كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
قوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يعذب من يشاء بالانقطاع إلى الدنيا ، ويرحم من يشاء بالإعراض عنها .
الثاني : يعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة .
الثالث : يعذب من يشاء بسوء الخلق ، ويرحم من يشاء بحسن الخلق .
الرابع : يعذب من يشاء ببغض الناس له ، ويرحم من يشاء بحبهم له .
الخامس : يعذب من يشاء بمتابعة البدعة ، ويرحم من يشاء بملازمة السنة .
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قوله تعالى : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } قال ابن إسحاق : آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخيه وآمنت به سارة وكانت بنت عمه .
{ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } يعني مهاجر عن الظالمين
. وفيما هاجر إليه قولان :
أحدهما : أنه هاجر إلى حرّان ، قاله كعب الأحبار .
الثاني : أنه هاجر من كوثي وهو من سواد الكوفة إلى أرض الشام ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } فيه ستة أقاويل :
أحدها : الذكر الحسن ، قاله ابن عباس .
الثاني : رضا أهل الأديان ، قاله قتادة .
الثالث : النية الصالحة التي اكتسب بها الأجر في الآخرة ، قاله الحسن .
الرابع : لسان صدق ، قاله عكرمة .
الخامس : ما أوتي في الدنيا من الأجر ، رواه ابن برزة .
السادس : الولد الصالح ، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي حتى أن أكثر الأنبياء من ولده .
ويحتمل سابعاً : أنه بقاء الصلاة عند قبره وليس ذلك لغيره من الأنبياء .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
قوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } أي تنكحون الرجال
. { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه قطع الطريق على المسافر ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم بإتيان الفاحشة من الرجال قطعوا الناس عن الأسفار حذراً من فعلهم الخبيث ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه قطع النسل للعدول عن النساء إلى الرجال ، قال وهب : استغنواْ عن النساء بالرجال .
{ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيِكُمُ الْمُنكَرَ } أي في مجالسكم المنكر فيه أربعة أوجه
: أحدها : هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ، قالته عائشة رضي الله عنها .
الثاني : أنهم كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه روته أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أنهم كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم ، رواه منصور عن مجاهد .
الرابع : هو الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسحاق وحل أزرار القيان في المجلس ، رواه الحاكم عن مجاهد .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } يعني آلهة من الأصنام والأوثان عبدوها .
{ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } يعني أنهم عبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً كبيت العنكبوت الذي لا يدفع شيئاً وهو من أبلغ الأمثال فيهم .
{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } لأنه يستر الإبصار ولا يدفع الأيدي ، وقد حكي عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله .
وقال عطاء : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود ، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وجمع العنكبوت عناكب وتصغيره عنيكب .
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
قوله تعالى : { اتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني القرآن وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو ما أنزل منه على أمته .
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنه الصلاة المفروضة . قاله ابن عباس .
الثالث : أن الصلاة هنا هي الدعاء ومعناه قم بالدعاء إلى أمر الله ، قاله ابن بحر .
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ } الفحشاء الزنى والمنكر الشرك ، قاله ابن عباس .
ثم فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، قاله الكلبي وابن زيد وحماد بن أبي سليمان .
الثاني : تنهى عن الفحشاء والمنكر قبلها وبعدها روى طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن لَّمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْداً
» الثالث : إن ما تدعوهم إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قاله ابن زيد .
{ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ولذكر الله أفضل من كل شيء ، قاله سلمان .
الثالث : ولذكر الله في الصلاة التي أنت فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر ، قاله عبد الله بن عون .
الرابع : ولذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ، قاله أبو مالك .
الخامس : ولذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم .
السادس : أكبر من قيامكم بطاعته .
السابع : أكبر من أن يبقي على صاحبه عقاب الفحشاء والمنكر .
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلأَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : الكف عنهم عند بذل الجزية منهم وقتالهم إن أبوا ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم إن قالوا شراً فقولوا لهم خيراً ، رواه ابن أبي نجيح .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : وهو أن يحتج لشريعة الإٍسلام ولا يذم ما تقدمها من الشرائع .
{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم أهل الحرب ، قاله مجاهد .
الثاني : من منع الجزية منهم ، رواه خصيف .
الثالث : ظلموا بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : ظلموا في جدالهم فأغلظوا لهم ، قاله ابن عيسى .
واختلف في نسخ ذلك على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة؛ قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة .
{ وَقُولُواْ ءَآمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلِيْكُمْ } الآية ، فروى سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأُون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية لأهل الإٍسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لاَ تُصَدِّقُواْ أَهْلَ الكِتابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُم { وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } إلى قوله { مُسْلِمُونَ } » أي مخلصون وفيه قولان :
أحدهما : أنه يقوله لأهل الكتاب ، قاله مجاهد .
الثاني : يقوله لمن آمن ، قاله السدي .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } فيه قولان
: أحدهما : معناه { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن } قبل القرآن كتاباً من كتب الله المنزلة ولا تخطه أي تكتبه بيمينك فتعلم ما أنزل الله فيه حتى يشكوا في إخبارك عنه إنه من وحي الله سبحانه إليك وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أنه كان أهل الكتاب يجدونه في كتبهم أن محمداً لا يخط بيمينه ولا يقرأ كتاباً فنزل ذلك فيهم ليدلهم على صحة نبوته ، وهو معنى قول مجاهد .
{ إِذَاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم مشركو قريش ، قاله مجاهد .
الثاني : مشركو العرب أن يقولوا لو كان يقرأ قد تعلمه من غيره ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم المكذبون من اليهود ، قاله السدي .
قوله تعالى : { بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه النبي صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً لا يكتب ولا يقرأ { ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } من أهل الكتاب لأنه منعوت في كتبهم بهذه الصفة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه القرآن { ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به ، قاله الحسن .
قال الحسن : أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرأُون كتابهم إلا نظراً فإذا طبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيين .
وقال كعب في صفة هذه الأمة : إنهم حلماء علماء كأنهم في الفقه أنبياء .
{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ } قال ابن عباس : المشركون
.
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِّن رَّبِهِ } وفيه قولان
: أحدهما : أنهم كانواْ يسألونه آيات يقترحونها عليه كما كان يفعله مشركو قريش أن يجعل الصفا ذهباً وأن يجري بمكة نهراً .
الثاني : أنهم سألوه مثل آيات الأنبياء قبله كما جاء صالح بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى .
{ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } أي أن الله هو الذي يعطي ما يشاء من الآيات لمن يشاء من الأنبياء بحسب ما يرى من المصلحة ولذلك لم تتفق آيات الأنبياء كلها وإنما جاء كل نبي بنوع منها .
{ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم مندوب للإنذار والبيان لا لما يقترح عليه من الآيات وإنما يلزم أن يأتي بما يشهد بصدقه من المعجزات وقد فعل الله ذلك فأجابهم به فقال .
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } يعني القرآن يتلى عليهم وفيه وجهان :
أحدهما : أولم يكفهم من الآيات التي سألوها أنا أنزلنا عليك الكتاب آية لك ودليلاً على صدقك لما فيه من الإعجاز في نظمه وصدق خبره وصحة وعده؟
الثاني : أنه محمول على ما رواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب في كتف فقال : كفى بقوم حمقاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكَتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني استنقاذهم من الضلال ، وبالذكرى إرشادهم إلى الحق .
{ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يريدون الإيمان ولا يقصدون العناد
. قوله تعالى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شِهِيداً } يعني شهيداً بالصدق والإبلاغ ، وعليكم بالتكذيب والعناد .
{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } وهذا احتجاج عليهم في صحة شهادته عليهم لأنهم قد أقرواْ بعلمه فلزمهم أن يقرواْ بشهادته .
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْبَاطِلِ } فيه وجهان
: أحدهما : بإبليس ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : بعبادة الأَوثان والأصنام ، قاله ابن شجرة .
{ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لتكذيبهم برسله وجحدهم لكتبه .
الثاني : بما أشركوه معه من الآلهة وأضافوه إليه من الأولاد والأنداد .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : خسروا أنفسهم بإهلاكها ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : خسروا في الآخرة نعيم الجنة بعذاب النار ، قاله يحيى بن سلام .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن استعجالهم له شدة عنادهم لنبيه .
الثاني : أنه استهزاؤهم بقولهم : { إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِن عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية .
{ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله ابن جبير .
الثاني : أجل الحياة إلى حين الموت وأجل الموت إلى حين البعث إليه بين أجلين من الله ، قاله قتادة .
الثالث : أنه النفخة الأولى ، قاله يحيى بن سلام .
{ لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ } يعني الذي استعجلوه
. { وَلَيِأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي فجأة
. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } لا يعلمون بنزوله بهم
. روى نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رَفَعَ أَْكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ تَصِلُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
» .
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
قوله تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَآمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أي جانبوا أهل المعاصي بالخروج من أرضهم ، قاله ابن جبير وعطاء .
الثاني : اطلبوا أولياء الله إذا ظهروا بالخروج إليهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : جاهدوا أعداء الله بالقتال لهم ، قاله مجاهد .
الرابع : إن رحمتي واسعة لكم ، قاله مطرف بن عبد الله .
الخامس : إن رزقي واسع لكم ، وهو مروي عن مطرف أيضاً .
{ فَإِيَّايَ فَاعْبدُونِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فارهبون ، قاله بلال بن سعد .
الثاني : فاعبدون بالهجرة إلى المدينة ، قاله السدي .
الثالث : فاعبدون بألا تطيعوا أحداً في معصيتي ، قاله علي بن عيسى .
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } وفيه وجهان :
أحدهما : يعني أن كل حي ميت .
الثاني : أنها تجد كربه وشدته ، وفي إعلامهم بذلك وإن كانوا يعلمونه وجهان :
أحدهما : إرهاباً بالموت ليقلعوا عن المعاصي .
الثاني : ليعلمهم أن أنبياء الله وإن اختصوا بكرامته وتفردوا برسالته فحلول الموت بهم كحلوله بغيرهم حتى لا يضلوا بموت من مات منهم ، وروى جعفر الصادق عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال لما توّفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمُوتِ } ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخَلَفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت؛ فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حُرِمَ الثواب .
{ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } يريد البعث في القيامة بعد الموت في الدنيا . قوله تعالى : { . . . لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً } قرأ حمزة والكسائي { لَنُثَوِّيَنَّهُم } بالثاء من الثواء وهو طول المقام وقرأ الباقون بالباء { لَنُبَوِّئَنَّهُم } معناه لنسكننهم أعالي البيوت . وإنما خصهم بالغرف لأمرين :
أحدهما : أن الغرف لا تستقر إلا فوق البيوت فصار فيها جمع بين أمرين .
الثاني : لأنها أنزه من البيوت لإشرافها وألذ سكنى منها لرياحها وجفافها .
وقد روى أبو مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِن بَاطِنِها ، وَبَاطِنُها مِن ظَاهِرِهَا ، أَعدَّهَا اللَّهُ لِمَن أَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَطَابَ الكَلاَمَ وَتَابَعَ الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَقَامَ باللِّيلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ
» . قوله : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : معناه تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاً ، قاله مجاهد .
الثاني : تأكل لوقتها ولا تدخر لغدها ، قاله الحسن .
الثالث : يأتيها من غير طلب .
الرابع : أنه النبي صلى الله عليه وسلم يكل ولا يدخر ، حكاه النقاش .
قال ابن عباس : الدواب هو كل ما دب من الحيوان . وكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر .
{ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي يسوي بين الحريص المتوكل في رزقه وبين الراغب القانع وبين الجلود والعاجز حتى لا يغتر الجلْد أنه رزق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية لما أُذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأمر المسلمين بها خافوا الضيعة والجوع فقال قوم نهاجر إلى بلد ليس فيها معاش فنزلت هذه الآية فهاجرواْ .
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
قوله تعالى : { إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } قال الضحاك : الحياة الدائمة وقال أبو عبيدة : الحيوان والحياة واحد .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَآمِناً } قال عبد الرحمن بن زيد : هي مكة وهم قريش أمنهم الله بها .
{ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } قال الضحاك : يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً فأذكرهم الله بهذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة .
{ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أفبالشرك ، قاله قتادة .
الثاني : بإبليس ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بعافية الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : بعطاء الله وإحسانه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : بإطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، حكاه النقاش ، وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } بأن جعل لله شريكاً أو ولداً .
{ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : بالتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة .
{ مَثْوًى . . . } أي مستقراً
. قوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قاتلوا المشركين طائعين لنا .
الثاني : جاهدوا أنفسهم في هواها خوفاً منا .
الثالث : اجتهدوا في العمل بالطاعة والكف عن المعصية رغبة في ثوابنا وحذراً من عقابنا .
الرابع : جاهدوا أنفسهم في التوبة من ذنوبهم .
{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يعني الطريق إلى الجنة ، قاله السدي .
الثاني : نوفقهم لدين الحق ، حكاه النقاش .
الثالث : معناه الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون ، قاله عباس أبو أحمد .
الرابع : معناه لنخلصنّ نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم ، قاله يوسف بن أسباط .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } أي في العون لهم ، الله أعلم .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
قوله تعالى : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ } الآية . روى ابن جبير عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان .
قال ابن شهاب : فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب ، وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب .
وقيل : إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين الآيتين فلما قال :
{ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيْغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } سر بذلك المسلمون وبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب الفرس . قال قتادة : فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك ، وذلك قبل تحريم القمار مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس ، قاله السدي .
الثاني : خمس سنين ، قاله قتادة .
الثالث : سبع سنين ، قاله الفراء .
وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين :
أحدهما : أنه أبو سفيان بن حرب ، قاله السدي .
الثاني : أنه أُبي بن خلف ، قاله قتادة . وحكىلنقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلِق به أبي بن خلف وقال : اعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن .
واختلف في قدر العوض المبذول على قولين :
أحدهما : أربع قلائص ، قاله عامر .
الثاني : خمس قلائص ، قاله قتادة .
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال : « مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ؟ » قال : ثقة بالله وبرسوله ، قال : « فَكَم البِضْعُ » قال : ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « زِدْهُم فِي الخَطَرِ فِي وَزِدْ الأَجَلِ » فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستاً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني ، وصار الأجل خمساً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني : وتسعاً على الثالث .
واختلف في الاستزاده والزيادة على قولين :
أحدهما : أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة ، قاله عامر .
الثاني : أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول ، قاله ابن شهاب ، فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقاً لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل .
واختلف في السنة التي غلبت الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه ، قاله أبو سعيد ، قال : فكان يوم بدر .
الثاني : أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين ، وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين ، ولعله قول عكرمة .
الثالث : عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسملين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية ، قاله عبيد الله بن عبد الله .
فأما قوله تعالى : { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } ففيه قولان :
أحدهما : في أدنى أرض فارس؛ حكاه النقاش .
الثاني : في أدنى أرض الروم ، وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل :
أحدها : أطراف الشام ، قاله ابن عباس .
الثاني : الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس ، قاله مجاهد .
الثالث : الأردن وفلسطين ، قاله السدي .
الرابع : أذرعات الشام وكانت بها الوقعة ، قاله يحيى بن سلام .
وقرأ أبو عمرو وحده : { غَلَبَتِ } بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت؟ فقال : في أدنى ريف الشام .
قوله تعالى : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } وهو ما بين الثلاث إلى العشر وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع .
وأما النيف ففيه قولان :
أحدهما : ما بين الواحد والتسعة ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما بين الواحد والثلاثة ، وهو قول الجمهور .
{ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فيه وجهان
: أحدهما : من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت .
الثاني : من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس .
{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب .
الثاني : يعني به نصر الروم على فارس .
وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : تصديق خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لأنهم أهل كتاب مثلهم .
الثالث : لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين .
{ بِنَصْرِ اللَّهِ } يعني من أوليائه لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصر وإنما هو ابتلاء .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في نقمته { الرَّحِيمُ } لأهل طاعته
. قوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة . وقال الضحاك : هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها فهذا ظاهر الحياة الدنيا .
الثاني : يعلمون ما ألقته الشياطين لهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أن ظاهر الحياة الدنيا العمل لها ، وباطنها عمل الآخرة .
{ وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عما أعده الله في الآخرة من ثواب عن طاعته وعقاب على معصيته .
الثاني : عما أمرهم الله به من طاعة وألزمهم إياه .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : بالعدل .
الثاني : بالحكمة .
الثالث : إلا ما استحق عليهم الطاعة والشكر .
والرابع : قاله الفراء ، معناه إلا للحق يعني الثواب والعقاب .
{ وَأَجَلِ مُّسَمًّى } فيه وجهان
: أحدهما : قيام الساعة ، قاله ابن عباس .
الثاني : وهو محتمل أنه أجل كل مخلوق على ما قدر له .
فدل ذل على أمرين :
أحدهما : دل به على الفناء وعلى أن لكل مخلوق أجلاً .
الثاني : نبه على ثواب المحسن وعقاب المسيء .
قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أَسَآءُواْ } قال ابن عباس : كفرواْ .
{ السُّوأَى } فيه وجهان
: أحدهما : جهنم ، قاله السدي .
الثاني : العذاب في الدنيا والآخرة ، قاله الحسن .
وفي الفرق بين الإساءة والسوء وجهان :
أحدهما : أن الإساءة إنفاق العمر في الباطل ، والسوء إنفاق رزقه في المعاصي .
الثاني : أن الإِساءَة فعل المسيء والسوء الفعل مما يسوء .
{ أَن كَذَّبُواْ } لأن كذبواْ
. { بِئَايَاتِ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : بالعذاب أن ينزل بهم ، قاله مقاتل .
الثالث : بمعجزات الرسل ، قاله الضحاك .
{ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ } أي بالآيات .
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
قوله تعالى : { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } فيه ستة أوجه
: أحدها : أنه الفضيحة ، قاله مجاهد .
الثاني : الاكتئاب ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : الإياس ، قاله ابن عباس .
الرابع : الهلاك ، قاله السدي .
الخامس : الندامة ، قاله ابن قتيبة .
السادس : الحيرة ، قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسْماً مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسَا
قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : في الجزاء بالثواب والعقاب .
الثاني : في المكان بالجنة والنار .
قوله تعالى : { . . . فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يَحْبَرُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يمكرون ، قاله ابن عباس .
الثاني : ينعمون ، قاله مجاهد وقتادة .
الثالث : يتلذذون بالسماع والغناء ، قاله يحيى بن أبي كثير .
الرابع : يفرحون ، قاله السدي . والحبرة عند العرب السرور والفرح قال العجاج :
فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحي إن المولى يَسَر
فأما الروضة فهي البستان المتناهي منظراً وطيباً ولم يكن عند العرب أحسن منظراً ولا أطيب منها ريحاً قال الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل
قوله تعالى : { فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : مدخلون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نازلون ومنه قوله : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ } [ البقرة : 180 ] و [ المائدة : 106 ] أي نزل به .
الثالث : مقيمون ، قاله ابن شجرة .
الرابع : معذبون .
الخامس : مجموعون ، ومعاني هذه التأويلات متقاربة .
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قوله : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان :
أحدهما : لما تضمنتها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود .
الثاني : مأخوذ من السبحة ، والسبحة الصلاة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « تَكُونُ لَكُم سَبْحَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ » أي صلاة .
وقوله : { حِينَ تُمْسُونَ } أي صلاة المغرب والعشاء ، قاله ابن عباس وابن جبير والضحاك . { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } صلاة الصبح في قولهم أيضاً .
{ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان
: أحدهما : الحمد لله على نعمه وآلائه .
الثاني : الصلاة لاختصاصها بقراءة الحمد في الفاتحة .
{ وَعَشِّياً } يعني صلاة العصر
. { وَحِينَ تَظْهِرُونَ } يعني صلاة الظهر وإنما خص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن الإنسان في النهار متقلب في أحوال توجب حمد الله عليها ، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار ، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل .
والفرق بين المساء والعشي أن المساء بدو الظلام بعد المغيب ، والعشي آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس ، فجاءت هذه الآية جامعة لأوقات الصلوات الخمس ، وقد روى سفيان عن عاصم أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس : هل تجد في كتاب الله الصلوات الخمس؟ فقرأ هذه الآية .
قال يحيى ابن سلام : كل صلاة ذكرت في كتاب الله قبل الليلة التي أسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فليست من الصلوات الخمس لأنها فرضت في الليلة التي أسري به فيها وذلك قبل الهجرة بسنة ، قال : وهذه الآية نزلت بعد ليلة الإسراء وقبل الهجرة .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ، قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وابن جبير .
الثاني : يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والزهري ، ورواه الأسود بن عبد يغوث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : يخرج الدجاجة من البيضة ويخرج البيضة من الدجاج ، قاله عكرمة .
الرابع : يخرج النخلة من النواة ويخرج النواة من النخلة؛ والسنبلة من الحبة والحبة من السنبلة ، قاله ابن مالك والسدي .
ويحتمل خامساً : يخرج الفطن اللبيب من العاجز البليد ويخرج العاجز البليد من الفطن اللبيب .
{ وَيُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني بالنبات لأنه حياة أهلها فصار حياة لها
. ويحتمل ثانياً : أنه كثرة أهلها لأنهم يحيون مواتها ويعمرون خرابها .
{ وَكَذِلِكَ تُخْرَجُونَ } أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات وأحيا الموتى كذلك يحييكم بالبعث . وفي هذا دليل على صحة القياس .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قوله تعالى : { وَمِنَ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } فيه قولان
: أحدهما : حواء خلقها من ضلع آدم ، قاله قتادة .
الثاني : أن خلق سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال والنساء ، قاله علي بن عيسى .
{ لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } لتأنسوا إليها لأنه جعل بين الزوجين [ من ] الأنسية ما لم يجعله بين غيرهما .
{ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } فيه أربعة
: أحدها : أن المودة المحبة والرحمة والشفقة ، قاله السدي .
الثاني : أن المودة الجماع والرحمة الولد ، قاله الحسن .
الثالث : أن المودة حب الكبير والرحمة الحنو على الصغير ، قاله الكلبي .
الرابع : أنهما التراحم بين الزوجين ، قاله مقاتل .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : يتفكرون في أن لهم خالقاً معبوداً .
الثاني : يتفكرون في البعث بعد الموت .
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان
: أحدهما : لما فيهما من الآيات والعبر .
الثاني : لإعجاز الخلق عن إحداث مثلهما .
{ وَاخْتلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : اختلاف ألسنتكم بالكلام ، فللعرب كلام وللفرس كلام وللروم كلام . وألوانكم أبيض وأسود وأحمر ، قاله السدي ، وحكى وهب بن منبه في المبتدأ أن جميع الألسنة اثنان وسبعون لساناً منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً ، وفي ولد حام سبعة عشر لساناً ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون لساناً .
والوجه الثاني : اختلاف ألسنتكم : النغمة والصوت حتى لا يشتبه صوتان من أخوين لأم وأب ، وألوانكم : الصورة حتى لا يشتبه الناس في المعارف والمناكح والحقوق .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } قال ابن عيسى : الجن والإنس . وروى حفص عن عاصم { للعالمين } بكسر اللام يعني جميع العلماء .
قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الليل والنهار معاً وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل ، لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلاً وينام نهاراً .
الثاني : أن الليل وقت النوم والنهار وقت لابتغاء الفضل ، ويكون تقدير الكلام : ومن آياته منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار .
وفي ابتغاء الفضل وجهان :
أحدهما : التجارة ، قاله مجاهد .
الثاني : التصرف والعمل . فجعل النوم في الليل دليلاً على الموت ، والتصرف في النهار دليلاً على البعث .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } فيه ثلاث أوجه
: أحدها : يسمعون الحق فيتبعونه .
