كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي
( وإن يكن ) الاختلاف ( في القدر ) للكراء كأن يقول المكري بعشرة ويقول المكتري بثمانية فإن كان ذلك ( قبل السكنى . تحالفا والفسخ بعد ) أي بعد حلفهما ( سنا ) أي شرع ، وظاهره أنه لا ينظر لشبه ولا لنقد وهو كذلك لعدم فوات المنافع كما في البيع .وإنْ يكن من بعدِ سُكْنَى أَقْسَمَا
وفسْخُ باقِي مُدَّةٍ قد لَزِمَا
( وإن يكن ) الاختلاف المذكور ( من بعد سكنى ) بعض المدة أو زراعة بعضها ( أقسما ) أي حلفا معاً ( وفسخ باقي مدة قد لزما .
وَحِصَّةُ السكْنَى يُؤْدِّي المكْتَرِي
إنْ كان لَمْ يَنْقُد لماضي الأَشْهُرِ
وحصة ) مدة ( السكنى ) والزراعة الماضية ( يؤدي المكتري ) من حساب ما قال وهو الثمانية في المثال لأنه يصدق فيما مضى وفات إذا أشبه كما مرّ سواء أشبه المكري أم لا . فإن انفرد المكري بالشبه فيأخذ لماضي المدة من حساب ما قال وهو العشرة بعد يمينه ، وإن لم يشبها حلفا ووجب كراء المثل فيما مضى ومحل الفسخ في الباقي وتصديق المكتري عند شبهه ( إن كان لم ينقد لباقي الأشهر ) فإن نقد خمسة مثلاً وقال : هذا المنقود هو كراء السنة كلها ، وقال الآخر : بل هو كراء ستة أشهر منها وبقي لي عندك من تمام كراء السنة خمسة أخرى فإن أشبها معاً أو المكري فقط جاء التردد المتقدم هل يصدق المكري بيمينه ويأخذ لماضي المدة بحساب ما قال وهو العشرة ويفسخ باقي المدة أو يعمل بقوله في الماضي والمستقبل ويلزم المكتري إتمام المدة بجميع الكراء ؟ وأما إذا نقدا ولم يشبها معاً أو أشبه المكتري فقط ففي الأولى يجب عليه كراء المثل فيما مضى ويفسخ الباقي ، وفي الثانية يكون عليه فيما مضى بحساب ما قال ، وينظر إلى الدار فإن احتملت القسمة ولا ضرر على المكتري في سكنى نصفها سكنها في نصف الخمسة الباقية في المثال ، وإن كان عليه ضرر فسخت بقية المدة ورد المكرى عليه نصف الخمسة المقبوضة قاله المتيطي إلا إنه لم يقيد بالشبه ، وقد علمت أنه لا بد منه وهو معارض لما مرّ عن ( خ ) من أنه يفسخ الباقي مطلقاً ، ومن أنه إنما يصدق في الماضي مع الشبه والفوات والله أعلم .
والقَوْلُ من بعدِ انقضاء الأَمَدِ
لِلْمُكْتَري والحَلْفُ إنْ لَمْ يَنْقُدِ
( والقول ) فيما إذا اختلفا في قدر الأجرة كما هو الموضوع ( من بعد انقضاء الأمد ) أي وهو أمد الكراء ( للمكتري ) بشرط الشبه كما مرّ لأنه معتبر مع فوات كل المنافع أو بعضها ، وبشرطأن يحلف وأن لا يكون نقد شيئاً كما قال : ( والحلف إن لم ينقد ) فإن لم يشبه بل أشبه المكري وحده ونكل المكتري عن اليمين أو كان نقد العشرة مثلاً ، وزعم بعد انقضاء المدة أن الكراء إنما هو خمسة منها والخمسة الأخرى قرض أو وديعة ، فالقول للمكري إن الجميع كراء بيمينه إن أشبه وإن لم يشبها حلفا ووجب كراء المثل ، ثم شبه في كون القول للمكتري ما إذا اتفقا على الأجرة وقدر المدة وإنما اختلفا في انقضائها فقال :
كَذَاكَ حُكْمُهُ مع ادعائِهِ
لِقدْرِ باقِي مُدَّةِ اكْتِرَائِهِ
( كذاك حكمه ) أي المكتري ( مع ادعائه لقدر ) اللام زائدة ( باقي مدة اكترائه ) لو قال بقاء قدر مدة اكترائه لكان أحسن وسلم من زيادة اللام .
واعلم أنه لا يتأتى الاختلاف في انقضاء المدة إلا بالاختلاف في مبدئها ، ومحل كون القول للمكتري بيمينه إذا أشبه الآخر أم لا ؟ فإن أشبه المكري فقوله بيمينه وإن لم يشبها حلفا ووجب كراء المثل فيما مضى ، وإن وقع الاختلاف قبل أن يمضي شيء من المدة حلفا وتفاسخا ولا ينظر لشبه لعدم فوات المنافع ، فإن أقام كل البينة قدمت بينة المكري لتقدم تاريخها ، وهذا الحكم عام في الكراء والبيع . ( خ ) : وإن اختلفا في انتهاء الأجل فالقول لمنكر التقضي الخ . ثم أشار إلى اختلافهما في جنس الكراء أو قبضه فقال :
والقولُ في القبض وَفي الْجِنْسِ لِمَنْ
شَاهدُه مَعْ حَلْفِهِ حَالُ الزمَنْ
( والقول ) في الاختلاف ( في القبض وفي ) الاختلاف في ( الجنس لمن شاهده مع حلفه حال الزمن ) بالرفع خبر عن شاهده ومع حلفه حال من القول ، فإذا اختلفا في جنس الكراء فزعم المكري أنه بالدنانير ، وزعم الآخر أنه بعرض ، فإنه ينظر لعرف البلد في مثل ذلك الكراء من كونه بالدنانير أو بالعرض ، فمن شهد له عرف البلد منهما صدق مع يمينه كما مر في البيع في التنبيه الثاني عند قوله : بأضرب الأثمان والآجال . أنه لا فرق بين بيع الذوات والمنافع ، وأما إذا اختلفا في القبض فإنه ينظر للقرب والبعد ، فإن كان الكراء مشاهرة أو مسانهة ودفع ببينة كراء شهر معين أو سنة معينة فذلك براءة لما قبل ذلك من الشهور والسنين كما مر في كراء الدور فيالتنبيه الثالث ، وإن لم يدفع كراء شهر معين ولا سنة بعينها فالقول للمكتري فيما مضى إلا في الشهر الأخير والسنة الأخيرة ، فالقول لرب الدار إن قام بحدثان ذلك فإن تطاول ذلك حتى حال نحو الشهر في الشهور والسنة في السنين ، فالمكتري مصدق مع يمينه قاله ابن سلمون ونحوه في المتيطية قائلاً وبه العمل ، وكذلك قيام الصناع بعد رد المتاع ثم يطلبون بعد ذلك أجرتهم يفصل فيه بين القرب والبعد ، والعمل بفاس أن يقبل قول المكري في الثلاثة الأشهر الأخيرة أنه لم يقبض كراءها مع يمينه كما في المجالس المكناسية ولا يقبل قوله فيما زاد عليها ، فقول الناظم حال الزمن يعني يعتبر في كل ما يليق به ، ففي القبض يعتبر القرب والبعد في الزمان ، وفي الجنس يعتبر عرف البلد في ذلك الزمان والله أعلم .
تنبيه : فإن لم يبينا في عقد الكراء وقت أدائه واختلفا فيه فقال المكتري : تعجله في أول الشهر ، وقال المكري في آخره حملاً على عرف البلد كما قال ( خ ) : وعجل إن عين أو بشرط أو عادة الخ . فإن لم يكن عرف لزمه أن يؤدي في كل يوم بحسابه .
فصل في كراء الرواحلجمع راحلة وهي الناقة النجيبة الكاملة الخلق الحسنة المنظر المدربة على الركوب والسير والحمل ، بهذا فسر عياض قوله عليه الصلاة والسلام : ( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ) عياض : وأصلها من الرحل الموضوع عليها اه . والمراد بها هنا الدابة من حيث هي من فرس وبغل وحمار وجمل . ( والسفن ) جمع سفينة .
وفي الرَّوَاحِلِ الكِرَاءُ والسُّفُنُ
عَلَى الضَّمانِ أَوْ بِتَعْيِينِ حَسَنُ
( وفي الرواحل الكراء ) مبتدأ والمجرور قبله متعلق به ( والسفن ) جمع سفينة عطف على الرواحل ( على الضمان ) خبر ( أو بتعيين حسن ) عطف عليه : والمعنى أن الكراء في الرواحلوالسفن كائن على وجهين إما على الضمان كأكتري منك ركوب دابة أو سفينة إلى موضوع كذا ، أو أكتري منك دابتك البيضاء أو السوداء أو التي عندك أو أكري لك دابتي وليس لي غيرها ، فهذه الصور كلها من المضمون ، وإما على التعيين كأكتري منك دابتك هذه إلى محل كذا ، فالكراء المعين هو ما وقع العقد فيه على مشار إليه والمضمون ما كان بخلافه . ابن المواز : ولو اكترى منه دابة أو سفينة ليحمله لبلد كذا ولا يعلم له غيرها وقد أحضرها ربها عند العقد ولم يقل تحملني على هذه ، فهو على الضمان وعلى المكري خلفها إذا هلكت حتى يصل الغاية اه . قالوا : لأن الكراء المضمون كشراء سلع مضمونة إذا هلكت قبل القبض أو استحقت مطلقاً لزمه أن يأتيه بمثلها ، وإذا قدم فيه المكري دابة للمكتري فركبها فليس له أن يزيلها من تحته إلا برضاه والكراء المعين إذا هلك قبل الغاية انفسخ الكراء ولا يلزمه أن يأتيه بغيرها لأنه كشراء السلعة المعينة من مكيل وموزون إذا هلك قبل أن يوفيه كيله أو وزنه انفسخ البيع ، فإذا تراضيا بعد الفسخ في المعينة على أن يخلفها بغيرها وكان لم ينقد جاز لأنه كراء مستأنف ، وإن كان نقد لم يجز لأنه فسخ دين في دين إلا أن يكون في مفازة أي محل لا يجد فيه دابة للكراء ، فيجوز حينئذ وإن أدى لفسخ الدين قال ابن المواز : ولا يجوز استئجار عبد أو دابة أو سفينة بعينه على أنه إن هلك أتاه بمثله كما أنه لا يجوز بيع شيء بعينه على أنه إن هلك قبل القبض ضمن البائع مثله سواء كان المبيع حيواناً أو طعاماً أو عرضاً اه . وإذا وقع الكراء على الضمان فلا بد أن يذكر جنس الدابة ككونها من الخيل أو البغال ونوعها من برذون وعربي وذكورة وأنوثة كما قال ( خ ) : وإن ضمنت بجنس ونوع وذكورة الخ . وإذا كانت معينة واكتراها للركوب فينبغي أن يختبر سيرها ليعلم سرعتها من بطئها ، فرب دابة كما قال مالك المشي خير من ركوبها ، فإن لم يختبرها لم يلزمه الكراء ، ثم محل ذكر الجنس والنوع في المضمونة إنما هو إذا أكريت للركوب ، وأما على كرائها للحمل ونحوه فلا يحتاج لذلك لعدم تعلق الأغراض به إلا في حمل زجاج ونحوه كدهن فيحتاج لوصفها خوف أن تكون جموحاً أو عثوراً فتفسده ، وإذا قدم له جموحاً أو عثوراً وهو عالم بأنه يحمل عليها ذلك ، فالظاهر ضمان المكري حيث لم يعلم المكتري بكونها جموحاً أو عثوراً والله أعلم .
تنبيهات . الأول : قال البرزلي : من اكترى دواب بأحلاسها وغرائرها فهربت دابة بحملها فتبعها فرجع فوجد الأخرى قد ذهبت فلا ضمان عليه في الأولى ولا فيما عليها إلا أن يتبين كذبه ولا ضمان عليه في الثانية أيضاً ولا فيما عليها إن تركها عند ثقة وإلا ضمن اه .
قلت : قوله : وإلاَّ ضمن الخ . نحوه قوله في الدر النثير في الراعي تذهب الشاة فيتبعها ولا يترك الغنم عند أحد فتضيع كلها أو بعضها : أنه ضامن لأنه مفرط حين علم أنه موضع الخوف فرجع إلى الأقل وترك الأكثر لأنه مأمور بحفظ الأكثر اه . ومفهوم قوله حين علم أنه موضع الخوف الخ . أنه إذا علم أو غلب على ظنه أنه محل أمن لا ضمان عليه ، ومفهوم قولهفتبعها أنه إذا لم يتبعها ولا طلبها لا ضمان عليه ، ولا يكون عدم طلبها تفريطاً يوجب الضمان وهو كذلك حيث خاف على الباقي لكونه في غير محل أمن وإلاَّ ضمن كما في ابن عرفة .
الثاني : قال ابن القاسم في الدمياطية في مكتري الدابة يشترط عليه الضمان : أنه لا ضمان عليه قال : والمناجل وآلة الحرب يضمنها . ابن رشد قوله بضمان المناجل ونحوها مما يغاب عليه شذوذ ولا أعلم خلافاً أنه لا ضمان عليه ولو مع الشرط ، وظاهر كلامه في اشتراط ضمان الدابة عليه أنه كراء فاسد وعليه كراء المثل في الفوات قال : وحكم كراء العروض على شرط الضمان حكم بيع الثنيا يفسخ إلا أن يسقط الشرط ، فإن لم يعثر على ذلك حتى فات الكراء ففيه الأكثر من المسمى وكراء المثل دون شرط اه . وبه تعلم ما في اشتراط تضمين الماشطة ما تلف بيدها مما اكترته من حلى الأعراس انظر ( م ) في البيت بعد هذا .
الثالث : قال الوانوغي : وفي سماع أشهب فيمن يتكارى دابة لمكة كل يوم بدرهم ؟ قال : ما هذا من بيوع الناس ولعله يمكث بذلك شهرين ولو ضرب لذلك أجلاً كاكترائه لها شهراً كل يوم بدرهم ، فلا إشكال في الجواز . وأما إذا اكتراها منه إلى مكة كل يوم بدرهم فلم يجز ذلك هنا ، وأجاز في المدونة كراء الراحلة بعلفها إلى موضع كذا ، وهذا اختلاف من القول إذ لا فرق بين المسألتين لأنه إذا أبطأ في السير كثر عليه العلف ، وإن عجل قل عليه العلف ، فآل ذلك إلى الجهل بمبلغ الكراء ، ولو أكرى منه الدابة بعلفها إلى مكة أو كل يوم بدرهم أسرع أو أبطأ في السير لم يجز اتفاقاً ، فالخلاف إنما هو إذا وقع الكراء مبهماً دون بيان ، فحمله في هذه الرواية على الظاهر من الوصول إلى مكة قرب أو بعد ، وحمله في المدونة على الوصول على السير المتعارف فأجازه اه . واقتصر في الكراس الثامن من أنكحة المعيار على أن كراء الدابة كل يوم بدرهم لا يجوز إلا مع الأجل كالشهر ونحوه . ثم أشار الناظم إلى وجوب تعجيل الأجر في الكراء المضمون دون المعين فإنه يجوز فيه التعجيل والتأجيل فقال :
ويُمْنَعُ التَّأجِيلُ في المَضْمُونِ
وَمُطْلَقاً جَازَ بذِي التعْيين ( ويمنع التأجيل ) للأجر ( في ) الكراء ( المضمون ) وظاهره منع التأجيل ولو شرع في السير وليس كذلك ، بل إذا شرع ولو حكماً كتأخير شروعه اليومين والثلاثة لم يمنع تأجيله ، وإنما كان الشروع حكماً كالشروع بالفعل لأن حكم الكراء المضمون حكم السلم في جواز التأخير ثلاثة أيام كما في المقدمات ، وإنما جاز التأجيل مع الشروع ولو حكماً لأن قبض أوائل المنفعة قبض لأواخرها ، فلا يلزم ابتداء الدين بالدين المرتب على التأجيل وعدم الشروع ، وهذا إذا كان العمل المشروع فيه يسيراً كما في المقدمات ، فإن كان كثيراً وجب تعجيل الأجر سواء شرع أم لا . إذ لا يكون قبض الأوائل كقبض الأواخر إلا في اليسير ، وظاهر النظم أيضاً أن التأجيل ممنوع ولو للبعض وليس كذلك ، بل كل كراء مضمون لا يركب فيه إلا في وقت معلوم ، ووقع العقد قبلحصول وقته كان كراء حج أو غيره يكتفي فيه بتعجيل اليسير ، ويجوز تأجيل ما بقي كما قاله مالك لاقتطاع الأكرياء أموال الناس ، وأما إن وقع بعد حصول وقته فلا بد من الشروع ولو حكماً أو تعجيل جمع الأجر إذ لا ضرورة حينئذ تستدعي تعجيل اليسير فقط ، ( ومطلقاً جاز بذي التعيين ) أي وجاز عقد الكراء مطلقاً كان الأجر معجلاً أو مؤجلاً في الدابة المعينة أو السفينة المعينة كهذه الدابة أو السفينة ونحو ذلك ، ومحل الجواز مع التعجيل إذا كان يستوفي المنافع في الحال أو يؤخر استيفاءها الأيام القلائل كالعشرة وإلاَّ لم يجز لتردد النقدين الكراء إن لم تهلك والسلف إن هلكت كما قال ( خ ) في الخيار عاطفاً على المنع وأجير تأخر شهراً وأما مع التأجيل للنقد فيجوز تأخير استيفائها الشهر ونحوه كما قال في الإجارة وكراء دابة شهراً إن لم ينقد .
تنبيه : وكما يجب التعجيل للأجر في الكراء المضمون الذي لم يشرع فيه كذلك يجب تعجيل الأجر المعين كثوب مثلاً . وحاصله ؛ أن الأجرة إذا كانت معينة كثوب بعينه أو دراهم بعينها فإنه يجب تعجيلها ويقضى به لحق الله تعالى سواء اشترط التعجيل أم لا . كان المستوفي منه المنفعة معيناً أم لا . والإجارة صحيحة مع الشرط ولو لم يعجل بالفعل ، وكذا مع عدمه إن كان عرفهم التعجيل فإن كان عرفهم التأخير أو لا عرف أصلاً ولم يشترط التعجيل فسدت ولو عجلت بالفعل ، وأما إن كانت الأجرة غير معينة كدراهم أو ثوب في الذمة ، فإنما يجب التعجيل إن كان المستوفى منه مضموناً لم يشرع في استيفاء منافعه فإن كان معيناً فلا يجب التعجيل ولا يقضي به عند طلبه إلا إذا اشترطه أو جرى العرف به ، لأن أصل ابن القاسم أن الثمن في الإجارة على التأخير إلى تمام العمل إلا أن يشترطه أو يجري العرف به فيقضي له بتعجيله حينئذ ، وبالجملة مهما اشترط التعجيل أو جرت العادة به ففي المعين يجب التعجيل مضمونة كانت أم لا . وكذا غير المعين في المضمونة لا بد فيه من التعجيل لحق الله في الجميع للزوم بيع معين يتأخر قبضه في الأولين وللزوم ابتداء الدين بالدين في الثالث ، وأما غير المعين في غير المضمونة ففي الشرط أو العادة يقضي به فقط لأن الحق حينئذ للآدمي ، وهذا معنى قول ( خ ) : وعجل إن عين بشرط أو عادة أو في مضمونه لم يشرع فيها إلاَّ كراء حج فاليسير إلى قوله : وفسدت إن انتفى عرف تعجيل المعين الخ . إلا أن عبارته رحمه الله غير موفية بالمراد ، فلو قال : وعجل بشرط أو عادة في المعين مطلقاً كغيره في المضمونة وتفسد بعدمه كانتفاء عرف تعجيل المعين لا غيره في غيرها ، ويقضي به فقط مع الشرط أو العادة لأجاد والله أعلم .
وحيثُ مُكْتَرٍ لعُذْرٍ يَرْجِعُ
فَلاَزِمٌ لهُ الكِرَاءُ أَجْمَعُ
( وحيث مكتر ) دابة ليزف عليها عروساً أو ليشيع عليها رجلاً أو ليركبها لموضع كذا أو اكتراها لحج أو ليركبها في يوم كذا فتركها حتى مضى اليوم ( لعذر ) من مرض أو عدم رفقة أوسقط أو مات أو حبسه غريم في دينه ونحو ذلك من الأعذار التي عاقته عن العمل عليها ( يرجع ) عن ذلك الزفاف ونحوه ( فلازم له الكراء أجمع ) إن كان حياً أو لورثته إن مات وله أو لوارثه كراء الدابة في مثل ما اكتراها له حيث كان الزمان الذي اكتراها للركوب فيه باقياً قاله في المدونة ونحوه قول ابن سلمون : ومن اكترى دابة إلى موضع فرجع بها من الطريق فالكراء لازم له يعني : وله أن يكريها في مثله ، وبالجملة فكل ما تستوفى به المنفعة لا تنفسخ الإجارة بتلفه أو وجود عائق كموت المكتري للدابة ومرضه وحبسه وعدمه رفقة ونحو ذلك كتلف المتاع المحمول على الدابة أو أخذ اللصوص له أو موت الأمة المبعوثة معه بأجر ليوصلها لفلان ، سواء تلف أو غصب قبل الخروج أو بعده ، وكل ما تستوفى منه المنفعة تنفسخ الإجارة بتلفه كموت الدابة المعينة وانهدام الدار المكتراة ، ونحو ذلك كما مرّ في البيت قبله ، والناظم تكلم على الكلية الأولى وسكت عن الثانية و ( خ ) تكلم عليهما معاً حيث قال : وفسخت بتلف ما يستوفى منه لا به واستثنوا من الكلية التي تعرض لها الناظم أربع مسائل وهي صبيان وفرسان صبي التعليم والرضاعة وفرس النزو والرياضة فقالوا : إن الإجارة تنفسخ فيها وله من الكراء بحساب ما عمل مع كونها مما تستوفي بها المنفعة وألحقوا بذلك كما في الشامل وغيره المؤاجرة على الحصاد فيتلف الزرع وليس لربه غيره وعلى بناء حائط فيمنع من البناء مطر ونحوه وثوب يدفع لخياط أو غزل يدفع لنساج فيتلف كل منهما وليس لربهما غيره ، والطبيب يؤاجر لمداواة العليل مدة فيموت العليل قبلها والمؤاجرة على ثقب جوهر نفيس فينكسر وعلى الحراثة فينكسر المحراث ونحو ذلك قال في ضيح : والعلة فيها كلها تعذر الخلف غالباً اه . وعليه فالمدار على تعذر خلف المستوفى به فلا مفهوم للمسائل الأربع ولا لما ألحقوه بها والحق أنهما قولان . مذهب المدونة وهو الذي شهره في البيان أن الإجارة لا تنفسخ في ذلك وعليه جميع الكراء وله أن يستعمله في مثله ، وهو ما درج عليه الناظم و ( خ ) وصححه ابن شاس وابن الحاجب ، والقول الآخر إنها تنفسخ وعليه درج في المتيطية في تخلفه عن زفاف العروس ، واستظهره ( م ) في البيت بعده وشهره في المقدمات قائلاً : المشهور انفساخ الإجارة إذا تلف ثوب الخياطة ، ومراده إذا كان اللباس يتعذر خلفه حينئذ لا للتجارة ولعدم تعذر خلفه ، فهما قولان . شهر كل منهما ، لكن محل الخلاف إذا لم يجر العرف بالفسخ عند تعذر المستوفى به ، وإلاَّ فيعمل بالعرف لأنه كالشرط فكأنه اشترط عليه أنه إن عاقه عائق انفسخ العقد بينهما ،وربما يرشد إليه قول ابن عرفة : لا يدخل هذا الخلاف في نوازل وقتنا بتونس لأن العرف تقرر عندهم بفسخ الإجارة بكثرة المطر ونزول الخوف اه . والعرف عندنا بفاس اليوم الفسخ بحصول العذر حتى إنك لا تجد اثنين يختلفان في ذلك والله أعلم . وهذا كله في تخلف المكتري للعذر المذكور ، وأما لو خالف المكري فلم يأت بالدابة فقال فيها : وإن اكترى دابة إلى بلد ليركبها في غده فأخلفه المكري ولم يأته بها إلا بعد يومين أو ثلاثة فليس له إلا ركوبه ، ولو فاته ما كان يرومه أي من تشييع رجل ونحوه ، وإن اكتراها أياماً معينة انتقض الكراء فيما غاب منها كالعبد المستأجر شهراً بعينه يمرض فيه فتفسخ إجارته اه . فقولها : ولو فاته ما كان يرومه الخ . قال ابن المواز : لأن ذلك كشراء سلعة بعينها أو مضمونة يدفعها غداً فما له بذلك حتى فات ما يريد فلا حجة له ، وإنما له السلعة . وقال مالك في الأضاحي : يسلم فيها فيأتيه بها بعد أيام النحر اه . وهو معنى قول ( خ ) عاطفاً على ما لا تنفسخ فيه أو خلف رب الدابة في غير معين وحج ، وإن فات مقصده الخ .
تنبيه : إذا ضلت الدابة بالمتاع فلا كراء لصاحبها فإن أدى جعلا لمن جاء بها فالجعل على رب الدابة وإن ضلت بتفريطه فغرم قيمتها ، ثم وجدت بعد ذلك ولم تتغير فأراد ربها أخذها ورد القيمة فليس له ذلك وهي للذي غرم قيمتها كما في ابن سلمون . وفي المدونة وكل ما عطب من سبب حامله من دابة أو غيرها فلا كراء فيه إلا على البلاغ ، ولا يضمن الجمال إلا أن يغر أي يتعدى ، وكذلك ما حمله الرجل على ظهره فعطب فلا كراء له ولا ضمان عليه ، وكذلك السفينة إذا غرقت في ثلثي الطريق فلا كراء لها ولا ضمان عليه في شيء مما فيها . ورأى مالك أن ذلك على البلاغ . ابن يونس : وجه قول مالك إنه إنما دفع إليه الكراء ليحصل له غرضه فلم يحصل له شيء فأشبه ذلك الجعل الذي بطلان تمامه من أجل الأجير ، وأيضاً العرف قد جرى بين الناس أن الكراء في ذلك على البلاغ فكان المكري دخل عليه إلا أن يشترط عليه كل ما سار شيئاً أخذ بحسابه فله ذلك اه .
وَوَاجِبٌ تَعْيينُ وَقْتِ السَّفَرِ
في السُّفُنِ وَالْمَقَرِّ لِلّذِي اكتُرِي
( وواجب تعيين وقت السفر في ) كراء ( السفن ) بسكون الفاء لضرورة الوزن ، وكذا يجب تعيين وقت السفر في كراء الدابة أيضاً لاختلاف الأسفار غلاء ورخصاً باختلاف الأوقات في كرائهما معاً فلا مفهوم للسفن في وجوب التعيين ( و ) وجب أيضاً تعيين ( المقر ) الذي ينتهي إليه السير ويوضع المتاع فيه ( للذي اكتري ) ولا يضربا لذلك أجلاً لاختلاف الرياح والسير في الدابةفإن ضرباه فسد الكراء كما قال ( خ ) : وهل يفسد إن جمعهما أي العمل والأجل وتساويا أو مطلقاً خلاف .
وَهُوَ عَلَى الْبَلاَغِ إنْ شَيءٌ جَرَى
فيها فَلاَ شَيْءَ لَهُ مِع الْكِرَا
( وهو ) أي كراء السفن عند مالك وابن القاسم ( على البلاغ إن شيء جرى فيها ) أي السفن ( فلا شيء له ) أي لربها ( من الكرا ) ء لأنها كالجعل الذي لا يستحق الأجر فيه إلا بتمام العمل فمحل كرائها على الجعالة إلا أن يشترط أن له بحساب ما سار فتكون إجارة كما مرّ بالإشارة إلى ذلك قبل هذا البيت ، وتقدمت الإشارة إليه أيضاً أول كراء الدور ، وظاهره أنه يجوز النقد فيها وهو كذلك على المشهور ، وظاهره أنه لا كراء لربها ولو غرقت بمرسى محل النزول وهو كذلك إلا أن يفرط رب المتاع فلم ينقل متاعه بفور النزول حتى غرقت ، فإنه يلزمه الكراء كله حينئذ ، وكذا لو شرعوا في التفريغ فغشيهم الموج ومنعهم منه حتى غرق بعضه وسلم البعض الآخر ، فإن كراء السالم لازم ، وكذا لو غرقت في أثناء الطريق وسلمت حملاتها كلها أو بعضها فاكترى رب المتاع سفينة أخرى وحمل متاعه فيها ، فإن لرب السفينة الأولى من الكراء بقدر ما انتفع به رب المتاع السالم ببلوغه إلى الموضع الذي غرقت فيه كما قالوا في البئر يحفر بعضها ثم يترك ويكملها غيره أن للأول بقدر ما انتفع به رب البئر ، ولا فرق على ما درج عليه الناظم من أن كراءها على البلاغ بين وقوع الكراء على قطع البحر أو الريف أمكنهم النزول في قرية حاذوها أم لا . كانوا مسافرين بالريح أو بغيره . وقال ابن نافع : كراؤها ككراء الدابة فإذا غرقت أو ردّها الريح أو اللصوص فيلزمه من الكراء بحسب سيرها . وقال أصبغ : إن وصلت لمحل يمكن السفر منه أو حاذوه فردتهم الريح أو اللصوص فكالدابة وإلا فعلى البلاغ ، وعلى المشهور من أنها على البلاغ لو زادت به الريح على المحل المقصود فلا كراء له إلا أن يرده المقصود ، وإن عرض لهم العدو أو هول في البحر فليقصدوا موضعاً للنزول فيه حتى يتهيأ لهم السفر ، ومن أراد منهم أن ينزل أو ينزل متاعه فذلك له وعليه أداء الكراء كله . انظر ابن سلمون .
تنبيه : ويجب طرح ما ترجى به نجاة المركب من المتاع لخوف غرق ولا يطرح الآدمي ولوذمياً . وقال اللخمي : إذا خشوا الهلاك إن لم يخفف من المركب فيقرع على من يرمى حتى من الآدمي والرجال والعبيد ، وأهل الذمة في ذلك سواءْ ابن عرفة : ونسبة بعضهم لخرق الإجماع إذ لا يرمى الآدمي لنجاة غيره ولو ذمياً ، وقاعدة الإجماع على وجوب ارتكاب أخف الضررين لدرء أشدهما شاهدة لقول اللخمي وهي هنا ، وإن كانت لإتلاف النفس فهي فيه لحفظها اه .
فصل في أحكام الإجارةمأخوذة من الأجر الذي هو الثواب فمعنى آجره استعمله بأجر أي بثواب على عمله من قولهم : آجرك الله أي أثابك . عياض : يقال أجرت فلاناً وآجرته بالقصر والمد ، وكذلك أجره الله وآجره والإجارة بيع منافع معلومة بعوض معلوم وهي معاوضة صحيحة يجري فيها جميع ما يجري في البيوع من الحلال والحرام ، فلا بد أن تكون المنفعة والأجر مقدوراً على تسليمهما منتفعاً بهما ظاهرين إلى غير ذلك مما يشترط في البيع ، وعرفها ابن عرفة بقوله : ببيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا ينقل بعوض غير ناشىء عنها بعضه يتبعض بتبعيضها الخ . فقوله : بيع أطلق البيع على العقد لأن الإجارة مباينة للبيع لا تدخل فيه ، ولا بد أن يأتي في الحد بالجنس الشامل للمحدود وغيره ، ثم يخرج غيره بالفصول فلو قال : عقد على منفعة الخ . لكان أحسن قاله الرصاع وخرج بقوله منفعة بيع الذوات ، وبقوله ما أمكن نقله كراء الدور والأرض ، وبقوله ولا حيوان لا يعقل كراء الرواحل ، وبقوله غير ناشىء عنها القراض والمساقاة لأن المعقود عليه فيهما منفعة العامل والثمرة والربح ناشئان عن عمله ، والضمير في قوله بعضه عائد على العوض ، وفي تبعيضها على المنفعة ، وخرج بقوله الجعل لأنه لا يتبعض فيه العوض بتبعيض المنفعة فقوله : بعضه الخ . مخرج للجعل ومدخل للنكاح الذي وقع صداقه منفعة ما يمكن نقله أي : بعضه يتبعض بتبعيضها وبعضه لا يتبعض كالبضع ، فإنه لا يتبعض بتبعيض المنفعة بهذا أجاب ابن عرفة عن زيادة لفظة بعضه الخ . بعد ما توقف هو وأهل مجلسه في زيادتها ، ورغب الله تعالى في فهمها ولو قال : جله يتبعض بتبعيضها يعني وغير الجل لا يتبعض كالبضع الواقع في مقابلة الوارد في قوله تعالى : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } ( القصص : 27 ) الآية لكان أوضح وبعد هذا يعترض عليه كما للوانوغي بأنه يلزمه دخول الجعل بما دخل به النكاح فيلزم فساد طرده على أنه لو حذف لفظة بعضه ، واقتصر على ما بعده لم يلزم خروج النكاح لأن تبعيض المنفعة فيه يوجب للأجير الرجوع في صداق المثل لأن المنفعة إنما وقعت في مقابلته حكماً ، فإذا تبعضت تبعض مقابلها الذي هو صداق المثل فيأخذ منفعته منه ، فالصواب حذف لفظة بعضه .
فرع : قال البرزلي : صدر الإجارة في كتاب الغرر منها أن قال : بعتك سكنى داري سنة فذلك غلط في اللفظ وهو كراء صحيح ، فأخذ منها إذا تعارضت الحقيقة المرجوحة ، والمجاز الراجح عمل عليه ، وفيه أقوال في أصول الفقه اه . وكذلك قال في كتاب الصرف ، منها : إنصرفت منه ديناراً بدرهم على أن تأخذ بها سمناً أو زيتاً وتسمى صفته ومقداره نقداً أو مؤجلاً ، أو على أن تقبضها ثم تشتري منه هذه السلعة لأجل السلم فذلك جائز ، والكلام الأول لغو فإن ردت السلعة بعيب رجعت بدينارك لأن البيع إنما وقع بالدينار ، وإنما ينظر مالك إلى فعلهما لا إلى قولهما ، وتأمل قول ( خ ) في العارية والأطعمة والنقود قرض ، وانظر ما تقدم في التنبيه الخامس من التصيير فإن هناك ما يوافقه .
العَمَلْ الْمَعَلُومُ مِنْ تَعَيينِهِ
يَجُوزُ فِيهِ الأَجْرُ مَعْ تَبْيينِهِ
( العمل المعلوم من ) أجل ( تعيينه ) أي تعيين حده بالعمل أو بالأجل وذكر صفته ، فالأول كقوله : أو أجرك على صبغ هذا الثوب أو دبغ هذا الجلد أو خياطة هذا الثوب ، وبين له صفة الصبغ والدبغ والخياطة . والثاني كقوله : أوأجرك على بناء يوم أو خياطة شهر أو حراثة يومين ونحو ذلك ، فالعمل الذي هو الدبغ والصبغ ونحوهما لا بد أن يكون معلوماً لهما ، ولا بد أيضاً أن يكون محدوداً إما بالفراغ منه كخياطة ثوب وطحن أردب ، وإما بضرب أجل كخياطة يوم أو صبغه ودبغه وطحنه فالمصنوعات أما أن تحد بالفراغ وبالأجل وغيرها كالرعاية والخدمة المعروفة ونحوهما يحد بضرب الأجل لا غير ، فإن جمع بين الأجل والعمل كقوله : خط هذا الثوب في هذا اليوم بدرهم أو أكتري منك دابتك لتركبها إلى محل كذا في هذا اليوم أو أو أجرك لتوصل الكتاب لمحل كذا في هذا اليوم أو الشهر بدرهم ، فهل تفسد مطلقاً أو إنما تفسد إن كان الأجل مساوياً للعمل أو أنقص منه لا إن كان الأجل أكثر من العمل فلا تفسد فيه ؟ خلاف ( خ ) : وهل تفسد إن جمعهما وتساويا أو مطلقاً ؟ خلاف . ومن ذلك الاستئجار على بيع ثوب مثلاً ، لكن لما لم يكن البيع في مقدور الأجير كان جعالة أن حده بالعمل وهو تمام العمل وإجارة إن حده بالزمن ويستحق أجره بمضي الزمن حينئذ وإن لم يبع ( يجوز فيه ) أي في ذلك العمل المعلوم ( الأجر ) أي تعويض الأجر الذي هو ثمن للعمل أي : يجوز معاوضته بالأجر الذي هو ثمن له وعليه ، فلا حاجة لدعوى الاستخدام ( مع تبيينه ) أي الأجر أي تبيين جنسه وقدره وصفته إن كان غائباً عن المجلس ، وإلاَّ فلا حاجة لذكر صفته ولا جنسه وقدره ، وتقدم أن الإجارة كالبيع يشترط فيها ما يشترط فيه ، ومفهومه أنه إذا لم يبين قدر الأجر لم يجز ، وهو كذلك على المشهور . وروى ابن القاسم أنه لا بأس باستعمال الخياط المخالط الذي لا يكاد يخالف مستعمله دون تسمية أجر ، فإذا فرغ أرضاه بشيء يعطيه إياه ، ومن هذا أعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه ، وعن ابن سراج أنه أجاز إعطاء السفينة بالجزء مما يحصل عليها ومثله الجباح بالجزء من عسله والزرع ممن يحرسه بجزء منه ، ومذهب السلف جواز الإجارة بجزء منه قياساً على القراض انظر ( ق ) أوائل الإجارة ، وعلى ذلك تخرج أجرة الدلال بربع عشر الثمن مثلاً ، ونص على جوازها بذلك صاحب المعيار في نوازل الشركة ومنه إعطاء البقرة لمن يرعاها ، بنصف زبدها كما في نوازل الفاسي ، وقد أجاز في المدونة كراء البقرة للحرث واشتراط لبنها مع جهل قدره ، وانظر ما يؤيده في أول المزارعة أيضاً .وَلْلأَجِيرِ أُجْرَةٌ مُكمَّلَهْ
إن تَمَّ أَوْ بِقَدْرِ ما قد عَمِلَهْ
( وللأجير أجرة مكملة إن تم ) عمله كان صانعاً أو راعياً أو غيرهما ( أو ) له من الأجرة إن عاقه عائق عن الإتمام كمرض ونحوه ( بقدر ما قد عمله ) أي بقدر عمله فما مصدرية ، وهذا إن لم يزل العائق حتى تمت المدة في الرعاية ونحوها ، أو تراضيا على عدم الإتمام ، وإلاَّ أجبر على الإتمام من أباه ويؤخذ من الآبي كفيل ويسجن له ويضرب إن تمادى على الامتناع ، لأن عقد الإجارة لازم لكل منهما . فإن تروغ الراعي أو معلم الصبيان مثلاً وخرجا قبل انقضاء المدة من غير عذر ولا عائق ، ففي ابن عرفة : سمع عيسى بن القاسم : من واجر أجيراً مدة معينة شهراً أو يوماً لعمل خياطة أو بناء أو غيره فراغ عنه حتى انقضى الأجل انفسخت الإجارة فيما بطل ، وإن عمل شيئاً فبحسابه اه . ابن رشد : هذا صحيح لا خلاف فيه اه . ابن عرفة : وبه أفتيت في الراعي وأجراء الحرث لأشهر معينة يروغ الأجير في بعضها فيأتي بعد المدة أن له بحساب ما عمل اه .
قلت : وما أفتى به وحكى عليه ابن رشد الاتفاق هو الذي شهره في المازونية . وقال في الطرر : إن به القضاء والعمل ومقابله أنه لا شيء له لأنه ترك ما كان يجب له بترك تمام ما عومل عليه قاله أبو ميمونة الدراس فقيه فاس وغيره وصدر به في الطرر قال : والأصل في هذا أن من أراد منهما قطع المعاملة فقد رضي بترك حقه إذا لم يتم شرطه ، وهذا وجه القياس اه . ونحوه في ابن سلمون وغيره ، وعليه فهذا الأجير بتروغه وهروبه منع المستأجر من استيفاء منافعه التي باعها فهو ظالم متلف عمله على الذي استحقه فيجب عليه غرم قيمته لأنه بتروغه وهروبه غاصبلمنافع نفسه وغاصب المنافع يضمنها سواء استعمل أو عطل كما في ( خ ) وغيره . وإذا كان غاصباً للمنافع التي باعها فيجب عليه ضمان قيمتها بمنزلة من باع سلعة فأتلفها ، وقد قال ( خ ) : وإتلاف المشتري قبض والبائع والأجنبي يوجب الغرم ، وقد تقدم قريباً أنه يجري في الإجارة ما جرى في البيع ، وإذا تقرر هذا فما في السماع . وحكى عليه ابن رشد الاتفاق وشهره في المازونية مبني على أن الأجير لما كان معيناً تستوفى منه المنافع انفسخت الإجارة بتروغه لأنه بمنزلة تلفه ، وهذا إنما يتم لو كان التلف بغير اختياره ، وأما حيث كان باختياره فالواجب هو تضمينه قيمة المنافع التي تلفها فيحاسبه المستأجر له بقيمتها فإذا استأجر سنة مثلاً باثني عشر درهماً ورعى أو خدم ثلاثة أشهر منها وتروغ في الباقي ، فإذا كانت قيمة هذا الذي تروغ فيه ستة دراهم قاصه بثلاثة منها في الثلاثة الواجبة له أي : وغرم الراعي له ثلاثة ، وإذا رعى تسعة وتروغ في ثلاثة وقيمتها ثلاثة أو ستة لشدة بردها أو حرها في السنة ، فإن المستأجر يغرم له في الأولى تسعة وفي الثانية يغرم له الراعي ثلاثة ، وهكذا هذا هو الحق وعليه فقولهم لا شيء له ليس على إطلاقه ، بل إنما ذلك في بعض الصور كما ترى ، وإنما تركوا التفصيل المذكور اتكالاً على وضوح المعنى ، وعلى هذا فلأرباب الغنم وآباء الصبيان أن يضمناه قيمة المنافع الباقية ويؤاجرا من يرعى أو يعلم الصبي عليهما بقية الأمد ، فإن قدرا عليه يوماً ما أخذا منه ذلك إن زاد على ما وجب له فيما رعى ، وإن نقص عنها كان له الباقي . هذا هو الذي تقتضيه الأصول ، وقديماً كنت أفتي بمثل هذا ، ويؤيده ما وقفت عليه لبعضهم ناسباً له لنوازل ابن سحنون بعد أن قرر الخلاف هل له شيء أم لا ؟ قال ، قال محمد ، وأنا أقول : إن وقعت الإجارة بينهما فاسدة فله أجر مثله فيما رعى ، وإن كانت صحيحة استؤجر على رعايته سنة معينة وليس له شيء إلا بتمام عمل السنة يعني ليس له إلا ما فضل عن تمام السنة إن فضل له شيء كما مر . نعم إذا لم يضمناه قيمة عمل الذي أتلفه ولم يؤاجرا عليه من يكمل له عمله ، وجاء بعد انقضاء المدة يطلب ما وجب له ، فإن له بحسابه ، وعليه فيقيد النظم بما إذا عاقه العائق حتى انقضت المدة أو تراضيا على الفسخ أو لم يعقه شيء ولا تراضيا ولم يضمناه ولا واجرا عليه ، فحينئذ يكون له بحساب ما عمل ، وقد كثر السؤال عن هذه المسألة ويفتي فيها من لا تأمل معه بما في النظم من أن له بقدر ما عمل مطلقاً ، وذلك غير سديد . وتعليلهم بأن له ترك ما كان يجب له في ماضي المدة بترك تمام ما عومل عليه في بقيتها كالصريح في أن ما استحقه لماضي المدة يؤاجر عليه به في بقيتها ، والغالب أن ما استحقه في الماضي لا يفي بما أتلفه من عمله إن خرج بعد رعايته من السنة نحو الشهرين والثلاثة ، فإن وفى به وزاد كانت له الزيادة لأنه قد يخرج ويبقى لتمام السنة نحو الشهر أو الشهرين ، وإن نقص كان عليه النقصان فهم إنما أطلقوا اتكالاً على وضوح المعنى ، ولهذا قال ( ت ) : ينبغي اعتماد قول من قال لا شيء له ، وحقه أن يقول يجب اعتماده إذ ما في السماع ضعيف المدرك كما ترى والله أعلم . وهذا كله في الأجير البالغ الرشيد ، وأما غيره فله بحساب ما عمل حيث تروغ وأتى بعد انقضاء المدة لأن غير البالغ وغير الرشيد لا يضمنان ما أتلفاه من منافعهما لأنهما مأمونان عليهما . وقد قال ( خ ) : وضمن ما أفسده إن لم يؤمن عليه فإن لم يتروغ وكان حاضراً وهو رشيد فإنه يضرب ويسجن ويؤخذ منه كفيل بذلك حتى يفعل كما مر ، فإن تروغ وجاء قبل انقضاء المدة أو صح من مرضه أو زال عذره قبل انقضائها أيضاً ، فإنه يجبر علىإتمامها ويسقط من أجرته بقدر ما عطل ، ولا يجوز إن كان نقده الأجرة أن يتفقا على قضاء مدة الهروب أو المرض بعد انقضاء مدة الإجارة ويأخذ جميع الأجرة لأنه فسخ ما في الذمة في مؤخر إذ قد وجب للمستأجر ما يقابل مدة الهروب من الأجرة فيفسخها في شيء لا يتعجله الآن ، فإن كان لم ينقده جاز قضاء مدة الهروب بعد انقضاء مدة الإجارة لانتفاء العلة ، وهذا كله مع التعيين ، وأما مع عدمه كقوله : اعمله بنفسك أو بغيرك فهو من الإجارة المضمونة ولا تنفسخ بتروغه أو موته ويستأجر من تركته من يكمله ، وإن لم يكن وفاء في التركة خص المستعمل غرماءه .
