كتاب : القواعد في الفقه الإسلامي
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
عِنْدَهُ؛ لاِنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْ أُخْتِهَا، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يُحَرِّمَ الْآبِقَةَ بِعِتْقٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ لاِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ ابْتِدَاءً قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأُخْرَى.
وَمنها: لَوْ اسْتَوْلَى الْعَدُوُّ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ فَإِنْ قُلْنَا مَلَكُوهُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ لَمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّة بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَإِنْ قُلْنَا لَمْ يَمْلِكُوهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ لَمَا مَضَى؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَالضَّائِعِ مِنْ رَبِّهِ.
وَمنها: لَوْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكُفَّارُ فَإِنْ قُلْنَا مَلَكُوهُ، لَمْ يُعْتَقْ وَإِلاَ عَتَقَ.
وَمنها: لَوْ سَبَى الْكُفَّارُ أَمَةً مُزَوَّجَةً بِمُسْلِمٍ فَإِنْ قُلْنَا يَمْلِكُونَهَا فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ؛ لاِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ رَقَبَتَهَا وَمَنَافِعَهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ بُضْعِهَا فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ زَوْجِهَا كَمَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ الْمَسْبِيَّة لِسَبْيِنَا لَهَا لِهَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ عَلَّلَ انْفِسَاخَ الْكَافِرَةِ الْمَسْبِيَّةِ بِالْجَهْلِ بِبَقَاءِ زَوْجِهَا فَيَكُونُ كَالْمَعْدُومِ وَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ انْفِسَاخُ النِّكَاحِ هَاهُنَا وَأَبُو الْخَطَّابِ مَنَعَ مِنْ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِالسَّبْيِ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَمُخَالِفُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ كَالأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ سَوَاءٌ فَأَمَّا الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ فَلاَ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِسَبيهَا لاِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ الْحُرَّةَ بِالسَّبْيِ فَلاَ يَمْلِكُونَ بُضْعَهَا وَفِي مَسَائِلِ ابْنِ هَانِئٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ وَلَهَا زَوْجٌ ثُمَّ اُسْتُنْقِذَتْ تَعُودُ إلَى زَوْجِهَا إنْ شَاءَتْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِالسَّبْيِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ الأَمْوَالِ وَلِهَذَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عَلَى رَأْي فَجَازَ أَنْ تُمْلَكَ بِالاِسْتِيلاَءِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ لاَ سِيَّمَا وَالاِسْتِيلاَءُ سَبَبٌ قَوِيٌّ يَمْلِكُ بِهِ مَا لاَ يَمْلِكُ بِالْعُقُودِ الاِخْتِيَارِيَّةِ وَلِهَذَا يَمْلِكُونَ بِهِ الْمَصَاحِفَ وَالرَّقِيقَ الْمُسْلِمَ وَيَمْلِكُونَ بِهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ عَلَى رِوَايَةٍ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكُوا بِهِ مَنْفَعَةَ بُضْعِ الْحُرَّةِ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إبَاحَةُ وَطْئِهَا لَهُمْ؛ لاِنَّ تَصَرُّفَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ لاَ يُبَاحُ لَهُمْ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا وَعَلَى هَذَا فَلَوْ سَبَوْا أَجِيرًا مُسْتَأْجَرًا لِمُسْلِمٍ انْفَسَخَتْ الإِجَارَةُ أَيْضًا. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْآمِدِيُّ قَوْلَ أَحْمَدَ تَرْجِعُ إلَيْهِ إنْ شَاءَتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إنْ شَاءَتْ تَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ وَطْءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ فِي مَوْضِعٍ آخِر؛ لاِنَّ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ بِحَقٍّ لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ عَلَيْهَا لَزِمَهَا فِي غَيْرِ جِهَتِهِ وَلاَ يَخْفَى بُعْدُ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ كَلاَمِ أَحْمَدَ وَأَنَّ كَلاَمَهُ لاَ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ.
وَمنها: لَوْ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى مُدَبَّرٍ لِمُسْلِمٍ ثُمَّ عَادَ إلَى سَيِّدِهِ فَهَلْ يَبْطُلُ تَدْبِيرُهُ؟ إنْ قُلْنَا إنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لَمْ يَبْطُلْ وَإِنْ قُلْنَا مَلَكُوهُ انْبَنَى عَلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا زَالَ الْمِلْكُ فِيهِ فَهَلْ يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَجَزَمَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بِبُطْلاَنِهِ هَاهُنَا فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلاَ تَبْطُلُ كِتَابَتُهُ؛ لاِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَبْقَى عَلَى كِتَابَتِهِ وَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ؛ لاِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ فِيهِ بِالإِرْثِ وَغَيْرِهِ وَالرَّهْنَ بَاقٍ.
سُؤَالٌ: عِنْدَكُمْ الْكَافِرُ لاَ يَمْلِكُ انْتِزَاعَ مِلْكِ الْمُسْلِمِ بِالشُّفْعَةِ قَهْرًا مَعَ أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فَكَيْفَ يَمْلِكُ عَلَيْهِ قَهْرًا بِغَيْرِ عِوَضٍ؟!
الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لاَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ، عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ بَلْ بِالْحِيَازَةِ إلَى دَارِهِمْ فَعَلَى هَذَا لاَ يَثْبُتُ لَهُمْ تَمَلُّكٌ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْمُخَرَّجَةِ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ فَالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيلاَؤُهُمْ عَلَيْهِ إلاَ بِمَصِيرِ الدَّارِ دَارَ حَرْبٍ فَلاَ مِلْكَ لَهُمْ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ أَيْضًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولاً فَالْمَنْقُولُ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَقَارِ؛ لاِنَّ الْعَقَارَ يَخْتَصُّ بِدَارِ الإِسْلاَمِ وَالْكَافِرَ مُلْتَجِئ إلَيْهَا وَمُسْتَذَمٌّ وَمُتَحَصِّنٌ بِهَا وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بِالأَصَالَةِ فَهُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ الْمَالِكِينَ وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ عَلَى قَوْلٍ مَعَ أَنَّهُ زِيَادَةُ عِمَارَةٍ وَلَيْسَ الْمَوَاتُ مِلْكًا لِمُعَيَّنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يُمَكَّنُ مِنْ انْتِزَاعِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ الْمُعَيَّنِ؟! وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ يُبَاحُ لَهُ مُزَاحَمَةُ الْكَافِرِ فِيمَا ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حَقُّ رَغْبَةٍ، وَإِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْهُ بَعْدَ سَبْقِهِ إلَيْهِ بِالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ اسْتِدْلاَلاً بِالْحَدِيثِ فَكَيْفَ يُمَكَّنُ مِنْ نَقْصِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ وَانْتِزَاعِهِ مِنْهُ قَهْرًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ؟! هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ الاِسْتِدْلاَلِ بِقَوْلِهِ: " وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ " مَعَ أَنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا اسْتَدَلَّ بِهِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ الطَّرِيقِ وَبِالأَمْرِ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
المسألة الثامنة عشرة
المسألة الثَّامِنَةَ عَشَرَة: الْغَنِيمَةُ هَلْ تُمْلَكُ بِالاِسْتِيلاَءِ الْمُجَرَّدِ أَمْ لاَ بُدَّ مَعَهُ مِنْ نِيَّةِ التَّمْلِيكِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ أَنَّهَا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ وَإِزَالَةِ أَيْدِي الْكُفَّارِ عَنْهَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ فِعْلُ الْحِيَازَةِ كَالْمُبَاحَاتِ أَمْ لاَ؟ قَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ: لاَ يُمْلَكُ بِدُونِ احْتِيَازِ الْمِلْكِ وَتَرَدَّدَ فِي الْمِلْكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ هَلْ هُوَ بَاقٍ لِلْكُفَّارِ أَوْ أَنَّ مِلْكَهُمْ انْقَطَعَ عَنْهَا؟ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ فَوَائِدُ عَدِيدَةٌ.منها: جَرَيَانُهُ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ أَجْنَاسًا لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهَا حَوْلٌ بِدُونِ الْقِسْمَةِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لاِنَّ حَقَّ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي جِنْسٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا بِالاِسْتِيلاَءِ بِنَاءً عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِهِ قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ. وَالثَّانِي: لاَ يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْقِسْمَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لاَ يَثْبُتُ فِيهَا بِدُونِ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ لَفْظًا وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لاِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلاِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لاَنْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا بِاحْتِيَازِ التَّمَلُّكِ دُونَ الْقِسْمَةِ إذْ الْقِسْمَةُ مُجَرَّدُهَا لا يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَإِنَّمَا مَأْخَذُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَانِمِينَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ الْمَحْضَةِ وَلِذَلِكَ لاَ يَتَعَيَّنُ حَقُّ أَحَدِهِمْ في شيء منها بِدُونِ حُصُولِهِ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَلاَ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ كَمَا لَوْ كَانَتْ أَصْنَافًا.
