روى ذلك أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الشاهد يوم النحر ، والمشهود يوم عرفة ، قاله إبراهيم .
الثالث : أن الشاهد الملائكة ، والمشهود الإنسان ، قاله سهل بن عبد الله .
الرابع : أن الشاهد الجوارح ، والمشهود النفس ، وهو محتمل .
الخامس : أن المشهود يوم القيامة .
وفي الشاهد على هذا التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : هو الله تعالى ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : هو آدم عليه السلام ، قاله مجاهد .
الثالث : هو عيسى ابن مريم ، رواه ابن أبي نجيح .
الرابع : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن بن علي وابن عمر وابن الزبير ، لقوله تعالى : { فكيفَ إذا جِئْنا من كلِّ أمَّةٍ بشهيد وجئْنَا بِك على هؤلاءِ شَهيداً } .
الخامس : هو الإنسان ، قاله ابن عباس .
{ قُتِل أصحابُ الأُخْدُودِ } قال الفراء : هذا جواب القسم ، وقال غيره : الجواب { إنّ بَطْشَ ربِّكَ لَشديدٌ } والأخدود : الشق العظيم في الأرض ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجاري الدموع فيه ، والمخدّة لأن الخد يوضع عليها ، وهي حفائر شقت في الأرض وأوقدت ناراً وألقي فيها مؤمنون امتنعوا من الكفر .
واختلف فيهم ، فقال عليّ : إنهم من الحبشة ، وقال مجاهد : كانوا من أهل نجران ، وقال عكرمة كانوا نبطاً ، وقال ابن عباس : كانوا من بني إسرائيل ، وقال عطية العوفي : هم دانيال وأصحابه ، وقال الحسن : هم قوم من أهل اليمن ، وقال عبد الرحمن بن الزبير : هم قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين ، وقال الضحاك : هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تُبَّع الحميري وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً ، وحفر لهم أخدوداً أحرقهم فيه ، وقال السدي : الأخدود ثلاثة : واحد بالشام وواحد بالعراق ، وواحد باليمن .
وفي قوله : { قُتِل أصحابُ الأُخْدُودِ } وجهان :
أحدهما : أُهلك المؤمنون .
الثاني : لُعن الكافرون الفاعلون ، وقيل إن النار صعدت إليهم وهم شهود عليها فأحرقتهم ، فلذلك قوله تعالى : { فلهُم عذابُ جهنَّمَ ولهْم عذابُ الحريق } يعني في الدنيا .
{ وهُمْ على ما يَفْعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن أصحاب الأخدود هم على عذاب المؤمنين فيها شهود ، وهو ظاهر من قول قتادة .
الثاني : أنهم شهود على المؤمنين بالضلال ، قاله مقاتل .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ إنه هو يُبْدِىءُ ويُعيدُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يحيى ويميت ، قاله ابن زيد .
الثاني : يميت ثم يحيى ، قاله السدي .
الثالث : يخلق ثم يبعث ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : يبدىء العذاب ويعيده ، قاله ابن عباس .
ويحتمل خامساً : يبدىء ما كلف من أوامره ونواهيه ، ويعيد ما جزى عليه من ثواب وعقاب .
{ وهو الغَفورٌ الوَدُودُ } في الغفور وجهان :
أحدهما : الساتر للعيوب .
الثاني : العافي عن الذنوب .
وفي الودود وجهان :
أحدهما : المحب .
الثاني : الرحيم .
وفيه ثالث : حكاه المبرد عن اسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد قول الشاعر :
وأرْكبُ في الرّوْع عُريانةً ... ذلول الجناح لقاحاً وَدُوداً
أي لا ولد لها تحن إليه ، ويكون معنى الآية أنه يغفر لعباده ، وليس ولد يغفر لهم من أجله ، ليكون بالمغفرة متفضلاً من غير جزاء .
{ ذو العَرْشِ المجيدُ } فيه وجهان :
أحدهما : الكريم ، قاله ابن عباس .
الثاني : العالي ، ومنه المجد لعلوه وشرفه .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنه من صفات الله تعالى ، وهو قول من قرأ بالرفع .
الثاني : أنه من صفة العرش ، وهو قول من قرأ بالكسر .
ويحتمل إن كان صفة للعرش وجهاً ثالثاً : أنه المحكم .
{ بل هو قُرآنٌ مَجِيْدٌ في لَوْحٍ مَّحفوظٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن اللوح هو المحفوظ عند الله تعالى ، وهو تأويل من قرأ بالخفض .
الثاني : أن القرآن هو المحفوظ ، وهو تأويل من قرأ بالرفع وفيما هو محفوظ منه وجهان :
أحدهما : من الشياطين .
الثاني : من التغيير والتبديل .
وقال بعض المفسرين : إن اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه .
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
قوله تعالى { والسماءِ والطارقِ } هما قسمَان : « والسماءِ » قَسَمٌ ، « والطارقِ » قَسَمٌ .
« الطارق » نجم ، وقد بيّنه الله تعالى بقوله : { وما أدْراكَ ما الطارقُ * النجْمُ الثّاقبُ } ومنه قول هند بنت عتبة :
نحْنُ بنات طارِق ... نمْشي على النمارق
تقول : نحن بنات النجم افتخاراً بشرفها ، وإنما سمي النجم طارقاً لاختصاصه بالليل ، والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقاً ، قال الشاعر :
ألا طَرَقَتْ بالليلِ ما هجَعوا هندُ ... وهندٌ أَتى مِن ، دُونها النأيُ والصَّدّ
وأصل الطرق الدق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق .
وفي قوله « النجم الثاقب » ستة أوجه :
أحدها : المضيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : المتوهج ، قاله مجاهد .
الثالث : المنقصّ ، قاله عكرمة .
الرابع : أن الثاقب الذي قد ارتفع على النجوم كلها ، قاله الفراء .
الخامس : الثاقب : الشياطين حين ترمى ، قاله السدي .
السادس : الثاقب في مسيره ومجراه ، قاله الضحاك .
وفي هذا النجم الثاقب قولان :
أحدهما : أنه زُحل ، قاله عليّ .