تنبيه : إذا واجره على العمل بنفسه لا بغيره فقال في المتيطية : وليس للراعي أن يسترعي غيره إلا بإذن ربها في أحد قولي ابن القاسم اه . ابن رحال : والراجح الضمان إن استرعى من هو مثله بغير إذن ربها ، وأحرى إن استرعى من هو دونه . ابن ناجي : وهذا إذا لم يجر عرف البلد بأن الراعي يأتي بمن هو مثله لضرورة ، وإلاَّ فلا ضمان اتفاقاً ، وكذلك إن كان العرف إثباته بدونه لأن العرف كالنص . وفي البرزلي : إن الحارس يحرس الطعام فذهب واستخلف من لا يقوى على الحراسة قال : هو ضامن إلا أن يكون المستخلف مطيقاً على الحرس فلا ضمان البرزلي : والصواب الضمان إلا أن يكون استخلف لضرورة اه . وتقدم في آخر كراء الرواحل ما إذا ذهب له بعض الغنم فذهب يفتش فوجد الأخرى قد ضاعت فانظره هناك .
فرع : إذا واجر بعض الجماعة إماماً للصلاة أو الأذان فإن ذلك يلزم من غاب عن العقد كما أقامه ابن ناجي من المدونة ، وبه أفتى ابن الحاج حيث جرى عرف القرية بذلك ، وبه أفتى ابن هلال والقباب وسيدي يحيى السراج قائلاً : إن الناس يجب عليهم إقامة الجماعة والجمعة ويوظف عليهم أجرة الإمام على قدر رؤوسهم ، وليس لأحد أن يمتنع ، وقد نص على ذلك غير واحد من الشيوخ كالقاضي عياض وابنه وابن الحاج وغيرهم اه .
قلت : وعلى هذا عمل الناس في البادية فيجب اعتماده ولا يلتفت إلى ما سواه ، وانظر شرحنا للشامل أوائل الإجارة وعند قوله : فإن كانت أجرة الإمام من الأحباس الخ . ففيه فوائد نفيسة مناسبة للمقام ، وانظر فيه أجرة الكرائين والخط وحل المعقودين ونحو ذلك .
فرع : قال في المتيطية : ومن كانت له غنم فباع نصفها على أن يرعى المبتاع نصفها ، والثاني مدة معلومة جاز ذلك وتكتب فيه : باع فلان من فلان نصف مائة شاة ضئناً على السواء بكذا دينار أو قبضها منه أو أخره بها إلى وقت كذا ، وعلى أن يرعى له المبتاع النصف الباقي على ملكه منها طول هذه المدة المذكورة ، وقبض المبتاع جميع الغنم المذكورة بعد أن قلبها ورضيها وصارت تحت رعايته له نصفها بهذا الابتياع ، والنصف الثاني باق على ملك البائع حتى يقتسماها إذا دعي أحدهما إلى ذلك ، وعلى البائع خلف ما هلك أو باع من نصيبه مدة الاستئجار المذكور ، ولهما سنة المسلمين في بيعهم واستئجارهم شهد عليهما الخ اه . وفي المغارسة من العلمي أن الشيخ العبدوسي سئل عن شركة تقع من أهل البادية يبيع الرجل من الرجل نصف غنمه ونحوها بثمن معلوم مؤجل ، فمنهم من يضرب للثمن أجلاً ، ومنهم من لا يضربه ، فإذا وقع النزاع بينهم يقول المشتري للبائع : أعطني أجرة الربط والحل ، فهل البيع فاسد أم لا ؟ وهل يلزم البائع في نصفهأجر الحل والربط ، وإذا تطوع المبتاع بذلك فهل لامرأته قيام أم لا : فأجاب : بأنهما إن ضربا للثمن أجلاً فلا شك في الجواز ، وأما إن جعلاه لوقت القسمة أو كانت العادة جارية بذلك ، أو كان منهما إضمار على ذلك فالبيع فاسد ، وعلى البائع أجرة الحل والربط حيث كان المبتاع ممن يأخذ ذلك عادة أو جهل حاله بعد أن يحلف أنه لم يقصد بذلك التطوع إلا أن يكون أشهد على ذلك أو لا . فلا يمين عليه ، وإن كان ممن لا يأخذ ذلك عادة لنسبه وحسبه فلا أجرة له ، وأما إن كانت المرأة في المتولية لذلك فإنما ترجع بذلك على زوجها إن كانت ممن تأخذ ذلك لأن زوجها لما تطوع به سقط عن البائع ووجب على زوجها لتطوعه فترجع على من وجب عليه لا على من سقط عنه ، واشتراط الحل والربط على المشتري في أصل العقد إلى غير أمد معلوم لا يجوز ، وإنما يجوز إلى أمد معلوم بشروط وبالله التوفيق . وكتب عبد الله العبدوسي اه . ببعض اختصار وتأمل قوله : لأن زوجها لما تطوع الخ . فإنه كثير الوقوع ، وتقدم آخر بيع الفضولي جملة من ذلك ، وقوله : إن كانت ممن تأخذ ذلك إشارة منه إلى القاعدة الآتية في البيت بعده .
وَالقَوْلُ للعامِلِ حَيْثُ يَخْتَلِفْ
في شأْنِهَا بَعْدَ الفَرَاغِ إنْ حَلَفْ
( والقول للعامل ) أي الأجير ( حيث يختلف ) هو ومن واجره ( في شأنها ) أي الإجارة أي في شأن عقدها ( بعد الفراغ ) من العمل فقال الأجير : ادفع لي أجرة الصبغ أو الخياطة مثلاً . وقال رب الثوب : لم أواجرك على ذلك ، وإنما كان عندك وديعة أو قال صبغته أو خطته لي مجاناً ، فإن القول للأجير إنه صبغه أو خاطه بأجر ويصدق في قدره ( إن ) أشبه و ( حلف ) أنه لقد واجره بما ذكر ( خ ) : والقول للأجير إنه وصل كتاباً أو أنه اصطنع ، وقال ربه وديعة الخ . وإنما كان القول للأجير مع أن القول لمنكر العقد إجماعاً كما تقدم في اختلاف المتبايعين لأن الغالب فيما يدفع للصانع هو الاصطناع والإيداع نادر لا حكم له كما قاله اللخمي ، وقوله في شأنها صادق بما إذا قال ربه وديعة أو مجاناً كما مر ، وبما إذا سرق مني ، وهذا الثاني يجب إخراجه من النظم لأن الحكم فيه عدم قبول قول الأجير كما قال ( خ ) : وإن ادعاه وقال : سرق مني وأراد أخذه دفع قيمة الصبغ بيمين إن زادت دعوى الصابغ عليها الخ . والفرق أن رب المصنوع في دعوى الوديعة معترف بأنه أذن في وضع يد الصانع على المصنوع بخلاف السرقة ، ومفهوم قوله : حيث يختلف في شأنها أنهما إذا اتفقا على عدم عقدها أنه لا شيء على رب المصنوع وهو كذلك حيث كان رب المصنوع لا حاجة له في تلك الصنعة ، أو كانت الصنعة مما يليها بنفسه أو عبيده ، وإلا لزمه أجرة المثل . قال في الشامل : وكل من أوصل لك نفعاً بعمل أو مال وإن بغير قصد نفعك كان حرث أرضك ظاناً أنها له أو لم تأمره به مما لا بد لك منه كحرثه أرضك أو سقيه إياها أو حصد زرعك أو طحن حبك أو حفر بئرك أو بناء دارك أو انفق على زوجتك أو ولدك أو عبدك لزمك أجرة العمل ، ومثل المال الذي أنفقه على الزوجة ونحوها لأنه قد قام عنك بواجب ، فإن فعل ذلك بقصد أن يأخذه لنفسه فهو غاصب لا شيء له ، والقول قوله إنه فعل ذلك بقصد الرجوعبالأجرة ، وبمثل المال المنفق فإن كان عملاً لا تحتاج له كحفر بئر في أرضك لا حاجة لك به ، أو انفق على من لا تلزمك نفقته ، أو كان العمل مما تليه بنفسك أو عبيدك أو دوابك فلا شيء عليك اه . باختصار . وتقديم وتأخير وزيادة للإيضاح . وهذه الكلية ذكرها ابن حارث في أصول الفتيا في باب الضمان ، ونقلها ابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة في باب الإجارة وسلموها ، ولم يعترضوا منها شيئاً . انظر نصهم في شرح الشامل . ثم أشار إلى مفهوم قوله بعد الفراغ فقال :
وإنْ جَرَى النِّزَاعُ قبلَ العَمَلِ
تَحَالَفَا والرَّدُّ بَيِّنٌ جَلِي ( وإن جرى ) أي وقع ( النزاع ) بين الأجير ورب المتاع ( قبل ) الشروع في ( العمل ) أو بعد الشروع فيه بشيء يسير ( تحالفا والرد ) لعقد الإجارة أي فسخه ( بين جلي ) وظاهره مطلقاً كان نزاعهما في عقدها وعدم عقدها أو في قدر الأجرة أو في نوعها أو جنسها أو في انتهاء المسافة أو في ابتدائها ، ونحو ذلك . وهو كذلك ولا يراعى شبههما ولا شبه أحدهما لأن القاعدة أنه لا ينظر لشبه قبل العمل ( خ ) : وإن قال بمائة لبرقة ، وقال بل لإفريقية حلفا وفسخ إن عدم السير أو قل وإن نقد الخ . ثم أشار إلى مفهوم قوله في شأنها أي عقدها ، وهو ما إذا اتفقا على العقد واختلفا في الصفة أو النوع أو القدر فقال :
وَإنْ يكن في صِفَةِ المَصْنُوعِ
أَوْ نوعِهِ النِّزَاعُ ذَا وقُوعِ ( وإن يكن في صفة المصنوع ) كقوله : أمرتني بصبغه أحمر ، وقال الآخر : بل أصفر مثلاً ( أو نوعه ) كقوله : أمرتني بخياطة عربية وقال الآخر : بل برومية والمجرور يتعلق بقوله : ( النزاع ) وهو اسم يكن وقوله : ( ذا وقوع ) خبره .
فَالقولُ لِلصَّانِعِ من بَعْدِ الْحَلِفْ
وَذَاكَ في مقدارِ أُجرةٍ عُرِفْ
( فالقول للصانع ) في الصورتين ( من بعد الحلف ) وهذا إذا أشبه أشبه الآخر أم لا ، فإن انفرد الآخر بالشبه لكون غالب أمثاله لم يلبسوا إلا الأصفر أو المخيط برومية فقوله : بيمينه فإن لم يشبها فأجرة المثل ما لم تزد على دعوى الصانع أو تنقص عن دعوى ربه فلا ينقص ولا يزاد . ( وذاك ) مبتدأ والإشارة إلى كون القول للصانع مع حلفه وشبهه ( في ) نزاعهما في ( مقدار أجرة ) بأن قال بعشرة وقال الآخر بل بثمانية ( عرف ) خبر والمجرور يتعلق به ، وظاهره أن القول له في قدرها حيث أشبه وحده كان المصنوع محوزاً بيده أم لا . وهو كذلك فإن أشبه ربه وحده ، فالقول له ولو محوزاً بيد الصانع ، فإن أشبها معاً فالقول للحائز منهما ، وإن لم يشبها معاً فأجرة المثل ( خ )عاطفاً على ما فيه القول للصانع ما نصه : أو خولف في الصفة أو في الأجرة إن أشبه وحاز لا أن لم يحز كبناء .
وإنْ يَكُنْ مِنه نُكُولٌ حَلَفَا
ربُّ المَتاعِ وَلهُ مَا وَصَفَا
( وإن يكن منه ) أي الصانع ( نكول ) عن اليمين حيث القول له في هذه الفروع ( حلفا رب المتاع ) على دعواه ( وله ما وصفا ) من قدر الأجرة ومن الصبغ والخياطة ويؤمر الصانع بإعادة الصبغ والخياطة إن أمكنه ذلك من غير فساد ، وإلاَّ ضمن قيمته أبيض من غير صبغ ولا خياطة .
وَالقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ المَتَاعِ في
تَنَازُعٍ فِي الرَّدِّ مَعْ حَلْفٍ قُفِي
( والقول قول صاحب المتاع في تنازع ) بينه وبين الصانع ( في الرد ) للشيء المصنوع فقال الصانع : رددته إليك بعد الصنعة . وقال ربه : بل هو باق عندك فالقول لربه ( مع حلف ) منه ( قفي ) بالبناء للمفعول صفة لحلف ، وظاهره أن القول لربه سواء قبضه ببينة أو بغير بينة استصنع بأجر أو بغيره وهو كذلك لأنه قبضه على الضمان فلا يبرأ منه كما قال مالك : إلا ببينة بخلاف المودع عنده إذا قبض الوديعة بغير بينة فهو مصدق في الرد لأنه لم يقبضها على الضمان ، وهذا كله في المصنوع الذي يغاب عليه كالثوب ونحوه ، وأما ما لا يغاب عليه كغلام دفعه لمن يعلمه أو دابة لمن يعلمها حسن السير ، فالقول للصانع في رده كقبول دعوى تلفه إلا أن يكون قبضه ببينة مقصودة للتوثق فلا تقبل دعواه الرد والتلف ، والمقصودة للتوثق هي المقصودة بالإشهاد احترازاً مما إذا حضرت على وجه الإتفاق فشهدت بما وقع بمحضرها من غير أن يشهدها رب المتاع والصانع ، فهذه البينة لم تقصد بالإشهاد ، وإنما حضرت على وجه الاتفاق فهي كالعدم كما أوضحنا ذلك في شرحنا للشامل في باب الوديعة ( خ ) عاطفاً على ما لا يقبل فيه قول الصانع ما نصه : ولا في رده فلربه وإن بلا بينة الخ . وفهم من النظم أن دعوى التلف والغصب كدعوى الرد فلا يقبل قول الصانع فيهما أيضاً لأن من لم يقبل دعواه الرد لم يقبل دعواه التلف والغصب إلا ببينة عليهما من غير تفريط ويضمن قيمة ذلك يوم الدفع ، وليس لربه أن يقول : أنا أدفع الأجرة وآخذ قيمته معمولاً إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل قاله في الموازية . ومحل الضمان إن غاب على المصنوع ونصب نفسه لتلك الصنعة لسائر الناس فإن لم يغب على المصنوع بل صنعه ببيت ربه ولو بغير حضوره أو بحضوره ، ولو بغير بينة ، أو لم ينصب نفسه لسائر الناس ، بل كان يصنع لشخص خاص أو لجماعة مخصوصين فلا ضمان عليه فيما ادعى تلفه ( خ ) عاطفاً على ما فيه الضمان أو صانع أي عليه الضمان في مصنوعه لا في غيره ، ولو محتاج لهعمل ، وإن ببينة أو بلا أجر إن نصب نفسه وغاب عليه فبقيمته يوم دفعه ، ولو شرط نفيه أو دعي لأخذه إلا أن تقوم بينة أي بتلفه فتسقط الأجرة الخ .
تنبيه : ألحقوا السمسار بالصانع فلا تقبل منه دعوى الرد ولا التلف . قال في العمل المطلق :
والحقوا السمسار بالصناع
فضمنوه غائب المتاع
فرع : ذكر اللخمي وابن عرفة في كتاب الوديعة : من اكترى دابة فلما قدم قال : أودعتها لأنها وقفت علي في الطريق فإنه يصدق ، ولو أنكر ذلك المودع عنده ولا ضمان عليه لأن الشأن دفع الودائع بغير بينة اه .
والقَوْلُ لِلأَجِيرِ أَنْ كان سأل
بالقُرْبِ مِنْ فَرَاغِهِ أَجْرَ العَمَلْ
( والقول للأجير ) في عدم قبضه الأجرة ( إن كان سأل ) أي جاء يسألها ويطلبها ( بالقرب من فراغه ) كاليومين ونحوهما ( أجر العمل ) مفعول بقوله سأل ، وهذا إذا كان قد دفع المصنوع لربه أو لم يحزه أصلاً كبناء وإلاَّ بأن كان المصنوع باقياً تحت يده ، فالقول له في عدم القبض وإن طال ( خ ) : وله وللجمال بيمين في عدم قبض الأجرة وإن بلغا الغاية إلا لطول فلمكتريه بيمين ، وكان حق الناظم أن يؤخر هذا البيت عن الأبيات بعده لارتباطها بما قبله ، وظاهر قوله بالقرب من فراغه أنه لا فرق بين الصناع وكراء الرواحل والسفن والدور والأرضين وغير ذلك ، وهو كذلك . قال في المتيطية : وإن كان الكراء مشاهرة أو مسانهة واختلفا في الدفع صدق المكتري مع يمينه فيما انقضى من الشهور في المشاهرة ، ومن السنين في المسانهة إلا في الشهر الأخير والسنة الأخيرة ، فيصدق المكري مع يمينه إن قام بحدثان ذلك . قال بعض الموثقين : والشهر بعد انقضاء المدة في ذلك قريب انتهى . قال المكناسي في مجالسه : العرف بفاس أن القول قول المكري للدار ونحوها في سالف المدة ما عدا شهرين من آخرها فإن القول فيها قول المكري انتهى .
قلت : والعمل اليوم بفاس على ما للمكناسي بزيادة شهر فيكون القول للمكتري فيما عدا الثلاثة الأشهر الأخيرة ، فإن القول فيها قول المكري مع يمينه في الدور والحوانيت والفنادق ونحو ذلك لا في الصناع والرواحل ، فإن العمل فيها على ما في النظم والله أعلم . ثم إذا قلنايضمن قيمة المصنوع في دعواه التلف والرد يوم الدفع كما مر ، فإن اتفقا عليها فلا كلام ، وإن اختلفا فيها تواصفاه ، ثم قوِّم ، فإن اختلفا فالقول للصانع لأنه غارم ، وهذا إن أشبه وحلف كما قال : بقي هنا بيت وهو :
بَعْدَ يَمِينِهِ لمِنْ يُنَاكِرُ
وَبَعْدَ طُولٍ يَحْلِفُ المُستَأْجِرُ
وَالوَصْفُ مِنْ مُسْتَهْلِكٍ لمَا تَلفْ
في يَدِهِ يُقْضىبِه بَعْدَ الحَلِفْ ( والوصف ) مبتدأ ( من مستهلك ) بكسر اللام يتعلق بمحذوف صفة أي الكائن من مستهلك ، وسماه بذلك لهلاك الشيء تحت يده ونكره ليعم الصانع والمرتهن والغاصب وغيرهم كما سيقول : وكل من ضمن شيئاً الخ . ( لما تلف ) يتعلق بالوصف ( في يده ) أي المستهلك يتعلق بتلف ( يقضي به ) خبر أي يقضي بوصفه عند اختلافهما فيه دون وصف صاحبه ( بعد الحلف ) من المستهلك ( خ ) : وإن اختلفا في قيمة تالف تواصفاه ، ثم قوم ، فإن اختلفا فالقول للمرتهن الخ . ( ز ) : ولو ادعى شيئاً يسيراً لأنه غارم ، وقال أشهب : إلا أن يتبين كذبه لقلة ما ذكره ، ونحوه قول المدونة : من غصب أمة فادعى هلاكها واختلفا في صفاتها صدق الغاصب في الصفة مع يمينه إذا أتى بما يشبه فإن أتى بما لا يشبه صدق المغصوب منه في الصفة حينئذ مع يمينه انتهى . وهو معنى قول الناظم :
وَشَرْطُهُ إتْيَانُهُ بِمشْبِهِ
وَإنْ بِجَهْلٍ أَوْ نُكُولٍ يَنْتَهِي ( وشرطه ) أي شرط قبول وصفه مع الحلف . ( إتيانه بمشبه ) فإن أتى بما لا يشبه صدق الآخر إن أشبه وحلف ، فإن نكل المستهلك أو قال لا أدري صفته صدق الآخر كما قال : ( وإن بجهل أو نكول ينتهي ) المستهلك بكسر اللام .
فَالقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ في وَصْفِهِ
مُسْتَهْلِكاً بِمُشْبِهٍ مَعْ حَلْفِهِ
( فالقول قول خصمه ) وهو رب المستهلك بفتح اللام ( في وصفه مستهلكاً ) بالفتح معمول بوصف ( بمشبه ) يتعلق بوصف ( مع حلفه ) متعلق بقوله خصمه أو حال منه ، فإن لم يشبه رب المستهلك أيضاً فوسط من القيم بعد أيمانهما كما لابن ناجي ، والظاهر أنه كذلك إذا تجاهلا أي ادعى كل جهل صفته ، وهذا في غير المرهون ، وأما هو فإنهما إذا تجاهلاه فالرهن بما فيه كما قال ( خ ) : وإن تجاهلا فالرهن بما فيه ، ولما بين أن القول للمستهلك بكسر اللام في وصف المستهلك بفتحها أشار إلى ما يضمنه بعد الوصف واليمين فقال :وَكلُّ مَنْ ضَمِنَ شَيْئاً أتْلَفَهْ
فَهْوَ مُطَالَبٌ بِهِ أَنْ يُخْلِفَهْ
( وكل من ضمن شيئاً أتلفه ) من مثلى أو مقوم ( فهو مطالب ) بفتح اللام ( به أن يخلفه ) سواء أتلفه عمداً أو خطأ .
وَفي ذَوَاتِ المِثْلِ مِثلٌ يَجِبُ
وَقِيمَةٌ في غَيْرِهِ تَسْتَوْجِبُ
( وفي ذوات المثل مثل ) مبتدأ سوغه تقديم معمول الخبر عليه على حد قول ابن مالك : بها كلام قد يؤم ( يجب ) خبره والمجرور يتعلق به ، وكان حقه أن يفرعه بالفاء فيقول ففي ذوات المثل الخ . ( وقيمة في غيره ) أي المثلى وهو المقوم ( تستوجب ) أي يوجبها الشرع ، والمثلى كل ما يكال أو يوزن كالذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس والحنطة والشعير وسائر المأكولات ، والمقوم ما لا يكال ولا يوزن كالثياب وسائر العروض والرقيق والحيوان .
تنبيه : من استهلك طعاماً في الغلاء وطولب به في الرخاء فإنه يلزمه مثله على المشهور ، وكذلك من استهلك فلوساً فانقطع التعامل بها فإنه يلزمه المثل ، وإذا تعذر المثل فإنه يصبر حتى يوجد كما قال ( خ ) في الغصب : والمثلى ولو بغلاء بمثله وصبر لوجوده ولبلده الخ . وقولي : وطولب به في الرخاء احترازاً مما إذا طولب به في الغلاء وكان موجوداً فماطله المستهلك أو الغاصب أو المقترض حتى رخص فإنه يضمن قيمته وقت الطلب كما تقدم عند قول الناظم صدر البيوع : بأضرب الأثمان والآجال الخ .
تنبيه آخر : إذا أتلف عجل بقرة أو ولد شاة فإنه يضمن قيمة العجل وقت التلف ويضمن أيضاً ما نقص من حليب البقرة أو الشاة على أنها تحلب بنتاجها ، وهذا إذا لم يكن اللبن هو المقصود منها وإلاَّ خير المالك بين أن يضمنه قيمتها أو يأخذها وما نقصها كما أشار له ( خ ) في فصل التعدي بقوله : فإن أفات المقصود كقطع ذنب دابة ذي هيئة أو لبن شاة هو المقصود لا إن لم يفته كلبن بقرة الخ . وانظر أيضاً عند قوله في الدماء كجنين البهيمة ، وانظر أيضاً من أتلف ثمرة قبل بدو صلاحها عند قوله في الشهادات كالإتلاف بلا تأخير للحصول . وانظر شرح الشامل لهذا النص الذي في الشهادات من رعى كرماً أو أشجاراً ، وانظر من أتلف زرعاً قبل بدو صلاحه عند قوله في الشرب : وما أتلفته البهائم ليلاً الخ . أي فإنه يغرم قيمته على الرجاء والخوف ، قال ابن رشد : ولا خلاف في تقويمه إذا أيس من عوده لهيئته ، وأما إن رعى صغيراً أو رجى أن يعود لهيئته فاختلف هل يستأني به أم لا ؟ فقال مطرف : إنه لا يستأني به ، وقال سحنون : يستأني به ، وإذا حكم بالقيمة فيه على قول مطرف ثم عاد لهيئته مضت القيمة لصاحبالزرع وقيل ترد كالبصل يعود ، وإذا لم يحكم بالقيمة حتى عاد لهيئته فإن القيمة تسقط . وقال أصبغ : لا تسقط ، قال الشيخ بناني : وربما يستروح من كلام ضيح أن قول مطرف هو الراجح في الجميع انتهى . وقوله : مضت القيمة إلى قوله ، وقيل ترد الخ . صريح أن الزرع والقيمة يكونان لرب الزرع لأنه لم يأخذ القيمة إلا على الرجاء والخوف وهو الظاهر خلاف ما في حاشية الرهوني عن المقصد المحمود من أن الزرع يكون لدافع القيمة ، والله أعلم .
فصل في الجعلوالأصل فيه قوله تعالى : ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ( يوسف : 72 ) فقد جعل له جعلاً على الإتيان في الصواع ولم يضرب له أجلاً فدل ذلك على أنه إن طلب ولم يأت به فلا شيء له والأصل فيه حديث الرقية ، وهو أن نفراً من الصحابة سافروا حتى نزلوا على حي من العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فلدغ سيدهم فأتى الملدوغ لبعض أولئك الصحابة يرقيه فرقاه على أن جعل له قطيعاً من الغنم فبرىء ووفى له بجعله ، فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) الخ . والقصة في البخاري عن أبي سعيد الخدري ونقلها ( ح ) وغيره . وعرفه ابن عرفة بتعريفين أوجزهما ، وعليه نقتصر عقد معاوضه على عمل آدمي يجب عوضه بتمامه لا بعضه ببعضه ، فخرج بقوله عمل آدمي كراء الرواحل والسفن والنكاح وكراء الأرضين ، وبقوله يجب عوضه بتمامه القراض والمساقاة والشركة في الحرث لجواز عدم الربح والغلة والزرع ، وبقوله لا بعضه ببعضه الإجارة لوجوب بعض العوض إذا ترك الأجير العمل قبل تمامه .
الجُعْلُ عَقْدٌ جائِزٌ لا يَلْزَمُ
لكن بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ يُحْكَمُ
( الجعل عقد جائز لا يلزم ) فكل منهما أن يفسخه قبل الشروع في العمل على المشهور( لكن به ) أي باللزوم ( بعد الشروع يحكم ) على الجاعل فقط ، وهو باذل العوض فالمجرور والظرف متعلقان بيحكم ، وأما المجعول فله الترك ولو بعد الشروع أو العمل الكثير ، ولا يلزمه الإتمام بحال ( خ ) : ولزمت الجاعل بالشروع . واعلم أن الجعالة تفارق الإجارة من وجوه ، فمنها أن ضرب الأجل يفسدها كما أشار له الناظم فيما يأتي بقوله : ولا يحد بزمان لاحق الخ . أي : لا يؤجل بأجل إلا أن يشترط المجعول الترك متى شاء بخلاف الإجارة فلا تصح بدون أجل ، ومنها أنها عقد غير لازم كما قال الناظم ههنا فهو كالقراض والتوكيل والتحكيم بخلاف الإجارة ، فإنها تلزم بالعقد ، وقد نظم ابن غازي ما يلزم بالعقد وما لا يلزم به وما فيه خلاف هل يلزم به أم لا فقال :
أربعة بالقول عقدها فرا
بيع نكاح وسقاء وكرا
لا الجعل والقراض والتوكيل
والحكم بالفعل بها كفيل
لكن في الغراس والمزارعه
والشركات بينهم منازعه
وفرا آخر الشطر الأول بالفاء بمعنى قطع ، ومنه فرى الأوداج أي قطعها ، والوجه الثالث الذي يخالف فيه الجعل الإجارة أنه لا شيء له إلا بتمام العمل كما قال :
وَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ مِمَّا يُجْعَلُ
شَيْئاً سِوَى إذَا يَتِمُّ العَمَلُ
( وليس يستحق ) المجعول ( مما ) أي الجعل الذي ( يجعل ) له ( شيئاً ) مفعول يستحق ( سوى إذا يتم العمل ) فإن لم يتمه فلا شيء له بخلاف الإجارة فإن له فيها بحساب ما عمل ( خ ) : صحة الجعل بالتزام أهل الإجارة جعلاً يستحقه السامع بالتمام ككراء السفن إلا أن يستأجر على التمام فنسبة الثاني الخ . أي محل كونه لا شيء له إذا لم يتمه الجاعل بنفسه أو عبيده أو يستأجر عليه وإلاَّ فله فبنسبة الثاني فإذا جاعله على الإتيان بخشبة إلى موضع كذا بخمسة دراهم مثلاً فحملها نصف الطريق وتركها فلا شيء له ، فإذا جاعل صاحبها شخصاً آخر على بقية الطريق بعشرة فإنما يكون للأول عشرة لأنها التي تنوب فعله من عمل الثاني لأن الثاني لما استؤجر نصف الطريق بعشرة علم أن قيمة الإتيان بها في الطريق كلها يوم استؤجر عشرون ، ولو حملها الأول ربع الطريق وتركها وحملها الثاني بقية الطريق بعشرة أيضاً كان للأول ثلاثة وثلث لأن الثاني حمل كل ربع من الثلاثة الأرباع بثلاثة وثلث ، وقس على ذلك لو حملها الأول ثلاثة أرباع الطريق ونحو ذلك والحفر في البئر مثل الخشبة وإذا حملها بقية الطريق بنفسه أو عبده يقال ما قيمة ذلك أن لو جوعل أو استؤجر عليه . ابن رشد : وشبه هذا الدلال يجعل له الجعل على شيء فيسوقه ثم يبيعهربه بغير حضرته ، ولو باعه دلال آخر بجعل كان الجعل بين الدلالين بقدر عنائهما ، لأن الدلال الثاني هو المنتفع بتسويق الأول اه . وتأمل هذا مع ما يفعله الناس اليوم من كون الدلال الثاني يستبد بجميع الجعل وذلك ظلم للأول كما ترى ، وهذا ظاهر إذا كان الدلال الثاني دلل الثوب مثلاً في اليوم الذي دلله فيه الأول ، وفي ذلك السوق بعينه وإلاَّ فلا شيء للأول بخلاف تدليل الأصول الجمعة والشهر ونحوه ، فإنه يشارك الثاني ولو دللها في غير يومها وسوقها ثم ما مر من أن للأول بنسبة الثاني هو المشهور ، واعترضه التونسي وابن يونس قالا : لأن الأول إذا رضي أن يحملها جميع الطريق بخمسة ، فكان يجب إذا تركها في نصف الطريق أن يعطى نصف الخمسة ، وأجاب ابن عبد السلام بأن عقد الجعل لما كان منحلاً من جهة العامل بعد العمل فلما ترك بعد حمله نصف المسافة صار تركه إبطالاً للعقد من أصله وصار الثاني كاشفاً لما يستحقه الأول اه .
تنبيهان . الأول : أركان الجعل ثلاثة : عاقد وشرطه أهلية البيع وعمل وهو كعمل الإجارة من كونه منفعة تتقوم قدر على تسليمها بلا استيفاء عين ولا حظر وتعين الخ . إلا أنه لا يشترط العلم به هنا إذ مسافة الآبق والضالة مجهولة انظر شرحنا للشامل . وجعل وشرطه أن يكون معلوماً منتفعاً به ظاهراً مقدوراً على تسليمه إلى غير ذلك مما يشترط في ثمن المبيع ، وتقدم عن ابن سراج في فصل الإجارة أنه أجاز كراء السفينة بالجزء من ربحها إذا دعت إلى ضرورة قال : لأنه قد علم من مذهب مالك رحمه الله مراعاة المصلحة إذا كانت كلية حاجية ، وأيضاً فإن ابن حنبل وجماعة من علماء السلف أجازوا الإجارة بالجزء في جميع الإجارات قياساً على القراض والمساقاة ، وقد اختلف الأصوليون في جواز الانتقال من مذهب إلى آخر في بعض المسائل ، والصحيح من جهة النظر جوازه قال : ومما يدل للجواز أيضاً ما ذكره الشعبي عن أصبغ من أن جميع ما يضطر إليه الناس ولا يجدون منه بدًّا مثل حارث الزرع يستأجر بجزء منه ، ولا يجد من يحرس له إلا بذلك الوجه فأرجو أن لا يكون به بأس اه باختصار . ونقل ولد الناظم كلامه في فصل الإجارة وقال عقبه : إن عمل بمقتضى هذه الفتوى فتحت مسائل كثيرة ظاهرها المنع على أصل المذهب اه . وبالجملة فهذه الفتوى اعتمدها غير واحد من المتأخرين ومحلها عندهم وعند ابن سراج إذا دعت الضرورة إلى ذلك ولم يجد في البلد من يعمل بالأجر المعلوم كما ترى ، وتقدم في فصل الإجارة أن مجاعلة الدلال من هذا القبيل وإلاَّ فهي ممنوعة . انظر شرحنا للشامل عند قوله : والعمل في الجعل من شرطه عدم تأجيله الخ . ومما يجوز فيه الجعل مع جهل العوض أيضاً قوله : اقتض ديني وما اقتضيت فلك نصفه ، أو القط زيتوني وما لقطت فلك نصفه ، وجذ من نخلي ما شئت ، أو احصد من زرعي ما شئت ولك نصف ما تحصد أو تجذ ، فإن ذلك كله جعالة وله الترك متى شاء كما اقتصر عليه في الشامل وغيره ، فإن قال : احصد زرعي هذا سواء قال كله أم لا . كما في الرجراجي أو قال : جذ نخلي هذا أو القط زيتوني هذا ولك نصفه ، فهو إجارة لازمة لأنه معلوم بالحزر وليس له الترك كما نص عليه في المدونة .
الثاني : كل مسألة يصح الجعل فيها مع اعتبار شروطه من عدم ضرب الأجل ونحوه تصح فيها الإجارة مع اعتبار شروطها أيضاً من ضرب الأجل وغيره ، ولا عكس . ألا ترى أن حفر الآبار يصح بجعالة كما قال :كالحَفْرِ لِلْبِئْرِ وَرَدِّ الآبِقِ
وَلاَ يُحَدُّ بِزَمَانٍ لاحِقِ
( كالحفر للبئر ) بشرط أن تكون في غير ملك الجاعل ، وأن يعرفا شدة الأرض ورخاوتها على ما لصاحب المعونة لا على ما لابن رشد وابن الحاجب فإنهما لا يشترطان معرفة شدتها ورخاوتها وهو أظهر والآلات والفؤوس على الحافر إلا أن يشترطها على الجاعل ويصح إجارة أيضاً كانت في أرض يملكها الجاعل أم لا . والآلة والفؤوس على المستأجر بالكسر ، وكذا بيع الثياب يصح إجارة وجعالة وكذا مشارطة الطبيب . ( ورد الآبق ) والشارد يصح فيهما الأمران أيضاً وتنفرد الإجارة بخياطة الثوب وحفر البئر في ملك الجاعل ونحوهما مما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك فإنه لا يصح جعالة وإنما يصح إجارة فالإجارة أعم من الجعل مطلقاً كما قال ( خ ) : في كل ما جاز فيه الإجارة بلا عكس الخ . وهذا واضح على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة ، وأما على مقابله وهو مذهب ابن القاسم من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل فيتساوى الجعل والإجارة ولا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء .
تنبيهان . الأول : قال في المتيطية : وكره مالك الجعل على الخصومة على أنه لا يأخذ شيئاً إلا بإدراك الحق لأنه لا يعرف لفراغها غاية فإن عمل هذا فله أجر مثله اه . وقال قبل ذلك : ويجوز في أحد قولي مالك أن يجاعل الطبيب على البرء والخصم على إدراك الحق وهو المعمول به عند الموثقين اه . ونحوه في المجالس المكناسية ، وما تقدم في الطبيب محله إذا كان الدواء من عند العليل وإلا لم يجز لأنه غرر إن برىء أخذ حقه وإلاَّ ذهب دواؤه باطلاً . قال ابن ناجي : وبه حكمت ونظمه في العمل المطلق .
الثاني : من سرق له شيء أو ضاع له مثلاً فالتزم ربه الجعل المسمى بالبشارة اليوم ، فإنه يجوز ذلك الالتزام ويقضي للمبشر بأخذه بشرطين أن يلتزم له ذلك قبل وجود المسروق ونحوه ، وأن يكون مكانه مجهولاً ، فمن وجد الآبق أو المسروق أو علم مكانهما ثم جاء إلى ربه ، فطلب أن يلتزم له بالبشارة على رده أو على الدلالة على مكانه فلا جعل له وإن قبضه رده قال في العمليات :
وخذ بشارة بجعل جعلا
قبل الوجود والمكان جهلا
انظر الأنقال على ذلك في شرحه ، لكن ذكر أبو العباس الملوي في بعض تقاييده ونحوهفي شرح العمل المذكور أن بعض قضاة فاس أفتى بوجوب الحكم بالبشارة مطلقاً مراعاة للمصالح العامة وخوفاً من ضياع أموال المسلمين بكتمان الضوال والمسروق . قال : وقد نص العلماء على أن الفتوى دائرة على مقتضى الحال وحيث أخذت البشارة من المسروق له ، فإنه يرجع بها على السارق لأنه ظالم تسبب في إغرام رب البشارة . قلت : وهذه الفتوى جارية على ما تقدم عن ابن سراج وغيره من رعي المصالح وعلى مقتضاها عامة المسلمين اليوم فلا يستطيع أن يردهم عن كتمان الضوال راد إن لم يأخذوا البشارة والله أعلم .
( ولا يحد بزمان لاحق ) أي لا يجوز أن يؤجل عمل الجعل بأجل ولا يقدر بزمن كيوم أو عشرة مثلاً لأنه قد ينقضي الأجل قبل تمام العمل ، فيذهب سعيه باطلاً . ( خ ) : بلا تقدير زمن إلا بشرط ترك متى شاء فيجوز حينئذ ضرب الأجل فيه كما مر ، وذلك لأنه مع عدم الشرط دخل على التمام فقوى الغرر بسبب ذلك مع ضرب الأجل ، بخلاف ما إذا شرط الترك متى شاء مع الأجل فقد دخلا على التخيير فخف بذلك الغرر وسكت الناظم عن شرط النقد فيه وهو ممنوع لتردد المنقود بين السلفية والثمنية لا إن نقد تطوعاً فيجوز ، وهل على اختلافهما في قدر الجعل وحكمه أنه كالصانع ، فإن كان الآبق مثلاً محوزاً بيده وأشبه قوله ، فالقول له أشبه الجاعل أم لا ، وإلاَّ صدق الجاعل إن أشبه وإلا تحالفا وكان له جعل مثله .
فصل في المساقاةمفاعلة من السقي وأصله مساقية تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فتكتب بالهاء وتنصب الفتحة لأنها مفردة ولفظها مفاعلة ، أما من الواحد وهو قليل كسافر وعافاه الله أو يلاحظ فيها العقد وهو منهما ، فيكون من التعبير بالمتعلق بالفتح وهو المساقاة عن المتعلق بالكسر وهو العقد وهي رخصة مستثناة من كراء الأرض بما يخرج منها ، وذلك في بعض صورها كالبياض الذي بين الأشجار يعمل فيه العامل بجزء من زرعه ومن بيع الثمرة والإجارة بها قبل طيبها وقبل وجودها ، ومن الإجارة المجهولة ومن بيع الغرر قاله عياض . قال في الكافي : ومعنى المساقاة أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله أو شجرة تينه أو زيتونه أو سائر مثمر شجره لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل على أن ما أطعم الله من ثمرها يكون بينهما نصفين أو على جزء معلوم من الثمرة . ابن عرفة : هي عقد على عمل مؤنة النبات بقدر لا من غير غلته لا بلفظ بيع أو إجارة أو جعل فيدخل قولها لا بأس بالمساقاة على أن كل الثمرة للعامل ومساقاة البعل انتهى . فقوله : بقدر يشمل ما إذا كان القدر كل الثمرة أو بعضها ، ولذا قال : فيدخل الخ . ولو عبر بجزء لم يشمل ذلك وهو عطف على مقدر أي يقدر من غلته لا من غير غلته ولا تنعقد عن ابن القاسم إلا بلفظها ، وعند سحنون بكل ما يدل عليها ولو بلفظ الإجارةوهو مقتضى تعريف ابن عرفة المتقدم ، ويؤيده ما تقدم صدر الإجارة من أنه إذا قال له : بعتك سكنى داري فذلك غلط في اللفظ وهو كراء صحيح . وقال ابن يونس حسبما نقله البرزلي وغيره في المغارسة ما نصه : ولا فرق بين أساقيك وأواجرك ولا يضر قبح اللفظ إذا حسن العمل ، ولم يفرق ابن القاسم بينهما وهو أصوب انتهى . فعلى هذا لابن القاسم قولان وافق في أحدهما قول سحنون ، وصوبه ابن يونس كما ترى وذلك مما يرجح ما عليه عمل الناس اليوم من عقدها بغير لفظها ، وإن كان ( خ ) اقتصر على الأول فقال : بساقيتك الخ . فلا يشوش به على الناس اليوم والله أعلم .
إنَّ المُسَاقَاةَ عَلَى المُخْتَارِ
لاَزِمْةٌ بالْعَقْدِ في الأَشْجَارِ
( إن المساقاة على ) القول ( المختار ) وهو مذهب المدونة والأكثر ( لازمة بالعقد ) وإن لم يشرع في العمل وقيل إنما تلزم بالشروع ، وقيل بالحوز كما في ابن عرفة ( في الأشجار ) متعلق بالمساقاة أو بتجوز مقدراً .