وَمنها: لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ رَقِيقًا مِنْ الْمغَنَمِ بَعْدَ ثُبُوتِ رِقِّهِ أَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ عَتَقَ إِنْ كَانَ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ دُونَهُ فَهُوَ كَمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ
الْمَرُّوذِيّ وَابْنِ الْحَكَمِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَقَالَ فِي الْخِلاَفِ لاَ يَعْتِقُ حَتَّى يَسْبِقَ تَمَلُّكَهُ لَفْظًا، وَوَافَقَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَلَكِنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ بِمُجَرَّدِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ الْمَنْصُوصَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْغَنِيمَةُ جِنْسًا وَاحِدًا، وَقَوْلَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا كَانَتْ أَجْنَاسًا كَمَا سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ وَفِي الإِرْشَادِ لاِبْنِ أَبِي مُوسَى إنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ تَعْتِقْ فَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ عَتَقَتْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ السَّبْيِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ عَتَقَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَإِلاَ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ عِتْقًا قَهْرِيًّا كَالإِرْثِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الاِخْتِيَارِيِّ
وَمنها: لَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ لِبَقِيَّةِ الْغَانِمِينَ حُقُوقَهُمْ منها وَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ: لاَ تَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيهَا؛ لاِنَّ حَمْلَهَا بِحُرٍّ يَمْنَعَ بَيْعَهَا وَفِي تَأْخِيرِ قِسْمَتِهَا حَتَّى تَضَعَ ضَرَرٌ عَلَى أَهْلِ الْغَنِيمَةِ فَوَجَبَ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَلاِبِي الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ إنَّمَا نَفَذَ اسْتِيلاَدُهَا لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهَا كَمَا يَنْفُذُ اسْتِيلاَدُ الاِبْنِ فِي أَمَةِ أَبِيهِ دُونَ إعْتَاقِهَا وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَحَكَى فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ احْتِمَالاً آخَرَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْعِتْقِ.
وَمنها: لَوْ أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ قُلْنَا الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ خَاصَّةً، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الاِسْتِيلاَدِ وَإِنْ قُلْنَا لم يثبت الْمِلْكُ فِيهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعهَا.
منها: لَوْ أَسْقَطَ الْغَانِمُ حَقَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلاَفِ فَإِنْ قُلْنَا يَمْلِكُوهَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَقُّ بِذَلِكَ وَإِلاَ سَقَطَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ لِضَعْفِ الْمِلْكِ وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَالتَّرْغِيبِ.
وَمنها: لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالاِحْتِيَازِ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّ حَقَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ وَافَقَ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ الْمَوْرُوثَ هُوَ الْحَقَّ دُونَ الْمَالِ وَفِي التَّرْغِيبِ إنْ قُلْنَا لاَ يَمْلِكُ بِدُونِ الاِخْتِيَارِ فَمَنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَلاَ شَيْءٌ لَهُ وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا يَكْتَفِي بِالْمُطَالَبَةِ فِي مِيرَاثِ الْحَقِّ كَالشُّفْعَةِ.
وَمنها: لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ قُلْنَا قَدْ مَلَكُوهُ لَمْ يُقْبَلْ كَشَهَادَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ وَإِنْ قُلْنَا لَمْ يَمْلِكُوا قُبِلَتْ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَفِي قَبُولِهَا نَظَرٌ، وَإِنْ قُلْنَا لَمْ يَمْلِكُوا؛ لاِنَّهَا شَهَادَةٌ تَجُرُّ نَفْعًا قُلْتُ هَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا وَطِئَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَم وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ السَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَحَدِ الْغَانِمِينَ بِمَالٍ مُطْلَقًا وَهُوَ الأَظْهَرُ.
المسألة التاسعة عشرة
المسألة التَّاسِعَةَ عَشَرَة: الْقِسْمَةُ هَلْ هِيَ إفْرَازٌ أَوْ بَيْعٌ؟ الْمَذْهَبُ أَنَّ قِسْمَةَ الإِجْبَارِ وَهِيَ مَا لاَ يَحْصُلُ فِيهِ رَدُّ عِوَضٍ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ إفْرَازٌ لاَ بَيْعٌ وَذَهَبَ ابْنُ بَطَّةَ إلَى أَنَّهَا كَالْبَيْعِ فِي أَحْكَامِهِ وَحَكَى الْآمِدِيّ رِوَايَتَيْنِ. قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: الَّذِي يَتَحَرَّرُ عِنْدِي فِيمَا فِيهِ رَدُّ أَنَّهُ بَيْعٌ فِيمَا يُقَابِلُ الرَّدَّ، وَإِفْرَازٌ فِي الْبَاقِي لاِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا فِي قِسْمَةِ الطَّلْقِ عَنْ الْوَقْفِ إذَا كَانَ فِيهَا رَدٌّ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْوَقْفِ جَازَ؛ لاِنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ الطَّلْقَ وَإِنْ كَانَ فِي جِهَةِ صَاحِبِ الطَّلْقِ لَمْ يَجُزْ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي كَوْنِهَا إفْرَازًا أَوْ بَيْعًا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ:منها: لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَاشِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ فَاقْتَسَمَاهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَاسْتَدَامَا خُلْطَةَ الأَوْصَافِ فَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ خُرِّجَ عَلَى بَيْعِ الْمَاشِيَةِ بِجِنْسِهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ هَلْ يَقْطَعُهُ أَمْ لاَ؟.
وَمنها: إذَا تَقَاسَمَا وَصَرَّحَا بِالتَّرَاضِي وَاقْتَصَرَا عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَصِحُّ؟ إنْ قُلْنَا هِيَ إفْرَازٌ صَحَّتْ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَكَأَنَّ مَأْخَذَهُمَا الْخِلاَفُ فِي اشْتِرَاطُ الإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِ أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لاَ يَصِحَّ مِنْ الرِّوَايَةِ الَّتِي حكاها فِي التَّلْخِيصِ بِاشْتِرَاطِ لَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْبَيْعِ.
وَمنها: لَوْ تَقَاسَمُوا ثَمَرَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ عَلَى الشَّجَرِ أَوْ الزَّرْعِ الْمُشْتَمِل فِي سُنْبُلِهِ خَرْصًا أَوْ الرِّبَوِيَّاتِ عَلَى مَا يَخْتَارُونَ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَإِنْ قُلْنَا هِيَ إفْرَازٌ جَازَ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ فِي جَوَازِ الْقِسْمَةِ بِالْخَرْصِ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ لَمْ يَصِحَّ وَفِي التَّرْغِيبِ إشَارَةٌ إلَى خِلاَفٍ فِي الْجَوَازِ مَعَ الْقَوْلِ بِالإِفْرَازِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَاسَمُوا الثَّمَرَ عَلَى الشَّجَرِ قَبْلَ صَلاَحِهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ فَيَجُوزُ عَلَى الْقَوْلِ بِالإِفْرَازِ دُونَ الْبَيْعِ.