الثاني : الثريّا ، قاله ابن زيد .
{ إن كُلُّ نفْسٍ لّما عليها حافِظٌ } فيه وجهان :
أحدهما : « لّما » بمعنى إلاّ ، وتقديره : إنْ كل نفس إلاَّ عليها حافظ ، قاله قتادة .
الثاني : أن « ما » التي بعد اللام صله زائدة ، وتقديره : إن كل نفس لعليها حافظ ، قاله الأخفش .
وفي الحافظ قولان :
أحدهما : حافظ من الله يحفظ عليه أجله ورزقه ، قاله ابن جبير .
الثاني : من الملائكة يحفظون عليه عمله من خير أو شر ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون الحافظ الذي عليه عقله ، لأنه يرشده إلى مصالحه ، ويكفّه عن مضاره .
{ يَخْرُجُ مِنْ بَيْن الصُّلْبِ والتّرائِب } فيه قولان :
أحدهما : من بين صلب الرجل وترائبه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : بمعنى أصلاب الرجال وترائب النساء .
وفي الترائب ستة أقاويل :
أحدها : أنه الصدر ، قاله ابن عياض ، ومنه قول دريد بن الصمة .
فإنَّ تُدْبروا نأخذكُم في ظهوركم ... وإنْ تُقْبِلُوا نأخذكُم في الترائب
الثاني : ما بين المنكبين إلى الصدر ، قاله مجاهد .
الثالث : موضع القلادة ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّباتُ والنحْرُ
الرابع : أنها أربعة أضلاع من الجانب الأسفل ، قاله ابن جبير ، وحكى الزجاج أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر .
الخامس : أنها بين اليدين والرجلين والعينين ، قاله الضحاك .
السادس : هي عصارة القلب ، قاله معمر بن أبي حبيبة .
{ إنّه على رَجْعِهِ لقادرٌ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : على أن يرد المني في الإحليل ، قاله مجاهد .
الثاني : على أن يرد الماء في الصلب ، قاله عكرمة .
الثالث : على أن يرد الإنسان من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة ، قاله الضحاك .
الرابع : على أن يعيده حيّاً بعد موته ، قاله الحسن وعكرمة وقتادة .
الخامس : على أن يحبس الماء فلا يخرج .
ويحتمل سادساً : على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة لأن الكفار يسألون الله فيها الرجعة .
{ يومَ تُبْلَى السّرائرُ } أي تَظْهَر .
ويحتمل ثانياً : أن تبتلى بظهور السرائر في الآخرة بعد استتارها في الدنيا .
وفيها قولان :
أحدهما : كل ما استتر به الإنسان من خير وشر ، وأضمره من إيمان أو كفر ، كما قال الأحوص :
ستُبلَى لكم في مُضْمَرِ السِّرِّ والحشَا ... سَريرةُ ودٍّ يومَ تُبلَى السرائرُ .
الثاني : هو ما رواه خالد عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأمانات ثلاث : الصلاة والصوم والجنابة ، استأمن الله ابن آدم على الصلاة ، فإن شاء قال : قد صليت ولم يُصلّ ، استأمن الله ابن آدم على الصوم ، فإن شاء قال : قد صمت ولم يصم ، استأمن الله ابن آدم على الجنابة ، فإن شاء قال : قد اغتسلت ولم يغتسل ، اقرؤوا إن شئتم : » يوم تُبْلى السّرائرُ « .
{ فما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصَرٍ } فيه قولان :
أحدهما : أن القوة العشيرة ، والناصر : الحليف ، قاله سفيان .
الثاني : فما له من قوة في بدنه ، ولا ناصر من غيره يمتنع به من الله ، أو ينتصر به على الله ، وهو معنى قول قتادة .
ويحتمل ثالثاً : فما له من قوة في الامتناع ، ولا ناصر في الاحتجاج .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{ والسماءِ ذاتِ الّرجْعِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ذات المطر ، لأنه يرجع في كل عام ، قاله ابن عباس .
الثاني ذات السحاب ، لأنه يرجع بالمطر .
الثالث : ذات الرجوع إلى ما كانت ، قاله عكرمة .
الرابع : ذات النجوم الراجعة ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد ، وهذا قَسَمٌ .
{ والأرضِ ذاتِ الصّدْعِ } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : ذات النبات لانصداع الأرض عنه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذات الأودية ، لأن الأرض قد انصدعت بها ، قاله ابن جريج .
الثالث : ذات الطرق التي تصدعها المشاة ، قاله مجاهد .
الرابع : ذات الحرث لأنه يصدعها .
ويحتمل خامساً : ذات الأموات ، لانصداعها عنهم للنشور وهذان قسمان :
{ إنّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ } على هذا وقع القَسَمُ ، وفي المراد بأنه قول فصل قولان :
أحدهما : ما قدّمه عن الوعيد من قوله تعالى : « إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر » الآية . تحقيقاً لوعيده ، فعلى هذا في تأويل قوله « فَصْل » وجهان :
أحدها : حد ، قاله ابن جبير .
الثاني : عدل ، قاله الضحاك .
القول : ان المراد بالفصل القرآن تصديقاً لكتابه ، فعلى هذا في تاويل قوله « فصل » وجهان :
أحدهما : حق ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما رواه الحارث عن عليّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كتابِ الله فيه خير ما قبلكم ، وحكم ما بعدكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، مَنْ تركه مِن جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله » .
{ وما هو بالهزْلِ } وهذا تمام ما وقع عليه القسم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : باللعب ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : بالباطل ، قاله وكيع والضحاك .
الثالث : بالكذب ، قاله السدي .
{ إنّهم يَكِيدُونَ كيْداً } يعني أهل مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { وإذ يمْكَرُ بك الذين كَفَروا لِيُثْبِتوكَ أو يَقْتلوكَ أو يُخْرِجوكَ } فقال ها هنا : « إنهم يكيدون كيداً » أي يمكرون مكراً .
{ وأكيدُ كيْداً } يعني بالانتقام في الآخرة بالنار ، وفي الدنيا بالسيف .