وَالزرْعِ لَمْ يَيْبَسْ فَقَدْ تَحَقَّقَا
قيلَ مع العَجْزِ وقيلَ مُطْلَقَا
( و ) تجوز أيضاً في ( الزرع ) حال كونه ( لم ييبس ) أي لم يطب ، وهذا الشرط لا يختص بالزرع بل هو شرط حتى في ثمر الأشجار ومثل الزرع المقثاة والباذنجان والقرع والبصل والقصب واللفت والجزر . ولما كانت هذه الأمور ملحقة بالثمار لأن السنة إنما وردت بالمساقاة فيها خاصة اشترط الإمام لجواز المساقاة في هذه الأمور شروطاً . أحدها : عدم الطيب وهو لا يختص بالزرع والملحق به كما مر ، وثانيها : أن تبرز من الأرض وتستقل لتصير مشابهة للشجر وهو معنى قوله : ( وقد تحققا ) أي : والحال أنه قد تحقق كونه زرعاً بأن بزر من الأرض واستقل فلا تصح المساقاة فيها قبل ذلك ، وثالثها : أن يعجز ربها عن القيام بعملها الذي لا تتم ولا تنمو إلا به وهو معنى قوله : ( قيل مع العجز ) أي إنما تجوز المساقاة فيها إذا عجز عن القيام بها بخلاف ثمار الأشجار ، فإنها تجوز المساقاة فيها ، وإن لم تبرز ثمرتها وإن لم يعجز ربها واشتراط العجز في الزرع ، وما ألحق به هو المشهور . 6 ( وقيل مطلقا ) وهو لابن نافع تجوز في الزرع وما ألحق به ، وإن لم يعجز عنه ربه وعلى الأول اقتصر ( خ ) إذ قال : كزرع وقصب ومقثاة إن عجز ربه وخيف موته وبرز ولم يبد صلاحه .
وَأَلْحَقُوا المقاثِي بالزَّرْعِ وَمَا
كالْوَرْدِ وَالْقُطْنِ عَلَى مَا قُدِّمَا
( وألحقوا المقاثي بالزرع ) في الجواز بالشروط المذكورة كما مر . ( وما ) مبتدأ ( كالورد ) يتعلق بمحذوف صلة ( والقطن ) معطوف عليه ( على ما قدما ) يتعلق بمحذوف خبر ، والتقدير وما ثبتكالورد والريحان والياسمين والقطن تجوز مساقاته على ما تقدم من الخلاف في الزرع هل يشترط العجز أم لا ( خ ) : وهل كذلك الورد ونحوه والقطن لا تجوز مساقاة ذلك إلا بالشروط المتقدمة في الزرع أو هي كالأشجار فلا يشترط فيها ذلك ، وعليه الأكثر ، بل حكى ابن رشد عليه الاتفاق فلا أقل أن يكون ذلك مشهور ، تأويلان ومحلهما في القطن الذي تجنى ثمرته ويبقى أصله يثمر مرة أخرى ، وأما ما لا يجنى إلا مرة واحدة فإنه كالزرع باتفاق .
وَامْتَنَعَتْ في مَخْلِفِ الإِطْعَام
كَشَجَرِ المَوْزِ عَلَى الدَّوَام
( وامتنعت ) المساقاة ( في مخلف اطعام كشجر الموز ) إلا تبعاً لما تجوز مساقاته ( خ ) : إنما تصح مساقاة شجر ذي ثمر ولم يحل بيعه ولم يخلف إلا تبعاً ، وأدخلت الكاف القضب بسكون الضاد المعجمة وهو المسمى عندنا بالفصة والكزبرة ، والقرط بضم القاف ما يرعى من العشب ، والبقل ، وتقدم تفسيره في الجوائح ونحو ذلك مما يخلف بعد جذه ( على الدوام ) يتعلق بمخلف ولا بأس بشراء ثمرة الموز إذا حل بيعها وشرط بطناً أو شهراً ( خ ) : ووجب ضرب الأجل ان استمر كالموز ، وقد تحصل أن الأصول ثلاثة أصناف أصول ثابتة ، وإنما تجذ ثمرتها فتجوز مساقاتها وأصول غير ثابتة وهي التي يجذ أصلها مع ثمرتها كالزرع واللفت ونحوهما ، فلا تجوز مساقاتها إلا أن يعجز ربها ويبرز من الأرض وأصول تجذ وتخلف كالبقل والكراث والقضب والموز لا تجوز مساقاته قاله ابن يونس .
وَمَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنَ الثَّمَرْ
وَغَيْرِ مَا يُطْعِمُ مِنْ أَجْلِ الصِّغَرْ
( و ) امتنعت أيضاً في ( ما يحل بيعه من الثمر ) لطيبه إلا تبعاً لما لم يطب فإن لم يكن تبعاً لم يجز له لأنه ضرورة تدعو إلى المساقاة حينئذ لجواز بيعها بالثمر إذا عجز عن جذاذها ، ولأنه يجوز له أيضاً أن يدفعها لمن يجذها بالنصف أو الربع إجارة وجعالة كما مر في الجعل وهو قول ( خ ) في الإجارة : واحصد هذا ولك نصفه وما حصدت فلك نصفه . ( و ) امتنعت أيضاً في ( غير مايطعم ) من عامه ( من أجل الصغر ) كالودي وهو صغار النخل إلا تبعاً لما يطعم من عامه .
وَفي مُغَيَّبٍ في الأَرْضِ كالْجَزَرْ
وَقَصَبِ السُّكَّرِ خُلْفٌ مُعْتَبَرْ
( وفي ) جواز مساقاة ( مغيب في الأرض ) خبر مقدم ( كالجزر ) واللفت والفجل ( و ) في ( قصب السكر ) ونحوه وعدم جواز المساقاة في ذلك ( خلف ) مبتدأ ( معتبر ) صفة له ، والمشهور الجواز بشروط الزرع كما تقدم .
وَإنْ بَيَاضٌ قَلَّ مَا بَيْنَ الشَّجَرْ
وَرَبُّهُ يُلْغيهِ فَهْوَ مُغْتَفَرْ
( وإن ) قل ( بياض ) فاعل محذوف يفسره ( قل ) كما قررنا وهو المحل الخالي من الغرس سمي بياضاً لإشراق أرضه بضوء الشمس نهاراً وبنور الكواكب ليلاً ، فإذا اشترت الأرض بزرع أو شجر سميت سواداً لحجبها عن بهجة الإشراق ( ما ) زائدة ( بين الشجر ) حال ( وربه يلغيه ) جملة حالية ( فهو مغتفر ) جواب الشرط ، والمعنى أن البياض سواء كان بين الشجر أو منفرداً عنها بناحية إذا قلّ بأن يكون كراؤه منفرداً مائة والثمرة على المعتاد منها بعد إسقاط ما أنفق عليها تساوي مائتين يغتفر إلغاؤه للعامل فيختص بما يزرع فيه ، وسواء ألغي له باشتراطه إياه عند العقد أو سكتا عنه عنده ( خ ) : وألغي للعامل إن سكتا عنه أو اشترطه الخ . وما في حاشية ابن رحال : من أنه عند السكوت يبقى لربه على الراجح خلاف المعتمد كما في حاشية الرهوني . ابن يونس : ولو ادعى رب الحائط قبل العمل أنه اشترطه لنفسه تحالفا وتفاسخا ، وإذا ألغي للعامل فزرعه لنفسه ثم أجيحت الثمرة كان عليه كراء البياض لأنه لم يعطه إياه إلا على عمل السواد ، فلما ذهب السواد كان له أن يرجع بالكراء ، وكذا لو عجز عن إتمام العمل كان عليه البياض بكراء مثله ، ومفهوم قوله : قل إنه إذا لم يكن تبعاً بل كان كراؤه أكثر من مائة في المثال المذكور لم يجز إلغاؤه بل يبقى لربه فإن اشترطه العامل فسدت .
وَجازَ أنْ يَعْمَلَ ذَاكَ العامِلُ
لكِنْ بِجُزْءِ جُزْئهَا يُمَاثِلُ( وجاز أن يعمل ذاك ) البياض القليل كما في المثال المتقدم ( العامل ) في الشجر وتكون فائدته بينهما ( لكن ) بشروط أحدها أن يكون عمله فيه ( بجزء ) من نعته وصفته ( جزئها ) أي المساقاة مفعول بقوله ( يماثل ) كالربع أو النصف فيهما معاً ، فلو كان على الربع في الثمرة والنصف في البياض لم يجز على المشهور ، ومذهب ابن القاسم لأن المساقاة إنما جازت فيه بحسب التبع فلا بد أن يكون جزؤه موافقاً لما هو تبع له ، وذهب أصبغ إلى عدم اشتراط موافقة جزء البياض للحائط وعليه فما يفعله الناس اليوم من مساقاة البياض بأكثر من جزء الحائط له مستند ، فلا يشوش عليهم بارتكابهم لغير المشهور قاله المسناوي ، وأشار لثاني الشروط بقوله :
بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ما يَزْدَرِعُ
مِنْ عِنْدِهِ وَجُزْءُ الأَرْضِ تَبَعُ
( بشرط أن يكون ما يزدرع ) في البياض ( من عنده ) أي من عند العامل لأنه من جملة مؤنة المساقاة ، ولأنه لم يرد عنه عليه السلام أنه بعث إلى أهل خيبر بزريعة ولا غيرها ، فلو كان بذره من عند ربه أو من عندهما فسدت لخروج الرخصة عن محلها ، وأشار لثالث الشروط بقوله : ( وجزء الأرض ) أي والجزء الذي هو الأرض البياض ( تبع ) لقيمة ثمرة الحائط كما تقدم في المثال وهذا الشرط مستغنى عنه بقوله ( قل ) إلا أن يكون قصد به تفسير القلة ( خ ) : وكبياض نخل أو زرع إن وافق الجزء وبذره العامل وكان ثلثاً بإسقاط كلفة الثمرة الخ .
والحاصل أن البياض لا يجوز إدخاله في المساقاة إلا بهذه الشروط الثلاثة فإن اختل واحد منها فسد عقد المساقاة ويرد العامل إلى مساقاة مثله في الحائط وإلى أجرة مثله في البياض .
وَحَيْثُمَا اشْتَرَطَ رَبُّ الأَرْضِ
فَائِدَهُ فَالْفَسْخُ أمْرٌ مَقْضِي
( وحيثما شرط رب الأرض فائده ) أي البياض اليسير لنفسه ( فالفسخ ) لعقد المساقاة ( أمر مقضي ) به على المشهور لأن سقي العامل يناله فكان ذلك زيادة اشتراطها رب الحائط على العامل ، وقيل يجوز لربه اشتراطه لنفسه لأن العامل لا يتكلف لذلك زيادة في العمل لأنه يسقي شجره وما ينتفع به البياض بعد ذلك كالذي ينتفع به الجار اه . وعليه فلا يشوش على من فعله كما مر عن المسناوي ، وهذا إذا كان يناله سقي العامل ، وأما إن كان لا يناله أو كان بعلاً فلا إشكال أنه لربه ، وهذا كله في البياض اليسير كما مر . وأما الكثير فلا يصح إدخاله في المساقاةولا أن يلغى للعامل ، بل يبقى لربه كما مر ، وظاهر إطلاقاتهم ولو كان سقي العامل يناله . وقولنا : فالفسخ الخ . ظاهره ولو بعد العمل وهو كذلك ويكون له أجرة مثله فيه ومساقاة مثله في الحائط .
وَلاَ تَصِحُّ مَعْ كِرَاءٍ لا وَلاَ
شَرْطِ البَيَاضِ لِسوَى مَنْ عَمِلا
( ولا تصح ) المساقاة ( مع كراء ) في عقد واحد كقوله : اكتر لي دارك بدرهم على أن نعمل في حائطك مساقاة بربع الثمرة لأنها من العقود التي لا يجتمع اثنان منها في عقد واحد كما مر صدر البيوع ( لا ) توكيد للا التي قبلها ( ولا ) تصح أيضاً مع ( شرط البياض ) اليسير ( لسوى من عملا ) وهو رب الحائط أو الأجنبي وأما شرطه للعامل فهو جائز ، وهذا الشطر مكرر مع قوله قبله وحيثما الخ .
وَلاَ اشْتِرَاط عَمَلٍ كَثِيرِ
يَبْقَى لَهُ كَمِثْلِ حَفْرِ بِيرِ
( ولا ) يصح أيضاً مع ( اشتراط عمل كثير ) على العامل ( يبقى له ) أي لرب الحائط ( كمثل حفر بير ) أو عين أو بناء حائط أو بيت ، ومفهوم كثير أن العمل القليل لازم له ( خ ) : ولزم عاملها ما يفتقر له عرفاً أي ولا يشترط تفصيله لقيام العرف مقام الوصف ، فإن لم يكن عرف أصلاً أو كان ولم ينضبط أو انضبط ولم يعلمه العامل فلا بد من البيان والقول للعامل أنه لم يعلمه ، ثم إن الذي يجب عليه هو ما يتعلق بإصلاح الثمرة . قال في المقدمات : عمل العامل إن لم يتعلق بإصلاح الثمرة لم يلزم العامل ولا يصح أن يشترط عليه منه إلا اليسير كشد الحظيرة بالظاء المشالة أي الزرب الذي بأعلى الحائط يمنع التسور عليه من الحظر وهو المنع ، وكإصلاح الضفيرة وهي عيدان تضفر وتطين ليجتمع فيها الماء كالصهريج قال : وإن تعلق بإصلاح الثمرة وكان ينقطع بانقطاعها أو يبقى بعدها الشيء اليسير ، فهذا يلزم المساقي وذلك كالحفر الذي يمنع الدخول للحائط والسقي وزبر الكرم وتقليم الشجر وإصلاح مواضع السقي وجلب الماء وجذاذ الثمرة وتبقية منافع الشجر ونحو ذلك ، وأما ما يبقى بعد انقطاعها وينتفع به ربها كحفر بئر أو بناء بين يجمع فيه ثمرها كالجرين أو إنشاء غرس ، فلا يلزم العامل ولا يجوز اشتراطه عليه اه . باختصار وزيادة للإيضاح .
وَلاَ اخْتِصَاصِهِ بِكَيْلٍ أَوْ عَدَدْ
أَوْ نَخْلةٍ مِمَّا عَلَيْهِ قَدْ عَقَدْ( ولا ) تصح أيضاً مع اشتراط ( اختصاصه ) أي رب الحائط أو العامل ( بكيل ) كوسق لي والباقي بيننا على الجزء الذي دخلنا عليه ( أو عدد ) كألف رمانة أو مائة أترجة أو بطيخة والباقي بينهما على ما دخلا عليه ، ( أو ) شرط اختصاصه بثمر ( نخلة مما ) أي من النخيل الذي ( عليه قد عقد ) المساقاة يتنازعه الكيل وما بعده ، ومفهوم قوله : مما عليه قد عقد أحروي في المنع ، فلا يجوز اشتراط اختصاص العامل أو رب الحائط بكيل من حنطة أو ثمرة نخل أو عدد من دنانير أو عرض أو من الرمان مثلاً أو ثمر نخلة من غير ما وقعت عليه المساقاة ، لأنه إن كان الدافع من عنده هو العامل فقد خرجا عن المساقاة إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وإن كان الدافع هو رب الحائط فهو إجارة فاسدة لأنه حينئذ واجره على العمل بما أعطاه له وبجزء من ثمرة ما يعمل فيه فيرد العامل إلى أجرة مثله في الصورتين ولا شيء له في الثمرة كما قال ( خ ) : فله أجرة مثله إن خرجا عنها كان ازداد عيناً أو عرضاً الخ . نعم إذا لم يجد رب الحائط عاملاً إلا مع دفعه له شيئاً زائداً على الجزء فإنها تصح للضرورة كما تقدم عن ابن سراج في الإجارة قاله ( ز ) واحترز بقوله بكيل الخ . مما إذا ساقاه على أن لأحدهما جزءاً من عشرة أو خمسة أو أقل أو أكثر أو الباقي بينهما نصفين مثلاً فإنه جائز لأن ذلك يرجع إلى جزء معلوم لأحدهما خمسة ونصف وللآخر أربعة ونصف قاله اللخمي .
وَهيَ بِشَرْطٍ أَوْ بِمَا قَد اتُّفِقْ
بِهِ وَحَدُّ أَمَدٍ لها يَحِقْ
( وهي ) أي المساقاة تصح ( بشطر ) من الثمرة أي نصفها ( أو بما قد اتفق ) بالبناء للمجهول ( به ) أي عليه من ثلث الثمرة أو ربعها أو خمسها أو ثلاثة أرباعها أو كلها كما مر عن ابن عرفة من أنه تجوز المساقاة على أن كل الثمرة للعامل اللخمي : والمساقاة تجوز على النصف حسبما ورد في الحديث ، أنه عليه السلام ساقى أهل خيبر بشطر الثمرة وعلى الثلث والربع وأكثر من ذلك وأقل الخ ( خ ) : بجزء قل أو كثر شاع وعلم الخ . ( وحد أمد ) أي أجل من سنة فأكثر ( لها يحق ) وظاهره الوجوب والذي في المدونة والشأن في المساقاة إلى الجذاذ قال : ولا تجوز شهراً ولا سنة محدودة وهي للجذاذ إذا لم يؤجلا وإن كانت تطعم في العام مرتين فهي إلى الجذاذ الأول حتىيشترط الثاني اه . وهو معنى قول ( خ ) : واقتت بالجذاذ وحملت على أول إن لم يشترط الخ . وقال في المعين : والصواب أن تؤرخ المساقاة بالشهور العجمية التي فيها الجذاذ فإن أرخت بالعربية فإن انقضت قبل الجذاذ تمادى العامل إليه إلا أنه يستحب أن تكون المساقاة من سنة إلى أربع ، فإن طالت السنون جداً فسخت اه . وفي ( ح ) ما نصه : فتحصل أن المساقاة تؤقت بالجذاذ سواء عقداها لعام واحد أو لسنين متعددة فإن عقداها وأطلقا حملت على الجذاذ ، وعلى أنها لعام واحد ، وإن عقداها لسنة أو سنتين وأطلقا حملت أيضاً على الجذاذ ، وإن أراد التحديد بانقضاء السنة العربية أو السنين العربية لم تجز وتفسد المساقاة بذلك اه .
تنبيه : قال أبو الحسن : المساقاة تجوز بثمانية شروط . أولها : أنها لا تصح إلا في أصل يثمر أو ما في معناه من ذوات الأزهار والأوراق المنتفع بها كالورد والآس يعني الريحان . ثانيها : أن تكون قبل طيب الثمرة وجواز بيعها . ثالثها : أن تكون إلى مدة معلومة ما لم تطل جداً أو إلى الجذاذ إذا لم يؤجلا . رابعها : أن تكون بلفظ المساقاة لأن الرخص تفتقر إلى ألفاظ تختص بها . خامسها : أن تكون بجزء مشاع لا على عدد من آصع أو أوسق . سادسها : أن يكون العمل كله على العامل . سابعها : أن لا يشترط أحدهما من الثمرة ولا من غيرها شيئاً معيناً خاصاً بنفسه . ثامنها : أن لا يشترط على العامل أشياء خارجة عن الثمار أو متعلقة بالثمرة ولكن تبقى بعد الثمرة مما له قدر وبال اه . وزاد بعضهم تاسعاً وهو أن يكون الشجر مما لا يخلف اه . وجلها في النظم كما يعلم بأدنى تأمل ، وقد تقدم أول الباب ما في الشرط الرابع من الخلاف .
وَالدَّفْعُ لِلزَّكَاةِ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ
بَيْنَهُمَا بِنِسْبِةِ الْجُزْءِ فَقَطْ
( والدفع للزكاة ) مبتدأ ( إن لم يشترط ) بالبناء للمفعول ونائبه ضمير المبتدأ ( بينهما ) خبر ( بنسبة الجزء ) حال من الضمير في متعلق الخبر ( فقط ) والمعنى أن المتساقيين إذا عقدا المساقاة ولم يشترط أحدهما على صاحبه إخراج الزكاة من نصيبه ، فإنها تخرج ابتداء ، ثم يكون الباقي بينهماعلى ما اتفقا عليه ، وإذا كان يبدأ بها فكل واحد منهما قد أعطى من الزكاة بقدر نصيبه من الثمرة وهو معنى قوله : بنسبة الجزء أي جزء الغلة فمن له منها ربع فقد أعطى عشر الربع وهكذا . ومفهوم الشرط أنه إذا اشترطت الزكاة على أحدهما كانت عليه وحده وهو كذلك قال في المدونة : ولا بأس أن تشترط الزكاة في حظ أحدهما لأنه يرجع إلى جزء معلوم ساقى عليه فإن لم يشترط شيئاً فشأن الزكاة أن يبدأ بها ثم يقتسمان ما بقي ثم إن الزكاة إنما تجب ويبدأ بها إن كان رب الحائط أهلاً لها وثمره أو ما يضمه له من غيره نصاباً وإن كان العامل من غير أهلها لأنه أجير ، فإن لم يكن ربه من أهلها ككونه رقيقاً أو كافراً أو لم تبلغ هي أو مع ما له من غيرها نصاباً لم تجب عليه ولا على العامل في حصته ، ولو كانت نصاباً وهو من أهلها لأنه أجير ، ولذا قال اللخمي : يزكى الحائط مدة المساقاة على ملك ربه فإن كان جميعه خمسة أوسق كانت فيه الزكاة وإن لم ينب كل واحد منهما إلا وسقان ونصف ويزكى العامل وإن كان عبداً أو نصرانياً وإن كان الحائط لعبد أو نصراني لم يزك العامل وإن صار له نصاب وهو حر مسلم اه .
تنبيه : فإن لم تجب الزكاة لنقصانها عن النصاب وقد اشترطها أحدهما على صاحبه فقيل : يلغى الشرط وتكون الثمرة بينهما على ما دخلا عليه ، وبه صدر في الشامل ، وقيل : وهو المعتمد وبه صدر في المتيطية يقتسمان الثمرة عشرة أجزاء ويكون للعامل منها أربعة حيث ساقاه على النصف ولربها سنة حيث اشترطت على العامل والعكس بالعكس . قال اللقاني في حواشي ضيح : هذا القول هو الجاري على الصحيح في باب القراض من أن جزء الزكاة لمشترطه ( خ ) : وهو للمشترط وإن لم تجب الخ .
تنبيه : قال الشيخ بناني في حاشيته عن بعض شيوخه : والصواب أيضاً أن الخماس كالمساقي فالزكاة على رب الزرع إن كان من أهلها وكان عنده نصاب وإلاَّ فكما تقدم في المساقي ثم ما فضل بعد أخذ الزكاة يكون بينهما على ما دخلا عليه اه .
قلت : ذكر في المعيار عن البرزلي أنه اختلف في شركة الخماس فقيل : جائزة لأنه شريك وهو قول سحنون وقيل غير جائزة لأنه أجير وهو قول ابن القاسم . وفائدة الخلاف تظهر في الزكاة فعلى قول ابن القاسم إنما له إجازة مثله فزكاة الزرع على ربه ، وعلى قول سحنون على الخماس زكاة زرعه اه . وعلى جوازها للضرورة درج في العمليات إذ قال :
وأجرة الخماس أمر مشكل
وللضرورة بها تساهل
وحينئذ فعلى الخماس زكاة زرعه كما عليه الناس اليوم ، وقد قال البرزلي في نوازل الزكاة ما نصه : ولا زكاة على شريك في ميراث أو غيره حتى يبلغ نصيبه نصاباً ومثله الخماس اليوم لأنه شريك اه . وقد ذكر في المعيار عن ابن لب أن ما ارتكبه الناس وتقادم في عرفهم وجرى به عملهم ينبغي أن يلتمس له وجه شرعي ما أمكن على خلاف أو وفاق ، إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين ولا بمشهور من قول قائل اه . والله أعلم . وأما الذي يسمى عند الناس اليوم بالمقاطع فإنما يأخذه إجارة قطعاً فزكاة ما يأخذه على رب الزرع وكذا عليه زكاة ما يلقطه اللقاط الذي اشترط لقطه مع الحصاد بأجرة ، سواء كان الحصاد الذي اشترط لقطه اللقاط معه هو المسمى بالمقاطع أو غيره . ذكر ذلك شارح العمل عن ( خ ) عند قوله : وخدمة النساء فيالبوادي الخ . ونقل عن المعيار أن أجرة الحصاد بشرط اللقاط معه فاسدة وإن كان زكاة ما يلقطه على رب الزرع لأن ما يلقطه حينئذ مؤاجر به ، ويفهم منه أنه لا زكاة على ربه فيما يلقطه إذا لم يشترط لقطه وكان اللقاط يأخذه لنفسه .
وَعَاجِزٌ مِنْ حَظَّهِ يُكَمَّلُ
بالْبَيْعِ مَعْ بَدْوِ الصَّلاَحِ العَمَلُ
( و ) عامل في المساقاة ( عاجز من حظه ) يتعلق بقوله ( يكمل ) بالبناء للمفعول ونائبه العمل آخر البيت والجملة خبر عن عاجز و ( بالبيع ) يتعلق بيكمل ( مع بدو الصلاح العمل ) حال والتقدير وعاجز عن إتمام عمله يكمل عمله من حظه ببيعه حال كون عجزه مع بدو صلاح الثمرة .
وحاصله أنه إذا عجز بعد بدو الصلاح فإنه يباع حظه من الثمرة ويستأجر بثمنه من يكمل العمل ، فإن كان له فضل فله وإن كان نقص فيتبع به إلا أن يرضي رب الحائط أخذه ويعفيه من العمل فذلك له قاله في ضيح ، وفهم من الناظم أنه لا يجوز للعامل أن يساقي غيره في هذا الوجه وهو كذلك ، إلا مساقاة في ثمر حل بيعه كما مر .
وَحَيْثُ لَمْ يَبْدُ ولاَ يُوجَد مَنْ
يَنُوبُ في ذَاكَ مَنَابَ مُؤْتَمَنْ
( وحيث ) عجز العامل أو ورثته بعد موته ( ولم يبد ) صلاح الثمرة ( ولا يوجد من ) أي أمين ( ينوب ) عنه ( في ذاك ) العمل ( مناب ) العامل الذي هو ( مؤتمن ) عن رب الحائط .
فَعَامِلُ يُلْقى لَهُ ما أَنْفَقَا
وَقَوْلُ خُذْ ما نَابَ واخْرُجْ مُتَّقى
( فعامل يُلقى له ما اتفقا ) على الثمرة ولا شيء له منها ولا من أجرة عمله . قال في المدونة : وإذا عجز العامل عن السقي قبل طيب الثمرة قيل له ساق من شئت أميناً فإن لم يجد أسلم الحائط إلى ربه ( خ ) : فإن عجز ولم يجد أسلمه هدراً ، وظاهره كظاهر المدونة والنظم أن العامل إذا أسلمه وألغى نفقته لزم رب الحائط قبوله ولا مقال له وليس كذلك بل له أن لا يقبل إذ من حجته أن يقول : أنا لا أقبل تسليمه هدراً ولكن أنا أستأجر من يعمل تمام العمل وأبيع ما صار له من الثمرة وأستوفي ما أديت ، فإن فضل فله وإن نقص اتبعته به قاله اللخمي وابن يونس ، وكذا قال ابن القاسم في المتزارعين ، فعجز أحدهما بعد العمل وقبل الطيب فإنه يقال لصاحبه : اعمل فإذا طاب الزرع بع واستوف حقك فما فضل كان له وما نقص اتبعته به لأن العمل كان له لازماً . قال في ضيح : وهذا هو المتعين خلاف ما قاله ابن عبد السلام من أنه يلزم ربه قبوله ، وظاهر ( خ ) أيضاً كالمدونة والنظم أنه لا شيء للعامل إذا رضي رب الحائط بقبوله ولو انتفع رب الحائط بما عمل العامل فيه . وقال اللخمي : له قيمة ما انتفع به من العمل الأول قياساً على قولهم في الجعل على حفر البئر ، ثم يترك اختياراً وأتم صاحب البئرحفرها اه . وشمل قولها أميناً من هو مثله في الأمانة أو أعلى أو أقل ، وأصل الأمانة لا بد منها فإن ساقى غير أمين ضمن وهو كذلك كما يأتي عن ( خ ) ومفهوم قوله : ولا يوجد من ينوب الخ . أنه إذا وجد أميناً ينوب عنه فإنه يجوز له أن يساقيه سواء عجز أو لم يعجز وهو كذلك كما صرح به ( خ ) حيث قال عاطفاً على الجواز : ومساقاة عامل آخر ولو أقل أمانة وحمل على ضدها وضمن اه . ودخل في قول ( خ ) آخر الخ . رب الحائط فإن للعامل أن يساقيه بجزء أقل من جزئه أو مساوياً لا بأكثر لأنه يؤدي لدفع بعض الثمرة من حائط آخر وهو خلاف سنة المساقاة كما في ( ز ) فإن أراد العامل أن يساقي غيره بأقل أو مساوياً طلب رب الحائط أن يأخذه بذلك الجزء الذي يأخذه به غيره ، فالقول له وهو أحق به ولا مقال للعامل في ذلك إن كان الجزء مساوياً كما في اللخمي . وأما إن كان بأقل فهل للعامل أن يقول لا أرضى بأمانته إذ هو محمول على عدمها حتى يثبتها وهو الظاهر أم لا ؟ ومحل جواز مساقاة العامل آخر مع عجز أو بدونه إذا لم يشترط رب الحائط عمل العامل بعينه وإلا منع من مساقاته آخر كما في ( ز ) ومفهوم قوله يلغى الخ . أنه لا يجوز عدم الإلغاء بأن يأخذ العامل من رب الحائط قبل الطيب ثمناً أو ثمرة من غير الحائط وينصرف وهو معنى قوله : ( وقول ) رب الحائط للعامل قبل بدو الصلاح ( خذ ما ناب ) عملك الآن ( واخرج ) عني ( متقى ) أي ممنوع لأنه من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وأما بعد بدوه فيجوز بغير طعام كدراهم أو عرض لا بطعام لما فيه من بيع الطعام بالطعام نسيئة وبالتفاضل والنسيئة إن كان الطعام من جنسها . وما ذكره الناظم هو من الإقالة بعد العمل على شيء يأخذه العامل من رب الحائط قال فيها : ومن ساقيته حائطك لم يجز أن يقيلك على شيء تعطيه إياه كان قد شرع في العمل أم لا . لأنه غرر إن أثمر النخل فهو بيع الثمر قبل زهوه ، وإن لم يثمر فهو أكل المال بالباطل اه . وقال فيها أيضاً : ومن ساقى رجلاً ثلاث سنين فليس لأحدهما المتاركة حتى تنقضي لأن المساقاة تلزم بالعقد ، وإن لم يعمل وليس لأحدهما الترك إلا أن يتتاركا بغير شيء يأخذه أحدهما من الآخر فيجوز ، وبه تعلم أنه لا مفهوم لقوله ما ناب الخ . بل كذلك إذا لم يعمل كما مر عن المدونة ، ومفهوم قوله : خذ الخ . أنه إذا تقايلا مجاناً جاز كما مر أيضاً عن المدونة ( خ ) وتقايلهما هدر الخ . وكذا يجوز إذا قال : أنا أكفيك المؤنة الخ . وخذ حظك كاملاً بعد جذاذها من عينها كما مر عند قوله : وعاجز من حظه يكمل الخ . ومحل ما في النظم إذا كانت الإقالة على شيء من غير ثمرة المساقاة كما قررنا أو على مكيلة مسماة منها أو على ثمرة نخلة معروفة منها ، وأما على جزء شائع من ثمرة المساقاة ولم تطب فإنه يجوز قبل العمل اتفاقاً لأنه هبة للعامل ، وكذا بعده عند ابن القاسم خلافاً لسماع أشهب ، كذا لابن رشد . وظاهر قول المدونة المتقدم ؛ أنه لا يجوز التقايل على شيء يعطيه إياه مطلقاً كان جزءاً شائعاً من ثمرتها أم لا . قبل العمل أم لا . وهذا كله إذا كان الدافع هو رب الحائط ، وكذا إن كان العاملدفع لرب الحائط دراهم ونحوها ليقيله فإنه يمنع أيضاً ، وإن وقع رد له المدفوع إن عثر عليه قبل الجذاذ ورجع لمساقاته وبعد الجذاذ فله جزؤه من الثمرة كاملاً وعليه أجرة ما عمل عنه رب الحائط فيهما ، فإن فاتت الثمرة فإنه يرد مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت كما قالوه في بيع الثنيا الفاسد ، وقد كان في الأصول ثمر مأبور وقت البيع وكما قالوه أيضاً في المغارسة الفاسدة ، وكذا يقال فيما إذا كان الدافع هو رب الحائط فإنه يرد إليه المدفوع قبل الجذاذ الخ .
فصل في الاغتراسابن عرفة : المغارسة جعل وإجازة وذات شركة اه . فالجعل أن يقول الرجل لآخر : اغترس لي هذه الأرض أصولاً كرماً أو تيناً أو ما أشبه ذلك ، ولك في كل شجرة تنبت أو تثمر كذا ، وكذا قاله في المتيطية ، وسينبه الناظم عليه آخر الفصل . والإجارة أن يقول : اغرس لي هذه الأرض كرماً أو تيناً أو ما أشبه ذلك ، ولك كذا دراهم أو دنانير أو عرضاً صفته كذا ، فهذه إجارة محدودة بالعمل كخياطة الثوب ، ولا يجوز أن يجمع فيها بين الأجل والعمل كما تقدم في الإجارة ، ومحل جوازها جعالة أو إجارة إذا كانت الغروس من عند رب الأرض سمى له عدد ما يغرس أو لم يسم لأن ذلك معروف عند الناس ، وإن كانت الغروس من عند الغارس فتمتنع حيث كانت للغروس قيمة لأنها حينئذ بيع وجعالة وهما لا يجتمعان ، أو بيع وإجارة ويجري حكمها على من واجر بناء على أن الآجر والجص من عند البناء ، وفيها تفصيل انظره في المقدمات والمتيطية ، فالجعالة لا شيء فيها للعامل إلا بتمام عمله بنبات الشجر أو أثمارها على ما شرطاه بخلاف الإجارة فإنه يستحق أجره على مجرد عمله من غير زيادة عليه ، وإن لم يتمه فله بحساب ما عمل . وقوله : أو ذات شركة هذا القسم هو المقصود للناظم وغيره ، وأما ما قبله فهو داخل في بابي الإجارة والجعل ، وهي أن يعطي الرجل أرضه لآخر ليغرسها بجزء معلوم منها يستحقه بالإطعام أو بانقضاء الأجل الذي ضرباه على ما يأتي تفصيله . قال في المتيطية : وهذا القسم ليس بإجارة منفردة ولا جعل منفرد ، وإنما أخذ شبهاً من الإجارة للزومه بالعقد يعني : وجواز تحديدها بالأجل كما يأتي وشبهاً من الجعالة لأن الغارس لا شيء له إلا بعد نبات الغرس وبلوغه الحد المشترط ، فإن بطل قبل ذلك لم يكن له شيء ولكن من حقه أن يعيده مرة أخرى .
الاغْتِرَاسُ جَائِزٌ لِمَنْ فَعلْ
مِمَّنْ لهُ البُقعَةُ أَوْ لَهُ العَمَلْ
( الاغتراس ) أي العقد على غرس الأرض أصولاً كرماً أو تيناً أو نحوهما مما يطول مكثه سنين كقطن وزعفران في بعض الأرضين لا ما لا يطول مكثه كزرع وبقل ، فلا يجوز فيه ( جائز )لازم على الراجح ( لمن فعل ) أي لمن عقد ذلك سواء كان العقد ( من له البقعة ) أي الأرض ( أو ) ممن ( له العمل ) وهو العامل بمعنى أن عقد الاغتراس جائز من رب الأرض والعامل ، فأو بمعنى الواو ولكن ينبغي تحديد عمل الغارس إما بالسنين كأن يتعاقدا على أن العامل هو الذي يتولى العمل وحده مدة أربع سنين أو خمس سنين ، ونحو ذلك من المدة التي لا يثمر النخل ولا يطعم الشجر قبلها قاله في النهاية . وإن سميا عدة سنين يعمل العامل إليها ثم يكون ذلك بينهما جاز . وقال قبل ذلك : ما لم تكن أشجار تثمر قبل الأجل وإلاَّ لم يجز اه . وما لابن حبيب عن مالك من أنها لا تجوز بالأجل لأنها جعل لا يعول عليه كما حققه ابن يونس ، وأما أن يحداها بالمقدار كأن يتعاقدا على أن يتولى العمل وحده إلى أن تبلغ الأشجار قدراً معلوماً سمياه كقامة أو نصفها أو ستة أشبار ونحوها مما لا تطعم الأشجار قبله أيضاً ، فإن كانت تطعم قبل بلوغها القدر المسمى من قامة ونحوها أو قبل الأجل المضروب في الصورة الأولى فسدت لأن العامل تكون له تلك الثمرة إلى أن يبلغ الشجر الأجل أو الشباب الذي سمياه ثم يكون له نصف الشجر بأرضه فكأنه أجر نفسه بثمر لم يبد صلاحه وبنصف الأرض وما ينبت فيها قاله البرزلي وغيره . وأما بالأثمار كأن يتفقا على توليته العمل إلى إطعامها كما قال :
والحدّ في خِدْمَتِهِ أَنْ يُطْعِمَا
وَيَقَعُ القَسْمُ بِجُزْءٍ عُلِمَا
( والحد في خدمته ) أي الغارس أو الشجر المفهوم من السياق فهو من إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله . ( أن يطعما ) هو أي الشجر وتفسد إن شرطا زيادة عليه للعلة المتقدمة ، فالإطعام هو أحد الأمور التي تحد المغارسة به كما ترى لا أنها لا تحد إلا به كما يقتضيه النظم فإن سكتا ولم يحداها بإطعام ولا بغيره مما ذكر فهي جائزة صحيحة عند ابن حبيب . وتكون إلى الإطعام ، وقيل هي فاسدة والأول المعتمد ، وعليه اقتصر غير واحد ، ولذا قلنا ينبغي تحديد عمل الغارس الخ . لصحتها عند السكت ، ولكن محل صحتها عنده إذا كان العرف التحديد بالإطعام ونحوه مما تقدم كما عندنا اليوم ، وأما إذا كان العرف أن العامل يبقى عاملاً ما عاش فهي فاسدة عند السكت لأن العرف كالشرط ويمكن أن يحمل النظم على مسألة السكت وأن الحد فيها إذا سكتا هو الإطعام وهو الظاهر وعليه فلا اعتراض عليه ، ثم إذا انقضى ما حدث به فإنهما يقتسمان كما قال :
( ويقع القسم ) فيأخذ كل واحد نصيبه من الأرض والشجر ولهما البقاء على الشركة مشاعة ، ويكون العمل عليهما على قدر الأنصباء ، وقد تحصل مما مر أن من شروطها أن لا يزيد الأجل أو الشباب أو العمل المشترط على الإطعام كما مر ، ومن شروطها أيضاً أن تكون ( بجزء علما ) كنصف أو ثلث أو ربع فهو متعلق بقوله جائز : ومن شروطها أيضاً : أن يدخلا على أنهذا الجزء شائع في الشجر والأرض أو في الشجر ومواضع أصولها من الأرض دون بقية الأرض فهي لربها كما يأتي في قوله : وشرط بقيا غير موضع الشجر الخ . ولو قدمه هنا لكان أحسن فإن سكتا ولم يشترطا شيئاً فيحمل الأمر على شيوعه في الأرض والشجر ، وأما إن دخلا على شيوعه في الشجر خاصة ولا حق لأصولها في الأرض أو على أن الأرض بينهما دون الشجر فهي فاسدة . ومن شروطها أيضاً : أن تكون الأرض بيضاء احترازاً مما إذا كانت مشعرة كلها أو جلها فإن المغارسة حينئذ لا تجوز كما يأتي في قوله : وشرط ما يثقل كالجدار الخ .
وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ مِمَّا عَمِلا
شَيْءٌ إلى ما جَعَلاَهُ أَجَلا
( وليس للعامل مما عملا شيء إلى ) وصول ( ما جعلاه أجلا ) من إطعام أو شباب أو أجل . قال في النهاية : ولا شيء للعامل في أرض ولا شجر حتى يبلغ الغرس ما شرطاه مما ذكرنا جوازه ، وقال قبل ذلك : فإن بطل الغرس يعني بحرق أو آفة قبل بلوغه الحد المشترط لم يكن له شيء اه . لأنها جعل فهي كحافر البئر ينهدم قبل فراغه فلا شيء له . قال المتيطي والفشتالي وغيرهما : ولكن إذا بطل الغرس بحرق ونحوه فمن حق العامل أن يعيده مرة أخرى اه . زاد البرزلي : يعيده أبداً إلى أن يتم أو ييأس منه اه . ومفهوم النظم أنه إذا وصل الغرس الأجلالمشترط فإنه يكون له نصيبه منه ، فلو احترق الغرس أو طرأت عليه آفة قبل القسم فإن الأرض تكون بينهما لأن العامل قد استحق نصيبه منها بتمام الغرس قاله ابن سلمون . قال : ولو كان في الأرض شجرة قبل المغارسة فهي لرب الأرض ولا يكون للعامل فيها شيء ولا يسوغ له أن يشترط أن تكون بينهما مع الغرس وللعامل أجرة سقيها وعلاجها اه . ونحوه في البرزلي قائلاً : ولا تصح المغارسة على البياض الذي بين السواد ، ويدخل الشجر في المغارسة وإن كان على إخراجه فإن كان لا يصل إلى شجره منفعة سقي أو غيره فهو جائز وإلاَّ لم يجز اه .
قلت : وما يفعله الناس اليوم فيما إذا كانت الأرض مشتملة على أشجار فيشتري العامل نصف الأشجار على شرط أن يغرس البياض الذي بينهما مناصفة فاسد لما فيه من اجتماع المغارسة والبيع ، وهما يجتمعان كما مرّ صدر البيوع عن ابن الحاج ، اللهم إلا أن يرتكب في ذلك مذهب أشهب إذ هذه الصورة لا سبيل لجواز المغارسة فيها . ولو فرضنا أنه يؤاجره على خدمة الأشجار لمدة معلومة بعوض معلوم ، لأن الإجارة من ناحية البيع والمغارسة من ناحية الجعل كما مر . نعم على مذهب أشهب يجوز ذلك ، وقد تقدم في الباب قبله عن ابن لب أن ما جرى به عرف الناس يلتمس له وجه ما أمكن ، إذا لا يلزم العمل بمذهب معين ولا بمشهور من قول قائل ، ويؤيده أيضاً ما في البرزلي في باب القراض قال ، قال المازري : وقفت على كتاب الشيخ أبي محمد بخط يده وفيه من قال لرجل : إذا جاءك فلان فخذ السلع التي بيده وادفع إليه ديناراً عن أجرته وبقية الثمن ادفعه إليه قراضاً إن ذلك جائز ، المازري : واستشكل هذا بأنه يقتضي جواز اجتماع القراض والإجارة والجعل في عقد واحد . البرزلي : وعليه اكثر قراضات الناس اليوم اه .
وَشَرْطُ بُقْيا غَيْرِ مَوْضِعِ الشِّجَرْ
لِرَبِّ الأَرْضِ سَائِغٌ إذَا صَدَرْ
( وشرط بقيا ) أي بقاء ( غير موضع الشجر ) من الأرض ( لرب الأرض سائغ إذا صدر ) منه فيجب أن يوفى له به كما مر . البرزلي : إذا غارسه على أخذ مواضع الشجر فليس للعامل شيء من بقية الأرض وليس عليه عمل فيها ، ويتصرف رب الأرض فيها كيفما شاء ما عدا مواضع الشجر .
