كتاب : القواعد في الفقه الإسلامي
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
وَقَدْ نَصَّ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ للوَليِّ بَيْعَ التَّرِكَةِ عَلى الصِّغَارِ وَالكِبَارِ إذَا كَانَ فِي تَبْعِيضِهَا ضَرَرٌ وَاحْتِيجَ إلى البَيْعِ , وَمَا دَل عَليْهِ كَلامُ بَعْضِهِمْ مِنْ امْتِنَاعِ البَيْعِ عَلى الكِبَارِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ قَدْ يَكُونُ بِنَاءً عَلى أَنَّ ضَرَرَ مَا نَقَصَ ليْسَ بِمَانِعٍ مِنْ قِسْمَةِ الإِجْبَارِ كَقَوْل الخِرَقِيِّ , وَإِنَّمَا المَانِعُ مِنْهُمَا أَنْ لا يَنْتَفِعَ بِالمَقْسُومِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَدَمُ الإِجْبَارِ عَلى البَيْعِ فِي حَالةِ نَقْصِ القِيمَةِ مَبْنِيًّا عَلى أَنَّ القِسْمَةَ مُمْكِنَةٌ وَمَعَ الإِجْبَارِ عَليْهَا لا يَقَعُ الإِجْبَارُ عَلى البَيْعِ.
ثُمَّ وَجَدْتُ فِي مَسَائِل ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُليْنِ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبِيعَ وَأَبَى الآخَرُ , قَال أَحْمَدُ: يَبِيعُ كُلٌّ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا إجْبَارَ عَلى البَيْعِ مَعَ الشَّرِيك.
وَهَذَا كُلهُ فِي المُشَاعِ المُشْتَرَك , فَأَمَّا المُتَمَيِّزُ كَمَنْ فِي أَرْضِهِ غَرْسٌ لغَيْرِهِ أَوْ فِي ثَوْبِهِ صَبْغٌ لغَيْرِهِ إذَا طَلبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبِيعَ الآخَرُ مَعَهُ فَفِي إجْبَارِهِ وَجْهَانِ , أَوْرَدَهُمَا صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي غِرَاسِ المُسْتَعِيرِ لأَنَّهُ يُسْتَدَامُ فِي الأَرْضِ فَلا يَتَخَلصُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِ البَيْعِ , بِخِلافِ غَرْسِ الغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَتَخَلصُ مِنْهُ بِالقَلعِ.
فَأَمَّا البَيْعُ فَفِي المُغْنِي وَغَيْرِهِ فِي بَيْعِ الغَاصِبِ إنْ طَلبَ مَالكُ الثَّوْبِ أَنْ يَبِيعَ مَعَهُ لزِمَهُ وَفِي العَكْسِ وَجْهَانِ وَجَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِالإِجْبَارِ عَلى البَيْعِ بِطَلبِ الغَاصِبِ , وَأَمَّا صَبْغُ المُشْتَرِي إذَا أَفْلسَ وَأَخَذَ البَائِعُ ثَوْبَهُ وَطَلبَ أَحَدُهُمَا البَيْعَ أُجْبِرَ الآخَرُ عَليْهِ , وَهَذَا لأَنَّ الصَّبْغَ يُسْتَدَامُ فِي الثَّوْبِ فَلا يَتَخَلصُ مِنْ الشَّرِكَةِ فِيهِ بِدُونِ البَيْع , وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْن طَلبِ الغَاصِبِ وَغَيْرِهِ عَلى وَجْهٍ لئَلا يَتَسَلطَ الغَاصِبُ بِعُدْوَانِهِ عَلى إخْرَاجِ مِلكِ غَيْرِهِ عَنْهُ قَهْرًا.
وَمِنْهَا: قِسْمَةُ المَنَافِعِ بِالمُهَايَأَةِ هَل تَجِبُ الإِجَابَةُ إليْهَا أَمْ لا؟ المَشْهُورُ عَدَمُ الوُجُوبِ وَلمْ يَذْكُرْ القَاضِي وَأَصْحَابُهُ فِي المَذْهَبِ سِوَاهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ المُهَايَأَةِ وَالقِسْمَةِ بِأَنَّ القِسْمَةَ إفْرَازُ أَحَدِ المِلكَيْنِ مِنْ الآخَرِ وَالمُهَايَأَةُ مُعَاوَضَةٌ حَيْثُ كَانَتْ اسْتِيفَاءً للمَنْفَعَةِ مِنْ مِثْلهَا فِي زَمَنٍ آخَرَ , وَفِيهَا تَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَلا يَلزَمُ بِخِلافِ قِسْمَةِ الأَعْيَانِ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ وَحَنْبَلٍ وَأَبِي طَالبٍ فِي العَبْدِ المُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمًا لنَفْسِهِ وَيَوْمًا لسَيِّدِهِ البَاقِي , وَتَأَوَّلهُ القَاضِي عَلى التَّرَاضِي وَهُوَ بَعِيدٌ , وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: يَكُونُ يَوْمًا لنَفْسِهِ وَيَوْمًا لسَيِّدِهِ.
وَالأُخْرَى: أَنَّ كَسْبَهُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا يَدُل عَلى وُقُوعِ المُهَايَأَةِ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ طَلبٍ وَفِي المَسْأَلةِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ تَجِبُ المُهَايَأَةُ بِالمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ لانْتِفَاءِ تَأَخُّرِ اسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا لحَقِّهِ فِي المُهَايَأَةِ بِالأَمْكِنَةِ,
فَهُوَ كَقِسْمَةِ الأَعْيَانِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ المُحَرَّرِ وَعَلى القَوْل بِانْتِفَاءِ الوُجُوبِ مُطْلقًا فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي , وَهَل تَقَعُ لازِمَةً إذَا كَانَتْ مُدَّتُهَا مَعْلومَةً أَوْ جَائِزَةً؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَالمَجْزُومُ فِي التَّرْغِيبِ الجَوَازُ , وَاخْتَارَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ اللزُومَ , وَعَلى القَوْل بِالجَوَازِ لوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْل اسْتِيفَاءِ نَوْبَتِهِ فَلهُ ذَلكَ وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الاسْتِيفَاءِ غَرِمَ مَا انْفَرَدَ بِهِ وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لا يَنْفَسِخُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الدَّوْرُ وَيَسْتَوْفِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقَّهُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلكَ مِنْ مَسْأَلةِ القَسْمِ وَهِيَ أَنَّ مَنْ لهُ زَوْجَتَانِ فَقَسَمَ لإِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُطَلقَ الأُخْرَى لمْ يَجُزْ لهُ حَتَّى يؤتيها حَقّهَا مِنْ القَسْمِ لئَلا يَفُوتَ حَقُّهَا بِالطَّلاقِ , وَلا يُقَال هَذِهِ القِسْمَةُ لازِمَةٌ بِخِلافِ المُهَايَأَةِ لأَنَّهَا إنَّمَا لزِمَتْ لأَجْل المُسَاوَاةِ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ , وَلهَذَا قَال القَاضِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّ قَسْمَ الابْتِدَاءِ ليْسَ بِوَاجِبٍ.
وَلوْ اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا نوبته ثُمَّ تَلفَتْ المَنَافِعُ فِي الذَّكَرِ الآخَرِ قَبْل تَمَكُّنِهِ مِنْ القَبْضِ , فَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلى الأَوَّل بِبَدَل حِصَّتِهِ مِنْ تِلكَ المُدَّةِ التِي اسْتَوْفَاهَا مَا لمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِمَنْفَعَةِ الزَّمَنِ المُتَأَخِّرِ عَلى أَيِّ حَالٍ كَانَ جَعْلاً للتَّالفِ قَبْل القَبْضِ كَالتَّالفِ فِي الإِجَارَةِ قَال: وَسَوَاءٌ قُلنَا القِسْمَةُ إفْرَازٌ أَوْ بَيْعٌ فَإِنَّ المُعَادَلةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيهَا عَلى القَوْليْنِ وَلهَذَا ثَبَتَ فِيهَا خِيَارُ العَيْبِ وَالتَّدْليسِ انْتَهَى.
وَهَذَا عَلى القَوْل بِالجَوَازِ ظَاهِرٌ , وَلكِنَّ الشَّيْخَ رَجَّحَ اللزُومَ.
وَيَتَخَرَّجُ فِي الرُّجُوعِ حِينَئِذٍ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا تَقَاسَمَ الشَّرِيكَانِ الدَّيْنَ فِي ذِمَمِ الغُرَمَاءِ ثُمَّ تَلفَ أَحَدُهُمَا قَبْل القَبْضِ هَل يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الرُّجُوعَ عَلى الآخَرِ فِيمَا قَبَضَهُ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ نَقَلهُمَا مَعًا ابْنُ مَنْصُورٍ فِي مَسَائِلهِ عَنْ أَحْمَدَ , وَرِوَايَةُ الرُّجُوعِ حَمَلهَا الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ القِسْمَةَ لمْ تَصِحَّ , لكِنَّ المُرَادَ بِقَوْلهِمْ لمْ تَصِحَّ أَنَّهَا غَيْرُ لازِمَةٍ لأَنَّ القَبْضَ بِهَا مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ , وَلهَذَا قَالوا: لوْ قَبَضَ شَيْئًا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ لانْفَرَدَ بِهِ عَلى الصَّحِيحِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ شَبَّهَهُ بِالمُهَايَأَةِ.
وَمِنْهَا: الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ المُشْتَرَكُ إذَا طَلبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ سَقْيَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلى ذَلكَ أُجْبِرَ الآخَرُ عَليْهِ , ذَكَرَهُ القَاضِي , وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِيمَا إذَا أَوْصَى لأَحَدِهِمَا بِزَرْعٍ وَللآخِرِ بِتِبْنِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ مَسْأَلةِ الجِدَارِ وَهُوَ أَوْلى بِالوُجُوبِ لأَنَّ السَّقْيَ مِنْ بَابِ حِفْظِ الأَصْل وَإِبْقَائِهِ فَهُوَ كدعامة السَّقْفِ إذَا انْكَسَرَ بَعْضُ خَشَبِهِ وَالحَائِطُ المَائِل , وَذَلكَ أَوْلى بِالوُجُوبِ مِنْ بِنَاءِ السَّاقِطِ لأَنَّ إعَادَةَ الحَائِطِ بَعْدَ زَوَالهِ شَبِيهٌ بِإِحْدَاثِ المَنْفَعَةِ لكِنْ لمَّا كَانَ رَدًّا لهُ إلى مَا كَانَ عَليْهِ أُلحِقَ بِاسْتِيفَاءِ المَنْفَعَةِ.
وَأَلحَق الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِهَذَا كُل مَا فِيهِ حِفْظُ الأَصْل إذَا اُحْتِيجَ إليْهِ مِثْل الحَارِسِ وَالنَّاظِرِ وَالدَّليل عَلى الطَّرِيقِ وَالرِّشْوَةِ التِي يُحْتَاجُ إليْهَا لدَفْعِ الظُّلمِ عَنْ المَال.
وَذَكَرَ القَاضِي أَيْضًا فِيمَنْ اشْتَرَى شَجَرًا وَعَليْهِ ثَمَرٌ للبَائِعِ أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا طَلب السَّقْيَ لحَاجَةِ مِلكِهِ إليْهِ أُجْبِرَ الآخَرُ عَلى التَّمْكِينِ لدُخُولهِ عَلى ذَلكَ وَتَكُونُ الأُجْرَةُ عَلى الطَّالبِ لاخْتِصَاصِهِ بِالطَّلبِ دُونَ صَاحِبِهِ , وَهَذَا يَشْمَل مَا إذَا كَانَ نَفْعُ السَّقْيِ رَاجِعًا إليْهِمَا , وَعَلل ذَلكَ فِي المُغْنِي بِأَنَّ السَّقْيَ لحَاجَتِهِ وَظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُهُ بِحَالةِ عَدَمِ حَاجَةِ الآخَرِ فَإِنَّ النَّفْعَ إذَا كَانَ لهُمَا فَالمَئُونَةُ عَليْهِمَا كَبِنَاءِ الجِدَارِ وَإِنْ عَطِشَ الأَصْل وَخِيفَ عَليْهِ الضَّرَرُ فَفِي الإِجْبَارِ عَلى القَطْعِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا فِي المُغْنِي وَعَلل للإِجْبَارِ بِأَنَّ الضَّرَرَ لاحِقٌ للثَّمَنِ لا مَحَالةَ مَعَ القَطْعِ وَالتَّبْقِيَةِ وَالأَصْل يَنْحَفِظُ بِالقَطْعِ فَمُرَاعَاتُهُ أَوْلى.
وَذَكَرَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِيمَا لوْ وَصَّى بِثَمَرِ شَجَرٍ لرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لآخَرَ أَنَّهُ لا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلى السَّقْيِ لأَنَّ أَحَدَهُمَا لمْ يَدْخُل عَلى حِفْظِ مَال الآخَرِ بِخِلافِ الثَّمَرِ المُشْتَرَى فِي رُءُوسِ النَّخْل , وَهَذَا فِي سَقْيِ أَحَدِهِمَا بِخَالصِ حَقِّ الآخَرِ بِخِلافِ مَا سَبَقَ فِي الوَصِيَّةِ بِالزَّرْعِ وَالتِّبْنِ.
القاعدة السابعة والسبعون
القَاعِدَةُ السَّابِعَة وَالسَّبْعُونَ:مَنْ اتَّصَل مِلكُهُ بِمِلكِ غَيْرِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ وَهُوَ تَابِعٌ لهُ وَلمْ يُمْكِنْ فَصْلهُ مِنْهُ بِدُونِ ضَرَرٍ يَلحَقُهُ وَفِي إبْقَائِهِ عَلى الشَّرِكَةِ ضَرَرٌ لمْ يَفْصِلهُ مَالكُهُ فَلمَالك الأَصْل أَنْ يَتَمَلكَهُ بِالقِيمَةِ مِنْ مَالكِهِ وَيُجْبَرَ المَالكُ عَلى القَبُول.
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ فَصْلهُ بِدُونِ ضَرَرٍ يَلحَقُ مَالكَ الأَصْل فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ ليْسَ لهُ تَمَلكُهُ قَهْرًا لزَوَال ضَرَرِهِ بِالفَصْل وَيَتَخَرَّجُ عَلى هَذِهِ القَاعِدَةِ مَسَائِل كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: غِرَاسُ المُسْتَأْجِرِ وَبِنَاؤُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ المُدَّةِ إذَا لمْ يَقْلعْهُ المَالكُ فَللمُؤَجِّرِ تَمَلكُهُ بِالقِيمَةِ لأَنَّهُ لا يَمْلكُ قَلعَهُ بِدُونِ ضَمَانِ نَقْصِهِ , وَفِيهِ ضَرَرٌ عَليْهِ ذَكَرَ ذَلكَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَكْثَرُونَ , وَلمْ يَشْتَرِطْ أَبُو الخَطَّابِ أَنْ لا يَقْلعَهُ المَالكُ فَلعَلهُ جَعَل الخِيَرَةَ لمَالكِ الأَرْضِ دُونَ مَالكِ الغِرَاسِ وَالبِنَاءِ.
وَمِنْهَا: غِرَاسُ المُسْتَعِيرِ وَبِنَاؤُهُ إذَا رَجَعَ المُعِيرُ أَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِعَارَةِ وَقُلنَا يَلزَمُ بِالتَّوْقِيتِ فَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَمَلكُ بِالقِيمَةِ نَقَلهُ عَنْهُ مُهَنَّا وَابْنُ مَنْصُورٍ , وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لكِنْ قَال فِي رِوَايَةٍ: يَتَمَلكُ بِالنَّفَقَةِ وَلمَالكِهِ القَلعُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ خِلافٍ , وَلا يُجْبَرُ عَليْهِ إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ وَإِنْ لمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ فَتَرَدَّدَ فِيهِ كَلامُ الأَصْحَابِ , وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يُقْلعُ بِدُونِ شَرْطٍ.
وَمِنْهَا: غِرَاسُ المُشْتَرِي فِي الأَرْضِ المَشْفُوعَةِ وَبِنَاؤُهُ حَيْثُ يُتَصَوَّرُ ذَلكَ إذَا انْتَزَعَ الشَّفِيعُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مَعَ الأَرْضِ بِقِيمَتِهِ نَصَّ عَليْهِ وَلمَالكِهِ أَنْ يَقْلعَهُ أَيْضًا وَلا يُجْبَرُ عَليْهِ إلا أَنْ يَضْمَنَ لهُ النَّقْصَ.
القاعدة الثامنة والسبعون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالسَّبْعُونَ:مَنْ أَدْخَل النَّقْصَ عَلى مِلكِ غَيْرِهِ لاسْتِصْلاحِ تَمَلكِهِ وَتَخَلصِهِ مِنْ مِلكِ غَيْرِهِ فَإِنْ لمْ يَكُنْ مِمَّنْ دَخَل النَّقْصُ عَليْهِ بِتَفْرِيطٍ بِاشْتِغَال مِلكِهِ بِمِلكِ غَيْرِهِ فَالضَّمَانُ عَلى مَنْ أَدْخَل النَّقْصَ , وَإِنْ كَانَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فَلا ضَمَانَ عَلى مَنْ أَدْخَل النَّقْصَ وَكَذَا إنْ وُجِدَ مِمَّنْ دَخَل النَّقْصُ عَليْهِ إذْنٌ فِي تَفْرِيغِ مِلكِهِ مِنْ مِلكِ غَيْرِهِ حَيْثُ لا يُجْبَرُ الآخَرُ عَلى التَّفْرِيغِ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ إذْنٌ فِي إشْغَال مِلكِهِ بِمَال غَيْرِهِ حَيْثُ لا يُجْبَرُ الآخَرُ عَلى التَّفْرِيغِ فَوَجْهَانِ , وَيُفَرَّعُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل كَثِيرَةٌ
مِنْهَا: لوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا نَاقَةٌ لمْ تَخْرُجْ مِنْ البَابِ إلا بِهَدْمِهِ فَإِنَّهُ يَهْدِمُ وَيَضْمَنُ للمُشْتَرِي النَّقْصَ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ للبَائِعِ فَحَصَدَهُ فَإِنْ لمْ يَبْقَ لهُ عُرُوقٌ أَوْ كَانَتْ لا تَضُرُّ فَليْسَ عَليْهِ نَقْلهَا , وَإِنْ كَانَتْ تَضُرُّ عُرُوقُهُ بِالأَرْضِ كَالقُطْنِ وَالذُّرَةِ فَعَليْهِ النَّقْل وَتَسْوِيَةُ الحَفْرِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ.
وَمِنْهَا: لوْ دَخَل حَيَوَانُ غَيْرِهِ دَارَهُ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ بِدُونِ هَدْمِ بَعْضِهَا أَوْ أَدْخَلتْ بَهِيمَةُ غَيْرِهِ رَأْسَهَا فِي قِدْرِهِ أَوْ وَقَعَ دِينَارُ غَيْرِهِ فِي مِحْبَرَتِهِ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ بِدُونِ الكَسْرِ وَلمْ يَكُنْ ذَلكَ بِتَفْرِيطِ أَحَدٍ فَهُدِمَتْ الدَّارُ وَكُسِرَتْ القِدْرُ أَوْ المَحْبَرَةُ فَالضَّمَانُ عَلى صَاحِبِ الحَيَوَانِ وَالدِّينَارِ.
وَمِنْهَا: لوْ حَمَل السَّيْل إلى أَرْضِهِ غَرْسَ غَيْرِهِ فَنَبَتَ فِيهَا فَقَلعَهُ مَالكُهُ فَعَليْهِ تَسْوِيَةُ حُفَرِهِ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَغَرَسَهَا ثُمَّ أَفْلسَ وَرَجَعَ فِيهَا البَائِعُ وَاخْتَارَ المُفْلسُ وَالغُرَمَاءُ القَلعَ فَعَليْهِمْ تَسْوِيَةُ الحُفَرِ وَضَمَانُ أَرْشِ النَّقْصِ لأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَل بِفُعْلهِمْ فِي مِلكِ البَائِعِ ليُخَلصَ مِلكَهُمْ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: لوْ غَصَبَ فَصِيلاً وَأَدْخَلهُ دَارِهِ وَكَبِرَ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ بِدُونِ هَدْمِهَا فَإِنَّهَا تُهْدَمُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ لتَفْرِيطِهِ , وَكَذَلكَ إذَا غَصَبَ غِرَاسًا وَغَرَسَهُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَقْلعُ وَلا يَضْمَنُ حُفَرَهُ.
وَمِنْهَا: لوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ طَلبَ قَلعَ صِبْغِهِ وَقُلنَا يَمْلكُهُ فَعَليْهِ نَقْصُ الثَّوْبِ بِذَلكَ كَمَا لوْ غَرَسَ الأَرْضَ التِي غَصَبَهَا ثُمَّ قَلعَ غَرْسَهُ.
وَمِنْهَا: لوْ أَعَارَهُ أَرْضًا للغِرَاسِ ثُمَّ أَخَذَ غَرْسَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ عَليْهِ القَلعَ فَلا يَلزَمُهُ ضَمَانُ النَّقْصِ بِذَلكَ وَلا تَسْوِيَةُ الحُفَرِ لأَنَّ المَالكَ رَضِيَ بِذَلكَ بِاشْتِرَاطِهِ لهُ وَإِنْ لمْ يَشْتَرِطْ عَليْهِ القَلعَ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لا يَلزَمُهُ أَيْضًا قَالهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ لأَنَّ الإِعَارَةَ مَعَ العِلمِ بِجَوَازِ القَلعِ رِضَاءٌ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ الحَفْرِ.
وَالثَّانِي: يَلزَمُهُ ذَلكَ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الكَافِي لأَنَّهُ قَلعَ بِاخْتِيَارِهِ حَيْثُ لا يُجْبَرُ عَليْهِ فَقَدْ أَدْخَل النَّقْصَ عَلى مِلكِ غَيْرِهِ لاسْتِصْلاحِ مَالهِ وَعَلى هَذَا فَلوْ طَلبَ مِنْهُ المَالكُ القَلعَ وَبَذْل أَرْشِ النَّقْصِ فَيَنْبَغِي أَنْ لا يُلزِمَهُ التَّسْوِيَةَ لأَنَّ القَلعَ بِأَمْرِ المَالكِ مَعَ أَنَّ كَلامَ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ يُشْعِرُ بِخِلافِ ذَلكَ فَأَمَّا الإِعَارَةُ للزَّرْعِ إذَا كَانَ عُرُوقُهُ الثَّابِتَةُ تَضُرُّ بِالأَرْضِ فَقَدْ يُقَال يَجِبُ نَقْلهَا وَتَسْوِيَةُ الحُفَرِ لأَنَّ الزَّرْعَ يُجْبَرُ عَلى تَفْرِيغِ الأَرْضِ مِنْهُ بِخِلافِ الغَرْسِ وَقَدْ يُقَال لا يَجِبُ لأَنَّ الإِذْنَ فِيهِ مَعَ العِلمِ بِأَنَّهُ لا يُبْقِي رِضًا بِمَا يَنْشَأُ مِنْ قَلعِهِ المُعْتَادِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَجَّرَهُ أَرْضًا للغِرَاسِ وَانْقَضَتْ المُدَّةُ كَانَ القَلعُ مَشْرُوطًا عِنْدَ انْقِضَائِهَا فَلا ضَمَانَ وَإِنْ لمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَفِيهِ الوَجْهَانِ أَيْضًا وَلمْ يَحْكِ صَاحِبُ الكَافِي فِي الضَّمَانِ خِلافًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَعَلل بِأَنَّهُ قَلعَ غَرْسَهُ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ التِي لا يَدُلهُ عَليْهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ , وَجَزَمَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ , وَلمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلافًا وَعَلل بِأَنَّ المَالكَ دَخَل عَلى ذَلكَ.
وَمِنْهَا: إذَا غَرَسَ المُشْتَرِي فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْتَزَعَهَا الشَّفِيعُ فَقَلعَ المُشْتَرِي غَرْسَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَليْهِ تَسْوِيَةُ الحَفْرِ وَضَمَانُ النَّقْصِ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ لأَنَّ قَلعَهُ فِي مِلكِ غَيْرِهِ لتَخْليصِ مِلكِهِ.
وَالثَّانِي: لا يَلزَمُهُ ذَلكَ ذَكَرَهُ القَاضِي وَبِهِ جَزَمَ فِي الكَافِي مُعَللاً بِانْتِفَاءِ عُدْوَانِهِ مَعَ أَنَّهُ جَزَمَ فِي بَابِ العَارِيَّةِ بِخِلافِهِ وَالقَاضِي إنَّمَا عَللهُ بِأَنَّهُ مِلكُ نَفْسِهِ مِنْ مِلكِ نَفْسِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَلعَ قَبْل تَمَلكِ الشَّفِيعِ لا بَعْدَهُ.
القاعدة التاسعة والسبعون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَة وَالسَّبْعُونَ:الزَّرْعُ النَّابِتُ فِي أَرْضِ الغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنٍ صَحِيحٍ أَقْسَامٌ:
القِسْمُ الأَوَّل: أَنْ يَزْرَعَ عُدْوَانًا مَحْضًا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلى إذْنٍ بِالكُليَّةِ , وَهُوَ زَرْعُ الغَاصِبِ فَالمَذْهَبُ أَنَّ المَالكَ إنْ أَدْرَكَهُ نَابِتًا فِي الأَرْضِ فَلهُ تَمَلكُهُ بِنَفَقَتِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ عَلى اخْتِلافِ الرِّوَايَتَيْنِ , وَإِنْ أَدْرَكَهُ قَدْ حَصَدَ فَلا حَقَّ لهُ فِيهِ , وَنَقَل حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لهُ تَمَلكَهُ أَيْضًا , وَوَهِمَ أَبُو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ نَاقِلهَا عَلى أَنَّ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ رَجَّحَهَا بِنَاءً عَلى أَنَّ الزَّرْعَ نَبَتَ عَلى مِلكِ مَالكِ الأَرْضِ ابْتِدَاءً وَالمَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ خِلافُهُ.
وَالمُعْتَمَدُ عِنْدَ الأَصْحَابِ فِي المَسْأَلةِ هُوَ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ , وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ تَارَةً , وَقَال تَارَةً: مَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا آخَرَ مُرْسَلاً مِنْ مَرَاسِيل الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ , وَقَال هُوَ شَيْءٌ لا يُوَافِقُ القِيَاسَ وفُرُوقٌ بَيْنَ زَرْعِ الغَاصِبِ وَغَرْسِهِ حَيْثُ يَقْلعُ غَرْسَهُ كَمَا دَل عَليْهِ قَوْلهُ: "ليْسَ لعِرْقٍ ظَالمٍ حَقٌّ " فَإِنَّ الزَّرْعَ يَتْلفُ بِالقَلعِ فَقَلعُهُ فَسَادٌ بِخِلافِ الغَرْسِ.
وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَرَّرَ مُوَافَقَتَهُ للقِيَاسِ بِأَنَّ المُتَوَلدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مَمْلوكَيْنِ مِنْ الآدَمِيِّينَ يَكُونُ مِلكًا لمَالكِ الأُمِّ دُونَ مَالكِ الأَبِ بِالاتِّفَاقِ مَعَ كَوْنِهِ مَخْلوقًا مِنْ مَائِهِمَا وَبُطُونُ الأُمَّهَاتِ بِمَنْزِلةِ الأَرْضِ وَمَاءُ الفُحُول بِمَنْزِلةِ البَذْرِ , وَلهَذَا سَمَّى النِّسَاءَ حَرْثًا وَ"لعَنَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ مَنْ سَقَى مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ" فَجَعَل الوَلدَ زَرْعًا وَهُوَ لمَالكِ أُمِّهِ وَسِرُّ ذَلكَ أَنَّ الحَيَوَانَ يَنْعَقِدُ مِنْ المَاءَيْنِ ثُمَّ يتعذى مِنْ دَمِ المَرْأَةِ فَأَكْثَرُ أَجْزَائِهِ مَخْلوقَةٌ مِنْ الأُمِّ كَذَلكَ البَذْرُ يَنْحَل فِي الأَرْضِ وَيَنْعَقِدُ الزَّرْعُ مِنْ التُّرْبَةِ وَالحَبَّةِ ثُمَّ يَتَغَذَّى مِنْ الأَرْضِ وَمَائِهَا وَهَوَائِهَا فَتَصِيرُ أَكْثَرَ أَجْزَائِهِ مِنْ الأَرْضِ.
وَإِنَّمَا خُيِّرَ مَالكُ الأَرْضِ بَيْنَ تَمَلكِهِ وَبَيْنَ أَخْذِ الأُجْرَةِ لأَنَّهُ قَابِلٌ لاسْتِيفَائِهِ بِعَقْدِ الإِجَارَةِ بِخِلافِ الإِيلادِ وَجَبْرِ حَقِّ صَاحِبِ البَذْرِ بِإِعْطَائِهِ قِيمَةَ بَذْرِهِ وَنَفَقَةَ عَمَلهِ حَيْثُ كَانَ مُتَقَوِّمًا بِخِلافِ مَا يُخْلقُ مِنْهُ الوَلدُ فَإِنَّهُ لا قِيمَةَ لهُ فَلذَلكَ لمْ يَجِبْ لأَحَدِ الأَبَوَيْنِ شَيْءٌ.
وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ المُتَوَلدَاتِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالمَعْدِنِ حَتَّى لوْ أَلقَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ شَيْئًا مِمَّا تُنْبِتُ المَعَادِنَ لكَانَ الخَارِجُ مِنْهُ لرَبِّ الأَرْضِ كَالنِّتَاجِ وَالزَّرْعِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ سَلكَهَا القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهَذَا مُلخَّصٌ مِنْ كَلامِهِ.
القِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُؤْذَنَ لهُ فِي زَرْعِ شَيْءٍ فَيَزْرَعُ مَا ضَرَرُهُ أَعْظَمُ مِنْهُ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ لزَرْعِ شَعِيرٍ فَزَرَعَ ذُرَةً أَوْ دُخْنًا فَحُكْمُهُ عِنْدَ الأَصْحَابِ حُكْمُ الغَاصِبِ لتَعَدِّيهِ بِزَرْعِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إلى إذْنٍ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عَليْهِ ضَمَانَ أُجْرَةِ المِثْل للزِّيَادَةِ وَلمْ يَذْكُرْ تَمَلكًا فَإِنَّ هَذَا الزَّرْعَ بَعْضُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَدْرُ ضَرَرِ المُسْتَأْجِرِ لهُ وَالزِّيَادَةُ عَليْهِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهَا , وَهِيَ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَكَيْفَ يَتَمَلكُ المُؤَجِّرُ الزَّرْعَ كُلهُ.
وَقَدْ يَنْبَنِي ذَلكَ عَلى اخْتِلافِ الوَجْهَيْنِ فِي قَدْرِ الوَاجِبِ مِنْ الأُجْرَةِ هَل هُوَ الأُجْرَةُ المُسَمَّاةُ مَعَ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الأُجْرَتَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ المِثْل أَمْ الوَاجِبُ أُجْرَةُ المِثْل للجَمِيعِ حَيْثُ تَمَحَّضَ عُدْوَانٌ؟ وَالمَنْصُوصُ الأَوَّل وَهُوَ قَوْل الخِرَقِيِّ , وَالقَاضِي.
وَالثَّانِي: اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ وحكاه القَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَكَلامُهُ فِي التَّنْبِيهِ مُوَافِقٌ الوَجْهَ الأَوَّل فعلى الوجه الأول لا يَتَوَجَّهُ أَنْ يَتَمَلكَ المُؤَجِّرُ الزَّرْعَ كُلهُ وَعَلى الثَّانِي يَتَوَجَّهُ ذَلكَ فَكَيْفَ جَزَمَ القَاضِي بِتَمَلكِهِ مَعَ اخْتِيَارِهِ للوَجْهِ الأَوَّل فِي الضَّمَانِ !؟
وَلوْ اسْتَأْجَرَ للزَّرْعِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَزَرَعَ فِيهَا مَا لا تَتَنَاهَى فِي تِلكَ المُدَّةِ ثُمَّ انْقَضَتْ فَقَال الأَصْحَابُ
حُكْمُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ المُدَّةِ حُكْمُ زَرْعِ الغَاصِبِ للعُدْوَانِ , ثُمَّ إنَّ القَاضِيَ وَابْنَ عَقِيلٍ قَالا عَليْهِ تَفْرِيغُ الأَرْضِ بَعْدَ المُدَّةِ وَليْسَ بِجَارٍ عَلى قَوَاعِدِ المَذْهَبِ فَإِنَّمَا المَالكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَمَلكِهِ وَتَرْكِهِ بِالأُجْرَةِ فَأَمَّا القَلعُ فَلا.
القِسْمُ الثَّالثُ: أَنْ يَزْرَعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ مِمَّنْ لهُ وِلايَةُ العَقْدِ كَالمَالكِ وَالوَكِيل وَالوَصِيِّ وَالنَّاظِرِ إمَّا بِمُزَارَعَةٍ فَاسِدَةٍ أَوْ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ.
فَقَال الأَصْحَابُ: الزَّرْعُ لمَنْ زَرَعَهُ وَعَليْهِ لرَبِّ الأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلهِ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِي البَيْعِ الفَاسِدِ وَإِنَّمَا رِوَايَةُ حَرْبٍ فِي الغَرْسِ.
وَذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ أَيْضًا فِي المُزَارَعَةِ الفَاسِدَةِ لأَنَّ الزَّرْعَ هُنَا اسْتَنَدَ إلى إذْنِ مَنْ لهُ الإِذْنُ فَلا يَكُونُ عُدْوَانًا.
وَيُحْتَمَل أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ إذْنِ المَالكِ وَمَنْ يَتَصَرَّفُ لغَيْرِهِ بِطَرِيقِ المَصْلحَةِ كَالوَصِيِّ فَلا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ لانْتِفَاءِ المَصْلحَةِ فِي العَقْدِ الفَاسِدِ وَيُحْتَمَل أَيْضًا التَّفْرِيقُ بَيْنَ عُقُودِ المِلكِ كَالبَيْعِ وَعُقُودِ التَّصَرُّفِ بِالإِذْنِ كَالمُزَارَعَةِ لأَنَّ عُقُودَ المِلكِ وَقَعَ العَقْدُ فِيهَا عَلى المِلكِ دُونَ الإِذْنِ وَلهَذَا لمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ المُشْتَرِي فِي العَقْدِ الفَاسِدِ بِخِلافِ عُقُودِ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ الإِذْنَ مَوْجُودٌ فِي صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا وَلذَلكَ صَحَّحْنَا التَّصَرُّفَ فِي فَاسِدِهَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلكَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ وَاصِل بْنِ أَبِي جَمِيلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ , عَنْ أَرْبَعَةٍ اشْتَرَكُوا فِي زَرْعٍ عَلى عَهْدِ رَسُول اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال أَحَدُهُمْ قِبَلي الأَرْضُ , وَقَال الآخَرُ قِبَلي الفَدَنُ , وَقَال الآخَرُ قِبَلي البَذْرُ , وَقَال الآخَرُ عَليَّ العَمَل.
فَلمَّا اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ تَفَاتَوْا فِيهِ إلى النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ "فَجَعَل الزَّرْعَ لصَاحِبِ البَذْرِ وَأَلغَى صَاحِبَ الأَرْضِ وَجَعَل لصَاحِبِ العَمَل دِرْهَمًا كُل يَوْمٍ , وَجَعَل لصَاحِبِ الفَدَّانِ شَيْئًا مَعْلومًا" , وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا الحَدِيثِ قَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ لا يَصِحُّ وَالعَمَل عَلى غَيْرِهِ.
وَقَال أَبُو دَاوُد سَمِعْتُ أَحْمَدَ ذَكَرَ هَذَا الحَدِيثَ قَال هُوَ مُنْكَرٌ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ جَعَل الزَّرْعَ لصَاحِبِ الأَرْضِ , وَفِي هَذَا الحَدِيثِ جَعَل الزَّرْعَ لصَاحِبِ البَذْرِ , وَهَذَا الكَلامُ يَدُل عَلى أَنَّ العَمَل عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَلى أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لصَاحِبِ الأَرْضِ فِي الإِجَارَةِ الفَاسِدَةِ وَالمُزَارَعَةِ الفَاسِدَةِ.
وَقَال فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الحَارِثِ الحَدِيثُ حَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ الخِطْمِيَّ يُشِيرُ إلى مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ.
قَال, قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَرَى بِهَا -يَعْنِي المُزَارَعَةَ- بَأْسًا حَتَّى بَلغَهُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ حَدِيثٌ فَلقِيَهُ فَقَال رَافِعٌ أَتَى النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بَنِي حَارِثَةَ فَرَأَى زَرْعًا فَقَال: "مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ , أَليْسَ أَرْضُ ظُهَيْرٍ؟" قَالوا بَلى وَلكِنَّهُ أَزْرَعَهَا , فَقَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: "خُذُوا زَرْعَكُمْ وَرُدُّوا عَليْهِ نَفَقَتَهُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَلأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ من حَدِيثِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أَنْعَمَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ , وَلابْنِ عَدِيٍّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِمَا ضَعْفٌ , وَكُل هَذِهِ وَارِدَةٌ فِي المُزَارَعَةِ الفَاسِدَةِ لا فِي الغَصْبِ.
وَقَدْ رَجَّحَ الإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَبِي جَعْفَرٍ عَلى حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِيمَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذنهم , وَقَال الحَدِيثُ حَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ وَقَال فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: أَبُو إِسْحَاقَ زَادَ فِيهِ زَرَعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَليْسَ غَيْرُهُ يَذْكُرُ هَذَا الحَرْفَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ التَّمَلكَ بِالنَّفَقَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي المُزَارَعَةِ الفَاسِدَةِ أَنْ يَتَمَلكَ الزَّرْعَ فِيهَا مَعَ ثُبُوتِ الحَدِيثِ فِيهَا بِخُصُوصِيَّتِهَا دُونَ الغَصْبِ لا سِيَّمَا وَقَدْ أَنْكَرَ حَدِيثَ جَعْل الزَّرْعِ لرَبِّ البَذْرِ وَصَرَّحَ بِأَنَّ العَمَل عَلى غَيْرِهِ.
وَقَدْ خَرَّجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَجْهًا فِي المُزَارَعَةِ الفَاسِدَةِ أَنَّهَا تُتَمَلكُ بِالنَّفَقَةِ مِنْ زَرْعِ الغَاصِبِ وَقَدْ رَأَيْت أَنَّ كَلامَ أَحْمَدَ إنَّمَا يَدُل عَليْهِ لا عَلى خِلافِهِ.
القِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَزْرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّ لهُ وِلايَةَ العَقْدِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلافِهِ مِثْل أَنْ تَتَبَيَّنَ الأَرْضُ مُسْتَحَقَّةً للغَيْرِ فَالمَنْصُوصُ أَنَّ لمَالكِ الأَرْضِ تَمَلكَهُ بِالنَّفَقَةِ أَيْضًا نَقَلهُ عَنْهُ الأَثْرَمُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الحَارِثِ.
وَمِنْهَا: وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلى قَوْل القَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ كَغَرْسِ الغَاصِبِ وَبِنَائِهِ , وَأَمَّا عَلى المَنْصُوصِ هُنَاكَ أَنَّ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ مُحْتَرَمٌ كَغَرْسِ المُسْتَعِيرِ وَالمُسْتَأْجِرِ وَبِنَائِهِمَا فَيَتَوَجَّهُ عَلى هَذَا أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لمَالكِهِ وَعَليْهِ الأُجْرَةُ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلى الغَاصِبِ لتَقْدِيرِهِ , وَبِمِثْل ذَلكَ أَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لكِنَّهُ جَعَل الزَّرْعَ بَيْنَ المَالكِ وَالمُزَارِعِ نِصْفَيْنِ بِنَاءً عَلى أَصْلهِ فِي إيجَارِ الغَاصِبِ بِالمَال أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَالكِ وَطَرْدُهُ أَنْ يَكُونَ زَرْعُ الغَاصِبِ كَذَلكَ وَلكِنْ لا نَعْلمُ بِهِ قَائِلاً , ثُمَّ وَجَدْنَا ابْنَ أَبِي ليْلى يَقُول بِذَلكَ فِي زَرْعِ الغَاصِبِ.
وَفِي أُجْرَةِ مَا بَنَاهُ فِي الأَرْضِ المَغْصُوبَةِ. وَقَدْ وَافَقَهُ أَحْمَدُ عَلى أُجْرَةِ البِنَاءِ خَاصَّةً.
وَيَشْهَدُ لهَذَا الوَجْهِ أَنَّ الزَّرْعَ النَّابِتُ فِي أَرْضِ الغَيْرِ مِمَّا حَمَلهُ السَّيْل لمَالكِهِ مُبْقَى هُنَا بِالأُجْرَةِ لحُصُولهِ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ وَلا تَفْرِيطٍ , وَإِنْ كَانَ الإِذْنُ مُنْتَفِيًا وَهَهُنَا مِثْلهُ وَيَحْتَمِل أَنْ يَتَمَلكَهُ مَالكُ الأَرْضِ أَيْضًا كَالمَزْرُوعِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ عَلى مَا دَل عَليْهِ كَلامُ أَحْمَدَ وَليْسَ الامْتِنَاعُ مِنْ قَلعِ الغَرْسِ مَجَّانًا مُنَافِيًا لتَمَلكِ الزَّرْعِ فَإِنَّ المَانِعَ مِنْ القَلعِ إدْخَال الضَّرَرِ عَلى مَالكِ الغِرَاسِ بِالنَّقْصِ وَهُوَ مَعْذُورٌ لغَرَرِهِ وَهُوَ يَتَعَذَّرُ عَليْهِ الرُّجُوعُ عَلى الغَاصِبِ وَالمُقْتَضِي لتَمَلكِ الزَّرْعِ هُوَ انْتِفَاءُ الإِذْنِ الصَّحِيحِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا وَلهَذَا يَتَمَلكُ غِرَاسَهُ وَإِنْ قِيل بِاحْتِرَامِهِ.
القِسْمُ الخَامِسُ: أَنْ يَزْرَعَ فِي أَرْضٍ بِمِلكِهِ لهَا أَوْ بِإِذْنِ مَالكِهَا ثُمَّ يَنْتَقِل مِلكُهَا إلى غَيْرِهِ وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا , وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَقِل مِلكُ الأَرْضِ دُونَ مَنْفَعَتِهَا المَشْغُولةِ بِالزَّرْعِ فِي بَقِيَّةِ مُدَّتِهِ فَالزَّرْعُ لمَالكِهِ وَلا أُجْرَةَ عَليْهِ بِسَبَبِ تَجَدُّدِ المِلكِ بِغَيْرِ إشْكَالٍ.