{ فمهّلِ الكافرين أَمْهِلْهم رُوَيْداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قريباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : انتظاراً ، ومنه قول الشاعر :
رُويْدك حتى تنطوي ثم تنجلي ... عمايةُ هذا العارضِ المتألّقِ
الثالث : قليلاً ، قاله قتادة .
قال الضحاك : فقتلوا يوم بدر .
وفي « مهّل » « وأمْهل » وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد .
الثاني : معناهما مختلف ، فمهّل الكف عنهم ، وأمْهِل انتظار العذاب لهم .
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
قوله تعالى { سَبِّح اسمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : عظّم ربك الأعلى ، قاله ابن عباس والسدي ، والاسم صلة قصد بها تعظيم المسّمى ، كما قال لبيد :
إلى الحْولِ ثم اسم السلام عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقد اعتذر
الثاني : نزّه اسم ربك عن أن يسمى به أحد سواه ، ذكره الطبري .
الثالث : معناه ارفع صوتك بذكر ربك ، قال جرير :
قَبَحَ الإلهُ وَجوه تَغْلبَ كلّما ... سَبَحَ الحجيجُ وكبّروا تكبيرا
الرابع : صلّ لربك ، فعلى هذا في قوله « اسم ربك » ثلاثة أوجه :
أحدها : بأمر ربك .
الثاني : بذكر ربك أن تفتتح به الصلاة .
الثالث : أن تكون ذاكراً لربك بقلبك في نيتك للصلاة .
وروي أن عليّاً وابن عباس وابن عمر كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا : « سبحان ربي الأعلى » امتثالاً لأمره تعالى في ابتدائها ، فصار الاقتداء بهم في قراءتها ، وقيل إنها في قراءة أُبيّ : « سبحان ربي الأعلى » وكان ابن عمر يقرؤها كذلك .
{ الذي خَلَقَ فَسَوَّى } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أنشأ خلقهم ثم سوّاهم فأكملهم .
الثاني : خلقهم خلقاً كاملاً وسوّى لكل جارحة مثلاً .
الثالث : خلقهم بإنعامه وسوّى بينهم في أحكامه ، قال الضحاك :
خلق آدم فَسوّى خلقه .
ويحتمل رابعاَ : خلق في أصلاب الرجال ، وسوّى في أرحام الأمهات .
ويحتمل خامساً : خلق الأجساد فسّوى الأفهام .
{ والذي قَدَّرَ فَهَدَى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : قدّر الشقاوة والسعادة ، وهداه للرشد والضلالة ، قاله مجاهد .
الثاني : قدر أرزاقهم وأقواتهم ، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنساً ، ولمراعيهم إن كانوا وحشاً .
الثالث : قدرهم ذكوراً وإناثاً ، وهدى الذكر كيف يأتى الأنثى ، قاله السدي .
ويحتمل رابعاً : قدر خلقهم في الأرحام ، وهداهم الخروج للتمام .
ويحتمل خامساً : خلقهم للجزاء ، وهداهم للعمل .
{ والذي أَخْرَجَ المْرعى } يعني النبات ، لأن البهائم ترعاه ، قال الشاعر :
وقد يَنْبُتُ المرعى على دِمَنِ الثّرَى ... وتَبْقَى حَزازاتُ النفوسِ كما هِيا
{ فَجَعَلهُ غُثاءً أَحْوَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الغثاء ما يبس من النبات حتى صار هشيماً تذروه الرياح .
الأحوى : الأسود ، قال ذي الرمة :
لمياءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللّثاتِ وفي أنْيابها شَنَبُ
وهذا معنى قول مجاهد .
الثاني : أن الغثاء ما احتمل السيل من النبات ، والأحوى : المتغير ، وهذا معنى قول السدي .
الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، ومعناه أحوى فصار غثاء ، والأحوى : ألوان النبات الحي من أخضر وأحمر وأصفر وأبيض ، ويعبر عن جميعه بالسواد كما سمي به سواد العراق ، وقال امرؤ القيس :
وغيثٍ دائمِ التهْتا ... نِ حاوي النبتِ أدْهم
والغثاء : الميت اليابس ، قال قتادة : وهو مثل ضربه الله تعالى للكفار لذهاب الدنيا بعد نضارتها .
{ سنُقْرئك فلا تَنسَى } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى قوله : فلا تنسى ، أي فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن يترخص لك فيه ، فعلى هذا التأويل يكون هذا نهياً عن الشرك .
والوجه الثاني : أنه إخبار من الله تعالى أنه لا ينسى ما يقرئه من القرآن ، حكى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه خيفة أن ينساه ، فأنزل الله تعالى :
« سنقرئك فلا تنسى » يعني القرآن .
{ إلا ما شاءَ اللهُ } فيه وجهان :
أحدهما : إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله عليك فلا تقرؤه ، حكاه ابن عيسى .
{ إنهُ يَعْلَمُ الجهْرَ وما يَخْفَى } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، وما يخفى هو ما نسخ من حفظك .
الثاني : أن الجهر ما علمه ، وما يخفى ما سيتعلمه من بعد ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الجهر ما قد أظهره ، وما يخفى ما تركه من الطاعات .
{ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : نيسرك لأن تعمل خيراً ، قاله ابن عباس .
الثاني : للجنة ، قاله ابن مسعود .
الثالث : للدين واليسر وليس بالعسر ، قاله الضحاك .
{ فذكّرْ إن نَّفَعتِ الذِّكْرَى } وفيما يذكر به وجهان :
أحدهما : بالقرآن ، قاله مجاهد .
الثاني : بالله رغبة ورهبة ، قاله ابن شجرة .
وفي قوله : { إنْ نَفَعَتِ الذّكْرى } وجهان :
أحدهما : يعني إن قبلت الذكرى وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : يعني ما نفعت الذكرى ، فتكون « إنْ » بمعنى ما الشرط ، لأن الذكرى نافعة بكل حال ، قاله ابن شجرة .
{ سَيّذَّكَرُ مَن يَخْشى } يعني يخشى الله ، وقد يتذكر من يرجوه ، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء ، وإن تعلقت بالخشية والرجاء .