وَشَرْطُ ما يَثْقُلُ كالجِدَارِ
مُمْتَنِعٌ وَالعَكْسُ أمْرٌ جَارِي
( وشرط ما يثقل ) على العامل ( كالجدار ) يبنيه حول أرض المغارسة أو حفر بئر فيها تكثر نفقته أو تكون الأرض مشعرة كلها أو جلها ، فيشترط عليه إزالة شعرها ، ونحو ذلك مما يثقل عليه عمله وتعظم مؤنته ( ممتنع ) للغرر لأن الغرس ربما بطل أو هلك قبل بلوغ الحد المشترط فترجع لربها ، وقد انتفع بإزالة شعرها وبناء جدارها وحفر بئرها فيذهب عمل العامل باطلاً ، وقد علمت أن المغارسة من ناحية الجعل وهو لا يجوز إلا فيما لو ترك العامل لم ينتفع الجاعل بشيءكما مر ، فإن كان فيها لمع يسيرة من الشعر تخف إزالتها أو حفر شرب يخف أمره ونحو ذلك من تزريب ونحوه فلا بأس باشتراطه كما في النهاية ، وهو معنى قوله : ( والعكس ) وهو شرط ما يخف ( أمر جار ) عند الناس جائز شرعاً .
تنبيهات . الأول : يفهم من النظم أنه لا يشترط بيان نوع الغرس من زيتون أو تفاح ونحو ذلك ، وهو كذلك . وإنما يطلب بيانه فقط حيث كان بعض الغرس أضر من بعض ، فإن لم يبيناه فالعقد صحيح ويمنع من غرس الأضر كما قالوه فيمن اكترى أرضاً للغرس ولم يبين نوع ما يغرس فيها ، فمذهب ابن القاسم صحة العقد ويمنع من فعل الأضر ، وقال غيره : يفسد العقد كما في ضيح ، ونقله في حاشية الشيخ البناني عند قول ( خ ) في الإجارة : أو لم يعين في الأرض بناء أو غرس وبعضه أضر ولا عرف الخ . وقد علمت أن المغارسة أخذت شبهاً من الكراء كما مر ، ويؤيده ما يأتي في التنبيه الرابع ، وهذا كله إذا لم يقل له : اغرس في الأرض ما شئت وإلاَّ جاز مطلقاً أو جرت العادة بذلك لأنها كالشرط وإلاَّ جاز مطلقاً . وقول صاحب كتاب المغارسة : ووجب بيان ما يغرس لاختلاف الأشجار في مدة الأثمار وفي قلة الخدمة وكثرتها غير ظاهر ، لأن العامل إذا غرس ما يطول أثماره وما تكثر خدمته فقد رضي بطول عمله وكثرة خدمته لغرض له في ذلك المغروس ، والناس عندنا اليوم لا يبينون شيئاً للعادة ولا يتشاحون في مثل ذلك ، فلا يتعرض لفسخ عقدهم بعدم البيان ولا سيما على ما مر قريباً عن ابن لب .
الثاني : ما نبت في أرض المغارسة بنفسه بعد عقدها ولم يغرسه الغارس فهو بينهما كالمغروس .
الثالث : إذا حددت المغارسة بالإطعام فإن أطعم جلها فالذي لم يطعم تبع لما أطعم ويسقط عن العامل العمل في الجميع ويقتسمان إن شاءا ، وإن لم يطعم جلها بل أقلها فإن كان ذلك الأقل إلى ناحية كان بينهما وسقط العمل فيه ولزمه العمل في غيره ، وإن كان مختلطاً لزمه العمل في الجميع قاله في المتيطية وغيرها .
الرابع : قيد بعض المتأخرين مغارسة الأنواع أو النوع الواحد بما إذا كانت تطعم في زمن واحد أو متلاحق وأما إذا كانت تختلف بالتبكير والتأخير فلا يجوز في عقد واحد . البرزلي : وظاهر إطلاق قول ابن حبيب : إذا لم يسميا أجلاً ولا شباباً فهي إلى الإطعام أنها تجوز ولو لم تتلاحق الأنواع أو النوع الواحد في الإطعام اه .
قلت : ما ذكره من الجواز على ظاهر ابن حبيب هو المتعين ، إذ النوع الواحد قد يتأخر كثير من أفراده عن البعض الآخر في الإطعام تأخيراً كثيراً كما هو مشاهد بالعيان ، فكيف بذلك في الأنواع المختلفة ؟ ولذا قالوا : إذا أطعم الأكثر فالأقل تابع كما مر ، وإنما يحسن أن يقال بالمنع في هذا لو كان ثمره ما أطعم يكون للعامل ، لأنه حينئذ يكون آجر نفسه بثمر لم يبد صلاحه كما مر ، ومع ذلك يقيد بما إذا كان ما أطعم غير تابع ، وإلاَّ فلا ينظر له . ولو كان ثمر للعامل كما هو ظاهر ما تقدم لأن التوابع يغتفر فيها ما لا يغتفر في متبوعاتها ، وهذا يبين لك صحة ما قدمناه في التنبيه الأول ، وإن ما ذكره صاحب كتاب المغارسة من وجوب بيان المغروسلاختلاف الأشجار في مدة الإثمار الخ . إنما يتمشى على ما قاله بعض المتأخرين وهو : وإن اقتصر عليه في النهاية قائلاً : ويفسخ إن كانت لا تتلاحق إلا بعد بُعد وللعامل أجر مثله إن عمل غير ظاهر كما ترى والله أعلم .
الخامس : إذا واجره بنصف الأرض على أن يغرس النصف الباقي فإن ذلك لا يجوز سواء شرطا القسمة قبل الغرس أو بعد غرس الجميع قاله ابن رشد في أجوبته ، وعلله بأنه لا يدري ما يخرج له بالسهم فصار العوض مجهولاً ، وما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يكون أجرة ، وأطال في ذلك إلى أن قال : فلا يجوز الاستئجار على غرس نصف الأرض بنصفها الآخر على الإشاعة إلا أن تكون مستوية تعتدل في القسمة بالذراع ، ويشترطان قسمتها قبل الغرس ويعينا الجهة التي يأخذ الأجير منها النصف لنفسه في أجرته ، والجهة التي يغرسها لرب الأرض اه . بتقديم وتأخير . وما علل به من أن لا يدري ما يخرج له بالسهم هو قول ( خ ) في القسمة : ومنع اشتراط الخارج الخ . وهذه إجارة لا مغارسة ، فلذا امتنعت بالجهل المذكور لأن الأجير يملك نصف الأرض بالعقد ، ولا يدري في أي محل يخرج له بخلاف المغارسة فلا يملكه بالعقد بل بتمام العمل ويكون شريكاً .
السادس : إذا عجز الغارس قبل تمام العمل أو أراد سفراً فله أن يأتي بمن هو مثله يكمل عمله بأقل من الجزء الذي دخل عليه أو بمساوٍ له إلا أن يقول رب الأرض : أنا آخذه بذلك الأقل أو المساوي ، فإن سلمه هدراً ولم يرض رب الأرض وقال : أنا استأجر من يكمل العمل وأبيع حصته فالفضل له والنقصان عليه ، فله ذلك كما تقدم في عامل المساقاة كذا ينبغي قاله في شرح كتاب المغارسة .
قلت : وكذا قال البرزلي : الجاري على المساقاة جواز إعطائها بجزء ، بل ونقل بعد ذلك عن ابن رشد أنه يجوز له أن يعطيها لرب الأرض أو غيره بجزئها الذي أخذها به ، ولا مقال لرب الأرض في ذلك .
السابع : في المغارسة الفاسدة وإن اختلفت أنواع فسادها كما لابن الحاج حسبما في البرزلي ، يعني ككونها مؤقتة بأجل أو شباب تثمر الأشجار قبله ، أو شرط بناء جدار وتعظم مؤنته ، أو كانت الأرض مشعرة كلها أو جلها ، أو شرط عليه القيام على الغرس ما عاش ، أو شرط إدخال ما كان من الشجر موجوداً ، أو أن الأرض بينهما دون الشجر ، أو لا حق للشجر من الأرض ونحو ذلك . ثلاثة أقوال لابن القاسم .
أحدها : أنها تمضي لأنها بيع فاسد فاتت بالفراغ وبلوغ الإطعام ، ويكون على العامل نصف قيمة الأرض يوم قبضها براحاً ، وله على رب الأرض قيمة عمله وغراسه في النصف الذي صار إليه إلى أن بلغ وله أجرته فيه أيضاً من يومئذ إلى يوم الحكم ، وإن اغتل الغلة قبل ذلك مضت بينهما ، وإن اغتلها الغارس وحده رد نصف ذلك إلى رب الأرض وبهذا القول صدر ابن يونس قائلاً ، واستحسنه ابن حبيب ، وبه قال مطرف وأصبغ ، واستحسنه عيسى أيضاً مثل ابن حبيب ، ورجع إليه ابن القاسم وثبت عليه اه . وعليه اقتصر صاحب المفيد والمعين وصاحب النهاية .
ثانيها : أنها بيع فاسد أيضاً قد فات فالغلة كلها للعامل ، ويرد رب الأرض ما أخذ منها إنقبضها رطباً رد قيمتها أو تمراً رد مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت ، وعلى العامل قيمة نصف الأرض يوم قبضها وعليه كراء نصف الأرض الذي لربها ، ويخير رب الأرض في نصف الغرس الذي صار إليه بين أن يعطيه قيمته مقلوعاً أو يأمره بقلعه ، وهذا القول رواه عيسى وحسين بن عاصم عن ابن القاسم أيضاً ، وبه أفتى بعض الشيوخ حسبما في المعيار إلا أنه أجمل قوله : واقتصر عليه شارح العمليات عند قوله : واعط أرض حبس مغارسه الخ . وبه أفتى الفقيه أبو زيد عبد الرحمن الفاسي حسبما في نوازل الزياتي قائلاً : وهو الذي رجحه القاضي أبو الوليد ، ولعله يشير إلى تصحيح ابن رشد له في المقدمات على ما يقتضيه كلام الرهوني في حاشيته .
ثالثها : إن للعامل قيمة غرسه أي الأعواد التي غرسها ، وقيمة عمله أي معالجته إلى يوم الحكم والغرس كله لرب الأرض ولا شيء للعامل فيه ، ويرد ما أخذه من الثمرة أي مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت وهو لابن القاسم أيضاً ، وبه قال سحنون وصدر به في البيان والمقدمات ، واقتصر عليه في المقصد المحمود وابن سلمون ، وتقدم مثله عن النهاية في التنبيه الرابع ، فصاحب النهاية اقتصر على الأول أولاً وعلى الثالث ثانياً ، وبه افتى الرهوني في حاشيته حسبما ذكره في باب المساقاة قائلاً : إنه الذي أفتى به ابن عتاب وابن مرزوق وابن رشد ، ونقل كلام الجميع . لكن ما ذكره من ان ابن رشد أفتى به فليس كذلك ، بل ما أفتى به ابن رشد إنما هو فيما إذا واجره بنصف أرضه على غرس النصف الباقي كما مر في التنبيه الخامس ، ويدل عليه قوله : سواء شرطا القسمة قبل الغرس الخ . لأن المغارسة لا تتأتى فيها القسمة قبل الغرس ، وعلى أن ذلك إجارة اختصره أحلولو لنوازل البرزلي ، والخلاف المذكور جار على الجعل هل يرد إلى صحيح نفسه أو فاسد أصله وهو الإجارة ؟ فالأولان يردانها إلى صحيح مثلها بخلاف الثالث . قال معناه البرزلي ، ثم إن الذي يجب اعتماده من هذه الأقوال هو أولها لكثرة قائلها ، ورجوع ابن القاسم إليه وثبوته عليه ، واستحسان ابن حبيب وعيسى له تاركاً ما رواه عنه مع حسين بن عاصم ، وإن كان الثاني رجحه ابن رشد ، والثالث قال به سحنون ، واختاره ابن عتاب لأن ترجيحهما لا يقاوم ذلك ، وقولهم : لا يعدل عن قول ابن القاسم إن وافقه سحنون محله إذا لم يرجع ابن القاسم إلى غيره ويثبت عليه كما هنا والله أعلم . وانظر كيفية تقويم الأرض المشعرة بعد الفوات في ابن عرضون ، وانظر ما يأتي آخر القراض من أن ما فيه قراض أو مساقاة المثل يمضي بالشروع فالمغارسة والجعل كذلك ، لأن الجميع مستثنى من الإجارة .
الثامن : مسألة التقليم وهي تركيب الزيتون الحلو أو نحوه في المر المنصوص منعها حسبما للقوري عن العبدوسي ، والذي به العمل أنها تجري مجرى المغارسة فتصح مع توفر شروطها وتفسد مع عدمها ، وهو ظاهر البرزلي ، بل صريحه ، وعليه اختصره الونشريسي ونص اختصاره . قال البرزلي : وإن دفع أشجاراً من زيتون أو خروب على أن يركبها صنفاً طيباً ويقوم عليها حتى تثمر ، فإن وقعت على الشروط المذكورة في المغارسة فجائز ، وإلا فلا اه . ونحوه في اختصار أحلولو له ونصه : ومن هذا مسألة تقع بجبل وسلات وهي أن يعطى الرجل شجر زيتون ونحوه على أن يركبها صنفاً طيباً ويقوم عليها حتى تثمر فتكون الثمرة بينهما حتى تبلى الشجرة ولا يكونله في الأرض شيء ، فهي من معنى ما تقدم من المغارسة حتى تبلى الأصول فتبقى الأرض لربها وهي فاسدة ويجري الأمر فيها إذا وقعت على ما تقدم من الخلاف اه . ومفهوم قوله : حتى تبلى الأصول فتبقى الأرض لربها الخ . أنهما إذا دخلا على أن الشجر ومواضعها من الأرض بينهما فهي جائزة ، فما قالوه من منعها إنما هو إذا كانت الأرض تبقى لربها إذا بليت الأشجار ، وكان ابن حسون المزجاري يجيزها ولو على هذا الشرط ويعلل ذلك لأن سطح الشجرة كسطح الأرض ، فيجوز فيها ما يجوز في المغارسة في الأرض ، فإذا بليت الأشجار فكما لو بليت الأرض بزلزلة ونحوها ، ثم إذا وقعت جائزة وبليت الشجرة الواجبة للعامل في نصيبه ، فله أن يغرس أخرى مكانها لأنه قد ملكها مع محلها .
التاسع : إذا غرس الشريك أو بنى بإذن شريكه أو بغير إذنه فله قيمته مقلوعاً ، كما نظم ذلك بعضهم بقوله :
فقيمة البناء مقلوعاً أتت
في سبعة معدودة قد ثبتت
في الغصب والثنيا وفي العواري
وفي الكرا وغرس أرض الجار
كذاك في أرض لموروث وفي
أرض الشريك حصلنه تقتفي
بإذن أو بغيره قد نقلا
عن ابن القاسم إمام النبلا
والمسألة مبسوطة في الاستحقاق من شرحنا للشامل وفيها اضطراب . وفي اختصار الونشريسي للبرزلي ما نصه : ومن أول كتاب الاستحقاق من البيان إذا بنى الشريك أو غرس بإذن شريكه فهل يكون لشريكه نصيبه من المغروس ويدفع فيما نابه منه قيمته قائماً للشبهة وهو قول أكثر أهل المذهب أو قيمته مقلوعاً ؟ قال : ومنه ما هو منصوص لأهل المذهب أن من عمل في أرض زوجته ثم مات فلورثته قيمته قائماً وقيل مقلوعاً . قلت : الظاهر أن ذلك بغير إذنها أو يقال كانت مكرهة ولا سيما حيث لا أحكام اه . قلت : وقد اختلف في السكوت هل هو إذن أو ليس بإذن ؟ وأظهر القولين كما مر في بيع الفضولي أنه ليس بإذن إلا فيما يعلم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه إلا برضا منه ، فيكون إذناً ورضا ، وعادة الشركاء اليوم التشاح التام في الغرس والبناء في الأرض المشتركة فالسكوت إذن ورضا ، وقد علمت فيه أنه يأخذ قيمته قائماً على قول الأكثر وهو المعتمد ، وعليه اقتصر الفشتالي في وثائقه ، وبه شاهدت الأحكام وقت الشبيبة ، وبه كنت أفتي وأنظر كيفية التقويم قائماً في نوازل الشركة من العلمي ، وأما إن بنى أو غرس بغير إذنه ولا سكوته فإنما له قيمته مقلوعاً قولاً واحداً . نعم إن غرس أو بنى قدر حصته فقط فأقل فلا غلة عليه ولا كراء في نصيبهم إن أرادوا القسمة وله عليهم الكراء في حصتهم من الزبن والخدمة والتزريب في كل سنة لأنه قام عليهم بواجب ، وإنما قلنا لا غلة عليه لقول ناظم العمل :
وما على الشريك يوماً إن سكن
في قدر حظه لغيره ثمن
فلا مفهوم لسكن بل كذلك إذا حرث أو غرس ، وإنما قلنا : وله عليهم الكراء للقاعدة المتقدمة عند قول الناظم في الإجارة : والقول للعامل حيث يختلف الخ . فراع شروطها هنا . وهذا كله مع وجود الأحكام ، وأما مع عدمها فإذا غرس الغارس أو بنى أو قلع البور والغابةونحوها . وكان ذلك قدر حظه فقط وترك قدر حظ الآخر المماثل لما غرسه وبناه وقلعه في الجودة وغيرها ، فإنه يختص بغرسه وتقليعه لأنه قد فعل فعلاً لو رفع إلى القاضي لم يفعل غيره إذ ذاك غاية المقدور ، وكل ما كان كذلك ففعله ماض كما ذكر هذه القاعدة أبو الحسن والبرزلي وغيرهما . ونقلها ( ق ) عند قوله في الخلع : وجاز من الأب عن المجبرة الخ . وعادة البوادي اليوم بل وبعض الحواضر الاستخفاف بالأحكام وعدم المبالاة بها على ما شاهدناه ، وحينئذ فللغارس غرسه ولو لم يطلب القسمة بحضرة العدول ولا أشهدهم على الطلب المذكور ، إذ لا فائدة في الطلب والإشهاد عليه حيث كانت عادتهم ما ذكر وما علم بمستقر العادة عدمه لا يطلب المرء بفعله والله أعلم .
العاشر : في الطرر عن المشاور : إذا بنى الوارث بحضرة شريكه وعلمه ولا يغير عليه ثم باعه أو بعضه فقام الشريك فأراد أخذ نصيبه منه والباقي بالشفعة ، فإن قام عليه أو على ورثته قبل انقطاع حجته وذلك الأربعون سنة فأقل ، فإنه يقسم ذلك فما صار في حق القائم كان له وكان بالخيار في دفع قيمة البنيان والغرس مقلوعاً أو يأمره بقلعه ، ولم يكن له كراء فيما سكن من نصيبه ، ولا غلة فيما اغتل لأنه أذن له فيه إذا كان بعلمه ، ولم تكن له شفعة لأن البيع يفسخ ولا يتم العقد إلا بعد القسم إن أحب المبتاع ذلك ، وإن لم يعلم بذلك حتى قام فله كراء ما صار له من البقعة على الباني والغارس ، وقيل : إنه يأخذه قائماً اه . فقوله : وكان بالخيار الخ . محله إذا قلنا : إن السكوت ليس بإذن لعدم التشاح في الغرس ونحوه كما مر ، ومحل دفع قيمته مقلوعاً الخ . إذا كان الغارس يتولى ذلك بنفسه أو عبيده وإلاَّ فللغارس عليه أجرة عمله وقيامه وعلاجه ، كما أشرنا له قبل في القاعدة المتقدمة في الإجارة . وقوله : ولا غلة فيما اغتل مبني على أن السكوت إذن ، وقوله : لأن البيع يفسخ الخ . أي لأن استحقاق بعض المبيع كعيب به ، وهو معنى قول ( خ ) في العيوب : وخير المشتري إن غيب أو عيب أو استحق شائع وإن قل الخ .
الحادي عشر : تقدم في الشفعة أن المغارسة فيها الشفعة لأنها بيع لكن بعد تمام العمل وأما قبله ففيه خلاف ، فقال ابن الحاج : لا يجوز البيع لأنه لم يجب له نصيبه إلا بتمام عمله ولو مات لخير وارثه ولو بيت مال بين العمل أو الترك . البرزلي : إجراء لها على المساقاة ، فلذا يخير الوارث لكونها في الذمة ولزومها بالعقد ، وعليه نقل بعض المتأخرين عن الرماح وغيره عن المذهب ، أنه يجوز لكل واحد منهما بيع نصيبه من الأرض والشجر إذا كان المشتري يعمل في ذلك كعمل البائع اه . ثم نقل بعد هذا عن ابن رشد ، أنه يجوز للعامل أن يبيع من رب الأرض أو غيره أو يعطيها له أو بغيره بجزئها الذي أخذها به اه . قال سيدي عبد القادر الفاسي : وبعدم صحة البيع تجري الأحكام ههنا في فاس اليوم . قال : وإذا لم يصح البيع فلا شفعة وعلى صحته فالشفعة واجبة قال : والمسألة ناظرة إلى قاعدة الشركة التي يوجبها الحكم هل تجب الشفعة فيها قبل تقررها أم لا ؟ ابن رشد : وقول مالك بأنه لا شفعة فيها أصح .
الثاني عشر : قال أصبغ : من أعطى أرضه مغارسة فلم يتم العمل حتى عجز العامل أو غاب فأدخل رب الأرض في الغرس من قام به وعمل ما بقي أو تولاه رب الأرض المذكوربيده ، ثم قدم العامل وقام فهو على حقه ، وكذلك لو كان حاضراً ولم يسلم ذلك ولم ير أنه تركه ويعطي للثاني قدر ما تكلف مما لو وليه لزمه مثله اه من اختصار الونشريسي واحلولو . وعن ابن خجوا في رجلين أخذا أرضاً مغارسة فغرساها وتولى أحدهما الخدمة والقيام إلى الإطعام قال : يكون للقائم بالغرس أجرة مثله ويقتسمان ما غرساه على ما دخلا عليه اه . من نوازل الزياتي وهو يبين له ما قبله .
وَجَازَ أَنْ يُعْطَى بِكُلِّ شَجَرَهْ
تَنْبُتُ مِنْهُ حِصَّةً مُقَدَّرَهْ
( وجاز ) أي العقد على ( أن يعطى ) الغارس ( بكل شجرة تنبت منه ) أي من الغرس ( حصة مقدرة ) . وهذا جعل محض إن كان المعطى دراهم أو دنانير أو عرضاً وله الترك متى شاء ، كما مر أول الفصل إلا أن قول الناظم حصة شامل لجزء من الأرض والمغروس ، وفيه ورد النص عن ابن القاسم كما في ابن يونس ونصه قال ابن القاسم : لو قال أستأجرك على أن تغرس لي في هذه الأرض كذا وكذا نخلة فما نبت فهو بيني وبينك فهو جعل وليس إجارة ، ولو شاء أن يترك ترك ولو لم يكن جعلاً ما جاز لأنه لا يدري أيتم أم لا اه . وأنت خبير بأن هذه الصورة هي عين المغارسة التي تقدم الكلام فيها إلا أن ابن القاسم ذهب في هذا القول على إنها لا تلزم بالعقد وهو خلاف المعتمد من لزومها به كما مر ولذا قال البرزلي عقب نقله قول ابن القاسم ما نصه : قلت هذا خلاف ما حكاه المازري عن عبد الحميد الصائغ أن المغارسة والإجارة على البلاغ مما يلزمان بالعقد ، وإن كان من أبواب الجعل وأنهما خرجا عنه في هذا . وفي كون الجعالة فيهما لها مؤنة كثيرة للضرورة إليها اه . وقوله : لها مؤنة كثيرة الخ . يعني أن الجعل لا يجوز على العمل الكثير كما قال ( خ ) : إلا كبيع سلع لا يأخذ شيئاً إلا بالجميع ، والمغارسة والإجارة على البلاغ خالفاه في هذا فيجوزان على العمل الكثير للضرورة ، وخالفاه أيضاً في اللزوم بالعقد .
فصل في المزارعةابن عرفة هي شركة الحرث . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عنالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو دابة أو شيء إلا كان له صدقة ) . القرطبي : يستحب لمريد البذر في الأرض أن يقول بعد الاستعاذة : أفرأيتم ما تحرثون } ( الواقعة : 63 ) الآية . ثم يقول : الله الزارع والمنبت والمبلغ ، اللهم صلِّ على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، فإنه أمان لذلك الزرع من جميع الآفات الدود والجراد وغير ذلك . وقد جرب فوجد كذلك اه . البرزلي : ويستحب أن ينوي أنه يزرع ويغرس لينتفع به هو وجميع المسلمين فيحصل له ثوابه ما دام قائماً على أصوله ، وإن تبدلت ملاكه اه .
وللمزارعة عشر صور خمسة جائزة وخمسة ممنوعة فمن الجائز قوله :
إنْ عَمِلَ العَامِلُ في المَزَارَعَهْ
وَالأَرْضُ مِنْ ثَانٍ فَلاَ مُمَانَعَهْ
( إن عمل العامل في المزارعة والأرض من ثان فلا ممانعة ) . والمراد بالعمل عمل اليد والبقر ، فإذا أخرج أحدهما ذلك وأخرج الآخر الأرض جازت هذه الشركة بشرطها المشار له بقوله :
إنْ أَخْرَجَا البذْرَ عَلَى نِسْبَةِ ما
قَدْ جَعَلاَهُ جُزْءاً بَيْنَهُمَا
( إن أخرجا ) معاً ( البذر على نسبة ما قد جعلاه جزءاً ) بضم الزاي لغة فيه ( بينهما ) في المصيف ، فإن دخلا على أن ما يحصل في المصيف يكون لذي العمل نصفه ولرب الأرض نصفه جاز إذا أخرج كل منهما نصف الزريعة ، وإذا دخلا على أن لصاحب العمل أو الأرض سدس ما يحصل جاز أيضاً إذا أخرج كل منهما من الزريعة بقدر ما يأخذ في المصيف وهكذا . وهو معنى قوله :
كالنِّصْفِ أَوْ كَنِصْفِهِ أَوْ السُّدُسْ
وَالعَمَلُ اليَوْمَ بِهِ في الأَنْدَلُسْ
( كالنصف أو كنصفه ) وهو الربع ( أو السدس ) فما بعد الكاف مثال للجزء الذي دخلا على أخذه في المصيف وظاهره الجواز ، ولو كانت قيمة العمل لا تعادل قيمة كراء الأرض وبالعكس ، وهو كذلك على القول الذي لا يشترطالسلامة من التفاوت في المزارعة ، وعليه فتجوز ولو لم يقوِّما العمل ولا عرفا كراء الأرض وهو قول عيسى بن دينار ، وعليه العمل كما في المفيد والجزائري وابن مغيث وتبعهم الناظم فقال : ( والعمل اليوم به ) أي بهذا القول الذي لا يشترط السلامة من التفاوت ( في ) جزيرة ( الأندلس ) ، بل وكذلك في مغربنا اليوم لأن عملنا تابع لعملهم ، وسميت جزيرة لأن البحر محيط بها من جهاتها إلا الجهة الشمالية فهي مثلثة الشكل ، وأول من سكنها بعد الطوفان أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام فسميت به . ومفهوم قوله : إن أخرجا الخ . أنهما إذا لم يخرجا البذر على نسبة ما ذكر كما لو دخلا على المناصفة فيما يحصل فى المصيف ، ولكن البذر على أحدهما ثلثاه وعلى الآخر ثلثه ، فإن ذلك لا يجوز وهو كذلك على تفصيل ، فإن كان مخرج ثلثيه هو رب الأرض فلا إشكال في الجواز لأن ما زاده من سدس البذر في مقابلة العمل أو هبة ، وإن كان مخرج ثلثيه هو العامل فإن كان على أن يأخذ كل منهما بقدر بذره جاز ، وإن كان على أن يأخذ كل نصف الزرع امتنع ، لأن ما زاده من سدس البذر هو في مقابلة الأرض ، فإن نزل فلكل واحد من الزرع بقدر بذره ويتراجعان في فصل الأكرية . قال سحنون : انظر شرحنا للشامل ، وإنما امتنع هذا الوجه لأنه من كراء الأرض بطعام ، وتقدم في فصل كراء الأرض منعه ، وتقدم هناك أيضاً من يقول بجواز كرائها بكل شيء ولو طعاماً ، وعليه فإذا اعتادوا في بلد التفاوت في البذر لا ينكر عليهم كما مر نظيره عن المسناوي وابن لب في البابين قبله ، ولا سيما إذا لم يجد من يتعامل معه على الوجه الجائز وقد قال البرزلي : تجوز المعاملة الفاسدة لمن لا يجد مندوحة عنها كالإجارة والمزارعة والشركة وغير ذلك من سائر المعاملات ، وقد روي عن الفقيه ابن عيشون أنه خاف على زرعه الهلاك فآجر عليه إجارة فاسدة حين لم يجد الجائزة قال : ومثله لو عم الحرام في الأسواق ولا مندوحة عن غير ذلك ، والمبيح الضرورة كما جاز للمضطر أكل الميتة اه . وتقدم نحو هذا عن ابن سراج في الإجارة ، وقال الجزولي عند قول الرسالة : ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع الخ ما نصه . انظر على هذا لو اضطر إلى المعاملة بالحرام مثل أن يكون الناس لا يتعاملون إلا بالحرام ولا يجد من يتعامل بالحلال هل له أن يتعامل بالحرام أم لا ؟ وقد قال عليه السلام : ( لو كانت الدنيا بركة دم لكان قوت المؤمن منها حلالاً ) وكذلك إذا كان لا يجد من يزرع إلا بكراء الأرض بما تنبته أو كان لا يجد إلا من يشترط شركة فاسدة وليس له صنعة إلا الحرث أو مثل الحصاد بالقبضة إذا كان لا يجد من يحصد إلا بها . قال الشيخ : أما إذا تحققت الضرورة فيجوز ، وقد سمعت بعض الشيوخ يقول في قوم نزلوا بموضع قد انجلى أهله عنه وكان الذين نزلوا به لا صنعة لهم إلا الحرث : أنه يجوز لهم أن يحرثوا تلك الأرض التي ارتحل أهلها عنها . قال : وذكر عن الفقيه ابن عيشون أنه حصد زرعه بإجارة فاسدة لأجل الضرورة اه . وفي السفر الثالث من المعيار قال أصبغ : ينظر إلى أمر الناس فما اضطروا إليه مما لا بد لهم منه ولا يجدون العمل إلا به ، فأرجو أن لا يكون به بأس إذا عم اه . فهذا كله مما يدل للجواز مع الضرورة ، وأيضاً فإنما يقال ما زاده من سدس البذر هو في مقابلة الأرض إذا كان كراء الأرض يزيد على قيمة العمل ، وإلاَّ فهو محض هبة وتقدم أنه على ما به العمل لا يشترط معرفة قيمة الأرض ولا العمل ومقابل العمل الذي في النظم هو ما أشار له ( خ ) بقوله : إن سلما من كراء الأرض بممنوع وقابلها مساوٍ الخ . وعليه فإذا كانت قيمة الأرض مائة وقيمة العمل خمسين ودخلا على المناصفة في البذر وما يحصل في المصيف لم يجز لوجود التفاوت .وقد اشتمل كلام الناظم على ثلاث صور من صور المزارعة اثنتان جائزتان وهما صورة المنطوق وواحدة من صورتي المفهوم كما مر ، وستأتي الصور الثلاث الباقية من الخمس الجائزة عند قوله : وجاز في البذر اشتراك الخ .
وَالتُزِمَتْ بالعَقْدِ كَالإجَارَه
وَقِيلَ بَلْ بالبَدْءِ لِلْعِمَاره
( والتزمت ) لو قال : ولزمت ( بالعقد كالإجارة ) وهو قول ابن الماجشون وسحنون وابن القاسم في كتاب ابن سحنون ، وبه قال ابن زرب وابن الحارث وابن الحاج ووقع الحكم به ، وبه كان يفتي ابن رشد وصححه في الشامل فقال : عقد المزارعة لازم قبل البذر على الأصح ، وقيل لا تلزم إلا بالشروع في العمل وهو لابن كنانة في المبسوط وابن رشد وبه جرت الفتوى بقرطبة . ( وقيل ) لا تلزم بالعقد ولا بالشروع ( بل بالبذر للعمارة ) وهو قول ابن القاسم في المدونة وعليه عول ( خ ) إذ قال : لكل فسخ المزارعة إن لم يبذر . ومعناه كما لابن رشد أنها تلزمهما فيما بذرا من قليل أو كثير ولا تلزمهما فيما بقي ولكل فسخها ، فإن عجز أحدهما بعد البذر فإنه يقال لشريكه : اعمل فإذا طاب الزرع بع واستوف حقك والزيادة له والنقصان عليه يتبع به كما مر في المساقاة وقاله في النوادر ، فإذا أذهب السيل بذر أحدهما فأبى أن يعيد بذراً آخر فإنه لا يجبر لأن عملهما قد تم ، وأما على ما صدر به الناظم فإنه إذا أبى أحدهما من إتمامها بعد عقدها صحيحة فإنه يجبر على الإتمام ، وكذا يقال على لزومها بالشروع أيضاً . ومما ينبني على الخلاف لو زارع رجل شخصاً آخر ، فلما قلب الأرض عامل غيره على عملها من أجل عجز عنها أو غيره أن الزرع لرب الأرض وللعامل الآخر وليس للعامل الأول شيء وله كراؤه على العامل الآخر ثمناً وسواء علم الأخير بالأول أم لا ، قال البرزلي : هذا على أن المزارعة لا تلزم بالعقد ولا بالشروع فأشبه عامل القراض إذا أخذ القراض وأعطاه قبل العمل فليس له من الربح شيء ، وعلى القول بلزومها بالعقد أو الشروع الشركة الثانية للعامل الأول والثاني ، ويبقى نصيب رب الأرض على حاله كالمساقاة اه . وهذا إذا أدخل العامل الأول الثاني لعجز ونحوه أو لم يدخله بل أدخله رب الأرض كما ترى . وفي ابن سلمون وابن عات : الزرع لرب الأرض وللعامل الأجر بالجيم الساكنة ، وصوابه الآخر بالخاء المعجمة بدليل قوله : وليس للوسط شيء يعني العامل الأول لأنه يفيد أن الآخر يأخذ من الزرع لا أنه يأخذ الأجرة فقط ، وبدليل تشبيه البرزلي له بعامل القراض يعطيه للغير قبل العمل المشار له بقول ( خ ) أو قارض بلا إذن وغرم للعامل الثاني إن دخلا على أكثر الخ . كذا كتبه أبو العباس الملوي رحمه الله . وعلى أنها تلزم بالعقد يجوز إدخال الخماس فيما حرثه رب الزرع قبله ويجوز السلف أيضاً على أنها لا تلزم إلا بالبذر ، فيجوز فيهما . انظر شرحنا للشامل .ولما كان المراد بالعمل في المزارعة إذا أطلق هو عمل الحرث فقط ، وأما الحصاد والدراس والتصفية فإنها لا تندرج فيه عند السكت بل ذلك عليهما على قدر الأنصباء إلا لشرط نبه عليه الناظم فقال :
وَالدَّرْسُ وَالنَّقْلَةُ مَهْمَا اشْتُرِطَا
مَعْ عَمَلٍ كَانَ عَلَى ما شُرِطَا
( والدرس ) للزرع ( والنقلة ) له من الفدان ( مهما اشترطا مع عمل ) الحراثة ( كان ) ذلك الشرط لازماً ( على ما شرطا ) والعادة كالشرط وهو قول ابن القاسم في رواية حسين بن عاصم عنه ، وبه العمل حسبما للجزيري في وثائقه . وقال سحنون : لا يجوز اشتراط ذلك لأنه مجهول ، واختاره ابن يونس . قال أبو حفص : تكلم ابن القاسم على أرض النيل التي أمرها معروف بالعادة ، وتكلم سحنون على أرض إفريقية التي يختلف الأمر فيها فمرة تخصب فتكون مؤنة الحصاد كثيرة الثمن ، وربما لم يكن خصب فيقل ثمن ذلك اه . ويمكن أن يقال مذهب ابن القاسم الجواز في أرض النيل وغيرها ، كما أفاده الناظم لأن الغالب إتيان الزرع على مقتضى العادة وإتيانه على خلافها نادر وهو لا حكم له . البرزلي : لو قال أحدهما عليك أجرة الحصادين وعلي الغداء والعشاء جاز ذلك إن عرف قدره اه .
وَالشَرْطُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَعْمُورِ
مِثْلَ الَّذِي أَلْفَى مِنَ المَحْظُورِ
( والشرط ) أي اشتراط رب الأرض على العامل إذا دخل والأرض معمورة أي مقلوبة ( أن يخرج ) بعد حصاد الزرع ( عن معمور ) الأرض فيقلبها له حتى تصير ( مثل ) القليب ( الذي ألفى ) وقت دخوله ( من المحظور ) خبر عن الشرط وهو بالظاء المشالة كقوله تعالى : وما كان عطاء ربك محظوراً } ( الإسراء : 20 ) أي ممنوعاً ولعل وجه المنع أنه من باب قول ( خ ) : وأجير تأخر شهراً ، لأن رب الأرض قد نقده العمارة في مثلها بعد شهور فإن دخلا على الشرط المذكور فسخ العقد كما قال :
وَلَيْسَ لِلشِّرْكَةِ مَعْهُ مِنْ بَقَا
وَبَيْعُهُ مِنْهُ يَسُوغُ مُطْلَقَا
( وليس للشركة معه ) بالسكون أي الشرط ( من بقا ) بل يتحتم فسخها ، وهذا قبل العمل فإن فاتت بالعمل فإن الأرض تقوم بتلك العمارة ويقوم عمل العامل فما فضل من قيمة كراء الأرض بتلك العمارة على قيمة عمل العامل ، أو من قيمة العمل على كراء الأرض أخذه منهصاحب الزيادة ، قاله ابن سلمون والمتيطية ونحوه في الوثائق المجموعة انظر ( م ) . ( وبيعه ) أي القليب المذكور ( منه ) أي العامل ( يسوغ مطلقا ) بمعجل أو مؤجل كما في ابن سلمون ، وليس هذا من اجتماع البيع والشركة في عقد وهو لا يسوغ كما مرّ صدر البيوع لأن القليب المذكور هو في نفس الشيء المشترك فيه لا ينفصل عنه ولا يزايله قاله اليزناسني وأما هبته للعامل فيجوز أيضاً على ما به العمل من عدم اشتراط السلامة من التفاوت لا على مقابله لأنه له خطر وبال كالأرض التي لها ذلك كما في المتيطية .
وَحَيْثُ لاَ بَيْعَ وَعَامِلٌ زَرَعْ
فَغَرْمُهُ القِيمَةَ فِيهِ ما امْتَنَعْ
( وحيث لا بيع ) ولا هبة للقليب المذكور ( وعامل زرع ) فيه من غير تعرض لبيع ولا لغيره ( فغرمه ) أي العامل ( القيمة ) لذلك القليب ( فيه ) متعلق بقوله ( ما امتنع ) أي ما يمتنع من غرمه القيمة ولا محيد له عنه كما مر عن ابن سلمون ، فإن ادعى العامل أنه وهبه له فله اليمين على رب الأرض كما في نوازل ابن رشد وهي من دعوى المعروف ومعروف المذهب توجيهها قاله الونشريسي في جواب له نقله العلمي في الغصب والتعدي .
وَحَقُّ رَبِّ الأَرْضِ فِيما قَدْ عَمَرْ
باقِ إذَا لَمْ يَنْبُتِ الَّذِي بَذَرْ
( وحق رب الأرض ) صوابه وحق ذلك العامل كما قال ولده ( فيما قد عمر باق إذا لم ينبت الذي بذر ) أي إذا قلب العامل الأرض وزرعها ولم ينبت زرعه فحقه باق قي العمارة له أن يزرعها مرة أخرى أو يبيعها ممن شاء ، بخلاف ما إذا نبت الزرع ويبس أو أصابته آفة من جراد ونحوه فإنه لا حق له كما قال :
بِعَكْسِ مَا كانَ لَهُ نَبَات
وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ لهُ ثَبَاتُ
( بعكس ما كان له نبات ولم يكن بعد ) أي بعد النبات ( له ثبات ) قاله ابن فتحون وغيره .
قلت : وعلى هذا تجري مسألة المكتري للأرض يجاح زرعه بعد النبات أو لا ينبت أصلاً فلا حق له في القليب في الأول دون الثاني والله أعلم .
وَجَازَ في البَذْرِ اشْتِرَاكٌ وَالْبَقَرْ
إنْ كانَ مِنْ نَاحِيَةٍ ما يُعْتَمَرْ
( وجاز ) للمتزارعين ( في البذر اشتراك و ) في ( البقر ) عطف على البذر ( إن كان من ناحية )أي من أحدهما فقط ( ما يعتمر ) وهو الأرض ، وظاهره سواء قابلها عمل يد الآخر كما لو كان عمل اليد عليه وحده أو كان عمل اليد عليهما معاً أيضاً وهو كذلك ، وظاهره ولو كانت الأرض في الصورة الثانية لها خطر وبال وهو كذلك لما مر من أنه لا يشترط عدم التفاوت على المعمول به ، وظاهره أيضاً سواء كان يأخذ كل واحد من الزرع بقدر ما أخرج من البذر أم لا كما لو أخرج أحدهما الأرض ونصف البقر وثلثي البذر ، وأخرج الآخر عمل يده ونصف البقر وثلث البذر على أن يكون الزرع بينهما نصفين ، وهو كذلك كما تقدم في الصورة الأولى من صورتي مفهوم البيت في أول الفصل ، وأما العكس وهو أن يخرج أحدهما عمل اليد ونصف البقر وثلث البذر ، ويخرج الآخر الأرض ونصف البقر وثلث البذر فإن كان على أن يأخذ كل منهما من الزرع بقدر بذره جاز ، وإن كان على أن يأخذ كل نصف الزرع امتنع لأن العامل نقص له عن نسبة بذره ، وذلك يوجب أن سدس بذره في مقابلة الأرض كما مر ( خ ) : أو بعضه إن لم ينقص ما للعامل عن نسبة بذره ، ويفهم من النظم أنهما إذا استويا في الأرض والبقر والبذر واليد تجوز بالأحرى . ( خ ) : مشبهاً في الجواز إن كان تساوياً في الجميع . عياض : وجوه المزارعة ثلاثة . وجه جائز باتفاق وهو اشتراكهما في الأرض والآلة والعمل والبذر بحيث إذا ضاع شيء يكون ضمانه منهما معاً ، ووجه لا يختلف في منعه وهو اختصاص أحدهما بكون البذر من عنده خاصة ومن عند الآخر الأرض التي لها قيمة اشتركا في غير ذلك أم لا . اختلفوا فيما سواه أو تساووا لأنه كراء الأرض بما يخرج منها إلا على ما للداودي ويحيى في جواز كراء الأرض بما يخرج منها على مذهب الليث ، وذلك خارج عن مذهب مالك . والوجه الثالث هو ما عدا هذين الوجهين وهو مختلف فيه كيفما قدرته اه .
ومن الجائز أيضاً أن تكون الأرض منهما معاً والبذر من أحدهما وعمل البقر واليد أو عمل اليد فقط من الآخر ومنه أيضاً أن يكون البذر منهما معاً والأرض من أحدهما وقابلها عمل من الآخر . وهي المتقدمة في أول الفصل والفرق بينها وبين ما في النظم ههنا أن ما تقدم عمل البقر واليد من أحدهما . والأرض من الآخر بخلاف ما هنا . ومنه أيضاً أن تكون الأرض والبذر منهما وعمل اليد والبقر على أحدهما ومنه أيضاً أن يكون لأحدهما الجميع إلا عمل اليد وهي مسألة الخماس والعمل على جوازها للضرورة كما قال ناظم العمل :
وأجرة الخماس أمر مشكل
وللضرورة بها تساهل
وظاهر قوله : للضرورة ولو عقداها بلفظ الإجارة أو أطلقا ، ويؤيده ما مر أول هذا الفصل وما مر عن ابن يونس أول المساقاة من أن قبح اللفظ لا يضر مع اتفاق المعنى ، وتقدم هناك أيضاً الخلاف في زكاة زرع الخماس على من تكون وأن زكاة الحصاد بأجرة من الزرع علىرب الزرع ، وكذا عليه زكاة ما يلقطه اللقاط إن شرط الحصاد لقطه معه لا إن لم يشترط لقطه وكان اللقاط يلقطه لنفسه .