الثاني : يسمعون الوعظ فيخافونه .
الثالث : يسمعون القرآن فيصدقونه .
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
قوله تعالى : { وَمِن ءَايَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم ، قاله قتادة .
الثاني : خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث ، قاله الضحاك .
الثالث : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع ، حكاه يحيى بن سلام .
الرابع : خوفاً أن يكون البرق برقاً خُلّباً لا يمطر وطمعاً أن يكون ممطراً ، ذكره ابن بحر ، وأنشد قول الشاعر :
لا يكن برقك برقاً خُلّباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
والعرب يقولون : إذا توالت أربعون برقة مطرت وقد أشار المتنبي إلى ذلك بقوله :
فقد أرد المياه بغير زادٍ ... سوى عَدّي لها بَرْق الغمام
قوله تعالى : { وَمِنْ ءَآيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن تكون .
الثاني : أن تثبت .
{ بِأَمْرِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : بتدبيره وحكمته .
الثاني : بإذنه لها أن تقوم بغير عمد .
{ ثُمَّ إِذا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنْ الأَرْضِ } أي وأنتم موتى في قبوركم
. { إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي من قبوركم مبعوثين إلى القيامة . قال قتادة : دعاهم من السماء فخرجوا من الأرض .
ثم فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أخرجهم بما هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة قوله كن فيكون ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنهم أخرجهم بدعاء دعاهم به ، قاله قتادة .
الثالث : أنه أخرجهم بالنفخة الثانية وجعلها دعاء لهم . ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام .
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله : { . . . كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : مطيعون ، قاله مجاهد . روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة .
الثاني : مصلون ، قاله ابن عباس .
الثالث : مقرون بالعبودية ، قاله عكرمة وأبو مالك والسدي .
الرابع : كل له قائم يوم القيامة ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : كل له قائم بالشهادة أنه عبد له ، قاله الحسن .
السادس : أنه المخلص ، قاله ابن جبير .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته ، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلاً على ما خفي من إعادته استدلالاً بالشاهد على الغائب .
ثم أكد ذلك بقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن إعادة الخلق أهون من ابتداء إنشائهم لأنهم ينقلون في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم يعود رضيعاً ثم فطيماً ، وهو في الإعادة يصاح به .
فيقوم سوياً وهذا مروي عن ابن عباس .
الثالث : معناه وهو هين عليه فجعل { أهْونُ } مكان { هَيِّنٌ } كقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيرة طويلة
: وفي تأويل { أَهْوَنُ } وجهان :
أحدهما : أيسر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أسهل ، وأنشد ابن شجرة قول الشاعر :
وهان على أسماءَ أن شطت النوى ... يحن إليها والهٌ ويتوق
أي هي أسهل عليه ، وقال الربيع بن هيثم في قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال : ما شيء على الله بعزيز .
{ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى } أي الصفة العليا . وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه ليس كمثله شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : هو شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله قتادة .
الثالث : أنه يحيي ويميت ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : -هو أعلم- أنه جميع ما يختص به من الصفات التي لا يشاركه المخلوق فيها .
{ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } أي لا إله فيها غيره
. { وَهُوَ الْعَزِيزُ } فيه وجهان
: أحدهما : المنيع في قدرته .
الثاني : في انتقامه .
{ الْحَكِيمُ } فيه وجهان
: أحدهما : في تدبيره لأمره وهو معنى قول أبي العالية .
الثاني : في إعذاره وحجته إلى عباده ، قاله جعفر بن الزبير .
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } اختلف في سبب ضرب الله لهم المثل على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأن المشركين أشركوا به في العبادة غيره ، قاله قتادة .
الثاني : لأنه كانت تلبية قريش في الجاهلية : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً وهو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله ابن جبير .
الثالث : لأنهم كانوا لا يورثون مواليهم فضرب الله هذا المثل ، قاله السدي .
وتأويله : أنه لم يشارككم عبيدكم في أموالكم لأنكم مالكون لهم ، فالله أوْلى ألا يشاركه أحد من خلقه في العبادة لأنه مالكهم وخالقهم .
{ تَخَافُونَهُم كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : تخافون أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون ذلك من شركائكم ، قاله أبو مجلز .
الثاني : تخافون أن يرثوكم كما تخافون ورثتكم ، قاله السدي .
الثالث : تخافون لائمتهم كما تخافون بعضكم بعضاً ، قاله يحيى بن سلام .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قصدك .
الثاني : دينك ، قاله الضحاك .
الثالث : عملك ، قاله الكلبي .
{ لِلدِّينِ حَنِيفاً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : مسلماً ، وهذا قول الضحاك .
والثاني : مخلصاً ، وهذا قول خصيف .
الثالث : متبعاً ، قاله مجاهد .
الرابع : مستقيماً ، قاله محمد بن كعب .
الخامس : حاجّاً ، قاله ابن عباس .
السادس : مؤمناً بالرسل كلهم ، قاله أبو قلابة .
{ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فيها تأويلان
: أحدهما : صنعة الله التي خلق الناس عليها ، قاله الطبري .
الثاني : دين الله الذي فطر خلقه عليه ، قاله ابن عباس والضحاك والكلبي يريد به الإسلام وقد روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مِن فِطْرةِ إِبْرَاهِيمَ السُّوَاكُ » ومن قول كعب بن مالك :
إن تقتولنا فدين الله فطرتنا ... والقتل في الحق عند الله تفضيل
{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : لا تبديل لدين الله ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : لا تغيير لخلق الله من البهائم أن يخصي فحولها ، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعكرمة .
الثالث : لا تبديل خالق غير الله فيخلق كخلق الله ، لأنه خالق يخلق ، وغيره مخلوق لا يخلق ، وهو معنى قول ابن بحر .
ويحتمل رابعاً ، لا يشقى من خلقه سعيداً ولا يسعد من خلقه شقيّاً .
{ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } فيه تأويلان
: أحدهما : ذلك الحساب البين ، قاله مقاتل بن حيان .
الثاني : ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً وإلهاً قديماً :
قوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مقبلين إليه ، قاله يحيى بن سلام والفراء .
الثاني : داعين إليه ، قاله عبيد بن يعلى .
الثالث : مطيعين له ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الرابع : تائبين إليه من الذنوب ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
وفي أصل الإنابة قولان
: أحدهما : أن أصله القطع ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة .
الثاني : أن أصله الرجوع مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد مرة ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة .
قوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } أي أوقعوا فيه الاختلاف حتى صاروا فرقاً وقرىء { فَارَقُواْ دِينَهُم } أي تركوه وقد قرأ بذلك علي رضي الله عنه وهي قراءة حمزة والكسائي وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله معمر .
الثالث : أنهم الخوارج من هذه الأمة ، وهذا قول أبي هريرة ورواه أبو أمامة مرفوعاً .
الرابع : أنهم أصحاب الأهواء والبدع ، روته عائشة مرفوعاً .
{ وَكَانُواْ شِيَعاً } فيه وجهان
: أحدهما : فرقاً ، قاله الكلبي .
الثاني : أدياناً ، قاله مقاتل .
ويحتمل ثالثاً : أنهم أنصار الأنبياء وأتباعهم .
{ كُلُّ حِزْبٍ } أي فرقة
. { بِمَا لَدَيْهِمْ فِرِحُونَ } أي بما عندهم من الضلالة
. { فَرِحُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مسرورون ، قاله الجمهور .
الثاني : معجبون ، قاله ابن زيد .
الثالث : متمسكون ، قاله مجاهد .
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
قوله : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يعني كتاباً ، قاله الضحاك .
الثاني : عذراً ، قاله قتادة .
الثالث : برهاناً ، وهو معنى قول السدي وعطاء .
الرابع : رسولاً ، حكاه ابن عيسى محتملاً .
{ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : معناه يخبر به .
الثاني : يحتج له .
قوله : { وَإِذَآ أَذَقْنا النَّاسَ رَحْمَةً } فيها وجهان :
أحدهما : أنها العافية والسعة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : النعمة والمطر ، حكاه النقاش .
ويحتمل أنها الأمن والدعة .
{ فَرِحُواْ بِهَا } أي بالرحمة
. { وَإِن تُصِبْهُمْ سِيِّئَةً } فيها وجهان
: أحدهما : بلاء وعقوبة ، قاله مجاهد .
الثاني : قحط المطر ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : أنها الخوف والحذر .
{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بذنوبهم
. { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن القنوط اليأس من الرحمة والفرج ، قاله الجمهور .
الثاني : أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر ، قاله الحسن .
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قوله : { فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } فيهم وجهان
: أحدهما : أنهم قرابة الرجل ، أن يصل رحمهم بماله ونفسه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنهم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب يعطون حقهم من الغنيمة والفيء ، قاله السدي .
{ وَالْمِسْكِينَ } هو الذي لا يجد كفايته
. { وَابْنَ السَّبِيلِ } فيه قولان
: أحدهما : المسافر ، قاله مجاهد فإن كان محتاجاً فحقه في الزكاة وإن كان غير محتاج فبرّاً وصلة .
الثاني : أنه الضيف الذي ينزل بك ، قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ، فإن أطعمه كان برّاً وصلة ولم يجز أن يكون من الزكاة محتاجاً كان أو غير محتاج . وإن دفعت إليه مالاً جاز إذا كان فقيراً أن يكون من الزكاة ، ولم يجز إن كان غنيّاً .
قوله : { وَمَاءَ آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الرجل يهدي هدية ليكافأ عليها أفضل منها ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنه في رجل صحبه في الطريق فخدمه فجعل له المخدوم بعض الربح من ماله جزاء لخدمته لا لوجه الله ، قاله الشعبي .
الثالث : أنه في رجل يهب لذي قرابة له مالاً ليصير به غنيّاً ذا مال ولا يفعله طلباً لثواب الله ، قاله إبراهيم .
ومعنى قوله : { فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ } أي فلا يكون له ثواب عند الله .
قال ابن عباس : هما رِبَوان أحدهما حلال والآخر حرام ، فما تعاطيتم بينكم حلال ولا يصل إلى الله .
{ وَمَا ءَآتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } أي ثواب الله ، وفيها قولان
: أحدهما : أنها الزكاة المفروضة وهو الظاهر .
الثاني : أنها الصدقة ، قاله ابن عباس والسدي .
{ فَأُوْلَئِكَ الْمُضْعِفُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : تضاعف لهم الحسنات لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، قاله السدي .
الثاني : تضاعف أموالهم في الدنيا بالزيادة فيها ، وقال الكلبي : لم يقل مال رجل من زكاة .
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
قوله : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } في { الفَسَادِ } أربعة أقاويل
: أحدها : الشرك ، قاله السدي .
الثاني : ارتكاب المعاصي ، قاله أبو العالية .
الثالث : قحط المطر ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : فساد البر : قتل ابن آدم أخاه ، وفساد البحر : أخذ السفينة غصباً .
ويحتمل خامساً : أن ظهور الفساد ولاة السوء .
{ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } هنا أربعة أقاويل
: أحدها : أن البر الفيافي والبحر القرى ، قاله عكرمة ، وقال : إن العرب تسمي الأمصار البحار .
الثاني : البر أهل العمود والبحر أهل القرى والريف ، قاله قتادة .
الثالث : أن البر بادية الأعراب ، قاله الضحاك والبحر الجزائر؛ قاله عطاء .
الرابع : أن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر ، قاله ابن عباس .
وللمتعمقين في غوامض المعاني وجهان :
أحدهما : أن البر النفس والبحر القلب .
الثاني : أن البر اللسان والبحر القلب . لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب . وهو بعيد .
{ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } قال السدي : بما عملواْ من المعاصي واكتسبوا من الخطايا .
{ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } من المعاصي جزاءً معجلاً في الدنيا وجزاءً مؤجلاً في الآخرة فصار عذاب الدنيا بعض الجزاء .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يرجعون عن المعاصي ، قاله أبو العالية .
الثاني : يرجعون إلى حق ، قاله إبراهيم .
الثالث : يرجع من بعدهم ، قاله الحسن .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } فيه وجهان
: أحدهما : أقم وجهك للتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة ، قاله ابن عيسى .
{ مِن قَبْلِ يَأَتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } يعني يوم القيامة
. { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } قال ابن عباس : معناه يتفرقون قال الشاعر
:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل له يتصدعا
أي لن يتفرقا
. ويحتمل وجهاً ثانياً : أنه ما يصدعهم يوم القيامة من أهوال .
وفيه قولان :
أحدهما : يتفرقون في عرصة القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير ، قاله قتادة .
الثاني : يتفرق المشركون وآلهتهم في النار ، قاله الكلبي .
قوله : { . . . فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : يسوون المضاجع في القبور ، قاله مجاهد .
الثاني : يوطئون في الدنيا بالقرآن وفي الآخرة بالعمل الصالح ، قاله يحيى بن سلام .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } قال الضحاك : بالغيث
. ويحتمل وجهاً ثانياً : بخصب الزمان وصحة الأبدان .
وقال أُبي بن كعب : كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب .
وقال عبد الله بن عمر : الريح ثمانية ، أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب ، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر ، والعاصف والقاصف وهما في البحر .
{ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } فيه تأويلان
: أحدهما : بردها وطيبها ، قاله الضحاك .
الثاني : المطر ، قاله مجاهد وقتادة .
{ وَلِتَجْزِي الْفُلْكُ } يعني السفن
. { بِأمْرِهِ . . . } يحتمل وجهين
: أحدهما : بقدرته في تسييرها .
الثاني : برحمته لمن فيها .
{ . . . وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } يعني ما عدّده من نعمه فتطيعوه لأن طاعة العبد لربه في شكره لنعمته إذ ليس مع المعصية شكر ولا مع كفر النعمة طاعة .
قوله : { . . . وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : نصر الأنبياء بإجابة دعائهم على المكذبين لهم من قومهم ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نصر المؤمنين بإيجاب الذبّ عن أعراضهم ، روت أم الدرداء ، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَا مِنِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلاَّ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَن يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامِةِ » ثم تلا هذه الآية { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } .
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
قوله : { . . . وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : قطعاً ، قاله قتادة .
الثاني : متراكماً بعضه على بعض ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : في سماء دون سماء ، قاله الضحاك .
{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي من خلال السحاب . وقرأ الضحاك بن مزاحم : من خلله ، وفي { الْوَدْقَ } تأويلان :
أحدهما : أنه البرق ، حكاه أبو نخيلة الحماني عن أبيه .
الثاني : أنه المطر ، قاله مجاهد والضحاك ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودْقُها ... ولا أرض أبقل إبقالها
قوله : { فَانظُرْ إِلَى ءَآثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } يعني المطر
. { كَيْفَ يُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهآ } يعني بالماء حتى أنبتت شجراً ومرعى بعد أن كانت بالجدب مواتاً ، قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة .
{ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى } لأن القادر على إحياء الأرض الموات قادر على إحياء الأموات استدلالاً بالشاهد على الغائب .
وتأول من تعمّق في غوامض المعاني آثار رحمة الله أنه مواعظ القرآن وحججه تحيي القلوب الغافلة .
قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } فيه قولان :
أحدهما : فرأوا السحاب مصفراً ، لأن السحاب إذا كان كذلك لم يمطر ، حكاه علي ابن عيسى وقيل إنها الريح الدبور لأنها لا تلقح .
الثاني : فرأوا الزرع مصفراً بعد اخضراره ، قاله ابن عباس وأبو عبيدة .
{ لَظَلُّواْ مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ومعنى ظل هو أنه أوقع الفعل في صدر النهار وهو الوقت الذي فيه الظل ، لأنه وقت مختص بأهم الأمور لتقديمه عن نّية من الليل . وكذلك قولهم أضحى يفعل ، لكن قد يعبر بقولهم ظل يفعل عن فعل أول النهار وآخره اتساعاً لكثرة استعماله ، وقلَّما يستعمل أضحى يفعل إلا في صدر النهار دون آخره .
ويحتمل { يَكْفُرُونَ } هنا وجهين :
أحدهما : يَشْكَونَ .
الثاني : يذمّون .
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
قوله : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فيه قولان
: أحدهما : أن الموتى الكفار الذين يموتون على الكفر وهم الصم الذين تولوا عن الهدى فلم يسمعوه ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن هذا مثل ضربه الله للكافرين كما أن الميت إذا خوطب لم يسمع والأصم إذا دعي لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع الوعظ لأن الكفر قد أماته والضلال قد أصمه .
قوله : { وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْ مُدْبِرِينَ } فالأصم لا يسمع الدعاء مقبلاً ولا مدبراً ولكن إذا دعي مقبلاً فقد يفهم الإشارة وإن لم يسمع الصوت ، فإذا دعي مدبراً فهو لا يفهم الإشارة ولا يسمع الصوت فلذلك صارت حاله مدبراً أسوأ ، فذكره بأسوأ أحواله . وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قوله : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } قال قتادة : من نطفة
. { ثُمَّ جَعَلَ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } قاله مجاهد : شباباً
. { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } يعني هرماً وشيبة ، قال قتادة : لأن بياض الشعر نذير بالفناء ، قال الشاعر :
أُريت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير
{ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } من قوة وضعف
. { وَهُوَ الْعَلِيمُ } بتدبيره { الْقَدِيرُ } على إرادته .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ } قال ابن عباس : الكفار
. { مَا لَبِثواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : في الدنيا استقلالاً لأجل الدنيا لما عاينوا من الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : في قبورهم ما بين موتهم ونشورهم ، قاله يحيى بن سلام .
{ كَذلِكَ } أي هكذا ، قاله ابن جبير
. { كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يكذبون في الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : يصدون في الدنيا عن الإيمان بالبعث . قاله يحيى بن سلام .
قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله الكلبي .
الثاني : أهل الكتاب .
{ وَالإِيمَانَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : الإيمان بالكتاب المتقدم من غير تحريف له ولا تبديل فيه .
الثاني : الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لقد لبثتم في علم الله ، قاله الفراء .
الثاني : لقد لبثتم بما بيانه في كتاب الله ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } في كتاب الله والإيمان { لَقَدْ لَبِثْتُم إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } قاله قتادة .
وفي { لَبِثْتُمْ } قولان :
أحدهما : لبثوا في قبورهم .
الثاني : في الدنيا أحياء وفي قبورهم أموات .
{ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } يعني الذي كذبتم به في الدنيا
. { وَلكِنَّكُمْ كِنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } أي لا تعلمون في الدنيا أن البعث حق وقد علمتم الآن أنه حق .
قوله : { فَيَومَئِذٍ } يعني يوم القيامة .
{ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أي عذرهم الذي اعتذروا به في تكذيبهم
. { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يعاتبون على سيئاتهم ، قاله النقاش .
الثاني : لا يستتابون ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : لا يطلب منهم العتبى وهو أن يُرَدُوا إلى الدنيا لِيُعْتَبُوا أي ليؤمنوا ، قاله يحيى بن سلام .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قوله : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل وجهين
: أحدهما : أن وعد الله في نصرك وتأييدك حق .
الثاني : أن وعده في انتقامه من أعدائك حق .
{ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يَسْتَعْجَلَنَّكَ ، قاله ابن شجرة .
الثاني : لا يَسْتَفِزَّنَّكَ ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : لا يستنزلنك ، قاله النقاش .
{ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يؤمنون .
الثاني : لا يصدقون بالبعث والجزاء ، روى سعيد عن قتادة أن رجلاً من الخوارج قال لعلي كرم الله وجهه وهو خلفه في صلاة الصبح { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية . فقال له عليّ وهو في الصلاة { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } ، والله أعلم .
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قوله : { الم . تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : المحكم أَحكمت آياته بالحلال والحرام والأحكام . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : المتقن لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو قريب من المعنى الأول ، قاله ابن شجرة .
الثالث : البين أنه من عند الله ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه يظهر من الحكمة بنفسه كما يظهره الحكيم بقوله ، قاله ابن عيسى .
قوله تعالى : { هُدًى } فيه وجهان :
أحدهما : هدى من الضلالة ، قاله الشعبي .
الثاني : هدى إلى الجنة ، قاله يحيى بن آدم .
{ وَرَحْمَةً } فيه وجهان
: أحدهما : أن القرآن رحمة من العذاب لما في من الزجر عن استحقاقه وهو وجهان :
أحدهما : أنه خرج مخرج النعت بأنه هدى ورحمة .
الثاني : أنه خرج مخرج المدح بأن فيه هدى ورحمة .
{ لِلْمُحْسِنِينَ } وفي الإحسان ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه الإيمان الذي يحسن به إلى نفسه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنه الصلة والصلاة ، قاله الحسن .
الثالث : ما روى عمر بن الخطاب قال : بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما الإحسان؟ قال : « أًن تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَّمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ . وَتُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحبُ لِنَفْسِكَ » قال : فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال : « نعم » قال الرجل : صدقت . ثم انطلق الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « عَلَيَّ بِالرَّجُلِ » . فطلبناه فلم نقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُ أَكْبَرُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيِهِ السَّلاَمُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُم أَمُورَ دِينِكُم
» . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِم } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على نور من ربهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : على بينة ، قاله ابن جبير .
الثالث : على بيان ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بمعنى السعداء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : المنجحون ، قاله ابن شجرة .
الثالث : الناجحون ، قاله النقاش .
الرابع : أنهم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربواْ ، قاله ابن عباس .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
قوله تعالى : { وَمِن النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
} » . الثاني : الغناء ، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة
. الثالث : أنه الطبل ، قاله عبد الكريم ، والمزمار ، قاله ابن زخر .
الرابع : أنه الباطل ، قاله عطاء .
الخامس : أنه الشرك بالله ، قاله الضحاك وابن زيد .
السادس : ما ألهى عن الله سبحانه ، قال الحسن .
السابع : أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل ، قاله سهل بن عبد الله .
ويحتمل إن لم يثبت فيه نص تأويلاً ثامناً : أنه السحر والقمار والكهانة .
وفيمن نزلت قولان :
أحدهما : أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمداً قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بحديث رستم واسفنديار ويقول لهم إن حديثي أحسن من قرآن محمد ، حكاه الفراء والكلبي .
الثاني : أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل بها الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيسى .
{ لِيُضِلَّ عَن سَبيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : ليصد عن دين الله ، قاله الطبري .
الثاني : ليمنع من قراءة القرآن ، قاله ابن عباس .
{ بِغَيرِ عِلْمٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : بغير حجة .
الثاني : بغير رواية .
{ وَيَتَّخِذُهَا هُزُواً } فيه وجهان
: أحدهما : يتخذ سبيل الله هزواً يكذب بها ، قاله قتادة . وسبيل الله دينه .
الثاني : يستهزىء بها ، قاله الكلبي .
{ وَأُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي مذل .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
قوله تعالى : { خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } فيه قولان
: أحدهما : بعمد لا ترونها ، قاله عكرمة ومجاهد .
الثاني : أنها خلقت بغير عمد ، قاله الحسن وقتادة .
{ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي جبالاً
. { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تميد بكم وفيه وجهان
: أحدهما : معناه أن لا تزول بكم ، قاله النقاش .
الثاني : أن لا تتحرك بكم ، قاله يحيى بن سلام . وقيل : إن الأرض كانت تتكفأ مثل السفينة فأرساها الله بالجبال وأنها تسعة عشر جبلاً تتشعب في الأرض حتى صارت لها أوتاداً فتثبتت وروى أبو الأشهب عن الحسن قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فلما رأت الملائكة ما تفعل الأرض قالوا : ربنا هذه لا يقر لك على ظهرها خلق ، فأصبح قد ربطها بالجبال فلما رأت الملائكة الذي أرسيت به الأرض عجبواْ فقالوا : يا ربنا هل خلقت خلقاً هو أشد من الجبال؟ قال : نَعَم الرِّيحُ قالوا : هل خلقت خلقاً هو أشد من الريح؟ قال : « نَعَمْ ابنُ آدَمَ » .
