كتاب : البهجة في شرح التحفة
المؤلف : أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي
راجعاً لجميع ما مر وأنه حذفه من قوله وعزل حاكم الخ لدلالة ما قبله عليه ، وقوله : إلا في ضرر الزوجين يريد وكذلك النكاح في حياة الزوجين كما مر تفصيله ، وتأمل ما معنى اشتراطه حينئذ في نحو الحيض والحمل ، والظاهر أن معناه في الحمل حينئذ أن تحتاج الأمة بعد موت سيدها من نحو عشرين سنة إلى إثبات كونها حملت من سيدها لتثبت حريتها أو يحتاج أولادها الذين نشأوا بعد ذلك الحمل إلى ذلك ليكون لهم حكمها ، وكذا في الحيض فإن الزوج إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً وأشهد بارتجاعها فماتت الزوجة وبعد مدة من عشرين سنة مثلاً تنازع الزوج وورثتها في الميراث فأقام الورثة بينة بالسماع أنها حاضت الثالثة قبل تاريخ الارتجاع فلا ميراث للزوج ، وإلاَّ فالمرأة مصدقة في انقضاء عدتها فيما يمكن فلا تحتاج لسماع والذي لابن هارون واعتمده ابن عرفة أن الطول إنما يشترط في الأملاك والأشربة والأحباس والأنكحة والصدقة والولاء والنسب والحيازة اه . فانظر ذلك فإن كثيراً من المتأخرين ممن وقفنا عليه يسرد هذه الأمور من غير بيان لكيفية تصورها .تنبيه : ظاهر النظم أنه لا يحتاج في الوثيقة إلى بيان قدر الطول ، وإنما يعتمد الشاهد عليه فقط قال في المتيطية : ولا يجب في الشهادة بيان مدة السماع وبه جرى العمل عند غير واحد من الموثقين . وقال ابن المكودي وغيره من الأندلسيين : لا بد من ذكر المدة للاختلاف في قدر المدة التي تجوز فيها شهادة السماع اه بلفظ الاختصار . قلت : وما لابن المكودي هو الواجب فيما إذا كان الشاهد من غير أهل العلم ، وعليه فإن سقط ذكر المدة من الوثيقة فيسئل عنها كما مرّ عند قوله : وغالب الظن الخ . وكما قالوا في الحيازة القاطعة لحجة القائم من أن العمل على أنه لا بد من التصريح في وثيقتها بعشر سنين لاختلاف الناس في قدر مدتها كما يأتي إن شاء الله .
وينبغي أن يكون محل الخلاف المذكور إنما هو إذا قال الشاهد : كنت أسمع أو سمعت سماعاً فاشياً الخ . أما إذا قال ( لم ) أزل أسمع فقال أبو الحسن في كتاب اللقطة : يقوم منها أي من المدونة أن الشاهد إذا قال : لم أزل أسمع أن هذا الموضع حبس في وجه كذا أن الشهادة عاملة ويحمل على أنه من يوم عقل وفهم ، وإذا قال كنت أسمع أو سمعت فإنه يلزمه تحديد لمدةواستمرارها إلى حين التاريخ لأن قوله : سمعت إنما يحمل على مدة واحدة وكأن تقتضي التكرار ولا تقتضي استغراق الماضي وإن كان فيها خلاف بين الأصوليين اه ونحوه للفشتالي في وثيقة السماع بالحبس .
وحَبْسِ مَنْ جاز مِنَ السِّنِينا
عَلَيْهِ ما يُناهِزُ العِشْرِينَا
( و ) أعملت أيضاً في ( حبس من ) نعته ( جاز من السنينا عليه ما يناهز ) أي يقارب ( العشرينا ) سنة فما فاعل جاز ويناهز صلتها وعليه يتعلق بجاز ومن السنين بيان لما . وكيفية وثيقته أن يقولوا لم يزالوا يسمعون سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم أن الدار الفلانية مثلاً محبسة على مسجد كذا أو على بني فلان وعقبهم ويعرفونها تحاز بما تحاز به الأحباس وتحترم بحرمتها واتصل ذلك في علمهم إلى الآن ويحوزونها بالوقوف إليها والتعيين لها متى دعوا إلى ذلك الخ . فإن سقط من الوثيقة أنها تحاز ، أو المعرفة بأنها تحاز فالشهادة غير عاملة . وفي المدونة ما ظاهره أنها تامة إذا سقطت المعرفة فقط ففيها والشهادة على السماع في الأحباس جائزة لطول زمانها يشهدون أنا لم نزل نسمع أن هذه الدار حبس تحاز بما تحاز به الأحباس الخ ، لكن حملها ابن ناجي على خلاف ظاهرها فقال : قصد بقوله تحاز القطع بذلك فيقولون نعلم أنها تحاز بحوز الأحباس على القطع لا أنه داخل تحت السماع وعلى ذلك حمله ابن رشد ونقله ابن فتوح وغيره على المذهب ، وبه العمل . وقيل : لا يشترط ذلك بل إدخاله تحت السماع كاف قاله ابن سهل اه . فعلم من هذه الوثيقة أنهم إذا قالوا لم نزل نسمع أنها حبس ولم نسمع تحبيس من هي فالشهادة تامة وهو كذلك قاله في المتيطية وهو ظاهر ابن سهل وغيره خلافاً لما في التبصرة من أنه لا بد أن يضمن في الوثيقة أن الدار كانت ملكاً للمحبس لأن معرفة المحبس وإثبات ملكه إنما يحتاج إلى التنصيص عليهما في الشهادة على أصل التحبيس بتاً لا سماعاً كما لابن عبد السلام ، وفي وصايا المعيار أثناء جواب ما نصه : شاهدت عند أبي بكر القاضي شورى في عقد حبس كتبه أبو عمر الشاطبي وفيه : يعرفون المواضع التي بموضع كذا حبساً من حبس فلان وأنها تحترم بحرمة الأحباس فقال ابن عتاب لابن ذكوان : لا يجوز بهذا الرسم حكم إلا بعد ثبوت ملك المحبس وموته وعدة ورثته والإعذار في ذلك ، وكان الشاطبي المذكور بالحضرة فقال لابن عتاب : كيف لا يحكم بالرسم وقد نص فيه على أنها تحترم بحرمة الأحباس ؟ فقال له ابن عتاب : اسكت إنما عليك أن تسمع ولا تعترض اه . ولابن رشد في أجوبته : لا يجب القضاء بالحبس إلا بعد أن يثبت التحبيس وملك المحبس لما حبس يوم التحبيس وتعيين الأملاك المحبسة بالحيازة فإذا ثبت ذلك وأعذر فيه للمقوم عليه فالقضاء بالحبس واجب اه . وهو موافق لما مرّ عن ابن عتاب ، وذكر هذا ابن فتوح في الوثائق المجموعة في عدة عقود لما ذكر في بعضها أنه إن عرف الشهود الملك كان أتم ، وذكر في بعضها أن الشهود إذا لم يعرفوا الملك أسقط من الوثيقة فمقتضاه عدم اشتراط ثبوت الملك في الشهادة ببت الحبس إلا أنه إن ذكر فهو أتم ، ونحوه للمتيطيوبكلامهما اعترض ابن عرفة على ابن عبد السلام قال بعض الفضلاء : وفيه نظر ، فإن مقتضى ما لابن عتاب وابن رشد وغيرهما أن اشتراط ذلك هو المذهب ، وما في المتيطي وابن فتوح لا نسلم أنه يقتضي عدم الاشتراط لاحتمال أن يكون معناه إن لم يعرف الشهود ذلك أسقطوه ثم لا يتم الحكم بالحبس إلا به بأن يشهد بالملك من يعرفه من غيرها وقد صرح المتيطي بذلك في موضع آخر فتأمله وهذا كله في شهادة البت ، وأما شهادة السماع فلا يشترط فيها تسمية المحبس ولا إثبات ملكه اه . المراد من كلام هذا الفاضل وما ذكره في البت من اشتراط ثبوت الملك نحوه في ( ح ) وضيح مقتصرين عليه ، وصرح ابن رحال برجحانيته ، وفي الفشتالية فإن ذكر في الوثيقة أي وثيقة السماع اسم المحبس فلا بدّ من إثبات الملك وموته وعدة ورثته . قال صاحب الوثائق المجموعة ، وقيل إن بعد عهد موت المحبس وتعذر إثبات ورثته فإن ذلك ساقط ولا يلزم إثبات ذلك اه . فأنت ترى كيف ضعفه بقيل ، وما ذكره عن ابن عرفة من الاعتراض تبعه عليه البرزلي في نوازله وسلمه ، وعلى القول باشتراط ثبوت الملك فمعناه أن الحبس لا يكون حجة للقائم به بحيث يقابل التحبيس الملك الذي أثبته الغير فإن لم يقم فيه أحد فيثبت الحبس وإن لم يثبت ملكه وبالوجه الذي يرد للورثة يكون حبساً قاله ابن رحال .
تنبيه : إنما يعمل السماع بالحبس فيما بيد المشهود له أو لا بد لأحد عليه إذ السماع لا ينزع به من يد حائزه كما مرّ ، وظاهر ابن عرفة وغيره أنه ينزع به انظر ( ز ) وحش وإنما يعمل به أيضاً في الحبس إذا نصوا على التعصيب ، والمرجع فإن سقط التنصيص عليه فالشهادة ناقصة لا تعمل شيئاً قاله في الفشتالية والمتيطية وغيرهما . قال أبو عبد الله المجاصي في جواب له : والمراد بالسقوط عند الأداء لا في الوثيقة ، وإنما يضر الإجمال في العقب والمرجع إذا ذكرا معاً أو أحدهما أما مع عدم التعرض لهما ولا لأحدهما في الشهادة فيثبت الحبس ويكون القول لمدعي التعقيب إذ هو غالب أحباس زماننا لا كما يفهمه حكام البوادي فإن العرف محكم . ذكر هذا القاضي أبو مهدي سيدي عيسى السجستاني اه .
وعَزْلِ حَاكِمٍ وفي تَقْدِيمهِ
وضَرَرِ الزَّوْجَيْنِمِنْ تَتْمِيمِهِ
( و ) أعملت في ( عزل حاكم ) أيضاً كقولهم لم نزل نسمع من أهل العدل وغيرهم أنه عزل في تاريخ كذا فلا يمضي ما صدر منه من الأحكام بعد ذلك ( و ) أعملت ( في تقديمه ) أي الحاكم أي توليته فتمضي أحكامه التي حكمها بعد تاريخها ( و ) في ( ضرر الزوجين ) كقولهم : سمعنا من أهل العدل وغيرهم أن فلاناً يضر بزوجته من غير ذنب يوجب ذلك أو أنها تسيء عشرتها له ، فيثبت لها الخيار في طلاق نفسها في الأول ، ويرد الزوج المال إن ثبتت الشهادة بعد الخلع ( خ ) ورد المال بشهادة سماع على الضرر الخ ، ويأتمنه الحاكم عليها في الثاني أو يخالعها له بالنظر كما يأتي في فصل إثبات الضرر إن شاء الله . ( من تتميمه ) حال أي حال كون ضرر الزوجين متمماً لمايجوز فيه السماع ، وهذا فيما حضر للناظم الآن ، وجملة ما ذكره تسعة عشر ، وزاد ابن العربي السبتي وولده : الصدقة ، والهبة والقسمة والبيع والوصية والخلع والحرابة والإباق ، لكن الخمس الأول داخلة في قول الناظم : وفي تملك الملك بيد الخ . كما مرّ لما علمت أن السماع لا ينزع به من يد حائز ، وحينئذ فلا بد أن يكون الموهوب ونحوه تحت الحائز ولا يمكن تصور ذلك فيما إذا كانت بيد الواهب ونحوه فتأمل ذلك ، وزاد بعضهم الحوالة وهي بيع في الحقيقة والحيازة والوكالة والعتق والأسر والعدم وتنفيذ الوصايا ودخول الاهتداء والرفع على خط العدول وتقية الظالم ودفع نقد المهر والموت ويشترط في جوازها فيه طول الزمان أو تنائي البلدان ، ويمكن دخوله في قول المصنف : والميراث . قال الجزيري : لا بد في شهادة السماع بالموت أن يقولوا سمعنا فلاناً الذي نعرفه بعينه واسمه ونسبه مات يوم كذا في وقت كذا ، ولا يستغنى عن التاريخ الذي مات فيه من جهة من يوارثه ليعلم به من مات قبله أو بعده اه .
وفي الفشتالية : ولا تغفل أن تقول في السماع بالموت ويعرفون أن أهل الإحاطة بإرثه فلان لأنك إذا عطفت حصر الورثة على السماع دخل في ذلك ما دخل السماع بالحبس والنسب . قال ابن الهندي : مثل أن يشهدوا بالسماع الفاشي من أهل العدل وغيرهم أن فلان بن فلان قرشي من فخذ كذا يعرفونه وآباءه من قبله قد حازوا هذا النسب ، ولا يعلمون أحداً يطعن عليهم فيه إلى الآن فمن نفاه عن هذا النسب بعد حد له اه . فيستفاد منه أنه يعمل به في الشرف أيضاً ، وزيد أيضاً اللوث كأن يقولوا سمعنا سماعاً فاشياً أن فلاناً قتل فلاناً عمداً أو خطأ ، وقد نقل ابن عرضون في عقود الطلاق منظومة في ذلك أنهى فيها مسائلها إلى خمسين فانظرها إن شئت .ولما تكلم على ما حضره من الأفراد التي تجوز فيها تكلم على شروطها العامة في كل فرد منها فقال :
وشَرْطُها اسْتِفَاضَةٌ بَحَيْثُ لا
يُحْصَرُ مَنْ عَنْهُ السَّماعُ نُقِلاَ
( وشرطها ) مبتدأ خبره ( استفاضة بحيث ) يتعلق بمحذوف صفة ( لا يحصر ) بالبناء للمفعول : ( من ) نائب ( عنه ) يتعلق بنقلا ( السماع ) مبتدأ ( نقلا ) بالبناء للمفعول خبر والجملة صلة من والجملة من قوله لا يحصر الخ في محل جر بإضافة حيث ، ويجوز أن يكون بحيث عطف بيان على استفاضة وتفسير له ، فالاستفاضة هي أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور ، وهذا الشرط لا بد من التصريح به في الوثيقة أو عند الأداء ، وهو الذي يعبرون عنه بكيفية شهادة السماع وصفتها أي : هذه الكيفية والصفة شرط فيها فيقولون سمعنا أو لم نزل نسمع سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم ولا يسمون المسموع منه فإن سموه خرجت إلى شهادة النقل فتعتبر حينئذ شروطه المشار لها بقول ( خ ) كأشهد على شهادتي إن غاب الأصل أو مات أو مرض ولم يطرأ فسق أو عداوة الخ . أما اشتراط الفشو فمتفق عليه كما هو ظاهر النظم إذ هو مراده بالاستفاضة ، وأما كونه عن العدول وغيرهم ففيه خلاف فالذي للمتيطي وابن فتوح وهو ظاهر قول ابن القاسم في الموازية ؛ أنه لا بد من الجمع بين الكلمتين العدول وغيرهم في الوثيقة أو عند الأداء وإلا سقطت الشهادة قالوا : وبه العمل وهذا ظاهر قول النظم بحيث لا يحصر الخ . أي : بحيث لا يحصر من نقل عنه السماع في العدول أو في غيرهم وظاهر المدونة أن السماع من أحدهما كاف وهو ما شهره في ضيح وابن عرفة في باب الخلع والمتيطي في ضرر الزوجين فقالوا : إن المشهور المعمول به صحة الشهادة بالسماع في الضرر ، وإن لم يكن من عدول بل من لفيف النساء والجيران فقط ، وجعلوا القول باشتراط كونه من العدول وغيرهم مقابلاً ، والظاهر من حكايتهم الأقوال المقابلة أنه لا خصوصية للضرر بذلك لأن تلك الأقوال جارية في جميع الأفراد ، وعلى هذا عول العبدوسي في قصيدته حيث قال على ما أصلحه به ابن غازي :
وليس سمعها من العدول
شرطاً بل اللفيف في المنقول
وكذا ابن عرضون في آخر قصيدته الآتية ورجحه ( ح ) في الشهادات فتبين أن كلاًّ من القولين عمل به ، وزاد الأخير على الأول بكونه مشهوراً ظاهر المدونة بخلاف الأول ، فإنما هو ظاهر الموازية كما صرح به المتيطي في نهايته في ضرر الزوجين وما تقدم عنه من أنه لا بد من الجمع بين الكلمتين . ذكره في باب الحبس ولم يصرح أحد بتشهيره فيما علمت . فإن قيل : التشهير المذكور خاص بالضرر . قلنا : هو خلاف ظاهر كلامهم ، ويلزم عليه أن العمل المذكور خاص بالحبس لأنهم فيه ذكروه ، وأيضاً ( فإن العلة ) التي علل بها عدم الاشتراط كما لابن عبد السلام وغيره ، وهي أن المقصود حصول العلم أو الظن للشاهد ، وذلك يحصل من خبر غيرالعدل كما يحصل من العدل جارية في الجميع ، وأيضاً إذا كان لا يشترط ذلك في الضرر المؤدي للفراق فأحرى غيره ، وبهذا تعلم ما في رد طفي لكلام ( ح ) في الشهادات وظاهر القول بالاشتراط أن الشهادة تسقط ، ولو كان الشهود من أهل العلم ، وينبغي أن يقيد بما إذا لم يكونوا من أهل العلم كما نص عليه ( م ) في شرح اللامية عند قولها شهادة إعتاق .
مَعَ السَّلامَةِ مِنِ ارْتياب
يُفْضِي إلى تَغْلِيظٍ وإكْذابِ
( مع السلامة ) في محل الحال من استفاضة لأنها قد خصصت بالوصف ( من ارتياب ) يتعلق بالسلامة ( يفضي ) بضم أوله أي يؤدي ( إلى تغليط ) وهو الكذب لا عن عمد ( أو إكذاب ) وهو الكذب عن عمد ، والجملة صفة لارتياب ، ومفهومه أنه إذا لم تسلم الشهادة بالاستفاضة من الارتياب كأن يشهد اثنان بها . وفي القبيل أي البلد مائة من أسنانهما لا يعرفون شيئاً منها لم تقبل إلا أن يكونا شيخين كبيرين قد باد جيلهما فتقبل حينئذ لانتفاء الريبة . وحاصل شروطها خمسة أربعة في النظم طول الزمان لأن قصر الزمان مظنة لوجود شهادة القطع كما نبه عليه بقوله : يقام فيه بعد طول المدد الخ . والاستفاضة وانتفاء الريبة وعدم تسمية المسموع منه كما نبه عليه بقوله : بحيث لا يحصر الخ . لأن عدم الحصر يستدعي عدم التسمية ولم يبق عليه إلا تحليف المشهود له لأن السماع ضعيف ، فلا بد معه من اليمين . انظر الشارح في البيت بعده ، وزيد سادس وهو كون المشهود به تحت يد المشهود له يدعيه لنفسه ولم تقم بينة قاطعة بأنه لغيره . قال ابن عرضون في آخر المنظومة المشار إليها آنفاً :
فمن شرطها طول الزمان لديهم
وتحليف من قد قام بالسمع واعتلا
وأن تنتفي عنها قبائح ريبة
وأن لا يسمى من فشا عنه أولا
ولا تنتزع بالسمع ما تحت حائز
على مذهب الجمهور والصفوة الملا
ولا تشترط في السمع وصف عدالة
خصوصاً ولكن باللفيف تسربلا اه .
وأما اشتراط الاشتهار ، وهو أن لا يكون المشهود فيه من شأنه الاشتهار ، وأن لا يختص بمعرفته بعض الناس كالأحباس العامة والأنساب دون الحبس الخاص بمعين ، فإنه قد لا يشتهر كما في الشارح فهو راجع لانتفاء الريب . واعلم أن الموت لا يخلو إما أن يكون في البلد أو في غيره فالأول يثبت بالسماع عند من قال به كابن هارون وابن رحال في حاشيته إلا بشرط الطول الذي تنقرض فيه البينات وينقطع فيه أهل العلم ، وهو ظاهر كلام المجموعة المتقدم لأن ظاهرها كانت الشهادة في الموت أو في غيره ، وهو معنى قول ابن هارون المشترط في الموت أما طول الزمن أو تنائي البلدان يريد طول الزمان في البلد أو تنائي البلدان في غيره ، ومنهم من قال : لا تقبل في البلد إلا على القطع لأنه في البلد مظنة تواتر الخبر فيحصل العلم وهو ظاهر قول( خ ) وموت ببعد وقال في الشامل : وعمل بالسماع على الموت فيما بعد عن بلد الموت لا فيما قرب أما في بلده فإنما هي شهادة ( بت ) ولو كان أصلها السماع اه .
ويُكْتفى فيها بِعَدْلَيْنِ عَلَى
ما تابَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ العَمَلا
( ويكتفى ) مبني للمفعول ( فيها ) يتعلق به ( بعدلين ) نائب ( على ما ) أي القول الذي ( تابع الناس عليه العملا ) والمجرور بعلى الأولى يتعلق بيكتفى وبالثانية يتعلق بالمصدر وما ذكره من الاكتفاء بالعدلين هو المشهور المعمول به كما في المتيطية قال في المفيد : وهو قول ابن القاسم وبه الحكم . وقال ابن الماجشون : أقل ما يجوز في ذلك أربعة شهداء لأنها شبيهة بالشهادة على الشهادة ، ومفهوم عدلين أن الواحد لا يكفي وهو كذلك ، فإن شهد أحدهما بالحبس مثلاً وحيازته على القطع وشهد آخر به على السماع لم يحكم بها حتى يشهدوا على السماع أو القطع قاله في المتيطية .فصل
في مسائل من الشهادات كنقصانها والقيام بها بعد الإنكار وتعارضها .
ومَنْ لِطَالِبٍ بِحَقَ شَهِدَا
ولَم يُحَقِّقْ عِنْدَ ذَاكَ العَدَدَا
( ومن ) موصولة واقعة على العدل أو شرطية ( لطالب بحق ) يتعلقان ب ( شهدا ولم يحقق عند ذاك ) أي عند أداء الشهادة يتعلق بيحقق ( العددا ) مفعوله الجملة المقرونة بالواو حالية كشهادتهم أنه أسلفه دراهم بمحضرهم لا يدرونها ثلاثة أو أقل أو أكثر أو أن له حقاً في هذه الدار أو الأرض لا يدرون قدره أو لا يجوزونها أو أن له عليه حقاً أو أسلفه بمحضرهم مائة لا يدرون جنسها أو غصبه بمحضرهم أرضاً لا يدرون حدودها أو أنه قضاه بمحضرهم من دينه شيئاً لا يدرون قدره ونحو ذلك والمتبادر من قوله : ولم يحقق الخ . أنهم علموا ذلك ونسوه ، فهذه الأمور كلها يجري فيها قوله :
فَمَالِكٌ عَنْهُ بِهِ قَوْلانِ
لِلْحُكْم في ذَاكَ مُبَيِّنانِ
( فمالك ) مبتدأ ( عنه به ) يتعلقان بالاستقرار الذي هو خبر عن المبتدأ الثاني وهو ( قولان ) والضمير في عنه يرجع لمالك والباء في به للظرفية وضميره يرجع لمن أو للفرع المذكور ( للحكم في ذاك مبينان ) بفتح الباء وكسرها صفة لقولان وللحكم يتعلق به وفي ذاك يتعلق بالحكم ، والتقدير فمالك قولان كائنان عنه في الفرع المذكور مبينان للحكم في ذلك ، واحترزت بقولي بمحضرهم عما لو شهدوا أعلى إقراره بأن في ذمته له دراهم أو مائة فإنه يلزمه التفسير كما لو أقر بشيء كما يأتي .
إلْغاؤها كأنَّها لَمْ تُذكَرْ
وتَرْفَعُ الدَّعْوىيمِينَ المُنْكِرْ
( إلغاؤها ) بدل من قولان أي أحدهما إلغاؤها حتى ( كأنها لم تذكر ) بضم التاء مبنياً للمفعول ونائبه يعود على الشهادة والحكم فيها إذا لم تذكر أن يحلف المطلوب لإنكاره كما قال : ( وترفع ) بفتح أوله مبنياً للفاعل ( الدعوى ) مفعوله ( يمين المنكر ) فاعله ، وأشار للقول الثاني بقوله :
أَو يُلْزَمُ المطلُوبُ أن يُقِرَّا
ثم يُؤَدِّي ما بهِ أَقْرَّا
( أو يلزم ) بضم أوله ونصب آخره مبنياً للمفعول معطوفاً على قوله إلغاؤها من باب قوله :وإن على اسم خالص فعل عطف . الخ ( المطلوب ) نائب ( أن يقرا ) في محل نصب مفعول ثان أي أو لا تلغي الشهادة بل يلزم المطلوب الإقرار بذلك ويجبر عليه بالسجن ( ثم ) إذا أقر بشيء ( يؤدي ما به أقرا ) من قليل أو كثير ويبرأ .
بَعْدَ يمينهِ وإنْ تَجَنّبا
تَعْييناً أو عُيِّنَ والحَلْفَ أبى
( بعد يمينه ) أنه ليس في ذمته سواه حيث نازعه الطالب وادعى أكثر مما أقرّ به وإلاَّ فلا يمين فيؤدي معطوف على يقر ورفعه ضرورة وما مفعوله والظرف يتعلق بمحذوف كما قررنا . ( وإن تجنبا ) المطلوب ( تعييناً ) لقدر المشهود به ولجنسه بأن جزم بأنه لا شيء عليه ، أو قال إنه لا يعرف حقيقة ما يدعيه ولا ما شهدوا به وحلف على ذلك ، ( أو ) أقر بقدره و ( عين ) جنسه في مجهول الجنس ، ولكن ادعى الطالب أكثر مما عين ( والحلف أبى ) أي امتنع منه المطلوب في الثانية فالحلف بفتح الحاء وسكون اللام مفعول بأبى وهو مصدر حلف كضرب ولمصدره ثلاثة أوزان : حلفاً بسكون اللام وحلفاً بكسرها ومحلوفاً ، وهو أحد المصادر التي جاءت على مفعول كمجلود يقال : حلف محلوفاً وجلدته مجلوداً أي حلفاً وجلداً بسكون اللام فيهما ، والحلف بكسر الحاء العهد يكون بين القوم يقال : حالفه أي عاهده وتحالفوا تعاهدوا ، وأما عكسه وهو إتيان المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل فكثير من ذلك قوله تعالى : طريقاً في البحر يبساً } ( طه : 77 ) أي يابساً على أن يبساً مصدر ، وقولهم الحكم خطاب الله أي كلامه المخاطب به بكسر الطاء عباده .
كُلِّفَ مَنْ يَطْلُبُهُ التَّعْيينا
وهو لهُ إن أَعْمَلَ اليَمينا
( كلف ) بالبناء للمفعول جواب الشرط ( من ) أي المدعي الذي ( يطلبه ) أي المطلوب ففاعله المستتر يعود على من هو الرابط بين الموصول وصلته وضميره البارز يعود على المطلوب كما ترى ( التعيينا ) للقدر والجنس مفعول ثان يكلف والمفعول الأول الموصول النائب فإن عينه وحلف أخذه كما قال ( وهو له ) مبتدأ وخبر ( إن أعمل اليمينا ) وأتى بما يشبه فهو شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه كقولك : أنت ظالم إن فعلت .
وإن أبى أو قال لَسْتُ أَعْرِفُ
بَطَلَ حَقُّهُ وذاك الأعْرَفٌ
( وإن أبى ) الطالب أن يحلف بعد أن عين القدر ونحوه ( أو قال لست أعرف ) قدر حقي أو جنسه ( بطل حقه ) جواب الشرط أي بطل حق المدعي في الزائد على ما أقر به المطلوب في الثانيةلأن النكول بالنكول تصديق للأول وفي الجميع في الأولى سواء جزم بالإنكار أو قال : لا يعرف حقيقة ما يدعيه لما مرّ إن الدعوى بالمجهول لا تسمع فضلاً عن توجه اليمين بسببها وهو إذا قال : لا أعرف فقد ادعى به ، ولما مرّ أيضاً عند قوله : ومن أبى إقراراً أو إنكاراً . الخ . من أن المطلوب إذا قال : لاأعرف حقيقة ما يدعيه وحلف أن الطالب إما أن يثبت دعواه أو يبطل حقه . هذا ظاهر النظم والقواعد توافقه كما علمت ، والفرق بين القول الأول والثاني ظاهر وهو أن الشهادة في الأول كالعدم والمطلوب يمكن من اليمين بمجرد إنكاره بخلافه على الثاني ، فإن للشهادة أثراً في أن المطلوب لا يمكن منها بمجرد الإنكار بل حتى يعرف ما عند الطالب ، وكان الناظم اعتمد في هذا قول مطرف المنقول في الباب الثالث والأربعين من التبصرة : لو أقر المطلوب بالحق كله وادعى أنه قد قضاه منه شيئاً وأتى بشاهدين شهدا أنه أشهدنا أنه اقتضى منه شيئاً لم يسمه فشهادتهم جائزة ، وقيل للمشهود عليه سم هذا الذي ثبت عليك أنك تقاضيته فما سمي من ذلك حلف عليه ، وكان القول له وإن أبى أن يقر بشيء قيل للمشهود له : أتعرف هذا الذي شهد لك به فإن عرفه وسماه حلف عليه وبرىء منه وإن تجاهل به أو نكل عن اليمين لزمه غرم الجميع لأنه قد مكنه من حقه بجهله أو نكوله ، ورأى أصبغ وابن الماجشون أن الشهادة ساقطة . قال ابن حبيب ، وقول مطرف : أحب إلي ، وبه أقول اه . وقوله : وإن أبى أن يقرّ بشيء يريد أو أقر ، ولم يحلف بدليل السوابق واللواحق ، وقال في التبصرة أيضاً قبل هذا ما نصه : وإذا ادعى رجل على آخر أنه أودعه ثياباً فأنكره فقامت عليه بينة أنه أودعه أعكاماً لا يدرون ما فيها ويظنون ثياباً فيجب أن يسجن المدعى عليه ويهدد ، فإن أقر بذلك حلف عليه وكان القول قوله ، وإن تمادى على إنكاره حلف صاحب الوديعة على ما يشبه أنه يملك مثله ويأخذه بذلك والظالم أحق أن يحمل عليه ، وقد قيل إنه يحلف إذا لم تعين البينة شيئاً بعد أن يستبرأ أمره بالتضييق والتهديد إذا تمادى على إنكاره ولا شيء عليه وبالأول القضاء من الاستغناء اه . والغرض منه قوله : وبه القضاء . وقوله : حلف صاحب الوديعة الخ . إذ مفهومه أن صاحب الوديعة إذا لم يحلف بل قال : لا أعرف أو أعرف ، وقال : لا أحلف لم يكن له شيء لأنه أناط الحكم بحلفه فيكون موافقاً لقول مطرف وكل ذلك شاهد للناظم إلا ما في هذا الأخير من زيادة التهديد والسجن عند التمادي على الإنكار فقوله : ( وذاك الأعرف ) إشارة إلى القولالثاني إذ به القضاء كما ترى لكن يرد على قوله بطل حقه أنه ليس قولاً لمالك وهو قد قال قبل ذلك فعن مالك الخ فأما أن يقال فيه حذف الواو مع ما عطفت أي فعن مالك وبعض أصحابه ، أو يقال لما كان أصحابه لا يقولون إلا ما كان جارياً على قواعده جازت نسبته له حينئذ ، ولو على ضرب من المجاز .
فإن قلت : وما هو المنقول عن مالك في هذا الفرع ؟ قلت : المنقول عنه روايتان . البطلان وهو رواية ابن نافع كما صدر به الناظم وعدمه ، وهو رواية مطرف إلا أنه في هذه الرواية لا يقول يبطل حق المشهود له بنكوله أو بقوله : لست أعرف ، بل إذا قال ذلك يسجن المطلوب حتى يقر ويحلف على ما أقر به كما في المتيطية والتبصرة وغيرهما ولعل الناظم : إنما عدل عن سجن المطلوب المنقول في هذه الرواية إلى قول مطرف ببطلان الحق لعدم جريانها على القواعد من أن النكول بالنكول تصديق للأول ، ومن أن الدعوى بالمجهول لا تسمع فهي وإن سمعت هنا لقوتها بالشهادة فلا توجب يميناً ، ولذا قال ولد الناظم هذه الرواية لا تخلو من إشكال . فإن قلت : قول مطرف هذا إنما هو في الشهادة بالإقرار بشيء . قلت : وكذا روايته عن مالك المتقدمة لأن الشهود شهدوا فيها أنهما تحاسبا وبقي لأحدهما على الآخر حق لا يعرفون قدره ، ومعلوم أن الباقي لا يعلمه الشهود إلا بالإقرار .
تنبيه : ليس المقصود من الرواية ، وقول مطرف المتقدمين خصوص الإقرار ، بل الشهادة بمجهول القدر ولذلك جعل غير واحد كالمتيطي وغيره موضوع الخلاف فيمن أقام بينة على رجل بحق لا يدرون كم هو أو لا يدرون عدده كما قررنا به موضوع النظم سواء كان الحق في الأصول أو غيرها كانت الشهادة بإقرار أو غيره لكن المفتى به في الإقرار صحة الشهادة ولزوم التفسير لكون إبهام المشهود به إنما هو من جهة المقرّ في الحقيقة لا من جهة الشهادة . نعم لو نسوه لكان الإبهام من جهة الشهادة حينئذ ، ولذا قال ( خ ) : ومال نصاب والأحسن تفسيره كشيء وكذا وسجن له الخ ، فإن فسره بعد السجن أو قبله حلف إن ادعى المقر له أكثر فإن نكل حلف المقر له على طبق دعواه ، وأخذ كأن حقق المقر له الدعوى وجهل المقر بأن قال له على شيء أو حق لا أعرف قدره قاله في الشامل : فإن أقر بثوب أو عبد من غصب أو غيره ولم تعاينه البينة فذلك من الإبهام في القدر لأن القيمة تختلف باختلاف الصفة فلا تبطل الشهادة أيضاً لأن الإبهام إنما هو من المقر لا من الشهادة ، وهل يقضي عليه بالوسط من ذلك أو بما يدعيه المقر له مع يمينه إن أشبه ؟ اللخمي : وهو أحسن ولكون الإبهام في الإقرار إنما هو من جهة المقر أخرجناه من موضوع النظم كما مرّ فتأمله والله أعلم . وقد ألم الزقاق في منهجه بهذا حيث قال :
والحق لا يلزم لكن إن شهد
غير به تمت وإلا فاعتمد
على اليمين وكذا جهل العدد
بينة أو نسيت وقد ورد
الرد فيهما ورد مثبتاً الخ . ونقل شارحه هناك كلاماً حسناً فانظره ولا بد . ولما كان الخلاف المذكور شاملاً للأصول وغيرها كما مرّ ، وكان القول الثاني لا يقول بإجبار المطلوب بالسجن بل ينزع الأصل من يده حتى يقر أشار لذلك فقال :
وما عَلَى المطلُوبه إجبارٌ إذا
ما شَهِدُوا في أصْلِ مِلْكٍ هكذا( وما ) نافية ( على المطلوب ) خبر عن قوله ( إجبار إذا ) ظرف مضمن معنى الشرط خافض لشرطه منصوب بجوابه ( ما ) زائدة ( شهدوا في أصل مالك ) يتعلق بما قبله ( هكذا ) حال من مضمون قوله شهدوا أي حال كون الشهادة هكذا ويجوز أن يكون المجرور من اسم الإشارة متعلقاً بشهدوا أي شهدوا هكذا أي بحق من غير بيان قدره أو حدوده في أصل مالك . قال في المتيطية : آخر باب الصلح ، ولو أنهم شهدوا بأن لهذا القائم حصة في الدار لا يعلمون مبلغها ففي رواية مطرف عن مالك أنه يقال له للمطلوب : أقر بما شئت منها واحلف عليه ، فإن أبى قيل للطالب سم ما شئت منها واحلف عليه وخذه ، فإن أبى أخرجت الدار من يد المطلوب حتى يقر بشيء منها . قال مطرف : وكنا نقول وأكثر أصحابنا إذا لم يعرف الشهود الحصة فلا شهادة لهم حتى قال لنا ذلك مالك فرجعنا إلى قوله واستمرت الأحكام به اه . ونقله في التبصرة بأبسط من هذا . فتحصل مما مر أن القول بالبطلان جار في الأصول وغيرها ، وكذا القول بالصحة إلا أنه يختلف فيما إذا قال المشهود له : لا أحلف أو لست أعرف فعند مطرف يبطل حقه ، وعليه درج الناظم وعلى قياسه في الأصول لا ينزع الأصل من يد المطلوب بل يبطل حق الطالب بقوله ذلك وحينئذ فلا جبر على ما مشى عليه الناظم لا في الأصول ولا في غيرها وليس في هذا البيت ما يدل على أن الأصل ينزع من يد المطلوب ، بل كلامه ظاهر في عدم النزع لأن النكرة في سياق النفي تعم فتشمل نفي الإجبار بالسجن ونزع الشيء من يده لأنه نوع من الإجبار ففيه إشارة إلى أن مختاره في الأصول هو مختاره في غيرها من بطلان الحق بقوله : لا أحلف أو لست أعرف كما لا يخفى وعند مالك يسجن في غير الأصول وينزع الأصل من يده في الأصول ، وكذا في المعينات كثوب ونحوه حتى يقر ويحلف على ما أقر به .
والحاصل أن القول بإعمال الشهادة أقوى من القول ببطلانها كما يدل عليه ما يأتي في التنبيه بعده ، وكما يدل عليه اقتصار المتيطية وغيرها عليه هنا ، وبه أفتى ابن زرب مقتصراً عليه حسبما في استحقاق المعيار ، ولذا قال الناظم : وذاك الأعرف وبعد كونه أرجح وأقوى هل يبطل حق الطالب بنكوله أو تجاهله فيه ما ترى ، وظاهر النظم أن القولين بالبطلان وعدمه جاريان أمكن الاستنزال أم لا وهو كذلك . إذ في المسألة ستة أقوال كما لابن رشد في البيان . ثالثها :يستنزل الشهود فإذا شهدوا بمال فيقال لهم أتعلمون أنه مائة ؟ فإن قالوا : لا . قيل لهم : أخمسون هو وهكذا لا زالوا ينزلون حتى يقفوا على ما لا يشكون فيه ، والمعمول عليه هو أن لا يعدل عنه مع إمكانه لقوله في المازونية ونوازل المديان من المعيار أن بهذا القول العمل عند الموثقين ، وبه أفتى ابن رشد أيضاً حسبما في نوازل الغصب والإكراه من المعيار فيمن غصب ضيعة واستغلها أن البينة تستنزل إلى ما تقطع به في الاستغلال من غير شك ، ويلزمه غرم ذلك ونحوه في التبصرة في الباب التاسع والثلاثين . وقال أبو الحسن في كتاب الرجم من المدونة : إنه الذي اعتمده أهل السجلات . قال : وهذا في الشهادة على عدد متماثل كقولهم له عليه مائة دينار أو مائة وخمسة بأو التي للشك والتردد فإن كانت الشهادة على فصول فلا تبطل إلا في ذلك الفصل الذي نسباها فيه إلا أن يكون مرتبطاً بغيره فتبطل فيه وفي غيره كما لو كانت الشهادة على خط غائب أو ميت ، وفي الوثيقة محو في بعض الفصول فلا تبطل إلا فيه إلا أن يرتبط بغيره فإذا شهدوا على كذا وكذا ثمراً وامتحى موضع عجوة صحت فيما أيقن به الشهود ويبقى الخلاف بين المتداعيين في الصفة كأنها فصل على حياله اه .
قلت : وكذا لو شهدوا بالبيع وقبض الثمن لا يقبض المبيع أو بالعكس أو شهدوا بالسلف دون قبضه أو شهدوا بالبيع دون التأجيل أو الحلول فإن الشهادة تامة في ذلك ويبقى الخلاف بينهما فيما لم يشهدوا به ، ويجري على ما يأتي في اختلاف المتبايعين إذ لا ارتباط للمنسي بغيره ومن المرتبط ما إذا شهدوا بالبيع ونسوا الثمن عند من قال بالبطلان كما يأتي وحينئذ فقول ابن رشد في أجوبته : إن الشاهد إذا لم يأت بشهادته على وجهها وسقط عن حفظه بعضها فإنها تسقط كلها بإجماع الخ . يحمل على ما إذا ارتبط الفصل المنسي بغيره وإلاَّ فلا كما ترى لأن التوفيق بين كلام الأئمة مطلوب ما أمكن ، وأيضاً فإن هذا إنما يظهر إذا اعترف الشاهد بالنسيان كما يشعر به قوله وسقط عن حفظه بعضها الخ . وأما إذا لم يشهدوا بالفصل المذكور لكونه لم يقع بمحضرهم فلا ينبغي أن يختلف في الأعمال حيث لم يرتبط بغيره لأن النسيان يوجب قوة الشك في الشهادة بخلافه مع فقده فتأمله والله أعلم . وأيضاً فإن الإجماع مردود بما حصله هو بنفسه من الأقوال الستة . تنبيه : شمل قول الناظم :
ولم يحقق عند ذاك العددا . الخ . ما إذا شهدوا بعقد نكاح أو بيع ولم يسموا الثمن والصداق ، وأنكر البائع فالشهادة عند مالك تامة ، لكن لا على التفصيل المتقدم في القول الثاني بل يقال للبائع : بكم بعتها فإن سمى ثمناً ووافقه المبتاع أداه وإن اختلفا فيه تحالفا وردت السلعة وإن تمادى البائع على الإنكار سئل المبتاع على الثمن فإن سمى ما يشبه حلف وأداه وإن سمى ما لا يشبه قيل له إن أعطيت ما يشبه أخذتها وإلاَّ فلا . رواه مطرف عن مالك واستحسنه ابن حبيب ، وإن كان الأمر بالعكس ادعى البائع البيع وأنكر المبتاع حلف البائع على ما سمى من الثمن إن أشبه ويأخذه من المشتري فإن لم يكن له غير السلعة بيعت عليه وتبعه بالنفس إن لم يف ثمنها الثاني بالأول قاله في اختلاف المتبايعين من المتيطية مقتصراً عليه كأنه المذهب . وكذا اقتصر عليه ابن فتحون وكذا ابن فرحون آخر الباب المتقدم ، وذكر في أنكحة المعيار أن ابن المكوي وابن العطار أجابا عن ذلك بصحة الشهادة وإن الزوج والمبتاع يسميان الثمن والصداق وإلا حلفالطالب إن أتى بما يشبه ، وأجاب أبو إبراهيم التجيبي بسقوط الشهادة وذكر أنها رواية أصبغ عن ابن القاسم ، وكذا ذكر ابن سلمون القولين ، وقال : إن القول بالسقوط أحسن ونسبه لصاحب الاستغناء ونحوه في طرر ابن عات عن الاستغناء أيضاً ، وعلله بأن البيع إنما يكون بثمن يرضاه البائع والمبتاع والقيمة تعديل من غيرهما ، وقد تخرج عن رضاهما جميعاً أو عن رضا أحدهما الخ . وقوله : والقيمة تعديل الخ . وهو ما مر عن المتيطية في قوله : سمي ما يشبه أي ما يشبه أن يكون قيمة وثمناً لها عند أهل المعرفة ، وبالقول الأول أفتى أبو الفضل العقباني حسبما في أوائل معاوضات المعيار والمازونية قائلاً : إن البيع لازم والجهل بالثمن لا يضران ادعاء أحد المتعاقدين أي لأن القول لمدعي الصحة ، وإنما يضر جهلهما معاً وقد يكون الثمن معلوماً فيما بينهما ولم يذكراه المشهود . وقال أبو عبد الله الغوري حسبما في نوازل العلمي أن الراجح صحة النكاح الذي لم يتعرض شهوده لمبلغ الصداق ويحكم فيه بالتسمية المشبهة إن ادعاها وإلا فهو نكاح تفويض اه . وعلى قياسه في البيع يقال يحكم بالتسمية المشبهة إن ادعاها المشتري وإلاَّ فلا سبيل له إليها إلا أن دفع ثمن المثل كما تقدم . كما أنه في نكاح التفويض لا يصل للزوجة إلا إن فرض لها المثل ، فتبين بهذا رجحان القول بصحة الشهادة لاقتصار غير واحد من الفحول عليه ، ولم يذكروا له مقابلاً وبنوا وثائقهم عليه لأنه قول الإمام ومقابله انفرد صاحب الاستغناء باستحسانه والتجيبي بالفتوى به فيما وقفت عليه فتعبير بعضهم عنه بالمشهور في عهدته والله أعلم . وبالجملة فماهية البيع من عاقد ومعقود عليه وصيغة موجودة ثابتة وانتفاء الجهل في قدر الثمن شرط خارج عن الماهية فيجري حكمه على اختلافهما فيه على حياله .
