كتاب : المحرر الوجيز
المؤلف : أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية
الأندلسي المحاربي
{ فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم } [ الأحقاف : 25 ] في بعض ما روي من شأنهم : أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم فذلك قوله : { أهلكوا بريح صرصر عاتية } [ الحاقة : 6 ] وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى مكة فكانوا بها حتى ماتوا ، فالله علم أي ذلك كان .
وقوله تعالى : { قالوا أجئتنا } الآية ، ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع ، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود ، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم ، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة ، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود ، وقوله : { فاتنا } تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة ، وتمكن قولهم : { تعدنا } لما كان هذا الوعد مصرحاً به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقاً لم يجىء إلا في خبر .
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال « رجس ورجز » بمعنى واحد ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
إذا سنة كانت بنجد محيطة ... فكان عليهم رجسها وعذابها
وقد يأتي الرجس أيضاً بمعنى النتن والقذر ، ويقال في الرجيع رجس وركس ، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات ، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن ، ونحوه في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية : « دعوها فإنها منتنة » وقوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } إنما يريد أنهم ثخاصمونه في أن تسمى آلهة ، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات ، لكنه ورد في القرآن { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم } [ يوسف : 40 ] فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام ، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه .
قال القاضي أبو محمد : ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل ، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون ، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول ، من ذلك قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] وقوله { تبارك اسم ربك } [ الرحمن : 78 ] على أن هذا يتأول ، ومنه قول لبيد : [ الطويل ]
إلى الحوِل ثمَّ اسمُ السلام عليكما ... على تأويلات في البيت ، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان : البرهان وقوله { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } الآية وعيد وتهديد .
والضمير في قوله « أنجيناه » عائد على « هود » أي أخرجه الله سالماً ناجياً مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله ، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا { وقطعنا دابر } استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك ، و « الدابر » الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم : فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله { كذبوا بآياتنا } دال على المعجزة وإن لم تتعين لها .
وقوله تعالى : { وإلى ثمود } الآية ، هو « ثمود » بن غاثن بن أرم بن سام بن نوح أخو جديس بن غاثن ، وقرأ يحيى بن وثاب « وإلى ثمودٍ » بكسر الدال وتنوينه في جميع القرآن ، وصرفه على اسم الحي وترك صرفه على اسم القبيلة ، قاله الزجاج ، وقال الله تعالى : { ألا إن ثموداً كفروا ربهم } فالمعنى : وأرسلنا « إلى ثمود أخاهم » فهو عطف على نوح والأخوة هنا أخوة القرابة ، وقال الزجاج يحتمل أن تكون أخوة الآدمية ، وسمى { أخاهم } لما بعث إليهم وهم قوم عرب و « هود وصالح » عربيان ، وكذلك إسماعيل وشعيب ، كذا قال النقاش ، وفي أمر إسماعيل عليه السلام نظر ، وصالح عليه السلام هو صالح بن عبيد بن عارم بن أرم بن سام بن وح كذا ذكر مكي ، وقال وهب بعثه الله حين راهق الحلم ، ولما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة ، فأقاموا بها ، حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وقوله { بينة } صفة حذف الموصوف وأقيمت مقامه ، قال سيبويه وذلك قبيح في النكرة أن تحذف وتقام صفتها مقامها ، لكن إذا كانت الصفة كثيرة الاستعمال مشتهرة وهي المقصود في الأخبار والأمم زال القبح ، كما تقول جاءني عبد لبني فلان وأنت تريد جاءني رجل عبد لأن عبداً صفة فكذلك قوله هنا { بينة } ، المعنى آية أو حجة أو موعظة « بينة » ، وقال بعض الناس إن « صالحاً » جاء بالناقة من تلقاء نفسه ، وقالت فرقة وهي الجمهور : بل كانت مقترحة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم ، وروي أن بعضهم قال « يا صالح » إن كنت صادقاً فادع ربك يخرج لنا من هذه الهضبة وفي بعض الروايات من هذه الصخرة لصخرة بالحجر يقال لها الكاثبة ناقة عشراء قال فدعا الله فتمخضت تلك الهضبة وتنفضت وانشقت عن ناقة عظيمة ، وروي : أنها كانت حاملاً فولدت سقبها المشهور ، وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة ، وروي : أن جملاً من جمال { ثمود } ضربها فولدت فصيلها المشهور ، وقيل { ناقة الله } تشريفاً لها وتخصيصاً ، وهي إضافة خلق إلى خالق ، وقال الزجاج : وقيل إنها ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شرباً يوماً ولهم شرب يوم ، وكانت الآية في شربها وحلبها .
قال القاضي أبو محمد : وحكى النقاش عن الحسن أنه قال : هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب والذي عليه الناس أقوى وأصح من هذا ، قال المفسرون : وكانت حلفاً عظيماً تأتي إلى الماء بين جبلين فيزحمانها من العظم وقاسمت { ثمود } في الماء يوماً بيوم فكانت ترد يومها فتستوفي ماء بئر همشريا ويحلبونها وما شاؤوا من لبن ثم تمكث يوماً وترد بعد ذلك غياً ، فاستمر ذلك ما شاء الله حتى أماتها { ثمود } وقالوا ما نصنع باللبن ، الماء أحب إلينا منه ، وكان سبب الملل فيما روي أنها كانت تصيف في بطن الوادي وادي الحجر وتستوفي ظاهره فكانت مواشيهم تفر منها فتصيف في ظهر الوادي للقيظ ، وتستوفي باطنه للزمهرير وفسدت لذلك ، فتمالؤوا على قتل الناقة فقال لهم « صالح » مرة إن هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه ، فولد لعشرة نفر أولاد فذبح التسعة أولادهم ، وبقي العاشر وهو سالف أبو قدار ، فنشأ قدار أحمر أزرق فكان التسعة إذا رأوه قالوا لو عاش بنونا كانوا مثل هذا ، فاحفظهم إن قتلوا أولادهم بكلام صالح .
فأجمعوا على قتله ، فخرجوا وكمنوا في غار ليبيتوه منه وتقاسموا لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله ، فسقط الغار عليهم فماتوا فهم الرهط التسعة الذين ذكر الله تعالى في كتابه هم قدار بن سالف ، ومصرع بن مهرج ضما إلى أنفسهما سبعة نفر وعزموا على عقر الناقة ، وروي أن السبب في ذلك أن امرأتين من { ثمود } من أعداء « صالح » جعلتا لقدار ومصرع أنفسهما وأموالهما على أن يعقرا الناقة وكانتا من أهل الجمال ، وقيل إن قداراً شرب الخمر مع قوم فطلبوا ماء يمزجون به الخمر فلم يجدوه لشرب الناقة ، فعزموا على عقرها حينئذ فخرجوا وجلسوا على طريقها وكمن لها قدار خلف صخرة ، فلما دنت منه رماها بالحربة ثم سقطت فنحرها ، ثم اتبعوا الفصيل فهرب منهم حتى علا ربوة ورغا ثلاث مرات واستغاث فلحقوه وعقروه ، وفي بعض الروايات أنهم وجدوا الفصيل على رابية من الأرض فأرادوه فارتفعت به حتى لحقت به في السماء فلم يقدروا عليه فرغا الفصيل مستغيثاً بالله تعالى فأوحى الله إلى « صالح » أن مرهم فليتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام ، وحكى النقاش عن الحسن أنه قال إن الله تعالى أنطق الفصيل فنادى أين أمي؟ فقال لهم « صالح » إن العذاب واقع بكم في الرابع من عقر الناقة ، وروي : أنه عقرت يوم الأربعاء وقال لهم « صالح » تحمر وجوهم غداً وتصفر في الثاني وتسود في الثالث وينزل العذاب في الرابع يوم الأحد ، فلما ظهرت العلامة التي قال لهم أيقنوا واستعدوا ولطخوا أبدانهم بالمن ، وحفروا القبور وتحنطوا فأخذتهم الصيحة وخرج صالح ومن معه حتى نزل رملة فلسطين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القصص اقتضبته من كثير أورده الطبري رحمه الله رغبة الإيجاز ، وقال أبو موسى الأشعري : أتيت بلاد { ثمود } فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً .
قال القاضي أبو محمد : وبلاد { ثمود } هي بين الشام والمدينة ، وهي التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في غزوة تبوك فقال لا تدخلوا مساكين الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم اعتجر بعمامته وأسرع السير صلى الله عليه وسلم وروي أن المسافة التي أهلكت الصيحة أهلها هي ثمانية عشر ميلاً ، وهي بلاد الحجر ومراتعها الجناب وحسمي إلى وادي القرى وما حوله ، وقيل في قدار إنه ولد زنا من رجل يقال له ظيبان وولد على فراش سالف فنسب إليه ذكره قتادة وغيره ، وذكر الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال أتعرفون ما هذا قالوا : لا ، قال هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من { ثمود } فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلم فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الخبر يريد ما في السير من أن أبا رغال هو دليل الفيل وحبيسه إلى مكة والله أعلم .
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
{ بوأكم } معناه مكنكم ، وهي مستعملة في المكان وظروفه ، تقول تبوأ فلان منزلاً حسناً ، ومنه قوله تعالى { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } [ آل عمران : 121 ] وقال الأعشى : [ الطويل ]
فما بَّوأ الرحمان بيتك منزلاً ... بشرقيّ أجيادِ الصَّفا والمحرمِ
و « القصور » : جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود وقصرت عن الناس قصراً تاماً ، و « النحت » النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « تنحَتون » بفتح الحاء ، وقرأ جمهور الناس : بكسرها وبالتاء من فوق ، وقرأ ابن مصرف : بالياء من أسفل وكسر الحاء ، وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء ، وكانوا « ينحِتون » الجبال لطول أعمارهم ، و { تعثوا } معناه تفسدوا يقال : عثا يعثي وعثا يعثو وعثى يعثى كنسى ينسى وعليها لفظ الآية ، وقرأ الأعمش « تِعثوا » بكسر التاء و { مفسدين } : حال .
وتقدم القول في { الملأ } ، وقرأ ابن عامر وحده في هذا الموضع « وقال الملأ » بواو عطف وهي محذوفة عند الجميع ، و { الذين استكبروا } هم الأشراف والعظماء الكفرة ، و { استكبروا } يحتمل أن يكون معناه طلبوا هيئة لنفوسهم من الكبر ، أو يكون بمعنى كبروا كبرهم المال والجاه وأعظمهم فيكون على هذا كبر و « استكبر » بمعنى كعجب واستعجب ، والأول هو باب استفعل كاستوقد واسترفد ، والذين استضعفوا هم العامة والأغفال في الدنيا وهم أتباع الرسل ، وقولهم { أتعلمون } استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف ، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله فحملت الأنفة الإشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم واستمروا على كفرهم .
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قوله تعالى : { فعقروا } يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم وإصفاق وكذلك : روي أن قداراً لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال والنساء والصبيان ، فلما أجمعوا تعاطى فعقر ، { وعتوا } معناه خشوا وصلبوا ولم يذعنوا للأمر والشرع وصمموا على تكذيبه واستعجلوا النقمة بقولهم { ائتنا بما تعدنا } وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب ، قال أبو حاتم قرأ عيسى وعاصم أُيتنا بهمز وإشباع ضم ، وقرأ تخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمر والأعمش .
و { الرجفة } ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان وهو أن يتزعزع ويتحرك ويضطرب ويرتعد . ومنه قول خديجة فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، ومنه قول الأخطل : [ البسيط ] :
أما تريني حناني الشيب من كبر ... كالنسر أرجف والإنسان ممدود
ومنه « إرجاف » النفوس لكريه الأخبار أي تحريكها ، وروي أن صيحة ثمود كان فيها من صوت كل شيء هائل الصوت ، وكانت مفرطة شقت قلوبهم فجثوا على صدورهم والجاثم اللاطىء بالأرض على صدره مع قبض ساقيه كما يرقد الأرنب والطير ، فإن جثومها على وجهها ، ومنه قول جرير : [ الوافرُ ] .
عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدأ الجثوم
وقال بعض المفسرين معناه حمماً محترقين كالرماد الجاثم .
قال القاضي أبو محمد : وحيث وجد الرماد الجاثم في شعر فإنما هو مستعار لهيئة الرماد قبل هموده وتفرقه ، وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة .
وأخبر الله عز وجل بفعل « صالح » في توليه عنهم وقت « عقرهم » الناقة وقولهم { ائتنا بما تعدنا } وذلك قبل نزول العذاب وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم ، وأما لفظ الآية فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى على جهة التفجع عليهم وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر ، قال الطبري : وقيل لم تهلك أمة ونبيها معها ، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ، ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم . وقوله : { لا تحبون الناصحين } عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي ، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح ، ولذلك تقول العرب أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
« لوط » عليه السلام بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم وروي أنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، ونصبه إما { أرسلنا } المتقدم في الأنبياء وإما بفعل مضمر تقديره واذكر { لوطَا } واستفهامه لهم هو على جهة التوقيف والتوبيخ والتشنيع ، و { الفاحشة } هنا إتيان الرجال في الأدبار ، وروي أنه لم تكن هذه المعصية في أمم قبلهم .
قال القاضي أبو محمد : وإن كان لفظ الآية يقتضي هذا فقد كانت الآية تحتمل أن يراد بها ما سبقكم أحد إلى لزومها وتشهيرها وروي أنهم إن كانوا يأتي بعضهم بعضاً ، وروي أنهم إنما كانوا « يأتون » الغرباء قاله الحسن البصري ، قال عمرو بن دينار ما زنا ذكر على ذكر قبل قوم « لوط » ، وحكى النقاش : أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه ، وقال بعض العلماء عامل اللواط كالزاني ، وقال مالك رحمه الله وغيره : يرجم أحصن أو لم يحصن ، وحرق أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلاً يسمى الفجأة حين عمل عمل قوم « لوط » .
وقرأ نافع والكسائي وحفص عن عاصم « أنكم » على الخبر كأنه فسر { الفاحشة } وقرأ ابن كثير أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة : « أإنكم » باستفهام آخر ، وهذا لأن الأول استفهام عن أمر مجمل والثاني عن مفسر ، إلا أن حمزة وعاصماً قرءا بهمزتين ، ولم يهمز أبو عمر وابن كثير إلا واحدة و { شهوة } : نصب على المصدر من قولك شهيت الشيء شهاه ، والمعنى تدعون الغرض المقصود بالوطء وهو ابتغاء ما كتب الله من الوالد وتنفردون بالشهوة فقط ، وقوله : { بل أنتم } إضراب عن الإخبار عنهم أو تقريرهم على المعصية وترك لذلك إلى الحكم عليهم بأنهم قوم قد تجاوزوا الحد وارتكبوا الحظر ، والإسراف الزيادة المفسدة .
وقرأ الجمهور « جوابَ » بالنصب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « جوابُ » بالرفع ، ولم تكن مراجعة قومه باحتجاج منهم ولا بمدافعة عقلية وإنما كانت بكفر وصرامة وخذلان بحت في قولهم { أخرجوهم } وتعليلهم الإخراج بتطهير المخرجين ، والضمير عائد على « لوط » وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم ، وروي أنه لم يكن معه غير ابنتيه وعلى هذا عني في الضمير هو وابنتاه ، و { يتطهرون } معناه يتنزهون عن حالنا وعادتنا ، قال مجاهد معناه { يتطهرون } عن أدبار الرجال والنساء ، قال قتادة : عابوهم بغير عيب وذموهم بغير ذم ، والخلاف في أهله حسبما تقدم .
واستثنى الله امرأة « لوط » عليه السلام من الناجين وأخبر أنها هلكت ، والغابر الباقي هذا المشهور في اللغة ، ومنه غير الحيض كما قال أبو كبير الهذلي : [ الكامل ]
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد من ضعة وداء مغيل
وغبر اللبن في الضرع بقيته ، فقال بعض المفسرين : { كانت من الغابرين } في العذاب والعقاب أي مع الباقين ممن لم ينج ، وقال أبو عبيدة معمر : ذكرها الله بأنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة إلى أن هلكت مع قومها .
قال القاضي أبو محمد : فكأن قوله : { إلا امرأته } اكتفى به في أنها لم تنج ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة ، والأول أظهر ، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي ، وكذلك حكى أهل اللغة غبر بمعنى بقي وبمعنى مضى ، وأما قوله الأعشى : [ السريع ]
عض بما أبقى المواسي له ... من أمه في الزمن الغابر
فالظاهر أنه أراد الماضي وذلك بالنسبة إلأى وقت الهجاء ، ويحتمل أن يريد في الزمن الباقي وذلك بالنسبة إلى الحين هو غابر بعد الإبقاء ، ويحتمل أن يعلق في الزمن بعض فيكون الباقي على الإطلاق والأول أظهر .
وقوله تعالى : { وأمطرنا عليهم } الآية ، نص على إمطار وتظاهرت الآيات في غير هذه السورة أنه بحجارة ، وروي أن الله عز وجل بعث جبريل فاقتلعها بجناحة وهي ست مدن ، وقيل خمس ، وقيل أربع ، فرفعها حتى سمع أهل السماء نهاق الحمير وصراخ الديكة ثم عكسها ورد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض . وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجاً عن البقع المرفوعة ، وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجة : واقوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قيل في { مدين } إنه اسم بلد وقطر ، وقيل اسم قبيلة ، وقيل هم من ولد « مدين » بن إبراهيم الخليل ، وروي أن لوط عليه السلام هو جد شعيب لأمه ، وقال مكي كان زوج بنت لوط ، ومن رأى { مدين } اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي ، ومن رآه اسماً للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف ، وقوله : { أخاهم } منصوب بقوله { أرسلنا } [ الأعراف : 59 ] في أول القصص ، وهذا يؤيد أن { لوطاً } [ الأعراف : 80 ] به انتصب ، وأن اللفظ مستمر ، وهذه الأخوة في القرابة ، وقد تقدم القول في { غيره } وغيره ، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : « قد جاءتكم آية من ربكم » مكان { بينة } وقوله : { فأوفوا الكيل } أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء ، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه و { تبخسوا } معناه تظلموا . ومنه قولهم : تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة ، و { أشياءهم } يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن ، وقوله : { ولا تفسدوا } لفظ عام دقيق الفساد وجليله ، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد ، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح ، وقوله : { ذلك خير لكم } أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان .
وقوله : { ولا تقعدوا بكل صراط } الآية ، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، والصراط : الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل : خسهم ونقصهم الكيل والوزن ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ، وهو نهي عن السلب وقطع الطريق ، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد هذين القولين ويشبههما ، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضاً ، قوله : { ولا تقعدوا } نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب ، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول ، وقوله تعالى : { وتصدون عن سبيل الله من آمن } الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى و { سبيل الله } المفضية إلى رحمته ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب ، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر « السبيل » وتقدم القول في مثل قوله : { وتبغونها عوجاً } في صدر السورة ، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام ، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد ، وقيل : أغناهم بعد فقر ، فالمعنى على هذا : إذ كنتم قليلاً قدركم ، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة .
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
المعنى : وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم عليَّ وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم ، وفي قوله : { فاصبروا } قوة التهديد والوعيد ، هذا ظاهر الكلام وأن المخاطبة بجميع الآية للكفار ، وحكى منذر بن سعيد عن ابن عباس أن الخطاب بقوله : { فاصبروا } للمؤمنين على معنى الوعد لهم ، وقاله مقاتل بن حيان ، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان المعنى « فاصبروا » يا معشر الكفار .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول الجماعة .
وتقدم القول في معنى { الملأ } ومعنى الاستكبار ، وقولهم : { لنخرجنك يا شعيب } تهديد بالنفي ، والقرية المدينة الجامعة للناس لأنها تقرت أي اجتمعت ، وقولهم أو { لتعودون في ملتنا } معناه أو لتصيرن ، وعاد : تجيء في كلام العرب على وجهين . أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك ، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف ، ومنه قول الشاعر : [ السريع ]
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة
ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
ألا ليت أيام الشباب جديدُ ... وعصراً تولّى يا بثين يعودُ
ومنه قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا } [ الأنعام : 28 ] ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إليّ فقد عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
والوجه الثاني أن تكون بمعنى صار وعاملة عملها ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة . ومن هذه قول الشاعر : [ البسيط ]
تلك المكارم لاقعبان من لبن ... شيباً بماء فعادوا بعد أبوالا
ومنه قول الآخر : [ الرجز ]
وعاد رأسي كالثغامة ... ومنه قوله تعالى : { حتى عاد كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] على أن هذه محتملة ، فقوله في الآية أو { لتعودن } و { شعيب } عليه السلام لم يكن قط كافراً يقتضي أنها بمعنى صار ، وأما في جهة المؤمنين بعد كفرهم فيترتب المعنى الآخر ويخرج عنه « شعيب » إلا أن يريدوا عودته إلى حال سكوته قبل أن يبعث ، وقوله { أو لو كنا كارهين } توقيف منه لهم على شنعة المعصية وطلب أن يقروا بألسنتهم بإكراه المؤمنين بالله على الإخراج ظلماً وغشماً .
والظاهر في قوله : { قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم } أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيماً ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر ، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء ، مثل قول الشاعر : بقيت وفري .
وكما تقول « افتريت على الله » إن كلمت فلاناً ، و { افترينا } معناه شققنا بالقول واختلفنا . ومنه قول عائشة : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى به فقد أعظم على الله الفرية ، ونجاة « شعيب » من ملتهم كانت منذ أول أمره ، ونجاه من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر ، وقوله : { إلا أن يشاء الله } يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد .
قال القاضي أبو محمد : والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة ، وهذا أظهر ما يحتمل القول ، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات ، فلما قال لهم : إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعاضر ملحد بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا بمشيئة من الله تعالى فلا يترتب هذا التأويل إلا عندهم ، وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه ، وقيل : إن هذا الاستثناء إنما هو تستر وتأدُّب .
قال القاضي أبو محمد : ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاسثناء ولو كان في الكلام إن شاء الله قوى هذا التأويل ، وقوله : { وسع ربنا كل شيء علماً } معناه : وسع علم ربنا كل شيء كما تقول : تصبب زيد عرقاً أي تصبب عرق زيد ، و { وسع } بمعنى أحاط ، وقوله { افتح } معناه أحكم والفاتح الفتاح القاضي بلغة حمير ، وقيل بلغة مراد ، وقال بعضهم : [ الوافر ]
ألا أبلغْ بني عصم رسولاً ... فإني عن فتاحتكم غنيُّ
وقال الحسن بن أبي الحسن : إن كل نبي أراد الله هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم ، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك ، وقوله { على الله توكلنا } استسلام لله وتمسك بلفظه وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله : { إلا أن يشاء الله } .
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
هذه المقالة قالها الملأ لتبّاعهم وسائر الناس الذي يقلدونهم ، و { الرجفة } الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت ب { الرجفة } وفرقة بالظلة ويحتمل أن الظلة و { الرجفة } كانتا في حين واحد ، وروي أن الله تعالى بعث { شعيباً } إلى أهل مدين وإلى أصحاب ألأيكة ، وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة ، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم باباً من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا ، عليكم الظلة ، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم ، قال الطبري : فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رأها : [ البسيط ]
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا ... عنكم سميراً وعمران بن شداد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت ... تدعو بصوت على ضمّانه الواد
وإنه لن تروا فيها ضحاء غد ... إلا الرقيم يمشّي بين انجاد
وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر « شعيباً » قال : ذلك خطيب الأنبياء لقوله لقومه : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } [ هود : 88 ] .
قال القاضي أبو محمد : يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه . وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال : أبو جاد وهو زوحطي وكلمن وصعفض وقرست أسماء ملوك مدين ، وكان الملك يوم الظلة كلمن ، فقالت أخته ترثيه : [ مجزوء الرمل ]
كلمن قد هد ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم اتساه ... حتف نار وسط ظله
جعلت نار عليهم ... دارهم كالمضمحله
قال القاضي أبو محمد : وهذه حكاية مظنون بها والله علم ، وقد تقدم معنى { جاثمين } .
وقوله : { كأن لم يغنوا فيها } لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم ، ونحو هذا قول الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... و { يغنوا } معناه يقيموا ويسكنوا .
قال القاضي أبو محمد : وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضٍ ، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
وقد نغنى بها ونرى عصوراً ... بها يقتدننا الخرد الخذالا
ومنه قول الآخر : [ الرمل ]
ولقد يغني بها جيرانك المس ... تمسكون منكم بعهد ووصال
أنشده الطبري ، ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
ألا حيّ من أجلِ الحبيبِ المغانيا ... ومنه قول مهلهل : [ الخفيف ]
غنيت دارنا تهامة في الدهر ... وفيها بنو معد حَلُّوا
ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء ، وأما قوله : كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة ، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنه بهذا المعنى وأما قول الشاعر : [ الطويل ]
غنينا زماناً بالتصعلك والغنا ... وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهرُ
فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنه بمكان .
وقوله : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } إلى آخر الآية كلام يقتضي أن { شعيباً } عليه السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزناً وإشفاقاً إذ كان أمله فيهم غير ذلك ، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم ، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح ، والمعنى فأعرضوا وكذبوا ، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه { فكيف آسى } على هؤلاء الكفرة ، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر ، وقال مكي : وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها ، و { آسى } : أحزن ، وقرأ بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش : « إيسى » بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن ، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله ، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري ، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث ، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة ، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه ، وأما قولهم من جل ييجل فلعله من غير هذا الباب .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
هذه الآية خبر من الله عز وجل أنه ما بعث نبياً في مدينة وهي « القرية » إلا أخذ أهلها المكذبين له { بالباساء } وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن ، { الضراء } وهي المصاب في البدن كالأمراض ونحوها ، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة ، وحكي عن السدي ما يقتضي أن اللفظتين ينقادون إلى الإيمان ، وهكذا قولهم الحمى أضرعتني لك .
ثم قال تعالى أنه بعد إنفاذ الحكم في الأولين بدل للخلق مكان السيئة وهي « الباساء » و « الضراء » الحسنة وهي « السراء » والنعمة ، وهذا بحسب ما عند الناس ، وإلا فقد يجيء الأمر كما قال الشاعر : [ البسيط ]
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يصح مع النظر إلى الدار الآخرة والجزاء فيها ، والنعمة المطلقة هي التي لا عقوبة فيها : والبلوى المطلقة هي التي لا ثواب عليها ، و { حتى عفواً } معناه : حتى كثروا يقال عفا النبات والريش « يعفو » إذا كثر نباته ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ الوافر ]
ولكنها يعضُّ السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم « أحفوا الشوارب واعفوا اللحى » وعفا أيضاً في اللغة بمعنى درس وبلى فقال بعض الناس هي من الألفاظ التي تسعتمل للضدين ، أما قول زهير :
على آثار من ذهب العفاء ... فيحتمل ثلاثة معانٍ الدعاء بالدرس ، والإخبار به ، والدعاء بنمو والنبات ، كما يقال جادته الديم وسقته العهاد ولما بدل الله حالهم بالخير لطفاً بهم فنموا رأى الخلق بعد ذلك للكفر الذي هم فيه أن إصابة { الضراء والسراء } إنما هي بالاتفاق ، وليست بقصد كما يخبر النبي ، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم فجعلوه مثالاً ، أي قد أصاب هذا آباءنا فلا ينبغي لنا أن ننكره ، فأخبر الله تعالى أنه أخذ هذه الطوائف التي هذا معتقدها ، وقوله { بغتة } أي فجأة وأخذة أسف وبطشاً للشقاء السابق لهم في قديم علمه ، و { السراء } السرور والحبرة ، { وهم لا يشعرون } معناه وهم مكذبون بالعذاب لا يتحسسون لشيء منه ولا يستشعرونه باستذلال وغيره .
وقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } الآية المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه ، وكل مقدور ، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر ، وبسببه استندت الأفعال إليهم في قوله : { آمنوا واتقوا } وفي { كذبوا } وقرأ الستة من القراء السبعة « لفتحَنا » بخفيف التاء وهي قراءة الناس ، وقرأ ابن عامر وحده وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن : « لفتّحنا » بتشديد التاء ، وفتح البركات إنزالها على الناس ومنه قوله تعالى : { ما يفتح الله للناس من رحمة } [ فاطر : 1 ] ومنه قالت الصوفية : الفتوح والبركات النمو والزيادات ، ومن السماء لجهة المطر والريح والشمس ، ومن الأرض لجهة الإنبات والحفظ لما ينبت ، هذا هو الذي يدركه نظر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم ، وما في علم الله أكثر .