فروع . الأول : سئل ابن أبي زيد عمن يدفع الأرض بربعها ويخرج ربع الزريعة أيضاً ويأخذ ربع الزرع ؟ فقال : يجوز ذلك إذا تقاربت قيمة الأرض مع قيمة العمل اه . قلت : إنما يشترط التقارب المذكور على المشهور الذي يشترط عدم التفاوت لا على ما به العمل من عدم اشتراطه كما مر .
الثاني : إعطاء الثور لمن يحرث عليه بالخمس من الزرع أجازه الفقيه راشد قياساً على الخمس ، ومنعه أبو عمران وعمل الناس اليوم على الأول ، وأما إعطاء الأرض بجزء مما تنبته فتقدم الكلام عليه في كراء الأرض .
الثالث : إن عجز أحد المتزارعين في أثناء الحرب وسلم لصاحبه فيما كانا حرثاه معاً فذلك لازم له قاله البرزلي ، ونقله صاحب كتاب المغارسة .
الرابع : تقدم من اشترى زريعة فوجدها لم تنبت أنظرها في عيب الأصول ، وقد ذكر المسألة هنا في المتيطية وغيرها .
وَالزَّرْعُ لِلزارِعِ في أَشْيَاءَ
وَرَبُّ الأَرْضِ يَأْخُذُ الكِرَاءَ
( والزرع للزارع ) وحده ( في أشياء ورب الأرض يأخذ الكراء ) ولا حظ له في الزرع ، وذكر الناظم من ذلك أربعة مسائل فقال :
كَمِثْلِ ما في الْغَصْبِ وَالطَّلاَقِ
وَمَوْتِ زَوْجَيْنِ وَالاسْتِحْقَاقِ
( كمثل ما في الغصب ) يزرع الأرض ويقر بالعداء أو يفوت الإبان فعليه كراء المثل كما أشار له ( خ ) بقوله : وإن زرع أي الغاصب فاستحقت أي قام مالكها فإن لم ينتفع بالزرع أخذ بلا شيء ، وإلاَّ فله قلعه إن لم يفت وقت ما تراد له وإلاَّ فله كراء المثل الخ . وقد تقدم تحصيل ذلك في فصل الكراء والجائحة فيه فراجع تفصيله هناك . ( والطلاق ) يعني أن من أمتعته زوجته بأرضها فزرعها ثم طلقها فالزرع له ، وفي الكراء الخلاف المتقدم في فصل أحكام من الكراء ( وموت ) أحد ( زوجين ) بعد أن أمتع صاحبه بأرضه وزرعها فالزرع له وفي الكراء الخلاف المتقدم في الفصل المذكور ( والاستحقاق ) يعني أن من زرع أرضاً بشبهة شراء أو إرث أو اكتراء ولم يعلم بغصب بائعها أو مكتريها أو موروثة فاستحقت من يده قبل فوات الإبان فله الزرع وعليه كراءالمثل ، فإن لم تستحق إلا بعد فواته فالزرع له أيضاً ولا شيء عليه من الكراء ، وهذا هو الفرق بينه وبين الغاصب . ( خ ) : كذي شبهة أو جهل حاله الخ . وقال في الشامل : ولا شيء لمستحقها في زرع ذي شبهة ونحوه إن فات الإبان وإلاَّ فله كراء سنة اه . ومن هذا أيضاً ما في ابن يونس عن أصبغ قال : من زرع أرض جاره وقال : غلطت ، أو كان مكترياً لها ولا يعرف ذلك ، إلا من قوله ، أو بنى في عرصة جاره وقال : غلطت فلا يعذر الباني ويعطيه قيمته مقلوعاً أو يأمره بقلعه ، وفي الحرث يشبه أن يكون غلط فيحلف ويقر زرعه ويؤدي كراء المثل فات الإبان أم لا . وهو على الخطأ حتى يتبين العمد انظر البرزلي وابن سلمون والمتيطية .
وَالخُلْفُ فِيه ها هُنَا إنْ وَقَعَا
ما الشَّرْعُ مُقْتَضٍ له أَنْ يُمْنَعَا
( والخلف فيه ) أي الزرع لمن يكون ( ههنا ) في باب المزارعة ( إن وقعا ما ) أي شيء ( الشرع ) مبتدأ خبره ( مقتض له أن يمنعا ) والجملة صفة لما أوصله والرابط المجرور باللام أي : إن وقع . وفي المزارعة شيء يوجب الفساد والشرع مقتض المنع له فإن اطلع على ذلك قبل الفوات بالعمل فسخ ، وإن فات به فاختلف في الزرع لمن يكون على أقوال ستة .
قيلَ لِذِي البِذْرِ أَو الحِراثَهْ
أَوْ مُحْرزٍ لاثْنَيْنِ مِنْ ثَلاَثَهْ
( قيل ) الزرع كله ( لذي البذر ) أي لمخرجه ويؤدي لأصحابه كراء ما أخرجوه فإن أخرجاه معاً فالزرع بينهما على نسبة بذريهما ويترادان في كراء غيره وهو رواية ابن غازي ( أو ) أي وقيل الزرع كله لصاحب ( الحراثة ) أي العمل وهو تأويل أبي زيد عن ابن القاسم ( أو ) أي وقيل الزرع كله ل ( محرز لاثنين من ثلاثة ) وهي
الأرْضِ وَالبَذْرِ وَالاعْتِمارِ
وَفِيهِ أَيْضاً غَيْرُ ذَاكَ جَارِي
( الأرض والبذر والاعتمار ) أي العمل باليد والبقر أو اليد فقط ، فيكون الزرع لمن له الأرض مع البذر ، أو الأرض مع العمل ، أو البذر مع العمل فإن كانوا ثلاثة واجتمع لواحد منهم شيئان منها دون صاحبيه كان الزرع له دونهما ، وإن اجتمع لكل واحد منهم شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء منها كان الزرع بينهم أثلاثاً وهو قول ابن القاسم ، واختاره ابن المواز وهو المعتمد ، فكان على الناظم أن يصدر به أو يقتصر عليه ، وعليه فإذا كان على أحدهما ثلثا البذر وعلى الآخر الأرض وثلث البذر والبقر بينهما وعمل اليد على أحدهما فالزرع كله لعامل اليد وعليه للآخر كراء أرضه وبقره ، ومثل بذره لقوله في النهاية . قال ابن المواز عنابن القاسم : إن الزرع كله في فساد المزارعة لمن ولي العمل ، فإن كان رب الأرض هو العامل فعليه للآخر مثل بذره ، وإن كان صاحب البذر هو العامل فعليه للآخر كراء أرضه ، وإن عملاً جميعاً غرم هذا لهذا نصف بذره وهذا لهذا نصف كراء أرضه وعليه عول ( خ ) إذ قال : وإن فسدت وتكافآ عملا فبينهما وترادا غيره وإلا فللعامل الخ . أي عامل البقر واليد أو اليد فقط كما مر ، وظاهره أن الزرع لصاحب البذر إذا انضاف إليه عمل ولو أسلف نصفه لصاحبه ، والذي في البرزلي أن الزرع يكون بينهما على ما شرطا ، ولمسلف الزريعة أخذها من صاحبه ويرجع من له فضل على الآخر . ( وفيه ) أي الزرع ( أيضاً غير ذاك ) أي غير ما ذكر من الأقوال الثلاثة ( جار ) فقد قيل : إنه لمن اجتمع له ثلاثة أيضاً على هذا الترتيب وهي أرض وبقر وعمل يد ، وقيل هو لمن اجتمع له اثنان من أربعة . الأرض والعمل والبذر والبقر ، وقيل وهو لابن حبيب إن سلمت المزارعة من كراء الأرض بما يخرج منها فالزرع بينهما على ما شرطا ويترادان في الزائد ، وإن لم تسلم من ذلك فالزرع لصاحب البذر . حكى الأقوال الستة صاحب المقدمات وإليها رمز ابن غازي بقوله :
الزرع للعامل أو للباذر
في فاسد أو لسوى المخابر
أو من له حرفان من إحدى الكلم
عاب وعاث ثاعب لمن فهم
والمراد بالمخابر هنا الذي يعطي أرضه بما يخرج منها والعينات للعمل والألفات الثلاث للأرض والباءان للبذر والثاءان المثلثتان للثيران .
وَقَوْلُ مُدَّعٍ لِعَقْدِ الاكْتِرَا
لا الازْدِرَاعِ مَعْ يَمِينٍ أُثِرَا
( و ) إذا تنازعا بعد الفوات فادعى العامل الاكتراء للأرض ، وادعى رب الأرض المزارعة أو العكس فالقول ( قول مدع لعقد الاكترا ) كأن مدعيه هو رب الأرض أو العامل ولا يصدق العامل في دفعه كما في المتيطية ( لا ) قول مدع ( الازدراع ) ومن صدق منهما فذلك ( مع يمين أثرا ) أي روي عن ابن القاسم وبه قال ابن حبيب وظاهره كان الغالب الازدراع أو الكراء ، والذي تقدم في اختلاف المتبايعين أن القول لمدعي الغالب ، فإن لم يكن غالب فقد تقدم أن القول لمنكر العقد إجماعاً فكل منهما ينكر عقد صاحبه ويدعي عقداً آخر ، والناظم درج على أن المزارعة تلزم بالعقدكالكراء ، وحينئذ إذا لم يكن غالب وتنازعا قبل العمل تحالفا وتفاسخا ، فإن فاتت به فالقول لمدعي الكراء إن كان هو العامل لأن الآخر يريد أن يشاركه في الزرع بمجرد الدعوى فانظر ذلك وتأمله والله أعلم . وعن سحنون إن اختلفا بعد الطيب فقال العامل : الزرع بيننا وقد تساوينا في الزريعة ، وقال رب الأرض : الزرع لي وإنما أنت أجير فإن عرفت الزريعة أنها من عند أحدهما فالقول قوله مع يمينه ، وإن لم يعلم مخرجها فالقول للعامل لأن العادة في شركة الناس أن العامل يخرج البذر أو نصفه انظر المتيطية والبرزلي .
وَحَيْثُ زَارِعٌ وَرَبُّ الأرْضِ قَدْ
تَدَاعَيَا في وَصْفِ حَرْثٍ يُعْتَمَدْ
( وحيث زراع ورب الأرض قد تداعيا ) وتنازعا ( في وصف حرث ) أي قلب كما لو قال رب الأرض : دخلنا على أن تحرثها أي تقلبها مرتين ثم بعد ذلك تبذرها . وقال العامل : بل مرة واحدة ( يعتمد ) يقتصد صفة للحرث وهو تتميم .
فَالْقَوْلُ لِلْعَامِلِ وَاليَمِينُ
وقلْبُهَا إنْ شَاءَ مُسْتَبِينُ
( فالقول للعامل واليمين ) عليه ( وقلبها ) أي اليمين ( إن شاء ) أي أن يقلبها على رب الأرض ( مستبين ) واضح بيِّن . قال في النوادر : وإن تزارعا على أن الأرض والبذر من عند أحدهما ومن الآخر البقر والحرث فطلب أن يحرثها أي يقلبها مرة ، وقال الآخر : بل مرتين ، فليحملا على سنة البلد فإن لم تكن لهم سنة وكانوا يفعلون هذا وهذا إلا أن الزرع في حرثتين أكمل ، ففي قياس قول سحنون أن ليس عليه إلا حرثة واحدة إلا أن يشترط حرثتين فيجوز وتلزمه ، ولو عقدا على أنه إن حرث حرثة فله الربع ، وإن حرث حرثتين فله النصف لم يجز والزرع لرب البذر وعليه للآخر أجر عمله وبقره اه . وهذا كله يبين لك أن كلام الناظم هنا مبني على أن المزارعة تلزم بالعقد ، وأما على مقابله من أنها إنما تلزم بالبذر فلكل فسخها قبله وللعامل أجر قلبه إن كان قلبها والله أعلم .
وفي المتيطية : وإن اختلف بعد القلب وقبل الزراعة فقال العامل : دخلنا على أن القلب علي وحدي وأن العمل في الزراعة بيننا . وقال رب الأرض : بل العمل كله عليك واتفقنا على التساوي في البذر فالقول قول من يدعي منهما الاعتدال والتساوي في الزراعة ، ثم قال : وإن اختلفا بعد انقضاء الزراعة فقال العامل : إن جميع ما زرعت من عندي وأن نصفها سلف مني لرب الأرض وكذبه رب الأرض وقال : بل دفعت نصيبي فالقول قول العامل بيمينه ، فإذا حلف واستوجب سلفه كان الزرع بينهما ويتراجعان الفضل لأن الشركة بينهما فاسدة ما لم يدع العامل أن السلف تطوع به بعد العقد ، وإلاَّ فهي صحيحة ولا يتراجعان اه باختصار . وهذا على أنها تلزم بالعقد وإلاَّ فالسلف يفسدها ولو في أثنائها .
فصل في الشركة وأقسامها وأحكامها
وهي بكسر الشين وفتحها مع سكون الراء فيهما وبفتح الشين وكسر الراء والأول أفصحها ، وعرفها ابن عرفة بتعريفين أحدهما عام والآخر خاص فقال : الأعمية تقرر متمول بين مالكين فأكثر ملكاً فقط ، والأخصية بيع مالك بعض ماله ببعض كل الآخر موجب صحة تصرفهما في الجميع فيدخل في الأول شركة الإرث والغنيمة لا شركة التجر ، وهما في الثانية على العكس وشركة الأبدان والحرث باعتبار العمل في الثانية وفي عوضه في الأولى اه . فأخرج بقوله : متمول ما ليس كذلك كثبوت النسب بين كإخوة ، وقوله : ( ملكاً ) أخرج به ملك الانتفاع كما إذا كانا ينتفعان بحبس المدارس فإنه يصدق عليه تقرر متمول الخ . لكنه ليس بملك على أنه لا يدخل ملك الانتفاع حتى يحتاج إلى إخراجه لأن ذكر المالكين يخرجه ، واحترز بقوله : فقط من الشركة الأخصية فإن فيها زيادة التصرف ، وهذه لا تصرف فيها ، وقوله : بعض ماله الخ . أخرج به ماذا باع الكل بالكل أو البعض بالكل فإنه ليس بشركة وقوله : صحة مفعول باسم الفاعل قبله ، وهذا القيد خاص بشركة التجر ، واحترز به من شركة غير التجر كما إذا خلطا طعاماً للأكل في الرفقة فإن ذلك لا يوجب التصرف المطلق للجميع ، وضمير تصرفهما عائد على المالكين ، وذلك يدل على أن كل واحد وكيل لصاحبه في تصرفه في ملكه ، فشركة الإرث والغنيمة يدخلان في الأول دون الثاني ، وشركة التجر تدخل في الثاني دون الأول وهما معنى قوله على العكس ، وقوله : وشركة الأبدان لأن شركة الأبدان وما شابهها يصدق عليها بيع مالك كل الخ . لأن كل واحد باع بعض منافعه ببعض منافع الآخر مع كمال التصرف ، وأما عوض ذلك فيدخل تحت أعمها وليس فيه تصرف .تنبيه : قال الرصاع : وفي استثنائه شركة التجر نظر لأن فائدة الأعم أن يكون صادقاً على الأخص فهي داخلة فيه وإن لا لم يكن فيه عموم اه . وعليه فلو خذف قوله ملكاً فقط كان أولى والشركة تلزم بالعقد على المشهور ، فالتبرع والهبة والسلف من أحدهما للآخر بعد العقد جائز ، وكذا في العقد إن قصد الرفق بصاحبه ففي المتيطية ، وإن تشاركا على أن أخرج أحدهما مالاً وأسلف الآخر نصفه ليعملا به ، أو أخرج أحدهما مالاً والآخر أقل منه فأسلفه الأول حتى استوياليعملا به ويكون الربح والوضيعة بينهما بحسب ذلك ، فإن كان أسلفه رفقاً به وطلباً للثواب من عند الله تعالى أو صلة لقرابة منه لا لحاجة إليه ولا لقوة تبصر بالتجر ونفاذه فيه أكثر منه ولا لشرط كان بينهما ، ففي ذلك عن مالك روايتان الجواز ، وبه قال ابن القاسم والأخرى الكراهة وإن كان على غير ذلك لم يجز لأنه سلف جر نفعاً اه . ولما نقل ( ق ) الروايتين قال : فمقتضاه أن مالكاً مرة قصده ومرة اتهمه ، وأما فيما بينه وبين الله فذلك جائز إذا قصد الرفق به اه . وعلى الجواز إذا قصد الرفق به اقتصر ( ز ) عند قول ( خ ) : وله التبرع والسلف والهبة بعد العقد عليه ، فقول المتيطية ولا لشرط كان بينهما الخ . لو حذفه كان أولى لأن موضوع كلامه ذلك كان على الشرط .
وذكر الناظم للشركة أربعة أقسام فقال :
شَرِكَةٌ في مالٍ أَوْ في عَمَلِ
أَوْ فيهما تَجُوزُ لا لأَجَلِ
( شركة في مال ) وتحتها ثلاثة أقسام شركة مضاربة وهي القراض مأخوذة من الضرب في الأرض ، وستأتي في الفصل بعد هذا ، وشركة مفاوضة وهي أن يطلق كل منهما التصرف لصاحبه في المال الذي أخرجاه غيبة وحضوراً وبيعاً وشراء وضماناً وتوكيلاً وكفالة وقراضاً ، فما فعل أحدهما من ذلك لزم صاحبه إذا كان عائداً على شركتهما ، ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما دون ما ينفرد به كل واحد منهما من ماله وسواء اشتركا في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما وتكون يد كل منهما كيد صاحبه وتصرفه كتصرفه ما لم يتبرع بشيء قاله في الجواهر . وسواء تفاوضا في جميع أنواع المتاجر أو في نوع واحد منها كرقيق يتفاوضان في التجارة فيه فقط ، وسواء أيضاً عين كل منهما لصاحبه نوعاً أو شيئاً يعمل فيه أم لا ، ولكل منهما أن يبيع بالدين ويشتري فيه ويلزم ذلك صاحبه ( خ ) : ثم إن طلقا التصرف وإن بنوع فمفاوضة ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء من المال غير مال الشركة يعمل فيه لنفسه ، ولكل منهما أن يتبرع إن استلف أو خف ويبضع ويقارض ويقبل ويؤدي ويولي ويقبل المعيب وإن أبى الآخر ، ويقر بدين لمن لا يتهم عليه وبيعه بدين لا الشراء به الخ . لكن ما ذكره من عدم الشراء بالدين خلاف المذهب كما مر ، أما إن لم يطلق كل منهما التصرف للآخر بل شرطا أن لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه وموافقته فهي شركة العنان لأن كل منهما أخذ بعنان صاحبه أي بناصيته وهي جائزة ( خ ) : وإن شرطا نفي الاستبداد فعنان الخ . وعليه فلا يمضي فعل أحدهما في شيء مما مر أو غيره إلاَّ بموافقة صاحبه ، وهذا هو القسم الثالث من أقسام شركة المال . قال في النهاية : ولا يكون الرجل شريكاً للرجل إلا إذا شاركه في رقاب الأموال على الإشاعة ، وأما إن لم يشاركه في رقاب الأموال فليس بشريك وإنما هو خليط اه .تنبيه : إذا أقام أحدهما بينة أنه شريكه فيما بأيديهما ولم تزد ، فإن لم يكن هناك عرف يصرفهما للمفاوضة أو العنان فالحق أنه لا يتصرف واحد منهما إلا بعد مراجعة صاحبه واتفاقهما على تخصيص أو تعميم لأن الشركة توكيل ، وإذا قال : وكلتك فقط فالمشهور عدم اعتبارها حتى يخصص أو يعمم ، وانظر عدم صحة هذه الشهادة عند قول الناظم :
وغالب الظن به الشهادة الخ . وحاصله أن المسائل ثلاث : تارة تشهد البينة بأنهما متفاوضان وقد تقدم الكلام في المحل المذكور على صحة هذه الشهادة وعدم صحتها . وعلى صحتها فالشركة عامة في جميع ما بأيديهما إلا ما قامت بينة بموجب الاختصاص به ، وتارة تشهد بأنهما شريكان فيما بأيديهما فهي كالأولى ، وتارة تشهد بأنهما شريكان ولم تزد ، وهذه على تقدير صحتها وبيان مستند علمها فيها لا تعم جميع ما بأيديهما لأن ذلك يقع على بعض المال وعلى جميعه قاله اللخمي . وحينئذ فإذا أنكر أحدهما هذه الشهادة الثالثة جرى على ما تقدم في قوله : ومن لطالب بحق شهدا الخ . وانظر شرحنا للشامل عند قوله : ولو شهدت بينة بمفاوضة شمل ما بأيديهما الخ .
تتمة : قال في المتيطية : إن تساويا في المال والعمل على أن يكون لأحدهما فضل من الربح لم يجز ، وكذلك إن تساويا فيه أو تفاضلا على أن يكون العمل على أحدهما فلا يجوز ويقسمان الربح والوضيعة على قدر أموالهما ويرجع العامل على الآخر بأجر عمله في حظه وإن تفاضلا في المال ليكون العمل بينهما على السواء لم يجز ويقتسمان المال على ما ذكرنا ، وللقليل المال الرجوع على الآخر بفضل عمله ولا يضم للآخر نصف ما فضله به وليس بمسلف لأن ربحه لربه ، وإن خسر المال كله وركبهما دين فذلك عليهما أيضاً بقدر أموالهما إلا على ما شرطاه من الشرط الفاسد ، وإن تساويا في المال وجعل أحدهما دابة ليعمل الآخر عليها في جميع المال أو ليعملا معاً فلا يجوز اه . وهذا كله من دخولهما على التفاوت في الشركة وهو لا يجوز في مال ولا في عمل ، وستأتي علته في البيت بعده . وانظر ما يأتي عند قوله : وحيثما يشتركان في العمل الخ . ( أو ) شركة ( في عمل ) وهي شركة الأبدان وسيأتي شرط جوازها في قول الناظم :
وحيثما يشتركان في العمل الخ . ( أو ) شركة ( فيهما ) أي في المال والعمل معاً كأن يخرجا مالاً ويشتريا به ثياباً أو جلوداً ويفصلانها ويخيطانها نعالاً أو غفائر ونحوهما ويبيعانها مخيطة ويشتريان بذلك الثمن غيرها وهكذا وذلك كثير ، ولا بد حينئذ من شروط شركة الأبدان الآتية لأن هذا القسم مركب من شركة الأبدان وشركة المال . وقوله : ( تجوز ) خبر عن قوله شركة وسوغه تعلق الجار به وقوله : ( لا لأجل ) عطف على مقدر أي تجوز لغير أجل لا لأجل ، وظاهره أنها إن وقعت لأجل فهي فاسدة أو يقال هي صحيحة ، ولكن لا يلزمه البقاء معه إلى ذلك الأجل وهو الظاهر قال في المتيطية : والشركة لا تكون إلى أجل ولكل منهما أن ينحل عن صاحبه ويقاسمه فيما بين أيديهما من ناض وعروض متى شاء اه . ونحوه قول العوفي : وإذا تفاصلا اقتسما ما صار بينهما كما لو أخرج أحدهما عيناً والآخر عرضاً ، فإذا تفاصلا كان لكل واحدمنهما نصف العين ونصف العرض اه . وذلك كله يدل على أن المفاصلة في الشركة لا تحتاج إلى نضوض المال خلاف قول الأجهوري : لو أراد أحدهما المفاصلة وامتنع الآخر عمل بامتناعه حصل خلط أم لا للزومها بالعقد ، فإذا أراد نضوضه بعد العمل فينبغي أن ينظر الحاكم كالقراض اه . اللهم إلا أن يقال كما هو الظاهر ما للعوفي والمتيطي إنما هو مع تراضيهما على المفاصلة ، أو مبني على أنها لا تلزم بالعقد كما هو نص المقدمات ، وما للأجهوري فيما إذا تنازعا وفيما إذا قلنا تلزم بالعقد والله أعلم . فهذه ثلاثة أقسام والقسم الأول الذي هو شركة المال تحته ثلاثة أنواع كما مرّ وأشار للقسم الرابع بقوله :
وَفُسِخَتْ إنْ وَقَعَتْ عَلى الذِّمَمْ
وَيَقْسِمَانِ الرِّبحَ حُكْمٌ مُلْتَزَمْ
( وفسخها ) أي الشركة ( إن وقعت على الذمم ) جمع ذمة وتقدم عند قول الناظم : والشرح للذمة وصف قاما الخ . وشركة الذمم أن يتعاقدا على أن يشتريا بلا مال أو بمال قليل ويتفقا على أن ما اشتراه كل منهما بالدين فربحه بينهما والضمان عليهما . قال في المدونة : هي باطلة لأن كل واحد منهما يقول لصاحبه تحمل عني نصف ما اشتريت وأتحمل عنك نصف ما اشتريت ، فهو ضمان بجعل إلا أن يجتمعا في شراء سلعة معينة حاضرة أو غائبة فتبايعاها بدين ، فيجوز ذلك إذا كانا حاضرين لأن العقدة وقعت عليهما جميعاً ، وإن ضمن أحدهما فقط عن صاحبه فذلك جائز اه . وقوله : إلا أن يجتمعا الخ . هو قول ( خ ) في الضمان إلا في اشتراء شيء بينهما أو بيعه كقرضهما على الأصح ( و ) إذا فسخت فما كان اشترياه معاً أو أحدهما ( يقسمان الربح ) الحاصل فيه والخسارة عليهما . وقوله : ( حكم ملتزم ) خبر عن قوله : وفسخها .
تنبيهات . الأول : قال اللخمي : فإن كان البائع عالماً بهذه الشركة ولم يعلم ما عقداه كان له أن يأخذ الحاضر منهما بجميع الثمن ، وإن لم يكن هو المتولي للشراء وإن كان عالماً بفسادها لم يكن له ذلك وأخذ هذا بنصف الثمن ولم يطالبه بما على صاحبه ، وإن لم يكن عالماً بالشركة . وإن كان الحاضر الموسر هو المتولي كان للبائع أن يأخذه بجميع الثمن لأنه دخل على أن المبايعة منه ولم يدخل معه على أنه وكيل لغيره في النصف الآخر ، وإن كان الحاضر الموسر هو الذي لم يتول الشراء أخذه بنصف الثمن لا أكثر لأن البائع لما لم يعلم بالشركة لم يدخل على حمالة هذا وكان له أن يأخذه بنصف الثمن لأنه ملك نصف سلعته .
الثاني : إذا قال رجل لآخر : اجلس في هذا الحانوت تبيع فيه وأنا أشتري المتاع بوجهي والضمان علي وعليك فإنه لا يجوز ، فإن وقع فالربح لهما على ما تعاملا عليه ويأخذ أحدهما منصاحبه أجرة ما يفضله به في العمل والضمان عليهما لأن الربح تابع للضمان ، فإن اشترط الضمان على الجالس وحده فالربح له وعليه كراء الحانوت ، وإن اشترط الضمان على ذي الحانوت فالربح له وعليه كراء الجالس قاله ابن رشد . وهذا لأنه لا يجوز فيها الدخول على التفاوت ( خ ) : وتفسد بشرط التفاوت وإن وقع فلكل أجر عمله للآخر وعلة فسادها به الخطر والقمار بوجود الربح فيغبن صاحب الكثير وبعدمه فيغبن صاحب القليل لذهاب عمله باطلاً كذا لابن شاس . وعلله ابن رشد بأن صاحب الكثير إنما سمح بفضله رجاء البقاء معه على الشركة ، وذلك لا يلزم صاحبه فكان غرراً اه .
قلت : وفي كلتا العلتين شيء لأنهما دخلا على تجويز وجود الربح وعدم وجوده وعلى أن صاحبه يبقى معه أو لا يبقى فصاحب الفضل وغيره مجوز لذلك كله ، وحينئذ فصاحب الفضل إن قصد الرفق بصاحبه كما هي عادة الناس جاز له ذلك كما مر في السلف ، ولا سيما على ما عليه الناس من عدم تقويم الأعمال التي يعملها كل منهما . وانظر ما يأتي في البيت بعده .
الثالث : بقي على الناظم من أقسام الشركة شركة الوجوه وشركة الجبر فالأولى هي كما قال ( خ ) : أن يبيع وجيه من التجار يرغب الناس في الشراء منه لاعتقادهم أنه لا يتجر إلا في الجيد من السلع مال خامل بجزء من ربحه وهي باطلة لأنها إجارة بمجهول وتسميتها شركة مجاز ، فإن وقعت فللوجيه جعل مثله ، والمشتري منه مخير على مقتضى الغش إن كانت السلعة قائمة وإن فاتت ففيها الأقل من الثمن والقيمة قاله ( ز ) .
قلت : ولولا ما في هذه الإجارة من الغش والتدليس لأمكن أن يقال بجوازها ابتداء على ما مرّ عن ابن سراج وغيره في باب الإجارة ، وأما إذا قال شخص لآخر دل على من يشتري مني سلعة كذا ولك كذا فإنه جائز لازم ، قاله في العتبية ما لم يكن على وجه التحيل بين الدال وبين بائعها فيأتي الدال بالمشتري ويوهم أنه حريص على شرائها ويظهر المكايسة وهو في الباطن على خلاف ذلك لتقدم الاتفاق منه مع بائعها على ذلك ، فإذا انصرف المشتري بالسلعة رجع الدال إلى البائع وأخذ منه الجعل فإن ذلك لا يجوز بإجماع بلا شك لأنه مكر وخديعة ، وهذا كثير وقوعه في هذا الزمان . وأما الثانية وهي شركة الجبر فهي جائزة بشروطها المشار لها بقول ( خ ) : وأجبر عليها أن اشترى شيئاً بسوقه إلا لكسفر أو قنية وغيره حاضر لم يتكلم من تجاره الخ . ولعل الناظم إنما تركهما لأن شركة الوجوه من قبيل الإجارة وشركة الجبر لا عقد فيها فتسميتها شركة إنما هو باعتبار المآل والله أعلم .
وَإن يَكُنْ في العَيْنِ ذَاكَ اعْتُمِدَا
تَجُزْ إنِ الْجِنْسُ هُنَاكَ اتَّخَذَا
( وإن يكن في العين ذاك ) الاشتراك فهو اسم يكن ، وفي العين متعلق بقوله ( اعتمدا ) والجملة خبرها وفي بمعنى الباء ( تجز ) بالجزم جواب الشرط وحذفت واوه لالتقاء الساكنين وفاعله ضمير الشركة ( إن الجنس ) من الذهب أو الفضة ( هناك اتحدا ) بأن كانت بفضة من الجانبينأو ذهب من الجانبين متفقين صرفاً ووزناً وجودة ورداءة كما لابن عرفة ، وسواء اتحدت سكتهما أم لا كهاشمية ودمشقية ومحمدية ويزيدية مع اتفاقهما فيما ذكر ، فإن اختلفا في واحد من الصرف وما معه لم يجز لدخولهما على التفاوت إلا أن يكون يسيراً على المشهور ، وظاهر النظم هنا وفيما يأتي أنه لا يشترط السلامة من التفاوت في الشركة حيث سلما من ربا الفضل والنساء في الطعام والعين ، وهو الموافق لما تقدم في المزارعة من أنه لا يشترط السلامة من التفاوت على المعمول به ، ويؤيده ما مر قريباً من أنه إذا قصد الرفق بالسلف في العقد جاز فالهبة والتفاوت في العمل كذلك ، وما ذاك إلا لكون الشركة بيع من البيوع كما تقدم في حد ابن عرفة : وهو يجوز فيه الغبن ، وهبة بعض الثمن أو بعض المثمن ، ومفهوم الشرط في النظم أنه إذا كان الذهب من جانب والفضة من الآخر أو ذهب وفضة من كل جانب لم تجز ، وهو كذلك في الأول لأنها شركة وصرف وهما لا يجتمعان كما مر صدر البيوع ، وأجاز ذلك أشهب وسحنون وقال : إنما يمنع الصرف معها إذا كان خارجاً عن ذاتها لا إن كان داخلاً في ذاتها كما هنا فيجوز ابن المواز وهو غلط . وما علمت من أجازه لأنه صرف لا يبين به صاحبه لبقاء يد كل منهما فإن وقع وعملا فلكل رأس ماله ويقتسمان الربح لكل عشرة من الدنانير دينار ، ولكل عشرة دراهم درهم والخسر كذلك قاله في المدونة ، وأما الثاني وهو ذهب وفضة من كل جانب فلا خلاف في الجواز قاله ابن عبد السلام وغيره . والمراد أن كلاً منهما أخرج من الذهب بقدر ذهب الآخر ومن الفضة كذلك ، وإلاَّ لم يجز لوجود الصرف المذكور ( خ ) : كاشتركنا بذهبين أو ورقين اتفق صرفهما أو بهما منهما الخ . ففي مفهوم الشرط تفصيل كما ترى .
وَبالطَّعَامِ جَازَ حَيْثُ اتَّفَقَا
وهوَ لمالِكٍ بِذَاكَ مُتَّقَى
( وبالطعام ) متعلق بقوله ( جاز ) أي وجاز الاشتراك بالطعام من كل جانب ( حيث اتفقا ) أي الطعامان جنساً وصفة وكيلاً وهو قول ابن القاسم قياساً منه على جوازها بالدنانير من الجانبين بجامع حصول المناجزة حكماً لا حساً ، فكما اغتفر هذا في الدنانير من الجانبين أو الدراهم كذلك يغتفر في الطعامين كذلك ، ومنعها مالك بالطعام مطلقاً وإليه أشار بقوله : ( وهو ) أي الاشتراك ( لمالك بذاك ) الطعام متفقاً جنساً وكيلاً أو مختلفاً ( متقى ) خبر عن الضمير ، والمجروران يتعلقان به واللام بمعنى ( عند ) كقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس } ( الإسراء : 78 ) وعلةالمنع عنده أنه يدخلها بيع الطعام قبل قبضه لأن كل واحد منهما باع نصف طعامه بنصف طعام صاحبه ولم يجعل قبض لبقاء يد كل واحد على ما باع ، فإذا باعا لأجنبي يكون كل واحد منهما بائعاً للطعام قبل قبضه لأنه حينئذ توالى عليه عقدتا بيع لم يتخللهما قبض قاله عبد الحق . ابن يونس : وهو الأصح ، وعليه درج ( ح ) إذ قال : لا بذهب من جانب وورق من الآخر وبطعامين ولو اتفقا ، وظاهر النظم أن الأول هو المعتمد عنده لتصديره به ويرشحه جوازها حتى عند مالك بطعام من جانب وعرض أو عين من الآخر مع أن علة بيع الطعام قبل قبضه موجودة فيه قاله أبو الحسن . ومفهوم قوله : حيث اتفقا أنه إذا اختلف الطعامان جنساً أو صفة لم تجز اتفاقاً من مالك وابن القاسم وهو كذلك ، وأجازها سحنون حيث اتفقا قيمة وكيلاً جرياً منه على مذهبه من جوازها بالدنانير من جانب والدراهم من الآخر .
تنبيهان . الأول : الشركة في الأجباح ممنوعة اتفاقاً لما فيها من العسل فيدخلها التفاضل قاله الغرناطي ، وكذا قسمتها لا تجوز إن كان فيها عسل وإلاَّ فتجوز ، وكان ابن عرفة يقول : إن العسل الذي يكفي النحل لا عبرة به مطلقاً .
الثاني : إذا فسدت الشركة بالطعامين فرأس مال كل منهما ما بيع به طعامه إذ هو في ضمانه حتى يباع ، ولو خلطاه قبل البيع جعلت رأس المال قيمة طعام كل واحد يوم خلطاه وبقدر ذلك يكون الربح والوضيعة قاله في المدونة .
وَجَازَ بالعَرْضِ إذَا مَا قُوِّما
مِنْ جِهَةٍ أَوْ جِهَتَيْنِ فاعْلَمَا
( وجاز ) الاشتراك ( بالعرض إذا ما ) زائدة ( قوما ) حال كونه ( من جهة ) فقط ويقابله من الأخرى عين أو طعام وبقدر قيمة العرض والطعام يكون العمل والربح والخسر ( أو ) بالعرض من ( جهتين فاعلما ) ورأس مال كل ما قوم به عرضه أو طعامه يوم أحضر الاشتراك به إن صحت شركتهما ، وإلا فلا تعتبر يوم الإحضار بل يوم البيع إذ كل لا زال على ملك ربه وفي ضمانه إلى يوم البيع فإذا قوم في الصحيحة أو بيع في الفاسدة عرض هذا بعشرين وعرض هذا أو طعامه بعشرة ، فالشركة بينهما على الثلث والثلثين وبقدر ذلك يكون العمل والربح والخسر ، وسواء دخلا على قيمة العرض في الصحيحة أو سكتا عنها فالعبرة بقيمته يوم الإحضار ، ولا تفسد الشركة بالسكوت عنها قاله في المعونة فإن لم يعرف ما بيع به في الفاسدة فتعتبر قيمته يوم البيع قاله ابن يونس . وقال في المتيطية : فإن تشاركا على التساوي وقبل التقويم فلما قوم سلعهما تفاضلت قيمتها فإن لم يعملا أخذ كل واحد سلعته وانفسخت الشركة وإن عملا بعد فوات سلعهما فرأس مال كل ما بيع به سلعه والربح والوضيعة بحسب ذلك ، ويرجع القليل منهما على الآخر بفضل عمله ولا ضمان عليه في فضل سلع صاحبه لأنه لم يقع بينهما في ذلك الفضل بيع أي شركة اه .كَذَا طَعَامُ جِهَةٍ لا يَمْتَنعْ
وَعَيْنٌ أَوْ عَرْضٌ لدَى الأُخْرَى وُضِعْ
( كذا طعام جهة لا يمتنع وعين أو عرض لدى الأخرى ) يتعلق بقوله : ( وضع ) أي لا يمتنع وضع طعام من جهة ووضع عين أو عرض من الأخرى ولم يقل وضعا بألف التثنية لأن العطف بأو وهو لا تجب فيه المطابقة . وهذا البيت تكرار مع قوله : وجاز بالعرض إذا ما قوما من جهة الخ ( خ ) : عاطفاً على الجواز وبعين وعرض وبعرضين مطلقاً وكل بالقيمة يوم أحضر لا فات الخ .
وَالمَالُ خَلْطُهُ وَوَضْعُهُ بِيَدْ
وَاحِدٍ أو في الاشْتِرَاكِ مُعْتَمَدْ
( والمال ) الذي أخرجه كل منهما ( خلطه ) مبتدأ ثان ( ووضعه ) عطف عليه ، والواو بمعنى ( أو ) وخبره معتمد آخر البيت والمعنى : أن خلط المالين حساً بحيث لا يتميز أحد المالين من الآخر ، أو حكماً بأن يوضعا معاً ( بيد واحد ) منهما أو واحد غيرهما ( أو ) وضعا معاً أيضاً ( في ) محل ( الاشتراك ) بينهما بأن يجعلاهما في بيت واحد ، وقفلا عليه بقفلين أخذ أحدهما مفتاح أحد القفلين وأخذ الآخر مفتاح الآخر ، وأحرى إذا كان قفلاً واحداً وبيد كل منهما مفتاحه ( معتمد ) أي شرط في حصول الضمان منهما ، فإذا خلطا حساً أو حكماً فالتالف منهما وإن لم يحصل خلط لا حساً ولا حكماً فالتالف من ربه وما اشترى بالسالم فبينهما على رب التالف نصف ثمنه ، فالخلط المذكور شرط في الضمان منهما كما قررنا لا في الصحيحة لأنها صحيحة مع توفر شروطها ولو لم يخلطا ولا في اللزوم لأنها لازمة بالقول ( خ ) : ولزمت بما يدل عرفاً من قول كاشتركنا أو بما يقوم مقامه من فعل كخلط المالين والعمل بهما ، ثم ذكر ما هو شرط في الضمان فقال : إن خلطا ولو حكماً وإلا فالتالف من ربه وما ابتيع بغيره فبينهما الخ . وتقدم قريباً أنها وإن كانت لازمة بالقول فكل منهما له بعد العمل الانحلال لا قبله فليس له ذلك إلا بتراضيهما وإلا لم تكن فائدة للزومها بالقول .
تنبيهات . الأول : علم من كون الشركة تنعقد بما يدل عرفاً أن العم أو الأخ إذا كان كلمنهما مع أولاد أخيه أو مع إخوته على مائدة واحدة يخدمون ويأكلون فهم كالمتفاوضين فما اشتراه أحدهم من أصول أو غيرها باسم نفسه يدخل معه غيره ، ويشاركه فيه على قدر عمله إن كان المال المشترى به نشأ عن أيديهم ، أو على قدر نصيبه في المال إن كان المشترى به مالاً موروثاً ونحو ذلك . وهذا إذا كانوا كلهم رشداء أو فيهم صغير يميز معنى الشركة ووقع منه ما يدل على الرضا بها ، إلا أنه يخير بعد رشده في إمضاء الشركة أو أخذ حظه من المال الواقع به الشراء ، وأما من لم يميز أصلاً فإنه لا حق له في المشتري وإنما له واجبه من الثمن المشترى به إلا أن يكون المشتري أدخله معه في شرائه ، فإنه يخير بعد رشده في قبول ذلك أو أخذ واجبه من المال ، وذلك لأن الشركة عقد لا يصح إلا من أهل التوكيل والتوكل ، والذي لم يميز لم يقع منه عقد ولا ما يدل عليه قاله سيدي أحمد بن عبد الوهاب حسبما نقله العلمي . ووجهه ظاهر خلاف ما في المعيار عن التازغدري آخر الوصايا منه من أن القول قوله في شراء الأملاك لنفسه بماله الخاص به ، ونحوه في نوازل الدعاوى منه ، ثم ما تقدم من أن الشركة تكون فيما نشأ عن أيديهم على قدر أعمالهم هو الصواب خلافاً لمن أطلق في ذلك ، إذ ليس القوي كالضعيف ولا الصانع كغيره ولا خدمة المرأة كالذكر ولا من يرد أوقية كمن يرد ثمنها قاله سيدي أحمد الزواوي ونقله شارح العمل عند قوله : وخدمة النساء في البوادي الخ . وهذا في المال الحاصل بمجرد تكسبهم وعمل أبدانهم ، وأما إن كان أصل المال الذي بين أيديهم مملوكاً لأحدهم فقط ولكنه نما بخدمتهم وقيامهم عليه ، فإن النماء لمالك الأصل وعليه أجرة المثل لمن عداه اه . وكذا الولد يقوم مع أبيه سنين بعد بلوغه إلى أن زوَّجه ، وكان في هذه المدة يتولى الحرث والحصاد وخدمة الأملاك بنفسه ، ثم افترق منه وأراد مقاسمته في الأملاك فليس له شيء فيها ، وإنما له أجر عمله ويحاسبه أبوه بنفقته وكسوته وبما زوَّجه قاله الجلالي يعني : وكذا يحاسب غير المتزوج من الأخوة المتزوج منهم بنفقة زوجته وصداقها كما قال ( خ ) : وإلا حسبا كانفرادهما به أي بالإنفاق والزوجة .
الثاني : إذا كان الابن يقوم بأمور أبيه ثم مات الأب فاستظهر الابن برسوم أملاك اشتراها باسم نفسه إن أثبت أنه كان له مال ، وأن أباه كان سلم له فيها فهي له ، وإن أثبت أنه كان له مال فقط فهي له إن حلف ، وإن لم يثبت واحد منهما فالجميع ميراث قاله سيدي يحيى وسيدي راشد .
قلت : وما ذاك إلا لكون الابن لما كان يقوم بأمور أبيه فهو كالوكيل عنه بالعادة فلذلك إذا لم يكن للابن مال كان الجميع ميراثاً .
