كتاب : المحرر الوجيز
المؤلف : أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية
الأندلسي المحاربي
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
تقدم القول في الحروف المقطعة التي في أوائل السور . و { تنزيل } رفع بالابتداء أو خبر ابتداء مضمر . و : { الكتاب } القرآن . والعزة والإحكام : صفتان مقتضيتان أن من هي له غالب كل من حادّه .
وقوله : { ما خلقنا السماوات } الآية موعظة وزجر ، أي فانتبهوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم . وقوله تعالى : { إلا بالحق } معناه بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون ، وب { أجل مسمى } : وقتناه وجعلناه موعداً لفساد هذه البنية وذلك هو يوم القيامة . وقوله تعالى : { عما أُنذروا } « ما » مصدرية ، والمعنى عن الإنذار ، ويحتمل أن تكون « ما » بمعنى الذي ، والتقدير : عن ذكر الذي أنذروا به والتحفظ منه أو نحو هذا .
وقوله تعالى : { قل أرأيتم } يحتمل { أرأيتم } وجهين : أحدهما أن تكون متعدية ، و { ما } مفعولة بها ، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى ، وتكون { ما } استفهاماً على معنى التوبيخ . و { تدعون } معناه : تعبدون . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله بن مسعود : « قل أرأيتكم من تدعون » . وقوله : { من الأرض } ، { من } ، للتبعيض ، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض .
ثم وقفهم على السماوات هل لهم فيها شرك ، ثم استدعى منهم كتاباً منزلاً قبل القرآن يتضمن عبادة صنم .
وقوله : { أو أثارة } معناه : أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام . وقرأ جمهور الناس : « أو أثارة » على المصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء كأنها أثره .
وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه . وقال مجاهد : المعنى هل من أحد يأثر علماً في ذلك . وقال القرظي : هو الإسناد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى : [ السريع ]
إن الذي فيه تماريتما ... بَيِّنٌ للسامع والآثِر
آثراً أي للسند عن غيره ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فما خلفنا بها ذاكراً ولا آثراً . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : المعنى وخاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، كأنها قد آثر الله بها من هي عنده ، وقال عبد الله بن العباس : المراد ب « الأثارة » : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر ، وهذا من البقية والأثر ، وروي أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال : « كان نبي من الأنبياء يخطه ، فمن وافق خطه فذاك » وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه ، وهكذا تأوله كثير من العلماء . وقالت فرقة : بل معناه الإنكار ، أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب ، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك ، ثم قال : فمن وافق خطه على جهة الإبعاد ، أي أن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك ، وهذا كما يسألك أحد فيقول : أيطير الإنسان؟ فتقول : إنما يطير الطائر ، فمن كان له من الناس جناحان طار ، أي أن ذلك لا يكون .
والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وتستعمل في غير ذلك ، ومنه قول الراعي : [ الوافر ]
وذات أثارة أكلت عليه ... نباتاً في أكمتها قصارى
يريد : الأثارة من الشحم ، أي البقية وقرأ عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري : « أو أَثَرَة » بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف ، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش ، وهي واحدة جمعها : أثر كقترة وقتر . وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ : « أو ميراث من علم » . وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم الحجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم . وقرأت فرقة : « أُثْرة » بضم الهمزة وسكون الثاء ، وهذه كلها بمعنى : هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به .
وقوله تعالى : { ومن أضل } الآية توبيخ لعبدة الأصنام ، أي لا أحد أضل ممن هذه صبغته ، وجاءت الكنايات في هذه الآية عن الأصنام كما تجيء عمن يعقل ، وذلك أن الكفار قد أنزلوها منزلة الآلهة وبالمحل الذي دونه البشر ، فخوطبوا على نحو معتقدهم فيها ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : « ما لا يستجيب » . والضمير في قوله : { ومن هم عن دعائهم غافلون } هو للأصنام في قول جماعة ، ووصف الأصنام بالغفلة من حيث عاملهم معاملة من يعقل ، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله : { وهم } وفي : { غافلون } للكفار ، أي ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب فلا يتأملون ما عليهم في دعاء من هذه صفته .
وقوله تعالى : { كانوا لهم أعداء } وصف لما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة ، وقد بين ذلك في غير هذه الآية . وذلك قوله تعالى حكاية عنهم : { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } [ القصص : 63 ] .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
الآيات المذكورة هي آيات القرآن ، بدليل قوله : { تتلى } وبقول الكفار : { هذا سحر } وإنما قالوا ذلك عن القرآن من حيث قالوا : هو يفرق بين المرء وبين ولده ، وبينه وبين زوجه ، إلى نحو هذا مما يوجد مثله للسحر بالوجه الأخس .
وقوله تعالى : { أم يقولون افتراه } ، { أم } مقطوعة مقدرة ب { بل } وألف الاستفهام . و : { افتراه } معناه : اشتقه واختلقه ، فأمره الله تعالى أن يقول : { إن افتريته } فالله حسبي في ذلك ، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني . ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله تعالى والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه { بما يفيضون فيه } من الباطل ومرادة الحق ، وذلك يقتضي معاقبتهم ، ففي اللفظة تهديد . والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يعود على القرآن ، ويحتمل العودة على { بما } . والضمير في : { به } عائد على الله تعالى . و : { به } في موضع رفع ، وأفاض الرجل في الحديث والسب ونحوه : إذا خاض فيه واستمر .
وقوله : { وهو الغفور الرحيم } ترجية واستدعاء إلى التوبة ، لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان . ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم بأنه لم يكن { بدعاً من الرسل } ، أي قد جاء غيري قبلي ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة . والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول ترجمة عدي بن زيد : [ الطويل ]
فما أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسى وأسعد
وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة : « بدَعاً » بفتح الدال . قال أبو الفتح ، التقدير : ذا بدع فحذف المضاف كما قال [ النابغة الجعدي ] : [ المقارب ]
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
واختلف الناس في قوله : { ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } ، فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة وعكرمة : معناه : في الآخرة ، وكان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة ، وبأن الكافرين في نار جهنم ، والحديث الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيده هذا وهو قوله : « فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي » ، وفي بعض الرواية : « به » ، ولا حجة في الحديث على رواية « به » ، والمعنى عندي في هذا القول أنه لم تكشف له الخاتمة فقال لا أدري؟ وأما ان من وافى على الإيمان فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة ، وقال الحسن أيضاً وجماعة . معنى الآية : { ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } في الدنيا من أن أنصر عليكم أو من أن تمكنوا مني ، ونحو هذا من المعنى .
وقالت فرقة : معنى الآية : { ما يفعل بي ولا بكم } من الأوامر والنواهي وما تلزم الشريعة من أعراضها . وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : نزلت الآية في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب ، وروي عن ابن عباس أنه لما تأخر خروج النبي عليه السلام من مكة حين رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة ، قلق المسلمون لتأخر ذلك ، فنزلت هذه الآية .
وقوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ } معناه : الاستسلام والتبري من علم المغيبات والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
هذه الآية توقيف على الخطر العظيم الذي هم بسبيله في أن يكذبوا بأمر نافع لهم منج من العذاب دون حجة ولا دليل لهم على التكذيب ، فالمعنى كيف حالكم مع الله ، وماذا تنتظرون منه وأنتم قد كفرتم بما جاء من عنده ، وجواب هذا التوقيف محذوف تقديره : أليس قد ظلمتم ، ودل على هذا المقدار قوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } و : { أرأيتم } في هذه الآية يحتمل أن تكون منبهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولاً ، ويحتمل أن تكون الجملة { كان } وما عملت فيه تسد مسد مفعوليها .
واختلف الناس في المراد ب { الشاهد } فقال الحسن ومجاهد وابن سيرين : هذه الآية مدنية ، والشاهد عبد الله بن سلام . وقوله : { على مثله } الضمير فيه عائد على قول محمد عليه السلام في القرآن أنه من عند الله . وقال الشعبي : الشاهد رجل من بني إسرائيل غير عبد الله بن سلام كان بمكة ، والآية مكية وقال سعد بن أبي وقاص ومجاهد وفرقة : الآية مكية ، والشاهد عبد الله بن سلام ، وهي من الآيات التي تضمنت غيباً أبرزه الوجود ، وقد روي عن عبد الله بن سلام أنه قال : فيَّ نزلت . وقال مسروق بن الأجدع والجمهور : الشاهد موسى بن عمران عليه السلام ، والآية مكية ، ورجحه الطبري .
وقوله : { على مثله } يريد بالمثل : التوراة ، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن ، أي جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله وشهد أنه من عند الله تعالى .
وقوله : { فآمن } على هذا التأويل ، يعني به تصديق موسى بأمر محمد وتبشيره به ، فذلك إيمان به ، وأما من قال : الشاهد عبد الله بن سلام ، فإيمانه بين ، وكذلك إيمان الإسرائيلي الذي كان بمكة في قول من قاله ، وحكى بعضهم أن الفاعل ب « آمن » ، هو محمد عليه السلام ، وهذا من القائلين بأن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام ، وإنما اضطر إلى هذا لأنه لم ير وجه إيمان موسى عليه السلام ، ثم قرر تعالى استكبارهم وكفرهم بإيمان هذا المذكور ، فبان ذنبهم وخطؤهم .
وقوله تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } قال قتادة : هي مقالة قريش ، يريدون عماراً وصهيباً وبلالاً ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي عليه السلام . وقال الزجاج والكلبي وغيره : هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة ، قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة . وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم . والإفك : الكذب ، ووصفوه بالقدم ، بمعنى أنه في أمور متقادمة ، وهذا كما تقول لرجل حدثك عن أخبار كسرى وقيصر ، هذا حديث قديم ، ويحتمل أن يريدوا أنه إفك قيل قديماً .
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
الضمير في قوله : { ومن قبله } للقرآن ، و : { كتاب موسى } هو التوراة . وقرأ الكلبي : « كتابَ موسى » بنصب الباء على إضمار أنزل الله أو نحو ذلك . والإمام : خيط البناء ، وكل ما يهتدي ويقتدى به فهو إمام . ونصب { إماماً } على الحال ، { ورحمة } عطف على إمام ، والإشارة بقوله : { وهذا كتاب } إلى القرآن . و : { مصدق } معناه للتوراة التي تضمنت خبره وأمر محمد ، فجاء هو مصدقاً لذلك الإخبار ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : « مصدق لما بين يديه لساناً » ، واختلف الناس في نصب قوله : { لساناً } فقالت فرقة من النحاة ، هو منصوب على الحال ، وقالت فرقة : { لساناً } توطئة مؤكدة . و : { عربياً } حال ، وقالت فرقة : { لساناً } مفعول ب { مصدق } ، والمراد على هذا القول باللسان : محمد رسول الله ولسانه ، فكان القرآن بإعجازه وأحواله البارعة يصدق الذي جاء به ، وهذا قول صحيح المعنى جيد وغيره مما قدمناه متجه .
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس : « لتنذر » بالتاء ، أي أنت يا محمد ، ورجحها أبو حاتم ، وقرأ الباقون والأعمش « لينذر » أي القرآن و : { الذين ظلموا } هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان .
وقوله : { وبشرى } يجوز أن تكون في موضع رفع عطفاً على قوله : { مصدق } ، ويجوز أن تكون في موضع نصب ، واقعة موقع فعل عطفاً على { لتنذر } أي وتبشر المحسنين ، ولما عبر عن الكفار ب { الذين ظلموا } ، عبر عن المؤمنين ب « المحسنين » لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم . ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم . ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع عنهم الخوف والحزن ، وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية : { ثم استقاموا } بالطاعات والأعمال الصالحات . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى : { ثم استقاموا } بالدوام على الإيمان وترك الانحراف عنه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أعم رجاء وأوسع ، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد ، فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة ، والخوف هو الهم لما يستقبل ، والحزن هو الهم بما مضى ، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة ، لأنه حزن لخوف أمر ما .
وقرأ ابن السميفع : « فلا خوفُ » دون تنوين .
وقوله : { جزاء بما كانوا يعملون } ، « ما » واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد ، وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد ، لا أنها توجب على الله شيئاً .
وقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } يريد النوع ، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي ، فهي وصية من الله في عباده .
وقرأ جمهور القراء : « حُسْناً » بضم الحاء وسكون السين ، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمراً ذا حسن ، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولاً ثانياً . وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى : « حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل ، ومحتمل ، أن يكون هذا الثاني اسماً لا مصدراً ، أي ألزمناه بهما فعلاً حسناً . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي « إحساناً » ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ، والباء متعلقة ب { وصينا } أو بقوله : « إحساناً » .
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها ، وعقوقهما كبيرة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين .
قال القاضي أبو محمد : : ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد ، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام : « اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » .
ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب ، والأب في واحدة ، جمعهما الذكر في قوله : { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب ، وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر؟ « قال : أمك ، قال ثم من؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من؟ قال : أباك » وقوله : { كرهاً } معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه ، وقال مجاهد والحسن وقتادة : المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة .
وقرأ أكثر القراء : « كُرهاً » بضم الكاف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج : « كَرهاً » بفتح الكاف ، وقرأ بهما معاً مجاهد وأبو رجاء وعيسى . قال أبو علي وغيره : هما بمعنى ، الضم الاسم ، والفتح المصدر . وقالت فرقة : الكره بالضم : المشقة ، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر ، وضعفوا على هذا قراءة الفتح . قال بعضهم : لو كان « كَرهاً » لرمت به عن نفسها ، إذ الكره القهر والغلبة ، والقول الذي قدمناه أصوب .
وقرأ جمهور الناس : « وفصاله » وذلك أنها مفاعلة من اثنين ، كأنه فاصل أمه وفاصلته . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري : « وفصله » ، كأن الأم هي التي فصلته .
وقوله : { ثلاثون شهراً } يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة ، لأن في القول حذف مضاف تقديره : ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام ، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع ، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر .
وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله .
واختلف الناس في الأشد : فقال الشعبي وزيد بن أسلم : البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر عاماً ، وقيل عشرون عاماً ، وقال ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون عاماً ، وقال الجمهور من النظار : ثلاثة وثلاثون . وقال هلال بن يساف وغيره : أربعون ، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله : { وبلغ أربعين سنة } .
قال القاضي أبو محمد : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : « إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول : بأبي وجه لا يفلح » وقال أيمن بن خريم الأسدي : [ الطويل ]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر
وفي مصحف ابن مسعود : « حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة » وقوله : { أوزعني } معناه : ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك ، ويحتمل أن يكون { أوزعني } بمعنى اجعل حظي ونصيبي ، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ، ومن قوله توزعوا المال ، ف « أن » على هذا مفعول صريح . وقال ابن عباس { نعمتك } في التوحيد . و : { صالحاً ترضاه } الصلوات . والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية ، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع .
وقال الطبري : وذكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ، ثم هي تتناول من بعده ، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه ، فلذلك قال : { وعلى والدي } ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما ، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسا في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد ، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح ، وباقي الآية بين إلى قوله : { من المسلمين } .
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قوله تعالى : { أولئك } دليل على أن الإشارة بقوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] إنما أراد الجنس .
وقرأ جمهور القراء : « يُتَقبَّل » بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك « يُتجاوز » . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة « نتقبل » « أحسنَ » بالنصب « ونتجاوز » وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه . وقرأ الحسن « يَتقبل » بياء مفتوحة « ويَتجاوز » كذلك ، أي الله تعالى وقوله : { في أصحاب الجنة } يريد الذين سبقت لهم رحمة الله . وقوله : { وعدَ الصدق } نصب على المصدر المؤكد لما قبله .
وقوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما } الآية ، { الذي } يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] وهذا قول الحسن وجماعة ، ويشبه أن لها سبباً من رجل قال ذلك لأبويه . فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق . وقال ابن عباس في كتاب الطبري : هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمِّه .
وقال مروان بن الحكم : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقاله قتادة ، وذلك أنه كان أكبر ولد أبي بكر وشهد بدراً وأحداً مع الكفار ، وقال لأبيه في الحرب :
لم يبق إلا شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب
ودعاه إلى المبارزة فكان بمكة على نحو هذه الخلق ، فقيل إن هذه الآية نزلت فيه . وروي أن مروان بن الحكم خطب وهو أمير المدينة فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : جعلتموها هرقلية ، كلما مات هرقل ولي هرقل ، وكلما مات قيصر ولي قيصر ، فقال مروان بن الحكم : خذوه ، فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أخته أم المؤمنين ، فقال مروان : إن هذا هو الذي قال الله فيه : { والذي قال لوالديه أف لكما } فسمعته عائشة ، فأنكرت ذلك عليه ، وسبت مروان ، وقالت له : والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي ، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية . وذكر ابن عبد البر أن الذي خطب هو معاوية ، وذلك وهم ، والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين والدليل القاطع على ذلك قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم } وكان عبد الرحمن رحمه الله من أفضل الصحابة ومن الأبطال ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره .
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة بن مصرف : « أفِّ » بكسر الفاء بغير تنوين ، وذلك فيها علامة تعريف . وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن وشبل وعمرو بن عبيد : « أفَّ » بالفتح ، وهي لغة الكسر والفتح .
وقرأ نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج : « أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وذلك علامة تنكير ، وهي كصه وغاق ، وكما تستطعم رجلاً حديثاً غير معين فتقول « إيه » منونة ، فإن كان حديثاً مشاراً إليه قلت « إيهِ » بغير تنوين . و { أف } : أصلها في الأقذار ، كانت العرب إذا رأت قذراً قالت : « أف » ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال .
وقرأ هشام عن ابن عامر وعاصم وأبو عمرو : « أتعداني » ، وقرأ أبو عمرو ونافع وشيبة والأعرج والحسن وأبو جعفر وقتادة وجمهور القراء « أتعدانني » بنونين ، والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون . وقرأ نافع أيضاً وجماعة : « أتعدانيَ » بنون واحدة وإظهار الياء .
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وأبو رجاء وابن وثاب وجمهور الناس « أن أُخرَج » بضم الهمزة وفتح الراء . وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك . « أَن أَخرُج » بفتح الهمزة وضم الراء . والمعنى أن أخرج من القبر للحشر والمعاد ، وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد .
وقوله : { وقد خلت القرون من قبلي } معناه : هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد . وقوله : { وهما } يعني الوالدين ، ويقال استغثت الله واسغثت بالله بمعنى واحد . و : { ويلك } دعاء يقال هنا لمن يحفز ويحرك لأمر ما يستعجل إليه .
وقرأ الأعرج « أن وعد الله » بفتح الهمزة ، والناس على كسرها .
وقوله : { ما هذا إلا أساطير } أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره الأولون في كتبهم ، يعني الشرائع ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنعى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها .
وقوله : { أولئك } ظاهره أنها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : { والذي قال } ، ويحتمل إن كانت الآية في مشار إليه أن يكون قوله : { أولئك } بمعنى صنف هذا المذكور وجنسهم { الذين حق عليهم القول } ، أي قول الله إنه يعذبهم .
وقوله : { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } يقتضي أن { الجن } يموتون كما يموت البشر قرناً بعد قرن ، وقد جاء حديث يقتضي ذلك . وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه : إن الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت .
وقوله تعالى : { ولكل درجات } يعني المحسنين والمسيئين . قال ابن زيد : ودرجات المحسنين تذهب علواً ، ودرجات المسيئين تذهب سفلاً .
وقرأ أبو عبد الرحمن : « ولتوفيهم » بالتاء من فوق ، أي الدرجات . وقرأ جمهور الناس : « وليوفيهم » بالياء . وقرأ نافع بخلاف عنه ، وأبو جعفر وشيبة والأعرج وطلحة والأعمش : « ولنوفيهم » بالنون : قال اللؤلؤي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود : « ولنوفينّهم » بنون أولى ونون ثانية مشددة ، وكل امرئ يجني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته ، بل يوضع كل أمر موضعه من ثواب أو عقاب .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
المعنى : واذكر يوم يعرض ، وهذا العرض هو بالمباشرة ، كما تقول عرضت العود على النار والجاني على السوط ، والمعنى : يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } .
وقرأ جمهور القراء : « أذهبتم » على الخبر ، حسنت الفاء بعد ذلك . وقرأ ابن كثير والحسن والأعرج وأبو جعفر ومجاهد وابن وثاب . « آذهبتم » بهمزة مطولة على التوبيخ والتقرير الذي هو في لفظ الاستفهام . وقرأ ابن عامر « أأذهبتم » بهمزتين تقريراً .
والتقرير والتوبيخ إخبار بالمعنى ، ولذلك حسنت الفاء وإلا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض .
والطيبات : الملاذ ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات ، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : أتظنون أنا لا نعرف طيب الطعام ، ذلك لباب البر بصغار المعزى ، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد . وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام فقدم إليه طعام طيب ، فقال عمر : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد : لهم الجنة ، فبكى عمر وقال : لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بوناً بعيداً . وقال جابر بن عبد الله : اشتريت لحماً بدرهم فرآني عمر ، فقال : أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً اشتراه فأكله؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ، وتلا : { أذهبتم } الآية .
و { عذاب الهون } : العذاب الذي اقترن به هوان ، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه ، وهذا بين في عذاب الدنيا ، فعذاب المحدود في معصية كالحرابة ونحوها مقترن بهون ، وعذاب المقتول في حرب لا هون معه ، فالهون والهوان بمعنى؟! .
ثم أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش ، وهذه الأخوة هي أخوة القرابة ، لأن هوداً كان من أشراف القبيلة التي هي عاد .
واختلف الناس في هذه « الأحقاف » أين كانت؟ فقال ابن عباس والضحاك : هي جبل بالشام ، وقيل كانت بلاد نخيل ، وقيل هي الرمال بين مهرة وعدن . وقال ابن عباس أيضاً : بين عمان ومهرة . وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني وقال ابن إسحاق هي بين حضرموت وعمان ، والصحيح من الأقوال : أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد . و « الأحقاف » : جمع حقف ، و هو الجبل المستطيل والمعوجّ من الرمل . ( قال الخليل : هي الرمال الأحقاف ) وكثيراً ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى ، لأن الريح تصنع ذلك .
وقوله تعالى : { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } اعتراض مؤكد مقيم للحجة أثناء قصة هود ، لأن قوله : { ألا تعبدوا إلا الله } هو من نذارة هود . و : { خلت } معناه : مضت إلى الخلاء ومرت أزمانها . وفي مصحف عبد الله : « وقد خلت النذر من قبله وبعده » . وروي أن فيه : « وقد خلت النذر من بين يديه ومن بعده » . و { النذر } : جمع نذير بناء اسم فاعل . وقولهم : { لتأفكنا } معناه : لتصرفنا . وقولهم : { فأتنا بما تعدنا } تصميم على التكذيب وتعجيز منهم له في زعمهم .
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
المعنى قال لهم هود : إن هذا الوعيد ليس من قبلي ، وإنما الأمر إلى الله وعلم وقته عنده ، وإنما عليَّ أن أبلغ فقط .
وقرأ جمهور الناس : « وأبَلّغكم » بفتح الباء وشد اللام . قال أبو حاتم : وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام .
و : { أراكم تجهلون } أي مثل هذا من أمر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم . والضمير في : { رأوه } يحتمل أن يعود على العذاب ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطارئ عليهم ، وهو الذي فسره قوله : { عارضاً } ، والعارض ما يعرض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الأعشى :
يا من رأى عارضاً قد بتُّ أرمقه ... كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال ابو عبيدة : العارض الذي في أقطار السماء عشياً ثم يصبح من الغد قد استوى . وروي في معنى قوله : { مستقبل أوديتهم } أن هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة فطلع هذا العارض على الهيئة والجهة التي يمطرون بها أبداً ، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث . قال ابن عباس : ففرحوا به و { قالوا هذا عارض ممطرنا } ، وقد كذب هود فيما أوعد به ، فقال لهم هود عليه السلام : ليس الأمر كما رأيتم ، { بل هو ما استعجلتم به } في قولكم : { فأتنا بما تعدنا } [ الأحقاف : 22 ] ثم قال : { ريح فيها عذاب أليم } .
وفي قراءة ابن مسعود : « قال هود بل هو » بإظهار المقدر ، لأن قراءة الجمهور هي كقوله تعالى { يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم } [ الرعد : 23 ] أي يقولون سلام . قال الزجاج وقرأ قوم : « ما استُعجِلتم » بضم التاء الأولى وكسر الجيم . و : { ريح } بدل من المبتدأ في قوله : { هو ما } . و : { ممطرنا } هو نعت ل { عارض } وهو نكرة إضافته غير محضة ، لأن التقدير ممطر لنا في المستقبل ، فهو في حكم الانفصال .
وقد مضى في غير هذه السورة قصص الريح التي هبت عليهم ، وأنها كانت تحمل الظعينة كجرادة . و : { تدمر } معناه : تهلك . والدمار : الهلاك ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا ... رغا دهراً فدمرهم دمارا
وقوله : { كل شيء } ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره ، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر .
وقرأ جمهور القراء : « لا ترى » أيها المخاطب . وقرأ عاصم وحمزة : « لا يُرى » بالياء على بناء الفعل للمفعول « مساكنُهم » رفعاً . التقدير : لا يرى شيء منهم ، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه ، ومجاهد وعيسى وطلحة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر : « لا تُرى » بالتاء منقوطة من فوق مضمومة « مساكُنهم » رفعاً ، ورويت عن ابن عامر ، وهذا نحو قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأنه جمل وهم وما بقيت ... إلا النجيزة والألواح والعصب
ونحو قوله : [ الطويل ]
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ... وفي هذه القراءة استكراه . وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني : إلا مسكنهم « على الإفراد الذي هو اسم الجنس ، والجمهور على الجمع في اللفظة ، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى : { ثم يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] .
ثم خاطب تعالى قريشاً على جهة الموعظة بقوله : { ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه } ف { ما } ، بمعنى الذي ، و { إن } نافية وقعت مكان { ما } ليختلف اللفظ ، ولا تتصل { ما } ب { ما } ، لأن الكلام كأنه قال : في الذي ما مكناكم فيه . ومعنى الآية : ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم ، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب ، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم . وقالت فرقة : { إن } شرطية ، والجواب محذوف تقديره : في الذي إن مكناكم فيه طغيتم ، وهذا تنطع في التأويل .
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك ، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب . و » ما « : نافية في قوله : { فما أغنى عنهم } ويقوي ذلك دخول { من } في قوله : { من شيء } .
وقالت فرقة : » ما « في قوله : { فما أغنى عنهم } استفهام بمعنى التقرير ، و » { من شيء } على هذا تأكيد ، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب . { وحاق } معناه : وجب ولزم ، وهو مستعمل في المكاره ، والمعنى جزاء { ما كانوا به يستهزئون } .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
وقوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم } مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود . وقوله : { وصرفنا الآيات } يعني لهذه القرى المهلكة .
وقوله : { فلولا نصرهم } الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها . و : { قرباناً } إما أن يكون المفعول الثاني ب { اتخذوا } و : { آلهة } بدل منه ، وإما أن يكون حالاً . و : { آلهة } المفعول الثاني ، والمفعول الأول هو الضمير العائد على : { الذين } التقدير : اتخذوهم . وقوله تعالى : { بل ضلوا عنهم } معناه : انتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة .
وقوله : { وذلك } الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله : { إفكهم } فقرأ جمهور القراء « إفْكُهم » بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف ، فالإشارة ب { ذلك } على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها آلهة ، وذلك هو اتخاذهم إياها ، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ : « أفَكهم » بفتح الهمزة ، وهي لغة في الإفك ، وهما بمعنى الكذب ، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ : « أفَكهم » بفتح الهمزة : والفاء على الفعل الماضي ، بمعنى صرفهم ، وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان . وقرأ أبو عياض أيضاً وعكرمة فيما حتى الثعلبي : « أفّكَهم » بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف ، وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف . وقرأ عبد الله بن الزبير : « آفَكَهم » بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة . قال الزجاج : معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم . وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب : « آفِكُهم » بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل ، بمعنى : صارفهم .