فإن قلت : كان القياس إذا لم يسموا الثمن والصداق أن يتحالفا ويتفاسخا مع قيام السلعة سواء سمى البائع ثمناً وخالفه المبتاع فيه أو استمر البائع على إنكار العقد ومع الفوات بصدق مشتر ادعى الأشبه كما في اختلاف المتبايعين في قدر الثمن . قلت : التحالف والتفاسخ لا يتأتى مع استمرار البائع على الإنكار لأن الخلاف حينئذ ليس في القدر بل في أصل العقد ، ولم يسم البائع ثمناً مخالفاً لما ادعاه المشتري حتى يرجعا للاختلاف في القدر ، بل لما ثبت البيع عليه بالبينة حمل على ثمن المثل لأنه الغالب في بياعات الناس والحمل على الغالب واجب ، فإذا ادعاه المشتري أو أداه استحق المبيع وإلاَّ فلا .
ومُنكِرٌ لِلِخِصْمِ مَا ادَّعاهُ
أثْبَتَ بعْدُ أَنَّهُ قَضَاهُ
( ومنكر ) مبتدأ سوغه تعلق ( للخصم ) به ( ما ) أي حقاً مفعول بمنكر ( ادعاه ) صفة أو صلة لما وضميره المستتر يعود على الخصم والبارز على ما كدعواه عليه بعشرة من بيع أو قرض مثلاً فأنكر فقامت عليه البينة بها ف ( أثبت ) هو أي المنكر ( بعد ) أي بعد قيامها عليه أو بعد إقراره بها ( أنه ) أي المنكر ( قضاه ) إياها وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أثبت وجملة أثبت صفة لمنكر .لَيْسَ عَلى شُهُودِه مَنْ عَمَلِ
لِكَوْنِهِ كَذَّبَهُمْ في الأوَّلِ
( ليس على شهوده ) خبر ( من عمل ) اسم ليس جر بمن الزائدة ( لكونه ) أي المنكر ( كذبهم في ) القول ( الأول ) حيث أنكر والجملة من ليس وما بعدها خبر المبتدأ . ومن كذب بينته فقد أسقطها ، وقد علمت من هذا التقرير أنه ادعى عليه بشيء خاص كالسلف والبيع فأنكر هو ذلك الخاص . وقال : ما أسلفتني ولا بعتني ، فلما أثبت عليه البيع والسلف وقبض المبيع والقرض أثبت هو القضاء . وقولنا : وقبض المبيع والقرض احترازاً مما لو أقام عليه بينة بمجرد عقد البيع والسلف دون القبض فإن ذلك لا يوجب على المطلوب غرماً . وقولي فأنكر ذلك الخاص احترازاً مما إذا أتى بلفظ عام كقوله في المثال المذكور : لا حق لك عليّ أو ليس لك علي شيء أو لا وديعة لك عندي أو ليست الدار لك ونحو ذلك فإن هذا لم يكذبهم كما هو مفهوم من النظم فتقبل حينئذ بينته بالقضاء لعدم استلزام إنكاره حينئذ لتكذيبها . ( خ ) : وإن أنكر مطلوب المعاملة فالبينة ثم لا تقبل بينته بالقضاء بخلاف لا حق لك علي أي لأن قوله لا حق لك علي أعلم فيصدق بما إذا لم يسلفه أصلاً أو أسلفه فقضاه فمن حجته أن يقول : صدقت ما كان لك علي شيء في هذا الوقت لأني كنت قضيتك أو اشتريت الدار منك ، ونحو ذلك . وكذا لو كان البائع للدار مثلاً مستمراً على الإقرار بالبيع بعد إنكار المشتري شراءها فإن للمشتري أن يرجع عن إنكاره وتكون الدار له كما لو قال له : كنت بعت لك داري . فقال : ما اشتريتها منك وبقي البائع مستمراً فللمشتري الرجوع إلى قوله بخلاف ما إذا أنكر الهبة ونحوها ، فلما ثبتت عليه استظهر بالاسترعاء فيها فإنه لا يقبل استرعاؤه ، وظاهر النظم كغيره أنها لا تقبل بينته ولو كان جاهلاً لا يفرق بين قوله ما أسلفتني ولا أودعتني وبين قوله ما لك علي ولا عندي . وذكر ابن ناجي في شرح المدونة أن الجاهل يعذر ومثله للح عن الرعيني . وكذا نقل أبو الحسن في كتاب اللعان عند قولها وإن أقامت المرأة بينة أن الزوج قذفها وهو ينكر حداً لا أن يدعي رؤية فيلتعن ويقبل منه بعد جحوده لأنه يقول كنت أريد أن أكتم اه ما نصه ابن محرز . هذه المسألة أصل لمنادعى عليه حق فجحده فقامت البينة عليه به فادعى القضاء فعلى مذهب الغير لا يمكن ، وعلى قول ابن القاسم يعتبر جحوده على أي وجه كان فإن كان له عذر من جهله أو جهل من يحكم عليه أو سطوته أو غيبة بينته ويخشى أن لا يمهل لقدومها أو كانوا ممن لا يوثق بعدالتهم ولا يؤمن من جرحتهم ، فيمكن من إقامة البينة كما يمكن هذا من اللعان بعد إنكاره اه . ونقله في المتيطية أيضاً مسلماً فتبين أن الجاهل إذا كان يعذر فكذلك يعذر غيره إذا ذكر أحد هذه الوجوه وأثبت سطوة الحاكم أو غيبة البينة ونحو ذلك من كونهم لا يوثق بعدالتهم أو يحتاجون للتزكية كما أن الجاهل لا بد أن يثبت أن مثله ممن يجهل ذلك .
والحاصل أنهم قالوا المشهور المعمول به عدم القبول كما لأبي الحسن وغيره قالوا : وإلا لم يكن لتقييد المقال فائدة كما في قول الناظم : ولانحصار ناشىء الخصام ، وظاهر إطلاقاتهم كالناظم و ( خ ) أنه لا فرق بين من له عذر وبين من لا عذر له ، ولكن قالوا : ينبغي تقييده بمن لا عذر له كما يقيد أيضاً بغير العقار والقذف على ما لشراح ( خ ) : ولكن في المتيطية وأبي الحسن وابن عات أن العمل على عدم قبولها حتى في العقار ، وحينئذ فما للشراح من قبولها فيه مقابل لهذا العمل فلا يعول عليه ، وإن كان قول ابن القاسم كما سيأتي في آخر باب الضمان أن هذه إحدى المسائل التي خالف فيها أهل الأندلس ابن القاسم وإن فرضنا مشهوريته لكونه في المدونة فإن العمل مقدم على المشهور ومخالفة العمل ليست بالأمر الهين كما لابن سراج والشاطبي على أن المعمول به مشهور أيضاً وما خفي قول ابن القاسم على هؤلاء الأشياخ كما يأتي في الوديعة ، وقد أشرنا إلى ذلك أيضاً في حاشية اللامية وباب الوكالة من شرح الشامل ، ثم إن المسألة من باب الإقرار الحاصل بالتضمن لا بالتصريح وفي أعماله خلاف . قيل : يضر ، وقيل : لا يضر ، واستحسنه اللخمي قائلاً لأنه يقول أردت أن أحلف ولا أتكلف البينة ، ويؤيده ما مرّ من أنه يقول : كنت أريد أن أكتم الخ . وأقامة السيوري من المدونة قائلاً : الصواب أن الناس أجمع معذورون وأن لهم الرجوع إلى إقامة البينة بعد التصريح بالجحود . وثالثها لابن القاسم في المدونة لا يضر في الحدود والأصول ويضر في غيرها . وفي ( خ ) من هذا مسائل منها ما مرّ في قوله : وإن أنكر مطلوب الخ . ومنها قوله في العتق : وإن شهد على شريكه بعتق نصيبه فنصيب الشاهد حر الخ . وقوله في الاستلحاق : وإن اشترى مستلحقه والملك لغيره عتق كشاهد ردت شهادته . وقوله في الطلاق : وإن قال سائبة مني حلف على نفيه فإن نكل نوى في عدده ، وقوله في التخيير : وقبل إرادة الواحدة بعد قوله لم أرد طلاقاً الخ ، وقوله في الوديعة : ويجحدها ثم في قبول البينة الرد خلاف الخ ، ومعنى التضمن المذكور أن بينة القضاء والشراء مثلاً تضمنتا وجود المعاملة والملك اللذين أنكرهما المطلوب فإنكاره تكذيب ، لكن لا بالصراحة إذ لم يقل إنها كاذبة وليس من التكذيب من ادعى على أخوته أن له حقاً في دار بالإرث من أبيهم ، فأنكروا أن يكون صار إليهم من أبيهم شيء منها فأثبت أنها موروثة عن الأب لأن الطالب أتى ببينة شهدتباشتراكهم قاله في الوثائق المجموعة ، وقد تقدم أن الطالب إذا كان مستمراً على الإقرار فللمنكر الرجوع إلى قوله وليس منه أيضاً ما إذا قال : دفعت ما علي من السلف مثلاً لربه ، فلما كلف بالبيان أثبت أنه دفعه لزوجته لأن الناس يرون أن مال الزوجة مال لزوجها قاله في المعيار . وليس منه أيضاً إنكار الزوج بعد موت زوجته إيراد الجهاز لبيتها فقامت البينة بإيراد أشياء كما لا يخفى وليس عليه إلا اليمين أنه ما غاب على شيء إذ لو أقر بالإيراد المذكور لم يلزمه غير ذلك قاله في المعيار ، وظاهر النظم أنه لا فرق في ذلك بين إنكار الوكيل وغيره . وانظر عند قوله في الوكالة . والنقض للإقرار والإنكار الخ . ومفهوم قوله : للخصم أنه إذا أنكر لغير الخصم كما لو سأله رجل بمحضر شاهدين عن شرائه أو سلفه من فلان مثلاً فقال : ما اشتريت ولا تسلفت منه شيئاً ، فلما سمع ذلك البائع أو المقرض قام وأثبت أن الدار له وأصل السلف ، فإن بينة المنكر تقبل بالشراء والقضاء لأن الإنكار إنما يعتبر وقت الخصام وتقييد المقال لأنه موضع التحرز فلا ينفعه فيه دعوى الغلط والنسيان بخلاف غيره . قال في المعيار عن سيدي مصباح : ويدل له ما مر من قولهم : وإلا لم يكن لتقييد المقال فائدة فقولهم ذلك يدل عن أن الإنكار المعتبر هو الواقع وقت الخصام وهو ظاهر .
تنبيه : إذا قلنا هو مكذب بإنكاره المذكور فلا يبطل حقه إلا فيما كذبهم فيه فقط لا في غيره مما شهدوا به له أو عليه لأن تكذيبه من باب الإسقاط لا من باب التجريح إذ لا يجرح الشاهد بالكذب حتى يكون مجرباً فيه ، وأيضاً لو قال كذبتهم في ذلك اليوم لجرحة لم تكن فيهم وقت الشهادة السالفة لصح ذلك ولم يكن تناقض في قوله قاله في المعيار عن أبي الحسن وسيدي مصباح .
وفي ذَوِي عَدْلٍ يُعَارِضانِ
مُبَرِّزاً أتَى لَهُمْ قَوْلانِ
( وفي ذوي عدل ) صفة لمحذوف يتعلق بقوله أتى ( يعارضان ) صفة بعد صفة ( مبرزاً ) مفعول بما قبله ( أتى لهم ) يتعلق بالفاعل وهو ( قولان ) والضمير المجرور لأصحاب مالك أي أتى قولان لهم في شاهدين ذوي عدل يعارضان شاهداً واحداً مبرزاً .
وبالشَّهيدَيْنِ مُطَرِّفٌ قَضَى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
والحَلْفَ والأعْدَلَ أصْبَغُ ارتَضى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
( وبالشهيدين ) لو فرعه بالفاء لكان أظهر ( مطرف ) مبتدأ ( قضى ) خبره وبالشهيدين يتعلق به أي قدم مطرف الشهيدين على المبرز . ابن رشد : وهو أظهر إذ من أهل العلم من لا يرى الشاهد واليمين وكذا يقدم الشاهدان من جانب على الشاهد الغير المبرز مع المرأتين من الجانب الآخر ، فإن كان معهما مبرز قدم عليهما ( خ ) ورجح بشاهدين على شاهد ويمين أو امرأتين . ( والحلف ) بسكون اللام مفعول مقدم بقوله : ارتضى ( والأعدل ) معطوف عليه ( أصبغ ) مبتدأ( ارتضى ) خبره أي ارتضى تقديم الأعدل مع اليمين على الشاهدين . ابن رشد : وهو إغراق في القياس وربما يفهم مما في كتاب . ابن المواز : ترجيح ما لأصبغ لأنه قال : إن أقام أحدهما شاهداً وأقام الآخر أربعة فإن كان الواحد أعدل قضيت به مع اليمين قاله أشهب ، وتابعه عليه أصحاب مالك ، وقاله أصبغ أيضاً نقله ابن رحال وبه قرر كلام ( خ ) في شرحه وفهم من قوله مبرزاً أنهما يقدمان على غيره اتفاقاً وأن الأعدل من البينتين مقدم على غيره ولو أكثر عدداً ( خ ) وبمزيد عدالة لا عدد وظاهر هذا أنه يقضي بالأعدلية وإن كان المتنازع فيه تحت يد الآخر ، وأن الأعدلية تراعى وإن لم تبلغ حد التبريز وأنها تعتبر ولو كانت في أحد الشاهدين فقط وهو كذلك في الجميع ، وإذا قلنا بالترجيح بزيادة العدالة فإن ذلك مع اليمين في المال وما يؤول إليه لا في غيره كالنكاح والعتق لأن زيادة العدالة كشاهد واحد على المشهور ومحل عدم الترجيح بزيادة العدد إذا لم يكثروا بحيث يقطع بصدقهم وإلاَّ وجب الترجيح بزيادة العدد ، ولو كن نساء كما مرّ عند قوله : وامرأتان قامتا مقامه ولو كانت الأخرى أعدل لأن غاية ما تفيده زيادة العدالة غلبة الظن بخلاف الكثرة فتفيد العلم . وقوله في المدونة : وامرأتان ومائة امرأة سواء محمول على المبالغة كما للخمي وغيره . انظر طفي أول الشهادات ، ثم إنما يصار للترجيح بالأعدلية في شهادة الاسترعاء كما أن الترجيح بالتاريخ معلق بشهادة الأصل قاله الشارح أول الباب وتقدم ذلك عند قوله : وحل عقد شهر التأجيل الخ . وتأمل قوله : إن الترجيح بالتاريخ معلق بشهادة الأصل فإنه يقتضي أنه إذا شهدت إحداهما أن هذه الأرض مثلاً ملكه وشهدت الأخرى أنها ملك لفلان وأرخت إحداهما دون الأخرى أو أرختا ولكن إحداهما أقدم تاريخاً أنه لا يرجح بالتاريخ ههنا لكونها شهادة استرعاء وليس كذلك بل يرجح به كما قال .
وَقِدَمُ التّارِيخَ تَرْجِيحٌ قُبِلْ
لا مَعْ يدٍ والعَكْسُ عَنْ بَعْضٍ نُقِلْ
( وقدم التاريخ ) مبتدأ ( ترجيح ) خبره ( قبل ) صفة له فإذا شهدت بينة أنه يملك هذه الأمة منذ عام وشهدت الأخرى لآخر أنه يملكها منذ عامين قضى بذات العامين ولو كانت الأخرى أعدل . ابن عبد السلام : لأنهما تساقطتا فيما تعارضتا فيه وهو العام وبقي استصحاب الحال لذات الأقدم خالياً عن المعارض اه . وسواء كان المتنازع فيه بيدهما أو بيد أحدهما أو لا يد عليه كما في المدونة قال فيها : إلا أن يحوزها الأقرب تاريخاً بالوطء والخدمة والادعاء لها بحضرة الآخر فهذا يقطع دعواه اه . وإنما كان قاطعاً لدعواه لأن ذلك من باب الحيازة القاطعة لحجة القائم كما يأتي في محله إن شاء الله . ( لا مع يد ) بالعطف على محذوف أي قبل حال كونه كائناًمع عدم اليد لا مع اليد أي يرجح بقدم التاريخ ما لم يكن المتنازع فيه بيد الآخر خلاف النقل ولا حجة له في قول المدونة إلا أن يحوزها الأقرب الخ . لأنه من باب الحيازة كما مرّ ، ولا في قولهم إن اليد من المرجحات لأن الترجيح بها إنما يعتبر إن لم يوجد مرجح أصلاً كما قال ( خ ) : وبيد ان لم ترجح بينة تقابله الخ على أن عدها من المرجحات تجوز لأن البينتين لما تعادلتا سقطتا وبقي الشيء بيد حائزه ، ومحل الترجيح بقدم التاريخ مع أعدلية إحداهما ما لم تكن الأخيرة شهدت بالولادة كما لو شهدت إحداهما أنه يملكه منذ ثلاث سنين وشهدت الأخرى أنها ولدت عنده منذ سنتين فإنها تهاتر ويقضي بالأعدلية ههنا قاله ابن يونس ، ويقيد بما إذا لم يقطع بكون سن المتنازع فيه من ثلاث سنين فقط أو من سنتين فقط وإلاَّ قضى بذات السن للقطع بكذب الأخرى ولا مفهوم لقوله : وقدم التاريخ بل كذلك إذا لم يكن هناك أقدم بأن أرخت إحداهما ولم تؤرخ الأخرى أصلاً أو أرخت إحداهما بالشهر والأخرى باليوم الثالث منه أو العاشر مثلاً ، فإن ذات التاريخ في الأولى أو ذات الأخص في الثانية تقدم . ( والعكس ) مبتدأ وهو تقديم ذات التاريخ الأقرب ولو كان الشيء بيد الآخر ( عن بعض ) يتعلق بالخبر الذي هو جملة ( نقل ) قيل وهذا نقل غريب لم يوقف عليه ، وليس من المرجحات الملك على الحوز ولا النقل على الاستصحاب لأن الحوز أعم من الملك إذ يكون عن ملك وعن غيره ، والأعم لا يعارض الأخص ، ولذا لو شهدوا لرجل بملك شيء وشهدوا لمن هو بيده بالحوز لأن شهادتهما عاملة لأنهما شهدا بعلمهما في الأمرين وحيازة الحائز يحتمل أن تكون بإرفاق أو توكيل ولا يلزمهم الكشف عن ذلك فلا تناقض في شهادتهما قاله ابن عتاب . وكذا بينة الاستصحاب لا تعارض الناقلة لأن المستصحبة شهدت بنفي العلم بالخروج عن ملكه ، وذلك لا يقتضي عدم الخروج فلم يحصل تعارض في المسألتين حتى يصار للترجيح فيعمل ببينة الملك والنقل لعدم معارضة الأخرى لها . ولذا لم يذكرها الناظم من المرجحات . نعم بقي عليه الترجيح بسبب الملك على عدمه وبالإثبات على النفي وبالإصالة على الفرعية فالأول كشهادة إحداهما بأنه ملك لزيد والأخرى بأنه ملك لعمرو ونسجه أو نتج عنده أو نسخ الكتاب بيده أو اصطاد ما يصطاد سواء قالوا لنفسه أم لا . فتقدم ذات السبب ( خ ) : والأرجح بسبب مالك كنسج ونتاج لا يملك من المقاسم ، والثانية المثبتة للحكم كشهادة إحداهما بأنه خطه أو كفء لها أو هي بالغة أو بأنه باع أو طلق في وقت كذا وشهدت الأخرى أنه غير خطه أو غير كفء أو تزوجت قبل البلوغ أو لم يتلفظ بالطلاق أو بالبيع في ذلك الوقت فإن المثبتة للخط والكفاءة وغيرهما أولى لأنها أثبتت حكماً وأوجبتهأي أوجبت حقاً لم يكن وأثبتته وهو ما ذكر من الخط الموجب لثبوت الحق وغير ذلك . وذلك راجع في الحقيقة إلى تقديم الناقلة على المستصحبة كما بيناه في حاشية اللامية وكشهادة إحداهما أنه قتل زيد عمراً يوم كذا وشهدت الأخرى أنه كان ذلك اليوم ببلد بعيد لأن شهادة القتل أوجبت حكماً وأثبتته وهو القصاص . ابن رشد : هذا مشهور المذهب ، وقال إسماعيل القاضي : يقضي ببينة البراءة إن كانت أعدل وإن استويتا في العدالة سقطتا . ابن عبد البر ، وقول إسماعيل عندي صحيح إذ لا ينبغي أن يقدم على الدم إلا بيقين دون الشك اه . ابن رحال : وهو الصحيح عندي وغيره لا نطيق القول به لأن هذا تعارض حقيقي بالضرورة فلو شهدت إحداهما بالقتل في وقت كذا ، والأخرى بالزنا أو السرقة في ذلك الوقت أو إحداهما بأنه تلفظ بالطلاق وقت كذا والأخرى بأنه تلفظ بالعتق فقط في ذلك الوقت سقطتا لأن كلاًّ منهما أوجبت حكماً ولا ينظر للأعدلية لأنها إنما ينظر إليها فيما يثبت بالشاهد واليمين ، ولذا إذا شهدت إحداهما أنه أسلفه مائة بمجلس كذا وشهدت الأخرى أنه ما أسلفه إلا عشرة في ذلك المجلس ، فإن ذات الزيادة أعمل قاله ابن القاسم وله أيضاً أنهما يتساقطان إن لم تكن إحداهما أعدل ، ابن رشد : وهو الذي يوجبه القياس فقوله : وهو الذي يوجبه القياس ربما يشهد لما قاله القاضي إسماعيل . انظر شرح الشامل والحطاب على أنه قد قال ( ز ) عند قول ( خ ) في اللعان أو ادعته مغربية على مشرقي ما نصه : محل تقديم بينة القتل ما لم يكثر الشاهدون أنه كان في ذلك الوقت في مكان آخر بحيث يفيد خبرهم العلم الضروري فيعمل بشهادتهم اه . وكشهادة إحداهما بالتجريح والأخرى بالتعديل وتقدم عند قول الناظم : وثابت الجرح مقدم على الخ . أن محل هذا إذا لم تقطع كل منهما بكذب الأخرى وكذا لو شهدت إحداهما بالإكراه والأخرى بالطواعية فبينة الإكراه أعمل . وهذا والمثال الذي قبله يدلان على أن القاعدة أغلبية وإلا لقدمت بينتا التعديل والطواعية لأنهما أثبتا حقاً لم يكن مع أنهم قالوا : يتساقطان في التعديل حيث اتحد الوقت وتقدم بينة الإكراه فتأمله مع إطلاق الزقاق في منهجه حيث قال :
ومثبت أولى من الذي نفى
في الجرح والقتل بلوغ عرفا
ولكن في ( ز ) أن بينة الإكراه إنما قدمت لأنها ناقلة عن الأصل لأن الأصل في أفعال الناس الطواعية فمن شهد به فقد شهد بالأصل والشهادة بالإكراه ناقلة عنه قال ؛ وكذا ، كل ضرر لأن من أثبت قد زاد علماً الخ . وليس من تعارض النفي والإثبات ما إذا شهدت إحداهما بأن فلاناً أقر لفلان بمحضرنا بكذا وشهدت الأخرى بأنه ما أقر بشيء حتى مات لأنهما لم يتواردا على وقت واحد فإن تواردا عليه كيوم موته جرى على ما مرّ وليس منه أيضاً ما إذا شهدت إحداهما بمعاينة حوز الصدقة ونحوها قبل الموت ، وشهدت الأخرى برؤية المتصدق يخدمه إلى مرض الموت فإن بينة عدم الحوز تقدم إذا لم تتعرض الأخرى لاستمراره قاله القرافي في الفرق 228 . وبالجملة ، إذا رجع المتصدق ونحوه قبل السنة لصدقته أو شك في تاريخ رجوعه فبينة عدم الحوز أعدل كما للوانشريسي ، ونقله أبو عبد الله عبد القادر الفاسي في جواب له ونحوه لأبي الضياء مصباح في معاوضات المعيار ، وإن رجع إليها بعد أن حيزت عنه سنة فلا بطلان وإن تعاوضا في السنة فبينة الحيازة أعمل على ما لابن مالك وهو مذهب المدونة كما في ابن سهل لأنها أوجبت حكماً وهو صحة الهبة . وقيل : ينظر للأعدل وهو الموافق لما مرّ عن ابنرشد . وقيل : إن كانت الصدقة بيد المتصدق عليه وقت الدعوى قدمت بينة الحيازة وإلاَّ فلا . وبالجملة فلا ينبغي إطلاق القول بتقديم الإثبات على النفي في جميع الصور بل يختلف في ذلك باختلاف الجزئيات كما مرّ ، ومهما أطلقت إحداهما وقيدت الأخرى بوقت معين فلا تعارض ، ومهما قيدتا بوقت واحد جاء الخلاف ووجهه في الحيازة إن كلاًّ منهما شهدت بانفراد شخص معين بالتصرف في وقت معين ، وكذا في القتل لأن كلاًّ منهما أثبتت أنه كان ببلد كذا وقت كذا مشتغلاً فيه بالصلاة مثلاً والأخرى بالشرب أو بالقتل أو بالزنا أو بالسرقة . وكذا في التجريح لأن كلاًّ منهما شهدت بأنه بات ليلة كذا معتكفاً على شرب الخمر ، والأخرى على الطواف أو الصلاة في تلك الليلة . وفي الوصية شهدت إحداهما باختلاط عقله والأخرى بصحته ، وليس المراد بالنافية التي لفظت بحرف النفي في شهادتها لأن ذلك يقتضي أنها إذا شهدت إحداهما باختلاط العقل والأخرى أنه لم يكن مختلط العقل قدمت بينة الاختلاط وذلك خلاف الواقع ، وأما الثالث وهو الترجيح بالإصالة فمنها بينتا الصحة والفساد فبينة الصحة أعمل لأنها الأصل ما لم يغلب الفساد وإلاَّ فتقدم بينته ، وقد يقال : إنهما في مثل هذا لما تعارضتا سقطتا وبقي القول لمدعي الصحة ، وههنا بينتا التسفيه والترشيد فبينة السفه أعمل خلافاً لما في ابن سلمون ، وهذا بالنسبة لإطلاقه من الحجر ، وأما بالنسبة للمبيع ونحوه من المعاملات فتقدم بينة الترشيد لأنها أوجبت صحة العقد كما يأتي في اختلاف المتبايعين ومنها بينتا التعديل والتجريح فبينة التجريح أعمل ما لم يتعارضا في وقت خاص كما مر ومنها بينتا الرقية والحرية فالحرية أعمل لأنها الأصل ، ومنها بينتا البلوغ والكفاءة فبينتهما أعمل لأنهما يوجبان صحة العقد الذي هو الأصل ، وبهذا الاعتبار صح عدهما من هذا القسم وإلا فهما من القسم الذي قبله كما مرّ وإنما أدخلناهما في هذا تبعاً للغير ومنها بينتا الصحة والمرض فبينة الصحة أعمل كما في أنكحة المعيار عن اليزناسي لأنها الأصل ومحل ذلك إن قالت بينة المرض لم يزل مريضاً في علمنا في هذا الشهر أو في هذا اليوم وقالت : بينة الصحة لم يزل صحيحاً كذلك ولم يعلم تقدم إحداهما على الأخرى ، وأما إن علم تقدم الصحة كما لو قالت : بينة نعلمه صحيحاً في أول رمضان ولم يزل كذلك في علمنا وشهدت الأخرى بأنه مرض في العاشر منه فتقدم بينة المرض لأنها ناقلة ، ولا سيما إن عينت سبب المرض ما هو لأن المرض وجود داء في الإنسان والصحة انتفاؤه وإن تقدم المرض على الصحة قدمت بينة الصحة إذا شهدت بصحة تنافي ذلك المرض بحيث لا يجتمع معها كشهادتهم بتصرفه تصرف الأصحاء بحمل الأثقال ونحوها لأن بينة الصحة ناقلة حينئذ قاله ابن رحال في شرحه . ومنها بينتا العدم والملاء فتقدم بينة الملاء بينت أم لا . على ما به العمل ، ومنها بينة المعرفة والتعريف فتقدم بينة المعرفة ، ومنها بينتا صحة العقل واختلاطه في الوصية فتقدم بينة الصحة لأنها أوجبت صحة العقد التي هي الأصل وإنما أدخلنا مسألة الوصية في القسم الذي قبله نظراً للنفي والإثبات وتبعاً للغير . وفي أقضية البرزلي أنه ينظر في شهادة الذين شهدوا بذهوله فإن قالوا هم أو غيرهم ممن يقبل أنه كان به الذهول في الوقت الذي شهد عليه الأولون في صحة عقله فهي أعمل لأن الذهول يخفى على قوم ويظهر لآخرين فمن قطع بعلمه فهو أحق بالقبول ، وإذا لم يشهدوا على ذهوله في ذلك الوقت فشهادة الصحة أعمل لأنهم قطعوا بعقله اه . فانظره . ومنها بينتا الطوع والإكراه فبينة الإكراه أعمل وكذا كل ضرر وهذا في الحقيقةمن القسم الذي قبله إذ لو روعيت الأصالة هنا لقدمت الطواعية . وظاهر كلامهم تقديم بينة الإكراه ، ولو أدى ذلك لفسخ العقود والمعاملات إذ لا ثمرة لها إلا ذاك وهو كذلك كما في استحقاق المعيار ، وانظر الورقة السابعة والعشرين من بيوع البرزلي ففيها مسائل تعارض البينتين .
وإنَّما يكونُ ذاك عِنْدَما
لا يُمكنُ الجَمْعُ لنا بَيْنَهُمَا
( وإنما يكون ذاك ) اسم يكون والإشارة للتعارض الموجب للترجيح ( عند ) يتعلق بيكون إن كانت تامة أو بخبرها إن كانت ناقصة ( ما ) مصدرية ( لا يمكن الجمع ) صلتها وهي مع صلتها في تأويل مصدر أي عند عدم إمكان الجمع ( لنا ) يتعلق بيمكن ( بينهما ) يتعلق بالجمع ( خ ) : وإن أمكن جمع بين البينتين جمع ، ومثاله أن يدعي أنه أسلم هذا الثوب في مائة إردب حنطة . وقال المسلم إليه : بل هذين الثوبين لثوب سواه في مائة إردب حنطة وأقام كل البينة على دعواه كانت الثلاثة أثواب في المائتين ويحملان على أنهما سلمان لأن كل بينة شهدت بغير ما شهدت به بينة الآخر ، وهذا إذا كان ذلك في مجلسين وإلاَّ فهو تهاتر فيصار فيه للترجيح على رواية المصريين كما مرّ فيما إذا تعارضتا بالطلاق والعتق في مجلس واحد ، وكذا إن شهدت إحداهما بأنه طلق الصغرى والأخرى بأنه طلق الكبرى أو شهدت إحداهما بأنه زنى والأخرى بأنه سرق فإنه يلزمه الطلاق فيهما ، ويقطع ويحد حيث كانتا في زمنين وإلا فهو تهاتر لا يمكن فيه الجمع . ومن إمكانه ما إذا شهدت إحداهما بمعاينة حوز الهبة دون استمراره وشهدت الأخرى باستمرارها بيد الواهب كما مرّ ، وذلك لأن المعاينة تحصل بالوقوف على الأملاك والتطوف عليها وذلك بجامع استمرارها بيد الواهب .
والشَّيْءُ يَدَّعِيهِ شَخْصانِ مَعا
ولا يدٌ ولا شَهيدٌ يُدَّعى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
( والشيء ) أصلاً كان أو حيواناً أو غيرهما ( ويدعيه شخصان ) مثلاً ( معا ) أي ادعى كل منهما جميعه أو ادعى أحدهما الكل والآخر النصف أو الثلث مثلاً ، أو كانوا أكثر من شخصين فادعى أحدهم الكل والآخر النصف والآخر الثلث ( ولا يد ) لواحد منهما أو منهم ( ولا شهيد ) لواحد ( يدعى ) فيه .
يُقْسَمُ ما بَيْنَهُمَا بعد القَسَم
وذاك حُكْم في التَّساوي مُلْتَزَم
( يقسم ) خبر عن قوله والشيء ويدعيه ومعاً ولا يد ولا شهيد أحوال منه ( ما ) زائدة( بينهما ) يتعلق بالخبر وكذا ( بعد القسم ) أي يقسم بينهما بعد حلفهما ويقضي للحالف على الناكل ، ومفهوم قوله : ولا يد أنه إذا كان بيد أحدهما فقط أنه لا يقسم بل القول الذي اليد كما يدل له قوله : والقول قول ذي يد منفرد الخ . وأفهم قوله يدعيه أن كلاًّ منهما يدعيه أو جزءاً معلوماً منه فإن ادعى كل منهما حظاً منه لا يدري قدره قسم بينهما نصفين لأن كلاًّ منهما مقر بالشركة والأصل فيها المناصفة ، وسواء في هذه كان بيد أحدهما أو أيديهما أو لا يد عليه ، وأطلق الناظم في القسم في هذه وبينه ( خ ) بقوله وقسم على الدعوى إن لم يكن بيد أحدهما كالعول في فريضة زادت سهامها على أصلها ففي الصورة الأولى يقسم بينهما نصفين ، وفي الثانية على الثلث والثلثين وكيفية العمل فيه أن يزاد على الكل النصف ونسبته إلى الكل حين الزيادة الثلث فلمدعي الكل الثلثان ، ولمدعي النصف الثلث ، وفي الثالثة المسألة من ستة لأنها أقل عدد يشمل تلك المخارج وتعول بنصفها ، وثلثها ، فالمجموع أحد عشر فلمدعي الكل ستة ولذي النصف ثلاثة ولذي الثلث اثنان وهكذا . ومن هذا الأصل رجل أخرج مطمراً من فدان آخر زعم أن أباه طمر فيه خمسة عشر قفيزاً وأقام ورثة أخر بينة شهدت أن وليهم طمر في هذا الفدان لا يدرون أهي هذه المطمر أم غيرها ، ووجد في المطمر أكثر من خمسة عشر قفيزاً فالحكم أن رب الأرض : إن لم يدع ذلك لنفسه واعترف أن الطعام لأحدهما ولا يدريه لكون كل منهما طمر في المكان المذكور أن تقسم الخمسة عشر قفيزاً بينهما بعد يمين كل منهما أنه لا يعلم للآخر حقاً في ذلك وما زاد على الخمسة عشر فهو لذي البينة ، وإن قال رب الأرض لا أدري هل طمر أحدهما أو طمرا معاً كان الطعام لذي البينة بعد يمينه قاله في أقضية المعيار ، وإذا تعارضت بينتان ولم يكن مرجح وتساقطتا فالحكم كذلك إذ لم يبق إلا مجرد الدعوى كما قال : ( وذاك ) أي قسمه بينهما بعد القسم ( حكم في التساوي ملتزم ) صفة حكم الذي هو خبر عن ذاك والمجرور يتعلق بتلك الصفة الخ . وذلك حكم ملتزم في التساوي .
في بَيِّناتٍ أَوْ نُكولٍ أَوْ يَدِ
والقولُ قَوْلُ ذِي يَدٍ مُنْفَرِدِ
( في بينات ) يتعلق بالتساوي كما ترى ومعلوم أنهما لا يتساويان إلا مع انتفاء المرجح ( أو ) التساوي في ( نكول ) بأن ينكلا معاً ( أو ) التساوي في ( يد ) بأن يكون تحت يدهما معاً أو لا يد عليه . وأو في المحلين بمعنى الواو فإن انفرد أحدهما بوضع اليد عليه كان له وحده مع يمينه كما قال :
( والقول ) مبتدأ ( قول ذي يد ) خبر ( منفرد ) صفة ليد وإنما يكون القول لذي اليد المنفرد بهاإن لم تكن للآخر بينة الملك وإلا قدمت على مجرد اليد كما قال :
وهو لِمَنْ أقامَ فيهِ البَيْنَهْ
وحالَهُ الأعْدَلِ مِنْها بَيِّنَهْ
( وهو ) مبتدأ وخبره ( لمن أقام فيه البينة ) مفعول بأقام والجملة صلة ( من ) والرابط الضمير الفاعل بأقام فإن أقام ذو اليد بينة بالملك أيضاً وتساوت البينات في المرجحات أو عدمها قضى به لذي اليد وإلا فإن كانت إحداهما أرجح بشيء من المرجحات المتقدمة قضى بها كما قال : ( وحالة الأعدل ) مبتدأ ( منها ) أي البينات يتعلق بالأعدل ( بينة ) ظاهرة في اعتبار الترجيح بها ولا مفهوم للأعدلية بل غيرها من المرجحات كذلك كما مرّ ، فلو أبدل الأعدل بالأرجح لشمل ذلك ، وانظر بسط هذه المسألة في الشامل اه . والله أعلم .
باب اليمينالمتوجهة بحكم حاكم أو محكم على طالب أو مطلوب أو عليهما مع الشاهد أو الشاهدين أو دونهما لا بمجرد طلب الخصم تحليفه ، فلا يلزمه الحلف له كما أفاده قول الناظم بالقضاء ، فيفهم منه أن المراد اليمين التي تقطع الحقوق لأنها التي يقضي بها وهي بالله الذي لا إله إلا هو كما يأتي في قوله : وبالله يكون الحلف لا اليمين التي تكفر كقول ( خ ) اليمين تحقيق ما لم يجب . ( وما يتعلق بها ) من مكانها وزمانها وبيان صفتها وأقسامها .في رُبْعِ دِينارٍ فأعْلَى تُقْتَضَى
في مسْجِد الجمع الْيَمينُ بالقَضَا
( في ربع دينار ) أو ثلاثة دراهم أو عرض يساوي أحدهما لشخص واحد ولو على اثنين متفاوضين فيه لأن كلاًّ وكيل عن الآخر ، وانظر أقضية المعيار في كيفية حلف ورثته المتفاوضين ، وانظر فيها أيضاً فيمن حلف بالطلاق لا يحلف بالمسجد هل يحنث أم لا . لا لشخصين ولو متفاوضين ( فأعلى ) أي فأكثر منه معطوف على ما قبله والمجرور يتعلق بقوله : ( تقتضى ) بالبناء للمفعول ( في مسجد الجمع ) أي الذي تقام فيه الجمعة يتعلق به أيضاً ( اليمين ) نائب فاعله ( بالقضا ) أي الحكم في محل نصب على الحال أي حال كون اليمين واجبة بالقضاء ، وفهم منه أنه في أقل من ربع دينار يحلف حيث تيسر له كما يأتي ، وأنه إن أبى أن يحلف في المسجد المذكور عد ناكلاً وأنها لا تغلظ بالزمان ككونها بعد العصر أو يوم الجمعة أو ليلة السابع والعشرين من رمضان وهو كذلك ، وقيل تغلظ بالزمان أيضاً . قلت : وقولهم إن طلب رب الحق أن يحلفه بمسجد غير الجامع لكونهم يعظمونه ، أو أن يحلفه على المصحف أو سورة براءة أو قد سمع أو أضرحة المشايخ . أجيب : وكذا بالطلاق حيث كان لا يرجع عن الباطل إلا بذلك كما في ( ز ) وغيره . ويقتضي أن تغلظ بالزمن أيضاً بالأحرى من الطلاق حيث رجى الإرهاب ارتكاباً لأخف الضررين ، وظاهر كلامهم أنه إذا امتنع من الحلف بالطلاق والمصحف ونحوهما عد ناكلاً إذ لا فائدة لجبره على ذلك إلاّ ذاك ، وظاهر النظم أنه في أي موضع من الجامع حلف كفى وهو ظاهر ( خ ) أيضاً . وبه قرر شراحه وصرح به في الشامل فقال : ولا تغلظ بمنبر على الأصح إلا بمنبره عليه السلام ، ولكن العمل على اقتضاء الأيمان بين المنبر والمحراب كان منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو غيره كما أفاده قول المدونة يحلف في جامع بلده في أعظم مواضعه الخ . فإن أبى أن يحلف فيه غرم بعد أن يحلف الطالب في المحل المذكور حيث كانت دعوى تحقيق وإلاَّ فبمجرد النكول ، فإن لم يكن لهم جامع جلبوا إلى الجامع الذي على قدر مسافة الجمعة من منازلهم لأنهم ممن لهم جامعحكماً وإلاَّ حلفوا حيث هم ثم إن التغليظ بالجامع من حق الخصم فإذا رضي أن يحلفه بغير مسجد فله ذلك . وانظر لو حلفه في غير الجامع جهلاً أو في غير المنبر ، والجاري على ما يأتي في القيام أنها لا تجزئه حيث كان الطالب ممن يجهل تغليظها بذلك والله أعلم . كما أنه إذا حلفها في الجامع بغير حضرة الخصم بل بحضرة عدلين فقط لا تجزئه ويعيدها بحضرته ومحل عدم الإجزاء إذا لم يتغيب عنها بعد الحكم له بها ، وإلاَّ أقام له القاضي وكيلاً يقتضيها ولا حجة له حينئذ ، ويفهم هذا من قوله فيما مرّ . ومن ألد في الخصام وانتهج الخ . إذ لا يحكم له باليمين حتى تنقطع حجته فينفذ الحاكم حكمه باقتضاء تلك اليمين لتسقط دعواه عن الخصم ، وانظر ( ح ) في القضاء ، وإذا طلب أحد الخصمين تعجيل اليمين وطلب الآخر تأخيرها ، فالقول لطالب التعجيل ما لم يطلب تأخيرها لوقت تغلظ فيه على ما مرّ .