{ وَيَتَجَنَّبُها الأشْقَى } يعني يتجنب التذكرة الكافر الذي قد صار بكفره شقياً . { الذي يَصْلَى النّارَ الكُبْرىَ } فيه وجهان :
أحدهما : هي نار جهنم ، والصغرى نار الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الكبرى نار الكفار في الطبقة السفلى من جهنم ، والصغرى نار المذنبين في الطبقة العليا من جهنم ، وهو معنى قول الفراء .
{ ثم لا يَمُوتُ فيها ولا يَحْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : لا يموت ولا يجد روح الحياة ، ذكره ابن عيسى .
الثاني : أنه يعذب لا يستريح ولا ينتفع بالحياة ، كما قال الشاعر :
ألا ما لنفسٍ لا تموتُ فَيَنْقَضِي ... عَناها ولا تحْيا حياةً لها طَعمْ .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{ قد أفْلَحَ من تَزَكّى } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : من تطهّر من الشرك بالإيمان ، قاله ابن عباس .
الثاني : من كان صالح عمله زكياً نامياً ، قاله الحسن والربيع .
لم يذكر الثالث راجع التعليق ص . 44 .
الرابع : أنه عنى زكاة الأموال كلها ، قاله ابو الأحوص .
ويحتمل خامساً : أنه من ازداد خيراً وصلاحاً .
{ وذكَرَ اسمَ ربِّه فَصَلّى } فيه ستة أوجه :
أحدها : أن يوحد الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن يدعوه ويرغب إليه .
الثالث : أن يستغفروه ويتوب إليه .
الرابع : أن يذكره بقلبه عند صلاته فيخاف عقابه ويرجو ثوابه ، ليكون استيفاؤه لها وخشوعه فيها بحسب خوفه ورجائه .
الخامس : أن يذكر اسم ربه بلسانه عند إحرامه بصلاته ، لأنها لا تنعقد إلا بذكره . السادس : أن يفتتح كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم .
وفي قوله « فصلّى » ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس .
الثاني : صلاة العيد ، قاله أبو سعيد الخدري .
الثالث : هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاة ، قاله أبو الأحوص .
وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
{ بل تُؤْثرون الحياةَ الدُّنْيا } فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد بها الكفار ، فيكون تأويلها : بل تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة .
الثاني : أن المراد بها المسلمون ، فيكون تأويلها : يؤثرون الاستكثار من الدنيا للاستكثار من الثواب .
{ والآخِرةُ خَيْرٌ وأَبْقَى } فيه وجهان :
أحدهما : خير للمؤمن من الدنيا ، وأبقى للجزاء .
الثاني : ما قاله قتادة خير في الخير وأبقى في البقاء .
ويحتمل به وجهاً ثالثاً : يتحرر به الوجهان : والآخرة خير لأهل الطاعة وأبقى على أهل الجنة .
{ إنّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني أن الآخرة خير وأبقى في الصحف الأولى ، قاله قتادة .
الثاني : أن ما قصَّهُ الله في هذه السورة هو من الصحف الأولى .
الثالث : هي كتب الله كلها ، وحكى وهب بن منبه في المبتدإ أن جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه مائة صحيفة وخمس صحف وأربعة كتب ، منها خمسة وثلاثون صحيفة أنزلها على شيث بن آدم وخمسون صحيفة أنزلها على إدريس ، وعشرون صحيفة أنزلها على إبراهيم ، وأنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى ، والفرقان على محمد عليهم السلام .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
قوله تعالى { هلْ أتاكَ حديثُ الغاشِيةِ } فيها قولان :
أحدهما أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : أنها النار تغشى وجوه الكفار ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أنها في هذا الموضع النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى جميع الخلق .
و « هل » فيها وجهان :
أحدهما : أنها في موضع قد ، وتقدير الكلام قد أتاك حديث الغاشية ، قاله قطرب .
الثاني : أنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله ، ومعناه ألم يكن قد أتاك حديث الغاشية ، فقد أتاك ، وهو معنى قول الكلبي .
{ وُجوهٌ يومئذٍ خاشِعَةٌ } في الوجوه ها هنا قولان :
أحدهما : عنى وجوه الكفار كلهم ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنها وجوه اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس .
وفي قوله « يومئذٍ » وجهان :
أحدهما : يعني يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : في النار ، قاله قتادة .
« خاشعة » فيه وجهان :
أحدهما : يعني ذليلة بمعاصيها ، قاله قتادة .
الثاني : أنها تخشع بعد ذل من عذاب الله فلا تتنعم ، قاله سعيد بن جبير .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن تكون خاشعة لتظاهرها بطاعته بعد اعترافها بمعصيته . { عامِلةٌ نَّاصِبَةٌ } في « عاملة » وجهان :
أحدهما : في الدنيا عاملة بالمعاصي ، قاله عكرمة .
الثاني : أنها تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى ، فأعملها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أي باذلة للعمل بطاعته إن ردّت .
وفي قوله « ناصبة » وجهان :
أحدهما : ناصبة في أعمال المعاصي .
الثاني : ناصبة في النار ، قاله قتادة .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أي ناصبة بين يديه تعالى مستجيرة بعفوه .
{ تَصْلَى ناراً حاميةً } فإن قيل فما معنى صفتها بالحماء وهي لا تكون إلا حامية وهو أقل أحوالها ، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه :
أحدها : أن المراد بذلك أنها دائمة الحمى وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها .
الثاني : أن المراد بالحامية أنها حمى يمنع من ارتكاب المحظورات وانتهاك المحارم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وإن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله محارمه ، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه » .
الثالث : معناه أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها أو ترام مماستها كما يحي الأسد عرينه ، ومثله قول النابغة :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الحامي .
الرابع : أنها حامية مما غيظ وغضب ، مبالغة في شدة الانتقام ، وقد بيّن الله ذلك بقوله { تكاد تميّز من الغيظ } .
{ تُسْقَى مِن عَيْنٍ آنِيةٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قاله ابن زيد .
الثاني : حاضرة .
الثالث : قد بلغت إناها وحان شربها ، قاله مجاهد .
الرابع : يعني قد أنى حرها فانتهى واشتد ، قاله ابن عباس .