وحكى الفراء أنه يقرأ : « أفَكُهم » بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الإفك ، والإشارة ب { ذلك } على هذه القراءة التي ليست مصدراً يحتمل أن تكون إلى الأصنام . وقوله : { وما كانوا يفترون } ، ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية فلا يحتاج إلى عائد ، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي ، فهناك عائد محذوف تقديره : يفترونه .
وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر .
وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي } [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده . وقال الحسن : لم يشعر .
واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة : فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني » ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .
وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .
وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : « قُضِي » على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : « قضى » على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .
قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله .
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
المعنى : قال هؤلاء المنذرون لما بلغوا قومهم { يا قومنا إنا سمعنا كتاباً } وهو القرآن العظيم ، وخصصوا { موسى } عليه السلام لأحد أمرين : إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود ، وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمداً وبشر به ، فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكوراً في توراته . قال ابن عباس في كتاب الثعلبي : لم يكونوا علموا أمر عيسى عليه السلام ، فلذلك قالوا { من بعد موسى } . وقولهم : { مصدقاً لما بين يديه } يؤيد هذا . و : { ما بين يديه } هي التوراة والإنجيل . و { الحق } و « الطريق المستقيم » هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ ، وربما كان { الحق } أعم ، وكأن أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار . و : { داعي الله } هو محمد عليه السلام ، والضمير في : { به } عائد على الله تعالى .
وقوله : { يغفر } معناه : يغفر الله . { ويجركم } معناه : يمنعكم ويجعل دونكم جوار حفظه حتى لا ينالكم عذاب .
وقوله تعالى : { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز } الآية ، يحتمل أن يكون من كلام المنذرين ، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والمراد بها إسماع الكفار وتعلق اللفظ إلى هذا المعنى من قول الجن : { أجيبوا داعي الله } فلما حكى ذلك قيل ومن لا يفعل هذا فهو بحال كذا ، والمعجز الذاهب في الأرض الذي يبدي عجز طالبه ولا يقدر عليه ، وروي عن ابن عامر : « وليس لهم من دونه » بزيادة ميم .
وقوله تعالى : { أو لم يروا } الضمير لقريش ، وهذه آية مثل واحتجاج ، لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد ، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم . والرؤية في قوله : { أو لم يروا } رؤية القلب .
وقرأ جمهور الناس : « ولم يعْيَ » بسكون العين وفتح الياء الأخيرة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن « يعِ » بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف .
والباء في قوله : { بقادر } زائدة مؤكدة ، ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت على عليه كما هي في قولك : ما زيد بقائم كان بدل { أو لم يروا } أوليس الذي خلق .
وقرأ ابن عباس وجمهور الناس : « بقادر » وقرأ الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد : « يقدر » بالياء على فعل مستقبل ، ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده . وفي مصحف عبد الله بن مسعود « بخلقهن قادر » .
و : { بلى } جواب بعد النفي المتقدم ، فهي إيجاب لما نفي ، والمعنى : بلى رأوا ذلك أن لو نفعهم ووقع في قلوبهم ، ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله : { إنه على كل شيء قدير } .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
المعنى : واذكر يوم ، وهذا وعيد للكفار من قريش وسواهم . والعرض في هذه الآية ، عرض مباشرة ، كما تقولون عرضت الجاني على السوط . والمعنى يقال لهم أليس هذا العذاب حقاً وقد كنتم تكذبون به؟ فيجيبون : { بلى وربنا } ، وذلك تصديق حيث لا ينفع ، وروي عن الحسن أنه قال : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم .
وقوله تعالى : { فاصبر } الفاء عاطفة هذه الجملة من الوصاة على هذه الجملة من الإخبار عن حال الكفرة في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط ، أي هذه حالهم مع الله ، فلا تستعجل أنت فيما حملته واصبر له ولا تخف في الله أحداً .
وقوله : { من الرسل } { من } للتبعيض ، والمراد من حفظت له مع قومه شدة ومجاهدة كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلى الله عليهم ، هذا قول عطاء الخراساني وغيره . وقال ابن زيد ما معناه : إن { من } لبيان الجنس . قال : والرسل كلهم { أولو العزم } ، ولكن قوله : { كما صبر أولو العزم } يتضمن رسلاً وغيرهم ، فبين بعد ذلك جنس الرسل خاصة تعظيماً لهم ، ولتكون القدوة المضروبة لمحمد عليه السلام أشرف ، وذكر الثعلبي هذا القول عن علي بن مهدي الطبري . وحكي عن أبي القاسم الحكيم أنه قال : الرسل كلهم أولو عزم إلا يونس عليه السلام وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام ، لأنه قال بعقب ذكرهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وقال مقاتل هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً ، وإبراهيم صبر للناس ، وإسحاق صبر نفسه للذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال : { فصبر جميل } [ يوسف : 83 ] ، ويوسف على السجن وفي البئر ، وأيوب صبر على البلاء .
قال القاضي أبو محمد : وانظر أن النبي عليه السلام قال في موسى : « يرحم الله موسى ، أوذي بأكثر من هذا فصبر » ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزماً وصبراً .
وقوله : { ولا تستعجل لهم } معناه لا تستعجل لهم عذاباً ، فإنهم إليه صائرون ، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة ، فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة لاحتقارهم ذلك ، لأن المنقضي من الزمان إنما يصير عدماً ، فكثيره الذي ساءت عاقبته كالقليل .
وقرأ أبي بن كعب « ساعة من النهار » . وقرأ جمهور القراء والناس : « بلاغٌ » وذلك يحتمل معاني ، أحدها : أن يكون خبر ابتداء ، المعنى : هذا بلاغ ، وتكون الإشارة بهذا إلى القرآن والشرع ، أي هذا إنذار وتبليغ ، وإما إلى المدة التي تكون كساعة كأنه قال : { لم يلبثوا إلا ساعة } كانت بلاغهم ، وهذا كما تقول : متاع قليل ونحوه من المعنى .
والثاني : أن يكون ابتداء والخبر محذوف . والثالث : ما قاله أبو مجلز فإنه كان يقف على قوله : { ولا تستعجل } ويقول : « بلاغٌ » ابتداء وخبره متقدم في قوله : { لهم } وقدح الناس في هذا القول بكثرة الحائل . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، وعيسى : « بلاغاً » ، وهي قراءة تحتمل المعنيين اللذين في قراءة الرفع ، وليس يدخلها قول أبي مجلز ونصبها بفعل مضمر . وقرأ أبو مجلز وأبو سراج الهذلي : « بلِّغ » ، على الأمر . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : « بلاغٍ » بالخفض نعتاً ل { نهار } .
وقرأ جمهور الناس :
« فهل يُهلَك » على بناء الفعل للمفعول . وقرأ بعضهم فيما حكى هارون : « فهل يَهلِك » ببناء الفعل للفاعل وكسر اللام ، وحكاها أبو عمرو عن الحسن وابن محيصن : « يَهلَك » بفتح الياء واللام . قال أبو الفتح : وهي مرغوب عنها . وروى زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام : « فهل يُهلِك » بضم الياء وكسر اللام « إلا القوم الفاسقين » بالنصب .
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بين ، وذلك أن الله تعالى جعل الحسنة بعشر امثالها والسيئة بمثلها ، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة ، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار ، فلن يهلك على الله إلا هالك كما قال صلى الله عليه وسلم . قال الثعلبي : يقال إن قوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين .
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قوله تعالى : { الذين كفروا } الآية ، إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { والذين آمنوا } الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه ، وفي الطائفتين نزلت الآيتان ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها . وقوله : { وصدوا } يحتمل أن يريد الفعل المجاوز ، فيكون المعنى : { وصدوا } غيرهم ، ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد ، فيكون المعنى : { وصدوا } أنفسهم . و : { سبيل الله } شرعه وطريقه الذي دعا إليه .
وقوله : { أضل أعمالهم } أي أتلفها ، لم يجعل لها غاية خير ولا نفعاً ، وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر ، وأن الإشارة بقوله : { أضل أعمالهم } هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر ، وقيل المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه ، واللفظ يعم ذلك .
وقرأ الناس : « نُزّل » بضم النون وشد الزاي . وقرأ الأعمش : « أنزل » معدى بالهمزة وقوله تعالى : { وأصلح بالهم } قال قتادة معناه : وأصلح حالهم . وقرأ ابن عباس « أمرهم » . وقال مجاهد : شأنهم .
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ، فإذا صلح ذلك صلحت حاله ، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع ، فقولك : خطر في بالي كذا ، وقولك : أصلح الله بالك : المراد بهما واحد ، ذكره المبرد . والبال : مصدر كالحال والشأن ، ولا يستعمل منها فعل ، وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع ، وقد جاء مجموعاً لكنه شاذ ، فإنهم قالوا بالات .
وقوله تعالى : { ذلك بأن الذين كفروا } الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله أنه فعلها بالكفار وبالمؤمنين . و : { الباطل } الشيطان وكل ما يأمر به ، قاله مجاهد . و : { الحق } هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام .
وقوله : { كذلك } يبين أمر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها . وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع .
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .
وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : « فداء » . وقرأ شبل عن ابن كثير : « فدى » مقصوراً .
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
[ المتقارب ]
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .
وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
وقرأ جمهور الناس : « قاتلوا » وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : « قَتَلوا » بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : « قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : « قُتِّلوا » بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى . وقال قتادة : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين .
وقوله تعالى : { سيهديهم } أي إلى طريق الجنة ، وقد تقدم القول في إصلاح البال . وروى عباس بن المفضل عن أبي عمرو : « ويدخلهم » بسكون اللام . وفي سورة [ التغابن ] { يوم يجمعكم } [ التغابن : 9 ] وفي سورة [ الإنسان ] { إنما نطعمكم } [ الإنسان : 9 ] بسكون العين والميم .
وقوله تعالى : { عرفها لهم } قال أبو سعيد الخدري وقتادة معناه : بينها لهم ، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها ، وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي عليه السلام : « لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا » وقالت فرقة معناه : سماها لهم ورسمها ، كل منزل باسم صاحبه ، فهذا نحو من التعريف . وقالت فرقة معناه : شرفها لهم ورفعها وعلاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها ، ومنه أعراف الخيل . وقال مؤرج وغيره معناه : طيبها مأخوذ من العرف ، ومنه طعام معرف ، أي مطيب . وعرفت القدر : طيبتها بالملح والتابل .
وقوله تعالى : { إن تنصروا الله } فيه حذف مضاف ، أي دين الله ورسوله ، والمعنى : تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم { ينصركم } بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون .
وقرأ جمهور الناس : « ويثبّت » بفتح التاء المثلثة وشد الباء . وقرأ المفضل عن عاصم : « ويثْبِت » بسكون الثاء وتخفيف الباء ، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام ، وقيل على الصراط في القيامة .
وقوله تعالى : { فتعساً لهم } معناه : عثاراً وهلاكاً فيه ، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر ، ومنه قول الشاعر : [ المنسرح ]
يا سيدي إن عثرت خذ بيدي ... ولا تقل : لا ، ولا تقل تعسا
وقال الأعشى : [ البسيط ]
بذات لوت عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها : تعس مسطح . قال ابن السكيت : التعس أن يخر على وجهه . و : { تعساً } مصدر نصبه فعل مضمر .
وقوله تعالى : { كرهوا ما أنزل الله } يريد القرآن . وقوله : { فأحبط أعمالهم } يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة ، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته .
واختلف الناس في حسناتهم ، فقالت فرقة : هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط . وقالت فرقة : هي محصاة من أجل ثواب الدنيا ، ومن أجل أنه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام ، وهذا أحد التأويلين في قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام : « أسلمت على ما سلف لك من خير » . فقوم قالوا تأويله : أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير ، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه . وقالت فرقة معناه : أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير ، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك . وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها : عبادتهم الأصنام وكفرهم . ومعنى : { أحبط } جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به ، فهي لذلك كالذي أحبط .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
قوله تعالى : { أفلم يسيروا } توقيف لقريش وتوبيخ . و : { الذين من قبلهم } يريد : ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم . والدمار : الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران .
وقوله : { دمر الله عليهم } من ذلك . والضمير في قوله : { أمثالها } يصح أن يعود على العاقبة المذكورة ، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله : { دمر الله عليهم } . وقولهم : { ذلك بأن } ابتداء وخبر في « أن » وما عملت فيه . والمولى : الناصر الموالي ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : « ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا » . وقال قتادة : إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال له : « قولوا الله مولانا ولا مولى لكم » .
وقوله تعالى : { ويأكلون كما تأكل الأنعام } أي أكلاً مجرداً من فكرة ونظر ، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر ، فقوله : { كما } في موضع الحال ، وهذا كما تقول لجاهل : يعيش كما تعيش البهيمة ، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء ، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة . والمثوى : موضع الإقامة ، وقد تقدم القول غير مرة في قوله : { وكأين } . وضرب الله تعالى لمكة مثلاً بالقرى المهلكة على عظمها ، كقرية قوم عاد وغيرها . و : { أخرجتك } معناه : وقت الهجرة . ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ . وقال : { أهلكناهم } حملاً على المعنى . ويقال : إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في طريق المدينة . وقيل : نزلت بالمدينة . وقيل : نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية . وقيل نزلت : عام الفتح وهو مقبل إليها . وهذا كله حكمه حكم المدني .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
قوله تعالى : { أفمن كان } الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين . وقال قتادة : الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وبقي اللفظ عاماً لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله : { على بينة } معناه على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة ، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين ، وألحق الهاء للمبالغة : كعلامة ونسابة . والذي يسند إليه قوله : { زين } الشيطان . واتباع الأهواء : طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها .
واختلف الناس في قوله تعالى : { مثل الجنة } الآية ، فقال النضر بن شميل وغيره : { مثل } معناه صفة ، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا ، وقال سيبويه : المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة . ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله : فيها كذا وكذا .
قال القاضي أبو محمد : والذي ساق أن يجعل { مثل } بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية ، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعاً على هذه الصورة وذلك هي { مثل الجنة } ومثالها ، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه يقول : { مثل الجنة } ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف . وقرأ علي بن أبي طالب : « مثال الجنة » . وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً وابن عباس : « أمثال الجنة » . وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله : { كمن هو خالد } حذف تقديره : أساكن هذه ، أو تقديره : أهؤلاء إشارة إلى المتقين ، ويحتمل عندي أيضاً أن يكون الحذف في صدر الآية . كأنه قال : أمثل أهل الجنة { كمن هو خالد } ، ويكون قوله : { مثل } مستفهماً عنه بغير ألف الاستفهام ، فالمعنى : أمثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف { كمن هو خالد في النار } فتكون الكاف في قوله : { كمن } مؤكدة في التشبيه ، ويجيء قوله : { فيها أنهار } في موضع الحال على هذا التأويل . { وما غير آسن } معناه غير متغير ، قاله ابن عباس وقتادة ، وسواء أنتن أو لم ينتن ، يقال : أسَن الماء : بفتح السين ، وأسِن بكسرها .
وقرأ جمهور القراء : « آسِن » على وزن فاعل . وقرأ ابن كثير : « أسن » ، على وزن فعل ، وهي قراءة أهل مكة ، والأسن أيضاً هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء ، ومنه قول الشاعر :
التارك القرن مصراً أنامله ... يميل في الرمح ميل المائح الأسن
وقال الأخفش : { آسن } لغة : والمعنى الإخبار به عن الحال ، ومن قال : « آسِن » على وزن فاعل ، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية .
وقرأت فرقة : « غير يسن » ، بالياء . قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة ، قال أبو حاتم عن عوف : كذلك كانت في المصحف : « يسن » ، فغيرها الحجاج .
وقوله : في اللبن { لم يتغير طعمه } نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله : { لذة للشاربين } جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و { لذة } نعت على النسب ، أي ذات لذة . وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره . وقوله : { من كل الثمرات } أي من هذه الأنواع ، لكنها بعيدة الشبه ، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه . وقوله : { ومغفرة من ربهم } معناه : وتنعيم أعطته المغفرة وسببته ، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة ، وقوله : { وسقوا } الضمير عائد على « مَنْ » لأن المراد به جمع .
وقوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة ، وذلك أنهم كانوا يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا { ماذا قال آنفاً } فكان منهم من يقول هذا استخفافاً ، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره؟ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسياناً ، لأنه كان في وقت الكلام مقبلاً على فكرته في أمر دنياه وفي كفره ، فكان القول يمر صفحاً ، فإذا خرج قال : { ماذا قال آنفاً } ، وهذا أيضاً فيه ضرب من الاستخفاف ، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام ، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين . وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال ، حكاه الطبري عن ابن عباس .
وقرأ الجمهور : « آنفاً » على وزن فاعل ، وقرأ ابن كثير وحده : « أنفاً » على وزن فعل ، وهما اسما فاعل من ائتنف ، وجريا على غير فعلهما ، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر ، وهذا كثير ، والمفسرون يقولون : « أنفاً » معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى .
ثم أخبر تعالى أنه { طبع } على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا ، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه .
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } [ محمد : 16 ] عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق ، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم .
وقوله تعالى : { زادهم هدى } يحتمل أن يكون الفاعل في { زادهم } الله تعالى ، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة ، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى ، ويحتمل أن يكون الفاعل في : { زادهم } قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه ، ويتزيد بصيرة في دينه ، فكأنه قال : المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى ، أي كانت الزيادة بسببه ، فأسند الفعل إليه ، وقالت فرقة : إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى ، آمنوا بمحمد فالفاعل في : { زادهم } محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه . وقوله على هذا القول : { اهتدوا } يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم { زادهم } محمد { هدى } حين آمنوا به . والفاعل في { آتاهم } يتصرف بحسب التأويلات المذكورة ، وأقواها أن الفاعل الله تعالى . { وآتاهم } معناه : أعطاهم ، أي جعلهم متقين له ، فالتقدير : تقواهم إياه . وقرأ الأعمش : « وأنطاهم تقواهم » ، وهي بمعنى أعطاهم ، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه . وهي في مصحف عبد الله .
وقوله تعالى : { فهل ينظرون } يريد المنافقين ، والمعنى : { فهل ينظرون } أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك ، فإن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل .
وقرأ جمهور الناس : « أن تأتيهم » ف { أن } بدل من { الساعة } . وقوله تعالى على هذه القراءة . { فقد جاء أشراطها } إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة . وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي « إن تأتهم » بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط ، والفاء في قوله : { فقد جاء أشراطها } جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط ، و . { بغتة } معناه : فجأة ، وروي عن أبي عمرو « بغَتّة » بفتح الغين وشد التاء . وقوله : { فقد جاء أشراطها } على القراءتين معناه : فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه . والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء ، فقد بان من أمر الساعة قدر ما ، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال : « أنا من أشراط الساعة وقد بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان » . ويقال شرط وشرط : بسكون الراء وتخفيفها ، وأشرط الرجل نفسه : ألزمها أموراً . وقال أوس بن حجر : [ الطويل ]
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى باسباب له وتوكلا
وقوله تعالى : { فأنى لهم } الآية ، يحتمل أن يكون المعنى : { فأنى لهم } الخلاص أو النجاة { إذ جاءتهم } الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك . ويحتمل أن يكون المعنى : فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة ، وهذا تأويل قتادة ، نظيره : { وأنى لهم التناوش من مكان بعيد } [ سبإ : 52 ] .
وقوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } الآية إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم ، والمعنى : دم على علمك ، وهذا هو القانون في كل أمر بشيء هو متلبس به ، وهذا خطاب للنبي عليه السلام ، وكل واحد من الأمة داخل معه فيه . واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة : إن العلم والنظر قبل القول ، والإقرار في مسألة أول الواجبات . وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } الآية ، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنها صدقة . وقال الطبري وغيره : { متقلبكم } تصرفكم في يقظتكم . { ومثواكم } منامكم . وقال ابن عباس : { متقلبكم } تصرفكم في حياتكم الدنيا . { ومثواكم } في قبوركم وفي آخرتكم .
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله ، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام ، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى ، فمدح الله المؤمنين بحرصهم . وقولهم : { لولا نزلت سورة } معناه : تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه . ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال .
وقوله : { محكمة } معناه : لا يقع فيها نسخ ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام ، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان ، فالقرآن فيه كله سواء . وقال قتادة : كل سورة فيها القتال فهي محكمة ، وهو أشد القرآن على المنافقين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن ، وليس من تفسير هذه الآية في شيء .
وفي مصحف ابن مسعود : « سورة محدثة » . والمرض الذي في القلوب : استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام ، وتستعار للمعاني ، ونظر الخائف الموله قريب من نظر { المغشي عليه } ، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه .
وقوله تعالى : { فأولى لهم } الآية ، « أولى » : وزنه أفعل ، من وليك الشيء يليك . وقالت فرقة وزنه : أفلع ، وفيه قلب ، لأنه مشتق من الويل ، والمشهور من استعمال « أولى » : أنك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي أحق ، وقد تستعمل « أولى » فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول ، فتقول على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان ، وهذه الآية من هذا الباب ، ومنه قوله تعالى : { أولى لك فأولى } [ القيامة : 34-35 ] ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن : أولى لك . وقالت فرقة من المفسرين : « أولى » رفع بالابتداء . و : { طاعة } خبره .
وقالت فرقة من المفسرين : { أولى لهم } ابتداء وخبر ، معناه : الزجر والتوعد . ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله : { طاعة وقول معروف } فقال بعضها ، التقدير : { طاعة وقول معروف } أمثل ، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه ، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة ، ففيها بعض التعريف . وقال بعضها التقدير : الأمر { طاعة وقول معروف } ، أي الأمر المرضي لله تعالى . وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة { طاعة وقول معروف } فإذا عزم الأمر كرهوه ، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة . وقال أيضاً ما معناه : إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب « أولى » . وقوله { لهم } ابتداء كلام ، ف { طاعة } على هذا القول : ابتداء ، وخبره : { لهم } والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة ، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا .
وقوله : { عزم الأمر } استعارة كما قال :
قد جدت الحرب بكم فجدوا ... ومن هذا الباب : نام ليلك ونحوه .
وقوله : { صدقوا الله } يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب ، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق ، والمعنى متقارب .
وقوله تعالى : { فهل عسيتم } مخاطبة لهؤلاء { الذين في قلوبهم مرض } أي قل لهم يا محمد .
وقرأ نافع وأهل المدينة « عسِيتم » بكسر السين . وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة : « عسَيتم » بفتح السين ، والفتح أفصح ، لأنه من عسى التي تصحبها « أن » . والمعنى : فهل عسى أن تفعلوا { إن توليتم } غير { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } ، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك : أو لو كان كذا وكذا . وقوله : { إن توليتم } معناه : إن أعرضتم عن الحق . وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن .
وقرأ جمهور القراء : « إن توليتم » والمعنى : إن أعرضتم عن الإسلام . وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى : إن توليتم أمور الناس من الولاية ، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية ، ذكره الثعلبي . وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام : « إن وُليتم » بواو مضمومة ولام مكسورة . قرأ علي بن أبي طالب : « إن تُوُلِّيتم » بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى : إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل ، أو على معنى : إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء ، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم ، وقيل معناها : إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم .
وقرأ جمهور الناس : « وتُقطِّعوا » بضم التاء وشد الطاء المكسورة . وقرأ أبو عمرو : « وتَقطَعوا » بفتح التاء والطاء المخففة ، وهي قراءة سلام ويعقوب .
وقوله تعالى : { أولئك الذين لعنهم الله } إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين . و : { لعنهم } معناه : أبعدهم . وقوله : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } توقيف وتوبيخ ، وتدبر القرآن : زعيم بالتبيين والهدى . و : { أم } منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام .
وقوله تعالى : { أم على قلوب أقفالها } استعارة للرين الذي منعهم الإيمان . وروي أن وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها ، قال عمر : فعظم في عيني ، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى .
وقوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } الآية ، قال قتادة : إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه ، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم . والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر . و : { سول } معناه : أرجاهم سولهم وأمانيهم ، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى : دلاهم ، مأخوذ من السول : وهو الاسترخاء والتدلي .
وقرأ جمهور القراء : « وأملى لهم » وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف : « أملى » . وفاعل { أملى } هنا : قال الحسن : هو { الشيطان } جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء ، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر ، يقال مُلاوة ومَلاوة ومِلاوة بضم الميم وفتحها وكسرها ، وهي القطعة من الزمن ، ومنه الملوان الليل والنهار ، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب ، ويحتمل أن يكون الفاعل في { أملى } الله عز وجل ، كأنه قال : الشيطان سول لهم وأملى الله لهم . وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل ، وهذا هو الأرجح . وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش : « وأُملِي لهم » بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم ، ورواها الخفاف عن أبي عمرو « وأُمليَ » بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني ، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى .
وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا } الآية ، قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله : { إن الذين ارتدوا } وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر وموازرة ، وذلك قولهم { سنطيعكم في بعض الأمر } .
وقرأ جمهور القراء « أَسرارهم » بفتح الهمزة ، وذلك على جمع سر ، لأن أسرارهم كانت كثيرة . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم « إسرارهم » بكسر الهمزة ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش ، وهو مصدر اسم الجنس .
وقوله تعالى : { فكيف إذا توفتهم } الآية ، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين : أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء ، { فكيف } فزعهم وجزعهم { إذا توفتهم الملائكة } ؟ والثاني أن يريد : هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم ، { فكيف } تكون حالهم مع الله { إذا توفتهم الملائكة } ؟ وقال الطبري : المعنى { والله يعلم أسرارهم فكيف } علمه بها { إذا توفتهم الملائكة } . و { الملائكة } هنا : ملك الموت والمصرفون معه . والضمير في : { يضربون } ل { الملائكة } ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في : { يضربون } للكفار الذين يتوفون ، فذلك ضعيف . و : { ما أسخط الله } هو الكفر . والرضوان هنا : الشرع والحق المؤدي إلى رضوان ، وقد تقدم القول في تفسير قوله : { أحبط أعمالهم } .
وقرأ الأعمش : « فكيف إذا توفاهم الملائكة » .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم .
وقوله : { أم حسب } توقيف وهي { أم } المنقطعة ، وتقدم تفسير مرض القلب . وقوله : { أن لن يخرج الله أضغانهم } أي يبديها من مكانها في نفوسهم . والضغن : الحقد . وقوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكم } مقاربة في شهرتهم ، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم ، وإن كانوا قد عرفوا ب { لحن القول } وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة . والسيما : العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم . وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة . في قوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } [ التوبة : 84 ] وفي قوله : { قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } [ التوبة : 83 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام ، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحداً . وأعظم ما روي في اشتهارهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوماً فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم . وروي عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم ، وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه . ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم { في لحن القول } ، ومعناه في مذهب القول ومنحاه ومقصده ، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول ، وهذا معنى قوله : { في لحن القول } ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام : « فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض » الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام ، وقد يكون هذا اللحن متفقاً عليه : أن يقول الإنسان قولاً يفهم السامعون منه معنى ، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر ، ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر [ مالك بن أسماء ] : [ الخفيف ]
وخير الحديث ما كان لحنا ... أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره ، فأخبر الله محمداً رسوله عليه السلام أن أقوالهم المحرفة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها ، واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف .
وقوله تعالى : { والله يعلم أعمالكم } مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر .
وقرأ جمهور القراء : « ولنبلونكم » بالنون ، وكذلك « نعلم » وكذلك « نبلوا » ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : « وليبلونكم الله » ، وكذلك « يعلم » ويبلو « .