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
هذه الآية تتضمن وعيداً للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية قال : ومن يؤمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك ، وهذا استفهام على جهة التوقيف ، والبأس : العذاب ، و { بياناً } نصب على الظرف أي وقت مبيتهم بالليل ، ويحتمل أن يكون هذا في موضع الحال .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر { أوْ أمن } بسكون الواو وإظهار الهمزتين ، وقرأ ورش عن نافع « أوَامن » بفتح الواو وإلقاء حركة الهمزة الثانية عليها ، وهذه القراءة في معنى الأولى ولكن سهلت ، وقرأ عصام وأبو عمرو وحمزة والكسائي ، « أوَ أمن » بفتح الواو وإظهار الهمزتين ومعنى هذه القراءة : أنه دخل ألف الاستفهام على حرف العطف ، ومعنى القراءة الأولى : أنه عطف با والتي هي لأحد الشيئين ، المعنى : { أفأمنوا } هذه أو هذا كما تقول : أجاء زيد أو عمرو وليست هذه أو التي هي للإضراب عن الأول كما تقول : أنا أقوم أو أجلس وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره ، وقولنا التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين أو قولك : جالس الحسن أو جالس ابن سيرين ، وقوله { يلعبون } يريد في غاية الغفلة والإعراض .
و { مكر الله } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول : ناقة الله وبيت الله ، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار ، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نص في قوله { ومكروا ومكر الله } ، وهذا الموضع أيضاً كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف ، وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] و « أن الله لا يمل حتى تملوا » وغير ذلك .
وقوله { أو لم يهد للذين يرثون الأرض } الآية ، هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف ، و « يهدي » معناه يبين والهدى الصباح وأنشدوا على ذلك :
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة ... يسبحن في الآل غلفاً أو يصلينا
ويحتمل أن يكون المبين الله ويحتمل أن يكون المبين قوله { أن لو نشاء } أي علمهم بذلك وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد : و « يهدي » معناه يتبين ، وهذه أيضاً آية وعيد ، أي ألم يظهر لوارث الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم وكنا نطبع : أي نختم ، ونختم عليها بالشقاوة ، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم وتعديد النعمة عليهم فيما « ورثوا » والوعظ بحال من سلف من المهلكين ، ونطبع عطف على المعاصي إذ المراد به الاستقبال ، ويحتمل أن يكون ونطبع منقطعاً إخباراً عن وقوع الطبع لا أنه متوعد به ويبقى التوعد بالإهلاك الذي هو بعذاب كالصيحة والغرق ونحوه ، وقرأ أبو عمرو : { ونطبع على } بإدغام العين في العين وإشمام الضم ، ذكره أبو حاتم .
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{ تلك } ابتداء ، و { القرى } قال قوم هو نعت والخبر { نقصّ } ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن { القرى } هي خبر الابتداء ، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها ، وهذا كما قيل في { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ] أنه ابتداء وخبر ، وكما قال صلى الله عليه وسلم « أولئك الملأ » ، وكقول أبي الصلت تلك المكارم وهذا كثير ، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة ، والمعنى : نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل ، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر ، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر .
قال القاضي أبو محمد : أشار إلى هذا القول النقاش ، فكأن الضمير في قوله { كانوا } يختص بالآخرين ، والضمير في قوله { كذبوا } يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أني ريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم وقرنه بقوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] وهذه أيضاً صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر ، بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به ، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل ، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق ، وهو قول أبي بن كعب .
وقوله تعالى : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } الآية ، أخبر تعالى أنه لم يجد لأكثرهم ثبوتاً على العهد الذي أخذه على ذرية آدم وقت استخراجهم من ظهره ، قاله أبو العالية عن أبي بن كعب ، ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن أنهم لم يصرفوا عقولهم في الآيات المنصوبة ولا شكروا نعم الله ولا قادتهم معجزات الأنبياء ، لأن هذه الأمور عهد في رقاب العقلاء كالعهود ينبغي أن يوفى بها ، وأيضاً فمن لدن آدم تقرر العهد الذي هو بمعنى الوصية وبه فسر الحسن هذه الآية فيجيء المعنى : وما وجدنا لأكثرهم التزام عهد وقبول وصاة ، ذكره المهدوي ، و { من } في هذه الآية زائدة ، إلا أنها تعطي استغراق جنس العهد ولا تجيء هذه إلا بعد النفي ، و { إن } هي المخففة من الثقيلة عند سيبويه ، واللام في قوله { لفاسقين } للفرق بين { إن } المخففة وغيرها ، و { إن } عند الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا والتقدير عنده وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
الضمير في قوله { من بعدهم } عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم وعلى أممهم ، و « الآيات » في هذه الآية عام في التسع وغيرها ، وقوله { فظلموا بها } المعنى فظلموا أنفسهم فيها وبسببها وظلموا أيضاً مظهرها ، ومتبعي مظهرها وقيل لما نزلت ظلموا منزلة كفروا وجحدوا عديت بالباء كما قال : [ الفرزدق ]
قد قتل الله زياداً عني ... فأنزل قتل منزلة صرف ، ثم حذر الله من عاقبة المفسدين الظالمين وجعلهم مثالاً يتوعد به كفرة عصر النبي صلى الله عليه وسلم .
و { فرعون } اسم كل ملك لمصر في ذلك الزمان فخاطبه موسى بأعظم أسمائه وأحبها إليه إذ كان من الفراعنة كالنمارذة في يونان وقيصر في الروم وكسرى في فارس والنجاشي في الحبشة ، وروي أن موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، وروي أن اسم فرعون موسى عليه السلام الوليد بن مصعب ، وقيل هو فرعون يوسف وأنه عمر نيفاً وأربعمائة سنة .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن يوسف المبعوث الذي أشار إليه موسى في قوله { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } [ غافر : 34 ] هو غير يوسف الصديق فليس يحتاج إلى نظر ، ومن قال إنه يوسف الصديق فيعارضه ما يظهر من قصة يوسف ، وذلك أنه ملك مصر بعد عزيزها ، فكيف يستقيم أن يعيش عزيزها إلى مدة موسى ، فينفصل أن العزيز ليس بفرعون الملك إنما كان حاجباً له .
وقرأ نافع وحده { عليّ } بإضافة « على » إليه ، وقرأ الباقون « على » سكون الياء ، قال الفارسي : معنى هذه القراءة أن « على » وضعت موضع الباء ، كأنه قال حقيق بأن لا أقول على الله الحق كما وضعت الباء موضع « على » في قوله { ولا تقعدوا بكل صراط } [ الأعراف : 86 ] فيتوصل إلى المعنى بهذه ، وبهذه وكما تجيء « على » أيضاً بمعنى عن ، ومنه قول الشاعر في صفة قوسه :
أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وإصبع
قال القاضي أبو محمد : و { حقيق على } هذا معناه جدير وخليق ، وقال الطبري : قال قوم : { حقيق } معناه حريص فلذلك وصلت ب { على } ، وفي هذا القول بعد ، وقال قوم : { حقيق } صفة لرسول تم عندها الكلام ، وعلى خبر مقدم و { أن لا أقول } ابتداء تقدم خبره ، وإعراب { أن } على قراءة من سكن الياء خفض ، وعلى قراءة من فتحها مشددة رفع ، وقال الكسائي في قراءة عبد الله « حقيق بأن لا أقول » ، وقال أبو عمرو في قراءة عبد الله : « حقيق أن أقول » وبه قرأ الأعمش ، وهذه المخاطبة إذا تأملت غاية في التلطف ونهاية في القول اللين الذي أمر عليه السلام به .
وقوله { قد جئتكم ببينة من ربكم } الآية ، البينة هنا إشارة إلى جميع آياته وهي على المعجزة هنا أدل ، وهذا من موسى عرض نبوته ومن فرعون استدعاء خرق العادة الدالة على الصدق .
وظاهر الآية وغيرها أن موسى عليه السلام لم تنبن شريعته إلا على بني إسرائيل فقط ، ولم يدع فرعون وقومه إلا إلى إرسال بني إسرائيل ، وذكره لعله يخشى أو يزكى ويوحد كما يذكر كل كافر ، إذ كل نبي داع إلى التوحيد وإن لم يكن آخذاً به ومقاتلاً عليه ، وأما إن دعاه إلى أن يؤمن ويلتزم جميع الشرع فلم يرد هذا نصاً ، والأمر محتمل ، وبالجملة فيظهر فرق ما بين بني إسرائيل وبين فرعون والقبط ، ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى أبداً ولا عارضهم وكان القبط مثل عبدة البقر وغيرهم وإنما احتاج إلى محاورة فرعون لتملكه على بني إسرائيل .
وقوله تعالى : { فألقى عصاه } الآية ، روي أن موسى عليه السلام قلق به وبمحاورته فرعون فقال لأعوانه خذوه فألقى موسى العصا فصارت ثعباناً وهمت بفرعون فهرب منها ، وقال السدي : إنه أحدث وقال يا موسى كفه عني فكفه ، وقال نحوه سعيد بن جبير .
و « إذا » ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبراً عن جثة ، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان في كل موضع ، ويقال : إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاها في شرفات القصر ، والثعبان الحية الذكر ، وهو أهول وأجرأ ، قاله الضحاك ، وقال قتادة صارت حية أشعر ذكراً ، وقال ابن عباس : غرزت ذنبها في الأرض ورفعت صدرها إلى فرعون ، وقوله { مبين } معناه لا تخييل فيه بل هو بين أنه حقيقة ، وهو من أبان بمعنى بان أو من بان بمعنى سلب عن أجزائه ، وقوله { ونزع يده } ، معناه من جيبه أو كمه حسب الخلاف في ذلك ، وقوله { فإذا هي بيضاء } قال مجاهد كاللبن أو أشد بياضاً ، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تأتلق ، وكان موسى عليه السلام ذا دم أحمر إلى السواد ، ثم كان يرد يده فترجع إلى لون بدنه .
قال القاضي أبو محمد : وهاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما ، وخرق العادة بهما وتحدى الناس إلى الدين بهما ، فإذا جعلنا التحدي الدعاء إلى الدين مطلقاً فبهما تحدى ، وإذا جعلنا التحدي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجرة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأن المعارضة والعجز فيها وقعا .
قال القاضي أبو محمد : ويقال التحدي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة ، فهذا نحو ثالث وعليه يكون تحدي موسى بالآيتين جميعاً لأن الظاهر من أمره أنه عرضهما للنظر معاً وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلها ، وروي عن فرقد السبخي أن فم الحية كان ينفتح أربعين ذراعاً .
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
الساحر كان عندهم في ذلك الزمن أعلى المراتب وأعظم الرجال ، ولكن وصفهم موسى بذلك مع مدافعتهم له عن النبوة ذم عظيم وحط ، وذلك قصدوا إذ لم يمكنهم أكثر ، وقولهم { يريد أن يخرجكم من أرضكم } يعنون بأنه يحكم فيكم بنقل رعيتكم في بني إسرائيل فيفضي ذلك إلى خراب دياركم إذا ذهب الخدمة والعمرة ، وأيضاً فلا محالة أنهم خافوا أن يقاتلهم وجالت ظنونهم كل مجال ، وقال النقاش : كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجاً كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك ، وقوله { فماذا تأمرون } الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم إلى بعض ، وقيل هو من كلام فرعون لهم ، وروى كردم عن نافع « تأمرونِ » بكسر النون ، وكذلك في الشعراء و « في » استفهام و « ذا » بمعنى الذي فهما ابتداء وخبر ، وفي { تأمرون } ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به ويجوز أن تجعل { ماذا } بمنزلة اسم واحد في موضع نصب ب { تأمرون } ولا يضمر فيه على هذا ، قال الطبري : والسحر مأخوذ من سحر المطر الأرض إذا جادها حتى يقلب نباتها ويقلعه من أصوله فهو يسحرها سحراً والأرض مسحورة .
قال القاضي أبو محمد : وإنما سحر المطر الطين إذا أفسده حتى لا يمكن فيه عمل ، والسحر الآخذة التي تأخذ العين حتى ترى الأمر غير ما هو ، وربما سحر الذهن ، ومنه قول ذي الرمة : [ الوافر ]
وساحرة السراب من الموامي ... يرقص في نواشزها الأروم
أراد أنه يخيل نفسه ماء للعيون .
ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة ، وقرأ ابن كثير « أرجئهو » بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء ، وقرأ أبو عمرو « أرجئه » بالهمز ، دون واو بعدها وقرأ نافع وحده في رواية قالون : « أرجهِ » بكسر الهاء ، ويحتمل أن يكون المعنى : أخره فسهل الهمزة ، ويحتمل من الرجا بمعنى أطعمه ورجه قاله المبرد ، وقرأ ورش عن نافع : « أرجهِي » بياء بعد كسرة الهاء ، وقرأ ابن عامر : « أرجئهِ » بكسر الهاء وبهمزة قبلها ، قال الفارسي وهذا غلط وقرأ عاصم والكسائي « أرجهُ » بضم الهاء دون همز ، وروى أبان عن عاصم : « أرجهْ » بسكون الهاء وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها ، ومنه قول الشاعر : [ منظور بن حبة الأسدي ]
أنحى عليًّ الدهرُ رجلاً ويدا ... يقسم لا أصلَحَ إلا أفسدا
فيصلح اليوم ويفسد غداً .
وقال الآخر :
لما رأى أن لا دعة ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقق فاضطجع
وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن اغلبه بالحجة ، و { المدائن } جمع مدينة وزنها فعيلة من مدن أو مفعلة من دان يدين وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز ، و { حاشرين } معناه جامعين ، قال المفسرون : وهم الشرط ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر « بكل ساحر » وقرأ حمزة والكسائي : « بكل سحار » على بناء المبالغة وكذلك في سورة يونس ، وأجمعواعلى « سحار » في سورة الشعراء ، وقال قتادة : معنى الإرجاء الذي أشاروا إليه السجن والحبس .
وقوله تعالى : { وجاء السحرة } الآية ، هنا محذوفات يقتضيها ظاهر الكلام وهي أنه بعث إلى السحرة وأمرهم بالمجيء ، وقال ابن عباس أنه بعث غلماناً فعلموا بالفرما وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حفص « أن لنا لأجرا » على جهة الخبر ، وقرأوا في الشعراء { أن لنا } ممدودة مفتوحة الألف غير عاصم فإنه لا يمدها ، قال أبو علي ويجوز أن تكون على جهة الاستفهام وحذف ألفها ، وقد قيل ذلك في قوله { أن عبدت بني إسرائيل } [ الشعراء : 22 ] ومنه قول الشاعر : [ حضرمي بن عامر ] .
أفرح أن أرزأ الكرام ... وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي الشعراء « آإن » بألف الاستفهام قبل « إن » وقرأت فرقة « أئن » دون مد ، وقرأ أبوعمرو هنا وفي الشعراء « أئن » ، والأجر هنا الاجرة فاقترحوها إن غلبوا فأنعم فرعون لهم بها وزادهم المنزلة والجاه ، ومعناه المقربين مني ، وروي أن السحرة الذين جاءوا إلى فرعون كانوا خمسة عشر ألفاً قاله ابن إسحاق ، وقال ابن جريج كانوا تسعمائة ، وذكر النقاش أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلاً ، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفاً قال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين ألفاً ، وقال السدي مائتي ألف ونيفاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال ليس لها سند يوقف عنده ، وقال كعب الأحبار : اثني عشر ألفاً ، وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل مع كل رجل حبل وعصا ، وقال أبو ثمامة : كانوا سبعة عشر ألفاً .
وقوله تعالى : { قالوا يا موسى إما أن تلقي } الآية ، { أن } في قوله { إما أن } في موضع نصب أي إما أن تفعل الإلقاء ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع أي إما هو الإلقاء ، وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا فعل المدل الواثق بنفسه ، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحج ، لأن بدليتهما تمضي بالنفس ، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه ووثق بالحق فأعطاهم التقدم فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم .
وقوله تعالى : { سحروا أعين الناس } نص في أن لهم فعلاً ما زائداً على ما يحدثونه من التزيق والآثار في العصا وسائر الأجسام التي يصرفون فيها صناعتهم { واسترهبوهم } بمعنى أرهبوهم أي فزعوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس ، ووصف الله سحرهم بالعظم ، ومعنى ذلك من كثرته ، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيراً موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ، فاستهول الناس ذلك واسترهبوهم ، قال الزجاج : قيل إنهم جعلوا فيها الزئبق فكانت لا تستقر .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{ أن } في موضع نصب ب { أوحينا } أي بأن ألق ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وروي أن موسى لما كان يوم الجمع خرج متكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صف له السحرة في عدد عظيم حسبما ذكر ، فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه ، فألقى فإذا هي ثعبان مبين ، فعظم حتى كان كالجبل ، وقيل إنه طال حتى جاز النيل ، وقيل كان الجمع بالإسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة ، وقيل كان الجمع بمصر وإنه طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من الصواب مفرط الإغراق لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وروي أن السحرة لما ألقوا وألقى موسى عصاه جعلوا يرقون وجعلت حبالهم وعصيهم تعظم وجعلت عصى موسى تعظم حتى سدت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد ذلك عصا فعندها آمن السحرة ، وروي أن عصا موسى كانت عصا آدم عليهما السلام وكانت من الجنة ، وقيل كانت من العين الذي في وسط ورق الريحان ، وقيل كانت غصناً من الخبيز أو قيل كانت لها شعبتان وقيل كانت عصا الأنبياء مختزنة عند شعيب فلما استرعى موسى قال له اذهب فخذ عصا فذهب إلى البيت فطارت هذه إلى يده فأمره شعيب بردها وأخذ غيرها ففعل فطارت هي إلى يده فأخبر بذلك شعيباً وتركها له ، وقال ابن عباس : إن ملكاً من الملائكة دفع العصا إلى موسى في طريق مدين ، و { تلقف } معناه تبتلع وتزدرد ، و { ما يأفكون } معناه : ما صوروا فيه إفكهم وكذبهم ، وقرأ جمهور الناس « تلقف » ، وقرأ عاصم في رواية حفص « تلْقَف » بسكون اللام وفتح القاف ، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه « هي تلقف » بتشديد التاء على إدغام التاء من تتلقف ، وهذه القراءة لا تترتب إلا في الوصول ، وأما في الابتداء في الفعل فلا يمكن ، وقرأ سعيد بن جيبر « تلقم » بالميم أي تبتلع كاللقمة ، وروي أن الثعبان استوفى تلك الحبال والعصي أكلاً وأعدمها الله عز وجل ، ومد موسى يده إلى فمه فعاد عصا كما كان ، فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجداً مؤمنين بالله ورسوله .
وقوله تعالى : { فوقع الحق } الآية ، « وقع » معناه نزل ووجد ، و { الحق } يريد به سطوع البرهان وظهور الإعجاز واستمر التحدي إلى الدين على جميع العالم ، و { ما كانوا يعلمون } لفظ يعم سحر السحرة وسعي فرعون وشيعته .
والضمير في قوله { فغلبوا } عائد على « جميعهم » من سحرة وسعي فرعون وشيعته ، وفي قوله { وانقلبوا صاغرين } إن قدرنا انقلاب الجمع قبل إيمان السحرة فهم في الضمير وإن قدرناه بعد إيمانهم فليسوا في الضمير ولا لحقهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم .
وقوله تعالى : { وألقي السحرة ساجدين } الآيات ، لما رأى السحرة من عظيم القدرة وما تيقنوا به نبوة موسى آمنوا بقلوبهم وانضاف إلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله تعالى فخروا سجداً لله تعالى متطارحين وآمنوا نطقاً بألسنتهم ، وتبينهم الرب بذكر موسى وهارون زوال عن ربوبية فرعون وما كان يتوهم فيه الجهال من أنه رب الناس ، وهارون أخو موسى أسن منه بثلاث سنين ، وقول فرعون { قبل أن آذن لكم } دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم مفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط ، وقرأ عاصم في رواية حفص عنه في كل القرآن « آمنتم » على الخبر ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر « آمنتم » بهمزة ومدة على الاستفهام وكذلك في طه والشعراء ، وقرأ حمزة والكسائي في الثلاثة المواضيع « أآمنتم » بهمزتين الثانية ممدودة ، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم ، وقرأ ابن كثير في رواية أبي الأخريط عنه « وآمنتم » وهي على ألف الاستفهام إلا أنه سهلها واواً فأجرى المنفصل مجرى المتصل في قولهم تودة في تؤدة ، وقرأ قنبل عن القواس « وآمنتم » وهي على القراءة بالهمزتين « اآمنتم » إلا أنه سهل ألف الاستفهام واواً وترك ألف أفعلتم على ما هي عليه ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على اسم الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على موسى عليه السلام ، وعنفهم فرعون على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم أن هذا كان على اتفاق منهم ، وروي في ذلك عن ابن عباس وابن مسعود : أن موسى اجتمع مع رئيس السحرة واسمه شمعون فقال له موسى : أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم ، فعلم بذلك فرعون ، فلذلك قال { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } .
ثم قال للسحرة { لأقطعن أيديكم وأرجلكم } الآية ، فرجع فرعون في مقالته هذه إلى الخذلان والغشم وعادة ملوك السوء إذا غولبوا ، وقرأ حميد المكي وابن محصن ومجاهد « لأقْطَعن » بفتح الهمزة والطاء وإسكان القاف ، « ولأصْلُبن » بفتح الهمزة وإسكان الصاد وضم اللام ، وروي بكسرها ، و { من خلاف } معناه يمنى ويسرى .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من هذه الآيات أن فرعون توعد وليس في القرآن نص على أنه أنفذ ذلك وأوقعه ، ولكنه روي أنه صلب بعضهم وقطع ، قال ابن عباس : فرعون أول من صلب وقطع من خلاف ، وقال ابن عباس وغيره فيهم : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ، وأما التوعد فلجميعهم .
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
هذا تسليم من مؤمني السحرة ، واتكال على الله ، وثقة بما عنده .
وقرأ جمهور الناس « تنقِم » بكسر القاف ، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن أبي عبلة والحسن بن أبي الحسن « تنقَم » بفتحها وهم لغتان ، قال أبو حاتم : الوحه في القراءة كسر القاف ، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات : ما نقَموا من بني أمية ، بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا وتؤاخذنا به؟ وقولهم { أفرغ علينا صبراً } معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه ، وهي هنا مستعارة ، وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وحكىلنقاش عن مقاتل أنه قال : مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات .
وقوله ملأ فرعون { أتذر موسى وقومه } مقالة تتضمن إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تغيير ما بهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ، ومعنى { أتذر موسى } : أتترك ، وقرأ جمهور الناس « ويذرَك » بفتح الراء ، ونصبه على معنيين : أحدهما أن يقدر « وأن يذرك » فهي واو الصرف فكأنهم قالوا أتذره ، وأن يذرك أي أتتركه وتركك ، والمعنى الآخر أن يعطف على قوله { ليفسدوا } وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه « ويذرُك » بالرفع عطفاً على قولهم { أتذر } ، وقرأ الأشهب العقيلي « ويذرْك » بإسكان الراء وهذا علىلتحقيق من يذرك ، وقرأ أنس بن مالك « وينذرُك » بالنون ورفع الفعل على معنى توعد منهم أو على معنى إخبار أن الأمر يؤول إلى هذا ، وقرأ أبي بن كعب وعبد الله « في الأرض » وقد تركوك أن يعبدوك « وآلهتك » قال أبو حاتم وقرأ الأعمش « وقد تركك وآلهتك » ، وقرأ السبعة وجمهور من العلماء « وآلهتك » على الجمع .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على ما روي أن فرعون كان في زمنه للناس آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك ، وكان فرعون قد شرع ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى ، فقوله على هذا أنا ربكم الأعلى ، إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات .
وقيل : إن فرعون كان يعبد حجراً كان يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها ، قال الحسن : كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يعبد البقر ، ذكره أبو حاتم وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس بن مالك وجماعة وغيرهم ، { وآلهتك } أي وعبادتك والتذلل لك ، وزعمت هذه الفرقة : أن فرعون لم يبح عبادة شيء سواه وأنه في قوله الأعلى إنما أراد : و « يقتّلون » بالتشديد وخففهما جميعاً نافع وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : « يقتّلون » و « سنقتّل » بالتشديد على المبالغة ، والمعنى سنستمر على ما كنا عليه من تعذيبهم وقطعهم .
وقوله تعالى : { وإنا فوقهم قاهرون } يريد في المنزلة والتمكن من الدنيا ، و { قاهرون } يقتضي تحقير أمرهم أي هم أقل من أن يهتم بهم .
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
لما قال فرعون سنقتل أبناءهم وتوعدهم قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل يثبتهم ويعدهم عند الله { استعينوا بالله واصبروا } وظاهر هذا الكلام كله وعد بغيب فكأن قوته تقتضي أنه من عند الله وليس في اللفظ شيء من ذلك و { الأرض } أرض الدنيا وهو الأظهر ، وقيل المراد هنا أرض الجنة ، وأما في الثانية فأرض الدنيا لا غير ، وقرأت فرقة « يورَثها » بفتح الراء ، وقرأ السبعة « يوْرِثها » ساكنة الواو خفيفة الراء مكسورة ، وروى حفص عن عاصم وهي قراءة الحسن « يورّثها » بتشديد الراء على المبالغة ، والصبر في هذه الآية يعم الانتظار الذي هو عبادة والصبر في المناجزات .
وقولهم : { من قبل أن تأتينا } يعنون به الذبح الذي كان فالمدة التي كان فرعون يتخوف فيها أن يولد المولود الذي يخرب ملكه ، والذي من بعد مجئيه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم ، وقال السدي وابن عباس رضي الله عنه : إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة حين اتبعهم فرعون واضطرهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحراً أمامهم وعدواً كثيفاً وراءهم فقالوا هذه المقالة .
قال القاضي أبو محمد : وبالجملة هو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدين واستعطاف موسى لهم بقوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدل على أنه يستدعي نفوساً نافرة ، ويقوي هذا الظن في بني إسرائيل سلوكهم هذه السبيل في غير قصة ، وحكى النقاش أنهم قالوا ذلك بمصر حين كلفهم فرعون من العمل ما لا يطيقون ، وروي أنه كان يكلفهم عمل الطوب ويمنعهم التبن ليشق عليهم عمله ، وقوله تعالى : { فينظر كيف تعملون } تنبيه وحض على الاستقامة ، وإن قدر هذا الوعد أنه من عند الله فيتخرج عليه قول الحسن بن أبي الحسن : { عسى } من الله واجبة ، وقداستخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان ، وقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع .
وقوله : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } الآية خبر أنه أخذ آل فرعون في تلك المدة التي كان موسى يدعوهم فيها بالسنين وهو الجدوب والقحوط ، وهذه سيرة الله في الأمم ، وكذلك فعل بقريش والسنة في كلام العرب : القحط ومنه قول ليلى والناس مسنتون ، وسنة وعضة وما جرى مجراها من الأسماء المنقوصة تجمع بالواو والنون ليس على جهة جمع السلامة لكن على جهة العوض مما نقص ، وكذلك أرض توهموا فيها نقص هاء التأنيث لأنه كان حقها أن تكون أرضه ، وأما حرة وأحرون فلأن التضعيف أبداً . يعتل فتوهموه مثل النقص ، وكسر السين من سنون وسنين وزيادة الألف في أحرين دليل على أنه ليس بجمع سلامة .
وقوله تعالى : { ونقص من الثمرات } روي أن النخلة كانت لا تحمل إلا ثمرة واحدة ، وقال نحوه رجاء بن حيوة ، وأراد الله عز وجل أن ينيبوا ويزدجروا عما هم عليه من الكفر ، إذ أحوال الشدة ترق القلوب وترغب فيما عند الله .