الثالث : سئل سيدي إبراهيم بن هلال عن أخوين متفاوضين وكان أحدهما مشارطاً على الإمامة ثم أراد قسمة مالهما فأراد المشارط أن يستبد بجميع ما استفاده من الشرط ؟ فأجاب : مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها في المفاوض يؤاجر نفسه في شيء أنه يختص به ولا يدخل معه شريكه ، وقال أشهب وأصبغ وابن حبيب : لا يستبد به بل يكون بينهما ، ورأوا أن كل واحد منهما ملك منافع صاحبه بالتفاوض ، ولم يرد ذلك ابن القاسم ولا محيد عن قوله ومذهبه ، وسيأتي قول الناظم : ومن له تحرف إن عمله الخ . قال : وإذا تقرر ذلك فهل لأخيه أجر عمله في غير ذلك مما عمله وفضله به من العمل أم لا ؟ صرح ابن القاسم في الموازية أنه ليس له عليهذلك . وقال أصبغ : إذا حلف أنه لم يتطوع بالعمل رجع عليه بقدر ما باشر وعمل مفاوضة حين شغل نفسه بما آجرها فيه . قال بعض القرويين : لأنه تطوع له بالعمل ظناً منه أنه يعمل في المال مثل ما عمل ، فإذا شغل منافعه فيما انتفع به رجع عليه صاحبه بما عمله عنه . قال هذا القروي المذكور : وما قاله ابن القاسم إنما هو فيما إذا قصد أن لا يرجع بما عمل وإلاَّ وجب له الرجوع اه . بلفظه . وقال الجلالي : إذا غاب أحد الأخوين للقراءة أو الحج فقدم وقد وجد أخاه قد زاد أملاكاً على ما ترك عنده ، فإنه يشاركه في جميعها حيث غاب وليس لهما من المال إلا ما هما مشتركان فيه وليس لأحدهما مال يختص به اه .
قلت : ولا يخفى أنه يرجع الحاضر عليه بأجرة عمله لما تقدم في الكلية المذكورة عند قوله في الإجارة : والقول للعامل حيث يختلف الخ . ولا يخرج عن ذلك إلا ما علم أنه للصلة حسبما تقدم آخر بيع الفضولي .
وَحَيْثُما يَشْتَرِكانِ في الْعَمَلْ
فَشَرْطُهُ اتَّحَادُ شُغْلٍ وَمَحَلْ
( وحيثما يشتركان في العمل ) فقط ( فشرطه ) أي الاشتراك المذكور ( اتحاد شغل ) أو تلازمه ، فالأول كخياطين أو حدادين أو نجارين أو صيادين ، والثاني ككون أحدهما ينسج والآخر يدور أو يحول ، أو أحدهما يغوص لطلب اللؤلؤ والآخر يمسك ويقذف عليه ، فإن لم يتحد شغلهما ولا تلازم كخياط ونجار لم يجز لأنه قد تكسد صنعة أحدهما فيأخذ مال صاحبه بغير حق . ( و ) شرطه أيضاً اتحاد ( محل ) أو تقاربه أيضاً ، فلو كان أحدهما يخيط في محل والآخر يخيط في محل آخر ، فإن تقاربت أسواقهما ومنافعهما أو كانت يد أحدهما تجول في المحلين لقربهما جازت شركتهما ، وإلا امتنعت لأنه قد ينفق أحد المكانين دون الآخر فيأخذ غيره ماله بغير حق وظاهره أنه لا يشترط التساوي في العمل بل يجوز ، ولو كانت قيمة عمل أحدهما الثلثين وقيمة عمل الآخر الثلث ودخلا على أن ما يحصل بينهما نصفان ، وهو كذلك على قول من لا يشترط السلامة من التفاوت في الشركة كما مرَّ عند قوله : وإن يكن في العين ذاك اعتمدا الخ . وعليه تخرج شركة العدول إذ كثيراً ما يكتب أحدهما العقد ولا يعمل فيه غيره إلا الشهادة لعدم معرفته بكيفية تركيب فصول الوثيقة ، وكذا شركة الطلبة في طلب الأسعار يذهب كل واحد منهما لأندر أو طلب المعروف من الدور ، وانظر نوازل الشركة من نوازلنا فإن أبا زيد الفاسي قال : كل ما جرى في المزارعة يجري في الشركة ، وأما على المشهور من اشتراط عدم التفاوت فلا يجوز إلا إذا كان كل واحد يأخذ مما يحصل بقدر قيمة عمله ، وعليه درج ( خ ) حيث قال : وجازت بالعمل إن اتحدا أو تلازما وتساويا فيه أو تقاربا وحصل التعاون وإن بمكانين الخ . وقال قبل ذلك : وتفسد بشرط التفاوت وإن وقع فلكل أجر عمله للآخر الخ . وقولي في العمل فقط إشارة إلى أنه يشترط اتحادالشغل والمكان إذا اشتركا في صنعة أيديهما من غير احتياج لمال يخرجانه ، أو كانا محتاجين لذلك . والمقصود عندهما الصنعة لا ما يخرجانه من المال ، وأما لو كانت صنعة أيديهما تبعاً والمقصود هو التجر كما لو أخرجا مالاً متساوياً ليعمل به هذا في صنعة كذا وهذا في صنعة كذا ، فإن ذلك جائز من غير اشتراط اتحاد شغل ولا محل .
تنبيه : زاد الغرناطي اتحاد صنعتيهما في الجودة فقال : وشركة الأبدان تجوز بخمسة شروط ، أن تكون الصنعة واحدة وحركتهما في السرعة والإبطاء واحدة وكذلك الجودة والدناءة واحدة أو متقاربة ويعملان في موضع واحد والآلة بينهما على السواء اه . اللخمي : وإن تباينت صنعتاهما بالجودة والدناءة وكان أكثر ما يصنعانه ويستعملان فيه الأدنى جازت الشركة لأن الأعلى يعمل الأدنى ولا حكم للقليل ، وإن كان أكثر ما يدخل إليهما ما يعمله الأعلى أو كان كل واحد منهما كثيراً لم تجز للغرر والتفاضل اه .
قلت : وهذه الشروط قلما تجدها متوفرة في هذا الزمان ، وغالب عقود شركة الناس اليوم الفساد لأنهم لا يقومون عملاً ولا غيره ، اللهم إلا أن يقال : يغتفر لهم الدخول على التفاوت على نحو ما تقدم في المزارعة كما تقدمت الإشارة إليه .
وَحَاضِرٌ يَأْخُذُ فَائِداً عَرَض
في غَيْبَةٍ فَوْقَ الثَّلاَثِ أَوْ مَرَضْ
( وحاضر يأخذ فائداً عرض ) وحصل له ذلك الفائد ( في غيبة ) صاحب غيبة ( فوق ثلاث أو مرض ) فوق ثلاث أيضاً كالعشرة أيام وما قاربها ، ومفهوم فوق ثلاث أن الثلاثة وما قاربها تلغى ولا يحاسب الحاضر أو الصحيح الغائب أو المريض بها ، فالقريب اليومان والثلاثة والبعيد العشرة وما بينهما من الوسائط يرد ما قارب القريب إلى القرب وما قارب البعيد إلى البعد قال أبو الحسن . وظاهر النظم أن الحاضر والصحيح يأخذان أجرة ما انفردا بعمله في الغيبة والمرض البعيدين ولا يرجع عليهما الغائب والمريض بشيء ، وهو كذلك على ما لابن يونس وابن سلمون وهو ظاهر ( خ ) حيث قال : وأتى مرض كيومين أو غيبتهما لا إن كثر الخ . ولكن الراجح أن للغائب والمريض أن يرجعا على الحاضر ، والصحيح بحصتهما في الربح الزائد على أجر عمل مثله كما لو قبضا ثوباً مثلاً للخياطة بعشرة وغاب أحدهما أو مرض كثيراً فخاطه الآخر ، فإذاقيل : أجر مثل هذه الخياطة أربعة أخذها وتبقى ستة يرجع عليه المريض أو الغائب بحصته منها ، وهو ثلاثة حيث كانت الشركة على النصف فإن لم يفضل شيء عن أجر مثله فلا يرجع عليه بشيء ، وهذا إذا قبضا الثوب معاً ثم مرض أحدهما أو غاب كثيراً ومثله إذا قبله أحدهما مع وجود الآخر أو في مرضه أو غيبته القريبين أما ما قبله أحدهما بعد طول غيبة الآخر أو مرضه فهي له ولا يرجع عليه بشيء لأن الضمان منه وحده كما في ابن يونس : فإن شرطا إلغاء الطول فسدت . والحاصل أن شريكي الصنعة إذا غاب أحدهما أو مرض يومين أو ثلاثة وما قاربها على ما مر ، فالفائد بينهما ولا شيء للحاضر أو الصحيح على الغائب والمريض ، وسواء مرض بعد أخذهما العمل أو أخذه الصحيح بعد مرضه ، وأما إن قبضه الحاضر الصحيح بعد طول مرضه أو غيبته فهو للعامل مطلقاً لأنه لا ضمان بينهما ، وأما إن غاب أو مرض بعد أخذ المال أكثر من ثلاثة وما قاربها فالفائد بينهما ويرجع الحاضر الصحيح على شريكه بأجر مثله كما مرّ ، وهل تلغى اليومان من العشرة أو لا ؟ الراجح عدم الإلغاء ، وهذا في الصحيحة ، وأما في الفاسدة باشتراط إلغاء الطول فمن عمل شيئاً يختص به وإن كان الفساد بغير ما ذكر فالرجوع على من لم يعمل مطلقاً والفائد بينهما ، وكذلك في شركة الأموال فالرجوع بالطويل وغيره صح من شرح ابن رحال . وهذا كله في الشركاء في العمل من صبغ وخياطة ونحوهما ، وأما الأجراء فليس حكمهم كذلك ، فإذا استأجر أجيرين لحفر بئر مثلاً فمرض أحدهما وعمل الآخر جميع العمل فللآخر نصيبه وليس للعامل شيء عليه لأنه متطوع بالعمل عنه قاله في المدونة . وهذا في غير المستأجرين مياومة وإلاَّ فلا يشارك غائب أو مريض غيره مطلقاً لأنه بمضي اليوم انقطعت إجارة المريض ونحوه .
وَمَنْ له تَحَرُّفٌ إنْ عَمِلَه
في غَيْرِ وَقْتٍ تَجْرِهِ الفَائِدُ لَهْ
( ومن له ) من الشريكين مفاوضة ( تحرف ) أي صنعة ( إن عمله ) أي التحرف ( في غير وقت تجره ) كليل أو زمان لا يشتغلان فيه بالتجارة ف ( الفائد ) أي ما حصله من الأجرة ( له ) يستبد به ( خ ) : واستبد آخذ قراض أو متجر بوديعة بالربح والخسر الخ . يعني إذا كان لا يشغله عن العمل في الشركة ، ومفهوم في غير وقت تجر أنه إذا عمله في وقت تجر فإن صاحبه يرجع عليه بأجرة ما عمله عنه كما مرَّ في التنبيه الثالث ، وانظر كلام اللخمي عند قول الشامل : واختف آخذ قراض الخ .
فرع : قال في الذخيرة : إذا كانا شريكين في حيوان مثلاً بميراث أو غيره لا يجوز لأحدهما أن يتصرف إلا بإذن شريكه فلو باع نصيبه وسلم الجميع للمشتري بغير إذن شريكه كان ضامناًعلى مقتضى القواعد ، وبه أفتى شيوخنا من الشافعية لأن أحسن أحواله أن يكون كالمودع في الأمانة ، وهذا إذا وضع يد الأجنبي يضمن لتعديه . فإن قيل : يلزم عدم صحة البيع لعدم قدرته على التسليم . قلنا : إن كان شريكه حاضراً سلم المبيع له وتقع الخصومة بينه وبين المشتري ، أو غائباً رفع أمره إلى الحاكم يأذن له في البيع ووضع مال الغائب تحت يده اه .
قلت : قوله : وتقع الخصومة الخ . يعني في ذلك الحيوان عند من يكون ومن يقوم به ، وليس المراد أن الذي لم يبع ينكر نصيب البائع حتى يكون من بيع ما فيه خصومة وهو ممنوع على المشهور كما فهمه الشيخ سالم ، وفي معاوضات المعيار : من باع نصف فرسه لرجل وسافر المشتري عليها فعطبت فهو ضامن لنصف شريكه إلا أن يسافر عليها بإذنه أو جرت العادة بينهما أن يسافر مثل ذلك السفر فلا ضمان اه .
فصل في القراضبكسر القاف مأخوذ من القرض وهو ما يجازى عليه الرجل من خير أو شر ، لأن المتقارضين قصد كل واحد منهما إلى منفعة الآخر فهو مقارضة من الجانبين ، وقيل : من القرض وهو القطع لأن رب المال قطع من ماله قطعة دفعها للعامل بجزء من الربح الحاصل بسعيه ، وأهل العراق يسمونه مضاربة من قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض } ( المزمل : 20 ) ابن عرفة : وهو تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ إجارة فيدخل بعض الفاسد كالقراض بالدين والوديعة ويخرج عنه قولها : من أعطى رجلاً مالاً يعمل به على أن الربح للعامل ولا ضمان على العامل لا بأس به اه . ومراده بالتمكن الإذن لا الإعطاء بالفعل وإلاَّ لم يشمل القراض بالدين ، وأخرج بقوله : بجزء من ربحه الأبضاع والإجارة ، وكذا الشركة لأن الربح في الشركة نشأ عن المالين فلم يأخذ كل منهما إلا ربح ماله . وقوله : لا بلفظ إجارة أخرج به ما إذا قال : آجرتك على التجر في هذا المال بجزء من ربحه فإنه لا ينعقد بذلك فإن عمل فيجري على الإجارة الفاسدة ، ويفهم من قوله : ولا ضمان على العامل الخ . أنه إذا لم ينف الضمان عنه ولم يسمه قراضاً فإن الضمان يكون على العامل وهو كذلك ( خ ) : وضمنه في الربح له إن لم ينفه ولم يسم قراضاً الخ . وقريب من هذا التعريف قول الناظم :
إعْطَاءُ مالِ مَنْ بِهِ يُتَاجِرُ
لِيَسْتَفِيدَ دَافِعٌ وَتَاجِرُ
( إعطاء مال ) من إضافة المصدر لمفعوله الثاني وكمل بالأول الذي هو قوله ( من به يتاجر ) واللام في ( ليستفيد ) لام كي التعليلية ( دافع ) فاعل ( وتاجر ) عطف عليه .مِمَّا يُفَادُ فيه جُزْءاً يُعْلَمُ
هُو القِرَاضُ وَبِفعْلٍ يَلْزَمُ
( مما ) متعلق بيستفيد وما واقعة على الربح ( يفاد ) بمعنى يحصل صلة ما أو صفة ( فيه ) متعلق بيفاد ( جزءاً ) مفعوله يستفيد ( يعلم ) صفة له ( هو القراض ) مبتدأ وخبر والجملة خبر إعطاء ، والتقدير : إعطاء مال لمن يتجر به لأجل أن يستفيد ربه والعامل من ربح يحصل فيه جزءاً معلوماً كنصف لكل منهما أو ربع للعامل والباقي لربه ، ونحو ذلك من الأجزاء هو المسمى بالقراض اصطلاحاً ، ولك أن تقول : هو إعطاء مال لمن يتجر به ليستفيد كل من ربحه جزءاً معلوماً وأقرب منه وأخصر لو قال :
توكيل في تجر بجزء علما
من ربحه هو القراض فاعلما
وأشار بقوله : ( وبفعل يلزم ) إلى أنه من العقود الجائزة التي تلزم بالشروع في العمل لا قبل الشروع فيه بسفر أو إنفاق للمال فلكل منهما فسخه ( خ ) : ولكل فسخه قبل عمله وإن تزود لسفر إن لم يظعن وإلا فلنضوضه . ولما كان قوله إعطاء مال شاملاً للعروض وللعين الغائبة والجزاف نبه على أن القراض لا يجوز بشيء من ذلك فقال :
وَالنَّقْدُ وَالحُضُورُ وَالتَّعْيِينُ
مِنْ شَرْطِهِ وَيُمْنَعُ التَّضْمِينُ
( والنقد ) أي الذهب والفضة مسكوكين ، ومثل المسكوك التبر الذي يتعامل به فإن كان لا يتعامل به ووقع ونزل ودفع التبر قراضاً مضى بالعمل ويرد مثله عند المفاصلة إن عرف وزنه وإلاَّ فيرد ما بيع أو ما خرج في ضربه ( والحضور ) أي كون النقد حاضراً عند العقد ( والتعيين ) لعدده أو وزنه إن تعامل به وزناً ( من شرطه ) أي القراض راجع للأمور الثلاثة ، واحترز بالنقد من القراض بالعروض والطعام فإنه لا يجوز فإن وقع فله أجر بيعه وقراض مثله في ربحه ، ومثل العروض الفلوس إلا أن يكون التعامل بها كالنقد ولا يتغير سعرها غالباً كما عندنا اليوم فيجوز وبالحضور من القراض بالدين فإنه لا يجوز سواء كان الدين على العامل فقال : اعمل بالدين الذي لي في ذمتك قراضاً أو كان على غيره كقوله : أقبض الدين الذي لي على فلان واعمل به قراضاً ، فإن وقع ففي الوجه الأول يستمر ديناً عليه والربح له والخسارة عليه ، وفي الوجه الثاني يكون له أجر مثله في قبضه وقراض مثله في ربحه ، وبالتعيين من الجزاف كما لو دفع له صرة من الذهب أو الفضة قراضاً فإنه لا يجوز لأن الجهل بالمال يؤدي إلى الجهل بالربح ، وهذا يغني عنه قوله فيما مر جزءاً يعلم الخ : فإن وقع فانظر هل يصدق العامل في عدده أو وزنه ويكون له قراض مثله في ربحه كمن قال : اعمل بهذا المال الذي عدده كذا ولك جزء من ربحه ، وهو الظاهر لأن العامل أمين أو لا يصدق في عدده ولا وزنه لأنه يتهم على أن يجلب بذلك نفعاً لنفسه في كثرة الربح . ( ويمنع التضمين ) أي : لا يجوز أن يشترط في العقد على العامل ضمانرأس المال إذا تلف أو خسر ، أو أنه غير مصدق إن ادعى ضياعه أو تلفه ، فإن وقع فالشرط باطل . وقوله مقبول في التلف والخسر . ابن القاسم : ويكون فيه على قراض المثل ، ومثل الشرط ما إذا طاع العامل بالضمان قبل أن يشرع لأن العقد غير لازم فهو كاشتراطه في العقد ، فإن طاع بعد الشروع في العمل ففي لزوم غرمه وعدمه قولان لابن عتاب وغيره ، ونظمها في اللامية فقال : وطوع بغرم في قراض نعم ولا . ابن رحال : ويظهر من إيضاح المسالك رجحان عدم اللزوم اه .
قلت : بل هو المتعين لأنه هدية مديان كما يقتضيه قول ( خ ) في القراض وحرم هدية لم يتقدم مثلها كرب القراض وعامله ولو بعد شغل المال على الأرجح .
وَلاَ يَسُوغُ جَعْلُهُ إلى أَجَلْ
وَفَسْخُهُ مُسْتَوْجبٌ إذَا نَزَلْ
( ولا يسوغ جعله ) أي القراض ( إلى أجل ) كقوله : اعمل به سنة من الآن ولا تعمل به بعدها ، أو إن جاء رأس الشهر أو السنة الفلانية فاعمل به فإن وقع فله قراض مثله ، وأما إن قال له : لا تعمل به إلا في الصيف أو الشتاء أو موسم العيد ونحو ذلك فهو وإن كان فاسداً أيضاً لكن الراجح أن فيه أجرة المثل . والفرق أن أجرة المثل في الذمة وقراض المثل في الربح كما يأتي . ( وفسخه ) أي ما ذكر من التضمين والأجل وعدم الحضور والنقد والتعيين ( مستوجب ) بفتح الجيم ( إذا ) وقع و ( نزل ) شيء من ذلك كما مَّر .
تنبيهات . الأول : قال اللخمي : ما أفسده الشرط تفسده العادة يعني لأنها كالشرط فلو أخذ القراض من عادته السفر وليس شأنه التجر في المقام فاشترى ما يجلس به للتجارة لكان متعدياً ، وكذلك إذا أخذ المال بزاز صاحب دكان فاشترى غير صنعته وما لا يخزن لكان متعدياً . انظر ما بقي من نحو هذه المسائل في شرحنا للشامل عند قوله أو قال لا تعامل إلا فلاناً الخ .
الثاني : تقدم أنه إذا قال له : إن جاء الشهر الفلاني فاعمل فهو فاسد ومثله إذا قال : إن وصلت البلد الفلاني فاعمل به ( خ ) : أو لا يشتري إلى بلد كذا الخ . وفي المتيطية : إن شرط عليه التجر في بلد معين فإن كان حيث عين القراض وكان لا يعدم فيها التجر لعظم البلد فذلك جائز وإلاَّ فالمنع ، فإن شرط عليه الخروج لبلد يتجر فيه فيجوز أيضاً فإن شرط عليه هل السلع من بلده إلى بلد آخر للبيع هناك أو يجلبها منه فيبيعها ببلده فلابن القاسم عن مالك المنع وقاله ابن حبيب . وروى أصبغ عن ابن القاسم في العتبية الجواز وقاله ابن الماجشون اه .
قلت : وعلى رواية أصبغ عمل عامة الناس اليوم ولا يردهم عن ذلك راد فلا يشوش عليهم بمذهب مالك في المدونة ، وقد استظهر ابن رحال رواية أصبغ المذكورة واحتج لها بما يطول ذكره .الثالث : قال في المدونة : وإن نهيته عن شراء سلعة فالربح بينهما والخسارة عليه وحده لأنه فر بالمال من القراض حين تعدى ليكون له ربحه ، وكذلك إن تسلف من المال ما ابتاع به سلعة لنفسه ضمن ما خسر وما ربح كان بينهما اه . ويفهم من قوله : لأنه فرَّ بالمال الخ . أن من نهاه عن التجر في بلد معين فتجر فيه فالربح بينهما والخسارة عليه ويبقى النظر فيما إذا سمى له بلداً وسكت عن غيرها فذهب العامل إلى غيرها فهل مجرد التسمية نهي عن الغير وهو ما يقتضيه قول الجوهري في باب الوكالة لو قال للوكيل : بع من زيد فلا يبع من غيره لأن القراض توكيل أو لا يكون ذلك نهياً عن الغير كما قالوا فيمن اكترى أرضاً ليزرع فيها صنفاً سماه فله أن يزرع فيها غيره مما هو مثله أو دونه لا أضر منه ، وكما قالوا أيضاً فيمن اكترى دابة ليحمل عليها شيئاً سماه فله أن يحمل مثله ودونه وبه كنت أفتيت .
الرابع : قال ابن عرفة في الوكالة : إن تأخير سلعة القراض لما يرجى لها من السوق واجب فإن باع قبله ضمن لأن مخصصات الموكل معتبرة اه . وهو معنى قول ( خ ) : هناك تخصص وتقيد بالعرف الخ .
الخامس : إذا اختلفا في تعجيل بيع السلعة وتأخيرها فإنه يعتبر معتاد وقت بيع تلك السلعة في ذلك البلد كما في المدونة ( خ ) : وإن استنضه فالحاكم الخ . وتقدم نحو هذا في الشريكين .
وَلاَ يَجُوزْ شَرْطُ شَيْءٍ يُنْفَرَدْ
بِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَإنْ يَقَعْ يُرَدْ
( ولا يجوز ) لأحد المتقارضين ( شرط شيء ) لنفسه ( ينفرد به ) ويختص كدرهم ونحوه ( من الربح ) والباقي بينهما لأنه قد لا يحصل في الربح إلا ذلك الدرهم المشترط فيذهب عمل العامل باطلاً ( وإن يقع ) ذلك الشرط فإن القراض ( يرد ) ويفسخ ويكون للعامل بعد العمل أجر مثله والربح لرب المال والنقصان عليه ، ومثله ما إذا قلت له : بع سلعتي فما بعتها به من شيء فهو بيني وبينك ، أو قلت له فما زاد على مائة فهو بيننا فذلك كله لا يجوز والثمن لك وله أجر مثله . قال ابن غازي في التكميل : ومن معنى المسألة الثانية تقوم ثمرة الحائط على المساقي أو غيره بمائة مثلاً ويقول له : بعه وما زاد على القيمة فبيننا مناصفة أو أرباعاً ونحو ذلك ، فإن ذلك لا يجوز وللعامل أجر مثله اه . وهذه تقع كثيراً في زيتون بلدنا فاس وعنبها وهذا بخلاف ما إذا قال : جذ نخلي أو انفض زيتوني ولك نصفه فإنه جائز كما تقدم في الجعل والإجارة ، وظاهر النظم عدم الجواز . ولو كان المشترط معلوم الجزئية كقوله : لي دينار من كل عشرة من الربح والباقي بيننا نصفان مثلاً وليس كذلك لأنه يؤول الأمر في هذا المثال ونحوه إلى أن يكون للمشترط من الربح قل أو أكثر خمسة أجزاء ونصف وللعامل أربعة أجزاء ونصف قاله ابن شاس وغيره . ولا مفهوم لقوله من الربح بل شرط الانفراد بشيء من غيره كذلك ابن المواز . قال مالك وأصحابه : لا يجوز مع القراض شرط سلف ولا بيع ولا كراء ولا شرط قضاء حاجة ولا كتابصحيفة ولا شرط أحدهما لنفسه شيئاً خالصاً ، ولا أن يولى العامل شيئاً ولا أن يكافىء في ذلك ، فإن نزل هذا كله فالعامل أجير إلا أن يسقط الشرط قبل العمل اه . وقد ذكر الناظم من شروط القراض ثلاثة : النقد والحضور والتعيين ، ومن الموانع ثلاثة : الضمان والأجل واشتراط شيء ينفرد به أحدهما والشرط ما يطلب وجوده والمانع ما يطلب عدمه ، وقد بقي عليه شروط أخر وموانع أخر انظرها في ( خ ) وغيره .
وَالقَوْلُ قَوْلُ عَامِلٍ إنْ يُخْتَلَفْ
في جُزْءِ القِراضِ أَوْ حَالِ التَّلَفْ
( والقول قول عامل أن يختلف ) بالبناء للمجهول ( في جزء القراض ) بعد العمل كما لو قال : وهو عندي بنصف الربح . وقال الآخر : بالثلث لشروط أحدهما : إن يشبه أشبه الآخر أم لا . ثانيها : أن يكون المال كله أو ربحه فقط أو الحصة التي يدعيها منه بيده أو يد نائبه أو وديعة عند أجنبي أو عند ربه بأن دفعه له على وجه الإيداع حتى يقتسماه وصدقه ربه أو قامت بذلك بينة . ثالثها : أن يحلف على ما يدعيه ( خ ) : والقول للعامل في جزء الربح إن ادعى مشبهاً والمال بيده أو وديعة وإن عند ربه وحلف ولربه إن ادعى الأشبه فقط الخ . فإن لم يشبها حلفا معاً ووجب قراض المثل . ( أو ) يختلف في ( حال التلف ) فإذا ادعاه العامل وادعى ربه عدمه فالقول للعامل اتفاقاً بيمينه لأن ربه رضيه أميناً ولو لم يكن أميناً في الواقع ، وسواء ادعاه قبل الشغل أو بعده ما لم يظهر كذبه كدعواه التلف يوم كذا فتشهد البينة أنه ريء عنده بعد ذلك أو دعواه التلف وهو في رفقة لا يخفى ذلك فيها فسئل عن ذلك أهل الرفقة فلم يعلم ذلك أحد منهم . وفي البرزلي سئل ابن الضابط عن مقارض ادعى ضياع صرة كانت وسط صرر ولم يضع سواها ؟ فأجاب : بالضمان لتبين كذبه بدعواه ضياعها دون غيرها مما معها ، فتأمله فإن السارق قد يختطف ما تيسر له أخذه أو تسقط ونحو ذلك .
كَذَاكَ في ادِّعَائِهِ الخَسَارَهْ
وَكَوْنِهِ قِرَاضاً أوْ إجَارَهْ
( كذا في ادعائه الخسارة ) ما لم يظهر كذبه أيضاً كأن يدعي الخسارة في سلعة لم يعلم ذلك فيها لشهرة سعرها ونحو ذلك فأنه ضامن . ونقل ابن عبد السلام عن البادي أن العامل إذا لم يبين وجه الخسارة في القراض فهو ضامن اه . انظر شرح الشامل . ولا فرق في كون القول للعامل في التلف والخسر بين القراض الصحيح والفاسد كما في شراح ( خ ) وفي المتيطية : إذا سئل العامل عن القراض فقال هو وافر وفيه ربح فلما دعاه إلى القسمة ادعى الخسارة وأن ذلك من قوله ، إنما كان لعلة أن يتركه عنده حتى يسعى في جبره لم يقبل قوله وهو ضامن ما لم تقم بينة أو دليل على ما قال . ( و ) القول للعامل أيضاً في ( كونه ) أي المال ( قراضاً ) وقال ربه : لكثرةربحه بضاعة بأجر ( أو ) قال العامل ( إجاره ) أي بضاعة بأجر لفقد الربح ، وقال ربه : قراض وهذا إذا أشبه وحلف وكان التنازع بعد العمل انظر شرح المتن ، وأما إن ادعى رب المال أنه قرض وقال العامل : بل قراض أو وديعة فإن القول لرب المال بيمينه مطلقاً اختلفا قبل العمل أو بعده لأن العامل مقر بوضع يده الذي هو سبب الضمان مدع لدفع ذلك السبب ، وكذا إذا قال رب الطعام لقابضه : بعته لك بثمن لأجل ، وقال قابضه : بل أسلفته لي فالقول لمدعي السلف قاله ابن رشد ونقله الفشتالي وغيره . وكذا لو قال : أشهدكم بأنى أبرأت فلاناً من المائة دينار التي لي عليه ، فلما لقي الشهود فلاناً وأخبروه بالإبراء المذكورة قال لهم : كذب ما كان له عليه شيء وإنما أسلفته المائة التي ذكرها ، فالقول للمسلف مع يمينه عند ابن القاسم قاله في المفيد . ابن سهل : وإن ادعى ورثة على رجل أن موروثهم باع من المدعى عليه سلعة وبقي ثمنها عنده وقال المطلوب : لم أشترها منه وإنما أنا دلال أبيع للناس فبعتها بثمن دفعته إليه وأخذت أجرتي ، فإن القول للورثة عند أكثر الأصحاب كمسألة دعوى القراض والآخر القرض وهو الصواب اه . ابن يونس : وإن قال العامل : خسرت في البز فادعى رب المال أنه نهاه عنه ، فالقول للعامل إنه لم ينهه بخلاف لو استدان فادعى أن رب المال أمره بذلك فإن القول لرب المال إنه لم يأمره به .
تنبيه : القول للعامل أيضاً في دعوى رد القراض لربه إن قبضه بلا بينة مقصودة للتوثق . ( خ ) : والقول للعامل في تلفه وخسره ورده إن قبض بلا بينة الخ . والمقصودة للتوثق هي التي أشهدها الدافع والقابض على الدفع والقبض معاً سواء علم العامل وفهم أن رب المال قصد بهذا الإشهاد خوف دعوى الرد أم لا . فلو أشهدها القابض على نفسه بالقبض بغير حضور رب المال ، وأشهدها رب المال مقراً بأن الإشهاد لا لخوف الجحود ودعوى الرد بل لخوف إنكار الورثة العامل إن مات أو حضرت البينة على سبيل الإتفاق ، ولم يقل لها القابض والدافع : اشهدوا علينا فذلك كله كالقبض بلا بينة فيصدق في الرد فيه كما أفصح عن ذلك ( ز ) في شرحه للنص المتقدم ، وبه قرار الخرشي وغيره قوله في الشركة : ولمقيم بينة بأخذ مائة إن أشهد بها عند الأخذ الخ . ومما يوضح ذلك قول البرزلي ما نصه : وما يفعله الناس اليوم إذا أعطاه قراضاً أو بضاعة يأتون إلى العدول ويكتبون رسماً بذلك هي البينة المقصودة للتوثق اه . واحترز بالمقصودة للتوثق من البينة الحاضرة على وجه الاتفاق . قال ابن يونس : ومن أخذ الوديعة بمحضر قوم ولم يقصد إشهادهم عليه فهو كقبضه بلا بينة حتى يقصد الإشهاد عليه اه . وبهذا كله تعلم أن ما في ( ح ) وابن رحال في باب الوديعة من اشتراط حكم المودع عنده وفهمه عند الإشهاد أنه لا تقبل دعواه الرد إلا ببينة ، فحينئذ تكون مقصودة للتوثق خلاف النقل كما في ( ق ) وغيره . وقد أوضحناه في شرح الشامل فانظره . وقولي : مقراً بأن الإشهاد الخ . احترازاً مما إذا سكتعند الإشهاد وادعى بعد ذلك أنه قصد به التوثق وخوف دعوى الرد فإنه يصدق .
وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ في غَيْرِ السَّفَرْ
نَفَقَةٌ والتَّرْكُ شَرْطٌ لا يُقَرْ
( وليس للعامل في غير السفر نفقة ) من مال القراض ولا كسوة قال فيها : وإذا كان العامل مقيماً في أهله فلا نفقة له من المال ولا كسوة اللخمي : وهذا إذا لم يشغله العمل في القراض عن الوجوه التي كانت تقوم منها نفقته وإلاَّ فله النفقة كالمسافر به ، وتقييد اللخمي معتبر ومفهوم غير السفر أنه إذا سافر تكون له الكسوة والنفقة بالمعروف بشرط أن يحتمل المال ذلك ، وأن لا يسافر لأجل غزو أو حج أو زوجة بنى بها أو صلة رحم ، وإلاَّ فلا نفقة له ذهاباً وإياباً لأن ما لله لا يشارك به غيره . ( خ ) : وأنفق إن سافر ولم يبن بزوجة واحتمل المال لغير أهل وحج وغزو بالمعروف وتكون نفقته في القراض فقط ، فلو أنفق من غيره ثم تلف المال أو زادت عليه لم يتبع رب المال بشيء واكتسى إن بعد ووزع إن خرج لحاجة وإن أخذه بعد أن اكترى للحاجة وتزود لها ، ومعروف المذهب عند اللخمي وغيره أنه لا نفقة له في هذه الحالة لأنه بمنزلة من سافر لأهله .
تنبيهان . الأول : اختلف في المال الكثير الذي يحمل الإنفاق والقليل الذي لا يحمله ، فعن مالك السبعون ديناراً يسير لا ينفق منها ، وعنه أيضاً ينفق في الخمسين فجمع بينهما بحمل الأول على السفر البعيد فإن الإنفاق يجحف بالمال والثاني على القريب ، ولو كان أخذ قراضاً بالفسطاط وله بها أهل وخرج إلى بلد له بها أهل أيضاً فلا نفقة له في ذهابه ولا إيابه ، فإن لم يكن له أهل في البلد التي أخذ فيها القراض فلا نفقة له في ذهابه وله النفقة في رجوعه . البساطي : يؤخذ من هذا أنه إذا سافر عن وطنه لا نفقة له في الرجوع إليه . وفي المدونة نفقة العامل ذاهباً وراجعاً ، وفيها أيضاً : لا نفقة له في رجوعه من غير بلده . البساطي : فيحمل الأول على الذهاب والرجوع لغير وطن اه . فإن سافر لتنمية المال بزوجته فله النفقة على نفسه فقط في سفره ذهاباً وإياباً ، وأما في إقامته في بلده للتجارة فهل له النفقة في مدة الإقامة بناء على أن الدوام كالابتداء ؟ وظاهر كلامهم أنه ليس كالابتداء قاله الأجهوري .
الثاني : لو قال العامل بعد المقاسمة ودفع المال لربه بربحه : أنفقت من مالي ونسيت الرجوع به قبل القسمة أو نسيت الرجوع بالزكاة ونحو ذلك ، فإنه لا يصدق بمنزلة من ادعى الغلط بعد المحاسبة قاله ابن يونس وابن رشد . البرزلي : وسواء قام بالقرب أو بعد طول وهو الصواب بخلاف الجمال يدفع الحمولة ثم يطلب الكراء بالقرب اه . وكذلك الوصي يحاسب نفسه ثم بعد ذلك يدعي أنه غلط في الحساب وأنه نسي أجرته ونحو ذلك ، فإنه لا يصدق قياساً على مسألة القراض قاله العبدوسي .
( و ) شرط ( الترك ) للإنفاق من المال الكثير الذي يحتمل الإنفاق ( شيء لا يقر ) لعدمجوازه ، فإن وقع ونزل وشرط عليه عدم الإنفاق منه وفات بالعمل فالعامل أجير قاله ابن سلمون .
وَعِنْدَما مَاتَ وَلاَ أَمِينَ في
وُرَّاثِهِ وَلاَ أَتَوْا بالخَلْفِ
( وعندما مات ) العامل قبل نضوضه ( ولا أمين في وراثه ) يقوم مقامه ويكمل عمله ( ولو أتوا ) أي الوراث ( بالخلف ) أي بأمين كموروثهم في الأمانة .
رُدَّ إلى صاحِبِهِ المالُ وَلا
شيْءٌ مِن الرِّبْحِ لِمِنْ قَدْ عَمِلاَ
( رد إلى صاحبه المال ) وسلموه له مجاناً ( ولا شيء من الربح لمن قد عملا ) ولم يتم عمله وهو الموروث أي : فليس لوارثه شيء مما عمل ، ومفهومه أنه لو كان فيهم أمين ولو دون موروثهم في الأمانة أو أتوا بأمين أجنبي مثل الموروث فيها بصيراً بالبيع لا يخدع فيه ، فإنه يقضي لهم بتكميله ويستحقون ما كان لموروثهم من الربح ( خ ) : وإن مات فلوارثه الأمين أن يكمله وإلا أتى بأمين كالأول وإلا سلموه هدراً الخ . وظاهره كالناظم أن الوارث محمول على عدم الأمانة حتى يثبتها لأن الأصل عدمها وهو كذلك ، قال أبو الحسن : حملهم يعني في المدونة على غير الأمانة وفي المساقاة على الأمانة لأن القراض مما يغاب عليه والعمل فيه تعلق بعين العامل بخلاف المساقاة ، فإن العمل تعلق بذمة العامل فإذا مات أخذ من ماله ما يستأجر به على كمال عمله وقوله ولا شيء من الربح الخ . نحوه المساقي يعجز أو يموت كما مّر في المساقاة ، وهذا كله إذا مات عامل القراض ، وأما لو مات ربه فإن العامل يبقى على قراضه فإن أراد الورثة أخذه فلهم ذلك إن كان قد نض وإلاَّ صبروا لنضوضه ، فإن حركه العامل بعد نضوضه وقبل علمه بموته مضى على القراض حتى ينض ولا ضمان عليه ، كالوكيل يتصرف قبل علمه بموت موكله ، وقيل : يضمن لخصمه على مال الوارث فإن حركه بعد علمه بموته ضمن والربح لهما إلا أن يتجر لنفسه فالربح له وحده لأنه حينئذ كالمودع عنده تجر بالوديعة ويصدق في أنه اشترى لنفسهإن نازعه الوارث كما يصدق الوكيل في الشراء لنفسه إن نازعه الموكل كما في ( ز ) آخر الوكالة . والقراض توكيل . وتقدمت الإشارة إليه آخر اختلاف المتبايعين .
وهوَ إذَا أَوْصَى بِهِ مُصَدَّقُ
في صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ يُسْتَوْثَقُ
( وهو ) أي العامل ( إذا أوصى به ) أي بالقراض ومثله الوديعة ( مصدق ) سوء أوصى به ( في صحة أو مرض يستوثق ) المريض به ويهلك بسببه ، وظاهره التصديق سواء عين ذلك كهذا قراض لزيد أو وديعة أو بضاعة أو لم يعين شيئاً ، وسواء عرف أصل ذلك أم لا . كان عليه دين فلس فيه أم لا . وهو كذلك على تفصيل فيه ، فإنه إذا عينه فإن المعين له يأخذه ويقدم على سائر الغرماء الثابتة ديونهم ببينة أو إقرار في صحة أو مرض ما لم يعين ذلك حين تفليسه أو قيام الغرماء عليه ، وإلاَّ فلا يقبل قوله إلا أن قامت بينة بأصله تشهد أن عنده لفلان وديعة أو قراضاً ، فإن قامت بذلك قبل قوله ولو لم يتهم عليه ، وأما إن لم يعين شيئاً بل قال : عندي قراض أو وديعة لزيد قدرهما كذا فإن لم يكن مفلساً قبل إقراره ويؤخذ ذلك من تركته ، وإن كان مفلساً بطل إقراره ما لم تكن على أصله بينة وإلاَّ حاصص به الغرماء كما في العتبية عن ابن القاسم . هذا كله إذا أقر بما هو فيه أمين ، وأما إن أقر بدين في ذمته فإن كان أقر بمجلس قيام الغرماء أو بقربه قبل إقراره وحاص الغرماء إن كانت ديونهم ثابتة بإقرار لا ببينة ( خ ) : في الفلس وقبل إقراره بالمجلس أو بقربه إن ثبت دينه بإقرار لا ببينة ، ثم قال : وقبل تعيينه القراض والوديعة إن قامت بينة بأصله . وقال في القراض وتعين بوصية وقدم في الصحة والمرض الخ . فكلام الناظم مقيد بغير المفلس وإلاَّ فلا يصدق إلا إن قامت بينة بأصل ما يوصى به ، ومفهوم أوصى به أنه إذا لم يوص بشيء فإنه يؤخذ من تركته ما ثبت عليه منه بإقرار أو بينة ، وإن لم يوجد وحاص غرماءه لكن محله إذا لم يتقادم عهده كعشرة أعوام كما قال ( خ ) في الوديعة : وضمن بموته ولم يوص ولم يوجد إلا لكعشر سنين وما لم يدع ما يسقطه من تلف ونحوه قبل موته أو لم يدع الورثة أن موروثهم رده لربه أو تلف منه قبل موته فإنهم يصدقون لأن الوارث قائم موروثه كما مّر في الاختلاف في متاع البيت وكما قالوه عند قول ( خ ) في الوديعة : وبدعوى الرد على وارثك ، وما لابن رحال في باب القراض من عدم تصديق الورثة لا يلتفت إليه ، وإنما كان يؤخذ من تركته إذا لم يوجد ويحاصص به حيث لم يتقادم عهده مع احتمال كونه تلف أو خسر فيه أو رده لربه ، لأن الأصل والغالب هو السلامة وعدم الخسر والرد ، ولهذا أوجبوا أخذه من تركته وعمروا بهذمته حتى صار ربه يحاصص به كما مّر ، وبه نعلم سقوط ما في حاشية الشيخ الرهوني من اعتبار ذلك الاحتمال قائلاً : لأن الأصل براءة الذمم ولا تعمر إلا بيقين الخ . لأنا نقول كما لا تعمر إلا بيقين لا تبرأ إلا به ، وهنا عمرت بيقين واحتمال طرو التلف وما معه كاحتمال طرو القضاء في الدين الثابت فهو خلاف الأصل ، والغالب الذي هو استصحاب ما كان على ما كان وما ذكره من البحث أصله في البرزلي عن بعضهم ، ولكن قد علمت ما فيه ، ولهذا قال في المعيار قبل نوازل الهبات فيمن سافر بالقراض لبلد السودان بإذن ربه وطال مقامه إحدى عشرة سنة قال : إن هذا العامل قد تعدى بإبطائه هذه المدة التي سافر فيها الناس وجاؤوا فيجوز لرب المال القيام عليه ويضمنه ما ثبت من رأس المال ويحاصص به غرماءه اه . باختصار . فهو قد ضمنه رأس المال مع احتمال التلف والخسر وما ذاك إلا لكونهما خلاف الأصل والغالب ، وبه كنت أفتيت في عامل غاب بالقراض مدة طويلة ووافقني عليه مفتي قاض شيخنا سيدي محمد بن إبراهيم وغيره ووقع الحكم به ، وهذه المسألة كثيرة الوقوع في هذه البلدان ويفهم من قوله : ويضمنه ما ثبت من رأس المال أنه لا يضمنه شيئاً من الربح وهو كذلك لأن الأصل عدم وجوده إلا أن تقوم بينة بأنه قد ربح بمحضرهم كذا أو أقر عندهم بذلك فإنه يحاصص بحصته منه أيضاً لأن الأصل حينئذ بقاؤه ، ولذا قال البرزلي : ولا يقضى على التركة بالربح إلا أن يتحقق الخ . ثم ذكر عن ابن عرفة بعد هذا بورقة ونحوها أنه حكم فيها بالمال وبما يقدر له من الربح فانظر ذلك فيه .