وروى رويس عن يعقوب : « ويبلو » بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم . وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبتلنا ، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا .
وقوله تعالى : { حتى نعلم المجاهدين } أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم ، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي ، وإنما المعنى ما ذكرناه .
وقوله تعالى : { وصدوا } يحتمل أن يكون المعنى : { وصدوا } غيرهم ، ويحتمل أن يكون غير متعد ، بمعنى : وصدوهم في أنفسهم .
وقوله : { وشاقوا الرسول } معناه : خالفوه ، فكانوا في شق وهو في شق . وقوله : { من بعد ما تبين لهم الهدى } قالت فرقة : نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة . وقالت فرقة : نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها . وقال ابن عباس : نزلت في المطعمين سفرة بدر ، و : « تبين الهدى » هو وجوده عند الداعي إليه . وقالت فرقة : بل هي عامة في كل كافر ، وألزمهم أنه قد { تبين لهم الهدى } من حيث كان الهدى بيناً في نفسه ، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له : أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك ، بمعنى أنه هكذا هو في نفسه . وقوله : { لن يضروا الله } تحقير لهم .
وقوله : { وسيحبط أعمالهم } إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكناً ، وإما على قول من لا يرى ذلك ، فمعنى { وسيحبط أعمالهم } أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها ، وأنها لا توجد شيئاً منتفعاً به ، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب ، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام : نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، كأنهم منوا بذلك ، فنزل فيهم : { يمنون عليك أن أسلموا } [ الحجرات : 17 ] ونزلت فيهم هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام ، لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر ، وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي ، وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر ، والإبطال هو الإفساد التام .
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار } روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال : يا رسول الله إن حاتماً كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم « هو في النار » ، فبكى عدي وولى ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : « أبي وابوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار » ونزلت هذه الآية في ذلك ، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة .
وقوله تعالى : { فلا تهنوا } معناه : فلا تضعفوا ، من وهن الرجل إذا ضعف .
وقرأ جمهور الناس : « وتدعوا » وقرأ أبو عبد الرحمن : « وتدّعوا » بشد الدال . وقرأ جمهور القراء : « إلى السَلم » بفتح السين . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم : « إلى السِلم » بكسر السين . وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة . وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام ، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه . وقال قتادة معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ملتئم مع قوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } [ الأنفال : 61 ] .
وقوله : { وأنتم الأعلون } يحتمل موضعين أحدهما : أن يكون في موضع الحال ، المعنى : لا تهنوا وأنتم في هذه الحال . والمعنى الثاني : أن يكون إخباراً بنصره ومعونته . و « يتر » ، معناه ينقص ويذهب ، ومنه قوله عليه السلام : « من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر ، والمعنى : لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم . واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل ، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد ، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم ، والأول أصح ، وفسر ابن عباس وأصحابه { يتركم } بيظلمكم .
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قوله تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } تحقير لأمر الدنيا ، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها ، ووصفها باللعب واللهو هو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب ، وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو ، وهو الطاعة وأمر الآخرة وما جرى مجراه .
وقوله تعالى : { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } معناه هذا هوا لمطلوب منكم لا غيره ، لا تسألون أموالكم أن تنفقوها في سبيل الله . وقال سفيان بن عيينة : لا يسألكم كثيراً من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضاً من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم ، ثم قال تعالى منبهاً على خلق ابن آدم { إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا } والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسؤول كرهاً ، ومنه حفاء الرجل . والتحفي من البحث عن الشيء . وقوله : { تبخلوا } جزم على جواب شرط .
وقرأ جمهور القراء : « ويخرجْ » جزماً على { تبخلوا } . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : « ويخرجُ » بالرفع على القطع ، بمعنى هو يخرج ، وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة : { و } بالنصب على معنى : يكن بخل وإخراج ، فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج ، والفاعل في قوله : { ويخرج } على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله ، ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ ، ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضاً . وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب : « يخرج » بفتح الياء « أضغانُكم » رفعاً على أنها فاعلة وروي عنهم : « وتُخرَج » بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله .
وقرأ يعقوب : « ونُخرِج » بضم النون وكسر الراء « أضغانَكم » نصباً . والأضغان كما قلنا معتقدات السوء ، وهذا الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم { ها أنتم هؤلاء } وكرر هاء التنبيه تأكيداً .
وقوله : { عن نفسه } يحتمل معنيين ، أحدهما : فإنما يبخل عن شح نفسه ، والآخر أن يكون بمنزلة على ، لأنك تقول : بخلت عليك وبخلت عنك ، بمعنى : أمسكت عنك .
وقوله تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء } معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها .
وقوله تعالى : { يستبدل قوماً غيركم } قيل الخطاب لقريش ، والقوم الغير هم أهل المدينة . وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد : الخطاب لمن حضر المدينة . والقوم الغير : فارس . وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال : « قوم هذا ، لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس » .
وقوله : { أمثالكم } معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا ، وحكى الثعلبي أن القوم الغير : هم الملائكة .
نجز تفسير سورة القتال ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
قال قوم فيما حكى الزهراوي { فتحنا لك } يريد به فتح مكة ، وحكاه الثعلبي أيضاً ، ونسبه النقاش إلى الكلبي . وأخبره تعالى به على معنى : قضينا به . والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، وقيل المراد : { إنا فتحنا لك } بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر . وقال جمهور الناس : والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله : { إنا فتحنا لك } إنما معناه : إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله ، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين ، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه : ما كان في قلوبهم ، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو ، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش ، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب . وبلغ هديه محله ، قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر ، وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد .
قال القاضي أبو محمد : وفيه نظر ، لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم ، فينبغي أن يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية ، واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم ، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمة من الكفر .
ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له { ما تقدم } من ذنبه { وما تأخر } ، فقوله : { ليغفر } هي لام كي ، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك ، فكأنها لام صيرورة ، ولهذا قال عليه السلام : « لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا » . وقال الطبري وابن كيسان المعنى : { إنا فتحنا لك } فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك ، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] السورة إلى آخرها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف من وجهين أحدهما : أن سورة ، { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] إنما نزلت من أخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك . والآخر : أن تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب ، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري ، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله ، ولا يتضمن هذا أن الغفران قد وقع ، وما قدمناه أولاً يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام ، ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه : أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال :
« أفلا أكون عبداً شكوراً » فهذا نص في أن الغفران قد وقع . وقال منذر بن سعيد المعنى : مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر . وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن المعنى : { إنا فتحنا لك } فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات { ليغفر لك } الآية ، وهذا نحو قول الطبري .
وقوله : { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قال سفيان الثوري : { ما تقدم } يريد قبل النبوءة . { وما تأخر } كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف ، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة ، وأجمع العلماء علىعصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل ، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع ، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال : { ما تقدم } هو ذنب آدم وحواء ، أي ببركتك { وما تأخر } هي ذنوب أمتك بدعائك . قال الثعلبي : الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي ولا على الإمام ، والآية ترد عليهم . وقال بعضهم : { وما تقدم } هو قوله يوم بدر : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد » . { وما تأخر } هو قوله يوم حنين : « لن نغلب اليوم من قلة » .
قال القاضي أبو محمد : وإتمام النعمة عليه ، هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة .
وقوله تعالى : { ويهديك صراطاً مستقيماً } معناه : إلى صراط ، فحذف الجار فتعدى الفعل ، وقد يتعدى هذا بغير حرف جر ، والنصر العزيز : هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه ، والنصر غير العزيز : هو الذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط . وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين : وهي فعلية من السكون هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت ، وعلموا أن وعد الله على لسان رسوله حق فازدادوا بذلك إيماناً إلى إيمانهم الأول وكثر تصديقهم . قال ابن عباس : لما آمنوا بالتوحيد زادهم العبادات شيئاً شيئاً . فكانوا يزيدون إيماناً حتى قال لهم : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] فمنحهم أكمل إيمان أهل السماوات والأرض لا إله إلا الله . وفسر ابن عباس { السكينة } بالرحمة .
وقوله : { ولله جنود السماوات والأرض } إشارة إلى تسكين النفوس أيضاً وأن تكون مسلمة ، لأنه ينصر متى شاء وعلى أي صورة شاء مما لا يدبره البشر ، ومن جنده : { السكينة } التي أنزلها في قلوب أصحاب محمد فثبت بصائرهم .
وقوله تعالى : { وكان الله } أي كان ويكون ، فهي دالة على الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتاً ماضياً . والعلم والإحكام : صفتان مقتضيتان عزة النصر لمن أراد الموصوف بهما نصره .
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
قوله تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4 ] معناه : فازدادوا وتلقوا ذلك . فتمكن بعد ذلك قوله : { ليدخل المؤمنين } أي بتكسبهم القبول لما أنزل الله عليهم . ويروى في معنى هذه الآية أنه لما نزلت : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } [ الأحقاف : 9 ] تكلم فيها أهل الكتاب وقالوا : كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه؟ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] فلما سمعها المؤمنون ، قالوا : هنيئاً مريئاً ، هذا لك يا رسول الله ، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله : { وساءت مصيراً } فعرفه الله تعالى ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين . وذكر النقاش أن رجلاً من عك قال : هذه لك يا رسول الله ، فما لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هي لي ولأمتي كهاتين » وجمع بين أصبعيه .
وقوله : { ويكفر عنهم سيئاتهم } فيه ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها ، لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة .
وقوله : { الظانين بالله ظن السوء } قيل معناه من قولهم : { لن ينقلب الرسول } [ الفتح : 12 ] ، فكأنهم ظنوا بالله ظن السوء في جهة الرسول والمؤمنين ، وقيل : ظنوا بالله ظن سوء ، إذ هم يعتقدونه بغير صفاته ، فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم .
وقوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } كأنه يقوي التأويل الآخر ، أي أصابهم ما أرادوه بكم ، وقرأ جمهور القراء : « دائرة السَوء » كالأول ، ورجحها الفراء ، وقال : قل ما تضم العرب السين . قال أبو علي : هما متقاربان ، والفتح أشد مطابقة في اللفظ . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : « ظن السَوء » بفتح السين . و : « دائرة السُوء » بضم السين ، وهو اسم ، أي « دائرة السُوء » الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء . وقرأ الحسن : بضم السين في الموضعين ، وروى ذلك عن أبي عمرو ومجاهد ، وسمى المصيبة التي دعا بها عليهم : { دائرة } ، من حيث يقال في الزمان إنه يستدير ، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات ، تذهب على ترتيب ، وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض } فيقال الأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة ، لأنها تدور بدوران الزمان ، كأنك تقول : إن أمراً كذا يكون في يوم كذا من سنة كذا ، فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور هي أيضاً فيه ، وقد قالوا : أربعاء لا تدور ، ومن هذا قول الشاعر : [ الرجز ]
ودائرات الدهر قد تدور ... ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
ويعلم أن النائبات تدور ... وهذا كثير ويحسن أن تسمى المصيبة دائرة من حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة ، وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى { وغضب الله } تعالى متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات ، ومتى قصد به ما يظهر من الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل . { ولعنهم } معناه : أبعدهم من رحمته ، وقال تعالى في هذه { وكان الله عزيزاً حكيماً } فذكر صفة العزة من حيث تقدم الانتقام من الكفار ، وفي التي قبل قرن بالحكمة والعلم من حيث وعده بمغيبات ، وقرن باللفظتين ذكر جنود الله تعالى التي منها السكينة ومنها نقمة من المنافقين والمشركين ، فلكل لفظ وجه من المعنى ، وقال ابن المبارك في كتاب النقاش : جنود الله في السماء ، الملائكة ، وفي الأرض الغزاة في سبيل الله . قال عبد الحق : وهذا بعض من كل .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها ، فقوله : { شاهداً } حال واقعة . ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة ، فهي حال مستقبلة . وهي التي يسميها النحاة المقدرة ، المعنى : { شاهداً } على الناس بأعمالهم وأقوالهم حين بلغت إليهم الشرع { ومبشراً } معناه : أهل الطاعة برحمة الله { ونذيراً } معناه : أهل الكفر تنذرهم من عذاب الله .
وقرأ جمهور الناس في كل الأمصار : « لتؤمنوا بالله » على مخاطبة الناس ، على معنى قل لهم ، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير وابو جعفر : « ليؤمنوا » بالياء على استمرار خطاب محمد عليه السلام ، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد . وقرأ الجحدري : « وتَعْزُروه » بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي . وقرأ محمد بن السميفع اليماني وابن عباس : « وتعززوه » بزاءين ، من العزة . وقرأ جعفر بن محمد : « وتَعْزِروه » بفتح التاء وسكون العين وكسر الزاي ومعنى : { تعزروه } تعظموه وتكبروه ، قاله ابن عباس : وقال قتادة معناه : تنصروه بالقتال وقال بعض المتأولين : الضمائر في قوله : { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } هي كلها لله تعالى . وقال الجمهور : { تعزروه وتوقروه } هما للنبي عليه السلام ، { وتسبحوه } هي لله ، وهي صلاة البردين .
وقرأ عمر بن الخطاب : « وتسبحوا الله » ، وفي بعض ما حكى أبو حاتم : « وتسبحون الله » ، بالنون ، وقرأ ابن عباس : « ولتسبحوا الله » . والبكرة : الغدو . والأصيل : العشي .
وقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك } يريد في بيعة الرضوان ، وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، وكان في ألف وأربعمائة رجل . قال النقاش : وقيل كان في ألف وثمانمائة ، وقيل وسبعمائة ، وقيل وستمائة ، وقيل ومائتين .
قال القاضي أبو محمد : وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وقال عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر .
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع ، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، وبقي اسم البيعة بعد معاقدة الخلفاء والملوك ، وعلى هذا سمت الخوارج أنفسهم الشراة ، أي اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم . ومعنى : { إنما يبايعون الله } أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح ثمنها الله تعالى .
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : { إنما يبايعون الله } . قال أبو الفتح : ذلك على حذف المفعول لدلالة الأول عليه وقربه منه .
وقوله تعالى : { يد الله } قال جمهور المتأولين : اليد ، بمعنى : النعمة ، أي نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها . { فوق أيديهم } التي مدوها لبيعتك . وقال آخرون : { يد الله } هنا ، بمعنى : قوة الله فوق قواهم ، أي في نصرك ونصرهم ، فالآية على هذا تعديد نعمة عليهم مستقبلة مخبر بها ، وعلى التأويل الأول تعديد نعمة حاصلة تشرف بها الأمر . قال النقاش { يد الله } في الثواب .
وقوله : { فمن نكث } أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه وإياها يهلك ، فنكثه عليه لا له .
وقرأ جمهور القراء : « بما عاهد عليه الله » بالنصب على التعظيم . وقرأ ابن أبي إسحاق : « ومن أوفى بما عاهد عليه اللهُ » بالرفع ، على أن الله هو المعاهد . وقرأ حفص عن عاصم : « عليهُ » مضمومة الهاء ، وروي ذلك عن ابن أبي إسحاق . والأجر العظيم : الجنة ، لا يفنى نعيمها ولا ينقضي أمرها .
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي والعامة : « فسيؤتيه » بالياء . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : « فسنؤتيه » بالنون . وفي مصحف ابن مسعود : « فسيؤتيه الله » .
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
{ المخلفون من الأعراب } قال مجاهد وغيره : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل ، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىعمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا ، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله في هذه الآية ، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك ، قالوا : شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا ، وهذا منهم خبث وإبطال ، فلذلك قال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } قال الرماني : لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة ، ثم قال لنبيه عليه السلام { قل } لهم : { فمن يملك لكم من الله شيئاً } أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً .
وقرأ جمهور القراء : « إن أراد بكم ضَراً » بفتح الضاد . وقرأ حمزة والكسائي : « ضُراً » بالضم ، ورجحها أبو علي وهما لغتان . وفي مصحف ابن مسعود . « إن أراد بكم سوءاً » . ثم رد عليهم بقوله : { بل كان الله بما تعملون خبيراً } ، ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله : { بل ظننتم } الآية ، وفي قراءة عبد الله : « إلى أهلهم » بغير ياء . و : { بوراً } معناه : فاسدين هلكى بسبب فسادهم . والبوار : الهلاك . وبارت السلعة ، مأخوذ من هذا . وبور : يوصف به الجمع والإفراد ، ومنه قول ابن الزبعرى : [ الخفيف ]
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
والبور في لغة أزد عمان : الفاسد ، ومنه قول أبي الدرداء : فأصبح ما جمعوا بوراً ، أي فاسداً ذاهباً ، ومنه قول حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور
وقال الطبري في قوله تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } يعني به قولهم : { فاستغفر لنا } لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم ، قال وقوله تعالى : { قل فمن يملك } الآية ، معناه : وما ينفعكم استغفاري ، وهل أملك لكم شيئاً والله قد أراد ضركم بسبب معصيتكم كما لا أملك إن أراد بكم النفع في أموالكم وأهليكم .
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
لما قال لهم : { وكنتم قوماً بوراً } [ الفتح : 12 ] توعدهم بعد ذلك بقوله : { ومن لم يؤمن بالله ورسوله } الآية ، وأنتم هكذا فأنتم ممن أعدت لهم السعير ، وهي النار المؤججة . والمسعر : ما يحرك به النار ، ومنه قوله عليه السلام : « ويل من مسعر حرب » . ثم رجى بقوله تعالى : { ولله ملك السماوات والأرض } ، الآية : لأن القوم لم يكونوا مجاهرين بالكفر ، فلذلك جاء وعيدهم وتوبيخهم ممزوجاً فيه بعض الإمهال والترجية ، لأن الله تعالى قد كان علم منهم أنهم سيؤمنون ، ثم إن الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك .
وقوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } معناه : يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر . وقال عبد الله بن زيد بن أسلم { كلام الله } قوله تعالى : { قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } [ التوبة : 83 ] وهذا قول ضعيف ، لأن هذه الآية نزلت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، وهذا في آخر عمره ، وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية ، وأيضاً فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب ، الحديث المشهور فأمره الله تعالى أن يقول لهم في هذه الغزوة إلى خيبر : { لن تتبعونا } وخص الله بها أهل الحديبية .
وقوله تعالى : { كذلكم قال الله من قبل } يريد وعده قبل باختصاصهم بها ، وقول الأعراب : { بل تحسدوننا } معناه : بل يعز عليكم أن نصيب مغنماً ومالاً ، فرد الله على هذه المقالة بقوله : { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً } أي لا يفقهون من الأمور مواضع الرشد ، وذلك هو الذي خلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سبباً إلى منعهم من غزوة خيبر .
وقرأ أبو حيوة : « تحسِدوننا » بكسر السين . وقرأ الجمهور من القراء : « كلام » قال أبو علي : هو أخص بما كان مفيداً حديثاً . وقرأ الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب : « كلم » والمعنى فيهما متقارب .
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم سيؤمرون بقتال عدو بئيس ، وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، وإلا فلم يكونوا أهلاً لهذا الأمر ، واختلف الناس من القوم المشار إليهم في قوله : { إلى قوم أولي بأس شديد } فقال عكرمة وابن جبير وقتادة : هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين .
قال القاضي أبو محمد : ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب في فتح مكة .
وقال كعب : هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة . وقال الزهري والكلبي : هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة .
وقال منذر بن سعيد : يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، يريد لما كشف الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة . وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم ، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا . وقال ابن عباس وابن أبي ليلى : هم الفرس . وقال الحسن : هم فارس والروم . وقال أبو هريرة : هم قوم لم يأتوا بعد ، والقولان الأولان حسنان ، لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف . وقال منذر بن سعيد : رفع الله في هذه الجزية ، وليس إلا القتال أو الإسلام ، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة .
قال القاضي أبو محمد : وهو من حورب في فتح مكة . وقرأ الجمهور من القراء : « أو يسلمون » على القطع ، أي أو هم يسلمون دون حرب . وقرأ أبيّ بن كعب فيما حكى الكسائي : « أو يسلموا » بنصب الفعل على تقدير : أو يكون أن يسلموا ، ومثله من الشعر قول امرئ القيس : [ الطويل ]
فقلت له لا تبك عيناك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
يروى : « نموتَ » بالنصب . و « نموتُ » بالرفع ، فالنصب على تقدير : أو يكون أن نموت ، والرفع على القطع ، أو نحن نموت .
وقوله : { فإن تطيعوا } معناه : فيما تدعون إليه ، والعذاب الذي توعدهم : يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا ، وأما عذاب الآخرة فبين فيه .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة لجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع ، عقب ذلك بأن عذر أهل الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم ، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة ، إلا أن يحزب حازب في حضرة ما ، فالفرض متوجه بحسب الوسع ، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف ، لأن الأعرج أحرى الناس بالصبر وأن لا يفر ، وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية ، وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله .
وقرأ الجمهور من القراء : « يدخله » بالياء . وقرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر والأعرج والحسن وشيبة وقتادة : « ندخله » بالنون ، وكذلك « نعذبه » و : « يعذبه » .
وقوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة ، وبهذا سميت بيعة الرضوان . والرضى بمعنى الإرادة ، فهو صفة ذات . ومن جعل { إذ } مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة ، جاز أن يجعل { رضي } بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم ، فالرضى على هذا صفة فعل ، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها .
وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلاً يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً ، وإنما جاء معتمراً ، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي وحمله على جمل يقال له الثعلب ، فلما كلمهم ، عقروا الجمل ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعه الأحابيش ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني ، وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني ، ولكن ابعث عثمان بن عفان ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي ، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره ، حتى إذا جاء قريشاً فأخبرهم ، فقالوا له : إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه ، فقال عثمان : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وقالوا : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، ونادى مناديه : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن قيس المنافق ، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال :
« هذه يد لعثمان ، وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً » .
و { الشجرة } سمرة كانت هنالك ، ذهبت بعد سنين ، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها ، فقال عمر سيروا هذا التكلف .
وقوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } قال قوم معناه : من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف ، فيه مذمة للصحابة . وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه : من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه ، وهذا قول حسن ، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه ، أما أنه يحتمل أن يجازى ب { السكينة } والفتح القريب والمغانم .
وقال آخرون معناه : من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر وغيره ، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول { السكينة } والتعريض بالفتح القريب . و { السكينة } هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له .
وقرأ الناس : « وأثابهم » قال هارون وقد قرئت : « وأتابهم » بالتاء بنقطتين والفتح القريب : خيبر ، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث ، قال أبو جعفر النحاس ، وقد قيل : الفتح القريب : فتح مكة ، والمغانم الكثيرة : فتح خيبر .
وقرأ يعقوب في رواية رويس : « تأخذونها » على مخاطبتهم بالتاء من فوق . وقرأ الجمهور : « يأخذونها » على الغيبة .
واختلف في عدة المبايعين فقيل : ألف وخمسمائة ، قاله قتادة ، وقيل : وأربعمائة قاله جابر بن عبد الله ، وقيل : وخمسمائة وخمسة وعشرون ، قاله ابن عباس ، وقيل : وثلاثمائة قاله ابن أبي أوفى ، وقيل غير هذا مما ذكرناه من قبل ، وأول من بايع في ذلك رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب قاله الشعبي .
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
قوله تعالى : { وعدكم الله } الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة ، قاله مجاهد وغيره .
وقوله : { فعجل لكم هذه } يريد خيبر ، وقال زيد بن أسلم وابنه ، المغانم الكثيرة : خيبر ، و : { هذه } إشارة إلى البيعة والتخلص من أمر قريش ، وقاله ابن عباس : وقوله { وكف أيدي الناس عنكم } يريد من ولي عورة المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منها ، وذلك أنه كان من أحياء العرب ومن اليهود من يعادي وكانت قد أمكنتهم فرصة فكفهم الله عن ذراري المسلمين وأموالهم ، وهذه للمؤمنين العلامة على أن الله ينصرهم ويلطف لهم ، قاله قتادة . وحكى الثعلبي أنه قال : كف الله غطفان ومن معها عن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا لنصر أهل خيبر ، وذكره النقاش وقال الثعلبي أيضاً عن بعضهم إنه أراد كف قريش .
وقوله : { وأخرى لم تقدروا عليها } قال عبد الله بن عباس : الإشارة إلى بلاد فارس والروم . وقال الضحاك : الإشارة إلى خيبر . وقال قتادة والحسن : الإشارة إلى مكة ، وهذا هو القول الذي يتسق معه المعنى ويتأيد .
وقوله : { قد أحاط الله بها } معناه بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها .
وقوله : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } إشارة إلى قريش ومن والاها في تلك السنة ، قاله قتادة ، وفي هذا تقوية لنفوس المؤمنين ، وقال بعض المفسرين : أراد الروم وفارس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما الإشارة إلى العدو الأحضر .
وقوله : { سنة الله } إشارة إلى وقعة بدر ، وقيل إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء قديماً ، ونصب { سنة } على المصدر ، ويجوز الرفع ولم يقرأ به .
وقوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم } الآية ، روي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً ، فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم ، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو « بطن مكة » . وقال قتادة : أسر النبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم ، وذلك هو « بطن مكة » . قال النقاش : الحرام كله { مكة } ، والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم ، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح ، لأن من استشعر أن الله يبصر عمله أصلحه .
وقرأ الجمهور من القراء : « بما تعملون » بالتاء على الخطاب . وقرأ أبو عمرو وحده : « بما يعملون » بالياء على ذكر الكفار وتهددهم .
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
يريد بقوله تعالى : { هم الذين كفروا } أهل مكة الذين تقدم ذكرهم . وقوله { وصدوكم عن المسجد الحرام } هو منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم البيت ، وخرج معه بمائة بدنة ، قاله النقاش ، وقيل بسبعين ، قاله المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، فلما دنا من مكة ، قال أهل مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا ، يريد أن يدخل مكة مراغمة لنا ، والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك ، فاجتمعموا لحربه ، واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية ، وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان ، وبعث أهل مكة إليه رجالاً منهم : عروة بن مسعود ، وبديل بن ورقاء ، وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أياماً حتى سفر سهيل بن عمرو ، وبه انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويعتمر من العام القادم ، فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب السير ، فلذلك اختصرناه .
وقرأ الجمهور : « والهدْي » بسكون الدال . . وقرأ الأعرج والحسن بن أبي الحسن : « والهدِيّ » بكسر الدال وشد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في قوله : { وصدوكم } أي وصدوا الهدي . و : { معكوفاً } حال ، ومعناه : محبوساً ، تقول : عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وقد قال أبو علي : إن عكف لا يعرفه متعدياً ، وحكى ابن سيده وغيره : تعديه ، وهذا العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم ، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم فحبسوا هديهم . و { أن } في قوله : { أن يبلغ } يحتمل أن يعمل فيها الصد ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهة أن أو عن أن ، ويحتمل أن يعمل فيها العكف فتكون مفعولاً من أجله ، أي الهدي المحبوس لأجل { أن يبلغ محله } ، و { محله } مكة .
وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة ، وهو أنه كان بمكة مؤمنون ومن رجال ونساء خفي إيمانهم ، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين . قال قتادة : فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين ، وقد يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
وقوله تعالى : { لم تعلموهم } صفة للمذكورين . وقوله : { أن تطؤوهم } يحتمل أن تكون { أن } بدلاً من { رجال } ، كأنه قال : ولولا قوم مؤمنون أن تطؤوهم ، أي لولا وطئكم قوماً مؤمنين ، فهو على هذا في موضع رفع ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بدلاً من الضمير في قوله : { لم تعلموهم } كأنه قال : لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين ، والوطء هنا : الإهلاك بالسيف وغيره على وجه التشبيه ، ومنه قول الشاعر [ زهير ] : [ الكامل ]
ووطئتنا وطئاً على حنق ... وطء المقيد ثابت الهرم
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشدد وطأتك على مضر » ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن آخر وطأة الرب يوم وج بالطائف » لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيها ذكر هذا المعنى النقاش : و « المعرة » السوء والمكروه اللاصق ، مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم . واختلف الناس في تعيين هذه المعرة ، فقال ابن زيد : هي المأثم وقال ابن إسحاق : هي الدية .