وَيَدْخُل تَحْتَ هَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ مَالكِهَا وَزَرَعَهَا ثُمَّ مَاتَ المُؤَجِّرُ وَانْتَقَلتْ إلى وَرَثَتِهِ.
وَمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَزَرَعَهَا ثُمَّ أَفْلسَ فَإِنَّ للبَائِعِ الرُّجُوعَ فِي الأَرْضِ وَالزَّرْعُ للمُفْلسِ.
وَمَنْ أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ أَرْضًا فَزَرَعَهَا ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول وَالزَّرْعُ قَائِمٌ -وَقُلنَا لهُ الرُّجُوعُ- فَإِنَّ الزَّرْعَ مُبْقَى بِغَيْرِ أُجْرَةٍ إلى أَوَانِ أَخْذِهِ وَكَذَلكَ حُكْمُ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ يَمْلكُهَا ثُمَّ انْتَقَلتْ إلى غَيْرِهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ الزَّرْعُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ مُبْقَى فِيهَا إلى أَوَانِ أَخْذِهِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ تَنْتَقِل الأَرْضُ بِجَمِيعِ مَنَافِعِهَا عَنْ مِلكِ الأَوَّل إلى غَيْرِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلةِ ذَلكَ الوَقْفُ إذَا زَرَعَ فِيهِ أَهْل البَطْنِ الأَوَّل أَوْ مَنْ أَجْرَوْهُ ثُمَّ انْتَقَل إلى البَطْنِ الثَّانِي وَالزَّرْعُ قَائِمٌ , فَإِنْ قِيل إنَّ الإِجَارَةَ لا تَنْفَسِخُ وَللبَطْنِ الثَّانِي حِصَّتُهُمْ مِنْ الأُجْرَةِ فَالزَّرْعُ مُبْقَى لمَالكِهِ بِالأُجْرَةِ السَّابِقَةِ , وَإِنْ قِيل بِالانْفِسَاخِ -وَهُوَ المَذْهَبُ الصَّحِيحُ- فَهُوَ كَزَرْعِ المُسْتَأْجِرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ المُدَّةِ إذَا كَانَ بَقَاؤُهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ المُسْتَأْجِرِ فَتَبْقَى بِالأُجْرَةِ إلى أَوَانِ أَخْذِهِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي مَسْأَلةِ الإِجَارَةِ المُنْقَضِيَةِ وَأَفْتَى بِهِ فِي الوَقْفِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَأَفْتَى مَرَّةً أُخْرَى بِأَنَّهُ يُجْعَل مُزَارَعَةً بَيْنَ المُزَارِعِ وَرَبِّ الأَرْضِ لنُمُوِّهِ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا وَبَذْرِ الآخَرِ , وَكَذَلكَ أَفْتَى فِي الأَقْطَاعِ المَزْرُوعَةِ إذَا انْتَقَلتْ إلى مَقْطَعٍ آخَرَ وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا.
وَمِنْهَا: الشَّفِيعُ إذَا انْتَزَعَ الأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ للمُشْتَرِي فَهُوَ مُحْتَرَمٌ وَهَل يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ المِثْل عَلى المُشْتَرِي؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وَهُوَ المَذْكُورُ فِي المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ وَقَال أَبُو البَرَكَاتِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ هُوَ أَصَحُّ الوَجْهَيْنِ لأَصْحَابِنَا إلحَاقًا لهُ بِبَيْعِ الأَرْضِ المَزْرُوعَةِ فَإِنَّ الأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ نَوْعُ بَيْعٍ قَهْرِيٍّ.
وَالثَّانِي: لهُ الأُجْرَةُ مِنْ حِينِ أَخْذِهِ ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ , وَهُوَ أَظْهَرُ لأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ جَمِيعًا لوُقُوعِ العَقْدِ عَليْهِمَا جَمِيعًا وَفِي تَرْكِ الزَّرْعِ مَجَّانًا تَفْوِيتٌ لحَقِّهِ مِنْ المَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلا يَجُوزُ.
القِسْمُ السَّادِسُ: حَمَل السَّيْل بَذْرَ إنْسَانٍ إلى أَرْضِ غَيْرِهِ فَنَبَتَ فِيهَا فَهَل يَلحَقُ بِزَرْعِ الغَاصِبِ لانْتِفَاءِ الإِذْنِ مِنْ المَالكِ فَيَمْلكُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِزَرْعِ المُسْتَأْجِرِ مِنْ بَعْدِ انْقِضَاءِ المُدَّةِ لانْتِفَاءِ العُدْوَانِ مِنْ صَاحِبِ
البَذْرِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ , أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ كَزَرْعِ المُسْتَعِيرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ القَاضِي وَابْنِهِ أَبِي الحُسَيْنِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ لكِنْ هَل يُتْرَكُ فِي الأَرْضِ مَجَّانًا أَمْ بِأُجْرَةٍ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُتْرَكُ مَجَّانًا قَالهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ لأَنَّهُ وَإِنْ انْتَفَى عَنْهُ إذْنُ المِلكِ فَقَدْ انْتَفَى عَنْهُ فِعْل الزَّارِعِ فَيَتَقَابَلانِ وَلأَنَّهُ حَصَل فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَهُوَ كَالقَائِمِ فِي الأَرْضِ المَبِيعَةِ.
وَالثَّانِي: لهُ الأُجْرَةُ ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ لأَنَّهُ زَرْعٌ حَصَل ابْتِدَاؤُهُ فِي أَرْضِ الغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنٍ فَأَوْجَبَ الأُجْرَةَ عَلى المُشْتَرِي مِنْ الغَاصِبِ وَهُوَ لا يَعْلمُ.
القِسْمُ السَّابِعُ: مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِإِذْنٍ غَيْرِ لازِمٍ كَالإِعَارَةِ ثُمَّ رَجَعَ المَالكُ فَالزَّرْعُ مُبْقَى لمَنْ زَرَعَهُ إلى أَوَانِ حَصَادِهِ بِغَيْرِ خِلافٍ لكِنْ هَل تَجِبُ عَليْهِ الأُجْرَةُ مِنْ حِينِ الرُّجُوعِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَشْهَرُهُمَا الوُجُوبُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِي: انْتِفَاءٌ لأَنَّهُ دَخَل عَلى الانْتِفَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ , وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُحَرَّرِ وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ يَشْهَدُ لهُ.
القِسْمُ الثَّامِنُ: مَنْ زَرَعَ فِي مِلكِهِ الذِي مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ لحَقِّ غَيْرِهِ كَالرَّاهِنِ وَالمُؤَجِّرِ وَكَانَ ذَلكَ يَضُرُّ بِالمُسْتَأْجِرِ وَبِالمُرْتَهِنِ لتَنْقِيصِهِ قِيمَةَ الأَرْضِ عِنْدَ حُلول الدَّيْنِ فَهُوَ كَزَرْعِ الغَاصِبِ: وَكَذَلكَ غِرَاسُهُ وَبِنَاؤُهُ فَيَقْلعُ الجَمِيعَ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَإِنَّمَا قُلعَ الزَّرْعُ مِنْهُ لأَنَّ مَالكَ الأَرْضِ هُنَا هُوَ الزَّارِعُ وَالمُتَعَلقُ حَقُّهُ بِهَا لا يُمْكِنُهُ تَمَلكُهُ لعَدَمِ مِلكِهِ فَيَتَعَيَّنُ القَلعُ وَفِيهِ نَظَرٌ.
أَمَّا فِي الرَّهْنِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَال إنَّ نَقْصَ الأَرْضِ يَنْجَبِرُ برهنية الزرع فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلةِ نَمَاءِ الأَرْضِ فَلا يَجُوزُ قَلعُهُ كَذَلكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إتْلافِ مَال الرَّاهِنِ.
وَقَدْ صَرَّحَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول بِأَنَّ الغِرَاسَ الحَادِثَ فِي الأَرْضِ المَرْهُونَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْل الرَّاهِنِ يَكُونُ رَهْنًا لأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا وَالزَّرْعُ مِثْلهُ وَلوْ قِيل إنَّهُ لا يَدْخُل فِي الرَّهْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الرَّاهِنِ أُجْرَةُ مِثْلهِ أَوْ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الأَرْضِ بِسَبَبِهِ وَيُجْعَل رَهْنًا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَكَلامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى مَا يَدُل عَلى جَوَازِ انْتِفَاعِ الرَّاهِنِ بِالرَّهْنِ بِإِذْنِ المُرْتَهِنِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الأُجْرَةُ وَتُجْعَل رَهْنًا وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ وَأَمَّا المُسْتَأْجِرُ -وَلا سِيَّمَا- إنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ لزَرْعٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَال لهُ يَمْلكُ الزَّرْعَ بِنَفَقَتِهِ إذْ هُوَ مَالكُ المَنْفَعَةِ كما قَدْ يُقَال مِثْلهُ فِي الزَّرْعِ فِي أَرْضِ الوَقْفِ إنَّ المَوْقُوفَ عَليْهِ يَتَمَلكُهُ بِالنَّفَقَةِ تَمَلكَهُ مَنْفَعَةَ الأَرْضِ وَيُحْمَل تَخْرِيجُ ذَلكَ عَلى الوَجْهَيْنِ فِي تَمَلكِ المَوْقُوفِ عَليْهِ للشُّفْعَةِ بِشَرِكَةِ الوَقْفِ عَلى طَرِيقِ مَنْ عَلل ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ بِكَوْنِهِ مَالكًا وَانْتِفَاءَهَا بِتَصَوُّرِ مِلكِهِ فَكَذَلكَ هَهُنَا , وَكَذَا القَوْل فِي تَمَلكِهِ للغِرَاسِ وَالبِنَاءِ وَعَلى هَذَا يَتَخَرَّجُ مَا لوْ غَصَبَ الأَرْضَ المُوصَى بِمَنَافِعِهَا أَوْ المُسْتَأْجَرَةَ وَزَرَعَ فِيهَا فَهَل يَتَمَلكُ الزَّرْعَ مَالكُ الرَّقَبَةِ أَوْ مَالكُ المَنْفَعَةِ؟
القاعدة الثمانون
القَاعِدَةُ الثَّمَانُونَ:مَا تَكَرَّرَ حَمْلهُ مِنْ أُصُول البُقُول وَالخَضْرَاوَاتِ هَل هُوَ مُلحَقٌ بِالزَّرْعِ أَوْ بِالشَّجَرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَيَنْبَنِي عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: هَل يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الأُصُول مُفْرَدَةً أَمْ لا؟ إنْ أَلحَقْنَاهَا بِالشَّجَرِ لتَكَرُّرِ حَمْلهَا جَازَ فِيهِ صَرَّحَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ وَفَرَّقَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَيْنَ مَا يَتَبَاقَى مِنْهَا سِنِينَ كَالقُطْنِ الحِجَازِيِّ فَيَجُوزُ بَيْعُ أُصُولهِ , وَمَا لا يَتَبَاقَى إلا سَنَةً وَنَحْوَهَا لا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلا بِشَرْطِ القَطْعِ إلا أَنْ تُبَاعَ مَعَهُ الأَرْضُ كَالزَّرْعِ وَرَجَّحَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ أَنَّ المَقَاثِيَ وَنَحْوَهَا لا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلا بِشَرْطِ القَطْعِ فَإِنَّهَا مَعَ أُصُولهَا مُعَرَّضَةٌ للآفَاتِ كَالزَّرْعِ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلامِ الخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَمِنْهَا: إذَا بَاعَ الأَرْضَ وَفِيهَا هَذِهِ الأُصُول فَإِنْ قُلنَا هِيَ كَالشَّجَرِ انْبَنَى عَلى أَنَّ الشَّجَرَ هَل يَدْخُل فِي بَيْعِ الأَرْضِ مَعَ الإِطْلاقِ أَمْ لا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ.
وَإِنْ قُلنَا هِيَ كَالزَّرْعِ لمْ تَدْخُل فِي البَيْعِ وَجْهًا وَاحِدًا وَللأَصْحَابِ فِي المَسْأَلةِ أَيْضًا طَرِيقَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الشَّجَرِ فِي تَبْقِيَةِ الأَرْضِ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُحَرَّرِ.
وَالثَّانِيَة: أَنَّهَا تَتْبَعُ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلافِ الشَّجَرِ لأَنَّ تَبْقِيَتِهَا فِي الأَرْضِ مُعْتَادٌ وَلا يَقْصِدُ نَقْلهَا وَتَحْوِيلهَا فَهِيَ كَالمَنْبُوذَاتِ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ وَصَاحِبِ المُغْنِي.
وَعَلى مَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلاً يُخَرَّجُ فِيهَا طَرِيقَةٌ ثَالثَةٌ أَنَّهَا لا تَتْبَعُ وَجْهًا وَاحِدًا كَالزَّرْعِ.
وَمِنْهَا: إذَا غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَ فِيهَا مَا يَتَكَرَّرُ حَمْلهُ فَإِنْ قِيل هُوَ كَالشَّجَرِ فَللمَالكِ قَلعُهُ مَجَّانًا وَإِنْ قِيل هُوَ كَالزَّرْعِ فَللمَالكِ تَمَلكُهُ بِالقِيمَةِ وَفِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي المُغْنِي.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى لقَطَةً ظَاهِرَةً مِنْ هَذِهِ الأُصُول فَتَلفَتْ بِجَائِحَةٍ قَبْل القَطْعِ فَإِنْ قِيل حُكْمُهَا حُكْمُ ثَمَرِ الشَّجَرِ تَلفَتْ مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ , وَإِنْ قِيل هِيَ كَالزَّرْعِ خُرِّجَتْ عَلى الوَجْهَيْنِ فِي إجَاحَةِ الزُّرُوعِ.
وَمِنْهَا: لوْ سَاقَى عَلى هَذِهِ الأُصُول فَإِنْ قِيل هِيَ كَالشَّجَرِ صَحَّتْ المُسَاقَاةُ وَإِنْ قِيل هِيَ كَالزَّرْعِ فَهِيَ مُزَارَعَةٌ.
القاعدة الحادية والثمانون
القَاعِدَةُ الحَادِيَة وَالثَّمَانُونَ:النَّمَاءُ المُتَّصِل فِي الأَعْيَانِ المَمْلوكَةِ العَائِدَةِ إلى مَنْ انْتَقَل المِلكُ عَنْهُ بِالمَفْسُوخِ تَتْبَعُ الأَعْيَانَ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يَتْبَعُ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ الشِّيرَازِيُّ فِي المُبْهِجِ , وَلمْ يَحْكِ فِيهِ خِلافًا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَيَتْبَعُ الأَصْل فِي التَّوْثِقَةِ وَالضَّمَانِ عَلى المَشْهُورِ.
وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: المَرْدُودُ بِالعَيْبِ إذَا كَانَ قَدْ زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلةً كَالسِّمَنِ وَتَعَلمِ صِنَاعَةٍ فَالمَشْهُورُ عِنْدَ الأَصْحَابِ أَنَّ الزِّيَادَةَ للبَائِعِ تَبَعًا لأَصْلهَا وَلا يَسْتَحِقُّ المُشْتَرِي عَليْهِ شَيْئًا وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ للمُشْتَرِي وَكَذَلكَ قَال الشِّيرَازِيُّ وَزَادَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلى البَائِعِ بِقِيمَةِ النَّمَاءِ وَكَذَلكَ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وأخذه مِنْ عُمُومِ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ إذَا اشْتَرَى غَنَمًا فَنَمَتْ ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَالنَّمَاءُ لهُ قَال: وَهَذَا يَعُمُّ المُنْفَصِل وَالمُتَّصِل.
قُلت: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ النَّمَاءِ المُتَّصِل صَرِيحًا كَمَا قَال الشِّيرَازِيُّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ اشْتَرَى سِلعَةً فَنَمَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بِهَا دَاءٌ فَإِنْ شَاءَ المُشْتَرِي حَبَسَهَا وَرَجَعَ بِقَدْرِ الدَّوَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَجَعَ عَليْهِ بِقَدْرِ النَّمَاءِ وَتَأَوَّلهَا القَاضِي عَلى أَنَّ النَّمَاءَ المُتَّصِل يَرُدُّهُ مَعَهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الفَسَادِ لأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلهِ رَجَعَ يَعُودُ إلى المُشْتَرِي وَفِي قَوْلهِ عَليْهِ يَعُودُ إلى البَائِعِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ المُشْتَرِي عَلى البَائِعِ بِقِيمَةِ النَّمَاءِ المُنْفَصِل.
وَوَجْهُ الإِجْبَارِ هُنَا عَلى دَفْعِ القِيمَةِ أَنَّ البَائِعَ قَدْ أُجْبِرَ عَلى أَخْذِ سِلعَتِهِ وَرَدِّ ثَمَنِهَا فَكَذَلكَ نَمَاؤُهَا المُتَّصِل بِهَا يَتْبَعُهَا فِي حُكْمِهَا وَإِنْ لمْ يَقَعْ عَليْهِ العَقْدُ وَالمَرْدُودُ بِالإِقَالةِ وَالخِيَارِ يَتَوَجَّهُ فِيهِ مِثْل ذَلكَ إلا أَنْ يُقَال الفَسْخُ للخِيَارِ وَقَعَ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ بِخِلافِ العَيْبِ وَالإِقَالةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي خِلافِهِمَا وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَمِنْهَا: المَبِيعُ إذَا أَفْلسَ مُشْتَرِيهِ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ وَوَجَدَهُ البَائِعُ قَدْ نَمَا نَمَاءً مُتَّصِلاً قَال القَاضِي وَأَصْحَابُهُ: يَرْجِعُ بِهِ وَلا شَيْءَ للمُفْلسِ وَكَذَلكَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ذَكَرَ الرُّجُوعَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِمَّا رَوَى المَيْمُونِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ إذَا زَادَتْ العَيْنُ أَوْ نَقَصَتْ يَرْجِعُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ , وَلفْظُ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ قِيل لهُ فَإِنْ كَانَ زَادَ أَوْ نَقَصَ يَوْمَ اشْتَرَاهُ قَال هُوَ أَحَقُّ بِهِ زَادَ أَوْ نَقَصَ , وَهَذَا يُحْتَمَل أَنْ يُرَادَ بِهِ زِيَادَةُ السِّعْرِ وَنُقْصَانُهُ وَإِنْ اُسْتُبْعِدَ ذَلكَ فَليْسَ فِي اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ مَا يُنَافِي مُطَالبَتَهُ بِقِيمَةِ الزِّيَادَةِ كَمَا لوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ صِبْغًا فِي الثَّوْبِ.
وَقَال الخِرَقِيِّ ليْسَ لهُ الرُّجُوعُ
وَذَكَرَ القَاضِي فِي كِتَابِ الهِبَةِ مِنْ خِلافِهِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ فَيَكُونُ أُسْوَةً بِالغُرَمَاءِ كَمَا لوْ طَلقَ الزَّوْجُ قَبْل الدُّخُول وَقَدْ زَادَ الصَّدَاقُ زِيَادَةً مُتَّصِلةً وَفَارَقَ الرَّدَّ بِالعَيْبِ عِنْدَ مَنْ سَلمَهُ لأَنَّ الرَّدَّ بِالعَيْبِ قَدْ رَضِيَ المُشْتَرِي بِرَدِّهِ بِزِيَادَتِهِ بِخِلافِ المُفْلسِ.
وَلأَنَّ الرَّدَّ بِالعَيْبِ اسْتَنَدَ إلى سَبَبٍ مُقَارِنٍ للعَقْدِ وَالفَسْخُ هُنَا اسْتَنَدَ إلى سَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ حُكْمُ الحَاكِمِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالطَّلاقِ قَبْل الدُّخُول وَيُنْتَقَضُ الأَوَّل بِمَا لوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِثَوْبٍ فَوَجَدَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِهِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ العَبْدَ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِنَ.
وَالثَّانِي: بِمَا لوْ بَاعَهُ عَيْنًا بَعْدَ إفْلاسِهِ وَقَبْل حَجْرِ الحَاكِمِ فَإِنَّ حَجْرَهُ إنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لثُبُوتِ المُفْلسِ وَظُهُورِهِ وَقَدْ سَبَقَ نَصَّ أَحْمَدَ بِذَلكَ.
وَأَيْضًا فَلوْ بَاعَهُ بَعْدَ الحَجْرِ وَلمْ يَعْلمْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ.
وَفَرَّقَ الأَوَّلونَ بَيْنَ رُجُوعِ البَائِعِ هَهُنَا وَبَيْنَ الصَّدَاقِ بِأَنَّ الصَّدَاقَ يُمْكِن للزَّوْجِ الرُّجُوعُ إلى بَدَلهِ تَامًّا بِخِلافِ البَائِعِ فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُهُ الدُّخُول إلى حَقِّهِ تَامًّا إلا بِالرُّجُوعِ , هَذَا ضَعِيفٌ لأَنَّ انْدِفَاعَ الضَّرَرِ عَنْهُ بِالبَدَل لا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنْ العَيْنِ وَلوْ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ يَبْطُل بِمَا لوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مُفْلسَةً فَإِنَّ حَقَّهُ لا يَثْبُتُ فِي العَيْنِ فَبَطَل الفَرْقُ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي الرَّدِّ بِالعَيْبِ أَنْ يَرْجِعَ البَائِعُ هَهُنَا وَيَرُدّ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ كَمَا لوْ صَبَغَ المُفْلسُ الثَّوْبَ.
وَمِنْهَا: مَا وَهَبَ الأَبُ لوَلدِهِ إذَا زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلةً فَهَل يَمْنَعُ رُجُوعَ الأَبِ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ.
وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ وَعَلى القَوْل بِجَوَازِهِ فَلا شَيْء عَلى الأَبِ للزِّيَادَةِ لأَنَّهَا تَابِعَةٌ لمَا يُبَاحُ لهُ مِنْ مَال وَلدِهِ فَهُوَ بِالرُّجُوعِ وَالقَبْضِ يَتَمَلكُ لهَا.
وَمِنْهَا: إذَا أَصْدَقَهَا شَيْئًا فَزَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلةً ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول لمْ يَكُنْ لهُ الرُّجُوعُ فِي نِصْفِهِ وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْهُ إلى قِيمَةِ النِّصْفِ ذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ وَلمْ نَعْلمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَصْحَابِ خِلافَهُ حَتَّى جَعَلهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَائِعِ المُفْلسِ بِأَنَّ فَسْخَ البَائِعِ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ وَالطَّلاقُ قَاطِعٌ للنِّكَاحِ مِنْ حِينِهِ فَلا يَكُونُ للزَّوْجِ حَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ وَهَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الفَسْخَ بِالفَلسِ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ حِينِهِ أَيْضًا فَهُوَ كَالطَّلاقِ.
وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ الرُّجُوعَ فِي النِّصْفِ بِزِيَادَةٍ مُتَّصِلةٍ مِنْ الرِّوَايَةِ المَحْكِيَّةِ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرُّجُوعِ فِي نِصْفِ الزِّيَادَةِ المُنْفَصِلةِ وَأَوْلى.
وَسَنَذْكُرُ أَصْل هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِالرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ بِزِيَادَتِهِ وَبِرَدِّ قِيمَةِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الفَسْخِ بِالعَيْبِ عَلى مَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا إذَا كَانَتْ العَيْنُ يُمْكِنُ فَصْلهَا وَقِسْمَتُهَا. وَإِنْ لمْ يَكُنْ فَهُوَ شَرِيكٌ بِقِيمَةِ النِّصْفِ يَوْمَ الإِصْدَاقِ.
وَمِنْهَا: إذَا اشْتَرَى قَصِيلاً بِشَرْطِ القَطْعِ فَتَرَكَهُ حَتَّى سَنْبَل وَاشْتَدَّ أَوْ ثَمَرًا وَلمْ يَبْدُ صَلاحُهُ بِشَرْطِ القَطْعِ فَتَرَكَهُ حَتَّى بَدَأَ صَلاحُهُ فَهَل يَبْطُل البَيْعُ بِذَلكَ أَمْ لا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَبْطُل وَهُوَ اخْتِيَارُ الخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي وَالأَكْثَرِينَ وَللبُطْلانِ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَأْخِيرَهُ مُحَرَّمٌ لحَقِّ اللهِ تَعَالى فَأَبْطَل البَيْعَ كَتَأْخِيرِ القَبْضِ فِي الرِّبَوِيَّات وَلأَنَّهُ وَسِيلةٌ إلى شِرَاءِ الثَّمَرَةِ وَبَيْعِهَا قَبْل بُدُوِّ صَلاحِهَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ , وَوَسَائِل المُحَرَّمِ مَمْنُوعَةٌ وَبِهَذَا عَلل أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ.
وَالمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ مَال المُشْتَرِي اخْتَلطَ بِمَال البَائِعِ قَبْل التَّسْليمِ عَلى وَجْهٍ لا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ فَبَطَل بِهِ البَيْعُ كَمَا لوْ تَلفَ فَإِنَّ تَلفَهُ فِي هَذِهِ الحَال يُبْطِل البَيْعَ لضَمَانِهِ عَلى البَائِعِ فَعَلى المَأْخَذِ الأَوَّل لا يَبْطُل البَيْعُ إلا بِالتَّأْخِيرِ إلى بُدُوِّ الصَّلاحِ وَاشْتِدَادِ الحَبِّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَظَاهِرُ كَلام الخِرَقِيِّ , وَيَكُونُ تَأَخُّرُهُ إلى مَا قَبْل ذَلكَ جَائِزًا.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الحَسَنِ بْنِ بَوَّابٍ عَلى أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ حَتَّى تَلفَ بِعَاهَةٍ قَبْل صَلاحِهِ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ مُعَللا بِأَنَّ هَذَا نَشَأَ فِي مِلكِ البَائِعِ وَنَخْلهِ فَلمَّا عَلل بِانْفِصَالهِ لمِلكِ البَائِعِ عَلمَ أَنَّ البَيْعَ لمْ يَكُنْ مُنْفَسِخًا قَبْل تَلفِهِ وَكَانَ التَّأْخِيرُ تَفْرِيطًا وَلوْ كَانَ المُشْتَرَى رَطْبَةً أَوْ مَا أَشْبَهَهَا مِنْ النَّعْنَاعِ وَالهِنْدَبَا أَوْ صُوفًا عَلى ظَهْرٍ فَتَرَكَهَا حَتَّى طَالتْ لمْ يَنْفَسِخْ البَيْعُ لأَنَّهُ لا نَهْيَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الأَشْيَاءَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ.
وَعَلى المَأْخَذِ الثَّانِي يَبْطُل البَيْعُ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ وَاخْتِلاطِ المَاليْنِ إلا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ الزِّيَادَةِ اليَسِيرَةِ كَاليَوْمِ وَاليَوْمَيْنِ وَنَصَّ عَلى ذَلكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ وَلا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الرَّطْبَةِ وَالبُقُول وَالصُّوفَةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ العَزِيزِ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ وَصَاحِبِ المُغْنِي وَبِمِثْل ذَلكَ أَجَابَ أَبُو الحَسَنِ الجَزَرِيُّ فِيمَنْ اشْتَرَى خَشَبًا ليَقْطَعَهُ فَتَرَكَهُ حَتَّى اشْتَدَّ وَغَلظَ أَنَّ البَيْعَ يَنْفَسِخُ. وَمَتَى تَلفَ بِجَائِحَةٍ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَطْعِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ المُشْتَرِي وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي المُجَرَّدِ وَالمُغْنِي وَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلى البَائِعِ عَلى هَذَا المَأْخَذِ بِغَيْرِ إشْكَالٍ وَإِمَّا عَلى الأَوَّل فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ عَلى المُشْتَرِي لأَنَّ مِلكَهُ إنَّمَا يَنْفَسِخُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ وَفِي تِلكَ الحَال تَجِبُ الزَّكَاةُ فَلا تَسْقُطُ بِمُقَارَنَتِهِ الفَسْخَ عَلى رَأْيِ مَنْ يَرَى جَوَازَ اقْتِرَانِ الحُكْمِ وَمَانِعِهِ كَمَا سَبَقَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ عَلى البَائِعِ ثُمَّ يَذْكُرُ الأَصْحَابُ فِيهِ خِلافًا لأَنَّ الفَسْخَ بِبُدُوِّ الصَّلاحِ اسْتَنَدَ إلى سَبَبٍ سَابِقٍ عَليْهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ القَطْعِ وَقَدْ يُقَال بَبْدُو الصَّلاحُ يَِتَعَيّنُ انْفِسَاخَ العَقْدِ مِنْ حِينِ التَّأْخِيرِ.
وَنَقَل أَبُو طَالبٍ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا تَرَكَهُ حَتَّى صَارَ شَعِيرًا إنْ أَرَادَ حِيلةً فَسَدَ البَيْعُ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ جَعَل هَذِهِ رِوَايَةً ثَالثَةً بِالبُطْلانِ مَعَ قَصْدِ التَّحَيُّل عَلى شِرَاءِ الزَّرْعِ قَبْل اسْتِنَادِهِ للتَّبْقِيَةِ كَابْنِ عَقِيلٍ
فِي التَّذْكِرَةِ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بَل مَتَى تَعَمَّدَ الحِيلةَ فَسَدَ البَيْعُ مِنْ أَصْلهِ وَلمْ يَنْعَقِدْ بِغَيْرِ خِلافٍ , وَإِنَّمَا الخِلافُ فِيمَا إذَا لمْ يَقْصِدْ الحِيلةَ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَدَا صَلاحُهُ كَصَاحِبِ المُغْنِي.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال قَصْدُ الحِيلةِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الإِثْمِ لا فِي الفَسَادِ وَعَدَمِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُعْلمُ بِاخْتِلافِ القِيمَةِ لعَدَمِ تَمْيِيزِهَا فِي نَفْسِهَا وَهِيَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ القِيمَةِ يَوْمَ الشِّرَاءِ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ الحَادِثَةِ بَعْدَهُ, كَذَلكَ قَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَلى مَا سَيَأْتِي , وَهُوَ مُتَمَشٍّ عَلى المَأْخَذِ الثَّانِي فِي الانْفِسَاخِ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ العَقْدِ.
وَأَمَّا عَلى المَأْخَذِ الأَوَّل فَالزِّيَادَةُ هِيَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ القِيمَةِ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ وَبَعْدَهُ لأَنَّهُ لمْ يَزُل عَنْهُ مِلكُ المُشْتَرِي وَقْتَ ظُهُورِ الصَّلاحِ , وَبِذَلكَ جَزَمَ فِي الكَافِي وَحَكَاهُ فِي المُغْنِي احْتِمَالاً عَنْ القَاضِي , وَبَقِيُّ الكَلامُ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ.
أَمَّا رِوَايَةُ الانْفِسَاخِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهَا للبَائِعِ وَهِيَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي وَنَقَلهَا أَبُو طَالبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ لأَنَّ البَيْعَ مَتَى انْفَسَخَ يَعُودُ إلى بَائِعِهِ بِنَمَائِهِ المُنْفَصِل كَسِمَنِ العَبْدِ وَنَحْوِهِ بَل هُنَا أَوْلى لأَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ تَيَقُّنِهِ فِي مِلكِهِ فَحَقُّهُ فِيهِ أَقْوَى.
وَالثَّانِيَة: يَتَصَدَّقَانِ بِهَا مَعَ فَسَادِ البَيْعِ.
قَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ: وَالرِّوَايَتَيْنِ نَقَلهَا حَنْبَلٌ قَال: وَهِيَ مَحْمُولةٌ عِنْدِي عَلى الاسْتِحْبَابِ بِوُقُوعِ الخِلافِ فِي صِحَّةِ العَقْدِ وَفَسَادِهِ وَمُسْتَحَقِّ النَّمَاءِ فَأَسْتَحِبُّ الصَّدَقَةَ بِهِ وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ ثُبُوتَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَال هِيَ سَهْوٌ مِنْ القَاضِي , قَال وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا القَاضِي فِي خِلافِهِ مُسْتَدِلاً بِهَا عَلى الصِّحَّةِ فَأَمَّا مَعَ الفَسَادِ فَلا وَجْهَ لهَذَا القَوْل , وَأَمَّا ابْنُ أَبِي مُوسَى فَقَال وَعَنْهُ يَتَصَدَّقُ البَائِعُ بِالفَضْل لأَنَّهُ نَمَاءٌ فِي غَيْرِ مِلكِهِ , وَهَذَا التَّعْليل يَرُدُّ عَليْهِ الزِّيَادَةَ فِي المَرْدُودِ بِالعَيْبِ وَنَحْوِهِ , لكِنَّ المُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَادَتْ إليْهِ لانْفِسَاخِ العَقْدِ عَلى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ بِخِلافِ الرَّدِّ بِالعَيْبِ , ثُمَّ حَكَى رِوَايَةً ثَالثَةً بِاشْتِرَاكِ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي فِي الزِّيَادَةِ , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْجِعُ إلى القَوْل بِأَنَّ الزِّيَادَةَ المُتَّصِلةَ لا تُتَّبَعُ فِي الفَسْخِ بَل تَبْقَى عَلى مِلكِ المُشْتَرِي , وَإِنَّمَا شَارَكَهُ البَائِعُ فِيهَا لأَنَّهَا نَمَتْ مِنْ مِلكِهِ وَمِلكِ المُشْتَرِي وَلوْلا ذَلكَ لانْفَرَدَ بِهَا المُشْتَرِي وَخَصَّ ابْنُ أَبِي مُوسَى هَذَا الخِلافَ بِالثِّمَارِ.
فَأَمَّا الزَّرْعُ فَلمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلافًا إلا أَنَّ الزِّيَادَةَ للبَائِعِ , وَأَمَّا عَلى رِوَايَةِ الصِّحَّةِ فَفِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ ثَلاثُ رِوَايَاتٍ.
إحْدَاها: إنَّمَا يَشْتَرِكَانِ بَيْنَهُمَا فِيهَا, نَقَلهَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ لحُدُوثِهَا عَلى مِلكَيْهِمَا كَمَا سَبَقَ وَحَمَلهَا القَاضِي عَلى الاسْتِحْبَابِ وَلا يَصِحُّ , وَبِالاشْتِرَاكِ أَجَابَ أَبُو حَفْصٍ البَرْمَكِيُّ فِيمَنْ اشْتَرَى خَشَبًا للقَطْعِ فَتَرَكَهُ حَتَّى اشْتَدَّ وَغَلظَ.
وَالثَّانِيَةُ: يَتَصَدَّقَانِ بِهَا وَأَخَذَهَا القَاضِي فِي خِلافِهِ مِنْ رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَتِلكَ قَدْ صَرَّحَ فِيهَا أَحْمَدُ بِفَسَادِ البَيْعِ عَلى مَا حَكَاهُ القَاضِي أَيْضًا فِي المُجَرَّدِ وَ كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ ثُمَّ قَال وَهَذَا عِنْدِي عَلى الاسْتِحْبَابِ المُنْهِي عَنْ رِبْحِ مَا لمْ يُضْمَنْ وَهَذَا لمْ يُضْمَنْ عَلى المُشْتَرِي فَكُرِهَ لهُ رِبْحُهُ وَكُرِهَ للبَائِعِ لحُدُوثِهِ عَلى مِلكِ المُشْتَرِي , وَكَذَلكَ مَال صَاحِبُ المُغْنِي إلى حَمْلهَا عَلى الاسْتِحْبَابِ لأَنَّ الصَّدَقَةَ بِالشُّبُهَاتِ مُسْتَحَبٌّ وَهَذِهِ شُبْهَةٌ لاشْتِبَاهِ الأَمْرِ فِي مُسْتَحَقِّهَا , وَلحُدُوثِهَا بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ وَيُشْبِهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِبْحِ مَال المُضَارَبَةِ إذَا خَالفَ فِيهِ المُضَارِبُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَفِيمَنْ أَجَّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بِرِبْحٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ لدُخُولهِ فِي رِبْحِ مَا لمْ يَضْمَنْ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالثَةُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ كُلهَا للبَائِعِ نَقَلهَا القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي مَسْأَلةِ زَرْعِ الغَاصِبِ , وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ اشْتَرَى قَصِيلاً فَتَرَكَهُ حَتَّى سَنْبَل يَكُونُ للمُشْتَرِي مِنْهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَرَى يَوْمَ اشْتَرَى فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ كَانَ للبَائِعِ صَاحِبِ الأَرْضِ قِيل لهُ: وَكَذَلكَ النَّخْل إذَا اشْتَرَاهُ ليَقْلعَهُ فَطَلعَ؟ قَال: كَذَلكَ فِي النَّخْل فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَهُوَ لصَاحِبِ الأَرْضِ البَائِعِ , وَوَجَّهَهُ القَاضِي بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ نَمَاءِ مِلكِ البَائِعِ فَهِيَ كَالرِّبْحِ فِي المَال المَغْصُوبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لصَاحِبِ المَال دُونَ الغَاصِبِ وَيُلغَى تَصَرُّفُهُ فِيهِ لكَوْنِهِ مَحْظُورًا كَذَلكَ هَهُنَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَصَرُّفِ الغَاصِبِ بِأَنَّ الغَاصِبَ إنَّمَا لهُ آثَارُ عَمَلٍ فَأُلغِيَتْ وَهُنَا للمُشْتَرِي عَيْنُ مَالٍ نَمَتْ فَكَيْفَ يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ نَمَائِهَا , وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ المُشْتَرِيَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالعَقْدِ مَا وَقَعَ عَليْهِ العَقْدُ مِنْ الثَّمَرَةِ وَمَا زَادَ عَلى ذَلكَ فَلا حَقَّ له فِيهِ وَهَذَا البَيْعُ لمْ يَتِمَّ قَبْضُهُ فِيهِ وَلا وُجِدَ فِي ضَمَانِهِ فَلا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَقْبِضَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَليْهِ البَيْعُ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ.
وَحَمَل القَاضِي قَوْل أَحْمَدَ هَهُنَا وَكَذَلكَ النَّخْل إذَا اشْتَرَاهُ ليَقْلعَهُ عَلى أَنَّهُ اشْتَرَى جُذُوعَهُ ليَقْطَعَهَا.
وَقَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَيَحْتَمِل عِنْدِي أَنْ يُقَال: بِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَرَةِ فِي صِفَتِهَا للمُشْتَرِي وَمَا طَال مِنْ الجِزَّةِ للبَائِعِ لأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لوْ فَرَضْنَا أَنَّ المُشْتَرِيَ كَانَ قَدْ جَزّ مَا اشْتَرَاهُ لأَمْكَنَ وُجُودُهَا وَيَكُونُ للبَائِعِ , فَكَذَلكَ إذَا لمْ تُجَزَّ انْتَهَى.
وَاخْتَارَ القَاضِي خِلافَ هَذَا كُلهِ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ كُلهَا للمُشْتَرِي مَعَ صِحَّةِ العَقْدِ وَللبَائِعِ مَعَ فَسَادِهِ وَلمْ يُثْبِتْ فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي المَذْهَبِ فِي هَذَا خِلافًا , وَمَا قَالهُ مِنْ انْفِرَادِ المُشْتَرِي بِالثَّمَرَةِ بِزِيَادَتِهَا مُخَالفٌ لمَنْصُوصِ أَحْمَدَ وَقِيَاسِهِ كَذَلكَ عَلى سِمَنِ العَبْدِ غَيْرُ صَحِيحٍ لأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ نَمَتْ مِنْ أَصْل البَائِعِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ إزَالتِهَا عَنْهُ بِخِلافِ سِمَنِ العَبْدِ وَطُولهِ وَلوْ قَال مَعَ ذَلكَ بِوُجُوبِ الأُجْرَةِ للبَائِعِ إلى حِينِ القَطْعِ لكَانَ أَقْرَبَ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ بَطَّةَ فِيمَنْ اشْتَرَى خَشَبًا للقَطْعِ فَتَرَكَهُ فِي أَرْضِ البَائِعِ حَتَّى غَلظَ وَاشْتَدَّ أَنَّهُ يَكُونُ بِزِيَادَتِهِ للمُشْتَرِي وَعَليْهِ لصَاحِبِ الأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ للمُدَّةِ التِي تَرَكَهَا فِيهِ وَأَخَذَهُ
مِنْ غَرْسِ الغَاصِبِ وَلكِنَّ تَبْقِيَةَ الشَّجَرِ فِي الأَرْضِ لهُ أُجْرَةٌ مُعْتَبَرَةٍ وَللمَالكِ الزَّرْعُ فَأَمَّا تَبْقِيَةُ الثَّمَرِ عَلى رُءُوسِ الشَّجَرِ فَلا يَسْتَحِقُّ لهُ أُجْرَةً بِحَالٍ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي التَّفْليسِ وَحُكْمُ العَرَايَا إذَا تُرِكَتْ فِي رُءُوسِ النَّخْل حَتَّى أَثْمَرَتْ حُكْمُ الثَّمَرِ إذَا تُرِكَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهُ عِنْدَ القَاضِي وَأَكْثَرُ الأَصْحَابِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لمْ يَحْكِ خِلافًا فِي البُطْلانِ فِي العَرِيَّةِ بِخِلافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ كَالحَلوَانِيِّ وَابْنِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ بَيْعَ العَرَايَا رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ المُزَابَنَةِ المُحَرَّمَةِ شُرِعَتْ للحَاجَةِ إلى أَكْل الرُّطَبِ وَشِرَائِهِ بِالثَّمَنِ فَإِذَا تُرِكَ حَتَّى صَارَ تَمْرًا فَقَدْ زَال المَعْنَى الذِي شُرِعَتْ لأَجْلهِ الرُّخْصَةُ وَصَارَ بَيْعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ فَلمْ يَصِحَّ إلا بِتَعْيِينِ المُسَاوَاةِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا العُقُودُ فَيُتَّبَعُ فِيهَا النَّمَاءُ المَوْجُودُ حِينَ ثُبُوتِ المِلكِ بِالقَبُول أَوْ غَيْرِهِ فَلمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ الإِيجَابِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.
فَمِنْ ذَلكَ: المُوصَى بِهِ إذَا نُمِّيَ نَمَاءً مُنْفَصِلاً بَعْدَ المَوْتِ وَقَبْل القَبُول فَإِنَّهُ يَتْبَعُ العَيْنَ إذَا احْتَمَلهُ الثُّلثُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُغْنِي.
وَقَال صَاحِبُ المُحَرَّرِ إنْ قُلنَا: لا يَنْتَقِل المِلكُ إلا مِنْ حِينِ القَبُول فَالزِّيَادَةُ مَحْسُوبَةٌ كَذَلكَ عَليْهِ مِنْ الثُّلثِ , وَإِنْ قُلنَا: ثَبَتَتْ مِنْ حِينِ المَوْتِ فَالزِّيَادَةُ لهُ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ عَليْهِ مِنْ التَّرِكَةِ لأَنَّهَا نَمَاءُ مِلكِهِ.