{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : وخلق فيها ، قاله السدي .
الثاني : وبسط ، قاله الكلبي .
الثالث : فرق فيها من كل دابة وهو الحيوان سُمِّيَ بذلك لدبيبه والدبيب الحركة .
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم الناس هم نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم ، قاله الشعبي .
الثاني : أن نبات الأرض أشجارها وزرعها ، والزوج هو النوع .
وفي الكريم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الحسن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الطيب الثمر ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه اليانع ، قاله ابن كامل .
ويحتمل رابعاً : أن الكريم ما كثر ثمنه لنفاسة القدر .
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } اختلف في نبوته على قولين
: أحدهما : أنه نبي ، قاله عكرمة والشعبي .
الثاني : أنه حكيم وليس بنبي ، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب . ووهب بن منبه ، قال إسماعيل : كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة . وقال قتادة : خير الله لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح ينطق بها ، فقيل له : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال : إنه لو أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيه العون منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إليّ .
واختلف في جنسه على قولين :
أحدهما : أنه كان من النوبة قصيراً أفطس ، قاله جابر بن عبد الله .
الثاني : كان عبداً حبشياً ، قاله ابن عباس .
واختلف في صنعته على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان خياطاً بمصر ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنه كان راعياً فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : قَدَرُ الله وأدائي الأمانة ، وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر .
الثالث : أنه كان نجاراً فقال له سيده : اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له : ما كان فيها شيء أطيب من هذين فسكت ، ثم أمره فذبح له شاة ثم قال : أَلقِ أخبثها مضغتين فألقى اللسان والقلب فقال له : أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت باللسان والقلب فقال إنه ليس شيىء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا ، قاله خالد الربعي .
واختلف في زمانه على قولين :
أحدهما : أنه كان فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام .
الثاني : أنه ولد كوش بن سام بن نوح ، ولد لعشر سنين من ملك داود عليه السلام وبقي إلى زمن يونس عليه السلام .
وفي { الْحِكْمَةَ } التي أوتيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الفهم والعقل ، قاله السدي .
الثاني : الفقه والعقل والإصابة في القول ، قاله مجاهد .
الثالث : الأمانة .
{ أَنِ اشكُرْ لِلَّهِ } يعني نعم اللَّه ، فيه وجهان
: أحدهما : معنى الكلام : ولقد آتيناه الحكمة وآتيناه الشكر لله ، قاله المفضل .
الثاني : آتيناه الحكمة لأن يشكر لله ، قاله الزجاج .
وفي شكره أربعة أوجه :
أحدها : هو حمده على نعمه .
الثاني : هو ألا يعصيه على نعمه .
الثالث : هو ألا يرى معه شريكاً في نعمه عليه .
الرابع : هو طاعته فيما أمره .
{ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي يعود شكره إلى نفسه لأنه على النعمة إذا زاد من الشكر .
{ وَمَن كَفَرَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني كفر بالله واليوم الآخر ، قاله مجاهد .
الثاني : كُفْرُ النعمة ، قاله يحيى بن سلام .
{ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فيه وجهان
: أحدهما : غني عن خلقه حميد في فعله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : غني عن شكره مستحمد إلى خلقه ، قاله ابن عيسى .
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } أي واذكر يا محمد مقالة لقمان لابنه ، وفي اسم ابنه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مشكم ، قاله الكلبي .
الثاني : أنعم ، حكاه النقاش .
الثالث : بابان .
{ وَهُوَ يَعِظُهُ } أي يُذكِرُهُ ويؤدبه
. { يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } يعني عند اللَّه ، وسماه ظلماً لأنه قد ظلم به نفسه ، وقيل إنه قال ذلك لابنه وكان مشركاً ، وقوله { يَا بُنَيَّ } ليس هو حقيقة التصغير وإن كان على لفظه وإنما هوعلى وجه الترقيق كما يقال للرجل يا أُخَيّ . وللصبي هو كُوَيّس .
قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } يعني براً وتحنناً عليهما . وفيهما قولان :
أحدهما : أنها عامة وإن جاءت بلفظ خاص والمراد به جميع الناس ، قاله ابن كامل .
الثاني : خاص في سعد بن أبي وقاص وُصي بأبويه؛ واسم أبيه مالك واسم أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ، حكاه النقاش .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه شدة على شدة ، قاله ابن عباس .
الثاني : جهداً على جهد . قاله قتادة .
الثالث : ضعفاً على ضعف ، قاله الحسن وعطاء . ومن قول قعنب ابن أم صاحب :
هل للعواذل من ناهٍ فيزجرها ... إن العواذل فيها الأيْنُ والوهن
يعني الضعف
. ثم فيه على هذا التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : ضعف الولد على ضعف الوالدة ، قاله مجاهد .
الثاني : ضعف نطفة الأب على نطفة الأم ، قاله ابن بحر .
الثالث : ضعف الولد حالاً بعد حال فضعفه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً سوياً ثم مولوداً ثم رضيعاً ثم فطيماً ، قاله أبو كامل .
ويحتمل رابعاً : ضعف الجسم على ضعف العزم .
{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } يعني بالفصال الفطام من رضاع اللبن
. واختلف في حكم الرضاع بعد الحولين هل يكون في التحريم كحكمه في الحولين على أربعة أقاويل :
أحدهما : أنه لا يحرم بعد الحولين ولو بطرفة عين لتقدير الله له بالحولين ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ رَضَاعةَ بَعْدَ الحَولَينِ » وهذا قول الشافعي .
الثاني : أنه يحرم بعد الحولين بأيام ، وهذا قول مالك .
الثالث : يحرم بعد الحولين بستة أشهر استكمالاً لثلاثين شهراً لقوله : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] قاله أبو حنيفة .
الرابع : أن تحريمه غير مقدر وأنه يحرم في الكبير كتحريمه في الصغير ، وهذا قول بعض أهل المدينة .
{ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي اشكر لي النعمة ولوالديك التربية . وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة ، قال قتادة : إن الله فرق بين حقه وحق الوالدين وقال اشكر لي ولوالديك .
{ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } يعني إلى اللَّه المرجع فيجازي المحسن بالجنة والمسيء بالنار ، وقد روى عطاء عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رِضَا الرَّبِّ مِن رِضَا الوَالَدِ وَسَخَط الرَّبِّ مَن سَخَط الوَالِدِ
» . قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ } يعني أراداك
. { عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } معناه أنك لا تعلم أن لي شريكاً . { فَلا تُطِعْهُمَا } يعني في الشرك
. { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي احْتِسَاباً . قال قتادة : تعودهما إذا مرضا وتشيعهما إذا ماتا ، وتواسيهما مما أعطاك الله تعالى .
{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } قال يحيى بن سلام : من أقبل بقلبه مخلصاً وهو النبي صلى الله عليه السلام والمؤمنون . روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : حلفت أم سعد ألا تأكل ولا تشرب حتى تشرب حتى يتحوّل سعد عن دينه فأبى عليها فلم تزل كذلك حتى غشى عليها ثم دعت الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية .
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قوله تعالى : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } وهذا مثل مضروب لمثقال حبة من خردل . قال قتادة : من خير أو شر .
{ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة قاله الرُبَيعُ بن أنس والسدي . قال عبد الله بن الحارث وهي صخرة على ظهر الحوت ، قال الثوري : بلغنا أن خضرة السماء من تلك الصخرة ، وقال ابن عباس هذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض . وقيل إن هذه الصخرة هي سجِّين التي يكتب فيها أعمال الكفار ولا ترفع إلى السماء .
الثاني : معنى قوله في صخرة أي في جبل ، قاله قتادة .
{ أَوْ فِي السَّمَواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } فيه وجهان
: أحدهما : بجزاء ما وازنها من خير أو شر .
الثاني : يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء ، كذلك قليل العمل من خير أو شر يعلمه الله فيجازي عليه .
{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } باستخراجها . { خَبِيرٌ } بمكانها ، قاله الربيع بن أنس
. روى علي بن رباح اللخمي قال : لما وعظ لقمان ابنه بهذا أخذ حبة من خردلٍ فأتى بها البحر فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء ثم ذكرها وبسط يده فبعث الله ذبابة فاختطفتها وحملتها حتى وضعتها في يده .
قوله تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : على ما أصابك من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني : على ما أصابك من البلوى في نفسك أو مالك .
{ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ما أمر الله به من الأمور .
الثاني : من ضبط الأمور ، قاله المفضل .
الثالث : من قطع الأمور .
وفي العزم والحزم وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما .
الثاني : معناهما مختلف وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : أن الحزم الحذر والعزم القوة ، ومنه المثل : لا خير في عزم بغير حزم .
الثاني : أن الحزم التأهب للأمر والعزم النفاذ فيه ، ومنه قولهم في بعض الأمثال : رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم .
قوله تعالى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع .
{ تُصَاعِر } بألف ، وتصاعر تفاعل من الصعر وفيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه الكبر ، قاله ابن عباس .
الثاني : الميل ، قاله المفضل .
الثالث : التشدق في الكلام ، حكاه اليزيدي ، وتُصِّعرْ هو على معنى المبالغة .
وفي معنى الآية خمسة أوجه :
أحدها : أنه إعراض الوجه عن الناس تكبراً ، قاله ابن جبير .
الثاني : هوالتشدق ، قاله إبراهيم النخعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : أن يلوي شدقه عند ذكر الإنسان احتقاراً ، قاله أبو الجوزاء ، قال عمرو بن كلثوم .
وكنا إذا الجبّارُ صعر خَدّه ... أقمنا له من صعره فتقوّما
الرابع : هو أن يعرض عمن بينه وبينه إحنة هجراً له فكأنه أمر بالصفح والعفو ، قاله الربيع بن أنس .
{ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني بالمعصية ، قاله الضحاك .
الثاني : بالخيلاء والعظمة ، قاله ابن جبير .
الثالث : أن يكون بطراً أشراً ، قاله ابن شجرة .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المنان ، قاله أبو ذر .
الثاني : المتكبر ، قاله مجاهد .
الثالث : البطر ، قاله ابن جبير . وروى أبو ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ثَلاَثَةٌ يَشْنَؤُهُم اللَّهُ : الفَقِيرُ المُخْتَالُ ، والبَخِيلُ المَنَّانُ ، والبَيّعُ الحَلاَّفُ
» . { فَخُورٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المتطاول على الناس بنفسه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنه المفتخر عليهم بما يصفه من مناقبه ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله فيما أعطاه ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه تواضع في نفسك ، قاله مجاهد .
الثاني : انظر في مشيك موضع قدمك ، قاله الضحاك .
الثالث : اسرْع في مشيتك ، قاله يزيد بن أبي حبيب .
الرابع : لا تسرع في المشي ، حكاه النقاش . وقد روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ وَجْهِ المَرْءِ
» . الخامس : لا تختل في مشيتك ، قاله ابن جبير
. { وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ } أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة .
{ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } يعني شر الأصوات ، قاله عكرمة وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أقبح الأصوات ، قاله ابن جبير .
الثاني : قد تقدم .
الثالث : أشد ، قاله الحسن .
الرابع : أبعد ، قاله المبرد .
{ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فيه وجهان
: أحدهما : أنها العطسة المرتفعة ، قاله جعفر الصادق .
الثاني : أنه صوت الحمار .
وفي تخصيصه بالذكر من بين الحيوان وجهان :
أحدهما : لأنه أقبحها في النفس وأنكرها عند السمع وهو عند العرب مضروب به المثل ، قال قتادة : لأن أوله زفير وآخره شهيق .
الثاني : لأن صياح كل شيء تسبيحه إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، قاله سفيان الثوري ، وقد حكي عن بشر بن الحارث أنه قال : نهيق الحمار دعاء على الظلمة .
والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانواْ في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز ، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل ، فقال الله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته .
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } وفي تسخيره ذلك وجهان :
أحدهما : تسهيله .
الثاني : الانتفاع به .
{ وَأَسْبَغَ عَلَيَكُمْ نِعَمَهُ } قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بغير تنوين على الجمع والباقون بالتنوين يعني نعمة واحدة ، وفي هذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنه عنى الإسلام فجعلها واحدة ، قاله إبراهيم .
الثاني : أنه قصد التكثير بلفظ الواحد كقول العرب : كثر الدينار والدرهم ، والأرض سيف وفرس ، وهذا أبلغ في التكثير من لفظ الجمع ، قاله ابن شجرة .
وفي قوله : { ظَاهِرةً وَبَاطِنَةً } خمسة أقاويل :
أحدها : أن الظاهرة الإسلام ، والباطنة ما ستره الله من المعاصي قاله مقاتل .
الثاني : أن الظاهرة على اللسان ، والباطنة في القلب ، قاله مجاهد ووكيع .
الثالث : أن الظاهرة ما أعطاهم من الزي والثياب ، والباطنة متاع المنازل ، حكاه النقاش .
الخامس : الظاهرة الولد ، والباطنة الجماع .
ويحتمل سادساً : أن الظاهرة في نفسه ، والباطنة في ذريته من بعده .
ويحتمل سابعاً : أن الظاهرة ما مضى ، والباطنة ما يأتي .
ويحتمل ثامناً : أن الظاهرة في الدنيا ، والباطنة في الآخرة .
ويحتمل تاسعاً : أن الظاهرة في الأبدان ، والباطنة في الأديان .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيرِ عَلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كَتَابٍ مُنِيرٍ } فيه قولان :
أحدهما : نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته .
الثاني : أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يقول : إن الملائكة بنات الله ، قاله أبو مالك .
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
قوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلّى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه يخلص لله ، قاله السدي .
الثاني : يقصد بوجهه طاعة الله .
الثالث : يسلم نفسه مستسلماً إلى الله وهو محسن يعني في عمله .
{ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فيها أربعة تأويلات
: أحدها : قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : القرآن ، قاله أنس بن مالك .
الثالث : الإسلام ، قاله السدي .
الرابع : الحب في الله والبغض في الله ، قاله سالم بن أبي الجعد .
وفي تسميتها بالعروة الوثقى وجهان :
أحدهما : أنه قد استوثق لنفسه فيما تمسك به كما يستوثق من الشيء بإمساك عروته . الثاني : تشبيهاً بالبناء الوثيق لأنه لا ينحل .
{ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبةُ الأُمُورِ } قال مجاهد : وعند الله ثواب ما صنعواْ .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
قوله تعالى : { وَلَو أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ . . } الآية . وفي سبب نزولها قولان :
أحدهما : ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام يعني القرآن يوشك أن ينفد ، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه .
الثاني : ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك : { وَمَا أُوتِيْتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإٍسراء : 85 ] إِيانا تريد أم قومك؟ قال : « كُلٌ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الُعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أَنْتُم وَهُمْ » قالوا : فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ » فنزلت هذه الآية
. ومعنى : { . . . يَمُدُّهُ . . . } أي يزيد فيه شيئاً بعد شيء فيقال في الزيادة .
مددته وفي المعونة أمددته . { . . . مَا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة : نفد .
وفي { كَلِمَاتُ اللُّهِ } هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنها نعم الله على أهل طاعته في الجنة .
الثاني : على أصناف خلقه .
الثالث : جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه .
الرابع : أنها علم الله .
قوله تعالى : { مَا خَلْقَكُمُ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يقال إنها نزلت في أُبي بن خلف وأبي الأشدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إِن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تقول إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية لأن الله لا يصعب عليه ما يصعب على العباد وخلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة .
{ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } سميع لما يقولون ، بصير بما يفعلون .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِج النَّهارِ فِي اللَّيلِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يأخذ الصيف من الشتاء ويأخذ الشتاء من الصيف ، قاله ابن مسعود ومجاهد .
الثاني : ينقص من النهار ليجعله في الليل وينقص من الليل ليجعله في النهار ، قاله الحسن وعكرمة وابن جبير وقتادة .
الثالث : يسلك الظلمة مسالك الضياء ويسلك الضياء مسالك الظلمة فيصير كل واحد منهما مكان الآخر ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل رابعاً : أنه يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل ، ويدخل ضوء النهار في ظلمة الليل إذا أقبل ، فيصير كل واحد منهما داخلاً في الآخر .
{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال وإتماماً للمنافع .
{ كَلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى } فيه وجهان
: أحدهما : يعني إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : إلى يوم القيامة ، قاله الحسن .
{ وَأَنَّ اللَّهَ بَمَا َعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعني بما تعملون في الليل والنهار
. قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الله الذي لا إله غيره ، قاله ابن كامل .
الثاني : أن الحق اسم من أسماء الله ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن الله هو القاضي بالحق .
ويحتمل رابعاً : أن طاعة الله حق .
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ } فيه وجهان
: أحدهما : الشيطان هو الباطل ، قاله مجاهد .
الثاني : ما أشركوا بالله تعالى من الأصنام والأوثان ، قاله ابن كامل .
{ وأن الله هو العلي الكبير } أي العلي في مكانته الكبير في سلطانه .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : برحمة الله لكم في خلاصكم منه .
الثاني : بنعمة الله عليكم في فائدتكم منه .
{ لِيُرِيَكُم مِّنَ ءَايَاتِهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني جري السفن فيه ، قاله يحيى بن سلام ، وقال الحسن : مفتاح البحار السفن ، ومفتاح الأرض الطرق ، ومفتاح السماء الدعاء .
الثاني : ما تشاهدونه من قدرة الله فيه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : ما يرزقكم الله منه ، قاله النقاش .
{ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : صبَّار على البلوى شكور على النعماء .
الثاني : صبَّار على الطاعة شكور على الجزاء .
قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } وإلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } فيه وجهان :
أحدهما : كالسحاب ، قاله قتادة .
الثاني : كالجبال ، قاله الحسن ويحيى بن سلام .
وفي تشبيهه بالظل وجهان :
أحدهما : لسواده ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : لعظمه .
{ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } يعني موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه .
{ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى الْبَرِّ } يعني من البحر
. { فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه عَدل في العهد ، يفي في البر بما عاهَد الله عليه في البحر ، قاله النقاش .
الثاني : أنه المؤمن المتمسك بالتوحيد والطاعة ، قاله الحسن .
الثالث : أنه المقتصد في قوله وهو كافر ، قاله مجاهد .
{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه الجاحد ، قاله عطية .
الثاني : وهو قول الجمهور أنه الغدار ، قال عمرو بن معدي كرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدرٍ وختر
وجحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات دلائلها .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
قوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخْشُوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه لا يغني والد عن ولده يقال جزيت عنك بمعنى أغنيت عنك ، قاله ابن عيسى . عيسى .
الثاني : لا يقضي والد عن ولده ، قاله المفضل وابن كامل .
الثالث : لا يحمل والد عن ولده ، قال الراعي :
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزي إلا كاملٌ وابن كامل
أي حملت
. { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ } يعني البعث والجزاء
. { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا } يحتمل وجهين
: أحدهما : لا يغرنكم الإمهال عن الانتقام .
الثاني : لا يغرنكم المال عن الإسلام .
{ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهي تقرأ على وجهين
: أحدهما : بالضم .
الثاني : بالفتح وهي قراءة الجمهور .
ففي تأويلها بالضم وجهان :
أحدهما : أن الغُرور الشيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : الأمل وهو تمني المغفرة في عمل المعصية ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أن تخفي على الله ما أسررت من المعاصي .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن قيامها مختص بعلمه .
الثاني : أن قيامها موقوف على إرادته .
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } فيما يشاء من زمان ومكان
. { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ } فيه وجهان
: أحدهما : من ذكر وأنثى ، سليمٍ وسقيم .
الثاني : من مؤمن وكافر وشقي وسعيد .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } فيه وجهان
: أحدهما : من خير أو شر .
الثاني : من إيمان أو كفر .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } فيه وجهان
: أحدهما : على أي حكم تموت من سعادة أو شقاء ، حكاه النقاش .
الثاني : في أي أرض يكون موته ودفنه وهو أظهر . وقد روى أبو مليح عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحٍ عَبْدٍ بَأَرْضٍ جَعَلَ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتهِ حَتَّى يُقَدِمَهَا » ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } إلى قوله : { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } .
وقال هلال بن إساف : ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عليم بالغيب خبير بالنية .
الثاني : عليم بالأعمال خبير بالجزاء .
ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى تقول الساعة؟ فنزلت هذه الآية ، والله أعلم .
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
قوله تعالى : { الم . تَنزِيلُ الْكِتَابِ } يعني القرآن
. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه تنزيل
. { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } والريب هو الشك الذي يميل إلى السوء والخوف ، قال أبو ذؤيب :
أسرين ثم سمعن حساً دونه ... سرف الحجاب وريب قرع يقرع
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } يعني كفار قريش يقولون إن محمداً افترى هذا القرآن ويكذبه .
{ بَلْ هَوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يعني القرآن حق نزل عليك من ربك
. { لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } يعني قريشاً ، قاله قتادة : كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } فيه وجهان
: أحدهما : يقضي الأمر ، قاله مجاهد .
الثاني : ينزل الوحي ، قاله السدي .
{ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ } قال السدي من سماء الدنيا إلى الأرض العليا وفيه وجهان :
أحدهما : يدبر الأمر في السماء وفي الأرض .
الثاني : يدبره في السماء ثم ينزل به الملك إلى الأرض وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأمَّا ميكائيل فموكل بالقطر والماء ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم .
{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، قاله النقاش .
الثالث : أنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة ، قاله ابن شجرة .
{ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ثم كذلك أبداً ، قاله مجاهد .
الثاني : أن الملك ينزل ويصعد في يوم مسيرة ألف سنة ، قاله ابن عباس . والضحاك .
الثالث : أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة ومقدار صعوده خمسمائة سنة ، قاله قتادة : فيكون بين السماء والأرض على قول ابن عباس والضحاك مسيرة ألف سنة ، وعلى قول قتادة والسدي مسيرة خمسمائة سنة .
{ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي تحسبون من أيام الدنيا وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم وليس بيوم يستوعب نهاراً بين ليلتين لأنه ليس عند الله ليل استراحة ولا زمان تودع ، والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم كما قال الشاعر :
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سيرٍ إلى الأعداءِ تأويب
وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم .
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
قوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه جعل كل شيء خلقه حسناً حتى جعل الكلب في خلقه حسناً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أحكم كل شيء خلقه حتى أتقنه ، قاله مجاهد .
الثالث : أحسن إلى كل شيء خلق فكان خلقه له إحساناً ، قاله علي بن عيسى .
الرابع : ألهم ما خلقه ما يحتاجون إليه حتى علموه من قولهم فلان يحسن كذا أي يعلمه .
الخامس : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ثم هداه إليه ، رواه حميد بن قيس .
ويحتمل سادساً : أنه عرف كل شيء خلقه وأحسنه من غير تعلم ولا سبق مثال حتى ظهرت فيه القدرة وبانت فيه الحكمة .
{ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ } يعني آدم ، روى عون عن أبي زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على ألوان الأرض منهم الأبيض والأحمر وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك .
{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } أي ذريته { مِن سُلاَلَةٍ } لاِنسِلاَلِهِ من صلبه { مِن مَّآءٍ مَّهِينٍ } قال مجاهد ضعيف .
قوله تعالى : { ثُمَّ سَوَّاهُ } فيه وجهان :
أحدهما : سوى خلقه في الرحم .
الثاني : سوى خلقه كيف يشاء .
{ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : من قدرته ، قاله أبو روق .
الثاني : من ذريته ، قاله قتادة .
الثالث : من أمره أن يكون فكان ، قاله الضحاك .