وَمنها: لَوْ كَانَ بَعْضُ الْعَقَارِ وَقْفًا وَبَعْضُهُ طَلْقًا وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ جَازَتْ إنْ قُلْنَا هِيَ إفْرَازٌ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ؛ لاِنَّهُ بَيْعٌ لِلْوَقْفِ فَأَمَّا إنْ كَانَ الْكُلُّ وَقْفًا فَهَلْ يَجُوزُ قِسْمَتُهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَإِفْرَازِ الطَّلْقِ مِنْ الْوَقْفِ سَوَاءٌ وَهُوَ الْمَجْزُومُ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ قِسْمَتُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الأَصَحِّ وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّرْغِيبِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا إذَا كَانَ وَقْفًا عَلَى جِهَتَيْنِ لاَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ نَقَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
وَمنها: قِسْمَةُ الْمَرْهُونِ كُلِّهِ أَوْ نِصْفِهِ مُشَاعًا إنْ قُلْنَا هِيَ إفْرَازُ صَحَّتْ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ لَمْ تَصِحَّ وَلَوْ اسْتَقَرَّ بِهَا الْمُرْتَهِنُ فَإِنْ رَهَنَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ حَقٍّ مُعَيَّنٍ مِنْ دَارٍ ثُمَّ اقْتَسَمَا فَحَصَلَ الْبَيْتُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالإِفْرَازِ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَمنها: إذَا اقْتَسَمَا أَرْضًا فَبَنَى أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَغَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الأَرْضُ يُقْلَعُ غَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ، فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ إفْرَازٌ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْقَبْضِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ دُونَهُ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي وَجَزَمَ الْقَاضِي بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ.
وَمنها: ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهَا وَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: يَنْبَنِي عَلَى الْخِلاَفِ وَإِنْ قُلْنَا إفْرَازٌ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا خِيَارٌ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ ثَبَتَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْفُصُولِ وَالتَّلْخِيصِ وَفِيهِ مَا يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْخِلاَفِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَلاَ يَثْبُتُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّانِي: يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ قَالَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ مُعَلِّلاً بِأَنَّ ذَلِكَ جَعَلَ للارتياء فِيمَا فِيهِ الْحَظّ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قِسْمَةَ التَّرَاضِي إفْرَازٌ؛ لاِنَّ قِسْمَةَ الإِجْبَارِ لاَ مَعْنَى لِثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهَا إذْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَمْلِكُ الإِجْبَارَ فَلاَ يَقَعُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي فَسْخِهَا وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ حَيْثُ وَجَبَتْ الْقِسْمَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لاَزِمَةً؛ لاِنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ فَسَخَهَا كَانَ لِلْآخَرِ مُطَالَبَتُهُ بِإِعَادَتِهَا فَلاَ فَائِدَةَ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْقِسْمَةُ تَقَرَّرَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ وَلاَ سِيَّمَا إنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ شَرِيكِهِ مُضَارَّةً. قُلْت وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ رَجْعِيًّا ثُمَّ ارْتَجَعَ مِنْ غَيْرِ يَسَارٍ تَحَدَّدَ لَهُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ رَجَعْتُهُ لَمَا فِيهِ مِنْ إعَادَةِ الضَّرَرِ الَّذِي أَزَلْنَاهُ بِالطَّلاَقِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلَّةِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي: لَهُ الرَّجْعَةُ فَإِذَا ارْتَجَعَ عَادَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فَإِنْ طَلَّقَ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الطَّلاَقَ الثَّلاَثَ وَأَخَذَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْمُولِي عَلَيْهِ إذَا طَلَّقَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ بَعْدَ طَلَبِ الْفَيْئَةِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا فَإِنْ لَهُ رَجْعَتَهَا وَيُطَالِبُ بِالْفَيْئَةِ ثَانِيًا وَالْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ رَجْعَةَ الْمُوَلَّى أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ مَقْصُودِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْفَيْئَةِ مِنْ حَالِ الْعِدَّةِ الْجَارِيَةِ إلَى الْبَيْنُونَةِ بِخِلاَفِ رَجْعَةِ الْمُعْسِرِ وَلَكِنْ لاَ يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ التَّمْكِينُ مِنْ فَسْخِ قِسْمَةِ الإِجْبَارِ هُنَا؛ لاِنَّ الضَّرَرَ فِي الطَّلاَقِ لاَ يَتَأَبَّدُ؛ لاِنَّهُ مَحْدُودٌ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ بِخِلاَفِ ضَرَرِ الْفَسْخِ هُنَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الْمُوَلَّى إذَا طَلَّقَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الرَّجْعَةِ إلاَ بِشَرْطِ أَنْ يَفِيءَ؛ لاِنَّ أَصْلَ الرَّجْعَةِ إنَّمَا أَبَاحَهَا اللَّهُ لِمَنْ أَرَادَ الإِصْلاَحَ فَكَيْفَ بِالْمُوَلِّي الَّذِي يُظْهِرُ منه قَصْدَ الإِضْرَارِ فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ الرَّجْعَةِ بِدُونِ شَرْطِ الْفَيْئَةِ؛ لاِنَّ ارْتِجَاعَهُ زِيَادَةٌ فِي الإِضْرَارِ وَذَكَرَ فِي الْكَافِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا إنْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَلْزَمْ الْقِسْمَةُ إلاَ بِتَرَاضِيهِمَا وَتَفَرُّقِهِمَا كَالْبَيْعِ وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ أَوْ قَاسَمَهُ أوعَدْلٌ عَالِمٌ نَصَّفَاهُ بَيْنَهُمَا لَزِمَتْ قِسْمَتُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا إلاَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا رَدٌّ فَوَجْهَانِ، نَظَرًا إلَى أَنَّهَا بَيْعٌ فَيَقِفُ عَلَى الرِّضَاءِ وَإِلَى أَنَّ الْمُقَاسِمَ كَالْحَاكِمِ وَقُرْعَتُهُ كَحُكْمِهِ.
وَمنها: ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ فِيهَا وَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلاَفِ فَإِنْ قُلْنَا إفْرَازٌ لَمْ يَثْبُتْ وَإِلاَ ثَبَتَ
وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ فِي بَابِ الرِّبَا. وَالثَّانِي: لاَ يُوجِبُ الشُّفْعَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ قَالَهُ الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ؛ لاِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لاِحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَثَبَتَ للآخَرُ عَلَيْهِ فَيَتَنَافيَانِ.
وَمِنْهُا: قِسْمَةُ الْمُتَشَارِكَيْنِ فِي الْهَدْيِ وَالأَضَاحِيّ اللَّحْمَ، فَإِنْ قُلْنَا إفْرَازٌ جَازَتْ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الأَصْحَابِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَبِيعُ فَقَاسَمَ فَإِنْ قُلْنَا الْقِسْمَةُ بَيْعٌ حَنِثَ وَإِلاَ فَلاَ ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ وَقَدْ يُقَالُ الأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَلاَ تُسَمَّى الْقِسْمَةُ بَيْعًا فِي الْعُرْفِ فَلاَ يَحْنَثُ بِهَا وَلاَ بِالْحَوَالَةِ وَلاَ بِالإِقَالَةِ وَإِنْ قِيلَ هِيَ بُيُوعٌ.
وَمنها: لَوْ اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ الْعَقَارَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ فَإِنْ قُلْنَا هِيَ إفْرَازٌ فَالْقِسْمَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلاَفِ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ وَقَدْ سَبَقَ.
وَمنها: لَوْ ظَهَرَ فِي الْقِسْمَةِ غَبْنٌ فَاحِشٌ فَإِنْ قُلْنَا هِيَ إفْرَازٌ لَمْ يَصِحَّ لِتَبَيُّنِ فَسَادِ الإِفْرَازِ، وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ صَحَّتْ وَثَبَتَ فِيهَا خِيَارُ الْغَبْنِ ذَكَرَهُ فِي التَّرْغِيبِ وَالْبُلْغَةِ.