وَمِنْهُ: الشِّقْصُ المَشْفُوعُ إذَا كَانَ فِيهِ شَجَرٌ فَنَمَا قَبْل الأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِنَمَائِهِ بِالثَّمَنِ الذِي وَقَعَ عَليْهِ العَقْدُ وَلا شَيْءَ عَليْهِ فِي الزِّيَادَةِ وَكَذَلكَ لوْ كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ فَنَمَا وَقُلنَا يَتْبَعُ فِي الشُّفْعَةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الوَجْهَيْنِ فِيهِمَا وَلوْ تَأَبَّرَ الطَّلعُ المَشْمُول بِالبَيْعِ فِي يَدِ المُشْتَرِي ثُمَّ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ فَفِي تَبَعِيَّتِهِ وَجْهَانِ لتَعَلقِ حَقِّهِ بِالطَّلعِ وَنَمَائِهِ.
وَمِنْهُ: لوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْل الحَرْبِ مَا اسْتَوْلوْا عَليْهِ مِنْ مَال مُسْلمٍ ثُمَّ نَمَا عِنْدَ المُشْتَرِي نَمَاءً مُنْفَصِلاً حَتَّى زَادَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الذِي اشْتَرَاهُ بِهِ وَلا شَيْءَ عَليْهِ للزِّيَادَةِ فَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا.
وَأَمَّا تَبَعِيَّةُ النَّمَاءِ فِي عُقُودِ التَّوَثُّقِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ فِي الرَّهْنِ وَأَمْوَال الزَّكَاةِ وَالجَانِي فِي التَّرِكَةِ المُتَعَلقِ بِهَا حُقُوقُ الغُرَمَاءِ , وَإِنْ قِيل بِانْتِقَالهَا إلى الوَرَثَةِ لأَنَّ التَّعَلقَ فِيهَا إمَّا تَعَلقُ رَهْنٍ أَوْ جِنَايَةٍ وَالنَّمَاءُ المُتَّصِل تَابِعٌ فِيهِمَا صَرَّحَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِذَلكَ كُلهِ مُتَفَرِّقًا فِي كَلامِهِمَا.
وَأَمَّا عُقُودُ الضَّمَانِ فَتُتَّبَعُ فِي الغَصْبِ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لا يَتْبَعُ وَلا يَكُونُ النَّمَاءُ المُتَّصِل الحَادِثُ فِي يَدِ الغَاصِبِ مَضْمُونًا إذَا رَدَّ الأَصْل كَمَا قَبَضَهُ وَقِيَاسُهُ
العَارِيَّةُ لأَنَّ الانْتِفَاعَ حَاصِلٌ بِهِ فَيَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الأَصْل كَنَمَاءِ العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ وَتُتْبَعُ أَيْضًا فِي الصَّيْدِ الذِي فِي يَدِ المُحْرِمِ , وَفِي نَمَاءِ المَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ.
القاعدة الثانية والثمانون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَة وَالثَّمَانُونَ:وَالنَّمَاءُ المُنْفَصِل تَارَةً يَكُونُ مُتَوَلدًا مِنْ عَيْنِ الذَّاتِ كَالوَلدِ وَالطَّلعِ وَالصُّوفِ وَاللبَنِ وَالبَيْضِ وَتَارَةً يَكُونُ مُتَوَلدًا مِنْ غَيْرِهَا وَاسْتُحِقَّ بِسَبَبِ العَيْنِ كَالمَهْرِ وَالأَرْشِ.
وَالحُقُوقُ المُتَعَلقَةُ بِالأَعْيَانِ ثَلاثَةٌ: عُقُودٌ وفسوخ وَحُقُوقٌ يَتَعَلقُ بِغَيْرِ فَسْخٍ وَلا عَقْدٍ فَأَمَّا العُقُودُ فَلهَا حَالتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ تُرَدَّ عَلى الأَعْيَانِ بَعْدَ وُجُودِ نَمَائِهَا المُنْفَصِل فَلا يَتْبَعُهَا النَّمَاءُ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ العَيْنِ أَوْ غَيْرِهَا إلا مَا كَانَ مُتَوَلدًا مِنْ العَيْنِ فِي حَال اتِّصَالهِ بِهَا وَاسْتِتَارِهِ وَتَعَيُّبِهِ فِيهَا بِأَصْل الخِلقَةِ فَإِنَّهُ يَدْخُل تَبَعًا كَالوَلدِ وَاللبَنِ وَالبَيْضِ وَالطَّلعِ غَيْرِ المُؤَبَّرِ أَوْ كَانَ مُلازِمًا للعَيْنِ لا يُفَارِقُهَا عَادَةً كَالشَّعَرِ وَالصُّوفِ فَإِنَّهَا تَلحَقُ بِالمُتَّصِل فِي اسْتِتْبَاعِ العَيْنِ.
وَفِي المُجَرَّدِ وَالفُصُول وَجْهٌ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ لا يَدْخُل فِيهِ صُوفُ الحَيَوَانِ وَلبَنُهُ وَلا وَرَقُ الشَّجَرِ المَقْصُودِ وَهُوَ بَعِيدٌ , أَمَّا المُنْفَصِل البَائِنُ فَلا يَتْبَعُ بِغَيْرِ خِلافٍ إلا فِي التَّدْبِيرِ فَإِنَّ فِي اسْتِتْبَاعِ الأَوْلادِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ.
وَالحَالةُ الثَّانِيَة: أَنْ يَحْدُثَ النَّمَاءُ بَعْدَ وُرُودِ العَقْدِ عَلى العَيْنِ فَيَنْقَسِمُ العَقْدُ إلى تَمليكٍ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا عُقُودُ التَّمْليكَاتِ المُنَجَّزَةِ فَمَا وَرَدَ مِنْهَا عَلى العَيْنِ وَالمَنْفَعَةُ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَلزِمُ اسْتِتْبَاعَ النَّمَاءِ المُنْفَصِل مِنْ العَيْنِ وَغَيْرِهِ كَالبَيْعِ وَالهِبَةِ وَالعِتْقِ وَعِوَضِهِ وَعِوَضِ الخُلعِ وَالكِتَابَةِ وَالإِجَارَةِ وَالصَّدَاقِ وَغَيْرِهَا.
وَمَا وَرَدَ مِنْهَا عَلى العَيْنِ المُجَرَّدَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ كَالوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ دُونَ المَنَافِعِ وَالمُشْتَرِي لهَا مِنْ مُسْتَحِقِّهَا عَلى القَوْل بِصِحَّةِ المَبِيعِ فَلا يُتْبَعُ فِيهِ النَّمَاءُ مِنْ غَيْرِ العَيْنِ.
وَفِي اسْتِتْبَاعِ الأَوْلادِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلى أَنَّ الوَلدَ جُزْءٌ أَوْ كَسْبٌ وَمَا وَرَدَ فِيهَا عَلى المَنْفَعَةِ المُجَرَّدَةِ فَإِنْ عَمَّ المَنَافِعَ كَالوَقْفِ وَالوَصِيَّةِ بِالمَنْفَعَةِ تُتْبَعُ فِيهِ النَّمَاءَ الحَادِثَ مِنْ العَيْنَ وَغَيْرِهَا إلا الوَلدَ فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ مُصَرَّحًا بِهِمَا فِي الوَقْف وَمُخَرَّجَيْنِ فِي غَيْرِهِ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ جُزْءٌ أَوْ كَسْبٌ وَفِي أَرْشِ الجِنَايَةِ عَلى الطَّرَفِ بِالإِتْلافِ احْتِمَالانِ مَذْكُورَانِ فِي التَّرْغِيبِ هَل للمُوقَفِ عَليْهِ كَالفَوَائِدِ أَوْ يُشْتَرَى بِهِ شِقْصٌ يَكُونُ وَقْفًا كَبَدَل الجُمْلةِ فَإِنْ كَانَتْ الجِنَايَةُ بِغَيْرِ إتْلافٍ فَالأَرْشُ للمَوْقُوفِ عَليْهِ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ العَقْدُ عَلى مَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ لا تَتَأَبَّدُ كَالإِجَارَةِ فَلا تَتْبَعُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ النَّمَاءِ المُنْفَصِل بِغَيْرِ خِلافٍ وَأَمَّا عُقُودُ غَيْرِ التَّمْليكَاتِ المُنَجَّزَةِ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَؤُول إلى التَّمْليكِ فَمَا كَانَ مِنْهُ لازِمًا لا يَسْتَقِل العَاقِدُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِإِبْطَالهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ فِيهِ النَّمَاءَ المُنْفَصِل مِنْ العَيْنِ وَغَيْرِهَا وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: المُكَاتَبَةُ فَيَمْلكُ اكْتِسَابَهَا وَيَتْبَعُهَا أَوْلادُهَا بِمُجَرَّدِ العَقْدِ.
وَمِنْهَا: المُكَاتَبُ يَمْلكُ اكْتِسَابَهُ وَيَتْبَعُهُ أَوْلادُهُ مِنْ أَمَتِهِ كَمَا يَتْبَعُ الحُرَّ وَلدُهُ مِنْ أَمَتِهِ وَلا يَتْبَعُهُ وَلدُهُ مِنْ أَمَةٍ لغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا: المُوصَى بِعِتْقِهِ إذَا كَسَب بَعْدَ المَوْتِ وَقَبْل إعْتَاقِ الوَرَثَةِ فَإِنَّ كَسْبَهُ لهُ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ لأَنَّ إعْتَاقَهُ وَاجِبٌ لحَقِّ اللهِ تَعَالى وَلا يَتَوَقَّفُ عَلى قَبُولٍ فَهُوَ كَالمُعْتَقِ بِخِلافِ الوَصِيَّةِ لمُعَيَّنٍ وَقَال صَاحِبُ المُغْنِي فِي آخِرِ بَابِ العِتْقِ كَسْبُهُ للوَرَثَةِ كَأُمِّ الوَلدِ وَلكِنْ يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أُمَّ الوَلدِ مَمْلوكَةٌ لسَيِّدِهَا وَالمُوصَى بِعِتْقِهِ غَيْرُ مَمْلوكٍ للوَرَثَةِ لأَنَّ الوَصِيَّةَ تَمْنَعُ انْتِقَالهُ إليْهِمْ , وَإِذَا قِيل هُوَ عَلى مِلكِ المَيِّتِ فَهُوَ مِلكٌ تَقْدِيرِيٌّ لا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الكَسْبِ فَلوْ كَانَ أَمَةً فَوَلدَتْ قَبْل العِتْقِ وَبَعْدَ المَوْتِ تَبِعَهَا الوَلدُ كَأُمِّ الوَلدِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَال القَاضِي فِي تَعْليقِهِ لا يَعْتِقُ.
وَمِنْهَا: المُعَلقُ عِتْقُهُ بِوَقْتٍ أَوْ صِفَةٍ بَعْدَ المَوْتِ كَمَنْ قَال لعَبْدِهِ إنْ مِتُّ ثُمَّ دَخَلت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِسَنَةٍ وَصَحَّحْنَا ذَلكَ فَكَسْبُهُ بَيْنَ المَوْتِ وَوُجُودِ شَرْطِ العِتْقِ للوَرَثَةِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُغْنِي كَأُمِّ الوَلدِ بِخِلافِ المُوصَى بِعِتْقِهِ.
لأَنَّ ذَلكَ أَوْجَبَ عِتْقَهُ فِي الحَال وَهَذَا يَتَرَدَّدُ فِي وُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ الوَقْتُ المُعَيَّنُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلا تُوجَدُ الصِّفَةُ حَتَّى ذَكَرَ فِي المُغْنِي فِي مَنْعِ الوَارِثِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ قَبْل الصِّفَةِ احْتِمَاليْنِ.
وَصَرَّحَ صَاحِبُ المُسْتَوْعِبِ بِأَنَّهُ بَاقٍ عَلى حُكْمِ مِلكِ المَيِّتِ لا يَنْتَقِل إلى الوَرَثَةِ كَالمُوصَى بِعِتْقِهِ.
وَعَلى هَذَا فَيَتَوَجَّهُ أَنَّ كَسْبَهُ لهُ وَمَا قِيل مِنْ احْتِمَال مَوْتِهِ قَبْل الصِّفَةِ مُعَارَضٌ بِاحْتِمَال مَوْتِ المُوصَى بِعِتْقِهِ قَبْل العِتْقِ , وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَمَةً وَوَلدَتْ بَعْدَ المَوْتِ فَهُوَ تَابِعٌ لهَا كَأُمِّ الوَلدِ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ مُتَوَجَّهٌ سَوَاءٌ قِيل إنَّ هَذَا العَقْدَ تَدْبِيرٌ كَقَوْل ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ أَوْ قِيل إنَّهُ تَعْليقٌ كَقَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ فَإِنَّهُ تَعْليقٌ لازِمٌ مُسْتَقِرٌّ لا يُمْكِنُ إبْطَالهُ فَهُوَ كَالكِتَابَةِ , وَهَذَا يَشْهَدُ لمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَبَعِيَّةِ الوَلدِ فِي التِي قَبْلهَا.
وَمِنْهَا: المُوصَى بِوَقْفِهِ إذَا نَمَا بَعْدَ المَوْتِ وَقَبْل إيقَافِهِ فَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ يُصْرَفُ مُنْصَرَفَ الوَقْفِ لأَنَّ نَمَاءَهُ قَبْل الوَقْفِ كَنَمَائِهِ بَعْدَهُ.
ومنها: مَا نَقَل يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ جَعَل مَالاً فِي وُجُوهِ البِرِّ فَاتَّجَرَ
بِهِ الوَصِيُّ قَال إنْ رَبِحَ جَعَل رِبْحَهُ مَعَ المَال فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَإِنْ خَسِرَ كَانَ ضَامنًا , فَهَذَا إنْ كَانَ مُرَادُهُ إذَا وَصَّى بِتَفْرِقَةِ عَيْنِ المَال فَوَاضِحٌ وَإِنْ كَانَ وَصَّى أَنْ يَشْتَرِيَ فِيمَا يَنْمُو وَيُوقَفَ أَوْ يُتَصَدَّقَ بِنَمَائِهِ كَانَ مُخَالفًا لمَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ.
وَمِنْهَا: المُوصَى بِهِ لمُعَيَّنٍ يَقِفُ عَلى قَبُولهِ إذَا نَمَا بَعْدَ المَوْتِ وَقَبْل القَبُول نَمَاءً مُنْفَصِلاً فَيَنْبَنِي عَلى أَنَّ المِلكَ قَبْل القَبُول هَل هُوَ للوَارِثِ أَوْ للمَيِّتِ أَوْ للمُوصَى لهُ , وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ فَإِنْ قِيل إنَّهُ للوَارِثِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِنَمَائِهِ وَإِنْ قِيل هُوَ عَلى مِلكِ المَيِّتِ فَنَمَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ وَإِنْ قِيل إنَّهُ للمُوصَى لهُ بِمَعْنَى أَنَّا نَتَبَيَّنُ بِقَبُولهِ مِلكَهُ بِالمَوْتِ أَوْ قِيل إنَّهُ لا يَتَوَقَّفُ مِلكُهُ عَلى قَبُولٍ فَنَمَاؤُهُ كُلهُ للمُوصَى لهُ.
وَمِنْهَا: النَّذْرُ وَالصَّدَقَةُ وَالوَقْفُ إذَا لزِمَتْ فِي عَيْنٍ لمْ يَجُزْ لمَنْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلكِهِ أَنَّهُ يَشْتَرِي شَيْئًا مِنْ نِتَاجِهَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي الصَّدَقَةِ وَالوَقْفِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ.
وَلوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ بَانَ بِهِ عَيْبٌ فَأَخَذَ أَرْشَهُ فَهَل يَمْلكُ لنَفْسِهِ أَوْ يَجِبُ عَليْهِ صَرْفُهُ فِي الرِّقَابِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَخَصَّ القَاضِي الرِّوَايَتَيْنِ بِالعِتْقِ عَنْ الوَاجِبِ إذَا كَانَ العَيْبُ يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ إلحَاقًا للأَرْشِ بِالوَلاءِ.
وَلوْ اشْتَرَى شَاةً فَأَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً ثُمَّ أَصَابَ بِهَا عَيْبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ اشْتَرَى بِهِ أُضْحِيَّةً فَإِنْ لمْ يُمْكِنْ تَصَدَّقَ بِهِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العِتْقِ بِأَنَّ القَصْدَ مِنْ العِتْقِ تَكْمِيل أَحْكَامِ العَبْدِ وَقَدْ حَصَل وَالقَصْدُ مِنْ الأُضْحِيَّةِ إيصَال لحْمِهَا إلى المَسَاكِينِ فَإِذَا كَانَ فِيهِ عَيْبٌ دَخَل الضَّرَرُ عَليْهِمْ فَوَجَبَ رد أَرْشُهُ عَليْهِمْ جَبْرًا لحَقِّهِمْ وَفِي الكَافِي احْتِمَالٌ آخَرُ أَنَّ الأَرْشَ لهُ كَمَا فِي العِتْقِ وَأَمَّا الهَدْيُ وَالأَضَاحِيّ إذَا تَعَيَّنَ فَإِنْ قِيل إنَّ مِلكَهُ لا يَزُول بِالتَّعْيِينِ كَقَوْل القَاضِي وَالأَكْثَرِينَ فَهُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَإِنْ جَازَ إبْدَالهُ لأَنَّ إبْدَالهُ نَقْلٌ للحَقِّ لا إسْقَاطٌ لهُ كَالوَقْفِ وَيَتْبَعُهُ نَمَاؤُهُ مِنْهُ كَالوَلدِ فَإِذَا وَلدَتْ الأُضْحِيَّةُ ذَبَحَ مَعَهَا وَلدَهَا وَهَل يَكُونُ أُضْحِيَّةً بِطَرِيقِ التَّبَعِ أَمْ لا؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ أُضْحِيَّةٌ قَالهُ فِي المُغْنِي فَيَجُوزُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ كَأُمِّهِ.
وَالثَّانِي: ليْسَ بِأُضْحِيَّةٍ قَالهُ ابْنُ عَقِيلٍ قَال: وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ صَحِيحًا فَهَل يُجْزِئُ؟ فِيهِ احْتِمَالانِ لتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الصَّدَقَةِ المُطْلقَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَحْذِيَ بِهِ حَذْوَ الأُمِّ وَالأَشْبَهُ بِكَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ أُضْحِيَّةٌ فَإِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ مشيش يَذْبَحُهَا وَوَلدَهَا عَنْ سَبْعَةٍ وَقَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فِي الذَّبْحِ وَأَنْكَرَ قَوْل مَنْ قَال لا يَبْدَأُ إلا بِالأُمِّ وَعَلى هَذَا فَهَل يَصِيرُ الوَلدُ تَابِعًا لأُمِّهِ أَوْ مُسْتَقِلاً بِنَفْسِهِ حَتَّى
لوْ بَاعَ أُمَّهُ أَوْ عَابَتْ وَقُلنَا يُرَدّ إلى مِلكِهِ فَهَل يَرْجِعُ وَلدُهَا مَعَهَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي المُغْنِي وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ ابْتِدَاءً أَوْ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ عَلى صَحِيحٍ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ المُعَيَّنَةَ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ لا يَتْبَعُهَا وَلدُهَا لأَنَّ الوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ وَالصَّحِيحُ الأَوَّل لأَنَّهَا بِالتَّعْيِينِ صَارَتْ كَالمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا اللبَنُ فَيَجُوزُ شُرْبُهُ مَا لمْ يُعْجِفْهَا للنَّصِّ وَلأَنَّ الأَكْل مِنْ لحْمِهَا جَائِزٌ فَيَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِغَيْرِهِ مِنْ مَنَافِعِهَا وَمِنْ دَرِّهَا وَظَهْرِهَا فَأَمَّا الصُّوفُ فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى كَرَاهَةِ جَزِّهِ إلا أَنْ يَطُول وَيَكُونَ جَزُّهُ نَفْعًا لهَا , قَال الأَصْحَابُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصُّوفِ وَاللبَنِ بِأَنَّ الصُّوفَ كَانَ مَوْجُودًا حَال إيجَابِهَا فَوَرَدَ الإِيجَابُ عَليْهِ وَاللبَنُ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهُوَ كَمَنْفَعَةِ ظَهْرِهَا.
وَقَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَيُسْتَحَبُّ لهُ الصَّدَقَةُ بِالشَّعْرِ وَلهُ الانْتِفَاعُ بِهِ وَذَكَرَ ابْنُ الزاغوني أَنَّ اللبَنَ وَالصُّوفَ لا يَدْخُلانِ فِي الإِيجَابِ وَلهُ الانْتِفَاعُ بِهِمَا إذَا لمْ يَضُرَّ بِالهَدْيِ وَكَذَلكَ قَال صَاحِبُ التَّلخِيصِ فِي اللبَنِ.
وَلوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَ الهَدْيِ المُعَيَّنِ ابْتِدَاءً أُخِذَ مِنْهُ أَرْشُهُ وَتُصُدِّقَ بِهِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَإِنْ قِيل بِزَوَال مِلكِهِ بِالتَّعْيِينِ كَقَوْل أَبِي الخَطَّابِ فَهُوَ مِنْ قِسْمِ التَّمْليكَاتِ المُنْجَزَةِ كَالعِتْقِ وَالوَقْفِ وَإِنْ جَازَ الانْتِفَاعُ بِبَعْضِ مَنَافِعِهِ كَمَنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ جُمْلةِ المُسْلمِينَ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ لازِمٍ وَهُوَ مَا يَمْلكُ العَاقِدُ إبْطَالهُ إمَّا بِالقَوْل أَوْ تُمْنَعُ نُفُوذُ الحَقِّ المُتَعَلقِ بِهِ بِإِزَالةِ المِلكِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ إبْدَالٍ فَلا يُتْبَعُ فِيهِ النَّمَاءُ مِنْ غَيْرِ عَيْنِهِ , وَفِي اسْتِتْبَاعِ الوَلدِ خِلافٌ , وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: المُدَبَّرَةُ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا وَلدُهَا عَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى لا يَتْبَعُهَا وَزَعَمَ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ أَنَّ هَذَا الخِلافَ نَزَل عَلى أَنَّ التَّدْبِيرَ هَل هُوَ لازِمٌ أَمْ لا؟ فَإِنْ قِيل بِلزُومِهِ تَبِعَ الوَلدُ وَإِلا لمْ يَتْبَعْ وَأَبَى أَكْثَرُ الأَصْحَابِ ذَلكَ وَعَلى القَوْل بِالتَّبَعِيَّةِ قَال الأَكْثَرُونَ يَكُونُ مُدَبِّرًا بِنَفْسِهِ لا بِطَرِيقِ التَّبَعِ بِخِلافِ وَلدِ المُكَاتَبَةِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَلى أَنَّ الأُمَّ لوْ عَتَقَتْ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ لمْ يَعْتِقْ الوَلدُ حَتَّى يَمُوتَ وَعَلى هَذَا لوْ رَجَعَ فِي تَدْبِيرِ الأُمِّ وَقُلنَا لهُ ذَلكَ بَقِيَ الوَلدُ مُدَبَّرًا هَذَا قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ: بَل هُوَ تَابِعٌ مَحْضٌ لهَا إنْ عَتَقَتْ عَتَقَ وَإِنْ رَقَّتْ رَقَّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى أَيْضًا.
وَمِنْهَا: المُعَلقُ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ إذَا حَمَلتْ وَوَلدَتْ بَيْنَ التَّعْليقِ وَوُجُودِ الصِّفَةِ فَفِي عِتْقِهِ مَعَهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ وَلوْ لمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ فِي الأُمِّ لمْ يُعْتَقْ وَلوْ وُجِدَتْ فِيهِ الصِّفَةُ لأَنَّهُ تَابِعٌ مَحْضٌ.
وَمِنْهَا: المُوصَى بِعِتْقِهَا أَوْ وَقْفِهَا إذَا وَلدَتْ قَبْل مَوْتِ المُوصَى لمْ يَتْبَعْهَا ذَكَرَهُ القَاضِي فِي المُوصَى
بِعِتْقِهَا وَقِيَاسُهُ الأُخْرَى وَيُحْتَمَل أَنْ تَتْبَعَ فِي الوَصِيَّةِ بِالوَقْفِ بِنَاءً عَلى أَنَّ المُغَلبَ فِيهِ شَوْبُ التَّحْرِيرِ دُونَ التَّمْليكِ.
وَمِنْهَا: المُعَلقُ وَقْفُهَا بِالمَوْتِ إنْ قُلنَا هُوَ لازِمٌ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ صَارَتْ كَالمُسْتَوْلدَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَهَا وَلدُهَا وَإِنْ قُلنَا ليْسَ بِلازِمٍ وَكَلامُ أَحْمَدَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ يُشْعِرُ بِهِ حَيْثُ قَال: إنْ كَانَ تَنَاوَل وَشَبَّهَهُ بِالمُدَبَّرِ يَعْنِي أَنَّهُ يَتْبَعُهُ فَهَل يَتْبَعُهَا الوَلدُ كَالمُدَبَّرِ أَوْ لا يَتْبَعُ لأَنَّ الوَقْفَ تُغَلبُ فِيهِ شَائِبَةُ التَّمْليكِ فَهُوَ كَالمُوصَى بِهِ وَيَحْتَمِل وَجْهَيْنِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: عُقُودٌ مَوْضُوعَةٌ لغَيْرِ تَمْليكِ العَيْنِ فَلا يُمْلكُ بِهَا النَّمَاءُ بِغَيْرِ إشْكَالٍ إذْ الأَصْل لا يُمْلكُ فَالفَرْعُ أَوْلى وَلكِنْ هَل يَكُونُ النَّمَاءُ تَابِعًا لأَصْلهِ فِي وُرُودِ العَقْدِ عَليْهِ وَفِي كَوْنِهِ مَضْمُونًا أَمْ غَيْرَ مَضْمُونٍ فَإِنْ كَانَ العَقْدُ وَارِدًا عَلى العَيْنِ وَهُوَ لازِمٌ فَحُكْمُ النَّمَاءِ حُكْمُ الأَصْل , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لازِمٍ أَوْ لازِمًا لكِنَّهُ مَعْقُودٌ عَلى المَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْيِيدٍ أَوْ عَلى مَا فِي الذِّمَّةِ فَلا يَكُونُ النَّمَاءُ دَاخِلاً فِي العَقْدِ وَهَل يَكُونُ تَابِعًا للأَصْل فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَابِعٌ لهُ فِيهِمَا.
وَالثَّانِي: إنْ شَارَكَ الأَصْل فِي المَعْنَى الذِي أَوْجَبَ الضَّمَانَ أَوْ الائْتِمَانَ تَبِعَهُ وَإِلا فَلا وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:.
منها: المَرْهُونُ فَنَمَاؤُهُ المُنْفَصِل كُلهُ رَهْنٌ مَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَوَلدًا مِنْ عَيْنِهِ كَالثَّمَرَةِ وَالوَلدِ أَوْ مِنْ كَسْبِهِ كَالأُجْرَةِ أَوْ بَدَلاً عَنْهُ كَالأَرْشِ وَهُوَ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَيَمْلكُ الوَكِيل فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَيْعَهُ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ العَقْدِ وَالتَّوْكِيل.
وَمِنْهَا: الأَجِيرُ كَالرَّاعِي وَغَيْرِهِ فَيَكُونُ النَّمَاءُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَأَصْلهِ وَلا يَلزَمُهُ رَعْيُ سِخَال الغَنَمِ المُعَيَّنَةِ فِي عَقْدِ الرَّعْيِ لأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلةٍ فِيهِ بِخِلافِ مَا إذَا كَانَ الاسْتِئْجَارُ عَلى رَعْيِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ عَليْهِ رَعْيَ سِخَالهَا لأَنَّ عَليْهِ أَنْ يَرْعَى مَا جَرَى العُرْفُ بِهِ مَعَ الإِطْلاقِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ.
وَمِنْهَا: المُسْتَأْجِرُ يَكُونُ النَّمَاءُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَأَصْلهِ وَليْسَ لهُ الانْتِفَاعُ بِهِ لأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي العَقْدِ وَهَل لهُ إمْسَاكُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ مَالكِهِ تَبَعًا لأَصْلهِ جَعْلاً للإِذْنِ فِي إمْسَاكِ أَصْلهِ إذْنًا فِي إمْسَاكِ نَمَائِهِ أَمْ لا؟ كَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلى دَارِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرَّجَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: الوَدِيعَةُ هَل يَكُونُ نَمَاؤُهَا وَدِيعَةً وَأَمَانَةً مَحْضَةً كَالثَّوْبِ المُطَارِ إلى دَارِهِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَيْضًا.
ومنها: العَارِيَّةُ لا يُرَدُّ عَقْدُ الإِعَارَةِ عَلى وَلدِهَا فَليْسَ للمُسْتَعِيرِ الانْتِفَاعُ بِهِ وَهَل هُوَ مَضْمُونٌ كَأَصْلهِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَابِ الرَّهْنِ.
أَحَدُهُمَا: هُوَ مَضْمُونٌ لأَنَّهُ تَابِعٌ لأَصْلهِ.
وَالثَّانِي: ليْسَ بِمَضْمُونٍ لأَنَّ أَصْلهُ إنَّمَا ضُمِنَ لإِمْسَاكِهِ للانْتِفَاعِ بِهِ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالنَّمَاءُ مَمْسُوكٌ لحِفْظِهِ عَلى المَالكِ فَيَكُونُ أَمَانَةً وَقَالا فِي كِتَابِ الغَصْبِ. إنَّ فِي وَلدِ العَارِيَّةِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَمِنْهَا: المَقْبُوضَةُ عَلى وَجْهِ السَّوْمِ إذَا وَلدَتْ فِي يَدِ القَابِضِ قَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ حُكْمُهُ حُكْمُ أَصْلهِ إنْ قُلنَا هُوَ مَضْمُونٌ فَالوَلدُ مَضْمُونٌ وَإِلا فَلا يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ ليْسَ بِمَضْمُونٍ كَوَلدِ العَارِيَّةِ لأَنَّ أُمَّهُ إنَّمَا ضَمِنَتْ لقَبْضِهَا بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَالتَّمْليكِ وَالوَلدِ وَلمْ يَحْصُل قَبْضُهُ عَلى هَذَا الوَجْهِ فَهُوَ كَالثَّوْبِ المُطَارِ بِالرِّيحِ إلى مِلكِهِ.
وَمِنْهَا: المَقْبُوضُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَفِي ضَمَانِ زِيَادَتِهِ وَجْهَانِ وَوَجَّهَ القَاضِي سُقُوطَ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَل عَلى ضَمَانِ العَيْنِ دُونَ نَمَائِهَا وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِتَضْمِينِهِ الأُجْرَةَ.
وَمِنْهَا: الشَّاهِدَةُ وَالضَّامِنَةُ وَالكَفِيلةُ لا يَتَعَلقُ بِأَوْلادِهِنَّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحْكَامِ لأَنَّ هَذِهِ حُقُوقٌ مُتَعَلقَةٌ بِالذِّمَّةِ لا بِالعَيْنِ فَهِيَ كَسَائِرِ عُقُودِ المُدَايَنَاتِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَاخْتَارَ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّ وَلدَ الضَّامِنَةِ يَتْبَعُهَا وَيُبَاعُ مَعَهَا كَوَلدِ المَرْهُونَةِ بِنَاءً عَلى أَنَّ دَيْنَ المَأْذُونِ لهُ يَتَعَلقُ بِرَقَبَتِهِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ لأَنَّ التَّعَلقَ بِالرَّقَبَةِ هُنَا كَتَعَلقِ الجِنَايَةِ فَلا يَسْرِي.
وَمِنْهَا: لوْ حَلفَ لا يَأْكُل مِمَّا اشْتَرَاهُ فُلانٌ فَأَكَل مِنْ لبَنِهِ أَوْ بَيْضِهِ لمْ يَحْنَثْ لأَنَّ العَقْدَ لمْ يَتَعَلقْ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ فَإِنَّ اليَمِينَ ليْسَتْ لازِمَةً بَل يُخَيَّرُ الحَالفُ بَيْنَ التِزَامِهَا وَبَيْنَ الحِنْثِ فِيهَا وَتَكْفِيرِهَا وَهَذَا بِخِلافِ مَا لوْ حَلفَ لا يَأْكُل مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْل لبَنِهَا لأَنَّهُ لا يُؤْكَل مِنْهَا فِي الحَيَاةِ عَادَةً إلا اللبَنُ فَأَمَّا نِتَاجُهَا فَفِيهِ نَظَرٌ.
فَصْلٌ: هَذَا حُكْمُ النَّمَاءِ فِي العُقُودِ وَأَمَّا فِي الفُسُوخِ فَلا تَتْبَعُ فِيهَا النَّمَاءَ الحَاصِل مِنْ الكَسْبِ بِغَيْرِ خِلافٍ , وَأَمَّا المُتَوَلدُ مِنْ العَيْنِ فَفِي تَبَعِيَّتِهِ فِيهَا رِوَايَتَانِ فِي الجُمْلةِ تَرْجِعَانِ إلى أَنَّ الفَسْخَ هَل هُوَ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ أَوْ مِنْ حِينِهِ وَالأَصَحُّ عَدَمُ الاسْتِتْبَاعِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: إذَا عَجَّل الزَّكَاةَ ثُمَّ هَلكَ المَال وَقُلنَا لهُ الرُّجُوعُ بِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا وَهَل يَرْجِعُ بِزِيَادَتِهَا المُتَّصِلةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا لا يَرْجِعُ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَمِنْهَا: المَبِيعُ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ إذَا نَمَا نَمَاءً مُنْفَصِلاً ثُمَّ فُسِخَ البَيْعُ هَل يَرْجِعُ البَائِعُ أَمْ لا؟ خَرَّجَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ كَصَاحِبَيْ التَّلخِيصِ وَالمُسْتَوْعِبِ عَلى وَجْهَيْنِ كَالفَسْخِ بِالعَيْبِ , وَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ أَنَّ الفَسْخَ بِالخِيَارِ فَسْخٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ لأَنَّهُ لمْ يَرْضَ فِيهِ بِلزُومِ البَيْعِ بِخِلافِ الفَسْخِ بِالعَيْبِ وَنَحْوِهِ فَعَلى هَذَا يَرْجِعُ بِالنَّمَاءِ المُنْفَصِل فِي الخِيَارِ بِخِلافِ العَيْبِ.
وَمِنْهَا: الإِقَالةُ إذَا قُلنَا هِيَ فَسْخٌ فَالنَّمَاءُ للمُشْتَرِي ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ , وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَرُدُّهُ مَعَ أَصْلهِ حَكَاهُ أَبُو البَرَكَاتِ فِي تَعْليقِهِ عَنْ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَيْضًا.
وَمِنْهَا: الرَّدُّ بِالعَيْبِ وَفِي رَدِّ النَّمَاءِ فِيهِ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ لا يُرَدُّ كَالكَسْبِ وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ كَلامًا يَدُل عَلى أَنَّ اللبَنَ وَحْدَهُ يُرَدُّ عِوَضُهُ لحَدِيثِ المُصَرَّاةِ وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا أَنَّهُ ذَكَرَ لهُ قَوْل سُفْيَانَ فِي رَجُلٍ بَاعَ مَاشِيَةً أَوْ شَاةً فَوَلدَتْ أَوْ نَخْلاً لهَا ثَمَرَةٌ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَوْ اسْتَحَقَّ أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ وَقِيمَةُ الوَلدِ إنْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِمْ شَيْئًا أَوْ كَانَ بَاعَ أَوْ اسْتَهْلكَ فَإِنْ كَانَ مَاتَ أَوْ ذَهَبَ بِهِ الرِّيحُ فَليْسَ عَليْهِ شَيْءٌ.
قَال أَحْمَدُ كَمَا قَال وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّ النَّمَاءَ المُنْفَصِل يَرُدُّهُ مَعَ وُجُودِهِ وَيَرُدُّ عِوَضَهُ مَعَ تَلفِهِ إنْ كَانَ تَلفَ بِفِعْل المُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ تَلفَ بِفِعْل اللهِ تَعَالى لمْ يَضْمَنْ لأَنَّ المُشْتَرِيَ لمْ يَدْخُل عَلى ضَمَانِهِ فَيَكُونُ كَالأَمَانَةِ عِنْدَهُ وَأَمَّا إذَا مَا انْتَفَعَ بِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَليْهِ فَيَرُدُّ عِوَضَهُ كَمَا دَل عَليْهِ حَدِيثُ المُصَرَّاةِ وَكَمَا نَقُول فِي المُتَّهَبِ مِنْ الغَاصِبِ أَنَّهُ إذَا انْتَفَعَ بِالمَوْهُوبِ فَأَتْلفَهُ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَليْهِ وَحَمَل القَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلى أَنَّ البَائِعَ كَانَ قَدْ دَلسَ العَيْبَ وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَوْجُودًا حَال العَقْدِ وَلكِنَّ المَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ فِي المُدَلسِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَإِنْ تَلفَ المَبِيعُ إلا أَنَّ نَصَّهُ فِي صُورَةِ الإِبَاقِ وَهُوَ تَلفٌ بِغَيْرِ فِعْل المُشْتَرِي.
وَأَطْلقَ الأَكْثَرُونَ ذَلكَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يَتْلفَ بِفِعْلهِ أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ لأَنَّهُ سَلطَهُ عَلى إتْلافِهِ بِتَغْرِيرِهِ فَلا يَسْتَقِرُّ عَليْهِ الضَّمَانُ كَمَا يَرْجِعُ المَغْرُورُ فِي النِّكَاحِ بِالمَهْرِ.
وَحَكَى طَائِفَةٌ مِنْ المُتَأَخِّرِينَ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لا يَرْجِعُ مَعَ التَّلفِ بَل يَأْخُذُ الأَرْشَ وَرَجَّحَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَصَاحِبُ المُغْنِي وَهَذَا التَفْصِيلٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلفُ بِانْتِفَاعِهِ أَوْ بِفِعْل اللهِ تَعَالى. كَمَا حَمَل القَاضِي عَليْهِ , رِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ أَصَحُّ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَبِي بَكْرٍ وَبِذَلكَ أَجَابَ عَنْ حَدِيثِ المُصَرَّاةِ , وَكَذَلكَ أَجَابَ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَال مِثْل ذَلكَ فِي النَّمَاءِ الحَادِثِ إذَا رُدَّ بِعَيْبٍ عَلى القَوْل بِرَدِّهِ كَمَا حَمَلته عَليْهِ رِوَايَةَ ابْنِ مَنْصُورٍ أَوَّلاً وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمِنْهَا: فَسْخُ البَائِعِ لإِفْلاسِ المُشْتَرِي بِالثَّمَنِ هَل يَتْبَعُهُ النَّمَاءُ المُنْفَصِل؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: يَتْبَعُ وَهِيَ المُرَجَّحَةُ عِنْدَ القَاضِي فِي الخِلافِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ دَابَّةً فَوَلدَتْ ثُمَّ أَفْلسَ المُشْتَرِي رَجَعَتْ إلى الأَوَّل لأَنَّهَا مَال البَائِعِ وَقَدْ اسْتَحَقَّهَا وَوَلدَهَا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ لفْظَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَحْمَدَ ذَكَرَ لهُ قَوْل مَالكٍ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ دَابَّةً فَوَلدَتْ ثُمَّ أَفْلسَ المُشْتَرِي أَنَّ الجَارِيَةَ وَالدَّابَّةَ وَوَلدَهَا للبَائِعِ إلا أَنْ يَرْغَبَ الغُرَمَاءُ فِي ذَلكَ فَيُعْطُوهُ حَقَّهُ كَامِلاً وَيُمْسِكُونَ ذَلكَ فَقَال أَحْمَدُ: تَرْجِعُ إلى الأَوَّل لأَنَّهَا مَالهُ وَهَذَا يَدُل عَلى غَيْرِ الرُّجُوعِ فِي الجَارِيَةِ أَوْ الدَّابَّةِ.
وَإِنَّمَا القَائِل بِالرُّجُوعِ فِي الوَلدِ: مَالكٌ وَليْسَ فِي كَلامِ أَحْمَدَ مُوَافَقَةٌ لهُ وَأَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَنْقُل كَلامَ أَحْمَدَ بِالمَعْنَى الذِي يَفْهَمُهُ مِنْهُ فَيَقَعُ فِيهِ تَغْيِيرٌ شَدِيدٌ وَوَقَعَ لهُ مِثْل هَذَا فِي كِتَابِ زَادِ المُسَافِرِ كَثِيرًا مَعَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُوسَى وَغَيْرَهُ تَأَوَّلوا الرُّجُوعَ بِالوَلدِ عَلى أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي عَقْدِ البَيْعِ حَمْلاً , وَاخْتَارَ هُوَ وَابْنُ حَامِدٍ أَنَّهَا للمُفْلسِ لأَنَّهَا نَمَتْ فِي مِلكِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ وَكَذَلكَ صَحَّحَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول.
وَمِنْهَا: اللقَطَةُ إذَا جَاءَ مَالكُهَا وَقَدْ نَمَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلاً فَهَل يَسْتَرِدُّهُ مَعَهَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ مِنْ المُفْلسِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا صَاحِبُ المُغْنِي وَيُحْتَمَل الرُّجُوعُ هُنَا بِالزِّيَادَةِ المُنْفَصِلةِ وَجْهًا وَاحِدًا لأَنَّ تَمَلكَهَا إنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إلى فَقْدِ رَبِّهَا فِي الظَّاهِرِ وَقَدْ تَبَيَّنَ خِلافُهُ فَانْفَسَخَ المِلكُ مِنْ أَصْلهِ لظُهُورِ الخَطَأِ فِي مُسْتَنَدِهِ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِمَا وَجَدَهُ مِنْهَا قَائِمًا , وَهَذَا هُوَ الذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَذَكَرَ له أَصْلاً مِنْ كَلامِ أَحْمَدَ فِي طَيْرَةٍ فَرَّخَتْ عِنْدَ قَوْمٍ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ فِرَاخَهَا.
وَمِنْهَا: رُجُوعُ الأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لوَلدِهِ إذَا كَانَ قَدْ نَمَا نَمَاءً مُنْفَصِلاً هَل يَسْتَرِدُّهُ مَعَهُ أَمْ لا؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: إذَا وَهَبَ المَرِيضُ جَمِيعَ مَالهِ فِي مَرَضِهِ وَنَمَا نَمَاءً مُنْفَصِلاً ثم مَاتَ وَلمْ يُجِزْ الوَرَثَةُ فَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّ المَوْهُوبَ لهُ يَمْلكُهُ بِالقَبْضِ وَجَازَ لهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ للوَرَثَةِ حَقُّ الفَسْخِ فِيمَا زَادَ عَلى الثُّلثِ وَإِذَا جَازَ وَأُسْقِطَ حَقُّهُمْ مِنْ الفَسْخِ فَعَلى هَذَا يَتَخَرَّجُ فِي اسْتِرْجَاعِ النَّمَاءِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ النَّمَاءَ للمُتَّهَبِ إلى حِينِ الفَسْخِ نَبَّهَ عَلى هَذَا الشَّيْخُ مَجْدُ الدَّيْنِ وَالمَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ أَنَّ الهِبَةَ تَقَعُ مُرَاعَاةً فَلا يَتَبَيَّنُ مِلكُهَا إلا حِينَ خُرُوجِهَا مِنْ الثُّلثِ عِنْدَ المَوْتِ وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهَا فَلهُ مِنْهَا مِقْدَارُ الثُّلثِ وَيَتْبَعُهُ نَمَاؤُهُ وَالزَّائِدُ مَبْنِيٌّ عَلى الخِلافِ فِي الإِجَازَةِ هَل هِيَ تَنْفِيذٌ أَوْ هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ.