{ ليس لَهُمْ طعامٌ إلاّ مِن ضَريعٍ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنها شجرة تسميها قريش الشبرق ، كثيرة الشوك ، قاله ابن عباس ، قال قتادة وإذا يبس في الصيف فهو ضريع ، قال الشاعر :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعاً نازعته النحائص
الثاني : السّلم ، قال أبو الجوزاء : كيف يسمن من يأكل الشوك .
الثالث : أنها الحجارة ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه النوى المحرق ، حكاه يوسف بن يعقوب عن بعض الأعراب .
الخامس : أنه شجر من نار ، قاله ابن زيد .
السادس : أن الضريع بمعنى المضروع ، أي الذي يضرعون عنده طلباً للخلاص منه ، قاله ابن بحر .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
{ في جَنّةٍ عاليةٍ } فيها وجهان :
أحدهما : أن الجنة أعلى من النار فسميت لذلك عالية ، قاله الضحاك .
الثاني : أعالي الجنة وغرقها ، لأنها منازل العلو والارتفاع .
فعلى هذا في ارتفاعهم فيها وجهان :
أحدهما : ليلتذوا بالعو والارتفاع .
الثاني : ليشاهدوا ما أعد الله لهم فيها من نعيم .
{ لا تسْمَعُ فيها لاغيةً } قال الفراء والأخفش : أي لا تسمع فيها كلمة لغو وفي المراد بها سبعة أقاويل :
أحدها : يعني كذباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : الإثم ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الشتم ، قاله مجاهد .
الرابع : الباطل ، قاله يحيى بن سلام .
الخامس : المعصية ، قاله الحسن .
السادس : الحلف فلا تسمع في الجنة حالف يمين برة ولا فاجرة ، قاله الكلبي .
السابع : لا يسمع في كلامهم كلمة تلغى ، لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم ، قاله الفراء .
{ فيها سُرُرٌ مرفوعةٌ } والسرر جمع سرير ، وهو مشتق من السرور وفي وصفها بأنها مرفوعة ثلاثة أوجه :
أحدها : لأن بعضها مرفوع فوق بعض .
الثاني : مرفوعة في أنفسهم لجلالتها وحبهم لها ، قاله الفراء .
الثالث : أنها مرفوعة المكان لارتفاعها وعلوها .
فعلى هذا في وصفها بالعلو والارتفاع وجهان :
أحدهما : ليلتذ أهلها بارتفاعها ، قاله ابن شجرة .
الثاني : ليشاهدوا بارتفاعهم ما أُعطوه من مُلك وأُوتوه من نعيم ، قاله ابن عيسى .
فأما قوله { وأكوابٌ موضوعةٌ } فالأكواب : الأواني ، وقد مضى القول في تفسيرها .
وفي قوله « موضوعة » وجهان :
أحدهما : في أيديهم للاستمتاع بالنظر إليها لأنها من ذهب وفضة .
الثاني : يعني أنها مستعملة على الدوام ، لاستدامة شربهم منها ، قاله المفضل .
{ ونمارقُ مَصْفوفَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : الوسائد ، واحدها نمرقة ، قاله قتادة .
الثاني : المرافق ، قاله ابن أبي طلحة ، قال الشاعر :
وريم أحمّ المقلتين محبّب ... زرابيُّه مبثوثةٌ ونمارِقُه
{ وزرابيُّ مْبْثوثةٌ } فيها وجهان :
أحدهما : هي البسط الفاخرة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : هي الطنافس المخملة ، قاله الكلبي والفراء .
وفي « المبثوثة » أربعة أوجه :
أحدها : مبسوطة ، قاله قتادة .
الثاني : بعضها فوق بعض ، قاله عكرمة .
الثالث : الكثيرة ، قاله الفراء .
الرابع : المتفرقة ، قاله ابن قتيبة .
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيف خُلِقت } الآيات ، وفي ذكره لهذه ثلاثة أوجه :
أحدها : ليستدلوا بما فيها من العبر على قدره الله تعالى ووحدانيته .
الثاني : ليعلموا بقدرته على هذه الأمور أنه قادر على بعثهم يوم القيامة ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن الله تعالى لما نعت لهم ما في الجنة عجب منه أهل الضلالة ، فذكر لهم ذلك مع ما فيه من العجاب ليزول تعجبهم ، قاله قتادة .
وفي « الإبل » ها هنا وجهان :
أحدهما : وهو أظهرهما وأشهرهما : أنها الإبل من النَعَم .
الثاني : أنها السحاب ، فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات الدالة على قدرة الله والمنافع العامة لجميع خلقه .
وإن كان المراد بها من النَعَم فإن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات ، لأن ضروبه أربعة :
حلوبة ، وركوبة ، وأكولة ، وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع ، فكانت النعمة بها أعم ، وظهور القدرة فيها أتم .
ثم قال تعالى بعد ذلك « { فَذَكِّرْ إنّما أنت مُذكِّر } فيه وجهان :
أحدهما : إنما أنت واعظ .
الثاني : ذكّرهم النعم ليخافوا النقم .
{ لَسْتَ عليهم بِمُسْيْطِر } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لست عليهم بمسلط ، قاله الضحاك .
الثاني : بجبار ، قاله ابن عباس .
الثالث : برب ، قاله الحسن ، ومعنى الكلام لست عليهم بمسيطر أن تكرههم على الإيمان .
ثم قال : { إلاّ مَن تَولّى وكَفَر } فلست له بمذكر ، لأنه لا يقبل تذكيرك ، قاله السدي .
الثاني : إلا من تولى وكفر فكِلْه غلى الله تعالى ، وهذا قبل القتال ، ثم أمر بقتالهم ، قاله الحسن .
وفي » تولَّى وكفر « وجهان :
أحدهما : تولى عن الحق وكفر بالنعمة .
الثاني : تولى عن الرسول وكفر بالله تعالى ، قاله الضحاك .
{ فيُعذِّبه الله العذَابَ الأكْبَر } يعني جهنم .
ويحتمل أن يريد الخلود فيها ، لأنه يصير بالاستدامة أكبر من المنقطع . { إنّ إليْنا إيابَهُمْ } أي مرجعهم .