قال القاضي أبو محمد : وهذان ضعيفان ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب .
وقال الطبري حكاه الثعلبي : هي الكفارة . وقال منذر : المعرة : أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم . وقال بعض المفسرين : هي الملام والقول في ذلك ، وتألم النفس منه في باقي الزمن .
قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال حسان . وجواب { لولا } محذوف تقديره : لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم .
وقرأ الأعمش : « فتنالكم منه معرة » .
واللام في قوله : { ليدخل } يحتمل أن يتعلق بمحذوف من القول ، تقديره : لولا هؤلاء لدخلتم مكة ، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة { ليدخل الله } : أي ليبين للناظر أن الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته ، أو ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم ، ويحتمل أن تتعلق بالإيمان المتقدم الذكر ، فكأنه قال : ولولا قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء في رحمته ، وهذا مذكور ، لكنه ضعيف ، لأن قوله : { من يشاء } يضعف هذا التأويل .
ثم قال تعالى : { لو تزيلوا } أي لو ذهبوا عن مكة ، تقول : أزلت زيداً عن موضعه إزالة ، أي أذهبته ، وليس هذا الفعل من زال يزول ، وقد قيل هو منه .
وقرأ أبو حيوة وقتادة : بألف بعد الزاي ، أي « لو تزايلوا » ، أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء .
وقوله : { منهم } لبيان الجنس إذا كان الضمير في { تزيلوا } للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس : وقد قيل إن قوله : { ولولا رجال مؤمنون } الآية . يريد من في أصلاب الكافرين من سيؤمن في غابر الدهر ، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً . والعامل في قوله : { إذ جعل } قوله : { لعذبنا } ويحتمل أن يكون المعنى : أذكر إذ جعلنا .
و : { الحمية } التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد ، قال الزهري : وحمية سهيل ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، ولجوا حتى كتب باسمك اللهم ، وكذلك منعوا أن يثبت : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . ولجوا حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي : « امح واكتب » هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى « حمية جاهلية » ، لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محارباً لعذرهم في حميتهم ، وإنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فكانت حميتهم جاهلية صرفاً . والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره .
و : { كلمة التقوى } قال الجمهور : هي لا إله إلا الله ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال أبو هريرة وعطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال علي بن أبي طالب : هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وحكاه الثعلبي عن ابن عمر .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال متقاربة حسان ، لأن هذه الكلمة تقي النار ، فهي { كلمة التقوى } .
وقال الزهري عن المسور ومروان : { كلمة التقوى } المشار إليها هي بسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم { أحق بها }
قال القاضي أبو محمد : ولا إله إلا الله أحق باسم : { كلمة التقوى } . من : بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي مصحف ابن مسعود : « وكانوا أهلها وأحق بها » . والمعنى : كانوا أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم ، وقيل { أحق بها } من اليهود والنصارى في الدنيا ، وقيل أهلها في الآخرة بالثواب .
وقوله تعالى : { وكان الله بكل شيء عليماً } إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية ، فيروى أنه لما انعقد ، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة ، وامتزجوا ، وعلت دعوة الإسلام ، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب ، وزاد عدد الإسلام أضعاف ما كان قبل ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ويقتضي ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم .
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصد ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .
وقرأ ابن مسعود : « إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .
ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .
واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله؟ قال : « نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .
وقوله عز وجل : { هو الذي أرسل رسوله } الآية تعظيم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع الأديان . ورأى بعض الناس لفظة : { ليظهره } تقتضي محو غيره به ، فلذلك قالوا : إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو قول الطبري والثعلبي . ورأى قوم أن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي من الدين الآخر أجزاء ، وهذا موجود الآن في دين الإسلام ، فإنه قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين .
وقوله تعالى : { وكفى بالله شهيداً } معناه : شاهداً ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما شاهداً عندكم بهذا الخبر ومعلماً به . والثاني : شاهداً على هؤلاء الكفار المنكرين أمر محمد الرادين في صدره ومعاقباً لهم بحكم الشهادة ، والآية على هذا وعيد للكفار الذين شاحوا في أن يكتب محمد رسول الله ، فرد عليهم بهذه الآية كلها .
وقوله تعالى : { محمد رسول الله } قال جمهور الناس : هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : و { الذين معه } ابتداء وخبره : { أشداء } و { رحماء } خبر ثان . وقال قوم من المتأولين : { محمد } « ابتداء » و : { رسول الله } صفة له { والذين } عطف عليه . و : { أشداء } خبر وهؤلاء بوصفهم ، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة .
قال القاضي أبو محمد : والأول عندي أرجح ، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله .
وقوله : { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية : ب { الذين معه } . و : { أشداء } جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين .
وقرأ الجمهور : « اشداءُ » « رحماءُ » بالرفع ، وروى قرة عن الحسن : « أشداءَ » رحماءَ « بنصبهما قال أبو حاتم : ذلك على الحال والخبر : { تراهم } . قال أبو الفتح : وإن شئت نصبت » أشداءَ « على المدح . وقوله : { تراهم ركعاً سجداً } ، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم . و : { يبتغون } معناه يطلبون . وقرأ عمر وابن عبيد : » ورُضواناً « بضم الراء .
وقوله : { سيماهم } معناه : علامتهم . واختلف الناس في تعيين هذه السيما ، فقال مالك بن أنس : كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب ، كان يبقى على المسح أثره ، وقاله عكرمة . وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية : هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً { من أثر السجود } .
قال القاضي أبو محمد : كما يجعل غرة من أثر الوضوء الحديث ، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله : { فضلاً من الله ورضواناً } كأنه قال : علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله : { فضلاً } . وقال ابن عباس : السمت الحسن : هو السيما ، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حالة مكثري الصلاة ، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية : السيما : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر . وقال منصور : سألت مجاهداً : أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ فقال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة . وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : السيما : حسن يعتري وجوه المصلين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه ، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره ، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب : » من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار « .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد ، سمع شريك بن عبد الله يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال : يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك .
وقرأ الأعرج : « من إثْر » بسكون الثاء وكسر الهمزة . قال أبو حاتم هما بمعنى . وقرأ قتادة : « من آثار » ، جمعاً .
وقوله تعالى : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية ، المثل هنا الوصف أو الصفة . وقال بعض المتأولين : التقدير الأمر { ذلك } وتم الكلام . ثم قال : { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : المعنى { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } وتم القول ، و : { كزرع } ابتداء تمثيل يختص بالقرآن . وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى : { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة } وتم القول ، ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال آخرون : المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل .
وقوله تعالى : { كزرع } ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل : فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء : وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، يقال : أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها ، وأشطأ الزرع : إذا خرج شطأه .
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر : « شَطأ » بفتح الطاء والهمز دون مد ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، وقرأ عيسى بن عمر : « شطاه » بفتح الطاء دون همز ، وقرأ أبو جعفر : « شطه » رمى بالهمزة وفتح الطاء ، ورويت عن نافع وشيبة . وروي عن عيسى : « شطاءه » بالمد والهمز ، وقرأ الجحدري : « شطوه » بالواو . قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : الزرع : النبي صلى الله عليه وسلم ، { فآزره } . علي بن أبي طالب رضي الله عنه { فاستغلظ } بأبي بكر ، { فاستوى على سوقه } : بعمر بن الخطاب .
وقوله تعالى : { فآزره } وزنه : أفعله ، أبو الحسن ورجحه أبو علي . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : « فأزره » على وزن : فعله دون مد ، ولذلك كله معنيان : أحدهما ساواه طولاً ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... بجر جيوش غانمين وخيب
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال ، فالفاعل على هذا المعنى : الشطء والمعنى الثاني : إن آزره وأزره بمعنى : أعانه وقواه ، مأخوذ ذلك من الأزر وشده ، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء ، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره « آزره » وزنه : فاعله ، والأول أصوب أن وزنه : أفعله ، ويدلك على ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]
لا مال إلا العطاف تؤزره ... أم ثلاثين وابنة الجبل
وقرأ ابن كثير : « على سؤقه » بالهمز ، وهي لغة ضعيفة ، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [ جرير ] :
وجعدة إذا أضاءهما الوقود ... و : { يعجب الزراع } جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب { الزراع } ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل .
وقوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار } ، و { الكفار } هنا المشركون . قال الحسن : من غيظ الكفار قول عمر بمكة : لا عبد الله سراً بعد اليوم .
وقوله تعالى : { منهم } هي لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مرجٍّ للجميع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
كانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك ، قال قتادة : فربما قال قوم : لو نزل كذا وكذا في معنى كذا وكذا وينبغي أن يكون كذا ، وأيضاً فإن قوماً ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه الحسن بن أبي الحسن ، وقوماً فعلوا في بعض حروبه وغزواته أشياء بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك ، وحكى الثعلبي عن مسروق أنه قال : دخلت على عائشة في يوم الشك فقالت للجارية : اسقه عسلاً ، فقلت : إني صائم ، فقالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم ، وفيه نزلت : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } . وقال ابن زيد : معنى { لا تقدموا } لا تمشوا « بين يدي رسول الله » ، وكذلك بين يدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء . وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه : إذا قلت فيه .
وقرأ الجمهور من القراء : « تُقدِموا » بضم التاء وكسر الدال . وقرأ ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح التاء والدال على معنى : لا تتقدموا ، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي . والمعنى على ضم التاء { بين يدي } قول الله ورسوله .
وروي أن سبب هذه الآية هو أن وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله لو أمرت الأقرع بن حابس . وقال عمر بن الخطاب : لا يا رسول الله ، بل أمر القعقاع بن معبد ، فقال له أبو بكر : ما أردت إلى خلافي ، ويروى إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، وارتفعت أصواتهما فنزلت الآية في ذلك . وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله : { لا تقدموا } معناه : { لا تقدموا } ولاة ، فهو من تقديم الأمراء ، وعموم اللفظ أحسن ، أي اجعلوه مبدأً في الأقوال والأفعال . و : { سميع } معناه : لأقوالكم . { عليم } معناه : بأفعالكم ومقتضى أقوالكم .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا } الآية هي أيضاً في ذلك الفن المتقدم ، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة ، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له : « امش في الأرض بسطاً فإنك من أهل الجنة » . وقال له مرة : « أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً » فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة .
وفي قراءة ابن مسعود : « لا ترفعوا بأصواتكم » بزيادة الباء .
وقوله : { كجهر بعضكم لبعض } أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب ، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم . با محمد يا محمد ، قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم الله بتوقيره ، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين ، فتلك حالة الموقر ، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وبحضرة العالم وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار .
وقوله تعالى : { أن تحبط } مفعول من أجله ، أي مخافة { أن تحبط } ، والحبط : إفساد العمل بعد تقرره ، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله ، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر . والحبط معه على حقيقته ، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك ، فكأنه قال : أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . ويحتمل أن يكون المعنى : أن تأثموا ويكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم ، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة . وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً ، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر ، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : « فتحبط أعمالكم » .
ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره ، وهم { الذين يغضون أصواتهم } عند النبي صلى الله عليه وسلم . وغض الصوت : خفضه وكسره ، وكذلك البصر ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
فغض الطرف إنك من نمير ... وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ ، لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه . و : { امتحن الله } معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى . وقال عمر بن الخطاب : امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات .
قال القاضي أبو محمد : من غلب شهوته وغضبه ، فذلك الذي { امتحن الله } قلبه للتقوى ، وبذلك تكون الاستقامة .
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله تعالى : { إن الذين ينادونك } إلى قوله { رحيم } نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم ، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسعة ، فجعلوا ولم ينتظروا ، فنادوا بجملتهم : يا محمد اخرج إلينا يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير ، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويلك ، ذلك الله تعالى » واجتمع الناس في المسجد ، فقام خطيبهم وفخر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فخطب وذكر الله والإسلام ، فأربى على خطيبهم ، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخراً ، فقام حسان بن ثابت ففخر بالله وبالرسول وبالبسالة ، فكان أشعر من شاعرهم ، فقال بعضهم لبعض : والله إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ثم نزلت فيهم هذه الآية .
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية ، وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس ، وفي مصحف ابن مسعود : « أكثرهم بنو تميم لا يعقلون » ، و : { الحجرات } : جمع حجرة .
وقرأ جمهور القراء : « الحُجُرات » بضم الحاء والجيم ، وقرأ أبو جعفر القاري وحده : « الحُجَرات » بضم الحاء وفتح الجيم .
وقوله تعالى : { لكان خيراً لهم } يعني في الثواب عند الله وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده لهم ، وذلك كله خير ، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم .
وقوله تعالى : { والله غفور رحيم } ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقاً ، فروي أنه كان معادياً لهم فأراد إذايتهم ، فرجع من بعض طريقه وكذب عليهم ، قاله الضحاك ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنهم منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم ، ونظر في ذلك ، وبعث خالد بن الوليد إليهم ، فورده وفدهم منكرين لذلك ، وروي عن أم سلمة وابن عباس أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له ، فرآهم على بعد ، ففزع منهم ، وظن بهم الشر وانصرف ، فقال ما ذكرناه ، وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم قالوا : لا نعطيه الصدقة ولا نعطيه ، فعمل على صحة هذا الخبر وانصرف ، فقال ما ذكرناه فنزلت الآية بهذا السبب ، والوليد على ما ذكر مجاهد هو المشار إليه بالفاسق وحكى الزهراوي قالت أم سلمة : هو الوليد بن عقبة .
قال القاضي أبو محمد : ثم هي باقية فيمن اتصف بهذه الصفة غابر الدهر .
والفسق : الخروج عن نهج الحق ، وهو مراتب متباينة ، كلها مظنة للكذب وموضع تثبت وتبين ، وتأنس القائلون بقبول خبر الواحد بما يقتضيه دليل خطاب هذه الآية ، لأنه يقتضي أن غير الفاسق إذا جاء بنبإ أن يعمل بحسبه ، وهذا ليس باستدلال قوي وليس هذا موضع الكلام على مسألة خبر الواحد .
وقرأ الجمهور من القراء : « فتبينوا » من التبين . وقرأ الحسن وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى : « فتثبتوا » .
و { أن } في قوله : { أن تصيبوا } مفعول من أجله ، كأنه قال : مخافة { أن تصيبوا } . قال قتادة : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية : « التثبت من الله والعجلة من الشيطان » قال منذر بن سعيد هذه الآية ترد على من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول .
قال القاضي أبو محمد : فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقاً والاحتباط لازم . قال النقاش « تبينوا » أبلغ ، لأنه قد يتثبت من لا يتبين .
وقوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله } توبيخ للكذبة ووعيد للفضيحة ، أي فليفكر الكاذب في أن الله عز وجل يفضحه على لسان رسوله؛ ثم قال : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } أي لشقيتم وهلكتم ، والعنت : المشقة ، أي لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم وتقدمكم بين يديه .
وقوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم } الآية كأنه قال : ولكن الله أنعم بكذا وكذا ، وفي ذلك كفاية وأمر لا تقومون بشكره فلا تتقدموا في الأمور ، واقنعوا بإنعام الله عليكم ، وحبب الله تعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه ، وكذلك تكريه الكفر والفسق والعصيان ، وحكى الرماني عن الحسن أنه قال : حبب الإيمان بما وصف من الثواب عليه وكره الثلاثة المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها .
وقوله تعالى : { أولئك هم الراشدون } رجوع من الخطاب إلى ذكر الغيب ، كأنه قال : ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم الراشدون .
وقوله تعالى : { فضلاً من الله ونعمة } مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إن التحبيب والتزيين هو نفس الفضل ، وقد يجيء المصدر مؤكداً لما قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله ، كقولك جاءني زيد حقاً ونحوه وكان قتادة رحمه الله يقول : قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } ، وأنتم والله أسخف الناس رأياً ، وأطيش أحلاماً ، فليتهم رجل نفسه ، ولينتصح كتاب الله تعالى .
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
{ طائفتان } مرفوع بإضمار فعل . والطائفة : الجماعة . وقد تقع على الواحد ، واحتج لذلك بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [ التوبة : 122 ] . ورأى بعض الناس أن يشهد حداً لزناة رجل واحد . فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد .
واختلف الناس في سبب هذه الآية . فقال أنس بن مالك والجمهور سببها : ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه . فقال عبد الله بن أبيّ لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك . فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بطوله . فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد ، ويروى بالحديد . وقال أبو مالك والحسن سببها : أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال . فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي : كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ولها زوج من غيرهم . فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه . فوقع قتال نزلت الآية بسببه .
و : { بغت } معناه : طلبت العلو بغير الحق ، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة . وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمشركون أهل صفين والجمل؟ قال : لا . من الشرك فروا . قيل أفمنافقون؟ قال : لا . لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح . ولا يطلب هارب . ولا يقتل أسير » و : { تفيء } معناه : ترجع . والإقساط : الحكم بالعدل .
وقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } يريد إخوة الدين . وقرأ الجمهور من القراء : « بين أخويكم » وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين . وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه : « بين إخوتكم » .
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة : « بين إخوانكم » . وهي حسنة . لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان . والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء . قال الشاعر : [ الطويل ]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم ... وأي بني الإخاء تنبو مناسبه
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله . فمنه : { إنما المؤمنون إخوة } أو بيوت إخوانكم فهذا جاء على الأقل من الاستعمال .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية . وذلك لأنهم كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم أمر من الله ولا نهي . فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون . فيتكلم بها . ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة . فنزلت هذه الآية تأديباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسباباً . فمما قيل : إن هذه الآية : { لا يسخر قوم } نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلماً ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال القاضي أبو محمد : والقوي عندي أن هذه الآية نزلت تقويماً كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى .
و : { يسخر } معناه : يستهزئ . والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ إما لصغر وإما لعلة حادثة ، أو لرزية أو لنقيصة يأتيها ، فنهي المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهياً عاماً ، فقد يكون ذلك المستهزأ به خيراً من الساخر ، والقوم في كلام العرب : واقع على الذكران ، وهو من أسماء الجمع : كالرهط والنفر . وقول من قال : إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف ، ومنه قول الشاعر وهو زهير : [ الوافر ]
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران ، وقد يكون مع الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور ، ثم نهى تعالى النساء عمّا نهى عنه الرجال من ذلك .
وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : « عسوا أن يكونوا » ، « وعسين أن يكن » .
و : { تلمزوا } ، معناه : يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه ، وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي المماسة ، قال الشاعر [ رؤبة ] :
ومن همزنا عزه تبركعا ... وقيل لأعرابي : أتهمز الفأرة؟ فقال الهر يهمزها . وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في المغيب . وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عَكَّهُ من ذلك فقال : الهمز أن يعيب حضرة واللمز في الغيبة . ومنه قوله تعالى : { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] ومنه قوله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] .
وقرأ الجمهور : « تلمِزوا » بكسر الميم . وقرأ الأعرج والحسن : « تلمُزوا » بضم الميم . قال أبو عمرو بن العلاء : هي عربية . قراءتنا بالضم وأحياناً بالكسر .
وقوله تعالى : { أنفسكم } معناه : بعضكم بعضاً كما قال : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] كأن المؤمنين كنفس واحدة إذ هم إخوة . فهم كما قال صلى الله عليه وسلم :
« كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى » وهم كما قال أيضاً : « كالبنيان يشد بعضه بعضاً » . والتنابز : التلقب والنبز واللقب واحد . أو اللقب : هو ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره سماعها . وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم فقال له : يا فلان ، فقيل له : إنه يغضب من هذا الاسم ، ثم دعا آخر كذلك . فنزلت الآية في هذا . وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش . وواصل الأحدب . ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف وأذى . وقد قال عبد الله بن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور . وأسند النقاش إلى عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كنوا أولادكم؟ » قال عطاء : مخافة الألقاب . وقال ابن زيد . معنى : { ولا تنابزوا بالألقاب } أي لا يقول أحد لأحد : يا يهودي بعد إسلامه . ولا يا فاسق بعد توبته . ونحو هذا . وحكى النقاش أن كعب بن مالك وابن أبي حدرد تلاحيا ، فقال له كعب : يا أعرابي . يريد أن يبعده من الهجرة . فقال له الآخر : يا يهودي . يريد لمخالطة الأنصار اليهود في يثرب . فنزلت الآية .
وقوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } يحتمل معنيين : أحدهما : بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم . والثاني : بئس ما يقول الرجل لأخيه : يا فاسق بعد إيمانه . وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسق والإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذه نزعة اعتزالية .
ثم شدد تعالى عليهم النهي . بأن حكم بظلم من لم يتب ويقلع عن هذه الأشياء التي نهى عنها . ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن . وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر . وحكم على بعضه بأنه { إثم } إذ بعضه ليس بإثم . ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى . والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر . فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به . وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه : هو أن تظن سوءاً برجل ظاهره الصلاح . بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير . وقال بعض الناس : { إثم } معناه : كذب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث » . وقال بعض الناس . معنى : { إن بعض الظن إثم } أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحزم سوء الظن » .
قال القاضي أبو محمد : وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه .
قال سلمان الفارسي : إني لأعد غراف قِدْري مخافة الظن . وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « احترسوا من الناس بسوء الظن . » وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه .
وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم . والخاتم خير من ظن السوء .
وقوله : { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن . واجتزوا بالظواهر الحسنة .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون : « لا تحسسوا » بالحاء غير منقوطة . وقال بعض الناس : التجسس بالجيم في الشر . والتحسس بالحاء في الخير . وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . وقال أبو عمرو بن العلاء : التجسس : ما كان من وراء وراء . والتحسس بالحاء : الدخول والاستعلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً » . وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف . وذكر أيضاً حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي . وقال زيد بن وهب . قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال : إنا نهينا عن التحسس . فإن يظهر لنا شيء أخذنا به .
{ ولا يغتب } معناه : ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئاً هو فيه يكره سماعه . وروي أن عائشة قالت عن امرأة : ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : « اغتبتها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته » وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته . وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته » . وفي حديث آخر : « الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره » . قيل : وإن كان حقاً . قال : « إذا قلت باطلاً فذلك هو البهتان » . وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي : إذا مر بك رجل اقطع . فقلت : ذلك الأقطع ، كان ذلك غيب . وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه . والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل » .
قال القاضي أبو محمد : وقد يموت من اغتيب ، أو يأبى .
وروي أن رجلاً قال لابن سيرين : إني قد اغتبتك فحللني . فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله . والغيبة مشتقة من غاب يغيب . وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه . ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
« أما معاوية فصعلوك لا مال له » . وما يقال في الفسقة أيضاً وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أعن الفاجر ترعون؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه » ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « بئس ابن العشيرة » . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم . فمنه قول الشاعر [ سويد بن أبي كاهل اليشكري ] : [ الرمل ]
فإذا لاقيته عظّمني ... وإذا يخلو له لحمي رتع
ويروى فيحييني إذا لاقيته .
ومنه قول الآخر : [ المقنع الكندي ] .
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فالجواب عن هذا : لا . وهم في حكم من يقولها . فخوطبوا على أنهم قالوا لا . فقيل لهم : { فكرهتموه } وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا المقدر يعطف قوله : { واتقوا الله } قاله أبو علي الفارسي . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع . وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل . وهو أحق أن يجاب . لأنه بصير عالم . والطبع أعمى جاهل .
وقرأ الجمهور : « ميْتاً » بسكون الياء . وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد : « ميِّتاً » بكسرها والشد . وقرأ أبو حيوة : « فكُرّهتموه » بضم الكاف وشد الراء .
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أعلم بأنه { تواب رحيم } إبقاء منه تعالى وإمهالاً وتمكيناً من التوبة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى : { من ذكر وأنثى } يحتمل أن يريد آدم وحواء . فكأنه قال : إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء . ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس . فكأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وما أنثى . وقصد هذه الآية التسوية بين الناس . ثم قال تعالى : { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض . فإن الطريق إلى الكرم غير هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وروى بو بكرة : قيل يا رسول الله : من خير الناس؟ قال : « من طال عمره وحسن عمله » . وفي حديث آخر من خير الناس؟ قال : « آمرهم بالمعروف . وأنهاهم عن المنكر . وأوصلهم للرحم وأتقاهم » . وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن فلانة ، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : « إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى » فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً ، والشعوب : جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد ، ويتلوه القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الأسرة والفصيلة : وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب ، وقيس وتميم ومذحج ومراد ، قبائل مشبهة بقبائل الرأس ، « لأنها قطع تقابلت » وقريش ومحارب وسليم عمارات ، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون ، وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة ، وقال ابن جبير : الشعوب : الأفخاذ . وروي عن ابن عباس الشعوب : البطون ، وهذا غير ما تمالأ عليه اللغويون . قال الثعلبي ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وأما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب .
قال القاضي أبو محمد : وقيل للأمم التي ليست بعرب : شعوبية ، نسبة إلى الشعوب ، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال : فارسي تركي رومي زناتي . فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم ، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين ، وهذا من تغيير النسب ، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت ، وهذا أولى عندي .
وقرأ الأعمش : « لتتعارفوا » وقرأ عبد الله بن عباس : « لتعرفوا أن » ، على وزن تفعِلوا بكسر العين وفتح الألف من « أن » ، وبإعمال « لتعرفوا » فيها ، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله : « لتعرفوا » لام كي ، ويضطرب معنى الآية مع ذلك ، ويحتمل أن تكون لام الأمر ، وهو أجود في المعنى ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره : الحق ، وإذا كانت لام كي فكأنه قال : يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق ، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب .
وقرأ ابن مسعود : « لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم » . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من سره أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله » . ثم نبه تعالى على الحذر بقوله : { إن الله عليم خبير } أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم في الإيمان ، أي لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسلمنا } . والإسلام يقال بمعنيين ، أحدهما : الدين يعم الإيمان والأعمال ، وهو الذي في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس » والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له : ما الإسلام؟ قال : بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص : « أو مسلماً ، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه » الحديث ، فهذا الإسلام ليس هو في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } والمعنى الثاني للفظ الإسلام : هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم ، وهذا هو الإسلام في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } ، و { الإيمان } الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه ، ثم صرح لهم بأن { الإيمان } لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله : { وإن تطيعوا الله } الآية ، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال .
وقرأ جمهور القراء : « لا يلتكم » من لات يليت إذا نقص ، يقال : لاته حقه إذا نقصه منه ، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه . وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو : « لا يألتكم » من ألت يألت وهو بمعنى : لات ، وكذلك يقال : ألتِ بكسر اللام يألت ، ويقال أيضاً في معنى لات ، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى : { إنما } في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى . وقوله تعالى : { ثم لم يرتابوا } أي لم يشكوا في إيمانهم ولم يداخلهم ريب { وهم الصادقون } ، إذ جاء فعلهم مصدقاً لقولهم ، ثم أمره تعالى بتوبيخهم بقوله : { قل أتعلمون الله بدينكم } ، أي بقولكم : { آمنا } [ الحجرات : 14 ] وهو يعلم منكم خلاف ذلك ، لأنه العليم بكل شيء .
وقوله : { يمنون عليك أن أسلموا } نزلت في بني أسد أيضاً ، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن غطفان وغيرهم ، فنزلت هذه الآية ، حكاه الطبري وغيره . وقرأ ابن مسعود : « يمنون عليك إسلامهم » . وقوله يحتمل أن يكون مفعولاً صريحاً . ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله .
وقوله : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } بزعمكم إذ تقولون آمنا ، فقد لزمكم أن الله مان عليكم ، ويدلك على هذا المعنى قوله : { إن كنتم صادقين } فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل أن يقولوا أسلمنا من حيث هم كذبة .
وقرأ ابن مسعود : « إذ هداكم » .
وقوله تعالى : { يمن عليكم } يحتمل أن يكون بمعنى : ينعم كما تقول : من الله عليك ، ويحتمل أن يكون بمعنى : يذكر إحسانه فيجيء معادلاً ل { يمنون عليك } ، وقال الناس قديماً : إذا كفرت النعمة حسنت المنة . وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة ما وقع دون كفر النعمة .
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وقتادة وابن وثاب : « تعملون » بالتاء على الخطاب . وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبان : « يعملون » بالياء من تحت على ذكر الغيب .
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
قال ابن عباس : { ق } اسم من أسماء القرآن . وقال أيضاً اسم من أسماء الله تعالى . وقال قتادة والشعبي : هو اسم السورة ، وقال يزيد وعكرمة ومجاهد والضحاك : هم اسم الجبل المحيط بالدنيا ، وهو فيما يزعمون من زمردة خضراء ، منها خضرة السماء وخضرة البحر . و { المجيد } الكريم في أوصافه الذي جمع كل معلوة .
و : { ق } على هذه الأقوال : مقسم به وب { القرآن المجيد } ، وجواب القسم منتظر . واختلف الناس فيه ، فقال ابن كيسان جوابه : { ما يلفظ من قول } [ ق : 18 ] ، وقيل الجواب : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ ق : 37 ] وقال الزهراوي عن سعيد الأخفش الجواب : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } وضعفه النحاس ، وقال الكوفيون من النحاة الجواب : { بل عجبوا } ، والمعنى : لقد عجبوا . قال منذر بن سعيد : إن جواب القسم في قوله : { ما يبدل القول لدي } [ ق : 29 ] ، وفي هذه الأقوال تكلف وتحكم على اللسان .
وقال الزجاج والمبرد والأخفش : الجواب مقدر تقديره : { ق } ، { والقرآن المجيد } لتبعثن ، وهذا قول حسن وأحسن منه : أن يكون الجواب الذي يقع عنه الإضراب ب { بل } ، كأنه قال . { ق والقرآن المجيد } ما ردوا أمرك بحجة ، أو ما كذبوك ببرهان ، ونحو هذا مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدر الزجاج ، لأنك إذا قلت الجواب : لتبعثن فلا بد بعد ذلك أن يقدر خبر عنه يقع الإضراب ، وهذا الذي جعلناه جواباً وجاء المقدر أخصر . وقال جماعة من المفسرين في قوله : { ق } إنه حرف دال على الكلمة ، على نحو قول الشاعر [ الوليد بن المغيرة ] : [ الرجز ]
قلت لها قفي فقالت قاف ... واختلفوا بعد ، فقال القرطبي : هو دال على أسماء الله تعالى هي : قادر ، وقاهر ، وقريب ، وقاض ، وقابض ، وقيل المعنى : قضي الأمر من رسالتك ونحوه ، { والقرآن المجيد } ، فجواب القسم في الكلام الذي يدل عليه قاف . وقال قوم المعنى : قف عند أمرنا . وقيل المعنى : قهر هؤلاء الكفرة ، وهذا أيضاً وقع عليه القسم ويحتمل أن يكون المعنى : قيامهم من القبور حق ، { والقرآن المجيد } ، فيكون أول السورة من المعنى الذي اطرد بعد ، وعلى هذه الأقوال فثم كلام مضمر عنه وقع الإضراب ، كأنه قال : ما كذبوك ببرهان ، ونحو هذا مما يليق مظهراً .
وقرأ جمهور من القراء { ق } بسكون الفاء . قال أبو حاتم : ولا يجوز غيرها إلا جواز سوء .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة تحسن مع أن يكون { ق } حرفاً دالاً على كلمة . وقرأ الثقفي وعيسى : قاف بفتح الفاء ، وهذه تحسن مع القول بأنها اسم للقرآن أو لله تعالى ، وكذلك قرأ الحسن وابن أبي إسحاق بكسر الفاء ، وهي التي في رتبة التي قبلها في أن الحركة للالتقاء وفي أنها اسم للقرآن .
و { المجيد } الكريم الأوصاف الكثير الخير .
واختلف الناس في الضمير في : { عجبوا } لمن هو فقال جمهور المتأولين : هو لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن كل مفطور عجب من بعثة بشر رسول الله ، لكن المؤمنون نظروا واهتدوا ، والكافرون بقوا في عمايتهم وصموا وحاجوا بذلك العجب ، ولذلك قال تعالى : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } . وقال آخرون بل الضمير في { عجبوا } للكافرين ، وكرر الكلام تأكيداً ومبالغة . والإشارة بهذا يحتمل أن تكون إلى نفس مجيء البشر .
ويحتمل أن تكون إلى القول الذي يتضمنه الإنذار ، وهو الخبر بالبعث ، ويؤيد هذا القول ما يأتي بعد . وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر « إذا » على الخبر دون استفهام ، والعامل { رجع بعيد } ، قال ابن جني ويحتمل أن يكون المعنى « أإذا متنا بعد رجعنا » ، فيدل : ذلك { رجع بعيد } على هذا الفعل الذي هو بعد ويحل محل الجواب لقولهم : « إذا » . والرجع : مصدر رجعته . وقوله { بعيد } في الأوهام والفكر كونه فأخبر الله تعالى رداً على قولهم بأنه يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقى منه ، وإن ذلك في الكتاب ، وكذلك يعود في الحشر معلوماً ذلك كله .
و « الحفيظ » : الجامع الذي لم يفته شيء . وقال الرماني : { حفيظ } متبع أن يذهب ببلى ودروس ، وروي في الخبر الثابت : أن الأرض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب ، وهو عظم كالخرجلة ، فمنه يركب ابن آدم ، وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو « الحق » . وذهب بعض الأصوليين غلى أن الأجساد المبعثرة يجوز أن تكون غير هذه ، وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت غيرها فكيف كانت تشهد الأيدي والأرجل على الكفرة إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود . وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور ، المعنى : ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم . وقال السدي معنى قوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي ما يحصل في بطنها من موتاهم ، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد .
وقال ابن عباس أيضاً في ما حكى الثعلبي ، ممعناه : قد علمنا ما تنقص أرض الإيمان من الكفرة الذين يدخلون في الإيمان ، وهذا قول أجنبي من المعنى الذي قبل وبعد ، وقيل قوله : { بل كذبوا } مضمر ، عنه وقع الإضراب تقديره : ما أجادوا النظر أو نحو هذا ، والذي يقع عنه الإضراب ب { بل } ، الأغلب فيه أنه منفي تقضي { بل } بفساده ، وقد يكون أمراً موجباً تقضي { بل } بترك القول فيه لا بفساده ، وقرأ الجمهور : « لَمّا » بفتح اللام وشد الميم . وقرأ الجحدري : « لِمَا » بكسر اللام وتخفيف الميم ، قال أبو الفتح : هي كقولهم : أعطيته لما سأل ، وكما في التاريخ : لخمس خلون ، ونحو هذا ، ومنه قوله تعالى :
{ لا يجليها لوقتها } [ الأعراف : 187 ] ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
إذا هبت لقاربها الرياح ... و : « المريج » : معناه : المختلط ، قاله ابن زيد ، أي بعضهم يقول ساحر ، وبعضهم كاهن ، وبعضهم شاعر إلى غير ذلك من تخليطهم ، وكذلك عادت فكرة كل واحد منهم مختلطة في نفسها ، قال ابن عباس : المريج : المنكر . وقال مجاهد : الملتبس ، والمريج المضطرب أيضاً ، وهو قريب من الأول ، ومنه الحديث : مرجت عهود الناس ومنه { مرج البحرين } [ الفرقان : 53 ، الرحمن : 19 ] وقال الشاعر [ أبو دؤاد ] :
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد
ثم دل تعالى على العبرة بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء } الآية ، { وزيناها } معناه : بالنجوم . و « الفروج » الفطور والشقوق خلالها وأثناءها ، قاله مجاهد وغيره ، وحكى النقاش أن هذه الآية تعطي أن السماء مستديرة ، وليس الأمر كما حكي ، إذا تدبر اللفظ وما يقتضي . و « الرواسي » : الجبال . و « الزوج » : النوع . و « البهيج » قال ابن عباس وقتادة وابن زيد هو : الحسن المنظر ، وقوله عز وجل : { تبصرة وذكرى } منصوب على المصدر بفعل مضمر . و : « المنيب » الراجع إلى الحق عن فكرة ونظر . قال قتادة : هو المقبل بقلبه إلى الله وخص هذه الصنيفة بالذكر تشريفاً من حيث هي المنتفعة بالتبصرة والذكرى ، وإلا فهذه المخلوقات هي تبصرة وذكرى لكل بشر . وقال بعض النحويين : { تبصرة وذكرى } مفعولان من أجله ، وهذا يحتمل والأول أرجح .
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
قوله تعالى : { ماء مباركاً } قيل يعني جميع المطر ، كله يتصف بالبركة وإن ضر بعضه أحياناً ، ففيه مع ذلك الضر الخاص البركة العامة . وقال أبو هريرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء المطر فسالت الميازيب قال : « لا محل عليكم العام » وقال بعض المفسرين : { ماء مباركاً } يريد به ماء مخصوصاً خالصاً للبركة ينزله الله كل سنة ، وليس كل المطر يتصف بذلك . { وحب الحصيد } الحنطة . و : { باسقات } معناه : طويلات ذاهبات في السماء ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
يا ابن الذين لمجدهم ... بسقت على قيس فزارهْ
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : « باصقات » بالصاد ، قال أبو الفتح الأصل : السين وإنما الصاد بدل منه ، لاستعلاء القاف . و « الطلع » أول ظهور التمر في الكفرى وهو أبيض منضد كحب الرمان . فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو { نضيد } ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد . و : { رزقاً } نصب على المصدر والضمير في : { به } عائد على المطر . ووصف البلدة ب « ميت » على تقدير القطر والبلد .
وقرأ الناس « ميْتاً » مخففاً ، وقرأ أبو جعفر وخالد « ميّتاً » بالتثقيل .
ثم بين تعالى موضع الشبه فقال : { كذلك الخروج } ، هذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث . و { الخروج } يريد به من القبور ، { وأصحاب الرس } قوم كان لهم بئر عظيمة وهي { الرس } ، وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رسّ . وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي :
سبقت إلى قرطبا هل ... تنابلة يحفرون الرساسا
وجاءهم نبي يسمى حنظلة بن صفوان فيما روي فجعلوه في { الرس } وردموا عليه . فأهلكهم الله ، وقال كعب الأحبار في كتاب الزهراوي : { أصحاب الرس } هم أصحاب الأخدود وهذا ضعيف . لأن أصحاب الأخدود لم يكذبوا نبياً ، إنما هو ملك أحرق قوماً . وقال الضحاك { الرس } : بئر قتل فيها صاحب ياسين ، قال منذر وروي عن ابن عباس أنهم قوم عاد .
و { الأيكة } : الشجر الملتف ، وهم قوم شعيب ، والألف واللام من { الأيكة } غير معرفة ، لأن « أيكة » اسم علم كطلحة يقال أيكة وليكة ، فهي كالألف واللام في الشمس والقمر وفي الصفات الغالبة وفي هذا نظر . وقرأ « الأيكة » بالهمز أبو جعفر ونافع وشيبة وطلحة .
{ وقوم تبع } هم حمير و { تبع } - سم فيهم ، يذهب تبع ويجيء تبع ككسرى في الفرس وقيصر في الروم ، وكان أسعد أبو كرب أحد التبابعة رجلاً صالحاً صحب حبرين فتعلم منهما دين موسى عليه السلام ثم إن قومه أنكروا ذلك عليه فندبهم إلى محاجة الحبرين ، فوقعت بينهم مجادلة ، واتفقوا على أن يدخلوا جميعهم النار التي في القربان ، فمن أكلته فهو المبطل ، فدخلوها فاحترق { قوم تبع } ، وخرج الحبران تعرق جباههما ، فهلك القوم المخالفون وآمن سائر { قوم تبع } بدين الحبرين .
وفي الحديث اختلاف كثير . أثبت أصح ذلك على ما في سير ابن هشام . وذكر الطبري عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تلعنوا تبعاً ، فإنه كان قد أسلم » وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن تبعاً كان نبياً .
وقوله تعالى : { كل كذب الرسل } قال سيبويه ، التقدير : كلهم وحذف لدلالة كل عليه إيجازاً . و « الوعيد » الذي حق : هو ما سبق به القضاء من تعذيب الكفرة وإهلاك الأمم المكذبة ، ففي هذا تخويف من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { أفعيينا } توقيف للكفار وتوبيخ وإقامة للحجة الواضحة عليهم ، وذلك أن جوابهم على هذا التوقيف هو لم يقع عي ، ثم هم مع ذلك في لبس من الإعادة . وهذا تناقض ، ويقال عيى يعيى إذا عجز عن الأمر ويلح به ، ويدغم هذا الفعل الماضي من هذا الفعل ولا يدغم المستقبل منه فيقال عي ، ومنه قول الشاعر [ عبيد بن الأبرص ] :
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامه
و « الخلق الأول » إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج الملعوم ، وقال الحسن : « الخلق الأول » آدم عليه السلام ، حكاه الرماني ، واللبس : الشك والريب واختلاط النظر . والخلق الجديد : البعث في القبور .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والجزاء . والخلق : إنشاء الشيء على ترتيب وتقدير حكمي . و : { الإنسان } اسم الجنس . قال بعض المفسرين { الإنسان } هنا آدم عليه السلام و { توسوس } معناه : تتحدث في فكرتها ، وسمي صوت الحلي وسواساً لخفائه ، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير ، وقوله تعالى : { نحن أقرب إليه من حبل الوريد } عبارة عن قدرة الله على العبد ، وكون العبد في قبضة القدرة ، والعلم قد أحيط به ، فالقرب هو بالقدرة والسلطان ، إذ لا ينحجب عن علم الله باطن ولا ظاهر ، وكل قريب من الأجرام فبينه وبين قلب الإنسان حجب . و : { الوريد } عرق كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال . قال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين وقال الحسن : { الوريد } الوتين .
قال الأثرم : هو نهر الجسد هو في القلب الوتين ، وفي الظهر الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا وفي الخنصر : إلا سليم ، « والحبل » : اسم مشترك فخصصه بالإضافة إلى { الوريد } ، وليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه بل هي كإضافة الجنس إلى نوعه كما تقول : لا يجوز حي الطير بلحمه .
وأما قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان } فقال المفسرون العامل في : { إذ } ، { أقرب } ، ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلاً مضمراً تقديره : اذكر { إذ يتلقى المتلقيان } ، ويحسن هذا المعنى ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك ، فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع ، فمنها { إذ يتلقى المتلقيان } ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس ، و { المتلقيان } : الملكان الموكلان بكل إنسان : ملك اليمين الذي يكتب الحسنات ، وملك الشمال الذي يكتب السيئات . قال الحسن : الحفظة : أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد ذلك الحديث ، « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث بكامله . ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال ، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري .
و { قعيد } معناه : قاعد ، وقال قوم هو بمنزلة أكيل ، فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون : أراد قعوداً فجعل الواحد موضع الجنس ، والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، وقال مجاهد : { قعيد } : رصد ومذهب سيبويه أن التقدير عن اليمين قعيد ، فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول ومثله عنده قول الشاعر [ كثير عزة ] : [ الطويل ]
وعزة ممطول معنّى غريمها ... ومثله قول الفرزدق : [ الكامل ]
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى وكان وكنت غير غدور
وهذه الأمثلة كثيرة ، ومذهب المبرد : أن التقدير عن اليمين { قعيد } وعن الشمال فأخر { قعيد } عن مكانه ومذهب الفراء أن لفظ { قعيد } يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر وقوله تعالى : { ما يلفظ من قول } قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : يكتب الملكان الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات ، والسيئات ، ويمحو غير ذلك ، وهذا هو ظاهر الآية ، قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه ، وقال عكرمة : المعنى : { ما يلفظ من قول } خير أو شر ، وأما ما خرج من هذا فإنه لا يكتب والأول أصوب ، وروي أن رجلاً قال لجمله : حل ، فقال ملك اليمين لا أكتبها ، وقال ملك الشمال لا أكتبها ، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك ملك اليمين ، وروي نحوه عن هشام الحمصي وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه ببعيره ، فإن كان في طاعة فحل حسنة ، وإن كان في معصية فهي سيئة والمتوسط بين هذين عسير الوجود ولا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه .
وحكى الثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن مقعد الملكين على الثنيتين ، قلمهما اللسان ، ومدادهما الريق » وقال الضحاك والحسن : مقعدهما تحت الشعر ، وكان الحسن يحب أن ينظف غفقته لذلك قال الحسن : حتى إذا مات طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] عدل والله عليه من جعله حسيب نفسه . والرقيب : المراقب . والعتيد : الحاضر وقوله : { وجاءت } عطف عندي على قوله : { إذ يتلقى } فالتقدير : وإذ تجيء سكرة الموت ، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقاً وتثبيتاً للأمر ، وهذا أحث على الاستعداد واستشعار القرب ، وهذه طريقة العرب في ذلك ، ويبين هذا في قوله : { ونفخ في الصور } { وجاءت كل نفس } فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال . وقرأ أبو عمرو : { وجاءت سكرة } بإدغام التاء في السين . و { سكرة الموت } : ما يعتري الإنسان عند نزاعه والناس فيها مختلفة أحوالهم ، لكن لكل واحد سكرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاعه يقول : « إن للموت لسكرات » .
وقوله : { بالحق } معناه : بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : « وجاءت سكرة الحق بالموت » . وقرأها ابن جبير وطلحة ، ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالها كذلك لابنته عائشة وذلك أنها قعدت عند رأسه وهو ينازع فقالت : [ الطويل ]
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه فقال : لا تقولي هكذا ، وقولي : « وجاءت سكرة الحق بالموت » { ذلك ما كنت منه تحيد } . وقد روي هذا الحديث على مشهور القراءة { وجاءت سكرة الموت بالحق } فقال أبو الفتح : إن شئت علقت الباء ب { جاءت } ، كما تقول : جئت بزيد ، وإن شئت كانت بتقدير : ومعها الموت .
واختلف المتأولون في معنى : « وجاءت سكرة الحق بالموت » فقال الطبري وحكاه الثعلبي : « الحق » الله تعالى ، وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد وإن كان ذلك سائغاً من حيث هي خلق له ، ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا . وقال بعض المتأولين المعنى : وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد منه بأمله . ومعنى هذا الحيد : أنه يقول : أعيش كذا وكذا ، فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن ، وأيضاً فحذر الموت وتحرزاته ونحو هذا حيد كله . وقد تقدم القول في النفخ في الصور مراراً . و : { يوم الوعيد } هو يوم القيامة وأضافه إلى الوعيد تخويفاً .
وقوله تعالى : { وجاءت كل نفس معها } وقرأ طلحة بن مصرف : « محّها » بالحاء المثقلة . والسائق : الحاث على السير .
واختلف الناس في السائق والشهيد ، فقال عثمان بن عفان ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان أحدهما يسوقه والآخر من حفظته يشهد عليه . وقال ابو هريرة : السائق ملك ، والشهيد : العمل وقال منذر بن سعيد : السائق : الملك والشهيد : النبي صلى الله عليه وسلم ، قال وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشوراً . وقال بعض النظار : { سائق } ، اسم جنس ، و { شهيد } كذلك ، فالساقة للناس ملائكة يوكلون بذلك ، والشهداء : الحفظة في الدنيا وكل ما يشهد .
وقال ابن عباس والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان ، وهذا يبعد على ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي .
وقوله تعالى : { كل نفس } يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره ، وشره ، ويقوى في : { شهيد } اسم الجنس ، فتشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة » وكذلك يشهد بالشر الملائكة والبقاع والجوارح . وقال أبو هريرة : السائق : ملك ، والشهيد : العمل . وقال ابن مسلم : السائق : شيطان . حكاه عنه الثعلبي والقول في كتاب منذر بن سعيد وهو ضعيف .
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
قرأ الجحدري : « لقد كنتِ » على مخاطبة النفس وكذلك كسر الكافات بعد .
وقال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس معنى قوله : { لقد كنت } أي يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها ، { لقد كنت في غفلة من هذا } ، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما تقول : فلان حديد الذهن والفؤاد ونحوه ، وقال مجاهد : هو بصر العين إذا احتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة .
وقال زيد بن أسلم قوله تعالى : { ذلك ما كنت منه تحيد } [ ق : 19 ] وقوله تعالى : { لقد كنت } الآية ، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا ، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك ، { فبصرك اليوم حديد } ، وهذا التأويل يضعف من وجوه ، أحدها أن الغفلة إنما تنسب أبداً إلى مقصر ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثان : أن قوله : بعد هذا : { وقال قرينه } يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور ، وهو الذي يقال له { فبصرك اليوم حديد } وإن جعلناه عائداً على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن فتأمله . وثالث : أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط ، وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف ، والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر .
و : { فكشفنا عنك غطاءك } ، قال ابن عباس : هي الحياة بعد الموت ، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » .
وقوله تعالى : { وقال قرينه هذا ما لدي عتيد } ، قال جماعة من المفسرين : { قرينه } من زبانية جهنم ، أي قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد ، ففي هذا تحريض على الكافر واستعجال به . وقال قتادة وابن زيد : { قرينه } الملك الموكل بسوقه ، فكأنه قال : هذا الكافر الذي جعل إلى سوقه ، فهو لدي حاضر . وقال الزهراوي وقيل : { قرينه } شيطانه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف .
ولفظ القرين : اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين وتحتمله هذه الآية ، أي هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي ، وهو موجب عذابه ، ومماشي الإنسان في طريقه قرين ، وقال الشاعر [ عدي بن زيد العبادي ] : [ الطويل ]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
والقرين الذي في هذه الآية ، غير القرين الذي في قوله : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } إذ المقارنة تكون على أنواع ، وقال بعض العلماء : { قرينه } في هذه الآية : عمله قلباً وجارحاً ، وقوله عز وجل : { ألقيا في جهنم } معناه : يقال { ألقيا في جهنم } . واختلف الناس لم يقال ذلك؟ فقال جماعة من المفسرين : هو قول الملكين من ملائكة العذاب . وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي : هو قول للسائق والشهيد ، وحكى الزهراوي أن المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان ، وعلى هذين القولين لا نظر في قوله : { ألقيا } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : هو قول للقرين : إما السائق ، وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله : { ألقيا } وهو مخاطبة لواحد ، فقال المبرد معناه : الق الق ، فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيداً ، فرد التثنية إلى الضمير اختصاراً كما قال [ امرؤ القيس ] :
لفتك الأمين على نابل ... يريد ارم ارم . وقال بعض المتأولين : « ألقين » فعوض من النون ألف كما تعوض من التنوين . وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب : هذا جرى على عادة العرب ، وذلك أنها كان الغالب عندها أن تترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة ، فكل واحد منهم يخاطب اثنين ، فكثر ذلك في أشعارها وكلامها حتى صار عرفاً في المخاطبة ، فاستعمل في الواحد ، ومن هذا قولهم في الأشعار : خليلي ، وصاحبي ، وقفا نبك ونحوه ، وقد جرى المحدثون على هذا الرسم ، فيقول الواحد : حدثنا ، وإن كان سمع وحده ، ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج : يا حارسي اضربا عنقه ، وهو دليل على عادة العرب ، ومنه قول الشاعر [ سويد بن كراع العكلي ] : [ الطويل ]
فإن تزجراني بابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : « ألقين » بتنوين الياء و : { كفار } مبالغة . و : { عنيد } معناه : عاند عن الحق أي منحرف عنه .
وقوله تعالى : { مناع للخير } لفظ عام للمال والكلام الحسن والمعاون على الأشياء . وقال قتادة ومجاهد وعكرمة ، معناه : الزكاة المفروضة ، وهذا التخصيص ضعيف ، و : { معتد } معناه : بلسانه ويده . و : { مريب } معناه : متلبس بما يرتاب به ، أراب الرجل : إذا أتى بريبة ودخل فيها . قال الثعلبي قيل نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقال الحسن : { مريب } شاك في الله تعالى ودينه .
وقوله تعالى : { الذي جعل } الآية يحتمل أن يكون { الذي } بدلاً من { كفار } ويحتمل أن يكون صفة له من حيث تخصص { كفار } بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه بهذه المعرفة ، ويحتمل أن يكون { الذي } ابتداء وخبره قوله : { فألقياه } ودخلت الفاء في قوله : { فألقياه } للإبهام الذي في { الذي } ، فحصل الشبه بالشرط وفي هذا نظر .
قال القاضي أبو محمد : ويقوى عندي أن يكون { الذي } ابتداء ، ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا ، ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا ، فرام أن يبرئ نفسه ويخلصها بقوله : { ربنا ما أطغيته } لأنه كذب من نفي الإطغاء عن نفس جملة ، والحقيقة أنه أطغاه بالوسوسة والتزين ، وأطغاه الله بالخلق ، والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه ، لا رب غيره ، وبوصف الضلال بالبعيد مبالغة ، أي لتعذر رجوعه إلى الهدى .
وقوله تعالى : { لا تختصموا لدي } معناه : قال الله { لا تختصموا لدي } بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً إذ قد استوجب جميعكم النار ، وقد أخبر بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اختصاص . واقتضاء فائدة بقوله تعالى : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [ الزمر : 31 ] ، وجمع الضمير في قوله : { لا تختصموا } يريد بذلك مخاطبة جميع القرناء ، إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط ، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين : لا تغلطوا علي ، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما . وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل والكتب من تعظيم الكفرة .
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
المعنى : قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري ، فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي ، ثم أزال عز وجل موضع الاعتراض بقوله : { وما أنا بظلام للعبيد } أي هذا عدل فيهم ، لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل وقال الفراء معنى قوله : { ما يبدل القول لدي } ما يكذب لدي ، لعلمي بجميع الأمور .
قال القاضي أبو محمد : فتكون الإشارة على هذا إلى كذب الذي قال : { ما أطغيته } [ ق : 27 ] وقوله تعالى : { يوم يقول } يجوز أن يعمل في الظرف قوله : { بظلام } ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر .
وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم : « نقول » بالنون ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله : « قدمت وما أنا » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر : « يقول » على معنى يقول الله ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة ، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضاً : « يقال » على بناء الفعل للمفعول .
وقوله : { هل امتلأت } تقرير وتوقيف ، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها : { هل من مزيد } . فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها : { هل من مزيد } على معنى التقرير ونفي المزيد ، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : « وهل ترك لنا عقيل منزلاً » وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل ، ومن قال : إنها كانت غير ملأى جعل قولها { هل من مزيد } على معنى السؤال والرغبة في الزيادة . قال الرماني وقيل المعنى : وتقول خزنتها ، والقول إنها القائلة أظهر .
واختلف الناس أيضاً في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى : شكا إلي جملي طول السرى ، ومجرى قول ذي الرمة : تكلمني أحجاره وملاعبه .