وَمِنْهَا: إذَا عَادَ الصَّدَاقُ أَوْ نِصْفُهُ إلى الزَّوْجِ قَبْل الدُّخُول بِطَلاقٍ أَوْ فَسْخٍ وَقَدْ نَمَا عِنْدَ الزَّوْجَةِ نَمَاءً مُنْفَصِلاً فَهَل يَرْجِعُ بِنَمَائِهِ أَوْ نِصْفِهِ؟ المَذْهَبُ أَنَّهُ لا يَرْجِعُ بِهِ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَصَالحٍ نَقَل عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ أَنَّهُ ذَكَرَ لهُ قَوْل سُفْيَانَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلى خَادِمَةٍ ثُمَّ زَوَّجَهَا غُلامَهُ فَوَلدَتْ أَوْلادًا , فَطَلقَ امْرَأَتَهُ قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا فَلهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلدِهَا قَال أَحْمَدُ جَيِّدٌ وَاخْتَلفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلى طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَسْلكُ القَاضِي أَنَّهَا تَدُل عَلى أَنَّ الزَّوْجَةَ إنَّمَا مَلكَتْ بِالعَقْدِ نِصْفَ الصَّدَاقِ فَيَكُونُ لهَا نِصْفُ نَمَائِهِ وَجَعَل قَوْلهُ: وَقِيمَةِ وَلدِهَا مَجْرُورًا بِالعَطْفِ عَلى قَوْلهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا أَيْ وَنِصْفُ قِيمَةِ وَلدِهَا.
قَال: وَذِكْرُ القِيمَةِ هَهُنَا مَحْمُولٌ عَلى التَّرَاضِي عَليْهَا أَوْ عَلى أَنَّ المُرَادَ نِصْفُ الأُمِّ وَنِصْفُ الوَلدِ وَلمْ يُرِدْ القِيمَةَ.
وَهَذَا المَسْلكُ ضَعِيفٌ جِدًّا أَوْ فِي تَمَامِ النِّصْفِ مَا يُبْطِلهُ وَهُوَ قَوْل أَحْمَدَ فَإِنْ أَعْتَقَهَا قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا لا يَجُوزُ عِتْقُهَا لأَنَّهَا مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا وَجَبَتْ لهَا الجَارِيَةُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا مَلكَتْ الأَمَةَ كُلهَا بِالعَقْدِ إذْ لوْلا ذَلكَ لعَتَقَ نِصْفُهَا بِالمِلكِ وَسَرَى عِتْقُهَا إلى البَاقِي مَعَ اليَسَارِ وَكَذَلكَ سَلكَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ المُسَافِرِ وَابْنُ أَبِي مُوسَى فِي تَخْرِيجِ هَذَا النَّصِّ وَبَنَيَاهُ عَلى أَنَّ المَرْأَةَ لمْ تَمْلكْ بِالعَقْدِ إلا النِّصْفَ.
ثُمَّ خَرَّجَ أَبُو بَكْرٍ لأَحْمَدَ قَوْلاً آخَرَ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ عَلى قَوْلهِ: تَمْلكُ الصَّدَاقَ كُلهُ بِالعَقْدِ أَنَّ الأَوْلادَ وَالنَّمَاءَ لهَا وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الأُمِّ دُونَ الأَوْلادِ يَعْنِي الزَّوْجَ قَال: وَبِهِ أَقُول وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي أَيْضًا فِرَارًا مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأُمِّ وَوَلدِهَا فِي بَعْضِ الزَّمَانِ.
وَأَمَّا ابْنُ أَبِي مُوسَى فَإِنَّهُ خَرَّجَ وَجْهًا عَلى القَوْل بِمِلكِ الصَّدَاقِ كُلهِ بِالعَقْدِ أَنَّ الوَلدَ للمَرْأَةِ لحُدُوثِهِ فِي مِلكِهَا وَلهَا نِصْفُ قِيمَةِ الأُمِّ فَجَعَل للزَّوْجَةِ القِيمَةَ كَمَا فِي نَصِّ أَحْمَدَ وَهَذَا الوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا حَيْثُ تَضَمَّنَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الأُمِّ وَوَلدِهَا بِغَيْرِ العِتْقِ وَمَنَعَ الزَّوْجَةَ مِنْ أَخْذِ نِصْفِ الأَمَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلى عَدَمِ التَّفْرِيقِ مِنْ أَخْذِ نِصْف القِيمَةِ.
وَعِنْدَ القَاضِي إذَا قِيل إنَّ الوَلدَ كُلّهُ لهُ فَللزَّوْجِ نِصْفُ قِيمَةِ الأُمِّ صَرَّحَ بِهِ فِي المُجَرَّدِ , وَقَال فِي الخِلافِ: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الأَمَةِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ أَنَّهَا تَدُل عَلى أَنَّ النَّمَاءَ المُنْفَصِل يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ بِالفُرْقَةِ تَبَعًا للأَصْل.
وَهَذَا مَسْلكُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ المُحَرَّرِ لكِنَّهُ اسْتَشْكَل إيجَابَ القِيمَةِ دُونَ المُعَيَّنِ وَقَال: لا أَدْرِي هَل هُوَ لنَقْصِ الوِلادَةِ أَوْ لغَيْرِ ذَلكَ؟ فَإِنَّ أَحْمَدَ جَعَل للمَرْأَةِ نِصْفَ قِيمَةِ الأَمَةِ وَنِصْفَ قِيمَةِ الوَلدِ لأَجْل حَقِّ الزَّوْجِ فَبَطَل فِي نِصْفِ الأَمَةِ وَوَلدِهَا وَليْسَ ذَلكَ بِأَوْلى مِنْ العَكْسِ.
وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلكَ بِأَنَّ الطَّلاقَ يَرْجِعُ بِهِ نِصْفُ الأَمَةِ إلى الزَّوْجِ قَهْرًا كَالمِيرَاثِ لأَنَّهُ بَاقٍ بِعَيْنِهِ لا سِيَّمَا وَالأَمْلاكُ القَهْرِيَّةُ يُمْلكُ بِهَا مَا لا يُمْلكُ بِالعُقُودِ الاخْتِيَارِيَّةِ فَلا يُجْبَرُ الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلكَ عَلى أَخْذِ قِيمَتِهِ بَل يَتَعَيَّنُ تَكْمِيل المِلكِ لهُ فِي الأُمِّ وَالوَلدِ حَذَرًا مِنْ التَّفْرِيقِ المُحَرَّمِ.
وَيُشْبِهُ هَذَا مَا قَالهُ الخِرَقِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الصَّدَاقُ أَرْضًا فَنَبَتَ فِيهِا ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول أَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الأَرْضِ وَيَتَمَلكُ عَليْهَا البِنَاءَ الذِي فِيهِ بِالقِيمَةِ لكِنَّ أَحْمَدَ فِي تَمَامِ هَذَا النَّصِّ بِعَيْنِهِ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ذَكَرَ مَسْأَلةَ البِنَاءِ وَصَبْغَ الثَّوْبِ وَقَال: للزَّوْجِ نِصْفُ القِيمَةِ لأَنَّهُ اسْتِهْلاكٌ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ المَرْأَةُ وَصَلتْ الصَّدَاقَ بِمَالهَا عَلى وَجْهٍ لا يَنْفَصِل عَنْهُ إلا بِضَرَرٍ عَليْهَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ فَفِي الأَوَّل يَتَعَيَّنُ للزَّوْجِ نِصْفُ القِيمَةِ لاخْتِلاطِ المَاليْنِ وَفِي الثَّانِي يَرْجِعُ بِنِصْفِ العَيْنِ لبَقَائِهَا بِحَالهَا وَإِنَّمَا جَاءَ الإِجْبَارُ عَلى تَكْمِيل المِلكِ للمَانِعِ الشَّرْعِيّ مِنْ التَّفْرِيقِ.
وَيُحْتَمَل عِنْدِي فِي مَعْنَى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ طَرِيقٌ ثَالثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَحْمَدُ أَنْ للزَّوْجَةِ نِصْفَ قِيمَةِ الأَمَةِ وَلهَا قِيمَةُ وَلدِهَا كَامِلةً لأَنَّ الوَلدَ نَمَاءٌ تَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجَةُ وَقَدْ عَادَ إلى الزَّوْجِ نِصْفُ الأُمِّ فَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلى أَخْذِ نِصْفِ قِيمَةِ الأُمِّ وَقِيمَةِ الوَلدِ بِكَمَالهَا حَذَرًا مِنْ التَّفْرِيقِ , وَلعَل هَذَا أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلهُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمِنْهَا: مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالهِ الذِي اسْتَوْلى عَليْهِ الكُفَّارُ مِنْ المَغْنَمِ قَبْل القِسْمَةِ وَقَدْ نَمَا نَمَاءً مُنْفَصِلاً , فَإِنْ قُلنَا لمْ يَمْلكْهُ الكُفَّارُ بِالاسْتِيلاءِ فَهُوَ لهُ بِنَمَائِهِ وَإِنْ قُلنَا مَلكُوهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ وَهَل يَرْجِعُ بِنَمَائِهِ؟ يَتَخَرَّجُ عَلى وَجْهَيْنِ كَبَائِعِ المُفْلسِ لأَنَّ حُقُوقَ الغَانِمِينَ مُتَعَلقَةٌ بِالنَّمَاءِ كَتَعَلقِ حُقُوقِ غُرَمَاءِ المُفْلسِ بِأَموَالهِ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا الحَرْبِيُّ وَوَلدَتْ مِنْهُ أَنَّ الوَلدَ غَنِيمَةٌ لا يَرْجِعُ بِهِ المَالكُ لأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلكِ الحَرْبِيِّ الوَاطِئ فَانْعَقَدَ حُرًّا لكِنَّ هَذَا قَدْ يَخْتَصُّ بِاسْتِيلادِ المَالكِ لهَا فَإِنَّ وَلدَهُ يَنْعَقِدُ حُرًّا وَإِنَّمَا يَطْرَأُ عَليْهِ الرِّقُّ بَعْدَ ذَلكَ فَلا يَكُونُ مِنْ نَمَائِهَا بِخِلافِ مَا لوْ زَوَّجَهَا فَوَلدَتْ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ نَمَائِهَا لانْعِقَادِهِ رَقِيقًا.
وَقَدْ سُئِل أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ المُسْلم إذَا لحِقَ بِدَارِ الحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مِنْ أَمْوَالهِمْ فَتَوَقَّفَ فِي مُسْتَحِقِّ المَال الذِي مَعَهُ , وَقَال مَرَّةً: هُوَ للمُسْلمِينَ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ للسَّيِّدِ وَعَلل بِأَنَّ العَبْدَ ليْسَ لهُ غَنِيمَةٌ.
قَال الخَلال: وَهَذَا هُوَ المَذْهَبُ لأَنَّ العَبْدَ لا غَنِيمَةَ لهُ وَحَمَلهُ القَاضِي عَلى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الوَاحِدُ مِنْ دَارِ الحَرْبِ يَكُونُ فَيْئًا قَال: وَأَمَّا إنْ قُلنَا هُوَ لآخِذِهِ فَهُوَ هُنَا للسَّيِّدِ.
فَصْلٌ, وَأَمَّا الحُقُوقُ المُتَعَلقَةُ بِالأَعْيَانِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلا فَسْخٍ فَإِنْ كَانَتْ مِلكًا قَهْرِيًّا فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ التَّمَلكَاتِ , وَإِنْ لمْ تَكُنْ مِلكًا فَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لازِمًا لا يُمْكِنُ إبْطَالهُ بِوَجْهٍ كَحَقِّ الاسْتِيلادِ وَسَرَى حُكْمُهُ إلى الأَوْلادِ دُونَ الأَكْسَابِ لبَقَاءِ مِلكِ مَالكِهِ عَليْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لازِمٍ بَل يُمْكِنُ إبْطَالهُ إمَّا بِاخْتِيَارِ المَالكِ أَوْ بِرِضَى المُسْتَحِقِّ لمْ يَتْبَعْ النَّمَاءُ فِيهِ الأَصْل بِحَالٍ وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: الأَمَةُ الجَانِيَةُ لا يَتَعَلقُ الجِنَايَةُ بِأَوْلادِهَا وَلا أَكْسَابِهَا لأَنَّ حَقَّ الجِنَايَةِ ليْسَ بِالقَوِيِّ , وَلهَذَا لمْ يُمْنَعْ التَّصَرُّفُ عِنْدَنَا وَلأَنَّ حَقَّ الجِنَايَةِ تَعَلقَ بِالجِنَايَةِ لصُدُورِ الجِنَايَةِ مِنْهَا وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي وَلدِهَا وَكَسْبُهَا مِلكٌ للسَّيِّدِ بِخِلافِ المُكَاتَبَةِ.
وَمِنْهَا: تَرَكَهُ مَنْ عَليْهِ دَيْنٌ إذَا تَعَلقَ بِهَا حَقُّ الغُرَمَاءِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ قِيل هِيَ بَاقِيَةٌ عَلى حُكْمِ مِلكِ المَيِّتِ تَعَلقَ حَقُّ الغُرَمَاءِ بِالنَّمَاءِ أَيْضًا كَالمَرْهُونِ كَذَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ القِسْمَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَال إنْ قُلنَا إنَّ تَعَلقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ تَعَلقُ رَهْنٍ يُمْنَعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ فَالأَمْرُ كَذَلكَ وَإِنْ قُلنَا تَعَلقُ جِنَايَةٍ لا يُمْنَعُ التَّصَرُّفُ فَلا يَتَعَلقُ بِالنَّمَاءِ , وَأَمَّا إنْ قُلنَا لا تَنْتَقِل التَّرِكَةُ إلى الوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ المَوْتِ لمْ تَتَعَلقْ حُقُوقُ الغُرَمَاءِ بِالنَّمَاءِ إذْ هُوَ تَعَلقٌ قَهْرِيٌّ كَالجِنَايَةِ كَذَا ذَكَرَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ.
وَخَرَّجَ الآمِدِيُّ وَصَاحِبُ المُغْنِي تَعَلقَ الحَقِّ بِالنَّمَاءِ مَعَ الانْتِقَال أَيْضًا كَتَعَلقِ الرَّهْنِ وَيَقْوَى هَذَا عَلى قَوْلنَا إنَّ التَّعَلقَ تَعَلقُ رَهْنٍ وَقَدْ يَنْبَنِي ذَلكَ عَلى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ هَل هُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ المَيِّتِ أَوْ انْتَقَل إلى ذِمَمِ الوَرَثَةِ أَوْ هُوَ مُتَعَلقٌ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ لا غَيْرُ؟ وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ:
الأَوَّل: قَوْل الآمِدِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الفُنُونِ وَصَاحِبِ المُغْنِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الأَصْحَابِ فِي مَسْأَلةِ ضَمَانِ دَيْنِ المَيِّتِ.
وَالثَّانِي: قَوْل القَاضِي فِي خِلافِهِ وَأَبِي الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَاله القَاضِي فِي المُجَرَّدِ لكِنَّهُ خَصَّهُ بِحَالةِ تَأْجِيل الدَّيْنِ لمُطَالبَةِ الوَرَثَةِ بِالتَّوْثِقَةِ
وَالثَّالثُ: قَوْل ابْنِ أَبِي مُوسَى فَيَتَوَجَّهُ عَلى قَوْلهِ أَنْ لا يَتَعَلقَ الحُقُوقُ بِالنَّمَاءِ إذْ هُوَ لتَعَلقِ الجِنَايَةِ وَعَلى الأَوَّليْنِ يَتَوَجَّهُ تَعَلقُهَا بِالنَّمَاءِ كَالرَّهْنِ وَقَدْ يُقَال لا يَتَعَلقُ حُقُوقُ الغُرَمَاءِ بِالنَّمَاءِ إذَا قُلنَا تَنْتَقِل التَّرِكَةُ إلى الوَرَثَةِ بِكُل حَالٍ إلا أَنْ نَقُول: إنَّ الدِّينَ فِي ذِمَمِهِمْ لأَنَّ تَبَعِيَّةَ النَّمَاءِ فِي الرَّهْنِ إنَّمَا يُحْكَمُ بِهِ إذَا كَانَ النَّمَاءُ مِلكًا لمَنْ عَليْهِ الحَقُّ فَأَمَّا إنْ كَانَ مِلكًا لغَيْرِهِ لمْ يَتْبَعْ كَمَا لوْ رَهَنَ المُكَاتَبَ سَيِّدُهُ فَإِنَّ كَسْبَهُ لا يَكُونُ دَاخِلاً فِي الرَّهْنِ لأَنَّهُ عَلى مِلكِ المُكَاتَبِ فَكَذَلكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَال فِيمَنْ استعار شَيْئًا ليَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ أَنَّ النَّمَاءَ لا يَدْخُل فِي الرَّهْنِ لذَلكَ وَقَدْ يُقَال التَّرِكَةُ تُعَلقُ الحَقَّ بها تَعَلقًا قَهْرِيًّا مَعَ انْتِقَال مِلكِهَا إلى الوَرَثَةِ فَكَذَلكَ نَمَاؤُهَا.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعَلقَ حَالةَ الانْتِقَال إنَّمَا ثَبَتَ بِضَعْفِ المَانِعِ مِنْهُ حَيْثُ اقْتَرَنَ التَّعَلقُ وَمَانِعُهُ وَهُوَ الانْتِقَال , فَأَمَّا بَعْدَ الانْتِقَال وَاسْتِقْرَارِ المِلكِ فَلا يَتَعَلقُ لسَبْقِ المَانِعِ وَاسْتِقْرَارِهِ وَاَللهُ أَعْلم.
وَأَمَّا تَعَلقُ الضَّمَانِ بِالأَعْيَانِ للتَّعَدِّي فَيَتْبَعُ فِيهِ النَّمَاءَ المُنْفَصِل إذَا كَانَ دَاخِلاً تَحْتَ اليَدِ العُدْوَانِيَّةِ:
فَمِنْ ذَلكَ: الغَصْبُ يُضْمَنُ فِيهِ النَّمَاءُ المُنْفَصِل عَلى المَذْهَبِ وَلمْ يَحْكِ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي ضَمَانِهِ خِلافًا مَعَ حِكَايَتِهِ الخِلافَ فِي المُتَّصِل وَلا يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَالتَّخْرِيجُ مُتَوَجِّهٌ بَل قَدْ يُقَال ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ التِي سُقْنَاهَا فِي الرَّدِّ بِالعَيْبِ تَدُل عَلى عَدَمِ الضَّمَانِ حَيْثُ سوى بَيْنَ ظُهُورِ العَيْنِ وَبَيْنَ الاسْتِحْقَاقِ.
وَمِنْهُ: الأَمَانَاتُ إذَا تَعَدَّى فِيهَا ثُمَّ نَمَتْ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي الضَّمَانِ.
وَمِنْهُ: صَيْدُ الحَرَمِ وَالإِحْرَامِ يُضْمَنُ نَمَاؤُهُ المُنْفَصِل إذَا دَخَل تَحْتَ اليَدِ الحِسِّيَّةِ وَإِنْ لمْ يَدْخُل تَحْتَ اليَدِ لكِنَّهُ هَلكَ بِسَبَبِ إمْسَاكِ الأُمِّ فَفِيهِ خِلافٌ مَشْهُورٌ.
تَنْبِيهٌ: اضْطَرَبَ كَلامُ الأَصْحَابِ فِي الطَّلعِ وَالحَمْل هَل هُمَا زِيَادَةٌ مُنْفَصِلةٌ أَوْ مُتَّصِلةٌ؟ أَمَّا الطَّلعُ فَللأَصْحَابِ فِيهِ طُرُقٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ زِيَادَةٌ مُتَّصِلةٌ سَوَاءٌ أُبِّرَ أَوْ لمْ يُؤَبَّرْ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وَأَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلى قَبُولهِ إذَا بَذَلتْهَا الزَّوْجَةُ بِكُل حَالٍ وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الكَافِي فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وَجَعَل كُل ثَمَرَةٍ عَلى شَجَرِهَا زِيَادَةً مُتَّصِلةً وَصَرَّحَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ فِي بَابِ الغَصْبِ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ المُتَّصِلةَ التِي يُمْكِنُ إفْرَادُهَا كَصَبْغِ الثَّوْبِ وَتَزْوِيقِ الدَّارِ وَالمَسَامِيرِ هَل يُجْبَرُ عَلى قَبُولهَا؟ يُخَرَّجُ عَلى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْل الخِرَقِيِّ فِي الصَّدَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلةٌ بِكُل حَالٍ أُبِّرَ أَوْ لمْ يُؤَبَّرْ لأَنَّهُ يُمْكِنُ فَصْلهُ وَإِفْرَادُهُ بِالبَيْعِ كَذَا أَطْلقَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ التَّفْليسِ وَالرَّدِّ بِالعَيْبِ وَصَرَّحَ صَاحِبُ المُغْنِي بِإِبْدَائِهِ احْتِمَالاً وَحَكَاهُ فِي الكَافِي عَنْ ابْنِ حَامِدٍ.
الثَّالثُ: أَنَّ المُؤَبَّرَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلةٌ وَغَيْرَ المُؤَبَّرِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلةٌ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي التَّفْليسِ وَالرَّدِّ بِالعَيْبِ وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ اعْتِبَارًا بِالتَّبَعِيَّةِ فِي البَيْعِ وَعَدَمِهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ غَيْرَ المُؤَبَّرِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلةٌ بِغَيْرِ خِلافٍ وَفِي المُؤَبَّرِ وَجْهَانِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ صَاحِبِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَاقِ.
وَالخَامِسُ: أَنَّ المُؤَبَّرَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلةٌ وَجْهًا وَاحِدًا وَفِي غَيْرِ المُؤَبَّرِ وَجْهَانِ وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهَا مُنْفَصِلةٌ وَهِيَ طَرِيقَةُ الكَافِي فِي التَّفْليس.
وَأَمَّا الحَمْل فَقَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الصَّدَاقِ: هُوَ زِيَادَةٌ متصلة قَال القَاضِي وَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلى قَبُولهَا إذَا بَذَلتْهَا المَرْأَةُ وَخَالفَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الآدَمِيَّاتِ لأَنَّ الحَمْل فِيهِنَّ نَقْصٌ مِنْ جِهَةٍ وَزِيَادَةٌ
مِنْ جِهَةٍ بِخِلافِ البَهَائِمِ فَإِنَّهُ فِيهَا زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ.
وَقَال القَاضِي فِي التَّفْليسِ يَنْبَنِي عَلى أَنَّ الحَمْل هَل لهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ فَإِنْ قُلنَا لهُ حُكْمٌ فَهُوَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلةٌ وَإِلا فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلةٌ كَالسِّمَنِ وَفِي التَّلخِيصِ الأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتْبَعُ فِي الرُّجُوعِ كَمَا يَتْبَعُ فِي البَيْعِ.
وَالحَبُّ إذَا صَارَ زَرْعًا وَالبَيْضَةُ إذَا صَارَتْ فَرْخًا فَأَكْثَرُ الأَصْحَابِ عَلى أَنَّهَا دَاخِلةٌ فِي النَّمَاءِ المُتَّصِل كَذَلكَ قَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفَلسِ وَالغَصْبِ وَذَكَرَ صَاحِبُ المُغْنِي وَجْهًا آخَرَ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَغَيُّرٍ بِمَا يُزِيل الاسْمَ لأَنَّ الأَوَّل اسْتَحَال وَكَذَا ابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَفِي المُجَرَّدِ: وَلوْ حَلفَ لا يَأْكُل بَيْضَةً فَصَارَتْ فَرُّوجًا أَوْ حَبًّا فَصَارَ سُنْبُلاً أَنَّهُ لا يَحْنَثُ بِأَكْلهِ لزَوَال الاسْمِ , وَهَذَا إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلى قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ فِي مَسْأَلةِ تَعَارُضِ الاسْمِ وَالتَّعْيِينِ فَأَمَّا عَلى المَشْهُورِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَكَمَا أَشَارَ إليْهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول كَمَا لوْ حَلفَ لا يَأْكُل هَذَا التَّمْرَ فَصَارَ دَبْسًا. وَقَدْ تَفَرَّقَ فِي مَسْأَلةِ البَيْضَةِ بِبَقَاءِ حَلاوَةِ التَّمْرِ وَلوْنِهِ فِي الدَّبْسِ بِخِلافِ الفَرُّوجِ.
وَلوْ اشْتَرَى بَيْضَةً فَوَجَدَ فِيهَا فَرُّوجًا فَالبَيْعُ بَاطِلٌ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ , وَهُوَ يَشْهَدُ للقَوْل بِأَنَّ البَيْضَ وَالفَرُّوجَ عَيْنَانِ مُتَغَايِرَانِ كَمَا إذَا تَبَايَعَا دَابَّةً يَظُنَّانِ بِأَنَّهَا حِمَارٌ فَإِذَا هِيَ فَرَسٌ , وَالقَصِيل إذَا صَارَ سُنْبُلاً فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلةٌ وَإِذَا اشْتَدَّ الحَبُّ فَليْسَ بَعْدَهُ زِيَادَةٌ لا مُتَّصِلةٌ وَلا مُنْفَصِلةٌ ذَكَرَهُ القَاضِي.
القاعدة الثالثة والثمانون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالثَّمَانُونَ:إذَا انْتَقَل المِلكُ عَنْ النَّخْلةِ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ يَتْبَعُ فِيهِ الزِّيَادَةَ المُتَّصِلةَ دُونَ المُنْفَصِلةِ أَوْ بِانْتِقَال اسْتِحْقَاقٍ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طَلعٌ مُؤَبَّرٌ لمْ يَتْبَعْهُ فِي الانْتِقَال وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ تَبِعَهُ كَذَا قَال القَاضِي فِي كِتَابِ التَّفْليسِ مِنْ المُجَرَّدِ وَقَال: سَوَاءٌ كَانَ الانْتِقَال بِعِوَضٍ اخْتِيَارِيٍّ كَالبَيْعِ وَالصُّلحِ وَالنِّكَاحِ وَالخُلعِ أَوْ بِعِوَضٍ قهري كَالأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَرُجُوعِ البَائِعِ فِي عَيْنِ مَالهِ بِالفَلسِ وَبَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ أَطْلعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الرَّاهِنِ وَالرُّجُوعِ فِي الهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ أَوْ كَانَ الانْتِقَال بِغَيْرِ عِوَضٍ سَوَاءٌ كَانَ الانْتِقَال اخْتِيَارِيًّا كَالهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ غَيْرَ اخْتِيَارِيٍّ كَالرُّجُوعِ فِي الهِبَةِ للأَبِ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِهِ فِي بَيْعِ الأُصُول وَالثِّمَارِ أَيْضًا لأَنَّهُ جَعَل الكُل كَالبَيْعِ سَوَاءٌ وَصَرَّحَ بِذَلكَ صَاحِبُ الكَافِي فِي العُقُودِ وَالفُسُوخِ وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ فَإِنَّهُ أَطْلقَ فِي الفَسْخِ بِالإِفْلاسِ وَالرُّجُوعِ فِي الهِبَةِ أَنَّ الطَّلعَ يَتْبَعُ الأَصْل وَلمْ يُفَصِّل وَعَلل بِأَنَّ الفَسْخَ
رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ وَصَرَّحَ صَاحِبُ المُغْنِي فِي البَيْعِ بِأَنَّ الفَسْخَ يَتْبَعُ الطَّلعَ فِيهِ أَصْلهُ سَوَاءٌ أُبِّرَ أَوْ لمْ يُؤَبَّرْ لأَنَّهُ نَمَاءٌ مُتَّصِلٌ فَأَشْبَهَ السِّمَنَ. وَصَرَّحَ بِدُخُول الإِقَالةِ وَالفَسْخِ بِالعَيْبِ فِي ذَلكَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لكَلامِ الأَصْحَابِ فِي الصَّدَاقِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ صَاحِبَ المُغْنِي ذَكَرَ احْتِمَالاً فِي الفَسْخِ بِالفَلسِ وَنَحْوِهِ أَنَّهُ لا يَتْبَعُ فِيهِ الطَّلعَ سَوَاءٌ أُبِّرَ أَوْ لمْ يُؤَبَّرْ لتَمَيُّزِهِ وَإِمْكَانِ إفْرَادِهِ بِالعَقْدِ فَهُوَ كَالمُنْفَصِل بِخِلافِ السَّمْنِ وَنَحْوِهِ , وَهَذَا عَكْسُ مَا ذَكَرَهُ فِي البَيْعِ وَهُوَ مَعَ ذَلكَ مُوَافِقٌ لإِطْلاقِ كَثِيرٍ مِنْ الأَصْحَابِ: أَنَّ الثَّمَرَةَ لا تُرَدُّ مَعَ الأَصْل بِالعَيْبِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَكَذَا فِي الفَلسِ.
فَتَحَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّ العُقُودَ كَالبَيْعِ وَالصُّلحِ وَالصَّدَاقِ وَعِوَض الخُلعِ وَالأُجْرَةِ وَالهِبَةِ وَالرَّهْنِ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ حَالةِ التَّأْبِيرِ وَعَدَمِهِ.
وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَكَمِ إلا أَنَّ فِي الأَخْذِ فِي الشُّفْعَةِ وَجْهًا آخَرَ سَبَقَ ذِكْرُهُ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ المُؤَبَّرُ إذَا كَانَ فِي حَال البَيْعِ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ وَلأَنَّ الأَخْذَ يَسْتَنِدُ إلى البَيْعِ إذْ هُوَ سَبَبُ الاسْتِحْقَاقِ وَأَمَّا الفُسُوخُ فَفِيهَا ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّلعَ يَتْبَعُ فِيهَا مَعَ التَّأْبِيرِ وَعَدَمِهِ بِنَاءً عَلى أَنَّ الطَّلعَ زِيَادَةٌ مُتَّصِلةٌ بِكُل حَالٍ أَوْ عَلى أَنَّ الفَسْخَ رَفْعُ العَقْدِ مِنْ أَصْلهِ.
وَالثَّانِي: لا يَتْبَعُ بِحَالٍ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلةٌ وَإِنْ لمْ يُؤَبَّرْ.
وَالثَّالثُ: إنْ كَانَ مُؤَبَّرًا تَبِعَ وَإِلا فَلاكَالعُقُودِ.
هَذَا كُلهُ عَلى القَوْل بِأَنَّ النَّمَاءَ المُنْفَصِل لا يَتْبَعُ فِي الفُسُوخِ , أَمَّا إنْ قِيل بِتَبَعِيَّتِهِ فَلا إشْكَال فِي أَنَّ الطَّلعَ يَتْبَعُ سَوَاءٌ أُبِّرَ أَوْ لمْ يُؤَبَّرْ وَكَذَلكَ إنْ قِيل إنَّ الفُسُوخَ لا يَتْبَعُ فِيهَا الزِّيَادَةُ المُتَّصِلةُ فَإِنَّ الطَّلعَ لا يَتْبَعُ فِيهَا بِكُل حَالٍ.
وَأَمَّا الوَصِيَّةُ وَالوَقْفُ فَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِمَا الثَّمَرَةُ الموجودة يَوْمَ الوَصِيَّةِ إذَا بَقِيَتْ إلى يَوْمِ المَوْتِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ أَنْ يُؤَبَّرَ أَوْ لا يُؤَبَّرُ نَقَلهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ فِي الرَّجُل يُوصِي بِالكَرْمِ أَوْ البُسْتَانِ لرَجُلٍ ثُمَّ يَمُوتُ وَفِي الكَرْمِ حَمْلٌ فَهُوَ للمُوصَى لهُ وَقَال فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى: وَسُئِل عَنْ الرَّجُل يُوصِي البُسْتَانَ أَوْ الكَرْمَ لرَجُلٍ ثُمَّ يَمُوتُ وَفِي الكَرْمِ أَوْ البُسْتَانِ حَمْلٌ لمَنْ الحَمْل؟ قَال إنْ كَانَ يَوْمَ أَوْصَى بِهِ لهُ فِيهِ حَمْلٌ فَهُوَ لهُ وَأَطْلقَ بِأَنَّهُ يَدْخُل فِي الوَصِيَّةِ وَلمْ يُفَصِّل وَقَدْ تَوَجَّهَ بِأَنَّ الوَصِيَّةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لا يَسْتَدْعِي عِوَضًا فَدَخَل فِيهَا كُل مُتَّصِلٍ بِخِلافِ عُقُودِ المُعَاوَضَاتِ. وَعَلى هَذَا فَالهِبَةُ المُطْلقَةُ كَذَلكَ وَهُوَ خِلافُ مَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ وَكَذَلكَ الوَقْفُ المُنَجَّزُ وَأَوْلى وَيَحْتَمِل أَنْ يَخْتَصَّ ذَلكَ بِمَا فِيهِ مَعْنَى القُرْبَةِ مِنْ الوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالوَصِيَّةِ , وَأَمَّا اعْتِبَارُ وُجُودِهِ يَوْمَ الوَصِيَّةِ مَعَ
أَنَّ المِلكَ يَتَرَاخَى إلى مَا بَعْدَ المَوْتِ فَلأَنَّ العَقْدَ إذَا انْعَقَدَ كَانَ سَبَبًا لنَقْل المِلكِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ تَأْثِيرُهُ إلى حِينِ المَوْتِ فَإِذَا وُجِدَ المَوْتُ اسْتَنَدَ المِلكُ إلى حَال الإِيصَاءِ وَلهَذَا لوْ وَصَّى لهُ بِأَمَةٍ حَامِلٍ ثُمَّ مَاتَ المُوصَى لهُ قَبْل الوَضْعِ فَالوَلدُ للمُوصَى لهُ بِغَيْرِ خِلافٍ , وَسَوَاءٌ قُلنَا إنَّ للحَمْل حُكْمًا وَإِنَّهُ كَالمُنْفَصِل أَمْ لا.
وَأَمَّا إنْ تَجَدَّدَ مُسْتَحِقٌّ مِنْ أَهْل الوَقْفِ وَفِي النَّخْل طَلعٌ فَهَهُنَا حَالتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ حَدَثَ اسْتِحْقَاقُهُ بَعْدَ التَّأْبِيرِ لمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الثَّمَرِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ قَبْلهُ اسْتَحَقَّ.
قَال جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يُسْأَل عَنْ رَجُلٍ أَوْقَفَ نَخْلاً عَلى وَلدِ قَوْمٍ وَوَلدِهِ مَا تَوَالدُوا ثُمَّ وُلدَ مَوْلودٌ قَال: إنْ كَانَ النَّخْل أُبِّرَ فَليْسَ لهُ فِي ذَلكَ شَيْءٌ وَهُوَ مِلكُ الأَوَّل وَإِنْ لمْ يَكُنْ أُبِّرَ فَهُوَ مَعَهُمْ وَكَذَلكَ الزَّرْعُ إذَا بَلغَ الحَصَادَ فَليْسَ لهُ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ لمْ يَبْلغْ الحَصَادَ فَلهُ فِيهِ , وَكَذَلكَ الأَصْحَابُ صَرَّحُوا بِالفَرْقِ بَيْنَ المُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ هَهُنَا مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي وَأَصْحَابُهُ مُعَللينَ بِتَبَعِيَّةِ غَيْرِ المُؤَبَّرِ فِي العَقْدِ فَكَذَا فِي الاسْتِحْقَاقِ وَعَلل بَعْضُ الأَصْحَابِ بِأَنَّ غَيْرَ المُؤَبَّرِ فِي حُكْمِ المَعْدُومِ لاسْتِتَارِهِ وَكُمُونِهِ وَالمُؤَبَّرُ فِي حُكْمِ الموجود لبروزه وَظُهُورِهِ, وهو شبيه بقول من يقول إن الحمل ليس له حكم ما لم يظهر.
الحَالةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُ أَهْل الاسْتِحْقَاقِ لمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيَنْتَقِل نَصِيبُهُ إلى غَيْرِهِ قَال يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ: سُئِل أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ فَقَال ضَيْعَتِي التِي بِالثَّغْرِ لمَوَالي الذِينَ بِالثَّغْرِ وَضَيْعَتِي التِي بِبَغْدَادَ لمَوَالي الذِينَ بِبَغْدَادَ وَأَوْلادِهِمْ فَلمَنْ بِالثَّغْرِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ هَذِهِ الضَّيْعَةِ التِي هَهُنَا؟ قَال لا! , قَدْ أَفْرَدَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَقِيل لهُ: فَقَدِمَ بَعْضُ مَنْ بِالثَّغْرِ إلى ههُنَا وَخَرَجَ مَنْ ههُنَا بَعْضُهُمْ إلى ثَمَّ وَقَدْ أُبِّرَتْ النَّخْل أَلهُمْ فِيهَا شَيْءٌ؟ قَال لا. فَقِيل فَإِنْ وُلدَ لأَحَدِهِمْ وَلدٌ بَعْدَ مَا أُبِّرَتْ فَقَال وَهَذَا أَيْضًا شَبِيهٌ بِهَذَا كَأَنَّهُ رَأَى مَا كَانَ قَبْل التَّأْبِيرِ جَائِزٌ أَوْ كَمَا قَال وَهَذَا مُوَافِقٌ لنَصِّهِ السَّابِقِ فِي أَنَّ تَجَدُّدَ المُسْتَحِقِّ للوَقْفِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ لا يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُ مِنْهُ وَأَمَّا خُرُوجُ الخَارِجِ مِنْ البَلدِ فَلمْ يَشْمَلهُ جَوَابُهُ وَانْقِطَاعُ حَقّ المُسْتَحِقِّ بِمَوْتِهِ أَوْ زَوَال صِفَةِ الاسْتِحْقَاقِ شَبِيهٌ بِانْفِسَاخِ العَقْدِ المُزِيل للمَلكِ قَهْرًا وَقَدْ سَبَقَ الخِلافُ فِيهِ لا سِيَّمَا عَلى قَوْلنَا: إنَّ الوَقْفَ مِلكٌ للمَوْقُوفِ عَليْهِ فَيَصِيرُ مَوْتُهُ كَانْفِسَاخِ مِلكِهِ فِي الأَصْل فَيَخْرُجُ فِي تَبَعِيَّةِ الطَّلعِ الخِلافُ السَّابِقُ فَإِنْ قِيل بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا قَبْل التَّأْبِيرِ وَبَعْدَهُ فَلأَنَّ الطَّلعَ إذَا لمْ يُؤَبَّرْ فِي حُكْمِ الحَمْل فِي البَطْنِ وَاللبَنِ فِي الضَّرْعِ فَلا يَكُونُ لهُ حُكْمٌ بِمِلكٍ وَلا غَيْرِهِ حَتَّى يَظْهَرَ. وَإِنْ سُلمَ أَنَّ لهُ حُكْمًا بِالمِلكِ فَالمُسْتَحِقُّ الحَادِثُ.
لمَّا شَارَكَ فِي غَيْرِ المُؤَبَّرِ مَعَ ظُهُورِهِ عَلى مِلكِ الأَوَّل دَل عَلى أَنَّ مِلكَهُمْ لمْ يَسْتَقِرَّ عَليْهِ بِخِلافِ المُؤَبَّرِ فَإِنَّ مِلكَهُمْ اسْتَقَرَّ عَليْهِ فَمَنْ زَال اسْتِحْقَاقُهُ قَبْل اسْتِقْرَارِ المِلكِ سَقَطَ حَقُّهُ.
فَصْلٌ: هَذَا كُلهُ فِي حُكْمِ ثَمَرِ النَّخْل فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الشَّجَرِ فَمَا كَانَ لهُ كِمَامٌ تُفَتَّحُ فَيَظْهَرُ ثَمَرُهُ كَالقُطْنِ
فَهُوَ كَالطَّلعِ وَأَلحَقَ أَصْحَابُنَا بِهِ الزُّهُورَ التِي تَخْرُجُ مُنْضَمَّةً ثُمَّ تَتَفَتَّحُ كَالوَرْدِ وَاليَاسَمِينَ وَالبَنَفْسَجِ وَالنَّرْجِسِ وَفِيهِ نَظَرٌ: فَإِنَّ هَذَا المُنَظَّمَ هُوَ نَفْسُ الثَّمَرَةِ أَوْ قِشْرُهَا المُلازِمُ لهَا كَقِشْرِ الرُّمَّانِ فَظُهُورُهُ ظُهُورُ الثَّمَرَةِ بِخِلافِ الطَّلعِ فَإِنَّهُ وِعَاءٌ للثَّمَرَةِ وَكَلامُ الخِرَقِيِّ يَدُل عَلى ذَلكَ حَيْثُ قَال وَكَذَلكَ بَيْعُ الشَّجَرِ إذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ بَادٍ وَبُدُوُّ الوَرْدِ وَنَحْوِهِ ظُهُورُهُ مِنْ شَجَرِهِ وَإِنَّمَا كَانَ مُنْضَمًّا.
وَللأَصْحَابِ وَجْهَانِ فِي الوَرَقِ المَقْصُودِ كَوَرَقِ التُّوتِ هَل يُعْتَبَرُ بِفَتْحِهِ كَالثَّمَرِ أَوْ يَتْبَعُ الأَصْل لمُجَرَّدِ ظُهُورِهِ وَهَذِهِ الزهور بِمَعْنَاهُ وَمِنْهُ مَا يَظْهَرُ نُورُهُ ثُمَّ يَتَنَاثَرُ فَيَظْهَرُ ثَمَرُهُ كَالتُّفَّاحِ وَالمِشْمِشِ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: إنْ تَنَاثَرَ نَوْرُهُ فَهُوَ للبَائِعِ وَإِلا فَلا وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ لأَنَّ ظُهُورَ ثَمَرِهِ يَتَوَقَّفُ عَلى تَنَاثُرِ نَوْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِظُهُورِ نَوْرِهِ للبَائِعِ ذَكَرَهُ القَاضِي احْتِمَالاً جَعْلاً للنُّورِ كَمَا فِي الطَّلعِ لأَنَّ الطَّلعَ ليْسَ هُوَ عَيْنَ الثَّمَرَةِ بَل هِيَ مُسْتَتِرَةٌ فِيهِ فَتَكْبَرُ فِي جَوْفِهِ وَتَظْهَرُ حَتَّى يَصِيرَ تِلكَ فِي طَرَفِهَا وَهِيَ قَمْع الرَّطْبَةِ.