{ ثم إنّ علينا حِسابَهم } يعني جزاءَهم على أعمالهم ، فيكون ذلك جامعاً بين الوعد والوعيد ثواباً على الطاعات وعقاباً على المعاصي .
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قوله تعالى { والفَجْر } قسم أقسم الله تعالى به ، وهو انفجار الصبح من أفق المشرق ، وهما فجران : فالأول منهما مستطيل كذنب السرحان يبدو كعمود نور لا عرض له ، ثم يغيب لظلام يتخلله ، ويسمى هذا الفجر المبشر للصبح ، وبعضهم يسميه الكاذب لأنه كذب بالصبح .
وهو من جملة الليل لا تأثير له في صلاة ولا صوم .
وأما الثاني فهو مستطيل النور منتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح ، قال الشاعر :
شعب الكلاب الضاريات فزاده ... ناراً بذي الصبح المصدق يخفق
وبه يتعلق حكم الصلاة والصوم ، وقد ذكرنا ذلك من قبل .
وفي قسم الله بالفجر أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عنى به النهار وعبر عنه بالفجر لأنه أوله ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الفجر الصبح الذي يبدأ به النهار من كل يوم ، قاله علّي رضي الله عنه .
الثالث : أنه عنى به صلاة الصبح ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أنه أراد به فجر يوم النحر خاصة ، قاله مجاهد .
وفي { وليالٍ عشْرٍ } - وهي قسم ثان - أربعة أقاويل :
أحدها : هي عشر ذي الحجة ، قاله ابن عباس ، وقد روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » والفجر وليال عشر « ، قال : عشر الأضحى » .
الثاني : هي عشر من أول المحرم ، حكاه الطبري .
الثالث : هي العشر الأواخر من شهر رمضان ، وهذا مروي عن ابن عباس .
الرابع : هي عشر موسى عليه السلام التي أتمها الله سبحانه له ، قاله مجاهد .
{ والشّفْعِ والوَتْرِ } وهذا قسم ثالث ، وفيهما تسعة أقاويل :
أحدها : أنها الصلاة ، فياه شفع وفيها وتر ، رواه عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : هي صلاة المغرب ، الشفع منها ركعتان ، والوتر الثالثة ، قاله الربيع بن أنس وأبو العالية .
الثالث : أن الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ، رواه ابن الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الرابع : أن الشفع يوما منى الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة ، والوتر الثالث بعدهما ، قاله ابن الزبير .
الخامس : أن الشفع عشر ذي الحجة ، والوتر أيام منى الثلاثة ، قاله الضحاك .
السادس : أن الشفع الخلق من كل شيء ، والوتر هو آدم وحواء ، لأن آدم كان فرداً فشفع بزوجته حواء فصار شفعاً بعد وتر ، رواه ابن نجيح .
التاسع : أنه العدد لأن جميعه شفع ووتر ، قاله الحسن .
ويحتمل حادي عشر : أن الشفع ما يَنْمى ، والوتر مالا يَنْمى .
{ واللّيْلِ إذا يَسْرِ } وهذا قسم رابع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هي ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب فيها .
الثاني : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله ، وسئل محمد بن كعب عن قوله تعالى { والليل إذا يَسْرِ } فقال أسْر يا ساري ، ولا تبيتنّ إلا بجمع ، يعني بمزدلفة .
الثالث : أنه أراد عموم الليل كله .
وفي قوله { إذا يسرِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا أظلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : إذا سار ، لأن الليل يسير بمسير الشمس والفلك فينتقل من أفق إلى أفق ، ومنه قولهم جاء الليل وذهب النهار .
الثالث : إذا سار فيه أهله ، لأن السرى سير الليل .
{ هل في ذلك قَسَمٌ لذي حجْرٍ } وفي ذي الحجر لأهل التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : لذي عقل ، قاله ابن عباس .
الثاني : لذي حلم ، قاله الحسن .
الثالث : لذي دين ، قاله محمد بن كعب .
الرابع : لذي ستر ، قاله أبو مالك .
الخامس : لذي علم ، قاله أبو رجاء .
والحجر : المنع ، ومنه اشتق اسم الحجر لامتناعه بصلابته ، ولذلك سميت الحجرة لامتناع ما فيها بها ، ومنه سمي حجر المَولَّى عليه لما فيه من منعه عن التصرف ، فجاز أن يحمل معناه على كل واحد من هذه التأويلات لما يضمنه من المنع .
وقال مقاتل « هل » ها هنا في موضع إنّ ، وتقدير الكلام : إن في ذلك قسماً لِذي حِجْر .
{ ألم تَرَ كيف فَعَل ربُّك بعادٍ * إرَمَ } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أن إرم هي الأرض ، قاله قتادة .
الثاني : دمشق ، قاله عكرمة .
الثالث : الإسكندرية ، قاله محمد بن كعب .
الرابع : أن إرم أُمة من الأمم ، قاله مجاهد ، قال الشاعر :
كما سخرت به إرم فأضحوا ... مثل أحلام النيام .
الخامس : أنه اسم قبيلة من عاد ، قاله قتادة .
السادس : أن إرم اسم جد عاد ، قاله محمد بن إسحاق ، وحكى عنه أنه أبوه ، وأنه عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح .
السابع : أن معنى إرم القديمة ، رواه ابن أبي نجيح .
الثامن : أنه الهلاك ، يقال : أرم بنو فلان ، أي هلكوا ، قاله الضحاك .
التاسع : أن الله تعالى رمّهم رّماً فجعلهم رميماً ، فلذلك سماهم ، قاله السدي .
{ ذاتِ العمادِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ذات الطُّول ، قال ابن عباس مأخوذ من قولهم رجل معمّد ، إذا كان طويلاً ، وزعم قتادة . أنه كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعاً .
الثاني : ذات العماد لأنهم كانوا أهل خيام وأعمدة ، ينتجعون الغيوث ، قاله مجاهد .
الثالث : ذات القوة والشدة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، قاله الضحاك ، وحكى ثور بن يزيد أنه قال : أنا شداد بن عاد ، وأنا الذي رفعت العماد ، وأنا الذي شددت بذراعي بطن السواد ، وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع لا تخرجه إلا أمة محمد .