وأجْرُ مِثْلٍ أوْ قِرَاضُ مِثْلِ
لعامِلِ عند فَسَادِ الأَصْلِ
( وأجر مثل أو قراض مثل ) يجب أحدهما ( لعامل عند فساد الأصل ) أي القراض . وأو في كلامه بمعنى قيل لأنهما قولان مرويان عن مالك ومنشؤهما هل ما فسد من العقد يرد إلى صحيح نفسه أو إلى فاسد أصله كما مَّر مثله في المغارسة والجعل لأن القراض مستثنى من الإجارة ،والفرق بينهما أن أجرة المثل في الذمة وقراض المثل في الربح فإن لم يكن ربح فلا شيء له ، وأجرة المثل يحاص بها الغرماء ، وقراض المثل يقدم فيه عليهم وما فيه قراض المثل لا يفسخ بالشروع فيه كما يأتي ، وفي المسألة رواية ثالثة بالتفصيل وهي رواية ابن القاسم أن القراض إذا كان بالعرض أو بجزء مبهم أو إلى أجل أو بدين أو بضمان أو قال له : اشتر سلعة فلان ثم اتجر في ثمنها أو شرط عليه أن لا يتجر إلا في سلعة كذا وهي يقل وجودها أو لا يشترى إلا بدين أو أعطاه دنانير وشرط عليه أن يصرفها ثم يتجر في ثمنها ، فهذه تسعة كلها فيها قراض المثل ، وزيدت عاشرة وهي ما إذا اختلفا في الربح ولم يشبها فإنهما يردان إلى قراض المثل كما مر في قول الناظم :
والقول قول عامل إن يختلف الخ . وفيما فسد مما عدا هذه المذكورات أجرة المثل ، وعلى هذه الرواية درج ( خ ) إذا قال : كفلوس وعرض إن تولى بيعه كأن وكله على دين أو ليصرف ثم يعمل فأجر مثله في توليه ، ثم قراض مثله في ربحه كلك شرك ولا عادة أو مبهم أو أجل أو ضمن أو اشتر سلعة فلان ثم أتجر في ثمنها أو بدين أو ما يقل كاختلافهما في الربح وادعيا ما لا يشبه وفيما فسد غيره أجرة مثله . وقد تقدم في النظم بعض ما فيه قراض المثل وبعض ما فيه أجرة المثل مشروحاً فراجعه فيما مّر .
تنبيه : ذكر ابن مغيث وصاحب النهاية أن العمل جرى بقراض المثل في أربعة فقط وهي : القراض بالعروض أو بالجزء المبهم أو إلى أجل أو بضمان ، ويجمعها قولك : ضمن العروض إلى أجل مبهم ، وما عدا هذه الأربع فيه أجرة المثل . وذكر البرزلي عن ابن يونس أن كل ما يرجع لقراض المثل يفسخ ما لم يشرع في العمل فيمضي وكذا المساقاة وكل ما يرجع إلى أجر المثل يفسخ أبداً .
باب التبرعات
الحبس والهبة والصدقة وما يتصل بها من العمرى والإرفاق والحيازة ، قال الغرناطي : تذكر في الوثيقة تسمية المحبس والمحبس عليه والحبس وموضعه وتحديده والمعرفة بقدره وتوليته الحيازة لبنيه الصغار إلى أن يبلغوا مبلغ القبض وعقد الإشهاد عليه ومعرفة الشهود لملك المحبس ، فإن كان ساكناً فيه ضمنت معاينة الشهود لإخلائه إلا أن يحبس بكل ما فيها فلا يحتاج إلى إخلائها وإن كان المحبس عليه مالكاً أمره ذكرت قبضه للحبس ونزوله فيه وقبوله وضمنت معاينة القبض ، وكذا تعقد في الصدقات والهبات اه .قلت : أما تسمية المحبس والمحبس عليه والشيء المحبس فهي أركان لا بد من ذكرها فإن سقط واحد من الأول والثالث بطل ، وإن سقط المحبس عليه وقال : داري حبس وسكت فإنه يصح وتكون وقفاً على الفقراء والمساكين عند مالك كما في البرزلي ، وأما تحديده فسيأتي عند قوله : ونافذ تحبيس ما قد سكنه . أنه شرط في الحكم به لا في صحة التحبيس ، وأما معرفة قدره فإنه محمول على معرفته بل هبة المجهول أو تحبيسه جائز ، وأما توليته الحيازة لبنيه فسقوطه من الوثيقة لا يضر كما يأتي في التنبيه الثالث عند قوله : ونافذ تحبيس ما قد سكنه ، وأما عقد الإشهاد عليه فهو شرط في الصغير والكبير كما يأتي في المحل المذكور أيضاً ، وأما معرفة الشهود لملك المحبس فإن عدم ذكره لا يضر كما مر في شهادة السماع . نعم هو شرط في استحقاق الملك بالحبس كما مرّ هناك ، وانظر ما تقدم في البيع على الغائب أيضاً إن شئت ، وأما معرفة صغر البنين فسيأتي أيضاً في شرح البيت المتقدم ، وأما معاينة الشهود للإخلاء فهو قول الناظم : ومن يحبس دار سكناه الخ ، وأما قبض المالك أمره فهو شرط كما يأتي في قوله : والحوز شرط صحة التحبيس الخ . وأما قبوله فإنه لا يضر سقوطه كما يأتي عند قوله : ولمن سيوجد الخ . ثم قال أول وثيقة النكاح : ولا بد من ذكر الصحة أي صحة العاقد في النكاح والهبات والصدقات والأحباس وكل ما ليس فيه عوض اه . ومقتضاه أن القول لمدعي المرض عند النزاع وليس كذلك كما مرّ عند قوله : وقدم التاريخ ترجيح الخ . ثم إن الوقف سنة قائمة عمل بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون من بعده . وفي صحيح مسلم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) اه . وقد اتفقوا على جواز تحبيس المساجد والقناطر والطرق والمقابر ، وإنما خالف أبو حنيفة في لزوم تحبيس غير ما ذكر لافي جوازه ، فإنه يقول بجوازه لكنه عنده إنما يلزم بحكم الحاكم وهو قبل الحكم على ملك الواقف قبض أم لا . وله الرجوع عنه بالبيع والهبة ويورث عنه عنده إن مات قاله في المعونة . ابن عرفة : والوقف إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً فتخرج عطية الذوات والعارية والعمرى والعبد المخدم حياته بموت قبل سيده لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه لجواز بيعه برضاه مع معطاه اه . فخرج بقوله : منفعة إعطاء الذوات ، وقوله شيء يشعر بأنه لا بد أن يكون متمولاً لا تافهاً ، وقوله منفعة هذا هو الأصل وإن كان الحبس قد يكون للانتفاع كالمدارس لأن الانتفاع إنما يصار إليه إن شرطه المحبس أو جرى عرفه به ، والفرق أن مالك المنفعة له أن يكريها ويعيرها لغيره بخلاف مالك الانتفاع فليس له إلا الانتفاع بنفسه فلا يكري ولا يعير ، وبقوله : مدة وجوده العارية والعمرى وهو مبني على أن الحبس لا يكون إلا مؤبداً وإطلاق الحبس على غير المؤبد مجاز عنده كما صرح به هو بنفسه حيث قال : والروايات واضحة بإطلاق الحبس على ما حبس مدة يصير بعدها ملكاً وهو مجاز اه . وعلى ذلك ينبني قوله : لازماً بقاؤه الخ . وأخرج به العبد المخدم وإنما قيده بقوله : يموت قبل سيده لأنه فيه يظهر قوله مدة وجوده ، وأما إن مات سيده قبله فإنه يبطل إخدامه ويرجع للورثة فهو خارج حينئذ بقوله مدة وجوده . وقوله : ولو تقديراً يحتمل أن يكون مبالغة في الإعطاء أي : ولو كان الإعطاء تقديراً كقوله : إن ملكت دار فلان فهي حبس ، ويحتمل أن يكون راجعاً لمعنى قوله : لازماً بقاؤه في ملك معطيه أي لا يخرج عن ملكه ولو تقديراً . وقوله : حياته يعني حياة السيد أو حياة العبد أو المخدم بالفتح فإن أطلق فيحمل على حياة العبد والكل خارج بما ذكر إلا أنه إن أخدمه حياة العبد وما بعده فإن الخدمة لا تبطل بموت السيد لأنها منفعة قد حيزت بحوز أصلها وتورث عن المخدم بالفتح في إخدامه حياة العبد أو إطلاقه كما يدل له قول ( خ ) في الوصية : وبمنافع عبد ورثت عن الموصى له .
تنبيه : من حبس على بنيه الصغار جميع أملاكه وقال في تحبيسه : كل ما يملكه مدة حياته فهو حبس فإن كل ما يملكه بعد التحبيس لاحق بالحبس إن ملكه وهو سالم من الدين المستغرق وكان صحيح الجسم ، فإن كان يوم ملكه مديناً فلا حبس إلا فيما تقدم الدين ، وكذا إن كان مريضاً ومات من مرضه ذلك قاله في معاوضات المعيار .
الحَبْسُ في الأُصُولِ جَائِزٌ وفي
مُنَوَّعِ العَيْن بِقَصْدِ السَّلَفِ
( الحبس ) بالسكون تخفيفاً للوزن ( في الأصول ) كالدور والأرضين والحوائط والطرق والآبار والمصانع وهي الحياض يجمع فيها ماء المطر ، ومنه قوله تعالى : وتتخذون مصانع لعلكمتخلدون } ( الشعراء : 129 ) ( جائز ) بلا خلاف بين الأئمة كما تقدم وهو لازم بالقول عند الأئمة الثلاثة ، وخالف أبو حنيفة في غير تحبيس المساجد ونحوها كما مرّ وقال : لا يلزم إلا بالحكم كما مر ، وعنه أيضاً أنه لا يجوز في غير المساجد ونحوها لقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } ( المائدة : 103 ) وقوله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث } الآية ( الأنعام : 136 ) قال في المتيطية : ولا حجة له في ذلك لأن الآية إنما تقتضي التوبيخ على ما كانت الجاهلية تحرمه على نفسها تديناً وافتراء على الله اه . وصرح الباجي بأنه باق على ملك المحبس قال : وهو لازم تزكية حوائط الأحباس على ملك محبسها ( خ ) : والملك للواقف ، وقال أيضاً في الزكاة كنبات وحيوان ونسله على مساجد الخ . ( و ) جائز أيضاً ( في منوع العين ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي العين المنوعة إلى ذهب وفضة ( بقصد السلف ) كما نص عليه في المدونة في كتاب الزكاة وهو المشهور .
وَلا يَصِحُّ في الطَّعَامِ واخْتَلَفْ
في الحَيوانِ والعُرُوضِ مَنْ سَلَفْ
( ولا يصح ) الحبس ( في الطعام ) ونحوها مما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه ، وظاهره ولو للسلف وهو الذي يقتضيه ابن شاس وابن سلمون وغيرهما قالوا : لأنه لا ينتفع به إلا مع استهلاك عينه والمذهب جواز وقفه للسلف أيضاً كالعين وينزل رد مثله بمنزلة دوام عينه وتزكي العين على ملك ربها كما قال ( خ ) : وزكيت عين وقفت للسلف الخ . فكان حق الناظم أن لا يفرق بين الطعام والعين . ( واختلف ) بفتح اللام ( في ) جواز تحبيس ( الحيوان ) ناطقاً أم لا ( والعروض ) من سلاح وثياب ونحوهما وعدم جواز تحبيس ذلك ( من سلف ) فاعل بقوله : اختلف ، والقولان مرويان عن الإمام ، والمشهور الجواز لحديث : ( من حبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده كان شبعه وريه في ميزانه ) . وعليه عول ( خ ) إذ قال : صح وقف مملوك ولو حيواناً ورقيقاً كعبد على مرضى وفي وقف كطعام تردد الخ . وظاهره كالناظم أن المملوك يصح وقفه ولو جزءاً شائعاً وهو كذلك كما يأتي في قول الناظم : وفي جزء مشاع حكم تحبيس قفي الخ .ولِلْكِبارِ والصِّغارِ يُعْقَدُ
ولِلْجَنِينِ ولِمَنْ سَيُولَدُ
( و ) يشترط في المحبس عليه أن يكون أهلاً للتملك حقيقة كزيد والفقراء أو حكماً كقنطرة ومسجد ولا يشترط كونه كبيراً ولا موجوداً بل ( للكبار والصغار يعقد وللجنين ) الموجود في بطن أمه بل ( ولمن ) لم يوجد في البطن ولكن ( سيولد ) في المستقبل والهبة والصدقة والوصية مثل الحبس في ذلك ، ويتم ذلك ويلزم باستهلال من في البطن أو سيوجد ( خ ) كمن سيكون إن استهل أي إذا قال : هو حبس أو صدقة على من سيولد لفلان فإن ذلك صحيح قبل الولادة غير لازم للمحبس ونحوه حتى يوجد ويستهل ، ولذا كان للمحبس ونحوه أن يبيع أو يهب قبل الولادة بالكلية على المذهب فإن باع بعد أن ولد له ومات الولد ولم يحصل اليأس من ولادة غيره فلا يجوز اتفاقاً ، ويفهم من هذا أنه لو قال : هو حبس على ما يولد لي أو لفلان وبعدهم على المساكين فمات قبل أن يولد له أو حصل له اليأس من ولادتهما أن الحبس يبطل ويرجع ميراثاً ، وأما إن وجد الولد ومات فإنه يستمر حبساً على المساكين ، ويفهم من هذا أيضاً أن الغلة لا توقف بل هي للمحبس أو ورثته حتى يوجد الولد ويستهل وهو كذلك على المعمول به لأنه لا يلزم إلا بالاستهلال كما مرّ .
تنبيهان . الأول : يشترط قبول المحبس عليه حقيقة أو حكماً كما لو قبضه وصار يتصرف فيه لأن ذلك أقوى في الدلالة على الرضا من التصريح به ، فإذا سقط لفظ القبول من الوثيقة فإن ذلك لا يضر حيث وجد القبض المذكور فالقبض يستلزم القبول والقبول لا يستلزم القبض ، ولذا إذا لم يقبض الحبس حتى مات المحبس أو المحبس عليه المعين له بخصوصه فإنه يبطل ولو تضمن الرسم القبول فإن حبس شقصاً على شخص أو تصدق به عليه وعرفه بذلك فسكت ولم يقل قبلت وترك ذلك زماناً ، ثم قام وأراد قبض ذلك وحيازته فله ذلك حيث لم يكن مانع من موت أو مرض أو فلس ، فإن طلب غلة ذلك حلف أنه لم يسكت على وجه الترك ورجع بها قاله في الاستغناء ونقله ابن عرفة قال : وفيه مع ركنية القبول نظر الأعلى أن بت الخيار موجب بته يومعقده اه . أي : لأن القبول إذا كان ركناً فمعلوم أن الماهية تنعدم بانعدام بعض أركانها وذلك موجب لكونه لا غلة له ، نعم ما في الاستغناء هو الجاري على من تصدق بأمة فلم يقبلها المتصدق عليه حتى ولدت أولاداً فإنها تكون له هي وأولادها ، ولو أخذ السيد أرش قتل بعض أولادها فإن المتصدق عليه يرجع عليه به قاله في سماع عيسى ، ولا يظهر فرق بين أولاد الأمة والغلة المذكورة ، وبحث ابن عرفة وغيره . لا يدفع الفقه كما تقرر عندهم والله أعلم . وأما المحجور من صغير وسفيه فإنه يقام له من يقبل من وصي ومقدم ، فإن لم يقبل من له أهلية القبول دفع لغيره ممن يستحق ذلك باجتهاد الحاكم ولا يرد للمحبس ، فإن لم تكن فيه أهلية للقبول كالمساجد والقناطر والفقراء فلا يشترط قبولهم ، والوصي ونحوه ليس له أن يرد ما وقف على محجوره فإن رد لم يصح رده .
الثاني : إذا قال : حبس على فلان وأطلق ولم يقيد بأجل ولا بحياته فإنه يرجع بعد موت المحبس عليه ملكاً على المعتمد ، وأحرى إن قيد بالحياة أو بالأجل واختلف إذا قال : هو صدقة عليك وعلى ولدك أو على عقبك هل يكون ملكاً أو حبساً . اللخمي : والأول أحسن ولكن يمنع الأول من التفويت لحق الثاني كذا قاله في المتيطية ، وسيأتي نفسه في الهبة إن شاء الله .
ويَجِبُ النَّصُّ عَلَى الثِّمَارِ
وَالزَّرْع حَيْثُ الحَبْسُ لِلصِّغار
( و ) إذا كان في الأرض أو في الأشجار المحبسة زرع أو ثمر مأبور في رؤوسها ف ( يجب النص على ) إدخال تلك ( الثمار و ) ذلك ( الزرع ) في الحبس فإن لم ينص على دخولهما وحصل مانع قبل الجذاذ والحصاد بطل ( حيث ) كان ( الحبس ) من الأب ( للصغار ) من بنيه لأنه قد شغل الحبس بزرعه وثمرته فلم تتم فيه حيازته لهم ، وهذا إذا كان الزرع والثمر في أكثر الحباسة فإن كانا في ثلثه فأقل نفذ الحبس في الأملاك دون الثمرة لأنه يجوز له أن يستثنى من حبسه أو صدقته قدر ثلث المساكن في الدار وثلث الغلة فيما له غلة ثم يلحق بعد موته بالحبس أو الصدقة قالهفي المتيطية . وفي المعيار : أن هبة الدار المكتراة لا بد أن يدخل الكراء في هبة الدار وإلاَّ جرى فيها ما تقدم ، ثم إنما يتم إلحاقه بعد موته إذا كان المحبس عليه غير وارث وحمل ذلك ثلثه قاله في المتيطية أيضاً . فقول الناظم : ويجب الخ يعني على جهة الأولوية لأنه إذا لم ينص على ذلك أو لم يرد إدخال ذلك في الحبس ولم يحصل مانع قبل الجذاذ والحصاد فالحيازة تامة ، وقولي : مأبور احترازاً من غيره فإنه للمحبس عليه فلا تأتي فيه العلة المتقدمة ، ومفهوم للصغار ومن في معناهم من سفيه ومعتوه أنه إذا حبسه على الكبار الرشداء وقبضوا الأصول بما فيها فإن حيازتهم تامة وإن كانت الثمرة لربها ، وكذا لو حبس على غيرهم دار فقبضوها وفيها متاع له فإن الحيازة تامة لأنهم قبضوها وزائداً معها كما في المتيطية وابن سلمون . وانظر ما يأتي آخر الهبة من أنه يجوز أن يهب له أرضاً ويستثني غلتها سنين وهذا في غير دار سكناه كما قال :
وَمَنْ يُحَبِّسْ دارَ سُكْنَاهُ فَلاَ
يَصِحُّ إلاّ أنْ يُعَايَنَ الْخَلاَ
( ومن يحبس دار سكناه ) على بنيه أو على غيرهم ( فلا يصح ) الحوز ( إلا أن يعاين الخلا ) منها ويشهد عدلان بمعاينتها خالية من شواغل المحبس ويستمر على خروجه منها عاماً كاملاً ، فإن رجع لسكناها قبله وبقي فيها حتى مات أو حصل مانع بطل إلا أن يكون المحبس مريضاً أو طريداً فآواه المحبس عليه فمات فذلك كلا رجوع كما في كتاب الصدقة من ابن سلمون ( خ ) عاطفاً على المبطلات أو عاد لسكنى مسكنه قبل عام ، وظاهر هذا ولو رجع إليها بكراء عقده فيها بأن قومها أرباب المعرفة بكراء قدره كذا وسكنها بذلك الكراء ، وبه صرح المتيطي في الصدقة قال : ولو جاز ذلك بالكراء لجاز بغير كراء . قال : فإن لم يسكنها ولكن أسكنها غيره فإن أسكنه إياها على وجه العمرى أو الإسكان بطلت ، وإن كان بكراء صحت ، وإن شك هل بكراء أو إسكان صحت ، وأما غير دار السكنى إذا عاد إليه قبل العام بكراء كما لو وهب لصغير فداناً من أرض ثم حرثه قبل العام بكراء قوَّمه به أرباب المعرفة فإنه لا يبطل كما نص عليه في هبات المعيار . إلا أن يعاين الخلاء يعني لكلها أو جلها كما قال ( خ ) في الهبة : ودار سكناه إلا أن يسكن أقلها ويكرى له الأكثر وإن سكن النصف بطل فقط ، والأكثر بطل الجميع الخ . والهبة والحبس من واد واحد كما يأتي ، وظاهره أنه لا بد من إخلائها ولو حبسها على محجوره مع ما فيها من الأمتعة . انظر ما يأتي عند قوله في الهبة : وإن يكن موضع سكناه وهب الخ .
وَنَافِذٌ تَحْبِيسُ ما قَدْ سَكَنَهْ
بِما كالاكِتراءِ مِنْ بَعْدِ السَّنَهْ
( ونافذ تحبيس ما قد سكنه ) بعد تحبيسه ( بما كالاكتراء من بعد السنه ) الظاهر أن ما والكاف زائدتان ، وظاهره أن الكراء شرط في صحة حيازته وليس كذلك بل مهما رجع بعد السنةفالحيازة تامة على المشهور المعمول به ، ولو رجع بغير كراء كما أن قوله :
إنْ كانَ ما حُبِّسَ لِلْكِبَارِ
وَمِثْلُ ذاكَ في الهباتِ جَارِي
( إن كان ما حبس للكبار ) إنما يتمشى على طريقة ابن رشد ، وأما على المشهور فلا مفهوم للشرط المذكور كما هو ظاهر مفهوم نص ( خ ) المتقدم . وبالجملة فلا فرق بين الصغار والكبار في صحة الحبس إن رجع بعد العام كان رجوعه بكراء أو إرفاق أو غير ذلك كما في المتيطية قائلاً : لو تصدق عليه بدار حازها له سنتين ثم سكنها بكراء أو غيره ومات فيها فهي ماضية اه . ونحوه في المجالس والمفيد وغيرهما خلافاً لما في زمن أنه إذا رجع إليها بإرفاق بطل لأنه إنما يتمشى على طريقة ابن رشد التي درج الناظم عليها وهي معترضة كما نظم ذلك الإمام المزواري بقوله :
رجوع واقف لما قد وقفا
بعد مضي سنة قد خففا
على صبي كان أو ذي رشد
واعترضت طريقة ابن رشد
( ومثل ذاك ) الحكم المذكور في الحبس ( في الهبات ) والصدقات ( جار ) لأنها من واد واحد في وجوب الحيازة .
تنبيهات . الأول : إذا ثبت رجوعه قبل السنة أو بعدها فلا إشكال وإن جهل الحال هل رجع قبل السنة أو بعدها فقال أبو العباس الوانشريسي ونقله الفاسي في جواب له : أنه يحمل على رجوعه قبل السنة ولا يعارضه ما في أحباس المعيار فيمن حبس على صغير ثم باعه من أنه إذا ثبت أن بيعه قبل العام فالبيع صحيح ولا قيام للمحبس عليه ولا لمن مرجعه له ، أما لو تم الاحتياز بانصرام العام فالبيع مفسوخ ويجب الرجوع بالثمن على البائع أو على تركته إن مات لأنه إنما تكلم على ما إذا ثبت ذلك قبل العام أو بعده ، وأما عند الجهل فلم يتكلم عليه وإن كان قوله : إذا ثبت أن بيعه قبل العام الخ . ربما يقتضي بظاهره أنه إذا لم يثبت وجهل أمره يحمل على ما بعد العام الخ . لأنه لا يعارض صريح بظاهر ولا بمحتمل ، وانظر ما يأتي عند قوله : والحوز شرط الخ .الثاني : لا بد أن يضمن الشهود في الرسم معرفة صغر المحبس عليه لئلا يقوم عليه قائم وهو كبير فيقول له : لم يتصدق عليك إلا وأنت كبير ولم تحز ، ويقول هو : كنت صغيراً ، وقد اختلف في قول أيهم يقبل ، والظاهر أنه يقبل قول الصغير لأنه يدعي الصحة فإن مات الأب بعد بلوغ الابن والحبس أو الهبة بيده فإن كان الابن معروف الرشد وقت بلوغه بطل ، وإن كان معروف السفه صح ، وإن كان مشكوكاً ومضت له سنة من موت الأب بطل قاله في هبات المعيار . وإذا بلغ بعضهم ولم يبلغ البعض الآخر حاز الكبير لنفسه وللصغار بوكالة الأب ، وظاهر المدونة أنهم محمولون على السفه حتى يتبين الرشد وهو ظاهر قوله تعالى : فان آنستم منهم رشداً } ( النساء : 6 ) وعليه فإذا مات الأب بعد البلوغ لا تبطل الهبة قاله أبو الحسن . وقوله : بوكالة الأب لا مفهوم له ، وقوله : لا تبطل الهبة يعني حتى يمضي له عام من يوم موت الأب كما مر ، وقولهم : إذا رشد ولم يحز لنفسه بطل محله إذا لم يكن الأب قدم من يحوزه كما يأتي في قوله : وينفذ التحبيس في جميع ما . الخ .
الثالث : إشهاد الولي بالحبس على محجوره لا بد منه وذلك حوز لابنه ولا يحتاج إلى أن يقول : رفعت يد الملك وأثبت يد الحوز ، ولا إلى أن يقول الموثق وحاز لهم إلى أن يبلغوا مبلغ الحوز كما في المعيار وابن سلمون في فصل الصدقة ويتم حوزه له بعد الإشهاد بصرف الغلة في مصالح ابنه تحقيقاً أو احتمالاً ، فإن علم أنه كان يصرف الغلة في مصالح نفسه دون مصالح ابنه بطل ، والعلم بذلك إنما هو بإقراره أو بقرينة كما في الدر النثير ، فإذا أقر أنه صرفها لنفسه أو في مصالح ابنه فإنه يصدق وتؤخذ من تركته فيما إذا قال : إنها موضوعة تحت يده قدرها كذا فإن لم يقر بشيء حتى مات فهو محمول على أنه صرفها لابنه ، وكذا يقال في الهبة والصدقة ، وما للشيخ الرهوني في باب الهبة مما يخالف هذا لا ينبغي التعويل عليه . وانظر ما يأتي في الهبة وقد أفتيت في بينة جاءت من سجلماسة شهدت بأن المحبس كان ىأكل غلة ما حبسه على صغار بنيه بما نصه : هذه البينة قد أجملت في مستند علمها هل كان ذلك بمحضرها أو بإقراره لديها ، ولا يتم أن يكون ذلك بمحضرها إلا إذا كانت تصاحبه في أوقاته كلها وذلك متعذر ، ولذا قال ابن لبابة : هو من الغموس الذي لا يجوز ، وأيضاً فإن قولها ذلك مهمل مما لا يدل على تعميم أو تبعيض ، وما كان كذلك فهو محمول على التبعيض لأنه المحقق وغيره مشكوك ، فيكون المعنى أكل بعض ثمره أو زرعه ، وعلى أنه أكل الجميع فيحتمل أن يكون أكل الجميع في بعض السنين دون بعض ، وهذا البعض إما الجل أو النصف أو الأقل ولا يبطل شيء من العطايا باستغلال الأقل فلا يبطل الحبس المذكور إلا بثبوت أكل الجميع أو الأكثر ولا دليل عليه والله أعلم . ثم أن الإشهاد شرط صحة في التبرعات من حيث هي وفي كل ما كان من غير عوض كالتوكيل والضمان ونحوهما ، ولا يختص الإشهاد بالتبرع على الصغير فقط إذ لا معنى لكونه شرطاً في الصغير دون الكبير كما قد يتبادر ، وحينئذ فإذا قال : حبست أو تصدقت أو وكلت أو أوصيت ولم يقل اشهدوا علي بذلك ولم يفهم من حاله أنه قصدهم إلى الإشهاد عليه ، فإنه لا يصح شيء من ذلك ، وكذا لو كتب ذلك ولم يشهدهم عليه فلا ينفذ شيء منه لأنه قد يقول أو يكتب وهو غير عازم على شيء من ذلك كما صرحوا به في الوصية . وقال ابن القاسم : مثله في الرجل يقول لولده : أصلح نفسك ولك كذا فإنه إذا لم يشهد لا شيء له لاحتمال أنه يريد التحريضنقله ( ح ) في باب الهبة ، وقال ابن سلمون في فصل بيع الوكيل : فإن لم يبينا في شهادتهما أن الموكل أشهدهما بالوكالة فشهادتهما باطلة لا يعمل بها اه . وقد قالوا أيضاً : إن الموهوب له إذا وهب الهبة وأشهد فذلك حوز وإلاَّ فلا كما قال ( خ ) في الهبة : أو وهب إذا أشهد وأعلن الخ . وإذا لم يكن حوز إلا مع الإشهاد فكذلك لا تكون هبة إلا معه أيضاً .
الرابع : إذا حبس الولي على محجورة جزءاً شائعاً في جميع ماله وله أصول ورباع وعروض ورقيق وماشية وناض وطعام صح ذلك على مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك في جميع ما كان يملك يوم الهبة من الأصول والرباع والعروض والماشية حاشا ما سكن من الدار أو لبس من الثياب ، وأما الطعام والناض فيبطل الحبس فيه إذ لا يعرف بعينه إلا أن يضعه على غير يده قاله في البيان ، ونحوه لابن ناجي أول كتاب الهبة من المدونة قائلاً : المشهور صحة هبة المشاع مع بقاء يد الواهب تجول فيه مع الموهوب له اه . لكن الكبير لا بد أن يتصرف مع الواهب ، وأما الصغير فإن حوز الأب له كاف كما مرّ . وقوله في البيان : صح ذلك حتى في العروض والماشية الخ . هذا إذا لم يكن هناك منازع وإلاَّ فلا يقضي للابن إلا بما عين منهما بتوقيف الشهود عليهما أو بوصف يتحصل به تمييزها كما قاله ابن مالك وابن عتاب ، وما ذلك إلا لالتباسهما بما اكتسبه الأب بعد الهبة بشراء ونحوه فلا يحكم للابن إلا بما شهدت البينة أن الحبس أو الهبة وقعا على عينه بخلاف الأصول ، فإن الغالب عدم الزيادة عليها وإن زاد شيئاً فإن الغالب شهرته عند الناس كما قالوه فيمن أنكر أصل المعاملة فقامت بينة بالقضاء ، ولذا قال ابن سهل في باب الوصايا عن ابن لبابة وغيره : أن الصدقة إذا كانت على ابنه بجميع ماله فلا حيازة على المتصدق عليه يعني عند إرادة الحكم ، وإن كان تصدق بأحقال بأعيانها فالمال موروث حتى تحوز البينة الأحقال لأنها لا تتميز من الموروث إلا بالحيازة والتحديد ، وهذا إذا تنازعوا في الحدود وإلاَّ فسيأتي عند قول الناظم :
وناب عن حيازة الشهود
توافق الخصمين في الحدود
وهذا يبطل ما في المعيار عن العبدوسي فيمن حبس جميع ما يملكه بقرية كذا من الدور والجنات على صغار بنيه وحازه لهم ثم توفي قال في الجواب : إن الحبس باطل لعدم تعيين الأملاك المحبسة الخ . ولما نقل ابن رحال جواب العبدوسي قال : الحق في النازلة أن الحبس صحيح وكل ما عرف للمحبس بتلك القرية فلا إرث فيه الخ . وكأنه لم يقف على ما تقدم عن ابن سهل وإلاَّ فهو أولى ما يرد به جواب العبدوسي ، وقال الإمام القاضي سيدي عيسى السجتاني في نوازله : إنما يشترط التحديد في صحة الحكم بالحبس ، ومن ظن أنه شرط في صحة الحبس فهو غالط نعم يشترط معرفة الشيء المحبس عند إرادة الحكم لئلا يلتبس بالميراث . وحيث لا لبس لا يضر عدم التحديد كما إذا قال المحبس : حبست جميع الملك الفلاني في موضع كذا اه . وهذا كله كاف في رد جواب العبدوسي ، وأما إن تصدق عليه بعدد كمائة من غنمه أو عبيده فإن وسم الغنم أو وصفت بأعيانها صحت وإلاَّ بطلت قاله الإمام مالك . ابن رشد : قوله هذا في الذي تصدق على ابنه بعدد من غنمه أو خيله هو الذي رجع إليه وقد كان يقول في حيازته للعدد جائزة وإن لم يسمها ولا قسمها كالجزء المشاع اه . وقد تحصل أنه إذا تصدق عليهبجميع ملكه الذي في محل كذا فلا حيازة عند إرادة الحكم بل كل ما عرف للمحبس أو المتصدق بذلك المحل فهو للمحبس أو المتصدق عليه ، وإن كان بأحقال ولم يتوافقا على حدودها فلا بد من الحيازة عند إرادة الحكم ، وأما إن تصدق بجزء مشاع أو بعدد من مائة مثلاً فالأقوال ثلاثة ، الصحة فيهما عدمها فيهما صحتها في المشاع دون العدد وهو المعتمد .
الخامس : إذا استحقت الدار ونحوها بالحبس فلا يقضى للقائم به إلا بعد إثبات التحبيس وملك المحبس لما حبس يوم التحبيس والإعذار فيه للمقوم عليه لاحتمال أن يكون حبس غير ملكه كما أن المشتري لا يقضي له بما اشتراه إلا بعد ثبوت الملك لبائعه . انظر ما تقدم في شهادة السماع عند قوله : وحبس جاز من السنين الخ . ومعنى ثبوت ملكه هو ما أشار له ( خ ) بقوله : وصحة الملك بالتصرف وعدم منازع وحوز طال كعشرة أشهر الخ . وسيأتي ذلك في الاستحقاق إن شاء الله .
وكلّ ما يَشْتَرِطُ المُحَبِّسُ
مِنْ سائِغٍ شَرْعاً عَلَيْهِ الْحبْسُ
( وكل ما يشترط المحبس ) مبتدأ أو عطف على قوله ، تحبيس ما قد سكنه ( من سائغ شرعا ) بيان لما وقوله ( عليه الحبس ) جملة من مبتدأ وخبر خبر عن كل وهذا على أنه مبتدأ ، وأما على عطفه على ما تقدم فالحبس فاعل بفعل محذوف معطوف بحذف العاطف على جملة يشترط ، والتقدير : ونافذ كل ما يشترطه المحبس ويقع الحبس عليه أي على اشتراطه من سائغ شرعاً ومثل للسائغ بقوله :
مثْلِ التَّساوي ودُخولِ الأَسْفَلِ
وَبَيْعِ حظِّ مَنْ بِفَقْرٍ ابْتُلِي
( مثل ) اشتراط عدم ( التساوي ) بأن يقول في حبسه : للذكر مثل خط الأنثيين } ( النساء : 11 ) أو العكس فإن أطلق حمل على التساوي ( و ) مثل عدم ( دخول الأسفل ) من الطبقات مع الأعلى منها فإن لم يشترط عدم دخوله فهو داخل إن عطف بالواو ، ولذا قدرنا لفظة عدم لأن الأصل دخوله مع الواو والإطلاق حتى يشترط عدم الدخول ، فإن عطف بثم فلا يدخل الأسفل حتى ينقرض الأعلى إلا أن من مات من الأعلى فولده يقوم مقامه ويدخل مع أعمامه كما في ( ح ) فإن قال : هو حبس على فلان ثم على عقبه وعقب عقبه ففي دخول عقب العقب مع العقب لعطفه بالواو وكونه بعده على أن الترتيب لأجل تقدم العطف بثم قولان ذكرهما ابن عرفة . ويظهر منه رجحان الأول ، ومن هذا من حبس على أولاد أولاده الثلاثة الثلث لأولاد كل واحد فلو قلوا أو كثروا وقال في تحبيسه : من مات من أولاده الثلاثة من غير عقب فنصيبه يرجع لأولاد أخويه ثم مات أحدهم عن غير عقب فهل نصيبه يقسم على عدد رؤوس أخويه نظراً إلى عدم التفصيل في المرجع أو يقسم بينهما نصفين نظراً إلى التفصيل في أصل التحبيس ؟فأفتيت بأنه يتخرج ذلك على القولين لأنه في المسألة الأولى ذكر الترتيب أولاً وأسقطه ثانياً ، وفي مسألة التخريج ذكر التفصيل أولاً وأسقطه ثانياً ، فالمحبس وإن أبهم في قوله رجع الخ . فإن ذلك يحمل على ما فصله أولاً في أصل تحبيسه ، ولهذا قال ابن رشد وغيره : إذا كان كلام المحبس محتملاً لوجهين فأكثر فإنه يحمل على أظهر محتملاته ، وأظهر المحتملات هنا جريان المرجع على التفصيل المذكور في أصل التحبيس والله أعلم .
( و ) مثل اشتراط ( بيع حظ من بفقر ابتلي ) فإنه يتبع شرطه أيضاً ويجوز له بيع حظه عند فقره ( ح ) : واتبع شرطه إن حاز كتخصيص مذهب أو ناظر أو تبدية فلان بكذا الخ . لأن ألفاظ الواقف تتبع كألفاظ الشارع قاله في ضيح ، ومفهوم من سائغ شرعاً أنه إذا شرط ما هو متفق على عدم جوازه شرعاً لم يتبع وأما المختلف فيه كاشتراط إخراج البنات من وقفه إذا تزوجن فإنه يتبع انظر ( ح ) ومحل الاتباع المذكور إذا أمكن فإن لم يمكن كشرطه الانتفاع بكتاب في خزانة لا يخرج منها أو تعذر صرفه في الوجه الذي عينه له كالقنطرة أو المسجد يهدمان ولا يرجى عودهما فإنه لا يتبع وينتفع بالكتاب في غير الخزانة وبأنقاض القنطرة والمسجد في مثليهما .
تنبيهان . الأول : إذا عين المحبس ناظراً فليس له عزله لتعلق حق المحبس عليهم بنظره لهم حتى يثبت ما يوجب تأخيره من تقصيره وتفريطه قاله في المعيار عن ابن لب قال : وهذا بمنزلة مقدم القاضي على النظر في أمر المحجور أو المحبس فلا يعزله أحد لا القاضي الذي ولاه ولا غيره إلا أن يثبت ما يوجب عزله ، ونحوه في الوثائق المجموعة : والوصي إذا ترك دين يتيمة حتى أفلس من عليه الدين فإن تركه الترك المعهود فلا ضمان عليه وإن تركه وأهمله جداً ضمن وناظر الأحباس فيما يقبضه من الكراء كالوصي فيما مرّ ، ففي الوكالات من البرزلي أن ناظر الأحباس إذا فرط في قبضها وقال : إنه باق عند سكانه أن ابن عرفة أفتى بتضمينه ، وبمثله حكم ابن عبد السلام قبله قال : ونحوه لابن سهل في الوصي إذا بور ربع اليتيم .
الثاني : ذكر في المعيار عن سيدي عبد الله العبدوسي أنه إذا ثبت بالعادة المستمرة أن السلطان يأخذ جباية الأحباس فالقول للناظر مع يمينه ، لقد جمع ما زعم أن السلطان أخذه منه ولا ضمان عليه اه .
وَحَيْثُ جَاءَ مُطْلقاً لفْظُ الوَلَدْ
فَوَلَدْ الذُّكورِ داخِلٍ فَقَدْ
( وحيث جاء مطلقاً لفظ الولد ) من غير تفسير بفلان وفلانة كما في الصورة الآتية ، بل قال : حبست على أولادي وأولاد أولادي أو قال على ولدي وولد ولدي ، لأن المراد الجنسوأحرى لو أفرد فقال : على ولدي أو على أولادي من غير عطف عليه فإنه يدخل في ذلك كله أولاده ذكوراً وإناثاً وأولاد أولاده الذكور فقط كما قال : ( فولد الذكور ) ذكوراً وإناثاً ( داخل فقد ) فحسب و
لا وَلَدُ الإنَاثِ إلاَّ حَيْثُما
بِنْتٌ لِصُلْبٍ ذِكْرُها تَقَدَّما
( لا ) يدخل ( ولد الإناث ) ومن يدلي إلى المحبس بأنثى وهذا هو الذي اقتصر عليه ( خ ) ونحوه في ابن الحاجب والشامل ، وقال أبو الحسن في شرح المدونة : المشهور دخول ولد البنت فيما إذا عطف إلى حيث انتهى لفظ الواقف قال : وإنما لا يدخل ولد البنت على مذهب مالك فيما إذا أفرد ولم يعطف ، وتبعه في تكميل التقييد ومحل ذلك إذا كان لفظ الولد يطلق على الذكر والأنثى في عرفهم أو لا عرف لهم أصلاً ، وأما إن كان إطلاقه العرف على الذكر فقط كما عندنا اليوم فإنه لا يدخل الإناث ولو من صلبه إلا أن يصرح بهن كما في ابن عرفة ، ومفهوم قوله مطلقاً أنه إذا جاء لفظ الولد مفسراً كقوله : حبست على أولادي فلان وفلانة وأولادهما فإن ولد البنت داخل كما أشار له بالاستثناء المنقطع في قوله : ( إلا حيثما بنت لصلب ذكرها تقدما ) أي لكن حيث تقدم تفسير لفظ الولد بذكر بنت الصلب ، فإن ولد البنت يدخل إلى حيث ينتهي لفظ الولد الملتبس بضميرها ، فإذا قال : حبس على أولادي فلان وفلان وفلانة وأولادهم الذكور والإناث وأولادهم ، فإنه يدخل ولد البنات وولد ولد البنات لا من بعدهم من أولادهن إلا أن يقول : وأولادهم وأولاد أولادهم ، ويذكر طبقة رابعة أو أكثر فإن أولاد البنات يدخلون إلى الطبقة التي سمى ثم يخرجون ، وقول المحبس ما تناسلوا وامتدت فروعهم لا يوجب دخول ولد البنت في غير الطبقة التي انتهى إليها ، فإن قال : حبس على ابنتي وولدها دخل ولدها الذكور والإناث فإن ماتوا كان لأولاد الذكور ذكورهم وإناثهم ولا شيء لابن بنت ذكر أو أنثى .