والذي يترجح في قول جهنم : { هل من مزيد } أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك ، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يقول الله لجهنم هل امتلأت؟ وتقول : { هل من مزيد } حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض » واضطرب الناس في معنى هذا الحديث ، وذهبت جماعة من المتكلمين ، إلى أن الجبار اسم جنس ، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم ، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخراً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
« إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعاً » ويعظم بدنه على هذه النسبة ، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى ، وهذا هو الصحيح ، فإن في الحديث الصحيح : « فيضع رب العالمين فيها قدمه » وتأويل هذا : ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ، ومنه قول الله تعالى : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } [ يونس : 2 ] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [ الوضاح الخصي ] : [ المنسرح ]
صل لربك واتخذ قدماً ... ينجيك يوم العثار والزلل
ومنه قول العجاج : [ الرمل ]
وسنى الملك لملك ذي قدم ... أي ذي شرف متقدم ، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك وعن النضر بن شميل ، وهو قول الأصوليين . وفي كتاب مسلم بن الحجاج : فيضع الجبار فيها رجله ، ومعناه : الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس : رجل تشبيهاً برجل الجراد ، قال الشاعر :
فمر بها رجل من الناس وانزوى ... إليها من الحي اليمانين أرجل .
وملاك النظر في هذا الحديث : أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب . و : { أزلفت } معناه : قربت ، و : { غير بعيد } تأكيد وبيان أن هذا التقدير هو في المسافة ، لأن قربت كان يحتمل أن معناه : بالوعد والإخبار ، فرفع الاحتمال بقوله : { غير بعيد } .
وقوله تعالى : { هذا ما توعدون } الآية ، يحتمل أن يكون معناه : يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أي هذا الذي توعدون به أيها الناس { لكل أواب حفيظ } . والأواب : الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه . وقال ابن عباس وعطاء : الأواب : المسبح لقوله : { يا جبال أوبي معه } [ سبأ : 10 ] . وقال الشعبي ومجاهد : هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر . وقال المحاسبي : هو الراجح بقلبه إلى ربه . وقال عبيد بن عمير : كنا نحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل . والحفيظ معناه : بأوامر الله فيمتثلها ، أو لنواهيه فيتركها . وقال ابن عباس : { حفيظ } لذنوبه حتى يرجع عنها .
وقوله تعالى : { من خشي } يحتمل أن يكون { من } نعت الأواب أو بدلاً . ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء والخبر يقال لهم { ادخلوها } ، ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب يقال لهم ادخلوها . وقوله : { بالغيب } أي غير مشاهد له إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة . والمنيب الراجع إلى الخير المائل إليه . وقوله تعالى : { ادخلوها } تقديره يقال لهم على ما تقدم . و { بسلام } معناه بأمن وسلامة من جميع الآفات . وقوله تعالى : { ذلك يوم الخلود } معادل لقوله قبل في الكفار
{ ذلك يوم الوعيد } [ ق : 20 ] .
وقوله تعالى : { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع . ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين ، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما أطلعتهم عليه » . وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة ، لأن الله تعالى يقول : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } [ السجدة : 17 ] وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً . وروي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن المزيد : النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{ كم } للتكثير وهي خبرية ، المعنى كثيراً { أهلكنا قبلهم } . والقرن : الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن . واختلف الناس في ذلك القدر ، فقال الجمهور : مائة سنة ، وقيل غير هذا ، وقد تقدم القول فيه غير مرة . وشدة البطش : هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك .
وقرأ جمهور من الناس : « فنقَّبوا » بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية ، والمعنى : ولجوا البلاد من أنقابها وفي الحديث : « أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال » . والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
نقبوا في البلاد من حذر الموت ... وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية : « فنقِّبوا » بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين .
و : { هل من محيص } توقيف وتقرير ، أي لا محيص ، والمحيص : المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد ، قال قتادة : حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعاً مدركاً ، وفي صدر البخاري فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب . وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته : [ الوافر ]
إذا حاص الدليل رأيت منها ... جنوحاً للطريق على اتساق
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه : « فنقَبوا » بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد ، واللفظة أيضاً قد تقال بمعنى البحث والطلب ، تقول : نقب عن كذا اي استقصى عنه ، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها ، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب .
وقوله تعالى : { إن في ذلك } يعني إهلاك من مضى ، والذكرى : التذكرة ، والقلب : عبارة عن العقل إذ هو محله . والمعنى : { لمن كان له قلب } واع ينتفع به . وقال الشبلي معناه : قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين .
وقوله تعالى : { أو ألقى السمع وهو شهيد } معناه : صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سماعها ، فذلك إلقاء له عليها ، ومنه قوله تعالى : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] أي أثبتها عليك ، وقال بعض الناس قوله تعالى : { ألقى السمع } ، وقوله : { ضربنا على آذانهم } [ الكهف : 11 ] وقوله : { سقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] هي كلها مما قل استعمالها الآن وبعدت معانيها .
قال القاضي أبو محمد : وقول هذا القائل ضعيف ، بل هي بينة المعاني ، وقد تقدمت في موضعها .
وقوله تعالى : { وهو شهيد } قال بعض المتأولين : معناه : وهو مشاهد مقبل على الأمر غير معرض ولا منكر في غير ما يسمع . وقال قتادة : هي إشارة إلى أهل الكتاب ، فكأنه قال : إن هذه العبرة التذكرة لمن له فهم فيتدبر الأمر أو لمن سمعها من أهل الكتاب فيشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني إسرائيل : ف { شهيد } على التأويل الأول من المشاهدة ، وعلى التأويل الثاني من الشهادة .
وقرأ السدي : « ألقى السمع » قال ابن جني ألقى السمع منه حكى أبو عمرو الداني أن قراءة السدي ذكرت لعاصم فمقت السدي وقال : أليس الله يقول : { يلقون السمع } [ الشعراء : 223 ] .
وقوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض } الآية خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فنزلت : { وما مسنا من لغوب } واللغوب : الإعياء والنصب والسأم ، يقال لغب الرجل يلغب إذا أعيى .
وقرأ السلمي وطلحة : « لَغوب » بفتح اللام . وتظاهرت الأحاديث بأن خلق الأشياء كان يوم الأحد وفي كتاب مسلم وفي الدلائل لثابت حديث مضمنه : أن ذلك كان يوم السبت وعلى كل قول فأجمعوا على أن آدم خلق يوم الجمعة . فمن قال إن البداءة يوم السبت جعل خلق آدم كخلق بنيه لا يعد مع الجملة الأولى وجعل اليوم الذي كملت المخلوقات عنده يوم الجمعة .
وقوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون } قال بعض المفسرين : أراد أهل الكتاب لقولهم ، ثم استراح يوم السبت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه المقالات من أهل الكتاب كانت بمكة قبل الهجرة .
وقال النظار من المفسرين قوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون } يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة ، وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم ، وعلى هذا التأويل يجيء قول من قال : الآية منسوخة بآية السيف . { وسبح } معناه : صل بإجماع من المتأولين وقوله : { بحمد ربك } الباء للاقتران أي سبح سبحة يكون معها حمد ومثله « تنبت بالدهن » على بعض الأقوال فيها و : { قبل طلوع الشمس } هي الصبح { وقبل الغروب } هي العصر قاله قتادة وابن زيد والناس ، وقال ابن عباس : { قبل الغروب } هي العصر والظهر { ومن الليل } هي صلاة العشاءين وقال ابن زيد هي العشاء فقط .
وقال مجاهد : هي صلاة الليل وقوله : { وإدبار السجود } قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبو هريرة والحسن والشعبي وإبراهيم ، ومجاهد والأوزاعي : هي الركعتان بعد المغرب وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه روعي إدبار صلاة النهار كما روعي إدبار النجوم في صلاة الليل ، فقيل هي الركعتان مع الفجر . وروي عن ابن عباس أن { إدبار السجود } : الوتر ، حكاه الثعلبي وقال ابن زيد وابن عباس ايضاً ومجاهد : هي النوافل إثر الصلوات وهذا جار مع لفظ الآية ، وقال بعض العلماء العارفين : هي صلاة الليل ، قال الثعلب : وقال بعض العلماء في قوله : { قبل طلوع الشمس } هي ركعتا الفجر { وقبل الغروب } الركعتان قبل المغرب وقال بعض التابعين : رأيت أصحاب محمد يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة ، وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصلي الركعتين قبل المغرب إلا أنساً وأبا برزة .
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى وشبل وطلحة والأعمش « وإدبار » بكسر الألف وهي مصدر أضيف إليه وقت ، ثم حذف الوقت ، كما قالوا : جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم ونحوه ، وقرأ الباقون والحسن والأعرج ، « وأدبار » بفتح الهمزة وهو جمع دبر كطنب وأطناب ، أي وفي « أدبار السجود » أي في أعقابه وقال أوس بن حجر : [ الطويل ]
على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قوله تعالى : { واستمع } بمنزلة ، وانتظر ، وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء ، لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار ، وقيل لمحمد تحسس وتسمع هذا اليوم وارتقبه ، وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، وعلى هذا فنصب { يوم } إنما هو على المفعول الصريح .
وقرأ ابن كثير : « المنادي » بالياء في الوصل والوقف على الأصل الذي هو ثبوتها ، إذ الكلام غير تام وإنما الحذف ابداً في الفواصل ، والكلام التام تشبيهاً بالفواصل . وقرأ أبو عمرو ونافع ، بالوقف بغير ياء لأن الوقف موضع تغيير ، ألا ترى أنها تبدل من التاء فيه الهاء في نحو طلحة وحمزة ، ويبدل من التنوين الألف ويضعف فيه الحرف كقولك هذا فرج ، ويحذف فيه الحرف في القوافي ، وقرأ الباقون وطلحة والأعمش وعيسى بحذف الياء في الوصل والوقف جميعاً وذلك اتباع لخط المصحف ، وأيضاً فإن الياء تحذف مع التنوين فوجب أن تحذف مع معاقب التنوين وهي الألف واللام .
وقوله تعالى : { من مكان قريب } قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أن ملكاً ينادي من السماء : أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة ، هلم إلى الحساب الوقوف بين يدي الله » . وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس واختلفوا في معنى صفته بالقرب فقال قوم : وصفها بذلك لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم أي من مكة . وقال كعب الأحبار : وصفه بالقرب من السماء ، وروي أنها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً ، وهذا الخبر إن كان بوحي ، وألا سبيل للوقوف على صحته . و : { الصيحة } هي صيحة المنادي و : { الخروج } هو من القبور ، و : « يومه » هو يوم القيامة ، و { يوم الخروج } في الدنيا هو يوم العيد قال حسان بن ثابت : [ الكامل ]
ولأنت أحسن إذ برزت لنا ... يوم الخروج بساحة القصر
من درة أغلى الملوك بها ... مما تربَّب حائر البحر
وقوله تعالى : { يوم تشقق } العامل في { يوم } ، { المصير } . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : « تشّقق » بتشديد الشين . وقرأ الباقون : « تشقق » بتخفيف الشين و : { سراعاً } حال قال بعض النحويين وهي من الضمير في قوله : { عنهم } والعامل في الحال { تشقق } وقال بعضهم التقدير : { يوم تشقق الأرض عنهم } يخرجون { سراعاً } فالحال من الضمير في : « يخرجون » ، والعامل « يخرجون » .
وقوله تعالى : { ذلك حشر علينا يسير } كلام معادل لقول الكفرة : { ذلك رجع بعيد } [ ق : 3 ] . وقوله تعالى : { نحن أعلم بما يقولون } وعيد محض للكفرة .
واختلف الناس في معنى قوله : { وما أنت عليهم بجبار } . فقال قتادة : نهى الله عن التجبر وتقدم فيه ، فمعناه : وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت . وقال الطبري وغيره معناه : وما أنت عليهم بمسلط تجبرهم على الإيمان ، ويقال جبرته على كذا ، أي قسرته ف « جبار » بناء مبالغة من جبر وأنشد المفضل : [ الوافر ]
عصينا عزمة الجبار حتى ... صحبنا الخوف إلفاً معلمينا
قال : أراد ب « الجبار » النعمان بن المنذر لولايته ، ويحتمل أن نصب عزمة على المصدر وأراد عصينا مقدمين عزمة جبار ، فمدح نفسه وقومه بالعتو والاستعلاء أخلاق الجاهلية والحياة الدنيا ، وروى ابن عباس أن المؤمنين قالوا : يا رسول الله لو خوفتنا ، فنزلت : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } .
قال القاضي أبو محمد : ولو لم يكن هذا سبباً فإنه لما أعلمه أنه ليس بمسلط على جبرهم ، أمره بالاقتصار على تذكير الخائفين من الناس .
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيهاً عليها وتشريفاً لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى .
{ والذاريات } الرياح بإجماع من المتأولين ، يقال : ذرت الريح وأذرت بمعنى : وفي الرياح معتبر من شدتها حيناً ، ولينها حيناً وكونها مرة رحمة ومرة عذاباً إلى غير ذلك .
و { ذرواً } نصب على المصدر . و : { الحاملات وقراً } قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي السحاب الموقرة بالماء . وقال ابن عباس وغيره هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم . وقال جماعة من العلماء هي أيضاً مع هذا جميع الحيوان الحامل ، وفي جميع ذلك معتبر . و : { وقراً } مفعول صريح ، و : { الجاريات يسراً } قال علي بن أبي طالب وغيره : هي السفن في البحر وقال آخرون : هي السحاب بالريح وقال آخرون : هي الجواري من الكواكب ، واللفظ يقتضي جميع هذا . و { يسراً } نعت لمصدر محذوف وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالاً . و : { يسراً } معناه : بسهولة وقلة تكلف ، و : { المقسمات أمراً } الملائكة والأمر هنا اسم الجنس ، فكأنه قال : والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال وغير ذلك ، لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه ، فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة ، وأنث { المقسمات } من حيث أراد الجماعات .
وقال أبو طفيل عامر بن واثلة كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فقال : لا تسألوني عن آية من كتاب الله أو سنة ماضية إلا قلت ، فقام إليه ابن الكواء فسأله عن هذه ، فقال : { الذاريات } الرياح .
و { الحاملات } السحاب ، و { الجاريات } السفن ، و { المقسمات } الملائكة . ثم قال له سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وهذا القسم واقع على قوله : { إنما توعدون لصادق } ، و { توعدون } يحتمل أن يكون من الإيعاد ، ويحتمل أن يكون من الوعد ، وأيها كان فالوصف له بالصدق صحيح و : { صادق } هنا موضوع بدل صدق ، ووضع الاسم موضع المصدر . و : { الدين } الجزاء . وقال مجاهد الحساب ، والأظهر في الآية أنها للكفار وأنها وعيد محض بيوم القيامة .
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال : { والسماء ذات الحبك } فظاهر لفظة { السماء } أنها لجميع السماوات ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي : هي السماء السابعة . و : { الحُبُك } بضم الحاء والباء : الطرائق التي هي على نظام في الأجرام ، فحبك الرمان والماء : الطرائق التي تصنع فيها الريح الهابة عليها ، ومنه قول زهير :
مكلل بعميم النبت تنسجه ... ريح خريف لضاحي مائه حبك
وحبك الدرع : الطرائق المتصلة في موضع اتصال الحلق بعضها ببعض ، وفي بعض أجنحة الطير حبك على نحو هذا ، ويقال لتكسر الشعر حبك ، وفي الحديث : « أن من ورائكم الكذاب المضل ، وأن من ورائه حبكاً حبكاً »
يعني جعودة شعره فهو يكسره ، ويظهر في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك ، ويقال نسج الثوب فأجاد حبكه ، فهذه هي الحبك في اللغة . وقال منذر بن سعيد : إن في السماء في تألق جرمها هي هكذا لها حبك ، وذلك لجودة خلقتها وإتقان صنعتها ، ولذلك عبر ابن عباس في تفسير قوله { والسماء ذات الحبك } بأن قال : حبكها حسن خلقتها ، وقال ابن جبير : { الحبك } : الزينة . وقال الحسن : حبكها كواكبها ، وقال ابن زيد : { الحبك } : الشدة ، وحبكت شدت ، وقرأ { سبعاً شداداً } [ النبأ : 12 ] وقال ابن جني : { الحبك } طرائق الغيم ونحو هذا ، وواحد { الحبك } : حباك ، ويقال للظفيرة التي يشد بها حظار القصب ونحوه ، وهي مستطيلة تمنع في ترجيب الغرسات المصطفة حباك وقد يكون واحد { الحبك } حبيكة ، وقال الراجز : [ الوافر ]
كأنما جللها الحواك ، ... طنفسة في وشيها حباك
وقرأ جمهور الناس : « الحُبُك » بضم الحاء والباء . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو مالك الغفاري بضم الحاء وسكون الباء تخفيفاً ، وهي لغة بني تميم كرسل في رسل ، وهي قراءة أبي حيوة وأبي السمال . وقرأ الحسن أيضاً وأبو مالك الغفاري : « الحِبِك » بكسر الحاء والباء على أنها لغة كإبل وإطل .
وقرأ الحسن أيضاً فيما روي عنه : « الحِبْك » بكسر الحاء وسكون الباء كما قالوا على جهة التخفيف : إبل وإطل بسكون الباء والطاء . وقرأ ابن عباس : « الحَبَك » بفتح الحاء والباء . وقرأ الحسن أيضاً فيما روي عنه « الحِبُك » بكسر الحاء وضم الباء وهي لغة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرهما ثم توهم « الحِبُك » قراءة الضم بعد أن كسر الحاء فضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء . وقرأ عكرمة « الحُبَك » بضم الحاء وفتح الباء جمع حبكة ، وهذه كلها لغات والمعنى ما ذكرناه . والفرس المحبوك الشديد الخلقة الذي له حبك في مواضع من منابت شعره ، وذلك دليل على حسن بنيته .
وقوله تعالى : { إنكم لفي قول مختلف } ، يحتمل أن يكون خطاباً لجميع الناس مؤمن وكافر ، أي اختلفتم بأن قال فريق منكم : آمنا بمحمد وكتابه ، وقال فريق آخر : كفرنا ، وهذا قول قتادة . ويحتمل أن يكون خطاباً للكفرة فقط ، أي : أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه ، قوم منكم يقولون : ساحر ، وقوم : كاهن ، وقوم : شاعر ، وقوم : مجنون إلى غير ذلك ، وهذا قول ابن زيد والضمير في : { عنه } قال الحسن وقتادة : هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه . و : { يؤفك } معناه : يصرف ، فالمعنى : يصرف عن كتاب الله من صرف ممن غلبت شقاوته ، وكان قتادة يقول : المأفوك منا اليوم عن كتاب الله كثيراً ، ويحتمل أن يعود الضمير على القول ، أي : يصرف بسببه من أراد الإسلام ، بأن يقال له هو سحر ، هو كهانة؛ وهذا حكاه الزهراوي .
ويحتمل أن يعود الضمير في { عنه } على القول ، أي يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون قوله : { إنكم لفي قول مختلف } للكفار فقط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه حسن لا يُخِلُّ به ، إلا أن عُرْفَ الاستعمال في « أَفَكَ » ، إنما هو في الصرف من خير إلى شر ، وتأمل ذلك تجدْها أبداً في المصروفين المذمومين ، وحكى أبو عمرو عن قتادة أنه قرأ « من أَفَكَ » بفتح الهمزة والفاء .
وقوله تعالى : { قتل الخراصون } دعاء عليهم ، كما تقول : قاتلك الله وقتلك الله ، وعقرى حلقى ونحوه ، وقال بعض المفسرين معناه : لعن الخراصون ، وهذا تفسير لا تعطيه اللفظة . والخراص : المخمن القائل بظنه فتحته الكاهن والمرتاب وغيره ممن لا يقين له ، والإشارة إلى مكذبي محمد على كل جهة من طروقهم . والغمرة : ما يغشى الإنسان ويغطيه كغمرة الماء ، والمعنى في غمرة من الجهالة . و : { ساهون } معناه عن أنهم { في غمرة } وعن غير ذلك من وجوه النظر .
وقوله تعالى : { يسألون أيان يوم الدين } معناه : يقولون متى يوم الدين؟ على معنى التكذيب ، وجائز أن يقترن بذلك من بعضهم هزء وأن لا يقترن .
وقرأ السلمي والأعمش : « إيَان » بكسر الهمزة وفتح الياء المخففة .
وقوله تعالى : { يوم هم على النار يفتنون } قال الزجاج : نصبوا { يوم } على الظرف من مقدر تقديره : هو كائن { يوم هم على النار } ونحو هذا ، وقال الخليل وسيبويه : نصبه على البناء لما أضيف إلى غير متمكن . قال بعض النحاة : وهو في موضع رفع على البدل من { يوم الدين } . و : { يفتنون } معناه : يحرقون ويعذبون في النار ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والجميع ، ومنه قيل للحرة : فتين ، كأن الشمس أحرقت حجارتها .
ومنه قول كعب بن مالك :
معاطي تهوى إليها الحقو ... ق يحسبها من وراءها الفتينا
وفتنت الذهب أحرقته ، ولما كان لا يحرق إلا لمعنى الاختبار قيل لكل اختبار فتنة ، واستعملوا : فتن ، بمعنى اختبر ، وعلى هنا موصلة إلى معنى في ، وفي قوله تعالى : { ذوقوا فتنتكم } معناه : يقال لهم ذوقوا حرقكم وعذابكم ، قاله قتادة وغيره ، والذوق : هنا استعارة ، وهذا إشارة إلى حرقهم واستعجالهم : هو قولهم : { أيان يوم الدين } وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم .
ولما ذكر تعالى حالة الكفرة وما يلقون من عذاب الله ، عقب ذلك بذكر المتقين وما يلقون من النعيم ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى ، والجنات والعيون معروف . والمتقي في الآية مطلق في اتقاء الكفر والمعاصي .
وقوله تعالى : { آخذين } نصب على الحال . وقرأ ابن أبي عبلة : « آخذون » بواو . وقال ابن عباس المعنى : { آخذين } في دنياهم { ما آتاهم ربهم } من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه ، فالحال على هذا محكية وهي متقدمة في الزمان على كذبهم في جنات وعيون . وقال جماعة من المفسرين معنى قوله : { آخذين ما آتاهم ربهم } أي محصلين لنعم الله التي أعطاهم من جنته ورضوانه ، وهذه حال متصلة في المعنى بكونهم في الجنات . وهذا التأويل أرجح عندي لاستقامة الكلام به . وقوله : { قبل ذلك } يريد في الدنيا محسنين بالطاعة والعمل الصالح .
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
معنى قوله عز وجل : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أن نومهم كان قليلاً لاشتغالهم بالصلاة والعبادة ، فالمراد من كل ليلة ، والهجوع : النوم .
وقال الأحنف بن قيس : لست من أهل هذه الآية ، وهذا إنصاف منه . وقيل لبعض التابعين مدح الله قوماً { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } ، ونحن قليل من الليل ما تقوم ، فقال رحم الله عبداً رقد ، إذا نعس ، وأطاع ربه إذا استيقظ . وفسر أنس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء ، وقال الربيع بن خيثم ، المعنى : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف بن عبد الله ، المعنى : قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله ، وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد ، فالمراد عند هؤلاء بقوله : { من الليل } أي من الليالي . وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم ، أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً .
وأما إعراب الآية : فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي أن المعنى { كانوا قليلاً } في عددهم وتم خبر كان ، ثم ابتدأ { من الليل ما يهجعون } ف { ما } : نافية . و { قليلاً } وقف حسن .
وقال بعض النحاة : { ما } زائدة ، و { قليلاً } مفعول مقدم ب { يهجعون } . وقال جمهور النحويين { ما } مصدرية و { قليلاً } خبر « كان » ، والمعنى كانوا قليلاً من الليل هجوعهم . والهجوع مرتفع ب « قليل » على أنه فاعل ، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره ، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلاً . وفسر ابن عمر والضحاك { يستغفرون } ب « يصلون » . وقال الحسن معناه : يدعون في طلب المغفرة ، و « الأسحار » مظنة الاستغفار . ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم . وفي قصة يعقوب عليه السلام في قوله : { سوف أستغفر لكم ربي } [ يوسف : 98 ] قال أخر الاستغفار لهم إلى السحر . قال ابن زيد في كتاب الطبري : السحر : السدس الآخر من الليل .
وقوله تعالى : { وفي أموالهم حق } الصحيح أنها محكمة ، وأن هذا الحق هو على وجه الندب ، لا على وجه الفرض ، و : { معلوم } يراد به متعارف ، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض ، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات ، وقال منذر بن سعيد : هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف ، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة . وقال قوم من المتأولين : كان هذا ثم نسخ بالزكاة ، وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئاً من أخذ الأموال .
واختلف الناس في { المحروم } اختلافاً ، هو عندي تخليط من المتأخرين ، إذ المعنى واحد ، وإنما عبرعلماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالاً وحصرها مكي ثمانية .
و : { المحروم } هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة ، وهو مع ذلك لا يسأل ، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق ، قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما { المحروم } ؟ وقال ابن عباس : { المحروم } : المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال ، فهو ذو الحرفة المحدود . وقال أبو قلابة : جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هذا { المحروم } . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين ، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه ، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع ، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره : فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه ، ف { في الأرض آيات } لمن اعتبر وأيقن .
قال القاضي أبو محمد : وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك . وقرأ قتادة : « آية » على الإفراد .
وقوله تعالى : { وفي أنفسكم } إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها ، واتصال هذا الجزء منها بالعقل ، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين . قال ابن زيد : إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما ذاك العقل؟ وما صفته؟ وكيف هو؟ وقال الرماني : النفس خاصة : الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل ، وهذا تعمق لا أحمده . وقوله : { أفلا تبصرون } توقيف وتوبيخ .
وقوله تعالى : { وفي السماء رزقكم } . قال الضحاك وابن جبير : أراد المطر والثلج . وقال واصل الأحدب ومجاهد : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء ، لا رب غيره . وقرأ ابن محيصن « وفي السماء رازقكم » .
و : { توعدون } يحتمل أن يكون من الوعد ، ويحتمل أن يكون من الوعيد ، والكل في السماء . قال الضحاك المراد : من الجنة والنار . وقال مجاهد المراد : الخير والشر . وقال ابن سيرين المراد : الساعة .
ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان ، وهو عنده في غاية الوضوح ، ولا يمكن أن يقع فيه اللبس ما يقع في الرؤية والسمع ، بل النطق أشد تخلصاً من هذه واختلف القراء في قوله : { مثل ما } ، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر « مثلُ » بالرفع ، ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس : « مثلَ » بالنصب ، فوجه الأولى الرفع على النعت ، وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حرث كان لفظ مثل شائعاً عاماً لوجوه كثيرة ، فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة ، لأنك إذا قلت : رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئاً ، لأن وجوه المماثلة كثيرة ، فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة . و { ما } زائدة تعطي تأكيداً ، وإضافة « مثل » هي إلى قوله : { إنكم } . ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه : إما أن يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة { لحق } ولحقه البناء ، لأن المضاف إليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله : شرقت صدر القناة . ونحوه ، وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك ، ويجري « مثلَ » حينئذ مجرى { عذاب يومئذ } [ المعارج : 11 ] على قراءة من فتح الميم ، ومنه قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت ... ف « غير » فاعلة ولكنه فتحها . والوجه الثاني وهو قول المازني إن « مثلَ » بني لكونه مع { ما } شيئاً واحداً ، وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما ، ومنه قول حميد بن ثور : [ الطويل ]
ألا هيما مما لقيت وهيما ... وويهاً لمن لم يدر ما هن ويحما
فلولا البناء وجب أن يكون منوناً ، وكذلك قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] : [ الطويل ]
فأكرم بنا أماً وأكرم بنا ابن ما ... والوجه الثالث : أن تنصب « مثل » على الحال من قوله : { لحق } وهي حال من نكرة وفيه خلاف لكن جوز ذلك الجرمي ، وأما غيره فيراه حالاً من الذكر المرفوع في قوله { لحق } لأن التقدير { لحق } هو ، وفي هذا نظر . والنطق في هذه الآية : الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . وروي أن بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال : من أحوج الكريم إلى أن يحلف؟ والحكاية وقعت في كتاب الثعلبي وسبل الخيرات متممة عن الأصمعي ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قاتل الله قوماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه » وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت » وأحاديث الرزق والأشعار فيه كثيرة .