وما لَهُ بالٌ ففيهِ يَخْرُجُ
إليْهِ لَيحلا غيرُ مَنْ تَبرَّجُ
( وما له بال ) مبتدأ وخبر والجملة صلة ما ، والمراد به ربع دينار فأكثر ولذا لو قال وإن تكن أنثى ( ففيه ) أي في ربع دينار ( تخرج إليه ) أي إلى الجامع ( ليلاً غير ) فاعل تخرج والمجروران قبله وبعده يتعلقان به وكذلك الظرف والجملة خبر الموصول ولعمومه وإبهامه دخلت الفاء في خبره ( من ) أي الأنثى في محل جر بالإضافة ( تبرج ) بفتح التاء وشد الراء صلة ( من ) وأصله تتبرج فحذفت إحدى التاءين عملاً بقول الخلاصة : وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على الخ . ومعناه أن غير المتبرجة وهي التي عادتها أن لا تخرج لمصالحها من حمام وغيره إلاَّ ليلاً أو تخرج لها نهاراً غير مشتهرة فإنها تخرج للحلف طالبة أو مطلوبة ليلاً وتحلف بحضرة الخصم ، فإن أبت هي وزوجها من حضوره خشية الاطلاع عليها فإنه يبعد عنها أقصى المسجد بقدر ما يسمع لفظ يمينها قاله ابن عبد السلام . فإذا ادعى الخصم عدم معرفتها فعليها أن تثبت أنها المطلوبة ، وقيل حسبها أن تقول أنا هي وعليه الإثبات ، والأول أصوب قاله في التبصرة عن ابن الهندي ،ومفهومه : أن المتبرجة تخرج لها نهاراً وأما التي لا تخرج لا ليلاً ولا نهاراً فتحلف في بيتها بحضرة عدلين يوجههما القاضي لها ولا يقضي للخصم بحضوره معها قاله ( ز ) . قال : فتستثنى هذه الصورة من قولهم لا بد من حضور الطالب لليمين وإلا أعيدت ، وفي الشهادات من البرزلي أنه يبعد عنها أقصى ما يسمع صوتها ولا يرى شخصها كالتي قبلها . ونقله ( ح ) في القضاء فتأمل هذه الأقسام الثلاثة من لا تخرج إلا ليلاً أو تخرج نهاراً غير مشتهرة ومن تخرج بهمشتهرة ومن لا تخرج أصلاً . وما مر من أنها في هذا القسم الثالث تحلف في بيتها هو الأظهر عند عياض ، واقتصر عليه عبد الوهاب وهو المعتمد ، وذهب الأندلسيون إلى أنها تخرج ليلاً أيضاً ، والمدونة محتملة للقولين ، والأول هو ظاهر قول ( خ ) وخرجت المخدرة فيما ادعت أو ادعى عليها إلا التي لا تخرج نهاراً وإن مستولدة قليلاً الخ . ومحل القولين فيما إذا كانت مطلوبة وإلا فإن كانت طالبة كما لو أرادت الحلف مع شاهدها خرجت ليلاً قاله ( ت ) وقول ابن العطار حسبما في القلشاني على الرسالة معنى قولهم : لا يخرجن أي لا يخرجن مشتهرات . وإلاَّ فالتي تخرج غير مشتهرة حكمها حكم من لا تخرج ألبتة الخ . معناه حكمها حكم من لا تخرج بالنهار ألبتة كما فهمه الأجهوري أي فيلزمها الخروج ليلاً كما مر ، وليس معناه حكمها حكم من لا تخرج أصلاً لا ليلاً ولا نهاراً كما قيل : لأنه يكون الراجح فيها حينئذ أن تحلف في بيتها كما مرّ ، ويلزم عليه أن لا تخرج إلا ليلاً تحلف في بيتها من باب أولى لأنها أبلغ في الستر فتأمله والله أعلم . وعلى هذا يحمل قول ابن رشد وعندي في خروج المرأة إلى الجامع بالنهار كشف لها ولحالها وإن كانت تخرج بالنهار لأنها إذا خرجت للحلف عرف أنها فلانة بخلاف ما إذا خرجت لغير ذلك ، وقد أخبرني بعض الفقهاء أنها وقعت بتونس وأنه وجد فيها نصاً اه . لكن كلامه ظاهر في أنه في التي تخرج بالنهار غير مشتهرة كما مرّ عن الأجهوري ، وأما التي تخرج به مشتهرة فلا تأتي فيها علته المذكورة والله أعلم . فإن تنازعا في الخروج فعليها الإثبات أنها من أهل الحجاب ، وأنها ممن يحلف ليلاً كما في التبصرة عن المتيطية .
وقَائِماً مُسْتَقْبِلاً يكُونُ
مَنِ اسْتُحِقَّتْ عِنْدهُ اليَمينُ
( وقائماً مستقبلاً يكون من استحقت ) بالبناء للمفعول صلة الموصول الذي هو اسم يكون وما قبلها خبرها ( عنده ) يتعلق بما قبله ( اليمين ) نائب الفاعل وأل للعهد والمعهود اليمين المتقدمة ، أما القيام فلا بد منه فإن حلف جالساً أو مضطجعاً أو منحنياً لغير عذر لم تجزه على المشهور خلافاً لابن كنانة في عدم اشتراطه القيام ، والظاهر أن محل الإجزاء إذا كان جاهلاً بأنها تغلظ بما ذكروا لا أجزأت لأنه قد رضي حينئذ بإسقاط حقه من التغليظ بذلك وانظر إذا قلنا بعدم الإجزاء هل يعيدها مطلقاً أو بالقرب فقط كمسألة من حلف لخصمه بالطلاق تغليظاً عليه المشار لها بقول اللامية . ومن يحلف بلا من له العلا أعاد بقرب الخ . وأما الاستقبال فصرح في المدونة بأنه لا يجب ، وعليه عول ( خ ) فقال : وبالقيام لا بالاستقبال ، وروى الأخوان وجوبه لأنه يحصل الإرهاب ، وعليه عول الناظم لكونه المعمول به كما في المفيد وابن سلمون وغيرهما . وهذا حيث وجبت اليمين في الجامع ، فإن لم تجب فيه لكون الحق أقل من ربع دينار لم يجب قيام ولا استقبال بل يحلف في أي موضع حكم عليه فيه كما يأتي .
تنبيه : إذا لم تجزه اليمين لعدم قيامه أو استقباله وقطع رب الحق عن رضاه باليمين وأراد إقامة البينة فله ذلك على ما لابن عتاب لا على ما لابن رشد كما مرّ في أنواع الشهادات ، وأحرى أن يكون له ذلك لو بادر خصمه قبل أن يطلب منه .
وهي وإنْ تَعَدَّدَتْ في الأَعْرَافِ
على وِفَاقِ نيَّةِ المُسْتَحْلِفِ
( وهي ) أي اليمين التي تقطع بها الحقوق ويحكم بها الحكام ( وإن تعددت ) أي تنوعت إلى يمين تهمة وقضاء ومنكر وشاهد ( في ) القول ( الأعرف ) وهو قول الأكثر ( على وفاق نية المستحلف ) خبر عن قوله هي والمجرور قبله يتعلق بالاستقرار في الخبر المذكور والواو في قوله :وإن للحال وهو مقدم من تأخير والتقدير وهي كائنة على وفق نية الطالب في القول الأعرف ، وإن تعددت فإذا أنكره في دين أو وديعة مثلاً وحلف لا شيء له عندي ونوى حاضراً أو في الدار مثلاً لم ينفعه ذلك بإجماع كما في ابن سلمون عن ابن رشد قال : وهو آثم عاص لقوله عليه السلام : ( من اقتطع حق امرىء بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار ) . قالوا : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال : ( وإن كان قضيباً من أراك ) قالها ثلاثاً . وهذه هي الغموس المشار لها بقول ( خ ) وغموس : بأن ظن أو شك وأحرى مع التحقق وما تقدم من الإجماع حكاه في ضيح عن ابن زرقون أيضاً . وحكى العلامة بهرام في الوسيط عن ابن زرقون قولاً بأنها تنفعه نيته فإليك النظر في أي النقلين أحق ، وأما إن لم يقطع بها لغيره حقاً . فأقول فقيل على نية الحالف ، وقيل إن طلب باليمين فعلى نية المحلوف له ، وإن كان متطوعاً فعلى نية الحالف وقيل بالعكس انظر ( ح ) والشامل في باب اليمين .
وَمَا يَقِلُّ حَيْثُ كَانَ يَحْلِفُ
فيهِ وَبالله يَكُونُ الْحَلِفُ
( وما ) مبتدأ ( يقل ) عن ربع دينار صلته ( حيث كان ) الحالف ( يحلف فيه ) خبر المبتدأ والظرف يتعلق به أي يحلف الرجل في مكانه المقضى عليه فيه والمرأة في بيتها ، وظاهره أنه لا يلزمه قيام ولا استقبال وهو كذلك كما في التبصرة وأشار لبقية صفة اليمين بقوله : ( وبالله يكون الحلف ) أي صفة اليمين المغلظة أن يقول في الجامع قائماً مستقبلاً : بالله الذي لا إله إلا هو ويكون مضارع كان التامة وتقديم معمولها يؤذن بالحصر أي يوجد الحلف بالله لا بغيره من أسمائه تعالى كقوله : بالرحمن الذي لا إله إلا هو ولا بغير أسمائه تعالى كالنبي والكعبة والعرش والكرسي وكل مخلوق معظم شرعاً وأحرى غير المعظم كاللات والعزى فلا توجد ولا تنعقد ، بل يحرم الحلف بها فضلاً عن كونها تقطع الحقوق لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) ، بل إن قصد بالحلف بالعزى ونحوها التعظيم فكفر وما مرّ من جواز التحليف بالطلاق هو من باب قولهم تحدث للناس أقضية ، وحينئذ فلا ينافي هذا ما أشار له في اللامية بقوله : ومن يحلف بلا من له العلا أعاد بقرب لكون ما هنا فيما إذا كان بحكم لكون الحالف لا ينزجر إلا به فكانت يميناً جازية في القرب والبعد بخلاف ما في اللامية فإنه ليس من الباب المذكور لكون الحالف ممن ينزجر باليمين بالله ولم تكن بحكم . هذا هو الظاهر والله أعلم على أن ما ذكره في اللامية أصله لابن سهل . قال ابن رحال في حاشيته : هنا ما لابن سهل . إنما هو من باب إسقاط الإنسان حقه إن كان عالماً فلا إشكال وإلا فهو مفرط في السؤال اه . وتأمل قوله : وإلا فهو مفرط الخ . مع أن من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه صدق ، وقول الناظم : بالله يعني مع صفته فهو من باب الاقتصار على صدر القول لشهرته كقوله عليه الصلاة والسلام : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) يعني بآخرها وهو محمد رسول الله ، وقوله : من قرأ الحمد لله رب العالمين يريد إلى آخرها وإنما قلنا ذلك لأن المعروف في المذهب المنصوص كما للمازري وغيره أنه لا يكفي بالله فقط ولا بالذي لا إله إلا هو فقط حتى يجمع بينهما خلافاً للخمي في قوله : إنها كافية في الوجهين معاً . قال : لأنه لا خلاف أنها يمين تكفر إن حنث فيها . ابن عرفة : لا يلزم من كونها تكفر أن تجزي في قطع الحقوق لاختصاص يمين الخصومة بالتغليظ ، ولا مفهوم للباء في قوله بالله بل غيرها من حروف القسم كالواو والتاء ونحوهما كذلك انظر ( ح ) ثم إن الاقتصار على بالله مع صفته ولو كان الحالف كتابياً هو المشهور ، وقيل لا يقتصر الكتاني على ذلك كما قال :وَبَعْضُهُمْ يزيدُ لِلْيَهُودِي
مُنَزِّلُ التَّوْرَاةِ لِلَّتشْدِيدِ
( وبعضهم ) مبتدأ ( يزيد لليهودي ) في يمينه على بالله الذي لا إله إلا هو ( منزل التوراة ) على موسى ( للتشديد ) عليه ومنزل مفعول يزيد والجملة خبر .
كما يَزِيدُ فيهِ للتَّثْقِيلِ
عَلَى النَّصَارَى مُنْزِلَ الإنْجِيلِ
( كما يزيد ) البعض المذكور ( فيه ) أي في اليمين ( للتثقيل على النصارى منزل الإنجيل ) على عيسى والقول بزيادة ما ذكر رواه الواقدي عن مالك . وكان القاضي أبو عبد الله الأبدي يغلظ بالتوراة التي تسميها اليهود المجلجلة فينكلون عن اليمين بها ويستخرج الحق بسبب ذلك لكونهم يعظمونها أكثر من غيرها ، وكذا يقال في النصارى إذا كانوا يعظمون بعض أناجيلهم أكثر من غيره ، وهذا هو الحق لأن المدار في الأيمان على ما يعظمه الحالف فيحمل الخلاف على ما إذا كان اليهود والنصارى لا يرتهبون بالزيادة المذكورة وإلاَّ وجبت ، كما أن أهل البلد من المسلمين إذا كانوا يعظمون مسجد من مساجدهم أكثر مما يعظمون جامعهم فإنهم يجبرون على الحلف به كما لابن ناجي وغيره ، ومن أبى ذلك عد ناكلاً كما مر ، بل تقدم أنه إذا كان لا يرتهب إلا بالطلاق أو بالمصحف كلفه الحاكم بذلك والله أعلم وما مر من أنهما لا يزيدان على الموصوف والصفة شيئاً وإنهما لا بد أن يجمعا بينهما كالمسلم هو ظاهر المدونة ( خ ) وتؤولت على أن النصراني يقول بالله فقط أي لأنهم لا يوحدون كاليهود وعلى أنهما معاً يقولان بالله لا غير والكاف للتشبيه وما مصدرية والمجرورات الثلاث تتعلق بيزيد وهل يجمع المجوسي بين الصفة والموصوف كالمسلم والكتابي أو يقتصر على بالله ؟ قولان . أرجحهما الثاني ولا يكون واحد منهم مؤمناً بسبب اليمين المذكورة ، وما يقال من أن المجوسي ينفي الصانع فلا يكلف أن يحلف بالله غير سديد لأن الصانع مما اتفقت فيه الملل كلها على وجوده كما للتفتازاني وغيره .وَجُمْلَةُ الكُفَّارِ يَحْلِفُونَا
أَيْمَانَهُمْ حَيْثُ يُعَظِّمُونَا
( وجملة الكفار ) من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ( يحلفونا أيمانهم ) الواجبة عليهم لمسلم أو كافر ( حيث يعظمونا ) من الأمكنة كالكنيسة لليهودي والبيعة للنصراني وبيت النار للمجوسي ، ومن ذلك يوم السبت كما في الدعاوى والأيمان من المعيار ونحوه لابن هلال في نوازله ، وهو ظاهر النظم ، وظاهره أنهم يجبرون على القيام والاستقبال لقبلتهم ومن كان منهم بالبادية لا يجد موضعاً يعظمه يجلب لأقرب موضع يعظمه وإلاَّ حلف حيث هو وأنها لا تغلظ عليه بذلك إلا في ربع دينار فأكثر وجملة يحلفون خبر عن قوله جملة والظرف يتعلق به وجملة يعظمون في محل جر بحيث . ولما أفهم كلامه فيما مر أن التغليظ بالزمان غير معتبر أفاد أنه قد يغلظ به في بعض الحقوق فقال :
وَمَا كَمِثْلِ الدَّمِ وَاللِّعَانِ
فِيهِ تَحَرِّي الْوَقْتِ والْمَكَانِ
( وما ) كان من الأيمان في الحقوق العظام ( كمثل الدم ) أي القسامة أو تحليف القاتل الولي على العفو ( واللعان فيه ) خبر عن قوله ( تحري الوقت ) والجملة خبر ما ، وظاهره أن التغليظ بالوقت في هذين واجب بالقضاء لمن طلبه ، وحكي عليه في الشامل الاتفاق فقال : وغلظت على مسلم في دم ولعان بجامع ووقت صلاة اتفاقاً ونحوه في ضيح ، ونقل ابن عرفة ذلك عن ابن حبيب ، وابن القاسم وأصبغ وابن كنانة إلا أنه ألحق في رواية ابن كنانة المال العظيم بهما ونحوه في الجواهر ، وظاهر المدونة عدم التغليظ بالزمان فيهما كما لابن ناجي ، والذي في المعونة أن التغليظ بالزمان فيهما مستحب ونحوه لابن فرحون في تبصرته عن مالك في غير المدونة وهو الموافق لقول ( خ ) في اللعان ، وندب أثر صلاة ، وذكر ابن ناجي في شرح المدونة عن ابن رشد ، أن كون القسامة بعد صلاة العصر يوم الجمعة كما قيل : هو الذي به العمل قال ابن رحال : واللعان مثلها كما لا يخفى وظاهر ما به العمل أنه على وجه الوجوب كما هو ظاهر النقل يعني المتقدم عن ابن كنانة وغيره فيتحصل ثلاثة أقوال : وجوب التغليظ كما هو ظاهر المصنف وبه العمل وعدمه لظاهر المدونة وهو ظاهر ( خ ) في مختصره في الشهادات واستحبابه كما في المعونة وعليه عول ( خ ) في اللعان ، وإنما خصوا العصر بما ذكر لما روي أن الأيمان بعد العصر ليست لها توبة . وروي الأيمان تكون بعد الظهر والعصر في القسامة واللعان والعصر أشدهما قاله فيالوثائق المجموعة . ( والمكان ) عطف على الوقت ، والمراد به الجامع أي أعظم مواضعه كما مرّ . وفي الرجراجي ما نصه : فأما أيمان القسامة واللعان فتغلظ بالزمان والمكان فمن كان من أهل مكة والمدينة وبيت المقدس فإنهم يجلبون إليها حيثما كانوا ، وأما أهل الآفاق فإن كانت مواضعهم قريبة كالعشرة أميال جلبوا إليها واختلف فيما فوق العشرة الخ . فالمراد بالمكان الجامع أي أعظم مواضعه كما مر ، ومفهومه أنها لا تغلظ في غير ما ذكر بالزمان وقد تقدم ما في ذلك فانظره .
وَهْيَ يَمِينُ تُهْمَةٍ أَوِ الْقَضَا
أَوْ مُنْكِرٍ أَوْ مَعَ شَاهِدٍ رِضَا
( وهي ) أي اليمين المتوجهة بالحكم فهي مبتدأ خبره محذوف أي أربعة أقسام ( يمين تهمة ) بدل مفصل من الخبر المذكور وهي المتوجهة في الدعوى غير المحققة على المشهور من أقوال تأتي وإيجابها استحسان كما لابن رشد قال : والقياس عدم وجوبها لقوله عليه السلام : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) . ( أو ) يمين ( القضا ) ء وهي المتوجهة على من ادعى على ميت أو غائب أو صغير أو مسكين أو مسجد استحساناً أيضاً ، ومنها المتوجهة في استحقاق غير العقار أو فيه على ما لناظم العمل حيث قال :
كذا في الاستحقاق للأصول
القول باليمين من معمول
وإنما كانت منها كما لابن رشد وغيره لأن كلاَ منهما لرفع احتمال القضاء أو الخروج عن اليد فهما لرد دعوى مقدرة كما مرّ في أول أنواع الشهادة ( أو ) يمين ( منكر ) وهي المتوجهة لرد دعوى محققة لقوله عليه السلام : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) . كما تقدم عند قوله : والمدعي مطالب بالبينة إلى قوله والمدعى عليه باليمين الخ ( أو ) يمين ( مع شاهد رضا ) قام للمدعي في المال أو ما يؤول إليه الخبر : أمرني جبريل أن أقضي بالشاهد واليمين . وقد تقدم الخلاف فيه عند قوله : ثانية توجب حقاً مع قسم . الخ . وفائدة تعداد هذه الأيمان كما للشارح تمييز بعضها من بعض لما يعرض لها من قلب ونحوه حسبما تراه إن شاء الله . ومحل وجوب اليمين مع الشاهد إذا لم يقر الخصم بعدالته وإلاَّ فلا يمين لأن إقراره بالعدالة كالإقرار بالحق كما مرّ عند قوله : وفي الشهود يحكم القاضي بما الخ . وفي ابن سهل لو قال : رضيت بشهادة فلان فشهد عليه فإن أنكر شهادته في الحين وقال : ظننت أنه لا يشهد إلا بالحق فلا تمضى شهادته عليه وإن لم ينكر بل سكت سكوتاً يدل على رضاه بشهادته مضت عليه اه .ولما فرغ من أقسامها شرع في بيان محل وجوب كل قسم منها على اللف والنشر المرتب فقال :
وَتُهْمَةٌ إنْ قَويتْ بِهَا تَجِبْ
يَمِينُ مَتْهُومٍ وَلَيْسَتْ تَنقَلِبْ
( وتهمة ) لو فرعه بالفاء لكان أولى وهو مبتدأ سوغه قوله ( إن قويت ) لأن الشرط في معنى الصفة أي وتهمة قوية ( بها ) يتعلق بقوله : ( تجب يمين متهوم ) فاعل . والجملة خبر ومفهوم الشرط أنها تسقط إذا ضعفت ففي نوازل الدعاوى والأيمان من المعيار عن العبدوسي أن التهمة على قسمين تهمة في دعواها معرة كالاتهام بالسرقة فهذه لا تلحق من لا تليق به ممن شهد فيه بالخير ومخالطة أهله ومجانبة أهل الشر وتهمة في غير ذلك ، فهذه تلحق اليمين فيها جميع الناس برهم وفاجرهم على القول باليمين في التهمة وهو المشهور ، وبه القضاء وعليه العمل . واستحسن ابن رشد أنها إن قويت لحقت وإلاَّ فلا وهو قول ثالث . وهذا يعرف عند نزوله فلا بد من بيان التهمة التي اتهم المطلوب بها وبيان حاله من التبريز في العدالة أو مطلق العدالة ومعرفته بالخير ومخالطته أهله دون ثبوت تزكية بحيث لا يكون ما شهد به تزكية له أو جهل حاله أو معرفته بالشر وسوء الظنة اه . وقوله : فلا بد الخ . به تتضح قوة التهمة وعدمها ويفهم منه أن المبرز في العدالة لا يمين عليه كانت الدعوى مما فيه معرة أم لا . وتتوجه على غيره بما لا معرة فيه مطلقاً . وهذا هو المنصوص لمالك في المبسوط وهو اختيار اللخمي ، وبه أفتى الغوري حسبما في المعيار ، وعليه يحمل قول ابن مرزوق في جواب له . الراجح عندي في هذا الوقت وجوب اليمين أي يمين التهمة مطلقاً إذا تقرر هذا فقوة التهمة مختلف فقوتها فيما فيه معرة بكونها على من تليق به فلا تلزم إلا من كان معروفاً بالشر وسوء الظنة وقوتها فيما لا معرة فيه بكونها على غير المبرز في العدالة المنقطع في الخير والصلاح . وقول الناظم : إن قويت يشمل الصورتين ، وكذا قول ناظم العمل :
ودون تحقيق الدعاوى أيمان
تهمته تقوى لغير مختان
وحينئذ فلا اعتراض خلافاً لما في الشراح من أنه درج على ما لابن رشد وإن كان ما لابن رشد هو قول ( خ ) في الإيداع وحلف المتهم وهو دليل شفعتها في الشفيع يقول : أخاف أن يكون قد باعه في السر وأشهد له بالصداقة ليقطع شفعتي قال مالك : إن كان المشتري ممن لا يتهم بمثل هذا فلا يمين وإلا حلف اه . وعليه حمل ابن فرحون قول أبي الحسن الصغير المشهور وجوب اليمين بمجرد التهمة لأنه قال عقبه : الظاهر أنه يريد بعد إثبات كون المدعى عليه ممن تلحقه التهمة بذلك ثم نقل عن ابن الهندي أن المطلوب لا يحلف في التهمة حتى يثبت الطالب أنه ممن يتهم بذلك ، فهذا القول وإن كان مذهب المدونة واختيار ابن رشد وشهره أبو الحسن على ما استظهره ابن فرحون لا ينبغي حمل الناظم عليه ، والفرق بينه وبين الذي قبله أن ما لا معرة فيه تتوجه فيه اليمين على الأول مطلقاً ولا يستثنى من ذلك إلا المبرز بخلافه على هذا ، فلا تتوجه إلا على من ثبتت تهمته ، والقول الثالث عدم توجه يمين التهمة مطلقاً . وفي الطررلأبي إبراهيم في باب الوكالة أنه المشهور نقله في التبصرة وهو الموافق لقول الناظم فيما مرّ تحقق الدعوى مع البيان الخ . وعلى توجهها مطلقاً أو في المتهم فإن نكل غرم بمجرد نكوله على المشهور . ( وليست تنقلب ) على الطالب بالنكول ولا بصريح القلب على المشهور ، وقيل تنقلب ويحلف على غلبة ظنه وقيل لا غرم عليه بالنكول بل يسجن أبداً حتى يحلف ثم المسلمون في دعوى الغصب والتعدي محمولون على العدالة حتى يثبت خلافها أي : وهم في الشهادة على الجرحة حتى تثبت العدالة قاله ابن لبابة وغيره ، وتأمله مع قول العبدوسي : فمن شهد فيه بالخير الخ . فإنه بظاهره يقتضي أنهم فيما فيه معرة محمولون على غير العدالة ، وشمل قول الناظم : وتهمة الخ . ما قاله ابن زرب وكان يحكم به ، ويقول : إنه من الدقائق كما في التبصرة والمعيار وهو أن الرجل إذا ادعى على آخر بدعوى تهمة فإن للمطلوب أن لا يحلف حتى يحلف المدعي أنه قد ضاع له ما ادعاه ، لأن من حجته أن يقول : اتهمتك بأنه لم يضع لك شيء وإنما تريد أن تخرجني باليمين انتهى باختصار . وبالجملة فكل منهما اتهم الآخر ويفهم من تعليله أنه لا خصوصية للاتهام بعدم الضياع بل كذلك لو سلم له الضياع واتهمه بعدم الاتهام ، وقد يقال : إن هذا يؤدي للتسلسل فتأمله والله أعلم . وشمل قوله : وليست تنقلب يمين القضاء ويمين الاستحقاق لأن كلاًّ منهما يمين بتهمة ، وشمل أيضاً ما لو ماتوا في سجن أو بيت فسرق أحدهم فليس على من عداه إلا اليمين فإن حلفوا برئوا ومن نكل فعليه الغرم بمجرد نكوله ، وقوله : وليست تنقلب يريد على الوجه الذي توجهت ، وأما على غيره فتنقلب ، فإذا خلا الرجل بزوجته ومات وطلبت باقي صداقها واتهمت الورثة بأنهم يعلمون باقيه فإن حلفوا وإلاَّ ردت عليها من غير خلاف ، ولكن لا تحلف أنهم عالمون به بل تحلف أنها ما قبضته ولا أسقطته ، فهذه ترجع على غير ما نكل عنه الورثة ، وكذا إذا اتهم رجل آخر بالسرقة مثلاً فإن للمطلوب أن يقول له احلف أنت أنه لقد ضاع لك ما تدعيه وأنك تتهمني به وأنا أغرمها لك فله ردها بهذا المعنى ، كما أفتى به ابن المكوي وغيره ، وحكم به عياض كما في دعاوى المعيار وليس له ردها على حسب ما توجهت فيقول احلف أني قد سرقتها وأغرمها لك ويمكن أن يكون هو معنى قول العمل :
وقل له احلف لي قد اتهمتني
وأنه ضاع الذي ألزمتنيوأن يمين التهمة ترد بهذا المعنى دون غيره ، ويحتمل أن يكون مراده أن للمتهم أن يقول للطالب لا أحلف حتى تحلف على ما ذكر كما مرّ عن ابن زرب إلا أنه ليس في كلام ابن زرب زيادة الحلف على التهمة فيترجح الحمل الأول ، وعليه فإنما احتيج لتلك الزيادة لإمكان كون الطالب عرف آخذ متاعه أو لم يعرفه واتهم به غير هذا المطلوب ، ولكن أراد تعيينه باليمين مع علمه ببراءته .
قلت : وهذا يقتضي أنه إذا سلم له الضياع ونازعه في الاتهام فقط له أن يحلفه عليه ويغرم ، وهو كذلك إذ ذاك حق من حقوقه وعليه فغالب دعاوى الاتهام أو كلها ترد فيها اليمين بهذا المعنى ، فللمشتري في مسألة الشفعة المتقدمة أن يقول : احلف أنك اتهمتني بالشراء وخذ بالشفعة وله أن يقول في الرد بالعيب : احلف أنك اتهمتني باستخدام الدابة أو الرقيق بعد علمي بعيبهما وأسقط عنك الرد ، وهكذا فترد اليمين في ذلك كله على غير ما توجهت .
ثم أشار إلى بيان محل يمين القضاء فقال :
وَلِلَّتِي بِهَا الْقَضَا وُجُوبُ
فِي حَقِّ مَنْ يُعْدَمْ أَوْ يَغِيبُ
( وللتي بها القضا ) ء مبتدأ خبره في المجرور والجملة صلة الموصول وفي الكلام حذف أي ولليمين التي بها نفي القضاء ، والمراد بالقضاء قضاء الدين وما في معناه كنفقة الزوجة لا الحكم ( وجوب ) مبتدأ خبره الموصول المجرور ( في حق من يعدم ) بفتح الدال صلة من والمجرور يتعلق بالاستقرار في الخبر ( أو يغيب ) معطوف أي غيبة بعيدة ولو حكماً وقد تسقط وذلك فيما إذا أوصى أن يقضي دينه من ثلثه قاله ابن الهندي ونحوه لابن سلمون وكذا إن أقرّ بديون لقوم وأوصى أن يصدقوا بدون يمين على قول ابن القاسم كما في اللامية ، وأفهم قوله : وجوب أن من دفع ديناً على ميت أو غائب دون يمين ضمنه وهو كذلك إن تعذرت يمين القابض وظاهره كغيره وجوبها ولو غاب قبل حلول الأجل وهو كذلك لأنها للتهمة ، وقيل لا يمين عليه . وانظر( ح ) في باب الصلح وأن الوكيل ليس له أن يصالح عنها إذا لم يفوض له فيه بخلاف الوصي ، فله ذلك إن رأى عزيمة عليها . ونقل ذلك البرزلي في الوكالات مبسوطاً وفي نوازل الدعاوى من المعيار هل القاضي كالوكيل في ذلك أو كالمديان ؟ وفهم من قوله : في حق من يعدم الخ . أنها لا تجب في حق الحي الحاضر إلا إن ادعى القضاء وهو كذلك ، وقوله : يعدم أي يموت ولا يقرأ بكسر الدال لأن المفلس وإن كان يحلف مع بينته ، لكن ليس حلفه لنفي القضاء ، وهذه اليمين لرد دعوى مقدرة كما مرّ فيحلف ما قبضت من هذا الدين شيئاً ولا استحلت به ولا أحلت به أحداً ولا وهبته ولا شيئاً منه ولا قدمت أحداً يقبضه منه وأنه لباق عليه إلى الآن ، فإن مات رب الدين فيحلفها من يظن به العلم من الورثة الكبار فقط لكن يحلف على نفي العلم فقط كما يأتي في قوله : وإن نفى فالنفي للعلم كفى . وظاهر النظم وجوبها ولو للولد على والده كالمرأة تطلب دينها على زوجها الميت والمحيط بإرثه هي وأولادها فقط ، وهو كذلك كما في البرزلي قائلاً لأنها مدعية فحكمت السنة بحلفها ، وظاهره أنها تجب ولو ثبت الدين بإقرار مات بإثره وهو ما يقتضيه التعليل المتقدم من أنها في مقابلة دعوى الإبراء والإخالة ونحوهما ، وهذا واضح إذا أقر بشيء في ذمته وأما إن أقر بشيء معين فلا إشكال في عدم يمينه وعليه يحمل ما في ( ح ) . وقد صرح بذلك في الباب الخامس من القسم الثاني من التبصرة فانظره فيه ، وظاهره أيضاً وجوبها . ولو أقر الورثة الكبار ببقاء الدين وهو كذلك إن كان الإقرار بعد الرفع للحاكم فإن أقروا قبله فكذلك ويضمن الدافع حصة الصغار إن دفع بدونها .
تنبيه : فإذا اشترط رب الدين سقوط هذه اليمين فذلك جائز في صلب عقد البيع وما جانسه لا في القرض مطلقاً لأنه في العقد سلف جر نفعاً وبعده هدية مديان كبعد العقد في البيع ونحوه . انظر التبصرة في الباب التاسع والعشرين وانظر التزامات ( ح ) فإنه ذكر في المسألة ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين أن يكون المشترط مأموناً فيوفى له بالشرط وإلاَّ فلا . وذكر عن ابن ناجي أن العمل على القول بأعمال الشرط مطلقاً ، وذكر هو أن القول بعدم أعماله أرجح ، وانظر ما يأتي في الصلح والضمان .
وَلاَ تُعَادُ هذِهِ الْيَمِينُ
بَعْدُ وَإنْ مَرَّ عَلَيْهَا حينُ
( ولا تعاد هذه ) نائب الفاعل ( اليمين ) نعت أو عطف بيان أو بدل ( بعد ) بالضم مقطوع عنالإضافة يتعلق بتعاد ( وإن مر عليها حين ) فاعل بقوله : مر ، والمجرور يتعلق به ، والواو للمبالغة أي لا تعاد يمين القضاء على الطالب بعد حلفها ولو مضى زمان طويل بين حلفها ودفع الدين لعدم طروء الشك الموجب لها ، إذ الفرض أنه لا زال غائباً ، وفهم منه أنه إذا قدم بعد الحلف ثم غاب قبل الدفع أو بعد ما بين نجوم الدين بحيث يمكن أن يكون اقتضى النجم الثاني أو وكل عليه فتعاد وهو كذلك لأن الشك حينئذ حاصل كما كان أول مرة .
تنبيهات . الأول : إذا حلف الطالب يمين القضاء وباع الحاكم عقار الغائب ونحوه للدين فقدم الغائب وأثبت البراءة ، فإن البيع لا ينقض ويرجع بالثمن على الغريم إلا أن يكون المبيع لم يتغير عن حاله فيكون أحق به بالثمن على الراجح كما يأتي في فصل البيع على الغائب إن شاء الله .
الثاني : إذا وقف القاضي متاع الغائب لقضاء دينه فغاب رب الدين وقدم الغائب في حال غيبته وادعى الملاء فدفع القاضي له المال الموقوف فهرب به ثم قدم رب الدين فإن لرب الدين الرجوع على القاضي لأنه دفع ما لا تعلق به حق الغير تعلق استيفاء كالأمين في الرهن قاله في المعيار .
الثالث : لو ادعى رب الدين أن للغائب مالاً بيد رجل وديعة أو بوكالة وأثبت ذلك فإن أقر من هو بيده أنه للغائب قضى منه دينه بعد اليمين قاله سحنون ، وعليه العمل . ونقل عنه ابن اللباد أنه لا يقضي منه دينه وهو قول ابن المواز وابن عبد الحكم قال أبو عمران : وهو القياس لأنه لو حضر الغائب وقال : الوديعة لغيري لم يكن لرب الدين فيها شيء قاله في المتيطية . قلت : وهذا الخلاف لو ادعى رب الدين على شخص أنه وهب مالاً للغائب في حال غيبته وأثبت ذلك أو سأل يمين الواهب فإنه لا يقضى له بشيء من ذلك إذ لا يدري هل يقبل الغائب الهبة فتكون من ماله أم لا ؟ وهو لا يجبر على قبولها لقضاء الدين قاله في المعيار وهو معنى قول ( خ ) : ولا يلزم أي المفلس بتكسب أو تسلف الخ . وهذه الفروع وإن كان لها تعلق بفصل الغائب الآتي فلها تعلق بما هنا أيضاً لأن نفس اليمين لها تعلق به .
ثم أشار إلى يمين المنكر فقال :
وِلْيَمِين أيُّمَا إعْمَالِ
فِيمَا يَكُونُ مِنْ دَعَاوى المالِ
( ولليمين ) خبر ( أيما أعمال ) صفة لمبتدأ محذوف وما صلة أي ولليمين أعمال أي أعمال ( فيما ) يتعلق بالاستقرار في الخبر ( يكون ) مضارع كان التامة ( من دعاوى المال ) يتعلق به وشمل قوله دعاوى دعوى تعمير الذمة أو إخلائها كقوله : قضيتك أو دعوى البيع أو الشراء أو الإجارة أو العارية ونحو ذلك فإن القول لمنكر العقد إجماعاً مع يمينه بدليل الاستثناء الآتي ، وما في التبصرة من أنه لا يمين على منكر عقد البيع والمساقاة والشركة لا معول عليه ولعله مبنيعلى القول باشتراط الخلطة . وقوله : المال أي ما يؤول إليه كالأجل والخيار ونحوهما كما مرّ . وظاهر قوله في المال : ولو أدى لغير المال كدعوى المكاتب على سيده أداء نجم ونحوه وهو كذلك كما مرّ عند قوله ثانية توجب حقاً مع قسم . واحترز بقوله : المال من دعاوى غير المال كدعوى الشتم أو ادعت الزوجة أن زوجها يضربها كما في ابن سلمون في شرط الضرر ، وانظر الفائق . وقد تقدم أن ما ليس بمال ولا آيل إليه لا يمين فيه ويستثنى من ذلك جراح العمد فتجب فيها اليمين وإن لم تكن مالاً ولا آيلة إليه ويدخل فيه ما إذا طلب منه اليمين على مال أنكره فيه ، فزعم المطلوب أنه قد كان حلف . ( خ ) وله يمينه أنه لم يحلفه أولاً . الخ . المازري وبه الفتوى والقضاء عندنا وله رد اليمين عليه أنه قد استحلفه ثم لا يحلف مرة أخرى اه . وأفتى اللخمي بأن لا يمين على الطالب . واختاره ابن رحال وعليه درج ناظم العمل حيث قال :
ولا يمين حيث قال احلف لي
إنك ما حلفتني من قبلي
قلت : وفيه مراعاة دعوى أحد الخصمين دون الآخر بلا دليل ولا مرجح ، فالواجب التمسك بما للمازري ثم استثنى من عموم قوله : فيما يكون من دعاوى المال . قوله :
إلاَّ بِمَا عُدَّ مِنَ التَّبَرُّعِ
مَا لَمْ يَكُنْ فِي الحَالِ عِنْدَ المُدَّعِي
( إلا ) استثناء والباء في قوله ( بما ) بمعنى في وجملة ( عد ) بالبناء للمفعول صلة والتقدير إلا في الدعاوى التي تعد ( من التبرع ) كدعوى الهبة والصدقة فلا يمين فيها على المشهور خلافاً للجلاب في أنها تتوجه في التبرع فإن نكل المطلوب حلف الطالب وأخذه وشمل قوله : التبرع دعوى هبة اليمين وإبرائه منها ، ولا سيما إن علم تقدم الخصام بينهما كما في نوازل الدعاوى والأيمان من المعيار والتبرع ما كان من غير سؤال ، والتطوع ما كان عن سؤال وكلاهما معروف قاله أبو الحسن في باب الحمالة ، والناظم أطلق التبرع على ما يعم التطوع ( ما ) ظرفية مصدرية ( لم يكن ) صلتها أي مدة عدم وجوده ( في الحال ) أي حال الدعوى ( عند المدعي ) وفي حوزه وإلاَّ وجبت اليمين حينئذ كانت الدعوى في معين أو في الذمة . ابن عرفة عن الباجي دعوى المدين هبة رب الدين دينه توجب يمينه اتفاقاً .
قلت : وكذا من ادعى هبة ما بيده من معين اه . الباجي : ويصحح هذا أن من استحق عرضاً بيد رجل لا يحكم له به حتى يحلف أنه ما باع ولا وهب الخ . وشمل كلام الناظم النحلة والعارية والإسكان والعمرى والإخدام والحبس والوصية فلا يمين في ذلك كله إلا أن يكون بيد المدعي حال التداعي قاله الرعيني ، قال : وقد قال مالك فيمن تصدق بنخل مثمر فقال المتصدق عليه الثمرة لي ، وقال الآخر : إنما تصدقت بالأصل دون الثمرة إن القول للمتصدق بيمينهوإلا حلف الآخر وأخذ الثمرة اه باختصار . ولا يدخل في كلامه القرض والحوالة والكفالة بعد العقد والإقالة على الثمن الأول وإن كان الكل معروفاً إذ التبرع هو ما لا معاوضة فيه ، وهذه فيها معاوضة إذ أدنى مراتبها الكفالة وهي يرجع فيها بما أدى .
ولما لم تدخل هذه في كلامه نبه على لحوق بعضها بالتبرع على ما أفتى به ابن عتاب وابن القطان فقال :
وَفي الإقَالَةِ ابْنُ عَتَّابِ يرى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
وُجُوبِهَا بشُبْهة مُعْتَبَرا
( وفي الإقالة ابن عتاب ) مبتدأ وجملة ( يرى ) خبره ( وجوبها ) مفعول أول وفي الإقالة يتعلق به أو بيرى ( بشبهة ) يتعلق بقوله : ( معتبراً ) بفتح الباء مفعول ثان ومن بعض النسخ لشبهة باللام بدل الباء فمعتبراً بكسرها حال وهو أظهر من نسخة الباء ، قال ابن رشد في نوازله : أما دعوى الإقالة فمن دعوى المعروف ، وقد اختلف فيها شيوخنا فمنهم من ذهب إلى أن ما وقع من ذلك في الأمهات اختلاف قول وأنها مسألة ذات قولين من غير تفصيل ، ومنهم من قال ليس ذلك باختلاف بل المدعى فيه إن كان بيد المدعي أو كان له به تشبث وجبت له اليمين على المدعى عليه ، وإلا لم تجب وهو تفصيل حسن له وجه من النظر وهو مراعاة الخلاف فيوجوب الحكم بما لم يقبض من الهبات ، فالأظهر في دعوى الإقالة وجوب اليمين إذ لا اختلاف في وجوب الحكم بها إلا أن يدعي أنه أقاله فيها قبل التفرق بالأبدان فتضعف اليمين مراعاة لمن يقول : إن البيع لا يلزم إلا بالتفرق بالأبدان انتهى من نسخة أندلسية في غاية الجودة ، وسقط من نسخة الشارح التي بيدنا قوله : بما لم يقبض إلى قوله بها . وزاد بعد قوله بالأبدان ما نصه : وكان ابن عتاب يقول : لا تجب اليمين لمدعي الإقالة إلا أن يأتي بشبهة يقوي بها دعواه ، وشاهدته يفتي بذلك وقال في ذلك اختلاف ، وكذلك كان ابن القطان يفتي أن لا يمين إلا بشبهة اه . إذا تقرر هذا علمت أن ما أفتى به ابن عتاب هو عين التفصيل الذي حكاه ابن رشد عن بعض شيوخه ، وعلمت أن ابن رشد استظهر وجوبها مطلقاً ، وعليه اقتصر الرعيني في الدعوى والإنكار ، وصدر به ابن فرحون في تبصرته وهو ما رجحه الشارح تبعاً لابن سهل فلو قال الناظم :
وفي الإقالة وجوبها ثبت
في راجح الأقوال كيفما أتت
وانظر ما معنى التشبث ولعله يريد كونه بيد وكيله أو غلامه أو بعض قرابته الذي يسعى في مصالحه ، وقول ابن رحال يريد به الدين غير ظاهر ، ومعنى قول ابن رشد مراعاة الخلاف في وجوب الحكم الخ أن الهبة التي لم تقبض فيها قولان لزومها بالقول وهو المشهور وعدم لزومها به حتى تقبض وهو مقابله ، وهذا الخلاف لا يجري في الإقالة للزومها بالقول قبضت أم لا اتفاقاً لأنها بيع . قلت : وهكذا يقال في القرض لأنه بيع في الحقيقة ، وأما الحوالة فهي وإن كانت بيعاً لكن صرح الرعيني بعدم وجوب اليمين فيها ، ولعل وجهه كما لأبي العباس الملوي في بعض طرره إن من حجة المطلوب وهو المحال عليه أن يقول : هب أن اليمين توجهت لك علي واعترفت لك بالحوالة فإن دفع المال إليك لا يوجب براءة ذمتي من طلب رب الدين وهو المحيل ، ولا أتكلف الدفع إليك مع عدم براءة ذمتي وفي الوكالة من البرزلي : لو قال لفلان علي دين أمر هذا بقبضه لم يحكم على المقر بدفعه لأنه مقر على رب الدين وذلك غير لازم له ، وأما الكفالة فصرح في معاوضات المعيار بأن المشهور عدم توجه اليمين عليه فيها قائلاً لأنها من دعوى المعروف كالتبرع والصدقة اه .