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
كان القصد في إصابتهم بالقحط والنقص في الثمرات أن ينيبوا ويرجعوا فإذا بهم قد ضلوا وجعلوها تشاؤماً بموسى فكانوا إذا اتفق لهم اتفاق حسن في غلات ونحوها قالوا هذا لنا وبسببنا وعلى الحقيقة لنا ، وإذا نالهم ضر قالوا هذا بسبب موسى وشؤمه ، قاله مجاهد وغيره ، وقرأ جمهور الناس بالياء وشد الطاء والياء الأخيرة « يطيّروا » ، وقرأ عيسى بن عمرو وطلحة بن مصرف بالتاء وتخفيف الطاء « تطيروا » ، وقرأ مجاهد « تشاءموا بموسى » بالتاء من فوق وبلفظ الشؤم .
وقوله تعالى : { ألا إنما طائرهم } معناه حظهم ونصيبهم ، قاله ابن عباس وهو مأخوذ من زجر الطير فسمي ما عند الله من القدر للإنسان طائراً لما كان الإنسان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر ، فهي لفظة مستعارة ، وقرأ جمهور الناس « طائرهم » ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « طيرهم » . وقال { أكثرهم } وجميعهم لا يعلم إما لأن القليل علم كالرجل المؤمن وآسية امرأت فرعون وإما أن يراد الجميع وتجوز في العبارة لأجل الإمكان ، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله { طائرهم } لجميع العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره ، ويحتمل أن يريد ولكن أكثرهم ليس قريباًَ أن يعلم لانغمارهم في الجهل ، وعلى هذا فيهم قليل معد لأن يعلم لو وفقه الله .
و { مهما } أصلها عند الخليل « ما ما » فبدلت الألف الأولى هاء ، وقال سيبويه : هي « مه ما » خلطتا وهي حرف واحد ، وقال غيره : معناه « مه وما » جزاء ذكره الزجّاج ، وهذه الآية تتضمن طغيانهم وعتوهم وقطعهم على أنفسهم بالكفر البحت .
وقوله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان } الآية ، قال الأخفش { الطوفان } جمع طوفانة وهذه عقوبات وأنواع من العذاب بعثها الله عليهم ليزدجروا وينيبوا ، و { الطوفان } مصدر من قولك طاف يطوف فهو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له كثر في الماء والمطر الشديد ، ومنه قول الشاعر : [ الرمل ]
غير الجدة من عرفانه ... خرق الريح وطوفان المطر
ومنه قول أبي النجم : [ الرجز ]
ومد طوفان فبث مددا ... شهراً شآبيب وشهراً بردا
وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك : إن { الطوفان } في هذه الآية المطر الشديد أصابهم وتوالى عليهم حتى هدم بيوتهم وضيق عليهم ، وقيل طم فيض النيل عليهم وروي في كيفيته قصص كثير ، وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن { الطوفان } المراد في هذه الآية هو الموت ، وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه هو مصدر معمى عني به شيء أطافه الله بهم ، و { الجراد } معروف ، قال الأخفش هو جمع جرادة للمذكر والمؤنث فإن أردت الفصل قلت رأيت جرادة ذكراً ، وروي : أن الله عز وجل لما والى عليهم المطر غرقت أرضهم وامتنعوا الزراعة قالوا يا موسى ادع في كشف هذا عنا نحن نؤمن ، فدعا فدفعه الله عنهم فأنبتت الأرض إنباتاً حسناً فطغوا وقالوا ما نود أنا لم نمطر وما هذا الإحسان من الله إلينا ، فبعث الله حينئذ الجراد فأكل جميع ما أنبتت الأرض ، وروى ابن وهب عن مالك أنه روي أنه أكل أبوابهم وأكل الحديد والمسامير وضيق عليهم غاية التضييق وترك الله من نباتهم ما يقوم به الرمق فقالوا لموسى ادع في كشف الجراد ونحن نؤمن ، فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم ورأوا أن ما أقام رمقهم قد كفاهم ، فبعث الله عليهم القمل وهي الدبى صغار الجراد الذي يثبت ولا يطير قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقيل هو الحمثان وهو صغار القردان وقيل هو البراغيث وقال ابن عباس { القمل } السوس الذي يخرج من الحنطة ، وقيل { القمل } الزرع إنه حيوان صغير جداً أسود وإنه بأرض مصر حتى الآن ، قال حبيب بن أبي ثابت : { القمل } الجعلان ، وقرأ الحسن « القَمْل » بفتح القاف وسكون الميم فهي على هذا بينة القمل المعروف ، وروي أن موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل فضربه فانتشر كله قملاً في مصر ، ثم إنهم قالوا ادع في كشف هذا فدعا ورجعوا إلى طغيانهم وكفرهم ، وبعث الله عليهم الضفادع فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم وإذا هم الرجل أن يتكلم وثب الضفدع في فمه ، قال ابن جبير : كان الرجل يجلس إلى دفنه في الضفادع ، وقال ابن عباس : كانت الضفادع برية فلما أرسلت على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف أنفسها في القدور وهي تغلي فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء .
فقالوا ادع في كشف هذا فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم وعتوهم فبعث الله عليهم الدم فرجع ماؤهم الذي يستقونه ويحصل عندهم دماً ، فروي أن الرجل منهم كان يستقي من البئر فإذا ارتفع إليه الدلو عاد دماً ، وروي أنه كان يستقي القبطي والإسرائيلي بإناء واحد فإذا خرج الماء كان الذي يلي القبطي دماً والذي يلي الإسرائيلي ماء إلى نحو هذا وشبهه من العذاب بالدم المنقلب عن الماء ، هذا قول جماعة المتأولين ، وقال زيد بن أسلم : إنما سلط الله عليهم الرعاف فهذا معنى قوله والدم .
وقوله تعالى : { آيات مفصلات } التفصيل أصله في الأجرام إزالة الاتصال ، فهو تفريق شيئين ، فإذا استعمل في المعاني فيراد أنه فرق بينها وأزيل اشتراكها وإشكالها ، فيجيء من ذلك بيانها وقالت فرقة من المفسرين : { مفصلات } يراد به مفرقات بالزمن ، والمعنى أنه كان العذاب يرتفع ثم يبقون مدة شهر ، وقيل ثمانية أيام ثم يرد الآخر ، فالمراد أن هذه الأنواع من العذاب لم تجىء جملة ولا متصلة ، ثم وصفهم الله عز وجل بالاستكبار عن الآيات والإيمان ، وأنهم كان لهم اجترام على الله تعالى وعلى عباده .
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{ الرجز } العذاب ، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هاهنا العذاب المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره ، وقال قوم من المفسرين : الإشارة هنا بالرجز إنما هي إلى طاعون أنزله فيهم مات منهم في ليلة واحدة سبعون ألف قبطي ، وروي في ذلك أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا كبشاً ويضمخوا أبوابهم بالدم ليكون ذلك فرقاً بينهم وبين القبط في نزول العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وهذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت ، وقولهم : { بما عهد } يريدون بذمامك وماتتك إليه فهي تعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على موسى ، ويحتمل أن يكون المعنى ادع لنا ربك ماتّاً إليه بما عهد إليك ، ويحتمل إن كان شعر أن بين الله تعالى وبين موسى في أمرهم عهد ما أن تكون الإشارة إليه ، والأول أعم وألزم ، والآخر يحتاج إلى رواية وقولهم : { لئن كشفت } أي بدعائك { لنؤمنن ولنرسلن } قسم وجوابه ، وهذا عهد من فرعون وملئه الذين إليهم الحل والعقد ، ولهم ضمير الجمع في قوله { لنؤمنن } ، وألفاظ هذه الآية تعطي الفرق بين القبط وبين بني إسرائيل في رسالة موسى ، لأنه لو كان إيمانهم به على أحد إيمان بني إسرائيل لما أرسلوا بني إسرائيل ولا فارقوا دينهم ، بل كانوا يشاركون فيه بني إسرائيل ، وروي أنه لما انكشف العذاب قال فرعون لموسى اذهب ببني إسرائيل حيث شئت فخالفه بعض ملئه فرجع فنكث .
وأخبر الله عز وجل أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم الذي أعطوه موسى . و { إذا } هاهنا للمفاجأة ، و { إلى } متعلقة ب { كشفنا } و « الأجل » يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت . وهذا اللازم من اللفظ كما تقول أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام « الأجل » هنا الغرق .
قال القاضي أبو محمد : وإنما هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أن الإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق ، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وهم ممن أخر وكشف عنهم العذاب إلى أجل بلغه ، ودخل في هذه الآية فأين الغرق من هؤلاء؟ وأين هو ممن بقي بمصر ولم يغرق؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام فلما كشفنا عنهم الرجز المؤجل إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ، ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلاً ، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعداً ما وقرأ أبوالبرهسم وأبو حيوة : « ينكِثون » بكسر الكاف ، والنكث نقض ما أبرم ، ويستعمل في الأجسام وفي المعاني ، وقرأ ابن محيصن ومجاهد وابن جبير « الرُّجز » بضم الراء في جميع القرآن ، قال أبو حاتم : إلا أن ابن محيصن كسر حرفين « رجز الشيطان » « والرجز فاهجر » .
قال القاضي أبو محمد : رآهما بمعنى آخر بمثابة الرجز والنتن الذي يجب التطهر منه . و { اليم } البحر ، ومنه قول ذي الرمة :
ذوية ودجا ليل كأنهما ... يم تراطن في حافاته الروم
والباء في قوله : { بأنهم } باء التسبيب ، ووصف الكفار بالغفلة وهم قد كذبوا وردوا في صدر الآيات من حيث غفلوا عما تتضمنه الآيات من الهدى والنجاة فعن ذلك غفلوا .
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قوله : { الذين كانوا يستضعفون } كناية عن بني إسرائيل لاستعباد فرعون لهم وغلبته عليهم ، وقوله : { مشارق الأرض ومغاربها } قال الحسن وقتادة وغيرهما : يريد أرض الشام ، وقال أبو جعفر النحاس : وقيل يراد أرض مصر وهو قول الحسن في كتاب النقاش ، وقالت فرقة : يريد الأرض كلها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يتجه إما على المجاز لأنه ملكهم بلاداً كثيرة ، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم وهو سليمان بن داود ولكن الذي يليق بمعنى الآية وروي فيها هو أنه ملك أبناء المستضعفين بأعيانهم مشارق الأرض ومغاربها لا سيما بوصفه الأرض بأنها التي بارك فيها ولا يتصف بهذه الصفة وينفرد بها أكثر من غيرها إلا أرض الشام لما بها من الماء والشجر والنعم والفوائد ، وحكى الطبري عن قائل لم يسمه وذكر الزهراوي أنه الفراء : أن { مشارق الأرض ومغاربها } نصب على الظرف أي يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن قوله : { التي باركنا فيها } معمول ل { أورثنا } ، وضعفه الطبري ، وكذلك هو قول غير متجه ، و { التي } في موضع خفض نعت ل { الأرض } ، ويجوز أن يكون في موضع نصب نعت لمشارق ومغارب ، وقوله : { وتمت كلمة ربك الحسنى } أي ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه ، قاله مجاهد ، وقال المهدوي : وهي قوله { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } [ القصص : 5 ] وقيل هي قوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } [ الأعراف : 129 ] ، وروي عن أبي عمرو « كلمات » و { يعرشون } قال ابن عباس ومجاهد معناه يبنون وعرش البيت سقفه والعرش البناء والتنضيد وقال الحسن هي في الكروم وما أشبهها وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء ، وقرأ الباقون : ابن عامر وعاصم فيما روي عنه والحسن وأبو رجاء ورجاء ومجاهد بضمها ، وكذلك في سورة النحل وهما لغتان ، وقرأ ابن أبي عبلة « يُعَرَّشون ويُعَكِّفون » بضم الياء فيهما وفتحة العين مشددة الراء والكاف مكسورتين .
قال القاضي أبو محمد : ورأيت للحسن البصري أنه احتج بقوله تعالى : { وتمت كلمة ربك } إلى آخر الآية ، على أنه لا ينبغي أن يخرج على ملوك السوء وإنما ينبغي أن يصبر عليهم ، فإن الله تعالى يدمرهم ، ورأيت لغيره أنه قال : إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه ، وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الله بالفرج ، وروي هذا القول أيضاً عن الحسن .
وقرأ جمهور الناس « وجاوزنا » وقرأ الحسن بن أبي الحسن : « وجوزنا » ذكره أبو حاتم والمهدوي ، والمعنى قطعناه بهم وجزعناه وهذه الآية ابتداء خبر عنهم ، قال النقاش : جاوزوا البحر يوم عاشوراء ، وأعطي موسى التوراة يوم النحر القابل بين الأمرين أحد عشر شهراً ، وروي أن قطعهم كان من ضفة البحر إلى ضفة المناوحة الأولى وروي أنه قطع من الضفة إلى موضع آخر منها .
قال القاضي أبو محمد : فإما أن يكون ذلك بوحي من الله وأمر لينفذ أمره في فرعون وقومه وهذا هو الظاهر ، وإما بحسب اجتهاد موسى في التخلص بأن يكون بين وضعين أوعار وحايلات ، ووقع في كتاب النقاش أنه نيل مصر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لا تساعده رواية ولا يحتمله لفظ إلا على تحامل ، وإنما هو بحر القلزوم و « القوم » المشار إليهم في الآية العرب ، قيل هم الكنعانيون ، وقال قتادة وقال أبو عمروان الجوني : هم قومن من لخم وجذام ، والقوم في كلام العرب الرجال خاصة ، ومنه قول زهير :
ولا أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
ومنه قوله عز وجل : { لا يسخر قوم من قوم . . . . ولا نساء من نساء } [ الحجرات : 11 ] وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر « يعكُفون » بضم الكاف ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية عبد الوارث عنه « يعكِفون » بكسرها وهما لغتان والعكوف : الملازمة بالشخص لأمر ما والإكباب عليه ، ومنه الاعتكاف في المساجد ومنه قول الراجز « [ الرجز ]
عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْزَجَا ... و » الأصنام « في هذه الآية قبل كانت بقراً على الحقيقة ، وقال ابن جريج : كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من مقالة بني إسرائيل لموسى : { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } أنهم استحسنوا ما رأوه من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به إلى الله ، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى : اجعل لنا صنماً نفرده بالعبادة ونكفر بربك ، فعرفهم موسى أن هذا جهل منهم إذ سألوا أمراً حراماً فيه الإشراك في العبادة ومنه يتطرق إلى إفراد الأصنام بالعبادة والكفر بالله عز وجل ، وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي قصه النبي صلى الله عليه وسلم في قول أبي واقد الليثي له في غزوة حنين إذ مروا على دوح سدرة خضراء عظيمة : اجعل لنا يا رسول الله ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ولها يوم يجتمعون إليها فيه ، فأراد أبو واقد وغيره أن يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ذريعة إلى عبادة تلك السرحة ، فأنكره وقال : » الله أكبر قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لتتبعن سنن من قبلكم « .
قال القاضي أبو محمد : ولم يقصد أبو واقد بمقالته فساداً ، وقال بعض الناس كان ذلك من بني إسرائيل كفراً ولفظة الإله تقتضي ذلك ، وهذا محتمل ، وما ذكرته أولاً أصح عندي والله تعالى أعلم .
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
أعلمهم موسى عن الله عز وجل بفساد حال اولئك القوم ليزول ما استحسنوه من حالهم فقال { إن هؤلاء } إشارة إلى أولئك القوم { متبر } أي مهلك مدمر ردي العاقبة ، قاله السدي وابن زيد ، والتبار الهلاك وسوى العقبى وإناء متبر أي مكسور وكسارته تبر ومنه تبر الذهب لأنه كسارة ، وقوله : { ما هم فيه } لفظ يعم جميع حالهم { وباطل } معناه فاسد ذاهب مضمحل .
وقوله تعالى : { قال أغير الله } الآية ، أمر الله موسى عليه السلام أن يوقفهم ويقررهم على هذه المقالة ، ويحتمل أن يكون القول من تلقائه عليه السلام ، { أبغيكم } معناه : أطلب لكم ، من بغيت الشيء إذا طلبته ، و { غير } منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال كأن تقدير الكلام : قال أبغيكم إلهاً غير الله فهي في مكان الصفة فلما قدمت نصبت على الحال ، و { العالمين } لفظ عام يراد به تخصيص عالم زمانهم ، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بإجماع ، ولقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] اللهم إلا أن يراد بالفضل كثرة الأنبياء منهم فإنهم فضلوا في ذلك على العالمين بالإطلاق .
ثم عدد عليهم في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها أن لا يكفروا به ولا يرغبوا عبادة غيره وقرأت فرقة « نجيناكم » ، وقرأ جمهور الناس : « أنجيناكم » وقد تقدم ، وروي عن ابن عباس « وإذا أنجاكم » أي أنجاكم الله وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، و { يسومونكم } معناه يحملونكم ويكلفونكم ، تقول سامه خطة خسف ، ونحو هذا ، ومساومة البيع ينظر إلى هذا وأن كل واحد من المتساومين يكلف صاحبه إرادته ، ثم فسر { سوء العذاب } بقوله : { يقتلون ويستحيون } ، و { بلاء } في هذا الموضع معناه اختبار وامتحان ، وقوله : { ذلكم } إشارة إلى سوء العذاب ، ويحتمل أن يشير به إلى التنجية فكأنه قال وفي تنجيتكم امتحان لكم واختبار هل يكون منكم وفاء بحسب النعمة .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أظهر ، وقالت فرقة : هذه الآية خاطب بها موسى من حضره من بني إسرائيل ، وقال الطبري : بل خوطب بهذه الآية من كان على عهد محمد صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل بأوائلهم وبما جازوا به .
قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر وأبين .
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي قرأ أبو عمرو وأبيّ بن كعب وأبو رجاء وأبو جعفر وشيبة « ووعدنا » وقد تقدم في البقرة ، وأخبر الله تعالى موسى عليه السلام أن يتهيأ لمناجاته { ثلاثين ليلة } ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال ، فذكر أن « موسى » عليه السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه « ثلاثين ليلة » فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به ، فقال لهم السامري : إن « موسى » قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه ، قاله كله ابن جريج ، وقيل : بل أخبرهم بمغيبه { أربعين } وكذلك أعلمه الله تعالى وهو المراد بهذه الآية ، قاله الحسن ، وهو مثل قوله { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] وأنهم عدوا الأيام والليالي فلما تم « أربعون » من الدهر قالوا قد أخلف « موسى » فضلوا ، قال مجاهد إن « الثلاثين » هي شهر ذي القعدة وإن « العشر » هي « عشر » ذي الحجة ، وقاله ابن عباس ومسروق .
وروي أن « الثلاثين » إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد وأن مدة المناجاة هي « العشر » ، وقيل بل مدة المناجاة « الأربعون » ، وإقبال « موسى » على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة ، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر هو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع ، و { أربعين } في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال ، ويصح أن تكون { أربعين } ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة ، وفي مصحف أبي بن كعب « وتممناها » بغير ألف وتشديد الميم ، وذكر الزجاج عن بعضه قال : لما صام ثلاثين يوماً أنكر خلوف فماه فاستاك بعود خروب فقالت الملائكة : إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال ، و { ثلاثين } نصب على تقدير أجلناه « ثلاثين » وليست منتصبه على الظرف لأن المواعدة لم تقع في « الثلاثين » ، ثم ردد الأمر بقوله { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } قيل ليبين أن « العشر » لم تكن ساعات وبالجملة فتأكيد وإيضاح .
وقوله تعالى : { وقال موسى لأخيه } . . . . الآية ، المعنى : وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها ، و { اخلفني } معناه كن خليفتي وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته لا يقتضي أنه متمادٍ بعد وفاة فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية في قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً بقوله أنت مني كهارون من « موسى » وقال موسى { اخلفني } فيترتب على هذا أن علياً خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذكرناه يحل هذا القياس ، وأمره في هذه الآية بالإصلاح ثم من الطرق الأخر في أن لا يتبع سبيل مفسد ، قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه .
ثم أخبر الله تعالى عن « موسى » عليه السلام أنه لما جاء إلى الموضع الذي حد له وفي الوقت الذي عين له وكلمه ربه قال تمنياً منه أي { رب أرني أنظر إليك } وقرأ الجمهور : { أرِني } بكسر الراء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير { أرْني } بسكون الراء ، والمعنى في قوله { كلمه } أي خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : أدنى الله تعالى « موسى » حتى سمع صريف الأقلام في اللوح ، وكلام الله عز وجلّ لا يشبه شيئاً من الكلام الذي للمخلوقين ولا في جهة من الجهات وما هو موجود لا كالموجودات ، ومعلوم لا كالمعلومات ، كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث ، والواو عاطفة { كلمه } على { جاء } ، ويحتمل أن تكون واو الحال والأول أبين ، وقال وهب بن منبه كلم الله « موسى » في ألف مقام كان يرى نور على وجهه ثلاثة أيام إثر كل مقام ، وما قرب « موسى » النساء منذ « كلمة » الله تعالى ، وجواب { لما } في قوله { قال } ، والمعنى أنه لما « كلمه » وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشويق إلى ذلك ، فسأل ربه أن يريد نفسه ، قاله السدي وأبو بكر الهذلي ، وقال الربيع : قربناه نجياً حتى سمع صريف الأقلام ، ورؤية الله عز وجل عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً ، لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته ، قالوا لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود ، إلا أن الشريعة قررت رؤية الله تعالى في الآخرة نصاً ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر من الشرع ، فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالاً وإنما سأل جائزاً .
وقوله تعالى : { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل } الآية ليس بجواب من سأل محالاً ، وقد قال تعالى لنوح { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } [ هود : 46 ] فلو سأل « موسى » محالاً لكان في الكلام زجر ما وتبيين ، وقوله عز وجل : { لن تراني } نص من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا ، و { لن } تنفي الفعل المستقبل ولو بقينا مع هذا النفي بمجردة لقضينا أنه لا يراه « موسى » أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة ، فموسى عليه السلام أحرى برؤيته ، وقال مجاهد وغيره : إن الله عز وجل قال لموسى لن تراني ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي فستمكنك أنت رؤيتي .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالاً وقالت فرقة : إنما المعنى سأتبدى لك على الجبل فإن استقر لعظمتي فسوف تراني ، وروي في كيفية وقوف « موسى » وانتظاره الرؤية قصص طويل اختصرته لبعده وكثرة مواضع الاعتراض فيه .
قوله عز وجل :
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ }
قال المتأولون المتكلمون كالقاضي ابن الباقلاني وغيره : إن الله عز وجل خلق للجبل حياة وحساً وإدراكاً يرى به ، ثم تجلى له أي ظهر وبدا سلطانه فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق ، وهذا المعنى هو المروي عن ابن عباس ، وأسند الطبري عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } قال : فوضع الإبهام قريباً عن خنصره قال فساخ الجبل ، فقال حميد لثابت : تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس ، وأكتمه أنا؟ وقالت فرقة : المعنى فلما تجلى الله للجبل بقدرته وسلطانه اندك الجبل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يتمسك به المعتزلة تمسكاً شديداً لقولهم إن رؤية الله عز وجل غير جائزة ، وقائله من أهل السنة إنما يقوله مع اعتقاده جواز الرؤية ولكنه يقول إنه أليق بألفاظ الآية من أن تحمل الآية أن الجبل خلق له إدراك وحياة ، وقال الزّجاج : من قال إن التقدير فلما تجلى أمر ربه فقد أخطأ ولا يعرف أهل اللغة ذلك ، ورد أبو علي في الإغفال عليه ، والدك الانسحاق والتفتت ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر « دكاً » ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عباس والربيع بن خثيم وغيرهم « دكاء » على وزن حمراء ، والدكاء الناقة التي لا سنام لها ، فالمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة ، فروي أنه ذهب الجبل بجملته ، وقيل ذهب أعلاه وبقي أكثره ، وروي أن الجبل تفتت وانسحق حتى صار غباراً تذروه الرياح ، وقال سفيان : روي أنه ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وروي أنه انكسر ست فرق فوقعت منه ثلاث بمكة ثبير وغار ثور وحراء ، وثلاث بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، قاله النقاش ، وقال أبو بكر الهذلي : ساخ في الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة ، و { صعقاً } معناه مغشياً عليه كحال من تصيبه الصعقة وهي الصيحة المفرطة ، قال الخليل : وهي الوقع الشديد من صوت الرعد قاله ابن زيد وجماعة من المفسرين ، وقال قتادة : كان موتاً ، قال الزجّاج : وهو ضعيف ، ولفظة { أفاق } تقتضي غير هذا ، وقوله { سبحانك } أي تنزيهاً لك كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { تبت إليك } معناه من أن أسألك الرؤية في الدنيا وأنت لا تبيحها .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه السلام لشدة هول ما اطلع ولم يعن به التوبة من شيء معين ولكنه لفظ يصلح لذلك المقام .
قال القاضي أبو محمد : والذي يتحرز منه أهل السنة أن تكون توبة من سؤال المحال كما زعمت المعتزلة ، وقرأ نافع { وأنا } بإثبات الألف في الإدراج ، قال الزهراوي والأولى حذفها في الإدراج وإثباتها لغة شاذة خارجة عن القياس ، وقوله { أول } إما أن يريد من قومه بني إسرائيل ، وهو قول ابن عباس ومجاهد أو من أهل زمانه ان كان الكفر قد طبق الآفاق وإما أن يريد أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا ، قاله أبو العالية .
ثم ان الله تعالى قرر موسى على آلائه عنده على جهة الإخبار وقنعه بها وأمره بالشكر عليها وكأنه قال ولا تتعدها إلى غيرها ، و « اصطفى » أصله اصتفى وهو افتعل من صفا يصفو انقلبت التاء طاء لمكان الصاد ، ومعناه تخيرتك وخصصتك ، ولا تستعمل إلا في الخير والمتن ، لا يقال اصطفاه لشر ، وقوله { على الناس } عام والظاهر من الشريعة أن موسى مخصص بالكلام وإن كان قد روي في تكليم الله غيره أشياء بما يشاء من أعظمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال هو نبي مكلَّم .
قال القاضي أبو محمد : إلا أن ذلك قد تأول أنه كان في الجنة فيتحفظ على هذا تخصيص موسى ، ويصح أن يكون قوله { على الناس } عموماً مطلقاً في مجموع الدرجتين الرسالة والكلام . وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن عامر « برسالاتي » على الجمع إذ الذي أرسل به ضروب ، وقرأ ابن كثير ونافع « برسالتي » على الإفراد الذي يراد به الجمع وتحل الرسالة هاهنا محل المصدر الذي هو الإرسال ، وقرأ جمهور الناس و « بكلامي » ، وقرأ أبو رجاء « برسالتي وبكلمتي » ، وقرأ الأعمش « برسالاتي وبكلمي » ، وحكى عنه المهدوي « وتكليمي » على وزن تفعيلي ، وقوله { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } تأديب وتقنيع وحمل على جادة السلامة ومثال لكل أحد في حاله ، فإن جميع النعم من عنده بمقدار وكل الأمور بمرأى من الله ومسمع .
وقوله تعالى : { وكتبنا له في الألواح } الآية ، الضمير في { له } عائد على موسى عليه السلام ، والألف واللام في { الألواح } عوض من الضمير الذي يقدر وصله بين الألواح وموسى عليه السلام ، تقديره في ألواحه ، وهذا كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] مأواه وقيل : كانت الألواح اثنين ، وقيل أيضاً من برد ، وقال الحسن من خشب ، وقوله { من كل شيء } لفظه عموم والمراد به كل شيء ينفع في معنى الشرع ويحتاج إليه في المصلحة ، وقوله { لكل شيء } مثله ، قال ابن جبير : ما أمروا به ونهوا عنه ، وقاله مجاهد : وقال السدي : الحلال والحرام . وقوله { بقوة } معناه بجد وصبر عليها واحتمال لمؤنها قاله ابن عباس والسدي ، وقال الربيع بن أنس { بقوة } هنا بطاعة ، وقال ابن عباس أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه ، و « خذ » أصله أؤخذ حذفت الهمزة التي هي فاء الفعل على غير قياس فاستغني عن الأول ، وقوله { بأحسنها } يحتمل معنيين أحدهما التفضيل كأنه قال : إذا اعترض فيها مباحان فيأخذون الأحسن منهما كالعفو والقصاص ، والصبر والانتصار .