وقوله : { هل أتاك } تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، وهذا كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره هل سمع منك أم لا؟ فكأنه تقتضي منه أن يقول لا ويستطعمك الحديث . و : { ضيف } اسم جنس يقع للجميع والواحد . وروي أن أضياف إبراهيم هؤلاء : جبريل ومكائيل وإسرافيل وأتباع لهم من الملائكة .
وجعلهم تعالى « مكرمين » إما لأنهم عنده كذلك ، وهذا قول الحسن . وإما من حيث أكرمهم إبراهيم وخدمهم هو وسارة . وذبح لهم العجل . وقيل من حيث رفع مجالسهم و : { سلاماً } منصوب على المصدر كأنهم قالوا : تسلم سلاماً ، أو سلمت سلاماً ، ويتجه فيه أن يعمل فيه { قالوا } على أن نجعل { سلاماً } بمنزلة قولاً . ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا تحية وقولاً معناه : { سلاماً } وهذا قول مجاهد .
وقوله : { سلام } مرتفع على خبر ابتداء . أي أمر { سلام } . أو واجب لكم { سلام } ، أو على الابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : سلام عليكم وإبراهيم عليه السلام قد حيا بأحسن لأن قولهم دعاء وقوله واجب قد تحصل لهم .
وقرأ ابن وثاب والنخعي وحمزة والكسائي وطلحة وابن جبير قال : « سِلْم » بكسر السين وسكون اللام . والمعنى نحن سلم وأنتم سلم .
وقوله : { قوم منكرون } معناه : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم . وهذا أيضاً على تقدير : أنتم { قوم منكرون } وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وفي ذلك الزمن و : « راغ » معناه مضى إثر حديثه تشبيه بالروغان المعروف ، لأن الرائغ يوهم أنه لم يزل . والعجل : هو الذي حنذه ، والقصة قد مضت مستوعبة في غير هذه السورة ، وروي عن قتادة أن أكثر مال إبراهيم كان البقر وكان مضيافاً . وحسبك أنه أوقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
المعنى { فقربه إليهم } فأمسكوا عنه فقال : { ألا تأكلون } فيروى في الحديث أنهم قالوا : لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه . فقال إبراهيم وأنا لا أبيحه لكم إلا بثمن . قالوا : وما هو؟ قال : أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل . فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً . فلما استمروا على ترك الأكل { أوجس منهم خيفة } . والوجيس تحسيس النفس وخواطرها في الحذر . وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه والطعام حرمة و ذمام . والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا له : { لا تخف } وعرفوه أنهم ملائكة ، { وبشروه } وبشروا سارة معه { بغلام عليم } . أي عالم في حال تكليفه وتحصيله ، أي سيكون عليماً و : { عليم } بناء مبالغة . وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع . وقال مجاهد ، هذا الغلام هو إسماعيل . والأول أرجح ، وهذا وهم . ويروى أنه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالاً من بشارتهم إياه بغيب .
وقوله تعالى : { فأقبلت امرأته } يحتمل أن يكون قربت إليهم من ناحية من نواحي المنزل ، ويحتمل أن يكون هذا الإقبال كما تقول : أقبل فلان يشتمني ، أو يفعل كذا إذا جد في ذلك وتلبس به ، والصرة : الصيحة ، كذا فسره ابن عباس ومجاهد وسفيان والضحاك ، والمصطر الدي يصيح وقال قتادة معناه : في رقة . وقال الطبري قال بعضهم أوه بصياح وتعجب . قال النحاس : وقيل : { في صرة } في جماعة نسوة يتبادرن نظراً إلى الملائكة .
وقوله : { فصكت وجهها } ، معناه : ضربت وجهها ، قال ابن عباس : لطمت ، وهذا مما يفعله الذي يرد عليه أمر يستهوله . وقال سفيان والسدي ومجاهد معناه : ضربت بكفها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن . وقولها : { عجوز عقيم } ، إما أن يكون تقديره : أنا { عجوز عقيم } فكيف ألد؟ وإما أن يكون التقدير : { عجوز عقيم } تكون منها ولادة ، وقدره الطبري : أتلد { عجوز عقيم } . ويروى أنها كانت لم تلد قط . والعقيم من النساء التي لا تلد ، ومن الرياح التي لا تلقح شجراً ، فهي لا بركة فيها ، وقولهم : { كذلك قال ربك } أي كقولنا الذي أخبرناك قال ربك أن يكون . و : { الحكيم } ذو الحكمة . و : { العليم } معناه بالمصالح وغير ذلك من العلومات ثم قال إبراهيم عليه السلام للملائكة : { فما خطبكم } والخطب : الأمر المهم ، وقل ما يعبر به إلا عن الشدائد والمكاره حتى قالوا : خطوب الزمان ونحو هذا ، فكأنه يقول لهم : ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين . والمجرم : فاعل الجرائم ، وهي صعاب المعاصي : كفر ونحوه واحدتها جريمة .
وقولهم : { لنرسل عليهم } أي لنهلكهم بهذه الحجارة . ومتى اتصلت « أرسل » ب « على » : فهي بمعنى المبالغة في المباشرة والعذاب . ومتى اتصلت ب « إلى » ، فهي أخف . وانظر ذلك تجده مطرداً .
وقوله تعالى : { حجارة من طين } بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء . ويروى أنه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالآجر . و : { مسومة } نعت ل { حجارة } ، وقيل معناه متروكة وسومها من الإهلاك والأنصباب . وقيل معناه : معلمة بعلامتها من السيما والسومى وهي العلامة ، أي إنها ليست من حجارة الدنيا ، وقال الزهراوي والرماني ، وقيل معناه : على حجر اسم المضروب به . وقال الرماني وقيل كان عليها أمثال الخواتم . وقال ابن عباس : تسويمها إن كان في الحجارة السود نقط بيض وفي البيض سود . ويحتمل أن يكون المعنى : أنها بجملتها معلومة عند ربك لهذا المعنى معلمة له . لا أن كل واحد منها له علامة خاصة به . والمسرف : الذي يتعدى الطور ، فإذا جاء مطابقاً فهو لأبعد الغايات الكفر فما دونه .
ثم أخبر تعالى أنه أخرج بأمره من كان في قرية لوط { من المؤمنين } منجياً لهم . وأعاد الضمير على القرية . ولم يصرح لها قبل ذلك بذكر لشهرة أمرها . ولأن القوم المجرمين معلوم أنهم في قرية ولا بد . قال المفسرون : ولا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره ، وإنما هما وصفان ذكرهم أولاً بأحدهما ثم آخر بالثاني . قال الرماني : الآية دالة على أن الإيمان هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر إليّ أن في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان ، وذلك أنه ذكره مع الإخراج من القرية ، كأنه يقول : نفذ أمرنا بإخراج كل مؤمن ، ولا يشترط فيه أن يكون عاملاً بالطاعات . بل التصديق بالله فقط .
ثم لما ذكر حال الموحدين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها ، وهي الكاملة التصديق والأعمال ، والبيت من المسلمين : هو بيت لوط ، وكان هو وابنتاه ، وقيل وبنته . وفي كتاب الثعلبي : وقيل لوط وأهل بيته ثلاثة عشر ، وهلكت امرأته فيمن هلك ، وهذه القصة بجملتها ذكرت على جهة المثال لقريش . أي أنهم إذا كفروا وأصابهم مثل ما أصاب هؤلاء المذكورين .
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
المعنى : { وتركنا } في القرية المذكورة ، وهي سدوم أثراً من العذاب باقياً مؤرخاً لا يفنى ذكره فهو : { آية } أي علامة على قدرة الله وانتقامه من الكفرة . ويحتمل أن يكون . والمعنى : { وتركنا } في أمرها كما قال : { لقد كان في يوسف } [ يوسف : 7 ] وقال ابن جريج : ترك فيها حجراً منضوداً كثيراً جداً . و : { للذين يخافون العذاب } هم العارفون بالله تعالى .
وقوله تعالى : { وفي موسى } يحتمل أن يكون عطفاً على قوله { فيها } أي وتركنا في موسى وقصته أثراً أيضاً هو آية . ويحتمل أن يكون عطفاً على قوله قيل : { وفي الأرض آيات } [ الذاريات : 20 ] ، { وفي موسى } . و : { فرعون } هو صاحب مصر . والسلطان في هذه الآية الحجة و : { تولى } معناه : فأعرض وأدبر عن أمر الله و : { بركنه } بسلطانه وجنده وشدة أمره . وهو الأمر الذي يركن فرعون إليه ويسند في شدائده . قال ابن زيد : { بركنه } بجموعه قال قتادة : بقومه . وقول فرعون في موسى { ساحر أو مجنون } هو تقسيم ظن أن موسى لا بد أن يكون أحد هذين . وقال أبو عبيدة : { أو } هنا بمعنى الواو . واستشهد ببيت جرير : [ الوافر ]
أثعلبة الفوارس أو رياحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا
والخشاب : بيوت في بني تميم ، وقول أبي عبيدة ضعيف لا داعية إليه في هذا الموضع . و : { نبذناهم } معناه : طرحناهم و : { اليم } البحر . وفي مصحف ابن مسعود : « فنبذناه » ، و « المليم » : الذي أتى من المعاصي ونحوها ما يلام عليه وقال أمية بن أبي الصلت : [ الوافر ]
ومن يخذل أخاه فقد ألاما ... وقوله : { وفي عاد } عطف على قوله : { وفي موسى } ، و { عاد } هي قبيلة هود النبي عليه السلام .
و { العقيم } التي لا بركة فيها ولا تلقح شجراً ولا تسوق مطراً . وقال سعيد بن المسيب : كانت ريح الجنوب . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : كانت نكباء . وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه لأنه مردود بقوله صلى الله عليه وسلم : « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور » و : { تذر } معناه : تدع . وقوله تعالى : { من شيء أتت عليه } يعني مما أذن لها في إهلاكه . و : { الرميم } الفاني المتقطع يبساً أو قدماً من الأشجار والورق والحبال والعظام ، ومنه قوله تعالى { من يحيي العظام وهي رميم } [ يس : 78 ] أي في قوام الرمال وروي أن تلك الريح كانت تهب على الناس فيهم العادي وغيره ، فتنتزع العادي من بين الناس وتذهب به .
وقوله تعالى : { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } يحتمل أن يريد إذ قيل لهم في أول بعث صالح آمنوا وأطيعوا فتمتعوا متاعاً حسناً إلى آجالكم ، وهو الحين على هذا التأويل وهو قول الحسن حكاه عن الرماني ، ويجيء قوله تعالى : { فعتوا } مرتباً لفظاً في الآية ومعنى في الوجود متأخراً عن القول لهم { تمتعوا } ، ويحتمل أن يريد : إذ قيل لهم بعد عقر الناقة : { تمتعوا } في داركم ثلاثة ، وهي الحين على هذا التأويل وهو قول الفراء ، ويجيء قوله : { فعتوا } غير مرتب المعنى في وجوده ، لأن عتوهم كان قبل أن يقال لهم { تمتعوا } وكأن المعنى فكان من أمرهم قبل هذه المقالة أن عتوا وهو السبب في أن قيل لهم ذلك وعذبوا .
وقرأ جمهور القراء : « الصاعقة » وقرأ الكسائي وهي قراءة عمر وعثمان « الصعقة » ، وهي على القراءتين الصيحة العظيمة ، ومنه يقال للوقعة الشديدة من الرعد : صاعقة . وهي التي تكون معها النار التي يروى في الحديث أنها من المخراق الذي بيد ملك يسوق السحاب .
وقوله : { وهم ينظرون } يحتمل أن يريد فجأة وهم يبصرون بعيونهم حالهم ، وهذا قول الطبري ويحتمل أن يريد : { وهم ينظرون } ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموا به فيها ورأوا علاماته في تلونه ، وهذا قول مجاهد حسبما تقدم تفسيره ، وانتظارهم العذاب هو أشد من العذاب .
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
قال بعض المفسرين : { من قيام } معناه : ما استطاعوا أن يقوموا من مصارعهم . وقال قتادة وغيره معناه : ما قيام بالأمر ودفعه كما تقول : ما أن له بكذا وكذا قيام ، أي استضلاع وانتهاض .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم : « وقوم نوح » بالنصب ، وهو عطف إما علىلضمير في قوله : { فأخذتهم } [ الذاريات : 44 ] إذ هو بمنزلة أهلكناهم ، وإما على الضمير في قوله : { فنبذناهم } [ الذاريات : 40 ] ، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث : « وقومُ نوح » بالرفع وذلك على الابتداء وإضمار الخبر وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : « وقومِ » بالخفض عطفاً على ما تقدم من قوله : { وفي ثمود } [ الذاريات : 43 ] وقد روي النصب عن أبي عمرو .
وقوله : { والسماءَ } نصب بإضمار فعل تقديره : وبنينا السماء بنيناها . والأيد : القوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، ووقعت في المصحف بياءين وذلك على تخفيف الهمز ، وفي هذا نظر .
وقوله : { لموسعون } يحتمل أن يريد : إنا نوسع الأشياء قوة وقدرة كما قال تعالى : { على الموسع قدره } [ البقرة : 236 ] أي الذي يوسع أهله إنفاقاً ، ويحتمل أن يريد : { لموسعون } في بناء السماء ، أي جعلناها واسعة وهذا تأويل ابن زيد وقال الحسن : أوسع الرزق بمطر السماء و « الماهد » المهيئ الموطئ للموضع الذي يتمهد ويفترش .
وقوله تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين } أي مصطحبين ومتلازمين ، فقال مجاهد معناه أن هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلالة والأرض والسماء والسواد والبياض والصحة والمرض والكفر والإيمان ونحو هذا ، ورجحه الطبري بأنه دل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه فعلاً واحداً كالتسخين والتبريد . وقال ابن زيد وغيره : هي إشارة غلى الأنثى والذكر من كل حيوان والترجي الذي في قوله : { لعلكم } هو بحسب خلق البشر وعرفها . وقرأ الجمهور « تذّكرون » بشد الذال والإدغام . وقرأ أبي بن كعب : « تتذكرون » بتاءين وخفة الذال .
وقوله : { ففروا } أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة « فروا » بين التحذير والاستدعاء ، وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك » الحديث ، قال الحسن بن الفضل : من فر إلى غير الله .
وقوله : { ولا تجعلوا مع الله } الآية نهي عن عبادة الأصنام والشياطين وكل مدعو من دون الله وفائدة تكرار قوله : { إني لكم منه نذير مبين } الإبلاغ وهز النفس وتحكيم التحذير وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بليغة بقرينة شدة الصوت .
وقوله تعالى : { كذلك } تقديره : سيرة الأمم كذلك ، أو الأمر في القديم كذلك . وقوله : { إلا قالوا ساحر أو مجنون } معناه : إلا قال بعض : هذا وبعض : هذا وبعض : الجميع ألا ترى أن قوم نوح لم يقولوا قط : { ساحر } وإنما قالوا : { به جنة } [ سبأ : 8 ] فلما اختلف الفرق جعل الخبر عن ذلك بإدخال أو بين الصفتين ، وليس المعنى أن كل أمة قالت عن نبيها إنه ساحر أو هو مجنون ، فليست هذه كالمتقدمة في فرعون ، بل هذه كأنه قال : إلا قالوا هو ساحر وهو مجنون .
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله تعالى : { أتواصوا به } توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم أي أنهم لم يتواصوا ، لكنهم فعلوا فعل من يتواصى .
والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ ، والطاغي : المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله .
وقوله تعالى : { فتول عنهم } أي عن الحرص المفرط عليهم ، وذهاب النفس حسرات ، ويحتمل أن يراد : فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام فلست بمصيطر عليهم ولست { بملوم } إذ قد بلغت ، فنح نفسك عن الحزن عليهم ، وذكر فقط ، فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له أن يكون منهم في ثاني حال ، وعلى هذا التأويل : فلا نسخ في الآية . إلا في معنى الموادعة التي فيها ، إن آية السيف نسخت جميع الموادعات .
وروى قتادة وذكره الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما نزلت { فتول عنهم فما أنت بملوم } حزن المسلمون وظنوا أنه مر بالتوالي عن الجميع وأن الوحي قد انقطع حتى نزلت : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } فسروا بذلك .
وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع ، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته ، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله : { ليعبدون } إذ العبادة هي مضمن الأمر ، وقال زيد بن أسلم وسفيان : المعنى خاص ، والمراد : { وما خلقت } الطائعين من { الجن والإنس } إلا لعبادتي ، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : « وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني » ، وقال ابن عباس أيضاً معنى : { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك ، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك . وتحتمل الآية ، أن يكون المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمة ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة ، وهذا كما تقول : البقر مخلوقة للحرث ، والخيل للحرب ، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً ، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة ، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك ، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم : « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » . وقوله : « كل مولود يولد على الفطرة » والحديث ، وقوله : { من رزق } أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم .
وقوله : { أن يطمعون } إما أن يكون المعنى أن يطمعوا خلقي فإضيف ذلك إلى الضمير على جهة التجوز ، وهذا قول ابن عباد . وإما أن يكون الإطعام هنا بمعنى النفع على العموم ، كما تقول : أعطيت فلاناً كذا وكذا طعمة ، وأنت قد أعطيته عرضاً أو بلداً يحييه ، ونحو هذا فكأنه قال : ولا أريد أن ينفعوني ، فذكر جزءاً من المنافع وجعله دالاً على الجميع .
وقرأ الجميع : « إن الله هو الرزاق » . وروى أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن يزيد ، قال أبو عمرو الداني عن ابن مسعود قال : أقراني رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني أنا الرزاق » وقرأ الجمهور : « إن الله هو الرزاق » وقرأ ابن محيصن « هو الرازق »
وقرأ جمهور القراء : « المتينُ » بالرفع إما على أنه خبر بعد خبر ، أو صفة ل { الرزاق } . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش « المتينِ » بالخفض على النعت ل { القوة } ، وجاز ذلك من حيث تأنيث { القوة } غير حقيقي . فكأنه قال : ذو الأيد ، أو ذو الحبل ونحوه { فمن جاءه موعظة } [ البقرة : 275 ] وجوز أبو الفتح أن يكون خفض « المتينِ » علىلجواز و : { المتين } : الشديد .
وقوله تعالى : { فإن للذين ظلموا } يريد أهل مكة ، وهذه آية وعيد صراح ، وقرأ الأعمش « فإن للذين كفروا » . والذنوب : الحظ والنصيب ، وأصله من الدلو ، وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء ، وقيل الذنوب : الدلو العظيمة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبيتم فلنا القليب ... وهو السجل ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
فيروى أن الملك لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ، ومنه قول حسان : [ الطويل ]
لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
و { أصحابهم } يريد به من تقدم من الأمم المعذبة . وقوله : { فلا يستعجلون } تحقيق للأمر ، بمعنى هو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم ، فلا يستعجلوه ، وقرأ يحيى بن وثاب : « فلا تستعجلون » بالتاء من فوق .
ثم أوجب تعالى لهم الويل من يومهم الذي يأتي فيه عذابهم . والويل : الشقاء والهم ، وروي أن في جهنم وادياً يسمى : ويلاً . والطبري يذهب أبداً إلى أن التوعد إنما هو به ، وذلك في هذا الموضع قلق ، لأن هذا الويل إنما هو { من يومهم } الذي هو في الدنيا ، و : { من } لابتداء الغاية . وقال جمهور المفسرين : هذا التوعد هو بيوم القيامة . وقال آخرون ذكره الثعلبي هو يوم بدر . وفي : { يوعدون } ضمير عائد ، التقدير : يوعدون به ، أو يوعدونه .
نجز تفسير سورة « الذاريات » والحمد لله رب العالمين كثيراً ، وصلى الله عليه سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعن جميع تابعيه .
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
هذه مخلوقات أقسم الله بها تنبيهاً منها وتشريفاً ، وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها ، وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله .
{ والطور } قال بعض أهل اللغة : كل جبل : طور ، فكأنه أقسم بالجبال ، إذ هو اسم جنس وقال آخرون : « الطور » كل جبل أجرد لا ينبت شجراً . وقال مجاهد في كتاب الطبري : « الطور » الجبل بالسريانية ، وهذا ضعيف ، لأن ما حكاه في العربية يقضي على هذا ، ولا خلاف أن في الشام جبلاً يسمى ب « الطور » ، وهو طور سيناء . وقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال . إذ قد روي أن الله تعالى أوحى إلىلجبال إني مهبط على أحدكم أمري . يريد رسالة موسى عليه السلام ، فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال حسبي الله ، فأهبط الله الأمر عليه . ويقال إنه بمدين . وقال مقاتل بن حيان هما طوران . والكتاب المسطور : معناه بإجماع : المكتوب أسطاراً .
واختلف الناس في هذا المكتوب المقسم به ، فقال بعض المفسرين : هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه ما تفعله وتصرفه في العالم .
وقال آخرون : بل أقسم الله تعالى بالقرآن ، فإنه قد كان علم أنه يتخلد { في رق منثور } .
وقال آخرون : أقسم بالكتب القديمة المنزلة : الإنجيل والتوراة والزبور . وقال الفراء فيما حكى الرماني : أقسم بالصحف التي تعطى وتؤخذ يوم القيامة بالأيمان والشمائل . وقال قوم : أقسم بالكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
وكتب بعض الناس ، « مصطوراً » بالصاد . والقصد بذلك تشابه النطق بالحروف ، والجمهور على السين . والرق : الورق المعدة للكتب وهي مرققة فلذلك سميت رقاً ، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان . والمنثور : خلاف المطوي ، وقد يحتمل أن يكون نشره بمعنى بشره وترقيقه وصنعته . وقرأ أبو السمال : « في رِق » بكسر الراء .
واختلف الناس في { البيت المعمور } فقال الحسن بن أبي الحسن البصري : هي الكعبة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بحيال الكعبة ، ويقال الضريح ، ذكر ذلك الطبري وهو الذي ذكر في حديث الإسراء . قال جبريل عليه السلام : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم وبهذا عمارته . ويروى أنه في السماء السابعة . وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل الكعبة لو خر لسقط عليها . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك . وهي كلها على خط مع الكعبة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { والسقف المرفوع } : السماء { والسقف } طول في انحناء ، ومنه أسقف النصارى ، ومنه السقف ، لأن الجدار وسقفه فيهما طول في انحناء .
واختلف الناس في معنى : { المسجور } فقال مجاهد وشمر بن عطية معناه : الموقد ناراً . وروي أن البحر هو جهنم . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليهودي : أين جهنم؟ فقال هي البحر ، فقال علي : ما أظنه إلا صادقاً ، وقرأ : { والبحر المسجور } ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن البحر طبق جهنم » . قال الثعلبي : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد فإن تحت البحر ناراً » .
وفي حديث آخر : « فإن البحر نار في نار » . وقال قتادة : { المسجور } المملوء . وهذا معروف في اللغة . ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك ، وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم : سجرت التنور معناه : ملأتها بما يحترق ويتقد و : { البحر المسجور } المملوء ماء ، وهكذا هو معرض للعبرة ، ومن هذا قول النمر بن تولب : [ المتقارب ]
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والسماسما
سقتها رواعد من صي ... ف وإن من خريف فلن يعدما
يصف ثوراً أو عيناً مملوءة ماء ، وقال ابن عباس : هو الذي ذهب ماؤه ف { المسجور } : الفارغ ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل يوقد البحر ناراً يوم القيامة فذلك هو سجره . وقال ابن عباس أيضاً : { المسجور } : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهو القلادة من عود أو حديد التي تمسكه ، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض . وقال علي بن أبي طالب أيضاً وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش ، والجمهور على أنه بحر الدنيا ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وإذا البحار سجرت } [ التكوير : 6 ] .
وقال منذر بن سعيد : إن المعنى هو القسم بجهنم وسماها بحراً لسعتها وتموجها كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس : « وإن وجدناه لبحر » والقسم واقع على قوله : { إن عذاب ربك لواقع } ويريد عذاب الآخرة للكفار . قال قتادة : والعامل في : { يوم } « واقع » ويجوز أن يكون العامل فيه { دافع } ، والأول أبين . وقال مكي : لا يعمل فيه { دافع } . و : { تمور } معناه : تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة ، والغبار الموار : الذي يجتمع ويذهب ويجيء بالريح ، ثم هو كله إلى الذهاب ، ومنه قول الأعرابي :
وغادرت التراب مورا ... يصف سنة قحط . وأنشد معمر بن المثنى بيت الأعشى : [ البسيط ]
مور السحابة لا ريث ولا عجل ... أراد مضيها ، وقال الضحاك : { تمور } تموج . وقال مجاهد : تدور . وقال ابن عباس : تشقق ، وهذه كلها تفاسير بالمعنى ، لأن السماء العلو يعتريها هذا كله ، وسير الجبال هو في أول الأمر ، ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخراً كالعهن المنفوش والفاء في قوله : { فويل } عاطفة جملة على جملة وهي تتضمن ربط المعنى وتأكيده وإثبات الويل للمكذبين .
والويل : السوء والمشقة والهم الأطول ، ويروى أن في جهنم وادياً يسمى : ويلاً والخوض التخبط في الأباطيل ، يشبه بخوض الماء ، ومنه قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } [ الأنعام : 68 ] و : { يوم } الثاني بدل من : { يومئذ } و : { يدعون } قال ابن عباس معناه : يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة ، ومنه قوله تعالى : { يدع اليتيم } [ الماعون : 2 ] وفي الكلام محذوف مختصر تقديره : يقال لهم هذه النار ، وإخبارهم بهذا على جهة التوبيخ والتقريع وقرأ أبو رجاء العطاردي : « يوم يدْعَون إلى نار جهنم » من الدعاء بسكون الدال وفتح العين .
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
لما قيل لهم هذه النار ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين التي يمكن منها دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثم سحر يلبس ذات المرء ، وإما أن يكون في بصر النظر اختلال ، وأمرهم بصليها على جهة التقريع ، ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم : { اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } أي عذابكم حتم ، فسواء جزعكم وصبركم لا بد من جزاء أعمالكم . وقوله تعالى : { إن المتقين في جنات } الآية يحتمل أن يكون خطاب أهل النار ، فيكون إخبارهم بذلك زيادة في غمهم وسوء حالهم ، ويحتمل وهو الأظهر أن يكون إخباراً لمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاصريه لما فرغ من ذكر عذاب الكفار عقب ذلك بنعيم المتقين ليبين الفرق ويقع التحريض على لإيمان . والمتقون هنا : متقو الشرك . لأنهم لا بد من مصيرهم إلى الجنات ، وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية ، حتى أن المتقين على الإطلاق هم في حكم الآية قطعاً على الله بحكم خبره الصادق .
وقرأ الجمهور : « فاكهين » ومعناه : فرحين مسرورين . وقال أبو عبيدة : هو من باب لابن وتامر أي لهم فاكهة .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى الأول أبرع .
وقرأ خالد فيما حكى أبو حاتم « فاكهين » والفكه والفاكه : المسرور المتنعم .
وقوله : { بما آتاهم ربهم } : أي من إنعامه ورضاه عنهم وقوله : { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } هذا متمكن ومتقي المعاصي الذي لا يدخل النار ويكون متقي الشرك الذي ينفذ عليه الوعيد بمعنى : ووقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم . ويحتمل أن يكون { الجحيم } من طبقات جهنم ليست بمأوى للعصاة المؤمنين ، بل هي مختصة بالكفرة فهم وإن عذبوا في نار فليسوا في عذاب الجحيم .