الرابع : ذات العماد المحكم بالعماد ، قاله ابن زيد .
{ التي لم يُخْلَقْ مِثْلُها في البلادِ } فيه وجهان :
أحدهما : لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد في البلاد ، قاله عكرمة .
الثاني : لم يخلق مثل قوم عاد في البلاد ، لطولهم وشدتهم ، قاله الحسن .
{ وثمودَ الذين جابُوا الصّخْرَ بالوادِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني قطعوا الصخر ونقبوه ونحتوه حتى جعلوه بيوتاً ، كما قال تعالى :
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } قال الشاعر :
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلٌ ... وكلُّ نعيمِ لا مَحالةَ زائلُ
وقال آخر :
وهم ضربوا في كل صماءَ صعدة ... بأيدٍ شديد من شداد السواعد .
الثاني : معناه طافوا لأخذ الصخر بالوادي ، كما قال الشاعر :
ولا رأَيْت قلوصاً قبْلها حَمَلَتْ ... ستين وسقاً ولا جابَتْ به بَلَدا
وأما « الواد » فقد زعم محمد بن إسحاق أنه وادي القرى ، وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود ، وهو على فرس أشقر ، فقال : أسرعوا السير فإنكم في واد ملعون .
{ وفرعونَ ذِي الأوْتادِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأوتاد الجنود ، فلذلك سمي بذي الأوتاد لكثرة جنوده ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد يشدها في أيديهم ، قاله الحسن ، ومجاهد ، قال الكلبي : بمثل ذلك عذب فرعون زوجته آسية بنت مزاحم عندما آمنت حتى ماتت .
الثالث : أن الأوتاد البنيان فسمي بذي الأوتاد لكثرة بنائه ، قاله الضحاك .
الرابع : لأنه كانت له فطال وملاعب على أوتاد وحبال يلعب له تحتها ، قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أنه ذو الأوتاد لكثرة نخلة وشجرة ، لأنها كالأوتاد في الأرض .
{ فَصَبَّ عليهم ربُّك سَوْطَ عذابٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قسط عذاب كالعذاب بالسوط ، قاله ابن عيسى .
الثاني : خلط عذاب ، لأنه أنواع ومنه قول الشاعر :
أحارثُ إنّا لو تُساطُ دماؤنا ... تَزَيّلْنَ حتى لا يَمسَّ دَمٌ دَمَا
الثالث : أنه وجع من العذاب ، قاله السدي .
الرابع : أنه كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب ، قاله قتادة .
وقال قتادة : كان سوط عذاب هو الغرق .
{ إنّ ربك لبالمرصاد } فيه وجهان :
أحدهما : بالطريق .
الثاني : بالانتظار ، كما قال طرفة :
أعاذلُ إنّ الجهْلَ من لَذِةِ الفتى ... وإنّ المنايا للرجال بمرصَد .
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
{ وتأكُلون التُّراثَ أكْلاً لمّاً } والتراث : الميراث ، وفي قوله « لمّاً » أربعة تأويلات :
أحدها : يعني شديداً ، قاله السدي .
الثاني : يعني جمعاً ، من قولهم لممت الطعام لَمّاً ، إذا أكلته جمعاً ، قاله الحسن .
الثالث : معناه سفه سفاً ، قاله مجاهد .
الرابع : هو أنه إذا أكل مال نفسه ألمّ بمال غيره فأكله ، ولا يتفكر فيما أكل من خبيث وطيب ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : أنه ألمّ بما حرم عليه ومنع منه .
{ وتُحِبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني كثيراً ، قاله ابن عباس ، والجمّ الكثير ، قال الشاعر :
إنْ تَغْفِر اللهم تغْفِرْ جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا أَلَمّاً
الثاني : فاحشاً تجمعون حلاله إلى حرامه ، قاله الحسن :
ويحتمل ثالثاً : أنه يحب المال حب إجمام له واستبقاء فلا ينتفع به في دين ولا دنيا وهو أسوأ أحوال ذي المال .
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{ يومئذٍ يَتذكّرُ الإنسانُ وأنَّى له الذِّكْرَى } فيه تأويلان :
أحدهما : يتوب وكيف له بالتوبة ، لأن التوبة بالقيامة لا تنفع ، قاله الضحاك .
الثاني : يتذكر ما عمل في دنياه وما قدم لآخرته ، وأنى له الذكرى في الآخرة ، وإنما ينتفع في الدنيا ، قاله ابن شجرة .
{ يقولُ يا ليتني قَدَّمْتُ لحياتي } فيه وجهان :
أحدهما : قدمت من دنياي لحياتي في الآخرة ، قاله الضحاك .
الثاني : قدمت من حياتي لمعادي في الآخرة ذكره ابن عباس .
{ فيومئذٍ لا يُعَذِّب عذابَه أَحَدٌ * ولا يُوثِقُ وثاقهَ أَحَدٌ } قرأ الكسائي لا يعذَّب ولا يوثق بفتح الذال والثاء وتأويلها على قراءته لا يعذَّب عذاب الكافر الذي يقول « يا ليتني قدمت لحياتي » أحدٌ ، وقرأ الباقون بكسر الذال والثاء وتأويلها أنه لا يعَذِّب عذابَ الله أحدٌ غَفَر الله له ، قاله ابن عباس والحسن ، فيكون تأويله على القراءة الأولى محمولاً على الآخرة ، وعلى القراءة الثانية محمولاً على الدنيا .
{ يا أيّتُها النّفْسُ المطْمئِنّةُ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : يعني المؤمنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : المجيبة ، قاله مجاهد .
الثالث : المؤمنة بما وعد الله ، قاله قتادة .
الرابع : الآمنة ، وهو في حرف أُبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة . الخامس : الراضية ، قاله مقاتل .
السادس : ما قاله بعض أصحاب الخواطر : المطمئنة إلى الدنيا ، ارجعي إلى ربك في تركها .
السابع : ما قاله الحسن أن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن اطمأنت النفس إلى الله عز وجل ، واطمأن الله إليها .