وَمنها: لَوْ اقْتَسَمَا دَارًا نِصْفَيْنِ ظَهَرَ بَعْضُهَا مُسْتَحَقًّا فَإِنْ قُلْنَا الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ انْتَقَضَتْ الْقِسْمَةُ لِفَسَادِ الإِفْرَازِ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ لَمْ يُنْتَقَضْ وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ فِي الْمُسْتَحَقِّ كَمَا إذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا فَبَانَ بَعْضُهَا مُسْتَحَقًّا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَفِي الْمُحَرَّرِ إنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا وَهُوَ فِي الْحِصَّتَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بِحَالِهَا وَلَمْ يَحْكِ خِلاَفًا وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَافِي احْتِمَالاً بِالْبُطْلاَنِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إذَا قُلْنَا هِيَ بَيْعٌ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا فِي إحْدَى الْحِصَّتَيْنِ أَوْ شَائِعًا فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ. فِي الْمُحَرَّرِ أَحَدُهَا: تَبْطُلُ. وَالثَّانِي: لاَ تَبْطُلُ، وَالثَّالِثُ تَبْطُلُ بِالإِشَاعَةِ فِي أَحَدَيْهِمَا خَاصَّةً، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي وَالأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ مَعَ قَوْلِهِمَا بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: وَالْوَجْهَانِ الأَوَّلاَنِ فَرْعٌ عَلَى قَوْلِنَا بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْمَبِيعِ فَأَمَّا إنْ قُلْنَا: لاَ تَفْرِيقَ هُنَاكَ بَطَلَتْ هَاهُنَا وَجْهًا وَاحِدًا وَفِي الْبُلْغَةِ إذَا ظَهَرَ بَعْضُ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا مُسْتَحَقًّا انْتَقَضَتْ الْقِسْمَةُ وَإِنْ ظَهَرَتْ حِصَّتُهَا عَلَى اسْتِوَاءِ النِّسْبَةِ وَكَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يُنْتَقَضْ وَإِذَا عَلَّلْنَا بِفَسَادِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِالْجَهَالَةِ، وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ باشتمالها عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ بَطَلَتْ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَشَاعًا انْتَقَضَتْ الْقِسْمَةُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَمنها: إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ وَقُلْنَا: لَهَا السُّكْنَى فَأَرَادَ الْوَرَثَةُ قِسْمَةَ الْمَسْكَنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِهَا بِأَنْ يُعْلِمُوا الْحُدُودَ بِخَطٍّ أَوْ نَحْوِهِ بِغَيْرِ نَقْصٍ وَلاَ بِنَاءٍ فَفِي الْمُغْنِي يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْقِسْمَةِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَسْكَنِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ
الْمُسْتَثْنَاةِ فِيهِ حُكْمًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا يُغْتَفَرُ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَتَى قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعٌ، وَإِنَّ بَيْعَ هَذَا الْمَسْكَنِ يَصِحُّ لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ.
وَمنها: قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي ذِمَمِ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ قُلْنَا الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ صَحَّتْ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ لَمْ تَصِحَّ وَقَدْ حَكَى الأَصْحَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا الْبِنَاءُ مُتَوَجَّهٌ عَلَى طَرِيقِهِ مَنْ طَرَدَ الْخِلاَفَ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي كَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى دُخُولِ الإِجْبَارِ فِي قِسْمَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْغُرَمَاءِ الْمُتَقَارِبِينَ فِي الْمَلاَءَةِ؛ لاِنَّ الذِّمَمَ عِنْدَنَا تَتَكَافَأُ بِدَلِيلِ الإِجْبَارِ عَلَى قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَلِيِّ وَخَصَّ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ الرِّوَايَتَيْنِ بِمَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ لَمْ تَصِحَّ قِسْمَتُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَيَشْهَدُ لِقَوْلِهِ أَنَّ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ قَالَ: إذَا قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ اخْتَصَّ بِمَا قَبَضَهُ وَفَرَّقَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَيْنَ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِعَقْدٍ فَيَخْتَصُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنٍ وَبَيْنَ الثَّابِتِ بِإِرْثٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَخْتَصُّ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَلَى الاِشْتِرَاكِ فِي ثَمَنِ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَنَصَّ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى جَوَازِ الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي فِي الذِّمَّةِ الْوَاحِدَةِ وَسَلَكَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي تَوْجِيهِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةً ثَانِيَةً وَهِيَ أَنَّ قَبْضَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ هَلْ هُوَ قِسْمَةٌ لِلدَّيْنِ أَوْ تَعْيِينٌ لِحَقِّهِ بِالأَخْذِ كَالإِبْرَاءِ فَإِنْ قُلْنَا هُوَ قِسْمَةٌ لَمْ يَجُزْ لاِحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ بِالْقَبْضِ فَإِنْ أَذِنَ الشَّرِيكُ فِيهِ فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَنْفَرِدُ بِهِ الْقَابِضُ؛ لاِنَّ الْحَقَّ لِشَرِيكِهِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ. وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لاِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ فَلاَ يَنْفُع إذْنُهُ فِي قَبْضِ الأَعْيَانِ. وَفِيهِ ضَعْفٌ فَإِنْ الأَعْيَانَ هِيَ مُتَعَلَّقُ حَقِّهِ وَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ حُقُوقُ غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ بِمَالِهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ الْقَبْضُ قِسْمَةً جَازَ؛ لاِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي الذِّمَّةِ وَلاَ يَنْتَقِلُ إلَى الْعَيْنِ إلاَ بِقَبْضِ الْغَرِيمِ أَوْ وَكِيلِهِ فَقَبْضُ الشَّرِيكِ تَعَيَّنَ لِحَقِّهِ لاَ غَيْرَ فَيَخْتَصُّ بِهِ دُونَ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ أَوْ بِدُونِهِ. وَكَذَلِكَ حَكَى صَاحِبُ الْمُغْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَذَكَرَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَقَدْ أَنْكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ.
وَيَتَوَجَّهُ عِنْدِي فِي تَوْجِيهِ الرِّوَايَتَيْنِ طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا قَبَضَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّمَا قَبَضَ حَقَّهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ دُونَ شَرِيكِهِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الاِسْتِحْقَاقِ كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ فَإِذَا قَبَضَ بِدُونِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَهَلْ لِشَرِيكِهِ مُقَاسَمَتُهُ فِيمَا قَبَضَهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَوَجْهُ الْمُحَاصَّةِ الْقِيَاسُ عَلَى قَبْضِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مِنْ الأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ بِدُونِ قِسْمَةٍ كَالْمَوَارِيثِ أَوْ مِنْ الأَعْيَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا حُقُوقُهُمْ كَمَالِ الْمُفْلِسِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْمُحَاصَّةِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الدَّيْنِ كُلِّهِ حَقٌّ لِلْقَابِضِ وَلِهَذَا لَوْ أُتْلِفَ فِي يَدِهِ كَانَ مِنْ نَصِيبِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا بِخِلاَفِ الْقَبْضِ مِنْ الأَعْيَانِ فَعَلَى هَذَا الرِّوَايَةِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْبِضَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ أَوْ بِدُونِهِ وَعَلَى الْأُولَى إنْ قَبَضَ بِإِذْنِهِ فَهَلْ لَهُ مُحَاصَّةٌ فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ لاِنَّ حَقَّهُ فِي الْمُحَاصَّةِ إنَّمَا ثَبَتَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
ٍيُقَالُ: التَّرَاضِي بِقَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَ الدَّيْنِ قِسْمَةً لَهُ؛ لاِنَّ الْقِسْمَةَ فِي الأَعْيَانِ تَقَعُ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَالأَقْوَالِ فِي الْمَنْصُوصِ فَكَذَا فِي الدُّيُونِ وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ بَعْضُهُ عَيْنًا وَبَعْضُهُ دَيْنًا فَأَخَذَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ الْعَيْنَ وَبَعْضُهُمْ الدَّيْنَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: لاَ يَكُونُ إلاَ فِي الْمِيرَاثِ وَخَرَّجَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ الْغَرِيمِ؛ لاِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ بِغَيْرِ خِلاَفٍ عِنْدَهُ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَدْ يَطَّرِدُ فِيهَا الْخِلاَفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمنها: قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ الْمِثْلِيِّ مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الإِذْنِ بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقَوَاعِدِ وَالْوَجْهَانِ عَلَى قَوْلِنَا الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ فَإِنْ قُلْنَا هِيَ بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا فَأَمَّا غَيْرُ الْمِثْلِيِّ فَلاَ يُقْسَمُ إلاَ مَعَ الشَّرِيكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ وَالْحَاكِمِ.