الرابع : روحاً من روحه أي من خلقه وأضافه إلى نفسه لأنه من فعله وعبر عنه بالنفخ لأن الروح من جنس الريح .
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } يعني القلوب وسمى القلب فؤاداً لأنه ينبوع الحرارة الغريزية مأخوذ من المفتأد وهو موضع النار ، وخصص الأسماع والأبصار والأفئدة بالذكر لأنها موضع الأفكار والاعتبار .
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
قوله : { وَقَالُواْ أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : هلكنا ، قاله مجاهد .
الثاني : صرنا فيه رفاتاً وتراباً ، قاله قتادة والعرب تقول لكل شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيه أثره قد ضل ، قال الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... تقذف الأتيُّ به فَضَلَّ ضلالاً .
الثالث : غُيِّبنا في الأرض ، قاله قطرب وأنشد النابغة :
فآب مُضلُّوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزمٌ ونائل
وقرأ الحسن : صللنا ، بصاد غير معجمة وفيه على قراءته وجهان
: أحدهما : أي أنتنت لحومنا من قولهم صل اللحم إذا أنتن ، قاله الحسن .
الثاني : صللنا من الصلة وهي الأرض اليابسة ومنه قوله تعالى : { مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ } { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أَتُعَادُ أجسامنا للبعث خلقاً جديداً تعجباً من إعادتها وإنكاراً لبعثهم وهو معنى قوله تعالى :
{ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِم كَافِرُونَ } وقيل إن قائل ذلك أُبي بن خلف
. قوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ } أي يقبض أرواحكم والتوفي أخذ الشيء على تمام ، مأخوذ من توفية العدد ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان .
ثم في توفي ملك الموت لهم قولان :
الأول : بأعوانه .
الثاني : بنفسه . روى جعفر الصادق عن أبيه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [ يا ملك الموت ] : « ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ » فقال ملك الموت عليه السلام يا محمد طب نفساً وقر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق واعلَمْ أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، واللَّه يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله تعالى هو الآمر بقبضها ، قال جعفر إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلوات .
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم تُرْجعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : إلى جزائه .
الثاني : إلى أن لا يملك لكم أحد ضراً ولاً نفعاً إلا اللَّه .
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُسِهِم عِند رَبِّهمُ } أي عند محاسبة ربهم وفيه أربعة أوجه :
أحدها : من الغم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : من الذل ، قاله ابن شجرة .
الثالث : من الحياء ، حكاه النقاش .
الرابع : من الندم ، قاله يحيى بن سلام .
{ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا ، قال قتادة ، أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع .
{ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } أي ارجعنا إلى الدنيا نعمل فيها صالحاً
. { إِنَّا مُوقِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : مصدقون بالبعث ، قاله النقاش .
الثاني : مصدقون بالذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق ، قاله يحيى بن سلام .
قال سفيان : فأكذبهم الله فقال : { وَلَو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنهُ } [ الأنعام : 28 ] الآية .
قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍٍ هُدَاهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هدايتها للإيمان .
الثاني : للجنة .
الثالث : هدايتها في الرجوع إلى الدنيا لأنهم سألوا الرجعة ليؤمنوا .
{ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنِّي } فيه وجهان
: أحدهما : معناه سبق القول مني ، قاله الكلبي ويحيى بن سلام .
الثاني : وجب القول مني ، قاله السدي كما قال كثير :
فإن تكن العتبى فأهلاً ومَرْحباً ... وحقت لها العتبى لدنيا وقلّت
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } يعني من عصاه من الجنة والناس . وفي الجنة قولان :
أحدهما : أنه الجن ، قاله ابن كامل .
الثاني : أنهم الملائكة ، رواه السدي عن عكرمة ، وهذا التأويل معلول لأن الملائكة لا يعصون الله فيعذبون . وسموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار ومنه قول زيد بن عمرو :
عزلت الجن والجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } فيه وجهان :
أحدهما : فذوقوا عذابي بما تركتم أمري ، قال الضحاك .
الثاني : فذوقوا العذاب بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم ، قاله يحيى بن سلام .
{ إِنَّا نَسِينَاكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : إنا تركناكم من الخير ، قاله السدي .
الثاني : إنا تركناكم في العذاب ، قاله مجاهد .
{ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } وهو الدائم الذي لا انقطاع له
. { بِمَ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني في الدنيا من المعاصي ، وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوماً لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام ، قال ابن أبي ربيعة :
فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا رب ما كذب الزعم
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئَايَاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : يصدق بحجتنا ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يصدق بالقرآن وآياته ، قاله ابن جبير .
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } فيه وجهان
: أحدهما : الذين إذا دعوا إلى الصلوات الخمس بالأذان أو الإقامة أجابوا إليها قاله أبو معاذ ، لأن المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من أبواب المساجد .
الثاني : إذا قرئت عليهم آيات القرآن خضعوا بالسجود على الأرض طاعة لله وتصديقاً بالقرآن . وكل ما سقط على شيء فقد خر عليه قال الشاعر :
وخر على الألاءِ ولم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
{ وَسَبَّحُواْ بِحْمْدِ رَبِّهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : معناه صلوا حمداً لربهم ، قاله سفيان .
الثاني : سبحوا بمعرفة الله وطاعته ، قاله قتادة .
{ وَهُمْ لاَ يَستَكْبِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : عن عبادته ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عن السجود كما استكبر أهل مكة عن السجود له ، حكاه النقاش .
قوله : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عِنِ الْمَضَاجِعِ } أي ترتفع عن مواضع الاضطجاع قال ابن رواحة :
يبيت يجافي جنبه عن فِراشِه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان
: أحدهما : لذكر الله إما في صلاة أو في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : للصلاة -روى ميمون بن شبيب عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال : « إِنْ شِئْتَ أَنبَأْتُكَ بَأبوابِ الْخَيرِ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَة وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيلِ » ثم تلا هذه الآية .
وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل :
أحدها : التنفل بين المغرب والعشاء ، قاله قتادة وعكرمة .
الثاني : صلاة العشاء التي يقال لها صلاة العتمة ، قاله الحسن وعطاء .
الثالث : صلاة الصبح والعشاء في جماعة ، قاله أبو الدرداء وعبادة .
الرابع : قيام الليل ، قاله مجاهد والأوزاعي ومالك وابن زيد .
{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } فيه وجهان
: أحدهما : خوفاً من حسابه وطمعاً في رحمته .
الثاني : خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه .
ويحتمل ثالثاً : يدعونه في دفع ما يخافون والتماس ما يرجون ولا يعدلون عنه في خوف ولا رجاء .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يؤتون الزكاة احتساباً لها ، قاله ابن عباس .
الثاني : صدقة يتطوع بها سوى الزكاة ، قاله قتادة .
الثالث : النفقة في طاعة الله ، قال قتادة : أنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها .
الرابع : أنها نفقة الرجل على أهله .
قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه للذين تتجافي جنوبهم عن المضاجع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه للمجهدين قاله تبيع . وفي { قُرَّةِ أَعْيُنٍ } التي أخفيت لهم أربعة أوجه :
أحدها : رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِي أَعْدَدْتُ لِعبَادي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ اقْرَأُواْ إِنْ شِئْتُم : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } » الآية .
الثاني : أنه جزاء قوم أخفوا عملهم فأخفى الله ما أعده لهم . قال الحسن بالخفية : خفية وبالعلانية علانية .
الثالث : أنها زيادة تحف من الله ليست في حياتهم يكرمهم بها في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه زيادة نعيمهم وسجود الملائكة لهم ، قاله كعب .
ويحتمل خامساً : اتصال السرور بدوام النعيم .
{ جَزَآءً بِمَ كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني من فعل الطاعات واجتناب المعاصي .
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } المؤمن هنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفاسق عقبة بن أبي معيط قال ابن عباس : سابّ عقبة علياً فقال أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأملأ منك حشواً فقال له علي كرم الله وجهه : ليس كما قلت يا فاسق فنزلت ، فيهما هذه الآية .
{ لاَ يَسْتَوُونَ } قال قتادة : لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة .
قوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ } أما العذاب الأدنى ففي الدنيا وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنها مصائب الدنيا في الأنفس والأموال ، قاله أُبي .
الثاني : القتل بالسيف ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه الحدود ، قاله ابن عباس .
الرابع : القحط والجدب ، قاله إبراهيم .
الخامس : عذاب القبر ، قاله البراء بن عازب ومجاهد .
السادس : أنه عذاب الدنيا كلها ، قاله ابن زيد .
السابع : أنه غلاء السعر والأكبر خروج المهدي ، قاله جعفر الصادق .
ويحتمل ثامناً : أن العذاب الأدنى في المال ، والأكبر في الأنفس .
والعذاب الأكبر عذاب جهنم في الآخرة .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يرجعون إلى الحق ، قاله إبراهيم .
الثاني : يتوبون من الكفر ، قاله ابن عباس .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
قوله تعالى : { وَلَقْدَ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكَتِابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ولقد لقيته ليلة الإسراء روى أبو العالية الرياحي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَأيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عمرانَ رَجُلاً طُوَالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِن رِجَالِ شَنُوءَةَ . وَرَأَيْتُ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَجُلاً مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأُسِ » قال أبو العالية قد بين الله ذلك في قوله : { وَاسْأَلْ مِنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } .
الثاني : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها .
الثالث : فلا تكن في شك من لقاء موسى في الكتاب ، قاله مجاهد والزجاج .
الرابع : فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقيه موسى ، قاله الحسن .
الخامس : فلا تكن في شك من لقاء موسى لربه حكاه النقاش .
{ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه وجهان :
أحدهما : جعلنا موسى ، قاله قتادة .
الثاني : جعلنا الكتاب ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم رؤساء في الخير تبع الأنبياء ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم أنبياء ، وهو مأثور .
{ لَمَّا صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على الدنيا ، قاله سفيان .
الثاني : على الحق ، قاله ابن شجرة .
الثالث : على الأذى بمصر لما كلفوا ما لا يطيقون ، حكاه النقاش .
{ وَكَانُوا بِئَايَاتِناَ } يعني بالآيات التسع { يُوقِنُونَ } أنها من عند الله
. قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } الآية فيها وجهان :
أحدهما : يعني بين الأنبياء وبين قومهم ، حكاه النقاش .
الثاني : يقضي بين المؤمنين والمشركين فيما اختلفوا فيه من الإيمان والكفر ، قاله يحيى بن سلام .
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
قوله تعالى : { نَسُوقُ الْمَآءَ } فيه وجهان
: أحدهما : بالمطر والثلج .
الثاني : بالأنهار والعيون .
{ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ } فيها خمسة أقاويل
: أحدها : أنها الأرض اليابسة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنها الأرض التي أكلت ما فيها من زرع وشجر ، قاله ابن شجرة .
الثالث : أنها الأرض التي لا يأتيها الماء إلا من السيول ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها أرض أبْينَ لا تنبت ، قاله مجاهد .
الخامس : أنها قرى نبيا بين اليمن والشام ، قاله الحسن . وأصل الجرز الانقطاع مأخوذ من قولهم سيف جراز أي قطاع وناقة جراز أي كانت تأكل كل شيء لأنها لا تبقي شيئاً إلا قطعته بفيها . ورجل جروز أكول قال الراجز :
حبُّ جروز وإذا جاع بكى ... يأكل التمر ولا يلقى النوى
وتأول ابن عطاء هذه الآية على أنه توصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه فتح مكة ، قاله الفراء .
الثاني : أن الفتح انقضى بعذابهم في الدنيا ، قاله السدي .
الثالث : الحكم بالثواب والعقاب في القيامة ، قاله مجاهد . قال الحسن لم يبعث الله نبياً إلا وهو يحذر من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيمَانهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذي قتلهم خالد بن الوليد يوم فتح مكة من بني كنانة ، قاله الفراء .
الثاني : أن يوم الفتح يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أن اليوم الذي يأتيهم من العذاب ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يؤخرون بالعذاب إذا جاء الوقت
. { فَأَعْرضْ عَنهُمْ } الآية . قال قتادة : نزلت قبل أن يؤمر بقتالهم ، ويحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عن أذاهم وانتظر عقابهم .
الثاني : أعرض عن قتالهم وانتظر أن يؤذن لك في جهادهم .
الثالث : فأعرض بالهجرة وانتظر ما يمدك به من النصرة ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } وهذا وإن كان معلوماً من حاله ففي أمره به أربعة أوجه :
أحدهما : أن معنى هذا الأمر الإكثار من اتقاء الله في جهاد أعدائه .
الثاني : استدامة التقوى على ما سبق من حاله .
الثالث : أنه خطاب توجه إليه والمراد به غيره من أمته .
الرابع : أنه لنزول هذه الآية سبباً وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة ليجددوا خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد بينه وبينهم فنزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومعتب بن قشير وائتمروا بينهم وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أموراً كره جميعها فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل الله : { يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتقِ اللَّهَ } يعني في نقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة المشروطة لهم .
{ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } من أهل مكة
. { وَالْمُنَافِقِينَ } من أهل المدينة فيما دعوا إليه
. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } يحتمل وجهين
: أحدهما : عليماً بسرائرهم حكيماً بتأخيرهم .
الثاني : عليماً بالمصلحة حكيماً في التدبير .
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه إن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله هذه تكذيباً لهم؛ قاله ابن عباس ويكون معناه ما جعل الله لرجل من جسدين .
الثاني : أن رجلاً من مشركي قريش من بني فهر قال : إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد وكذب فنزلت فيه ، قاله مجاهد . ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من عقلين .
الثالث : أن جميل بن معمر ويكنى أبا معمر من بني جُمَح كان أحفظ الناس لما يسمع وكان ذا فهم ودهاء فقالت قريش ما يحفظ جميل ما يحفظ بقلب واحد إن له قلبين فلما كان يوم بدر وهزموا أفلت وفي يديه إحدى نعليه والأخرى في رجليه فلقيه أبو سفيان بشاطىء البحر فاستخبره فأخبره أن قريشا قتلوا وسمى من قتل من أشرافهم ، قال له : إنه قد ذهب عقلك فما بال نعليك إحداهما في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما كنت أظنها إلا في رجلي فظهر لهم حاله فنزلت فيه الآية ، قاله السدي ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من فهمين .
الرابع : أن رجلاً كان يقول إن لي نفسين نفساً تأمرني ونفساً تنهاني فنزل ذلك فيه ، قاله الحسن ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من نفسين .
الخامس : أنه مثل ضربه الله لزيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقه فلما نزل تحريم التبنّي منع من ادعائه ولداً ونزل فيه { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنَ قَلْبِينِ } يقول : ما جعل الله لرجل من أبوين ، كذلك لا يكون لزيد أبوين حارثة ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل بن حيان . وفيه إثبات لمذهب الشافعي في نفي الولد عن أبوين ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من أبوين .
السادس : معناه : أنه لا يكون لرجل قلب مؤمن معنا وقلب كافر علينا لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من دينين ، حكاه النقاش .
{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } وهو أن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي ، فهذا ظهار كانوا في الجاهلية يحرمون به الزوجات ويجعلونهن في التحريم كالأمهات فأبطل الله بذلك أن تصير محرمة كالأم لأنها ليست بأم وأوجب عليه بالظهار منها إذا صار فيه عامداً كفارة ذكرها في سورة المجادلة ومنعه من إصابتها حتى يكفر وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب .
{ وَمَا جَعلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } يعني بذلك أدعياء النبي . قال مجاهد كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً فيأتي ذا القوة والشرف فيقول : أنا ابنك فيقول نعم فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهله وكان زيد بن حارثة منهم قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يصنع أهل الجاهلية فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله أن يلحقوهم بآبائهم فقال : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } في الإسلام .
{ ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ } أن امرأته بالظهار أُمُّه وأن دَعيه بالتبني ابنه { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } في أن الزوجة لا تصير في الظهار أُمّاً والدعيُّ لا يصير بالتبني ابناً .
{ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } يعني في إلحاق النسب بالأب ، وفي الزوجة أنها لا تصير كالأم .
قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبآئِهِمْ } يعني التبني : قال عبد الله بن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ } قال السدي فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حارثة وعرف كل نسبه فأقرّوا به وأثبتوا نسبه .
{ هُوَ أَقْسَطُ عِنَد اللهِ } أي أعدل عند الله قولاً وحكماً .
{ فَإِنَ لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَآءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : فانسبوهم إلى أسماء إخوانكم ومواليكم مثل عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد العزيز ، قاله مقاتل بن حيان .
الثاني : قولوا أخونا فلان وولينا فلان ، قاله يحيى بن سلام . وروى محمد بن المنكدر قال : جلس نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم جابر بن عبد الله الأنصاري فتفاخروا بالآباء فجعل كل واحد منهم يقول أنا فلان بن فلان حتى انتهوا إلى سلمان فقال أنا سلمان ابن الإسلام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق سلمان وأنا عمر بن الإسلام وذلك قوله : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } .
الثالث : إنه إن لم يُعرف لهم أب ينسبون إليه كانوا إخواناً إن كانوا أحراراً ، وموالي إن كانوا عتقاء كما فعل المسلمون فيمن عرفوا نسبه وفيمن لم يعرفوه فإن المقداد بن عمرو كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فرجع إلى أبيه وسفيان بن معمر كانت أمه امرأة معمر في الجاهلية فادعاه ابناً ثم أسلم سفيان وشهد بدراً فنسب إلى أبيه ونسبه في بني زريق من الأنصار . وممن لم يعرف له أب سالم ، مولى أبي حذيفة ونسب إلى ولاء أبي حذيفة .
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأَتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدت قلوبكم بعد النهي في هذا وغيره ، قاله مجاهد .
الثاني : ما أخطأتم به ما سهوتم عنه ، وما تعمدمت قلوبكم ما قصدتموه عن عمد ، قاله حبيب بن أبي ثابت .
الثالث : ما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه ، قاله قتادة .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفوراً رَحيماً } أي غفوراً عما كان في الشرك ، رحيماً بقبول التوبة في الإسلام .
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم ، وقاله مقاتل بن حيان .
الثاني : أنه أولى بهم فيما رآه له بأنفسهم ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه كان في الحرف الأول : هو أب لهم . وكان سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزاة تبوك أمرالناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية ، حكاه النقاش .
الرابع : أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَأُوا إِن شِئْتُم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا ، وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ
» . { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } يعني من مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه هن كالأمهات في شيئين .
أحدهما : تعظيم حقهن .
الثاني : تحريم نكاحهن . وليس كالأمهات في النفقة والميراث .
واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين :
أحدهما : هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن .
الثاني : أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر .
وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه :
أحدها : تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لا يثبت لهن ذلك بل هذه كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال : أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة .
الثالث : أن من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم يثبت لها هذه الحرمة ، وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي صلى الله عليه وسلم فنكحت بعده فقالت : لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً ، فكف عنها .
وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين :
أحدهما : أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء .
الثاني : أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر والإباحة بالرجال دون النساء . وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنا أم رجالكم .
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ } .
قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشاً . وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرو عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك ، فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا .
قوله تعالى : { فِي كِتَابِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : في القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : في اللوح المحفوظ الذي قضى أحوال خلقه ، قاله ابن بحر .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبين دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ
» . { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً ، قاله مقاتل بن حيان .
الرابع : أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين ، قاله السدي .
{ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ .
والثاني : كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث .
الثالث : كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً .
وفي { الْكِتَابِ } أربعة أوجه :
أحدها : في اللوح المحفوظ ، قاله إبراهيم التيمي .
الثاني : في الذكر ، قاله مقاتل بن حيان .
الثالث : في التوراة أمر بني اسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب حكاه النقاش .
الرابع : في القرآن ، قاله قتادة .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ميثاقهم على قومهم أن يؤمنوا بهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ميثاق الأمم على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة إليهم ، قاله الكلبي .
الثالث : ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً ، قاله قتادة .
{ وَمِنكَ وَمِن نَّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِنَ نُّوحٍ } قال « كُنتُ أَوَّلَهُم فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُم في البَعْثِ
» . { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقاً غَلِيظاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الميثاق الغليظ تبليغ الرسالة .
الثاني : يصدق بعضهم بعضاً .
الثالث : أن يعلنوا أن محمداً رسول الله ، ويعلن محمد أنه لا نبي بعده .
وفي ذكر من سمى من الأنبياء مع دخولهم في ذكر النبيين وجهان :
أحدهما : تفضيلاً لهم .
الثاني : لأنهم أصحاب الشرائع .
قوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصَادِقِينَ عَنَ صِدْقِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، حكاه النقاش . الثاني : ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم ، حكاه النقاش ابن عيسى .
الثالث : ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
قوله تعالى : { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } قال ابن عباس يعني يوم الأحزاب حين أنعم الله عليهم بالصبر ثُم بالنصر .
{ إِذْ جَآءَتْكُم جُنُودٌ } قال مجاهد : جنود الأحزاب أبو سفيان وعيينة بن حصين وطلحة بن خويلد وأبو الأعور السلمي وبنو قريظة .
{ فَأرْسَلْنَا عَلَيِهِمْ رِيحاً } قال مجاهد : هي الصَّبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم وروى ابن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نُصِرْتُ بِالصّبَا وأُهْلِكَت عَادٌ بِالدَّبُورِ » وكان من دعائه يوم الأحزاب « اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَتَنَا وَآمِن رَوْعَتَنَا » فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصَبا .
{ وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا } قال مجاهد وقتادة : هم الملائكة
. وفي ما كان منهم أربعة أقاويل :
أحدها : تفريق كلمة المشركين وإقعاد بعضهم عن بعض .
الثاني : إيقاع الرعب في قلوبهم ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : تقوية نفوس المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم وأنها كانت نصرتهم بالزجر حتى جاوزت بهم مسيرة ثلاثة أيام فقال طلحة بن خويلد : إن محمداً قد بدأكم بالسحر فالنجاة النجاة .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو
. قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } يعني من فوق الوادي وهو أعلاه من قبل المشرق ، جاء منه عوف بن مالك في بني نضر ، وعيينة بن حصين في أهل نجد ، وطلحة بن خويلد الأسدي في بني أسد .
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } يعني من بطن الوادي من قبل المغرب أسفل أي تحتاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة ، ويزيد بن جحش على قريش ، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق .
{ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ } فيه وجهان
: أحدهما : شخصت .
الثاني : مالت :
{ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ } أي زالت عن أماكنها حتى بلغت القلوب الحناجر وهي الحلاقيم واحدها حنجرة . وقيل إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة . وروي عن ابي سعيد الخدري أنه قال يوم الخندق : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تأمر بشيء تقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال : « نعم قُولُواْ : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَنَا وَآمِنْ رَوْعَتَنَا » قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزموا بها .
{ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } فيه وجهان
: أحدهما : فيما وعدوا به من نصر ، قاله السدي .
الثاني : أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، قاله الحسن .
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
قوله تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بالحصر ، حكاه النقاش .
الثاني : بالجوع فقد أصابهم بالخندق جوع شديد ، قاله الضحاك .
الثالث : امتحنوا في الصبر على إيمانهم وتميز المؤمنون عن المنافقين ، حكاه ابن شجرة . وحكى ابن عيسى أن { هُنالِكَ } للبعد من المكان ، وهناك للوسط وهنا للقريب .
{ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : حركوا بالخوف تحريكاً شديداً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه .
الثالث : أنه حركهم الأمر بالثبات والصبر ، وهو محتمل .
الرابع : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق ، قاله الضحاك .
قوله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المرض النفاق ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الشرك ، قاله الحسن .
{ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } حكى السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفر الخندق لحرب الأحزاب فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صفاة فطار منها كهيئة الشهاب من نار في السماء ، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك ، وضرب الثالث فخرج مثل ذلك فرأى ذلك سلمان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « رَأَيتَ مَا خَرَجَ فِي كُلّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا » قال : نعم يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « تُفْتَحُ لَكُمْ بِيضُ المَدَائِنِ وَقُصُورُ الرُّومِ وَمَدَائِنُ اليَمن » قال ففشا ذلك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدثواْ به ، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب . وقال غيره قشير بن عدي الأنصاري من الأوس : وعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وقصور الروم وبيض المدائن وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل؟ هذا والله الغرور فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالت طَّآئِفَةٌ مِّنهُمْ } يعني من المنافقين قيل إنهم من بني سليم ، وقيل إنه من قول أوس بن فيظي ومن وافقه على رأيه ، ذكر ذلك يزيد بن رومان ، وحكى السدي أنه عبد الله بن أُبي وأصحابه .
{ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مَقُامَ لَكُم فَارْجِعُواْ } قرأ حفص عن عاصم بضم الميم ، والباقون بالفتح . وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : وهو قول الفراء أن المقام بالفتح الثبات على الأمر ، وبالضم الثبات في المكان .
الثاني : وهو قول ابن المبارك انه بالفتح المنزل وبالضم الإقامة .
وفي تأويل ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أي لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب ، قاله الحسن .
الثاني : لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان ، قاله الكلبي .
الثالث : لا مقام في مكانكم فارجعوا إلى مساكنكم ، قال النقاش .
والمراد بيثرب المدينة وفيه قولان :
أحدهما : أن يثرب هي المدينة ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أن المدينة في ناحية من يثرب ، قاله أبو عبيدة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء بن عازب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن قَالَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ، هَي طَابَةُ » ثلاثة مرات
. { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } قال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة ، أحدهما أبو عرابة بن أوس ، والآخر أوس بن فيظي . قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن .
{ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قاصية من المدينة نخاف على عورة النساء والصبيان من السبي ، قاله قتادة .
الثاني : خالية ليس فيها إلا العورة من النساء ، قاله الكلبي والفراء ، مأخوذ من قولهم قد اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب قال الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا ... الثالث : مكشوفة الحيطان نخاف عليها السراق والطلب ، قاله السدي والعرب تقول قد أعور منزلك إذا ذهب ستره وسقط جداره وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة ، وقرأ ابن عباس : إن بيوتنا عَوِرة ، بكسر الواو ، أي ممكنة العورة .
ثم قال : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } تكذيباً لهم فيما ذكروه .
{ إِن يُريدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : فراراً من القتل .
الثاني : من الدِّين . وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار من بني حارثة وبني سلمة ، همّوا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ } [ آل عمران : 122 ] الآية . فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما سرّنا ما كنا هممنا به إن كان الله ولينا .
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
قوله تعالى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي لو دخل على المنافقين من أقطار المدينة ونواحيها .
{ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوهَا } فيه وجهان
: أحدهما : ما تلبثوا عن الإجابة إلى الفتنة إلا يسيراً ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعدموا ، قاله السدي .
قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ } الآية ، فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عاهدوه قبل الخندق وبعد بدر ، قاله قتادة .
الثاني : قبل نظرهم إلى الأحزاب ، حكاه النقاش .
الثالث : قبل قولهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا .
وحكي عن ابن عباس أنهم بنو حارثة .
{ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً } يحتمل وجهين
: أحدهما مسئولاً عنه للجزاء عليه .
الثاني : للوفاء به .
قوله تعالى : { قُل مَن الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّن اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } .
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن أراد بكم هزيمة أو أراد بكم نصراً ، حكاه النقاش .
الثاني : إن أراد بكم عذاباً ، أو أراد بكم خيراً ، قاله قتادة .
الثالث : إن أراد بكم قتلاً أو أراد بكم توبة ، قاله السدي .
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } يعني المثبطين من المنافقين ، قيل إنهم عبد الله بن أُبي وأصحابه .
{ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِليْنَا } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم المنافقون قالوا للمسلمين ما محمد إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا .
الثاني : أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحداً .
الثالث : ما حكاه ابن زيد أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من عند يوم الأحزاب فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال : أنت هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ، فقال له أخوه كان من أبيه وأمه . هلّم إليّ قد تُبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك ، فقال له : كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } .
{ وَلاَ يَأْتُونَ البََأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : لا يحضرون القتال إلا كارهين وإن حضروه كانت أيديهم مع المسلمين وقلوبهم مع المشركين قاله قتادة .
الثاني : لا يشهدون القتال إلا رياء وسمعة ، قاله السدي ، وقد حكي عن الحسن في قوله تعالى : { وَلاَ يَذْكُرُونَ إلاَّ قَلِيلاً } إنما قل لأنه كان لغير الله عز وجل .
قوله تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أشحة بالخير ، قاله مجاهد .
الثاني : بالقتال معكم ، قاله ابن كامل .
الثالث : بالغنائم إذا أصابوها ، قاله السدي .
الرابع : أشحة بالنفقة في سبيل الله ، قاله قتادة .
{ فَإِذَا جَآءَ الْخَوفُ } فيه قولان
: أحدهما : إذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل ، قاله السدي .
الثاني : الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلب ، قاله ابن شجرة .
{ رَأيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِليَكَ } خوفاً من القتال على القول الأول ، ومن النبي صلى الله عليه وسلم على القول الثاني .
{ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة .
الثاني : تدور أعينهم لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أي رفعوا أصواتهم عليكم بألسنة حداد أي شديدة ذربة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لَعَنَ اللَّهُ السَّالِقَةَ وَالخَارِقَةُ وَالحَالِقَةَ » يعني بالسالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والخارقة التي تخرق ثوبها في المصيبة وبالحالقة التي تحلق شعرها .
الثاني : معناه آذوكم بالكلام الشديد . والسلق الأذى ، قاله ابن قتيبة . قال الشاعر :
ولقد سلقن هوازنا ... بنواهلٍ حتى انحنينا
وقال الخليل : سلقته باللسان إذا أسمعته ما يكره وفي سلقهم بألسنةٍ حداد وجهان :
أحدهما : نزاعاً في الغنيمة ، قاله قتادة .
الثاني : جدالاً عن أنفسهم ، قاله الحسن .
{ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على قسمة الغنيمة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : على المال ينفقونه في سبيل الله ، قاله السدي .
الثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم بظفره .
{ أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } يعني بقلوبهم
. { فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } يعني حسناتهم أن يثابوا عليها لأنهم لم يقصدوا وجه الله تعالى بها .
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : وكان نفاقهم على الله هيناً .
الثاني : وكان إحباط عملهم على الله هيناً .
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
قوله تعالى : { يَحْسَبُونَ الأَحْزَابِ لَمْ يَذْهَبُواْ } يعني أن المنافقين يحسبون أبا سفيان وأحزابه من المشركين حين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلوبين لم يذهبوا عنه وأنهم قريب منهم ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنهم كانواعلى ذلك لبقاء خوفهم وشدة جزعهم .
الثاني : تصنعاً للرياء واستدامة التخوف .
{ وَإِنَ يَأْتِ الأَحْزَابُ } يعني أبا سفيان وأصحابه من المشركين
. { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعرْابِ } أي يود المنافقون لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتل وتربصاً للدوائر .
{ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه ، أما غلب أبو سفيان وأحزابه .
{ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : إلا كرهاً .
الثاني : إلا رياءً .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أي مواساة عند القتال ، قاله السدي .
الثاني : قدوة حسنة يتبع فيها ، والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً .
وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه .
الثاني : التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شُج وكُسِرَت رباعيته وقتل عمه حمزة .
{ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر } فيه وجهان
: أحدهما : لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى .
الثاني : لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، قاله ابن جبير .
{ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره .
الثاني : أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين :
أحدهما : المنافقون عطفاً عل ما تقدم من خطابهم .
الثاني : المؤمنون لقوله : { لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } .
واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإِيجاب أو على الاستحباب على قولين :
أحدهما : على الإيجاب حتى يقوم دليل علىلاستحباب .
الثاني : على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب .
ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين ، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا .
قوله تعالى : { وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابِ . . . } الآية . فيه قولان :
أحدهما : أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] الآية . فلما رأواْ أحزاب المشركين يوم الخندق { قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } قاله قتادة .
الثاني : ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال : « أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ » فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ } الآية .
{ . . . إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } فيه قولان
: أحدهما : إلا إيماناً وتسلمياً للقضاء ، قاله الحسن .
الثاني : إلا إيماناً بما وعد الله وتسليماً لأمر الله .
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
قوله تعالى : { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا ، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب يشهدها أو أمر بها ، فوفوا بما عاهدوا الله عليه ، قاله أنس بن مالك .
{ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت ، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم :
قضى نحب الحياة وكلُّ حي ... إذا يُدْعى لميتته أجابا
الثاني : فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش ، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء ، قاله مجاهد .
الثالث : فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي :
حتى تحنّ إلى ابن أكرمها ... حسباً وكن منجز النحب
فيكون النحب على التأويل الأول الأجل ، وعلى الثاني العهد ، وعلى الثالث النذر
. { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : ما غيروا كما غير المنافقون ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار ، وهذا معنى قول الحسن .
قوله : { لِّيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : الذين صدقوا لما رأواْ الأحزاب { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية .
الثاني : الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا .
{ وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء ، قاله قتادة .
الثاني : يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء ، قاله السدي .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } يحتمل وجهين
: أحدهما : غفرواً بالتوبة رحيماً بالهداية إليها .
الثاني : غفوراً لما قبل التوبة رحيماً لما بعدها .
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
قوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَغَيظِهِمْ } يعني أبا سفيان وجموعه من الأحزاب .
{ بِغَيظِهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : بحقدهم .
الثاني : بغمّهم .
{ لَمْ يَنَالُواْ خَيراً } قال السدي لم يصيبوا من محمد وأصحابه ظفراً ولا مغنماً
. { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } فيه وجهان
: أحدهما : بعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه . حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بعلي بن أبي طالب .
الثاني : بالريح والملائكة ، قاله قتادة والسدي .
{ وََكَانَ اللَّهُ قَوِياً } في سلطانه . { عَزِيزاً } في انتقامه .
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قوله تعالى : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْل الْكِتَابِ } هم بنو قريظة من اليهود ظاهرواْ أبا سفيان ومجموعة من الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عاونوه والمظاهرة هي المعاونة . وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه فغزاهم بعد ستة عشر يوماً من الخندق قال قتادة نزل عليه جبريل وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه فقال عفا الله عنك ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة فانهد إلى بني قريظة فإني قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى نزلوا على التحكيم في أنفسهم .
وفيمن نزلوا على حكمه قولان :
أحدهما : أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل مقاتلوهم ويسبى ذراريهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه : آثرت المهاجرين بالعقار علينا ، فقال : إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال « قُضِيَ فِيهِم بِحُكْمِ اللَّهِ » قاله قتادة
. الثاني : أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحكموا سعداً لكن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فقال : « أَشِر عَلَيَّ فِيهِم » فقال : لو وليتني أمرهم لقتلت مقاتليهم ولسبيت ذراريهم ولقسمت أموالهم فقال : « وَالَّذِي نَفْسِ بِيَدِهِ لََقَدْ أَشَرتَ عَلَيَّ فِيهِم بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ » وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبيه .
{ مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم قال الشاعر
:
فأصبحت النسوان عقرى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرْن الصياصيا .
وسميت بذلك لامتناعهم بها ، ومنه سميت قرون البقر صياصي لامتناعها بها ، وسميت شوكة الديك التي في ساقه صيصية .
{ وَقَذَفَ فِي قُُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } قال قتادة بصنيع جبريل بهم
. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } حكى عطية القرظي أنهم عُرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة فمن كان احتلم أو نبتت عانته قتل ، فنظروا إليّ فلم تكن نبتت عانتي فتركت فقيل إنه قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله بقوله { فَرِيقاً تقتلون } وسبي سبعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله { وتأسرون فريقاً } وقال قتادة : قتل أربعمائة وسبى سبعمائة .
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُم وَأَمْوَالَهُم } يريد بالأرض النخل والمزارع ، وبالدبار المنازل وبالأموال المنقولة .
{ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا } فيها أربعة أقاويل
: أحدها : أنها مكة ، قاله قتادة .
الثاني : خيبر ، قاله السدي وابن زيد .
الثالث : فارس والروم ، قاله الحسن .
الرابع : ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة ، قاله عكرمة .
{ وَكَانَ اللَّهُ علََى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قديرٌ ، قاله ابن اسحاق .
الثاني : على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى ، قدير ، قاله النقاش .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
قوله تعالى : { يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا } الآية .
وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه ، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين :
أحدهما : خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل .
روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه ، فقال : « إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبُوَيكِ » وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي . وقال سعيد بن جبير : إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها .
واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل :
أحدها : لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة على الدنيا وقال : « اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين » فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره . حكاه أبو القاسم الصيمري .
الثاني : لأنهن تغايرن عليه ، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين ، فقلت يا رسول الله : ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً؟ فقال : « إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، » ثم خنس الإبهام ، ثم قال يا عائشة : « إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ » وخشي حداثة سني قلت : وما ذاك؟ قال « أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ
» . الثالث : أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً ، فلم يقدر عليه ، وسألته ميمونة حلة يمانية ، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني ، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً ، وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر ، وسألته جويرية معجزاً ، وسألته سودة قطيفة جبيرية ، وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً ، فأمر الله تعالى بتخييرهن ، حكاه النقاش .
الرابع : لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن : لو كنا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي ، فأنزل الله تعالى آية التخيير ، حكاه النقاش .
الخامس : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده ، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن . قال مقاتل بن حيان : قاله الحسن وقتادة : وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية ، خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة ، هؤلاء خمس من قريش ، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية . فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين :
أحدهما : بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ } تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن .
الثاني : أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال { لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد . . . } الآية . فكان تحريم طلاقهن مستداماً . وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته .
ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين :
أحدهما : أنه كان تحريمه عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن .
الثاني : أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه ، لأن علة التحريم الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها . قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء ، يعني اللاتي حظرن عليه ، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } الآية .
فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب .
أحدها : إن اخترن الزوج فلا فرقة ، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية . وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي .
الثاني : إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة ، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب ، وهذا قول عليّ رضي الله عنه .
الثالث : إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب ، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا قول زيد بن ثابت .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
قوله عز وجل : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : الزنى ، قاله السدي .
الثاني : النشوز وسوء الخلق ، قاله ابن عباس .
{ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال مقاتل : حدّان في الدنيا غير السرقة .
وقال أبو عبيدة والأخفش : الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة ، فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضِعْفا الواحد ثلاثة .
وقال ابن قتيبة : المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين .
وقال آخر : إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله .
قال سعيد بن جبير : فجعل عذابهن ضعفين ، وجعل على من قذفهن الحد ضعفين .
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } أي هيناً
. قوله عز وجل : { وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة .
{ وَتَعْمَلُ صَالِحاً } أي فيما بينها وبين ربها
. { نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين } أي ضعفين ، كما كان عذابها ضعفين . وفيه قولان
: أحدهما : أنهما جميعاً في الآخرة .
الثاني : أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة .
{ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا ، لكونه واسعاً حلالاً .
الثاني : في الآخرة وهو الجنة .
{ كَرِيماً } لكرامة صاحبه ، قاله قتادة .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
قوله عز وجل : { يَا نِسَآءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَآءِ } قال قتادة : من نساء هذه الأمة .
{ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } قال مقاتل : إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء
. { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } فيه ستة أوجه
: أحدها : معناه فلا ترققن بالقول .
الثاني : فلا ترخصن بالقول ، قاله ابن عباس .
الثالث : فلا تُلِن القول ، قاله الفراء .
الرابع : لا تتكلمن بالرفث ، قاله الحسن . قال متمم .
ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة ... عليه بزوّار القرائب أخضعا
الخامس : هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب
. السادس : هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال ، قاله ابن زيد .
{ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنه شهوة الزنى والفجور ، قاله عكرمة والسدي .
الثاني : أنه النفاق ، قاله قتادة . وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون .
{ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : صحيحاً ، قاله الكلبي .
الثاني : عفيفاً ، قاله الضحاك .
الثالث : جميلاً .
قوله عز وجل : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرئت على وجهين :
أحدهما : بفتح القاف ، قرأه نافع وعاصم ، وتأويلها اقررن في بيوتكن ، من القرار في مكان .
الثاني : بكسر القاف : قرأها الباقون ، وتأويلها كن أهل وقار وسكينة .
{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } وفي خمسة أوجه
: أحدها : أنه التبختر ، قاله ابن أبي نجيح .
الثاني : كانت لهن مشية تكسرٍ وتغنج ، فنهاهن عن ذلك ، قاله قتادة ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « المَائِلاَتُ المُمِيلاَتُ : اللاَّئِي يَسْتَمِلْنَ قُلُوبَ الرِّجَالِ إلَيهِنَّ
» . الثالث : أنه كانت المرأة تمشي بين يدي الرجل ، فذلك هو التبرج ، قاله مجاهد .
الرابع : هو أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ليواري قلائدها وعنقها وقرطها ، ويبدو ذلك كله منها ، فذلك هو التبرج ، قال مقاتل بن حيان .
الخامس : أن تبدي من محاسنها ما أوجب الله تعالى عليها ستره ، حكاه النقاش وأصله من برج العين وهو السعة فيها .
وفي { الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } أربعة أقاويل :
أحدها : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، قاله الشعبي وابن أبي نجيح .
الثاني : زمان إبراهيم ، قاله مقاتل والكلبي ، وكانت المرأة في ذلك الزمان تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق ، وكان زمان نمرود .
الثالث : أنه ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة ، وكان نساؤهم أقبح ما تكون النساء ، ورجالهم حسان ، وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها ، فهو تبرج الجاهلية الأولى : قاله الحسن .
الرابع : أنه ما بين نوح وإدريس . روى عكرمة عن ابن عباس أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة . وفيه قولان :
أحدهما : أنه كانت المرأة في زمانها تجمع زوجاً وخلما ، والخلم الصاحب ، فتجعل لزوجها النصف الأسفل ولخلمها نصفها الأعلى ، ولذلك يقول بعض الخلوم :
فهل لك في البدال أبا خبيب ... فأرضى بالأكارع والعجُوز
الثاني : وهو مبدأ الفاحشة ، وهو أن بطنين من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وأن إبليس اتخذ لهم عيداً فاختلط أهل السهل بأهل الجبل فظهرت الفاحشة فيهم ، فهو تبرج الجاهلية .
قوله عز وجل : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } وفي الرجس ها هنا ستة أقاويل :
أحدها : الإثم ، قاله السدي .
الثاني : الشرك ، قاله الحسن .
الثالث : الشيطان ، قاله ابن زيد .
الرابع : المعاصي .
الخامس : الشك .
السادس : الأقذار .
وفي قوله تعالى { أَهْلَ الْبَيْتِ } - ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، قاله أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم .
الثاني : أنه عنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الثالث : أنها في الأهل والأزواج ، قاله الضحاك .
{ وَيُطَهّرَكُمْ تطْهِيراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من الإثم ، قاله السدي .
الثاني : من السوء ، قاله قتادة .
الثالث : من الذنوب ، قاله الكلبي ، ومعانيها متقاربة .
وفي تأويل هذه الآية لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه :
أحدها : يذهب عنكم رجس الأهواء والتبرج ويطهركم من دنس الدنيا والميل إليها .
الثاني : يذهب عنكم رجس الغل والحسد ، ويطهركم بالتوفيق والهداية .
الثالث : يذهب عنكم رجس البخل والطمع ويطهركم بالسخاء والإيثار ، روى أبو ليلى الكندي عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها على منام له ، عليه كساء خيبري .
قوله عز وجل : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ } قال قتادة القرآن .
{ وَالْحِكْمَةِ } فيها وجهان
: أحدهما : السنة ، قاله قتادة .
الثاني : الحلال والحرام والحدود ، قاله مقاتل .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } قال عطية العوفي : لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها .
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
قوله عز وجل : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } سبب نزول هذه الآية ما رواه يحيى بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ما للرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء؛ فنزلت { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } - الآية وفيها قولان :
أحدهما : يعني بالمسلمين والمسلمات المتذللين والمتذللات . وبالمؤمنين والمؤمنات المصدقين والمصدقات .
الثاني : أنهما في الدين ، فعلى هذا في الإسلام والإيمان قولان :
أحدهما : أنهما واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء .
الثاني : أنهما مختلفان على قولين :
أحدهما : أن الإسلام الإقرار باللسان ، والإيمان التصديق به ، قاله الكلبي .
الثاني : أن الإسلام هو اسم الدين والإيمان هو التصديق به والعمل عليه .
{ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : المطيعين والمطيعات ، قاله ابن جبير .
الثاني : الداعين والداعيات .
{ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : الصادقين في إيمانهم والصادقات ، قاله ابن جبير .
الثاني : في عهودهم .
{ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : على أمر الله ونهيه ، قاله ابن جبير .
الثاني : في البأساء والضراء .
{ والْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : المتواضعين والمتواضعات ، قاله ابن جبير .
الثاني : الخائفين والخائفات : قاله يحيى بن سلام وقتادة .
الثالث : المصلين والمصليات ، قاله الكلبي .
{ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : المتصدقين والمتصدقات بأنفسهم في طاعة الله .
الثاني : بأموالهم . ثم فيه وجهان :
أحدهما : المؤدين الزكوات المفروضات .
الثاني : المتطوعين بأداء النوافل بعد المفروضات ، قاله ابن شجرة .
{ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : الإمساك عن المعاصي والقبائح .
الثاني : عن الطعام والشراب وهو الصوم الشرعي . وفيه وجهان :
أحدهما : صوم الفرض .
الثاني : شهر رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر ، قاله ابن جبير . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صَومُ الشَّهْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يُذْهِبْنَ وَغْرَ الصَّدْرِ
» . { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : عن الفواحش .
الثاني : أنه أراد منافذ الجسد كلها فيحفظون أسماعهم عن اللغو والخنا ، وأفواههم عن قول الزور وأكل الحرام . وفروجهم عن الفواحش .
{ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } فيهم ثلاثة أوجه
: أحدها : باللسان قاله يحيى بن سلام .
الثاني : التالون لكتابه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : المصلين والمصليات ، حكاه النقاش .
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجَرْاً عَظِيماً } لعلمهم ، قاله ابن جبير ، قال قتادة : وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء فذكرن بخير .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنُ أَمْرِهِمْ } فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله بن جحش وأنهما ولدا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهما أميمة بنت عبد المطلب وأن زيداً كان بالأمس عبداً فنزلت هذه الآية فقالت : أمري بيدك يا رسول الله فزوجها به ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . قال مقاتل : ساق إليها عشرة دنانير وستين درهماً وملحفة ودرعاً وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر .
الثاني : أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال « قَدْ قَبِلْتُ » فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزّوجنا عبده فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد .
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } فيه قولان
: أحدهما : فقد جار جوراً مبيناً ، قاله ابن شجرة .
الثاني : فقد أخطأ خطأ طويلاً ، قاله السدي ومقاتل .
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
قوله تعالى : { وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِيّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } قال قتادة والسدي وسفيان هو زيد بن حارثة وفيه وجهان :
أحدهما : أنعم الله عليه لمحبة رسوله وأنعم الرسول عليه بالتبني .