وَالثَّالثُ: للبَائِعِ بِظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَإِنْ لمْ يَتَنَاثَرْ النَّوْرُ كَمَا إذَا كَبِرَ قَبْل انْتِثَارِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي وَهُوَ أَصَحُّ , وَقِيَاسُ مَا فِي بَطْنِ الطَّلعِ عَلى النَّوْرِ لا يَصِحُّ لأَنَّ النَّوْرَ يَتَنَاثَرُ وَمَا فِي جَوْفِ الطَّلعِ يَنْمُو وَيَتَزَايَدُ حَتَّى يَصِيرَ ثَمَرًا.
وَمِنْهُ: مَا يُظْهِرُ ثَمَرَتَهُ مِنْ غَيْرِ نَوْرٍ فَهُوَ للبَائِعِ بِظُهُورِهِ سَوَاءٌ كَانَ لهُ قِشْرٌ يَبْقَى فِيهِ إلى أَكْلهِ كَالرُّمَّانِ وَالمَوْزِ أَوْ لهُ قِشْرَانِ كَالجَوْزِ وَاللوْزِ أَوْ لا قِشْرَ لهُ كالتين وَالتُّوتِ وَقَال القَاضِي مَا لهُ قِشْرَانِ لا يَكُونُ للبَائِعِ إلا بِتَشَقُّقٍ قِشْرِهِ الأَعْلى.
وَرَدَّهُ صَاحِبُ المُغْنِي بِأَنَّ تَشَقُّقَهُ فِي شَجَرِهِ نَادِرٌ وَتَشَقُّقَهُ قَبْل كَمَالهِ يُفْسِدُهُ بِخِلافِ الطَّلعِ وَفِي المُبْهِجِ: الاعْتِبَارُ بِانْعِقَادِ لبِّهِ فَإِنْ لمْ يَنْعَقِدْ تَبِعَ أَصْلهُ وَإِلا فَلا.
وَأَمَّا الزَّرْعُ الظَّاهِرُ فِي الأَرْضِ إذَا انْتَقَل المِلكُ فِيهَا بِالمَبِيعِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ للبَائِعِ لأَنَّهُ ليْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ المُؤَبَّرَةَ. قَال فِي المُغْنِي: لا أَعْلمُ فِيهِ خِلافًا وَفِي المُبْهِجِ للشِّيرَازِيِّ إنْ كَانَ الزَّرْعُ بَدَا صَلاحُهُ لمْ يَتْبَعْ وَإِنْ لمْ يَبْدُ صَلاحُهُ عَلى وَجْهَيْنِ فَإِنْ قُلنَا: لا يَتْبَعُ أَخَذَ البَائِعُ بِقَطْعِهِ إلا أَنْ يَسْتَأْجِرَ الأَرْضَ مِنْ المُشْتَرِي إلى حِينِ إدْرَاكِهِ , وَأَمَّا إذَا بَدَا صَلاحُهُ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ إلى حِينِ حَصَادِهِ , وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا مُخَالفٌ لمَا عَليْهِ الأَصْحَابُ مَعَ أَنَّ كَلامَ أَحْمَدَ فِي اسْتِحْقَاقِ الوَقْفِ يَشْهَدُ لهُ حَيْثُ قَال: إنْ وُلدَ مَوْلودٌ مِنْ أَهْل الوَقْفِ قَبْل أَنْ يَبْلغَ
الحَصَادَ اسْتَحَقَّ وَإِلا لمْ يَسْتَحِقَّ لأَنَّهُ قَدْ انْتَهَى نُمُوُّهُ وَزِيَادَتُهُ بِبُلوغِهِ للحَصَادِ , وَهَكَذَا قَال ابْنُ أَبِي مُوسَى لكِنَّهُ عَبَّرَ بِالاسْتِحْصَادِ وَعَدَمِهِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ المُغْنِي فَقَال: مَا كَانَ مِنْ الزَّرْعِ لا يَتْبَعُ الأَرْضَ فِي البَيْعِ فَلا حَقَّ فِيهِ للمُتَجَدِّدِ لأَنَّهُ كَالثَّمَرِ المُؤَبَّرِ , وَأَمَّا مَا كَانَ يَتْبَعُ فِي البَيْعِ وَهُوَ مَا لمْ يَظْهَرْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ حَمْلهُ مِنْ الرَّطَبَاتِ وَالخَضْرَاوَاتِ فَيَسْتَحِقُّ فِيهِ المُتَجَدِّدُ وَقِيَاسُ المَنْصُوصِ فِي الزَّرْعِ أَنْ يَسْتَحِقَّ المُتَجَدِّدُ فِي الوَقْفِ مِنْ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلقًا وَلكِنَّ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ فَاعْتَبَرَ فِي الزَّرْعِ بُلوغَ الحَصَادِ وَفِي الثَّمَرِ التَّأْبِيرَ وَنَصُّهُ مَعَ ذَلكَ فِي اسْتِحْقَاقِ المُوصَى لهُ بِالشَّجَرِ المُثْمِرِ المَوْجُودِ فِيهِ حَال الوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهُ أَوْ لا يَبْدُو مُشْكِلٌ.
وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِأَنَّ الثَّمَرَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَدءِ الصَّلاحِ فِي زَمَنِ اسْتِحْقَاقِهِ حَتَّى لوْ مَاتَ البَطْنُ الأَوَّل وَقَدْ أُطْلعَ الثَّمَرُ بِعِلمِهِ ثُمَّ بَدَا صَلاحُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ للبَطْنِ الثَّانِي , وَقَال فِي شَجَرِ الجَوْزِ المَوْقُوفِ: إنَّهُ إنْ أَدْرَكَ أَوَانَ قَطْعِهِ فِي حَيَاةِ البَطْنِ الأَوَّل فَهُوَ لهُ فَإِنْ مَاتَ وَبَقِيَ فِي الأَرْضِ مُدَّةً حَتَّى زَادَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً فِي مَنْفَعَةِ الأَرْضِ التِي للبَطْنِ الثَّانِي , وَمِنْ الأَصْل الذِي لوَرَثَةِ الأَوَّل فَإِمَّا أَنْ تُقَسَّمَ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا عَلى قَدْرِ القِيمَتَيْنِ وَإِمَّا أَنْ تُعْطَى الوَرَثَةُ أُجْرَةَ الأَرْضِ للبَطْنِ الثَّانِي.
وَإِنْ غَرَسَهُ البَطْنُ الأَوَّل مِنْ مَال الوَاقِفِ وَلمْ يُدْرِكْ إلا بَعْدَ انْتِقَالهِ إلى البَطْنِ الثَّانِي فَهُوَ لهُمْ وَليْسَ لوَارِثِهِ الأَوَّل فِيهِ شَيْءٌ.
وَاعْلمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي اسْتِحْقَاقِ المَوْقُوفِ عَليْهِ هَهُنَا إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِصِفَةٍ مَحْضَةٍ مِثْل كَوْنِهِ وَلدًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ نَحْوَهُ , أَمَّا إذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الوَقْفِ عِوَضًا عَنْ عَمَلٍ وَكَانَ المغل كَالأُجْرَةِ يَبْسُطُ عَلى جَمِيعِ السَّنَةِ كَالمُقَاسَمَةِ القَائِمَةِ مَقَامَ الأُجْرَةِ أَوْ إنْ كَانَ اسْتِغْلال الأَرْضِ لجِهَةِ الوَقْفِ مِنْ مَالهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُل مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الاسْتِحْقَاقِ فِي ذَلكَ العَامِ مِنْهُ حَتَّى مَنْ مَاتَ فِي أَثْنَائِهِ اسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ وَإِنْ لمْ يَكُنْ الزَّرْعُ قَدْ وُجِدَ حَتَّى لوْ تَأَخَّرَ إدْرَاكُ ذَلكَ العَامِ إلى أَثْنَاءِ العَامِ الذِي بَعْدَهُ لمْ يَسْتَحِقّ مِنْهُ مَنْ تَجَدَّدَ اسْتِحْقَاقُهُ فِي عَامِ الإِدْرَاكِ وَاسْتَحَقَّ مِنْهُ مَنْ مَاتَ فِي العَامِ الذِي قَبْلهُ وَبِنَحْوِ ذَلكَ أَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَفْتَى الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عُمَرَ بِأَنَّ الاعْتِنَاءَ فِي ذَلكَ بِسَنَةِ المغل دُونَ السَّنَةِ الهِلاليَّةِ فِي جَمَاعَةٍ مُقِرِّينَ فِي نَزِيهٍ حَصَل لهُمْ حَاصِلٌ مِنْ قَرْيَتِهِمْ المَوْقُوفَةِ عَليْهِمْ يَطْلبُونَ أَنْ يَأْخُذُوا مَا اسْتَحَقُّوهُ عَنْ المَاضِي وَهُوَ مغل سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلاً فَهَل يَصْرِفُ إليْهِمْ النَّاظِرُ بِحِسَابِ سَنَةِ المغل مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَزَل بَعْدَ هَؤُلاءِ المُتَقَدِّمِينَ جَمَاعَةٌ شَارَكُوا فِي حِسَابِ سَنَةِ المغل فَإِنْ أَخَذَ أُولئِكَ عَلى حِسَابِ السَّنَةِ
الهِلاليَّةِ لمْ يَبْقَ للمُتَأَخِّرِينَ إلا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لا يُحْتَسَبُ إلا بِسَنَةِ المغل دُونَ الهِلاليَّةِ وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالحَنَفِيَّةِ عَلى ذَلكَ.
القاعدة الرابعة والثمانون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَة وَالثَّمَانُونَ:الحَمْل هَل لهُ حُكْمٌ قَبْل انْفِصَالهِ أَمْ لا؟ حَكَى القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَيْنِ قَالوا: وَالصَّحِيحُ مِنْ المَذْهَبِ أَنَّ لهُ حُكْمًا وَهَذَا الكَلامُ عَلى إطْلاقِهِ قَدْ يَسْتَشْكِل فَإِنَّ الحَمْل يَتَعَلقُ بِهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ثَابِتَةٌ بِالاتِّفَاقِ مِثْل: عَزْل المِيرَاثِ لهُ وَصِحَّةِ الوَصِيَّةِ لهُ وَوُجُوبِ الغُرَّةِ بِقَتْلهِ وَتَأْخِيرِ إقَامَةِ الحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ القِصَاصِ مِنْ أُمِّهِ حَتَّى تَضَعَهُ وَإِبَاحَةِ الفِطْرِ لهَا إذَا خَشِيتَ عَليْهِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ لهَا إذَا كَانَتْ بَائِنًا وَإِبَاحَةِ طَلاقِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةً فِي ذَلكَ الطُّهْرِ قَبْل ظُهُورِهِ إلى غَيْرِ ذَلكَ مِنْ الأَحْكَامِ وَلمْ يُرِيدُوا إدْخَال مِثْل هَذِهِ الأَحْكَامِ فِي مَحَل الرِّوَايَتَيْنِ.
وَفَصْل القَوْل فِي ذَلكَ أَنَّ الأَحْكَامَ المُتَعَلقَةَ بِالحَمْل نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلقُ بِسَبَبِ الحَمْل بِغَيْرِهِ فَهَذَا ثَابِتٌ بِالاتِّفَاقِ لأَنَّ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَتَعَلقُ عَلى الأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الحَمْل كَانَ وُجُودُهُ هُوَ الظَّاهِرُ فَتَرَتَّبَ عَليْهِ أَحْكَامُهُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا تَبَيَّنَّا ثُبُوتَ تِلكَ الأَحْكَامِ فِي البَاطِنِ وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ لمْ يَكُنْ حَمْلٌ أَوْ خَرَجَ مَيِّتًا تَبَيَّنَّا فَسَادَ مَا يَتَعَلقُ مِنْ الأَحْكَامِ بِهِ أَوْ بِحَيَاتِهِ كَإِرْثِهِ وَوَصِيَّتِهِ وَهَذِهِ الأَحْكَامُ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَبَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَليْهِ وَبَعْضُهَا فِيهِ اخْتِلافٌ.
فَمِنْ أَحْكَامِهِ: إذَا مَاتَتْ كَافِرَةً وَفِي بَطْنِهَا حَمْلٌ مَحْكُومٌ بِإِسْلامِهِ لمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الكُفَّارِ لحُرْمَةِ الحَمْل.
وَمِنْهَا: إخْرَاجُ الفِطْرَةِ عَنْ الحَمْل وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَفِي وُجُوبِهَا طَرِيقَانِ للأَصْحَابِ مِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِنَفْيِ الوُجُوبِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ.
وَمِنْهَا: فِطْرُ الحَامِل إذَا خَافَتْ عَلى جَنِينِهَا مِنْ الصَّوْمِ وَيَجِبُ عَليْهَا القَضَاءُ وَالكَفَّارَةُ وَهَل الكَفَّارَةُ مِنْ مَالهَا أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يَلزَمُهُ نَفَقَةُ الحَمْل؟ عَلى احْتِمَاليْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ.
وَمِنْهَا: إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَبَانَتْ حَامِلاً فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ: أَنَّ البَائِعَ إنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا رُدَّتْ إليْهِ لأَنَّهَا أُمُّ وَلدٍ لهُ وَإِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ شَاءَ المُشْتَرِي رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ لمْ يَرُدَّهَا فَأُبْطِل
البَيْعُ مَعَ إقْرَارِ البَائِعِ بِالوَطْءِ بِمُجَرَّدِ تَبَيُّنِ الحَمْل وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: عِنْدِي لا يَجِبُ الرَّدُّ حَتَّى تَضَعَ مَا تَصِيرُ بِهِ الأَمَةُ أُمَّ وَلدٍ لجَوَازِ أَنْ لا يَكُونَ كَذَلكَ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلنَا بِصِحَّةِ البَيْعِ قَبْل الاسْتِبْرَاءِ فَأَمَّا عَلى الرِّوَايَةِ فَالبَيْعُ مِنْ أَصْلهِ بَاطِلٌ لعَدَمِ اسْتِبْرَاءِ البَائِعِ.
ومنها: لوْ وَطِئَ الرَّاهِنُ أَمَتَهُ المَرْهُونَةَ فَأَحْبَلهَا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ وَلزِمَهُ قِيمَتُهَا تَكُونُ رَهْنًا كَذَا قَالهُ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال يَتَأَخَّرُ الضَّمَانُ حَتَّى تَضَعَ فَيَلزَمُهُ قِيمَتُهَا يَوْمَ أَحَبَلهَا.
وَمِنْهَا: إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ المَغْنَمِ فَحَمَلتْ فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ عَليْهِ فِي الحَال وَتَصِيرُ مُسْتَوْلدَةً لهُ , هَذَا هُوَ المَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ: لا تَصِيرُ مُسْتَوْلدَةً بِنَاءً عَلى أَنَّ الغَنِيمَةَ لا تُمْلكُ بِدُونِ القِسْمَةِ لكِنْ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهَا لكَوْنِهَا حَامِلاً بِحُرٍّ وَلا يُؤَخَّرُ قِسْمَتُهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يُحْسَبَ عَليْهِ مِنْ نَصِيبِهِ كَذَلكَ.
وَمِنْهَا: إذَا قَال لزَوْجَتِهِ: إنْ كُنْت حَامِلاً فَأَنْتِ طَالقٌ فَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إليْهَا النِّسَاءُ فَإِنْ خَفِيَ عَليْهِنَّ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ لسِتَّةِ أَشْهُرٍ حَنِثَ فَأَوْقَعَ الطَّلاقَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ بِالحَمْل. أَوْ بِوِلادَتِهَا لغَالبِ مُدَّةِ الحَمْل عِنْدَ خَفَائِهِ وَصَحَّحَ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الجَامِعِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
وَقَال أَكْثَرُ الأَصْحَابِ: إنْ وَلدَتْ لأَكْثَرَ مِنْ نِهَايَةِ مُدَّةِ الحَمْل لمْ تَطْلقْ وَإِنْ وَلدَتْ لدُونِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الحَمْل فَإِنْ كَانَ لمْ يَطَأْهَا بَعْدَ اليَمِينِ طَلقَتْ وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ اليَمِينِ فَإِنْ وَلدَتْ لدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ أَوَّل الوَطْءِ طَلقَتْ وَإِنْ وَلدَتْ لأَكْثَرَ مِنْهُ فَوَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا لا تَطْلقُ وَجَعَلهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَجْهًا وَاحِدًا لاحْتِمَال العُلوقِ بِهِ مِنْ الوَطْءِ المُتَجَدِّدِ.
وَالثَّانِي: تَطْلقُ لأَنَّ الأَصْل عَدَمُهُ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لا تَطْلقُ حَتَّى تَضَعَهُ لدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِكُل حَالٍ لأَنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ عِنْدَ اليَمِينِ بِدُونِ ذَلكَ وَالطَّلاقُ لا يَقَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالاحْتِمَال.
وَمِنْهَا: إذَا كَانَ لرَجُلٍ زَوْجَةٌ لهَا وَلدٌ مِنْ غَيْرِهِ فَمَاتَ وَلا أَبَ لهُ وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْ الزَّوْجِ وَطْءُ هَذِهِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا بَعْدَ مَوْتِ وَلدِهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَل هِيَ حَامِلٌ مِنْ وَطْئِهِ المُتَقَدِّمِ أَمْ لا لأَجْل مِيرَاثِ الحَمْل مِنْ أَخِيهِ , وَكَذَلكَ إذَا كَانَ عَبْدٌ تَحْتَهُ حُرَّةٌ قَدْ وَطِئَهَا وَلهُ أَخٌ حُرٌّ فَيَمُوتُ أَخُوهُ الحُرُّ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَل هِيَ حَامِلٌ أَمْ لا لأَجْل مِيرَاثِ الحَمْل مِنْ عَمِّهِ ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِوَلدٍ لسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ المَوْتِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِلا إشْكَالٍ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلأَقَل مِنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الحَمْل فَإِنْ كَفَّ الزَّوْجُ عَنْ الوَطْءِ مِنْ حِينِ المَوْتِ وَرِثَ الحَمْل لأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلاً.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ فَيَمُوتُ: إنَّهَا إنْ جَاءَتْ
بِوَلدٍ لدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ مَاتَ مِنْهَا وَرَّثْنَاهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِالوَلدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لمْ نُوَرِّثْهُ إلا بِبَيِّنَةٍ , وَيَكُفُّ عَنْ امْرَأَتِهِ إذَا مَاتَ وَلدُهَا فَإِنْ لمْ يَكُفَّ فَجَاءَتْ بِوَلدٍ لأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلا أَدْرِي هُوَ أَخُوهُ أَمْ لا وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إنْ كَفَّ عَنْ الوَطْءِ وَرِثَ الوَلدُ وَإِنْ لمْ يَكُفَّ فَإِنْ جَاءَتْ بِالوَلدِ بَعْدَ الوَطْءِ لدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَرِثَ أَيْضًا وَكَانَ كَمَنْ لمْ يَطَأْ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ الذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لا يَرِثُ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ إلا أَنْ يُقِرَّ الوَرَثَةُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلاً يَوْمَ مَوْتِ وَلدِهَا وَقَال فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا مِنْ مَسْأَلةِ تَعْليقِ الطَّلاقِ عَلى الحَمْل التِي تَقَدَّمَتْ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ للحَمْل فِي نَفْسِهِ مِنْ مِلكٍ وَتَمَلكٍ وَعِتْقٍ وَحُكْمٍ بِإِسْلامٍ وَاسْتِلحَاقِ نَسَبٍ وَنَفْيِهِ وَضَمَانٍ وَنَفَقَةٍ , وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مُرَادُ مَنْ حكى الخِلافَ فِي الحَمْل لهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ وَبَعْضُ هَذِهِ الأَحْكَامِ ثَابِتَةٌ بِغَيْرِ خِلافٍ وَلنَذْكُرْ جُمْلةً مِنْ هَذِهِ الأَحْكَامِ.
فَمِنْهَا: وُجُوبُ النَّفَقَةِ لهُ فَيَجِبُ نَفَقَةُ الحَمْل عَلى الأَبِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً لا نَفَقَةَ لهَا كَالبَائِنِ بِالاتِّفَاقِ , وَهَذِهِ النَّفَقَةُ للحَمْل لا لأُمِّهِ عَلى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ , وَلهَذَا يَدُورُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَعَلى هَذِهِ يَجِبُ مَعَ نُشُوزِ الأُمِّ وَكَوْنِهَا حَامِلاً مِنْ وَطْءٍ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَيَجِبُ عَلى سَائِرِ مَنْ تَجِبُ عَليْهِ نَفَقَةُ الأَقَارِبِ مَعَ فَقْدِ الأَبِ بِالمَوْتِ أَوْ الإِعْسَارِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ , وَتَسْقُطُ بِيَسَارِ الحَمْل إذَا حُكِمَ لهُ بِمِلكٍ , ذَكَرَهُ القَاضِي أَيْضًا فِي الخِلافِ وَظَاهِرُ كَلامِهِ فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ يُخَالفُ ذَلكَ وَيَجِبُ الإِنْفَاقُ فِي مُدَّةِ الحَمْل وَلا يَقِفُ عَلى الوَضْعِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ وَخَرَّجَ الآمِدِيُّ وَأَبُو الخَطَّابِ وَجْهًا إذَا قُلنَا: لا حُكْمَ للحَمْل أَنَّهُ لا يَجِبُ للحَمْل نَفَقَةٌ حَتَّى يَنْفَصِل فَتَرْجِعُ بِهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ مُصَادِمٌ لقَوْلهِ تَعَالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
وَأَمَّا أُمُّ الوَلدِ إذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَليْسَتْ مِنْ هَذَا القَبِيل وَإِنْ كَانَ أَبُو الخَطَّابِ ذَكَرَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لهَا لأَجْل الحَمْل رِوَايَتَيْنِ بَل نَفَقَةُ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ الحَامِل المُتَوَفَّى عَنْهَا , وَفِيهَا أَيْضًا رِوَايَتَانِ وَليْسَ ذَلكَ مَبْنِيًّا عَلى أَنَّ النَّفَقَةَ للحَمْل أَوْ للحَامِل كَمَا زَعَمَ ابْنُ الزاغوني وَغَيْرُهُ فَإِنَّ نَفَقَةَ الأَقَارِبِ تَسْقُطُ بِالمَوْتِ وَلكِنْ هَذَا مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلى المَحْبُوسَةِ بِحَقِّ الزَّوْجِ مِنْ مَالهِ كَنَفَقَةِ البَائِنِ الحَامِل.
نَعَمْ إنْ يَتَوَجَّهْ أَنْ يُقَال إنْ قُلنَا النَّفَقَةُ للحَامِل وَجَبَتْ كَنَفَقَةِ أُمِّ الوَلدِ وَالمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنْ التَّرِكَةِ ; لأَنَّهُمَا مَحْبُوسَتَانِ لحَقِّ الزَّوْجِ فَإِذَا وَجَبَتْ لهُمَا نَفَقَةٌ فَهِيَ مِنْ مَالهِ وَإِنْ قُلنَا النَّفَقَةُ للحَمْل فَهِيَ عَلى الوَرَثَةِ كَمَا سَبَقَ , وَهَذَا عَكْسُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الزاغوني وَغَيْرُهُ وَفِي نَفَقَةِ أُمِّ الوَلدِ الحَامِل ثَلاثُ رِوَايَاتٍ
عَنْ أَحْمَدَ.
أَحَدُهَا: لا نَفَقَةَ لهَا نَقَلهَا حَرْبٌ وَابْنُ بُخْتَانَ.
وَالثَّانِية: يُنْفَقُ عَليْهَا مِنْ نَصِيبِ مَا فِي بَطْنِهَا نَقَلهَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الكَحَّال , وَالثَّالثَةُ: إنْ لمْ تَكُنْ وَلدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا قَبْل ذَلكَ فَنَفَقَتُهَا مِنْ جَمِيعِ المَال إذَا كَانَتْ حَامِلاً وَإِنْ كَانَتْ وَلدَتْ قَبْل ذَلكَ فَهِيَ فِي عِدَادِ الأَحْرَارِ يُنْفِقُ عَليْهَا مِنْ نَصِيبِهَا نَقَلهَا عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهِيَ مُشْكِلةٌ جِدًّا.
وَمَعْنَاهَا عِنْدِي -وَاَللهُ أَعْلمُ- أَنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلاً وَلمْ تَضَعْ مِنْ سَيِّدِهَا قَبْل ذَلكَ فَنَفَقَتُهَا مِنْ جَمِيعِ المَال لمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَبْسِهَا عَلى سَيِّدِهَا بِالحَمْل فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَليْهِ حَيْثُ لمْ يَثْبُتْ اسْتِيلادُهَا بَعْدُ , وَيَجُوزُ أَنْ لا تَصِيرُ أُمَّ وَلدٍ بِالكُليَّةِ وَتُسْتَرَقُّ. فَإِذَا أَنْفَقَ عَليْهَا مِنْ جَمِيعِ المَال فَإِنْ بَيَّنَ عِتْقَهَا وَقَدْ اسْتَوْفَتْ الوَاجِبَ لهَا وَإِنْ رُقَّتْ لمْ يَذْهَبْ عَلى الوَرَثَةِ شَيْءٌ مِنْ حَيْثُ أُنْفِقَ عَلى رَقِيقِهِمْ مِنْ مَالهِمْ وَإِنْ كَانَتْ وَلدَتْ قَبْل ذَلكَ مِنْ سَيِّدِهَا فَقَدْ ثَبَتَ لهَا حُكْمُ الاسْتِيلادِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلهِ هِيَ فِي عِدَادِ الأَحْرَارِ , وَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ لمَوْتِ السَّيِّدِ بِلا رَيْبٍ فَإِيجَابُ نَفَقَتِهَا عَلى وَلدِهَا أَوْلى مِنْ إيجَابِهَا مِنْ مَال سَيِّدِهَا وَيَزِيدُهُ إيضَاحًا فِي المَسْأَلةِ الآتِيَةِ:
ومنها: وُجُوبُ نَفَقَةِ الأَقَارِبِ عَلى الحَمْل مِنْ مَالهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الكَحَّال أَنَّ نَفَقَةَ أُمِّ الوَلدِ الحَامِل مِنْ نَصِيبِ مَا فِي بَطْنِهَا ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَاسْتَشْكَلهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ قَال: لأَنَّ الحَمْل إنَّمَا يَرِثُ بِشَرْطِ خُرُوجِهِ حَيًّا وَيُوقَفُ نَصِيبُهُ فَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْل تَحَقُّقِ الشَّرْطِ؟! وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا النَّصَّ يَشْهَدُ لثُبُوتِ مِلكِهِ بِالإِرْثِ مِنْ حِينِ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ وَإِنَّمَا خُرُوجُهُ حَيًّا يَتَبَيَّنُ بِهِ وُجُودُ ذَلكَ فَإِذَا حَكَمْنَا لهُ بِالمِلكِ ظَاهِرًا جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالنَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ عَليْهِ وَعَلى مَنْ يَلزَمُهُ نَفَقَتُهُ لا سِيَّمَا وَالنَّفَقَةُ عَلى أُمِّهِ يَعُودُ نَفْعُهَا إليْهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَال المَفْقُودِ إذَا غَلبَ عَلى الظَّنِّ هَلاكُهُ وَيُقَسَّمُ مَالهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ , وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَيًّا بَل هُوَ الأَصْل حَتَّى لوْ قَدِمَ حَيًّا وَقَدْ اُسْتُهْلكَ مَالهُ فِي أَيْدِي الوَرَثَةِ فَفِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَانِ , وَكَذَا يُقَال فِي مَال الحَمْل وَيَشْهَدُ لهُ إذَا أَنْفَقَ الزَّوْجُ عَلى البَائِنِ يَظُنُّهَا حَامِلاً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لمْ تَكُنْ حَامِلاً فَفِي الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا , وَقَدْ يُحْمَل إيجَابُ الأُمِّ مِنْ نَصِيبِ الحَمْل عَلى أَنَّ الأُمَّ تَرْجِعُ بِهِ عَلى نَصِيبِهِ إذَا وَضَعَتْهُ حَيًّا وَفِيهِ بُعْدٌ.
ومنها: مَلكَهُ بِالمِيرَاثِ وَهُوَ مُتفقٌ عَليْهِ فِي الجُمْلةِ لكِنْ هَل يَثْبُتُ لهُ المِلكُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ وَتَبَيَّنَ ذَلكَ بِخُرُوجِهِ حَيًّا أَوْ لمْ يَثْبُتْ لهُ المِلكُ حَتَّى يَنْفَصِل حَيًّا؟ فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ الأَصْحَابِ وَهَذَا الخِلافُ مُطَرِّدٌ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ الثَّابِتَةِ لهُ هَل هِيَ مُعَلقَةٌ بِشَرْطِ انْفِصَالهِ حَيًّا فَلا يَثْبُتُ قَبْلهُ أَوْ هِيَ ثَابِتَةٌ لهُ فِي حَال كَوْنِهِ حَامِلاً لكِنَّ ثُبُوتَهَا مُرَاعًى بِانْفِصَالهِ حَيًّا فَإِذَا انْفَصَل حَيًّا تَبَيَّنَّا ثُبُوتَهَا مِنْ حِينِ وُجُودِ أَسْبَابِهَا , وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْل مَنْ قَال: هَل الحَمْل لهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ وَاَلذِي يَقْتَضِيهِ نَصُّ أَحْمَدَ فِي الإِنْفَاقِ عَلى أُمِّهِ مِنْ نَصِيبِهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لهُ المِلكُ بِالإِرْثِ مِنْ حِينِ مَوْتِ أَبِيهِ وَصَرَّحَ بِذَلكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الأَصْحَابِ.
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى خِلافِهِ أَيْضًا فَرَوَى عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي نَصْرَانِيٍّ مَاتَ وَامْرَأَتُهُ نَصْرَانِيَّةٌ وَكَانَتْ حُبْلى فَأَسْلمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ وَلدَتْ هَل تَرِثُ؟ قَال: لا , وَقَال إنَّمَا مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ لا يَعْلمُ مَا هُوَ وَإِنَّمَا يَرِثُ بِالوِلادَةِ وَحَكَمَ لهُ بِحُكْمِ الإِسْلامِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الكَحَّال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ وَامْرَأَتُهُ حَامِلٌ فَأَسْلمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ قَال: مَا فِي بَطْنِهَا مُسْلمٌ قُلتُ يَرِثُ أَبَاهُ إذَا كَانَ كَافِرًا وَهُوَ مُسْلمٌ؟ قَال: لا يَرِثُهُ فَصَرَّحَ بِالمَنْعِ مِنْ إرْثِهِ مِنْ أَبِيهِ مُعَللاً بِأَنَّ إرْثَهُ يَتَأَخَّرُ إلى مَا بَعْدَ وِلادَتِهِ ; لأَنَّهُ قَبْل ذَلكَ مَشْكُوكٌ فِي وُجُودِهِ وَإِذَا تَأَخَّرَ تَوْرِيثُهُ إلى مَا بَعْدَ الوِلادَةِ فَقَدْ سَبَقَ الحُكْمُ بِإِسْلامِهِ زَمَنَ الوِلادَةِ إمَّا بِإِسْلامِ أُمِّهِ كَمَا دَل عَليْهِ كَلامُ أَحْمَدَ هُنَا أَوْ بِمَوْتِ أَبِيهِ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ , وَالحُكْمُ بِالإِسْلامِ لا يَتَوَقَّفُ عَلى العِلمِ بِهِ بِخِلافِ التَّوْرِيثِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلى أَنَّ التَّوْرِيثَ يَتَأَخَّرُ عَنْ مَوْتِ المَوْرُوثِ إذَا انْعَقَدَ سَبَبُهُ فِي حَيَاةِ المَوْرُوثِ وَأُصُول أَحْمَدَ تَشْهَدُ لذَلكَ فِي إسْلامِ القَرِيبِ الكَافِرِ قَبْل قِسْمَةِ المِيرَاثِ.
وَأَمَّا عَلى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ الكَحَّال فِي النَّفَقَةِ فَيَرِثُ الحَمْل بِمَوْتِ أَبِيهِ مِنْهُ وَإِنْ قُلنَا يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي قَاعِدَةِ اقْتِرَانِ الحُكْمِ وَمَانِعِهِ , وَأَمَّا إنْ قِيل: لا يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِ أَحَدٍ عَلى مَا ذَكَرْنَاهُ وَاضِحٌ لا خَفَاءَ فِيهِ وَقَدْ أَلمَّ بِهِ بَعْضُ الأَصْحَابِ وَأَمَّا القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ فَاضْطَرَبُوا فِي تَخْرِيجِ كَلامِ أَحْمَدَ. وَللقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ:
الأَوَّل: أَنَّ إسْلامَهُ قَبْل قِسْمَةِ المِيرَاثِ أَوْجَبَ مَنْعَهُ مِنْ التَّوْرِيثِ كَمَا أَنَّ إسْلامَ الكَافِرِ قَبْل قِسْمَةِ مِيرَاثِ المُسْلمِ يُوجِبُ تَوْرِيثَهُ اعْتِبَارًا بِالقِسْمَةِ فِي التَّوْرِيثِ وَالمَنْعِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الفُصُول وَهِيَ ظَاهِرَةُ الفَسَادِ ; لأَنَّ إسْلامَ قَرِيبِ الكَافِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَثُبُوتَ إرْثِهِ لا يُسْقِطُ تَوْرِيثَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ خِلافٍ فَإِنَّ تَوْرِيثَ المُسْلمِ قَبْل القِسْمَةِ ثَبَتَ تَرْغِيبًا فِي الإِسْلامِ وَحَثًّا عَليْهِ وَهَذَا المَقْصُودُ يَنْعَكِسُ هَهُنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مِنْ جُمْلةِ صُوَرِ تَوْرِيثِ الطِّفْل المَحْكُومِ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِ أَبِيهِ مِنْهُ وَنَصُّهُ هَذَا يَدُل عَلى عَدَمِ التَّوْرِيثِ فَيَكُونُ رِوَايَةً ثَانِيَةً فِي المَسْأَلةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ ; لأَنَّ أَحْمَدَ صَرَّحَ بِالتَّعْليل بِغَيْرِ ذَلكَ وَلأَنَّ تَوْرِيثَ الطِّفْل مِنْ أَبِيهِ الكَافِرِ وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِهِ غَيْرُ مُخْتَلفٍ فِيهِ حَتَّى نَقَل ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَليْهِ الإِجْمَاعَ فَلا يَصِحُّ حَمْل كَلامِ أَحْمَدَ عَلى مَا يُخَالفُ الإِجْمَاعَ.
الثَّالثُ: أَنَّ الحُكْمَ بِإِسْلامِ هَذَا الطِّفْل جُعِل بِشَيْئَيْنِ بِمَوْتِ أَبِيهِ وَإِسْلامِ أُمِّهِ.
وَهَذَا الثَّانِي مَانِعٌ قَوِيٌّ ; لأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَليْهِ فَلذَلكَ مُنِعَ من المِيرَاثَ بِخِلافِ الوَلدِ المُنْفَصِل إذَا مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ وَلا يُمْنَعُ إرْثَهُ ; لأَنَّ المَانِعَ فِيهِ ضَعِيفٌ للاخْتِلافِ فِيهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي خِلافِهِ،
وَهِيَ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا وَمُخَالفَةٌ لتَعْليل أَحْمَدَ فَإِنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا عَلل بِسَبْقِ المَانِعِ لتَوْرِيثِهِ لا بِقُوَّةِ المَانِعِ وَضَعْفِهِ وَإِنَّمَا وَرَّثَ أَحْمَدُ مَنْ حُكِمَ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ لمُقَارَنَةِ المَانِعِ لا لضَعْفِهِ.
ومنها: ثُبُوتُ المِلكِ لهُ بِالوَصِيَّةِ وَفِيهِ الخِلافُ السَّابِقُ بِالتَّوْرِيثِ وَاخْتَارَ القَاضِي أَنَّ الوَصِيَّةَ لهُ تَعْليقٌ عَلى خُرُوجِهِ حَيًّا وَالوَصِيَّةُ قَابِلةٌ للتَّعْليقِ بِخِلافِ الهِبَةِ وَابْنُ عَقِيلٍ تَارَةً وَافَقَ شَيْخَهُ وَتَارَةً خَالفَهُ , وَحُكِمَ بِثُبُوتِ المِلكِ مِنْ حِينِ مَوْتِ المُوصِي وَقَبُول الوَليِّ لهُ , وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو المَعَالي التَّنُوخِيُّ وَبِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ الحَوْل عَليْهِ مِنْ حِينِ الحُكْمِ بِالمِلكِ إذَا كَانَ مَالاً زَكَوِيًّا وَكَذَلكَ فِي المَمْلوكِ بِالإِرْثِ وَحَكَى وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لا يَجْرِي فِي حَوْل الزَّكَاةِ حَتَّى تُوضَعَ للتَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ حَيًّا مَالكًا فَهُوَ كَالمُكَاتَبِ وَلا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْرِيعُ فِي المَذْهَبِ.
ومنها: الإِقْرَارُ المُطْلقُ للحَمْل هَل يَصِحُّ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ. وَقَال التَّمِيمِيُّ: لا يَصِحُّ وَقَال أَبُو حَامِدٍ وَالقَاضِي: يَصِحُّ وَاخْتَلفَ فِي مَأْخَذِ البُطْلانِ فَقِيل: لأَنَّ الحَمْل لا يَمْلكُ إلا بِالإِرْثِ وَالوَصِيَّةِ , فَلوْ صَحَّ الإِقْرَارُ لهُ تَمَلكَ بِغَيْرِهِمَا وَهُوَ فَاسِدٌ فَإِنَّ الإِقْرَارَ كَاشِفٌ للمِلكِ وَمُبَيِّنٌ لهُ لا مُوجِبٌ لهُ وَقِيل: لأَنَّ ظَاهِرَ الإِطْلاقِ يَنْصَرِفُ إلى المُعَامَلةِ وَنَحْوِهَا وَهِيَ مُسْتَحِيلةٌ مَعَ الحَمْل وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لأَنَّهُ إذَا صَحَّ لهُ المِلكُ تَوَجَّهَ حَمْل الإِقْرَارِ مَعَ الإِطْلاقِ عَليْهِ , وَقِيل: لأَنَّ الإِقْرَارَ للحَمْل تَعْليقٌ لهُ عَلى شَرْطٍ فِي الوِلادَةِ ; لأَنَّهُ لا يَمْلكُ بِدُونِ خُرُوجِهِ حَيًّا وَالإِقْرَارُ لا يَقْبَل التَّعْليقَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ عَقِيلٍ وَهِيَ أَظْهَرُ وَتَرْجِعُ المَسْأَلةُ حِينَئِذٍ إلى ثُبُوتِ المِلكِ لهُ وَانْتِفَائِهِ كَمَا سَبَقَ.
ومنها: اسْتِحْقَاقُ الحَمْل مِنْ الوَقْفِ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يُوضَعَ , وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَالأَكْثَرِينَ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَثْبُتُ لهُ اسْتِحْقَاقُ الوَقْفِ فِي حَال كَوْنِهِ حَمْلاً حَتَّى صَحَّحَ الوَقْفَ عَلى الحَمْل ابْتِدَاءً.
وَقِيَاسُ قَوْلهِ فِي الهِبَةِ كَذَلكَ إذْ تَمْليكُ الحَمْل عِنْدَهُ تَمْليكٌ مُنْجَزٌ لا مُعَلقٌ وَإِنَّمَا مَنَعَ القَاضِي صِحَّةَ الهِبَةِ لهُ ; لأَنَّ تَمْليكَهُ مُعَلقٌ عَلى خُرُوجِهِ حَيًّا وَالهِبَةُ لا تَقْبَل التَّعْليقَ وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِاسْتِحْقَاقِ الحَمْل مِنْ الوَقْفِ أَيْضًا وَيُمْكِنُ التَّفْرِيقُ عَلى المَنْصُوصِ بَيْنَ الوَقْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الإِرْثِ وَالوَصِيَّةِ وَالهِبَةِ فَإِنَّ الوَقْفَ إنَّمَا المَقْصُودُ مَنَافِعُهُ وَثَمَرَاتُهُ وَفَوَائِدُهُ , وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلى التَّأْبِيدِ لقَوْمٍ بَعْدَ قَوْمٍ وَالحَمْل ليْسَ مِنْ أَهْل الانْتِفَاعِ فَلا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ المُنْتَفِعِينَ بِهِ حَتَّى يُولدَ وَيَحْتَاجَ إلى الانْتِفَاعِ مَعَهُمْ بِخِلافِ المِلكِ الذِي يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ لا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ , فَإِنَّ هَذَا ثَبَتَ للحَمْل وَلا يَجُوزُ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ مَعَ وُجُودِهِ , وَيَلزَمُ مِنْ ذَلكَ صِحَّةُ الوَقْفِ عَلى الحَمْل المُعَيَّنِ دُونَ اسْتِحْقَاقِهِ مَعَ أَهْل الوَقْفِ.
ومنها: الأَخْذُ للحَمْل بِالشُّفْعَةِ إذَا مَاتَ مُوَرِّثُهُ بَعْدَ المُطَالبَةِ , قَال الأَصْحَابُ: لا يُؤْخَذُ لهُ ثُمَّ
مِنْهُمْ مَنْ عَلل بِأَنَّهُ لا يَتحقق وُجُودُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ عَلل بِانْتِفَاءِ مِلكِهِ وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بِالأَخْذِ لهُ بِالشُّفْعَةِ بِنَاءً عَلى أَنَّ لهُ حُكْمًا وَمِلكًا.
ومنها: اللعَانُ عَلى الحَمْل , وَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي فِي خِلافِهِ وَفِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: لا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلا الالتِعَانُ عَليْهِ ; لأَنَّهُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ , نَقَلهَا أَبُو طَالبٍ وَحَنْبَلٌ وَالمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلل بِاحْتِمَال كَوْنِهِ رِيحًا وَهَذَا هُوَ المَذْهَبُ عِنْدَ الأَصْحَابِ، وَالثَّانِيَة: تَلاعُنٌ بِالحَمْل نَقَلهَا ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ. قَال الخَلال: هُوَ قَوْلٌ أَوَّلٌ وَذَكَرَ النَّجَّادُ: أَنَّهُ هُوَ المَذْهَبُ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ المُغْنِي , وَعَلى هَذَا الخِلافِ يَخْرُجُ صِحَّةُ اسْتِلحَاقِ الحَمْل وَالإِقْرَارِ بِهِ ; لأَنَّ لحُوقَ النَّسَبِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْ نَفْيِهِ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ أَنَّهُ لا يَلزَمُ الإِقْرَارُ بِهِ وَهُوَ مُنْزَلٌ عَلى قَوْلهِ إنَّهُ لا يَنْتَفِي بِاللعَانِ عَليْهِ.