وفي المدونة وجوب اليمين فيها بشرط ثبوت الخلطة ، وصدر ابن سلمون بأنه إن ادعى عليه أنه تكفل له في صلب العقد وجبت اليمين ، وإن ادعى عليه التبرع بعد العقد فلا يمين . قلت : وهذا الذي صدر به لا يخالف المدونة لأنه يلزم من الدعوى بها في صلب العقد الدعوى عليه بمعرفة أصل الدين فهو يدعي عليه حينئذ بها وبمعرفته لأصلها ، ووجه ابن يونس ظاهر المدونة بأن الطالب يقول إنما وثقت بمبايعة من لا أعرف لكفالتك إياه ، فلذلك وجبت اليمين اه . وهذا التوجيه يدل على أن كلامها في الدعوى في أصل العقد فتبين بهذا كله رجحان ما صدر به ابن سلمون من التفصيل ، ولا سيما على ما به العمل من عدم اشتراط الخلطة وهو ظاهر إذا ثبت أصل الحق ولو بالاعتراف من الكفيل ، وإلا فمن حجته أن يقول لا شيء لك عليه مما تدعيه إذ فائدة اليمين تظهر في النكول عنها ، وهو لو نكل عنها والدين لم يثبت لم يلزمه غرم ، وقد قال الجزيري : لا مطالبة لرب الدين على الحميل إلا بعد ثبوت الدين ، فإن عجز وزعم أن الحميل يعرف الدين حلف الحميل على علمه وبرىء فإن نكل حلف الطالب أن الحميل يعرف حقه قبل الغريم وغرم ، فإذا وجد الحميل الغريم فإن أقرّ له غرم وإلا حلف وبرىء ولا رجوع حينئذ للحميل على الطالب اه .
تنبيه : فإن اتفقا على الإقالة وزعم البائع أنه أقاله على أنه يرد له أقل من الثمن فالقول للمشتري بيمينه أنه أقاله بمثل الثمن قاله في التبصرة . وتستثنى هذه مما يأتي في اختلاف المتبايعين في قدر الثمن والله أعلم .
وَهذِهِ الْيَمِينُ حَيْثُ تَجِبُ
يَسُوغُ قَلْبُها ومَا إنْ تُقْلَبُ
( وهذه ) مبتدأ ( اليمين ) نعت أو عطف بيان ( حيث ) ظرف مضمن معنى الشرط ( توجب ) بضم التاء وفتح الجيم في محل جر بحيث أي : هذه اليمين إن أوجبها الحاكم على المنكر في المال أو ما يؤول إليه ( يسوغ ) له ( قلبها ) فاعل والجملة خبر فإن حلف من قلبت عليه وإلا سقط حقه( وما ) نافية ( إن ) صلة ( تقلب ) بالبناء للمفعول ونائبه ضمير اليمين المقلوبة والجملة معطوفة على الخبر أي ليس لمن قلبت عليه أن يقلبها ثانياً ، وإلا لم تزل في قلب وشمل اليمين مع الشاهد وغيرها من الدعاوى المحققة المجردة ولا دخل هنا ليمين التهمة ولا ليمين القضاء ، إذ لا يقلبان على نحو ما توجهتا عليه كما مرّ ، وأشعر قوله يسوغ قلبها أنه إذا قلبها ليس له الرجوع عن ذلك لأنه أسقط حقه منها سواء قلبها بعد الرفع للحاكم أو قبله ، وهو كذلك ( خ ) : وإن ردت على مدع وسكت زمناً أي ولو طويلاً فله الحلف .
تنبيه : قال في التبصرة : إذا وجبت لرجل يمين على امرأة من ذوات الحجاب ووجبت لها هي يمين عليه فأرادت أن تحلف ليلاً وأن تحلفه نهاراً فقال الرجل : أخاف أن أحلف لها نهاراً فترد على اليمين ليلاً فأحلف مرتين مرة في النهار ومرة في الليل ، فإن المرأة إذا التزمت أنها لا ترد اليمين حلف لها الرجل نهاراً وحلفت المرأة ليلاً وهذا نص في أن التزامها لعدم الرد يلزمها اه .
ثم إن الحالف لا يخلو إما أن يثبت لنفسه حقاً أو ينفي عنها أو يثبت لغيره أو ينفي عن ذلك الغير ، ففي الثلاث الأول يحلف على البت ، وفي الأخيرة على العلم كما قال على اللف والنشر المرتب :
وَمُثْبِتٌ لِنَفْسِهِ ومَنْ نَفَى
عَنْها عَلَى البَتَاتِ يُبْدِي الْحَلِفَا
( ومثبت ) مبتدأ سوغه تعلق ( لنفسه ) به ( ومن ) معطوف وجملة ( نفى ) صلته ( عنها ) يتعلق به وضميره للنفس فالإثبات كقوله : لي عليك ألف والنفي كدعوى المطلوب عليه القضاء ولو تقديراً ككون المطلوب ميتاً أو غائباً ( على البتات ) يتعلق بقوله : ( يبدي ) أي يظهر ( الحلفا ) مفعول والجملة خبر فيحلف في الإثبات أن له عليه ألفاً ، وهذا إذا رد عليه اليمين أو قام له بذلك شاهد ( خ ) . واعتمد البات على ظن قوي الخ ويحلف المطلوب في النفي ما له علي ألف ولا شيء منه من سلف أو بيع أو غيرهما ( خ ) : ويمين المطلوب ماله عندي كذا ولا شيء منه ونفى سبباً إن عين وغيره ، فإن قضى نوى سلفاً يجب رده أي ولا يكفيه لا حق لك علي ، وقال ابن الماجشون : يكفيه ونحوه لأشهب . ابن عبد السلام : وهو التحقيق لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص أي : فلا يكلف أكثر من ذلك ويحلف الطالب في دعوى القضاء أنه ما قبض شيئاً ويزيد في الميت والغائب ولا أحال به ولا أسقطه إلى آخر ما مر .وَمُثْبِتٌ لغَيْرِهِ ذَاكَ اقْتَفَى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
وإنْ نَفَى فالنَّفْيُ لِلْعِلْمِ كَفى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
( ومثبت لغيره ) مبتدأ سوغه ما مر ( ذاك ) مفعول بقوله : ( اقتفى ) أي اتبع والجملة خبر ، وذاك كدعوى دين لأبيه الميت وأقام به شاهداً أورد المطلوب أو ورثته على اليمين في الدعوى المجردة فيحلف أن ما شهد به الشاهد أو أن ما يدعيه لحق . وقولي أو ورثته هذه ترد على غير ما توجهت لأنها تجب عليهم على نفي العلم ، وإذا ردوها فيحلف الطالب على البت ( وإن نفى ) بها عن غيره كوارث ادعى شخص على موروثه دعوى مجردة فيحلف أنه ما يعلم له شيئاً على موروثه أي : وترد على غير ما توجهت كما مر وكدعوى شخص ديناً لأبيه على ميت أو غائب وأقام به شاهداً أو شاهدين ووجوب يمين القضاء ، فإن الشخص يحلفها على العلم كما قال : ( فالنفي للعلم كفى ) في ذلك كله وإن ردها في الأخيرتين فلا ترد لأنها للتهمة كما مرّ ، فالنفي مبتدأ خبره كفى ، والجملة جواب الشرط . وقد استفيد منه أنه مع الشاهد يحلف يمينين يميناً لتكميل النصاب وهي على البت كما مرّ مثاله في صدر البيت ويميناً لنفي القضاء وهي على نفي العلم كما هنا وله أن يجمعهما في يمين واحدة على ما به العمل قال ناظمه :
وتجمع الأيمان في الدعاوي
إلا يمين الرد في التساوي
فاستثناؤه يمين الرد يدل على أن غيرها من الأيمان متساوية في التغليظ وعدمه ، ولو يمين قضاء أو استحقاق تجمع وهو كذلك على خلاف فيه كما في الرعيني وغيره ، فإن كان بعضها يغلظ في الجامع دون البعض الآخر فهو بالخيار في أن يحلف واحدة مغلظة يدخل فيها جميع ما وجب عليه أو يحلف يمينين المغلظة في الجامع وغيرها خارجه ، وقوله : إلا يمين الرد أي فلا تجمع بل يقول بالله الذي لا إله إلا هو فإذا انقضت قال : وبالله الذي لا إله إلا هو حتىتنقضي اليمين الأخرى وسواء قدم المردودة أو غيرها وما تقدم عن التبصرة في التنبيه قبل البيتين يدل على أن المردودة تجمع لأن قول الرجل : أخاف أن ترد اليمين الخ . ظاهر في ذلك وإلا لم تتوقف يمينه على التزامها عدم الرد ، وقد صرح بجمعها مع غيرها . ابن رشد أيضاً حسبما في الدر النثير ثم كما يلزم الطالب أن يحصر دعاويه وأن يجمعها عند إرادة إخلاف المطلوب ليحلف له يميناً واحدة كما مرّ كذلك يلزمه أن يحصرها ليقع الجواب عن جميعها على ما عليه العمل أيضاً كما أشار له ابن أبي زمنين وغيره وهو معنى قول اللامية ، وهل مدع يلجأ لجمع حقوقه الخ . وبالجملة فالجمع إما ابتداء ليقع الجواب عن مجموعها أو بعد الجواب عن بعضها بالإنكار وإرادة التحليف ففي أي محل منهما طلب الجمع ؟ أجيب إلا أن تكون الدعاوى من الميراث فيلزمه جمع ما علمه منها فقط في الوجهين دون ما لم يعلمه ، وهذا معنى قولهم : إن دعاوى الميراث لا يلزم جمعها أي لا يلزم جمع ما لم يعلم منها ، فإن زعم المطلوب أنه سيدعي عليه بدعاوى عينها منه وأنكر الوارث قوله وعلمه بذلك فإنه يفيد عليه إنكاره وعدم علمه بتلك الدعاوي ، ويقال له لا قيام لك بها إن حلفته على ما سميت فقط لا بإظهار أمر يعلم أنها لم تكن معلومة عندك قال : معناه في المعيار عن البرزلي ، وكذا إن ادعى بدعاوى زاعماً أن له بينة على بعضها دون البعض الآخر فلا سبيل له إلى تحليفه على ما لا بينة له به إلا إذا التزم أنه لا قيام له في ماله به ببينة إلا بها ، فإن لم يلتزم ذلك لم يستعجل يمينه الآن بل حتى يقيم البينة فإن أقامها وإلاَّ جمع دعاويه وحلف له يميناً واحدة وفهم من النظم أنها إذا وجبت بتاً فحلفها علماً أو بالعكس لا يجزيه ويعيدها وهو كذلك ، أما في الأول فظاهر وأما في صورة العكس فلا لأن اليمين على الشك غموس وهي محرمة منهي عنها ، والنهي يدل على الفساد ومعناه في العقود عدم ترتب آثاره عليه ، فلا أثر لهذه اليمين بهذا أفتى المقري راداً على غيره ممن أفتى بالإجزاء لأنه أتى بالمطلوب وزيادة كما في المعيار . قلت : وتعليله يدل على عدم الإجزاء ولو طلبها الطالب كذلك تغليظاً على المطلوب . ولا يقال : إن هذا قد رضي بإسقاط حقه منها كما مرّ فيمن طلب من خصمه الحلف بالطلاق تغليظاً . لأنا نقول الطلاق يمين منعقدة بخلاف هذه .
تنبيهات . الأول : إذا وجبت اليمين لورثة يملكون أنفسهم على رجل وتقاضى اليمين أحدهم بأمر الحاكم بيمينه تجزىء عن الجميع وليس لمن يقوم بعده ولو غائباً أو صغيراً أن يحلفه وإن كان بغير أمر الحاكم فكل من قام منهم يحلفه يميناً ثانية قاله في المتيطية وهو معنى قول اللامية :
وإن غاب بعض من ذوي الحق يكتفي
بإحلاف بعض إن بحكم تحصلا
وإذا أقام غير من أحلفه بينة عمل بها في حظه فقط ولو كان عالماً بها حين إحلاف القاضي المطلوب لغيره لأنه يقول لم أقم بحقي وقت الحلف ولم يكن طلب الحق مني قاله ( ز ) أول باب الوكالة .
الثاني : إذا وجبت اليمين فأراد الطالب تأخيرها والمطلوب تعجيلها أو العكس فتعجيلها واجب قاله ابن عبد السلام وابن سلمون عن ابن الحاج ، فلو وجبت يمين القضاء أو مع الشاهد أو قال المطلوب احلف وأزن لك فقال الطالب في ذلك كله : لا أحلف حتى يحضر المال لأنيأخاف أن أحلف ويدعي العدم فتذهب يميني باطلاً فقال ابن العطار : لا يجاب لذلك بل يحلف ثم يطالبه بالمال ، وعليه اقتصر في اللامية حيث قال : ومن أبى يميناً لكون المال غاب فجهلا . وقيل : يجاب إلى ذلك وبه العمل بتونس قاله ابن ناجي ، وقيل : يكفي أن يشهد على المطلوب بأنه مليء ويحلف الطالب فإن ادعى العدم بعد إشهاده بالملاء فإنه يسجن حتى يؤدي ولا تقبل بينته بالعدم قاله ابن أبي زمنين وفضل وغيرهما ، واقتصر عليه في التبصرة والوثائق المجموعة ولم يحك أكثر الشيوخ غيره وهو المذهب . وقال أبو الحسن : انظر قضاة البوادي يفعلون هذا وليس لأجل دعوى العدم لأنهم لا يعلمونه ، وإنما ذلك خوف اللدد لضعف الأحكام فيحتمل أن يؤخذ له رهن أو حميل فحينئذ يحلف اه . وفي المعيار عن العبدوسي أن المطلوب يجبر على أحد أمرين : إما أن يقر بملاء ذمته وإما أن يحضر المال وحينئذ يحلف الآخر ؛ اللهم إلا أن يفهم القاضي عنه الكذب فلا يقبل منه إلا الإحضار ، وأفتى الغبريني إن كان المطلوب يتكلف كلفة في إحضار الثمن مثل أن يحتاج إلى بيع داره ونحو ذلك فإنه يحلف الطالب أولاً . وإلاَّ فلا يحلف حتى يحصله . ابن ناجي : وفتواه صواب ، وبها حكمت بالقيروان اه . فتحصل من هذا أنه إذا كان معلوم الملاء لكن يحتاج إلى بيع أصل ونحوه أو غير معلومه ، ولكن أشهد بملاء ذمته ولم يفهم القاضي منه الكذب ولا ضعفت الأحكام حلف الطالب أولاً فإن كان معلوم الملاء ولا يحتاج لبيع أصل أو غير معلومه وأشهد بملائه ولكن فهم منه الكذب أو ضعفت الأحكام فلا يحلف حتى يحضر المال أو يأتي برهن أو حميل والله أعلم . قلت : وهكذا المشتري يقول للشفيع : لا أحلف بأن الثمن مائة حتى أشهد عليك وأنك تأخذ بالشفعة لئلا تذهب يميني باطلاً قاله في شفعة المعيار .
الثالث : إذا طلب المدعي يمين المطلوب فللمطلوب أن لا يحلف حتى يلتزم له إسقاط كل بينة ما علم منها وما لم يعلم فإذا عقد على نفسه ذلك لم يكن له أن يقوم ببينة يجدها ولو لم يعلم بها قاله في المتيطية والوثائق المجموعة .
الرابع : من وهب ديناً وله به شاهد أو اشترى شيئاً بشاهد ووهبه فأنكر المدين أو البائع أو وجبت يمين القضاء في هبة ما على ميت ، فالواجب أن يحلف الموهوب له في ذلك كله لأن الواهب يقول : لا أحلف لينتفع غيري قاله أبو الحسن قال : وهو ظاهر من مسألة الغرماء ولعله يريد بها أن الميت إذا أقام له شاهد بدين وعليه ما يستغرق ماله فإن الغرماء يحلفون مع الشاهد لا الورثة إذ لا يحلفون ليستحق الغرماء وتعليله يدل على أن ذلك جار في الهبة والإقرار والشراء ، ونقله المشذالي في حاشيته كما في ( ح ) في باب الهبة ، وبه أفتى ابن سودة رحمه الله حسبما في نوازل العلمي وقوة كلامه تعطي أن هذا هو المعتمد ، ويؤيده أيضاً أن الصغير يجب له الحق بشاهد واحد ولا يحلف عنه الأب ولا الولي ، وقيل إن اليمين على الواهب . ورجحه ابن البراء حسبما في دعاوى المعيار قائلاً لأن المتصدق يعلم صحة ذلك ، ولأنه قد يتصدق فراراً من اليمين ولأن الهبة نقل شرعي فشرطه صحة الملك فإذا لم يتقرر الملك فلا نقل اه . وبمثل الأول أفتى ابن الحاج في رجل أقر في دين أنه لا حق له فيه فتوجهت يمين القضاء ، وأفتى ابن حمديس وأصبغ بن محمد بمثل الثاني ، وأفتى ابن رشد بحلف الواهب فقط في الهبة ويحلف المقر والمقر لهمعاً في الإقرار بالدين . قلت : والظاهر على القول يحلف المقر وحده أو حلفهما معاً بطلان الحق بنكول المقر ويلزمه غرمه للمقر له لأن نكوله دليل على أنه قد قبضه وعلى القول يحلف الواهب في هبة الدين أو ما ثبت بشاهد يبطل بنكوله ولا غرم لأنه يقول : وهبت له شيئاً لم يتم ولعله لذلك لم تجب عليه اليمين في القول الأول إذ لا شيء هناك يحمله عليها وحينئذ فيترجح في الإقرار يمين المقر أو هما معاً . وفي الهبة يمين الموهوب له والله أعلم . ويأتي عن البرزلي آخر الباب ما يدل لذلك ، وانظر مسألة الإقرار في قول ( خ ) آخر الشهادات وإن قال لفلان فإن حضر ادعى عليه الخ . ثم أشار إلى من يحلف اليمين مع الشاهد وهو كالتفصيل لما قدمه في قوله ثانية : توجب حقاً مع قسم .
وَالْبَالِغُ السَّفِيهُ بَانَ حقُّهُ
يَحْلِفُ مع عَدْلٍ وَيَسْتَحِقُّهُ
( والبالغ ) مبتدأ ( السفيه ) صفة ( بان ) ظهر ( حقه ) فاعل والجملة حال وجملة ( يحلف ) خبر ( مع عدل ) يتعلق به ( و ) جملة ( يستحقه ) معطوفة على جملة الخبر وشمل السفيه الذكر والأنثى مولى عليه أم لا . فهذا يغني عن قوله الآتي ، والبكر مع شاهدها تحلف الخ . وأفهم قوله السفيه أن الرشيد يحلفها بالأحرى ، وكذا العبد وسواء كان العبد مأذوناً له أم لا فلو نكل المأذون حلف الطالب وبرىء ، فإن غاب أو مات قبل نكوله حلف سيده واستحق كما يحلف ويستحق مع نكول غير المأذون وشمل قوله مع عدل الحقيقي والعرفي كنكول المطلوب ومعرفة العفاص والوكاء في اللقطة على القول باليمين ونحو ذلك مما مرّ ، والمراد بالعدل الجنس فيشمل الواحد ويحلف معه والعدلين فيحلف يميني القضاء والاستحقاق ولا يؤخران عنه إلى الرشد لأنهما لدفع التهمة والاحتمال كما مرّ عند قوله وهي يمين تهمة الخ . فهو كالرشيد في هذه الأيمان كلها على ما في الوثائق المجموعة وضيح وغيرهما ، وهو المعتمد كما يفهم من النظم وإنما يختلف حكمه مع الرشيد في النكول فإن السفيه إذا نكل ففي نكوله مع الشاهد يحلف المطلوب ويبقى الشيء بيده إلى الرشد فيحلف ويستحق كما يأتي في الصغير ، هذا هو الذي رجحه ابن رشد وصححه الرجراجي وهو قول مطرف وابن كنانة ، واختاره ابن حبيب ، وبه صدر في التبصرة ، وأفتى به أبو الحسن وابن لب حسبما في الدر النثير وأنكحة المعيار ، واستظهره الشارح قائلاً لأن بطلان حق السفيه بنكوله مؤد إلى جواز فعله ، والفرض أنه غير جائز الفعل ، وفي أنكحة المعيار أن التكليف هو مناط اليمين فتتوجه اليمين على السفيه المحجور وإن نكل لا يسقط حقه اه .
قال ابن رحال في شرحه : وهذا هو الذي أتقلده ولا أقول بغيره ، وذهب ابن القاسم إلى أن حق السفيه يبطل بنكوله مع يمين المطلوب ، وبه قرر المختصر شراحه . وفي الزاهي لابنشعبان : إن السفيه كالصبي لا يحلف مع شاهده ، بل حتى يرشد . ورواه مطرف عن مالك فهذه ثلاثة أقوال في يمينه مع الشاهد وفي نكوله عن يميني القضاء والاستحقاق يقضى له بحقه وتؤخر عنه اليمين إلى رشده ، فإن حلف حينئذ استمر قبضه وإلاّ رد ما أخذ فهو يحلفها الآن لئلا يضيع حق الخصم باستمراره في السفه طول عمره ، فإن نكل قضي له بالحق وأرجئت اليمين إلى رشده . هذا هو الجاري على ما مرّ من أن الراجح أنه يحلفها الآن وأن نكوله لا يبطل حقه منها بعد رشده ، ولا يخالف هذا قول ابن عتاب . وأكثر الأندلسيين تؤخر عنه يمين القضاء ابتداء ولا يخاطب بها في الآن لأنه يلزمهم أن يقولوا بالتأخير بعد النكول بالأحرى ، وكذا لا يخالف مفهوم قول الناظم بعد لغير بالغ الخ . لأن معناه حينئذ لا تؤخر عن البالغ ابتداء بل بعد النكول ، ولم أقف على من قال ببطلان حقه بالنكول عن يمين القضاء مع يمين المطلوب ، وأشعر قوله يحلف مع عدل الخ أنه مدع وأنه إذا كان مدعى عليه وتوجهت عليه يمين الإنكار أو يمين التهمة فلا يمين عليه الآن وهو كذلك خلافاً للأصيلي إذ لا تتوجه اليمين إلا حيث لو أقر المطلوب لزمه ، وهنا ليس كذلك . هكذا ذكر المازري وغيره هذه القاعدة وهي لا تعكر على ما تقدم من أن السفيه يحلف مع أن إقراره لا يلزم لأنها خاصة بما يدفع كما مرّ في شروط الدعوى ، ولذا قال بعضهم كما في المجالس المكناسية : ضابط يمين السفيه أنه يحلف فيما يقبض لا فيما يدفع . نعم هي ظاهرة على قول ابن عتاب وموافقيه أنه لا يحلف في الوجهين إلى أن يرشد ، ولعل المشهور إنما قال : يحلف فيما يقبض لئلا يضيع حق الخصم ببقائه في الحجر كما مرّ ، وفهم من قوله لزمه أن دعاوى غير المال كالدعوى عليه بما يوجب عقوبته في بدنه وهو ممن يتهم أو إرادة السفيهة القطع على زوجها الغائب ، وأثبتت الموجبات تتوجه عليها اليمين للزومها له بالإقرار كحلفه لرد شهادة الشاهد عليه بالطلاق .
والحاصل أن الدعوى على المحجور بالمال إذا لم تكن بينة لا توجب يميناً الآن فإذا بلغ أو رشد نظر ، فإن كانت الدعوى فيما يتعلق بذمته أو بماله والمال باق كان للمدعي تحليفه فإن حلف برىء وإلاّ غرم وإن ذهب المال الذي تعلقت الدعوى به فلا شيء عليه ، والذي يتعلق بالذمة هو ما أفسده مما لم يؤمن عليه . هكذا ذكر بعضهم هذا التحصيل في الصغير والسفيه مثله ، بل في البرزلي في نوازل المديان ما نصه . ابن سهل : الصواب عندي ما جرى به العمل من المنع من تعلق اليمين بالسفيه ، وفي وثائق ابن الهندي ترجأ اليمين عليه إلى إطلاقه ، ولو ادعى السفيه على رجل بدعوى فنكل المطلوب فإنه يغرم ولا يحلف السفيه حتى يرشد ، وإنما حلف مع الشاهد لإحياء السنة . ابن سهل : والصحيح عندي أن يحلف الآن إذا نكل المطلوب ورد عليه اليمين لأنه رضي بيمينه حين نكل اه . وكلام الناظم ظاهر فيما لم يتوله ولي السفيه من المعاملات أما ما تولاه وليه فإنه الذي يحلف فيه مع الشاهد فإن رد اليمين على المطلوب وحلف برىء وغرم الولي وكذا يغرم إذا ادعى عليه غريم الميت الدفع إليه فرد اليمين على الغريم لجنايته برد اليمين ، وهل يغرم القيمة فيما إذا باع له سلعة وأنكر المبتاع أو الأكثر منها ومن الثمن ؟ انظر الشارح .
تنبيه : قال في التبصرة : وأما المعتوه فإن المطلوب يحلف ويبرأ وإن نكل غرم ، فإن حلف المطلوب ثم بعد ذلك عقل المعتوه فإنه يحلف مع شاهده ويستحق حقه اه .قلت : تأمل قوله ويبرأ مع قوله ثم بعد ذلك عقل المعتوه الخ . فإنه متدافع اللهم إلا أن يقال مراده ويبرأ الآن لا في المستقبل .
وَتُرْجَأُ الْيَمِينُ حُقَّتْ لِلقَضَا
لِغَيْرِ بالِغٍ وَحَقَّهُ اقْتَضَى ( وترجأ ) بضم التاء وهمزة آخره مبني للمفعول من أرجأ الأمر إذا أخره ( اليمين ) نائب وجملة ( حقت ) أي أوجبت من حق الشيء إذا أوجبه في موضع الحال ( للقضا ) ء يتعلق به وكذا ( لغير بالغ ) أي تؤخر يمين القضاء إذا أوجبت على غير بالغ لكون دينه على ميت أو غائب ( وحقه ) مفعول بقوله ( اقتضى ) أي عاجلاً ، ثم إذا بلغ وحلف استمر القبض ، وإن نكل ردّ ما أخذ ، وهذا إذا بلغ رشيداً وإلا فقد مر أنه إذا نكل تؤخر عنه إلى الرشد ولا مفهوم لقوله للقضاء ، بل يمين غيره من إنكار وتهمة كذلك كما مرّ ، ومفهوم غير بالغ أن البالغ لا ترجأ في حقه بل يخاطب بها الآن وهو كذلك لكن إذا نكل وهو سفيه فترجأ كما مرّ .
تنبيه : إذا تعددت يمين القضاء كوجوبها على أحباس المسجد وطلبة العلم والقراءة سقطت قاله ( ت ) عن أحباس المعيار . قلت : وكذا لو وجبت على من لا يعرف تأديتها بإشارة ولا غيرها كالمعتوه وكذا يمين الاستحقاق . ولا يقال إن الحبس لا يباع فلا تأتي فيه يمين الاستحقاق . لأنا نقول العمل على جواز المعاوضة فيه وهي بيع كما يأتي ، وأما إن تعذرت اليمين مع الشاهد كوجوبها على من ذكر أو على من لا تتأتى منه بإشارة ولا كتابة فإن المطلوب يحلف ويبرأ ، ورد بأن ظاهر الروايات عدم يمينه فلا أثر لشهادة الشاهد هنا وهو الموافق لقول ( خ ) وإن قال : داري صدقة بيمين مطلقاً أو بغيرها ولم يعين لم يقض عليه الخ إذ توجه اليمين فرع القضاء ، فإن تعذرت من البعض دون البعض كالحبس على بنيه وعقبهم إذ هي متعذرة من العقب متيسرة من البنين الموجودين ، فالذي قاله ابن المواز عن أصحاب مالك ، وبه صدر المتيطي والباجي وابن شاس أنه كالذي قبله يحلف المطلوب ويبرأ قاله ابن رحال في شرحه . قال : هذا هو الراجح ، وقيل يحلف البنون فإن حلفوا كلهم ثبت الوقف ، وإن حلف بعضهم فقط ثبت نصيبه فقط ، وإننكلوا كلهم بطل الحبس إن حلف المطلوب ، وبه قرر شراح ( خ ) قوله : وإن تعذر يمين بعض كشاهد بوقف الخ .
وَحَيْثُ عَدْلٌ لِلصَّغِيرِ شَهِدا
بِحَقَّهِ وَخَصْمُهُ قَدْ جَحَدَا
( وحيث ) ظرف مضمن معنى الشرط ( عدل ) مبتدأ سوغه وقوعه في حيز الشرط ( للصغير ) يتعلق بقوله : ( شهدا ) وكذا ( بحقه ) والجملة خبر ( وخصمه ) مبتدأ وجملة ( قد جحدا ) خبره . والجملة معطوفة على الجملة المجرورة بحيث .
يَحْلِفُ مُنْكِرٌ وَحَقٌّ وُقِّفَا
إِلَى مَصِيرِ خَصْمِهِ مُكَلَّفَا
( يحلف منكر ) فاعل والجملة جواب حيث ( وحق ) مشهود به ( وقفاً ) بالبناء للمفعول خبر عن حق والجملة معطوفة على الجواب قبلها وسوغه الصفة المحذوفة أو العطف ( إلى مصير خصمه ) مصدر مضاف لاسمه ( مكلفاً ) خبر والمجرور متعلق بما قبله يليه .
وَحَيْثُ يُبْدِي الْمُنْكِرُ النُّكُولاَ
بُلِّغَ مَحْجُورٌ بِهِ المَأْمُولاَ
( وحيث ) ظرف كالذي قبله ( يبدي ) بضم أوله ( المنكر ) فاعله ( النكولا ) مفعوله ( بلغ ) بالبناء للمفعول ( محجور ) نائب ( به ) يتعلق ببلغ وضميره للنكول وباؤه سببية ( المأمولا ) مفعول ثان لبلغ وحاصل الأبيات أن الصغير لا يحلف مع شاهده سواء شهد له بالحق أو ببراءته منه وكذا لا يحلف وليه حيث لم يتول المعاملة وإلا حلف كما مرّ في السفيه ، وإنما لم يحلف واحد منهما لأن القلم مرفوع عن الصغير ، والقاعدة أن الإنسان لا يحلف لينتفع غيره ، وحينئذ فيؤمر المطلوب بالحلف سواء قام الشاهد للصبي وحده أو مع غيره ، لكنه في الثانية إنما يحلف على حصة الصبي فإن نكل حكم للصبي بالحق الآن ولا يمين عليه بعد بلوغه ، وإن حلف فإن كان الحق في الذمة كطعام ونقد وخيف فقر المطلوب أو كان معيناً كدار وثوب ، فهل يوقف بيد أمينحتى يبلغ الصبي أو يسلم للمطلوب ؟ قولان : لظاهر الموازية وابن حبيب عن الأخوين واستظهر في ضيح الأول ، وظاهر ابن رشد أيضاً أنه المذهب لأنه لما ذكر الخلاف في وقف الدين قال : ووقفه في القياس صحيح إذ لو كان المدعي فيه شيئاً بعينه لوجب توقيفه أو بيعه وتوقيف ثمنه إن خشي عليه كالحيوان على ما يأتي لابن القاسم اه . وهو ظاهر النظم وضمانه حينئذ من الصبي إن حلف ، ومن المطلوب إن لم يحلف لأنه إنما وقف لمن يجب له منهما وعلى كل حال لا بد أن يكتب الحاكم شهادة الشاهد في سجل ويتركها عنده أو يدفعها لوليه صوناً لمال الصبي وخوفاً من موت الشاهد أو طرو فسقه قبل بلوغ الصبي ، وعلى القول بإسلامه للمطلوب درج ( خ ) حيث قال : وحلف مطلوب ليترك بيده وسجل ليحلف إذا بلغ الخ . وقوله ليترك بيده يريد ما لم يخش فقره أيضاً كما هو ظاهر قاله ابن رحال . ويمكن تمشية الناظم على ما في ( خ ) بأن يحمل الإيقاف على منعه من تفويت المعين ببيع ونحوه لأنه إنما يبقى بيده حوزاً لا ملكاً فإذا حلف الصبي بعد البلوغ أخذه إن كان قائماً أو قيمته يوم الحكم إن فات ولو بسماوي ، والغلة للمطلوب ما دام بيده إذ الخراج بالضمان قال في الموازية : ولا يحلف الصغير بعد بلوغه حتى يعلم بالخبر الذي تيقن به ( خ ) : واعتمد البات على ظن قوي .
تنبيه : إذا قام شاهد لمغمى عليه أو مجنون ترجى إفاقته انتظر فإن كانت لا ترجى إفاقته أو تعذرت اليمين من نحو الأصم الأخرس ولو بالإشارة حلف المطلوب كما في مسألة الصبي ، وكذا وكيل الغائب يقوم له شاهد فيحلف المطلوب ويترك بيده لقومه ، فإن نكل غرم ولم يحلف الغائب إذا قدم كما مر في الصبي .
وَالْبِكْرُ مَعَ شَاهِدِهَا تُحَلَّفُ
وَفِي ادِّعَاءِ الْوَطْءِ أَيْضاً تَحْلِفُ
( والبكر ) البالغ مبتدأ ( مع شاهدها ) في محل نصب حال ( تحلف ) بضم التاء وفتح اللاممشددة مبنياً للمفعول خبر عن البكر ( وفي ادعاء الوطء أيضاً ) منصوب على المصدرية ( تَحلِف ) بفتح التاء وكسر اللام مبنياً للفاعل والمجرور يتعلق به ، وإنما تحلف في ادعاء الوطء إذا ثبتت الخلوة لأن الدعوى حينئذ صاحبها شاهد عرفي فتحلف لقد أصابها ويتكمل عليه الصداق . تنبيه : اليمين مع الشاهد تكون على وفق شهادته فإذا شهد بإقرار أو غيره فيحلف المشهود له أن الشهادة لحق ولا يلزمه أن يحلف أن ذلك الحق له قبله فإن حلف المطلوب بعد نكول الطالب ، ثم وجد الطالب شاهداً آخر لم يضم الأول على المشهور كما في الشامل ، لأن الأول قد بطلت شهادته بنكوله ويمين المطلوب ، وقيل يضم ، قال في المتيطية عن بعض وهو أحسن من يمين فاجرة ، وهذا الخلاف إنما هو إذا كانت الشهادة بمال ولم يعلم بالثاني حال القيام للأول أو علمه وكان بعيد الغيبة ، فأما إن شهد بطلاق أو صدقة على غير معين فحلف المطلوب ثم قام عليه شاهد آخر ضم للأول اتفاقاً ثم ما تقدم من أن الصبي لا يحلف هو ولا وليه مع شاهده هو المشهور .
وَفي سِوَى المَشْهُورِ يَحْلِفُ الأَبُ
عنِ ابنِهِ وَحَلْفُ الابْنِ مَذْهَبُ
( وفي سوى المشهور ) يتعلق بقوله : ( يحلف الأب ) فاعل ( عن ابنه ) يتعلق بيحلف أيضاً وهو قول ابن كنانة قال : لأنه يمونه وينفق عليه ، وهذا الخلاف إنما هو فيما لم يل فيه الولي المعاملة وإلاَّ حلف كما مرّ وجعل البرزلي مسألة هبة الدين الثابت بشاهد جارية على القولين فعلى أن الأب لا يحلف عن الصغير يحلف الموهوب له ، وعلى أنه يحلف فيحلف الواهب ، ووقع في كتاب جمعت فيه أقضية مالك والليث أن الصغير يحلف مع شاهده كالسفيه وهو معنى قوله : ( وحلف ) بفتح الحاء مصدر وبكسرها العهد يكون بين القوم ، وقد حالفه أي عاهده مبتدأ ( الابن ) مضاف إليه ( مذهب ) خبر وتنكيره يشعر بأنه مذهب شاذ لا يجري على الأصول لرفع القلم عن الصبي اه والله أعلم .
باب الرهن وما يتعلق بهمن حوز وضمان واختلاف المتراهنين . وهو لغة اللزوم والحبس وكل شيء محبوس فهو رهن قال تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة } ( المدثر : 38 ) أي محبوسة والراهن دافعه والمرتهن بالكسر آخذه وبفتحها اسم للمرهون ويطلق أيضاً على آخذه لأنه وضع عنده وعلى الراهن لأنهسأله أي طلب منه ، وشرعاً يطلق تارة بالمعنى المصدري ، وعليه قول ( خ ) الرهن بذل من له بيع ما يباع ، وبالمعنى الاسمي ، وعليه ابن عرفة حيث قال : الرهن مال قبض توثقاً في دين فتخرج الوديعة ، والمصنوع بيد صانعه وقبض المجني عليه عبداً جنى عليه ، وإن شاركاه في الأحقية لجواز اشتراك المختلفات في أمر يخصها ولا تدخل وثيقة ذكر الحق ولا الحميل ولا يخرج ما اشترطت منفعته لأن شرطها لا ينافي قبضه للتوثق اه . فالوديعة خرجت بقوله توثقاً وخرج المصنوع والعبد الجاني بقوله : في دين . والأمر الذي شاركا الرهن فيه هو الاختصاص بالشيء دون الغرماء والأمور المختلفة حقائقها قد تشترك في أمر يخصها كاشتراك البيع والشركة في اللزوم في العقد مع اختلاف حقيقتها والهبة والحبس في الحوز مع اختلافهما أيضاً ، وإنما لم تدخل أذكار الحقوق لأنها ليست مما يباع وإنما يباع ما فيها كذا قيل ، وفيه نظر إذ الرهن يجوز فيما لا يباع كالغرر على أن الأذكار قد يقال إنها تباع ولو للتسفير بها ونحوه ، وقد صرح ( ز ) وغيره بجواز هبتها وعليه عمل الناس اليوم إما لكونها تباع لما ذكر ، وأما لكون ربها لا يتوصل لبيع ما فيها من الأملاك أو الديون إلا بها لقول ناظم العمل :
ونسخة خذ من شراء البائع
لمشتر تنفع في التنازع
وافهم قوله في دين أن الرهن لا يكون في المعينات وهو كذلك ولا يرد أخذ الرهن في العارية لأنه ليس في ذاتها بل في قيمتها إن هلكت ، واعترض الوانوغي التعريف المذكور بأنه لا يشمل إلا ما هو مقبوض ولا خلاف أن القبض ليس من حقيقته ، بل هو شرط في الاختصاص به اه . واعتراضه وارد حتى على قول ( خ ) بذل الخ . وعلى قول ابن الحاجب إعطاء الخ لأن عبارتهما إنما تشمل ما دفع ، ولما اعترض الوانوغي ذلك عرفه بأنه عقد لازم لا ينقل الملك قصد به التوثق في الحقوق اه . قلت : ولا يشمل تعريفه الضامن لأن الشيء إنما يسلب عمن شأنه أن يتصف به ، وهو المتمولات لأنها التي تتصف بانتقال الملك تارة وعدمه أخرى أي عقد لازم على متمول لا ينقل الخ والله أعلم .
وعرفه الناظم بالمعنى المصدري إلا أنه لا يرد عليه ما ورد على غيره فقال :الرَّهنُ تَوْثِيقٌ بِحَقِّ المُرْتَهِنْ
وَإنْ حَوىقَابِلَ غَيْبَةٍ ضُمِنْ
( الرهن ) مبتدأ ( توثيق ) خبره والتنوين عوض عن المضاف إليه أي توثيق متمول ( بحق المرتهن ) يتعلق بتوثيق أو بمحذوف صفة له أي : الرهن أن يوثق متمول في حق المرتهن فالتوثيق أعم من أن يكون بالعقد فقط أو به مع القبض ، والمراد بالحق الديون وقيم المتلفات كما مرّ . البرزلي عن الغرناطي : يصح الرهن بأربعة شروط . أن لا يكون مما لا يجوز بيعه على كل حال كالميتة ، وأن تعاين البينة قبضه ، وأن لا يرجع إلى الراهن وأن يكون في كل شيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن لا فيما شرطه التقابض كالصرف والتصيير والإقالة في رأس مال السلم وبيع الطعام بالطعام ولا في الكتابة ولا في الجعل قبل العمل ولا كل ما فيه حد أو قود ولا فيما لا يضمن كالعارية فيما لا يغاب عليه اه .
قلت : ومن الشرط الأول يفهم رهن الآبق وذكر الحق دون ما فيه وكيفية وثيقته أشهد فلان أن في ذمته لفلان كذا من ابتياع كذا ، أو من سلف قبضه بالاعتراف أو المعاينة يؤديه ذلك لوقت كذا على أن رهن بيده في ذلك . كذا إن كان داراً أو عقاراً فتذكر حدود ذلك وموضعه وإن كان عروضاً أو حيواناً وصفته بما لا بدّ منه ثم تقول : رهناً ممنوعاً من الفوت وأسبابه إلى الوقت المذكور ، فإن وفاه دينه رجع إليه رهنه وإلاَّ كان بينهما موجب الشرع وحاز المرتهن الرهن حوزاً تاماً معاينة بموافقة الراهن وتخليه شهد عليهما الخ . وإن جعل له الانتفاع بالرهن .
قلت : بعد قوله : وتخليه وجعل له الانتفاع بالرهن طول المدة المذكورة لاتفاقهما على ذلك في أصل العقد ، وإن فوض له في البيع . قلت : أثر قولك رجع إليه رهنه وإلاَّ فقد جعل له بيع الرهن المذكور وصدقه في البيع وأسبابه بما يرى من الثمن ، وكيف يرى وقبض الثمن وإنصاف نفسه دون مشورته ولا قاض ولا إثبات سداد غاب أو حضر أقامه في ذلك مقامه في الحياة ، ومقام الوكيل المفوض إليه والوصي بعد الممات . وحاز الخ . فإن سقط وصف الحيوان أو العروض أو الأجل أو حدود العقار ، واختلفا في المرهون من ذلك ما هو جرى على ما يأتي في اختلاف المتراهنين ، وقولنا : ممنوعاً من الفوت الخ . لزيادة البيان وإلاَّ فالرهن لا يكون إلا كذلك لأن تلك حقيقته وإن سقطت الحيازة جرى على ما يأتي في قوله : والحوز من تمامه الخ . كما يأتي أيضاً تفصيل ما يجوز فيه اشتراط المنفعة وتفصيل ما يجوز بيعه إن جعله في أصل العقد عند قوله : وجاز في الرهن الخ . وعند قوله : وبجواز بيع محدود الأجل . الخ . والله أعلم .
( وإن حوى ) شرط فاعله ضمير يعود على المرتهن ومفعوله محذوف ( قابل غيبة ) صفة لذلك المحذوف أي : وإن حاز المرتهن رهناً قابل غيبة وهو ما عدا الحيوان والعقار من الحلى والعروض وغيرهما وادعى ردّ ذلك أو تلفه ( ضمن ) بالبناء للفاعل جواب الشرط وضميره للمرتهن أي :يضمنه إن مثلياً فمثله ، وإن مقوماً فقيمته ، وهل تعتبر يوم الضياع أو يوم الارتهان ؟ قولان ، ولا بد من يمينه لأنه يتهم على إبقائه رغبة فيه فيحلف في دعوى التلف أنه لقد تلف وما دلس ، وفي الضياع أنه لقد ضاع ولا يعلم موضعه ، والتلف ذهاب العين والضياع غيبتها بسرقة ونحوها . وظاهره أن الضمان يستمر ولو قبض الدين أو وهب وهو كذلك ، وظاهره أنه يضمن قابل الغيبة ولو شرط البراءة وهو كذلك . وظاهره كظاهر ( خ ) وابن الحاجب بطلان الشرط كان في العقد أو بعده وهو ظاهر تعليل الرواية بأنه خلاف السنة كما في الالتزامات . وقيل محل البطلان إن كان في صلب العقد لأن الرهن حينئذ له حصة من الثمن لا بعده فيعمل بشرطه ، واعتمده بعض شراح ( خ ) . ومفهوم دعوى أنه لا ضمان عليه فيما لم يحوه كما لو دخل على بقائه بموضعه كزرع قائم في فدانه أو ثمر على أصله أو في جرينه وأعدال في فندق ونحو ذلك ، وأحرى لو وقف بيد أمين كما يأتي ، ومفهوم قابل غيبة أن ما لا يقبلها لا ضمان عليه وهو كذلك ولو بشرط ثبوته ( خ ) : إلا أن يكذبه عدول في دعواه موت دابته أو غصبها أو سرقتها حضراً أو سفراً أو ريئت عنده بعد اليوم الذي ادعى فيه الموت ونحوه فيضمن حينئذ لظهور كذبه .