قال القاضي أبو محمد : هذا على القول إن أفعل في التفضيل لا يقال إلا لما لهما اشتراك في المفضل فيه وأما على القول الآخر فقد يراد بالأحسن المأمور به بالإضافة للمنهي عنه لأنه أحسن منه ، وكذلك الناسخ بالإضافة إلى المنسوخ ونحو هذا ، وذهب إلى هذا المعنى الطبري .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل أنه تدخل فيه الفرائض وهي لا تدخل في التأويل الأول ، وقد يمكن أن يتصور اشتراك في حسن من المأمور به والمنهي عنه ولو بحسب الملاذ وشهوات النفس الأمارة ، والمعنى الآخر الذي يحتمله قوله : { بأحسنها } أن يريد بأحسن وصف الشريعة بجملتها ، فكأنه قال : قد جعلنا لكم شريعة هي أحسن كما تقول : الله أكبر دون مقايسة ثم قال : فمرهم يأخذوا بأحسنها الذي شرعناه لهم ، وفي هذا التأويل اعتراضات ، وقرأ جمهور الناس { سأوريكم } ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « سأوريكم » قال أبو الفتح ظاهر هذه القراءة مردود وهو أبو سعيد المأثور فصاحته فوجهها أن المراد أريكم ثم أشبعت ضمة الهزة ومطلب حتى نشأت عنها واو ، ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه .
وقرأ قسامة بن زهير « سأورثكم » قاله أبو حاتم ، ونسبها المهدوي إلى ابن عباس ، وثبتت الواو في خط المصحف فلذلك أشكل هذا الاختلاف مع أنا لا نتأول إلا أنها مرويات فأما من قرأها « سأوريكم » فالمعنى عنده سأعرض عليكم وأجعلكم تخشون لتعتبروا حال دار الفاسقين ، والرؤية هنا رؤية العين إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين والوعيد للفاسقين ويدل على أنها ررية العين تعدى فعلها وقد عدي الهمزة إلى مفعولين فهو مقدر أي مدمرة أو خربة مسعرة على قول من قال : هي جهنم ، قيل له : ولا يجوز حذف هذا المفعول والاقتصار دونه أنها داخله على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله عز وجل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومقاتل وقتادة في كتاب النقاش { دار الفاسقين } مصر والمراد آل فرعون ، وقال قتادة أيضاً : « دار الفاسقين » الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : « دار الفاسقين » جهنم والمراد الكفرة بموسى عامة ، وقال النقاش عن الكلبي : { دار الفاسقين } دور ثمود وعاد والأمم الخالية : أي سنقصها عليكم فترونها .
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
المعنى سأمنع وأصد ، وقال سفيان بن عيينة : الآيات هنا كل كتاب منزل .
قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن فهمها وتصديقها ، وقال ابن جريج : الآيات العلامات المنصوبة الدالة على الوحدانية .
قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن النظر فيها والتفكير والاستدلال بها ، واللفظ يعم الوجهين ، والمتكبرون بغير حق في الأرض هم الكفرة ، والمعنى في هذه الآية سأجعل الصرف عن الآيات عقوبة للمتكبرين على تكبرهم ، وقوله { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } حتم من الله عز وجل على الطائفة التي قدر ألا يؤمنوا ، وقراءة الجمهور : « يرَوا » بفتح الياء قرأها ابن كثير وعاصم ونافع وأبو جعفر وشيبة وشبل وابن وثاب وطلحة بن مصرف وسائر السبعة ، وقرأها مضمومة الياء مالك بن دينار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر « الرشد » ، وقرأ ابن عامر في بعض ما روي عنه وأبو البرهسم « الرُّشد » بضم الراء والشين وقرأ حمزة والكسائي على أن « الرُّشد » بضم الراء وسكون الشين « الرَّشد » بفتحهما الدين ، وأما قراءة ابن عامر بضمهما فأتبعت الضمة الضمة ، وقرأ ابن أبي عبلة « لا يتخذوها وتتخذوها » على تأنيث « السبيل » ، والسبيل تؤنث وتذكر ، وقوله { ذلك } إشارة إلى الصرف أي صرفنا إياهم وعقوبتنا لهم هي بكفرهم وتكذيبهم وغفلتهم عن النظر في الآيات والوقوف عند الحجج ، ويحتمل أن يكون ذلك خبر ابتداء تقديره : الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل تقديره فعلنا ذلك .
وقوله تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } الآية ، هذه الآية مؤكدة للتي قبلها وسوقها في جملة المكذب به ، ولقاء الآخرة لفظ يتضمن تهديداً أي هنالك يفتضح لهم حالهم ، و { حبطت } معناه سقطت وفسدت وأصل الحبط فيما تقدم صلاحه ولكنه قد يستعمل في الذي كان أول مرة فاسداً إذ مئال العاملين واحد ، وقوله { هل يجزون } استفهام بمعنى التقرير أي يستوجبون بسوء فعلهم إلا عقوبة ، وساغ أن يستعمل { حبطت } هنا إذ كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية في طريق صلاح فكأن الحبط فيها إنما هو بحسب معتقداتهم وأما بحسب ما هي عليه في أنفسها ففاسدة منذ أول أمرها ، ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم أي فساداً لكثرة الأكل بعد الصلاح الذي كان أولاً ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال « حبَطت » بفتح الباء .
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{ اتخذ } أصله ايتخذ وزنه افتعل من تخذ هذا قول أبي علي الفارسي ، والضمير في { بعده } عائد على موسى أي بعد مضيه إلى المناجاة وأضاف الحليّ إلى بني إسرائيل وإن كان مستعاراً من القبط إذ كانوا قد تملكوه إما بأن نفلوه كما روي وحكى يحيى بن سلام عن الحسن أنه قال : استعار بنو إسرائيل حلي القبط ليوم الزينة فلما أمر موسى أن يسري بهم ليلاً تعذر عليهم رد العواري ، وأيضاً فخشوا أن يفتضح سرهم ، ثم إن الله نفلهم إياه ، ويحتمل أن يضاف الحلي إلى بني إسرائيل من حيث تصرفت أيديهم فيه بعد غزو آل فرعون ، ويروى أن السامري واسمه موسى بن ظفر وينسب إلى قرية تسمى سامرة قال لهارون حين ذهب موسى إلى المناجاة : يا هارون إن بني إسرائيل قد بددوا الحلي الذي استعير من القبط وتصرفوا فيه وانفقوا منه ، فلو جمعته حتى يرى موسى فيه رأيه ، قال : فجمعه هارون فلما اجتمع قال للسامري : أنت أولى الناس بأن يختزن عندك ، فأخذه السامري وكان صائغاً فصاغ منه صورة عجل وهو ولد البقرى { جسداً } أي جثة وجماداً وقيل كان جسداً بلا رأس وهذا تعلق بأن الجسد في اللغة ما عدا الرأس وقيل إن الله جعل له لحماً ودماً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك ، و « الخوار » صوت البقر ، ويروى أن هذا العجل إنما خار مرة واحدة ، وذلك بحيلة صناعية من السامري أو بسحر تركب له من قبضه القبضة من أثر الرسول ، أو بأن الله أخار العجل لفتن بني إسرائيل ، وقرأت فرقة له « جوار » بالجيم وهو الصياح قال أبو حاتم وشدة الصوت ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة « من حُلِيهم » بضم الحاء وكسر اللام ، وهو جمع حلي على مثال ثدي ، وثديّ ، وأصله حلوي قلبت الواو ياء وأدغمت فجاء حلي فكسرت اللام لتناسب الياء ، وقرأ حمزة والكسائي « من حِليهم » بكسر الحاء على ما قدمنا من التعليل ، قال أبو حاتم إلا أنهم كسروا الحاء إتباعاً لكسرة اللام ، قال أبو علي وقوى التغيير الذي دخل على الجمع على هذا التغيير الأخير ، قال ومما يؤكد كسر الفاء في هذا النحو من الجمع قولهم قسيّ ، قال أبو حاتم وقرأ هكذا يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش وأصحاب عبد الله ، وقرأ يعقوب الحضرمي « من حَلْيهم » بفتح الحاء وسكون اللام ، فإما أن يكون مفرداً يراد به الجميع وإما أن يكون جمع حلية كتمرة وتمر ومعنى الحلي ما يتجمل به من حجارة وذهب وفضة ، ثم بين الله تعالى سوء فطرهم وقرر فساد اعتقادهم بقوله { ألم يروا أنه لا يكلمهم } الآية ، وذلك أن الصامت الجماد لا يتصف بالإلهية والذي لا يرشد إلى خير ولا يكشف غماً كذلك ، والضمير في { اتخذوه } عائد على العجل ، وقوله { وكانوا } إخبار لنا عن جميع أحوالهم ماضياً وحالاً ومستقبلاً ، ويحتمل أن تكون الواو واو حال ، وقد مر في البقرة سبب اتخاذ العجل وبسط تلك الحال بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقرأ جمهور الناس بكسر القاف وضم السين « سُقِطَ في أيديهم » وقرأت فرقة « سَقَطَ » بفتح السين والقاف حكاه الزّجاج ، وقرأ ابن أبي عبلة « أسْقط » وهي لغة حكاها الطبري بالهمزة المضمومة وسين ساكنة ، والعرب تقول لمن كان ساعياً لوجه أو طالباً غاية ما ، فعرضه ما غلبه وصده عن وجهته وأوقفه موقف العجز عن بغيته وتيقن أنه قد عجز : سقط في يد فلان ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن قدم على أمر وعجز عنه سقط في يده .
قال القاضي أبو محمد : والندم عندي عرض يعرض صاحب هذه الحال وقد لا يعرضه فليس الندم بأصل في هذا أما أن أكثر أصحاب هذه الحال يصحبهم الندم وكذلك صحب بني إسرائيل المذكورين في الآية والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له خارجها تأثير وقال الزجاج : المعنى أن الندم سقط في أيديهم ويحتمل أن الخسران والخيبة سقط في أيديهم .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا كله يلزم أن يكون « سقط » يتعدى فإن « سقط » يتضمن مفعولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال ذهب بزيد وفي هذا عندي نظر ، وأما قراءة من قرأ « سقَطَ » على بناء الفعل للفاعل أو « أسقط » على التعدية بالهمزة فبين في الاستغناء عن التعدي ويحتمل أن يقال سقط في يديه على معنى التشبيه بالأسير الذي تكتف يداه فكأن صاحب هذه الحال يستأسر ويقع ظهور الغلبة عليه في يده ، أو كأن المراد سقط بالغلب والقهر في يده ، وحدثت عن أبي مروان بن سراج أنه كان يقول : قول العرب سقط ي يديه مما أعياني معناه ، وقال الجرجاني : هذا مما دثر استعماله مثلما دثر استعمال قوله تعالى : { فضربنا على آذانهم } [ الكهف : 11 ] .
قال القاضي أبو محمد : وفي الكلام ضعف والسقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول سويد بن أبي كاهل : [ الرمل ]
كيف يرجون سقاطي بعدما ... لفع الرأسَ مشيب وصلع
وقول بني إسرائيل { لئن لم يرحمنا ربنا } إنما كان بعد رجوع موسى وتغييره عليهم ورؤيتهم أنهم قد خرجوا عن الدين ووقعوا في الكفر ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح ومجاهد وغيرهم « قالوا لئن لم يرحمنا ربنا » بالياء في يرحمنا وإسناد الفعل إلى الرب تعالى ، « ويغفر » بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي والشعبي وابن وثاب والجحدري وطلحة بن مصرف والأعمش وأيوب « ترحمنا ربَّنا » بالتاء في « ترحمنا » ونصب لفظة ربنا على جهة النداء « وتغفر » بالتاء ، من فوق ، وفي مصحف أبيّ « قالوا ربنا لئن ترحنما وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين » .
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
يريد رجع من المناجاة ، ويروى : أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال : هذه أصوات قوم لاهين ، فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخله الغضب والأسف وألقى الألواح ، قاله ابن إسحاق ، وقال الطبري : أخبره الله تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ، و « الأسف » قد يكون بمعنى الغضب الشديد ، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن والمعنيان مترتبان هاهنا ، و « ما » المتصلة ب « بئس » مصدرية ، هذا قول الكسائي ، وفيها اختلاف قد تقدم في البقرة ، أي بئس خلافتكم لي من بعدي ، ويقال : خلفه بخير أو بشر إذا فعله بمن ترك من بعده ، ويقال عجل فلان الأمر إذا سبق فيه ، فقوله : { أعجلتم } معناه : أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدر به ، وقوله تعالى : { وألقى الألواح } الآية ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كان سبب إلقائه الألواح غضبه على قومه في عبادتهم العجل وغضبه على أخيه في إهمال أمرهم ، وقال قتادة إن صح عنه : بل كان ذلك لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرغب أن يكون ذلك لأمته فلما علم أنه لغيرها غضب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول رديء لا ينبغي أن يوصف موسى عليه السلام به والأول هو الصحيح ، وبالجملة فكان في خلق موسى عليه السلام ضيق وذلك مستقر في غير موضع ، وروي أنها كانت لوحان وجمع إذ التثنية جمع ، وروي أنها كانت وقر سبعين بعيراً يقرأ منها الجزء في سنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف مفرط ، وقاله الربيع بن أنس ، وقال ابن عباس : إن موسى لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة ، وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وقد تقدم القول من أي شيء كانت الألواح ، وأخذه برأس أخيه ولحيته من الخلق المذكور ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي أن ذلك إنما كان ليساره فخشي هارون أن يتوهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والأول هو الصحيح لقوله { فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } [ طه : 94 ] وقوله : { يا ابن أم } استلطاف برحم الأم إذ هو ألصق القرابات ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم « ابن أمَّ » بفتح الميم فقال الكوفيون أصله ابن أماه فحذفت تخفيفاً ، وقال سيبويه هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوها ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي « ابن أمِّ » بكسر الميم ، فكأن الأصل ابن أمي فحذفت الياء إما على حد حذفهم من : لا أبال ولا أدر تخفيفاً ، وإما كأنهم جعلوا الأول والآخر اسماً واحداً ثم أضافوا كقولك يا أحد عشر أقبلو ، قاله سيبويه ، وهذا أقيس من الحذف تخفيفاً ، ثم أضافوا ياء المتكلم ، ثم حذفت الياء من أمي على لغة من يقول يا غلام فيحذفها من المنادى ، ولو لم يقدر جعل الأول والآخر اسماً واحداً لما صح حذفها لأن الأم ليست بمناداة ، و { استضعفوني } : معناه اعتقدوا أني ضعيف ، وقوله : { كادوا } معناه قالوا ولم يفعلوا ، وقرأ جمهور الناس « فلا تُشْمِت بي الأعداء » بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء ، وقرأ مجاهد فيما حكاه أبو حاتم « فلا تَشمَت بي » بفتح التاء من فوق والميم ورفع « الأعداءُ » أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي ، وقرأ حميد بن قيس « تَشمِت » بتاء مفتوحة وميم مكسورة ورفع « الأعداءُ » حكاها أبو حاتم ، وقرأ مجاهد أيضاً فيما حكاه أبو الفتح « فلا تَشمَت بي الأعداءَ » بفتح التاء من فوق والميم ونصب الأعداء ، هذا على أن يعدى شمت يشمت ، وقد روي ذلك ، قال أبو الفتح : فلا تشمت بي أنت يا رب ، وجاز هذا كما قال تعالى :
{ يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] ونحو ذلك ، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كأنه قال : لا تشمت بي الأعداء كقراءة الجماعة .
قال القاضي أبو محمد : وفي كلام أبي الفتح هذا تكلف ، وحكى المهدوي عن ابن محيصن : « تَشِمت » بفتح التاء وكسر الميم ، « الأعداءَ » بالنصب ، والشماتة : فرحة العدو بمصاب عدوه ، وقوله : { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } يريد عبدة العجل .
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
استغفر موسى من فعله مع أخيه ومن عجلته في إلقاء الألواح واستغفر لأخيه من فعله في الصبر لبني إسرائيل ، ويمكن بأن الاستغفار كان لغير هذا مما لا نعلمه والله أعلم .
وقوله : { إن الذين اتخذوا العجل } الآية ، مخاطبة من الله لموسى عليه السلام لقوله : { سينالهم } ووقع ذلك النيل في عهد موسى عليه السلام ، و « الغضب والذلة » هو أمرهم بقتل أنفسهم هذا هو الظاهر ، وقال بعض المفسرين : الذلة الجزية ، ووجه هذا القول أن الغضب والذلة بقيت في عقب هؤلاء المقصودين بها أولاً وكأن المراد سينال أعقابهم ، وقال ابن جريج : الإشارة في قوله { الذين } إلى من مات من عبدة العجل قبل التوبة بقتل النفس وإلى من فر فلم يكن حاضراً وقت القتل .
قال القاضي أبو محمد : والغضب على هذا والذلة هو عذاب الآخرة ، والغضب من الله عز وجل إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات ، وإن أخذ بمعنى العقوبة وإحلال النقمة فهو صفة فعل ، وقوله : { وكذلك نجزي المفترين } المراد أولاً أولئك الذين افتروا على الله في عبادة العجل وتكون قوة اللفظ تعم كل مفتر إلى يوم القيامة ، وقد قال سفيان بن عيينة وأبو قلابة وغيرهما : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل ، واستدلوا بالآية .
وقوله تعالى : { والذين عملوا السيئات } الآية ، تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عز وجل يغفر للتائبين ، والإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل ، وفي الآية ترتيب الإيمان بعد التوبة ، والمعنى في ذلك أنه أرادوا وأمنوا أن التوبة نافعة لهم منجية فتمسكوا بها فهذا إيمان خاص بعد الإيمان على الإطلاق ، ويحتمل أن يريد بقوله : { وآمنوا } أي وعملوا عمل المؤمنين حتى وافوا على ذلك ، ويحتمل أن يريد التأكيد فذكر التوبة والإيمان إذ هما متلازمان ، إلا أن التوبة على هذا تكون من كفر ولا بد فيجيء « تابوا وآمنوا » بمعنى واحد ، وهذا لا يترتب في توبة المعاصي فإن الإيمان متقدم لتلك ولا بد وهو وتوبة الكفر متلازمان ، وقوله : { إن ربك } إيجاب ووعد مرج .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله : « تابوا وآمنوا » أن يكون لم تقصد رتبة الفعلين على عرف الواو في أنها لا توجب رتبة ويكون { وآمنوا } بمعنى وهم مؤمنون قبل وبعد ، فكأنه قال ومن صفتهم أن آمنوا .
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام لما سكن غضبه أخذ الألواح التي كان ألقى ، وقد تقدم ما روي أنه رفع أكثرها أو ذهب في التكسير ، وقوله : { سكت } لفظة مستعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته ، قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي يومين ثم سكت ، وقال الزجاج وغيره : مصدر قولك سَكَتَ الغضب ، سكْت ، ومصدر قولك سكت الرجل سكوت ، وهذا يقتضي أنه فعل على حدة وليس من سكوت الناس ، وقيل إن في المعنى قلباً ، والمراد ولما سكت موسى عن الغضب فهو من باب أدخلت فمي في الحجر وأدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي هذا أيضاً استعارة ، إذ الغضب ليس يتكلم فيوصف بالسكوت ، وقرأ معاوية بن قرة : « ولما سكن » ، وفي مصحف حفصة « ولما سكت » ، وفي مصحف ابن مسعود « ولما صبر عن موسى الغضب » ، قال النقاش : وفي مصحف أبيّ : « ولما اشتق عن موسى الغضب » ، وقوله : { وفي نسختها } معناه وفيما ينسخ منها ويقرأ ، واللام في قوله { لربهم } يحتمل وجوهاً ، مذهب المبرد أنها تتعلق بمصدر كأنه قال الذين رهبتهم لربهم ، ويحتمل أنه لما تقدم المفعول ضعف الفعل فقوي على التعدي باللام ، ويحتمل أن يكون المعنى : هم لأجل طاعة ربهم وخوف ربهم يرهبون العقاب والوعيد ونحو هذا .
وقوله تعالى : { واختار موسى قومه } الآية ، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم ، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع ، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله ، وقوله : { لميقاتنا } يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع ، وتقدير الكلام : واختار موسى من قومه ، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب ، وهذا كثير في كلام العرب .
واختلف العلماء في سبب { الرجفة } التي حلت بهم ، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، وقيل : كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، قاله السدي ، وقيل : كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له : أرنا ربك فأخذتهم الرجفة ، وقيل : كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدناً ، فأخذتهم الرجفة ، وقيل : إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت ، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل : أين هارون؟ فقال : مات ، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته ، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم ، فلما وصلوا قال له موسى يا هارون أقتلت أم مت ؟ فناداه من القبر بل مت فأخذت القوم الرجفة .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه ، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه ، و { الرجفة } الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم ، فلما رأى موسى ذلك أسف عليه وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال إياي لكان أحق عليّ ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذٍ لي ، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل ، ويحتمل قوله : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل اي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي ، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذا رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف ، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف ، وإذا قلنا إن سبب « الرجفة » كان عبادة العجل كان الضمير في قوله : { اتهلكنا } له وللسبعين ، و { السفهاء } إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل ، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون ، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشطههم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله : { أتهلكنا } يريد به نفسه وبني إسرائيل ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، ويكون قوله : { السفهاء } إشارة إلى السبعين ، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين ، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم ، وقالت فرقة : إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } أي الأمور بيدك تفعل ما تريد ، وقيل : إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى : أي رب ومن أخاره؟ قال أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم : أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، و { اغفر } معناه ستر .
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{ اكتب } معناه أثبت واقض ، والكتب مستعمل في ما يخلد ، و { حسنة } لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها و { هُدنا } بضم الهاء معناه تبنا ، وقرأ أبو وجزة « هِدنا » بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك ، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك ، وقوله تعالى : { قال عذابي أصيب به من أشاء } الآية ، قال الله عز وجل : إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته ، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند { عذابي أصيب به من أشاء } وقرأ الحسنَ وطاوس وعمرو بن فائد « من أساء » من الإساءة أي من عمل غير صالح ، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين : أحدهما إنفاذ الوعيد ، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله ، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القرأة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة ، وقال أبو عمرو الداني : لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس ، وعمرو بن فائد رجل سوء ، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر .
ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها { وسعت كل شيء } فقال بعض العلماء : هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله { كل شيء } والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم ، وقال بعضهم : هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية ، وقالت فرقة : قوله : { ورحمتي } يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة ، وقال نوف البكالي : إن إبليس لما سمع قول الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } طمع في رحمة الله فلما سمع { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى ، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية ، وقال نحوه قتادة ، وقوله : { فسأكتبها } أي أقدرها وأقضيها ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال نوف البكالي : فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ، وقوله : { يتقون } في هذه الآية قالت فرقة : معناه يتقون الشرك ، وقالت فرقة : يتقون المعاصي .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال : الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله : { ويؤتون الزكاة } ، ومن قال المعاصي ولا بد خرج إلى قول المعتزلة ، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولا بد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى ، ومعنى : { يتقون } يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجاباً ، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها ، وقوله : { ويؤتون الزكاة } الظاهر من قوله { يؤتون } أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفاً لها وجعلها مثالاً لجميع الطاعات ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم .
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من الأشتراك الذي يظهر في قوله { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما ، و { يتبعون } معناه في شرعه ودينه ، و { الرسول } و { النبي } اسمان لمعنيين فإن الرسول ، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول ، و { النبي } مأخوذ من النبأ ، وقيل لما كان طريقاً إلى رحمة الله تعالى وسبباً شبه بالنبيء الذي هو الطريق ، ونشدوا :
لأصبح رتماً دقاق الحصى ... مكان النبيء من الكاثب
وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تنبروا اسمي ، » وقدم الرسول اهتماماً بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وبنبيك الذي أرسلت » ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه ، لأنه نبىء ثم أرسل ، وأيضاً في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد ، و « الأُّمي » بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة .
قال القاضي أبو محمد : واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة ، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم ، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة ، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة ، وهذا أيضاً مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع ، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبوحاتم « الأَمي » بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد ، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم ، قال ابن جني : وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب .
والضمير في قوله : { يجدونه } لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد صفته ونعته .
وروي أن الله عز وجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم ، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا : إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظراً ، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي عن عبد الله بن عمر ، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو يصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فنقيم به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً » .
وفي البخاري « فنفتح به عيوناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً » ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال « قلوباً غلفاً وآذاناً صموماً » ، قال الطبري وهي لغة حميرية وقد رويت « غلوفياً وصمومياً » .
قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهماً وعجمة .
وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يجعله متعلقاً ب { يجدونه } في موضع الحال على تجوز ، أي يجدونه في التوراة أمراً بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم ، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم ، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج ، وقال أبو علي الفارسي في الإغفال { يأمرهم } عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى { خلقه من تراب } [ آل عمران : 59 ] تفسير للمثل ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يجدونه } لأن الضمير للذكر والاسم ، والذكر والاسم لا يأمران .
قال القاضي أبو محمد : وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي ، وانظر و { بالمعروف } ما عرف الشرع ، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم « بعثت لأتمم محاسن الأخلاق » و { المنكر } مقابله .
و { الطيبات } قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها ، ومذهب مالك رحمه الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحاً وتشريفاً ، وبحسب هذا يقول في { الخبائث } إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس « الخبائث » هي لحم الخنزير والربا وغيره ، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها ، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع ، ويرى « الخبائث » لفظاً عاماً في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى ، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافاً ليس هذا موضع تقصيه .
وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } الآية ، { يضع } كأن قياسه أن يكون « يضِع » بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد ، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو « ويضع عنهم » العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع ، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم ، و « الإصر » الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد ، و « الإصر » أيضاً العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم ، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير ، قال : « الإصر » شدة العبادة .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس « إصرهم » وقرأ ابن عامر وحده وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر « آصارهم » بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة ، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع ، قال أبو حاتم : في كتاب بعض العلماء « أصرهم » واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط ، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال : هي لغة .
{ والأغلال التي كانت عليهم } عبارة مستعارة أيضاً لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول ، وأن لا دية ولا بد من قتل للقاتل ، وترك الأشغال يوم السبت ، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه ، هذا قول جمهور المفسرين ، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
إذهب بها إذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه
أي لزمك عارها ومن هذا المعنى قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل
يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن زيد : إنما المراد هنا ب { الأغلال } قول الله عز وجل في اليهود { غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها .
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه } وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى « عزروه » بالتخفيف ، وجمهور الناس على التشديد في الزاي ، ومعناه في القراءتين وقروه ، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة ، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة ، و { النور } كناية عن جملة الشرع ، وقوله : { معه } فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا ، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء بالنور ، و { المفلحون } معناه الفائزون ببغيتهم ، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَألأَرْضِ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنَتَىَ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً }
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه بإشهار الدعوة والحض على الدخول في الشرع ، وذلك أنه لما رجا الأمة المتبعة للنبي الأمي التي كتب لهم رحمته عقب ذلك بدعاء الناس إلى الاتباع الذي معه تحصل تلك المنازل وهذه الآية خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة وإلى الجن ، قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث ، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم ، ثم إنه لما أعلن بالرسالة من عند الله أردف بصفة الله التي تقتضي الإذعان له وهي أنه ملك السموات والأرض بالخلق والإبداع والإحياء والإماتة لا إله إلا هو ولا معبود سواه .
وقوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسوله } الآية ، هو الحض على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { الذي يؤمن } يريد الذي يصدق { بالله وكلماته } والكلمات هنا الآيات المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل ، وقرأ جمهور الناس « كلماته » بالجمع ، وقرأ عيسى بن عمر « كلمته » بالإفراد الذي يراد به الجمع ، وقرأ الأعمش « الذي يؤمن بالله وآياته » بدل « كلماته » ، وقال مجاهد والسدي : المراد ب « كلماته » أو « كلمته » عيسى بن مريم ، وقوله تعالى : { لعلكم تهتدون } أي على طمعكم وبحسب ما ترونه ، وقوله : { واتبعوه } لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته .
وقوله : { ومن قوم موسى } الآية ، { يهدون } معناه يرشدون أنفسهم ، وهذا الكلام يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين المتقين من بني إسرائيل على عهد موسى وما والاه من الزمن ، فأخبر أنه كان في بني إسرائيل على عتوهم وخلافهم من اهتدى واتقى وعدل ، ويحتمل أن يريد الجماعة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ، ويحتمل ما روي من أن بني إسرائيل لما تقطعوا مرت أمة منهم واعتزلت ودخلت تحت الأرض فمشت في سرب تحت الأرض سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين ، فهم هنالك خلف واد من شهد يقيمون الشرع ويهدون بالحق ، قاله السدي وابن جريج ، وروي بعضه عن ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث بعيد ، وقرأ بعض من الناس « وقطّعناهم » بشد الطاء ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة « وقطَعناهم » بتخفيف الطاء ، ورواها أبان عن عاصم ، ومعناه فرقناهم من القطع ، وقرأ جمهور الناس « عشْرة » بسكون الشين ، وهي لغة الحجاز وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان بخلاف « عَشرة » بفتح الشين ، وقرأت هذه الجماعة أيضاً وطلحة بن مصرف وأبو حيوة « عشِرة » بكسر الشين وهي لغة تميم ، وقال أبو حاتم والعجب أن تميماً يخففون ما كان من هذا الوزن أي أهل الحجاز يشبعون وتناقضوا في هذا الحرف ، وقوله : { أسباطاً } بدل من { اثنتي } .
والتمييز الذي بين العدد محذوف مقدر اثنتي عشرة فرقة أو قطعة أسباطاً ، وإما أن يزول عن التمييز ويقدر وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة ثم أبدل أسباطاً ، والأول أحسن وأبين ، ولا يجوز أن يكون { أسباطاً } تمييزاً لأن التمييز لا يكون إلا مفرداً نكرة ، وأيضاً فالسبط مذكر وهو قد عد مؤنثاً على أن هذه العلة لو انفردت لمنعت إذ السبط بمعنى الأمة ، قال الطبري ، وقال بعض الكوفيين لما كان السبط بمعنى الأمة غلب التأنيث وهو مثل قول الشاعر : [ الطويل ]
فإن كلاباً هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ
قال القاضي أبو محمد : وأغفل هذا الكوفي جمع الأسباط ، وإن ما ذهب إليه إنما كان يجوز لو كان الكلام اثنتي عشرة سبطاً والسبط في ولد إسحاق كالقبيلة في ولد إسماعيل ، وقد قال الزجّاج وغيره : إن السبط من السبط وهو شجر .
قال القاضي أبو محمد : وإنما الإظهر فيه عبراني عرب .
قوله عز وجل :
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُُونَ }
قد تقدم في سورة البقرة أمر الحجر والاستسقاء وأين كان وأمر التظليل وإنزال المن والسلوى ، وذكرنا ذلك بما يغني عن إعادته هاهنا .
و { انبجست } معناه انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار ، وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني { كلوا من طيبات ما رزقناكم } بتوحيد الضمير .
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
المعنى واذكر « إذ قيل لهم » ، والمراد من سلف من بني إسرائيل ، وذلك أنهم لما خرجوا من التيه قيل لهم { اسكنوا هذه القرية } و « القرية » في كلام العرب المدينة مجتمع المنازل ، والإشارة هنا إلى بيت المقدس ، قاله الطبري ، وقيل إلى أريحا ، و { حيث شئتم } أي هي ونعمها لكم مباحة ، وقرأ السبعة والحسن وأبو رجاء ومجاهد وغيرهم « حطةٌ » بالرفع ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « حطةً » بالنصب ، الرفع على خبر ابتداء تقديره طلبنا حطة ، والنصب على المصدر أي حط ذنوبنا حطةً ، وهذا على ان يكلفوا قول لفظة معناها حطة ، وقد قال قوم كلفوا قولاً حسناً مضمنة الإيمان وشكر الله ليكون حطة لذنوبهم ، فالكلام على هذا كقولك قل خيراً . . وتوفية هذا مذكور في سورة البقرة .
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي « نغفر » بالنون « لكم خطيئاتكم » بالتاء مهموز على الجمع ، وقرأ أبو عمرو « نغفر » بالنون « لكم خطاياكم » نحو قضاياكم وهي قراءة الحسن والأعمش ، وقرأ نافع « تُغفر » بتاء مضمومة « لكم خطيئاتُكم » بالهمز وضم التاء على الجمع ، ورواها محبوب عن أبي عمرو ، وقرأ ابن عامر « تُغفر » بتاء مضمومة « لكم خطيئتُكم » واحدة مهمزوة مرفوعة ، قال أبو حاتم : وقرأها الأعرج وفرقة « تُغفر بالتاء وفتحها على معنى أن الحطة تغفر إذ هي سبب الغفران ، و » بدل « معناه غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه ، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر والإشارة بالقول إلى قول بني إسرائيل حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة ، و » الرجز « الذي أرسل عليهم طاعون يقال مات منه في يوم سبعون ألفاً ، وتقدم أيضاً استيعاب تفسير هذه الآية .
وقوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } الآية ، قال بعض المتأولين : إن اليهود المعارضين لمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا إن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبخة لهم ومقررة ما كان من فعل أهل هذه القرية ، فسؤالهم إنما كان على جهة التوبيخ و { القرية } هنا مدين قاله ابن عباس ، وقيل أيلة ، قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير وعكرمة والسدي والثوري ، وقال قتادة هي مقنا بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد هي مقناة ساحل مدين ، ويقال فيها مغنى بالغين مفتوحة ونون مشددة ، وقيل هي طبرية قاله الزهري ، و { حاضرة } يحتمل أن يريد معنى الحضور أي البحر فيها حاضر ، ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في مدن البحر ، و { إذ يعدون } معناه يخالفون الشرع من عدا يعدو ، وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك » يعَدُّون « ، قال أبو الفتح أراد يعتدون فأسكن التاء ليدغمها في الدال ونقل فتحها إلى العين فصار » يعَدُّون « بفتح العين وشد الدال المضمومة ، والاعتداء منهم في السبت هو نفس العمل والاشتغال كان صيداً أو غيره إلا أنه كان في هذه النازلة بالصيد وكان الله عز وجل ابتلاهم في أمر الحوت بأن يغيب عنهم سائر الجمعة فإذا كان يوم السبت جاءهم في الماء شارعاً أي مقبلاً إليهم مصطفاً كما تقول أشرعت الرماح إذا مدت مصطفة ، وهذا يمكن أن يقع من الحوت بإرسال من الله كإرسال السحاب أو بوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : » ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة « ، ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة في ذلك اليوم على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة .
قال رواة هذا القصص : فيقرب الحوت ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل غابت كثرته ولم يبق منه إلا القليل الذي يتعب صيده ، قاله قتادة ففتنهم ذلك وأضر بهم فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطرق .
وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطاً ويصنع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد مضروب ، وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت وجاهزت بالنهي واعتزلت ، والعامل في قوله : { ويوم لا يسبتون } قوله : { لا تأتيهم } وهو ظرف مقدم ، وقرأ عمر بن عبد العزيز « حيتانهم يوم أسباتهم » ، وقرأ نافع وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر والناس « يسبِتون » بكسر الباء ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف « يسبتُون » بضمها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعاصم بخلاف « يُسبتون » من أسبت إذا دَخل في السبت ، ومعنى قوله : { كذلك } الإشارة إلى أمر الحوت وفتنتهم به ، هذا على من وقف على { تأتيهم } ومن وقف على { كذلك } فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعاً ، أي فما أتى منها فهو قليل ، و { نبلوهم } أي نمتحنهم لفسقهم وعصيانهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرته واقتصرت منه على ما لا تفهم ألفاظ الآية إلا به .
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، فرقة عصت وصادت ، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت ، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه ، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية { لم تعظون قوماً } يريدون العاصية { الله مهلكهم أو معذبهم } على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية ، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي ، قاله ابن عباس ، وقال أيضاً : ما أدري ما فعل بهم ، وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت قاله عكرمة والحسن وغيرهما ، وقال ابن الكلبي فيما أسند عنه الطبري إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين ، فرقة عصت وجاهرت وفرقة نهت وغيرت واعتزلت ، وقالت للعاصية إن الله يهلكهم ويعذبهم ، فقالت أمة من العاصين للناهين على جهة الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أن الله مهلكهم أو معذبهم .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أصوب ، وتؤيده الضمائر في قوله : { إلى ربكم ولعلهم } فهذه المخاطبة تقتضي مخاطِباً ومخاطباً ومكنياً عنه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي « معذرةٌ » بالرفع ، أي موعظتنا ، معذرة أي إقامة عذر ، وقرأ عاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف « معذرةً » بالنصب أي وعظنا معذرة ، قال أبو علي حجتها أن سيبويه قال : لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب .
قال القاضي أبو محمد : الرجل القائل في هذا المثال معتذر عن نفسه وليس كذلك الناهون من بني إسرائيل فتأمل ، ومعنى { مهلكهم } في الدنيا { أو معذبهم } في الآخرة ، وقوله : { لعلهم يتقون } يقتضي الترجي المحض ، لأنه من قول آدميين .
والضمير في قوله : { نسوا } للمهنيين وهو ترك سمي نسياناً مبالغة إذ أقوى منازل الترك أن ينسى المتروك . و { ما } في قوله : { ما ذكروا به } معنى الذي ، ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر ، و { السوء } لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية صيد الحوت ، و { الذين ظلموا } هم العاصون ، وقوله : { بعذاب بئيس } معناه مؤلم موجع شديد ، وقرأ نافع وأهل المدينة أبو جعفر وشيبة وغيرهما « بَيْسٍ » بكسر الباء وسكون الياء وكسر السين وتنوينها ، وهذا على أنه فعل سمي به كقوله صلى الله عليه وسلم « أنهاكم عن قيل وقال » وقرأ الحسن بن أبي الحسن « بيس » كما تقول بيس الرجل وضعّفها أبو حاتم ، قال أبو عمرو : وروي عن الحسن « بئس » بهمزة بين الباء والسين ، وقرأ نافع فيما يروي عنه خارجه « بَيْسٍ » بفتح الباء وسكون الياء وكسر السين منونة ، وروى مالك بن دينار عن نصر بن عاصم « بَيَس » بفتح الباء والياء منونة على مثل جمل وجيل ، وقرأ أبو عبد الرحمن المقري « بَئِس » بفتح الباء وهمززة مكسورة وسين منونة على وزن فعل ، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات : [ المديد ]
ليتني ألقى رقية في ... خلوة من غير ما بئس
قال أبو عمرو الداني هي قراءة نصر بن عاصم وطلحة بن مصرف ، وروي عن نصر « بِيس » بباء مكسورة من غيرهم ، قال الزهراوي وروي عن الأعمش « بئِّسٍ » الباء مفتوحة والهمزة مكسورة مشددة والسين مكسورة منونة ، وقرأت فرقة « بئس » كالتي قبل إلا فتح السين ، ذكرها أبو عمرو الداني عما حكى يعقوب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية أبي قرة عنه وعاصم في رواية حفص عنه « بئيسٍ » بباء بعد الهمزة المكسورة والسين المنونة على وزن فعيل ، وهذا وصف بالمصدر كقولهم عذير الحي والنذير والنكير ، ونحو ذلك ، وهي قراءة الأعرج ومجاهد وأهل الحجاز وأبي عبد الرحمن ونصر بن عاصم والأعمش وهي التي رجح أبو حاتم ، ومنه قول ذي الأصبع العدواني : [ مجزوء الكامل ]
حنقاً عليّ ولا أرى ... لي منهما نشراً بئيسا
وقرى أهل مكة « بئيس » كالأول إلا كسر الباء على وزن فعيل قال أبو حاتم : هما لغتان ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه « بَيْئسَ » بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعَل ومعناه شديد ، ومنه قول امرىء القيس بن عابس الكندي : [ الرجز ]
كلاهما كان رييساً بَيْئَسا ... يضرب في يوم الهياج القونسا
فهي صفة كضيغم وحيدر ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه « بَيْئِس » كالتي قبل إلا كسر الهمزة على وزن فيعِل ، وهذا شاذ لأنه لا يوجد فعِل في الصحيح وإنما يوجد في المعتل مثل سيد وميت ، وقال الزهراوي : روى نصر عن عاصم « بيْس » على مثال ميت وهذا على أنه من البوس لا أصل له في الهمز ، قال أبو حاتم زعم عصمة أن الحسن والأعمش قرءا « بِئْيَس » الباء مكسورة والهمزة ساكنة والياء مفتوحة على مثال خِدْيَم ، وضعفها أبو حاتم ، وقرأ ابن عامر من السبعة « بِئْسٍ » بكسر الباء وسكون الهمزة وتنوين السين المكسورة وقرأت فرقة « بَأْس » بفتح الباء وسكون الألف ، وقرأ أبو رجاء « بائِس » على وزن فاعِل ، وقرأ فرقة « بَيَسَ » بفتح الباء والياء والسين على وزن فَعَلَ ، وقرأ مالك بن دينار « بَأْسَ » بفتح الباء والسين وسكون الهمزة على وزن فَعْلَ غير مصروف ، وقرأت فرقة « بأس » مصروفاً ، وحكى أبو حاتم « بيس » قال أبو الفتح هي قراءة نصر بن عاصم ، وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة « بِيِس » بكسر الباء وبهمز همزاً خفيفاً .
قال القاضي أبو محمد : ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة ، وقوله : { بما كانوا يفسقون } أي لأجل ذلك وعقوبة عليه ، و « العتو » الاستعصاء وقلة الطواعية ، وقوله : { قلنا لهم } يحتمل أن يكون قولاً بلفظ من ملك أسمعهم ذلك فكان أذهب في الإغراب والهوان والإصغار ، ويحتمل أن يكون عبارة عن المقدرة المكونة لهم قردة ، و { خاسئين } خبر بعد خبر ، هذا اختيار أبي الفتح ، وضعف الصفة وكذلك هو ، لأن القصد ليس التشبيه بقردة مبعدات .
قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن يكون { خاسئين } حالاً من الضمير في { كونوا } ، والصفة أيضاً متوجهة مع ضعفها ، وروي أن الشباب منهم مسخوا قردة والرجال الكبار مسخوا خنازير ، وروي أن مسخهم كان بعد المعصية في صيد الحوت بعامين وقال ابن الكلبي إن إهلاكهم كان في زمن داود ، وروي أن الناهين قسموا المدينة بينهم وبين العاصين بجدار ، فلما أصحبوا ليلة أهلك العاصون لم يفتح مدينة العاصين حتى ارتفع النهار فاستراب الناهون لذلك فطلع أحد الناس على السور فرآهم ممسوخين قردة تتوالب ، فصاح ، فدخلوا عليهم يعرف الرجل قرابته ويعرف القرد أيضاً كذلك قرابته ، وينضمون إلى قرابتهم فيتحسرون ، قال الزجاج : وقال قوم : يجوز أن تكون هذه القردة من نسلهم .
قال القاضي أبو محمد : وتعلق هؤلاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن أمة من الأمم فقدت وما أراها إلا الفأر إذا قرب لها لبن لم تشرب ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الضب ، وقصص هذا الأمر أكثر من هذا لكن اختصرته واقتصرت على عيونه .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
بنية تأذن هي التي تقتضي التكسب من أذن أي علم ومكن وآذن أي أعلم مثل كرم وأكرم وتكرم إلا أن تعلم وما جرى مجرى هذا الفعل إذا كان مسنداً إلى اسم الله عز وجل لم يلحقه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين ، فإنما يترتب بمعنى علم صفة لا بتكسب بل هي قائمة بالذات وإلى هذا المعنى ينحو الشاعر بقوله :
تعلم أبيت اللعن ... لأنه لم يأمره بالتعلم الذي يقتضي جهالة وإنما أراد أن يوقفه على قوة علمه ، ومنه قول زهير :
تعلم إن شر الناس حي ... ينادي في شعارهم يسار
فمعنى هذه الآية وإذ علم الله ليبعثن عليهم ، ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء ، كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم علم الله لأفعلن كذا ، نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال الطبري وغيره { تأذن } معناه أعلم وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبة { تأذن } إلى الفاعل غير نسبة أعلم ، وتبين ذلك من التعدي وغيره ، وقال مجاهد : { تأذن } معناه قال ، وروي عنه أن معناه أمر ، وقالت فرقة : معنى { تأذن } تألى .
قال القاضي أبو محمد : وقادهم إلى هذا القول دخول اللام في الجواب ، وأما اللفظة فبعيدة عن هذا ، والضمير في { عليهم } لمن بقي من بني إسرائيل لا للضمير في « لهم » . وقوله : { من يسومهم } قال سعيد بن جبير هي إشارة إلى العذاب ، وقال ابن عباس هي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح أنها عامة في كل من حال اليهود معه هذه الحال ، و { يسومهم } معناه يكلفهم ويحملهم ، و { سوء العذاب } الظاهر منه الجزية والإذلال ، وقد حتم الله عليهم هذا وحط ملكهم فليس في الأرض راية ليهودي ، وقال ابن المسيب فيستحب أن تتعب اليهود في الجزية ، ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم الساكنة معهم وتملكوهم ، ثم حسن في آخر هذه الآية لتضمنها الإيقاع بهم والوعيد أن ينبه على سرعة عقاب الله ويخوف بذلك تخويفاً عاماً لجميع الناس ثم رجى ذلك لطفاً منه تبارك وتعالى .
{ وقطعناهم } معناه فرقناهم في الأرض ، قال الطبري عن جماعة من المفسرين : ما في الأرض بقعة إلا وفيها معشر من اليهود ، والظاهر في المشار إليهم في هذه الآية أنهم الذين بعد سليمان وقت زوال ملكهم ، والظاهر أنه قبل مدة عيسى عليه السلام لأنه لم يكن فيهم صالح بعد كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم ، وفي التواريخ في هذا الفصل روايات مضطربة ، و { الصالحون } و { دون ذلك } ألفاظ محتملة أن يدعها صلاح الإيمان ف { دون } بمعنى غير يراد بها الكفرة ، وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان ف { دون ذلك } يحتمل أن يكون في مؤمنين ، و { بلوناهم } معناه امتحناهم ، و { الحسنات } الصحة والرخاء ونحو هذا مما هو بحسب رأي ابن آدم ونظره ، و { السيئات } مقابلات هذه ، وقوله : { لعلهم } أي بحسب رأيكم لو شاهدتم ذلك ، والمعنى لعلهم يرجعون إلى الطاعة ويتوبون من المعصية .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{ خلف } معناه حدث خلفهم و { بعدهم خلْف } بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد : [ الكامل ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع
والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح ، قال أبو عبيدة والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضاً ومنه قول الشاعر :
الا ذلك الخلف الأعور ... وقال مجاهد : المراد ب « الخلف » هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس { ورثوا الكتاب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري « وُرّثوا الكتاب » بضم الواو وشد الراء ، وقوله { يأخذون عرض هذا الأدنى } إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة و « العرض » ما يعرض ويعن ولا يثبت ، و « الأدنى » إشارة إلى عيش الدنيا ، وقوله : { ويقولون سيغفر لنا } ذم لهم باغترارهم وقولهم : { سيغفر } مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم : « والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم » .
وقوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم } الآية ، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل ، و { الكتاب } يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى ، وقوله : { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم ، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك ، وقرأ جمهور الناس : « يقولوا » بياء من تحت وقرأ الجحدري : « تقولوا » بتاء من فوق وقوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ألم يؤخذ } الآية بمعنى المضي ، يقدر : أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، « وادارسوا » ما فيه وقال الطبري وغيره ، قوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ورثوا الكتاب } .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله : { ودرسوا } يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله : { ألم } ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقرأ جمهور الناس : « أفلا تعقلون » بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : « يعقلون » بالياء من أسفل .
وقوله : { والذين } عطف على قوله : { للذين يتقون } وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأبو عمرو والناس : « يَمَسّكون » بفتح الميم وشد السين وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو العالية وعاصم وحده في رواية أبي بكر .
« يمْسِكون » بسكون الميم وتخفيف السين ، وكلهم خفف { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] إلا أبا عمرو فإنه قرأ : « ولا تمَسّكوا » بفتح الميم وشد السين ، وقرأ الأعمش « والذين استمسكوا » وفي حرف أبيّ « والذين مسكوا » يقال أمسك ومسك وهما لغتان بمعنى واحد ، قال كعب بن زهير : [ البسيط ]
فما تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما تمسك الماء الغرابيل
أما أن شد السين يجري مع التعدي بالباء .
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{ نتقنا } معناه اقتلعنا ورفعنا فكأن النتق اقتلاع الشيء ، تقول العرب : نتقت الزبدة من فم القربة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
ونتقوا أحلامنا الأثاقلا ... والناتق الرحم التي تقلع الولد من الرجل ، ومنه قول النابغة :
لم يحرموا حسن الغداء وأمهم ... دحقت عليك بناتق مذكار
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « عليكم بتزويج الأبكار فإنهن أنتق أرحاماً وأطيب أفواهاً » الحديث . وقد جاء في القرآن بدل هذه اللفظة في هذه القصة بعينها رفعنا لكن { نتقنا } ، و { فوقَهم } أعطت الرفع بزيادة قرينة هي أن الجبل اقتلعته الملائكة وأمر الله إياه ، وروي أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة فقال عن الله تعالى هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه؟ فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم ، قالوا : انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة قبلناها ، قال : قبلوها بما فيها قالوا : لا ، فراجعهم موسى فراجعوا ثلاثاً فأوحى الله عز وجل إلى الجبل فانقلع وارتفع فوق رؤوسهم ، فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم ألا ترون ما يقول ربي؟ : لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل قال الحسن البصري : فلما رأوا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجداً على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً أن يسقط عليه فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة ، و « الظلة » ما أظل ومنه { من ظلل من الغمام } [ البقرة : 210 ] ومنه { عذاب يوم الظلة } [ الشعراء : 189 ] ومنه قول أسيد بن حضير للنبي صلى الله عليه وسلم : قرأت البارحة « فغشي الدار مثل الظلة فيها أمثال المصابيح » فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « تلك السكينة تنزلت للقرآن » فإن قيل فإذا كان الجبل ظلة فما معنى : كأنه؟ فالجواب أن البشر إنما اعتادوا هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذا كانت على عمد ، فلما كان الجبل على غير عمد قيل { كأنه ظلة } أي كأنه على عمد ، { وظنوا } قال المفسرون : معناه أيقنوا .
قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر عندي كذلك بل هو موضع غلبة الظن مع بقاء الرجاء ، وكيف يوقنون بوقوعه وموسى عليه السلام يقول : إن الرمي به إنما هو بشرط أن لا يقبلوا التوراة والظن إنما يقع ويستعمل في اليقين متى كان ذلك المتيقن لم يخرج إلى الحواس وقد يبين هذا فيما سلف من هذا الكتاب ثم قبل لهم في وقت ارتفاع الجبل : { خذوا ما آتيناكم بقوة } فأخذوها والتزموا جميع ما تضمنته من شدة ورخاء فما وفوا ، وقرأ جمهور الناس : { واذكروا } وقرأ الأعمش فيما حكى أبو الفتح عنه : « واذكروا ولعلكم » على ترجيهم وهذا تشدد في حفظها والتهمم بأمرها .
وقوله تعالى : { وإذ أخذ ربك } الآية ، التقدير واذكر إذ أخذ وقوله : { من ظهورهم } قال النحاة : هو بدل اشتمال من قوله : { من بني آدم } ، وألفاظ هذه الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم من ظهورهم وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظة وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وغيرهما أن الله عز وجل لما خلق آدم وفي بعض الروايات لما أهبط آدم إلى الأرض في دهناء من أرض السند قاله ابن عباس ، وفي بعضها أن ذلك بنعمان وهي عرفة وما يليها قاله أيضاً ابن عباس وغيره ، مسح على ظهره وفي بعض الروايات بيمينه وفي بعض الروايات ضرب منكبه فاستخرج منها أي من المسحة أو الضربة نسم بينه ففي بعض الروايات كالذر وفي بعضها كالخردل وقال محمد بن كعب : إنها الأرواح جعلت لها مثالات ، وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس وجعل الله لهم عقولاً كنملة سليمان وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره » فأقروا بذلك والتزموه وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية ، فشهد بعضهم على بعض ، قال أبيّ بن كعب وأشهد عليهم السماوات السبع فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عيله العهد في ذلك اليوم والمقام ، وقال السدي أعطى الكفار العهد يومئذ كارهين على وجه التقية .
قال القاضي أبو محمد : هذه نخيلة مجموع الروايات المطولة ، وكأن ألفاظ هذه الأحاديث لا تلتئم مع ألفاظ الآية ، وقد أكثر الناس في روم الجمع بينهما فقال قوم : إن الآية مشيرة إلى هذا التناسل الذي في الدنيا ، و { آخذ } بمعنى أوجد على المعهود وأن الإشهاد هو عند بلوغ المكلف وهو قد أعطي الفهم ونصبت له هذه الصنعة الدالة على الصانع ، ونحا إلى هذا المعنى الزجّاج ، وهو معنى تحتمله الألفاظ لكن يرد عليه تفسير عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما الآية بالحديث المذكور ، وروايتهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وطوّل الجرجاني في هذه المسألة ومدار كلامه على أن المسح وإخراج الذرية من أظهر آدم حسب الحديث ، وقيل في الآية أخذ من ظهورهم إذ الإخراج من ظهر آدم الذي هو الأصل إخراج من ظهور بنيه الذين هم الفرع إذ الفرع والأصل شيء واحد ، إلى كلام كثير لا يثبت للنقد ، وقال غيره : إن جميع ما في الحديث من مسح بيمينه وضرب منكبه ونحو هذا إنما هي عبارة عن إيجاد ذلك النسم منه ، و « اليمين » عبارة عن القدرة أو يكون الماسح ملكاً بأمر الله عز وجل فتضمن الحديث صدر القصة وإيجاد النسم من آدم ، وهذه زيادة على ما في الآية ، ثم تضمنت الآية ما جرى بعد هذا من أخذ العهد ، والنسم حضور موجودون هي تحتمل معنيين أحدهما ن يكون أخذ عاملاً في عهد أو ميثاق تقدره بعد قوله { ذرياتهم } ويكون قوله { من ظهورهم } لبيان جنس النبوة إذ المراد من الجميع التناسل ويشركه في لفظة بني آدم بنوه لصلبه وبنوه بالحنان والشفقة ويكون قوله : { من ذرياتهم } بدلاً من { بني آدم } ، والمعنى الآخر أنه لما كانت كل نسمة هنالك لها نسبة إلى التي هي من ظهرها كأن تعيين تلك النسبة أخذ من الظهر إذ ستخرج منه فهي المستأنف فالمعنى وإذ عينوا بهذه النسبة وعرفوا بها فذلك أخذ ما و { أخذ } على هذا عامل في { ذرياتهم } وليس بمعنى مسح وأوجد بل قد تقدم إيجادهم كما تقدم الحديث المذكور ، فالحديث يزيد معنى على الآية وهو ذكر آدم وأول إيجاد النسم كيف كان .
وقال الطرطوشي إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وهو قد نسيه إلى غير هذا مما ليس بتفسير ولا من طريقه .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : « ذرياتهم » جمع جمع وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي : « ذريتهم » والإفراد هنا جمع وقد تقدم القول على لفظ الذرية في سورة آل عمران .
وروي في قصص هذه الآية : أن الأنبياء عليهم السلام كانوا بين تلك النسم أمثال السرج وأن آدم عليه السلام رأى داود فأعجبه فقال : من هذا؟ فقيل : نبي من ذريتك فقال : كم عمره؟ فقيل ستون سنة ، فقال زيدوه من عمري أربعين سنة فزيدت قال : وكان عمر آدم ألفاً فلما أكمل تسعمائة وستين جاء ملك الموت فقال له آدم بقي لي أربعون سنة فرجع ملك الموت إلى ربه فأخبره فقال له قل له إنك أعطيتها لابنك داود فتوفي عليه السلام بعد أن خاصم في الأربعين ، قال الضحاك بن مزاحم : من مات صغيراً فهو على العهد الأول ومن بلغ فقد أخذه العهد الثاني يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن ، وحكى الزجاج عن قوم أنهم قالوا إن هذه الآية عبارة عن أن كل نسمة إذا ولدت وبلغت فنظرها في الأدلة المنصوبة عهد عليها في أن تؤمن وتعرق وتعرف الله ، وقد تقدم ذكر هذا القول وهو قول ضعيف منكب عن الأحاديث المأثورة مطرح لها .