وقرأ جمهور الناس : « ووقَاهم » بتخفيف القاف . وقرأ أبو حيوة : « ووقّاهم » بتشديدها على المبالغة ، وذلك كله مشتق من الوقاية ، وهي الحائل بين الشيء وما يضره والمعنى : يقال لهم { كلوا واشربوا } . وقوله : { بما كنتم تعملون } معناه : أن رتب الجنة ونعيمها هو بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده ، والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء ، وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً ، لكنه قد جعلها أمارة على من سبق تنعيمه ، وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال . وقوله تعالى : { متكئين } نصب على الحال على حد قوله : { فاكهين } والعامل في هاتين الحالتين الفعل المقدر في قوله : { في جنات } ويجوز غير هذا ، وفي ذلك نظر ، وقرأ أبو السمال : « على سرَر » بفتح الراء الأولى . و : { زوجناهم } معناه : جعلنا لكل فرد منهم زوجاً ، والحور : جمع حوراء ، وهي البيضاء القوية بياض بياض العين وسواد سوادها ، و « العين » جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالهما . وفي قراءة ابن مسعود وإبراهيم النخعي : « وزوجناهم بعيس عين » ، قال أبو الفتح : العيساء البيضاء . وقرأ عكرمة : « وزوجناهم حوراً عيناً » . وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ « بعيس عين » على إضافة « عيس » إلى « عين » .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة : « واتبعتهم ذريتهم » « بهم ذريتهم » . وقرأ نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى ، « وأتبعناهم ذريتهم » « بهم ذرياتهم » . وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة . وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك : « واتبعتهم ذريتهم » « بهم ذريتهم » . وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك : « وأتبعناهم ذريتهم » « بهم ذريتهم » . فكون الذرية جمعاً في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات ، وكون المعنى يقتضي انتشار أن كثرة حسن جمع الذرية في قراءة « ذرياتهم » .
واختلف الناس في معنى الآية ، قال ابن عباس وابن جبير والجمهور : أخبر الله تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان . فيكونون مؤمنين كآبائهم . وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء ، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء .
وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي « أن الله تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين » . وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية ، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } [ يس : 41 ] وفي هذا نظر . وقال ابن عباس أيضاً والضحاك معنى هذه الآية : أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين . يعني في الوراثة والدفن في قبور الإسلام وفي أحكام الآخرة في الجنة . وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال : الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وحكى الطبري قولاً معناه أن الضمير في قوله : { بهم } عائد على ذرية ، والضمير الذي بعده في : { ذريتهم } عائد على { الذين } أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار . وهذا قول مستكره .
وقوله : { بإيمان } هو في موضع الحال . فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار . فالحال من الضمير في قوله : { اتبعتهم } فهو من المفعولين ، ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين ، ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين ، وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول . لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء . ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .
وقرأ جمهور القراء : « أَلتناهم » بفتح الألف من ألَت .
وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل : « ألِتناهم » من ألِت بكسر اللام . وقرأ الأعرج : « ألتناهم » على وزن أفعلناهم . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : « لتناهم » من لات ، وهي قراءة ابن مصرف . ورواها القواس عن ابن كثير ، وتحتمل قراءة من قرأ : « أَلَتناهم » بالفتح أن تكون من ألات ، فإنه قال : ألات يليت إلاتة . ولات يليت ليتاً . وآلت يولت إيلاتاً ، وألت يألت . وولت يلت ولتاً . وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية : أن الله يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئاً وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور ، ويحتمل قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح ، ويكون الضمير في { عملهم } عائد على الأبناء ، وهذا تأويل ابن زيد ، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } ، والرهين المرتهن ، وفي هذه الألفاظ وعيد .
وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ : « وما لَتناهم » بغير ألف وفتح اللام . قال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه . وأمددت الشي : إذا سربت إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه . وقوله : { مما يشتهون } إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها ، وليس يكون في الجنة لحم يخزن ولا يتكلف فيه الذبح والسلخ والطبخ . وبالجملة : لا كلفة في الجنة ، و : { يتنازعون } معناه : يتعاطون ، ومنه قول الأخطل : [ البسيط ]
نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
والكأس : الإناء وفيه الشراب . ولا يقال في فارغ كأس ، قاله الزجاج .
وقرأ جمهور من السبعة وغيرهم « لا لغوٌ » بالرفع « ولا تأثيمٌ » كذلك . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن : « لا لغوَ ولا تأثيمَ » بالنصب على التبرية وعلى الوجهين . فقوله { فيها } هو في موضع الخبر ، وأغنى خبر الأولين عن ذكر خبر الثاني . واللغو : السقط من القول . والتأثيم : يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شرابها ، وذلك كله مرتفع في الآخرة . و : « اللؤلؤ المكنون » أجمل اللؤلؤ لأن الصون والكن يحسنه . وقال ابن جبير : أراد أنه الذي في الصدف لم تنله الأيدي ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون ، فكيف المخدومون؟ قال : « هم كالقمر ليلة البدر » . ثم وصف عنهم أنهم في جملة تنعمهم يتساءلون عن أحوالهم وما قال كل أحد منهم ، وأنهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم فيها عذاب الآخرة . وحكى الطبري عن ابن عباس قال : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية . والإشفاق أشد الخشية ورقة القلب .
وقرأ أبو حيوة : « ووقّانا » بشد القاف .
وقراءة الجمهور بتخفيفها . وأمال عيسى الثقفي : « ووقَانا » بتخفيف القاف .
و : { السموم } الحار . قال الرماني : هو الذي يبلغ مسام الإنسان ، وهو النار في هذه الآية . وقد يقال في حر الشمس وفي الريح سموم . وقال الحسن : { السموم } اسم من أسماء جهنم و : { ندعوه } يحتمل أن يريد نعبده ، ويحسن هذا على قراءة من قرأ : « أنه » بفتح الألف . وهي قراءة نافع . بخلاف والكسائي وأبي جعفر والحسن وأبي نوفل أي من أجل أنه . وقرأ باقي السبعة والأعرج وجماعة « أنه » على القطع والاستئناف ، ويحسن مع هذه القراءة أن يكون { ندعوه } بمعنى نعبده . أو بمعنى الدعاء نفسه ، ومن رأى : { ندعوه } بمعنى الدعاء نفسه فيحتمل أن يجعل قوله : « أنه » بالفتح هو نفس الدعاء الذي كان في الدنيا . و : { البر } هو الذي يبر ويحسن ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
جاءت من البيض زعر لا لباس لها ... إلا الدهاس وأم برة وأب
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله ومتابعة نشر الرسالة ، ثم قال مؤنساً له : { فما أنت } بإنعام الله عليك أو لطفه بك { بكاهن ولا مجنون } . وكانت العرب قد عهدت ملابسة الجن والإنس بهذين الوجهين ، فنسبت محمداً صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فنفى الله تعالى عنه ذلك .
وقوله تعالى : { أم يقولون شاعر } الآية ، روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم : { تربصوا به ريب المنون } فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى وغيرهم ، فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك ، والتربص : الانتظار ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت حليلها
وأنشد الطبري : [ الطويل ]
لعلها سيهلك عنها زوجها أو ستجنح ... وقوله تعالى : { قل تربصوا } وعيد في صيغة أمر ، و : { المنون } من أسماء الموت ، وبه فسر ابن عباس ، ومن أسماء الدهر أيضاً ، وبه فسر مجاهد وقال الأصمعي : { المنون } واحد لا جمع له وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له .
قال القاضي أبو محمد : والريب هنا : الحوادث والمصائب ، لأنها تريب من نزلت به ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ابنته فاطمة حين ذكر أن علياً يتزوج بنت أبي جهل : « إنما فاطمة بضعة مني ، يريبني ما أرابها » . يقال أراب وراب ، ومنه : [ الطويل ]
فقد رابني منها الغداة سفورها ... وقوله الآخر : [ المتقارب ]
وقد رابني قولها يا هناه ... وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتوعدهم بقوله : { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } وقوله تعالى : { بهذا } يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة : هو شاعر ، ويحتمل أن يشير إلى ما هم عليه من الكفر وعبادة الأصنام . والأحلام : العقول . و : { أم } المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام ، وقدرها مجاهد ب « بل » . والنظر المحرر في ذلك أن منها ما يتقدر ببل ، والهمزة على حد قول سيبويه في قولهم : إنها لا بل أم شاء ، ومنها ما هي معادلة ، وذلك قوله : { أم هم قوم طاغون } .
وقرأ مجاهد : « بل هم قوم طاغون » وهو معنى قراءة الناس ، إلا أن العبارة ب { أم } خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ . وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : ما في سورة « الطور » من { أم } كله استفهام وليست بعطف . و : { تقوله } معناه : قال عن الغير إنه قاله . فهي عبارة عن كذب مخصوص . ثم عجزهم تعالى بقوله : { فليأتوا بحديث مثله } والمماثلة المطلوبة منهم هي في النظم والرصف والإيجاز .
واختلف الناس هل كانت العرب قادرة على الإتيان بمثل القرآن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال شداد : يسمون أهل الصرفة كانت قادرة وصرفت ، وقال الجمهور : لم تكن قط قادرة ولا في قدرة البشر أن يأتي بمثله .
لأن البشر لا يفارق النسيان والسهو والجهل والله تعالى محيط علمه بكل شيء . فإذا ترتبت اللفظة في القرآن ، علم بالإحاطة التي يصلح أن تليها ويحسن معها المعنى وذلك متعذر في البشر ، والهاء في { مثله } عائدة على القرآن .
وقرأ الجحدري « بحديثِ مثلِه » بإضافة الحديث إلى مثل . فالهاء على هذا عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء } قال الطبري معناه : أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه . وقال آخرون معناه : خلقوا لغير علة ولا لغير عقاب ولا ثواب . فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون . وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة ، أي لغير علة . ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم : أهم الذين خلقوا الأشياء؟ فهم لذلك يتكبرون ، ثم خصص من الأشياء { السماوات والأرض } لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم { لا يوقنون } ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين .
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
قوله تعالى : { أم عندهم خزائن ربك } بمنزلة قوله : أم عندهم الاستغناء عن الله في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله كلها . قال الزهراوي وقيل يريد ب « الخزائن » : العلم ، وهذا قول حسن إذا تأمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته ، و : « المصيطر » المسلط القاهر ، وبذلك فسر ابن عباس وأصله السين ، ولكن كتبه بعض الناس . وقرأه بالصاد مراعاة للطاء ليتناسب النطق . وحكى أبو عبيدة : تسيطرت علي إذا اتخذتني خولاً . والسلم : السبب الذي يصعد به كان ما كان من خشب أو بناء أو حبال . ومنه قول ابن مقبل : [ البسيط ]
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... تبنى له في السماوات السلاليم
وحكى الرماني قال : لا يقال سلم لما يبنى من الأدراج ، وإنما السلم المشبك ، وبيت الشعر يرد عليه ، والمعنى : ألهم { سلم } إلى السماء { يستمعون فيه } أي عليه ومنه ، وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض ، والمعنى : يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك وقوله تعالى : { أم له البنات } الآية ، معناه : أم هم أهل الفضيلة علينا فيلزم لذلك انتخاؤهم وتكبرهم ، ثم قال تعالى : { أم تسألهم } يا محمد على الإيمان بالله وشرعه أجرة يثقلهم غرمها فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوجب غرامتهم ثم قال تعالى : { أم عندهم } علم { الغيب } فهم يبينون ذلك للناس سنناً وشرعاً يكتبونه وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل المعنى : فهم يعلمون متى يموت محمد الذي يتربصون به ، و : { يكتبون } بمعنى يحكمون ، وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به . ثم قال تعالى : { أم يريدون كيداً } بك وبالشرع ، ثم جزم الخبر بأنهم { هم المكيدون } ، أي المغلوبون ، فسمى غلبتهم { كيداً } إذ كانت عقوبة الكيد . ثم قال تعالى : { أم لهم إله غير الله } يعصمهم ويمنعهم منهم ويدفع في صدر إهلاكهم . ثم نزه تعالى نفسه { عما يشركون } به من الأصنام والأوثان ، وهذه الأشياء التي وقفهم تعالى عليها حصرت جميع المعاني التي توجب الانتخاء والتكبر والبعد من الائتمار ، فوقفهم تعالى عليها أي ليست لهم ولا بقي شيء يوجب ذلك إلا أنهم قوم طاغون . وهذه صفة فيها تكسبهم وإيثارهم فيتعلق بذلك عقابهم . ثم وصفهم تعالى بأنهم على الغاية من العتو والتمسك بالأقوال الباطلة في قوله : { وإن يروا كسفاً } الآية ، وذلك أن قريشاً كان في جملة ما اقترحت به أن تنزل من السماء عليها كسف وهي القطع ، واحدها كسفة ، وتجمع أيضاً على كسف كثمرة وتمر ، قال الرماني : هي التي تكون بقدر ما يكسف ضوء الشمس . فأخبر الله عنهم في هذه الآية أنهم لو رأوا كسفاً { ساقطاً } حسب اقتراحهم لبلغ بهم العتو والجهل والبعد عن الحق أن يغالطوا أنفسهم وغيرهم ويقولوا هذا { سحاب مركوم } . أي كثيف قد تراكم بعضه فوق بعض ، ولهذه الآية نظائر في آيات أخر .
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قوله : { فذرهم } وما جرى مجراه من الموادعة منسوخ بآية السيف .
وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو بخلاف عنه « يلقوا » ، والجمهور على « يلاقوا » .
واختلف الناس في اليوم الذي توعدوا به ، فقال بعض المتأولين : هو موتهم واحداً واحداً وهذا على تجوز ، والصعق : التعذب في الجملة وإن كان الاستعمال قد كثر فيه فيما يصيب الإنسان من الصيحة المفرطة ونحوه . ويحتمل أن يكون اليوم الذي توعدوا به يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، وقال الجمهور : التوعد بيوم القيامة ، لأن فيه صعقة تعم جميع الخلائق ، لكن لا محالة أن بين صعقة المؤمن وصعقة الكافر فرقاً .
وقرأ جمهور القراء : « يصعِقون » من صعق الرجل بكسر العين . وقرأ أبو عبد الرحمن : « يَصعِقون » بفتح الياء وكسر العين . وقرأ عاصم وابن عامر وأهل مكة في قول شبل : « يُصعقون » بضم الياء ، وذلك من أصعق الرجل غيره . وحكى الأخفش : صُعِق الرجل بضم الصاد وكسر العين .
قال أبو علي : فجائز أن يكون منه فهو مثل يضربون ، قال أبو حاتم : وفتح أهل مكة الياء في قول إسماعيل . و : { يغني } يكون منه غناء ودفاع .
ثم أخبر تعالى بأنهم لهم دون هذا اليوم ، أي قبله عذاب ، واختلف الناس في تعيينه ، فقال ابن عباس وغيره : هو بدر والفتح ونحوه . وقال مجاهد : هو الجوع الذي أصاب قريشاً . وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر ، ونزع ابن عباس وجود عذاب القبر بهذه الآية . وقال ابن زيد : هو مصائب الدنيا في الأجسام وفي الأحبة وفي الأموال ، هي للمؤمنين رحمة وللكافرين عذاب ، وفي قراءة ابن مسعود : دون ذلك قريباً { ولكن } { لا يعلمون } . ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكم الله والمضي على نذارته ووعده بقوله : { فإنك بأعيننا } ، ومعناه بإدراكنا وأعين حفظنا وحيطتنا كما تقول : فلان يرعاه الملك بعين ، وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه ، فإنها تفسح مضايق الدنيا . وقرأ أبو السمال : « بأعينّا » بنون واحدة مشددة .
واختلف الناس في قوله : { وسبح بحمد ربك } فقال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، أن يقول في كل قيام له سبحان الله وبحمده . وقال عطاء : المعنى : حين تقوم من كل مجلس . وقال ابن زيد : التسبيح هنا هو صلاة النوافل . وقال الضحاك وابن زيد : هذه إشارات إلى الصلاة المفروضة؛ ف { حين تقوم } : الظهر والعصر ، أي { حين تقوم } من نوم القائلة . { ومن الليل } المغرب والعشاء . { وإدبار النجوم } الصحب . ومن قال هي النوافل جعل { إدبار النجوم } : ركعتي الفجر ، وعلى هذا القول جماعة كثيرة ، منهم عمر وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن رضي الله عنهم . وقد روي مرفوعاً ومن جعله التسبيح المعروف ، جعل قوله : { حين تقوم } مثالاً ، أي حين تقوم وحين تقعد وفي كل تصرفك . وحكى منذر عن الضحاك أن المعنى : { حين تقوم } في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام فقل . « سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدك » ، الحديث .
وقرأ سالم بن أبي الجعد ويعقوب : « وأدبار » بفتح الهمزة بمعنى : وأعقاب ، ومنه قول الشاعر [ قيس بن الملوح ] : [ الطويل ]
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
وقرأ جمهور الناس : « وإدبار » بكسر الهمزة .
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفاً له وتنبيهاً منه ليكون معتبراً فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى . وقال الزهري ، المعنى : ورب النجم ، وفي هذا قلق مع لفظ الآية . واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء ، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت ، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً أي أقداراً مقدرة في أوقات ما ، ويجيء { هوى } على هذا التأويل بمعنى : نزل ، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك ، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما : { النجم } هنا اسم جنس ، أرادوا النجوم إذا هوت ، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى : { هوى } فقال جمهور المفسرين : { هوى } إلى الغروب ، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب ، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي { هوى } عند الإنكدار في القيامة فهي بمعنى . قوله : { وإذا الكواكب انتثرت } [ الانفطار : 2 ] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية وهي رجوم الشياطين ، وهذا القول تسعده اللغة ، والتأويلات في { هوى } محتملة ، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي :
فتاقت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
يصف إهالة صافية ، والمستحيرة : القدر التي يطبخ فيها ، قاله الزجاج . وقال الرماني وغيره : هي شحمة صافية حين ذابت ، وقال مجاهد وسفيان : { النجم } في قسم الآية الثريا ، وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب [ مجزوء الرمل ]
طلع النجم عشاء ... فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غدية ... فابتغى الراعي شكية
و { هوى } على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار ، و { هوى } في اللغة معناه : خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
هوى ابني شفا جبل ... فزلّتْ رجله ويده
وقول الشاعر : [ الطويل ]
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لك النبل تهوي ليس فيها نصالها
وقول زهير :
هَوِي الدلو أسلمها الرشاء ... ومنه قولهم للجراد : الهاوي ، ومنه هوى العقاب .
والقسم واقع على قوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } والضلال أبداً يكون من غير قصد من الإنسان إليه . والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده ، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين ، و { غوى } : الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج ، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها ، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالاً بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها .
وقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أنه ليس يستكلم عن هواه ، أي بهواه وشهوته . وقال بعض العلماء : المعنى : وما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة ، ونسب النطق إليه من حيث تفهم عنه الأمور كما قال : { هذا كتابنا ينطق } [ الجاثية : 29 ] وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه .
وقوله : { إن هو إلا وحي يوحى } يراد به القرآن بإجماع ، والوحي : إلقاء المعنى في خفاء ، وهذه عبارة تعم الملك والإلهام والإشارة وكل ما يحفظ من معاني الوحي .
والضمير في قوله : { علمه } يحتمل أن يكون للقرآن ، والأظهر أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم . وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس : هو جبريل عليه السلام ، أي علم محمداً القرآن . وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى . و { القوى } جمع قوة ، وهذا في جبريل مكتمن ، ويؤيده قوله تعالى : { ذي قوة عند ذي العرش مكين } [ التكوير : 20 ] . و { ذو مرة } معناه : ذو قوة ، قاله قتادة وابن زيد والربيع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى » . وأصل المرة من مرائر الحبل ، وهي فتله وإحكام عمله ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بكل ممر الفتل شد بيذبل ... وقال قوم ممن قال إن ذا المرة جبريل . معنى : { ذو مرة } ذو هيئة حسنة وقال آخرون : بل معناه ذو جسم طويل حسن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف .
و { استوى } مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال : إنه لمتصف : ب { شديد القوى } ، وكذلك يجيء قوله : { وهو بالأفق الأعلى } صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو « الأفق الأعلى » ، ويجيء المعنى نحو قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ، ومن قال إن المتصف ب { شديد القوى } هو جبريل عليه السلام قال : إن { استوى } مستند إلى جبريل ، واختلفوا بعد ذلك ، فقال الربيع والزجاج : المعنى : { فاستوى } جبريل في الجو ، وهو إذ ذاك ، { بالأفق الأعلى } إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق ، له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان { قاب قوسين } ، وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائه جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى : { فاستوى } جبريل .
وقوله : { وهو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذكره في الضمير في { علمه } . وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون أن يؤكد ، وذلك عند النحاة مستقبح ، وأنشد الفراء على قوله : [ الطويل ]
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
وقد ينعكس هذا الترتيب فيكون « استوى » لمحمد وهو لجبريل عليه السلام ، وأما { الأعلى } فهو عندي لقمة الرأس وما جرى معه .
وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه . واختلف الناس إلى من استند قوله . { ثم دنا فتدلى } فقال الجمهور : استند إلى جبريل عليه السلام ، أي دنا إلى محمد في الأرض عند حراء . وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء ما يقتضي أنه يستند إلى الله تعالى ، ثم اختلف المتأولون ، فقال مجاهد : كان الدنو إلى جبريل . وقال بعضهم : كان إلى محمد . و : { دنا فتدلى } على هذا القول معه حذف مضاف . أي دنا سلطانه ووحيه وقدره لا الانتقال ، وهذه الأوصاف منتفية في حق الله تعالى . والصحيح عندي أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل ، بدليل قوله : { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] فإن ذلك يقضي بنزلة متقدمة ، وما روي قط أن محمداً رأى ربه قبل ليلة الإسراء ، أما أن الرؤية بالقلب لا تمنع بحال و { دنا } أعم من : « تدلى » ، فبين تعالى بقوله : { فتدلى } هيئة الدنو كيف كانت ، و : { قاب } معناه : قدر . وقال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض .
وقرأ محمد بن السميفع اليماني : « فكان قيس قوسين » ، والمعنى قريب من { قاب } ، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام : « لقاب قوس أحدكم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها » وفي حديث آخر : « لقاب قوس أحدكم في الجنة » .
وقوله : { أو أدنى } معناه : على مقتضى نظر البشر ، أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك ، وقال أبو زيد ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين أو أدنى ، وحكى الزهراوي عن ابن عباس أن القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال ، وذكره الثعلبي وأنه من لغة الحجاز .
وقوله تعالى : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، قال ابن عباس المعنى : { فأوحى } الله { إلى عبده } جبريل { ما أوحى } . وفي قوله : { ما أوحى } إبهام على جهة التفخيم والتعظيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلاة ، وقال الحسن المعنى : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام ، وقال ابن زيد المعنى : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل .
وقوله تعالى : { ما كذب الفؤاد ما رأى } قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى ، بل صدقه وتحققه نظراً ، و { كذب } يتعدى ، وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد الله تعالى بفؤاده . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « جعل الله نور بصري في فؤادي ، فنظرت إليه بفؤادي » .
وقال آخرون من المتأولين المعنى : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى ، وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه . بسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة ، وقالت : أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات ، فقال لي : « هو جبريل فيها كلها » . وقال الحسن المعنى : ما رأى من مقدورات الله وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك؟ قال : « هو نور إني أراه » ، وهذا قول الجمهور ، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن . وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام : « ما كذّب » بشد الذال ، وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد ، ومعناه بين على بعض ما قلناه ، وقال كعب الأحبار : إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين ، وقالت عائشة رضي الله عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت : { لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] . وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين : في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الإسراء ، وقد ذكرتها في سورة « سبحان » وهي مشهورة في الكتب الصحاح .
وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وأمال عاصم في رواية أبي بكر : « رأى » . وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح . وأمال حمزة والكسائي جميع ما في السورة ، وأمال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد : « الأعلى » و : « تدلى » .
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله تعالى : { أفتمارونه } خطاب لقريش ، وهو من الصراء والمعنى أتجادلونه في شيء رآه وأبصره ، وهذه قراءة الجمهور وأهل المدينة ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وحمزة والكسائي : « أفتَمرونه » بفتح التاء دون ألف بعد الميم ، والمعنى : أفتجدونه؟ وذلك أن قريشاً لما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء مستقصى ، كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر عيرهم وغير ذلك مما هو في حديث الإسراء مستقصى ، ورواها سعيد عن النخعي : « أفتُمرونه » بضم التاء ، قال أبو حاتم : وذلك غلط من سعيد . وقوله : { يرى } مستقبلاً والرؤية قد مضت عبارة تعم جميع ما مضى وتشير غلى ما يمكن أن يقع بعد ، وفي هذا نظر .
واختلف الناس في الضمير في قوله : { ولقد رآه } حسبما قدمناه ، فقال ابن عباس وكعب الأحبار : هو عائد على الله ، وقال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع : هو عائد على جبريل . و : { نزلة } معناه : مرة ، ونصبه علىلمصدر في موضع الحال . و : { سدرة المنتهى } هي شجرة نبق ، قال كعب : هي في السماء السابعة ، وروى ذلك مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن مسعود : في السماء السادسة . وقيل لها : { سدرة المنتهى } لأنها إليها ينتهي علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى . وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : هم المؤمنون حقاً من كل جيل .
وقيل سميت بذلك ، لأن ما نزل من أمر الله فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة العلو ، وما صعد من الأرض فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة السفل . وروي عن النبي عليه السلام أن الأمة من الأمم تستظل بظل الفنن منها ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رفعت لي { سدرة المنتهى } ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة » .
وقوله تعالى : { عندها جنة المأوى } قال الجمهور : أراد أن يعظم مكان السدرة ويشرفه بأن { جنة المأوى } عندها . قال الحسن : وهي الجنة التي وعد بها العالم المؤمن . وقال قتادة وابن عباس بخلاف هي جنة يأوي إليها أرواح الشهداء والمؤمنين ، وليست بالجنة التي وعد بها المؤمنون جنة النعيم ، وهذا يحتاج إلى سند وما أراه يصح عن ابن عباس .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن الزبير بخلاف ، وأنس بن مالك بخلاف ، وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب : « جنة المأوى » بالهاء في جنة ، وهو ضمير محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : ستره وضمه إيواء الله تعالى وجميل صنعه به ، يقال : جنه وأجنه ، وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا : أجن الله من قرأها .
والجمهور قرأ : « جنة » كالآية الأخرى : { فلهم جنات المأوى نزلاً } [ السجدة : 19 ] وحكى الثعلبي أن معنى « جنة المأوى » : ضمه المبيت والليل .
وقوله : { إذ يغشى السدرة ما يغشى } التعامل في : { إذ } ، { رآه } . المعنى : رآه في هذه الحال . و { ما يغشى } معناه من قدرة الله ، وأنواع الصفات التي يخترعها لها ، وذلك منهم على جهة التفخيم والتعظيم ، وقال مجاهد تبدل أغصانها دراً وياقوتاً ونحوه . وقال ابن مسعود ومسروق ومجاهد : ذلك جراد من ذهب كان يغشاها . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيتها ثم حال دونها فراش الذهب » . وقال الربيع وأبو هريرة : كان تغشاها الملاكة كما تغشى الطير الشجر ، وقيل غير هذا مما هو تكلف في الآية ، لأن الله تعالى أبهم ذلك وهم يريدون شرحه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ » وقوله تعالى : { ما زاغ الصبر } قال ابن عباس معناه : ما جال هكذا ولا هكذا . وقوله : { وما طغى } معناه : ولا تجاوز المرئي ، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً ، وهذا تحقيق للأمر ونفي لوجود الريب عنه .
وقوله تعالى : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال جماعة من أهل التأويل معناه : رأى الكبرى من آيات ربه ، والمعنى { من آيات ربه } التي يمكن أن يراها البشر ، ف { الكبرى } على هذا مفعول ب { رأى } . وقال آخرون المعنى : { لقد رأى } بعضاً { من آيات ربه الكبرى } ، ف { الكبرى } على هذا وصف للآيات ، والجمع مما لا يعقل في المؤنث يوصف أبداً على حد وصف الواحدة . وقال ابن عباس وابن مسعود : رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سد الأفق . وقال ابن زيد : رأى جبريل في صورته التي هو بها في السماوات .