ولما كان الضمان للتهمة وهي تنتفي بالبينة على المشهور خلافاً لأشهب قال الناظم :
مَا لَمْ تَقُمْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَهْ
لِمَا جَرى فِي شَأْنِهِ مُعَيِّنَهْ
( ما لم تقم له ) أي للمرتهن ( عليه ) أي على رده أو تلفه ( بينه ) ولو شاهداً مع يمين ( لما جرى في شأنه معينه ) بكسر الياء المشددة اسم فاعل صفة لقوله بينة والمجرور يتعلق بهذه الصفة ، ( وما ) الأولى ظرفية مصدرية ، والثانية موصولة واقعة على الرد والتلف بحرق وسرقة ونحوهما أي : شهدت بمعاينة ذلك التلف من حرق أو غرق أو قرض فار ونحو ذلك ، وظاهره أن الشهادة بتلك المعاينة كافية ولو لم تقل إن النار ونحوها بغير سببه وهو كذلك على المعتمد لأن الأصل عدم التفريط والعداء خلافاً لظاهرها مع ابن المواز وفهم من قوله معينة أنها إذا لم تعين ذلك ضمن ولو علم غرق أو احتراق محله المعتاد وضعه فيه كحانوته أو مخزنه ، وادعى أنه كان به وهو كذلك على المشهور ( خ ) مبالغاً في الضمان ، ولو شرط البراءة أو علم احتراق محله ، وأفتى الباجي والمازري بعدم الضمان في هذه الحالة واحترزت بقولي : وادعى إنه كان به الخ . مما إذا أثبت أنه كان فيه فإنه لا يضمن باتفاقهما مع الغير ، ومعنى ذلك أنه إذا أثبت أنه كان بذلك المحل قبل وقت الغرق والحرق ، وإلاَّ فهو المعاينة . والظاهر إن علم بسرقة المحل أو غصبه أونهبه بحيث يقطع بأن ذلك ليس من فعل المرتهن كسرقة حوانيت أو فناديق فأس أو نحوها يجري فيه الخلاف المذكور ، وقد أفتى المازري في نهب الأسواق بعدم الضمان كما في ضيح والنفس إلى ما قاله الباجي والمازري أميل والله أعلم .
تنبيه : إن جنى أجنبي على الرهن وأخذ الراهن قيمته أو مثله فالمأخوذ رهن إن لم يأت الراهن برهن ثقة ، فإن عفا الراهن عن الجاني نفى الدين بلا رهن .
وَإنْ يَكُنْ عِنْدَ أَمِينٍ وُقِفَا
فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ مَهْمَا تَلِفَا
( وإن يكن عند أمين ) يتعلق بقوله : ( وقفا فلا ضمان فيه مهما تلفا ) ظاهره كان مما يغاب عليه أم لا ، وهو كذلك . ومن دعا من المتراهنين إلى وضعه عند الأمين أجيب لأن الراهن يقول : لا أرضى بأمانتك والمرتهن يقول : لا أضمنه إن كان مما يغاب عليه ، ولا أتكلف مشقة حفظه إن كان مما لا يغاب عليه ، وهذا إذا لم يشترط وضعه عند المرتهن أو الأمين في العقد ، وإلاَّ فيعمل بالشرط والعادة ليست كالشرط ههنا خلافاً للخمي ( خ ) : والقول لطالب تحويزه لأمين ، وفي تعيينه نظر الحاكم ، وإن أسلمه إلى الأمين دون إذنهما أو دون إذن أحدهما بأن أسلمه للمرتهن صح أو الراهن ضمنه إن تلف انظر شرح الشامل .
وَالْحَوْزُ مِنْ تَمَامِهِ وَإنْ حَصَلْ
وَلَوْ مُعَاراً عِنْدَ رَاهِنٍ بَطَلْ
( والحوز ) مبتدأ خبره ( من تمامه ) فإن شهدت بينة بالحيازة وفراغ الرهن من شواغل الراهن وشهدت الأخرى بأن الرهن لم يزل بالدار إلى حين التفليس ونحوه ، وزعم المرتهن بأنه لا علم له برجوع الراهن بطل الحوز انظر البرزلي في المديان ، وتقدم شيء من ذلك عند قوله : وقدم التاريخ الخ . وظاهر النظم أن الحوز شرط في صحة الرهن وليس كذلك ، بل هو شرط في الاختصاص به ، وحينئذ فيقدر في الكلام حذف أي من تمام اختصاصه به لأن الرهن صحيح حيز أم لا . كما مر أول الباب إلا أنه لا يختص به إلا بالحوز قبل حصول المانع من موت أو فلس أو نحوهما . ابن عرفة : فقبضه شرط خاصية وهي اختصاص المرتهن به ، ثم قال عن المازري : وصفة قبضه بنقل التصرف فيه عن راهنه لمرتهنه بما ينقل عنه بجعله تحت يده ، وما لا كالربع يصرف التصرف فيه عن راهنه اه . وظاهر النظم أنه يبطل بعدم الحوز ولو جدَّ في طلبهوهو كذلك بخلاف الهبة ، وظاهره أيضاً مجرد شهادة البينة بكونه بيده قبل المانع كاف في الاختصاص به سواء عاينت تسليمه من يد الراهن وهو التحويز ، أو لم تعاين ذلك ، وإنما رأيته بيده قبل المانع وهما قولان . حكاهما ابن يونس وغيره كما في ضيح ، وقيل لا بد من التحويز وقيل يكفي الحوز ، بل ظاهر النظم يشمل حتى وجوده بيده بعد المانع وادعى أنه حازه قبله ولم تشهد له بذلك بينة إذ الحوز وضع اليد على الشيء المحوز ، وذلك صادق بالأوجه الثلاثة وبصحته في الوجه الأخير . قال مطرف وأصبغ : والمعتمد خلافه ( خ ) ودعوى الحوز بعد مانعه لا تفيد الخ . وما في ابن ناجي في شرح المدونة في باب الهبة عن ابن عات من أن العمل عليه أي على قول أصبغ ومطرف فيه نظر . لأن ابن عات إنما ينقل عن الاستغناء العمل المذكور في الوجه الثاني ، وهو قول ابن الماجشون واختاره الباجي كما أشار له ( خ ) بقوله : وهل تكفي بينة على الحوز قبله ، وبه العمل أو التحويز وفيها دليلهما وبه شرحه ( خ ) و ( ق ) وغيرهما ، وبالجملة فالوجه الأخير لا يحمل عليه النظم لعدم القائل بترجيحه أو جريان العمل به ، والمشهور من الأولين اشتراط التحويز في الرهن بخلاف الهبة ، والفرق بقاء ملك الراهن في الرهن دونها قاله ابن عرفة في باب الهبة والقلشاني وغيرهما . ابن ناجي : وباشتراطه العمل عندنا الرصاع وهو الصحيح .
قلت : اشتراط التحويز الذي هو كون الحيازة بإذن الراهن كما في القلشاني وغيره لا بد أن يكون ما تعاينه تحويز أي بإذن المالك إن كان ذلك الاشتراط لأجل أنه لو لم يأذن لم يجز لقوة يده ببقاء ملكه فواضح وإن كان يقضي عليه ويمكن المرتهن من الحيازة إن استمر على الامتناع حيث كان الرهن معيناً وإن كان غير معين خير البائع في فسخ العقود كما هو المنصوص فيه . فأي فائدة لاشتراطه إذ المرتهن لو حازه بغير إذنه لكان كمن فعل فعلاً لو رفع للحاكم لم يفعل غيره ، ولذا لم يشترط في المدونة والرسالة وغيرهما من كتب الأقدمين إلا معاينة الحيازة احترازاً من الإقرار بها كما عليه جمع من شراح الرسالة كالقاضي عبد الوهاب والفاكهاني وغيرهما ، واقتصر عليه الفشتالي في وثائقه ، ولذا قال ابن ناجي : ظاهر المدونة عدم اشتراطه . قلت : وهو ظاهر قوله تعالى : فرهان مقبوضة } ( البقرة : 283 ) وقال المازري : أي مشروطة القبض بالقصد إخراج للآية عن ظاهرها بعيد من لفظها ، وإنما يظهر القول بالتحويز على قول أبي حنيفة والشافعي القائلين إن الرهن لا يلزم بالقول ، بل بالقبض فإذا رهنه رهناً فهو بالخيار إن شاء سلم إليه الرهن ، فحينئذ يكون لازماً وإن شاء لا يسلمه فلا يكون رهناً ولا يلزمه تسليمه وبالجملة فاشتراطه مع القضاء به عند الامتناع مشكل إذ إذنه بالقضاء كالعدم لأنه مقهور ويلزم عليه التحكم لأن التعليل ببقاء الملك يوجب أن لا يجبر ، ولذا استدل ابن عرفة على عدم اشتراطه بكون الواهب يقضى عليه بالحيازة فانظره ، وحينئذ فليس لنا في اشتراطه إلا مجرد التقليد ، وظاهر اشتراطه أنه لا يكفي تحويز الأجنبي للمرتهن بغير إذنه ، وقد نص في المدونة على أن الهبة لا تصح بحوز الأجنبي بغير إذن الموهوب له ، والرهن أشد منها فقوله : والحوز على حذف مضاف وصفة أي : ومعاينة الحوز المستمر يدل على الصفة قوله : ( وإن حصل ) شرط وضميره للرهن ( ولو معاراً ) خبر كان المحذوفة مع اسمها بعد لو وجواب لو محذوف لدلالة إن عليه لأنهمؤخر من تقديم ( عند راهن ) يتعلق بحصل ( بطل ) جواب إن أي إن الرهن إذا حصل عند الراهن ، ومن في حكمه ممن للراهن تسلط عليه كمحجوره وزوجته ورقيقه ولو مأذوناً أو ذا شائبة ومثله صديقه الملاطف بأي وجه من عارية أو إيداع أو إجارة بطل اختصاص المرتهن به حيث حصل المانع من موت أو فلس أو قيام الغرماء وهو لا زال بيد من ذكر لأن هؤلاء لا يصح توكيلهم على حيازته ، وحصوله عندهم على الوجه المذكور توكيل في الحقيقة . ألا ترى أن الإيداع توكيل لحفظ مال وعقد الإجارة والعارية للمحجور كعقدهما للحاجر يحولان يده والزوجة كالمحجور ، وكذا الملاطف على المعتمد فيهما من أنه لا يصح توكيلهما على حوزه بخلاف من لا تسلط للراهن عليه كمكاتبه وولده الرشيد البائن عنه وأخيه ( خ ) : وصح بتوكيل مكاتب الراهن في حوزه وكذا أخوه على الأصح لا محجوره ورقيقه الخ . وظاهره عدم كفاية حوز المحجور ولو بائناً عنه . وقال ابن رشد : والقياس استواء الولد الصغير والكبير في صحة حيازتهما إن كانا بائنين عنه كاستوائهما في لغو حيازتهما إن كانا ساكنين معه ، وكذا الزوجة والأخ إن كانا بائنين عنه ، ونص عليه ابن الماجشون في الزوجة وكذا إن كانا ساكنين معه وحازا الرهن في غير موضع سكناهما اه بنقل ابن عرفة ومثله في النهاية فالضمير في بطل يرجع للرهن على حذف مضاف أي : وإن حصل الرهن عند راهن أي ومن في حكمه لأن حصوله بيد في حكمه كحصوله بيده بطل اختصاصه بالمرتهن لا أنه يبطل من أصله بدليل أنه إن قام لأخذه ممن ذكر قبل فوته بتحبيس أو عتق أو رهن أو بيع أو قيام المانع كان له ذلك ، وفهم منه أنه إن حصل عند غير الراهن ومن في حكمه بشيء مما ذكر فأكراه الغير للراهن أو أعاره إياه أو أودعه إياه فإن الرهن لا يبطل ، وهو كذلك حيث لم يتهم ذلك الغير على أنه اكتراه أو أعاره ليكريه أو يعيره للراهن . قال في التبصرة : ولا يكري المرتهن الرهن من قريب الراهن ولا لأحد من سببه ولا لصديقه الملاطف ولا لأحد يتوهم أن يكون اكترى ذلك للراهن ، فإن أكراه لواحد من هؤلاء ثم أكراه للراهن خرج الرهن من الرهنية للتهمة الداخلة فيه من إجازته ممن يتهم عليه اه . ونحوه في النهاية قال فيها : ولا ينبغي أي للمرتهن أن يكريه من الراهن ولا لأحد يكون من سببه بصداقة أو قرابة لئلا يكري المكتري ذلك من ربه فيخرج الرهن من يد مرتهنه للتهمة الداخلة في الرهن ، وإذا أكراه المرتهن لأجنبي ليس بذي قرابة ولا صداقة فاكتراه الراهن من الأجنبي لم يضر ذلك المرتهن ولم يوهن رهنه اه . ففهم من هذا النص أنه لا خصوصية للكراء بهذا الحكم ، بل المدار على التهمة وهي فيما لا عوض فيه كالعارية وقبوله بالإيداع أقوى ، وأنهحيث وجدت التهمة يبطل حيث أكراه للراهن كان قريباً أو أجنبياً بدليل قوله : ولا لأحد يتهم الخ . لأن العطف يقتضي المغايرة . وقوله : من هؤلاء يعني من القريب والملاطف والأجنبي المتهم فإن كان الأجنبي غير متهم فأكراه للراهن فلا بطلان ، وبه العمل قاله ( ح ) .
قلت : ما به العمل هو المعتمد . قال ابن عرفة عن ابن القاسم : من ارتهن داراً ثم أكراها بإذن ربها من رجل ، ثم أكراها الرجل من راهنها ، إن كان الرجل من سبب الراهن لزم الكراء وبطل الرهن ما دامت الدار بيد راهنها ، وإن كان أجنبياً عنه فذلك جائز . ابن رشد : هذا إن علم أنه من سببه وإلا فقولان مخرجان على القولين في حنث من حلف لا باع من فلان فباع ممن اشترى له وهو من سببه اه . قال : وإنما صح الرهن في الأجنبي لأن المرتهن حينئذ مغلوب اه .
قلت : وهو يدل على أنه لا بد أن يعلم بملاطفته للراهن أو بكونه متهماً به فيما مر عن التبصرة وإلاَّ جرى القولان . وكذا يدل أيضاً على أنه لا بد أن يعلم بكونه محجوراً في مسألة توكيله أو الكراء له فتأمله والله أعلم . وقوله في النص : بإذن ربها لا مفهوم له ولعله إنما قيده به لأن الغلة للراهن ، وقد نص أبو الحسن عن ابن المواز على أن المرتهن لا يكري الرهن إلا بإذن الراهن إلا أن يكون على ذلك ارتهنه أو يشترط أن كراءه رهن مع رقبته . البرزلي : وبه الحكم . وروى ابن عبد الحكم أن له أن يكريه دون إذن ربه . أبو الحسن : لأن الراهن لما كان ممنوعاً من التصرف فيه فكأنه أذن للمرتهن في ذلك اه . وقد علمت مما مر أول التقرير أن الملاطف يبطل الرهن بحصوله عنده ، ولو لم يكره للراهن فما في التبصرة لعله مبني على القول المقابل فيه وهو أنه يصح توكيله ولا يبطل بحصوله عنده ، بل حتى يكريه للراهن ثم ما قبل المبالغة في النظم يشمل الإجارة والوديعة ولا يشمل الغصب لأنه لا يبطل الرهن ، ولو فات بعتق ونحوه أو قام الغرماء ( خ ) : وغصب فله أخذه مطلقاً وما تقدم من أن للمرتهن أخذه إن قام قبل الفوت والمانعمحله في الإجارة إن انقضت مدتها أو لم تنقض وقال : جهلت أن ذلك نقض لرهني ومثله ممن يجهل وحلف ، فحينئذ يأخذه إن لم تقم الغرماء كما للخمي وإلاَّ فلا يأخذه . وفي العارية إن انقضى أجلها المحدود بزمن كجمعة أو عمل كإذا فرغت من حاجتك أي ولم تقم الغرماء قبل الأجل ولا عنده وإلاَّ فهو إسوتهم ، والظاهر أنه إن قال : جهلت أن ذلك نقض لرهني يجري هنا أيضاً .
قلت : وهذا الذي ذكره اللخمي من أنه يأخذ إن قال : جهلت الخ . نحوه لابن زرب فيمن وهب داراً فأعمر فيها واهبها مدة حياته ، ثم أراد العمرى خوف بطلان هبته قال : فله ردها إن كان ممن يرى أنه يجهل بطلان هبته وإلاَّ فلا . قال ابن عرفة عقبه : وإبطاله العمرى مع الجهل فيه نظر وإلاَّ ظهر نزعها من يد الواهب وإكراؤها من غيره لإتمام الحوز كقولها في مدبر الذمي يسلم أنه ينزع من يده ويؤاجر عليه وكذا أم ولده اه فانظره . وأما إن لم تؤجل بواحد منها بطل الرهن من أصله ( خ ) وبطل بعارية أطلقت وعلى الرد اختياراً له أخذه الخ .
فإن قلت : كيف تتصور الإجارة والغلة إنما هي للراهن ؟ قيل : يحمل ذلك على ما إذا كان المرتهن اكتراه ثم أكراه للراهن أو على ما إذا اشترط المرتهن منفعته كما يأتي وكذا العارية .
تنبيهات . الأول : مفهوم قوله : وإن حصل أنه إذا لم يحصل لم يبطل الرهن ، ولو أذن المرتهن للراهن في السكنى والاعتمار فلم يفعل وليس كذلك ، بل يبطل بمجرد إذنه كما في المدونة . البرزلي وغيره : وبه الحكم وعليه عول ( خ ) حيث قال : وبإذنه في وطء أو إسكان الخ . فمفهوم المصنف فيه تفصيل ، وإذا بطل الرهن بمجرد الإذن بقي دينه بلا رهن وليس له أخذه إذا رجع عن إذنه ولو قبل حصول المانع لأن عقد الرهن كما يلزم بالقول يسقط به . قال المازري : وظاهر رهون المدونة أنه لا يبطل بمجرد الإذن بل حتى يسلمه للراهن . البرزلي : وهو أحسن إن شاء الله .
الثاني : إذا كان الرهن يحتاج لموضع يوضع فيه فهل كراء الموضع على ربه أو على المرتهن ؟ قال بعض الشيوخ : فأما الكثير من الطعام والمتاع والعدد من العبيد فالكراء في ذلك على الراهن كما قاله مالك في العتبية : وأما مثل الرأس من العبيد وشبهه كالثوب ونحوه مما يحوزه الرجل في منزله فقال مالك : لا كراء فيه وهو معارض لقول ابن القاسم في المدونة على الأب للحاضنة السكنى مع النفقة وموافق لقوله في الدمياطية : لا سكنى لها فالخلاف في ذلك جار على الخلاف في الحاضنة فيجب على هذا أن ينظر فإن كان المرتهن اشترط كون العبد بيده فحازه في بيته لا يكون له كراء ، وإن كان الراهن دفعه له بطوعه كان له الكراء قاله في المتيطية . قال فيها أيضاً : وإذا عطل المرتهن الرهن ولم يكره حتى حل الأجل فقال أصبغ : لا شيء عليه . قال فضل : وهو أصل ابن القاسم . وقال ابن الماجشون : يضمن كراء المثل من يوم الارتهان ما لم يكن الراهن عالماً بذلك ولم ينكر ، وكذا الوكيل على الكراء يترك ذلك لا غرم على قول أصبغ كما في ابن عرفة ، وانظر ما يأتي في الحبس إذا فرط الناظر في إكرائه وما مر عن المتيطية من أن قول أصبغ هو أصل ابن القاسم مخالف لما في ابن راشد أن قول ابن الماجشون هو أصل ابن القاسم قال : وهو الأصح . ونقله في ضيح مسقطاً قوله وهو الأصح ، ونحو ما لابن راشد في شرحاليزناسني عند قول الناظم : وجاز في الرهن اشتراط المنفعة الخ . ثم وقفت على أبي الحسن في باب الغصب قال : يقوم من قول ابن القاسم بأن الغاصب لا يضمن ما عطل من كراء الدار أن من وكل على ربع فتركه ولم يكره لا شيء عليه كالمرتهن إذا ترك إجارة الرهن ، ويقوم من قول ابن الماجشون فضمان ما عطله الغاصب أن الوكيل يضمن . ابن ناجي : وذكرت هذه الإقامة في درس ابن عرفة فلم يرتض ذلك مفرقاً بأن الوكيل كالمكتري والمستعير فيلزمه أن الوكيل له الإذن بخلاف الغاصب ، وأما شيخنا أبو مهدي فسلم ذلك وأقام منها مسألة أخرى وهو أنه يلزم الوصي الغرم إذا بور ربع اليتيم وقد وجد من يكريه ، وقد نص ابن سهل على عدم الغرم اه . وبه تعلم أن ما قاله المتيطي من أن أصل ابن القاسم موافق لأصبغ هو الصواب وتأمل عدم تسليم ابن عرفة للإقامة المذكورة مع أنه درج عليها في باب الرهن كما تقدم عنه قريباً وإقامة أبي مهدي جارية على قول ابن الماجشون ، ونص ابن سهل جار على قول ابن القاسم .
الثالث : قال في المتيطية أيضاً : وإذا كان في الدار بيتان فسكن ربها واحداً ورهن الثاني وما يليه من الدار فأكراه المرتهن أو أغلقه فذلك رهن مقبوض إذا حد له نصف الدار ، وإن سمي النصف يريد مع تسمية البيت ولم يحده كان أيضاً حوزاً . قال بعضهم : وهو مذهب المدونة . وقال أصبغ : واستحسنه فضل اه . فيفهم منه أنه إذا لم يحد له النصف ولا سمى له البيت بطل الحوز وعليه فما يقع كثيراً في هذا الأوان من رهن بعض البيوت من غير تحديد ولا تسمية باطل ولا مفهوم للنصف بل الربع المحدود ونحوه كذلك والله أعلم .
وَالْعَقْدُ فِيه لِمُسَاقَاةٍ وَمَا
أَشْبَهَهَا حَوْزٌ وَإنْ تَقَدَّمَا
( والعقد ) مبتدأ ( فيه ) أي في الرهن يتعلق بالمبتدأ وكذا قوله : ( لمساقاة وما أشبهها ) مما فيه معاوضة كإجارة وكراء لا نحو إعارة أو إرفاق لأنه هدية مديان فإن وقعا وحاز بهما فالظاهر أن ذلك حوز ويرد المنافع ، وهذا إن تأخرا عن الرهن لا إن تقدما فيجوز ، وكذا الوديعة تجوز مطلقاً فإن كان الشيء وديعة عند شخص فيجوز رهنه لآخر بشرط أن يرهن جميعه وأن يعلم بذلك المودع فيحوزها للمرتهن ، ويجوز أن تكون ما موصولة أو مصدرية وعلى كل حال معطوفة على مساقاة ( حوز ) خبر المبتدأ والواو في قوله : ( وإن تقدما ) واو النكاية وجواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي هذا إن تأخرت المساقاة وشبهها عن الرهنية ، بل وإن تقدما . وظاهره أن العقد فيه بما ذكر حوز سواء كان العاقد هو الراهن أو الأمين الموضوع عنده الرهن وهو كذلك . ابن القاسم : من رهن حائطه فوضعه عند أمين فعقد الأمين فيه المساقاة لرب الدين جاز ونقله ابن عرفة وغيره ، وإذا جازت مساقاة الأمين للمرتهن مع أنه نائب عن الراهن فكيف بجوازها منالراهن للمرتهن فلا معنى لتوقف ( م ) ، على أن ابن سلمون قد صرح بذلك وأصله لابن عات كما في البرزلي ، لكن لا بد أن يساقيه أو يكريه بغير مسامحة وإلا جرى على مبايعة المديان وإنما نص الناظم على هذه المسألة وإن كانت داخلة تحت البيت قبله إذ العقد بما ذكر غير كاف بمجرده ، بل لا بد من الحيازة بالفعل للرد على قول مالك في الموازية أن من ارتهن ما في يده بمساقاة أو كراء قبل فراغ أجله لا يكون محوزاً للرهن لأنه محوز قبل ذلك بوجه آخر ، ولذا بالغ عليه الناظم واقتصر عليه ( خ ) حيث قال : والمستأجر والمساقي وحوزهما الأول كاف لأن هذه الصورة هي محل الخلاف فهي المقصودة بالتنصيص ، وأشعر قوله حوز أي حوز المرتهن لأن الكلام في حوزه أنه إن عقد ما ذكر لغيره وغير نائبه لا يختص به لأن هذا الغير حائز لحق نفسه ، وسواء تقدم عقد الرهن على المساقاة ونحوها أو تأخر بدليل التعليل المذكور . نعم نص في الموازية على أن المرتهن إذا جعل مع ذلك الغير رجلاً يحوز له أو جعلا الرهن تحت يد من يرضيانه صح ، ويفهم منه أنه لا تصح حيازة ذلك الغير ولو بتوكيل المرتهن وهو كذلك . قال مالك : جعله بيد المساقي أو أجير له يبطل رهنه ، ثم اعلم أنه يشترط في المرهون فيه أن يكون ديناً في الذمة لازماً أو آيلاً للزوم فتخرج الأمانة كالقراض والمعينات ومنافعها ، فلا يصح الرهن في العارية ولا في منافع دابة معينة وإن وقع فهو فيه أسوة الغرماء ، وما ورد من أنه يصح في العارية فمعناه أنه في قيمتها إن هلكت كما مرّ . ودخل بالآيل للزوم الجعل والإجارة ونحوهما فيجوز أن تجاعله على طلب الآبق وتدفع له قبل العمل رهناً فيما يجب له من الجعل إن تم العمل ، وليس لك أن تأخذ منه رهناً في العمل لأنه ليس لازماً ولا آيلاً إليه إذ لا يلزمه ولو بعد الشروع وبهذا تعلم ما في كلام الغرناطي المتقدم ، وكذا يجوز أن تدفع رهناً الآن فيما تقترضه في المستقبل لأنه يؤول للزوم ( خ ) : وارتهن أن اقترض أو باع أو يعمل له ، وإن في جعل لا في معيّن أو منفعة ونجم كتابة من أجنبي الخ . وأما شرط المرهون فهو ما أشار له بقوله :
وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ مَا يُرْتَهَنُ
مِمَّا بِهِ اسْتِيفَاءُ حَقَ يُمْكِنُ
( والشرط ) مبتدأ وأل فيه عوض عن الضمير أي وشرطه أي شرط صحة عقده ، ويجوز أن يكون على حذف المتعلق أي والشرط فيه أي في صحة العقد عليه ( أن يكون ما ) موصول اسم يكون ( يرتهن ) بضم الياء وفتح الهاء ونائبه يعود على الموصول ( مما ) يتعلق بمحذوف خبر يكون( به ) يتعلق بالمبتدأ الذي هو ( استيفاء حق ) والباء بمعنى من ويجوز أن يتعلق بقوله : ( يمكن ) بضم الياء خبر عن استيفاء وهو أظهر ، والجملة صلة الموصول الثاني ، والجملة من كان واسمها خبر الأول أي شرط صحة الرهن أن يكون المرهون مما يمكن استيفاء الحق منه أو من ثمنه أو من ثمن منافعه قاله ابن شاس وغيره ، فالأول كالدراهم والدنانير المطبوع عليها ، والثاني كالعروض والحيوان والعقار ولو في بعض الأوقات ليدخل الآبق ونحوه ، والثالث كالمدبر أي ويستوفي الدين من خراجه كما في المدونة ولا سبيل إلى بيع المدبر قبل موت السيد في الدين المتأخر عن التدبير حيث لم تف غلته به بخلاف السابق عليه ، وبالجملة فيجوز رهن رقبته في الدين المتأخر على أن تباع بعد الموت ، وفي السابق على أن تباع مطلقاً لبطلان التدبير كما قيل :
ويبطل التدبير دين سبقا
إن سيد حي وإلا مطلقا
وإن رهنه ولم يشترط شيئاً فالظاهر الصحة ، ويحمل في المتأخر على ما بعد الموت وفي السابق على الإطلاق ، وكذا يجوز رهن غلة الدار والغلام وتحاز بحوز الرقبة لأن قبض الغلة إنما يكون بقبض أصولها ونفقة الغلام على الراهن ، وإنما على المرتهن مجرد التولية لئلا تجول يد الراهن وتوضع تلك الغلة عند أمين أو عند المرتهن ويطبع عليها إن لم تعرف بعينها ، ثم لا يكون للمرتهن من قيام الغرماء إلا الغلة خاصة ، وكذا يقال بالوضع في خراج المدبر والله أعلم . فلو كانت الدار أو العبد حبساً على الراهن جاز له رهن غلتهما لا رقبتهما فإن وقع ورهن الرقبة وظهر بعد الرهنية حبسهما ، فهل ينتقل الرهن لغلتهما ؟ قولان . وقد قال ناظم العمل :
ورهن منفعة حبس جائز
ممن له وهو لأصل حائز
فَخَارِجٌ كالخَمْرِ باتِّفَاقِ
وَدَاخِلٌ كَالْعَبْدِ ذِي الإِبَاقِ
( فخارج ) عن الضابط المذكور ما لا يمكن الاستيفاء منه شرعاً ( كالخمر ) والخنزير وظاهره سواء كانا لمسلم ورهنهما عند مسلم أو ذمي لذمي ورهنهما عند مسلم فيبطل الرهن ( باتفاق ) وإراق الحاكم الخمر على مالكها المسلم ويبقى الدين بلا رهن حيث وقع العقد عليها بعينها فإن تخللت كان المرتهن أحق بها ولا تراق على مالكها الذمي ، بل ترد إليه والمرتهن أسوة الغرماء فيها ولو قبضها قبل المانع لعدم جواز ذلك في الأصل كما لأشهب ، وأدخلت الكاف جلد الميتة الذي لم يدبغ اتفاقاً أو دبغ على المشهور ، وكذا يدخل جلد الأضحية والجنين على المشهور والثمرة التي لم تخلف والزرع الذي لم يظهر ، ونحو ذلك لكثرة الغرر في الجنين وما بعده على ظاهر المدونة . وقال ابن حارث : اتفق ابن القاسم وابن الماجشون على جواز ارتهان الثمرة التي لم تظهر ومثلها الزرع الذي لم يظهر . ابن عرفة : وهو ظاهر الروايات اه . فالراجح في الزرع والثمرة الجواز مطلقاً قاله ابن رحال في الشرح . ( وداخل ) في الضابط المتقدم ( كالعبد في الآباق ) لأنه يمكنالاستيفاء منه فيباع إذا قبض . قال في المدونة : ويجوز رهن ما لا يجوز بيعه في وقت ويجوز بيعه في وقت آخر وأدخلت الكاف البعير الشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها به والتي لم تظهر على ما تقدم أنه الراجح بخلاف الجنين فلا يجوز لقوة الغرر فيه باحتمال وجوده وعدمه والآبق موجود ، ومحل المنع فيه إن كان رهنه في صلب العقد وإلاَّجاز بلا خلاف ، ولا يتم الحوز في ذلك إلا بقبض الآبق والشارد قبل المانع ويقبض رقبة النخل والأرض ويتولى المرتهن أو نائبه سقي النخل وعلاج الزرع وأجر السقي على الراهن كما أن عليه نفقة العبد والبعير الشارد ، وإنما تولى المرتهن ذلك لئلا تجول يد الراهن ، وإنما جاز الغرر في نحو الآبق لأن القاعدة أن كل ما جاز بغير عوض جاز فيه الغرر كالطلاق والهبة والرهن ، فإذا لم يظفر بالآبق ونحوه فكأنه طلق بغير عوض أو باع بلا رهن ابتداء وذلك جائز ، وأدخلت الكاف الدين أيضاً فإنه يجوز رهنه سواء كان على المرتهن أو على غيره ، لكن إن كان على الغير فلا بدّ من قبض وثيقة ليتم الحوز وإن لم تكن وثيقة اكتفى بالإشهاد ، ولا يشترط إقرار ذلك الغير بالدين ولا حضوره ولا كونه ممن تأخذه الأحكام بخلاف البيع في ذلك والفرق أن الغرر في الرهن جائز كما مرّ .
تنبيه : إذا أدى شخص خراجاً على ربع لئلا يأخذه السلطان وربه غائب ، فالمؤدي للخراج مقدم على الغرماء إذ لولا الخراج لأخذ الغاصب الرباع كمن فدى متاعه من أيدي اللصوص فهو أحق به . قاله التونسي وغيره انظر البرزلي .
وَجَازَ في الرَّهْنِ اشْتِرَاطُ المَنْفَعَهْ
إلاَّ في الأشْجَارِ فَكُلٌّ مَنَعَهْ
( وجاز في الرهن اشتراط المنفعه ) فاعل جاز وفي الرهن يتعلق به ( إلا ) حرف استثناء والمستثنى منه العموم الذي في أل الاستغراقية أي جاز اشتراط المنفعة في كل رهن إلا اشتراطها ( في ) رهن ( الأشجار فكل ) مبتدأ سوغه العموم وجملة ( منعه ) خبره بخلاف الدار والأرض ونحوهما فيجوز اشتراط منفعتهما مجاناً إذا ارتهنهما في ثمن سلعة باعها له إلى أجل معلوم وذلك بيع وإجارة لأن بعض السلعة في مقابلة الثمن وهو بيع وبعضها الآخر في مقابلة المنفعة وهو إجارة فتشترط شروطها التي أشار لها ( خ ) : في قوله بمنفعة تتقوم قدر على تسليمها بلا استيفاء عين قصداً ولا حظر الخ . ولذا منعت في الأشجار ولبن الحيوان لما فيها من استيفاء العين وهوالثمرة واللبن وليس إجارة إذ هو بيع ذات لم توجد أو لم يبد صلاحها إلا أن تكون الثمرة التي في شجر الدار أو الأرض المرهونة تبعاً كما قال ( خ ) : واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم وكما يأتي في باب الكراء عند قوله : وغير بادي الطيب إن قل اشترط الخ . ومثال الحظر أن ترهن عبداً كافراً وتشترط منفعتك فيه في كنس المساجد وحمل المصاحف ومحل المنع في الأشجار إذا ارتهنت وحدها أو مع الأرض ولم تكن تبعاً ، وإلا جاز اشتراطها كما يأتي في الكراء وما تقدم من جواز اشتراطه منفعة الأرض إنما ذاك إذا كانت مأمونة الري أو غير مأمونة بعد الري كعام واحد ، وكانت مرهونة في ثمن غير الطعام ولا أدى لكراء الأرض بالطعام قاله أبو الحسن . ومحل الجواز الذي في المصنف إن اشترطت في عقد البيع مجاناً كما قررنا أو لتحسب من الدين على أن ما بقي منه بعد الأجل يعجل له لا إن كان ما بقي يستوفيه من المنفعة أو يأخذ فيه شيئاً مؤجلاً فيمتنع للدين بالدين ، فإن كان ما بقي يترك للراهن لم يجز وإن لم يتعرضا لما بقي بتعجيل ولا غيره امتنع فيما يظهر لأن الأصل عدم التعجيل . وقوله في المدونة : لا يجوز في عقد البيع اشتراط أخذ الغلة في الدين إذ لا يدري ما يقتضي أيقل أم يكثر ، وقد تنهدم الدار قبل أن ينقضي أمد الكراء الخ . معناه إذا كان الأجل غير معين ولم يشترط عليه أنه إن لم يوف وفى له من غيره أو باعه ووفاه وإلا جاز كما مرّ قاله خش في كبيره وظاهر هذا ولو تطوع بالاحتساب من الدين بعد العقد وصرح به القلشاني في شرح الرسالة ، وحينئذ فإذا كان ما بقي يترك للراهن فلا يمنع فيما إذا تطوع بعد العقد والله أعلم . وفهم من قوله اشتراط أن الشرط وقع في صلب العقد فلو تطوع له بها بعده منعت لأنها هدية مديان فإن دفع فيها عوضاً جرت على مبايعة المديان قاله اللخمي ، ثم استثنى من المنع قوله :
إلاَّ إذَا النَّفْعُ لِعَامٍ عُيِّنَا
وَالْبَدْوُ لِلصَّلاَحِ قَدْ تَبَيَّنَا
( إلا إذا ) ظرف مستقبل ( النفع ) فاعل بفعل مقدر يفسره عيناً آخر الشطر ( لعام ) يتعلق بقوله : ( عينا ) بالبناء للمفعول ( والبدو ) مبتدأ مصدر بدا إذا ظهر ( للصلاح ) يتعلق به وجملة ( قد تبينا ) خبر المبتدأ والجملة حالية مقرونة بالواو وإنما جاز الاشتراط مع بدو الصلاح لأنه محض بيع إذ السلعة مبيعة بالثمن والثمرة ، ومحل الجواز إذا كان المبيع غير طعام وإلا امتنع لما فيه من بيع الطعام بالطعام نسيئة ثم عطف على الممنوع وهو قوله في الأشجار فقال :
وَفِي الَّذِي الدَّيْنُ بِهِ مِنْ سَلَفِ
وَفِي الَّتِي وَقْتَ اقْتِضَائِهَا خَفِي
( و ) إلا ( في ) الرهن ( الذي الدين ) مبتدأ ( به ) خبره وباؤه ظرفية وضميره للرهن الموصوف بالموصول وكأنه من باب القلب أي وإلا الدين الذي الرهن فيه ( من سلف ) حال من الدين ، ويجوز أن تكون الباء بمعنى ( مع ) وإنما منع لأنه سلف بمنفعة فإن اشترط أن يحتسب به من دينه جاز حيث لم يؤجل السلف ، وكان إن لم يوف باع الرهن ووفاه أو وفاه من غيره ، وكذا إن أجلوكان ما بقي يعجل عند أجله أو يترك للراهن وإلا امتنع لأن ما بقي يفسخه في منافع يتأخر قبضها ، فإن وقع واشترط المنفعة على الوجه الممنوع ففي البيع يجري على حكم البيع الفاسد فيرد إن لم يفت ولا غلة ، وفي القرض يرد بدلها وكذا في البيع إن تطوع لأنها هدية مديان ويبطل الاختصاص به في كل منهما ويضمن ضمان الرهان إن تلف ، وكذا يضمن في اشتراط المنفعة على الوجه الجائز على الراجح ، ثم عطف على المستثنى المذكور أيضاً فقال : ( و ) إلا ( في ) المنفعة ( التي وقت ) مبتدأ ( اقتضائها ) مضاف إليه أي استيفائها ( خفي ) صفة مشبهة خبر المبتدأ والجملة صلة ، وذلك كاشتراطها في رهن الثياب والحيوان لاختلاف الاستعمال فلا يدري كيف ترجع إليه وهذا أحد قولي مالك في المدونة . وعنه فيها أيضاً لا بأس بذلك في الثياب والحيوان وغيرهما لأن ذلك إجارة ، وبه قال ابن القاسم وأشهب وأصبغ وهو المعتمد ، ولذا أطلق ( خ ) حيث قال : وجاز شرط منفعة إن عينت ببيع لا قرض وفي ضمانه إذا تلف تردد الخ . وقوله : إن عينت أي حدت مدتها بزمن يجوز كراء المرهون إليه إذ الإجارة لا بد لها من أجل وظاهره زاد أجلها على أجل الدين أم لا . وهو كذلك كما صرح به في الكافي ونقله ابن عرفة .
تنبيهان . الأول : إذا كان اشتراط المنفعة من باب الإجارة جرت فيها أحكامها التي من جملتها أن المنفعة إذا تعطلت بهدم الدار ونحوه لم يجبر الراهن على الإصلاح وكان الخيار للمرتهن في أن يفسخ عن نفسه ، وإذا فسخ وجب له الرجوع بقدر ما ينوب المنفعة فيما خرج من يده لا بقيمة المنفعة ولا يصدق في ذلك التعطيل ليسقط عنه الأجرة إلا ببينة .الثاني : إذا أراد المرتهن شراء الدار المرهونة المشترطة منفعتها قبل الأجل مقاصة ، فلا يجوز لأن المقاصة لا تجوز إلا بعد حلول الدينين قاله البرزلي . بعد نحو كراسين من صدور البيوع وقال في الرهون عن ابن شعيب : لا يجوز ذلك لأنه فسخ دينه في دار لا تقبض إلا بعد تمام مدة المنفعة ، وأما إن كان شراه مبتدءاً أي مستقلاً بلا شرط مقاصة فإن كان على أن تبقى الدار مرهونة في الحق إلى الأجل فإذا طولب بالحق أدى منها أو من بعضها وإلا تم البيع فيها فلا يجوز أيضاً لأنه غرر تارة بيعاً وتارة سلفاً ، وإن كان على إبطال حقه في الرهن دون المنفعة فهو جائز كالأجنبي إن كان أمد الانتفاع قريباً لا يتغير البنيان فيه وليس البيع فيها فسخاً للكراء لأن متعلق البيع العين والكراء المنفعة ، ولا ينتقل الملك في العين إلا بعد تمام مدة الكراء إذ لا تقتضي المنافع من العين إلا على ملك مالكها . قال : وعن بعض الأشياخ أن نفس عقد البيع فسخ للكراء اه . فقوله : ولا ينتقل الملك في العين يعارضه ما صرحوا به عند قول ( خ ) في الإجارة وبيع دار لتقبض بعد عام فإن ضمانها من المشتري وذلك يدل على أن ملكها انتقل إليه . وقوله : عن بعض الأشياخ هذا إذا اشتراها المكتري لها لا الأجنبي وإلاَّ فلا ينفسخ ويثبت للمشتري الخيار إن لم يعلم بأنها مكتراة وما ذكره عن بعض الأشياخ هو المعول عليه كما يفهم من كلام ( ح ) عند قوله : واستئجار مؤجر وإنما امتنعت المقاصة قبل الحلول لأن من عجل ما أجل يعد مسلفاً فالبائع في المسألة مسلف بشرط الشراء فهو سلف وبيع بالنظر للمقاصة وفسخ بالنظر للتصيير في الدين ، لكن قد علمت أن الفسخ إنما يأتي إذا قلنا أن ضمانها لا ينتقل إلا بعد تمام المدة وفيه ما رأيت فالأقرب الاقتصار على التعليل الأول والله أعلم .