الثاني : أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعتق .
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } يعني زينب بنت جحش ، قاله الكلبي ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزل زيد زائراً فأبصرها قائمة فأعجبته فقال : « سُبْحَانَ مُقَلّبَ القُلُوبِ » فلما سمعت زينب منه ذلك جلست قال أبو بكر بن زياد : وجاء زيد إلى قوله فذكرت له ذلك فعرف أنها وقعت في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن فيها كِبْراً وإنها لتؤذيني بلسانها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ » وفي قلبه صلى الله عليه وسلم غير ذلك .
{ وَتُخْفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها .
الثاني : إشارة لطلاقها ، قاله ابن جريج .
الثالث : أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوجها .
الرابع : أن الذي أخفاه في نفسه أن الله أعلمه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، قاله الحسن .
{ وَتَخْشى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : أن نبي الله خشي قالة الناس ، قاله قتادة .
الثاني : أنه خشي أن يبديه للناس فأيّد الله سره ، قاله مقاتل بن حيان .
قال الحسن : ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد عليه منها .
وقال عمر بن الخطاب : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية التي أظهرت غيبه .
{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر الأرب المنتهي وفيه هنا قولان
: أحدهما : أنه الحاجة ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه الطلاق ، قاله قتادة .
قال يحيى بن سلام : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد فقال له « ائْتِ زَينبَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ زَوَّجْنِيهَا » فانطلق زيد فاستفتح الباب فقالت من هذا؟ فقال : زيد قالت : وما حاجة زيد إليّ وقد طلقني؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك فقالت : مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد : لا أبْكَى الله لَكِ عيناً قد كنت نعمت المرأة إن كنت لتبرين قسمي وتطيعين أمر الله وتشبعين مسرتي فقد أبدلك الله خيراً مني فقالت : من لا أبا لك؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة لله تعالى قال الضحاك : فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ في عسرة فأصدقها قِرْبَةً وعَبَاءَةً ورحى اليد ووسادة حَشْوُهَا ليف وكانت الوليمة تمراً وسُوَيقاً . قال أنس فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن . قال قتادة : فكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني ربُّ العرش تبارك وتعالى .
{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } حكى ابن سلام أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم زعمت أن حليلة الابن لا تحل للأب وقد تزوجت حليلة ابنك زيد فقال الله تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجلٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي أن زيداً دعيٌّ وليس بابن من الصلب فلم يحرم نكاح زوجته .
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفعُولاً } أي كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش حكماً لازماً وقضاء واجباً ، ومنه قول الشاعر :
حتى إذا نزلت عجاجة فتنة ... عمياء كان كتابها مفعولاً
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
قوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش ، قاله مقاتل .
الثاني : التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد تطوع عليها وأعطاها الصداق ، قاله الحسن .
الثالث : في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك ، قاله الضحاك .
قال الطبري : نكح رسول الله خمس عشرة ، ودخل بثلاثة عشرة ، ومات على تسع ، وكان يقسم لثمان .
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية .
{ وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : فعلاً مفعولاً ، قاله الضحاك .
الثاني : قضاء مقضياً وهو قول الجمهور . وكانت زينب إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت : واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس : يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئاً فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال : نِعم خباء الظعينة .
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قوله تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } يعني زيد بن حارثة فإن المشركين قالوا إن محمد تزوج امرأة ابنه فأكذبه الله بقوله { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم } أي لم يكن أباً لزيد .
{ وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ } يعني آخرهم وينزل عيسى فيكون حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيقتل الدجال ويكسر الصليب وقد روى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرجُ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاَثِينَ كُلُّهُم يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌ وَلا نَبِيَّ بَعْدِي » قال مقاتل بن سليمان ولم يجعل محمداً أبا أحد من الرجال لأنه لو جعل له ابناً لجعله نبياً وليس بعده نبي قال الله { وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
قوله تعالى : { اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } فيه قولان
: أحدهما : ذاكروه بالقلب ذكراً مستديماً يؤدي إلى طاعته واجتناب معصيته .
الثاني : اذكروا الله باللسان ذكراً كثيراً ، قاله السدي . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن عَجَزَ عَنِ اللَّيْلِ أَن يُكَابِدَهُ ، وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَن يُجَاهِدَهُ ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَن يُنفِقَهُ فَلْيَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ » وفي ذكره هنا وجهان :
أحدها : الدعاء له والرغبة إليه ، قاله ابن جبير .
الثاني : الإقرار له بالربوبية والاعتراف له بالعبودية .
قوله : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً } قال قتادة صلاة : الصبح والعصر ، قال الأخفش : والأصيل ما بين العصر والليل . وقال الكلبي : الأصيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء .
وفي التسبيح هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح الخاص الذي هو التنزيه .
الثاني : أنه الصلاة .
الثالث : أنه الدعاء ، قاله جرير .
فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يونسا ... دعا ربه فانتاشه حين سبحا .
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلآئِكَتُهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه ثناؤه ، قاله أبو العالية .
الثاني : كرامته ، قاله سفيان .
الثالث : رحمته ، قاله الحسن .
الرابع : مغفرته ، قاله ابن جبير .
وفي صلاة الملائكة قولان :
أحدهما أنه دعاؤهم ، قاله أبو العالية .
الثاني : استغفارهم ، قاله مقاتل بن حيان .
{ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من الكفر إلى الإيمان ، قاله مقاتل .
الثاني : من الضلالة إلى الهدى ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثالث : من النار إلى الجنة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } قال ابن عباس شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار .
قوله : { وَدَاعِياَ إلَى اللَّه بِإِذْنِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلى طاعة الله ، قاله ابن عيسى .
الثالث : إلى الإسلام ، قاله النقاش .
وفي قوله : { بِإِذْنِهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : بأمره ، قاله ابن عباس .
الثاني : بعمله قاله الحسن .
الثالث : بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } فيه قولان
: أحدهما : أنه القرآن سراج منير أي مضيء لأنه يُهْتدى به ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه الرسول كالسراج المنير في الهداية ، قاله ابن شجرة ، ومنه قول كعب بن زهير :
إن الرسول لنورُ يستضاءُ به ... مُهَنّدُ من سيوف الله مَسْلول
قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : ثواباً عظيماً ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه الجنة ، قاله قتادة والكلبي ، وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أنزل الله عليه { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } [ الفتح : 1 ] الآيات فقال المسلمون هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما لنا يا رسول الله؟ فأنزل الله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية .
قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله ابن أُبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد اذكر أن لآلهتنا شفاعة .
فقال الله : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } وفيه أوجه :
أحدها : دع ذكر آلهتهم أن لها شفاعة ، قاله مقاتل .
الثاني : كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ، قاله الكلبي .
الثالث : معناه اصبر على أذاهم ، قاله قتادة وقطرب .
الرابع : هو قولهم زيد بن محمد وما تكلموا به حين نكح زينب . قاله الضحاك .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
قوله تعالى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ . . . } الآية . أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث . وإن كان ثلاثاً حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثاً [ فهي ] طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور .
وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان :
أحدهما : وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما .
والقول الثاني : وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه .
{ . . فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلاً من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن .
فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان :
أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة .
الثاني : لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح .
وفي قوله : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } وجهان :
أحدهما : أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه طلاقها طاهراً من غير جماع ، قاله قتادة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد . وأما إحلال غيرهن فلا لقوله { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعُدْ } .
الثاني : أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ } .
الثالث : أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله .
{ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } يعني الإماء
. { مِمَّا أَفَّآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم . ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما .
{ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ } قاله أُبي بن كعب ثم قال : { اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني المسلمات .
الثاني : المهاجرات إلى المدينة . روى أبو صالح عن أم هانىء قالت : نزلت هذه الآية وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين :
أحدهما : أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة .
الثاني : أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية . وليست شرطاً في إحلال الأجنبيات .
{ وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ } اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين :
أحدهما : لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل .
الثاني : أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها ، وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها ، ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها .
واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب ، وكانت امرأة صالحة ، قاله عروة بن الزبير .
الثاني : أنها خولة بنت حكيم ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها .
الثالث : أنها ميمونة بنت الحارث ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار . قاله الشعبي .
{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر .
وليس ذلك لأحد من المؤمنين ، قاله قتادة .
الثاني : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين ، قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب .
الثالث : أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين ، قاله الشافعي .
قوله عز وجل : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين .
الثاني : فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة ، وهذا قول مجاهد .
الثالث : فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن . قاله بعض الفقهاء .
{ وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ } يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق { لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه راجع إلى قوله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ؛ قال ابن عيسى .
الثاني : إلى قوله : { وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام .
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
قوله عز وجل : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن ، قاله ابن عباس .
الثاني : تترك نكاح من تشاء وتنكح من تشاء ، قاله الحسن .
الثالث : تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها ، وتأتي من شئت من أزواجك فلا تعزلها ، قاله مجاهد . ويدل على أن القَسم في هذا التأويل كان ساقطاً عنه .
الرابع : تؤخر من تشاء من أزواجك ، وتضم إليك من تشاء منهن ، قاله قتادة . وروى منصور عن ابن رزين قال : بلغ بعض نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يخلي سبيلهن ، فأتينه فقلن : لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك ، فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة فكان ممن أرجأ جويرية وميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة . وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما تشاء ، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمه في ماله ونفسه فيهن سواء .
{ وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } أي من ابتغيت فأويته إليك ممن عزلت أن تؤديه إليك .
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فيهن وجهان
: أحدهما : فلا جناح عليك في من ابتغيت ، وفي من عزلت . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : فلا جناح في من عزلت أن تؤويه إليك ، قاله مجاهد .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتيتَهُنَّ كُلُهُنَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إذا علمن أنه لا يطلقهن قرت أعينهن ولم يحزن .
الثاني : إذا علمن أنه لا يتزوج عليهن قرت أعينهن ولم يحزن . قاله قتادة .
الثالث : إذا علمن أن هذا من حكم الله تعالى فيهن قَرَّت أعينهن ولم يحزن . قاله قتادة .
الرابع : أنهن علمن أن له ردهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرَّت أعينهن ولم يحزن ، قاله مجاهد .
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
قوله عز وجل : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : لا يحل لك نساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . قال ابن عباس وقتادة . وهن التسع صار مقصوراً عليهن وممنوعاً من غيرهن .
الثاني : لا يحل لك النساء من بعد الذي أحللنا لك بقولنا { إِنَّآ أحْلَلْنَا لَكَ أَزَْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَآتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } إلى قوله { إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } الآية .
وكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته المهاجرات معه ، قاله أبي بن كعب .
الثالث : لا يحل لك النساء من غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات ، ويحل ما سواهن من المسلمات ، قاله مجاهد .
{ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنَهُنَّ } فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : ولا أن تبدل بالمسلمات مشركات ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تطلق زوجاتك لتستبدل بهن من أعجبك حسنهن ، قاله الضحاك . وقيل التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها .
الثالث : ولا أن تبدل بأزواجك زوجات غيرك فإن العرب كانوا في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويأخذ بها منه زوجته بدلاً منها ، قاله ابن زيد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤذَنَ لَكُمْ } سبب نزل هذه الآية ما رواه أبو نضرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون ، فكره ذلك وكان إذا كره الشىء عُرف من وجهه فلما كان العَشي خرج فصعد المنبر فتلا هذه الآية .
قوله عز وجل : { إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ } فيه تأويلان :
أحدهما : غير منتظرين نضجه ، قاله الضحاك ومجاهد .
الثاني : غَيْرَ متوقعين لحينه ووقته ، قاله قتادة .
{ وَلكِن إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ } فدل هذا على حظر الدخول بغير إذن
. { فَإذَا طَعِمْتُمْ فآنتَشِرُواْ } أي فاخرجوا ، فدلّ على أن الدخول للأكل يمنع من المقام بعد الفراغ من الأكل .
{ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ . . . } روى أبو قلابة عن أنس . قال : لما أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش وضع طعاماً ودعا قوماً فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود فأنزل الله تعالى : { فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواْ } .
قوله عز وجل : { . . فَيَسْتَحْي مِنكُمْ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبركم .
{ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ } أن يأمركم به
. { وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : حاجة ، قاله السدي .
الثاني : صحف القرآن ، قاله الضحاك .
الثالث : عارية ، قاله مقاتل . ومعانيها متقاربة .
{ فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أمرن وسائر النساء بالحجاب عن أبصار الرجال وأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء .
وفي سبب الحجاب ثلاثة أقاويل :
أحدها ما رواه مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب ، فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال عمر لو أُطَاعُ فيكن ما رأتكن عين ، فنزلت آيات الحجاب .
الثاني : ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إلى المباضع وهي صعيد أفيح يتبرزن فيه ، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك يا رسول الله ، فلم يكن يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي ، وكانت امرأة طويلة فناداها بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصاً أن ينزل الحجاب قالت : فأنزل الله تعالى الحجاب .
الثالث : ما روى ابن مسعود أن عمر رضي الله عنه أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب بنت جحش : يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزلت الآية : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حَجَابٍ } .
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أطهر لها من الريبة .
الثاني : أطهر لها من الشهوة .
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤُذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلآَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً } حكى السدي أن رجلاً من قريش من بني تميم قال عند نزول الحجاب أيحجبنا رسول الله عن بنات عمنا ويتزوج نساءَنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ، فأنزلت هذه الآية . ولتحريمه تعديهن لزمت نفقاتهن من بيت المال .
واختلف أهل العلم في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن على وجهين :
أحدهما : لا تجب عليهن العدة لأنها مدة تربص ينتظر بها الإباحة .
الثاني : تجب لأنها عبادة وإن لم تعقبها إباحة .
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
قوله عز وجل : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِّي ءَابَآئِهِنَّ وَلآ أَبْنَآئِهِنَّ } فيه قولان
: أحدهما : لا جناح عليهن في ترك الحجاب . قاله قتادة .
الثاني : في وضع الجلباب ، قاله مجاهد .
{ وَلاَ إخْوَانِهِنَّ وَلآَ أَبْنَآءِ إخَوَانِهِنَّ وَلآ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ } قال الشعبي لم يذكر العم لأنها تحل لابنه فيصفها له .
{ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني النساء المسلمات دون المشركات ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه في جميع النساء .
{ وَلاَ مَا مَلََكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيه قولان
: أحدهما : الإماء دون العبيد ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنه عام في الإماء والعبيد . واختلف من قال بهذا فيما أبيح للعبد على قولين :
أحدهما : ما أبيح لذوي المحارم من الآباء والأبناء ما جاوز السرة وانحدر عن الركبة لأنها تحرم عليه كتحريمها عليهم .
الثاني : ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها ، قاله إبراهيم . لأنه العبد وإن حرم في الحال فقد يستباح بالعتق في ثاني حال . وسبب نزول هذه الآية ما حكاه الكلبي أنه لما نزل في آية الحجاب { وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مَن ورَآءِ حَجَابٍ } قام الآباء والأبناء وقالوا يا رسول الله نحن لا نكلمهن أيضاً إلا من وراء حجاب ، فنزلت هذه الآية .
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
قوله عز وجل : { إنَّ اللَّهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء ، قاله أبو العالية .
الثاني : أن صلاة الله تعالى عليه المغفرة له ، وصلاة الملائكة الاستغفار له ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أن صلاة الله تعالى عليه رحمته ، وصلاة الملائكة الدعاء له ، قاله الحسن ، وهو معنى قول عطاء بن أبي رباح .
الرابع : أن صلاتهم عليه أن يباركوا عليه؟ قاله ابن عباس .
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيماً } روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : بلى . قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال : « قُولُواْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
» . قال أبو العباس ثعلب : معنى قولنا اللهم صل على محمد أي زد محمداً بركة ورحمة ، ويجري فيه التأويلات المذكورة .
وقوله تعالى : { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } يحتمل وجهين :
أحدهما : سلموا لأمره بالطاعة له تسليماً .
الثاني : وسلموا عليه بالدعاء له تسليماً أي سلاماً .
حكى مقاتل قال : لما نزلت هذه الآية قال المسلمون فما لنا يا رسول الله؟ فنزلت { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ } الآية .
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
قوله عز وجل : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أصحاب التصاوير؛ قاله عكرمة .
الثاني : أنهم الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبهتونه قاله يحيى بن سلام .
وفي قوله : { يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه يؤذون أولياء الله .
الثاني : أنه جعل أذى رسوله صلى الله عليه وسلم أذى له تشريفاً لمنزلته .
الثالث : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يَشْتُمَنِي ، وَكَذَّبَنِي وَمَا كَانَ لَهُ أَن يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَولُهُ إِنَّ لِيَ وَلَداً وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ إنِّي لاَ أَبْعَثُ بَعدَ المَوتِ أَحداً . وَلَعنُة الدُّنْيَا التَّقْتِيلُ وَالجَلاَءُ ، وَلَعْنَةُ الآخرَةِ النَّارُ
» . قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية . فيمن نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الزناة وكانوا يمشون فيرون المرأة فيغمزونها؛ قاله الكلبي .
الثاني : نزلت في قوم كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه ، ويكذبون عليه ، قاله مقاتل والنقاش .
الثالث : أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك ، قاله الضحاك . وروى قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها ذات ليلة فأفزعه ذلك حتى انطلق إلى أبيّ فقال يا أبا المنذر إني قرأت كتاب الله فوقعت مني كل موقع . { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ } والله إني لأعاقبهم وأضربهم ، فقال : إنك لست منهم ، إنما أنت مؤدب ، إنما أنت معلم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قوله تعالى : { . . . يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الجلباب الرداء ، قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : أنه القناع؛ قاله ابن جبير .
الثالث : أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، قاله قطرب .
وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان :
أحدهما : أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها ، قاله عكرمة .
الثاني : أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى ، قاله عَبيدة السلماني .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } فيه وجهان
: أحدهما : ليعرفن من الإماء بالحرية .
الثاني : يعرفن من المتبرجات بالصيانة . قال قتادة : كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء .
قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الزناة ، قاله عكرمة والسدي .
الثاني : أصحاب الفواحش والقبائح ، قاله سلمة بن كهيل .
وفي قوله : { لَّئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } قولان :
أحدهما : عن إيذاء نساء المسلمين قاله الكلبي .
الثاني : عن إظهار ما في قلوبهم من النفاق ، قاله الحسن وقتادة .
{ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذين يكاثرون النساء ويتعرضون لهن ، قاله السدي .
الثاني : أنهم الذين يذكرون من الأخبار ما يضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين قاله قتادة .
الثالث : أن الإرجاف التماس الفتنة ، قاله ابن عباس ، وسيت الأراجيف لاضطراب الأصواب بها وإفاضة الناس فيها .
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لنعلمنك بهم ، قاله السدي .
الثالث : لنحملنك على مؤاخذتهم ، وهو معنى قول قتادة .
{ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً } قيل بالنفي عنها ، وقيل الذي استثناه ما بين قوله لهم اخرجوا وبين خروجهم .
قوله : { سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني سنته فيهم أن من أظهر الشرك قتل ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : سنته فيهم أن من زَنَى حُد ، وهو معنى قول السدي .
الثالث : سنته فيهم أن من أظهر النفاق أبعد ، قاله قتادة .
{ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : يعني تحويلاً وتغييراً ، حكاه النقاش .
الثاني : يعني أن من قتل بحق فلا دية له على قاتله ، قاله السدي .
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
قوله : { . . . إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرآءَنَا } في السادة هنا ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الرؤساء .
الثاني : أنهم الأمراء ، قاله أبو أسامة .
الثالث : الأشراف ، قاله طاوس .
وفي الكبراء هنا قولان :
أحدهما : أنهم العلماء ، قاله طاووس .
الثاني : ذوو الأسنان ، وهو مأثور .
{ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } يعني طريق الإيمان
. وفي قوله الرسولا والسبيلا وجهان :
أحدهما : لأنها مخاطبة يجوز مثل ذلك فيها عند العرب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الألف للفواصل في رؤوس الآي ، قاله ابن عيسى ، وقيل إن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من قريش هم المطعمون يوم بدر .
قوله : { رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : عذاب الكفر وعذاب الإضلال .
{ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } بالباء قراءة عاصم يعني عظيماً وقرأ الباقون بالتاء يعني اللعن على اللعن .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
قوله : { يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ أَذَواْ مُوسَى } معناه لا تؤذوا محمداً فتكونوا كالذين آذواْ موسى .
وفيما آذوا به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قولان :
أحدهما : قولهم زيد بن محمد ، حكاه النقاش .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : « رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبِرَ » قاله أبو وائل .
وفيما أوذي به موسى عليه السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن رَمَوهُ بالسحر والجنون .
الثاني : ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيّاً سَتِيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِن جَسَدِهِ شَيءٌ يَسْتَحَيا مِنُه فآذَاهُ مَن آذَاهُ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالُواْ مَا يَسْتَتِرُ إلاَّ مِن عَيبٍ بِجِلْدِهِ أَوْ جِسْمِهِ ، إمَّا مِن بَرَصٍ وَإمَّا آدَرٌ أَوْ بِهِ آفَةٌ وَإنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا قَالُواْ وَإنَّ مُوسَى خَلاَ يَوماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثَوبِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإنَّ الْحَجَرَ عَدَا بثيَابِهِ فَطَلَبَهُ مُوسَى فَانتَهَى إلَى مَلإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ فَرأَوهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجالِ خَلْقاً فَبَرَّأَهُ اللَّه مِمَّا قَالُواْ
» . الثالث : ما رواه ابن عباس عن علي رضي الله عنه أن موسى صعد وهارون الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حباً فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجلس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته ثم دفنته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وأن الله جعله أصم أبكم ومات هارون قبل موسى في التيه ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين .
{ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المقبول ، قاله ابن زيد .
الوجه الثاني : لأنه مستجاب الدعوة قاله الحسن .
الثالث : لأنه ما سأل الله شيئاً إلا أعطاه إلى النظر ، قاله ابن سنان . قاله قطرب : والوجيه مشتق من الوجه لأنه أرفع الجسد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
قوله : { َوَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : عدلاً ، قاله السدي .
الثاني : صدقاً ، قاله قتادة .
الثالث : صواباً ، قاله ابن عيسى .
الرابع : هو قول لا إله إلا الله ، قاله عكرمة .
الخامس : هو الذي يوافق ظاهره باطنه .
السادس : أنه ما أريد به وجه الله دون غيره .
ويحتمل سابعاً : أن يكون الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض .
{ يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : يصلحها بالقبول .
الثاني : بالتوفيق .
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قوله : { إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته ، قاله أبو العالية .
الثاني : أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن جبير .
الثالث : هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج ، قاله أبي . وقيل إن أول ما خلق الله من آدم الفرج فقال : « يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ
» . الرابع : أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله ، وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل ، قاله السدي .
الخامس : أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين .
وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها . قاله بعض المتكلمين .
الثاني : الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها .
واختلف قائلو هذا على وجهين :
أحدهما : أنها عرضت على السموات والأرض والجبال ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن .
{ فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا } يحتمل وجهين
: أحدهما : أَبَينَ أن يحملنها عجزاً وأشفقن منها خوفاً .
الثاني : أبين أن يحملنها حذراً وأَشْفَقْنَ منها تقصيراً .
{ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } فيه قولان
: أحدهما : جميع الناس ، قاله ثعلب .
الثاني : أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده ، قاله الحسن . روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت : وما فيها؟ قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت : لا . قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال : وما هي؟ قال : { إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ } قال تحملتها يا رب . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر .
{ إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ظلوماً لنفسه ، جهولاً بربه ، قاله الحسن .
الثاني : ظلوماً في خطيئته ، جهولاً فيما حَمَّلَ ولده من بعده ، قاله الضحاك .
الثالث : ظلوماً لحقها ، قاله قتادة . جهولاً بعاقبة أمره ، قاله ابن جريج .
قوله : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل .
الثاني : بخيانتهما الأمانة . قال الحسن : هما اللذان ظلماها ، واللذان خاناها : المنافق ، والمشرك .
{ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } لمن تاب من شِرْكه { رَحِيماً } بالهداية إلى طاعتهK والله أعلم .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : الذي خلق ما في السموات وما في الأرض .
الثاني : الذي يملك ما في السموات وما في الأرض .
{ ولَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : هو حمد أهل الجنة من غير تَكْلِفٍ فسرورهم بحمده كقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعْدَه ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يعني أن له الحمد في السموات وفي الأرضين لأنه خلق السموات قبل الأرضين فصارت هي الأولى ، والأرضون هي الآخرة ، حكاه النقاش .
الثالث : له الحمد في الآخرة على الثواب والعقاب لأنه عَدْل منه ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } يعني الحكيم في أمره ، الخبير بخلقه
. قوله عز وجل : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وََمَا يَخْرُجُ مِنهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما يلج في الأرض المطر ، وما يخرج منها النبات ، قاله الضحاك .
الثاني : ما يلج فيها الأموات ، قاله الكلبي ، وما يخرج منها كنوز الذهب والفضة ، والمعادن ، حكاه النقاش .
الثالث : ما يلج فيها : البذور ، وما يخرج منها : الزروع .
{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : الملائكة تنزل من السماء وتعرج فيها ، قاله السدي .
الثاني : وما ينزل من السماء : القضاء ، وما يعرج فيها : العمل ، وهو محتمل .
الثالث : ما ينزل من السماء : المطر ، قاله الضحاك ، وما يعرج فيها : الدعاء . وهو محتمل .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ سَعَواْ فِي ءَايَاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن سعيهم فيها بالجحود لها ، قاله الضحاك .
الثاني : بالتكذيب بها .
{ مُعَاِجِزِينَ } وقرىء . { مُعْجِزِينَ } وفي تأويل معاجزين أربعة أوجه
: أحدها : مسابقين ، قاله قتادة .
الثاني : مجاهدين ، قاله ابن زيد .
الثالث : مراغمين مشاقين ، وهو معنى قول ابن عباس وعكرمة .
الرابع : أي لا يعجزونني هرباً ولا يفوتونني طلباً ، وهو معنى قول الكلبي . وفي تأويل معجزين ثلاثة أوجه :
أحدها : مثبطين الناس عن اتباع الرسول ، قاله مجاهد .
الثاني : مضعّفين لله أن يقدر عليهم ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : معجزين من آمن وصَدَّقَ بالبعث بإضافة العجز إليه .
ويحتمل رابعاً : أنهم نسبوا المؤمنين إلى العجز عن الانتصار لدينهم إما بضعف الحجة وإما بقلة القوة .
{ أُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ } قال قتادة : الرجز هو العذاب الأليم
. قوله عز وجل : { وَيَرَى الَّذينَ أوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم قولان :
أحدهما : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنهم المؤمنون من أهل الكتاب ، قاله الضحاك .
{ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } قال الحسن هو القرآن كله حق
. { وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } فيه قولان
: أحدهما : يهدي إلى دين الله وهو الإسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : إلى طاعة الله وسبيل مرضاته .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني بالبعث
. { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم
. { يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي يخبركم أنكم إذا متم فأكلتكم الأرض أو الطير حتى صرتم عظاماً ورفاتاً .
{ إنَكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي تحشرون وتبعثون . قيل إن أبا سفيان ابن حرب قال هذا لأهل مكة ، فأجاب بعضهم بعضاً .
{ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي قائل هذا أن يكون كذاباً أو مجنوناً فرد الله تعالى عليهم قولهم هذا بأن قال :
{ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ } العذاب في الآخرة ، والضلال البعيد في الدنيا . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه البعيد من الهدى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الشقاء الطويل ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ألم ينظروا إلى السماء والأرض كيف أحاطت بهم؟ لأنك إن نظرت عن يمينك أو شمالك ، أو بين يديك أو خلفك رأيت السماء والأرض ، قاله قتادة ، إذكاراً لهم بقدرة الله تعالى عليهم وإحاطتها بهم ، لأنهم ، لا يرون لأوليتهما ابتداء ولا لآخرتهما انتهاء ، وإن بعدوا شرقاً وغرباً .
الثاني : يعني { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } فمن أهلكهم الله تعالى من الأمم الماضية في أرضه { وَمَا خَلْفَهُم } من أمر الآخرة في سمائه ، قاله أبو صالح .
{ إن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ } يعني كما خسفنا بمن كان قبلهم
. { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الكسف العذاب قاله السدي .
الثاني : قطعاً من السماء ليعلموا أنه قادر على أن يعذب بسمائه إن شاء ويعذب بأرضه إن شاء ، وكل خلقه له جند ، قاله قتادة .
{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : أنه المجيب ، قاله مجاهد وعطاء .
الثاني : أنه المقبل بتوبته ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
أناب إلى قولي فأصبحت مرصداً ... له بالمكافأة المنيبة والشكر
الثالث : أنه المستقيم إلى ربه ، وهو قول الضحاك
. الرابع : أنه المخلص للتوحيد ، حكاه النقاش .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فيه سبعة أقاويل
: أحدها : النبوة .
الثاني : الزبور .
الثالث : فصل القضاء بالعدل .
الرابع : الفطنة والذكاء .
الخامس : رحمة الضعفاء .
السادس : حسن الصوت .
السابع : تسخير الجبال له والطير .
{ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : سبحي معه ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : سيرى معه قاله الحسن وهو من السير ما كان في النهار كله أو في الليل كله ، وقيل : بل هو سير النهار كله دون الليل .
الثالث : ارجعي إذا رجع ، قال الشاعر :
يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب .
أي رجوع بعد رجوع
. { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } قال قتادة كان يعمل به كما يعمل بالطين لا يدخله النار ولا يضربه بمطرقة .
ويحتمل وجهاً آخر أنه سهل له الحديد أن يعمل منه ما شاء وإن كان على جوهره وطبعه من قولهم قد لان لك فلان إذا تسهل عليك .
قوله عز وجل : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي درعاً تامة ، ومنه إسباغ النعمة إتمامها ، قال الشاعر :
وأكثرهم دروعاً سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
{ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } فيه قولان
: أحدهما : عدِّل المسامير في الحلقة لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فيسلس ، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فتنفصم الحلقة ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها ، قال قتادة : وكان داود أول من عملها ، وكان قبل ذلك صفائح .
وفي { السَّرْدِ } قولان :
أحدهما : أنه النقب الذي في حلق الدرع ، قاله ابن عباس ، قال لبيد :
وما نسجت أسراد داود وابنه ... مضاعفة من نسجه إذ يقاتل
الثاني : أنه المسامير التي في حلق الدرع ، قاله قتادة ، مأخوذ من قولهم : سرد الكلام يسرده إذا تابع بينه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : في الأشهر الحرم ثلاثة سردٌ وواحد فرد . وقال الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
وحكى ضمرة بن شوذب أن داود عليه السلام كان يرفع كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلآف درهم ، ألفان لأهله ، وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري .
وحكى يحيى بن سلام والفراء أن لقمان حضر داود عند أول درع عملها فجعل يتفكر فيما يريد به ولا يدري ما يريد ، فلم يسله حتى إذا فرغ منها داود قام فلبسها وقال : نعمت جنة الحرب هذه ، فقال لقمان : الصمت حكمة وقليل فاعله .
{ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } فيه وجهان
: أحدهما : هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قاله ابن عباس .
الثاني : فعل جميع الطاعات .
{ إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي يعلم ما تعملون من خير أو شر .
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
قوله عز وجل : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي وسخرنا لسليمان الريح
. { غُدُوَّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } قال قتادة : تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين .
وقال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ويروح فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للمسرع .
{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } قال قتادة هي عين بأرض اليمن ، قال السدي : سيلت له ثلاثة أيام ، قال عكرمة : سال له القطر ثلاثة أيام من صنعاء اليمن كما يسيل الماء .
وقال الضحاك : هي عين بالشام .
وفي القطر قولان :
أحدهما : أنه النحاس ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي .
الثاني : الصَّفر ، قاله مجاهد وعطاء وابن زيد .
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني أن منهم من سخره الله تعالى للعمل بين يديه ، فدل على أن منهم غير مسخر .
{ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي بأمر ربه
. { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } فيه قولان
: أحدهما : يعني عن طاعة الله تعالى وعبادته ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عما يأمره سليمان ، قاله قتادة : لأن أمر سليمان كان كأمر الله تعالى لكونه نبياً من أنبيائه .
{ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ } أي النار المسعرة وفيه قولان
: أحدهما : نذيقه ذلك في الآخرة ، قاله الضحاك .
الثاني : في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام . لأنه لم يكن يسخر منهم إلا الكفار فإذا آمنوا أرسلوا ، قال وكان مع المسخرين منهم ملك بيده سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان ضربه الملك بذلك السوط .
قوله عز وجل : { يَعْمَلَونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها قصور ، قاله عطية .
الثاني : المساجد ، قاله قتادة ، والحسن .
الثالث : المساكن ، قاله ابن زيد .
قال أبو عبيدة : محراب الدار أشرف موضع فيها ، ولا يكون إلا أن يرتقى إليه .
{ وَتَمَاثِيلَ } هي الصور ، قال الحسن ولم تكن يومئذ محرمة ، وفيها قولان
: أحدهما : أنها من نحاس ، قاله مجاهد .
الثاني : من رخام وشبَه ، قاله قتادة .
ثم فيها قولان :
أحدهما : أنها كانت طواويس وعقاباً ونسوراً على كرسيه ودرجات سريره لكي يهاب من شاهدها أن يتقدم ، قاله الضحاك .
الثاني : صور الأنبياء الذين قبله ، قاله الفراء .
{ وِجِفَانٍ } قال مجاهد : صحاف
. { كَالْجَوَابِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : كالحياض ، قاله الحسن .
الثاني : كالجوبة من الأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : كالحائط ، قاله السدي .
{ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : عظام ، قاله مجاهد .
الثاني : أن أثافيها منها ، قاله ابن عباس .
الثالث : ثابتات لا يزلن عن أماكنهن ، قاله قتادة ، مأخوذ من الجبال الرواسي لثبوتها وثبوت الأرض بها . قال ابن جريج : ذكر لنا أن تلك القدور باليمن أبقاها الله تعالى آية وعبرة .
{ اعْمَلُواْ ءَال دَاوُدَ شُكْراً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : أنه توحيد الله تعالى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : تقوى الله والعمل بطاعته ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : صوم النهار وقيام الليل ، قاله ابن أبي زياد ، فليس ساعة من نهار إلا وفيها من آل داود صائم ولا ساعة من الليل إلا وفيها من آل داود قائم .
الرابع : اعملوا من الأعمال ما تستوجبون عليه الشكر ، قاله ابن عطاء .
الخامس : اذكروا أهل البلاء وسلوا ربكم العافية .
السادس : ما حكاه الفضيل أنه لما قال الله تعالى : { اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً } فقال داود إِلهي كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قاله : « الآنَ شَكَرْتِنِي حِينَ عَلمْتَ أَنَّ النِّعَمَ مِنِّي
» . { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : المؤمن ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الموحّد ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : المطيع ، وهو مقتضى قول محمد بن كعب .
الرابع : ذاكر نعمه ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال : « ثَلاَثَةٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُتُي مِثْلُ مَا أوتِيَ ءَالُ دَاوُد : العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا ، والقَصدُ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى ، وَخَشَيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِ وَالعَلاَنِيَةِ
» . وفي الفرق بين الشاكر والشكور ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الشاكر من لم يتكرر شكره والشكور من تكرر شكره .
الثاني : أن الشاكر على النعم والشكور على البلوى .
الثالث : أن الشاكر خوفه أغلب والشكور رجاؤه أغلب .
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قوله عز وجل : { فََلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ . . } الآية . روى عطاء بن السائب . عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ سُلَيْمَانَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يُصَلِّي صَلاَةً إلاَّ وَجَدَ شََجَرَةً ثَّابِتَةً بَيْنَ يَدَيهِ فَيقُولُ لَهَا : مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ : كَذَا كَذَا ، فَيقُولُ لَمَا أَنتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا ، فَصَلَّى يَوماً فَإِذَا شَجَرةٌ ثَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتْ : الخَرُّوبُ فَقَالَ : لِمَ أَنتَ؟ فَقَالَتْ لِخَرَابِ هذَا البَيْتِ . فَقَالَ سُلَيمَانُ اللَّهُمَّ أَغُمَّ عَلَى الجِنِّ مَوتي حَتَّى يَعْلَمُ الإنسُ أَنَّ الجِنَّ كَانُوا لاَ يَعْلَمُونَ الغَيبَ قَالَ فَهَيَّأََ عَصاً ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيهَا حَولاً وَهُم لا َ يَعلَمُونَ ، قَالَ ثُمَّ أَكَلَتْهَا الأَرَضَةُ فَسَقَطَ فَعَلِمُواْ عِندَ ذَلِكَ مَوتَهُ فَشَكَرَتِ الجِنُّة ذلِكَ لِلأَرضَةِ فَإنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالمَاءِ » قال السدي : والطين ، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنما هو مما تأتيها به الشياطين شكراً : قال وقدروا مقدار أكلها العصا فكان مقدار سنة .
وفي { دَابَّةُ الأَرْضِ } قولان :
أحدهما : الأرضة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقد قرىء دابة الأرض بفتح الراء وهو واحد الأرضة .
الثاني : أنها دابة تأكل العيدان يقال لها القادح ، قاله ابن زيد .
والمنسأة العصا ، قال الشاعر :
إذا دببت على المنسأة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وأصلها مأخوذ من نسأت الغنم إذا سقتها ، وقال السدي هي العصا بلسان الحبشة .
وفي دلالتها للجنة على موته قولان :
أحدها : وهو المشهور المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان وقف في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه فمات وبقي على حاله قائماً على عصاه سنة والجن لا تعلم بموته ، وقد كان سأل الله أن لا يعلموا بموته حتى مضى عليه سنة .
واختلف في سبب سؤاله لذلك على قولين :
أحدهما : لأن الجن كانوا يذكرون للإنس أنهم يعلمون الغيب ، فسأل الله تعالى ذلك ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وهذا مأثور .
الثاني : لأن داود عليه السلام كان أسس بيت المقدس ثم مات فبناه سليمان بعده وسخر الجن في عمله ، وقد كان بقي من إتمامه بعد موته بناء سنة فسأل الله تعالى ألا يعلم الجن بموته حتى يتموا البناء فأتموه .
ثم دلتهم دابة الأرض في أكل منسأته على موته بعد سنة من موته لأنه سقط عنها حين أكلتها الأرضة فعلمت الجن أنه قد مات .
والقول الثاني : ما حكاه ابن عباس أن الله تعالى ما قبض نبيه سليمان إلا على فراشه وكان الباب في وجهه مغلقاً على عادته في عبادته فلما كان بعد سنة أكلت الأرضة العتبة فخر الباب ساقطاً فتبينت الجن ذلك . قال : وكان سليمان يعتمد على العتبة إذا جلس .
{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ } والشياطين ومن كانوا مسخرين في العمل
. { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
الثاني : تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة . وروى سفيان عن عمر وعن ابن عباس أنه كان يقرأ التلاوة : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإنسُ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ سَنَةً } .
الثالث : أن الجن دخلت عليهم شبهة توهموا بها أنهم يعلمون الغيب لما خر تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .
وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه واستكمل بناءه في السنة الحادية عشرة من ملكه وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ من بنائه عيداً ، وقام على الصخرة رافعاً يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني على بناء هذا المسجد فأوزعني [ أن ] أشكرك على ما أنعمت علي ، وتوفني على ملتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني اسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلا أمنته ، ولا سقيم إلا شفيته ، ولا فقير إلا أغنيته ، والخامس ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه ، إلا من أراد إلحاداً أو ظلماً يا رب العالمين .
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
قوله عز وجل : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِي مَسْكَنِهِمْ } الآية . وقد ذكرنا اختلاف الناس في سبإ على قولين :
أحدهما : أنه اسم أرض باليمن يقال لها مأرب ، قاله سفيان .
الثاني : اسم قبيلة .
واختلف من قال بهذا هل هو اسم امرأة أو رجل على قولين .
أحدهما : أنه اسم امرأة نسبت القبيلة إليها لأنها أمهم .
الثاني : أنه رجل . روي أن فروة الغطيفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أبلد أم رجل أم امرأة؟ فقال : « بَلْ رَجُلٍ وَلَدَ عَشْرَةً ، فَسَكَنَ اليَمَنَ مِنهُم سِتَّةٌ وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ أَمَّا اليَمَانِيُّونَ فَمَذْحَجٌ وَكِيْدَهٌ وَالأزد وَالأَشعَرِيُّونَ وَأَنَمَارُ وحِمْيَرُ وَأَمَّا الشَّامِيُّونَ فَلَخْمٌ وَخِذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ
» . وذكر أهل النسب أنه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . قال السدي : بعث إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً .
وأما { جَنَّتَانِ } فقال سفيان وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما : نحن بنينا سالمين ، في سبعين خريفاً دائبين ، وعلى الآخر : نحن بنينا صرواح ، مقيل ومراح ، وكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله .
وفي الآية التي لسبأ في مساكنهم قولان :
أحدهما : أنه لم يكن في قريتهم بعوضة قط ولا ذبابة ولا برغوث ولا حية ولا عقرب وان الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب فتموت تلك الدواب ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثاني : أن الآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلىء وما مسته بيدها ، قاله قتادة .
{ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبّكُمْ } يعني الذي رزقكم من جنتكم
. { وَاشْكُرُواْ لَهُ } يعني على ما رزقكم
. { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } قال مجاهد : هي صنعاء
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : لأن أرضها وليست بسبخة .
الثاني : لأنها ليس بها هوام .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
قوله عز وجل : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } فيها قولان :
أحدهما : أنها بيت المقدس ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها الشام ، قاله مجاهد وقتادة .
{ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني بالشجر والثمر والماء . وقيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية .
ويحتمل أن يكون التي باركنا فيها بكثرة العدد .
{ قُرىً ظَاهِرَةً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : متصلة ينظر بعضهم إلى بعض ، قاله الحسن ، وأبو مالك .
الثاني : أنها العامرة .
الثالث : الكثيرة الماء .
الرابع : أن القرى الظاهرة هي القرى القريبة ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها السروات ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها قرى لصنعاء ، قاله ابن منبه .
الثالث : أنها قرى ما بين مأرب والشام ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ } فيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : قدرنا فيها المقيل والمبيت ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم كانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى ، قاله الحسن .
الثالث : أنه قدر فيها السير بأن جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً ، قاله ابن قتيبة .
{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ } فيه قولان
: أحدهما : من الجوع والظمأ ، قاله قتادة . حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلىء من الثمر .
الثاني : آمنين من الخوف قاله يحيى بن سلام ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه .
قوله عز وجل : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير { بَعِّد } بغير ألف وبتشديد العين ، وقرأ الباقون { بَاعِدْ } بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو اسرائيل المن والسلوى ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى ، قاله ابن عيسى ، وهو قريب من الأول لأنه بطر . فصار نوعاً من الملل .
الثالث : معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا ، حكاه النقاش . وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة .
وقرأ بعض القراء { بَعُد } بضم العين وتخفيفها ، وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره .
{ وَظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا ، قاله بن زيد .
الثاني : بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر نبياً . قال الكلبي : أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذبون : وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض .
الثالث : أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين ، قاله الحسن .
{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صارواْ إليه من هلاك ، حتى ضرب المثل فقيل : تفرقوا أيدي سبأ ، ومنه قول الشاعر :
باد قوم عصف الدهر بهم ... فرقوا عن صرفه أيدي سبأ
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم مزقوا بالتفريق والتباعد ، قاله قتادة .
حكى الشعبي قال : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما خزاعة فحلقوا بمكة ، وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان .
{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : صبار على البلوى شكور على النعماء .
الثاني : صبور على أمر الله شكور في طاعة الله .
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه لما أُهْبِطَ آدم من الجنة ومعه حواء ، وهبط إبليس ، قال إبليس أما إذ أصيب من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف وكان ظناً من إبليس ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } قاله الحسن .
الثاني : أن إبليس إذ قال : خُلِقْتُ من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء ، لأحتنكن ذريته إلا قليلاً ، فصدق ظنه عليه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه قال : يا رب أرأيت هؤلاء القوم الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علىّ لا تجد أكثرهم شاكرين ، ظن منه فصدق عليهم ظنه ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضَلّهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه قاله الكلبي .
{ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَريقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : فاتبعوا إبليس ، قاله الحسن .
الثاني : فاتبعوا ظنه ، قاله مجاهد .
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله عز وجل : { وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } حكى الفراء فيه وجهين :
أحدهما : حتى يؤذن له في الشفاعة .
الثاني : حتى يؤذن له فيمن يشفع له ، ووجدت الأول قول الكلبي والثاني قول مقاتل .
{ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : معناه خلي عن قلوبهم الفزع ، قاله ابن عباس ، وقال قطرب : أخرج ما فيها من الخوف .
الثاني : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم الشياطين فزع عن قلوبهم ففارقوا ما كانوا عليه من إضلال أوليائهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنهم دعوا فاستجابوا من قبورهم مأخوذ من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ فسمي الداعي فزعاً والمجيب فزعاً ، قال زهير :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا قصار ولا عُزْلُ
الخامس : أنهم الملائكة فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا ، فخرُّوا عنده سجوداً مخافة القيامة فسألوا فقالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق أي الوحي ، وهذا معنى قول كعب .
السادس : وهو تأويل قراءة الحسن : حتى فرغ عن قلوبهم بالغين معجمة يعني فرغ ما فيها من الشك والشرك .
{ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي قال لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا
. { قَالُواْ الْحَقَّ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يجدوا ما وصفوه عن الله تعالى حقاً .
الثاني : أن يصدقوا بما قاله الله تعالى أنه حق .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله عز وجل : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن رزق السموات المطر ورزق الأرض النبات ، قاله الكلبي .
الثاني : أن رزق السموات ما قضاه من أرزاق عباده ، ورزق الأرض ما مكنهم فيه من مباح . { قُلِ اللَّهُ } وهذا جواب قل من يزرقكم من السموات والأرض ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للمشركين حين سئلوا عن ذلك لأنهم لا يجحدون أن الله رازقهم .
الثاني : أن يكون أمراً في أمر الله أي يجابوا به لأنهم لا يجحدونه لتقوم به الحجة عليهم .
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه : إننا نحن لعلى هدى وإنكم أنتم لفي ضلال مبين ، قاله عكرمة وأبو عبيدة وزياد بن أبي مريم . قال الفراء : أو بمعنى الواو .
الثاني : أن أحدنا لعلى هدى والآخر لفي ضلال مبين ، دفعاً لأنقصهما ، ومنعاً من أرذلهما كقول القائل : إن أحدنا لكاذب ، دفعا للكذب عن نفسه وإِضافته إلى صاحبه وإن أحدنا لصادق ، إضافة للصدق إلى نفسه ودفعاً عن صاحبه ، قاله مجاهد .
