كتاب : المحرر الوجيز
المؤلف : أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية
الأندلسي المحاربي
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والربيع بن خيثم : « قل هو الله أحد الواحد الصمد » ، وروى أبي بن كعب أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربه تعالى عما يقول الجاهلون فنزلت هذه السورة ، وروى ابن عباس أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها ، فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشياً عليه ونزل عليه جبريل بهذه السورة ، وقال أبو العالية قال قتادة : الأحزاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأتاه الوحي بهذه السورة ، و { أحد } معناه : فرد من جميع جهات الوحدانية ، ليست كمثله شيء ، وهو ابتداء و { الله } ابتداء ثان و { أحد } خبره ، والجملة خبر الأول ، وقيل : { هو } ابتداء و { الله } خبره و { أحد } بدل منه ، وحذف أبو عمرو التنوين من { أحد } لالتقاء الساكنين « أحدُ الله » وأثبتها الباقون مكسورة للالتقاء ، وأما وفقهم كلهم فبسكون الدال ، وقد روي عن أبي عمرو : الوصل بسكون الدال ، وروي عنه أيضاً تنوينها ، و { الصمد } في كلام العرب السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويستقل بها ، وأنشدوا : [ الطويل ]
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وبهذا تفسر هذه الآية لأن الله جلت قدرته هو موجود الموجودات ، وإليه تصمد به قوامها ، ولا غني بنفسه إلا هو تبارك وتعالى ، وقال كثير من المفسرين : { الصمد } الذي لا جوف له ، كأنه بمعنى المصمت ، وقال الشعبي : هو الذي لا يأكل ولا يشرب ، وفي هذا التفسير كله نظر ، لأن الجسم في غاية البعد عن صفات الله تعالى . فما الذي تعطينا هذه العبارات ، و { الله الصمد } ابتداء وخبر ، وقيل : { الصمد } نعت ، والخبر فيما بعد ، وقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد } رد على إشارة الكفار في النسب الذي سألوه ، وقال ابن عباس : تفكروا في كل شيء ولا تتفكروا في ذات الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : لأن الأفهام تقف دون ذلك حسيرة ، والمؤمنون يعرفون الله تعالى بواجب وجوده وافتقار كل شيء إليه واستغنائه عن كل شيء وينفي العقل عنه كل ما لا يليق به تبارك وتعالى ، وأن ليس كمثله شيء ، وكل ما ذكرته فهو في ضمن هذه السورة الوجيزة البليغة ، قوله تعالى : { ولم يكن له كفؤاً أحد } معناه : ليس له ضد ولا ند ولا شبيه ، والكفأ والكفؤ والكفاء النظير ، وقرأ « كُفؤاً » بضم الكاف وهمز مسهل نافع والأعرج وأبو جعفر وشيبة ، وقرأ بالهمز عاصم وأبو عمرو بخلاف عنه ، وقرأ حمزة : « كفْواً » بالهمز وإسكان الفاء وروي عن نافع « كفاً » بفتح الفاء وبغير همز .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد هو آحاد أمته ، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن والقرظي وقتادة ومجاهد وابن زيد : { الفلق } : الصبح ، كقوله تعالى : { فالق الإصباح } [ الأنعام : 96 ] وقال ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم : { الفلق } : جب في جهنم ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { من شر ما خلق } يعم كل موجود له شر ، وقرأ عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين : بأن الله لم يخلق الشر « من شرٍّ ما خلق » على النفي وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل ، الله خالق كل شيء ، واختلف الناس في : « الغاسق إذا وقب » فقال ابن عباس ومجاهد والحسن : « الغاسق » : الليل و { وقب } معناه : أظلم ودخل على الناس ، وقال الشاعر [ ابن قيس الرقيات ] : [ المديد ]
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا
وقال محمد بن كعب : « الغاسق إذا وقب » النهار دخل في الليل ، وقال ابن زيد عن العرب ، « الغاسق » سقوط الثريا ، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده ، وقال عليه السلام : « النجم هو الغاسق » فيحتمل أن يريد الثريا ، وقال لعائشة وقد نظر إلى القمر : « تعوذي بالله { من شر غاسق إذا وقب } ، فهذا هو » ، وقال القتبي وغيره : هو البدر إذا دخل في ساهور فخسف ، قال الزهري في « الغاسق إذا وقب » : الشمس إذا غربت ، و { وقب } في كلام العرب : دخل ، وقد قال ابن عباس في كتاب النقاش : « الغاسق إذا وقب » : ذكر الرجل ، فهذا التعوذ في هذا التأويل نحو قوله عليه السلام وهو يعلم السائل التعوذ : « قل أعوذ بالله من شر سمعي وشر قلبي وشر بصري وشر لساني وشر منيي » ، ذكر الحديث جماعة و { النفاثات في العقد } السواحر ، ويقال إن الإشارة أولاً إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي كن ساحرات وهن اللواتي سحرن مع أبيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعقدن له إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله تعالى إحدى عشرة آية بعد العقد ، هي المعوذتان ، فشفى الله النبي صلى الله عليه وسلم ، والنفث شبه النفخ دون تفل ريق ، وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذى بذلك ، وهذا الشأن في زمننا موجود شائع في صحراء المغرب ، وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقد فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع أمهاتها ، فكان إذا حل جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع أعاذنا الله من شر السحر والسحرة بقدرته ، وقرأ عبد الله بن القاسم والحسن وابن عمر : « النافثات في العقد » ، وقوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } قال قتادة : من شر عينه ونفسه ، يريد بالنفس السعي الخبيث والإذاية كيف قدر لأنه عدو مجد ممتحن ، وقال الشاعر :
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{ الوسواس } اسم من أسماء الشيطان ، وهو أيضاً ما توسوس به شهوات النفس وتسوله ، وذلك هو الهواء الذي نهي المرء عن اتباعه وأمر بمعصيته والغضب الذي وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه وتركه حين قال له رجل أوصني ، فقال : لا تغضب ، قال زدني : قال : لا تغضب ، وقوله : { الخناس } معناه : على عقبه المستتر أحياناً وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد وتعوذ وتذكر فأبصر كما قال تعالى : { إن الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] ، وإذا فرضنا ذلك في الشهوات والغضب ونحوه فهو يخنس يتذكر النفس اللوامة بلمة الملك وبأن الحياء يردع والإيمان يردع بقوة فتخنس تلك العوارض المتحركة وتنقمع عند من أعين بتوفيق ، وقد اندرج هذان المعنيان من الوسواس في قوله تعالى : { من الجنة والناس } أي من الشياطين ونفس الإنسان ، ويظهر أيضاً أن يكون قوله : { والناس } ، يراد به من يوسوس بخدعه من البشر ، ويدعو إلى الباطل ، فهو في ذلك كالشيطان ، وكلهم قرأ { الناس } غير ممالة ، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال النون من { الناس } في حال الخفض ولا يميل في الرفع والنصب ، وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فهيما وقرأ : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والمعوذتين ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، فيبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، ففعل ذلك ثلاثاً ، وقال قتادة رحمه الله : إن من الناس شياطين ومن الجن شياطين ، فتعوذوا بالله من شياطين الإنس والجن .