وَبِجَوَازِ بَيْعٍ مَحْدُودِ الأَجَلْ
مِنْ غَيْرِ إذْنِ رَاهِنٍ جَرَىالعَمَلْ
( وبجواز بيع ) الرهن ( محدود الأجل من غير إذن راهن ) يتعلق بجواز أو ببيع والمجرور الأول يتعلق بقوله :
مَعْ جَعْلِهِ ذَاكَ لَهُ وَلَمْ يَحِنْ
دَيْنٌ وَلاَ بِعُقْدَةِ الأصْلِ قُرِنْ
( جرى العمل مع جعله ) يتعلق بجواز أو ببيع أو باحتياج المقدر قبل إذن والضمير المضاف إليه المصدر للراهن ( ذاك ) مفعول أول بجعل والإشارة للبيع ( له ) في محل المفعول الثاني ، وضميره للمأذون له من مرتهن أو أمين ( ولم يحن دين ) فاعل أي لم يأت أجله والجملة حال من الضمير المضاف إليه جعل ( ولا بعقدة الأصل ) يتعلق بقوله : ( قرن ) بالبناء للمفعول ونائبه للجعل ،والجملة حالية أيضاً معطوفة على الجملة قبلها ، والتقدير جرى العمل بجواز بيع المرتهن أو الأمين الرهن بعد أجله من غير احتياج لإذن راهن ثانياً مع جعل الراهن ذلك البيع لمن ذكر ، والحال أنه لم يحن دين ولا قرن الجعل بعقدة البيع أو السلف ، بل كان قبل الحلول وبعد العقد ، ويحتمل أن يكون الضمير في قرن للرهن أي طاع بالرهن والإذن معاً وظاهره فوض له في الإذن أم لا ، وهو كذلك خلافاً لابن الفخار في قوله : لا يستقل إلا إذا فوض له . وفي الورقة الرابعة عشر من بيوع البرزلي ما يقتضي أن العمل بتونس على ما لابن الفخار ، وظاهر النظم سواء كان الإذن المذكور للمرتهن أو الأمين . قال الراهن : لكل منهما إن لم آت فبعه أو لم يقل ذلك فيجوز في هذه الأربع صور ابتداء وليس كذلك ، بل إذا قال ذلك لا يجوز لأنه علق ذلك على عدم الإتيان ، وقد يكون آتياً أو حاضراً لكن إن وقع مضى كما في المدونة ويمكن حمل قوله مع جعله الخ . على ما إذا طاع بالرهن والإذن معاً كما مر أي بعد العقد وقبل الأجل ، وسواء أذن للمرتهن أو الأمين أو غيرهما ، وهذه حكى ابن رشد عليها الاتفاق لأنه معروف من الراهن ، ونازعه ابن عرفة في الاتفاق قائلاً لأنه شبه هدية مديان فقد منعوا بيع الطعام بثمن مؤجل على تصديق البائع في كيله اه . وعليه فمقابل ما به العمل في الصورتين هو عدم الجواز لأنه هدية مديان فمقابله في الصورة الأولى وهو ما إذا تطوع بالإذن فقط حكاه في ضيح عن بعض الموثقين ، وفي الثانية هو ما تقدم عن ابن عرفة ، وقد يجاب عن الهدية المذكورة بأن الإذن ليس زيادة حقيقة ، وإنما أسقط عنه ما يتكلفه من الرفع والإثبات وخلصه من ورطة ذلك فهو إنصاف له من حقه وهو شأن الناس ولذا أجاز في المدونة وغيرها إعطاء الحميل أو الرهن بعد العقد وقبل الأجل ولم يجعله هدية ، وظاهر النظم أنه لا فرق في ذلك بين رهن السلف أو البيع ومفهوم قوله : ولم يحن دين ولا بعقدة الأصل الخ . أنه إذا أذن بعد الحلول أو في العقد لم يجز وهو مذهب المدونة والعتبية لأنها وكالة اضطرار لحاجته للقرض والبيع أو للتأخير بما حل ، وأما إن أذن بعد الحلول من غير تأخير فالجواز اتفاقاً كما في طفي ، وقيل : يجوز ذلك ابتداء وليست وكالة اضطرار وهولابن العطار والقاضي عبد الوهاب ، وسيأتي عن النهاية أن بهذا القول القضاء وعلى الأول له عزله كما في ابن عرفة ، لكن إن لم يعزله حتى باع مضى كما في المدونة قال ابن فتوح : وبه القضاء وعلى الثاني ليس له عزله كما سيأتي ، وحينئذ فيمضي بيعه إن أصاب وجه البيع على كل من القولين ، وأما إن باع بأقل من القيمة فللراهن أخذه ، وإن تداولته الملاك بأي الأثمان شاء كالشفيع ، وهذا يدل على أنه لا يحتاج إلى تسويقه الشهرين ، والذي في وكالة البرزلي أن الراهن إذا قال للمرتهن : بع بما شئت إن القضاة يضربون الأجل للبيع وهو مبني على عدم جواز التوكيل في العقد ، فانظره فيه ولا فرق في ذلك كله بين الرهن الذي له بال وغيره ولا بين كونه عقد البيع أو القرض خلافاً لابن الفخار في قوله : بالمنع في القرض قال : لأنه سلف بمنفعة لأنه رفع بشرطه عن نفسه المؤنة في إثبات ما يتوصل به إلى البيع ، وقد يقال : إن النفع الممنوع هو النفع الحامل على السلف كالزيادة فيه مثلاً وشرط بيع الرهن المأخوذ في عقد السلف ليس حاملاً على ابتداء السلف إذ لا معنى لكونه يسلفه لأجل أن يرفع عنه المؤنة في بيع رهنه لأنه إذا خشي ذلك ترك السلف من أصله فتأمله منصفاً . وكذا يقال في السلف بشرط التصديق في عدم القضاء ليس من سلف جر نفعاً كما قيل أيضاً : اللهم إلا أن يكون لما حل أجل السلف أخره على شرط بيع رهنه أو التصديق فيه فالنفع حينئذ واضح لأن التورط حينئذ قد حصل فهو يريد التخلص بالتأخير على شرط البيع أو التصديق ، ويجري هذا حينئذ حتى في البيع لكنهم لم يعتبروه كما مرّ نظراً لكون التأخير كابتداء السلف ، وليس معنى النفع في شرط بيع الرهن والتصديق هو كونه يتمكن من جحده في التصديق فيأخذ الدين منه ثانياً ويتمكن في الرهن بإظهار أقل من ثمنه الذي باعه به كما قاله بعض من لا تحقيق عنده ، إذ لو كان هذا هو المراد ما وقع الاختلاف فيه بحال ثم ما تقدم من أن الإذن في العقد لا يجوز به البيع ابتداء إنما هو في الإذن للمرتهن ، أما للأمين فيجوز كما أفاده ( خ ) لقوله : وللأمين بيعه بإذن في عقد الخ . ومحل الخلاف المذكور في جواز التوكيل في العقد وعدمه إذا لم يفوض له أما إن فوض له في بيعه دون مشورة سلطان وأحله محل نفسه وأنه لا يعز له فيجوز اتفاقاً ، لكن بشروط إقراره بالدين وبالوكالة وبالتفويض وبالتصديق في الثمن وبالتصديق في عدم الاقتضاء دون يمين ، فهذه الخمسة تتلقى من إقرار الراهن ولا بدّ أن يثبت بالبينة ملك الراهن واستمرار ملكه وحوز الرهن والسداد في الثمن . هكذا في الوثائق المجموعة ، وإذا اشترطت هذه مع التفويض فأحرى مع الإذن المجرد ، لكن أنت خبير بأن إثبات ما ذكر إنما يكون عند الحاكم فلم يبق للإذن ولا للتفويض ثمرة فهي حينئذ شروط في لزوم البيع للراهن ، لكن اشتراط التصديق في الثمن وعدم الاقتضاء خلاف ما لابن رشد وظاهر المدونة كما في البرزلي ، ولذا لم يعرج عليه ( خ ) وغيره وما عدا هذه لا يمضي عليه البيع إلا بها إلا أن الحوز شرط في الاختصاص فقط ، وقد تقدم أنه إنما يمضي بيعه إذا أصاب السداد ، وقد علمت من هذا كله أن البيع مع الإذن نافذ على كل حال فوض له أم لا . كان الإذن في العقد أو بعده وقبل الأجل أو بعده أذن له أو للأمين وعليه فلو قال الناظم :
وبيعه مرتهن أو الأمين
منفذ إن راهن به أذن
لكان أخصر وأوضح وأشمل لجميع الصور ، ولا يقال إنه أراد صورة الجواز ابتداء لأنا نقول كلامه صادق حتى بغير الجواز ابتداء كما مر ، ومفهوم قوله مع جعله الخ . أنه إذا لم يجعلله البيع أصلاً لم يجز له البيع وهو كذلك ، فإن تعدى وباعه قبل الأجل أو بعده رد بيعه ، فإن فات عند المشتري فعلى المرتهن الأكثر من الثمن أو القيمة انظر المتيطية ، قال في المدونة : وإذا لم يأذن له الراهن في بيع الرهن رفعه المرتهن إلى السلطان فإن وفاه حقه وإلا باع الرهن وأوفاه حقه اه . وكذا إذا كان الراهن غائباً وظاهرها أنه لا يسجن ولا يطلب بحميل إلى أن يبيع الرهن وإن الحاكم هو الذي يتولى بيعه أو نائبه ولا يجبر الراهن على أن يتولى بيعه وهو كذلك عند ابن رشد وغيره في الجميع خلافاً لبعضهم في قوله : بالسجن والجبر ، وهذا كله إذا أمكن الوصول للحاكم وإلا جاز البيع اتفاقاً ، لكن لا بد أن يحضر العدول للنداء والإشهاد بما بلغ من الثمن كما في ابن عرفة والمتيطية وإلا رد بيعه إلا إن باعه بأقل من القيمة ثم إنما يجوز للحاكم الإقدام على بيعه في الغيبة إن ثبت عنده الدين والرهن ويمين القضاء وغيبة الراهن وأنها بعيدة أو لا يعلم موضعه وملك الراهن واستمراره وأنه أحق ما يباع عليه كذا للعبدوسي . قال ابن ناجي : وظاهر الكتاب أنه لا يلزمه إثبات ملكية الراهن ربعاً كان أو غيره وهو كذلك على أحد الأقوال ، وبه كنت أقضي . وفي التبصرة الفرحونية عن ابن رشد : أن العمل على إثبات الملك ونحوه في ( ح ) وقول العبدوسي : وإنه أحق ما يباع عليه قال فيه ابن عرفة : الأظهر عدمه لتعلق حق المرتهن بعينه ، وربما كان أيسر بيعاً مع أن راهنه كالملتزم بيعه اه . ونحوه لابن ناجي قائلاً : إن ظاهر الكتاب أنه لا يفتقر لثبوت كونه أولى ما يباع عليه قال : وظاهره أيضاً إنه لا يفتقر في بيع السلطان إلى بلوغه القيمة ، ابن عرفة : وهو ظاهر الروايات وهو مقتضى قول ابن محرز : ولو كسرت عروض المفلس وترجى لها أسواق بيعت عاجلاً ولم تؤخر ، وهو ظاهر قول سحنون ببيع الحاكم ضيعة المدين بالخيار فإن لم يجد إلا ما أعطى باع اه . ونحوه للبرزلي عن ابن محرز والسيوري قائلاً لأنه غاية المقدور قال : وجهل ابن محرز من قال ينظر للقيمة . البرزلي عن ابن محرز : وأعرف نحوه لابن رشد في البيع في نفقة المحجور قال : يستقصى ولا ينظر به القيمة لأنه غاية المقدور اه . ونحوه في نوازل العيوب من المعيار وبه نعلم ما في اعتراض ( ح ) عن ابن عرفة .
تنبيهات . الأول : قال في النهاية ، قال القاضي عبد الوهاب : يجوز للراهن أن يجعل للمرتهن بيع الرهن وليس له أن يعزله ، وبهذا القول القضاء اه لفظها . وظاهرها أنه لا عزل ولو مات الراهن وأفتى في أنكحة المعيار في المسائل التي سأله عنها الخالدي بأنه إنما لا ينعزل بموت الراهن إذا أقامه مقام المفوض إليه في الحياة والوصي بعد الممات اه . وتقدم عن ابن عرفة أن له عزله على القول بعدم الجواز ابتداء وهو مذهب المدونة .
الثاني : قال البرزلي في نوازل المديان عن مقنع ابن بطال عن ابن الحكم : لا يبيع القاضي من دار المدين إلا بقدر الدين بخلاف ما يبيعه من جارية أو غلام يبيعه كله لضرر الشركة قال : وفي قسمة المدونة ولا يباع على ميت من داره إلا بقدر دينه اه . ونحوه في التبصرة عن سحنون قال : يباع من أصله بقدر الدين إن وجد من يشتري بعضه اه . وبه تعلم أن توقف ( ح ) في ذلك قصور .
الثالث : إذا باع المرتهن الرهن فادعى الراهن أنه كان دفع الدين إليه وأنكر المرتهن فإن لم يشترط في العقد التصديق وأقام بينة على الدفع انتقض البيع وإن لم يقم بينة حلف المرتهن ونفذالبيع وإن نكل حلف الراهن لقد أوفاه وسقط الدين ونفذ البيع ويرد المرتهن الثمن للراهن وإن اشترط التصديق في العقد فله شرطه وينفذ البيع اه .
الرابع : قال القلشاني : وفي سماع أصبغ فيمن ادعى أن رجلاً رهنه قدحاً في كساء أن السلطان يأمره ببيع القدح في الكساء على زعمه أنه رهن ، وقيل لا يأمره حتى يثبت ارتهانه عنده ، وبه العمل قاله ابن رشد اه . وقصة رهن القدح مبسوطة في ( ح ) والتبصرة وأبي الحسن .
الخامس : إذا أمر القاضي رجلاً ببيع الرهن فباعه وادعى ضياع ثمنه صدق والمصيبة من رب الدين قاله في المدونة . وسواء علم بيعه ببينة أو بمجرد قوله كما لابن يونس ، ويظهر من هذا أنه إذا ادعى تلفه قبل البيع فالمصيبة من الراهن وهو كذلك على قول ابن القاسم كما في ابن عرفة آخر باب الرهن ، ولو قال المأمور الذي أمره الحاكم ببيعه : بعته بمائة ودفعتها للمرتهن وأنكر المرتهن صدق المرتهن ولو كان المرتهن هو الذي أمره ببيعه صدق المأمور مع يمينه أنه دفع للمرتهن لأنه حينئذ وكيله .
وَجَازَ رَهْنُ العَيْنِ حَيْثُ يُطْبَعُ
عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَ أَمِينِ يُوضَعُ
( وجاز رهن العين ) فاعل جاز ( حيث ) ظرف مضمن معنى الشرط يتعلق بجاز ( يطبع ) بالبناء للمفعول ( عليه ) نائب الفاعل وضميره للعين ، والجملة في محل جر بإضافة حيث ( أو ) عاطفة ( عند أمين ) يتعلق بقوله : ( يوضع ) بالبناء للمفعول ونائبه ضمير العين ، والجملة معطوفة على جملة يطبع ولا مفهوم للعين بل غيرها من المثليات كالمكيل والموزون والمعدود ، كذلك على المذهب خلافاً لأشهب في عدم وجوب طبع غير المعين ، ومفهوم الظرف أنه يمنع رهنها إن لم يطبع عليها ولا وضعت عند أمين بل عند المرتهن ، وهو كذلك حماية للذريعة أن يكون الراهن والمرتهن قصدا إلى السلف وسميا ذلك رهناً والسلف يفسد المعاملة التي قارنها بيعاً كان أو سلفاً . وقوله : يطبع أي طبعاً لا يقدر على فكه غالباً ، وإذا زال علم زواله والطبع الذي لا يقدر على فكه أصلاً غير مطلوب ، ثم إن شرط الطبع إنما هو في جواز رهنه كما هو ظاهر النظم لا في صحة حوزه لأنه إذا حازه المرتهن بدون طبع ، فالحوز صحيح ويكون أحق به من الغرماء ، وإن عثر على عدم طبعها في أثناء المدة استقبل الطبع ولا تنزع من يده ، وحينئذ فإذا أزال المرتهن الطبع وعلم ذلك فلا يبطل اختصاصه به .
وَالرَّهْنُ لِلْمُشَاعِ مَعْ مَنْ رَهَنَا
قَبْضُ جَمِيعِهِ لَهُ تَعَيَّنَا( والرهن ) مبتدأ ( للمشاع ) يتعلق به أي للجزء المشاع من عقار أو حيوان أو عرض ( مع من ) موصولة صلته ( رهناً ) والظرف يتعلق بالمشاع كدار أو عبد مثلاً يملك الراهن جميعهما ورهن جزء من أحدهما أو منهما ( قبض ) مبتدأ ثان ( جميعه ) أي جميع المرهون منه الجزء ( له ) يتعلق بقوله : ( تعينا ) والجملة خبر المبتدأ الثاني والثاني وخبره خبر الأول والضمير المجرور باللام يرجع للمرتهن ، واللام بمعنى ( على ) أي عليه قبض جميع المرهون منه الجزء فيكريه ويليه لئلا تجول يد الراهن فيه وكان الأليق أن يذكر هذا البيت والذي بعده إثر قوله : والحوز من تمامه الخ . وتقدم هناك حكم ما إذا رهنه بيتاً من داره .
وَمَعَ غَيْرِ رَاهِنٍ يَكْفِيهِ أنْ
يَحُلَّ فِيهِ كَحُلُولِ مَنْ رَهَنْ
( ومع ) يتعلق بمبتدأ محذوف دل عليه ما قبله أي والمشاع أي ورهن المشاع مع ( غير راهن ) كدار يملك الراهن نصفها فقط فيرهنه كله أو نصفه ( يكفيه ) بفتح الياء وضميره للمرتهن ومتعلقه محذوف أي يكفي المرتهن في قبضه وحوزه في الصورتين ( أن يحل ) بفتح الياء وضم الحاء مضارع حلّ إذا نزل فاعل يكفي ( فيه ) أي في المشاع المذكور يتعلق بيحل ( كحلول من رهن ) صفة المحذوف أي حلولاً كحلول الراهن بأن يجوز جميع ما على ملك الراهن ، والجملة من يكفي وما بعده خبر المبتدأ وإنما كفاه الحلول المذكور لأن يد الراهن لم تبق جائلة فيه ولا يضره جولان يد شريك الراهن معه . وظاهر قوله : ومع غير راهن الخ . أن للراهن رهن حصته وإن لم يأذن له شريكه في ذلك وهو كذلك فيما كان ربعاً أو منقسماً اتفاقاً كما هو ظاهر ابن عرفة ، وحوزه في هذا الوجه أن يحل المرتهن محل الراهن أو يوضع عند الشريك أو عند أمين فإن أراد الشريك في هذا الوجه البيع قاسمه فيه الراهن والرهن بيد المرتهن ، فإن غاب الراهن أقام الإمام من يقسم له وتبقى حصة الراهن رهناً في الوجهين ، وأما إن كان المشاع لا ينقسم وهو غير ربع كالثوب الواحد أو السيف أو الدابة أو العبد أو نحو ذلك فالمشهور وهو مذهب ابن القاسم جوازه أيضاً . وقال أشهب : لا يجوز لأن رهنه يمنعه من بيعه ناجزاً والرهن منقوض حتى يأذن . ووجه قول ابن القاسم : إن ذلك لا يمنع الشريك من بيع حصته مبعضة أن يحمل البيع إن نقصت حصته منفردة ويحل المشتري محل الشريك ، وإذا أجمل البيع كانت حصة الراهن من الثمن رهناً ، إن بيعبغير جنس الدين وإلاَّ قضي الدين عنه إن لم يأت برهن كالأول ، وقول الناظم : يكفيه أن يحل الخ . أي يكفيه في حيازته وقبضه أن يحل الخ . هذا على قوليهما في الربع والمنقسم ، وعلى قول ابن القاسم في الثوب الواحد والسيف ونحوهما ، وأما على قول أشهب فالرهن في هذا الوجه منقوض وإن لم يأذن كما مرَّ وإن أذن فليس له رجوع عنه حتى يحل الأجل ولا يكفي في حوزه الحلول المذكور عنده ، بل لا بد أن يكون جميع الثوب ونحوه عند المرتهن أو الشريك أو غيرهما من غير الراهن كما في ابن عرفة . وعلى المشهور من جواز رهن الحصة فيما لا ينقسم مما ينقل فلا يسلمه الراهن إلا بحضرة الشريك ، وكذا لو باع أحد الشريكين فيه حصته فلا يسلمه للمشتري إلا بحضرة صاحبه أيضاً فإن غاب فالحاكم يقوم مقامه وكذا لا يستعمله إلا بإذنه والعرف الجاري بينهما بالاستعمال كالإذن فيه ، فلو سلمه بغير إذنه فمقتضى القواعد أنه يضمن إن تلف لأن أحسن أحواله أن يكون كالمودع وهو إذا وضع يد الأجنبي يضمن بتعديه قاله ( تت ) عن الذخيرة ، وفي معاوضات المعيار من باع نصف فرسه لرجل وسافر المشتري عليها فعطبت فهو ضامن لنصف شريكه إلا أن يسافر عليها بإذنه أو جرت العادة بينهما أن يسافر مثل ذلك السفر فلا ضمان عليه اه . وانظر الغاصب يغصب في حصته أحد الشريكين فإن المغصوب عليهما والباقي لهما قال ناظم العمل :
وما من الجزء المشاع ظلما
فذا وذا عليهما قد قسما
وأما إن غصب الدين من المدين بسبب رب الدين فإن ذلك براءة للمدين كما أشار له ناظم العمل أيضاً بقوله :
وما من الدين له رب دفع
لغاصب غريمه لم يتبع
تنبيه : إذا رهن الراهن نصف الثوب ونحوه مما يغاب عليه وقبض المرتهن جميعه ليتم الحوز له كان النصف الباقي للراهن أو لغيره ، ولكن قبضه المرتهن بحضرة الغير وإذنه لم يضمن المرتهن إذا تلف ولم تقم له بينة إلا نصفه لأنه في النصف الآخر أمين ، وكذا لو استحق نصف الرهن وتركه المستحق بيد المرتهن كما في المدونة .
وَالرَّهْنُ مَحْبُوسٌ بِبَاقِي مَا وَقَعْ
فِيهِ وَلا يَرُدُّ قَدْرَ ما انْدَفَعْ
( والرهن ) مبتدأ ( محبوس ) خبره ( بباقي ) يتعلق به ( ما ) موصولة واقعة على الدين ( وقع ) صلتها وفاعله ضمير يعود على الرهن ( فيه ) يتعلق به وضميره يعود على ما هو الرابط ( ولا ) نافية وفاعل ( يرد ) عائد على المرتهن ( قدر ) مفعول ( ما ) موصولة واقعة على الدين أيضاً ( اندفع ) صلتهوفاعله يعود على ما ، ومعناه أن الدين إذا قضى بعضه أو سقط عن الراهن بإبراء أو هبة أو طلاق قبل البناء فالرهن كله محبوس بما بقي من الدين لأن الأسواق قد تحول على الباقي ، ولأن جميع أجزاء الرهن بجملتها في مقابلة كل جزء بانفراده من الدين وظاهره أنه لا فرق بين أن يتحد كدار وثوب أو يتعدد كدور وثياب وعكس النظم أنه لو استحق بعض الرهن أو تلف كما لو رهن عبدين فقتل أحدهما صاحبه فالباقي رهن في الجميع فالأولى النقص في الدين ، وهذه النقص في الرهن فلذا كانت عكسها . ( خ ) : وإذا قضى بعض الدين أو سقط فجميع الرهن فيما بقي كاستحقاق بعضه الخ . وهذا إن اتحد الراهن والمرتهن ، وأما إن تعدد الراهن والمرتهن فيدفع أحد الراهنين ما عليه أو يأخذ أحد المرتهنين دينه فينفك ما يقابله في الصورتين أما الأولى ففيها في رجلين رهنا داراً لهما في دين فقضى أحدهما حصته فله أخذ حصته من الدار ، وأما الثانية ففيها أيضاً على نقل ابن عرفة : من رهن داراً من رجلين صفقة واحدة في دين لهما ولا شركة بينهما فقضى أحدهما كل حقه أخذ حصته من الدار اه . يريد إذا أخذها فيجعلها بيد أمين أو بيد المرتهن الآخر أو يبيعها ولا يمكن من جولان يده فيها لئلا يبطل الرهن على الآخر قاله عياض . فإن أراد أحد المرتهنين بيع الرهن وأخذه الآخر بحقه فإن الرهن يقسم إن لم ينقص القسم حظ القائم فيباع له حظه ويوقف حظ الآخر ، وإن لم ينقسم بيع وعجل حق القائم وحق الآخر إن حلف ما أخره إلا لإعطاء رهن مثله إلا أن يأتي الراهن برهن ثقة فيأخذ فاضل ثمن رهنه عن حق القائم ، وانظر إذا قبض أحد المرتهنين دينه هل يدخل معه صاحبه ؟ وهو ما في أبي الحسن وضيح والشامل .
وَشَرْطُ مِلْكِ الرَّهْنِ حَيْثُ لاَ يَقعْ
إنْصَافُهُ مِنْ حَقِّهِ النَّهْيُ وَقَعْ
( وشرط ملك الرهن ) مبتدأ ومضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله ( حيث ) ظرف مكان وتكون للزمان على قلة ومنه ما هنا يتعلق بشرط أو ملك ( لا يقع إنصافه ) فاعل والجملة في محل جر ( من حقه ) يتعلق بإنصاف ( النهي ) مبتدأ ثان وجملة ( وقع ) خبره . والجملة من الثاني وخبره خبر الأول ، والرابط محذوف أي عنه . وفي بعض النسخ منع بدل وقع وعليها شرح اليزناسني فلك أن تجعل شرط مفعولاً مقدماً بمنع وظاهره كان الرهن في أصل المعاملة من بيع أو سلف أو متطوعاً به بعدها وهو كذلك ، وظاهره أيضاً أنه يبطل اختصاصه به إذ النهي يقتضي الفسادوهو يستلزم البطلان ، وفي ذلك تفصيل إما وجه النهي عنه إن كان في أصل المعاملة فإنه لا يدري ما يحصل من ثمن سلعته هل الثمن أو الرهن ، وكذا في السلف لا يدري هل يرجع له سلفه أو يصير له الرهن فإن عثر على ذلك قبل الأجل أو بعده فسخ البيع إن لم يفت وإلا وجبت القيمة حاله ويصير السلف أيضاً حالاً والمرتهن أحق به حتى يأخذ القيمة أو السلف ، وأما الثاني وهو المتطوع به فالعلة في النهي هي ما مر ، ولكن لا يفسخ إلا الرهن وحده ويرد إلى ربه ويبقى الدين إلى أجله بلا رهن ولا يكون المرتهن أحق به في الموت والمسلف كمن له على رجل دين فأخذ منه بعد العقد وقبل الأجل رهناً على أن يؤخره لأبعد من أجله الأول ، فلا يكون أحق به لأنه سلف ينفع أي لأنه انتفع بالتوثق في باقي الأجل الأول على التأخير الذي هو سلف فلا يرد ما مر عند قوله : وبجواز بيع محدود الأجل الخ . من أن التأخير بدين كابتداء سلف برهن فإن لم يعثر عليه في المتطوع به حتى حل الأجل ولم يدفع إليه ثمنه أو سلفه صار كأنه باعه الرهن بيعاً فاسداً فيفسخ ما لم يفت ويكون أحق به من الغرماء فتستوي هذه حينئذ والتي الرهن فيها في أصل المعاملة أي لأنه بيع فاسد وقع في الرهن عند الأجل ، وقد قال سحنون : للمشتري سلعة شراء فاسداً حبسها في ثمنها إن فلس بائعها كما في المواق ونحوه للطرابلسي في حاشية المدونة عند نصها الآتي ، وعزاه لابن القاسم وهذا كله إن كانت المعاملة إلى أجل والرهن في أصلها أو بعدها كما مرّ ، وكذا لو كان البيع أو السلف على الحلول فرهنه بعد العقد رهناً ليؤخره إلى أجل بشرط إن لم يوفه دينه عنده فالرهن مبيع بالدين فيفسخ هذا الشرط ويأخذ المسلف سلفه والبائع ثمنه ويكون أحق برهنه حتى يأخذ حقه ، هذا ملخص ما في أبي الحسن مع بعض زيادة للإيضاح ، وذلك على قولها ومن لك عليه دين إلى أجل فرهنك به رهناً على أنه إن لم يفتكه منك فالرهن لك بدينك لم يجز الخ .
تنبيه : علم مما مر أن النهي يستلزم الفساد وهو لا يستلزم عدم الاختصاص . واعلم أن المعاملة والرهن في هذا الباب تارة يكون الرهن صحيحاً والمعاملة فاسدة ، وتارة بالعكس ، وتارة يكون كل منهما فاسداً ، فالأول يرد فيه السلعة والرهن ، فإن فاتت السلعة المبيعة فالرهن في القيمة اتفاقاً ، وأما الثاني فالغريم أحق بالرهن على ظاهرها وهو الأصح ، وأما الثالث فيعلم حكمه من الوجهين قبله أي فالرد مع القيام والقيمة مع الفوات ويكون أحق بالرهن قال معناه الرجراجي انظر تمامه فيه .
فصل في اختلاف المتراهنينفي عين الرهن أو في حلول أجله وفي صفته وبدأ بالأول فقال :
وفي اخْتِلاَفِ رَاهِنٍ وَمُرْتَهِنْ
في عَيْنِ رَهْنٍ كانَ في حَقَ رُهِنْ( وفي اختلاف راهن ومرتهن ) يتعلق بالمبتدأ في البيت بعده أو بخبره ( في عين رهن ) يتعلق باختلاف ( كان ) اسمها ضمير يعود على الرهن ( في حق ) يتعلق بقوله : ( رهن ) الذي هو خبر كان والجملة من كان وما بعدها صفة لرهن .
القَوْلُ قَوْلُ رَاهِنٍ إنْ صَدَّقَا
مَقَالَهُ شَاهِدُ حَالٍ مُطْلَقَا
( القول ) مبتدأ ( قول راهن ) خبره ( إن صدقا ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ( مقاله ) مفعول بقوله صدقاً ( شاهد حال ) فاعل صدقا ( مطلقاً ) حال من الخبر ، ولو قال الناظم :
وإن في ذات رهنه تنازعا
فالقول للراهن أن شبها دعا
لأغناه .
كَأَنْ يَكُونَ الحَقُّ قَدْرُهُ مِائَهْ
وَقيمَةُ الرَّهْنِ لِعَشْرٍ مُبَدِئَهْ
( كأن ) خبر لمبتدأ محذوف ( يكون الحق ) اسم يكون وجملة ( قدره مائه ) من مبتدأ وخبر خبر يكون ( وقيمة الرهن ) مبتدأ ( لعشر ) يتعلق بقوله : ( مبدئه ) الذي هو خبر والجملة حالية . وظاهر قوله : في عين رهن أي عينه قائمة ، لكن المرتهن يقول : إن هذه عينه والراهن يقول ليست هذه عينه بل هي غير هذه ، ويحتمل أن يختلفا في عينه بعد ذهابها بزعم المرتهن فيختلفان في صفتها ويكون قوله في عين رهن على هذا على حذف مضاف أي في صفة عين رهن بعد هلكها في ضمان الراهن ، والأول أقرب للفظ النظم وهو مذهب أصبغ في العتبية قال فيها : إن رهنه رهناً بألف فجاء ليقبضه فأخرج المرتهن رهناً يساوي مائة فقال الراهن : ليس هو رهني وقيمة رهني ألف دينار ، وذكر صفة تساوي ذلك فالراهن مصدق مع يمينه لأنه ادعى ما يشبه وادعى المرتهن ما لا يشبه ، ولما كان هذا النص مطلقاً فيشمل بظاهره المتهم وغيره إذ المطلق على إطلاقه لا يقيد بشيء قال الناظم : مطلقاً ، وأما ما يشهد للاحتمال الثاني فهو قول عياض كما في أبي الحسن على قولها وإذا ضاع الرهن عند المرتهن فاختلف في قيمته تواصفاه ، ويكون القول قول المرتهن في الصفة إلى آخر ما نصه فيه دليل على أن الدين ليس شاهداً للرهن ، وأن القول قول المرتهن وإن لم يذكر من صفة الرهن ما يشبه وهو قوله في الموازية وفي العتبية لأصبغ خلافه ، وإن الراهن إذا ادعى صفة تساوي قدر الدين فالقول قوله ، فجعل الدين شاهداً للرهن اه . ولأشهب أن القولللمرتهن وإن لم يذكر إلا ما يساوي درهماً . ابن رشد : وقول أشهب إغراق في القياس ، وقول أصبغ استحسان وهو أظهر ، وقد قال مالك تسعة أعشار العلم الاستحسان ، وكذا استغربه ابن عبد السلام ومال إليه ابن فرحون في تبصرته ، ولذا اقتصر الناظم عليه كابن سلمون لكن المشهور في الصورتين أن القول للمرتهن وإن لم يشبه لأنه غارم ولأنه مؤتمن بجعله في يده ولم يشهد على عينه ، بل لو قال لم ترهني شيئاً لصدق بيمينه ، ولذا قال ( خ ) : وهو كالشاهد في قدر الدين لا العكس أي فلا يكون الدين شاهداً لقيمة الرهن ، ولو أراد الناظم التمشية عليه لقال :
والرهن شاهد لقدر الدين
والعكس مرجوح بغير مين
وتنتهي شهادة الرهن لقدر الدين لمبلغ قيمته وما جاوز قيمته القول فيه قول الراهن ، فإذا أقر الراهن أن الدين خمسة ، وقال المرتهن عشرة ، فإن كانت قيمة الرهن عشرة فأكثر صدق المرتهن ، وإن كانت قيمته خمسة فأقل صدق الراهن ، وكذا لو أقر الراهن أن الدين مائة وأن الرهن في خمسين منها وقيمته خمسون فالقول له فيدفع الخمسين ويأخذ الرهن وتبقى الخمسون الباقية بلا رهن ، وتعتبر القيمة يوم الحكم عند ابن القاسم إن كان قائماً ويوم القبض إن كان تالفاً ولا فرق لشهادته في قدر الدين بين أن يكون بيد المرتهن أو الأمين قائماً أو فائتاً في ضمان المرتهن ، فإن فات في ضمان ربه كما لو قامت على هلاكه بينة أو كان مما لا يغاب عليه أو هلك بيد الأمين فلا يكون شاهداً لقدر الدين .
فائدة : قال في التبصرة : معنى الاستحسان أن تكون الحادثة مترددة بين أصلين أحدهما أقوى بها شبهاً وأقرب إليها والآخر أبعد فيعدل عن القياس على الأصل القريب إلى القياس على الأصل البعيد لجريان عرف أو ضرب من المصلحة أو خوف مفسدة أو ضرب من الضرر اه .
والقَوْلُ حَيْثُ يَدْعي مَنِ ارْتَهَنْ
حُلُولَ وَقْتِ الرَّهْن قَوْلُ مَنْ رَهَنْ
و ( القول ) مبتدأ ( حيث ) ظرف مضمن معنى الشرطية منصوب بجوابه ( يدعي من ) موصول فاعل ( ارتهن ) صلته ( حلول ) مفعول يدعي ( وقت الرهن ) مضاف إليه ( قول من رهن ) خبر وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه ، وإنما كان القول للراهن لأنهما قد اتفقا على أصل الأجل واختلفا في خصوص الانقضاء والأصل عدمه . وهذا الحكم عام في كل متعاقدين اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه كانا متبايعين أو متراهنين أو متكاريين أو غير ذلك . ( خ ) : وإن اختلفا في انتهاء الأجل فالقول لمنكر التقضي .وفي كَثَوْبِ خَلَقِ ويَدَّعِي
جدَّتَهُ الرَّاهنُ عَكْس ذا وُعِي
( وفي كثوب ) يتعلق بوعي آخر البيت ( خلق ) بفتح اللام أي بال وهو في الأصل مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث ، ويجوز فيه كسر اللام على أنه اسم فاعل وعلى كل حال هو صفة لثوب ( ويدعي جدته ) مفعول ( الراهن ) فاعل ( عكس ذا ) مبتدأ ( وعي ) خبره يريد أن الراهن إذا ادعى جدة الثوب المرهون وأن المرتهن استعمله حتى أبلاه وادعى المرتهن أنه كذلك رهنه فالقول للمرتهن .
إلاَّ إذا خَرَجَ عَمَّا يُشْبِهُ
وفي ذَا وذَا فَالْعَكُسُ لا يُشْتَبهُ
( إلا ) استثناء ( إذا ) ظرف مضمن معنى الشرط ( خرج ) فاعله ضمير مستتر يعود على من كان القول له وهو في المسألة الأولى الراهن وفي الثانية المرتهن ( عما يشبه ) يتعلق بخرج ، والجملة في محل جر بإضافة إذا والناصب للظروف جوابه الآتي ( في ذا ) يتعلق بخرج ( وذا ) معطوف على ما قبله والإشارة الأولى ترجع لقبول قول الراهن في مسألة الاختلاف في الأجل ، والثانية ترجع لقبول قول المرتهن في الاختلاف في الصفة أي : فإذا خرج الراهن عما يشبه من الأجل في الأول بأن ادعى أجلاً لا تتبايع الناس إليه غالباً في الأولى أو خرج المرتهن عما يشبه في الثانية . ( فالعكس ) مبتدأ وهو أن القول للمرتهن في الأولى وللراهن في الثانية ( لا يشتبه ) خبره والجملة جواب الشرط ، ولكن تأمل كيف يخرج المرتهن عن الشبه في الثوب الخلق مع أنهم قالوا لو أخرج له رهناً لا يساوي إلاَّ درهماً فالقول له ، اللهم إلا أن يقال إنه وجد به أثر الاستعمال الحادث ونحو ذلك ، لكن لا يلزم من وجود أثر الاستعمال أن يكون هو الذي أبلاه ، فلعل هذا إنما يأتي على ما درج عليه الناظم من أن الدين شاهد للرهن كما هو ظاهر سياق ابن سلمون ، ويمكن أن يحمل الناظم على ما إذا اختلفا في صفة الثوب التالف فادعى الراهن جدته ، وخالفه المرتهن وادعى أنه خلق فالقول للمرتهن إلا أن يأتي بما لا يشبه لقلة قيمة ما ذكره جداً فالقول للراهن كما قاله أشهب في أحد قوليه لكنه مخالف لإطلاق قول ( خ ) وإن اختلفا في قيمة تالف تواصفاه ثم قوم فإن اختلفا فالقول للمرتهن وإن تجاهلا فالرهن بما فيه الخ . فظاهر شراحه أن القول للمرتهن مطلقاً لأنه غارم وهو الموافق لما مرّ فإذا لم يختلفا في العين ولا في الأجل ولا في الصفة ، بل في أصل الرهنية أو تلفه أو في المقبوض فالأول . قال ابن عرفة : لو ادعى حائز لشيء ارتهانه وربه إيداعه فالمذهب تصديق الراهن اللخمي : إلا أن يشهد عرف لحائز كخاتمعند بقال قال : ولو ادعى حائز لعبدين رهنهما وقال ربهما : بل أحدهما صدق ربهما ولو ادعى حائز عبد رهن جميعه ، وقال ربه بل نصفه صدق ربه أيضاً خلافاً لابن العطار في هذه يزيد والدين ثابت في هذه الصور كلها ، وهذا معنى قول ( خ ) والقول لمدعي نفي الرهنية . وفي المدونة لو ادعى حائز جبة وغطاء فتلف وقال : هو وديعة والجبة رهن وعكس ربها حلف كل منهما على نفي دعوى صاحبه وأخذ الجبة ربها ولا غرم على الحائز وقد قال بعضهم في هذه ما نصه :
والقول قول من نفى الرهنية
إلا لعرف أو مع البعضية
أو يدعي البيع ورهناً أنت
أو غير ما بيده ارتهنت
وأما الثاني فإن ادعى المرتهن رد الرهن المقبوض بغير بينة بعد قبض دينه وأنكره الراهن في رده حلف وضمنه المرتهن اتفاقاً لأن ما لا يصدق في تلفه لا يصدق في رده إلا أن يكون مما لا يغاب عليه فيصدق فإن ادعى الراهن أنه ما قبض الرهن حتى دفع الدين وخالفه المرتهن وقال : بل سرقته أو دفعته لك لتأتيني بحقي فالقول للراهن إن قام المرتهن بطول كالعشرة أيام وإلاَّ فالقول للمرتهن ( خ ) : ولراهن بيده رهنه بدفع الدين ، وأما الثالث فالقول للمرتهن ويغرم قيمة ما يغاب عليه لا غيره إلا أن يكذبه عدول في دعواه موت دابة كما مرّ ، وإن رهنت أصول مع رسومها فادعى تلف الرسوم فإنه يغرم ما بين قيمتها برسومها وقيمتها بغير رسوم قاله ابن عرفة . وإن رهنت رسوم فادعى تلفها وشهد شاهد بأنها رئيت عنده بعد ذلك فإنه يضيق عليه بالسجن فإن طال ذلك حلف وأطلق . انظر مسائل الغصب من البرزلي ، وأما الرابع وهو اختلافهما في المقبوض فقال الراهن عن دين الرهن ، وقال المرتهن عن الدين الذي ليس برهن أن المقبوض يوزع على قدر الدينين فيصير الدين الباقي نصفه برهن ونصفه بلا رهن كما في ( خ ) .
باب الضَّمانِ وما يَتعَّلقُ به
من غرم وعدمه وسقوطه بفساد أصله ويعبر عنه بالحمالة أيضاً . ابن عرفة : الحمالة التزام دين لا يسقطه أو طلب من هو عليه هو له فقوله : لا يسقطه في محل رفع صفة لالتزام لا لدينأي التزام لا يسقط لدين عمن هو عليه ، وخرج به الالتزام المسقط للدين كمن تحمل عن ابنه ونحوه بصداق امرأته ، وكمن التزم أداء دين عن آخر على أن يبرئه الطالب ولا يرجع هو عليه ورضي بذلك وهي الحوالة على غير أصل دين التي أشار إليها ( خ ) بقوله : فإن أعلمه بعدمه وشرط البراءة صح الخ . وكذا تخرج الحوالة على أصل الدين على القول باشتراط رضا المحال عليه أو بعدم اشتراطه ولكنه رضي لأنها التزام أداء دين يسقطه عن المحيل إما أن لم يرض على القول بأن رضاه لا يشترط فلم تدخل معنا إذ الالتزام لأداء الدين حينئذ . وقوله : أو طلب بالجر عطف على دين أي التزام دين أو التزام طلب ويدخل فيه ضمان الوجه وضمان الطلب وتقول في وثيقته ضمن فلان لفلان عن فلان جميع الدين الواجب عليه من وجه كذا وقدره كذا بعد معرفة الضامن بوجوب العدة للمضمون له على المضمون عنه بالوجه المذكور ضماناً لازماً لماله وذمته لانقضاء أجل كذا أو على الحلول بإذن المضمون عنه ورضاه وبموافقة المضمون له شهد عليهم بما فيه عنهم وهم بأتمه وعرفهم الخ . فإن سقط من الرسم المضمون له صح لأنه يجوز ضمان ما على ميت وغائب ونحوه ، ويلزم الضامن ضمان ما عليه من الديون وإن لم يعلم بأربابها وقولنا : جميع الدين الخ . يدخل فيه عمل المساقاة لأنه في الذمة كالدين وثمن الجعل لأنه يلزم الجاعل بالشروع ويخرج به المعينات ، فلا يجوز بخلاص سلعة بعينها إن استحقت على نحو ما يأتي في قوله : ويسقط الضمان في فساد الخ . حرفاً بحرف ولا في الحدود والعقوبات ولا في عارية ووديعة ولا قراض وشركة على أنها إن تلفت أتى بها بعينها فإن ضمن ما يترتب على العارية ونحوها بسبب تعد أو تفريط من القيمة صح ولزم ، وهو الذي يقصده الناس كضمان بعض الدلالين لبعض على أنه إذا هرب ولم يأت به كان عليه قيمة ما هرب به ، وكدابة اعترف بها مستحقها فأراد وقفها لشبهة أتى بها فترك وقفها إلى إثباتها بضامن لأن المعنى ضمان ما يخشى ممن هي بيده من تغييبها أو هروبه بها قاله ابن رشد ، وأما ضامن الضرر الذي تأخذه الزوجة من زوجها فهو من ضمان الوجه وهو جائز في الحدود والعقوبات كما يأتي ، وانظر ( ق ) فقد ذكر نظائر لا تصح بها الحمالة ، ولا تجوز أيضاً في كتابة لأنها ليست بدين لازم وإن سقط من الرسم من وجه كذا أي بيع أو سلف ونحو ذلك لم يضر سقوطه لأنهما إن اختلفا في الوجه الذي ترتب به الدين فالقول للطالب وإن سقط منه مبلغ القدر ومعرفة الضامن به لم يضر أيضاً لجواز ضمان المجهول كما يأتي لأن العبرة بما يثبته عليه ، وكذا إن سقط منه لماله وذمته الخ لأنه يحمل على المال كما يأتي في قوله : وهو بمال حيث لم يعين الخ . وكذا إن سقط منه رضا المضمون عنه إن كان على أصل الدين ببينة كما يأتي في قوله : ولا اعتبار برضا من ضمنا الخ . وإن لم يوافق المضمون له على الضمان ولم يقبله ضامناً لم يؤاخذ الضامن بشيء ، وإن كان ضمان وجه أو طلب . قلت : بدل قولنا جميع الدين الخ . وجه فلان أو طلبه ليحضره إياه في وقت كذا بموضع كذا فإن عجز عن إحضاره ففي الطلب لا شيء عليه ، وفي الوجه سيأتي في قوله : وإن ضمان الوجه جاء مجملاً الخ .