ومنها: وُجُوبُ الغُرَّةِ بِقَتْلهِ إذَا أَلقَتْهُ أُمُّهُ مَيِّتًا مِنْ الضَّرْبِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ عَلى مَنْ اعْتَرَضَ عَلى ذَلكَ مُعَللاً بِأَنَّهُ لمْ يُشَارِكْ الأَحْيَاءَ فِي صِفَاتِهِمْ الخَاصَّةِ مِنْ الأَكْل وَالشُّرْبِ وَالاسْتِهْلال وَأَنَّ ذَلكَ يَقْتَضِي إهْدَارَهُ , وَنَسَبَهُ إلى أَنَّهُ مِنْ إخْوَانِ الكُهَّانِ حَيْثُ تَكَلمَ بِكَلامٍ مُسَجَّعٍ بَاطِلٍ فِي نَفْسِهِ , وَالعَجَبُ كُل العَجَبِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَيَرْتَضِي لنَفْسِهِ مُشَارَكَةَ هَذَا المُعْتَرِضِ , وَيَقُول: القِيَاسُ يَقْتَضِي إهْدَارَهُ وَليْسَ كَمَا ظَنَّهُ فَإِنَّ هَذَا الجَنِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادَفَهُ الضَّرْبُ وَفِيهِ حَيَاةٌ وَيَكُونُ ذَلكَ قَبْل وُجُودِ الحَيَاةِ فِيهِ وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَارَقَتْهُ الحَيَاةُ ; لأَنَّهُ لوْ مَاتَ لمْ يَسْتَقِرَّ فِي البَطْنِ وَحِينَئِذٍ فَالجَانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ قَتَلهُ أَوْ مَنَعَ انْعِقَادَ حَيَاتِهِ فَضَمِنَهُ بِالغُرَّةِ لتَفْوِيتِ انْعِقَادِ حَيَاتِهِ كَمَا ضَمِنَ المَغْرُورُ وَلدَهُ بِالغُرَّةِ لتَفْوِيتِ انْعِقَادِهِمْ أَرِقَّاءَ وَلمْ يَضْمَنُوا كَمَال الدِّيَةِ وَالقِيمَةِ أَيْضًا فَإِنَّ دَلائِل حَيَاتِهِ وَسُقُوطِهِ مَيِّتًا عَقِيبَ الضَّرْبَةِ كَالقَاطِعِ بِأَنَّهَا هِيَ التِي قَتَلتْهُ وَلعَل ذَلكَ الظَّنَّ فَوَّتَ مَرْتَبَةَ اللوْثِ المُوجِبِ للقَسَامَةِ.
وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّهُ قَبْلهُ فَمَوْتُهَا سَبَبُ قَتْلهِ بِالاخْتِنَاقِ وَفَقْدِ التَّعَدِّي.
وَذَلكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلا يُشْتَرَطُ الانْفِصَال إلا لثُبُوتِ الضَّمَانِ فِي الظَّاهِرِ فَلوْ مَاتَتْ الأُمُّ وَجَنِينُهَا وَجَبَ ضَمَانُهُمَا لكِنْ اشْتَرَطَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ الانْفِصَال , قَال فِي امْرَأَةٍ قُتِلتْ وَهِيَ حَامِلٌ: إذَا لمْ يُلقَ الجَنِينُ فَليْسَ فِيهِ شَيْءٌ , قَال القَاضِي وَالأَصْحَابُ: يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ أَوْ يَكُونَ قَدْ انْشَقَّ جَوْفُهَا فَشُوهِدَ الجَنِينُ وَإِنْ لمْ يَنْفَصِل ; لأَنَّ العِلمَ بِحَالهِ يَحْصُل بِذَلكَ.
وَقَدْ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ: إذَا كَانَ الجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَقُتِلتْ الأُمُّ وَمَاتَ الجَنِينُ فَعَلى العَاقِلةِ دِيَةُ الأُمِّ وَدِيَةُ الجَنِينِ وَلمْ يُشْتَرَطْ الانْفِصَال.
وَلوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَشُوهِدَ لجَوْفِهَا حَرَكَةٌ ثُمَّ عُصِرَ جَوْفُهَا فَخَرَجَ الجَنِينُ مَيِّتًا فَهَل تَضْمَنُهُ العَاصِرَةُ عَلى احْتِمَاليْنِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي وَأَبُو الخَطَّابِ فِي خِلافِهِمَا.
أَحَدُهُمَا: تَضْمَنُهُ ; لأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ بِجِنَايَةِ العَصْرِ.
وَالثَّانِي: لا يُضْمَنُ ; لأَنَّهُ مُنْخَنِقٌ بِمَوْتِ أُمِّهِ فَلا يَبْقَى جِنَايَةٌ بَعْدَهَا.
وَهَل يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِجَنِينِ الآدَمِيَّةِ أَمْ يَتَعَدَّى إلى غَيْرِهَا مِنْ الحَيَوَانَاتِ؟ ذَهَبَ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ إلى الاخْتِصَاصِ ; لأَنَّ ضَمَانَ الجَنِينِ المَيِّتِ عَلى خِلافِ القِيَاسِ , قَالوا: وَإِنَّمَا يَجِبُ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ أُمِّهِ بِالجِنَايَةِ , نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ , وَقَال أَبُو بَكْرٍ: يَجِبُ ضَمَانُ جَنِينِ البَهَائِمِ بِعُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ كَجَنِينِ الأَمَةِ وَقِيَاسُهُ جَنِينُ الصَّيْدِ فِي الحَرَمِ وَالإِحْرَامِ , وَالمَشْهُورُ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا نَقَصَ أُمُّهُ أَيْضًا ; لأَنَّ غَيْرَ الآدَمِيِّ لا يُضْمَنُ بِمُقَدَّرٍ وَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِمَا نَقَصَ.
وَلوْ أَلقَتْ البَهِيمَةُ بِالجِنَايَةِ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَاحْتِمَالانِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الرَّهْنِ أَحَدُهُمَا: يُضْمَنُ قِيمَةَ الوَلدِ حَيًّا لا غَيْرُ.
وَالثَّانِي: عَليْهِ أَكْثَرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مَا نَقَصَتْ الأُمُّ , وَكَذَلكَ ذَكَرَ صَاحِبُ المُغْنِي فِي الأَمَةِ إذَا أَسَقَطَتْ الجَنِينَ , هَل يَجِبُ ضَمَانُهُ فَقَطْ أَوْ يَجِبُ مَعَهُ ضَمَانُ نَقْصِهَا أَوْ ضَمَانُ أَكْثَرِ الأَمْرَيْنِ؟ ثَلاثُ احْتِمَالاتٍ وَالمَذْهَبُ: الأَوَّل وَلمْ يَذْكُرْ القَاضِي سِوَاهُ. وَخَرَّجَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَنَّ جَنِينَ الأَمَةِ يُضْمَنُ بِمَا نَقَصَتْ أُمُّهُ لا غَيْرُ بِنَاءً عَلى قَوْلهِ: إنَّ الرَّقِيقَ لا يُضْمَنُ بِمُقَدَّرٍ بَل بِمَا يَنْقُصُ بِكُل حَالٍ.
وَلوْ قَتَل صَيْدًا مَاخِضًا فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يَفْدِيهِ بِمِثْلهِ مِنْ النَّعَمِ مَاخِضٍ وَهُوَ قَوْل أَبِي الخَطَّابِ.
وَالثَّانِي: يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ مِثْلهُ ; لأَنَّ اللحْمَ المَاخِضَ يَفْسُدُ فَقِيمَةُ المِثْل أَزْيَدُ مِنْ قِيمَةِ لحْمِهِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي.
وَالثَّالثُ: يُجْزِيهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمِثْلهِ غَيْرَ مَاخِضٍ ; لأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ عَيْبٌ فِي اللحْمِ فَلا يُعْتَبَرُ فِي المِثْل كَسَائِرِ العُيُوبِ ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي احْتِمَالاً
ومنها: هَل يُوصَفُ قَتْل الجَنِينِ بِالعَمْدِيَّةِ أَمْ لا؟ , قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي امْرَأَةٍ شَرِبَتْ دَوَاءً فَأَسْقَطَتْ: إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ فَأَحَبُّ إليَّ أَنْ يُعْتَقَ رَقَبَةٌ , وَإِنْ سَقَطَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَالدِّيَةُ عَلى عَاقِلتِهَا لأَبِيهِ وَلا يَكُونُ لأُمِّهِ شَيْءٌ ; لأَنَّهَا القَاتِلةُ.
قِيل لهُ: فَإِنْ شَرِبَتْ عَمْدًا؟ قَال: هُوَ شَبِيهُ العَمْدِ شَرِبَتْ وَلا تَدْرِي يَسْقُطُ أَمْ لا.
عَسَى لا يَسْقُطُ. الدِّيَةُ عَلى العَاقِلةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لمْ يَجْعَلهُ عَمْدًا للشَّكِّ فِي وُجُودِهِ لا للشَّكِّ فِي الإِسْقَاطِ بِالدَّوَاءِ ; لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الإِسْقَاطُ مَعْلومًا كَمَا أَنَّ القَتْل بِالسُّمِّ وَنَحْوِهِ مَعْلومٌ وَمِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخَذَ الأَصْحَابُ رِوَايَةَ وُجُوبِ الكَفَّارَةِ بِقَتْل العَمْدِ وَلا يَصِحُّ ذَلكَ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ ليْسَ بِعَمْدٍ وَإِنَّمَا هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ.
ومنها: عِتْقُ الجَنِينِ هَل يَنْفُذُ مِنْ حِينِهِ أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلى خُرُوجِهِ حَيًّا؟ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يَنْفُذُ مِنْ حِينِهِ وَهُوَ المَذْهَبُ.
وَالثَّانِيَةُ: لا يُعْتَقُ حَتَّى تَضَعَهُ حَيًّا نَصَّ عَليْهَا فِي رِوَايَةِ
ابْنِ مَنْصُورٍ قَال: لا يَجِبُ العِتْقُ إلا بِالوِلادَةِ , هُوَ عَبْدٌ حَتَّى يُعْلمَ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ وَكَذَلكَ الخِلافُ إذَا أُعْتِقَ تَبَعًا لعِتْقِ أُمِّهِ أَوْ يَمْلكُهُ مِمَّنْ يُعْتَقُ بِرَحِمٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلى هَذَا الأَصْل فُرُوعٌ:
الفَرْعُ الأَوَّل: لوْ زَوَّجَ ابْنَهُ بِأَمَتِهِ فَوَلدَتْ وَلدًا بَعْدَ مَوْتِ الجَدِّ سَيِّدِ الأَمَةِ فَإِنْ قُلنَا يَعْتِقُ الحَمْل فَقَدْ عَتَقَ عَلى جَدِّهِ نَصَّ عَلى ذَلكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَصَالحٍ وَإِنْ قُلنَا لا يَعْتِقُ حَتَّى تُوضَعَ فَهُوَ تَرِكَةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْ سَيِّدِهِ فَيَرِثُ مِنْهُ أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ وَيَعْتِقُ عَليْهِمْ بِالمِلكِ نَصَّ عَلى ذَلكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ وَهَذَا ; لأَنَّنَا إنْ قُلنَا ليْسَ للحَمْل حُكْمٌ فَالمَعْنَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لهُ حُكْمُ الأَوْلادِ المُسْتَقِلينَ وَإِلا فَهُوَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَمُودَعٌ فِي أُمِّهِ فَالمِلكُ فِيهِ قَائِمٌ.
وَطَرَدَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ الخِلافَ فِي ثُبُوتِ مِلكِهِ أَيْضًا وَذَكَرَا فِي الوَصِيَّةِ أَنَّهُ لوْ وَصَّى بِأَمَةٍ لزَوْجِهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَوَلدَتْ فَإِنْ قُلنَا: للحَمْل حُكْمٌ فَهُوَ مُوصًى بِهِ مَعَهَا يَتْبَعُهَا فِي الوَصِيَّةِ , وَإِنْ قُلنَا: لا حُكْمَ لهُ لمْ يَدْخُل فِي الوَصِيَّةِ وَكَانَ مِلكًا لمَنْ وَلدَتْهُ فِي مِلكِهِ ; لأَنَّهُ حِينَئِذٍ ثَبَتَ لهُ حُكْمٌ بِظُهُورِهِ.
فَإِنْ وَلدَتْهُ فِي حَيَاةِ المُوصَيْ فَهُوَ لهُ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْل القَبُول فَهُوَ لمَنْ حَكَمْنَا لهُ بِالمِلكِ فِي تِلكَ الحَال عَلى الخِلافِ فِيهِ وَإِنْ وَلدَتْهُ بَعْدَ قَبُولهِ فَهُوَ لهُ وَيَعْتِقُ عَليْهِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي هَهُنَا أَنَّا إذَا قُلنَا لا حُكْمَ للحَمْل وَلا يَعْتِقُ عَلى جَدِّهِ فَمَاتَ الجَدُّ وَوُضِعَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَضْعُهُ بَعْدَ القِسْمَةِ فَهُوَ مِلكٌ لمَنْ حَصَلتْ الأَمَةُ لهُ , وَإِنْ كَانَ قَبْل القِسْمَةِ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ لا ; لأَنَّهُ مَوْرُوثٌ عَنْ أَبِيهِمْ بَل ; لأَنَّهُ نَمَاءُ مِلكِهِمْ المُشْتَرَكِ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ للأَصْحَابِ فِي مَعْنَى كَوْنِ الحَمْل لهُ حُكْمٌ أَوْ لا حُكْمَ لهُ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَل هُوَ كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ أُمِّهِ أَوْ كَالمَعْدُومِ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِوُجُودِهِ بِالوَضْعِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ المَنْصُوصُ أَنَّهُ مَمْلوكٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ أُمِّهِ وَمُودَعٌ فِيهَا وَلكِنْ هَل يَثْبُتُ لهُ حُكْمُ الوَلدِ المُسْتَقِل بِدُونِ انْفِصَالهِ أَوْ لا يَثْبُتُ لهُ ذَلكَ حَتَّى يَنْفَصِل؟
الفَرْعُ الثَّانِي: إذَا أَعْتَقَ الأَمَةَ الحَامِل عَتَقَ حَمْلهَا مَعَهَا.
وَلكِنْ هَل يَقِفُ عِتْقُهُ عَلى انْفِصَالهِ أَوْ يُعْتَقُ مِنْ حِينِ عِتْقِ أُمِّهِ عَلى مَا تَقَدَّمَ وَقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لا يُعْتَقُ بِالكُليَّةِ إذْ هُوَ كَالمَعْدُومِ قَبْل الوَضْعِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا فَإِنَّ أَسْوَأَ مَا يُقَدَّرُ فِي الحَمْل أَنَّهُ وَرَدَ عَليْهِ العِتْقُ فِي حَالٍ مَنَعَ مِنْ نُفُوذِهِ مَانِعٌ فَوَقَفَ عَلى زَوَالهِ كَعِتْقِ المَرِيضِ لكُل رَقِيقِهِ , فَإِنَّهُ , يَقِفُ عَلى إجَازَةِ الوَرَثَةِ.
وَمِنْ أَصْلنَا أَنَّ العِتْقَ قَبْل المِلكِ يَصِحُّ تَعْليقُهُ عَليْهِ فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ فَإِنْ كَانَ أَصْلهُ مَوْجُودًا فِي مِلكِهِ صَحَّ تَعْليقُهُ بِغَيْرِ خِلافٍ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ كَمَنْ قَال لأَمَتِهِ كُل وَلدٍ تَلدِينَهُ حُرٌّ , وَهَذَا العِتْقُ قَدْ بَاشَرَ بِالعِتْقِ أَمَتَهُ وَحَمْلهَا مُتَّصِلٌ بِهَا فَوَقَفَ نُفُوذُ عِتْقِهِ عَلى صَلاحِيَّتِهِ للعِتْقِ بِظُهُورِهِ , وَقَدْ صَرَّحَ
القَاضِي فِي خِلافِهِ بِأَنَّهُ لوْ أَعْتَقَ الحَمْل وَكَانَ عَلقَةً عَتَقَ , وَإِنْ لمْ يَكُنْ مَمْلوكًا حِينَئِذٍ نُظِرَ إلى هَذَا المَعْنَى وَاَللهُ أَعْلمُ.
الفَرْعُ الثَّالثُ: أَعْتَقَ الأَمَةَ وَاسْتَثْنَى حَمْلهَا صَحَّ وَكَانَ الوَلدُ رَقِيقًا نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَتُوقَفُ فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ الحَكَمِ , وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي أَنَّهُ لا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا وَخَرَّجُوهُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ اسْتِثْنَائِهِ فِي البَيْعِ , وَلا يَصِحُّ ; لأَنَّ البَيْعَ تُنَافِيهِ الجَهَالةُ بِخِلافِ العِتْقِ.
الفَرْعُ الرَّابِعُ: أَعْتَقَ المُوسِرُ أَمَةً لهُ حَمْلهَا لغَيْرِهِ فَهَل يُعْتَقُ بِالسِّرَايَةِ أَمْ لا؟ إنْ قُلنَا أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لمْ يَسْرِ إليْهِ العِتْقُ وَإِنَّمَا دَخَل مَعَ الأُمِّ إذَا كَانَ مَمْلوكًا لمَالكِهَا تَبَعًا لاتِّصَالهِ بِالأُمِّ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلكِهِ كَمَا يَتْبَعُ الطَّلعُ المُؤَبَّرُ للنَّخْل فِي العَقْدِ إذَا كَانَ مِلكًا لمَالكِهِ وَلا يَتْبَعُ إذَا كَانَ مِلكًا لغَيْرِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ السَّامِرِيِّ وَصَاحِبَيْ التَّلخِيصِ وَالمُحَرَّرِ.
وَقَال القَاضِي وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الخَطَّابِ: يُعْتَقُ وَيَضْمَنُهُ لمَالكِهِ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ كَجُزْءٍ مِنْهَا.
الفَرْعُ الخَامِسُ: لوْ أَعْتَقَ الحَمْل وَحْدَهُ صَحَّ وَنَفَذَ وَهَل يُعْتَقُ مِنْ حِينِهِ أَوْ يَقِفُ عَلى خُرُوجِهِ حَيًّا؟ مَبْنِيٌّ عَلى مَا سَبَقَ وَأَشَارَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي دِيَاتِ الأَجِنَّةِ إلى خِلافٍ لنَا فِي صِحَّةِ عِتْقِهِ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ كَالمَعْدُومِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقِيَاسُ قَوْل مَنْ قَال هُوَ كَجُزْءٍ مِنْهَا أَنْ يَسْرِيَ عِتْقُهُ إليْهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا.
وَيَنْبَنِي عَلى هَذَا الفَرْعِ لوْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ حَامِلٍ فَأَعْتَقَ السَّيِّدُ حَمْلهَا بَعْدَ الجِنَايَةِ أَوْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ ثُمَّ جَنَى عَليْهِ ثُمَّ انْفَصَل مَيِّتًا أَوْ انْفَصَل حَيًّا ثُمَّ مَاتَ عَقِيبَ الانْفِصَال.
فَهَذَا يَنْبَنِي عَلى أَنَّ العِتْقَ هَل حَصَل قَبْل الانْفِصَال أَوْ لمْ يَحْصُل إلا بَعْدَهُ؟
وَعَلى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ إذَا جَرَحَ رَقِيقًا ثُمَّ عَتَقَ فَسَرَى إلى نَفْسِهِ فَمَاتَ هَل يَضْمَنُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ أَوْ بِقِيمَةِ عَبْدٍ عَلى رِوَايَتَيْنِ فَإِذَا عُلمَ هَذَا فَهَهُنَا صُوَرٌ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْنِيَ عَليْهِ ثُمَّ يَعْتِقَ ثُمَّ يَنْفَصِل مَيِّتًا فَيَنْبَنِي عَلى أَنَّ العِتْقَ هَل حَصَل لهُ حَال كَوْنِهِ حَمْلاً أَمْ لا؟ فَإِنْ قُلنَا لمْ يَحْصُل لهُ العِتْقُ حِينَئِذٍ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِضَمَانِ جَنِينٍ مَمْلوكٍ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ وَإِنْ قُلنَا قَدْ عَتَقَ انْبَنَى عَلى الخِلافِ فِي اعْتِبَارِ الضَّمَانِ بِحَال السِّرَايَةِ أَوْ الجِنَايَةِ , فَإِنْ قُلنَا: الاعْتِبَارُ بِحَال الجِنَايَةِ فَكَذَلكَ وَإِنْ قُلنَا بِحَال السِّرَايَةِ فَفِيهِ غُرَّةُ ضَمَانِ جَنِينٍ حُرٍّ.
وَقِيل يَضْمَنُهُ ضَمَانُ رَقِيقٍ وَجْهًا وَاحِدًا كَذَلكَ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ إذْ لمْ يَتَحَقَّقْ عِتْقُهُ لجَوَازِ تَلفِهِ قَبْلهُ وَحَكَيَا أَيْضًا فِيمَا إذَا لوْ أَعْتَقَ
الأُمَّ بَعْدَ الجِنَايَةِ ثُمَّ أَلقَتْ جَنِينَهَا وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنْ الاخْتِلافِ فِي اعْتِبَارِ حَالةِ السِّرَايَةِ أَوْ الجِنَايَةِ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجْنَى عَليْهِ ثُمَّ يَعْتِقَ ثُمَّ يَنْفَصِل حَيًّا ثُمَّ يَمُوتَ فَقَدْ حَصَل لهُ العِتْقُ بِغَيْرِ خِلافٍ فَيَنْبَنِي عَلى الخِلافِ فِي اعْتِبَارِ الضَّمَانِ هَل هُوَ بِحَالةِ السِّرَايَةِ أَوْ الجِنَايَةِ؟ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي مُسَوَّدَةِ شَرْحِ الهِدَايَةِ يَضْمَنُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ سَهْوٌ.
الصُّورَةُ الثَّالثَةُ: أَنْ يَعْتِقَ أَوَّلاً ثُمَّ يُجْنَى عَليْهِ ثُمَّ يَنْفَصِل حَيًّا , فَيَجِبُ ضَمَانُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ إنْ قُلنَا: عَتَقَ وَهُوَ حَمْلٌ , وَإِنْ قُلنَا: لا يَعْتِقُ إلا بَعْدَ الانْفِصَال انْبَنَى عَلى الخِلافِ فِي اعْتِبَارِ الضَّمَانِ هَل هُوَ بِحَالةِ الجِنَايَةِ أَوْ السِّرَايَةِ؟ فَإِنْ قُلنَا بِحَالةِ السِّرَايَةِ ضَمِنَهُ بِدِيَةِ حُرٍّ وَإِلا ضَمِنَهُ ضَمَانَ رَقِيقٍ وَظَاهِرُ كَلامِ صَاحِبِ المُحَرَّرِ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ وَجْهًا وَاحِدًا ; لأَنَّ الجِنَايَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ العِتْقِ المُبَاشِرِ وَوُجِدَ المَوْتُ بَعْدَ النُّفُوذِ وَفِيهِ نَظَرٌ , وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ كَمَنْ جُنِيَ عَليْهِ بَعْدَ التَّعْليقِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ.
وَالصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْتِقَ ثُمَّ يُجْنَى عَليْهِ ثُمَّ يَنْفَصِل مَيِّتًا فَإِنْ قُلنَا عَتَقَ وَهُوَ حَمْلٌ ضَمِنَهُ ضَمَانَ جَنِينٍ حُرٍّ وَإِنْ قُلنَا إنَّهُ لمْ يَعْتِقْ ضَمِنَهُ ضَمَانَ جَنِينِ رَقِيقٍ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ مُعَللاً بِأَنَّهُ لمْ يَعْتِقْ بَعْدُ , وَفِي الخِلافِ الكَبِيرِ وَالمُحَرَّرِ أَنَّ حَرْبًا نَقَل ذَلكَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ وَليْسَ كَذَلكَ وَإِنَّمَا حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَال مَا أَدْرِي كَيْفَ وَجْهُهُ؟! وَقَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ إذَا قُلنَا لا يَصِحُّ عِتْقُ الحَمْل فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ.
ومنها: وُرُودُ العُقُودِ عَلى الحَامِل كَالبَيْعِ وَالهِبَةِ وَالوَصِيَّةِ وَالإِصْدَاقِ قَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: إنْ قُلنَا: للحَمْل حُكْمٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي العَقْدِ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ العِوَضِ , وَإِنْ قُلنَا: لا حُكْمَ لهُ لمْ يَأْخُذْ قِسْطًا مِنْ العِوَضِ وَكَانَ بَعْدَ وَضْعِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّمَاءِ المُنْفَصِل فَلوْ رُدَّتْ العَيْنُ بِعَيْبٍ أَوْ إفْلاسٍ أَوْ طَلاقٍ فَإِنْ قُلنَا لهُ حُكْمٌ , رُدَّ مَعَ الأَصْل وَإِلا كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّمَاءِ , وَقِيَاسُ المَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ فِي الحَمْل أَنَّهُ لا يَعْتِقُ وَأَنَّهُ تِرْكَةٌ مَوْرُوثَةٌ يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الأَجْزَاءِ لا حُكْمُ الوَلدِ المُنْفَصِل , فَيَجِبُ رَدُّهُ مَعَ العَيْنِ وَإِنْ قُلنَا لا حُكْمَ لهُ إذْ المُرَادُ بِذَلكَ أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لهُ حُكْمُ الأَوْلادِ لا أَنَّهُ مَعْدُومٌ وَهَذَا أَصَحُّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الأَكْثَرِينَ فِي مَسْأَلةِ الفَلسِ وَلا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُعْتَبَرُ لهُ القَبْضُ مِنْ العُقُودِ كَالرَّهْنِ وَالهِبَةِ وَمَا لا يُعْتَبَرُ قَبْضُهُ وَيَحْصُل قَبْضُهُ تَبَعًا لأُمِّهِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَيَتَخَرَّجُ عَلى هَذَا الأَصْل مَسْأَلةُ اشْتِرَاطِ الحَمْل فِي البَيْعِ وَالسَّلمِ فِي الحَيَوَانِ الحَامِل وَغَيْرِ ذَلكَ.
ومنها: جَنِينُ الدَّابَّةِ المُذَكَّاةِ هَل يُحْكَمُ بِذَكَاتِهِ مَعَهَا قَبْل الانْفِصَال أَمْ لا؟ قَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ: لا يُحْكَمُ بِذَكَاتِهِ إلا بَعْدَ الانْفِصَال وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ خِلافُهُ فَإِنَّهُ قَال هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَ الجَنِينِ وَالوَلدِ المُنْفَصِل بِأَنَّ الجَنِينَ فِيهِ غُرَّةٌ وَالوَلدُ فِيهِ الدِّيَةُ فَعُلمَ أَنَّهُ ليْسَ لهُ حُكْمُ الأَوْلادِ , وَهَذَا
يُرَجِّحُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الأُمِّ وَأَنَّ تَذْكِيَتَهُ تَابِعٌ لتَذْكِيَتِهَا , وَأَمَّا إنْ قِيل بِأَنَّهُ وَلدٌ مُسْتَقِلٌّ فَفِيهِ نَظَرٌ , وَقَدْ يَنْبَنِي عَلى ذَلكَ أَنَّهُ هَل يَجِبُ فِيهِ إرَاقَةُ دَمِهِ إذَا خَرَجَ أَمْ لا؟ وَكَلامُ أَحْمَدَ فِي ذَلكَ يَدُل عَلى رِوَايَتَيْنِ , وَأَكْثَرُ النُّصُوصِ عَنْهُ يَدُل عَلى الاسْتِحْبَابِ فَقَطْ وَفِي بَعْضِهَا مَا يُشْعِرُ بِالوُجُوبِ وَهَذَا ما يؤكد إلى أَنَّهُ وَلدٌ مُسْتَقِلٌّ لكِنْ عُفِيَ عَنْ مَوْتِهِ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ لاتِّصَالهِ بِأُمِّهِ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا ثُمَّ وَجَبَ سَفْحُ دَمِهِ ليَحْصُل مَقْصُودُ التَّذْكِيَةِ فِيهِ.
ومنها: إذَا مَاتَتْ الحَامِل وَصَلى عَليْهَا هَل يَنْوِي الصَّلاةَ عَلى حَمْلهَا؟ قَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ لا , وَعَلل بِالشَّكِّ فِي وُجُودِهِ وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلى القَوْل بِأَنَّهُ كَالمَعْدُومِ قَبْل الانْفِصَال , وَعَلى القَوْل بِأَنَّهُ كَالجُزْءِ مِنْ الأُمِّ أَيْضًا.
وَأَمَّا إنْ قِيل بِأَنَّهُ وَلدٌ مُسْتَقِلٌّ فَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ يُقَال: شَرْطُ ثُبُوتِ الأَحْكَامِ لهُ ظُهُورُهُ وَلمْ يُوجَدْ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ.
القاعدة الخامسة والثمانون
القَاعِدَةُ الخَامِسَةُ وَالثَّمَانُونَ:الحُقُوقُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: حَقُّ مِلكٍ كَحَقِّ السَّيِّدِ فِي مَال المُكَاتَبِ وَمَال القِنِّ إذَا قُلنَا يُمْلكُ بِالتَّمْليكِ, وَمَا يَمْتَنِعُ إرْثُهُ لمَانِعٍ كَالتَّرِكَةِ المُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ عَلى رِوَايَةٍ , كَالمُحْرِمِ إذَا مَاتَ مَوْرُوثُهُ وَفِي مِلكِهِ صَيْدٌ عَلى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ.
وَالثَّانِي: حَقُّ تَمَلكٍ كَحَقِّ الأَبِ فِي مَال وَلدِهِ وَحَقِّ العَاقِدِ للعَقْدِ إذَا وَجَبَ لهُ وَحَقِّ العَاقِدِ فِي عَقْدٍ يَمْلكُ فَسْخَهُ ليُعِيدَ مَا خَرَجَ عَنْهُ إلى مِلكِهِ مَعَ أَنَّ فِي هَذَا شَائِبَةً مِنْ حَقِّ المِلكِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشِّقْصِ وَهَهُنَا صُوَرٌ مُخْتَلفٌ فِيهَا هَل يَثْبُتُ فِيهَا المِلكُ أَوْ حَقُّ التَّمْليكِ؟.
فَمنها: حَقُّ المُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ بَعْدَ الظُّهُورِ وَقَبْل القِسْمَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَمْلكُهَا بِالظُّهُورِ.
وَالثَّانِيَةُ: لمْ يَمْلكْهُ وَإِنَّمَا مَلكَ أَنْ يَتَمَلكَهُ وَهُوَ حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ حَتَّى لوْ مَاتَ وُرِثَ عَنْهُ , وَلوْ أَتْلفَ المَالكُ المَال غَرِمَ نَصِيبَهُ وَكَذَلكَ الأَجْنَبِيُّ , وَلوْ أَسْقَطَ المُضَارِبُ حَقَّهُ مِنْهُ فَإِنْ قُلنَا هُوَ مِلكُهُ لمْ يَسْقُطْ , وَإِنْ قُلنَا لمْ يَمْلكْهُ بَعْدُ فَفِي التَّلخِيصِ احْتِمَالانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ كَالغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: لا ; لأَنَّ الرِّبْحَ هُنَا مَقْصُودٌ وَقَدْ تَأَكَّدَ سَبَبُهُ بِخِلافِ الغَنِيمَةِ فَإِنَّ مَقْصُودَ الجِهَادِ إعْلاءُ كَلمَةِ اللهِ لا المَال.
ومنها: حَقُّ الغَانِمِ فِي الغَنِيمَةِ قَبْل القِسْمَةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ المَنْصُوصُ وَعَليْهِ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ أَنَّهُ يَثْبُتُ المِلكُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الاسْتِيلاءِ لكِنْ هَل يُشْتَرَطُ الإِحْرَازُ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا يُشْتَرَطُ وَتُمْلكُ بِمُجَرَّدِ تَقَضِّي الحَرْبِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلى طَرِيقَتِهِ.
وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ وَهُوَ قَوْل الخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى كَسَائِرِ المُبَاحَاتِ وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ المُغْنِي فَعَلى هَذَا لا يَسْتَحِقُّ مِنْهَم إلا مَنْ شَهِدَ الإِحْرَازَ , وَأَمَّا عَلى الأَوَّل فَاعْتَبَرَ القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ شُهُودَ إحْرَازِ الوَقْعَةِ وَقَالوا لا يَسْتَحِقُّ مَنْ لمْ يَشْهَدْهُ.
وَفَصَل فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ بَيْنَ الجَيْشِ وَأَهْل المَدَدِ فَأَمَّا الجَيْشُ فَيَسْتَحِقُّونَ بِحُضُورِ جُزْءٍ مِنْ الوَقْعَةِ إذَا كَانَ تَخَلفُهُمْ عَنْ البَاقِي لعُذْرٍ كَمَوْتِ الغَازِي أَوْ مَوْتِ فَرَسِهِ , وَأَمَّا المَدَدُ فَيُعْتَبَرُ لاسْتِحْقَاقِهِمْ شُهُودَ انْجِلاءِ الحَرْبِ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ فِيمَنْ قُتِل فِي المَعْرَكَةِ يُعْطَى وَرَثَتُهُ نَصِيبَهُ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: لا يَمْلكُ الغَنِيمَةَ إلا بِاخْتِيَارِ المِلكِ وَهُوَ اخْتِيَارُ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
فَعَلى هَذَا إنَّمَا ثَبَتَ لهُمْ حَقُّ التَّمَلكِ كَالشَّفِيعِ فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْل اخْتِيَارِ التَّمَلكِ أَوْ المُطَالبَةِ فَلا حَقَّ لهُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ الحَقَّ يَنْتَقِل إلى الوَرَثَةِ بِدُونِ القَبُول وَالمُطَالبَةِ وَإِنْ قَالوا اخْتَرْنَا القِسْمَةَ لزِمَتْ حُقُوقُهُمْ وَلمْ تَسْقُطْ بِالإِعْرَاضِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ بِخِلافِ مَا إذَا أَسْقَطُوا حُقُوقَهُمْ قَبْل الاخْتِيَارِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَلى الوَجْهَيْنِ لضَعْفِ المِلكِ وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ وَيَصِيرُ فَيْئًا فَإِنْ أُسْقِطَ البَعْضُ دُونَ البَعْضِ فَالكُل لمَنْ لايَسْقُطُ حَقُّهُ.
ومنها: حَقُّ مَنْ وَجَدَ مَالهُ بِعَيْنِهِ فِي المَغْنَمِ قَبْل القِسْمَةِ مِمَّا مَلكَهُ الكُفَّارُ بِالاسْتِيلاءِ عَليْهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لهُ حَقُّ التَّمْليكِ عِنْدَ الأَصْحَابِ وَخَرَّجَهُ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلى الخِلافِ فِي حَقِّ الغَانِمِينَ.
ومنها: حَقُّ الزَّوْجِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ إذَا طَلقَ قَبْل الدُّخُول هَل يَثْبُتُ لهُ فِيهِ المِلكُ قَهْرًا أَوْ يَثْبُتُ لهُ حَقُّ التَّمَلكِ فَلا يَمْلكُ بِدُونِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَالأَوَّل هُوَ المَنْصُوصُ وَعَلى الثَّانِي فَتَكْفِي فِيهِ المُطَالبَةُ وَاخْتِيَارُ التَّمَلكِ عَلى ظَاهِرِ كَلامِ أَبِي الخَطَّابِ كَرُجُوعِ الأَبِ وَزَعَمَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ أَنَّ هَذَا مُرَتَّبٌ عَلى الخِلافِ فِي عَفْوِ الذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هَل هُوَ الزَّوْجُ أَوْ الوَليُّ وَليْسَ كَذَلكَ وَلا يَلزَمُ مَنْ طَلبَ العَفْوَ مِنْ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ هُوَ المَالكُ فَإِنَّ العَفْوَ يَصِحُّ عَمَّا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ التَّمَلكِ كَالشُّفْعَةِ وَليْسَ فِي قَوْلنَا أَنَّ الذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الأَبُ مَا يَسْتَلزِمُ أَنَّ الزَّوْجَ لمْ يَمْلكْ نِصْفَ المَهْرِ ; لأَنَّهُ إنَّمَا يَعْفُو عَنْ النِّصْفِ المُخْتَصِّ بِابْنَتِهِ فَأَمَّا النِّصْفُ الآخَرُ فَلا تَعَرُّضَ لذِكْرِهِ بِنَفْيٍ وَلا إثْبَاتٍ.
وَالعَجَبُ أَنَّهُ حَكَى بَعْدَ ذَلكَ فِي صِحَّةِ عَفْوِ الزَّوْجِ عَنْ النِّصْفِ إذَا قُلنَا: قَدْ دَخَل فِي مِلكِهِ وَجْهَيْنِ وَالصَّحِيحُ المَشْهُورُ أَنَّهُ يَصِحُّ عَفْوُهُ إنْ كَانَ مَالكًا كَمَا يَصِحُّ عَفْوُ الزَّوْجَةِ مَعَ مِلكِهَا بِنَصِّ القُرْآنِ لكِنْ إنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا صَحَّ الإِبْرَاءُ مِنْهُ بِسَائِرِ أَلفَاظِ المُبَارَاةِ مِنْ الإِبْرَاءِ وَالإِسْقَاطِ وَالهِبَةِ وَالعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّحْليل وَلا يُشْتَرَطُ لهُ قَبُولٌ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَقُلنَا لمْ يَمْلكْهُ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لهُ حَقُّ التَّمَلكِ فَكَذَلكَ وَكَذَلكَ يَصِحُّ عَفْوُ الشَّفِيعِ عَنْ الشُّفْعَةِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَإِنْ قُلنَا مَلكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ صَحَّ بِلفْظِ الهِبَةِ وَالتَّمَلكِ وَهَل يَصِحُّ بِلفْظِ العَفْوِ عَلى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لا يَصِحُّ قَالهُ ابْنُ عَقِيلٍ.
وَالثَّانِي يَصِحُّ قَالهُ القَاضِي وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ المُغْنِي وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لأَنَّ عَقْدَ الهِبَةِ عِنْدَنَا يَنْعَقِدُ بِكُل لفْظٍ يُفِيدُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ إيجَابٍ وَلا قَبُولٍ بِلفْظٍ مُعَيَّنٍ.
وَقَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يُشْتَرَطُ هَهُنَا الإِيجَابُ وَالقَبُول وَالقَبْضُ وَحَكَى صَاحِبُ التَّرْغِيبِ فِي اشْتِرَاطِ القَبُول وَجْهَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ القَبْضَ لا يُشْتَرَطُ فِي الفُسُوخِ كَالإِقَالةِ وَنَحْوِهَا وَصَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَكَذَلكَ يَصِحُّ رُجُوعُ الأَبِ فِي الهِبَةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَكَذَلكَ فَسْخُ عَقْدِ الرَّهْنِ وَغَيْرِهَا.
ومنها: حَقُّ المُلتَقِطِ فِي اللقَطَةِ بَعْدَ حَوْل التَّعْرِيفِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ لهُ المِلكُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَاخْتَارَهُ القَاضِي وَقَال: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَالثَّانِي: لا يَدْخُل حَتَّى يَخْتَارَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الخَطَّابِ فَيَكُونُ حَقُّهُ فِيهَا حَقَّ تَمَلكٍ.
ومنها: المُوصَى لهُ بَعْدَ مَوْتِ المُوصِي وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ لهُ المِلكُ وَقِيل إنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ.
وَالثَّانِي: إنَّمَا يَثْبُتُ لهُ حَقُّ التَّمَلكِ بِالقَبُول وَهُوَ المَشْهُورُ عِنْدَ الأَصْحَابِ.
ومنها: مَنْ نَبَتَ فِي أَرْضِهِ كَلأٌ أَوْ نَحْوُهُ مِنْ المُبَاحَاتِ أَوْ تَوَحَّل فِيهَا صَيْدٌ أَوْ سَمَكٌ وَنَحْوُهُ فَهَل يَمْلكُهُ بِذَلكَ؟ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَأَكْثَرُ النُّصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ يَدُل عَلى المِلكِ وَعَلى الرِّوَايَةِ الأُخْرَى إنَّمَا ثَبَتَ حَقُّ التَّمَلكِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلى غَيْرِهِ بِذَلكَ إذْ لا يَلزَمُهُ أَنْ يَبْذُل مِنْ المَاءِ وَالكَلأِ إلا الفَاضِل عَنْ حَوَائِجِهِ وَلوْ سَبَقَ غَيْرَهُ وَحَقَّقَ سَبَبَ المِلكِ بِحِيَازَتِهِ إليْهِ فَقَال القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ: يَمْلكُهُ وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لا يَمْلكُهُ ; لأَنَّهُ سَبَبٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلا يُفِيدُ المِلكَ وَيُشْبِهُ هَذَا الخِلافُ فِي الطَّائِفَةِ التِي تَغْزُو بِدُونِ إذْنِ الإِمَامِ هَل يَمْلكُونَ شَيْئًا مِنْ غَنِيمَتِهِمْ أَمْ لا؟ وَقَرَّرَ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلافِهِ أَنَّ الأَسْبَابَ الفِعْليَّةَ تُفِيدُ المِلكَ وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً كَأَخْذِ المُسْلمِ أَمْوَال أَهْل الحَرْبِ غَصْبًا وَإِنْ دَخَل إليْهِمْ بِأَمَانٍ بِخِلافِ القَوْليَّةِ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَرَّحَ بِخِلافِ ذَلكَ وَأَنَّهُ لا يَمْلكُ بِهِ المُسْلمُ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ المَذْهَبِ
ومنها: مُتَحَجِّرُ المَوَاتِ المَشْهُورُ.
أَنَّهُ لا يَمْلكُهُ بِذَلكَ وَنَقَل صَالحٌ عَنْ أَبِيهِ مَا يَدُل عَلى أَنَّهُ يَمْلكُهُ وَعَلى الأَوَّل فَهُوَ أَحَقُّ بِتَمَلكِهِ بِالأَحْيَاءِ فَإِنْ بَادَرَ الغَيْرُ فَأَحْيَاهُ فَفِي مِلكِهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ
هَذَا كُلهُ فِيمَنْ انْعَقَدَ لهُ سَبَبُ التَّمَلكِ وَصَارَ التَّمَلكُ وَاقِفًا عَلى اخْتِيَارِهِ.
فَأَمَّا إنْ ثَبَتَ لهُ رَغْبَةٌ فِي التَّمَلكِ وَوَعَدَ بِهِ وَلمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ كَالمُسْتَامِ وَالخَاطِبِ إذَا رَكَنَ إليْهِمَا فَلا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُمَا أَيْضًا وَلكِنْ يَصِحُّ عَلى المَنْصُوصِ وَخَرَّجَ القَاضِي وَجْهًا بِالبُطْلانِ مِنْ البَيْعِ عَلى بَيْعِهِ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ;لأَنَّ الحَقَّ فِي البَيْعِ انْعَقَدَ وَأَخَذَ بِهِ وَلا كَذَلكَ هَهُنَا وَلأَنَّ المُفِيدَ للمِلكِ هُنَا العَقْدُ وَالمُحَرَّمُ سَابِقٌ عَليْهِ فَهُوَ كَاسْتِيلادِ الأَبِ وَالشَّرِيكِ يَحْصُل لهُ المِلكُ بِالعُلوقِ لمَّا كَانَ المُحَرَّمُ وَهُوَ الوَطْءُ سَابِقًا عَليْهِ.