وقوله : { شهدنا } يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض أي شهدنا عليكم لئلا تقولوا يوم القيامة غفلنا عن معرفة الله والإيمان به فتكون مقالة من هؤلاء لهؤلاء ، ذكره الطبري ، وعلى هذا لا يحسن الوقف على قوله : { بلى } ويحتمل أن يكون قوله { شهدنا } من قول الملائكة فيحسن الوقف على قوله { بلى } ، قال السدي : المعنى قال الله وملائكته شهدنا ، ورواه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ السبعة غير أبي عمرو : « أن تقولوا » على مخاطبة حاضرين ، وقرأ أبو عمرو وحده ، « أن يقولوا » على الحكاية عن غائبين وهي قراءة ابن عباس وابن جبير وابن محيصن والقراءتان تتفسر بحسب المعنيين المذكورين ، و { أن } في موضع نصب على تقدير مخافة أن .
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
قال القاضي أبو محمد : المعنى في هذه الآيات أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكرو بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان ، إحداهما كنا غافلين ، والأخرى كنا تباعاً لأسلافنا فكيف نهلك ، والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا فوقعت شهادة بعضهم على بعض أو شهادة الملائكة عليهم لتنقطع لهم هذه الحجج ، والاختلاف في « يقولوا » أو « تقولوا » بحسب الأول .
وقوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات } تقديره وكما فعلنا هذه الأمور وأنفذنا هذه المقادير فكذلك نفصل الآيات ونبينها لمن عاصرك وبعث إليه ، { لعلهم } على ترجيهم وترجيكم وبحسب نظر البشر ، { يرجعون } إلى طاعة الله ويدخلون في توحيده وعبادته ، وقرأت فرقة « يفصل » بالياء .
وقوله تعالى : { واتل عليهم } الآية { اتل } معناه قص واسرد ، والضمير في { عليهم } عائد على حاضري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار وغيرهم ، واختلف المتأولون في الذي أوتي الآيات ، فقال عبد الله بن مسعود وغيره : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعياً إلى الله تعالى وإلى الشريعة وعلمه من آيات الله ما يمكن أن يدعو به وإليه ، فلما وصل رشاه الملك وأعطاه على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ، ففعل وفتن الملك به الناس وأضلهم ، وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم ، وقيل بلعام بن عابر ، وقيل ابن آبر ، وقيل غير هذا مما ذكره تطويل ، وكان في جملة الجبارين الذي غزاهم موسى عليه السلام ، فلما قرب منهم موسى لجؤوا إلى بلعام وكان صالحاً مستجاب الدعوة ، وقيل كان عنده علم من صحف إبراهيم ونحوها ، وقال مجاهد كان رشح للنبوءة وأعطيها فرشاه قومه على أن يسكت ففعل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود لا يصح عن مجاهد ، ومن أعطي النبوءة فقد أعطي العصمة ولا بد ، ثبت هذا بالشرع ، وقد نص معنى ما قلته أبو المعالي في كتاب الشامل ، وقيل كان يعلم اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس أيضاً ، وهذا الخلاف في المراد بقوله : { آياتنا } ، فقال له قومه ادع الله تعالى على موسى وعسكره ، فقال لهم وكيف أدعوا على نبي مرسل ، فما زالوا به حتى فتنوه فخرج حتى أشرف على جبل يرى منه عسكر موسى ، وكان قد قال لقومه لا أفعل حتى أستأمر ربي ففعل فنهي عن ذلك ، فقال لهم قد نهيت ، فما زالوا به قال أستأمر ربي ثانية ففعل فسكت عنه فأخبرهم فقالوا له إن الله لم يدع نهيك إلا وقد أراد ذلك ، فخرج ، فلما أشرف على العسكر جعل يدعو على موسى فتحول لسانه بالدعاء لموسى والدعاء على قومه ، فقالوا له ما تقول؟ فقال إني لا أملك إلا هذا وعلم أنه قد أخطأ ، فروي أنه خرج لسانه على صدره ، فقال لقومه إني قد هلكت ولكن لم تبق لكم إلا الحيلة فأخرجوا النساء إلى عسكر موسى على جهة التجرد وغيره ومروهن ألا تمتنع امرأة من رجل فإنهم إذا زنوا هلكوا ، ففعلوا فخرج النساء فزنى بهن رجال بني إسرائيل ، وجاء فنحاص بن ألعيزار بن هارون ، فانتظم برمحه امرأة ورجلاً من بني إسرائيل ، ورفعهما على أعلىلرمح فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً ، ثم ذكر المعتز عن أبيه أن موسى عليه السلام قتل بعد ذلك الرجل المنسلخ من آيات الله ، قال المهدوي : روي أنه دعا على موسى أن لا يدخل مدينة الجبارين فأجيب ، ودعا عليه موسى صلى الله عليه وسلم أن ينسى اسم الله الأعظم فأجيب قال الزجّاج : وقيل إن الإشارة إلى منافقي أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : وصواب هذا أن يقال إلى كفار أهل الكتاب لأنه لم يكن منهم منافق إنما كانوا مجاهرين ، وفي هذه القصة روايات كثيرة اختصرتها لتعذر صحتها واقتصرت منها على ما يخص ألفاظ الآية ، وقالت فرقة : المشار إليه في الآية رجل كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات فترك أن يدعو بها في مصالح العباد فدعا بواحدة أن ترجع امرأته أجمل النساء ، فكان ذلك ، فلما رأت نفسها كذلك أبغضته واحتقرته فدعا عليها ثانية فمسخت كلبة ، فشفع لها بنوها عنده فانصرفت إلى حالها فذهب الدعوات ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي المشار إليه في الآية أمية بن أبي الصلت ، وكان قد أوتي علماً ، وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء؟ فقيل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء ، فارتد ورجع ، وقال : الآن حلت لي الخمر ، وكان قد حرمها على نفسه ، فمر حتى لحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات ، و { انسلخ } عبارة عن البراءة منها والانفصال والبعد كالسلخ من الثياب ، والجلد و { أتبعه } صيره تابعاً كذا قال الطبري إما لضلالة رسمها له وإما لنفسه ، وقرأ الجمهور « فأتبعه » بقطع الألف وسكون التاء ، وهي راجحة لأنها تتضمن أنه لحقه وصار معه ، وكذلك { فأتبعه شهاب } [ الحجر : 18 ] و { فأتبعهم فرعون } [ يونس : 90 ] وقرأ الحسن فيما روى عنه هارون « فاتّبعه » بصلة الألف وشد التاء وكذلك طلحة بن مصرف بخلاف ، وكذلك الخلاف عن الحسن على معنى لازمه « اتبعه » بالإغواء حتى أغواه ، و { من الغاوين } أي من الضالين .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
يقول الله عز وجل : { ولو شئنا لرفعناه } قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في : { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له ، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير على هذا عائد على الآيات ، ثم ابتدأ وصف حاله ، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى { لرفعناه } أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه ، { ولكنه أخلد إلى الأرض } فالكلام متصل ، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ، فمن أوتي هذا ، و { أخلد } معناه لازم وتقاعس وثبت ، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد ، ومنه قول زهير : [ الكامل ]
لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقوله : { إلى الأرض } يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ ، قاله السدي وغيره ، ويحتمل أن يرد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض ، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان ، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية ، وقوله : { فمثله كمثل الكلب } قال السدي وغيره : إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة ، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه وتركه دون حمل عليه ، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب ، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على « مثل » ، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب ، وهو في الفرس ضبح ، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال ، وذكر الطبري أن معنى { إن تحمل عليه } أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا ، وقوله : { ذلك مثل القوم } أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقوله : { فاقصص القصص } أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك فيؤمنون .
وقوله : { ساء مثلاً } قال الزجاج : التقدير ساء مثلاً مثل القوم ، لأن الذي بعد « بئس » و « نعم » إنما يتفسر من نوعه ، كما تقول بئس رجلاَ زيد ، ولما انحذف مثل أقيم القوم مقامه ، والرفع في ذلك بالابتداء والخبر فيما تقدم ، وقرأ الجحدري « ساء مثلُ القوم » ، ورفع مثل على هذه القراءة ب { ساء } ، ولا تجري { ساء } مجرى « بئس » إلا إذا كان ما بعدها منصوباً ، قال أبو عمرو الداني : قرأ الجحدري « مِثلُ » بكسر الميم ورفع اللام ، وقرأ الأعمش « مَثَلُ » بفتح الميم والثاء ورفع اللام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خلاف ما ذكر أبو حاتم فإنه قال : قرأ الجحدري والأعمش « ساء مثلُ » بالرفع .
وختمت هذه الآيات التي تضمنت ضلال أقوام والقول فيه بأن ذلك كله من عند الله ، الهداية منه وبخلقه واختراعه وكذلك الإضلال ، وفي الآية تعجب من حال المذكورين ، ومن أضل فقد حتم عليه بالخسران ، والثواب والعقاب متعلق بكسب ابن آدم .
وقوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } خبر من الله تعالى أنه خلق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيراً ، وفي ضمنه وعيد للكفار ، و « ذرأ » معناه خلق وأوجد مع بث ونشر ، وقالت فرقة اللام في قوله : { لجهنم } هي لام العاقبة أي ليكون أمرهم ومئالهم لجهنم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه ، وهذه اللام مثل التي في قوله الشاعر :
يا أم فرو كفي اللوم واعترفي ... فكل والدة للموت تلد
وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم جهنم ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم ثم أسند فيه حديثاً من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { كثيراً } وإن كان ليس بنص في أن الكفار أكثر من المؤمنين فهو ناظر إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم « قال الله لآدم أخرج بعث النار فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة » .
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
وصفت هذه الصنيفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه ، والفقه الفهم ، وأعينهم لا تبصر ، وآذانهم لا تسمع ، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول : فلان أصم عن الخنا .
ومنه قول مسكين الدارمي : [ الكامل أحذ مضمر ]
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي السترُ
وأصم عمّا كان بينهما ... عمداً وما بالسمعِ من وَقْرِ
ومنه قول الآخر : [ الوافر ]
وعوراء الكلام صممت عنها ... ولو أني أشاء بها سميع
وبادرة وزعت النفس عنها ... وقد بقيت من الغضب الضلوع
ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك : [ مخلع البسيط ]
وادخل إذا ما دخلت أعمى ... واخرج إذا ما خرجت أخرسْ
فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم { لا يفقهون } و { لا يبصرون } و { لا يسمعون } وفسر مجاهد هذا بأن قال : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق ، و { أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس ، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب ، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع ، ثم حكم عليهم بأنهم { أضل } ، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك ، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا ، ثم بين بقوله : { أولئك هم الغافلون } الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير .
وقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } الآيات ، السبب في هذه الآية على ما روي ، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال : محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد لآهلة كثيرة فنزلت هذه و { الأسماء } هنا بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره ، و { الحسنى } : مصدر وصف به ، ويجوز أن تقدر { الحسنى } فعلى مؤنثه أحسن ، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال { مآرب أخرى } [ طه : 18 ] وكما قال { يا جبال أوبي معه } [ سبأ : 10 ] وهذا كثير ، وحسن الأسماء إنام يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها ، والنص عليها ، وانضاف إلى ذلك أيضاً أنها إنما تضمنت معاني حساناً شريفة .
واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك ، إلا أنه لم ير منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاء والجمهور على المنع ، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضاً ، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً ، واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن مثل قوله :
{ الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] { ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] ونحو ذلك هل يطلق مها اسم الفاعل؟ فقالت فرقة : لا يطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيداً بسببه فيقال : الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً ، والقول الأول أقوى ولا ضرورة تدفع إلى القول الثاني لأن صيغة الفعل الواردة في كتاب الله تغني ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في الحديث وتواتر ، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وقد ورد في الترمذي حديث عن أبي هريرة ونص فيه تسعة وتسعين اسماً ، وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة » ، ومعنى أحصاها عدها وحفظها وتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والعبرة في معانيها ، وهذا حديث البخاري ، والمتحصل منه أن لله تعالى هذه الأسماء مباحاً إطلاقها وورد في بعض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم « يا حنان يا منان » ولم يقع هذا الاسمان في تسمية الترمذي .
وقوله : { فادعوه بها } إباحة بإطلاقها ، وقوله تعالى : { وذروا الذين } قال ابن زيد : معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم ، فالآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] وقوله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } [ الحجر : 3 ] ويقال ألحد ولحد بمعنى جار ومال وانحرف ، وألحد أشهر ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
ليس الإمام بالشحيحٍ الملحِد ... قال أبو علي : ولا يكاد يسمع لأحد وفي القرآن { ومن يرد فيه بإلحاد } [ الحج : 25 ] ومنه لحد القبر المائل إلى أحد شقيه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر « يُلحِدون » بضم الياء وكسر الحاء وكذلك في النحل والسجدة ، وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة « يَلحَدون » بفتح الياء والحاء وكذلك ابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش ، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عز وجل أن يسموا اللات نظيراً إلى اسم الله تعالى قاله ابن عباس : والعزى نظيراً إلى العزيز ، قاله مجاهد ، ويسمون الله رباً ويسمون أوثانهم أرباباً ونحو هذا ، وقوله : { سيجزون ما كانوا يعملون } وعيد محض بعذاب الآخرة ، وذهب الكسائي إلى الفرق بين ألحد ولحد وزعم أن ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى ، قال الطبري : وكان الكسائي يقرأ جميع ما في القرآن بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في النحل فإنه كان يقرؤها بفتح الياء والحاء ويزعم أنها بمعنى الركون وكذلك ذكر عنه أبوعلي .
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
هذه آية تتضمن الخبر عن قوم مخالفين لمن تقدم ذكرهم في أنهم أهل إيمان واستقامة وهداية ، وظاهر لفظ هذه الآية يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة ، قال النحاس : فلا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق .
قال القاضي ابو محمد : سواء بعد صوته أو كان خاملاً ، وروي عن كثير من المفسرين أنها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي في يذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هذه الآية لكم ، وقد تقدم مثلها لقوم موسى » .
وقوله تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا } الآية وعيد ، والإشارة إلى الكفار و { سنستدرجهم } معناه سنسوقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب ، وقوله : { من حيث لا يعلمون } معناه من حيث لا يعلمون أنه استدراج لهم ، وهذه عقوبة من الله على التكذيب بالآيات ، لما حتم عليهم بالعذاب أملى لهم ليزدادوا إثماً وقرأ ابن وثاب والنخعي « سيستدرجهم » بالياء .
وقوله : { أملي } معناه أؤخر ملاءة من الدهر أي مدة وفيها ثلاث لغات فتح الميم وضمها وكسرها ، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر « أن كيدي » على معنى لأجل أن كيدي ، وقرأ جمهور الناس وسائر السبعة « إن كيدي » على القطع والاستئناف ، و { متين } معناه قوي ، قال الشاعر : [ الطويل ]
لإلٍّ علينا واجب لا نضيعه ... متين قواه غير منتكثِ الحبل
وروى ابن إسحاق في هذا البيت أمين قواه ، وهو من المتن الذي يحمل عليه لقوته ، ومنه قول الشاعر وهو امرؤ القيس : [ المتقارب ]
لها متنتان حظاتا كما ... أكبَّ على ساعديه النمر
وهما جنبتا الظهر ، ومنه قول الآخر :
عدلي عدول اليأس وافتج يبتلى ... أفانين من الهوب شد مماتن
ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
ويخدي على صم صلاب ملاطس ... شديدات عقد لينات متان
ومنه الحديث في غزوة بني المصطلق فمتن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس أي سار بهم سيراً شديداً لينقطع الحديث بقول ابن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة .
وقوله : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } الآية ، تقرير يقارنه توبيخ للكفار ، والوقف على قوله { أولم يتفكروا } ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكوره فقال : { ما بصاحبهم من جنة } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة ، وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش ، يا بني فلان ، يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله فقال بعض الكفار حين أصحبوا هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عز وجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره ، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره ، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب ، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقاً فإنما هو في الشر ، وقد يستعمل في الخير مقيداً به ، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه .
وقوله تعالى : { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } الآية ، هذا أيضاً توبيخ للكفار وتقرير ، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكراً ، و { ملكوت } بناء عظمة ومبالغة ، وقوله : { وما خلق الله من شيء } لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه ، و « الشيء » واقع على الموجودات ، وقوله : { وإن عسى } عطف على قوله : { في ملكوت } و { أن } الثاني في موضع رفع ب { عسى } ، والمعنى توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا ولا في أنه قربت آجالهم فماتوا ففات أوان الاستدارك ووجب عليهم المحذور ، ثم وقفهم بأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر : [ الطويل ]
وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل ... والضمير في قوله : { بعده } يراد به القرآن ، وقيل المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع ، وقيل هو عائد على الأجل بعد الأجل إذ لا عمل بعد الموت .
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
هذا شرط وجواب مضمنه اليأس منهم والمقت لهم لأن المراد أن هذا قد نزل بهم وأنهم مثال لهذا ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو عبد الرحمن وقتادة « ونذرُهم » بالنون ورفع الراء وكذلك عاصم في رواية أبي بكر ، وروى عنه حفص و « يذرُهم » بالياء والرفع ، وقرأها أهل مكة وهذا على إضمار مبتدأ ونحن نذرهم أو على قطع الفعل واستئناف القول ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم ، وقرأها كذلك طلحة بن مصرف والأعمش « ويذرْهم » بالياء والجزم عطفاً على موضع الفاء وما بعدها من قوله { فلا هادي له } لأنه موضع جزم ، ومثله قول أبي داود : [ الوافر ]
فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم واستدرج بويا
ومنه قول الآخر : [ الكامل ]
أنّى سلكت فإنني لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
قال أبو علي ومثله في الحمل على الموضع قوله تعالى : { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } [ المنافقون : 10 ] لأنك لو لم تلحق الفاء لقلت أصدق ، وروى خارجة عن نافع « ونذرْهم » بالنون والجزم ، و « الطغيان » الإفراط في الشيء وكأنه مستعمل في غير الصلاح ، و « العمه » الحيرة .
وقوله تعالى : { يسألونك عن الساعة } الآية ، قال قتادة بن دعامة المراد يسألونك كفار قريش ، وذلك ان قريشاً قالت يا محمد إنّا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة ، قال ابن عباس : المراد بالآية اليهود ، وذلك أن جبل بن أبي قشير وسمويل بن زيد قالا له إن كنت نبياً فأخبرنا بوقت الساعة فإنّا نعرفها فإن صدقت آمنا بك ، والساعة القيامة موت كل شيء كان حينئذ حياً وبعث الجميع ، هو كله يقع عليه اسم الساعة واسم القيامة ، و { أيان } معناه متى وهو سؤال عن زمان ولتضمنها الوقت بنيت ، وقرأ جمهور الناس « أيان » بفتح الهمزة ، وقرأ السلمي « إيان » بكسر الهمزة ، ويشبه أن يكون أصلها أي آن وهي مبنية على الفتح ، وقال الشاعر : [ الرجز ]
أيان يقضي حاجتي أيانا ... أما ترى لفعلها إبانا
قال أبو الفتح وزن « أيان » بفتح الهمزة فَعلان وبكسرها فِعلان ، والنون فيهما زائدة ، و { مرساها } رفع بالابتداء والخبر ، { أيان } ومذهب المبرد أن { مرساها } مرتفع بإضمار فعل ومعناه مثبتها ومنتهاها ، مأخوذة من أرسى يرسي ، ثم أمر الله عز وجل بالرد إليه والتسليم لعلمه ، و { يجليها } معناه يظهرها والجلاء البينة الشهود وهو مراد زهير بقوله : [ الوافر ] .
يمين أو نفار أو جلاء ... وقوله : { ثقلت في السماوات والأرض } قال السدي ومعمر عن بعض أهل التأويل : معناه ثقل أن تعلم ويوقف على حقيقة وقتها ، قال الحسن بن أبي الحسن معناه ثقلت هيئتها والفزع منها على أهل السماوات والأرض ، كما تقول خيف العدو في بلد كذا وكذا ، وقال قتادة وابن جريج : معناه ثقلت على السماوات والأرض أنفسها لتفطر السماوات وتبدل الأرض ونسف الجبال ، ثم أخبر تعالى خبراً يدخل فيه الكل أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة دون أن يتقدم منها علم بوقتها عند أحد من الناس ، و { بغتة } مصدر في موضع الحال .
وقوله تعالى : { يسألونك كأنك حفيّ عنها } الآية ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : المعنى يسألونك عنها كأنك حفي أي متحف ومهتبل ، وهذا ينحو إلى ما قالت قريش إنّا قرابتك فأخبرنا ، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد : معناه كأنك حفي في المسألة عنها والاشتغال بها حتى حصلت علمها ، وقرأ ابن عباس فيما ذكر أبو حاتم « كأنك حفي بها » ، لأن حفي معناه مهتبل مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما يسأل عنه ، وقد يجيء { حفي } وصفاً للسؤال ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فلمّا التقينا بين السيف بيننا ... لسائلة عنا حفي سؤالها
ومن المعنى الأول الذي يجيء فيه { حفي } وصفاً لسائل قول الآخر : [ الطويل ]
سؤال حفي عن أخي كأنه ... بذكرته وسنان أو متواسن
ثم أمره ثانية بأن يسلم العلم تأكيداً للأمر وتهمماً به إذ هو من الغيوب الخمسة التي في قوله عز وجل : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث } [ لقمان : 34 ] ، وقيل العلم الأول علم قيامها والثاني علم كنهها وحالها ، وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال الطبري : معناه لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظن أكثرهم أنه مما يعلم البشر .
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
هذا أمر في أن يبالغ في الاستسلام ويتجرد من المشاركة في قدرة الله وغيبه وأن يصف نفسه لهؤلاء السائلين بصفة من كان بها فهو حري أن لا يعلم غيباً ولا يدعيه ، فأخبر أنه لا يملك من منافع نفسه ومضارها إلا ما سنى الله له وشاء ويسر ، وهذا الاستثناء منقطع ، وأخبر أنه لو كان يعلم الغيب لعمل بحسب ما يأتي ولاستعد لكل شيء استعداد من يعلم قدر ما يستعد له ، وهذا لفظ عام في كل شيء ، وقد خصص الناس هذا فقال ابن جريج ومجاهد : « لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح » . وقالت فرقة : أوقات النصر لتوخيتها ، وحكى مكي عن ابن عباس أن معنى لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ الآية تعم هذا وغيره ، وقوله : { وما مسني } يحتمل وجهين وبكليهما قيل ، أحدهما أن { ما } معطوفة على قوله : { لاستكثرت } أي ولما مسني السوء والثاني أن يكون الكلام مقطوعاً تم في قوله : { لاستكثرت من الخير } وابتدأ يخبر بنفي السوء عنه وهو الجنون الذي رموه به ، قال مؤرج السدوسي : { السوء } الجنون بلغة هذيل ، ثم أخبر بجملة ما هو عليه من النذارة والبشارة ، و { لقوم يؤمنون } يحتمل معنيين : أحدهما أن يريد أنه نذير وبشير لقوم يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه ، وهؤلاء الناس أجمع ، والثاني أن يخبر أنه نذير ويتم الكلام ، ثم يبتدىء يخبر أنه بشير للمؤمنين به ، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه .
وقوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } الآية ، قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام بقوله : { وجعل منها زوجها } حواء وقوله { منها } يريد ما تقدم ذكره من أن آدم نام فاستخرجت قصرى أضلاعه وخلقت منها حواء وقوله : { ليسكن إليها } أي ليأنس ويطمئن ، وكان هذا كله في الجنة ، ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطها ، فقال : { فلما تغشاها } أي غشيها وهي كناية عن الجماع ، و « الحمل الخفيف » هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ جمهور الناس « حَملاً » بفتح الحاء ، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير « حِملاً » بكسر الحاء ، وقوله { فمرت به } أي استمرت به ، قال أيوب : سألت الحسن عن قوله : { فمرت به } فقال : لو كنت امرأً عربياً لعرفت ما هي إنما المعنى فاستمرت به .
قال القاضي أبو محمد : وقدره قوم على القلب كأن المراد فاستمر بها كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي ، وقرأ يحيى بن يعمر وابن عباس فيما ذكر النقاش « فمرَت به » بتخفيف الراء ، ومعناه فشكت فيما أصابها هل هو حمل أو مرض ونحو هذا ، وقرأ ابن عباس « فاستمرت به » وقرأ ابن مسعود « فاستمرت بحملها » وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي « فمارت به » معناه أي جاءت به وذهبت وتصرفت ، كما تقول مارت الريح موراً ، و { أثقلت } دخلت في الثقل كما تقول : أصبح وأمسى أي صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ، والضمير في { دعوا } على آدم وحواء .
وروي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدرِ ما هو ، وهذا يقوي قراءة من قرأ « فمرَت به » بتخفيف الراء ، فجزعت لذلك فوجد إبليس إليها السبيل ، فقال لها ما يدريك ما في جوفك ولعله خنزير أو حية أو بهيمة في الجملة وما يدريك من أين يخرج أينشق له بطنك فتموتين أو على فمك أو أنفك؟ ولكن إن أطعتني وسميته عبد الحارث .
قال القاضي أبو محمد : والحارث اسم إبليس ، فسأخلصه لك وأجعله بشراً مثلك ، وإن أنت لم تفعلي قتلته لك ، قال فأخبرت حواء آدم فقال لها ذلك صاحبنا الذي أغوانا في الجنة ، لا نطيعه ، فلما ولدت سمياه عبد الله ، فمات الغلام ، ويروى أن الله سلط إبليس على قتله فحملت بآخر ففعل بها مثل ذلك فحملت بالثالث فلما ولدته أطاعا إبليس فسمياه عبد الحارث حرصاً على حياته ، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله أي في التسمية فقط .
و { صالحاً } قال الحسن معناه غلاماً ، قال ابن عباس : وهو الأظهر بشراً سوياً سلياً ، ونصبه على المفعول الثاني وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي أتيا صالحاً ، وقال قوم إن المعنى في هذه الآية التبيين عن حال الكافرين فعدد النعم التي تعم الكافرين وغيرهم من الناس ، ثم قرر ذلك بفعل المشركين السيّىء فقامت عليهم الحجة ووجب العقاب ، وذلك أنه قال مخاطباً لجميع الناس { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يريد آدم وحواء أي واستمرت حالكم واحداً كذلك ، فهذه نعمة تخص كل أحد بجزء منها ، ثم جاء قوله : { فلما تغشاها } إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً أي هكذا يفعلون فإذا آتاهم الله الولد صالحاً سليماً كما أراده ، صرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين الذي قامت الحجة فيه باقترانه مع النعة العامة ، وقال الحسن بن ابي الحسن فيما حكى عنه الطبري : معنى هذه الآية : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } إشارة إلى الروح الذي ينفخ في كل أحد .
قال القاضي أبو محمد : أي خلقكم من جنس واحد وجعل الإناث منه ، ثم جاء قوله : { فلما تغشاها } إلى آخر الآية وصفاً لحال الناس واحداً واحداً على ما تقدم من الترتيب في القول الذي قبله .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
يقال إن الآية المتقدمة هي في أدم وحواء وإن الضمير في قوله { آتاهما } عائد عليهما ، قال إن الشرك الذي جعلاه هو في الطاعة ، أي أطاعا إبليس في التسمية بعبد الحارث كما كانا في غير ذلك مطيعين لله ، وأسند الطبري في ذلك حديثاً من طريق سمرة بن جندب ، ويحتمل أن يكون الشرك في أن جعلا عبوديته بالاسم لغيره ، وقال الطبري والسدي في قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } إنه كلام منفصل ليس من الأول ، وإن آدم وحواء تم في قوله { فلما آتاهم } ، وإن هذا كلام يراد به مشركو العرب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم لا يساعده اللفظ ، ويتجه أن يقال تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم ، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام ، وجاء الضمير في { يشركون } ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث ، ومن قال إن الآية المتقدمة إنما الغرض منها تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك ، قال في الآية الأخيرة إنها على ذلك الأسلوب وإن قوله { فتعالى الله عما يشركون } المراد بالضمير فيه المشركين ، والمعنى في هذه الآية فلما آتى الله هذين الانسانين صالحاً أي سليماً ذهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركاً وأخرجاه عن الفطرة ، ولفظة الشرك تقتضي نصيبين ، فالمعنى : وجعلا لله فيه ذا شرك لأن إبليس أو أصنام المشركين هي المجعولة ، والأصل أن الكل لله تعالى وبهذا حل الزجاج اعتراض من قال ينبغي أن يكون الكلام « جعلا لغيره شركاً » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر « شِرْكاً » بكسر الشين وسكون الراء على المصدر ، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وعاصم وأبان بن تغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم « شركاء » على الجمع ، وهي بينة على هذا التأويل الأخير وقلقه على قول من يقول : إن الآية الأولى في آدم وحواء ، وفي مصحف أبيّ ابن كعب « فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه » ، وذكر الطبري في قصص حواء وآدم وإبليس في التسمية بعيد الحارث وفي صورة مخاطبتهم أشياء طويلة لا يقتضي الاختصار ذكرها .
وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وعاصم « عما يشركون أيشركون » بالياء من تحت فيهما ، وقرأ أبو عبد الرحمن « عما تشركون » بالتاء من فوق « أتشركون مالا يخلق » الآية ، وروى بعض من قال إن الآيات في آدم وحواء أن إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال : إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس ، فولد له ولد فسماه كذلك وإياه عنى بقوله { أيشركون مالا يخلق شيئاً } ، { وهم يخلقون } على هذا عائد على آدم وحواء والابن المسمى عبد شمس ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه في مشركي الكفار الذين يشركون الأصنام في العبادة وإياها أراد بقوله { ما لا يخلق } ، وعبر عنها بهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائها ، و { يخلقون } معناه ينحتون ويصنعون ، ويحتمل على قراءة « يشركون » بالياء من تحت أني كون المعنى وهؤلاء المشركون يخلقون ، أي فكان قولهم أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلون إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً .
قوله تعالى : { ولا يستطيعون } الآية ، هذه تخرج على تأويل من قال إن المراد آدم وحواء والشمس على ما تقدم ، ولكن بقلق وتعسف من المتأول في المعنى ، وإنما تتسق هذه الآيات ويروق نظمها ويتناصر معناها على التأويل الآخر ، والمعنى ولا ينصرون أنفسهم من أمر الله وإرادته ، ومن لا يدفع عن نفسه فأحرى أن لا يدفع عن غيره .
وقوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى } الآية ، من قال إن الآيات في آدم عليه السلام قال إن هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته مستأنفة في أمر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ، و { لهم } الهاء والميم من { تدعوهم } ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه مخاطبة للمؤمنين والكفار على قراءة من قرأ « يشركون » بالياء من تحت ، وللكفار فقط على من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف ، أي إن هذه حال الأصنام معكم إن دعوتموهم لم يجيبوكم إذ ليس لهم حواس ولا إدراكات ، وقرأ نافع وحده « لا يتْبَعوكم » بسكون التاء وفتح الباء وقرأ الباقون « لا يتَّبِعوكم » بشد التاء المفتوحة وكسر الباء والمعنى واحد ، وفي قوله تعالى : { أدعوتموهم أم أنتم } عطف الاسم على الفعل ، إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
سواء عليك الفقر أم بت ليلة ... بأهل القباب من نمير بت عامر
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
قرأ جمهور الناس « إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » بتثقيل « إنّ » ورفع « عبادٌ » وهي مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم عندهم أي إن هذه الأصنام مخلوقة محدثة ، إذ هي أجسام وأجرام فهي متعبدة أي متملكة ، وقال مقاتل ، إن المراد بهذه الآية طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم الله أنهم عباد أمثالهم لا آلهة ، وقرأ سعيد بن جبير « إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم » بتخفيف النون من « إنْ » على أن تكون بمعنى ما وبنصب قوله « عباداً وأمثالكم » ، والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر ، بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل ، وسيبويه يرى أن « إن » إذا كانت بمعنى « ما » فإنها تضعف عن رتبة « ما » فيبقى الخبر مرفوعاً وتكون هي داخلة على الابتداء والخبر لا ينصبه ، فكان الوجه عنده في هذه القراءة « إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » وأبو العباس المبرد يجيز أن تعمل عمل « ما » في نصب الخبر ، وزعم الكسائي أن « إن » بمعنى « ما » لا تجيء إلا وبعدها إلا كقوله تعالى : { إن الكافرون إلا في غرور } [ الملك : 20 ] ثم بين تعالى الحجة بقوله { فدعوهم } أي فاختبروا فإن لم يستجيبوا فهم كما وصفنا ، وقوله تعالى : { ألهم أرجل } الآية ، الغرض من هذه الآية ، ألهم حواس الحي وأوصافه؟ فإذا قالوا لا ، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة ، قال الزهراوي : المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم؟
قال القاضي أبو محمد : و « تتقون » بهذا التأويل قراءة سعيد بن جبير ، إذ تقتضي أن الأوثان ليست عباداً كالبشر ، وقوله في الآية { أم } إضراب لكل واحدة عن الجملة المتقدمة لها ، وليست « أم » المعادلة لللألف في قوله أعندك زيد أم عمرو؟ لأن المعادلة إنما هي في السؤال عن شيئين أحدهما حاصل ، فإذا وقع التقدير على شيئين كلاهما منفي ف « أم » إضراب عن الجملة الأولى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فرق معنوي ، وأما من جهة اللفظ والصناعة النحوية فهي هي ، وقرأ نافع والحسن والأعرج « يبطِشون » بكسر الطاء وقرأ نافع أيضاً وأبو جعفر وشيبة « يبطُشون » بضمها ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجزهم بقوله { قل ادعوا شركاءكم } أي استنجدوهم إلى إضراري وكيدي ولا تؤخروني ، المعنى فإن كانوا آلهة فسيظهر فعلهم ، وسماهم شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله ، وقرأ أبو عمرو ونافع « كيدوني » بإثبات الياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي « كيدون » بحذف الياء في الوصل والوقف ، قال أبو علي : إذا أشبه الكلام المنفصل أو كان منفصلاً أشبه القافية وهم يحذفون الياء في القافية كثيراًً قد التزموا ذلك ، كما قال الأعشى : [ المتقارب ]
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
وقد حذفوا الياء التي هي لام الأمر كما قال الأعشى : [ الرمل ]
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل
وقوله { فلا تنظرون } أي لا تؤخرون ، ومنه قوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } [ البقرة : 280 ] ، وقوله تعالى : { إن وليي الله } الآية ، أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أن الله هو القادر على كل شيء لا تلك ، عقب ذلك بالإسناد إلى الله والتوكل عليه بأنه وليه وناصره ، وقرأ جمهور الناس والقرأة « إن وليِّيَ الله » بياء مكسورة مشددة وأخرى مفتوحة ، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه « إن وليّ اللَّهُ » بياء واحدة مشددة ورفع الله ، وقال أبو علي لا تخلو هذه القراءة من أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة أو تحذف الياء التي هي لام الفعل وتدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ، ولا يجوز أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة لأنه إذا فعل ذلك انفك الإدغام الأول ، فليس إلا أنه حذف لام الفعل وأدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ، وقرأ ابن مسعود « الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين » ، وقرأ الجحدري فيما ذكر أبو عمرو الداني « أن ولي إله » على الإضافة وفسر ذلك بأن المراد جبريل صلى الله عليه وسلم ، ذكر القراءة غير منسوبة أبو حاتم وضعفها وإن كانت الفاظ هذه الآية تلائم هذا المعنى وتصلح له ، فإن ما قبلها وما بعدها يدافع ذلك .
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
الضمير في قوله { من دونه } عائد على اسم الله تعالى وهذا الضمير مصرح بما ذكرناه من ضعف قراءة من قرأ « إن ولي الله » أنه جبريل صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية أيضاً بيان لحال تلك الأصنام وفسادها وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن غيرها .
وقوله تعالى : { وإن تدعوهم } الآية ، قالت فرقة : المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، والهاء والميم في قوله { تدعوهم } للكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة ولا حلوا منه بطائل ، قاله السدي ومجاهد ، وقال الطبري : المراد بالضمير المذكور الأصنام ، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة وما فيها من تخييل النظر كما تقول دار فلان تنظر إلى دار فلان ، ومعنى الآية على هذا تبين جمودية الأصنام وصغر شأنها ، وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه ، ولا حجة لهم في الآية لأن النظر في الأصنام مجاز محض .
قال القاضي أبو محمد : وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياً على عقولهها فأوعب القول في ذلك لطفاً من الله تعالى بهم .
وقوله تعالى : { خذ العفو } الآية ، وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق ، وقال الجمهور في قوله { خذ العفو } إن معناه اقبل نم الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفواً دون تكلف ، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج ، قاله عبد الله بن الزبير في مصنف البخاري ، وقاله مجاهد وعروة ، ومنه قول حاتم الطائي : [ الطويل ]
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هذه الآية ، في الأموال ، وقيل هي فرض الزكاة أمر بها صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما سهل من أموال الناس ، وعفا أي فضل وزاد من قولهم عفا النبات والشعر أي كثر ، ثم نزلت الزكاة وحدودها فنسخت هذه الآية ، وذكر مكي عن مجاهد أن { خذ العفو } معناه خذ الزكاة المفروضة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا شاذ ، وقوله { وأمر بالعرف } معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : « ما هذا العرف الذي أمر به ، قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له : يا محمد هو أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك » .
قال القاضي أبو محمد : فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير ، وقرأ عيسى الثقفي فيما ذكر أبو حاتم « بالعُرف » بضم الراء والعرْف والعرُف بمعنى المعروف ، وقوله { وأعرض عن الجاهلين } حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا ، هذا قول الجمهور من العلماء ، وقال ابن زيد في قوله { خذ العفو - إلى - الجاهلين } إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مداراة لكفار قريش ثم نسخ ذلك بآية السيف .
قال القاضي أبو محمد : وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة ، لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها .
وقوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } وصية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلاً رجلاً ، والنزغ حركة فيها فساد ، وقلَّما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح ، لا ينزغ الشيطان في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك » ، وفي مصنف الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن للملك لمة وإن للشيطان لمة » .
قال القاضي أبو محمد : وعن هاتين اللمتين هي الخواطر من الخير والشر ، فالأخذ بالواجب هذه الآية يصلح مع الاستعاذة ويصلح أيضاً ما يقول فيه الكفار من الأقاويل فيغضبه الشيطان لذلك ، وعليم كذلك وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله : إن الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{ اتقوا } هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم ، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده ، وأيضاً فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة « طائف » ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « طيّف » ، وقرأ سعيد بن جبير « طيْف » ، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء ، وهي ثابتة عن العرب ، وأنشد أبو عبيدة في ذلك :
أنى المَّ بك الخيال بطيفُ ... ومطافه لك ذكرة وشغوف
ف « طائف » اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و « طيّف » اسم فاعل أيضاً كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و « طيّف » يكون مخففاً أيضاً من طيف كميت من ميت ، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر ، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة ، قال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان .
قال القاضي أبو محمد : وكيف هذا وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
وتصبح عن غب السرى وكأنّما ... ألمّ بها من طائف الجن أولق
ومعنى الآية : إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي ، وقوله { تذكروا } إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل ، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها ، وقرأ ابن الزبير « من الشيطان تأملوا فإذا هم » ، وفي مصحف أبي بن كعب « إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الغضب جند من جند الجن ، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض ، وقوله { مبصرون } من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه .
وقوله تعالى : { وإخوانهم يمدونهم في الغي } الآية ، في هذه الضمائر احتمالات ، قال الزجاج : هذه الآية متصلة في المعنى بقوله : { ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } [ الأعراف : 192 ] .
قال القاضي أبو محمد : في هذا نظر ، وقال الجمهور : إن الآية مقدرة موضعها إلا أن الضمير في قوله { وإخوانهم } عائد على الشياطين والضمير في قوله { يمدونهم } عائد على الكفار وهم المراد بالإخوان ، و { الشيطان } في الآية قبل هذه للجنس فلذلك عاد عليهم هاهنا ضمير جميع فالتقدير على هذا التأويل وإخوان للشياطين يمدونهم الشياطين في الغي ، وقال قتادة إن الضميرين في الهاء والميم للكفار .
قال القاضي أبو محمد : فتجيء الآية على هذه معادلة للتي قبلها أي إن المتقين حالهم كذا وكذا وهؤلاء الكفار يمدهم إخوانهم من الشياطين ثم لا يقصرون ، وقوله { في الغي } يحتمل أن يتعلق بقوله { يمدونهم } وعليه يترتب التأويل الذي ذكرنا أولاً عن الجمهور ، ويحتمل أن يتعلق بالإخوان فعلى هذا يحتمل أن يعود الضميران جميعاً على الكفار كما ذكرناه عن قتادة ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغي بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغي بالإمداد لأن الإنس لا يغوون الشياطين ، والمراد بهذه الآية وصف حالة الكفار مع الشياطين كما وصف حالة المتقين معهم قبل ، وقرأ جميع السبعة غير نافع « يمدونهم » من مددت ، وقرأ نافع وحده « يُمدونهم » بضم الياء من أمددت ، فقال أبو عبيدة وغيره : مد الشيء إذا كانت الزيادة من جنسه وأمده شيء آخر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير مطرد ، وقال الجمهور هما بمعنى واحد إلا أن المستعمل في المحبوب أمد فمنه قوله تعالى : { إنما نمدهم به من مال وبنين } [ المؤمنون : 55 ] وقوله { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] وقوله { أتمدونني بمال } [ النمل : 36 ] والمستعمل في المكروه مد فمنه قوله تعالى : { ويمدهم في طغيانهم } [ البقرة : 15 ] ومد الشيطان للكفرة في الغي هو التزيين لهم والإغواء المتتابع : فمن قرأ في هذه الآية « يمُدونهم » بضم الميم فهو على المنهاج المستعمل ، ومن قرأ « يمدونهم » فهو مقيد بقوله في الغي كما يجوز أن تقيد البشارة فتقول بشرته بشر ، وقرأ الجحدري « يمادّونهم » ، وقوله { ثم لا يقصرون } عائد على الجمع أي هؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين والكفر بالله عز وجل ، وقرأ جمهور الناس « يُقصرون » من أقصر ، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر « يَقصرون » من قصر .
وقوله { وإذا لم تأتهم بآية } سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً ، فكان الكفار يقولون هلا اجتبيتها ، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد وغيرهم : المراد بهذه اللفظة هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك ، والمعنى إذ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تزعمه ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : المراد هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه ، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة ، فأمره الله عز وجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } ثم أشار بقوله هذا إلى القرآن ، ثم وصفه بأنه { بصائر } أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب ، وقالت فرقة : المعنى ذو بصائر ، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بهذا إنما هو سور وآيات وحكم ، وجازت الإشارة إليه بهذا من حيث اسمه مذكر ، وجاز وصفه ب { بصائر } من حيث هو سور وآيات ، { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي لهؤلاء خاصة ، قال الطبري : وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى .
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
ذكر الطبري وغيره أن سبب هذه الآية هو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم ويصيحون عند آيات الرحمة والعذاب ويقول أحدهم إذا أتاهم صليتم؟ وكم بقي؟ فيخبرونه ونحو هذا ، فنزلت الآية أمراً لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة ، وأما قول من قال إنها في الخطبة فضعيف ، لأن الآية مكية ، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، وكذلك ما ذكر الزهراوي أنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ، فأما الاستماع والانصات عن الكلام في الصلاة فإجماع ، وأما الإمساك والإنصات عن القراءة فقالت فرقة : يمسك المأموم عن القراءة جملة قرأ الإمام جهراً أو سراً ، وقالت فرقة : يقرأ المأموم إذا أسر الإمام ويمسك إذا جهر ، وقالت فرقة : يسمك المأموم في جهر الإمام عن قراءة السورة ويقرأ فاتحة الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا القول أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه الآية واجبة الحكم في الصلاة أن ينصت عن الحديث وما عدا القراءة واجبة الحكم أيضاً في الخطبة من السنة لا من هذه الآية ، ويجب من الآية الإنصات إذا قرأ الخطيب القرآن أثناء الخطبة وحكم هذه الآية في غير الصلاة على الندب أعني في نفس الإنصات والاستماع إذا سمع الإنسان قراءة كتاب الله عز وجل ، وأما ما تتضمنه الألفاظ وتعطيه من توقير القرآن وتعظيمه فواجب في كل حالة ، والإنصات السكوت ، و { لعلكم } على ترجي البشر .
قال القاضي أبو محمد : ولم نستوعب اختلاف العلماء في القراءة خلف الإمام ، إذ ألفاظ الآية لا تعرض لذلك ، لكن لما عن ذلك في ذكر السبب ذكرنا منه نبذة ، وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله عز وجل { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قال الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول جمع فيه ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات ، قال الزجّاج : ويجوز أن يكون { فاستمعوا له وأنصتوا } اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه .
وقوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك } الآية ، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وهو أمر من الله عز وجل بذكره وتسبيحه وتقديسه والثناء عليه بمحامده ، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان ، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله : { ودون الجهر من القول } فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ ، و { تضرعاً } معناه تذللاً وخضوعاً ، { خيفة } أصلها خوفة بدلت الواو ياء لأجل الكسرة التي تقدمتها ، وقوله { بالغدو والآصال } معناه دأباً وفي كل يوم وفي أطراف النهار ، وقالت فرقة هذه الآية كانت في صلاة المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس ، وقال قتادة : « الغدو » صلاة الصبح و { الآصال } صلاة العصر و { الآصال } جمع أصل والأصل جميع أصيل وهو العشيّ وقيل { الآصال } جمع أصيل دون توسط كإيمانٍ جمع يمين و « آصال » أيضاً جمع أصاييل فهو جمع جمع الجمع ، وقرأ أبو مجلز « والإيصال » مصدر كالإصباح والإمساء ، ومعناه إذا دخلت في الأصيل وفي الطبري قال أبو وائل لغلامه هل أصلنا بعد؟ { ولا تكن من الغافلين } تنبيه ، ولما قال الله عز وجل { ولا تكن من الغافلين } جعل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائكة ليبعث على الجد في طاعة الله عز وجل ، وقوله { الذين } يريد الملائكة ، وقوله { عند } إنما يريد في المنزلة والتشريف والقرب في المكانة لا في المكان ، فهم بذلك عنده ، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود ، وفي الحديث : « أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد » وهذا موضع سجدة ، قال النخعي في كتاب النقاش : إن شئت ركعت وإن شئت سجدت .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
النفل والنفل والنافلة في كلام العرب الزيادة على الواجب ، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل ، ومه قول لبيد : [ الرمل ]
إنَّ تَقْوى ربِّنا خَيْرُ نَفَلْ ... أي خير غنيمة ، وقول عنترة :
إنَّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا ... ونعفُّ عند مقاسم الأنفالِ
والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول ، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه ، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم « الأنفال » فهو من الضرب الأول ، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها ، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء « يسألونك الأنفال » ، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى « من » ، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب { الأنفال } في هذه الآية ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة ، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته ، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا ، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا .
وقال ابن عباس في كتاب الطبري : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال : من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا ، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها ، وقالت نحن أولى بالمغنم ، وساءت أخلاقهم في ذلك ، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا ، فقسمه حيئنذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء ، وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن « الأنفال » فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام عن بواء .
قال القاضي أبو محمد : يريد عن سواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين ، مما جرى أيضاً يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه ، فقال : ليس هذا لي ولا لك ، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فهو لك .
قال القاضي أبو محمد : وفي بعض طرق هذا الحديث ، قال سعد : فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي ، قال : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلفي ، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء ، فقال : إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت { يسألونك عن الأنفال } وأسند الطبري أيضاً عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان يسمى المزربان ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به ، فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله ، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة ، لا سيما من أبلى ، فأنزل الله عز وجل الآية ، فرضي المسلمون وسلموا ، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم ، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب ، ثم نسخ بقوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] وقال ابن زيد : لم يقع في الآية نسخ ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس ، وحكم القسمة نازل خلال ذلك ، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول .
قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس أيضاً { الأنفال } في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه ، وهذا أيضاً يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر . وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي : { الأنفال } في الآية ما تجيء به السرايا خاصة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة ، بل يجيء خارجاً عن يوم بدر ، وقال مجاهد : { الأنفال } في الآية الخمس ، قال المهاجرون : لم يخرج منا هذا الخمس ، فقال الله تعالى هو لله وللرسول ، وهذا أيضاً قول قليل التناسب مع الآية ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : { الأنفال } في الآية ماشد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغاير والعبد الآبق هو للنبي صلى الله عليه سولم يصنع فيه ما شاء ، وقال ابن عباس أيضاً : { الأنفال } في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا ، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف ، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه ، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال : { الأنفال } الأسارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم ، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئاً من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف ، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الجمهور : النفل باق إلى يوم القيامة ، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب ، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة : إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة ، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده ، وقالت فرقة : إنما ينفل الإمام قبل القتال ، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا ، وقال الشافعي وابن حنبل : لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس ، وقال إبراهيم النخعي : ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس ، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس : وقال ابن المسيب : إنما ينفل الإمام من خمس الخمس ، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا ، ولا أحب لأحد أن يسفك دماً على مثل هذا ، قال سحنون : فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة .
وقال مالك رحمه الله : لا يجوز أن يقول الإمام لسرية : ما أخذتم فلكم ثلثه ، قال سحنون : يريد ابتداء ، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي ، وقال سحنون : إذا قال الإمام لسرية : ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه ، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى ، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف ، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهباً أو فضة أو لؤلؤاً أو نحو هذا ، وقال بعضهم : النفل جائز من كل شيء ، وأما السلب فقال مالك رحمه الله : الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره : وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك : إذ قال الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه فذلك لازم ، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد ، وقال الشافعي وابن حنبل : تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة ، وقال إسحاق بن راهويه : إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل وإن كان كثيراً خمس ، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفاً ، فخمس ذلك ، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود ، وقال مكحول : السلب مغنم وفيه الخمس ، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم : ويجزىء شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة ، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه .
قال القاصي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال الشافعي : لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلاً مشيحاً مبارزاً ، وأما من قتل منهزماً فلا ، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف : للقاتل السلب منهزماً كان القتيل أو غير منهزم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه ، وقال ابن حنبل : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط ، واختلفوا في السلب ، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافاً أنه من السلب ، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه ، وقال أحمد بن حنبل في الفرس : ليس من السلب ، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافاً أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة : ليس من السلب ، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب ، قال ابن حبيب في الواضحة : والسوارين من السلب ، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا؟
قال القاضي أبو محمد : وإذا قال الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي قتيلاً فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب ، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلاً فله سلبه .
قال القاضي أبو محمد : وأما الصفي فكان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل : { فاتقوا الله } معناها في الكلام ، اجعل بينك وبين المحذور وقاية ، وقوله { وأصلحوا ذات بينكم } تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح ، و { ذات } في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته ، والذي يفهم من { بينكم } هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه ، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه ، وذلك في قوله : { عليم بذات الصدور } [ الأنفال : 43 ] و { ذات الشوكة } [ الأنفال : 7 ] فإنها هاهنا مؤنثة قولهم : الذئب مغبوط بذي بطنه ، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه ، وقد تقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا ، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... ذات العشاء ولا تسري أفاعيها
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال : { ذات بينكم } الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء .
قال القاضي أبو محمد : ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض ، وقال الزجاج البين ها هنا الوصل ، ومثله قوله عز وجل : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا كله نظر ، وقوله { وأطيعوا الله ورسوله } لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم ، وقوله : { إن كنتم مؤمنين } أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم { وأطيعوا } هذا عند سيبويه ، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{ إنما } لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع ، ويصلح مع ذلك للحصر ، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب كقوله { إنما إلهكم اله واحد } [ الأنبياء : 108 ، فصلت : 6 ] وغير ذلك من الأمثلة ، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت « إنما » للمبالغة والتأكيد فقط ، كقوله عليه السلام « إنما الربا في النسيئة » ، وكقوله « إنما الشجاع عنترة » وأما من قال « إنما » ، هي لبيان الموصوف فهي عبارة فاترة إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون « إنما » ، وقوله ها هنا { إنما المؤمنون } ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط أي الكاملون ، { وجلت } معناه فزعت ورقت وخافت وبهذه المعاني فسرت العلماء ، وقرأ ابن مسعود « فرقت » ، وقرأ أبي بن كعب « فزعت » ، يقال وجل يؤجل وياجل وييجل وهي شاذة وييجل بكسر الياء الأولى ووجه هذه أنهم لما أبدلوا الواو ياء لم يكن لذلك وجه قياس ، فكسروا الياء الأولى ليجيء بدل الواو ياء لعلة ، حكى هذه اللغات الأربع سيبويه رحمه الله ، و { تليت } معناه سردت وقرئت ، والآيات هنا القرآن المتلو ، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق ، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فآمن به ، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به ، إذ لكل حكم تصديق خاص ، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة ، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل ، ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات .
وهؤلاء يقولون يزيد وينقص ، وقوله { وعلى ربهم يتوكلون } عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز ، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره ، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل ، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة ومدحهم بها حضاً على ذلك ، وقوله { ومما رزقناهم ينفقون } قال جماعة من المفسرين : هي الزكاة .
قال القاضي أبو محمد : وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ونوافل الخير وصلاة المستحقين ، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل ، وقوله { أولئك هم المؤمنين حقاً } يريد كل المؤمنين ، و { حقاً } مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه ، وهو المصدر غير المتنقل ، والعامل فيه أحق ذلك حقاً ، وقوله { درجات } ظاهره ، وهو قول الجمهور ، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا ، وقوله { ورزق كريم } يريد به مآكل الجنة ومشاربها ، و { كريم } صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم .
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله { كما } حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله ، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان ، وأنا أبدأ بهما ، قال الفراء : التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك ، هذا نص قوله في هداية مكي رحمه الله ، والعبارة بقوله : امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة ، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال ، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم ، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة ، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ها هنا للخروج ، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته ، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله ، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله { يجادلونك } كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار ، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي ذكرت من أن { يجادلونك } في الكفار منصوص والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما : المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم .
قال القاضي أبو محمد : والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك ، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى ، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون ، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون ، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش : الكاف نعت ل { حقاً } [ الأنفال : 4 ] ، والتقدير هم المؤمنون حقاً كما أخرجك .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر ، وقال أبو عبيدة : هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك ، فالكاف في معنى الواو و « ما » بمعنى الذي ، وقال الزجّاج : الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتاً كما أخرجك ربك ، وقيل : الكاف في موضع التقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك ، وقيل المعنى : وأصحلوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك ، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف ، وقيل التقدير : قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك ، وهذا نحو أول قول ذكرته ، وقال عكرمة : التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لكم ، وقوله { من بيتك } يريد من المدينة يثرب ، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير : المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة ، وقرأ عبد الله بن مسعود : « في الحق بعدما بُين » بضم الباء من غير تاء ، والضمير في قوله { يجادلونك } قيل : هو للؤمنين وقيل : للمشركين ، فمن قال للمؤمنين جعل { الحق } قتال مشركي قريش ، ومن قال للمشركين جعل { الحق } شريعة الإسلام ، وقوله { إلى الموت } أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون ، وقوله { وهم ينظرون } حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله .
وقوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } الآية ، في هذه الآية قصص حسن أنا اختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن هشام ، واختصاره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها ، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها ، قال فانبعث من معه من خف ، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره ، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري ، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً فلم يكثر استعدادهم ، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر ، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستفز أهلها ، ففعل ضمضم ، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم ، أوحى الله إليه وحياً غير متلو يعده إحدى الطائفتين ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها ، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد وفات ولم يبق إلا لقاء أهل مكة ، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجب فلننصرف ، فحرش أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة ، وقال بعض المؤمنين : نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران ، وقال أشيروا علي أيها الناس ، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال : لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون .
والله لو أردت بنا برك الغماد .
قال القاضي أبو محمد : وهي مدنية الحبشة لقاتلنا معك من دونها ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ودعا له بخير ، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة .
قال القاضي أبو محمد : ويمكن أنهما جميعاً تكلما في ذلك اليوم ، فقال يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجل ، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله ، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم ، فالتقوا وكانت وقعة بدر ، وقرأ مسلمة بن محارب « وإذ يعدْكم » بجزم الدال ، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات ، وقرأ ابن محيصن « وإذا يعدكم الله احدى الطائفتين » بوصل الألف من { إحدى } وصلة الهاء بالحاء ، و { الشوكة } عبارة عن السلاح والحدة ، ومنه قول الأعور : [ الرجز ]
إن العرفج قد أدبى ... وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم { الشوكة تكون } بإدغام التاء في التاء ، ومعنى الآية وتودون العير وتأبون قتال الكفار ، وقوله { ويريد الله } الآية ، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم « بكلمته » على الإفراد الذي يراد به الجمع ، والمعنى في قوله { بكلماته } إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون ، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب ، و « الدابر » الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم ، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم ، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه .
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{ ليحق الحق } أي ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام { ويبطل الباطل } أي الكفر ، { ولو كره } أي وكراهتهم واقعة فهي جملة في موضع الحال ، وقوله : { إذ تستغيثون ربكم } الآية ، { إذ } متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال الآية : 7 ] وقال الطبري : هي متعلقة ب { يحق . . ويبطل } .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها { يعدكم } [ الأنفال : 7 ] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و { تستغيثون } معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس « أني » بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه « إني » بكسر الألف أي قال إني ، و { ممدكم } أي مكثركم ومقويكم من أمددت . وقرأ جمهور الناس « بألف » وقرأ عاصم الجحدري « بئألف » على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران ، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً « بآلاف » و { مردفين } معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف { مردفين } على هذا حال من الضمير في قوله { ممدكم } ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع « مردِفين » بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين .
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً ، ومن قال « مردفين » بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل « مرَدِّفين » بفتح الراء وكسر الدال وشدها .
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ويحسن مع هذه القر اءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [ خزيمة بن مالك ] : [ الوافر ]
إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير ، وقوله تعالى : { وما جعله الله } الآية ، الضمير في { جعله } عائد على الوعد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى ، وقال الزجّاج : الضمير عائد على المدد ، ويحتمل أن يعود على الإمداد ، وهذا يحسن مع قول من يقول إن الملائكة لم تقاتل وإنما أنست بحضورها مع المسلمين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي ضعيف ترده الأحاديث الواردة بقتال الملائكة وما رأى من ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن مسعود وغيره ، ويحتمل أن يعود على الإرداف وهو قول الطبري ، وهذا أيضاً يجري مجرى القول الذي قبله ويحتمل أن يعود على « الألف » وهذا أيضاً كذلك ، لأن البشرى بالشيء إنما هي ما لم يقع بعد ، و « البشرى » مصدر من بشرت ، والطمأنينة السكون والاستقرار وقوله { وما النصر إلا من عند الله } توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني إذا لم يساعده القدر وإن كان مطلوباً بالجد كما ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وهذه القصة كلها من قصة الكفار وغلبة المؤمنين لهم تليق بها من صفات الله عز وجل العزة والحكمة إذا تؤمل ذلك .
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
العامل في { إذ } هو العامل الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال : 7 ] بتقدير تكراره لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف ، وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال : واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري : العامل في { إذ } قوله { ولتطمئن } [ الأنفال : 10 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، ولو جعل العامل في { إذ } شيئاً قريباً مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في { إذ } { حكيم } [ الأنفال : 10 ] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل ، وقرأ نافع « يُغْشيكم » بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي « يغَشِّيكم » بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « يَغشاكم » بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة « النعاسُ » بالرفع ، وحجة من قرأ « يغشاكم » إجماعهم في آية أحد على { يغشى طائفة منكم } [ آل عمران : 154 ] ، وحجة من قرأ « يغشيكم » أن يجيء الكلام متسقاً مع { ينزل } ، ومعنى { يغشيكم } يغطيكم به ويفرغه عليكم ، وهذه استعارة و { النعاس } أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ ، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « إذا نعس أحدكم في صلاته » الحديث ، وينص على ذلك قول الشاعر [ ابن الرقاع ] : [ الكامل ]
وسنان أقصده النعاس فرنّقت ... في عينه سِنَةٌ وليس بنائم
وقوله { أمنة } مصدر من أمن الرجل يأمن أمناً وأمنة وأماناً ، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة ، وقرأ ابن محيصن « أمْنة » بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله ، وهو في الصلاة من الشيطان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده ، وقوله { وينزل عليكم من السماء ماء } تعديد أيضاً لهذه النعمة في المطر ، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره ، وقاله الزجّاج : إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم - بإلقاء الشيطان إليهم - نزعم أنَّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر .
وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين ، وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت قالوا : فهذا معنى قوله { ليطهركم به } أي من الجنابة ، { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر والرجز العذاب ، وقرأ أبو العالية « رجس » بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر ، وقرأ ابن محيصن « رُجز » بضم الراء ، وقرأ عيسى بن عمر « ويذهبْ » بجزم الباء ، { وليربط على قلوبكم } أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم : رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب { ويثبت به الأقدام } أي في الرملة الدهسة التي كان المشي فهيا صعباً .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر ، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء ، فقال له حباب : أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك ، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم ، وهذا قبل الترائي بالأعين ، وأيضاً فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء ، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم ، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم ، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت ، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين .
قال القاضي أبو محمد : هذا أحد ما يحتمله قوله { ويثبت به الأقدام } والضمير في { به } على هذا الاحتمال عائد على الماء ، ويحتمل أن يعود الضمير في { به } على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب ، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول .
قال القاضي أبو محمد : ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط ، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ « وينزل عليكم من السماء ماء » ساكنة الألف { ليطهركم به } قال : وهي بمعنى الذي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب « ليطْهركم به » بسكون الطاء ، وقوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة } الآية ، العامل في { إذ } العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ، ولو قدرناه قريباً لكان قوله { ويثبت } على تأويل عود الضمير على الربط ، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل { ويثبت } في { إذ } ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه « إني معكم » بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة ، وقرأ جمهور الناس « أني » بفتح الألف على أنها معمولة ل { يوحي } ، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول ، وقوله { فثبتوا } يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي .
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك ، ويحتمل أن يريد : فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب ، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين : لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن ، ويقول آخر : ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا . ويقول آخر : أقدم يا فلان ، ونحو هذا من الأقوال المثبتة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويوقي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يجيء قوله { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } مخاطبة للملائكة ، ثم يجيء قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حرباً لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون { سألقي } إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضاً على نصرة الدين ، وقرأ الأعرج « الرعُب » بضم العين والناس على تسكينها ، واختلف الناس في قوله { فوق الأعناق } ، فقال الأخفش { فوق } زيادة ، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق وقال غيره بمعنى على ، وقال عكرمة مولى ابن عباس : هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، وقال المبرد : وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أنبلها ، ويحتمل عندي أن يريد بقوله { فوق الأعناق } وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها ، هي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ، ومثله قول الشاعر : [ الوافر ] .
جعلت السيف بين الجيد منه ... وبين أسيل خديه عذارا
فيجيء على هذا { فوق الأعناق } متمكناً ، وقال ابن قتيبة { فوق } في هذه الآية بمعنى دون ، وهذا خطأ بين ، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى : { ما بعوضة فما فوقها } [ البقرة : 26 ] أي فما دونها .
قال القاضي أبو محمد : وليست { فوق } هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال { بنان } قالت فرقة : هي المفاصل حيث كان من الأعضاء ، فالمعنى على هذا واضربوا منهم في كل موضع ، وقالت فرقة : البنان الأصابع ، وهذا هو القول الصحيح ، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحاً فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون داخلون فيه بالمعنى والضمير في { بأنهم } عائد على الذين كفروا ، و { شاقوا } معناه خالفوا ونابذوا وقطعوا ، وهو مأخوذ من الشق وهو القطع والفصل بين شيئين ، وهذه مفاعلة فكأن الله لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوا هم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق ، مأخوذ من هذا لأنه مع شقه الآخر تباعدا وانفصلا وعبر المفسرون عن قوله { شاقوا } أي صاروا في شق غير شقه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان معناه صحيحاً فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه ، والمثال الأول إنما هو الشَّق بفتح الشين ، وأجمعوا على الإظهار في { يشاقق } إتباعاً لخط المصحف ، وقوله { فإن الله شديد العقاب } جواب الشرط تضمن وعيداً وتهديداً ، وقوله تعالى : { ذلكم فذوقوه } المخاطبة للكفار ، أي ذلك الضرب والقتل وما وأوقع الله بهم يوم بدر ، فكأنه قال الأمر ذلك فذوقوه وكذا فسره سيبويه ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون { ذلكم } في موضع نصب كقوله زيداً فاضربه ، وقرأ جمهور الناس « وأن » بفتح الألف ، فإما على تقدير وحتم أن . فيقدر على ابتداء محذوف يكون « أن » خبره ، وإما على تقدير واعلموا أن ، فهي على هذا في موضع نصب ، وروى سليمان عن الحسن بن أبي الحسن و « إن » على القطع والاستئناف ، وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } الآية ، { زحفاً } يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص ، أي يزحف بعضهم إلى بعض ، وأصل الزحف الاندفاع على الألية ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويداً زاحفاً ، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف ، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر : [ البسيط ]
كأنهنَّ بأيدي القومِ في كَبدٍ ... طير تكشف عن جون مزاحيف
ومنه قول الفرزدق : [ البسيط ]
على عمائمنا تُلقى وأرجلنا ... على مزاحيف تزجى مخها رير
ومنه قول الآخر [ الأعشى ] : [ الطويل ]
لمن الظعائن سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي : [ الوافر ]
كان مزاحف الحيّات فيه ... قبيل الصبح آثار السباط
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اله عز وجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضاً الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور « دبُره » بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « دبْره » بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله { يومئذ } فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين :
{ ثم وليتم مدبرين } [ التوبة : 25 ] ولم يقع على ذلك تعنيف .
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب { يومئذ } إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله { إذا لقيتم } وحكم الآية باق لى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفواً عن كبيرة ، و { متحرفاً لقتال } يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم { من } ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي .
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً وتحيزاً ، والفئة ها هنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون الفئة المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مراراً ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : « أنا فئة المسلمين » حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اتقوا السبع الموبقات » وعدد فيها الفرار من الزحف ، و { باء } بمعنى نهض متحملاً للثقل المذكور في الكلام غضباً كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفات ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان .
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليس هم مستبدين بالقتل ، لأن القتل بالإقدار عليه ، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء ، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده ، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم ، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم مما فعل ، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية ، وقوله { وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى } يراد به ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله يومئذ ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب ، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية ، ويروى أنه قال يوم بدر : شاهت الوجوه ، وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم حنين بلا خلاف ، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء ، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث .
قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ما قلناه في قوله { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } وذلك منصوص في الطبري وغيره ، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ، ونحوه قول العباس بن مرداس : [ المتقارب ]
فلم أعط شيئاً ولم أمنعِ ... أي لن أعط شيئاً مرضياً ويحتمل أن يريد ، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك ، ولكن الله رماه وهذا أيضاً منصوص في المهدوي وغيره ، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك ، والعرب تقول في الدعاء : رمى الله لك ، أي أعانك وصنع لك .
وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة « ولكنّ الله رمى » بتشديد النون ، وفرقة « ولكنْ اللهُ » بتخفيفها ورفع الهاء من « الله » { وليبلي } أي ليصيبهم ببلاء حسن ، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة ، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً ، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء ، وغيرهم ، { إن الله سميع } لاستغاثتكم ، { عليم } بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو ، وحكى الطبري : أن المراد بقوله { وما رميت إذ رميت } رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر ، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد ، وحكي أيضاً أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه ، وهذا فاسد ، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير ، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا ، فهذان القولان ضعيفان لما ذكرناه ، وقوله { ذلكم } إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم ، وموضع { ذلكم } من الإعراب رفع ، قال سيبويه : التقدير الأمر ذلكم ، وقال بعض النحويين : يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلكم { وأن } معطوف على { ذلكم } ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا ، وقرأت فرقة « وإن » بكسر الهمزة على القطع والاسئناف ، و { موهن } معناه مضعف مبطل ، يقال وهن الشيء مثل وعد يعد ، ويقال وهن مثل ولي يلي ، وقرىء
{ فما وهنوا لما أصابهم } [ آل عمران : 146 ] بكسر الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم « موهن كيد » من أوهن ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو « موهن كيد » من وهن ، وقرأ حفص عن عاصم « موهن كيدِ » بكسر الدال والإضافة ، وذكر الزجّاج أن فيها أربعة أوجه فذكر هذه القراءات الثلاث ، وزاد « موهّن كيد » بتشديد الهاء والإضافة إلا أنه لم ينص أنها قراءة .
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
قال بعض المتأولين : هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين بوم بدر ، قال الله لهم : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم ، وقد حكم الله لكم ، { وإن تنتهوا } عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم { وإن تعودوا } لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم ، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته ، ثم أنسهم بقوله وإيجابه ، أنه مع المؤمنين ، وقال أكثر المتأولين : هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة ، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبداً في محافل قريش ، ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأهلكه واجعله المغلوب ، يريد محمداً صلى الله عليه وسلم وإياهم ، وروي أن قريشاً لما عزموا على الخروج إلى حماية العير تعلقوا بأستار الكعبة واستفتحوا ، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر : اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأظهر خير الدينين عندك ، اللهم أقطعنا للرحم فاحنه الغداة ، ونحو هذا فقال لهم الله ، إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا توبيخ ، ثم قال لهم { وإن تنتهوا } عن كفركم وغيكم { فهو خير لكم } ثم أخبرهم أنهم إن عادوا للاستفتاح عاد بمثل الوقعة يوم بدر عليهم ، ثم أعلمهم أن فئتهم لا تعني شيئاً وإن كانت كثيرة ، ثم أعلمهم أنه مع المؤمنين .
وقالت فرقة من المتأولين : قوله { وإن تستفتحوا فقد جائكم الفتح } ، هي مخاطبة للمؤمنين ، وسائر الآية مخاطبة للمشركين ، كأنه قال وأنتم إن تنتهوا فهو خير لكم ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وأبي عمرو وحمزة والكسائي « وإن الله » بكسر الهمزة على القطع ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص « وأن » بفتح الألف ، فإما أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محتمل المعنى ، وفي قراءة ابن مسعود : « ولو كثرت والله مع المؤمنين » . وهذا يقوي قراءة من كسر الألف ، من « إن » وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله } الآية ، الخطاب للمؤمنين المصدقين ، جدد عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ونهوا عن التولي عنه ، وهذا قول الجمهور ، ويكون هذا متناصراً مع قول من يقول : إن الخطاب بقوله { وإن تنتهوا } هو للمؤمنين ، فيجيء الكلام من نمط واحد في معناه ، وأما على قول من يقول إن المخاطبة ب { إن تنتهوا } هي للكفار فيرى أن هذه الآية إنما نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وكراهيتهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم ، وقالت فرقة : الخطاب بهذه الآية إنما هو للمنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً لأجل أن الله وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان ، والإيمان التصديق ، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء ، وقيل إن بالفعل المستقبل فحذفت الواحدة ، والمحذوفة هي تاء تفعل ، والباقية هي تاء العلامة ، لأن الحاجة إليها هنا أمس ليبقى الفعل مستقبلاً ، وقوله { وأنتم تسمعون } يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ والآيات ، وقوله { كالذين قالوا } يريد الكفار ، فإما من قريش لقولهم { سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 8 ] وإما الكفار على الإطلاق الذين يقولون سمعنا القرآن وعلمنا أنه سحر أو شعر وأساطير بحسب اختلافهم ، ثم أخبر الله عنهم خبراً نفى به أنهم سمعوا أي فهمو ووعوا ، لأنه لا خلاف أنهم كانوا يسمعون التلاوة بآذانهم ولكن صدورهم مطبقة لم يشرحها الله عز وجل لتلقي معاني القرآن والإيمان به .
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
المقصود بهذه الآية أن يبين أن هذه الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله عز وجل ، وأنها أخس المنازل لديه ، عبر ب { الدواب } ليتأكد ذمهم وليفضل عليهم الكلب العقور والخنزير ونحوهما من السبع ، والخمس الفواسق وغيرها ، و { الدواب } كل ما دب فهو جميع الحيوان بجملته ، وقوله { الصم البكم } عبارة عما في قلوبهم وقلة انشراح صدورهم وإدراك عقولهم ، فلذلك وصفهم بالصم والبكم وسلب العقل ، وروي أن هذه الآية نزلت في طائفة من بني الدار وظاهرها العموم فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بهذه الأوصاف ، ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى ، ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال { ولو أسمعهم } أي ولو أفهمهم { لتولوا } بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : المعنيّ بهذه الآية المنافقون ، وضعفه الطبري وكذلك هو ضعيف وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } الآية ، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، و { استجيبوا } بمعنى أجيبوا ، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام ، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر : [ الطويل ]
وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النِّدا ... فلم يستجبْه عند ذاك مجيب
وقوله { لما يحييكم } قال مجاهد والجمهور : المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل ، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام ، وقيل { لما يحييكم } معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر ، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت ، ويحيي أيضاً كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، وقال النقاش : المراد إذا دعاكم للشهادة .
قال القاضي أبو محمد : فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة ، وقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحتمل وجوهاً ، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال : { واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه } بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات ، ويلتئم مع هذا التأويل قوله { وأنه إليه تحشرون } ، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر ، ومنها أن يقصد بقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه .
قال القاضي أبو محمد : فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر ، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] ، حكي هذا التأويل عن قتادة ، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } ، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم ، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم ، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس ، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوى على طاعة إلا بالله ، وقال المفسرون في ذلك أقوالاً هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري ، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا ، وقرأ ابن أبي إسحاق « بين المِرء » بكسر الميم ذكره أبو حاتم ، قال أبو الفتح : وقرأ الحسن والزبيدي « بين المَرِّ » بفتح الميم وشد الراء المكسورة ، و { تحشرون } أي تبعثون يوم القيامة ، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته ، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما سمعت فيما يوحى إلي { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فقال أبيّ : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبداً إلا أجبتك ، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه ، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى ، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق .
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
هذه الآية تحتمل تأويلات ، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط ، بل تصيب الكل من ظالم وبريء ، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه ، فإنه قال يوم الجمل وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت ، وكذلك تأول الحسن البصري ، فإنه قال : هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير ، وكذلك تأول ابن عباس ، فإنه قال : أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بياناً شافياً .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله { لا تصيبن } على هذا التأويل صفة ل { فتنة } ، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج : زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي ، قال ومثله قوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } [ النمل : 18 ] فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن ، وقال قوم : هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون ، وقال المهدوي : وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن ، ودخلت النون مع لا حملاً على دخولها مع اللام فقط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في القول تكره ، لأن جواب القسم إذا دخلته « لا » أو كان منفياً في الجملة لم تدخل النون ، وإذا كان موجباً دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد ، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله { واتقوا فتنة } خطاباً عاماً لجميع المؤمنين مستقلاً بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول .
والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك ها هنا يريدون لا تقم ها هنا فتقع مني رؤيتك ، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه ، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم ، نحا إليه ، الزجّاج ، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء ، ونهي الظلمة ها هنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط ، و { خاصة } نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة ، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في { تصيبن } وهذا الفعل هو العامل ، ويحتمل أن تكون { خاصة } حالاً من الضمير في { ظلموا } ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز « لتصيبن » باللام على جواب قسم ، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط ، قال أبو الفتح : يحتمل أن يراد بهذه القراءة « لا تصيبن » فحذف الألف من « لا » تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة ، « لا تصيبن » فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تنطع في التحميل وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام ، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ « واتقوا فتنة أن تصيب » وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاماً حسناً ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة .
وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله { لا تصيبن } هي على معنى الدعاء ذكره الزهراوي وقوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل } الآية ، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين ، و { إذ } ظرف لمعمول { واذكروا } ، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ، ولا يجوز أن تكون { إذ } ظرفاً للذكر وإنما يعمل الذكر في { إذ } لو قدرناها مفعولة ، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية ، فقالت فرقة هي الأكثر : هي حال مكة في وقت بداءة الإسلام ، والناس الذين يخاف « تخطفهم » كفار مكة ، و « المأوى » على هذا التأويل المدينة والأنصار ، و « التأييد بالنصر » وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها ، و { الطيبات } الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به ، وقالت فرقة : الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر ، والناس الذي يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم ، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو ، و { الطيبات } الغنيمة .
قال القاضي أبو محمد : وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر ، وقال وهب بن منبه وقتادة : الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة ، فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلهم حالاً ونعماً ، والناس الذين يخاف « تخطفهم » على هذا التأويل فارس والروم ، و « المأوى » على هذا هو النبوءة والشريعة ، و « التأييد بالنصر » هو فتح البلاد وغلبة الملوك ، و { الطيبات } هي نعم المآكل والمشارب والملابس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول ، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح ، وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه ، وقوله { لعلكم تشكرون } ترج بحسب البشر متعلق بقوله { واذكروا } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها ، قال الزهراوي : والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة : سبب نزولها أمر أبي حبابة ، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقة يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح ، أي فلا تنزلوا ، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه ، الحديث المشهور ، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئاً حتى تيب عليه ، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : سببها أن رجلاً من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ، فقوله : { يا أيها الذين آمنوا } معناه أظهروا الإيمان ، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقاً أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق ، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال : أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله ، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات ، والخيانة التنقص للشيء باختفاء وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما ، مالاً كان أو سرّاً أو غير ذلك ، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر وخيانة الرسول تنقص فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير ، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم ، وأظن الفارسي أبا علي حكاه ، { وأنتم تعلمون } ، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد ، وقوله { فتنة } يريد محنة واختباراً وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك ، وقوله { وأن الله عنده أجر عظيم } يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدراً من مكاسب الدنيا .
وقوله تعالى : { وتخونوا } قال الطبري : يحتمل أن يكون داخلاً في النهي كأنه قال : لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم ، قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضاً « وتخونوا أمانتكم » على إفراد الأمانة ، وقوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و { ويجعل لكم فرقاناً } معناه فرقاً بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و « الفرقان » مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله
{ يوم الفرقان } [ الأنفال : 41 ] وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان ها هنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه مخرجاً ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
بادر الأفقُ أنْ يَغيبَ فلمّا ... أَظْلَمَ اللّيلُ لمْ يجدْ فُرْقَانا
وقال الآخر : [ الرجز ]
ما لك من طولِ الأسَى فُرقانُ ... بعد قطينٍ رحلوا وبانوا
وقال الآخر : [ الطويل ]
وكيف أرجّي الخلدَ والموتُ طالبي ... وماليَ من كأسِ المنيَّةِ فرقان
وقوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } الآية ، يشبه أن يكون قوله { وإذ } معطوفاً على قوله { إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام ، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب ، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية ، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله ورسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم ، الحديث المشهور ، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية ، والمكر المخاتلة والتداهي ، تقول : فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلاً وتستراً بما يريد ، ويقال أصل المكر الفتل ، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه ، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم : ممكورة ، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره ، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديماً من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكراً وما استسروا به هو المكر ، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك ، قال : يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج ، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟ قال : ربي ، قال : إن ربك لرب صدق فاستوص به خيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل هو يا عم يستوصي بي خيراً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره ، الحديث بطوله ، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه ، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب ، ففي القصة أن أبا جهل قال : الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قوياً جلداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها ، فيأخذون العقل ونستريح منه ، فقال النجدي : صدق الفتى ، هذا الرأي لا أرى غيره ، فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته ، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء ، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيصورون به ، فلما قام رأوا علياً فقالوا له أين صاحبك؟ قال : لا أدري .
وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه ، وجعل على رأس كل واحد منهم تراباً ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون ، قالوا محمداً ، قال إني رأيته الآن جائياً من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم ، فمد كل واحد يده إلى رأسه ، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا علياً فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار ، ومعنى { ليثبتوك } ليسجنوك فتثبت ، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير ، وقال ابن عباس ومجاهد : معناه ليوثقوك ، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك .
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني « ليثبّتوك » وهذه أيضاً بالتضعيف ، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ « ليبيتوك » من البيات ، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة ، وقال أبو حاتم معنى { ليثبتوك } أي بالجراحة ، كما يقال أثبتته الجراحة ، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحداً ، وقوله تعالى : { ويمكر الله } معناه يفعل أفعالاً منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع ، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله ، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال ، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه ، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب ، وقوله { خير الماكرين } أي أقدرهم وأعزهم جانباً .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما ، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها ، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح ، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من واحد .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
الضمير في { عليهم } عائد على الكفار ، و « الآيات » هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله { تتلى } ، و { قد سمعنا } يريد وقد سمعنا هذا المتلو { لو نشاء لقلنا } مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم ، أي قصصهم المكتوبة المسطورة ، و { أساطير } جمع اسطورة ، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري ، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء ، هذا هو قانون الباب ، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صيارف ، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة ، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل ، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار ، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت فيه آيات من كتاب الله ، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم ، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم أغن المقداد من فضلك » فقال المقداد : هذا الذي أردت ، فضرب عنق النضر ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبراً ثلاثة نفر ، المطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم عظيم في خبر المطعم ، فقد كان مات قبل يوم بدر ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له » يعني أسرى بدر ، وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية ، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره ، وفيه نزلت هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم ، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله ، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم ، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد ، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة ، وعميت بصائرهم عن الهدى ، وصمموا على أن هذا ليس بحق ، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن ، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع ، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق ، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة ، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل ، ويجوز في العربية رفع { الحق } على أنه خبر { هو } والجملة خبر { كان } ، قال الزّجاج : ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب « الحقَّ » على أن يكون خبر « كان » ويكون هو فصلاً ، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بان الذي بعده خبر ليس بصفة . و { أمطر } إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة .
قال القاضي أبو محمد : ويعارض هذه قوله { هذا عارض ممطرنا } [ الأحقاف : 24 ] لأنهم ظنوها سحابة رحمة ، وقولهم { من السماء } مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قالت فرقة : نزلت هذه الآية كلها بمكة ، وقالت فرقة : نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى ، وقال ابن أبزى : نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله { وما لهم } إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وأجمع المتأولون على أن معنى قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها ، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم ، بل كرامتك لديه أعظم ، قال : أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول « ما كان ليعذبهم » بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن ، واختلفوا في معنى قوله { وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون } فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله { معذبهم } يعود على كفار مكة والضمير في قوله { وهم } عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون .
قال القاضي أبو محمد : ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه : أن يقال الضميران عائدان على الكفار ، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك ، ويقولون لبيك لا شريك لك ، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار ، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا ، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين ، كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار ، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة ، وقال قتادة : الضمير للكفار ، وقوله { وهم يستغفرون } ، جملة في موضع الحال أن لو كانت ، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهو بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري ، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } وقال الزجّاج ما معناه ، إن الضمير في قوله { وهم } عائد على الكفار .
والمراد به سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر ، فالمعنى : وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وحكاه الطبري عن ابن عباس .
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي : المراد بقوله { وهم يستغفرون } ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين ، فالمعنى : وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون ، فنسب الاستغفار إليهم ، إذ ذريتهم منهم ، وذكره مكي ولم ينسبه ، وفي الطبري عن فرقة أن معنى { يستغفرون } يصلون ، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة ، وقوله عز وجل : { وما لهم ألا يعذبهم الله } توعد بعذاب الدنيا ، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون « أن » في موضع نصب ، وقال الطبري : تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا ، والظاهر في قوله { وما } أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسيؤال ، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة ، ويصح أن تكون { ما } نافية ويكون القول إخباراً ، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون ، وقوله { وهم يصدون } على التأويلين جملة في موضع الحال ، و { يصدون } في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم ، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر : [ الوافر ]