وسُمِّيَ الضَّامنُ بالْحَمِيلِ
كَذَاكَ بالزَّعِيمِ والكَفيلِ
( وسمي الضامن ) نائب ( بالحميل ) يتعلق بسمي ( كذاك ) سمي ( بالزعيم والكفيل ) وليسمراده بيان ما يسمى به الضامن كما هو ظاهره ، وإنما مراده بيان صيغ الضمان التي ينعقد بها وتدل عليه فإذا قال : أنا زعيم أو حميل أو ضامن أو قبيل أو غريم بغين معجمة فمهملتين بينهما مثناة تحتية أو صبير أو مدين أو أذين فذاك كله ضمان . عياض : هذه الألفاظ كلها بمعنى واحد واشتقاق ذلك كله من الحفظ والحياطة فكان الكافل حافظ وحائط لما ولي من الأمور ولما التزمه من مال ونحوه . زاد في المدونة لو قال : هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة إن أراد الوجه لزمه ، وإن أراد المال لزمه اه . وما ذكره من أنه يرجع لقصده في جميع تلك الألفاظ هو مذهب الأكثر كما في معتمد الناجب بناء على أن الأصل عدم الضمان فلا يوجد إلا بتفسيره وعلى هذا اقتصر اللخمي والمتيطي ، وصدر به في الجواهر . ابن رحال : وهو التحقيق وصوب عبد الحق وتبعه ابن رشد وابن يونس أنه لا يصدق في إرادة الوجه إلا بدليل من لفظ أو قرينة وإلاَّ فهو محمول على المال لأنه المتبادر عند سماع هذه الألفاظ ، ولقوله عليه السلام : ( الزعيم غارم ) وعليه عوّل ( خ ) حيث قال : وحمل في مطلق : أنا حميل أو زعيم أو قبيل وشبهه على المال على الأرجح اه . فمراده بالمطلق ما عري عن التقييد بالمال والوجه بلفظ ولا قرينة كما في ابن عرفة ، وأما إن قلنا مراده بالمطلق ما عري عن التقييد والنية لكان كلامه موافقاً لما مر عن المدونة ، وأنه إنما يحمل على المال إذا لم ينوِ شيئاً وفهم من النظم ومما مرّ أن قوله هو ثقة ليس بضمان وأفتى أبو شاكر حسبما في البرزلي عن ابن الحاج في الرجل يقف بسوق الدواب والبقر يقول في رجل عاملوه هو ثقة أن ذلك كالضمان يلزم الغرم ، وأفتى غيره بأنه يحلف ما أراد بذلك ضماناً وبرءاً ، ونحوه في ابن سلمون . البرزلي : حكى ابن رشد في شرحه قولين في قوله ثقة هل يضمن أو لا بناء على أن الغرور بالقول هل يلزم به الضمان أو لا ، وهو المشهور ، وأما إن قال : أنا ضامن لما أفسد فلان أو أضرّ به الناس أو سرقه أو هرب به في السوق ونحوه فإن الضمان لازم له في جميع ما أفسده إذا ثبت ذلك بواجب الثبت كما في ابن الحاج أو نحوه في الشامل عن أصبغ ، وهذا من الحمالة المترقبة كقوله : أنا حميل بما يثبت على فلان أو بما يوجبه الحكم عليه فهي حمالة بكل ما ثبت وبكل ما أوجبه الحكم كما لعياض ابن عرفة : وجهل قدر المتحمل به غير مانع اتفاقاً اه . وظاهر هذا ولو تبينت مخالفته لظنه بكثير ، وانظره مع قول اللخمي عن ابن القاسم في العتبية أن هبة المجهول يفرق بين مخالفتها للظن بكثير فلا تجوز ، وإلا جازت . ومنه إن قال داين فلاناً وأنا حميل بما داينته به لكن إنما يلزمه فيما يشبه أن يعامل به على المعتمد ، وذهب الشافعي والثوري والليث إلى عدم جوازها بالمجهول وهو أظهر لأنه بصدد الأداء ولا يدري قدر ما يسلفه ويؤديه والسلف أخو البيع .
وَهُوَ مِنْ المَعْرُوفِ فَالمَنْعُ اقْتضَى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
مِنْ أَخْذِهِ أَجْراً بِهِ أَوْ عِوَضا
( وهو ) مبتدأ ( من المعروف ) خبر ( فالمنع ) مفعول بقوله : ( اقتضى ) وفاعل اقتضى ضمير يعودعلى كونه من المعروف ( من أخذه ) يتعلق بالمنع ( أجراً ) مفعول بأخذ ( به أو عوضاً ) معطوف عليه أي لكون الضمان من المعروف امتنع أن يأخذ الضامن عليه أجراً أو جعلاً وظاهره من رب الدين أو المدين أو غيرهما وهو كذلك ، فإذا وقع الضمان بجعل يأخذه الضامن من الطالب أو من المطلوب بعلم الطالب سقطت الحمالة فيهما ، والبيع صحيح لازم في الصورة الأولى لأن المشتري لا علم له بما فعله الطالب مع الحميل ، وأما الثانية فالبائغ مخير في أن يمضي بيعه بغير حميل أو يرده ، والجعل مردود على كل حال ، وأما إن أخذه من المطلوب بغير علم الطالب فالجعل ساقط والحمالة لازمة لأنه غره حتى أخرج سلعته من يده ، وكذا يرد الجعل لو كان من أجنبي للضامن سواء علم رب الدين بذلك أم لا . والحمالة لازمة مع عدم العلم فقط ، وكذا لو التزم العهدة عن البائع للمشتري بجعل يأخذه من المشتري أو من البائع فعلم المشتري فالجعل مردود ، والالتزام ساقط فترجع العهدة على البائع ، فإن كان الجعل بغير علم المشتري فالجعل غير لازم والالتزام لازم قاله في البيان فقول الناظم : من أخذه مصدر مضاف للفاعل الذي هو الضامن ، ومفهومه أن الجعل إذا لم يكن للضامن بل لرب المدين ليأتي بضامن أو للمدين ليأتي به أيضاً لم يمتنع وهو كذلك في الأول مطلقاً ، وفي الثاني إن حل الأجل كما أشار له الناظم في البيت بعده .
تنبيهان . الأول : هذا أحد الثلاث التي لا تكون إلا لله المجموعة في قول القائل :
القرض والضمان رفق الجاه
تمنع أن ترى لغير الله
ونقل في المعيار عن القوري أن العلماء اختلفوا في ثمن الجاه فمن قائل بالتحريم بإطلاق ومن قائل بالكراهة بإطلاق ومن مفصل وأنه إذا كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر فأخذ أجرة مثله فذلك جائز وإلاّ حرم اه . ابن رحال : هذا التفصيل هو الحق وإنما يحرم ثمن الجاه إذا كان ينتفع غيره بجاهه من غير حركة ولا مشي فقول ( خ ) عاطفاً على الممنوع وذي الجاه الخ . مقيد بهذا أي من حيث جاهه فقط .
الثاني : أفهم قوله من المعروف الخ . أن دعوى الضمان المجردة لا تتوجه فيها اليمين على المنكر قال في معاوضات المعيار عن العقباني : الأصح والمشهور أن دعوى الضمان لا تتوجه فيها اليمين على المنكر لأن ذلك من دعوى المعروف والتبرع كدعوى الصدقة اه ونحوه لابن فرحونفي فصل الدعاوى التي لا توجب اليمين . وقال البرزلي : إن الخلاف فيها يجري على الخلاف في دعوى الإقالة وتقدم التنبيه عليه عند قوله : وفي الإقالة ابن عتاب يرى الخ . وذكر البرزلي أيضاً أواخر الشهادات ما نصه : إذا ادعى أنه ضمن له ذهباً عن غريم فأنكر توجهت عليه اليمين فإن نكل حلف المدعي واستحق قال : وكأني أذكر في حاشيته أنه لا تترتب عليه يمين إلا بعد ثبوت أصل الحق وفي موضع آخر إن ادعى أنه تحمل له بذلك في أصل العقد جرت على دعوى المعروف اه .
وَالحُكْمُ ذَا حَيْثُ اشْتِرَاطُ مَح ضَمِنْ
حَطًّا مِنَ المَضْمُونُ عَمَّنْ قَدْ ضُمِنْ
( والحكم ) مبتدأ ( ذا ) خبره والإشارة للمنع ( حيث ) ظرف يتعلق بالحكم ( اشتراط ) مبتدأ ( من ) موصول مضاف إليه المصدر من إضافته لفاعله ( ضمن ) بفتح الضاد وكسر الميم فاعله ضمير يعود على من هو الرابط بين الصلة والموصول ( حطّاً ) بالطاء المهملة مفعول باشتراط ( من المضمون ) يتعلق به ، وكذا ( عمن قد ضمن ) بالبناء للمفعول وقد للتحقيق ، والجملة صلة الموصول المجرور بمن وخبر المبتدأ الذي هو اشتراط محذوف أي كائن ونحوه ، والجملة في محل جر بإضافة حيث وجواب الشرط الناصب له محذوف أيضاً لدلالة ما قبله عليه ، ومعناه أن الضامن إذا قال لرب الدين قبل الأجل حط من دينك عشرة عن المدين وأنا ضامن لك بالباقي فإنه يمنع على قول ابن القاسم لأن التوثق بالضامن في معنى التعجيل ففيه ضع وتعجل ، وكذا لو أعطاه رهناً قبل الأجل على أن يحط عنه بعض الدين لأن العلة جارية أيضاً ، فقد أخل الناظم بقيد كون ذلك قبل الأجل إذ لو كان بعده لجاز على المعتمد لأنه كابتداء سلف بحميل أو رهن خلافاً لمالك في العتبية وإطلاق الناظم يقتضي أنه درج عليه فلو قال :
كذاك جعل للمدين قد حصل
من ربه أو غيرها قبل الأجل
لكان أسهل معنى وأقرب تناولاً وأنه لا مفهوم لقوله حطّاً بل كذلك لو أعطاه رب الدَّين أو أجنبي ديناراً مثلاً ليأتي بضامن قبل الأجل للعلة السابقة لأن ما أخذه في معنى الإسقاط لمقابله من الدين مع تعجيل حقه بتوثقه فإن كان الجعل لملاطف المدين في هذه أو لملاطف الضامن فيالأولى فيجوز إلا أن تقوم قرينة على أن الضامن إنما ضمن لأجل ما أخذه ملاطفة أو المدين إنما أتى بضامن لذلك أيضاً فيمتنع حينئذ قاله ( ز ) والذي للخمي أن الحميل لو قال : أنا أتحمل لك على أن تعطي لفلان غير الغريم ديناراً لم يجز ، ووجهه أنه لما أخذه فلان بسببه فكأنه هو الذي أخذه فيكون ضماناً بجعل اه . فلم يقيد بملاطف ولا بغيره .
وَباشْتِرَاكٍ وَاسْتِوَاءٍ في الْعَدَدْ
تَضَامُنٌ خُفِّفَ فِيهِ أَنْ وَرَدْ
( وباشتراك ) يتعلق بقوله تضامن وباؤه بمعنى مع ( واستواء ) معطوف على ما قبله ( في العدد ) يتعلق بما قبله يليه ( تضامن ) مبتدأ مصدر تضامن ( خفف ) بالبناء للمفعول ( فيه ) نائبه والجملة خبر المبتدأ ( أن ) بفتح الهمزة مجرورة بلام الجر محذوفاً ( ورد ) صلة أن ، والمعنى أن ضمان شخص على أن يضمنه الآخر الآن أو متى احتاج ونحو ذلك ممنوع لأنه من ضمان بجعل فهو داخل تحت قوله فيما مر أو عوضاً ، لكن استثني من ذلك صورة واحدة وهي أن يشتري اثنان مثلاً سلعة معينة على الشركة بينهما وتساويا فيها ويضمن كل منهما الآخر فيما عليه من ثمنها أو يبيعا سلعة مشتركة بينهما ويضمن كل منهما الآخر فيما يلحقه من درك العيب والاستحقاق أو يسلما في سلعة بينهما ويتضامنا فيها أو اقترضا شيئاً وتساويا فيه ، فإنه خفف التضامن في ذلك كله في الأولى اتفاقاً وفيما بعدها على الأصح كما في الشامل لورود ذلك عن السلف ومفهوم اشتراك واستواء أنه لو اشترى أو باع كل واحد منهما وحده أو اشتركا على التفاوت كالثلث والثلثين لم يجز إلا أن يضمن صاحب الثلث للآخر الثلث فقط وإلى هذين والتي قبلها أشار ( خ ) بقوله : وفسدت بكجعل وإن من عند ربه لمدينه وإن بضمان مضمونه إلا في اشتراك شيء بينهما أو بيعه كقرضهما على الأصح فقوله : بكجعل أي وصل للضامن مطلقاً ، وقوله : وإن من عند ربه يعني أو من أجنبي وصل للمدين لكن قبل الأجل كما مرّ في البيت قبله .
ولما تكلم على ما ينعقد به الضمان وأنه لا يصح بجعل شرع في الكلام على من يصح منه لأن الضامن متبرع بما يضمنه ، والتبرع إنما يصح ممن لا حجر عليه فقال :
وَصَحَّ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعَاتِ
وَثُلْثِ مَنْ يُمْنَعُ كَالزَّوْجَاتِ
( وصح ) فاعله ضمير يعود على الضمان ( من أهل التبرعات ) يتعلق به فيدخل المكلف الذي لا حجر عليه بحال ولو أخرس ويخرج الصبي والمجنون والسفيه فلا يصح ضمانهم وإن أجازه الولي ، ويخرج أيضاً الذي أحاط الدين بماله إن لم يجزه الغرماء ويخرج المكاتب والمأذون له إن لم يجزهالسيد أيضاً ، وأحرى غيرهما من مدبر ومبعض وأم ولد ، فالمراد بالصحة في كلامه اللزوم ومفهومها فيه تفصيل تارة يكون غير صحيح وغير لازم وتارة يكون صحيحاً ، ولكن يتوقف على إجازة الغير كما ترى ( وثلث ) بالجر مع سكون اللام عطف على أهل ( من يمنع ) بالبناء للمفعول صلة من ( كالزوجات ) خبر لمحذوف مثال لمن يمنع كالزوجات أي وصح الضمان ولزم من أهل التبرعات بكل المال وثلث من يمنع من التبرع بكله كالزوجة والمريض ، ولك أن تجعل ثلث معطوفاً على مقدر قبل قوله : من أهل الخ . أي وصح الضمان ولزم في كل المال ممن له التبرع بكله وفي ثلث من يمنع من التبرع بكله كالزوجة ، ومفهوم ثلث أن الزوجة والمريض لا يلزمهما الضمان في الزائد عليه ، وإن كان صحيحاً ويتوقف على رضا الزوج والورثة وللزوج حينئذ رد الجميع ولو ضمنته هو لا الزائد فقط بخلاف الوارث فإنما له إن مات المريض رد الزائد فقط ولو ضمنه هو وظاهره أنه لا يرد الثلث ولو قصد به الضرر وهو كذلك . وظاهره أيضاً أن الزوجة لا تصدق أنه أكرهها على الكفالة عنه أو لغيره وهو كذلك إلا ببينة . قال أشهب : فإن زعمت أن الطالب عالم بالإكراه وكان ممن يظن به العلم كجار وقريب حلف فإن نكل حلفت وبرئت . انظر ابن عرفة وأبا الحسن فإن صح المريض من مرضه لزمه ما تكفل به مطلقاً ثلثاً أو أكثر تكفل لوارثه أو غيره كما يلزمه ما بتله في مرضه من صدقة ونحوها إلا لقرينة تدل على أنه أراد بها الوصية . اللخمي : فإن رجع عن الكفالة بعد أن صح وقال : كنت أردت بها الوصية لم يقبل قوله : إذا كانت في عقد البيع أو القرض ويختلف إذا كانت بعده اه . وظاهر النظم أنه ضمن في المرض وأما إن أقر في المرض أنه تكفل في الصحة فإنه لا يمضي في ثلث ولا في غيره قال فيها وما أقر به المريض أنه فعله في صحته من عتق أو كفالة أو حبس أو صدقة لوارث أو غيره فإقراره كله باطل ولا يجوز في ثلث ولا غيره اه . فحملها الأكثر على ظاهرها وتأولها الأقل على أن ذلك إذا أقر في مرضه أنه تكفل في صحته بعد عقد بيع أو قرض لأنه معروف حينئذ كالصدقة والحبس لا إن أقر أنه تكفل في عقد البيع أو القرض فذلك لازم له لأنه أخرج به الملك من يد مالكه ودرج في الشامل على تأويل الأقل فقال : ولو أقر في مرضه أنه ضمن في صحته في أصل عقد بيع أو قرض لزم لا بعده اه . وأما الزوجة إن تأيمت قبل الرد فيلزمها ذلك أيضاً ، وانظر لو أقرت في حال التزوج أنها تكفلت في حال التأيم .تنبيهان . الأول : قال في الشامل ولو تكفل في مرضه ثم تداين ما يستغرق ماله سقطت الحمالة إن مات ولا يحاص بها ونحوه في المدونة . أبو الحسن : لأن الدين عن عوض والكفالة في المرض وصية من غير عوض وما كان عن عوض أولى بما كان عن غير عوض .
الثاني : إذا ادعى على ذات الزوج بدعوى أكثر من ثلث مالها فنكلت عن اليمين فإن الطالب يحلف ويأخذ ولا كلام لزوجها ولا يكون نكولها كتبرعها كما في البرزلي .
وَهُوَ بِوْجِهٍ أوْ بِمَالٍ جارِ
وَالأَخْذُ مِنْهُ أَوْ عَلَى الْخِيَارِ
( وهو ) أي الضمان أنواع مبهم كأنا حميل أو زعيم أو نحوهما . وقد تقدم وسيأتي أيضاً وضمان بمال وللحميل الرجوع به على المضمون إلى في حمالة الصداق أو الثمن في عقدي النكاح والبيع فلا رجوع له إن كان بلفظ الحميل أو صرح بعدم الرجوع كما أشار له ( خ ) بقوله : ولا يرجع أحد منهم إلا أن يصرح بالحمالة أو يكون بعد العقد الخ . كما لا يفتقر لحيازة كما يأتي في النكاح وضمان بمال مترقب كانا حميل بما يثبت على فلان أو بما يوجبه الحكم عليه ، وهي لازمة فيما ثبت على فلان بالبينة أو بإقرار المضمون قبل الضمان أو بعده وكان ملياً وإلاَّ فقولان ، فإن قال : داينه وأنا حميل بما داينته به فللحميل الرجوع عن ذلك قبل المعاملة وإلا لزمه فيما يشبه أن يعامل به كما مر ، وضمان بوجه ، والمشهور لزوم الغرم إن لم يحضره ولم يشترط نفي المال وضمان طلب ويصح في كل شيء حتى فيما يتعلق بالأبدان من القصاص ونحوه ، ومن هذا النوع ضمان الوجه الذي اشترط فيه نفي المال فقوله : ( بوجه ) صادق بالوجه المطلق وبالوجه الذي اشترط فيه نفي المال وبالطلب ، لكن الحكم في الأول لزوم الغرم كما يأتي في قوله : وإن ضمان الوجه جاء مجملاً الخ ، بخلاف الأخيرين فلا ضمان عليه إلا أن يفرا فيغرم المال ويؤدب في القصاص ( خ ) كانا حميل بطلبه أو اشترط نفي المال وطلبه بما يقوى عليه وحلف ما قصر وغرم إن فرط أو هربه وعوقب الخ . وقوله : ( أو بمال ) صادق بالمبهم على القول بأنه يحمل على المال وهو ظاهر قول النظم الآتي : وهو بمال حيث لم يعين الخ . وصادق بالمال الثابت والمترقب ، وقد علمت تفصيله ومن المترقب أيضاً ضمان درك العيب والاستحقاق فيلزم الثمن للضامن من حين الدرك في غيبة البائع أو عدمه كما في المدونة ( خ ) : ومثله ما يكتب اليوم في مستنداتالبيع : والتزم فلان لفلان أنه إن قام عليه قائم في هذا البيع فعليه نظير ما يغرمه فلان أو نحو ذلك اه . تنبيه : إذا باع منه ضيعة إلى أجل وبعد مضي بعض الأجل ظهر منه خلاف ما كان يظهر عليه ، وخشي صاحب الحق أنه إن بقي على حاله لا يجد عند الأجل قضاء فإن من حق البائع أخذه بوثيقة من رهن أو حميل أو يضرب القاضي على يديه في الضيعة ويشهد أنه منعه من التصرف ويظهر ذلك قاله اللخمي . قال البرزلي : هذا مثل ما قاله أبو عمران في الغريم يريد سفراً قبل الأجل أو ظهرت منه وجوه ريبة أنه يريد التغيب والهروب أو السفر إلى بلد لا تجري فيه الأحكام فإنه يتوثق منه قاله في نوازل البيوع ، ونقله في المعيار في أواسط المعاوضات منه ، وتأمل قول ( خ ) للغريم منع من أحاط الدين بماله من تبرعه وسفره إن حل بغيبته . ( جار ) خبر عن الضمير المنفصل والمجروران قبله يتعلقان به ( والأخذ ) مبتدأ ( منه ) خبر وضميره للمدين أي الأخذ كائن منه ( أو ) كائن ( على الخيار ) فهو معطوف على الخبر ، وأو لتنويع الخلاف أي الأخذ كائن من المدين فقط على قول مالك المرجوع إليه وهو المشهور كما قال ( خ ) ولا يطالب الضامن به أي بالدين إن حضر الغريم بالبلد حال كونه موسراً تناله الأحكام غير ملد ، وبه كان العمل قديماً كما في ابن مغيث وغيره أو كائن على خيار رب الدين إن شاء أخذه من الضامن أو المدين وهو قول مالك المرجوع عنه ، وبه صدر ابن الحاجب وابن سلمون ، وبه العمل الآن بفاس وما والاها قال ناظم عملها :
وصاحب الحق مع الإحضار
غريمه الموسر الخيار . . . الخ
قال اليزناسي : وعمل تلمسان وفاس ومراكش يتبع عمل الأندلس في هذه المسألة وغيرها لا عمل تونس ومصر اه . ثم إن تبع أحدهما فلا رجوع له على الآخر إلا أن يعدم ، وإذا رجع على الضامن فسجنه فللضامن أن يسجن المدين لأنه بالوجه الذي يقضي به على الضامن يقضي به على المدين ، وهذا مما لا إشكال فيه ، بل للحميل أن يطالب المدين بالأداء ليبرأ من الحمالة ولو لم يطلبه رب الدين خلافاً لما كان يفعله بعض جهلة قضاة الوقت من أن الضامن لا يمكن من طلب المدين حتى يؤدي ففي ابن سلمون : إذا كان الحق قبل شخصين وهما متضامنان فيه أيهما شاء صاحب الحق أخذه بحقه فإن أخذه من أحدهما فحبسه فأراد المحبوس أن يحبس صاحبه فله ذلك ويعمل به مثل ما يعمل صاحب الدين بالغريم قاله ابن القاسم في سماع عيسى بن رشد لأنه ضامن لصاحب الحق نصف الحق فإذا سجن كان له هو أن يسجن الآخر لما يجب له من الرجوع عليه اه . وإذا كان هكذا فالمرجوع إليه الذي هو المشهور أقرب لأنه من باب قولهم :
رأى الأمر يفضي إلى آخره
فصير آخره أولاوتأمل قول ( خ ) في الشهادات : وللمقضى عليه مطالبتهما بالدفع للمقضى له وللمقضى له ذلك إذا تعذر من المقضى عليه .
تنبيهان . الأول : محل ما مر أن وقع الضمان محملاً أما إن شرط في أصل الضمان تقديم الضامن أو المدين أو شرط الضامن أن لا يؤاخذ في حضور الدين أو يسره أو بعد موته ونحو ذلك فيعمل بالشرط قطعاً .
الثاني : إذا اجتمع الرهن المفوض في بيعه والضامن فإن البداءة تكون بالرهن لا بالضامن على المشهور ، لأنه بمنزلة حضور الضامن والمضمون إلا أن يكون في إثبات موجبات
طول قاله في نوازل الخلع . وتأمل كيف يحتاج للإثبات مع كونه مفوضاً له في البيع فراجع ما مرّ عند قوله : وبجواز بيع محدود الأجل . الخ .
وَلا اعْتِبَارَ بِرِضَا مَنْ ضُمِنا
إذْ قَدْ يُؤدّي دَيْنُ مَنْ لا أَذِنَا
( ولا ) نافية ( اعتبار ) اسمها ( برضا ) خبرها ( من ) موصول مضاف إليه ( ضمنا ) بالبناء للمفعول صلته ( إذ ) تعليلية ( قد ) للتحقيق ( يؤدي ) بالبناء للمفعول ( دين ) بالرفع نائب ( من ) موصول مضاف إليه ( لا ) نافية ( أذنا ) بفتح الهمزة وكسر الذال فعل ماض وفاعله ضمير يعود على من ومتعلقه محذوف أي في أدائه والجملة صلة والجملة من قد يؤدي الخ . في محل خفض بإضافة إذ ومعناه أن الضمان لا يشترط فيه رضا المضمون ، بل يصح ويلزم بغير إذنه لأنه يجوز أداء الدين عمن لم يأذن في أدائه عنه والضامن بصدد الأداء عنه فهو أحق منه ففي المدونة ومن ادعى على رجل حقاً أي مالاً فأنكره فقال له رجل : أنا بوجهه كفيل إلى غد فإن لم يوافك به إلى غد فأنا ضامن للمال فإن لم يأت به في غد لم يلزم الحميل بشيء حتى يثبت الحق ببينة . عياض : ظاهره أن إقرار المنكر لا يلزم الكفيل به شيء ، وقيل إقراره كقيام البينة وهذا دليل للكتاب أيضاً اه . وإليه أشار ( ح ) بقوله : أو قال لمدع على منكر إن لم آتك به لغد إلى قوله : إن لم يثبت حقه ببينة وهل بإقرار تأويلان ، ووجه الدليل منه أن هذا منكر ومع ذلك صح الضمان عنه ، وكذانص فيها أيضاً على أن الرجل إذا قال : ما كان لك قبل فلان الذي تخاصمه فأنا به كفيل أو قال داينه وأنا بما داينته به كفيل فإنه ضامن لما ثبت عليه بالبينة في ذلك كله ويختلف في الإقرار كالتي قبلها ، لكن الخلاف الذي ذكره عياض في الإقرار خلاف قول ابن رشد كما في ابن عرفة لو قال لي على فلان حق فقال رجل : أنا به كفيل لم تلزمه الكفالة فيما أقر به المطلوب قولاً واحداً اه . فانظره فإن الاتفاق وإن لم يصح لا أقل أن يكون مشهوراً وفي معناه في الإقرار بعد الكفالة لا قبلها فتلزم كما في أبي الحسن عن ابن المواز ، وقيد ابن يونس ما كان بعدها بما إذا كان المطلوب معسراً وإلا فتلزم ، وهذا بخلاف ما لو قال رجل : لي على فلان ألف دينار فقال له شخص : أنا بها كفيل فإن الكفالة تلزم بإقرار المطلوب اتفاقاً كما قاله ابن رشد أيضاً : فهذه المسألة تخالف المسائل التي قبلها ولعله لما فيها من بيان العدد ، واعترض ابن عرفة التفرقة بينهما فانظره فإن لم تكن بينة ولا إقرار وقد تكفل له بما عليه وادعى أن له عليه ألف درهم مثلاً وأن الكفيل عالم بذلك حلف الكفيل على علمه فإن نكل حلف الطالب واستحق كما في شفعة المدونة وابن يونس ثم لا يرجع الكفيل على الغريم بما غرمه بنكوله إلا أن يقر الغريم فإن لم يقر فللكفيل أن يحلفه فإن نكل غرم ، وكذا إن قال : احلف أن ما تدعيه قبل فلان حق وأنا ضامن به وفلان حاضر ساكت أو غائب فإنه يلزمه ضمان ما حلف عليه أقر به المطلوب أم لا في هذه وليس له أن يرجع عن الضمان قبل الحلف ، ثم إذا غرم الضامن فلا رجوع له على المطلوب إلا ببينة أو إقرار وللكفيل أن يحلف ثم يحلفه عند عدمها فإن نكل غرم . ابن رشد : أثر ما مر عنه من الاتفاق ، وإنما اختلف فيمن قال : أنا كفيل لفلان بألف دينار له على فلان على ثلاثة أقوال : أحدها لابن القاسم اللزوم وإن أنكر المطلوب ، وثالثها إن كان عديماً وعلى الأول لا يلزم المطلوب غرم للحميل إلا ببينة بالحق يعني أو بإقرار ، وله أن يحلفه كالتي قبلها وإنما لزمه الضمان في هذه مع الإنكار على قول ابن القاسم وهو المعتمد ، لأن الكفيل معترف بالكفالة شاهد بالدين فألغى ابن القاسم شهادته وأجازها مالك في رواية أشهب . وقال ابن المواز : إن كان ملياً جاز وإلاَّ فلا . وقد استفيد من ذلك كله أن رضا المضمون لا يشترط في لزوم الضمان لكن رضاه له فائدة ، وهو أن الضامن إذا غرم تمكن من الرجوع على المضمون لأن رضاه إقرار بالحق بخلاف ما إذا لم يرض فلا رجوع عليه حيث لا بينة ، وحلف أنه لا حق عليه وقد يموت ويحلف وارثه على العلم ويتفرع على ذلك أيضاً أن الضامن إذا أدى الحق لربه وطلبه برسم الدَّين ليتمكن من الرجوع به على المدين وادعى ربه أن الدين كان بلا رسم أو تلف فمن تضمنت وثيقة الضمان رضا المضمون عنه فهي قائمة مقام رسم الدين ، وإلاَّ رد الطالب ما أخذه من الضامن إن حلف له أنه لا يعلم بذلك الحق كما مرّ ويتفرع عليه أيضاً أن الضمان إذا كان بإذن المضمون فللضامن مطالبة المدين بأدائه إن حل ليبرأ من ضمانه ، وإن لم يكن بإذنه فليس له مطالبته إلا بعد أدائه قاله في الكافي والمفيد كما في ابن رحال لكن ظاهره ما في شراح ( ح ) وهو ظاهر ما في السلم ، الثاني : إن للكفيل طلبه بذلك ضمنه بإذنه أو بغير إذنه لأن الضامن حيث قصد بضمانه الرفق بالمضمون فلا فرق في ذلك بين الإذن وعدمه ، ولو قصد الضرر لم يجز كما يأتي ، وعلل في المدونة لزوم الضمان بغير الإذن بأن الضمان معروف وهو لازم لمن أوجبه على نفسه . أبو الحسن : إذا أشهد به على نفسه كما قاله هنا وفي كتاب المديان اه . وعليه فالصيغ المتقدمة إنماتلزمه الكفالة بها إذا قال : اشهدوا أني كفيل ونحو ذلك وهو قول ابن سلمون إنما تصح الوكالة إذا أشهد بها الموكل ولعله لأنه لا يعلم منه الإيجاب على نفسه إلا بإشهاد أو قرينة تدل على أنه قصد إليه وإن لم يصرح به كإتيانه بموثقين ويقول لهم : إني كفيل الخ . وتأمل قول ( خ ) ولم يشهد على حاكم قال : ثبت عندي إلا بإشهاد ، وبه تعلم ما في ( ح ) أوائل مسائل الالتزام من أن ذلك الإشهاد ليس شرطاً في اللزوم ، وإنما خرج مخرج الغالب الخ . لأن أبا الحسن جعله شرطاً كما رأيته فقول الناظم : ولا اعتبار الخ . هذا بالنسبة لصحة الضمان ولزومه لا بالنسبة للرجوع فظهرت فائدة قول الموثقين بإذنه ورضاه وأن ذلك لمجرد الاحتياط والخروج من الخلاف هذا ما يتعلق بالشطر الأول ، وأما الثاني فساقه الناظم دليلاً للأول وإنما كان دليلاً لأن الأداء أشد من الضمان لأن الضامن لم يحصل منه أداء وإنما هو بصدده ، فإذا جاز الأداء بغير رضاه جاز الضمان بالأحرى . قال فيها : ومن أدى عن رجل حقاً بغير أمره فله أن يرجع به عليه ، وكذلك من تكفل عن صبي بحق قضى به عليه فأداه عنه بغير أمر وليه فله أن يرجع في مال الصبي اه . لكن بشرط أن يقصد بالأداء في هذه وبالضمان في الأولى الرفق بالمدين أو المضمون لا إعناته والضرر به ولا التبرع عليه وإلاَّ فيرد كما أفاده ( خ ) بقوله وصح بغير إذنه كأدائه رفقاً لا إعناتاً فيرد كشرائه الخ فقوله : رفقاً راجع للضمان والأداء كما في ( ز ) قال أبو الحسن : والضرر من أفعال القلوب لا يعلم إلا بإقراره أو بقرائن تدل الشهود عليه . قلت : وهو ظاهر إذا كان الإقرار قبل الضمان والأداء أو عندهما لا إن كان بعدهما فإن تنازعا في أنه دفعه عنه محتسباً فالقول للدافع لأن الأصل عدم خروج ملكه إلا على الوجه الذي يقصده إلا أن تقوم بينة على كذب الدافع كأدائه عن الميت المفلس ، ثم طرأ له مال لم يعلم به وطلب الرجوع فلا شيء له انظر ( ح ) عند قوله على الميت المفلس الخ .
وَيَسْقُطُ الضَّمانُ في فَسَادِ
أَصْلِ الذِي فِيهِ الضَّمانُ بَادِ
( ويسقط ) مضارع سقط ( الضمان ) فاعله ( في فساد ) يتعلق بيسقط ( أصل ) مضاف إليه ( الذي ) مضاف بعد مضاف وهو على حذف الموصوف أي أصل العقد الذي ( الضمان ) مبتدأ ( فيه ) يتعلق بالخبر الذي هو قوله ( باد ) أي ظاهر ، والجملة صلة الذي والضمير المجرور هو الرابط ومعناه أنالمعاملة إذا كانت فاسدة بما قارنها من علل الفساد كبيعها وقت نداء الجمعة أو بقيمتها أو على حكمه أو حكم غيره أو رضاه أو دنانير بدراهم إلى أجل وأخذ منه كفيلاً فإن الكفالة ساقطة كانت في العقد أو بعده فلا مفهوم لقوله فيه ، وإنما نص على محل الخلاف لأنها بعد العقد ساقطة اتفاقاً وظاهره فات البيع أم لا . ولا يكون حميلاً بالقيمة وهو قول ابن القاسم في المدونة والعتبية والموازية . ورواه عن مالك وقاله ابن عبد الحكم . ابن يونس : ووجهه أن المعاملة لما فسدت كان ما سمياه من الثمن الذي وقعت به الحمالة غير لازم فسقط عنه بسقوطه في أصل الشراء وعلى هذا درج ( خ ) حيث قال : وبطل إن فسد متحمل به الخ . وقيل تثبت الكفالة إذا فات البيع وعلى الكفيل الأقل من الثمن أو القيمة . اللخمي : وهذا إذا كان المشتري والحميل يجهلان فساد ذلك وإن كانا يعلمان أو يعلمه المشتري لم تلزم الحمالة وإن كان الحميل يعلم ولا يعلم المشتري لزمه ذلك لأنه غره اه بنقل أبي الحسن . وهذا التفصيل هو الذي عول عليه ابن سلمون وصاحب الطرر والجزيري والوثائق المجموعة والمتيطية ولفظ اختصارها ، ولا تجوز الحمالة إلا في المعاملة الجائزة ، وأما الفاسدة فالحمالة فيها ساقطة إذا علم الطالب بفسادها فإن لم يعلم لزم الحميل الحمالة بالقيمة قاله ابن القاسم ومالك في المدونة ، وعليه فيقيد النظم ولفظ ( خ ) بذلك ، وقد تقدم أن الرهن في البيع الفاسد يبقى رهناً بالقيمة ، وقد علمت أن كلاًّ من الرهن والحميل أخذ للتوثق ومن صور الفاسد ما في المدونة عن ابن القاسم أن المبتاع إذا شرط على البائع خلاص السلعة إن استحقت وأخذ منه بذلك كفيلاً بطل البيع والكفالة كمن باع ما ليس له وشرط خلاصه ، وقال غيره : تلزمه الكفالة لأنه أدخل المشتري في غرم ماله فعليه الأقل من قيمة السلعة يوم مستحق أو الثمن إلا أن يكون الغريم حاضراً ملياً فيبرأ . وقوله : يوم تستحق أو يوم القبض كما في أبي الحسن اللخمي ، وقول ابن القاسم أقيس لأن تخليص السلعة ليس إليه وقد تحمل بما لا يقدر عليه من الوفاء به والثمن والقيمة لا يقع عليه حمالة والاستحسان قول الغير لتغليب أحد الضررين ، فيلزمه الثمن أو القيمة إن كان أقل اه . عياض : ولو لم تستحق وفات رد البيع لزمت القيمة للمشتري ولا شيء على الحميل اتفاقاً من ابن القاسم والغير لأنه إنما ضمن تخليصها من الاستحقاق ، وهذه لم تستحق اه . وقد علم من نصها المتقدم أن ما يفعله بعض الإشراك من بيع جميع الأرض المشتركة ويشترط للمبتاع أنه إن قام عليه بعض الإشراك فهو الذي يرضيه بالثمن أو بمعاوضة في أرضه الأخرى فاسد لا يجوز لأن ذلك من بيع ما ليس عنده فهو نوع من الخلاص المذكور ، وكذا لو باع له الأرض المشتركة على أنه إن قام الشريك وأخذ حظه عاوضه في أرض أخرى كيلاً أو بغير كيل لم يجز كانت الأرض التي يعاوضه فيها معينة أو غير معينة لأن المبتاع لا يدري أي الأرضين اشترى ، وكذا إن كان الملك له وحده وباعه على أنه إن استحق من يده عاوضه في أرض أخرى معينة أم لا . فإن التزم له بذلك بعد العقد ، فالبيع جائز والشرط باطل قاله أبو الضياء مصباح حسبما في المعيار ، وفي المتيطية : فإن تبايعا على أن الأرض إن لم تف بذلك وفاه من أرض معينة لم يجز أيضاً لأنه لا يدري ما تنقصه من الكيل ولا كم يأخذه من تلك الأرض ولا كم يترك منها وذلك كله غرر اه . وكذا نقل في الدر النثير عن الأخوين أن القوم إذا اصطلحوا في مواريث بينهم وكان بعضهم غائباً فيضمن الحاضرون رضا الغائبين إن كرهوا الصلح أن ذلك لا يجوز ويفسخ الصلح وذلك لأن الورثة صالحوا بما دفعوا وبما يرضون به الغائب وهو مجهول .تنبيه : من هذا النمط إذا وقعت المباراة بين الزوج وزوجته على أن ضمن الأب أو غيره ما يلحق الزوج من درك فثبتت عليها ولاية أو غيرها مما يسقط الالتزام لزم ذلك للضامن وقضى به عليه قاله ابن العطار . وأنكر ابن الفخار قوله هذا وقال : إذا سقط الالتزام عن المضمون بثبوت ضرر سقط عن الضامن إذ لم يرتبط بذمتها حق لأنه قد ثبت ما يسقطه عنها ، وكذلك الضامن لأنه إنما ضمن ما ظنه لازماً للمضمون عنها وإذا سقط الأصل فالفرع أولى بالسقوط اه . قال ( ح ) وكأن ابن الفخار أنكر عموم قوله أو غيرها فأخرج من ذلك ثبوت الضرر وبقي ما عداه ويقيد بما في النوادر عن عبد الملك من أنك إذا بعت من مولى عليه وأخذت حميلاً بالثمن فرد ذلك السلطان وأسقطه عن المولى عليه ، فإن جهلت أنت والحميل حاله لزمت الحمالة لأنه أدخلك فيما لو شئت كشفته وإن دخلت في ذلك بعلم سقطت الحمالة علم الحميل أم لا لبطلان أصلها اه . وانظر ترجمة الخلع من ابن سلمون وأوائل المعيار والفائق في موضعين ، والذي يتحصل من كلامهم إنه إذا ثبت الضرر وقامت به المرأة أو أحد بسببها فلا رجوع على الحميل . ابن سراج : وهو الصحيح الفائق وهو المعتمد المفيد وبه العمل ، أبو الحسن عن ابن سهل : وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم ومقابله يأتي على قول الغير فإن ماتت وقام وارثها بالضرر فلا رجوع له على الحميل قاله في الفائق وظاهره اتفاقاً ، وأما إذا ثبت سفهها فيرجع على الحميل إذا لم يعلم المضمون له بسفهها كما تقدم عن النوادر ، وأما إن ثبت عدمها فالذي اقتصر عليه في اختصار المتيطية الرجوع على الضامن وهو الجاري على القواعد ، وإن كان ابن سلمون حكى في ذلك قولين فهي ثلاثة أقسام تارة يثبت الضرر وتارة يثبت السفه وتارة العدم ، وقد علمت الراجح في كل منها قاله أبو العباس الملوي .
قلت : نقله ( ح ) عن عبد الملك بن الماجشون خلاف مذهب ابن القاسم وأصبغ من أن الحمالة لازمة في التحمل بالثمن عن البكر والسفيه ، سواء علم الحميل والمضمون له بالسفه أو جهلا أو علم الحميل دون المضمون له اتفاقاً في الأخير وخلافاً لابن الماجشون في الأولين قاله في المتيطية عن بعض الشيوخ . ومراده به ابن رشد قال أصبغ : ويغرم الضامن الثمن ويسقط عن السفيه . ابن رشد ، وقول ابن الماجشون بسقوطها في الأولين بعيد فإن علم المضمون عنه دون الحميل سقطت باتفاق قال أصبغ : وهذا إذا تحمل بما يدركه من قبله فإن قال : أنا ضامن ما يدركك من السفيه في الشراء منه لم تلزم لأنه لم يدركه من السفيه فيما اشتراه منه بسفه ، وإنما أدركه بسببه إلا أن يكون السفيه هو القائم بذلك عن نفسه فحسنت حاله فقام بذلك عنه قائم ووافقه ، فإن الضامن يكون ضامناً لأنه أدركه منه وإلاَّ فلأن ابن رشد وتفرقة أصبغ بين التحمل بما يدركه منه أو من قبله بين على ما تقتضيه الألفاظ انتهى باختصار . وهذا كله واضح إذا كان الضامن ضمن ذلك على أنه إن أدى شيئاً رجع به على المضمون كما هو ظاهر كلامهم المتقدم ، وكما هي قاعدة الضمان في درك العيب والاستحقاق وغيرهما كما يأتي للناظم وغيره ، وأما إن كان ضمن ذلك على أنه لا يرجع به إن أداه وهو ما يقصده الناس كثيراً فلا معنى لسقوط ذلك ، وقد قال في المدونة : من قال لرجل طلق امرأتك ولك علي ألف درهم ففعل فالألف لازم له ، وكذا إن قال له : بع سلعتك من فلان وعلي ثمنها كما في الالتزامات وغيرها فمن حجة الزوج أن يقول : لولا التحمل لرفعت الضرر عنها وأمسكتها إذ لا يطلق عليه بالضرر إلا إذا لم يرجععنه كما يأتي . ومن حجة البائع أن يقول : لولا تحملك ما بعت من السفيه لعلمي بأنه لا يلزمه ، ويؤيد هذا ما يأتي عند قول الناظم : وللأب الصلح عن المحجور الخ . من أن الأب إذا تحمل بما حطه في الصلح فإن للولد الرجوع عليه في عدم المدين إذ لو كان تحمل الأب بمعنى الرجوع بما أدى لم يتأت للولد رجوع عليه في عدم المدين ، فالتحمل مع علمهما بالسفه لا يكون إلا على وجه الحمل في الغالب ، وهذا هو الذي يقصده الناس . ابن العطار : إذ لا تجد أحداً في الغالب يتحمل بالخلع أو يدرك المحجور إلا على وجه الحمل لا الحمالة ، فالذي لابن الفخار إنما هو في الخلع المؤجل على المرأة يعطي به حميلاً أو في الخلع المدفوع تعطي حميلاً بدركه على أنها إن رجعت به رجع الزوج على الحميل فيرجع عليها ، وهذا لا يقصد الناس إليه ، وإنما يقصدون أنه إن حصل ما يخشاه الزوج من الرجوع عليه فالحميل يؤديه من ماله الخاص من غير رجوع به على أحد ، ولا إشكال في لزوم هذا ولو أثبت الضرر والله أعلم . وتأمل قولهم في الوعد إذا كان على سبب ودخل الموعود في ذلك فهو لازم على المشهور وتأمل ما تقدم عن أصبغ في التحمل بالدرك منه لأنه اشترى منها المال بالعصمة ومما يشبه ما نحن فيه أو هو عينه قول ( خ ) ولا يرجع أحد منهم إلا أن يصرح بالحمالة أو يكون بعد العقد اه .