وَمنها: لَوْ اقْتَسَمَا دَارًا فَحَصَلَ الطَّرِيقُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ مَنْفَذٌ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّر: تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَخَرَّجَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيهِ وَجْهًا آخِر أَنَّهَا تَصِحُّ وَيَشْتَرِكَانِ فِي الطَّرِيقِ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي مَسِيلِ الْمَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ فِي الْقَوَاعِدِ وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ بَطَلَتْ وَإِنْ قُلْنَا بَيْعٌ صَحَّتْ وَلَزِمَ الشَّرِيكَ تَمْكِينُهُ مِنْ الاِسْتِطْرَاقِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الأَصْحَابِ إذَا بَاعَهُ بَيْتًا مِنْ وَسَطِ دَارِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقًا صَحَّ الْبَيْعُ وَاسْتُتْبِعَ طَرِيقُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الاِسْتِطْرَاقَ فِي الْقِسْمَةِ صَحَّ. قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: هَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِنَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَمَرِّ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ مِمَّا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ فَاشْتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو طَعَامًا مَشَاعًا وَقُلْنَا يَحْنَثُ بِالأَكْلِ مِنْهُ فَتَقَاسَمَاهُ ثُمَّ أَكَلَ الْحَالِفُ مِنْ نَصِيبِ عَمْرٍو فَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ؛ لاِنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ لاَ بَيْعٌ وَهَذَا لاَ يَقْضِي أَنَّهُ يَحْنَثُ إذَا قُلْنَا هِيَ بَيْعٌ وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا؛ لاِنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا اشْتَرَاهُ ويحنث عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِأَكْلِ مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَلَوْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَفِي الْمَعْنَى احْتِمَالٌ لاَ يَحْنَثُ هُنَا، وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّج أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ إذَا قُلْنَا الْقِسْمَةُ بَيْعٌ. وَنَخْتِمُ هَذِهِ الْفَوَائِدَ بِذِكْرِ فَائِدَتَيْنِ بَلْ قَاعِدَتَيْنِ يَكْثُرُ ذِكْرُهُمَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَانْتَشَرَت فُرُوعُهُمَا انْتِشَارًا كَثِيرًا وَنَذْكُرُ ضَوَابِطهمَا وَأَقْسَامَهُمَا.
المسألة العشرون
المسألة الْعِشْرُونَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: التَّصَرُّفَاتُ لِلْغَيْرِ بِدُونِ إذْنِهِ هَلْ تَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ أَمْ لاَ؟ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَتَحْتهَا أَقْسَامٌ:الْقِسْمُ الأَوَّلُ: أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ وَيَتَعَذَّرُ اسْتِئْذَانُهُ إمَّا لِلْجَهْلِ بِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ وَمَشَقَّةِ انْتِظَاره فَهَذَا التَّصَرُّفُ مُبَاحٌ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِجَازَةِ وَهُوَ فِي الأَمْوَالِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى إذْنِ حَاكِمٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي الإِبْضَاعِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ غَيْرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ أَيْضًا وَفِي افْتِقَارِهِ إلَى الْحَاكِمِ خِلاَفٌ، فَأَمَّا الأَمْوَالُ فَكَالتَّصَرُّفِ بِاللُّقَطَةِ الَّتِي لاَ تُمْلَكُ وَكَالتَّصْدِيقِ بِالْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ الَّتِي لاَ تُعْرَفُ رَبُّهَا أَوْ انْقَطَعَ خَبَرُهُ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقَوَاعِدِ اسْتِقْصَاءُ هَذَا النَّوْعِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ وَقَعَ لَهُ أَجْرُهُ وَإِلاَ ضَمِنَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَكَانَ أَجْرُهُ لَهُ صَرَّحَ بِهِ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَأَمَّا الإِبْضَاعُ فَتَزْوِيجُ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ إذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ ظَاهِرُهَا الْهَلاَكُ فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ وَتُبَاحُ لِلْأَزْوَاجِ وَفِي تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ رِوَايَتَانِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَأْخَذِهِمَا فَقِيلَ؛ لاِنَّ أَمَارَاتِ مَوْتِهِ ظَاهِرَةٌ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ حُكْمًا وَقِيلَ بَلْ لاِنَّ انْتِظَارَهُ يَعْظُمُ بِهِ الضَّرَرُ عَلَى زَوْجَتِهِ فَيُبَاحُ لَهَا فَسْخُ نِكَاحِهِ كَمَا لَوْ ضَارَّهَا بِالْغَيْبَةِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْقُدُومِ مَعَ الْمُرَاسَلَةِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ يَنْبَنِي أَنَّ الْفُرْقَةَ هَلْ تَبْطُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَطْ وَتَبْنِي الاِخْتِلاَف فِي طَلاَقِ الْمُوَلَّى لَهَا وَلَهُ، مَأْخَذٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الأَظْهَرُ وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ هُنَا إلَى التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ مِنْ بُضْعِ الزَّوْجَةِ بِالْفَسْخِ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الْفَسْخُ وَيُزَوِّجُهَا بِغَيْرِهِ ابْتِدَاءً لِلْحَاجَةِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَالأَمْرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَ فَإِنْ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا قَدِمَ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لاَ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى هَذَا التَّصَرُّفِ ابْتِدَاءً بَلْ إلَى صِحَّتِهِ وَتَنْفِيذِهِ بِأَنْ تَطُولَ مُدَّةُ التَّصَرُّفِ وَتَكْثُرَ وَيَتَعَدَّدَ اسْتِرْدَادُ أَعْيَانِ أَمْوَالِهِ فَللأَصْحَاب فِيهِ طَرِيقَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْخِلاَفِ الْآتِي ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنْفِذُهَا هُنَا بِدُونِ إجَازَةٍ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمَالِكِ بِتَفْوِيتِ الرِّبْحِ وَضَرَرِ الْمُشْتَرِي بِتَحْرِيمِ مَا قَبَضُوهُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَلاَ دَوَامًا فَهَذَا الْقِسْمُ فِي بُطْلاَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ أَصْلِهِ وَوُقُوفِهِ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ وَتَنْفِيذِهِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِتَصَرُّفِ الشَّخْصِ فِي مَالِ غَيْرِهِ حَالَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ لِمَالِكِهِ فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلاَفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ نَائِبٌ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالإِجَارَةِ وَنَحْوهمَا. وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: إجْرَاؤُهُ عَلَى الْخِلاَفِ وَهُوَ مَا قَالَ الْقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: الْجَزْمُ بِبُطْلاَنِهِ قَوْلاً وَاحِدًا وَهُوَ طَرِيقُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ أَجَازَ الْوَلِيُّ لَمْ يَنْفُذْ بِغَيْرِ خِلاَفٍ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، نَعَمْ! لَوْ زَوَّجَ غَيْرُ الأَبِ مِنْ الأَوْلِيَاءِ الصَّغِيرَةَ بِدُونِ إذْنِهَا أَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْكَبِيرَةَ بِدُونِ إذْنِهَا فَهَلْ يَبْطُلُ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ يَقِف عَلَى إجَازَتِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي مُوسَى.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَة ) أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الْغَاصِبُ وَمَنْ يَتَمَلَّكُ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ فَيُجِيزُهُ لَهُ الْمَالِكُ فَأَمَّا الْغَاصِبُ فَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ الْحُكْمِيَّةِ رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: الْبُطْلاَنُ. وَالثَّانِيَةُ: الصِّحَّةُ قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ كَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ هَذَا الْخِلاَفَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْوَقْفِ عَلَى الإِجَازَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِهَا كَالْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ كَلاَمِهِمَا فَإِنْ أُرِيدَ بِالصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ عَلَى الإِجَازَةِ وُقُوع التَّصَرُّفِ مِنْ الْمَالِكِ وَإِفَادَةِ ذَلِكَ لِلْمَالِكِ لَهُ فَهُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَإِنْ أُرِيدَ الْوُقُوع لِلْغَاصِبِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ فَفَاسِدٌ قَطْعًا فِي صُورَةِ شِرَائِهِ فِي الذِّمَّةِ إذَا نَفَذَ الْمَالُ مِنْ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ فِيهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَلاَ يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُنَا: إنْ الرِّبْحَ لِلْمَالِكِ؛ لاِنَّهُ فَائِدَةُ مَالِهِ وَيَلْزَمُهُ فَيَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ.
وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عَنْ مَالِهِ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقَعُ بَاطِلاً وَيُحكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَجْزَأَتْهُ وَإِلاَ فَلاَ.
وَمنها: لَوْ تَصَدَّقَ الْغَاصِبُ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لاَ تَقَعُ الصَّدَقَةُ لَهُ وَلاَ يُثَابُ عَلَيْهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلاَ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ " وَلاَ يُثَابُ الْمَالِكُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِعَدَمِ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ وَنَقَلَ نَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يُثَابُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَرَجَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا هَذَا الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ فَيُؤْجَرُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ كَمَا يُؤْجَرُ عَلَى الْمَصَائِبِ الَّتِي تُولِدُ لَهُ خَيْرًا وَعَلَى عَمَلِ وَلَدِهِ الصَّالِحِ وَعَلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ مِنْ زَرْعِهِ وَثِمَارِهِ.
وَمنها: لَوْ غَصَبَ شَاة فَذَبَحَهَا لِمُتْعَتِهِ أَوْ قِرَانِهِ مَثَلاً فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ؛ لاِنَّ أَصْلَ الذَّبْحِ لَمْ يَقَعْ على قُرْبَةٍ مِنْ الاِبْتِدَاءِ فَلاَ يَنْقَلِبُ قُرْبَةً بَعْدَهُ كَمَا لَوْ ذَبَحَهَا لِلَحْمِهَا ثُمَّ نَوَى بِهَا الْمُتْعَةَ، وَحَكَى الأَصْحَابُ رِوَايَةً مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ كَالزَّكَاةِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ فَلاَ تُجْزِيهِ وَبَيْنَ أَنْ يَظُنَّهَا لِنَفْسِهِ فَتُجْزِيهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وسندي وَسَوَّى كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ بَيْنَهُمَا فِي حِكَايَةِ الْخِلاَفِ وَلاَ يَصِحُّ.
وَمنها: لَوْ أَنْكَحَ الأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ وَفِي وَقْفِهِ عَلَى الإِجَازَةِ الْخِلاَفُ، وَعَلَى طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى هُوَ بَاطِلٌ قَوْلاً وَاحِدًا وَيَبْعُدُ هَاهُنَا الْقَوْلُ بِنُفُوذِهِ مُطْلَقًا بِدُونِ إجَازَةٍ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ السُّنَّةِ وَلِنُصُوصِ أَحْمَدَ الْمُتَكَاثِرَةِ وَأَمَّا مَنْ يَتَمَلَّكُ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيُجِيزُهُ الِمَالِك فَهُوَ شَبِيهٌ بِتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ الْمَحْضِ فَيُخَرَّجُ عَلَى الْخِلاَفِ فِيهِ. وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا إذَا قَالَ عَبْدُ فُلاَنٍ حُرٌّ فِي مَالِي فَأَجَازَهُ الْمَالِكُ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَجْهًا بِنُفُوذِهِ بِالإِجَازَةِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: التَّصَرُّفُ لِلْغَيْرِ فِي الذِّمَّةِ دُونَ الْمَالِ بِغَيْرِ وِلاَيَةٍ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ فَفِيهِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ وَإِنْ كَانَ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ فَطَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ الْخِلاَفِ أَيْضًا قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي الاِنْتِصَارِ. وَالثَّانِي: الْجَزْمُ بِالصِّحَّةِ هَاهُنَا قَوْلاً وَاحِدًا ثُمَّ إِنْ أَجَازَهُ الْمُشْتَرِيَ لَهُ مَلَكُهُ وَإِلاَ لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَالأَكْثَرِينَ وَقَالَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَابْنُ عَقِيلٍ يَصِحُّ بِغَيْرِ خِلاَفٍ لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ رَدِّ الْمُشْتَرِي لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَاخْتَلَفَ الأَصْحَابُ هَلْ تَفْتَقِرُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يُسَمَّى الْمُشْتَرَى لَهُ فِي الْعَقْدِ أَمْ لاَ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا، مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ سَمَّاهُ فِي الْعَقْدَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ فِي غَالِبِ ظَنِّي وَابْنُ الْمُنَى وَهُوَ مَفْهُومُ كَلاَمِ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ فِيهِ مُخَالَفَةُ الإِذْنِ وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَحْصُلُ مُخَالَفَةُ الإِذْنِ عَلَى وَجْهٍ يَرْضَى بِهِ عَادَةً بِأَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ أَوْلَى بِالرِّضَا بِهِ مِنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِحُّ اعْتِبَارًا فِيهِ بِالإِذْنِ الْعُرْفِيِّ
وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ: مَا لَوْ قَالَ له بِعْهُ بِمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِثَمَانِينَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِمِائَةٍ فَاشْتَرَى لَهُ بِثَمَانِينَ.
وَمنها: لَوْ قَالَ لَهُ بِعْهُ بِمِائَةٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ نَقْدًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ.
وَمنها: لَوْ قَالَ بِعْ هَذِهِ الشَّاة بِدِينَارٍ فَبَاعَهَا بِدِينَارٍ وَثَوْبٍ أَوْ ابْتَاعَ شَاةً وَثَوْبًا بِدِينَارٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ الْمَذْهَبُ ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالاً أَنَّهُ يَبْطُلُ فِي الثَّوْبِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الشَّاةِ لاِنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
وَمنها: لَوْ أَمَرَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاة بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ بِالدِّينَارَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِينَارًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِذَلِكَ فَإِنْ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدُونِ إذْنِهِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُخَرَّجُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ. وَالثَّانِي: وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ لِخَبَرِ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ وَلاِنَّ مَا فَوْقَ الشَّاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَصَارَ مَوْكُولاً إلَى نَظَرِهِ وَمَا يَرَاهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ التَّصَرُّفُ مُخَالِفًا لِلْإِذْنِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَرْضَى بِهِ الْآذِنِ عَادَةً مِثْلُ مُخَالَفَةِ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ فِي صَفْقَةِ الْعَقْدِ دُونَ أَصْلِهِ كَأَنْ يَبِيعَ الْمُضَارِبُ نَسْئًا عَلَى قَوْلِنَا بِمَنْعِهِ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَ الْوَكِيلُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَ نَسْأً أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ بِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي الْحُكْمِ فَلِلْأَصْحَابِ هَاهُنَا طُرُقٌ. أَحَدُهَما: أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَكُونُ الْمُتَصَرِّفُ ضَامِنًا لِلْمَالِكِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الثَّمَنِ؛ لاِنَّ التَّصَرُّفَ هُنَا مُسْتَنَدُ أَصْلِهِ إلَى إذْنٍ
صَحِيحٍ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْمُخَالَفَةُ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِأَصْلِ الإِذْنِ وَيَضْمَنُ الْمُخَالِفُ لِمُخَالَفَتِهِ فِي صِفَتِهِ وَعَلَى هَذَا فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْوَكِيلُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَبْطَلَهُ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ كَصَاحِبِ الْمُغْنِي وَالسَّامِرِيِّ وَلاَ فَرْقَ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لاَ عَلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَنْصُورٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ التَّسْمِيَةَ لِمُخَالَفَةِ صَرِيحِ الإِذْنِ بِخِلاَفِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا خَالَفَ دَلاَلَةَ الْعُرْفِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي فُصُولِهِ وَفَرَّقَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ بَيْنَ الْبَيْعِ نَسْأً وَبِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ فَأَبْطَلَهُ فِيهِمَا بِخِلاَفِ نَقْصِ الثَّمَنِ وَزِيَادَتِهِ وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي النَّسَأ وَغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَد وَقَعَتْ فِي جَمِيعِ الْعَقْدِ وَفِي النَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ فِي بَعْضِهِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَة: أَنَّ فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الصِّحَّةُ وَالضَّمَانُ وَالثَّانِيَة: الْبُطْلاَنُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَحَّحَا رِوَايَةَ الْبُطْلاَنِ وَتَأَوَّلاَ رِوَايَةَ الضَّمَانِ عَلَى بُطْلاَنِ الْعَقْدِ وَأَنَّ الْعَيْنَ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَيَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّمَنَ وَيَضْمَنُ الْمُشْتَرِي مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مِنْ الثَّمَنِ. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ كَلاَمِ أَحْمَدَ وَحَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ تجعله كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ سَوَاءٌ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي الْوَقْفِ هَاهُنَا عَنْ الإِجَارَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ لاِصْلِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الْبُطْلاَنِ هَاهُنَا وَجَعَلَهُ كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ الْمَحْضِ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَالِحٍ فِيمَنْ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا فَخَالَفَهُ كَانَ ضَامِنًا فَإِنْ شَاءَ الَّذِي أَعْطَاهُ ضَمِنَهُ وَأَخَذَ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْمَالِ عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِي وَهَذَا نَصٌّ لِلْوَقْفِ بِالْمُخَالَفَةِ إلاَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمُخَالِفَةِ بِالصِّفَةِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ إذَا لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الثَّمَنَ وَلاَ عَيَّنَ النَّقْدِ النَّقْدَ رِوَايَتَانِ الْبُطْلاَنُ كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَالصِّحَّةُ. وَلاَ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ شَيْئًا؛ لاِنَّ إطْلاَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْبَيْعَ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ وَأَيّ نَقْدٍ كَانَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَاهِيَةِ الْكُلِّيَّةِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا وَالْبَيْعُ نَسْأً كَالْبَيْعِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ سَلَكَهَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهِيَ بَعِيدَةٌ جِدًّا لِمُخَالَفَتِهِ لِمَنْصُوصِ أَحْمَدَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُخَالَفَةِ فِي الْمَهْرِ فَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَهْرٍ سَمَّتْهُ فَزَوَّجَهَا بِدُونِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَحَكَى الأَصْحَابُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَسْقُطُ الْمُسَمَّى وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَكَذَا لَوْ لَمْ يُسَمَّ الْمَهْرُ فَإِنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الأَبُ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِي عَقْدِهِ سِوَى الْمُسَمَّى وَلَوْ لَمْ تَأْذَنْ فِيهِ أَوْ طَلَبَتْ تَمَامَ الْمَهْرِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا.
وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ إذَا خَالَعَ وَكِيلُ الزَّوْجَةِ بِأَكْثَر مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِدُونِهِ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: الْبُطْلاَنُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي. وَالصِّحَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْصُوصُ أَحْمَدَ، وَالْبُطْلاَنُ بِمُخَالَفَتِهِ وَكِيلَهُ وَالصِّحَّةُ بِمُخَالَفَة وَكِيلَهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمَعَ الصِّحَّةِ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَهَذَا الْخِلاَفُ مِنْ الأَصْحَابِ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَهُ مَعَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَتَرْكِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِمَا إذَا وَقَعَ التَّقْدِيرُ، فَأَمَّا مَعَ الإِطْلاَقِ فَيَصِحُّ الْخُلْعُ وَجْهًا وَاحِدًا وَفِيهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْمُسَمَّى وَيَرْجِعُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ قَبُولِ الْعِوَضِ نَاقِصًا وَلاَ شَيْء لَهُ غَيْرُهُ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الرَّجْعَةِ وَبَيْنَ رَدِّهِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَيَثْبُتُ لَهُ الرَّجْعَةُ وَفِي مُخَالَفَة وَكِيل الزَّوْجَةِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا أَكْثَر الأَمْرَيْنِ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ, ذَكَرَهُ ابْنُ الْبَنَّا.
الْقِسْمُ السَّادِس: التَّصَرُّفُ لِلْغَيْرِ بِمَالِ الْمُتَصَرِّفِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ مَالِهِ سِلْعَةً لِزَيْدٍ فَفِي الْمُجَرَّدِ يَقَعُ بَاطِلاً رِوَايَةً وَاحِدَةً وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ؛ لاِنَّ الْعَقْدَ يَقِفُ عَلَى الإِجَازَةِ وَيُعْتَبَرُ الثَّمَنُ مِنْ مَالِهِ يَكُونُ إقْرَاضًا لِلْمُشْتَرِي لَهُ أَوْ هِبَةً لَهُ فَهُوَ كَمَنْ أوَجَبَ لِغَيْرِهِ عَقْداً فِي مَالِهِ فَقَبِلَهُ الْآخَرُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالصَّحِيحُ فِي تَوْجِيهِهَا أَنَّهَا مِنْ بَابِ وَقْفِ الْعُقُودِ عَلَى الإِجَازَةِ وَهُوَ مَأْخَذُ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عَقْدٍ وَعَقْدٍ فَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ عَقْدَ الْغَائِبِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ فَقَبِلَهُ فَقَدْ أَجَازَهُ وَأَمْضَاهُ وَيَصِحُّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيَرَى أَبُو بَكْرٍ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إلاَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاخْتَارَهَا.
المسألة الحادية والعشرون
المسألة الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: -الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ- الصَّفْقَةُ الْوَاحِدَةُ هَلْ تَتَفَرَّقُ فَيَصِحُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ أَمْ لاَ؟ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ كُلُّهَا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا تَتَفَرَّقُ وَلِلْمَسْأَلَةِ صُوَرٌ:أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجْمَعُ الْعَقْدَيْنِ مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجُوزُ بِالْكُلِّيَّةِ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ بِانْفِرَادِهِ وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا كَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ وَلاَ بَيْنَ مَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ عِوَضِهِ كَالْمَبِيعِ وَمَا لاَ يَبْطُلُ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ النِّكَاحَ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُغْنِي اخْتَارَ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُنْقَسِمًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ كَعَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَغْصُوبٌ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا تَعْلِيلاً بِجَهَالَةِ الْعِوَضِ بِخِلاَفِ مَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالأَجْزَاءِ كَقَفِيزٍ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا مَأْخَذُ الْبُطْلاَنِ وَرَاءَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَمَا لَوْ قَالُوا فِيمَا إذَا بَاعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولاً إنَّهُ لاَ يَصِحُّ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ فَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ هُنَا مِنْ تَفْرِيقِهِا وَفِي التَّلْخِيصِ أَنَّ لِلْبُطْلاَنِ فِي الْكُلِّ مَأْخَذَيْنِ أَحَدُهُمَا كَوْنُ الصِّفَةِ لاَ تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ وَالاِنْقِسَامَ.
وَالثَّانِي: جَهَالَةُ الْعِوَضِ قَالَ: فَعَلَى الأَوَّلِ يَطَّرِدُ الْخِلاَفُ فِي كُلِّ الْعُقُودِ وَعَلَى الثَّانِي لاَ يَطَّرِدُ فِيمَا لاَ عِوَضَ فِيهِ أَوْ لاَ يَفْسُدُ بِفَسَادِ عِوَضِهِ كَالنِّكَاحِ، قَالَ وعَلَى الأَوَّلِ لَوْ قَالَ يُقْبَلُ كُلُّ وَاحِدٍ بِكَذَا لَمْ يَصِحَّ وَيَصِحُّ عَلَى الثَّانِي انْتَهَى ثُمَّ إنَّهُ حَكَى فِي تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ تَفْصِيلَ الثَّمَنِ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ بِعَدَدِهَا فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِ: يُقْبَلُ كُلُّ وَاحِدٍ بِكَذَا عَلَى الْمَأْخَذَيْنِ ثُمَّ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إنْ عَلِمَا أَنَّ بَعْضَ الصَّفْقَةِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لاِنَّهُمَا دَخَلاَ عَلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ وَإِنْ جَهِلاَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحَلُّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لاِنَّ الْجَهْلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْثِيرٌ فِي الصِّحَّةِ كَمَا لَوْ شَرَى الْمَبِيعَ الَّذِي لاَ يَسْقُطُ أَرْشُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْبَائِعَ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فِي الْعَقْدِ وَلاَ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ وَكَذَا فِي بَيْعِ النَّجْشِ وَاخْتَارَ الْبَائِعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ عَمْدًا فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَيَسْقُطُ بَعْضُ الثَّمَنِ.