النَّوْعُ الثَّالثُ حَقُّ الانْتِفَاعِ وَيَدْخُل فِيهِ صُوَرٌ:
منها: وَضْعُ الجَارِ خَشَبَهُ عَلى جِدَارِ جَارِهِ إذَا لمْ يَضُرَّ بِهِ للنَّصِّ الوَارِدِ فِيهِ.
ومنها: إجْرَاءُ المَاءِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ إذَا اُضْطُرَّ إلى ذَلكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لقَضَاءِ عُمْرَتِهِ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَكَذَلكَ إذَا احْتَاجَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي طَرِيقِ مَائِهِ مِثْل أَنْ يُجْرِيَ مِيَاهَ سُطُوحِهِ أَوْ غَيْرِهَا فِي قَنَاةٍ لجَارِهِ أَوْ يَسُوقَ فِي قَنَاةٍ عَذْبَةٍ مَاءً ثُمَّ يُقَاسِمُهُ جَارُهُ وَلوْ وَضَعَ عَلى النَّهْرِ عَبَّارَةً يَجْرِي فِيهَا المَاءُ فَخَرَّجَهَا الأَصْحَابُ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ وَنَقَل أَبُو طَالبٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَوْمٍ اقْتَسَمُوا دَارًا كَانَتْ لهَا أَرْبَعَةُ سُطُوحٍ يَجْرِي المَاءُ عَليْهَا فَلمَّا اقْتَسَمُوا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ جَرَيَانِ المَاءِ للآخَرِ عَليْهِ وَقَال هَذَا قَدْ صَارَ لي وَليْسَ بَيْنَنَا شَرْطٌ فَقَال أَحْمَدُ يُرَدُّ المَاءُ إلى مَا كَانَ وَإِنْ لمْ يَشْرِطْ ذَلكَ وَلا يَضُرَّ بِهِ.
وَحَمَل طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلى أَنَّهُ يَحْصُل بِهِ ضَرَرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ جَرَيَانِ المَاءِ وَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلى أَنْ يَنْقُضَ سَطْحَهُ وَيَسْتَحْدِثَ لهُ مَسِيلاً فَجَعَل لهُ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلى رَسْمِهِ الأَوَّل كَمَا يَجْرِي مَاؤُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ للحَاجَةِ أَوْ يَضَعُ خَشَبَةً عَلى جِدَارِهِ وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَحَمَلهُ بَعْضُهُمْ عَلى أَنَّ الدَّارَ إذَا اُقْتُسِمَتْ كَانَتْ مَرَافِقُهَا كُلهَا بَاقِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الجَمْعِ كَالاسْتِطْرَاقِ فِي طَرِيقِهَا , وَلهَذَا قُلنَا: لوْ حَصَل الطَّرِيقُ فِي حِصَّةِ أَحَدِ المُقْتَسِمِينَ وَلا مَنْفَذَ للآخَرِ لمْ تَصِحَّ القِسْمَةُ , وَعَلى هَذَا حَمَلهُ صَاحِبُ شَرْحِ الهِدَايَةِ وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُغْنِي فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَجْهًا فِي مَسْأَلةِ الطَّرِيقِ بِصِحَّةِ القِسْمَةِ وَبَقَاءِ حَقِّ الاسْتِطْرَاقِ فِيهِ للآخَرِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ , فَإِنَّ الطَّرِيقَ لا يُرَادُ مِنْهُ سِوَى الاسْتِطْرَاقِ فَالاشْتِرَاكُ فِيهِ يُزِيل مَعْنَى القِسْمَةِ وَالاخْتِصَاصُ بِخِلافِ إجْرَاءِ المَاءِ عَلى السَّطْحِ فَإِنَّهُ لا يَمْنَعُ صَاحِبَ السَّطْحِ مِنْ الانْفِرَادِ بِالانْتِفَاعِ بِهِ بِسَائِرِ وُجُوهِ الانْتِفَاعَاتِ المُخْتَصَّةِ بِالمِلكِ.
ومنها: لوْ بَاعَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ يُحْصَدُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلمْ يَبْدُ صَلاحُهُ أَوْ شَجَرًا عَليْهِ ثَمَرٌ لمْ يَبْدُ صَلاحُهُ كَانَ ذَلكَ مُبْقَى فِي الشَّجَرِ وَالأَرْضِ إلى وَقْتِ الحَصَادِ وَالجُذَاذِ بِغَيْرِهِ أُجْرَةٍ وَلوْ أَرَادَ تَفْرِيغَ الأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ ليَنْتَفِعَ بِهَا إلى وَقْتِ الجُذَاذِ أَوْ يُؤَجِّرَهَا لمْ يَكُنْ لهُ ذَلكَ كَمَا لا يَمْلكُ الجَارُ إعَارَةَ غَيْرِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الانْتِفَاعِ بِمِلكِ جَارِهِ , وَكَذَلكَ لوْ بَاعَ زَرْعًا قَدْ بَدَا صَلاحُهُ فِي أَرْضٍ فَإِنَّ عَليْهِ
إبْقَاءَهُ إلى وَقْتِ صَلاحِهِ للحَصَادِ فَأَمَّا إنْ بَاعَ شَجَرَةً فَهَل يَدْخُل مَنْبَتُهَا فِي البَيْعِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي وَحَكَى عَنْ ابْنِ شَاقِلا أَنَّهُ لا يَدْخُل وَإِنْ ظَاهِرَ كَلامِ أَحْمَدَ الدُّخُول حَيْثُ قَال فِيمَنْ أَقَرَّ بِشَجَرَةٍ لرَجُلٍ هِيَ لهُ بِأَصْلهَا وَعَلى هَذَا لوْ انْقَلعَتْ فَلهُ إعَادَةُ غَيْرِهَا مَكَانَهَا وَلا يَجُوزُ ذَلكَ عَلى قَوْل ابْنِ شَاقِلا كَالزَّرْعِ إذَا حُصِدَ فَلا يَكُونُ لهُ فِي الأَرْضِ سِوَى حَقِّ الانْتِفَاعِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: حَقُّ الاخْتِصَاصِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالانْتِفَاعِ بِهِ وَلا يَمْلكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ للشُّمُول وَالمُعَاوَضَاتِ وَيَدْخُل تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: الكَلبُ المُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ كَالمُعَلمِ لمَنْ يَصْطَادُ بِهِ فَإِنْ كَانَ لا يَصْطَادُ بِهِ أَوْ كَانَ الكَلبُ جَرْوًا يَحْتَاجُ إلى تَعْليمٍ فَوَجْهَانِ.
ومنها: الأَدْهَانُ المُتَنَجِّسَةُ المُنْتَفَعُ بِهَا بِالإِيقَادِ وَغَيْرِهِ عَلى القَوْل بِالجَوَازِ فَأَمَّا نَجِسَةُ العَيْنِ كَدُهْنِ المَيْتَةِ فَالمَنْصُوصُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِهِ , وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى جَوَازِهِ.
ومنها: جِلدُ المَيْتَةِ المَدْبُوغُ إذَا قِيل يَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِهِ فِي اليَابِسَاتِ فَأَمَّا مَا لا يَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِحَالٍ فَلا يَدَ ثَابِتَةٌ عَليْهِ , وَآيَةُ ذَلكَ أَنَّهُ لا يَجِبُ رَدُّهُ عَلى مَنْ انْتَزَعَهُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِخِلافِ مَا فِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ نَعَمْ لوْ غَصَبَ خَمْرًا فَتَخَللتْ فِي يَدِ الغَاصِبِ وَجَبَ رَدُّهَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَصْحَابُ ; لأَنَّ يَدَ الأَوَّل لمْ تَزُل عَنْهَا بِالغَصْبِ فَكَأَنَّهَا تَخَللتْ فِي يَدِهِ.
وَاخْتَلطتْ عِبَارَاتُ الأَصْحَابِ فِي زَوَال المِلكِ بِمُجَرَّدِ التَّخْمِيرِ فَأَطْلقَ الأَكْثَرُونَ الزَّوَال , مِنْهُمْ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ.
وَظَاهِرُ كَلامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ المِلكَ لمْ يَزُل وَمِنْهُمْ صَاحِبُ المُغْنِي فِي كِتَابِ الحَجِّ وَفِي كَلامِ القَاضِي مَا يَدُل عَليْهِ وَبِكُل حَالٍ فَلوْ عَادَتْ خَلاً عَادَ المِلكُ الأَوَّل لحُقُوقِهِ مِنْ ثُبُوتِ الرَّهْنِيَّةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى لوْ خَلفَ خَمْرًا وَدَيْنًا فَتَخَللتْ الخَمْرُ قَضَى مِنْهُ دَيْنَهُ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ فِي الرَّهْنِ وَذَكَرَ هُوَ وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِيهِ لوْ وَهَبَ الخَمْرَ وَأَقْبَضَهَا أَوْ أَرَاقَهَا فَجَمَعَهَا آخَرُ فَتَحَللتْ فِي يَدِ الثَّانِي فَهَل هِيَ مِلكٌ لهُ أَوْ للأَوَّل؟ عَلى احْتِمَاليْنِ وَفَرَّقَا بَيْنَ ذَلكَ وَبَيْنَ الغَصْبِ بِأَنَّ الأَوَّل زَالتْ يَدُهُ عَنْهَا بِالإِرَاقَةِ وَالإِقْبَاضِ وَثَبَتَ يَدُ الثَّانِي بِخِلافِ الغَصْبِ وَرَجَّحَ صَاحِبُ المُغْنِي أَنَّ الرَّهْنَ لا يَبْطُل بِتَخْمِيرِ العَصِيرِ وَهَذَا كُلهُ يَدُل عَلى ثُبُوتِ اليَدِ عَلى الخَمْرِ لإِمْكَانِ عَوْدِهَا مَالاً.
ومنها: مَرَافِقُ الأَمْلاكِ كَالطُّرُقِ وَالأَفْنِيَةِ وَمَسِيل المِيَاهِ وَنَحْوِهَا هَل هِيَ مَمْلوكَةٌ أَوْ ثَبَتَ فِيهَا حَقُّ الاخْتِصَاصِ؟ وَفِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ حَقِّ الاخْتِصَاصِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مِلكٍ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَابِ إحْيَاءِ المَوَاتِ وَفِي الغَصْبِ وَدَل عَليْهِ المَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ حَفَرَ فِي فِنَائِهِ بِئْرًا أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهِ فِي غَيْرِ مِلكٍ , وَطَرَدَ القَاضِي ذَلكَ حَتَّى فِي حَرِيمِ البِئْرِ وَرَتَّبَ عَليْهِ أَنَّهُ لوْ بَاعَهُ أَرْضًا بِفِنَائِهَا لمْ يَصِحَّ البَيْعُ ; لأَنَّ الفِنَاءَ لا يَخْتَصُّ بِهِ إذْ اسْتِطْرَاقُهُ عَامٌّ بِخِلافِ مَا لوْ بَاعَ بِطَرِيقِهَا , وَأَوْرَدَ ابْنُ عَقِيلٍ احْتِمَالاً بِصِحَّةِ البَيْعِ بِالفِنَاءِ ; لأَنَّهُ مِنْ الحُقُوقِ فَهُوَ كَمَسِيل المِيَاهِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: المِلكُ وَصَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي الطُّرُقِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الكُل صَاحِبُ المُغْنِي وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ وَالخِرَقِيُّ عَلى مِلكِ حَرِيمِ البِئْرِ.
ومنها: مَرَافِقُ الأَسْوَاقِ المُتَّسِعَةِ التِي يَجُوزُ البَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهَا كَالدَّكَاكِينِ المُبَاحَةِ وَنَحْوِهَا فَالسَّابِقُ إليْهَا أَحَقُّ بِهَا , وَهَل ينتهي حَقُّهُ بِانْتِهَاءِ النَّهَارِ أَوْ يَمْتَدُّ إلى أَنْ يَنْقُل قُمَاشَهُ عَنْهَا؟ إلى وَجْهَيْنِ , وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ الأَوَّل لجَرَيَانِ العَادَةِ بِانْتِفَاءِ الزِّيَادَةِ عَليْهِ , وَعَلى الثَّانِي فَلوْ أَطَال الجُلوسَ فَهَل يُصْرَفُ أَمْ لا عَلى وَجْهَيْنِ;لأَنَّهُ يُفْضِي إلى الاخْتِصَاصِ بِالحَقِّ المُشْتَرَكِ.
ومنها: الجُلوسُ فِي المَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا لعِبَادَةٍ أَوْ مُبَاحٍ فَيَكُونُ الجَالسُ أَحَقَّ بِمَجْلسِهِ إلى أَنْ يَقُومَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ قَاطِعًا للجُلوسِ أَمَّا إنْ قَامَ لحَاجَةٍ عَارِضَةٍ وَنِيَّتُهُ العَوْدُ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلسِهِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ الصَّبِيُّ إذَا قَامَ فِي صَفٍّ فَاضِلٍ أَوْ فِي وَسَطِ الصَّفِّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَقْلهُ عَنْهُ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَعَليْهِ حُمِل فِعْل أبي بْنِ كَعْبٍ بِقَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ.
وَالنَّوْعُ الخَامِسُ: حَقُّ التَّعَلقِ لاسْتِيفَاءِ الحَقِّ وَلهُ صُوَرٌ:
منها: تَعَلقُ حَقِّ المُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الرَّهْنِ مَحْبُوسٌ بِكُل جُزْءٍ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهُ.
ومنها: تَعَلقُ حَقِّ الجِنَايَةِ بِالجَانِي وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقَّهُ انْحَصَرَ فِي مَاليَّتِهِ وَلهُ المُطَالبَةُ بِالاسْتِيفَاءِ مِنْهُ وَيَتَعَلقُ الحَقُّ بِمَجْمُوعِ الرَّقَبَةِ لا بِقَدْرِ الأَرْشِ عَلى ظَاهِرِ كَلامِ الأَصْحَابِ وَيُبَاعُ جَمِيعُهُ فِي الجِنَايَةِ وَيُوَفَّى مِنْهُ الحَقُّ وَيُرَدُّ الفَضْل عَلى السَّيِّدِ , وَذَكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ أَنَّ ظَاهِرَ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يُرَدُّ عَليْهِ شَيْءٌ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَعَلقِ الحَقِّ بِالجَمِيعِ وَللأَصْحَابِ فِي العَبْدِ المَرْهُونِ إذَا جَنَى وَكَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَنْ الأَرْشِ هَل يُبَاعُ جَمِيعُهُ أَوْ بِمِقْدَارِ الأَرْشِ فِيهِ وَجْهَانِ لكِنَّ بَيْعَ جَمِيعِهِ يَنْدَفِعُ بِهِ عَنْ السَّيِّدِ ضَرَرُ نَقْصِ القِيمَةِ بِالتَّشْقِيصِ.
ومنها: تَعَلقُ حَقِّ الغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ هَل يَمْنَعُ انْتِقَالهَا بِالإِرْثِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ , وَهَل هُوَ كَتَعَلقِ الجِنَايَةِ
أَوْ الرَّهْنِ؟ اخْتَلفَ كَلامُ الأَصْحَابِ فِي ذَلكَ وَصَرَّحَ الأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ كَمُتَعَلقِ الرَّهْنِ وَيُفَسَّرُ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: , أَنَّ تَعَلقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ وَبِكُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا فَلا يَنْفَكُّ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يُوَفَّى الدَّيْنُ كُلهُ.
وَصَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي فِي خِلافِهِ إذَا كَانَ الوَارِثُ وَاحِدًا قَال: وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً انْقَسَمَ عَليْهِمْ بِالحِصَصِ وَيَتَعَلقُ كُل حِصَّةٍ مِنْ الدَّيْنِ بِنَظِيرِهَا مِنْ التَّرِكَةِ وَبِكُل جُزْءٍ مِنْهَا لا يَنْفَكُّ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يُوَفِّيَ جَمِيعَ تِلكَ الحِصَّةِ وَلا فَرْقَ فِي ذَلكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا للتَّرِكَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ فِي التَّفْليسِ.
الثَّانِي: أَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَعَلقُ بِالتَّرِكَةِ وَهَل هُوَ فِي ذِمَّةِ المَيِّتِ أَوْ الوَرَثَةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا.
وَالثَّالثُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ وَفِي ذَلكَ وَجْهَانِ أَيْضًا سَبَقَا وَهَل تَعَلقَ حَقُّهُمْ بِالمَال مِنْ حِينِ المَرَضِ أَمْ لا؟ تَرَدَّدَ الأَصْحَابُ فِي ذَلكَ وَنَقَل المَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ عَليْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَ يَجُوزُ لهُ أَنْ يُعْتِقَ وَيَهَبَ يَعْنِي المَيِّتَ؟ قَال: نَعَمْ , قُلت: هَذَا ليْسَ لهُ مَالٌ , قَال: أَليْسَ ثُلثُهُ لهُ؟ قُلت: ليْسَ هَذَا المَال لهُ , قَال: أَليْسَ هُوَ السَّاعَةُ فِي يَدِهِ؟ قُلت: بَلى ! وَلكِنَّهُ لغَيْرِهِ , قَال: دَعْهَا فَإِنَّهَا مَسْأَلةٌ فِيهَا لبْسٌ , وَاَلذِي كَانَ عِنْدَهُ عَلى مَا نَاظَرْتُهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ.
وَاسْتَشْكَل القَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ وَجَعَل ظَاهِرَهَا صِحَّةَ الوَصِيَّةِ بِالثُّلثِ مَعَ الدَّيْنِ وَحَمَلهَا عَلى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ المَرِيضِ مَعَ الغُرَمَاءِ كَحُكْمِهِ مَعَ الوَرَثَةِ لتَعَلقِ حَقِّ الجَمِيعِ بِمَالهِ فَلا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ التَّصَرُّفِ بِالثُّلثِ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَوْ أَنْ يَقِفَ صِحَّةُ تَصَرُّفِهِ عَلى إجَازَةِ الغُرَمَاءِ.
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ هِيَ بَدَلٌ عَلى أَنَّ الغُرَمَاءَ لا يَتَعَلقُ حَقُّهُمْ بِالمَال إلا بَعْدَ المَوْتِ ; لأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الحَيَاةِ فِي ذِمَّتِهِ وَالوَرَثَةُ لا يَتَعَلقُ حَقُّهُمْ بِالمَال مَعَ الدَّيْنِ فَيَبْقَى الثُّلثُ الذِي مَلكَهُ الشَّارِعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ لا مَانِعَ لهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مُنْجَزًا لا مُعَلقًا بِالمَوْتِ بِخِلافِ الزَّائِدِ عَلى الثُّلثِ إذَا لمْ يَكُنْ عَليْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ حَقَّ الوَرَثَةِ يَتَعَلقُ بِهِ فِي مَرَضِهِ إذْ لا حَقَّ لهُمْ فِي ذِمَّتِهِ.
قُلتُ: وَتَرَدَّدَ كَلامُ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي خِلافَيْهِمَا فِي المَرِيضِ هَل لوَرَثَتِهِ مَنْعُهُ مِنْ إنْفَاقِ جَمِيعِ مَالهِ فِي الشَّهَوَاتِ أَمْ لا؟ فَفِي مَوْضِعٍ جَزَمَا بِثُبُوتِ المَنْعِ لهُمْ لتَعَلقِ حُقُوقِهِمْ بِمَالهِ وَأَنْكَرَ ذَلكَ فِي مَوَاضِعَ.
ومنها: تَعَلقُ حَقِّ المُوصَى لهُ بِالمَال هَل يَتْبَعُ الانْتِقَال إلى الوَرَثَةِ؟ جَعَل طَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ حُكْمَهُ
حُكْمَ الدَّيْنِ وَمِنْهُمْ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَأَبُو الحُسَيْنِ فِي فُرُوعِهِ وَيَشْهَدُ لذَلكَ قَوْل طَائِفَةٍ مِنْ الأَصْحَابِ أَنَّ المُوصَى بِهِ قَبْل القَبُول عَلى مِلكِ الوَرَثَةِ.
وَجَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِعَدَمِ انْتِقَالهِ إلى الوَرَثَةِ مُفَرِّقًا بَيْنَ الدَّيْنِ وَالوَصِيَّةِ بِأَنَّ حَقَّ المُوصَى لهُ فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ وَلا يَمْلكُ الوَرَثَةُ إبْدَال حَقِّهِ بِخِلافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ حَقَّ صَاحِبِهِ فِي التَّرِكَةِ وَالذِّمَّةِ وَللوَرَثَةِ التَّوْفِيَةُ مِنْ غَيْرِهِ وَأُخِذَ ذَلكَ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ أَوْصَى أَنْ يُخْرَجَ مِنْ مَالهِ كَذَا وَكَذَا فِي كَذَا وَكَذَا سَنَةً , قَال: لا يُقَسَّمُ المَال حَتَّى يُنَفِّذُوا مَا قَال إلا أَنْ يَضْمَنُوا أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلهُمْ أَنْ يُقَسِّمُوا البَقِيَّةَ وَكَذَلكَ فِي المُجَرَّدِ وَالفُصُول فِي بَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ المُوصَى لهُ إنْ كَانَ مُعَيَّناً فَهُوَ شَرِيكٌ فِي قَدْرِ مَا وَصَّى لهُ بِهِ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ لمْ يَجُزْ للوَرَثَةِ التَّصَرُّفُ حَتَّى يُفْرِدُوا نَصِيبَ المُوصَى لهُ, وَمِمَّا يَدُل عَلى عَدَمِ انْتِقَالهِ إلى الوَرَثَةِ أَنَّ المَشْهُورَ عِنْدَنَا صِحَّةُ الوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلى الثُّلثِ وَإِنَّ إجَازَةَ الوَرَثَةِ لهَا تَنْفِيذٌ لا ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ.
ومنها: تَعَلقُ الزَّكَاةِ بِالنِّصَابِ هَل هُوَ تَعَلقُ شَرِكَةٍ أَوْ ارْتِهَانٍ أَوْ تَعَلقُ الاسْتِيفَاءِ كَالجِنَايَةِ؟ اضْطَرَبَ كَلامُ الأَصْحَابِ فِي ذَلكَ اضْطِرَابًا كَثِيرًا.
وَيَحْصُل مِنْهُ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَلقُ شَرِكَةٍ وَصَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ شَرْحِ المَذْهَبِ وَظَاهِرِ كَلامِ أَبِي بَكْرٍ يَدُل عَليْهِ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَالثَّانِي: تَعَلقُ اسْتِيفَاءٍ وَصَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ القَاضِي , ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِتَعَلقِ الجِنَايَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِتَعَلقِ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ.
وَالثَّالثُ: أَنَّهُ تَعَلقُ رَهْنٍ وَيَنْكَشِفُ هَذَا النِّزَاعُ بِتَحْرِيرِ مَسَائِل:
منها: أَنَّ الحَقَّ هَل هُوَ مُتَعَلقٌ بِجَمِيعِ النِّصَابِ أَوْ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ فِيهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؟ وَقَدْ نَقَل القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ الاتِّفَاقَ عَلى الثَّانِي.
ومنها: أَنَّهُ مَعَ التَّعَلقِ بِالمَال هَل يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ المَالكِ أَمْ لا؟ وَظَاهِرُ كَلامِ الأَكْثَرِينَ أَنَّهُ عَلى القَوْل بِالتَّعَلقِ بِالعَيْنِ لا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْهُ شَيْءٌ إلا أَنْ يَتْلفَ المَال أَوْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ المَالكُ بَعْدَ الحَوْل.
فَظَاهِرُ كَلامِ أَبِي الخَطَّابِ وَصَاحِبِ المُحَرَّرِ فِي شَرْحِ الهِدَايَةِ أَنَّا إذَا قُلنَا: الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ فَيَتَعَلقُ بِالعَيْنِ تَعَلقَ اسْتِيفَاءٍ مَحْضٍ كَتَعَلقِ الدُّيُونِ بِالتَّرِكَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ شَيْخِ الإِسْلامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ حَسَنٌ.
ومنها: مَنْعُ التَّصَرُّفِ وَالمَذْهَبُ أَنْ لا يَمْنَعَ كَمَا سَبَقَ.
ومنها: أَعْنِي صُوَرَ تَعَلقِ الحُقُوقِ بِالأَمْوَال تَعَلقَ حَقِّ غُرَمَاءِ المُفْلسِ بِمَالهِ بَعْدَ الحَجْرِ وَهُوَ تَعَلقُ اسْتِحْقَاقِ الاسْتِيفَاءِ مِنْهُ.
ومنها: تَعَلقُ دُيُونِ الغُرَمَاءِ بِمَال المَأْذُونِ لهُ وَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ أَنَّ هَذَا التَّعَلقَ هَل يَصِحُّ شِرَاءُ السَّيِّدِ مِنْهُ كَمَال المُكَاتَبِ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ لا؟ كَالمَرْهُونِ بِالنِّسْبَةِ إلى الرَّاهِن عَلى احْتِمَاليْنِ وَهَذَا لا يَتَوَجَّهُ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ , وَهُوَ تَعَلقُ دُيُونِهِ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلى قَوْلنَا: يَتَعَلقُ بِرَقَبَةِ العَبْدِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الخِلافِ الكَبِيرِ بِبِنَاءِ المَسْأَلةِ عَلى هَذَا.
ومنها: تَعَلقُ حُقُوقِ الفُقَرَاءِ بِالهَدْيِ وَالأَضَاحِيِّ المُعَيَّنَةِ وَيُقَدِّمُونَ بِمَا يَجِبُ صَرْفُهُ إليْهِمْ مِنْهَا عَلى الغُرَمَاءِ فِي حَيَاةِ المُوجِبِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ.
القاعدة السادسة والثمانون
القَاعِدَةُ السَّادِسَة وَالثَّمَانُونَ:المِلكُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: مِلكُ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ , وَمِلكُ عَيْنٍ بِلا مَنْفَعَةٍ , وَمِلكُ مَنْفَعَةٍ بِلا عَيْنٍ , وَمِلكُ انْتِفَاعٍ مِنْ غَيْرِ مِلكِ المَنْفَعَةِ.
أَمَّا النَّوْعُ الأَوَّل: فَهُوَ عَامَّةُ الأَمْلاكِ الوَارِدَةِ عَلى الأَعْيَانِ المَمْلوكَةِ بِالأَسْبَابِ المُقْتَضِيَةِ لهَا مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَإِرْثٍ وَغَيْرِ ذَلكَ.
وَاعْلمْ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ ذَكَرَ فِي الوَاضِحِ فِي أُصُول الفِقْهِ إجْمَاعَ الفُقَهَاءِ عَلى أَنَّ العِبَادَ لا يَمْلكُونَ الأَعْيَانَ وَإِنَّمَا مَالكُ الأَعْيَانِ خَالقُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالى وَأَنَّ العِبَادَ لا يَمْلكُونَ سِوَى الانْتِفَاعِ بِهَا عَلى الوَجْهِ المَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا فَمَنْ كَانَ مَالكًا لعُمُومِ الانْتِفَاعِ فَهُوَ المَالكُ المُطْلقُ وَمَنْ كَانَ مَالكًا لنَوْعٍ مِنْهُ فَمِلكُهُ مُقَيَّدٌ وَيَخْتَصُّ بِاسْمٍ خَاصٍّ يَمْتَازُ بِهِ كَالمُسْتَأْجِرِ وَالمُسْتَعِيرِ وَغَيْرِ ذَلكَ.
وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي كِتَابِ غُرَرِ البَيَانِ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ.
فَعَلى هَذَا جَمِيعُ الأَمْلاكِ إنَّمَا هِيَ مِلكُ الانْتِفَاعِ وَلكِنَّ التَّقْسِيمَ هَهُنَا وَارِدٌ عَلى المَشْهُورِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِلكُ العَيْنِ بِدُونِ مَنْفَعَةٍ وَقَدْ أَثْبَتَهُ الأَصْحَابُ فِي الوَصِيَّةِ بِالمَنَافِعِ لوَاحِدٍ وَبِالرَّقَبَةِ لآخَرَ أَوْ تَرْكِهَا للوَرَثَةِ , وَقَدْ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِيمَنْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ ظَهْرِ دَابَّةٍ تُرْكَبُ أَوْ بِدَارٍ تُسْكَنُ.
فَقَال: الدَّارُ لا بَأْسَ بِهَا وَأَكْرَهُ العَبْدَ وَالدَّابَّةَ ; لأَنَّهُمَا يَمُوتَانِ قَال أَبُو بَكْرٍ: الذِي أَقُول بِهِ أَنَّ الوَصِيَّةَ تَصِحُّ فِي جَمِيعِ ذَلكَ ; لأَنَّ الدَّارَ تَخْرَبُ أَيْضًا وَحَمَل القَاضِي كَلامَ أَحْمَدَ عَلى الكَرَاهَةِ دُونَ إبْطَال الوَصِيَّةِ.
قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ لمْ يُرِدْ أَحْمَدُ أَنَّ الوَصِيَّةَ لا تَجُوزُ إلا بِمَا يَدُومُ نَفْعُهُ فَإِنَّ هَذَا لا يَقُولهُ أَدْنَى مَنْ لهُ نَظَرٌ فِي الفِقْهِ فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الإِمَامَ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ العَبْدَ وَالدَّابَّةَ إذَا أَوْصَى بِمَنَافِعِهِمَا عَلى التَّأْبِيدِ فَلمْ يَتْرُكْ للوَرَثَةِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُحْسَبَ ذَلكَ عَليْهِمْ مِنْ المِيرَاثِ فَإِنَّهُ
لا فَائِدَةَ فِي الرَّقَبَةِ المُجَرَّدَةِ عَنْ المَنَافِعِ بَل هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ بِجَوَازِ الوَصِيَّةِ وَقَدْ شَرَطَ اللهُ تَعَالى لجَوَازِ الوَصِيَّةِ عَدَمَ المُضَارَّةِ لكِنْ إنْ قَصَدَ المُوصِي إيصَال جَمِيعِ المَنَافِعِ إلى المُوصَى لهُ فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ بِالرَّقَبَةِ فَلا يُحْتَسَبُ عَلى الوَرَثَةِ مِنْهَا شَيْءٌ وَلا يَصِحُّ الإِيصَاءُ مَعَهَا بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلكَ إبْقَاءَ الرَّقَبَةِ للوَرَثَةِ أَوْ الإِيصَاءَ بِهَا لآخَرَ بَطَلتْ الوَصِيَّةُ لامْتِنَاعِ أَنْ تَكُونَ المَنَافِعُ كُلهَا لشَخْصٍ وَالرَّقَبَةُ لآخَرَ وَلا سَبِيل إلى تَرْجِيحِ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ فَيَبْطُلانِ.
إمَّا إنْ وَصَّى فِي وَقْتٍ بِالرَّقَبَةِ لشَخْصٍ وَفِي آخَرَ بِالمَنَافِعِ لغَيْرِهِ فَهُوَ كَمَا لوْ وَصَّى بِعَيْنٍ لاثْنَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ وَاسْتَدَل عَلى أَنَّ تَمْليكَ جَمِيعِ المَنَافِعِ تَمْليكٌ للعَيْنِ بِالرُّقْبَى وَالعُمْرَى فَإِنَّهَا تَمْليكٌ للرَّقَبَةِ حَيْثُ كَانَتْ تَمْليكًا للمَنَافِعِ فِي الحَيَاةِ وَهَذَا المَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الدَّارِ ; لأَنَّ هَذَا تَمْليكُ مَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ يَنْتَهِي بِمَوْتِ المُوصَى لهُ وَبِخَرَابِ الدَّارِ فَيَعُودُ المِلكُ إلى الوَرَثَةِ كَمَا يَعُودُ المِلكُ فِي السُّكْنَى فِي الحَيَاةِ.
النَّوْعُ الثَّالثُ: مِلكُ المَنْفَعَةِ بِدُونِ عَيْنٍ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالاتِّفَاقِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِلكٌ مُؤَبَّدٌ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ:
منها: الوَصِيَّةُ بِالمَنَافِعِ كَمَا سَبَقَ وَيَشْمَل جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا إلا مَنْفَعَةَ البُضْعِ فَإِنَّ فِي دُخُولهَا بِالوَصِيَّةِ وَجْهَيْنِ.
ومنها: الوَقْفُ فَإِنَّ مَنَافِعَهُ وَثَمَرَاتِهِ مَمْلوكَةٌ للمَوْقُوفِ عَليْهِ وفِي مِلكِهِ لرَقَبَتِهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ لهُمَا فَوَائِدُ مُتَعَدِّدَةٌ.
ومنها: الأَرْضُ الخَرَاجِيَّةُ المُقَرَّةُ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ بِالخَرَاجِ يَمْلكُ مَنَافِعَهَا عَلى التَّأْبِيدِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِلكٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَمِنْهُ الإِجَارَةُ وَمَنَافِعُ المَبِيعِ المُسْتَثْنَاةُ فِي العَقْدِ مُدَّةً مَعْلومَةً , وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُوَقِّتٍ لكِنَّهُ غَيْرُ لازِمٍ كَالعَارِيَّةِ عَلى وَجْهٍ وَإِقْطَاعِ الاسْتِغْلال.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِلكُ الانْتِفَاعِ المُجَرَّدِ وَلهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
منها: مِلكُ المُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ يَمْلكُ الانْتِفَاعَ لا المَنْفَعَةَ إلا عَلى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ العَارِيَّةَ المُؤَقَّتَةَ تَلزَمُ كَذَا قَال الأَصْحَابُ , وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَال: لزُومُ العَارِيَّةِ المُؤَقَّتَةِ إنَّمَا يَدُل عَلى وُجُوبِ الوَفَاءِ بِبَدَل الانْتِفَاعِ لا عَلى تَمْليكِ المَنْفَعَةِ.
ومنها: المُنْتَفِعُ بِمِلكِ جَارِهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبٍ وَمَمَرٍّ فِي دَارٍ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ صُلحٍ فَهُوَ إجَارَةٌ.
ومنها: إقْطَاعُ الأَرْفَاقِ كَمَقَاعِدِ الأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا.
ومنها: الطَّعَامُ فِي دَارِ الحَرْبِ قَبْل حِيَازَتِهِ يَمْلكُ الغَانِمُونَ الانْتِفَاعَ بِهِ بِقَدْرِ الحَاجَةِ وَقِيَاسُهُ الأَكْل مِنْ الأُضْحِيَّةِ وَالثَّمَرِ المُعَلقِ وَنَحْوِهِ.
ومنها: أَكْل الضَّيْفِ لطَعَامِ المُضِيفِ فَإِنَّهُ إبَاحَةٌ مَحْضَةٌ لا يَحْصُل بِهِ المِلكُ بِحَالٍ عَلى المَشْهُورِ عِنْدَنَا
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِإِجْزَاءِ الإِطْعَامِ فِي الكَفَّارَاتِ وَيَنْزِل عَلى أَحَدِ قَوْليْنِ , إمَّا أَنَّ الضَّيْفَ يَمْلكُ مَا قُدِّمَ إليْهِ وَإِنْ كَانَ مِلكًا خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلى الأَكْل , وَإِمَّا أَنَّ الكَفَّارَةَ لا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَمْليكٌ.
ومنها: عَقْدُ النِّكَاحِ , وَتَرَدَّدَتْ عِبَارَاتُ الأَصْحَابِ فِي مَوْرِدِهِ هَل هُوَ المِلكُ أَوْ الاسْتِبَاحَةُ؟ فَمِنْ قَائِلٍ هُوَ المِلكُ.
ثُمَّ تَرَدَّدُوا هَل هُوَ مِلكُ مَنْفَعَةِ البُضْعِ أَوْ مِلكُ الانْتِفَاعِ بِهَا وَقِيل بَل هُوَ الحِل لا المِلكُ وَلهَذَا يَقَعُ الاسْتِمْتَاعُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ مَعَ أَنَّهُ لا مِلكَ لهَا وَقِيل بَل المَعْقُودُ عَليْهِ ازْدِوَاجٌ كَالمُشَارَكَةِ وَلهَذَا فَرَّقَ اللهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الازْدِوَاجِ وَمِلكِ اليَمِينِ وَإِليْهِ مَيْل الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ المُشَارَكَاتِ دُونَ المُعَاوَضَاتِ.
القاعدة السابعة والثمانون
القَاعِدَةُ السَّابِعَة وَالثَّمَانُون:فِيمَا يَقْبَل النَّقْل وَالمُعَاوَضَةَ مِنْ الحُقُوقِ المَاليَّةِ وَالأَمْلاكِ , أَمَّا الأَمْلاكُ التَّامَّةُ فَقَابِلةٌ للنَّقْل بِالعِوَضِ وَغَيْرِهِ فِي الجُمْلةِ , وَأَمَّا مِلكُ المَنَافِعِ فَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ لازِمٍ مَلكَ فِيهِ نَقْل المِلكِ بِمِثْل العَقْدِ الذِي مَلكَ بِهِ أَوْ دُونَهُ دُونَ مَا هُوَ أَعْلى مِنْهُ وَيَمْلكُ المُعَاوَضَةَ عَليْهِ أَيْضًا صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا صُوَرٌ:
منها: إجَارَةُ المُسْتَأْجَرِ جَائِزَةٌ عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ بِمِثْل الأُجْرَةِ وَأَكْثَرَ وَأَقَل.
ومنها: إجَارَةُ الوَقْفِ.
ومنها: إجَارَةُ المَنَافِعِ المُوصَى بِهَا وَصَرَّحَ بِهَا القَاضِي فِي خِلافِهِ.
ومنها: إجَارَةُ المَنَافِعِ المُسْتَثْنَاةِ فِي عَقْدِ البَيْعِ.
ومنها: إجَارَةُ أَرْضِ العَنْوَةِ الخَرَاجِيَّةُ , وَالمَذْهَبُ الصَّحِيحُ صِحَّتُهَا وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ وَلكِنْ اُسْتُحِبَّ المُزَارَعَةُ فِيهَا عَلى الاسْتِئْجَارِ , وَحَكَى القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً أُخْرَى بِالمَنْعِ كَرِبَاعِ مَكَّةَ وَقَدْ أَشَارَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إلى كَرَاهَةِ مَنْعِهَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ
ومنها: إعَارَةُ العَارِيَّةُ المُؤَقَّتَةِ إذَا قِيل بِلزُومِهَا وَمِلكِ المَنْفَعَةِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلا تَجُوزُ الإِجَارَةُ ; لأَنَّهَا أَعْلى صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي خِلافِهِ , وَأَمَّا إجَارَةُ إقْطَاعِ الاسْتِغْلال التِي مَوْرِدُهَا مَنْفَعَةُ الأَرْضِ دُونَ رَقَبَتِهَا فَلا نَقْل فِيهَا نَعْلمُهُ , وَكَلامُ القَاضِي قَدْ يُشْعِرُ بِالمَنْعِ ; لأَنَّهُ جَعَل مَنَاطَ صِحَّةِ الإِجَارَةِ للمَنَافِعِ لزُومَ العَقْدِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الإِقْطَاعِ وَقَدْ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ: يَجُوزُ , وَجَعَل الخِلافَ فِيهِ
مُبْتَدَعًا وَقَرَّرَهُ بِأَنَّ الإِمَامَ جَعَلهُ للجُنْدِ عِوَضًا عَنْ أَعْمَالهِمْ فَهُوَ كَالمَمْلوكِ بِعِوَضٍ وَلأَنَّ إذْنَهُ فِي الإِيجَارِ عُرْفِيٌّ فَجَازَ كَمَا لوْ صَرَّحَ بِهِ , وَلوْ تَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ عَلى الأَرْضِ وَقُلنَا لا يَلزَمُ فَهَل لأَحَدِهِمَا إجَارَةُ حِصَّتِهِ؟ الأَظْهَرُ جَوَازُهُ ; لأَنَّ المُهَايَآتِ إذَا فُسِخَتْ عَادَ المِلكُ مُشَاعًا فَيَخْرُجُ عَلى الخِلافِ فِي إجَارَةِ المُشَاعِ وَتُسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ الحُقُوقُ الثَّابِتَةُ دَفْعًا لضَرَرِ الأَمْلاكِ فَلا يَصِحُّ النَّقْل فِيهَا بِحَالٍ وَتَصِحُّ المُعَاوَضَةُ عَلى إثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا. وَأَمَّا مِلكُ الانْتِفَاعِ وَحُقُوقُ الاخْتِصَاصِ سِوَى البُضْعِ وَحُقُوقُ التَّمَلكِ فَهَل يَصِحُّ نَقْل الحَقِّ فِيهَا أَمْ لا؟ إنْ كَانَتْ لازِمَةً جَازَ النَّقْل لمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَفِي جَوَازِهِ بِعِوَضٍ خِلافٌ وَيَنْدَرِجُ ذَلكَ فِي مَسَائِل:
منها: مَا ثَبَتَتْ عَليْهِ يَدُ الاخْتِصَاصِ كَالكَلبِ وَالزَّيْتِ النَّجِسِ المُنْتَفَعِ بِهِ فَإِنَّهُ تَنْتَقِل اليَدُ فِيهِ بِالإِرْثِ وَالوَصِيَّةِ وَالإِعَارَةِ فِي الكَلبِ , وَفِي الهِبَةِ وَجْهَانِ اخْتَارَ القَاضِي عَدَمَ الصِّحَّةِ وَخَالفَهُ صَاحِبُ المُغْنِي وَليْسَ بَيْنَهُمَا خِلافٌ فِي الحَقِيقَةِ ; لأَنَّ نَقْل اليَدِ فِي هَذِهِ الأَعْيَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ جَائِزٌ كَالوَصِيَّةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
, وَأَمَّا إجَارَةُ الكَلبِ فَالمَذْهَبُ أَنَّهَا لا تَصِحُّ ; لأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَلا مَاليَّةَ فِيهِ وَحَكَى أَبُو الفَتْحِ الحَلوَانِيُّ فِيهَا وَجْهَيْنِ وَكَذَا خَرَّجَ أَبُو الخَطَّابِ وَجْهًا بِالجَوَازِ فَيَكُونُ مُعَاوَضَةً عَنْ نَقْل اليَدِ وَيَرُدُّهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ جَعْلهُ مُعَاوَضَةً عَنْ نَقْل اليَدِ.