وَهُوَ بِمَا عَيَّنَ لِلْمُعَيِّن
وهوَ بِمَالٍ حَيْثُ لَمْ يُعَيَّن
( وهو ) مبتدأ ( بما عين ) بالبناء للفاعل صلة ما والباء بمعنى في والمجرور يتعلق بالخبر الذي هو قوله ( للمعين ) بكسر الياء وتشديدها اسم فاعل ، والتقدير وهو أي الضمان لازم للمعين فيما عينه فيه من وجه أو مال ( وهو ) مبتدأ ( بمال ) خبره ( حيث ) ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه ( لم يعين ) بكسر الياء المشددة مبني للفاعل والجملة في محل جر بإضافة حيث وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه ، ومعناه أن الضامن إذا بين ما تحمل به من وجه أو مال أو طلب لزمه ما تحمل به كما مرّ في قوله : وهو بوجه أو بمال جار الخ . وإن لم يبين في اللفظ شيئاً بأن قال : أنا حميل لك به أو زعيم أو هو لك عندي أو علي أو إلي فإن هذه الألفاظ تحتمل الوجه والمال كما في أبي الحسن أي لك عندي ماله أو وجهه أو إلي أو علي ماله أو وجهه فإن لم ينو بذلك وجهاً ولا مالاً لزمه المال على ما به العمل كما في الفشتالي ، وقد تبين بهذا أن الحمالة المبهمة هي التي تجردت عن النية وأما إن نوى شيئاً فيلزمه ما نواه ، وبهذا قرر أبو الحسن المدونة وهو مذهب الأكثر كما مرّ أول الباب وعليه فقول الناظم : لم يعين أي لم ينو شيئاً وهذا بعيد من اللفظ ، والظاهر أنه درج على ما لابن يونس ومن معه من أنه إذا أبهم فلا يصدق في إرادة الوجه كما مر ، وعليه فقوله لم يعين أي أبهم ولم يعين بلفظ ولا قرينة ، وأما مجرد النية فلا يصدق فيها فإن قال : أنا حميل بفلان فهو ظاهر في حمالة الوجه كما لأبي الحسن فإن تنازعا فقال الحميل :شرطت الوجه ، وقال الآخر : شرطت المال ولا بينة فالقول للكفيل لأن الآخر يريد إشغال ذمته ولأن الحمالة معروف لا يلزم منها إلا ما أقرّ به كما في ابن يونس .
تنبيه : من المعين بالمال ولا إشكال قوله في الوثيقة : إن لم يحضره إلى أجل كذا فهو مؤاخذ بما يثبته عليه بالوجه الشرعي فيلزمه ما ثبت إن لم يأت به ويختلف في الإقرار على نحو ما مرّ عند قوله : ولا اعتبار برضا من ضمنا الخ . بخلاف ما لو قال : إن لم أحضره لك غداً ، فالذي تدعيه علي وإن لم يثبت حق أو قال لخصمه : إن لم أحضر مجلس القاضي معك غداً أو إن لم آت بالبينة أو بمستندي فدعواي باطلة أو دعوى خصمي حق ، أو إن لم أوفك حقك في وقت كذا فلك عندي كذا زيادة على الحق أو إن لم آتك بالثوب ونحوه في آخر أيام الخيار فالبيع لازم ، فإنه لا يلزمه شيء من ذلك وينقض الحكم إن وقع الحكم بذلك بخلاف ما لو قال : إن أخلفتك عند القاضي فكراء دابتك علي فإنه يلزمه كراؤها لأنه أدخله في غرم كراء الدابة بوعده قاله في الالتزامات ، وبخلاف ما لو قال لزوجته : إن لم أوف لك في وقت كذا أو إن لم أحضر معك في مجلس القاضي في وقت كذا فأمرك بيدك فإنه يلزمه ، وكذا إن قال لها إن لم أرسل لك النفقة في وقت كذا فأمرك بيدك كما في ( ق ) في فصل التمليك . ووقعت نازلة وهي أن رجلاً طالبه خصمه بإبراز رسوم حوانيت زاعماً أنها له وأن بائعها للرجل باع ما لا يملك فقال الرجل : إن لم آت برسوم ملك بائعي فخذ حوانيتك ثم عجز عن رسوم بائعه فأفتى العميري ومعاصروه بأنه لا يلزمه ما التزمه لأنها مخاطرة محتجين بما مر عن الالتزامات ، وأما إن وقعت فتنة وحروب بين قريتين مثلاً فخاف كل منهما على أنفسهم وأموالهم فتضامنوا فيما بينهم على أن ما تأخذه إحدى القريتين للأخرى يؤديه أهلها لما رجوه في ذلك من التوطين فقال الغبريني كما في البرزلي : إن التضامن غير لازم لأنهم مكرهون بالخوف المذكور . البرزلي : مفهومه لو كانوا غير مكرهين للزم كقوله كلما بايعت فلاناً فأنا ضامن به اه . ونحوه للعبدوسي فيمن قال لرجل : امض معي إلى الموضع الفلاني وجميع ما يصيبك من قبيل كذا في ضماني فسار معه فأخذه أهل القبيل المذكور أن الضمان لازم له .
قلت : وفي أجوبة القوري أنه لا ضمان عليه في هذه الصورة ونحوه في أواخر الوديعة والعارية من المعيار عن القابسي فيمن قال : أخاف إن حركت الرحى غرمني السلطان فقال له الآخر : حركها وما كان من السلطان علي فحركها فغرمه السلطان أنه لا شيء على الضامن اه باختصار . ولكن ما للبرزلي والعبدوسي أقوى وأرجح بدليل ما مر عن ( ح ) في كراء الدابة ، وبدليل ما احتج به البرزلي من كون ذلك بمنزلة من قال : كلما بايعت فلاناً الخ .
وإنْ ضَمَانُ الْوَجْهِ جَاءَ مُجْمَلاَ
فَالْحُكْمُ أَنَّ المَالَ قَدْ تحَمَّلاَ
( وإن ) شرط ( ضمان الوجه ) فاعل بفعل محذوف يفسره ( جاء ) وقوله : ( مجملاً ) حال من فاعل جاء ( فالحكم ) مبتدأ والفاء رابطة بين الشرط والجواب ( أن ) بفتح الهمزة واسمها ضميرمحذوف يعود على الضامن ( المال ) مفعول بقوله : ( قد تحملا ) ويجوز أن يكون المال اسم إن وجملة قد تحملا خبرها ، والرابط بين اسمها وخبرها محذوف أي تحمله ، وإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر أي فالحكم تحمله للمال قال في المدونة : وأما أن تكفل برجل أو بنفسه أو بعينه أو بوجهه إلى أجل ولم يذكر مالاً أي لم يتعرض له بنفي ولا إثبات فإنه إذا أتي بالرجل عند الأجل ملياً أو معدماً برىء فإن لم يأت به حينئذ والغريم حاضر أو غائب قريب الغيبة مثل اليوم وشبهه تلوم السلطان للحميل ، فإن أتى به بعد التلوم فلا شيء عليه وإلاَّ غرم ، وأن بعدت غيبة المكفول به غرم الحميل مكانه اه . ( خ ) وصح بالوجه وبرىء بتسليمه به وإن بسجن أو تسليمه نفسه إن أمره به إن حل الحق وبغير مجلس الحكم إن لم يشترطه وبغير بلده إن كان به حاكم ولو عديماً وإلاَّ غرم بعد خفيف تلوم الخ . وانظر ما يأتي عند قوله : ويبرأ الحميل للوجه متى الخ . ومفهوم قوله مجملاً أنه إذا لم يكن مجملاً بل شرط نفي المال ، أو قال لا أضمن إلا وجهه لا يلزمه غرم إلا إذا لم يأت به وهو كذلك كما في المدونة إثر ما مرّ لأنه حينئذ من ضمان الطلب وهو لا ضمان عليه إلا أن يفرط ( خ ) وطلبه بما يقوى عليه وحلف ما قصر وغرم إن فرط أو هربه وعوقب .
وَجَائِز ضَمانُ مَا تَأَجَّلاَ
مُعَجَّلاً وَعَاجِلٍ مُؤَجَّلا
( وجائز ) خبر مقدم ( ضمان ) مبتدأ أو فاعل أغنى على مذهب من لا يشترط الاعتماد ( ما ) مضاف إليه واقعة على الدين ( تأجلا ) صلة أو صفة ( معجلاً ) حال من ما ، وظاهر قوله معجلاً أنه لا فرق بين أن يضمنه على الحلول أو لدون الأجل فإذا كان لرجل على شخص دين مؤجل فأسقط المدين حقه من التأجيل وضمنه شخص حينئذ على الحلول أو لدون الأجل فإنه جائز لازم كما في المدونة وظاهرها كالنظم كان الدين مما يعجل أم لا . واختاره ابن عبد السلام . والمعتمد تقييد ابن يونس وإن محل ذلك إذا كان الدين مما يعجل كالعين مطلقاً أو عرضاً أو طعاماً من قرض فإن كان من بيع لم يجز لما فيه من حط الضمان عني في المدة الباقية وأزيدك توثقاً ، ولا مفهزم لقوله ضمان ، بل الرهن كذلك في التفصيل المذكور ومفهوم معجلاً أنه إن ضمنه أو رهنه قبل الأجل إلى أجله جاز مطلقاً بدون القيد المذكور وإن ضمنه أو رهنه لأبعد فيمتنع مطلقاً كما في المدونة لأن التأخير سلف ، وقد انتفع بالحميل أو الرهن في مدة الأجل الأول فيكونسلفاً جر نفعاً فالصور أربع وتبطل الكفالة في الممنوع منها ، وكذا الرهن وإن قبضه قبل المانع . ( وعاجل ) بالجر عطفاً على ما أي وجائز ضمان أو رهن عاجل أي حال ( مؤجلا ) لأنه إن كان المدين موسراً فهو كابتداء سلف بضامن أو رهن وهو جائز اتفاقاً وإن كان معسراً ويوسر عند الأجل أو بعده ، فكذلك أيضاً لأنه في هاتين الأخيرتين ، وإن انتفع بالضمان ونحوه فليس هناك سلف لوجوب إنظار المعسر ، فهذه ثلاث صور إطلاق الجواز فيها صحيح ، والرابعة أن يكون معسراً الآن فيضمنه إلى أجل كأربعة أشهر مثلاً عادته أن يوسر بعد شهرين منها بالغلات التي تأتيه من أحباس عليه وعلى عقبه أو بخروج العطاء من عند الأمير ونحو ذلك فيمتنع على الأصح لأن الزمان المتأخر عن يساره يعد صاحب الحق فيه مسلفاً ، وقد امتنع عليه بالحميل أو الرهن في زمن العسر لأن المدين قد يموت في زمن العسر ، فيأخذ الحق من الكفيل ونحوه ، وهذا على أن اليسار المترقب كالمحقق لأنهما حينئذ يكونان قد دخلا على السيف ، وأجاز أشهب هذه الصورة أيضاً بناء على أن الأصل استصحاب العسر ويسره قد لا يكون وهو ظاهر النظم ، وقد علمت أن الناظم أخل بقيد في الأولى وبقيد في الثانية على المعتمد فيهما ، ولقد وفى ( خ ) بالقيدين حيث قال عاطفاً على الجواز والمؤجل حالاً إن كان مما يعجل ، وعكسه إن أيسر غريمه أو لم يوسر في الأجل الخ فلو قال :
ولازم قبوله معجلاً على
الحلول سائغ إن يحملا
كذاك عاجل على التأجيل أن
لا يرقب الملا قبيل أن يحن
لوفى بذلك ، وقولي إن لا يرقب الخ . صادق بما إذا كان موسراً أو معسراً ولا يترقب يسره كما مرّ ولازم : صفة لمحذوف أي ودين لازم قبوله معجلاً قبل أجله سائغ ضمانه على الحلول ، فإن كانت عليه مائتان مثلاً مائة موسر بها ومائة معسر بها وقد حلتا معاً صح الضمان مؤجلاً بالمائة الموسر بها فقط أو المعسر بها فقط لا بالجميع أو ببعض من هذه وبعض من هذه ، لأنه سلف بنفع إذ تأخيره بالمائة الموسر بها سلف وانتفع بالضامن أو الرهن في المعسر بها .
وَمَا عَلَى الْحَمِيلِ غُرْمُ ما حَمَلْ
إنْ مَاتَ مَضْمُونٌ ولَمْ يَحِنْ أَجَلْ
( وما ) نافية ( على الحميل ) خبر مقدم ( غرم ) مبتدأ ( ما ) موصول مضاف إليه ( حمل ) بالبناء للفاعل صلة ( أن ) شرط ( مات مضمون ) فعل وفاعل وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ( ولم يحن ) من حان يحين إذا حضر حينه أي حل ( أجل ) فاعل ، والجملة حال من فاعل ماتومعناه أن المضمون عنه إن مات قبل الأجل عديماً فلا غرم على الحميل حتى يحل الأجل ، فإن مات ملياً قبل الحلول فإن الدين يؤخذ من تركته ويبرأ الضامن ، فإن كان الذي مات قبل الأجل هو الضامن فلرب الدين أن يعجل الحق من تركته ، وله أن يحاصص غرماءه إن لم يترك وفاءه ثم لا رجوع لورثته على الغريم إلا بعد الأجل ، وإلى هذه والتي في النظم أشار ( خ ) بقوله : وعجل بموت الضامن ورجع وارثه بعد أجله أو الغريم إن تركه أي الدين ، ومفهوم قوله : ولم يحن الخ . أن المضمون إن مات بعد الحلول ولم يترك وفاء غرم الحميل حينئذ ولا يؤخر إلاَّ برضا المضمون له . وكلام المصنف في ضامن المال ، وأما ضامن الوجه فسيأتي في قوله : ويبرأ الحميل للوجه الخ .
ويأْخُذُ الضَّامِنُ مِنْ مَضْمُونِهِ
ثَابِتٌ مَا أَدَّاهُ مِنْ دُيُونِهِ ( ويأخذ الضامن ) فاعل بما قبله ( من مضمونه ) يتعلق بيأخذ ( ثابت ) مفعول بيأخذ ( ما ) نكرة موصوفة واقعة على الدين وصفتها ثابت المضاف إليها من إضافة الصفة للموصوف وقوله : ( أداه ) فعل ماض قصد به خصوص الحدث فهو في تأويل مصدر فاعل بتلك الصفة وضميره البارز هو الرابط بين الصفة والموصوف ، لأن الفعل إذا قصد به مجرد الحدث أو قدرت معه أن المصدرية صح تسلط العوامل عليه كقولهم : تسمع بالمعيدي ، وسمعتك تقول أي سماعك بالمعيدي ، وسمعت قولك كذا قال النحاة : ( من ديونه ) بيان لما ، وإذا جعلت البيان محل المبين والفعل في تأويل المصدر كما قلنا كان التقدير ويأخذ الضامن من مضمونه ديناً ثابتاً أداؤه عنه ببينة أو إقرار رب الدين ، وفهم من قوله : ثابت أن إقرار المدين لا يوجب الرجوع وهو كذلك لأن إقرار المدين لا يسقط به الدين مع جحد الطالب ومن حجته أن يقول : لم تحصل لي براءة بدفعك وأنت أتلفت مالك بعدم الإشهاد ولا إشكال في هذا إن كان الدفع بغير حضرته فإن كان بحضرته فقولان ، أظهرهما عند ابن رشد كما في الشامل أنه لا يرجع أيضاً عليه لأن المال للضامن فهو أحق بالإشهاد على دفعه وفهم من قوله : أداه أن الضامن دفع مال نفسه أما إن دفع الغريم مالاً للحميل ليدفعه للطالب فدفعه له بغير إشهاد فأنكر الطالب وحلف فإن الضامن يغرمه إن كان الدفع بغير حضرة الغريم فإن كان بحضرته غرمه الغريم فإن وجد الغريم عديماً أو كانغائباً والموضوع بحاله غرمه الحميل ولا يرجع به على المطلوب في الوجهين لعلمه ببراءته فيهما ، وكذا إن دفعه المطلوب نفسه من ماله بحضرة الحميل فأخذ منه ثانياً لعدم المطلوب أو غيبته لا يرجع به لعلمه بالبراءة وفهم من قوله : ما أداه أيضاً أنه لا يرجع عليه بعين ما أداه بل بمثله لأن الذي أداه هو بيد الطالب ويرجع بمثله على المطلوب ولو مقوماً على المشهور لأنه كالمسلف ( خ ) : ورجع بما أدى ولو مقوماً إن ثبت الدفع الخ . وعليه فقول الناظم ثابت على حذف مضاف أي مثل دين ثابت أداؤه كما مرّ ، وقيل : يرجع في المقوم ( ) بقيمته والخلاف ما لم يشتره فإن اشتراه رجع بثمنه اتفاقاً ما لم يجاب وإلاَّ فلا يرجع بالزيادة .
تنبيهان . الأول : إذا أدى الضامن الحق في غيبة المدين بعد الأجل فقدم المدين وأثبت الأداء أيضاً بعد الأجل ، فإن سبق الضامن بالأداء رجع على المدين لأنه دفع بحق ويرجع المدين على الطالب ، وإن سبق المدين بالأداء فلا يرجع الحميل عليه ، بل على الطالب ، وإن جهل السابق فيرجع الحميل على الطالب أيضاً بعد حلف المدين أنه دفع قبله إلا أن يكون الحميل دفعه بالقضاء فيرجع على المدين فإن نكل المدين حلف الحميل وأغرمه فإن نكل فلا شيء عليه قاله ابن عرفة عن الموازية .
الثاني : ما تقدم من أن الضامن يرجع بمثل المقوم هو إحدى المسائل التي يضمن فيها المقوم بالمثل . ثانيها جزاء الصيد ، وثالثها شاة الزكاة إذا أتلف المالك الغنم بعد الحول لزمه إحضار ما وجب فيها لا قيمته . ورابعها الحيوان والعرض المقترض ، وخامسها من هدم وقفاً ألزم إعادته كما كان لئلا يؤدي أخذ القيمة إلى بيع الوقف ويجمعها قول القائل :
ضمن مقوماً بمثل في ضمان
قرض زكاة وجزا هدم مكان
لكن المشهور كما في ابن عرفة في مسألة هدم الوقف وجوب القيمة انظر شرح الشامل .
والشَاهِدُ العَدْلُ لِقَائِمٍ بِحَقْ
إعْطَاءُ مَطْلُوبٍ به الضّامِنُ حَقْ ( والشاهد ) مبتدأ ( العدل ) نعت له ( لقائم ) يتعلق بالمبتدأ ( بحق ) يتعلق بقائم ( إعطاء ) مبتدأ ثان ( مطلوب ) مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله ( به ) يتعلق بإعطاء على أنه مفعول ثان له وضميره للشاهد وباؤه للسببية ، ويحتمل أن يعود على الحق ( الضامن ) مفعول أول بإعطاء ( حق ) خبر المبتدأ الثاني والثاني وخبره خبر الأول والرابط الضمير في به ، ومعناه أن الشاهد إذا شهد لشخص بدين على آخر فأعطاه المطلوب ضامناً بذلك الحق واجب احتياطاً لأن الحكم قرب توجهه أما بشاهد ثان أو باليمين ، وظاهره وجوب الضامن بالمال بدليل البيت بعده وهو ظاهرالمدونة ، وصرح به في الشامل وعليه درج ( خ ) في الشهادات حيث قال : ومن استمهل لدفع بينة أمهل بالاجتهاد كحساب وشبهه بكفيل بالمال كأن أراد إقامة ثان الخ . والذي صرح به في المفيد كما في ابن رحال وهو ظاهر ( خ ) في الضمان حيث قال : ولم يجب وكيل للخصومة ولا كفيل بالوجه بالدعوى إلا بشاهد الخ . وإن العمل على الضامن بالوجه مع الشاهد وهو قول سحنون ومفهوم قوله : الشاهد العدل أنه إذا شهد له بالحق شاهدان أو أقر المطلوب فإنه يجب الضامن بالمال قطعاً فإن لم يقدر على الضامن وأتى برهن فيكفيه ويؤجل في أداء الدين بقدر قلة المال وكثرته باجتهاد الحاكم على ما به العمل كما لابن رشد ، ودرج عليه ناظم عمل فاس حيث قال :
ومن بدين قد أقر يسجن
إن لم يجىء برهن أو من يضمن
وسيأتي للناظم : وسلعة المديان رهناً تجعل الخ . . وفي ابن سهل عن ابن عتاب : إذا كانت له أصول مأمونة وسأل تأخيراً حتى يبيعها فإنه يلزمه حميل بالمال كان ذا أصول أو لم يكن وبه العمل قال : ويلزمه الحميل ولو كان بيد الطالب رهن حتى ينصفه وهو مذهب الشيوخ اه . وعليه عول ( خ ) إذ قال : وأجل لبيع عرضه إن أعطى حميلاً بالمال الخ . وهذا مخالف لما قبله من أنه يكتفي منه بالرهن ، وبالجملة فالمدين يكفيه الضامن أو الرهن على ما به العمل ، فإن عجز عنهما فيسجن لأن السجن حميل من لا حميل له كما في البرزلي ، فإن انقضى الأجل ولم يؤد فإن الرهن يباع بالخيار ثلاثاً . وعن سحنون فيمن وجب عليه غرم فقال : هذا ربعي لا أجد من يشتريه إنه لا حميل عليه بوجه ولا بمال . قال : فإن زعم الطالب أنه يقول للمشتري لا تشتريه فإن الحاكم يشيده ويستقصي ثم يبيع بالخيار اه . وبمثله أفتى ابن مالك وأن المطلوب إذا كان معروف العين ظاهر الملاء بين الوفر لم يلزمه حميل . كذا في ابن سهل ، وفي الطرر أن ابن مالك أفتى بحميل الوجه وعليه فالأقوال ثلاثة : حميل بالمال وهو ما لابن عتاب والأكثر وبالوجه وهو ما لابن مالك ولا حميل أصلاً وهو ما لسحنون . ومفهوم الشاهد العدل أنه إذا لم يكن إلا مجرد الدعوى لم يجب ضامن بالمال كما قال :
وَضَامِنُ الْوَجْهِ عَلَى مَا أُنْكَرَا
دَعْوىامرىءٍ خَشْيَةَ أنْ لا يَحْضُرا
( وضامن الوجه ) مبتدأ ومضاف إليه ( على من أنكرا ) خبر وأنكر صلة والرابط الضمير المستتر فيه ( دعوى ) مفعول ( امرىء ) مضاف إليه ( خشية ) مفعول لأجله ( أن ) بفتح الهمزة ( لا يحضرا ) صلة لأن وهي وما بعدها في تأويل مصدر مضاف إليه ما قبله .
مِنْ بَعْدِ تَأْجِيلٍ لهذا المُدَّعِي
بِقَدْرِ ما اسْتَحَقَّ فيما يَدَّعِي
( من بعد ) يتعلق بمحذوف على أنه حال من الاستقرار في الخبر ( تأجيل ) مضاف إليه ( لهذا المدعي ) يتعلق بتأجيل ( بقدر ) يتعلق به أيضاً ( ما ) موصولة واقعة على الأجل ( استحق ) بفتح التاءمبنياً للفاعل وضميره المستتر للمدعي صلتها والرابط محذوف ( فيما ) يتعلق بما قبله يليه وما واقعة على الإثبات وجملة ( يدعي ) صلة والرابط محذوف ، ومعناه أن ضامن الوجه واجب على من أنكر الدعوى المجردة حيث سأل الطالب منه ذلك الضامن خشية عدم حضوره عند الإتيان ببينته التي تشهد على عين المطلوب بالحق حال كون الوجوب كائناً بعد التأجيل للمدعي بقدر الأجل الذي يستحقه في الإثبات الذي يدعيه من كونه يقدر ما يسعه لإقامة البينة ولا ضرر فيه على المطلوب ، ويمكن أن تكون لفظ بقدر مقحمة وما واقعة على المفعول المطلق الذي هو الأجل أي بعد التأجيل للمدعي الأجل الذي فيه يستحقه الخ . وهذا أظهر معنى فإن لم يجد ضامناً فقال ابن القاسم : يقال للخصم لازمه بنفسك أو وكيلك ولا يسجن لك وهو معنى قوله :
وقيلَ إنْ لَمْ يُلْفِ مَنْ يَضْمَنُهْ
لِلْخصْمِ لازمْهُ ولا يَسْجُنُهُ
( وقيل إن لم يلف ) بضم الياء وكسر الفاء مبنياً للفاعل ( من ) مفعول بيلف مضارع ألفى بمعنى وجد ( يضمنه ) صلة من ( للخصم ) يتعلق بقيل ( لازمه ) أمر محكي بقيل ( ولا يسجنه ) بضم الجيم وفتح الياء معطوف على قيل وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه ، وقال أشهب : إن لم يلف من يضمن وجهه فإنه يسجن وهو المراد بقوله :
وأشْهَبٌ بِضَامِنِ الوجْهِ قَضى ( صلى الله عليه وسلم )
1648 ;
عليْهِ حَتماً وبِقَوْلِهِ القَضَا
( وأشهب ) مبتدأ وصرفه للضرورة ( بضامن الوجه ) يتعلق بقوله ( قضى ) وكذا ( عليه ) وهذا لا يظهر فيه أثر الخلاف لاتفاقهما على القضاء عليه بضامن الوجه ، وإنما يظهر أثره في السجن عند العجز عنه ، ولذا قال : ( حتماً ) نعت لمصدر محذوف أي قضاه حتماً أي لازماً بحيث إذا لم يجده سجن ( وبقوله ) خبر ( القضا ) مبتدأ وما ذكره ظاهر في الديون لأنه يريد إقامة البينة على عينه كما مرّ وكذا في الأصول فيما يظهر فيعطي كل منهما ضامناً بوجهه لصاحبه لئلا تطول الدعوى عليه . ولا يقال : إذا تغيب في الأصول يحكم عليه في غيبته ويجري على ما مرّ في قوله : ومن ألد في الخصام وانتهج الخ . لأنا نقول كل منهما يريد أن يقطع شغب صاحبه ، وهو إذا تغيب قبل إتمام حججه كما هنا لا ينقطع شغبه ولا سيما إن كان مجلوباً من البادية للحاضرة ، وهذا هو ما يحكم به القضاة اليوم ولم أقف فيه على نص صريح سوى ما لم في شرح اللامية عند قولها : وإن يرد المطلوب دفعاً الخ . من أن النزاع في الأصول لا يحتاج فيه لضامن لأمنها ، لكنه لم يجزم به على أن تعليله بالأمن لايطابق ما هنا من أن المراد خشية عدم الحضور ثم وقفت على ( ز ) عند قول المصنف : وإن تنازع قادرون فبينهم . فوجدته صرح بنحو ما قلناه ، وظاهر النظمأيضاً أنه لا فرق بين قرب البينة وبعدها قال ابن رحال : وبه العمل ولم أقف على هذا العمل لغيره وهو خلاف المنقول من أنه إنما يسجن إن ادعى بينة قريبة وحلف على ذلك وإلاَّ بأن لم يحلف أو بعدت البينة لم يسجن بل يحلف المطلوب في البعيدة ويسرح وللطالب القيام ببينته إن قدمت ، وليس في النظم ما يشعر بالقيدين ، وقد استوفى في اللامية الكلام على المسألة حيث قال :
كبينة قامت بقرب لمدع
فيؤمر مطلوب بأن يتحملا
حميل به بالوجه بالعجز سجنه
وإن بعدت يحلف له أن تحصلا
بذين يمين المدعي إن ما ادعى
من البينات صح باسم وقيل لا
فيمين الطالب شرط في سجن المطلوب في القريبة في تحليفه في البعيدة ، وظاهره أن التسمية شرط فيهما أيضاً وأنه إذا لم يسم البينة فلا يسجنه ولا يحلفه ، لكن تسميتهم في القريبة غير منصوصة فيجب إخراجها من كلامه ، وإذا سماهم ولم يشهدوا أو لم يكونوا عدولاً فلا شيء له وذلك لأنه أراد استحلاف المطلوب مع بقائه على حجته ، فلا يمكن من ذلك إلا على هذا الوجه ، وهذه المسألة تخصص عموم ما تقدم من أنه إذا حلفه ووجد بينة لم يعلمها أو نسيها فله القيام بها أي : ما لم يكن حلفه لبعد بينته وسماها كما هنا ، وتأمل ما في اللامية مع ما في حاشية ابن رحال هنا من أن الذي به العمل في البعيدة تحليف الطالب أن له بينة ويسجن له المطلوب وإلا تسقط بينة الطالب في البعيدة على قول من لا يرى حبسه ، وأنه يحلف ويسرح اه . فهو مخالف لما في اللامية من وجهين ، أحدهما : أن الطالب إذا حلف سجن المطلوب إن لم يأت بكفيل لا أنه يحلف فقط ، وثانيهما أن بينة الطالب لا تسقط وظاهره ولو سماها وما في اللامية أصله في المدونة في الشهادات منها . قال فيها والقرب اليومان والثلاثة ، وهذا إن لم يدع الطالب بينة حاضرة بكالسوق أو ببعض القبائل القريبة وإلاَّ وقف الحاكم المطلوب عنده مقدراً ما يأتي بها ، فإن جاء وإلا خلى سبيله . ابن فتوح : إنما كان له أن يحلف المطلوب على أن يقوم ببينته إن قدمت لأنها بموضع بعيد ويسمى البينة . ابن عرفة : ويعين الموضع خوف أن يعتقد فيما ليس بعيداً أنه بعيد والخوف في المسافة يصير القصير بعيداً اه . أبو الحسن : عند قولها ولو استحلفه تاركاً لها الخ ، ما نصه : ولو أحلفه ولم يرفعه إلى السلطان وله بينة بعيدة الغيبة فله القيام إذا قدمت لأنه لو رفع أمره إلى الحاكم لكان هو الذي يفعل وذلك بخلاف ما لو صالح المطلوب لبعد غيبة البينة لأنه قد رضي بما أخذ فلا قيام له .
تنبيهان . الأول : قال ابن رشد في نوازله ، ونقله ابن عات في طرره : أنه يجب على القاضي أن يعلم الطالب بوجوب الحميل له إن كان مثله يجهل ذلك ، وكذا يجب عليه أن يعلم الحميل بتأخير المطلوب إن حكم القاضي بالتأخير بعد الحلول . انظر المديان من البرزلي .
الثاني : ما جرى به العمل هو إحدى المسائل التي خالف فيها أهل الأندلس ابن القاسم . وثانيها أنهم لا يوجبون الحميل بالحق إلا بالعدلين وهو ما تقدم قريباً في قوله : والشاهد العدل به الضامن الخ . وثالثها من أنكر شيئاً ثم أقرَّ به وأقام بينة بالبراءة لم تنفعه وتقدمت للناظم في قوله : لأنه كذبهم في الأول وبمنزلة من أنكر وديعة ثم أقر بها وأقام بينة بالدفع ، ورابعها الشفعةفيما لا ينقسم وستأتي للناظم حيث قال : والفرن والحمام والرحى انقضا الخ . وأوجبوها أيضاً في الأموال الموظفة ، وهو قول أشهب . وخامسها : أنهم جعلوا الشيء المستحق يدخل في ضمان المستحق وتكون له الغلة ، وهو قول مالك في الموطأ . وعليه اقتصر الناظم في فصل التوقيف . وسادسها : من غاب عن زوجته فحاله في مغيبه حال خروجه في العسر واليسر قاله ابن نافع . ودرج الناظم في هذه النفقات على المقابل حيث قال : فحالة القدوم لابن القاسم الخ . وكذا قال ( خ ) اعتبر حال قدومه . وسابعها : أنهم أوجبوا القسامة مع شهادة غير العدول من اللفيف ، وسيأتي قول الناظم ومالك فيما رواه أشهب ، وقوله أيضاً : أو بكثير من لفيف الشهدا ، وتقدم قوله : ولا اللفيف في القسامة اعتمد الخ . وثامنها : أنهم لم يجيزوا الشهادة على خط الشاهد إلا في الأحباس المعقبة إذا اقترن بها السماع الفاشي ، ودرج الناظم على مقابله حيث قال : وخط عدل مات أو غاب اكتفى الخ . وتاسعها : أنهم تركوا تحلية المشهود عليه وصفته في العقود ، ولعل هذا مع وجود المعرف وإلاَّ فقد تقدم أنه إذا لم تكن معرفة ولا تعريف لا بد من التحلية ، وتأمل قول ( خ ) وميز فيه ما يتميز به من اسم وحرفة وغيرهما الخ . وعاشرها : أنهم لم يجيزوا للوصي أن ينظر على أولاد محجوره إلا بتقديم مستأنف ، وسيأتي للناظم : ونظر الوصي في المشهور الخ . وأنهم أجازوا لبس الحرير في الغزو وأنهم راعوا الكفاءة في النكاح في الحال والمآل وسيأتي قول الناظم : فمع كفء بصداق المثل الخ . وأن ما التزمته المالكة نفسها في الخلع من نفقة ابنها بعد الحولين لازم لها وهو قول المخزومي ، وسيأتي للناظم في الخلع وأنه لا يلزم الإخدام إلا في ذات المال ، وعليه درج ( خ ) بقوله : وإخدام أهله وهو قول ابن الماجشون وأنهم أجازوا الأجرة على تعليم النحو والشعر وهو قول ابن حبيب . وأجازوا بيع كتب الفقه وهو قول أكثر أصحاب مالك ، ودرج على ذلك ( خ ) بقوله وبيع كتبه ، وأجازوا أفعال السفيه الذي لم يول عليه ( خ ) وأفعاله قبل الحجر محمولة على الإجازة عند مالك وسيأتي قول الناظم : وفعل ذو السفه رد كله . وعليه العمل الآن وأنهم أجازوا التفاضل في المزارعة إذا سلما من كراء الأرض بما يخرج منها لأنها كراء لا شركة قاله ابن دينار ، والمعتمد خلافه ( خ ) وقابلها مساوٍ الخ . وهو ظاهر النظم فيما يأتي وأن المزارعة لا تنعقد عندهم إلا بالشروع في العمل قاله ابن كنانة . وعليه عول ( خ ) ودرج الناظم على مقابله حيث قال : ولزمت بالعقد كالإجار الخ . وهو الذي شهره في الشامل ، وأما المسائل التي خالفوا فيها مذهب مالك رحمه الله تعالى فهي ستة أن لا يكتفي باليمين مع الشاهد لظاهر القرآن ، وأن لا يحكموا بالخلطة وهو مذهب الليث ، وأجازوا كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها كالمساقاة والقراض وهو مذهب الليث أيضاً ، وأجازوا غرس الأشجار في المساجد وهو مذهب الأوزاعي ، وقالوا برفع المؤذن صوته في أول الأذان بالتكبيرة وجعلوا في الغنيمة للفارس سهمين وهو قول أبي حنيفة ، لكن القول بعدم الخلطة هو لابن نافع فهو في المذهب ، وكذلك القول بأن للفارس سهمين كما في ( خ ) وعليه فالأنسب ذكر هذين في المسائل قبله ، وإنما احتاجوا لبيان هذه المسائل لقولهم المعول عليه في الفتيا قول ابن القاسم ، لا سيما إن كان في المدونة . وانظر الركن الثاني من أركان القضاء من التبصرة أن من قال القول قول ابن القاسم عند الاختلاف ليس بشيء .
ويَبْرَأُ الحَمِيلُ بالوَجْه مَتَى
أَحْضَرَ مَضْمُوناً لِخَصْمٍ مَيِّتا( ويبرأ الحميل ) فعل وفاعل ( بالوجه ) يتعلق بالحميل ( متى ) اسم شرط ( أحضر ) فعل الشرط ( مضموناً ) مفعول به ( لخصم ) يتعلق بأحضر ( ميتا ) صفة لمضمون وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه ، قال فيها : وإذا مات الغريم برىء حميل الوجه لأن النفس المكفولة قد ذهبت . ابن ناجي : ظاهرها مات في البلد أو في غيبة قربت الغيبة أو بعدت وهو كذلك اه . وعلى هذا درج ( خ ) حيث قال في باب الضمان : إلا أن أثبت عدمه أو موته في غيبته ولو في غير بلده الخ . وهذا هو المذهب وعليه فلا مفهوم لقوله أحضر ، ولا لقوله ميتاً لأن المدار على إثبات الموت أو العدم خلاف ما درج عليه ( خ ) في باب الفلس حيث قال : وحبس لثبوت عسره إن جهل حاله ولم يسئل الصبر له بحميل بوجهه فيغرم إن لم يأت به ، ولو أثبت عدمه أو موته في غيبة الخ . وأحرى أن يبرأ إذا أحضره في السجن أو مريضاً كما مرّ عند قوله : وإن ضمان الوجه جاء مجملاً الخ . وظاهر هذا أنه يبرأ ولو أحضره له في حرم يتعذر إخراجه منه وهو كذلك لأن القاضي يبعث إليه إما أن يخرج أو يوكل وإما أن يحكم عليه فإن توقف الحكم على إحضار ذاته أخرج من الحرم فهو حينئذ بمنزلة المسلم في السجن ، ولهذا قال ناظم العمل :
وضامن مضمونه قد أحضرا
بموضع إخراجه تعذرا
يكفيه ما لم يضمن الإحضار له
بمجلس الشرع بتلك المنزله
وظاهر النظم أنه يبرأ بإحضاره ميتاً ولو بعد الحكم عليه بالغرم ، وليس كذلك بل إذا أحضر حياً أو ميتاً بعد الحكم عليه بالغرامة لا يبرأ وصار غريماً ثانياً بسبب الحكم عليه فيخير الطالب في اتباع أيهما شاء قاله ابن يونس ، فإن غرم الحميل المال ثم أثبت أن الغريم مات قبل الحكم رجع على رب الدين بما أخذ منه كما في المدونة لتبين خطأ الحكم كما أنه إذا أثبت عدمه أي أثبت الآن أنه عند حلول الأجل عديم فإنه يبرأ ولو حكم عليه بالغرم ، فإنه ينقض لتبين خطئه ، وأما لو مات حميل الوجه فالحمالة لا تسقط على المشهور وطلب وارثه بإحضار غريمه إن حل دينه ، وإلاَّ أخذ من تركته قدر الدين ووقف على يد عدل حتى يحل الأجل إن لم يكن وارثهمأموناً وإلا وقف في ذمته قاله اللخمي .
وَأَخَّرُوا السَّائِلَ لِلإرْجَاءِ
كالْيَوْمِ عِنْدَ الحُكْمِ بالأَدَاءِ
( وأخروا ) فعل وفاعل ( السائل ) مفعول ( للإرجاء ) أي التأخير يتعلق بالسائل ( كاليوم ) يتعلق بإرجاء ( عند الحكم ) يتعلق بالسائل ( بالأداء ) يتعلق بالحكم .
إنْ جَاءَ فِي الحالِ بِضَامِنٍ وَإنْ
لَمْ يَأْتِ بالحَمِيلِ بِالمالِ سُجِنْ
( إن ) شرط ( جاء ) فعله ( في الحال ) يتعلق به وكذا قوله ( بضامن ) وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه ( وإن ) شرط ( لم يأت ) فعله ( بالحميل ) يتعلق بيأت ( بالمال ) يتعلق بالحميل ( سجن ) بالبناء للمفعول جواب الشرط وظاهره أنه لا بد من الحميل بالمال سواء كان معلوم الملاء أو ظاهره أو مجهول الحال وهو كذلك لأنه لما سأل التأخير اليوم ونحوه ظهرت قدرته على المال كما في المبسوط فلا يقبل منه حميل إلا به ومحل ذلك في معلوم الملاء إن لم يعرف بالناض وإلاَّ لم يؤخر ( خ ) وإن وعد بالقضاء وسأل تأخيراً كاليوم ونحوه أعطى حميلاً بالمال وإلاَّ سجن كمعلوم الملاء وأجل لبيع عرضه وإن أعطي حميلاً بالمال ، وفي حلفه على عدم الناض تردد وإن علم بالناض لم يؤخر الخ . والرهن كالحميل على ما به العمل كما مرّ قريباً عند قوله : والشاهد العدل الخ . وأدخلت الكاف اليومين فقط على ما في شراح المتن ولمالك في المبسوط يؤخر المليء ثلاثاً وأربعاً وخمساً والتعليل بظهور قدرته على المال الخ ، لا يقتضي أنه إذا سأل التأخير اليوم ونحوه ثم ادعى العدم لا يقبل قوله : وتبطل به بينته لأن غايته أن يكون بمثابة من صالح رجلاً على دين بنقد حال ثم ادعى العدم فإنه يتبع اليوم ونحوه في ذمته وليس صلحه يكذب قوله ولا يبطل بينته بالعدم لأنه يقول : كنت أرجو سلفاً أو هبة من بعض أهلي أو أقاربي ونحو ذلك قاله في الطرر ، وهذا بخلاف ما لو أقر المدين عند المعاملة أو بعدها بالملاء ، ففي ابن فتوح إن كتب الموثقين أن المديان مليء بالحق الذي كتب عليه حسن ، فإن ادعى عدماً لم يصدق وإن قامت له به بينة لأنه كذبها ونحوه في المتيطية قائلاً وبه العمل ، وفي الفشتالي والمعيار إن عدم قبول البينة بالعدم ممن اعترف بالملاء هو المشهور والمعمول به ويسجن أبداً حتى يؤدي دينه أو تبيض عيناه ما لم تقم بينة بطرو آفة أذهبت ماله بسرقة أو نهب أو إحراق .
تنبيه : من معلوم الملاء ما ذكره البرزلي في امرأة تفالست فقال لها غريمها : لك مال في محل كذا آخذه وأسقطت عنك من الدين ثلاثين ديناراً وجدت شيئاً أو لم أجده فلجت في الإنكار وأبت أن تسعفه لما طلب فقال أيوب بن سليمان : لا شيء أدل على لدد هذه المرأة من أن يدعوها غريمها إلى ما قال فتأبى إلا الجحد فيجب حبسها أبداً حتى يكون أحد ثلاثة أوجه : إما أن يكتب إلى رجل ثقة من تلك الناحية ليبحث عنها ، وإما أن تجيب إلى دفع المال ، وإما أن يكشف عن باطنها أهل المعرفة في الناحية التي ذكرها الطالب اه .