{ ارْجِعي إلى ربِّكِ } فيه وجهان :
أحدهما : إلى جسدك عند البعث في القيامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلى ربك عند الموت في الدنيا ، قاله أبو صالح .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : إلى ثواب ربك في الآخرة .
{ راضيةً مَرْضِيّةً } فيه وجهان :
أحدهما : رضيت عن الله ورضي عنها ، قاله الحسن .
الثاني : رضيت بثواب الله ورضي بعملها ، قاله ابن عباس .
{ فادْخُلي في عِبادي } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في عبدي ، وهو في حرف أُبيّ بن كعب : فادخلي في عبدي .
الثاني : في طاعتي ، قاله الضحاك .
الثالث : معناه فادخلي مع عبادي ، قاله السدي .
{ وادْخُلي جَنَتي } فيه قولان :
أحدهما : في رحمتي ، قاله الضحاك .
الثاني : الجنة التي هي دار الخلود ومسكن الأبرار ، وهو قول الجمهور .
وقال أسامة بن زيد : بشرت النفس المطمئنة بالجنة عند الموت ، وعند البعث وفي الجنة .
واختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في أبي بكر ، فروى ابن عباس أنها نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أَحسن هذا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أما أنه سيقال لك هذا » .
الثاني : أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها نزلت في حمزة ، قاله بريدة الأسلمي .
الرابع : أنها عامة في كل المؤمنين ، رواه عكرمة والفراء .
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
قوله تعالى { لا أُقْسِمُ بهذا البَلَد } ومعناه على أصح الوجوه :
أُقْسِم بهذا البلد ، وفي « البلد » قولان :
أحدهما : مكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : الحرم كله ، قاله مجاهد .
{ وأنتَ حلٌّ بهذا البَلَدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنت مُحِل في هذا البد غير مُحْرِم في دخولك عام الفتح ، قاله الحسن وعطاء .
الثالث : أن يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخاً للمشركين . ويحتمل رابعاً : وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد ، لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال ، وكانت حرمة مكة فيها أعظم ، والقسم بها أفخم .
{ ووالدٍ وما وَلَدَ } فيه أربعة أوجه .
أحدها : آدم وما ولد ، قاله مجاهد وقتادة والحسن والضحاك .
الثاني : أن الوالد إبراهيم وما ولد ، قاله ابو عمران الجوني .
الثالث : أن الوالد هو الذي يلد ، وما ولد هو العاقر الذي لا يلد ، قاله ابن عباس .
الرابع : أن الوالد العاقر ، وما ولد التي تلد ، قاله عكرمة .
ويحتمل خامساً : أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم ، لتقدم ذكره ، وما ولد أُمتّه ، لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم ، فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه .
{ لقد خَلقنا الإنسانَ في كَبَدٍ } إلى هاهنا انتهى القسم وهذا جوابه . وفي قوله « في كَبَد » سبعة أقاويل :
أحدها : في انتصاب في بطن أُمّه وبعد ولادته ، خص الإنسان بذلك تشريفاً ، ولم يخلق غيره من الحيوان منتصباً ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الثاني : في اعتدال ، لما بيّنه بعد من قوله { ألم نَجْعَلْ له عَيْنَين } الآيات ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، يتكبد في الخلق مأخوذ من تكبد الدم وهو غلظه ، ومنه أخذ أسم الكبد لأنه دم قد غلظ ، وهو معنى قول مجاهد .
الرابع : في شدة لأنها حملته كرهاً ووضعته كرهاً ، مأخوذ من المكابدة ، ومنه قول لبيد :
يا عين هلاّ بكيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقامَ الخصومُ في كَبَدِ .
رواه ابن أبي نجيح .
الخامس : لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، قاله الحسن .
السادس : لأنه خلق آدم في كبد السماء ، قاله ابن زيد .
السابع : لأنه يكابد الشكر على السّراء والصبر على الضّراء ، لأنه لا يخلو من أحدهما ، رواه ابن عمر .
ويحتمل ثامناً : يريد به أنه ذو نفور وحميّة ، مأخوذ من قولهم لفلان كبَد ، إذا كان شديد النفور والحمية .
وفيمن اريد بالإنسان ها هنا قولان :
أحدهما : جميع الناس .
الثاني : الكافر يكابد شبهات .
{ أيَحْسَب أنْ لَنْ يَقْدِر عليه أحَدٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه الله أن يبعثه بعد الموت ، قاله السدي .
الثاني : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله ، قاله الحسن .
الثالث : أيحسب أن لن يذله أحد ، لأن القدرة عليه ذل له .
{ يقولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني كثيراً .
الثاني : مجتمعاً بعضه على بعض ، ومنه سمي اللّبْد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض .
ويحتمل ثالثاً : يعني مالاً قديماً ، لاشتقاقه من الأبد ، أو للمبالغة في قدمه من عهد لَبِد ، لأن العرب تضرب المثل في القدم بلبد ، وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضَنِّه به .
وقيل إن هذا القائل أبو الشد الجمحي ، أنفق مالا كثيراً في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله ، وقيل بل هو النضر بن الحارث .
وهذا القول يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغياناً منه .
الثاني : أن يكون أسفاً عليه ، فيكون ندماً منه .
{ أيحْسَبُ أن لم يَرَهُ أَحَدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن لم يره الله ، قاله مجاهد .
الثاني : أن لم يره أحد من الناس فيما أنفقه ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أيحسب أن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به ، على وجه التهديد ، كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله ، قد رأيت ما صنعت ، تهديداً له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيداً ، وعلى ما تقدم تكذيباً .
{ وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ } فيهما أربعة تأويلات :
أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله علي رضي الله عنه والحسن .
الثاني : سبيل الهدى والضلالة ، قاله ابن عباس .
الثالث : سبيل الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد .
الرابع : الثديين ليتغذى بهما ، قاله قتادة والربيع بن خثيم .
قال قطرب : والنجد هو الطريق المرتفع ، فأرض نجد هي المرتفعة ، وأرض تهامة هي المنخفضة .
ويحتمل على هذا الاشتقاق خامساً : أنهما الجنة والنار ، لارتفاعهما عن الأرض .