الثالث : معناه : الله رزقنا وإياكم لعلى هدى كنا أو في ضلال مبين حكاه النقاش .
قوله عز وجل : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يعني يوم القيامة .
{ ثُمُّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي يقضي بيننا لأنه بالقضاء يفتح وجه الحكم ، وقال السدي هي لغة يمانية .
قوله : { بِالْحَقِّ } قال مجاهد : بالعدل .
{ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَليمُ } أي القاضي العليم وفيه ثلاثة أوجه
: أحدها : العليم بما يخفون ، قاله محمد بن إسحاق .
الثاني : العليم بالحكم ، قاله ابن زياد .
الثالث : العليم بخلقه ، قاله مقاتل .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله عز وجل : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني أنه رسول إلى كافة الناس أي إلى جميعهم ، قال ابن عباس .
الثاني : معناه أنك رسول الله إلى جميع الناس وتضمهم ، ومنه كف الثوب لأنه ضم طرفيه .
الثالث : معناه إنا أرسلناك كافاً للناس أي مانعاً لهم من الشرك وأدخلت الهاء للمبالغة ، قاله ابن بحر .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني كفار العرب ، { لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءانِ وَلاَ بِالَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : التوراة ، والإِنجيل ، قاله السدي .
الثاني : من الأنبياء والكتب ، قاله قتادة .
الثالث : من أمر الآخرة ، قاله ابن عيسى . قال ابن جريج : قائل ذلك أبو جهل ابن هشام .
قوله عز وجل : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه بل غركم اختلاف الليل والنهار ، قاله السدي .
الثاني : بل عملكم من الليل والنهار ، قاله سفيان .
الثالث : بل معصية الليل والنهار ، قاله قتادة .
الرابع : بل مر الليل والنهار ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : بل مكرهم في الليل والنهار ، قاله الحسن .
{ إذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } فيه وجهان
: أحدهما : أشباهاً ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : شركاء ، قاله أبو مالك .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قوله عز وجل : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } يعني من نبي ينذرهم بعذاب الله .
{ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } فيهم ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني جبابرتها ، قاله ابن جريج .
الثاني : أغنياؤها ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : ذوو النعم والبطر ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً } قالوا ذلك للأنبياء والفقراء ويحتمل قولهم ذلك وجهين :
أحدهما : أنهم بالغنى والثروة أحق بالنبوة .
الثاني : أنهم أولى بما أنعم الله عليهم من الغنى أن يكونوا على طاعة .
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أي ما عذبنا بما أنتم فيه من الفقر .
الثاني : أي ما أنعم الله علينا بهذه النعمة وهو يريد عذابنا ، فرد الله تعالى عليهم ما احتجوا من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم .
{ قُلْ إنَّ رَبِّي يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } أي يوسعه . { وَيَقْدِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أن يقترعليه ، قال الحسن يبسط لهذا مكراً به ، ويقدر لهذا نظراً له .
الثاني : بنظره له ، رواه حصين بن أبي الجميل .
الثالث : بخير له ، رواه حارث بن السائب .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله يوسع على من يشاء ويقتر على من يشاء .
قوله عز وجل : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ بالتَّي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } قال مجاهد : أي قربى والزلفة القربة ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن أموالكم في الدنيا لا تدفع عنكم عذاب الآخرة .
الثاني : أن إنعامنا بها عليكم في الدنيا لا يقتضي إنعامنا عليكم بالجنة في الآخرة .
{ إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } روى ليث عن طاووس أنه كان يقول اللهم ارزقني الإيمان والعمل ، وجنبني المال والولد ، فإني سمعت فيما أوحيْتَ { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بَالَّتِي تُقَرِّبْكْمُ عِندَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالِحاً } .
{ فَأُوْلئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه أضعاف الحسنة بعشر أمثالها ، وأضعاف الدرهم بسبعمائة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن المؤمن إذا كان غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : يعني فله جزاء مثل عمله لأن الضعف هو المثل ويقتضي ذلك المضاعفة ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ } يعني غرفات الجنة
. { ءَامِنُونَ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : آمنون من النار ، قاله يحيى ابن سلام .
الثاني : من انقطاع النعم ، قاله النقاش .
الثالث : من الموت ، قاله مقاتل .
الرابع : من الأحزان والأسقام .
قوله عز وجل : { وَمآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فهو يخلفه إن شاء إذا رأى ذلك صلاحاً كإجابة الدعاء ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يخلفه بالأجر في الآخرة إذا أنفقه في طاعة ، قاله السدي .
الثالث : معناه فهو أخلفه لأنه نفقته من خلف الله ورزقه ، قاله سفيان بن الحسين .
ويحتمل رابعاً : فهو يعني عنه .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
قوله عز وجل : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المشركين ومن عبدوه من الملائكة .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤلآَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وهذا السؤال للملائكة تقرير وليس باستفهام ، وإن خرج مخرج الاستفهام .
{ قََالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم } فيه وجهان
: أحدهما : أنت الذي توالينا بالطاعة دونهم .
الثاني : أنت ناصرنا دونهم .
{ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني أنهم أطاعوا الجن في عبادتنا ، وصاروا بطاعتهم عابدين لهم دوننا .
{ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } أي جميعهم بهم مؤمنون ، وهذا خروج عن الظاهر .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
قوله عز وجل : { وََمَآ ءَاتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني مشركي قريش ما أنزل الله تعالى عليهم كتاباً قط يدرسونه ، فيه وجهان :
أحدهما : فيعلمون بدرسه أن ما جئت به حق أم باطل ، قاله السدي .
الثاني : فيعلمون أن الله تعالى شريكاً على ما زعموه ، قاله ابن زيد .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَآ إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } أي ما بعثنا إليهم رسولاً غيرك
. قوله عز وجل : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءاتَيْنَاهُمْ } فيه أربعة
: أحدها : يعني أنهم ما عملوا معشار ما أمروا به ، قاله الحسن .
الثاني : أنه يعني ما أعطى الله سبحانه قريشاً ومن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من أمته معشار ما أعطى من قبلهم من القوة والمال ، قاله ابن زيد .
الثالث : ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم ، حكاه النقاش .
الرابع : ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من البيان والحجة والبرهان . قال ابن عباس فليس أمة أعلم من أمته ولا كتاب أبين من كتابه .
وفي المعشار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العشر وهما لغتان .
الثاني : أنه عشر العشر وهو العشير .
الثالث : هو عشير العشير ، والعشير عشر العشر ، فيكون جزءاً من ألف جزء ، وهو الأظهر ، لأن المراد به المبالغة في التقليل .
{ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي عقابي وفي الكلام إضمار محذوف وتقديره : فأهلكناهم فكيف كان نذير .
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
قوله عز وجل : { قُلْ إنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني بطاعة الله عز وجل ، قاله مجاهد .
الثاني : بالا إله إلا الله ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : بالقرآن لأنه يجمع كل المواعظ .
{ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } يعني أن تقوموا لله بالحق ، ولم يُرد القيام على الأرجل كما قال تعالى : { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسطِ } [ النساء : 127 ] .
وفي قوله : { مَثْنَى وَفُرَادَى } ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه جماعة وفرادى ، قاله السدي .
الثاني : منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره ، وهذا قول مأثور .
الثالث : مناظراً مع غيره ومفكراً في نفسه ، قاله ابن قتيبة .
ويحتمل رابعاً : أن المثنى عمل النهار ، والفرادى عمل الليل ، لأنه في النهار . مُعانٌ وفي الليل وحيد .
{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } قال قتادة أي ليس بمحمد جنون . { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } يعني في الآخرة ، قال مقاتل : وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل كفار قريش ألا يؤذوه ويمنعوا منه لقرابته منهم حتى يؤدي رسالة ربه ، فسمعوه يذكر اللات والعزى في القرآن فقالوا يسألنا ألا نؤذيه لقرابته منا ويؤذينا بسبب آلهتنا فنزلت هذه الآية .
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قوله عز وجل : { قُلْ مَا سأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : من مودة قاله ابن عباس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قريشاً أن يكفوا عن أذيته حتى يبلغ رسالة ربه .
الثاني : من جُعْل قاله قتادة ، ويشبه أن يكون في الزكاة .
ويحتمل ثالثاُ : أن أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي فهو لكم دوني .
{ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ } أي ما ثوابي إلا على الله في الآخرة
. { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ } فيه وجهان
: أحدهما : شهيد أن ليس بي جنون .
الثاني : شهيد أني لكم نذير بين يدي عذاب شديد .
قوله عز وجل : { قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } فيه تأويلان :
أحدهما : بالوحي ، قاله قتادة .
الثاني : بالقرآن ، رواه معمر .
وفي قوله : { يَقْذِفُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يتكلم .
الثاني : يوحي .
الثالث : يلقي .
{ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } قال الضحاك : الخفيات
. قوله عز وجل : { قُلْ جَآءَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
الثاني : القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : الجهاد بالسيف ، قاله ابن مسعود .
{ وَمَا يُبْدِيءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الباطل الشيطان . رواه معمر .
الثاني : أنه إبليس . رواه خليد .
الثالث : أنه دين الشرك ، قاله ابن بحر .
وفي إبداء الباطل وإعادته ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يخلق ولا يبعث ، قاله قتادة .
الثاني : لا يحيي ولا يميت ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يثبت إذا بدا ، ولا يعود إذا زال ، قاله ابن بحر .
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَى إذْ فِزَعُواْ } في فزعهم خمسة أقاويل
: أحدها : فزعهم يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثاني : فزعهم في الدنيا حين رأو بأس الله عز وجل : قاله قتادة .
الثالث : هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعوا فهذا هو فزعهم ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة ، قاله السدي .
الخامس : هو فزعهم في القبور من الصيحة ، قاله الحسن .
وفي قوله تعالى : { فَلاَ فَوْتَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : فلا نجاة ، قاله ابن عباس .
الثاني : فلا مهرب ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : فلا سبق ، قاله قتادة .
{ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : من تحت أقدامهم ، قاله مجاهد .
الثاني : يوم بدر ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : هو جيش السفياني ، قاله ابن عباس .
الرابع : عذاب الدنيا ، قاله الضحاك .
الخامس : حين خرجوا من القبور ، قاله الحسن .
السادس : هو يوم القيامة ، قاله القاسم بن نافع .
ويحتمل سابعاً : في أسرِّ ما كانوا فيه نفوساً ، وأقوى ما كانوا عليه أملاً لأنه أقرب بلاء من نعمه .
قوله عز وجل : { وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني بالله ، قاله مجاهد .
الثاني : بالبعث ، قاله الحسن .
الثالث : بالرسل ، قاله قتادة .
{ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } وفي التناوش ثلاثة أقاويل
: أحدها : هو الرجعة ، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تؤوب إليّ ميٌّ ... وليس إلى تناوشها سبيل
الثاني : هو التوبة ، قاله السدي
. الثالث : هو التناول من قولهم نشته أنوشه نوشاً إذا تناوله من قريب ، وقد تناوش القوم إذا دنا بعضهم من بعض ولم يلتحم القتال بينهم ، قال الشاعر :
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا
{ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : من الآخرة إلى الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : ما بين الآخرة والدنيا ، رواه القاسم بن نافع .
الثالث : هو طلبهم الأمر من حيث لا ينال ، قاله الحسن .
ويحتمل قولاً رابعاً : بعيد عليهم لاستحالته عندهم .
قوله عز وجل : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كفروا بالله تعالى ، قاله مجاهد .
الثاني : بالبعث ، قاله الحسن .
الثالث : بالرسول ، قاله قتادة .
{ مِن قَبْلُ } فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : من قبل العذاب .
{ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه يرجمون بالظن ويقولون في الدنيا لا بعث ولا جنة ولا نار ، قاله الحسن .
الثاني : أنه طعنهم في القرآن ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثالث : هو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر ، قاله مجاهد ، وسماه قذفاً لخروجه عن غير حق .
قوله عز وجل : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني بالموت ، وفيه خمسة تأويلات :
أحدها : حيل بينهم وبين الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : بينهم وبين الإيمان ، قاله الحسن .
الثالث : بينهم وبين التوبة ، قاله السدي .
الرابع : بينهم وبين طاعة الله تعالى ، قاله خليد .
الخامس : حيل بين المؤمن وبين العمل ، وبين الكافر وبين الإيمان ، قاله يزيد بن أبي يزيد .
{ كَمَا فُعِلَ بِأَشْياعِهِم مّن قَبْلُ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم أوائلهم من الأمم الخالية ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة ، قاله الضحاك .
الثالث : هم أمثالهم من الكفار الذين لم يقبل الله سبحانه منهم التوبة عند المعاينة .
{ إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعرفون نبيهم ، قاله مقاتل .
الثاني : هو شكهم في وقوع العذاب ، قاله الضحاك .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } والفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحسن يقال فطر ناب الناقة إذا طلع ، وفطر دمه إذا أخرجه . قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها .
وفي تأويله ههنا وجهان :
أحدهما : خالق السموات والأرض ، قاله قتادة ، والكلبي ، ومقاتل .
الثاني : أنه شقها لما ينزل منها وما يعرج فيها .
{ جَاعِلِ الْمَلآَئِكَةِ رُسُلاً } فيه قولان
: أحدهما : إلى الأنبياء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلى العباد رحمة أو نقمة ، قاله السدي .
{ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } قال قتادة : بعضهم له جناحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة . والمثنى والثلاث والرباع ما تكرر فيه الاثنان والثلاثة والأربعة .
{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه حسن الصوت ، قاله الزهري وابن جريج .
الثاني : أنه الشعر الجعد ، حكاه النقاش .
الثالث : يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أنه العقل والتمييز .
ويحتمل خامساً : أنه العلوم والصنائع . ويكون معناه على هذين التأويلين :
كما يزيد في الخلق ما يشاء كذلك يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء .
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
قوله عز وجل : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : من خير ، قاله قتادة .
الثاني : من مطر ، قاله السدي .
الثالث : من توبة ، قاله ابن عباس .
الرابع : من وحي ، قاله الحسن .
الخامس : من رزق وهو مأثور .
السادس : من عافية ، قاله الكلبي .
السابع : من دعاء ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثامناً : من توفيق وهداية .
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
قوله عز وجل : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ، قاله أبو قلابة ، ويكون سوء عمله معاندة الرسول .
الثاني : أنهم الخوارج ، رواه عمرو بن القاسم ، ويكون سوء عمله تحريف التأويل .
الثالث : الشيطان ، قاله الحسن ويكون سوء عمله الإغواء .
الرابع : كفار قريش ، قاله الكلبي ، ويكون سوء عملهم الشرك .
وقيل إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب ، وقال غيره نزلت في أبي جهل بن هشام .
في قوله : { فَرءَاهُ حَسَناً } وجهان :
أحدهما : صواباً ، قاله الكلبي .
الثاني : جميلاً .
وفي الكلام محذوف اختلف فيه على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المحذوف منه : فإنه يتحسر عليه يوم القيامة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن المحذوف منه : كمن آمن وعمل صالحاً لا يستويان ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن المحذوف منه : كمن عمل الحسن والقبح .
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } فيه قولان
: أحدهما : يعني بالعزة المنعة فيتعزز بطاعة الله تعالى ، قاله قتادة .
الثاني : علم العزة لمن هي ، فلله العزة جميعاً .
وقيل إن سبب نزول هذه الآية ما رواه الحسن أن المشركين عبدوا الأوثان لتعزهم كما وصف الله تعالى عنهم في قوله : { وَاتَّخَذُواْ مِن اللهِ دُونِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُم عِزّاً } فأنزل الله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فِلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } .
{ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } فيه قولان
: أحدهما : أنه التوحيد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الثناء علىمن في الأرض من صالح المؤمنين يصعد به الملائكة المقربون ، حكاه النقاش .
{ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فيه قولان
: أحدهما : أنه أداء الفرائض .
الثاني : أنه فعل القرب كلها .
وفي قوله : { يَرْفَعُهُ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب ، قاله الحسن ، ويحيى بن سلام .
الثاني : أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب ، قاله الضحاك وسعيد بن جبير .
الثالث : أن العمل يرفعه الله بصاحبه ، قاله قتادة ، السدي .
{ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } يعني يشركون في الدنيا
. { لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ } يعني في الآخرة
. { وَمَكْرُ أُوْلئِكَ هُوَ يَبُورُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يفسد عند الله تعالى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يبطل ، قاله قتادة .
الثالث : يهلك ، والبوار الهلاك ، قاله قطرب .
وفي المراد : { أُوْلئِكَ } قولان :
أحدهما : أهل الشرك .
الثاني : أصحاب الربا ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } يعني آدم .
{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } يعني نسله
. { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } فيه وجهان :
أحدهما : أصنافاً ، قاله الكلبي .
الثاني : ذكراناً وإناثاً ، والواحد الذي معه آخر من شكله زوج والاثنان زوجان ، قال الله تعالى : { وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينَ الذَّكَرَ والأُنْثَى } [ النجم : 45 ] وتأول قتادة قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي زوّج بعضكم لبعض .
{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } يعني بأمره
. { وَمَا يَعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ منْ عَمُرِهِ . . } الآية . فيه قولان
: أحدهما : ما نمد في عمر معمر حتى يصير هرماً . ولا ينقص من عمر أحد حتى يموت طفلاً إلا في كتاب .
الثاني : ما يعمر من معمر قدر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه بالأيام الماضية عليه في كتاب عند الله .
قال سعيد بن جبير : هي صحيفة كتب الله تعالى في أولها أجله ، ثم كتب في أسفلها ذهب يوم كذا ويوم كذا حتى يأتي على أجله ، وبمثله قال أبو مالك ، والشعبي .
وفي عمر المعمر ثلاثة أقاويل :
أحدها : ستون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربعون سنة .
الثالث : ثماني عشرة سنة ، قاله أبو غالب .
{ . . . إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي هين
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن إثبات ذلك على الله يسير .
الثاني : أن زيادة عمر المعمر ونقصان عمر الآخر عند الله تعالى يسير .
وللكلبي فيه ثالث : أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير .
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ما يستويان في أنفسهما .
الثاني : في منافع الناس بهما .
{ هذَا عَذْبٌ فُراتٌ } والفرات هو العذب وذكره تأكيداً لاختلاف اللفظين كما يقال هذا حسن جميل .
{ سَآئَغٌ شَرَابُهُ } أي ماؤه
. { وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي مُرٌّ مأخوذ من أجة النار كأنه يحرق من شدة المرارة ، قال الشاعر :
دُرَّةٌ في اليمين أخرجها الغا ... ئص من قعر بحر ملح أجاج
{ وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني لحم الحيتان مأكول من كلا البحرين
. { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } اللؤلؤ والمرجان يستخرج من الملح ، ويكون المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما .
وقيل : بل هو مأخوذ منهما لأن في البحر عيوناً عذبة ، وما بينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج وقيل من مطر السماء .
ثم قال : { تَلْبَسُونَهَا } وإن لبسها النساء دون الرجال لأن جمالها عائد عليهم جميعاً .
{ وَتَرى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : مقبلة ومدبرة وريح واحدة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : مواقر ، قاله الحسن . قال الشاعر :
تراها إذا راحت ثقالاً كأنها ... مواخر فلك أو نعام حوافل
الثالث : معترضة ، قاله أبو وائل
. الرابع : جواري ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : تمخر الماء أي تشقه في جريها شقاً ، قاله علي بن عيسى .
{ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال مجاهد : التجاة في الفلك
. ويحتمل وجهاً آخر ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتان .
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فيه وجهان ] :
أحدهما : على ما آتاكم من نعمه .
الثاني : على ما آتاكم من فضله .
ويحتمل ثالثاً : على ما أنجاكم من هوله .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله عز وجل : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى } أي لا تحمل نفس ما تحمله نفس أخرى من ذنوبها ، ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال الملك بتدبيره .
{ وَإن تَدَعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَل مِنْهُ شَيْءٌ } قال مجاهد مثقلة بالذنوب ، ومعنى الكلام أن النفس التي قد أثقلتها ذنوبها إذا دعت يوم القيامة من يتحمل الذنوب عنها لم تجد من يتحمل عنها شيئاً من ذنوبها .
{ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ولو كان المدعو إلى التحمل قريباً مناسباً ، ولو تحمله عنها ما قُبل تحمله ، لما سبق من قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
{ إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهَم بِالْغَيْبِ } فيه وجهان
: أحدهما : في السر حيث لا يطلع عليه أحد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : في التصديق بالآخرة ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : يخشونه في ضمائر القلوب كما يخشونه في ظواهر الأفعال .
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . . } الآية . فيه قولان
: أحدهما : أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، كما لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا تستوي الظلمات ولا النور ، ولا يستوي الظل ولا الحرور لا يستوي المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
الثاني : أن معنى قوله وما يستوي الأعمى والبصير أي عمى القلب بالكفر وبصره بالإيمان ، ولا تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ، ولا يستوي ظل الجنة وحرور النار ، قاله السدي .
والحرور الريح الحارة كالسموم ، قال الفراء : الحرور يكون بالليل والنهار ، والسموم لا يكون إلا بالنهار .
وقال الأخفش : الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل والنهار .
قال قطرب : الحرور الحر ، والظل البرد . ومعنى الكلام : أنه لا يستوي الجنة والنار .
قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
الثاني : أن الأحياء المؤمنون الذين أحياهم الإيمان . والأموات الكفار الذين أماتهم الكفر وهذا مقتضى قول السدي .
الثالث : أن الأحياء العقلاء ، والأموات الجهال ، قاله ابن قتيبة وفي { لاَ } في هذا الموضع وفيما قبله قولان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكدة .
الثاني : أنا نافية لاستواء أحدهما بالآخر .
{ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } أي يهدي من يشاء
. { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِِ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه مثل ضربه الله ، كما أنك لا تُسمع الموتى في القبور كذلك لا تسمع الكافر .
الثاني : أن الكافر قد أماته الكفر حتى أقبره في كفره فلذلك لا يسمع ، وقيل إن مراد الله تعالى بهذه الآية الإخبار أن بين الخير فروقاً ، كما أن بين الشر فروقاً ، ليطلب من درجات الخير أعلاها ولا يحتقر من درجات الشر أدناها ، وهو الظاهر من قول علي ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً } أي بالقرآن بشرى بالجنة .
{ وَنَذِيراً } من النار . { وَإن مَّنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أي سلف فيها نبي ، قال ابن جريج : إلا العرب .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَنْا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } وفيه مضمر محذوف تقديره مختلف ألوانها وطعومها وروائحها ، فاقتصر منها على ذكر اللون لأنه أظهرها { وَمِنَ الْجبَالَ جُدَدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ، حكاه ابن بحر .
الثاني : أنها الخطط واحدتها جُدة مثل مُدة ومدد ، ومنه قول زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جُدد ... طاوٍ ويرتع بعد الصيف عريانا
{ بِيضُ وَحُمرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } والغربيب الشديد السواد الذي لونه كلون الغراب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الشَّيخَ الْغِرْبِيبَ » يعني الذي يخضب بالسواد ، قال امرؤ القيس :
العين طامعة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره سود غرابيب
. وفي المراد بالغرابيب السود ثلاثة أوجه :
أحدها : الجبال السود ، قاله السدي .
الثاني : الطرائف السود ، قاله ابن عباس .
الثالث : الأودية السود ، قاله قتادة .
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوآبِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ } فيه وجهان
: أحدهما : كذلك مختلف ألوانه أبيض وأحمر وأسود .
الثاني : يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية .
ثم استأنف فقال : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَآءُ } يعني بالعلماء الذين يخافون .
قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم . قال ابن مسعود : المتقون سادة ، والعلماء قادة . وقيل : فاتحة الزبور الحكمة خشية الله .