وَهَاهُنَا طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ لِدَفْعِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ وَهِيَ تَقْسِيطُهُ عَلَى عَدَدِ الْمَبِيعِ لاَ عَلَى الْقِيَمِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا فِي بَابِ الشَّرِكَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ فِيمَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ أَنَّ الثَّمَنَ يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَلاَ أَظُنُّ يَطَّرِدُ إلاَ فِيمَا إذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا.
وَذَكَرَا فِي بَابِ الضَّمَانِ مِنْ كِتَابَيْهِمَا طَرِيقَةً ثَالِثَةً وَهِيَ أَنَّهُ يُمْسِكُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدُّهُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ اللَّهُمَّ إلاَ أَنْ يَخُصَّ هَذَا بِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ قَدْ دَخَلَ عَلَى بَذْلِ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ خَاصَّةً كَمَا نَقُولُ فِيمَنْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ يَعْلَمُ مَوْتَهُ بِشَيْءٍ أَنَّ الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا لِلْحَيِّ. وَلِبَعْضِهِمْ طَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ إنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْمُعَاوَضَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَالطَّرِيقِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لاِنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّحَوُّلِ بِالْكُلِّيَّةِ وَقِيَاسُهُ الْخَمْرُ وَإِنْ كَانَ قَابِلاً لِلصِّحَّةِ فَفِيهِ الْخِلاَفُ. ذَكَرَهُ الأَزَجِيُّ وَلاَ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّفْرِيقِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَلَهُ أَيْضًا الأَرْشُ إذَا أَمْسَكَ بِالْقِسْطِ فِيمَا يَنْقُصُ بِالتَّفْرِيقِ كَالْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي الضَّمَانِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الصَّفْقَةِ نَاشِئًا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ فَهَاهُنَا حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَمْتَازَ بَعْضُ الأَفْرَادِ بِمَزِيَّةٍ فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِخُصُوصِهِ أَمْ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَالأَظْهَرُ صِحَّةُ الْمَزِيَّةِ.
فَمِنْ أَمْثِلَةِ صُوَرِ ذَلِكَ: مَا إذَا اجْتَمَعَ عَقْدُ نِكَاحٍ بَيْنَ أُمٍّ وَبِنْتٍ فَهَلْ يَبْطُلُ فِيهِمَا أَوْ يَصِحُّ فِي الْبِنْتِ لِصِحَّةِ وُرُودِ عَقْدِهَا عَلَى عَقْدِ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ جَمَعَ حُرٌّ وَاجِدٌ لِلطَّوْلِ أَوْ غَيْرُ خَائِفٍ لِلْعَنَتِ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ فِي عَقْدٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَبْطُلُ النِّكَاحَانِ مَعًا. الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا. وَهِيَ أَصَحُّ لاِنَّهَا تَمْتَازُ بِصِحَّةِ وُرُودِ نِكَاحِهَا عَلَى نِكَاحِ الأَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَهِيَ كَالْبِنْتِ مَعَ الْأُمِّ وَأَوْلَى لِجَوَازِ دَوَامِ نِكَاحِ الأَمَةِ مَعَهَا عَلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا.
وَمنها: أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرٌّ خَائِفٌ لِلْعَنَتِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلطَّوْلِ حُرَّةً تُعِفُّهُ بِإِفْرَادِهَا وَأَمَةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ؛ لاِنَّ الْحُرَّةَ تَمْتَازُ عَلَى الأَمَةِ بِصِحَّةِ وُرُودِ نِكَاحِهَا عَلَيْهَا فَاخْتَصَّتْ بِالصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ نِكَاحُهُمَا مَعًا. قَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلاَفَيْهِمَا: لاِنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَبُولَ نِكَاحِ كُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَلَى الاِنْفِرَادِ فَيَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أَمَةٍ ثُمَّ حُرَّةٍ. وَالأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لاِنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ نِكَاحِ الأَمَةِ فِمُقَارَنَةِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْمُتَزَوِّجُ عَبْدًا وَقُلْنَا بِمَنْعِهِ مِنْ نِكَاحِ الأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الَّتِي تُعِفُّهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْحُرِّ سَوَاءٌ قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ جَمْعُهُ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَوَصَاحِبُ الْمُغْنِي لاِنَّ الْعَبْدَ لاَ تَمْنَعُهُ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ مِنْ نِكَاحِ الأَمَةِمُقَارَنَةِ نِكَاحِهِمَا وَإِنَّمَا يُمْنَعُ بِسَبْقِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لاَ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَوْتِهِ فَالْمَشْهُورُ الْبُطْلاَنُ فِي الْكُلِّ إذْ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي الصِّحَّةِ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ أَوْ خَمْسًا فِي عَقْدٍ فَالْمَذْهَبُ الْبُطْلاَنُ فِي الْكُلِّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ يَخْتَارُ إحْدَاهُمَا وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُهَا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَقَعَا مَعًا أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ أُقْرِعَ فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَيُخَرَّجُ هُنَا أَمْثِلَةٌ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْمَعَا فِي صَفْقَةٍ شَيْئَيْنِ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا أَمْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبُطْلاَنِ دُونَ الْآخَرِ. قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لاِنَّ التَّفْرِيقَ وَقَعَ هُنَا دَوَامًا لاَ ابْتِدَاءً وَالدَّوَامُ أَسْهَلُ مِنْ الاِبْتِدَاءِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حَكَمُوا فِيمَا إذَا تَفَرَّقَ الْمُتَصَارِفَانِ عَنْ قَبْضِ بَعْضِ الصَّرْفِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ وَفِي الْبَاقِي رِوَايَتَانِ. تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَهَذَا تَفْرِيقٌ فِي الدَّوَامِ إلاَ أَنْ يُقَالَ: الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ لاَ لِدَوَامِهِ وَأَنَّ الْعَقْدَ مُرَاعًى بِوُجُودِهِ. صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ فَيَكُونُ التَّفْرِيقُ حِينَئِذٍ فِي الاِبْتِدَاءِ.
غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ حَكَى الْخِلاَفَ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، تَصْرِيحُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْقَبْضَ
شَرْطٌ لِلدَّوَامِ دُونَ الاِنْعِقَادِ وَهَذَا يَقْتَضِي وَلاَ بُدَّ تَخْرِيجَ الْخِلاَفِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ دَوَامًا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ إذَا بِيعَ ثُمَّ أَعْسَرَ الْبَائِعُ بِالزَّكَاةِ فَلِلسَّاعِي الْفَسْخُ فِي قَدْرِهَا فَإِذَا فَسَخَ فِي قَدْرِهَا فَهَلْ يَنْفَسِخُ الْبَاقِي؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِإِجْرَاءِ الْخِلاَفِ فِي التَّفْرِيقِ فِي الدَّوَامِ فَإِنْ انْفَسَخَ هُنَا بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْعَقْدِ فَلاَ يَسْتَقِرُّ الْعَقْدُ مَعَهُ فَهَذَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَإِنْ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِعَيْنِهَا كَرِدَّةٍ وَرَضَاعٍ وَاخْتَصَّتْ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَحْدَهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَإِنْ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاِحَدَيْهِمَا مَزِيَّةٌ بِأَنْ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بِالاِرْتِضَاعِ فَرِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا يَخْتَصُّ الاِنْفِسَاخُ بِالْأُمِّ وَحْدَهَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا؛ لاِنَّ الاِسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنْ الاِبْتِدَاءِ فَهُوَ كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَبِنْتٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وهذا آخر ما أورده عالم زمانه الشيخ الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي, رواية الفقير إلى الله تعالى محمد بن أحمد بن سيف الحنبلي غفر الله له ولوالديه ومشايخه في الدين؛ والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
تم بحمد الله