تنبيه : لو قال : حبست على ولدي فلان وفلانة وترك آخرين فلا يدخل في تحبيسه من لم يذكره بخلاف الإيصاء على أولاده ذاكراً بعضهم فيعم من سمى ومن لم يسم لأن المقصود من الإيصاء القيام بالأولاد فهو مظنة التعميم قاله الوانوغي وغيره .ومثْلُهُ في ذا بنيَّ والعَقِبْ
وشامِلٌ ذُرِّيَّتي فُمُنْسَحِبْ
( ومثله ) أي مثل لفظ الولد المطلق ( في ذا ) أي في دخول ولد الذكور فقط دون المدلي بأنثى ( بني والعقب ) كقوله : حسبت على بني أو على عقبي أو على نسلي فلا يدخل ولد البنت إلا لعرف . وقال الوانشريسي : الذي به العمل دخوله في عقبي إلى آخر طبقة سماها نقله في المعيار عن سيدي يحيى بن علال ، ونظمه في العمل المطلق . ثم إنه معلوم أن ألفاظ الواقف تجري على العرف ، ولا يقال إنما يعمل به فيما ليس فيه نص بخلافه . لأنا نقول محله في نص غير مبني عليه لا في مبني عليه كما هنا قاله الزرقاني . ( وشامل ) خبر عن قوله ( ذريتي ) وقوله ( فمنسحب ) عطف تفسير على شامل ، والمعنى أنه إذا قال : حبس على ذريتي فإنه يدخل ولد البنت ، وإلى هذه المسألة والمسألة المستثناة قبله أشار ( خ ) بقوله : وتناول الذرية وولدي فلان وفلانة أو أولادي الذكور والإناث وأولادهم الحفيد الخ . فقوله : الحفيد مفعول بقوله تناول ، وظاهره كالناظم أن لفظ الذرية يتناول الحفيد وهو ولد البنت وإن سفل ، وهو ظاهر التعليل بقولهم : لأن عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام وهو ولد بنت بخلاف قوله حبس على ولدي فلان وفلانة الخ . وما بعده فإن ولد البنت يدخل إلى الطبقة التي انتهى إليها فقط كما مرّ .
فائدة : اختلف فيمن أمه شريفة وأبوه ليس كذلك فأفتى ابن مرزوق وناصر الدين من فقهاء بجاية وجل فقهائها بأنه شريف لأنه من ذرية النبي عليه السلام كما يشمل قول المحبس على ذريتي واستدلوا بقوله تعالى : ومن ذريته داود } إلى قوله عيسى } ( الأنعام : 84 ) فجعل عيسى من الذرية وهو ولد بنت ، وأفتى ابن عبد الرفيع وغيره بأنه ليس بشريف ، وصرح ابن عبد السلام بتخطئة من قال بشرفه متمسكاً بالإجماع أن نسب الولد إنما هو لأبيه لا لأمه . انظر البرزلي في الأحباس فإن أطال في ذلك .
وَالحَوْزُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّحْبيسِ
قبْلَ حُدُوثِ مَوتٍ أوْ تَفْلِيسِ
( والحوز شرط صحة التحبيس ) وكذا سائر التبرعات من هبة أو صدقة أو نحلة إلا أن ينعقد النكاح عليها كما مر في قوله : ونحلة ليس لها افتقار إلى حيازة الخ . ( قبل ) متعلق بالحوز( حدوث موت ) أو مرضه ( أو تفليس ) وظاهره أنه لا يشترط التحويز وهو كذلك بخلاف الرهن كما مرّ ( خ ) : وحيز وإن بلا إذن وأجبر عليه الخ . والحوز رفع يد المعطي بالكسر من التصرف في الملك ورد ذلك إلى يد المعطى له أو نائبه من وكيل أو مقدم أو وصي هذا معنى ما أشار له ابن عرفة في حده ، وهو يفيد أنه وضع اليد على الشيء ، وأما الاستمرار وعدمه فشيء آخر فلو لم يحزه حتى مات المحبس أو فلس أو مرض ومات منه بطل كما يأتي في قوله : وبانسحاب نظر المحبس الخ . وكذا يبطل أيضاً بالتفويت من هبة وبيع ونحو ذلك قاله في المقدمات ، وهو مفاد ( خ ) في الهبة حيث قال : أو وهب لثان وحاز . وقال في بيعها : وإلا فالثمن للمعطي رويت بفتح الطاء وكسرها وهذا في الهبة ، وأما في الحبس فإن الثمن يكون للمحبس كما تقدمت الإشارة إليه عند قوله : ونافذ تحبيس ما قد سكنه . وهو الجاري على ما يأتي في الجزء المشاع من أنه يجعل ثمنه في مثله ندباً ، وأما الصدقة فإن الثمن يكون للمعطى له ، وإلاَّ كان كالكلب العائد في قيئه كما يأتي عند قوله : ومن يصح قبضه وما قبض ، فلا بد من مراجعة ما يأتي هناك إن شاء الله ، والمذهب أنه لا بد فيه من المعاينة ولا يكفي الإقرار بالحوز من المحبس والمحبس عليه بخلاف التصيير فيكفي فيه الإقرار لوجود المعاينة فيه ، فلو قالوا في الوثيقة حوزاً تاماً ولم يقولوا معاينة لم يكف ذلك لأنه محتمل للمعاينة والإقرار فإن كان الشهود أحياء استفسروا وإن ماتوا بطل الوقف إلا أن يكونوا من العلماء العارفين بما تصح به الشهادة فيصح قاله العبدوسي ، فلو وجد الحبس بيد المحبس عليه بعد حصول المانع وادعى أنه حازه قبله فإنه لا يصدق اتفاقاً عند ابن رشد إلا أن تقوم له بينة على دعواه كما مرَّ في الرهن ، وظاهره أن الحوز شرط سواء كان على معين أم لا . كالفقراء والمساجد وهو كذلك ( خ ) عاطفاً على المبطلات أو لم يخل بين الناس وبين كمسجد الخ . ثم ما تقدم من أن الاستمرار وعدمه شيء آخر الخ . هو الذي للقرافي في الفرق الثامن والعشرين والمائتين قال فيه : إذا شهدت بيِّنة بالحيازة قبل الموت وشهدت الأخرى برؤيته يخدمه في مرض الموت قدمت بيِّنة عدم الحوز إذا لم تتعرض الأخرى لاستمراره اه . ونحوه في المتيطية قال فيها : فإن قام وصي على أيتام فأثبت أن أباهم كان أوقف عليهم وعلى أعقابهم ملكاً وأنه حوزه لغيره فحازه لهم بالمعاينة وأعذر إلى زوجته فأثبت أن أباهم لم يزل يعمر الملك ويدخل ما اغتل منه في مصالحه إلى أن توفي عنه فأعذر إلى الوصي في شهادة الاعتمار فلم يأت بمطعن فحكم القاضي بعد مشورة الفقهاء بنقض الحبس ورده ميراثاً اه . وذكر في هبات المعيار عن ابن المكوي أن بهذا القول القضاء قائلاً : إلا أن تشهد بينة للموهوب له أنه حاز الهبة سنة اه . ونقله أبو العباس الملوي في التحرير لمسائل التصيير ، وظاهر هذه النصوص أنه لا فرق بين أن يقولوا إنه رجع لوقفه قبل السنة أو أبهموا ذلك كما ترى ، وأنه يحمل أمره عند الإبهام على أنه رجع قبل السنة كما قاله الوانشريسي كما مرَّ عند قوله : ونافذ تحبيس ما قد سكنه الخ . وبه أجاب سيدي عبد القادر الفاسي في نوازله قائلاً إن الأصل في هذا الحوز الذي شهدت به البينة الأولى الاستصحاب ، لكن ذلك حيث لم يعارض وههنا قد عارضته شهادة اللفيف أن الواهب ما فارقه قط ولا رفع يده عنه مدة من سنة ونحوها قال : وهو محمولعند جهل التاريخ أنه رجع قبلها قاله الوانشريسي اه باختصار . وانظر ما تقدم في تعارض البينتين آخر الشهادات ، وما للشيخ الرهوني في حاشيته في باب الهبة من رد ما للفاسي والوانشريسي لا يعول عليه ولا دليل له على ذلك في نقله ، وبالجملة فالمعتمد ما به القضاء وعليه الحكم كما مرَّ عن المعيار والمتيطية وإن وجد ما يخالفه فلا يلتفت إليه والله أعلم .
تنبيهان . الأول : ما تقدم من بطلان الحبس بعدم الحوز إنما هو إذا حبس في الصحة ، فإن حبس في المرض أو وهب فيه فهو وصية ينفذ منه ما حمله ثلثه ، وكذا كل ما يفعله المريض في مرضه الذي مات منه من بت عتق أو صدقة هو في ثلثه إلا أن يصح من مرضه فينفذ إن حيز عنه قاله مالك وأصحابه ، ومثله من حبس في صحته أو وهب فيها وقال : ينفذ بعد الموت أو قال هبة صرفها من ماله حي أو مات ، فإن ذلك يكون في الثلث إن كان الموهوب أو المحبس عليه غير وارث قاله في الوثائق المجموعة .
الثاني : مرادهم بالمعاينة بالنسبة للعقار التطوف عليه بالبينة من سائر جهاته وإن لم تعاين البينة حرثه للأرض ولا نزوله فيها ولا قطف ثمار الأشجار ولو مات بعد ذلك قبل إبان الحراثة أو بعده لم يضر ، وكذلك الدار إذا عاينوها فارغة وخلى بينها وبين المحبس عليه بقبض مفاتحها ونحو ذلك فذلك حيازة ، وإن لم يعاينوا سكنى المحبس عليه فيها بهذا جرى العمل والفتيا قاله ابن العطار وغيره . وإذا حيز الحبس بإكرائه أو بعقد المزارعة فيه أو مساقاته إن كان مما يسقى كان حيازة تامة واستغنى بذلك عن الحيازة بالوقوف على الأرض ونزول المحبس عليه فيها على المشهور المعمول به قاله في المتيطية . ونظمه في العمل المطلق ، وإنما لم يكتف عن المعاينة بإقرار المحبس لأن المنازع في صحة الحبس أما الوارث أو الغريم فلو اكتفى في ذلك بالإقرار لزم قبول إقرار الإنسان على غيره وهو باطل إجماعاً .
لحائِزِ القَبْضِ وفي المَشْهورِ
إلى الوَصِيَّ القَبْضُ للمَحْجُورِ
( لجائز القبض ) يتعلق بقوله الحوز أي والحوز لجائز القبض وهو الرشيد شرط صحة التحبيس الخ . ومفهومه أن المحجور عليه من صبي وسفيه لا يصح حوزه وهو مقتضى قوله : ( وفي المشهور إلى الوصي ) يجعل ( القبض للمحجور ) ولكن سيأتي قوله : ونافذ ما حازه الصغير الخ . فما ذكره هنا لا حاجة إليه مع ما يأتي من نفوذ حيازته ، ومقابله لإسحاق بن إبراهيم التجيبي أنه لا يصح قبض المحجور لنفسه ونحوه للباجي في وثائقه . قال ابن رشيد : ومحل الخلاف إذا كان له ولي وإلاَّ صحت حيازته لنفسه اتفاقاً .
ويُكْتَفَى بِصحَّةِ الإشْهَادِ
إنْ أَعْوَزَ الحوزُ لِعَذْرٍ بَادِي( ويكتفى بصحة الإشهاد ) على الحوز ( إن أعوز ) أي تعذر ( الحوز ) الحقيقي من التطوف بالأرض ونحوه ( لعذر باد ) قال في كتاب الهبة من المدونة : ومن تصدق على رجل بأرض فإن كان لها وجه تحاز به من كراء تكرى أو حرث تحرث أو غلق تغلق ، فإن أمكنه شيء من ذلك فلم يفعله حتى مات المعطي فلا شيء له ، وإن كانت أرضاً قفاراً أي خالية مما لا تحاز بغلق ولا إكراء ولا أتى لها إبان حرث تزرع فيه أو تمنح أو يحوزها بوجه يعرف حتى مات المعطي فهي نافذة وحوز هذه الإشهاد ، وإن كانت داراً حاضرة أو غائبة فلم يحزها حتى مات المعطي بطلت وإن لم يفرط لأن لها وجهاً تحاز به اه .
قال في البيان : فرق ابن القاسم بين الدار الغائبة والأرض التي لا تمكن حيازتها فقال في الدار : إنها باطلة إذا لم يخرج لحوزها . وقال في الأرض : إن مات المتصدق قبل إمكان حيازتها اكتفى بالإشهاد فيها ولم تبطل ، ولا فرق بينهما في المعنى فهو اختلاف من قوله اه باختصار . ونقله أبو الحسن وغيره مسلماً ، وبمثله أجاب أعني ابن رشد لما سئل عمن تصدق على ابن له كبير بأملاك مشتملة على أرض وحديقة أعناب ودور وأرحى وأشهد بذلك وحاز الابن بعضها والباقي لم يتطوف عليه ولا خرج إليه لأنه في قطر مخوف من العدو أهلكه الله لا يأمن فيه من دخله ولا يجتاز عليه أحد إلا على غرر ومخافة شديدة ، والأب المذكور لم يعتمر هذا الموضع المخوف منذ ثلاثين عاماً لهذا الغرر ، ثم مات الأب قبل أن يحوز الولد هذا الموضع المخوف بتطوف الشهود عليه . فقال : إذا حال الخوف اكتفى بالإشهاد ولا تبطل الصدقة إذا مات قبل إمكان الوصول إليها . هذا معنى ما في المدونة اه . من أجوبته باختصار .
قلت : وفتواه هذه جارية على مذهب المدونة سواء ألحقنا الدار بالأرض كما هو ظاهره أو ألحقنا الأرض بالدار ، لأن قول المدونة : وإن لم يفرط الخ . معناه أنه كان يتهيأ للخروج أو التوكيل كما في البيان ، فعدم التفريط حينئذ صادق بالتهيء للخروج والتوكيل وباليأس من الوصول إلى تلك الأملاك ، والذي قال في المدونة : أنه ليس بعذر هو الأول دون الثاني لأن التهيء والتوكيل لما حصل اليأس من الوصول إليه عبث والخروج إليه تكليف بما لا يطاق فالأول فيه نوع ما من التفريط إذ لا خوف فيه بخلاف الثاني ، وبهذا كله يسقط اعتراض الشيخ الرهوني هذه الفتوى وقال تبعاً لابن رحال : أنها مبنية على القول بأن عدم التفريط في الحوز لا يضر وهو قول أشهب ، ومذهبها أنها مضرة فرط أو لم يفرط فلا تغتر بذلك الاعتراض أصلاً إذ لا يظهر له ولا للبحث مع ابن رشد وجه . وقد تقرر من كلامهم أن البحث لا يدفع الفقه والله أعلم . وقوله في المدونة : أو يحوزها بوجه يعرف الخ . يعني بالتطوف عليها كما تقدم أنه به العمل أي ولا أتى لها إبان يحوزها فيه الخ .وَيَنْفُذُ التَّحْبِيسُ في جَمِيعِ ما
مُحَبِّسٍ لِقَبضِهِ قَدْ تَقَدَّمَا
( وينفذ التحبيس ) ويتم ( في جميع ما ) أي حبس ( محبس ) بكسر الباء ( لقبضه قد تقدما ) بفتح الدال كان الحبس على غير معين كالمساجد ونحوها أو على معين ولو رشيداً حاضراً فإذا قدم المحبس من يحوزه للمعين أو غيره جاز وصح فيهما وإن لم يقدم وأبقاه بيده بطل فيهما ، ومفهوم التحبيس أنه في الهبة والصدقة لا ينفذ بتقديم الواهب والمتصدق على الحوز ، وهو كذلك إذا كان الموهوب له حاضراً رشيداً فهو ميراث إلا أن يحوزه لنفسه قبل المانع فإن كان غائباً أو ما في معناه كالمحجور ولو سفيهاً أو عبداً أو كالمساجد والفقراء صح تقديمه ، ولو كان للمحجور ولي وقدم الواهب غيره كما في الوثائق المجموعة . وقال في المدونة : ومن وهب لصغير هبة وقدم من يحوز له إلى أن يبلغ فذلك حوز كان له أب أو وصي أو لم يكن لأن هذا إنما قدم من يحوزها خوف أن يأكلها له الولي اه من المواق عند قوله في الحجر والولي الأب الخ . وقال في الشامل : وإن قدم الواقف من يحوز له جاز ، وفي الهبة والصدقة يجوز للغائب فقط اه . والفرق بين الهبة والحبس أن الحبس ليس بتمليك وإنما هو إجراء غلة ، وأما الملك فهو للواقف بخلاف الهبة ، وإذا قدم الأب ونحوه من يحوز للصغير فليس له هو أن يحوز له بعد ذلك لأنه لما قدم الغير على حيازته صرفه عنه وأسقط حقه منها ، فإن عاد إلى حيازته بطل كما في ابن عرفة قال : ولو أشهد حين رجوعها له أن يحوزها له ففي صحتها مطلقاً أو إن وجد بمن حازها له سفه أو سوء ولاية . قولا مطرف وابن الماجشون مع أصبغ اه . ومفهوم قوله : محبس قد قدما أنه إذا وكل المحبس عليه من يقبضه له جاز بالأحرى ، لأن قبض الوكيل كقبض موكله وسواء كان حاضراً أو غائباً وهل يكفي قبض غيره له بغير توكيل ؟ قولان . فقال مطرف : يصح ، وقال أصبغ ورواه ابن القاسم : لا يصح إلا بتوكيل قاله في ضيح ، ونحوه في باب الهبة من الشامل ، ويفهم من العزو أن الثاني هو الراجح وإن كان ظاهر قول الناظم في الهبة :
وحوز حاضر لغائب إذا
كانا شريكين بها قد أنفذا
أنه درج على قول مطرف ، لكن من المعلوم أن قول الإمام مقدم على قول غيره ، وعليه فإذا وهب على ولديه الرشيدين فحازها أحدهما لنفسه ولأخيه بغير إذن الأخ ، ثم مات هذا الأخ فوهب الأب الجميع للحائز الأول وحاز حوزاً ثانياً فإنه لا شيء لأولاد الأخ الذي لم يوكل على الحوز ، وكذا لو كان حياً ووهب الأب نصيبه للأول كما مرَّ في قول ( خ ) أو وهب لثان وحاز ،ومحل القولين إذا كان الموهوب له ممن يعتبر إذنه وتوكيله ، وأما من لا يعتبر إذنه كالمحجور ولو عبداً فإنه يصح حوز الرشيد لنفسه ولمن معه من محجور عليه اتفاقاً كما قال :
والأَخُ لِلصَّغِيرِ قَبْضُهُ وَجَبْ
مَعَ اشْتِرَاكٍ وبِتَقدِيمٍ مِنْ أبْ
( والأخ ) الرشيد مبتدأ ( للصغير ) يتعلق بقوله ( قبضه ) وقوله ( وجب ) خبر عن الثاني والثاني وخبره خبر الأول ( مع اشتراك ) في شيء حبس أو وهب عليهما ( وبتقديم من أب ) عطف على مع اشتراك ولا مفهوم له بل لو حازه الكبير بغير تقديم لصح كما مر ، ولأن الأب لو امتنع من التقديم رأساً لا جبر عليه كما قال ( خ ) وخير وإن بلا إذن وأجبر عليه . ولذا قال أبو عبد الله المجاصي في نوازله : إن التوكيل من الأب ليس بشرط وإن أوهمته عبارة العاصمية ومن تقدمه ولكنه مستحب فقط اه . ومفهومه أنه إذا قبض الأخ الرشيد حصته وحاز الأب حصة الصغير على الشيوع بينهما لم يصح كما قال :
وَالأَبُ لا يقبِضُ للصَّغيرِ مَعْ
كبيرِهِ وَالْحُبْسُ إرْثٌ إنْ وَقَعْ
( والأب لا يقبض للصغير ) ومن في معناه من سفيه وعبد ( مع كبيره والحبس ) جميعه ( إرث إن وقع ) ذلك على مذهب ابن القاسم ، وبه العمل كما في المتيطية ، والمفيد والدر النثير وابن سلمون وغيرهم ، ومثل هذا يجري في الهبة كما يأتي في قوله : وللأب التقديم للكبير الخ .
قلت : وتأمل هذا مع ما يأتي في البيت بعده من أن الشيوع لا ينافي الإقباض على المشهور من القولين فالجاري عليه أن قبض الأب للصغير مع الكبير صحيح كما يقوله مقابل المعمول به وقد يقال بأنه فيما يأتي فعل مقدوره إذ لا سبيل له إلى حوز الجميع بخلافها هنا .
إلاّ إذَا ما أمْكَنَ التّلاَفِي
وصُحِّحَ الحَوْزُ بِوَجْهٍ كافِي
( إلا إذا ما أمكن التلافي وصحح الحوز ) من الكبير أو من محجور عليه قبل حصول المانع ( بوجه كاف ) من التطوف على الأرض أو إخلاء الدار ونحو ذلك مما مرّ عند قوله : والحوز شرط صحة التحبيس الخ وسيأتي قوله : ونافذ ما حازه الصغير الخ . فحوز الصغير مع الكبير صحيح كما يأتي :
وإنْ يُقَدِّمْ غَيْرَه جازَ وفي
جُزْءٍ مُشاعٍ حُكْمُ تَحْبِيسٍ قُفي ( وإن يقدم ) الأب ( غيره ) أي الكبير ليحوز معه نصيب الصغير ( جاز ) كما في المتطيةوغيرها ( وفي ) تحبيس ( جزء مشاع ) مع غير المحبس أو معه ( حكم تحبيس ) مبتدأ خبره ( قفي ) أي اتبع والمجرور قبله يتعلق به ، أي : له حكم تحبيس غير المشاع في الجواز ووجوب الحيازة ونحو ذلك ، لكن إذا حبس مشاعاً مع غيره كنصف دار يملكه فإن كانت تقبل القسمة قسمت وأجبر الواقف عليها إن أرادها الشريك ، وإن لم تقبلها لم يجز التحبيس ابتداء إلا بإذن شريكه فإن حبس دون إذنه أو مع إبايته فقولان . البطلان لما على الشريك من الضرر لتعذر البيع وفقد من يصلح معه ، والثاني الصحة وعليه فيجبر الواقف على البيع إذا أراده الشريك ويجعل ثمن حصته في مثل وقفه ، وهل ندبا وهو قول ابن القاسم ، أو جبرا وهو قول عبد الملك ، وبه العمل قال ناظمه :
ووقف جزء شائع لا ينقسم
من غير إذن من شريكه علم
وحيث لم يرض يباع والثمن
في مثله يجعل جبراً حيث عن
هذا حكم المشاع مع الغير ، وأما المشاع معه ففي المنتخب عن أصبغ قال : سمعت ابن القاسم يقول فيمن تصدق عن ابن له صغير بنصف غنمه أو ثلثها أو عبده أو داره أن ذلك جائز وحوز الأب فيه حوز تام اه . ونحوه في المعيار عن اللؤلؤي ، وسواء كانت له غلة كالرحى والفرن ونحوهما أو كان للسكنى . قال في الاستغناء : من تصدق بسهم مما لا ينقسم كالفرن والحمام ولا يتجزأ إلا بخراب أصله وكان له غلة فإن قبض المتصدق عليه الغلة في حياة المتصدق مضت صدقته وتمت حيازته اه . . وهذا على أن الشيوع لا ينافي القبض ، وتقدم عند قول الناظم : ونافذ تحبيس ما قد سكنه الخ : إن هذا هو المشهور ، لكن الرشيد لا بد أن يتصرف مع المحبس أو الواهب بخلاف المحجور ، فإن حوز الأب له كاف وأحرى لو تصرف مع الواهب أيضاً لأن الصغير يحوز لنفسه على المشهور كما قال :
ونافِذٌ ما حازَهُ الصَّغيرُ
لِنَفْسِهِ وبالِغٌ مَحْجُورُ
( ونافذ ما حازه الصغير ) من الحبس وسائر العطايا ( لنفسه و ) أحرى ما حازه من ذلك( بالغ محجور ) عليه لأن القصد خروج ذلك من يد المحبس وذهب إسحاق بن إبراهيم التجيبي إلى عدم نفوذه ونحوه للباجي في وثائقه ، ومحل الخلاف إن كان له ولي وإلا جازت حيازته اتفاقاً كما تقدم عن ابن راشد وظاهر قوله : ونافذ الخ أنه يكره ابتداء وهو كذلك على ما لابن زرب .
( تنبيه : ) قال في المتيطية : وإذا سكن الأب داراً تصدق بها على صغار بنيه دونهم حتى مات بطلت الصدقة ، وإن سكنها وهم معه فظاهر قول مالك إنها تبطل أيضاً . وقال ابن حبيب : تتم لهم الحيازة لأنه إنما سكن معهم لحضانته لهم اه . وعليه فإذا كان المحجور ممن يعقل أمره وأشهد أنه يتولى الحيازة لنفسه فلا يضره سكنى المتصدق معه على ما لابن حبيب وهو ظاهر إطلاق الناظم غيره .
وبانْسِحابِ نَظَرِ المُحَبِّس
لِلْمَوْتِ لا يَثْبُتُ حُكْمُ الْحُبُسِ
( وبانسحاب نظر المحبس ) واستمراره على الحبس ونحوه ( للموت ) أي إلى حصول المانع له من الموت والفلس ومرض الموت ( لا يثبت حكم الحبس ) ويبطل جملة لعدم حيازته سواء كان على معين كزيد أو على غيره كالفقراء والمساكين ولا يكون في ثلث ولا غيره إلا أن يقول : هو حبس أو هبة صرفه من ماله حيي أو مات فإنه يكون في الثلث إن لم يحزه كما تقدم عن الوثائق المجموعة ، وانظر ما يماثله في شرح الشامل عند قوله : والوقف من رأس ماله إن وقع في الصحة وإلا فمن الثلث الخ . وما ذكره الناظم مستغنى عنه بقوله : والحوز شرط صحة التحبيس الخ : لأن الشرط يلزم من عدمه العدم فيلزم من عدم الشرط الذي هو الحوز عدم صحة الحبس ونحوه .
تنبيه : إذا قال الرجل لولده : أصلح نفسك وتعلم القرآن ولك القرية الفلانية أو قال لزوجته النصرانية : أسلمي ولك داري وأشهد بذلك كله ، فأسلمت الزوجة وأصلح نفسه الولد وتعلم القرآن فإن ذلك يكون لهما ولا يحتاج إلى حيازة على ما رجحه ابن رشد ، لأن ذلك ثمن الإسلام والتعلم ، وبه جزم صاحب المعين ، وحكى مقابله بقيل بصيغة التمريض راجعه في أواثله ، وانظر ( ح ) في باب الهبة وفي الباب الثالث من التزاماته .
وَمَنْ لِسُكْنَى دَارِ تَحْبيسٍ سَبَقْ
تضيقُ عَمَّنْ دُونَه بِهَا أَحَقْ
( ومن ) مبتدأ ( لسكنى دار تحبيس ) يتعلق بقوله ( سبق ) والجملة صلة ما وجملة ( تضيق عمندونه ) صفة لدار أو حال وقوله ( بها ) يتعلق بقوله ( أحق ) وهو خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة خبر من أي من سبق لدار الحبس بالسكنى بوصف الأحوجية وقد ضاقت عمن دونه فهو أحق بها ولا كراء عليه لغيره ، وظاهره وإن صار غنياً عن السكنى بها والغير محتاج إليها وهو كذلك لأنه سكن بوجه جائز فلا يرتفع الحكم بارتفاع سببه الذي هو الأحوجية لأن عودتها لا تؤمن ، وظاهره سكن بأمر الحاكم أو بادر إلى ذلك وليس كذلك ، بل إنما ذلك إذا سكن باستحقاق وصف الأحوجية كما قررنا . وأما إذا بادر بعضهم إلى السكنى فليس له ذلك بابتداره ، ولكن ينظر الإمام أحوجهم وأقربهم كما في ضيح عن ابن كنانة ، وظاهره أيضاً كانت حبساً على من لا يحاط بهم كالفقراء وطلبة العلم أو على قوم وأعقابهم وليس كذلك ، بل إنما ذلك في الحبس على القوم وأعقابهم أو على أولاده وأولاد فلان بناء على إلحاق فلان بغير المعينين فإن عينهم فحق من لم يسكن باق حضر أو غاب فيأخذ واجبه من كرائه ، وأما على من لا يحاط بهم فإن من استغنى منهم يخرج لغيره كما في ابن عرفة عن ابن رشد قال : ومن استحق مسكناً من حبس هو على الفقراء لفقره أخرج منه أن استغنى اه . وبالجملة : فالمحبس إن حبس على من لا يحاط بهم فإن كان لوصف خاص كطلب العلم والغزو والتدريس وسكن أحدهم فلا يخرج وإن استغنى لأن الوصف لا زال قائماً فإن زال الوصف المحبس لأجله أخرج كالفقر والمسكنة يزولان وطلب العلم والغزو يتركان ، ونحو ذلك فالمدار على زوال الوصف المحبس لأجله وعدم زواله ، وبه يسقط اعتراض الشيخ البناني على طفي ، ومحل ما تقدم إذا لم يكن هناك شرط من الواقف وإلاّ فيتبع ( خ ) : وعلى من لا يحاط بهم أو على قوم وأعقابهم أو على كولده ولم يعينهم فضل المتولي أهل الحاجة والعيال في غلة وسكنى ولم يخرج ساكن لغيره إلا لشرط أو سفر انقطاع أو بعيد .
تنبيه : قال في المنتخب : إذا استبد الذكور بالاغتلال زماناً ظناً منهم أن لا حق للنساء في الحبس ، ثم علم النساء أن لهن حقاً فيه ، فإنه لا يرجع النساء على الذكور بنصيبهن من الغلة فيما مضى كمن سكن في الدار المحبسة ثم قدم غيره اه . ونحوه في المقدمات قائلاً : إذا استغل بعض الحبس عليهم وهم يرون أنهم ينفردون به أو سكنوه فإنه لا يرجع عليه الطارىء بشيء من الغلة ولا بالسكن على رواية ابن القاسم ، وقيل : يرجع عليهم بالغلة والسكنى وهو القياس اه . وفهم من قوله ظناً منهم الخ . . . وقوله : وهم يرون أنهم ينفردون به الخ . . . أنهم إذا علموا بأن للغير حقاً فيه فإنه يرجع عليهم وفي أحباس المعيار أن من أخفى رسم الحبس ظلماً وكانيتصرف في الغلة وحده فإن غيره يرجع عليه .
ومَن يَبيعُ ما عَليْهِ حُبِّسا
يُرَدُّ مُطْلَقاً ومعْ عِلْمٍ أسا
( ومن يبيع ما ) أي شيئاً ( عليه حبسا يرد ) بيعه ويفسخ ( مطلقاً ) فات بهدم أو بناء أو خروج من يد أم لا كما في ( ح ) آخر الاستحقاق : علم البائع بكونه حبساً أم لا كان بائعه محتاجاً أم لا إلا إذا جعل له البيع في أصل التحبيس كما مرَّ في اتباع شرط المحبس ( و ) إذا باعه ( مع علم ) بتحبيسه عليه فيكون قد ( أسا ) ء وأثم فيعاقب بالأدب والسجن عند ثبوت علمه به إذا لم يكن له في بيعه عذر يعذر به قاله في الوثائق المجموعة ، ولعل مراده بالعذر أنه ادعى جهل عدم جواز بيع الحبس أو ادعى أنه باعه لفاقته واضطراره الذي يبيح له أكل الميتة ونحو ذلك .
وَالخلْفُ في المبتاع هلْ يَعْطِي الكِرا
واتَّفَقُوا مَعْ عِلْمِهِ قبلَ الشِّرا
( والخلف في المبتاع ) الذي لم يعلم بالتحبيس وهو محمول على عدمه عند الجهل استصحاباً للأصل ( هل يعطي الكرا ) ء والغلة ويرد ذلك للمحبس عليه بعد أن يرجع بثمنه ويتقاصان أو لا يعطى شيئاً لأن الخراج بالضمان وهو مذهب ابن القاسم ، وهو المذهب وبه العمل كما في معاوضات المعيار ونحوه في ( ح ) عند قوله : لا صداق حرة . ونظمه في العمل المطلق وهو الذي يفيده ( خ ) في الاستحقاق بقوله : والغلة لذي الشبهة أو المجهول للحكم كوارث وموهوب ومشتر لم يعلمه . ( واتفقوا ) أي جل الفقهاء على رد الغلة والكراء ( مع علمه ) بالتحبيس ( قبل الشرا ) ء أو بعده وتمادى على استغلاله فإنه يرد غلة ما استغله بعد علمه ويرد مكيلة المثل من ثمرة ونحوها إن علمت أو قيمتها إن جهلت ، وقولي : جل الفقهاء إشارة إلى فتوى ابن سهل بخلاف ذلك ، وأنه لا يرد الغلة وإن علم في المشتري بالتحبيس . قال الشارح : وفتواه لا تخلو من نظر لما في ذلك من تمكين المبتاع من غلة عقد باطل لا شبهة له فيه . قال الشيخ بناني في فصل الاستحقاق : وفيه أيضاً سلف جر نفعاً إذا علمه بالتحبيس قبل الشراء دخول على فسخ البيع ورجوع الثمن له بعد غيبة البائع عليه وهو سلف والغلة منفعة في السلف اه .
قلت : ويجاب عن ابن سهل بأنه وإن كان عقداً باطلاً فاسداً فإن الضمان ينتقل فيه بالقبض ( خ ) : وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض ورد ولا غلة تصحبه ، وقد علمت أن الخراج بالضمان وسواء كان سبب الفساد سلفاً بمنفعة أو غيره . قال الزرقاني : ظاهر قوله ولا غلة الخ . ولو كان المشتري عالماً بالفساد ووجوب الرد اه . . وقيده التتائي تبعاً للسنهوري بما قبل علمه بوجوبالرد اه . واعترضه مصطفى وغيره بمخالفة القيد المذكور لإطلاق المدونة في عدم رد الغلة ، وكذا ابن الحاجب وابن عبد السلام والتوضيح وابن عرفة قالوا : والإطلاق هو الموافق للخراج بالضمان إذا علمه بوجوب الرد لا يخرجه عن ضمانه . قال طفي : ولم أر القيد الذي ذكره التتائي لغيره اه . ولما ذكر ( ح ) في التزاماته أثناء الكلام على الثنيا أنه سمع من والده يحكي عن بعض من عاصره أنه لا يحكم للمشتري بالغلة في البيع الفاسد إلا إذا كان جاهلاً بفساده حال العقد ، وأما إن كان عالماً بذلك ، وتعمده فلا غلة له قال عقبه ما نصه : ولم أقف على ذلك منصوصاً وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق بين الجاهل والعالم ، بل قال ابن سهل في أحكامه : الجاهل والعالم في البيع الفاسد سواء في جميع الوجوه اه . والعلم بفساد الثنيا يوجب سلفاً جر نفعاً كما مرّ في فصله ، ومع ذلك قالوا : الغلة فيه للمشتري وهذا كله يشهد لما لابن سهل ويرجحه ، وقد اقتصر ( ح ) في فصل الاستحقاق عند قوله : لا صدق حرة على ما لابن سهل ، وكذا الزرقاني في الاستحقاق أيضاً وعند قوله : ولا غلة تصحبه الخ .
تنبيه : قال ابن يونس : ومعنى قوله عليه السلام : ( الخراج بالضمان ) الخ أن المشتري للشيء الذي اغتله لو هلك في يده كان منه وذهب الثمن الذي نقد فيه فالغلة له بضمانه اه .
ويَقْتَضِي الثَّمَنَ إن كان تَلفْ
منْ فائِدِ المبيع حتى يَنْتَصِفْ
( و ) إذا رد البيع مع علم المشتري أو مع عدمه فإن المشتري يرجع على البائع بالثمن إن كان ملياً وإن كان عديماً وثبت عدمه وحلف أنه لا مال له فإنه ( يقتضي الثمن ) الذي دفعه ( إن كان تلف ) عند البائع وليس له غيره ( من فائد ) أي غلة ( المبيع ) يدفع إليه عاماً بعد عام حتى يستوفي ثمنه وذلك ( حيث يتصف ) البائع بالحياة .
وإنْ يَمُتْ مِنْ قَبْلُ لا شَيءَ لهُ
وَلَيْسَ يَعْدُو حُبْسٌ مَحَلَّهُ
( وإن يمت ) البائع ( من قبل ) أي قبل استكمال المشتري ثمنه فإنه ( لا شيء له ) من الثمن أو باقيه لأن الحبس قد انتقل لغير البائع ( وليس يعدو حبس محله ) الذي انتقل إليه بعد موت البائع فهو كالتعليل أي : لا شيء له لأن الحبس لا يعدو محله الذي انتقل إليه .
تنبيهان . الأول : ظاهر قوله : يرد مطلقاً أنه يرد ولو كان المحبس عليه باعه لخوف الهلاك على نفسه لمجاعة ونحوها ، وبه أفتى البرقي وابن المكوي والفقيه الصديني قائلاً : وما علمت جواز بيعه لما ذكر لأحد من أهل العلم وينقض إن وقع درج عليه ناظم العمل فقال :
بيع المحبس على المسكين لم
يقع مع الحاجة عند من حكم
وأفتى القاضي أبو الحسن علي بن محسود بجواز البيع لخوف الهلاك بالجوع ونحوه ، وظاهره كان المحبس عليه معيناً محصوراً أم لا . واستشكل فتواه هذه أبو زيد سيدي عبد الرحمنالفاسي قائلاً : ولا أعرف مستنداً بهذه الفتوى ولعلها اجتهاد . نعم مستندها في الجملة المصالح المرسلة وارتكاب أخف الضررين . قال : والحاصل أن تلك الفتوى مما تندرج بالمعنى فيما استثنوه من بيع الوقف لتوسيع المسجد ونحوه اه . باختصار .
قلت : وتأمل ما قاله الفقيه الصديني وأبو زيد الفاسي مع نقل ابن رحال ، جواز البيع عن اللخمي وعبد الحميد ونصه : ومن حبس عليه شيء وخيف عليه الموت لمثل مجاعة فإن الحبس يباع وينفق على المحبس عليه قاله اللخمي وعبد الحميد . وعلل اللخمي ذلك بأن المحبس لو حضر لكان إحياء النفس عنده أولى اه . باختصار . ثم قال : ولعل فتوى البرقي حيث لا يغلب على الظن الهلاك إن لم يبع اه . كلام ابن رحال باختصار . وفي المعيار عن العبدوسي أنه يجوز أن يفعل في الحبس ما فيه مصلحة مما يغلب على الظن حتى كاد يقطع به أنه لو كان المحبس حياً لفعله واستحسنه اه . وذكر ابن عرفة عن اللخمي فيمن حبست على ابنتها دنانير وشرطت أن لا تنفق عليها إلا إذا نفست قال : ذلك نافذ فيما شرطت ولو نزلت شدَّة بالابنة حتى خيف عليها الهلاك لأنفق عليها منها لأنه قد جاء أمر يعلم منه أن المحبسة أرغب فيه من الأول اه . فهذا كله يؤيد فتوى ابن محسود ويرجحها ويدل على أنها أولى بالاتباع والعمل والله أعلم .
الثاني : ما تقدم من أن المستحق من يده الحبس لا يرد الغلة عن المذهب للشبهة محله إذا لم يكن المستحق من يده يستغل ذلك من جهة الواقف بإرث أو وصية ، فإذا أوصى لشخص بثلثه مثلاً فاستغل ثم ظهر بعد ذلك أن الموصي كان أوصى للمسجد بالثلث أيضاً أو بعرصة وفدان ونحو ذلك ، فإن الموصى له يلزمه كراء مناب الحبس من وقت انتفاعه إلى وقت ظهور الوصية للمسجد ، وكذا الوارث إذا استغل عقار الميت زماناً ثم قام عليهم ناظر الأحباس بالوصية أو بأن ذلك الفدان حبسه موروثهم ونحو ذلك فإنه يلزمهم رد الغلة قاله في المعيار عن العبدوسي قال : وليس هذا بمنزلة من استحق من يده ملك بالحباسة ولم يعلم بها أنه لا يرجع عليه بالغلة على قول ابن القاسم وبه العمل اه . قال الشيخ الرهوني : ووجهه ظاهر لأنه بمنزلة طرو وارث يحجبه الطارىء . قال في المقدمات : وأما ما لم يؤد فيه ثمناً ولا كان عليه في ضمان كالوارث يرث ثم يأتي من هو أحق منه فلا اختلاف أنه يرد الغلة اه . ولا يعكر عليه ما تقدم عن ( خ ) لأن المراد بالوارث في كلامه وارث ذي الشبهة أو المجهول أو المشتري من الغاصب الذي لم يعلم بغصبه كما قرره به شراحه ، ويدل له قولهم الخراج بالضمان ولا ضمان على الموصى له ولا على الوارث المذكورين كما تقدم عن ابن يونس .
وغيْرُ أصْلٍ عَادِمِ النَّفع صُرِفْ
ثَمَنُهُ في مِثْلِهِ ثُمَّ وُقِفْ
( و ) حبس ( غير أصل ) كحيوان وثياب من نعته وصفته ( عادم النفع ) فيما حبس عليه وينتفع به في غيره كفرس حبس على الجهاد صار بحيث لا ينتفع به فيه ولكن ينتفع به في الطحنونحوه فإنه يباع و ( صرف ثمنه في مثله ثم وقف ) أي في فرس آخر يصلح للجهاد إن بلغ ثمنه ذلك ، فإن لم يبلغه فإنه يستعان به في مثله ( خ ) : وبيع ما لا ينتفع به من غير عقار وصرف ثمنه في مثله أو شقصه أي إن وجد وإلاَّ صرف في السبيل وبيع فضل الذكور وما كبر من الإناث وصرف ثمنه في إناث الخ . . . ومفهوم غير أصل أن الأصول من الدور والأرضين لا يجوز بيعها وهو كذلك على المشهور ( خ ) : لا عقار وإن خرب الخ . أي لأنه قد يوجد من يصلحه بإجارته سنين فيعود كما كان ، ومقابله لربيعة وإحدى الروايتين عن مالك أنه يجوز بيع ما خرب منه ، وبه أفتى الحفار وابن لب وغيرهما وعليه العمل قال ناظمه :
كذا معاوضة ربع الحبس
على شروط أسست للمؤتسي
والمعاوضة من قبيل البيع بل قال المكناسي في مجالسه : أن الجنان إذا كان لا تفي غلته بخدمته فإنه يباع ويشترى بثمنه مثله قال : وبه العمل اه . وأصله لابن الفخار ويأتي مثله في التنبيه الثاني عن ابن عرفة وعليه فلا مفهوم للمعاوضة على هذا وإن كان شارح العمل نقل عن ناظمه أن العمل إنما هو بالمعاوضة لا بالبيع ، والظاهر أنه حيث لم توجد المعاوضة فإنه يصار للبيع ويشتري بثمنه مثله كما قال المكناسي وغيره . وهذا أغبط للحبس وأولى من تركه للضياع والاندثار . وشرط المعاوضة في الحبس أو البيع أن يكون خرباً ، وأن لا تكون له غلة يصلح بها ، وأن لا ترجى عودته إلى حالته بإصلاح أو غيره وأن لا يوجد من يتطوع بإصلاحه قاله في المعيار . ومفهوم عادم النفع أن ما فيه نفع للحبس لا يباع بحال وهو كذلك ، والمراد النفع التام الذي يحصل من أمثاله ، وأما ما قل نفعه فإنه يباع ويشترى بثمنه ما هو تام النفع كما قاله ابن الفخار وغيره : ومن عادم النفع فيض ماء الأحباس فإنه يجوز بيعها . قال ناظم العمل :
وفيض ماء حبس يباع
وما به للحبس انتفاع
قال في شرحه : وإذا جاز البيع جاز الاستئجار بالأحرى .
تنبيهان . الأول : علم من جواز المعاوضة والبيع على ما به العمل أن الحبس يحاز عليه ، فإذا كانت دار مثلاً بيد شخص مدة الحيازة فقام عليه ناظر الأحباس وأثبت بالبينة العادلة أنها حبس ، وادعى الآخر أنه عاوضها أو اشتراها أو ادعى ورثته ذلك ، فإن القول للحائز بيمينه كما يأتي في قوله : واليمين له إن ادعى الشراء منه معمله الخ . . . بل وكذلك لو لم يكن يدعي الحائز عشر سنين ولا وارثه شيئاً لأنه يحمل على أنها انتقلت إليه بوجه جائز ولا تنزع من يده مع قيام احتمال انتقالها إليه بالوجه المذكور مع شدة حرص النظار في هذه البلدة على حفظ الأحباس وعدم تركها للغير يتصرف فيها ، ومجرد الاحتمال مانع من القضاء إجماعاً كما لابن عتاب وغيره . وقول