ومنها: المُسْتَعِيرُ لا يَمْلكُ نَقْل حَقِّهِ مِنْ الانْتِفَاعِ إلا أَنْ يَقُول بِلزُومِ العَارِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
ومنها: مَرَافِقُ الأَمْلاكِ مِنْ الأَفْنِيَةِ وَالأَزِقَّةِ المُشْتَرَكَةِ تَصِحُّ إبَاحَتُهَا وَالإِذْنُ فِي الانْتِفَاعِ بِهَا كَالإِذْنِ فِي فَتْحِ بَابٍ وَنَحْوِهِ.
قَال فِي التَّلخِيصِ: وَيَكُونُ إعَارَةً عَلى الأَشْبَهِ وَتَجُوزُ المُعَاوَضَةُ عَنْ فَتْحِ الأَبْوَابِ وَنَحْوِهَا ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالمُصَالحَةِ بِعِوَضٍ عَلى إجْرَاءِ المَاءِ فِي أَرْضِهِ أَوْ فَتْحِ البَابِ فِي حَائِطِهِ أَوْ وَضْعِ خَشَبٍ عَلى جِدَارِهِ وَنَحْوِهِ , وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلى القَوْل بِمِلكِ هَذِهِ المَرَافِقِ أَمَّا عَلى القَوْل بِعَدَمِ المِلكِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِنَقْل اليَدِ بِعِوَضٍ كَمَا سَبَقَ وَكَذَلكَ ذَكَرَ الأَصْحَابُ جَوَازَ المُصَالحَةِ عَلى الرَّوْشَنِ الخَارِجِ فِي الدَّرْبِ المُشْتَرَكِ وَأَمَّا عَلى الشَّجَرَةِ فَفِيهَا خِلافٌ مَعْرُوفٌ لكَوْنِهَا لا تَدُومُ عَلى حَالةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمَّا الانْتِفَاعُ بِأَفْنِيَةِ الأَمْلاكِ وَالمَسَاجِدِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ المُلاكِ وَالإِمَامِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لمْ يَجُزْ وَإِلا فَفِي جَوَازِهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ وَتَجُوزُ المُصَالحَةُ بِعِوَضٍ عَلى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ الخَشَبِ عَلى جِدَارِهِ وَنَحْوُهُ ذَكَرَهُ فِي المُجَرَّدِ.
ومنها: مُتَحَجِّرِ المَوَاتِ وَمَنْ أَقْطَعَهُ الإِمَامُ مَوَاتًا ليُحْيِيَهُ لا يَمْلكُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلكَ عَلى المَذْهَبِ لكِنْ يَثْبُتُ لهُ فِيهِ حَقُّ التَّمَلكِ فَيَجُوزُ نَقْل الحَقِّ إلى غَيْرِهِ بِهِبَةٍ وَإِعَارَةٍ وَيَنْتَقِل إلى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَهَل لهُ المُعَاوَضَةُ عَنْهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَصْلهُمَا المُعَاوَضَةُ عَنْ الحُقُوقِ فَإِنَّ هَذَا حَقُّ تَمَلكٍ كَمَا سَبَقَ وَفَارَقَ الشُّفْعَةَ فَإِنَّ النَّقْل فِيهَا مُمْتَنِعٌ ; لأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الأَمْلاكِ فَهِيَ مِمَّا اُسْتُثْنِيَ مِنْ القَاعِدَةِ.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: الشُّفْعَةُ لا تُبَاعُ وَلا تُوهَبُ وَحَمَل القَاضِي قَوْلهُ: لا تُبَاعُ عَلى أَنَّ المُشْتَرِيَ ليْسَ لهُ أَنْ يُصَالحَ الشَّفِيعَ عَنْهَا بِعِوَضٍ قَال: لأَنَّهُ خِيَارٌ لا يَسْقُطُ إلى مَالٍ فَلمْ يَجُزْ أَخْذُ العِوَضِ عَنْهُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالمَجْلسِ بِخِلافِ خِيَارِ القِصَاصِ وَالعَيْبِ ; لأَنَّهُ يَسْقُطُ إلى الدِّيَةِ وَالأَرْشِ وَالأَظْهَرُ حَمْل قَوْل أَحْمَدَ لا تُبَاعُ وَلا تُوهَبُ عَلى أَنَّ الشَّفِيعَ ليْسَ لهُ نَقْلهَا إلى غَيْرِهِ بِعِوَضٍ وَلا غَيْرِهِ فَأَمَّا مُصَالحَتُهُ للمُشْتَرِي فَهُوَ كَالمُصَالحَةِ عَلى تَرْكِ وَضْعِ الخَشَبِ عَلى جِدَارٍ وَنَحْوِهِ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِي بَابِ الشُّفْعَةِ أَيْضًا أَنَّ خِيَارَ العَيْبِ تَجُوزُ المُصَالحَةُ عَنْهُ بِعِوَضٍ وَعَلل بِأَنَّ العَيْبَ يَمْنَعُ لزُومَ العَقْدِ وَمَعَ عَدَمِ اللزُومِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ فَجَعَل الصُّلحَ هَهُنَا إسْقَاطًا مِنْ الثَّمَنِ كَالأَرْشِ , عَلى قِيَاسِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالمَجْلسِ ; لأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ بِالنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ مُمْكِنٌ.
ومنها: الكَلأُ وَالمَاءُ فِي الأَرْضِ المَمْلوكَةِ إذَا قُلنَا لا يُمْلكَانِ بِدُونِ الحِيَازَةِ فَللمَالكِ الإِذْنُ فِي الأَخْذِ وَليْسَ لهُ المُعَاوَضَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الأَصْحَابِ.
وَوَقَعَ فِي المُقْنِعِ وَالمُحَرَّرِ مَا يَقْتَضِي حِكَايَةَ رِوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ المُعَاوَضَةِ وَإِنْ قُلنَا بِعَدَمِ المِلكِ -وَلعَلهُ مِنْ بَابِ المُعَاوَضَةِ عَمَّا يَسْتَحِقُّ تَمَلكُهُ- فَيَلتَحِقُ بِالقَاعِدَةِ.
ومنها: مَقَاعِدُ الأَسْوَاقِ وَمَجَالسُ المَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا يَصِحُّ نَقْل الحَقِّ فِيهِمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ; لأَنَّ الحَقَّ فِيهِمَا لازِمٌ بِالسَّبْقِ وَلوْ آثَرَ بِهَا غَيْرَهُ فَسَبَقَ ثَالثٌ فَجَلسَ فَهَل يَكُونُ أَحَقُّ مِنْ المُؤْثَرِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لأَنَّ حَقَّ القَائِمَ زَال بِانْفِصَالهِ فَصَارَ الحَقُّ ثَابِتًا بِالسَّبْقِ.
وَالثَّانِي: لا ; لأَنَّهُ لوْ قَامَ لحَاجَةٍ وَنَحْوِهَا لمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فَكَذَا إذَا آثَرَ غَيْرَهُ ; لأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَبَنَى بَعْضُهُمْ هَذَا الخِلافَ عَلى القَوْل بِعَدَمِ كَرَاهَةِ الإِيثَارِ بِالقُرَبِ فَأَمَّا إنْ قُلنَا بِكَرَاهِيَتِهِ فَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَجَالسِ المَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا وَمَقَاعِدِ الأَسْوَاقِ فَأَجَازَ النَّقْل فِي المَقَاعِدِ خَاصَّةً ; لأَنَّهَا مَنَافِعُ دُنْيَوِيَّةٌ فَهِيَ كَالحُقُوقِ المَاليَّةِ.
ومنها: الطَّعَامُ المُبَاحُ فِي دَارِ الحَرْبِ يَجُوزُ نَقْل اليَدِ فِيهِ إلى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الاسْتِحْقَاقِ مِنْ المَغْنَمِ أَيْضًا لاشْتِرَاكِ الكُل فِي اسْتِحْقَاقِ الانْتِفَاعِ وَلا يَكُونُ ذَلكَ تَمْليكًا لانْتِفَاءِ مِلكِهِ بِالأَخْذِ حَتَّى لوْ احْتَاجَ إلى صَاعٍ مِنْ بُرٍّ جَيِّدٍ وَعِنْدَهُ صَاعَانِ رَدِيئَانِ فَلهُ أَنْ يُبْدِلهُمَا بِصَاعٍ إذْ هُوَ مَأْخُوذٌ عَلى الإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْليكِ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ.
ومنها: المُبَاحُ أَكْلهُ مِنْ مَال الزَّكَاةِ وَالأَضَاحِيِّ يَجُوزُ إطْعَامُهُ للضِّيفَانِ وَنَحْوِهِمْ لاسْتِقْرَارِ الحَقِّ فِيهِ بِخِلافِ طَعَامِ الضِّيَافَةِ وَلا يَجُوزُ المُعَاوَضَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلكَ.
ومنها: مَنَافِعُ الأَرْضِ الخَرَاجِيَّةُ فَيَجُوزُ نَقْلهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ إلى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهَا وَيَنْتَقِل إلى
الوَارِثِ وَيَقُومُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ فِيهَا.
وَكَذَلكَ يَجُوزُ جَعْلهَا مَهْرًا نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ وَغَيْرِهِ عَلى جَوَازِ دَفْعِهَا إلى الزَّوْجَةِ عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ عَليْهِ مِنْ المَهْرِ وَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ مَنَافِعِهَا المَمْلوكَةِ فَأَمَّا البَيْعُ فَكَرِهَهُ أَحْمَدُ وَنَهَى عَنْهُ وَاخْتَلفَ قَوْلهُ فِي بَيْعِ العِمَارَةِ التِي فِيهَا لئَلا يُتَّخَذَ طَرِيقًا إلى بَيْعِ رَقَبَةِ الأَرْضِ التِي لاتُمْلكُ بَل هِيَ إمَّا وَقْفٌ وَإِمَّا للمُسْلمِينَ جَمِيعًا وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ عَلى أَنَّهُ يَبِيعُ آلاتِ عِمَارَتِهِ بِمَا يُسَاوِي وَكُرِهَ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ لهَذَا المَعْنَى وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ ابْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ قَال: يُقَوَّمُ دُكَّانُهُ مَا فِيهِ مِنْ غَلقٍ وَكُل شَيْءٍ يُحْدِثُهُ فِيهِ فَيُعْطَى ذَلكَ وَلا أَرَى أَنْ يَبِيعَ سُكْنَى دَارٍ وَلا دُكَّانٍ وَرَخَّصَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي شِرَائِهَا دُونَ بَيْعِهَا ; لأَنَّ شِرَاءَهَا اسْتِنْقَاذٌ لهَا بِعِوَضٍ مِمَّنْ يَتَعَدَّى الصَّرْفُ فِيهَا وَهُوَ جَائِزٌ وَرَخَّصَ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ أَيْضًا فِي بَيْعِ مَا يَحْتَاجُ إليْهِ للنَّفَقَةِ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ النَّفَقَةِ تَصَدَّقَ بِهِ.
وَكُل هَذَا بِنَاءً عَلى أَنَّ رَقَبَةَ هَذِهِ الأَرْضِ وَقَفَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ حَكَى رِوَايَةً أُخْرَى بِجَوَازِ البَيْعِ مُطْلقًا كَالحَلوَانِيِّ وَابْنِهِ وَكَذَلكَ خَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ عَلى صِحَّةِ وَقْفِهَا وَلوْ كَانَتْ وَقْفًا لمْ يَصِحَّ وَقْفُهَا وَكَذَلكَ وَقَعَ فِي كَلامِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شَاقِلا وَابْنِ أَبِي مُوسَى مَا يَقْتَضِي الجَوَازَ وَلهُ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأَرْضَ ليْسَتْ وَقْفًا وَهُوَ مَأْخَذُ ابْنِ عَقِيلٍ وَعَلى هَذَا فَإِنْ كَانَتْ مَقْسُومَةً فَلا إشْكَال فِي مِلكِهَا وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا لبَيْتِ المَال وَأَكْثَرُ كَلامِ أَحْمَدَ يَدُل عَليْهِ فَهَل تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الانْتِقَال إلى بَيْتِ المَال أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
فَإِنْ قُلنَا لا تَصِيرُ وَقْفًا فَللإِمَامِ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا إلى المَصَالحِ.
وَهَل لهُ إقْطَاعُهَا إقْطَاعَ تَمْليكٍ؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَ ذَلكَ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ.
وَالمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ البَيْعَ هُنَا وَارِدٌ عَلى المَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ فَهُوَ نَقْلٌ للمَنَافِعِ المُسْتَحَقَّةِ بِعِوَضٍ وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَيَدُل عَليْهِ مِنْ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَجَازَ دَفْعَهَا عِوَضًا عَنْ المَهْرِ وَيَشْهَدُ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ المُعَاوَضَةِ عَنْ المَنَافِعِ فِي مَسَائِل مُتَعَدِّدَةٍ وَإِنْ كَانَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَكْثَرُونَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ المَنَافِعِ المُجَرَّدَةِ وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلكَ أَنَّ المَنَافِعَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنَافِعُ الأَعْيَانِ المَمْلوكَةِ التِي تَقْبَل المُعَاوَضَةَ مَعَ أَعْيَانِهَا فَهَذِهِ قَدْ جَوَّزَ الأَصْحَابُ بَيْعَهَا فِي مَوَاضِعَ
ومنها: أَصْل وَضْعِ الخَرَاجِ عَلى العَنْوَةِ إذَا قِيل هِيَ فَيْءٌ فَإِنَّهُ ليْسَ بِأُجْرَةٍ بَل هُوَ شَبِيهٌ بِهَا وَمُتَرَدِّدٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ البَيْعِ.
ومنها: المُصَالحَةُ بِعِوَضٍ عَلى وَضْعِ الأَخْشَابِ وَفَتْحِ الأَبْوَابِ وَمُرُورِ المِيَاهِ وَنَحْوِهَا وَليْسَ بِإِجَارَةٍ مَحْضَةٍ لعَدَمِ تَقْدِيرِهِ المُدَّةَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالبَيْعِ.
ومنها: لوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ سَنَةً فَهَل لهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَهُمَا مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَلا يُقَال هُوَ لا يَمْلكُ بَيْعَ العَبْدِ فِي هَذِهِ الحَال ; لأَنَّ هَذِهِ المَنَافِعَ كَانَتْ بِمِلكِ المُعَاوَضَةِ عَنْهَا فِي حَال الرِّقِّ وَقَدْ اسْتَبَقَاهَا بَعْدَ زَوَالهِ فَاسْتَمَرَّ حُكْمُ المُعَاوَضَةِ عَليْهَا كَمَا يَسْتَمِرُّ حُكْمُ وَطْءِ المُكَاتَبَةِ إذَا اسْتَثْنَاهُ فِي عَقْدِ الكِتَابَةِ وَهَل الكِتَابَةُ إلا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلى المَنَافِعِ؟!.
النَّوْعُ الثَّانِي: المَنَافِعُ التِي مُلكَتْ مُجَرَّدَةً عَنْ الأَعْيَانِ أَوْ كَانَتْ أَعْيَانُهَا غَيْرَ قَابِلةٍ للمُعَاوَضَةِ فَهَذَا مَحِل الخِلافِ الذِي نَتَكَلمُ فِيهِ هَهُنَا -وَاَللهُ أَعْلمُ-.
القاعدة الثامنة والثمانون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ:فِي الانْتِفَاعِ وَإِحْدَاثِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الطُّرُقِ المَسْلوكَةِ فِي الأَمْصَارِ وَالقُرَى وَهَوَائِهَا وَقَرَارِهَا.
أَمَّا الطَّرِيقُ نَفْسُهُ فَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ مَا يَضُرُّ بِالمَارَّةِ فَلا يَجُوزُ بِكُل حَالٍ , وَأَمَّا مَعَ السَّعَةِ وَانْتِفَاءِ الضَّرَرِ فَإِنْ كَانَ المُحْدِثُ فِيهِ مُتَأَبِّدًا كَالبِنَاءِ وَالغِرَاسِ فَإِنْ كَانَ لمَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ بِآحَادِ النَّاسِ لمْ يَجُزْ عَلى المَعْرُوفِ مِنْ المَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ لمَنْفَعَةٍ عَامَّةٍ فَفِيهِ خِلافٌ مَعْرُوفٌ ; مِنْهُمْ مَنْ يُطْلقُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِحَالةِ انْتِفَاءِ إذْنِ الإِمَامِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَبِّدٍ وَنَفْعُهُ خَاصٌّ كَالجُلوسِ وَإِيقَافِ الدَّابَّةِ فِيهِ فَفِيهِ خِلافٌ أَيْضًا.
وَأَمَّا القَرَارُ البَاطِنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ عَلى المَنْصُوصِ.
وَأَمَّا الهَوَاءُ فَإِنْ كَانَ الانْتِفَاعُ بِهِ خَاصًّا بِدُونِ إذْنِ الإِمَامِ فَالمَعْرُوفُ مَنْعُهُ, وبِإِذْنِهِ فِيهِ خِلافٌ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ مَسَائِل كَثِيرَةٌ.
منها: إذَا حَفَرَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ بِئْرًا فَإِنْ كَانَ لنَفْعِ المُسْلمِينَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: إنْ كَانَ بِإِذْنِ الإِمَامِ جَازَ وَإِنْ كَانَ بِدُونِ إذْنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ.
وَالثَّانِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ عَلى الإِطْلاقِ قَالهُ أَبُو الخَطَّابِ وَصَاحِبُ المُغْنِي إذْ البِئْرُ مَظِنَّةُ العَطَبِ , وَإِنْ كَانَ الحَفْرُ لنَفْسِهِ ضَمِنَ بِكُل حَالٍ وَلوْ كَانَ فِي فِنَائِهِ نَصَّ عَليْهِ وَلا يَجُوزُ إذْنُ الإِمَامِ فِيهِ عِنْدَ الأَصْحَابِ.
وَفِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ للقَاضِي أَنَّ لهُ التَّصَرُّفَ فِي فِنَائِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ حَفْرٍ وَغَيْرِهِ إذَا لمْ يَضُرَّ وَإِمَّا فِي فِنَاءِ غَيْرِهِ , فَإِنْ أَضَرَّ بِأَهْلهِ لمْ يَجُزْ وَإِنْ لمْ يَضُرَّ جَازَ وَهَل يُعْتَبَرُ إذْنُهُمْ أَوْ إذْنُ الإِمَامِ فِي فِنَاءِ المَسْجِدِ عَلى وَجْهَيْنِ.
ومنها: إذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ لمْ يَضُرَّ بِالمَارَّةِ قَال الأَكْثَرُونَ مِنْ الأَصْحَابِ: إنْ كَانَ
بِإِذْنِ الإِمَامِ جَازَ وَإِلا فَرِوَايَتَانِ وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الحَكَمِ: أَكْرَهُ الصَّلاةَ فِي المَسْجِدِ الذِي يُؤْخَذُ مِنْ الطَّرِيقِ إلا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الإِمَامِ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلقَ الرِّوَايَتَيْنِ وَكَلامُ أَحْمَدَ أَكْثَرُهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ قَال فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ المَسَاجِدُ التِي فِي الطَّرَقَاتِ حُكْمُهَا أَنْ تُهْدَمَ.
وَقَال إسْمَاعِيل الشَّالنْجِيُّ: سَأَلت أَحْمَدَ عَنْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ للمُسْلمِينَ عَنْهُ غِنًى وَبِهِمْ -إلى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَسْجِدُ- حَاجَةٍ هَل يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى هُنَاكَ مَسْجِدٌ؟ قَال: لا بَأْسَ بِذَلكَ إذَا لمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ.
قَال وَسَأَلت أَحْمَدَ: هَل يُبْنَى عَلى خَنْدَقِ مَدِينَةِ المُسْلمِينَ مَسْجِدٌ للمُسْلمِينَ عَامَّةً؟ قَال: لا بَأْسَ بِذَلكَ إذَا لمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ.
قَال الجُوزَجَانِيُّ فِي المُتَرْجَمِ: وَاَلذِي عَنَى أَحْمَدَ مِنْ الضَّرَرِ بِالطَّرِيقِ مَا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ مِنْ السَّبْعِة الأَذْرُعِ كَذَا قَال وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ البِنَاءُ إذَا فَضَل مِنْ الطَّرِيقِ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ قَوْل النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ " إذَا اخْتَلفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ " فِي أَرْضٍ مَمْلوكَةٍ لقَوْمٍ أَرَادُوا البِنَاءَ فِيهَا وَتَشَاجَرُوا فِي مِقْدَارِ مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْهَا للطَّرِيقِ وَبِذَلكَ فَسَّرَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو حَفْصٍ العُكْبَرِيُّ وَالأَصْحَابُ وَأَنْكَرُوا جَوَازَ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ الوَاسِعِ إلى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ.
ومنها: بِنَاءُ غَيْرِ المَسَاجِدِ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِنْ كَانَ البِنَاءُ للوَقْفِ عَلى المَسْجِدِ فَهُوَ كَبِنَاءِ المَسْجِدِ قَالهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَكَذَا إنْ كَانَ لمَصْلحَةٍ عَامَّةٍ كَخَانٍ مُسَبَّلٍ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ لمَنْفَعَةٍ تَخْتَصُّ بِأَحَدِ النَّاسِ فَالمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِهِ ; لأَنَّ الطَّرِيقَ مُشْتَرَكٌ فَلا يَمْلكُ أَحَدٌ إسْقَاطَ الحَقِّ المُشْتَرَكِ مِنْهُ وَالاخْتِصَاصُ بِهِ وَلا يَمْلكُ الإِمَامُ الإِذْنَ فِي ذَلكَ. وَفِي كِتَابِ الطُّرُقَاتِ لابْنِ بَطَّةَ أَنَّ بَعْضَ الأَصْحَابِ أَفْتَى بِجَوَازِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ.
وَالفَرْقُ وَاضِحٌ ; لأَنَّ بِنَاءَ المَسْجِدِ حَقُّ الاشْتِرَاكِ فِيهِ بَاقٍ غَيْرَ أَنَّهُ انْتَقَل مِنْ اسْتِحْقَاقِ المُرُورِ إلى اسْتِحْقَاقِ اللبْثِ للعِبَادَةِ , وَكَلامُ أَحْمَدَ يَدُل عَلى المَنْعِ.
قَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ: إذَا كَانَ الطَّرِيقُ قَدْ سَلكَهُ النَّاسُ وَصُيِّرَ طَرِيقًا فَليْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا قَليلاً وَلا كَثِيرًا.
وَقَال فِي رِوَايَةِ العَبَّاسِ بْنِ مُوسَى إذَا نَضَبَ المَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ لمْ يُبْنَ فِيهَا ; لأَنَّ فِيهَا ضَرَرًا وَهُوَ أَنَّ المَاءَ يَرْجِعُ. قَال القَاضِي: مَعْنَاهُ إذَا بَنَى فِي طَرِيقِ المَارَّةِ فَضَرَّ بِالمَارَّةِ فِي ذَلكَ الطَّرِيقِ فَلمْ يُجَوِّزْهُ , وَكُرِهَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بُخْتَانَ أَنْ يَطْحَنَ فِي الغُرُوبِ وَقَال: رُبَّمَا غَرِقَتْ السُّفُنُ وَقَال فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى: إذَا كَانَتْ فِي طَرِيقِ النَّاسِ فَلا يُعْجِبُنِي وَالغُرُوبُ: كَأَنَّهَا طَاحُونٌ يُصْنَعُ فِي النَّهْرِ الذِي تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَكُرِهَ شِرَاءُ مَا يُطْحَنُ فِيهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الغُرْبَةِ فِي النَّهْرِ: إنْ كَانَ وَضْعُهَا بِإِذْنِ الإِمَامِ وَالطَّرِيقُ وَاسِعٌ وَالجَرَيَانُ مُعْتَدِلٌ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الاحْتِرَازُ مِنْهُ جَازَ وَإِلا لمْ يَجُزْ.
وَلعَل الغُرْبَةَ كَالسَّفِينَةِ لا تَتَأَبَّدُ بِخِلافِ البِنَاءِ وَحُكْمُ
الغِرَاسِ حُكْمُ البِنَاءِ وَقَدْ قَال أَحْمَدُ فِي النَّخْلةِ المَغْرُوسَةِ فِي المَسْجِدِ: أَنَّهَا غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلا أُحِبُّ الأَكْل مِنْهَا وَلوْ قَلعَهَا الإِمَامُ كَانَ أَوْلى, وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ أَطْلقَ فِيهَا الكَرَاهَةَ كَصَاحِبِ المُبْهِجِ وَجَعَل ثَمَرَهَا لجِيرَانِ المَسْجِدِ الفُقَرَاءِ, وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ وَابْنِ بُخْتَانَ فِي دَارِ السَّبِيل يُغْرَسُ فِيهَا كَرْمٌ قَال: إنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَلا.
وَظَاهِرُهُ جَوَازُهُ مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ وَلعَل الغَرْسَ كَانَ لجِهَةِ السَّبِيل أَيْضًا.
ومنها: اخْتِصَاصُ آحَادِ النَّاسِ فِي الطَّرِيقِ بِانْتِفَاعٍ لا يَتَأَبَّدُ فَمِنْ ذَلكَ الجُلوسُ للبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَال الأَكْثَرُونَ: إنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا وَلا ضَرَرَ فِي الجُلوسِ بِالمَارَّةِ جَازَ بِإِذْنِ الإِمَامِ وَبِدُونِ إذْنِهِ وَإِلا لمْ يَجُزْ وَللإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ شَاءَ وَذَكَرَ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ فِي جَوَازِهِ بِدُونِ إذْنِ الإِمَامِ رِوَايَتَيْنِ , وَحَكَى فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَيْنِ بِالجَوَازِ وَالمَنْعِ ثُمَّ حَمَلهُمَا عَلى اخْتِلافِ حَالتَيْنِ ; فَالجَوَازُ إذَا لمْ يَضُرَّ بِالمَارَّةِ وَالمَنْعُ إذَا ضَرَّ وَجَعَل حَقَّ الجُلوسِ كَحَقِّ الاسْتِطْرَاقِ ; لأَنَّهُ لا يُعَطِّل حَقَّ المُرُورِ بِالكُليَّةِ فَهُوَ كَالقِيَامِ لحَاجَةٍ وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ بَطَّةَ حَكَى قَبْلهُ رِوَايَتَيْنِ مُطْلقَتَيْنِ فِي الجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَكَذَلكَ ذَكَرَ صَاحِبُ المُقْنِعِ فِي الجُلوسِ فِي الطَّرِيقِ الوَاسِعِ هَل يُوجِبُ ضَمَانَ مَا عَثُرَ بِهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَذَلكَ يَدُل عَلى الخِلافِ فِي جَوَازِهِ , وَأَمَّا القَاضِي فَقَال: لا يَضْمَنُ بِالجُلوسِ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَمِنْ ذَلكَ لوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ أَوْ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ وَالمَنْصُوصُ مَنْعُهُ قَال فِي رِوَايَةِ أَبِي الحَارِثِ إذَا أَقَامَ دَابَّتَهُ عَلى الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لمَا جَنَتْ ليْسَ لهُ فِي الطَّرِيقِ حَقٌّ , وَكَذَا نَقَل عَنْهُ أَبُو طَالبٍ وَحَنْبَلٌ ضَمَانَ جِنَايَةِ الدَّابَّةِ إذَا رَبَطَهَا فِي الطَّرِيقِ , وَكَذَا أَطْلقَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الخَطَّابِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ حَالةِ التَّضْيِيقِ وَالسَّعَةِ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ طَبْعَ الدَّابَّةِ الجِنَايَةُ بِفَمِهَا أَوْ رِجْلهَا فَإِيقَافِهَا فِي الطَّرِيقِ كَوَضْعِ الحَجَرِ وَنَصْبِ السِّكِّينِ فِيهِ.
وَحَكَى القَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ رِوَايَةً أُخْرَى بِعَدَمِ الضَّمَانِ إذَا وَقَفَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ لقَوْل أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ إذَا وَقَفَ عَلى نَحْوِ مَا يَقِفُ النَّاسُ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ أَنْ يَقِف فِي مِثْلهِ فَنَفَحَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَلا شَيْءَ عَليْهِ قَال القَاضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لا ضَمَانَ إذَا كَانَ وَاقِفًا لحَاجَةٍ وَكَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا , وَأَمَّا الآمِدِيُّ فَحَمَل المَنْعَ عَلى حَالةِ ضِيقِ الطَّرِيقِ وَالجَوَازَ عَلى حَالةِ سَعَتِهِ وَالمَذْهَبُ عَنْهُ الجَوَازُ مَعَ السَّعَةِ وَعَدَمِ الإِضْرَارِ رِوَايَةً وَاحِدَةً , وَمِنْ المُتَأَخِّرِينَ مَنْ جَعَل المَذْهَبَ المَنْعَ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَصَرَّحَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ بِجَرَيَانِ الخِلافِ فِي صُورَتَيْ القِيَامِ وَالرَّبْطِ وَخَالفَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ وَقَال الرَّبْطُ عُدْوَانٌ بِكُل حَالٍ.
وَرَبْطُ السَّفِينَةِ وَإِرْسَائُهَا فِي النَّهْرِ المَسْلوكِ.
قَال ابْنُ عَقِيلٍ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الإِمَامِ وَالطَّرِيقُ وَاسِعٌ
وَالجَرَيَانُ مُعْتَدِلٌ جَازَ وَإِلا لمْ يَجُزْ وَخَالفَ بَعْضُ الأَصْحَابِ فِي اعْتِبَارِ إذْنِ الإِمَامِ فِي هَذَا لتَكَرُّرِهِ , قَال المَيْمُونِيُّ: مِلتُ أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللهِ إلى الزواريق -يَعْنِي فِي دِجْلةَ- فَاكْتَرَى زَوْرَقًا مِنْ الزواريق فَرَأَيْتُهُ يَتَخَطَّى زَوَّجْتُكَهُمَا عِدَّةً لأُنَاسٍ وَلمْ أَرَهُ اسْتَأْذَنَ أَحَدًا مِنْهُمْ قَال بَعْضُ الأَصْحَابِ ; لأَنَّهُ حَرِيمُ دِجْلةَ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ المُسْلمِينَ فَلمَّا ضَيَّقُوهُ جَازَ المَشْيُ عَليْهِ وَعَلى قِيَاسِ ذَلكَ لوْ وُضِعَ فِي المَسْجِدِ سَرِيرٌ وَنَحْوُهُ جَازَتْ الصَّلاةُ عَليْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ بِخِلافِ مَا إذَا بَسَطَ فِيهِ مُصَلى وَقُلنَا لا يَثْبُتُ بِهِ السَّبْقُ فَإِنَّهُ يُرْفَعُ وَيُصَلى مَوْضِعَهُ وَلا يُصَلى عَليْهِ ; لأَنَّ رَفْعَهُ لا مَشَقَّةَ فِيهِ.
وَمِنْ ذَلكَ: الانْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ بِإِلقَاءِ الكُنَاسَةِ وَالأَقْذَارِ فَإِنْ كَانَ نَجَاسَةً فَهُوَ كَالتَّخَلي فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لكِنْ هَل هُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ أَوْ نَهْيُ تَحْرِيمٍ كَلامُ الأَصْحَابِ مُخْتَلفٌ فِي ذَلكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْصُل بِهِ الزَّلقُ كَرَشِّ المَاءِ وَصَبِّهِ وَإِلقَاءِ قُشُورِ البِطِّيخِ أَوْ يَحْصُل بِهِ العُثُورُ كَالحَجَرِ فَلا يَجُوزُ وَالضَّمَانُ وَاجِبٌ بِهِ وَقَدْ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رَشِّ المَاءِ قَال فِي التَّرْغِيبِ إلا أَنْ يَرُشَّهُ ليَسْكُنَ بِهِ الغُبَارُ فَهُوَ مَصْلحَةٌ عَامَّةٌ فَيَصِيرُ كَحَفْرِ البِئْرِ السَّابِلةِ.
وَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
ومنها: الحَفْرُ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ سَوَاءٌ تَرَكَهُ ظَاهِرًا أَوْ غَطَّاهُ وَأَسْقَفَ عَليْهِ.
قَال المَرُّوذِيّ: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنْ الرَّجُل يَحْفِرُ فِي فِنَائِهِ البِئْرَ أَوْ المَخْرَجَ المُغْلقَ.
قَال: لا, هَذَا طَرِيقٌ للمُسْلمِينَ.
قُلتُ: إنَّمَا هِيَ بِئْرٌ تُحْفَرُ وَيُسَدُّ رَأْسُهَا.
قَال: أَليْسَ فِي طَرِيقِ المُسْلمَيْنِ أَكْرَهُ هَذَا كُلهُ فَمَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي بَاطِنِ الطَّرِيقِ بِالحَفْرِ , وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ هَانِئٍ وَابْنُ بُخْتَانَ وَالفَضْل بْنُ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ فِي دَارِهِ شَجَرَةٌ , فَنَبَتَ مِنْ عُرُوقِهَا شَجَرَةٌ فِي دَارِ رَجُلٍ آخَرَ , لمَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ؟ قَال: مَا أَدْرِي مَا هَذَا وَرُبَمَا كَانَ ضَرَرًا عَلى صَاحِبِ الأَرْضِ.
قَال القَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إذَا لمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عُرُوقُهَا تَحْتَ الأَرْضِ لا يُؤْخَذُ بِقَلعِهَا ; لأَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَكُونُ بِظُهُورِهَا عَلى وَجْهِ الأَرْضِ.
انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ , وَصَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الوَاضِحِ فِي أُصُول الفِقْهِ بِوُجُوبِ إزَالةِ عُرُوقِ شَجَرَتِهِ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ
ومنها: إشْرَاعُ الأَجْنِحَةِ وَالسَّابَاطَاتِ وَالخَشَبِ وَالحِجَارَةِ فِي الجِدَارِ إلى الطَّرِيقِ فَلا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ بِهِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَمُهَنَّا وَغَيْرِهِمْ.
وَلمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الإِمَامِ فِي ذَلكَ , وَكَذَلكَ ذَكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَصَاحِبُ المُغْنِي وَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ وَالأَكْثَرُونَ يُجَوِّزُ بِإِذْنِ الإِمَامِ مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ بِهِ , وَفِي شَرْحِ الهِدَايَةِ للشَّيْخِ مَجْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ الصَّلاةِ " إنْ كَانَ لا يَضُرُّ بِالمَارَّةِ جَازَ " وَهَل يَفْتَقِرُ إلى إذْنِ الإِمَامِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا , يَفْتَقِرُ ; لأَنَّهُ مِلكٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ المُسْلمِينَ فَلا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِجِهَةٍ خَاصَّةٍ إلا للإِمَامِ.
وَالثَّانِيَةُ: لا يَفْتَقِرُ ; لأَنَّ مَنْفَعَةَ الطَّرِيقِ المُرُورُ وَهُوَ لا يَخْتَل بِذَلكَ.
وَأَمَّا المَيَازِيبُ وَمَسِيل المِيَاهِ فَكَذَلكَ عِنْدَ الأَصْحَابِ قَال المَرُّوذِيّ: سُقِفَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ سَطْحُ الحَاكَّةِ وَجُعِل مَسِيل المِيَاهِ إلى الطَّرِيقِ, وَبَاتَ تِلكَ الليْلةَ فَلمَّا أَصْبَحَ قَال: اُدْعُ لي النَّجَّارَ يُحَوِّل المِيزَابَ إلى الدَّارِ.
فَدَعَوْتُهُ لهُ فَحَوَّلهُ وَهَذَا لا يَدُل عَلى التَّحْرِيمِ ; لأَنَّهُ لوْ اعْتَقَدَهُ مُحَرَّمًا لمْ يَفْعَلهُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا حَوَّلهُ تَوَرُّعًا لحُصُول الشُّبْهَةِ فِيهِ , وَفِي المُغْنِي احْتِمَالٌ بِجَوَازِهِ مُطْلقًا مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ المُتَأَخِّرِينَ.
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إخْرَاجُ المَيَازِيبِ إلى الدَّرْبِ النَّافِذِ هُوَ السُّنَّةُ وَذَكَرَ حَدِيثَ العَبَّاسِ فِي ذَلكَ وَالمَانِعُونَ يَقُولونَ مِيزَابُ العَبَّاسِ وَضَعَهُ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بِيَدِهِ فَكَانَ أَبْلغَ مِنْ إذْنِهِ فِيهِ وَلا كَلامَ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ الإِمَامُ.
القاعدة التاسعة والثمانون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ:أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلاثَةٌ: عَقْدٌ , وَيَدٌ , وَإِتْلافٌ.
أَمَّا عُقُودُ الضَّمَانِ فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا وَكَذَلكَ سَبَقَ ذِكْرُ الأَيْدِي الضَّامِنَةِ.
وَأَمَّا الإِتْلافُ فَالمُرَادُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَ الإِتْلافَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ كَالقَتْل وَالإِحْرَاقِ أَوْ يَنْصِبُ سَبَبًا عُدْوَانًا فَيَحْصُل بِهِ الإِتْلافُ, بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلكِهِ عُدْوَانًا أَوْ يُؤَجِّجَ نَارًا فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ فَيَتَعَدَّى إلى إتْلافِ مَال الغَيْرِ أَوْ كَانَ المَاءُ مُحْتَبِسًا بِشَيْءٍ وَعَادَتُهُ الانْطِلاقُ فَيُزِيل احْتِبَاسَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ لهُ اخْتِيَارٌ فِي انْطِلاقِهِ أَوْ لمْ يَكُنْ فَدَخَل تَحْتَ ذَلكَ مَا إذَا حَل وِكَاءَ زِقٍّ مَائِعٍ فَانْدَفَقَ أَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ أَوْ حَل عَبْدًا آبِقًا فَهَرَبَ هَذَا هُوَ الذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَالقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ ; لأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلى الإِتْلافِ بِمَا يَقْتَضِيهِ عَادَةً.
وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ مَا كَانَ مِنْ الطُّيُورِ يَأْلفُ البُرُوجَ وَيَعْتَادُ العَوْدَ فَقَال: لا ضَمَانَ فِي إطْلاقِهِ وَإِنْ لمْ يَعُدْ;لأَنَّ العَادَةَ جَارِيَةٌ بِعَوْدِهِ فَليْسَ إطْلاقُهُ إتْلافًا.
وَقَال أَيْضًا فِي الفُنُونِ: الصَّحِيحُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا يُحَال الضَّمَانُ عَلى فِعْلهِ كَالآدَمِيِّ وَمَا لا يُحَال عَليْهِ الضَّمَانُ كَالحَيَوَانَاتِ وَالجَمَادَاتِ, فَإِذَا حَل قَيْدَ العَبْدِ لمْ يَضْمَنْ ; لأَنَّ العَبْدَ لهُ اخْتِيَارٌ وَيَصِحُّ إحَالةُ الضَّمَانِ عَليْهِ فَيَقْطَعُ مُبَاشَرَتَهُ للتَّلفِ بِسَبَبِ مُطْلقِهِ , وَهَذَا الذِي قَالهُ إنَّمَا يَصِحُّ لوْ كَانَ العَبْدُ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ لسَيِّدِهِ فَأَمَّا إذَا لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ للسَّيِّدِ تَعَيَّنَ إحَالةُ الضَّمَانِ عَلى المُتَسَبِّبِ وَلهَذَا قَال الأَصْحَابُ إنَّ جِنَايَةَ العَبْدِ المَغْصُوبِ عَلى سَيِّدِهِ مَضْمُونَةٌ عَلى الغَاصِبِ حَيْثُ لمْ يَكُنْ العَبْدُ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ للسَّيِّدِ فَأُحِيل عَلى الغَاصِبِ لتَعَدِّيهِ بِوَضْعِ يَدِهِ عَليْهِ مَعَ أَنَّهُ ليْسَ سَبَبًا للجِنَايَةِ.
وَلكِنْ خَرَّجَ ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لا ضَمَانَ عَلى الغَاصِبِ ; لأَنَّ الجِنَايَةَ مِنْ أَصْلهَا غَيْرُ قَابِلةٍ للتَّضْمِينِ لتَعَلقِهَا بِالرَّقَبَةِ المَمْلوكَةِ للمَجْنِيِّ عَليْهِ فَلا يَلزَمُ الغَاصِبَ شَيْءٌ مِنْهَا, وَلا يَلزَمُ مِثْلهُ فِي مُطْلقِ العَبْدِ ; لأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ إلى الإِتْلافِ فَإِذَا لمْ يُمْكِنْ إحَالةُ الضَّمَانِ عَلى المُبَاشِرِ أُحِيل عَلى المُتَسَبِّبِ صِيَانَةً للجِنَايَةِ عَلى مَال المَعْصُومِ عَنْ الإِهْدَارِ مَهْمَا أَمْكَنَ.
وَخَرَّجَ الآمِدِيُّ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ جِنَايَةَ العَبْدِ عَلى سَيِّدِهِ مَضْمُونَةٌ عَليْهِ فِي ذِمَّتِهِ يُتَّبَعُ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهِ.
وَهَهُنَا فَرْعٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ بَيْنَ ضَمَانِ اليَدِ وَضَمَانِ الإِتْلافِ وَهُوَ مَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا أَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ مِنْجَلاً للصَّيْدِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ وَقَعَ فِي البِئْرِ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ أَوْ عَثَرَ بِآلاتِ الصَّيْدِ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ فَإِنْ جَعَلنَاهُ مِنْ بَابِ الإِتْلافِ ضَمِنَ مِنْ التَّرِكَةِ وَبِهِ صَرَّحَ فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول فِي بَابِ الرَّهْنِ حَتَّى قَالا: لوْ بِيعَتْ التَّرِكَةُ لفُسِخَ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ مِنْهَا لسَبْقِ سَبَبِهِ.
وَلوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الوَرَثَةُ قَبْل الوُقُوعِ ضَمِنُوا قِيمَةَ العَبْدِ كَالمَرْهُونِ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي الخِلافِ وَإِنْ جَعَلنَاهُ مِنْ ضَمَانِ اليَدِ فَهَل يُجْعَل كَيَدِ المُشَاهَدَةِ بَعْدَ المَوْتِ, أَوْ يَجْعَل اليَدَ لمَنْ انْتَقَل المِلكُ إليْهِ يُحْتَمَل؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَصْلهُمَا اخْتِلافُ الأَصْحَابِ فِيمَا لوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ هَل هُوَ تَرِكَةٌ مَوْرُوثَةٌ جَعْلاً لهَا كَيَدِهِ المُشَاهَدَةِ أَوْ هُوَ مِلكٌ للوَرَثَةِ ; لأَنَّهَا صَارَتْ كَأَيْدِيهِمْ؟ وَاَلذِي صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ تَرِكَةٌ مَوْرُوثَةٌ وَقَال أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ: بَل هُوَ مِلكٌ للوَرَثَةِ بِانْتِقَال مِلكِ الشَّبَكَةِ إليْهِ كَمَا يَتَوَلدُ مِنْ النِّتَاجِ المَوْرُوثِ وَيُثْمِرُ مِنْ الشَّجَرِ وَأَمَّا فِي العُدْوَانِ المُجَرَّدِ فَيُحْتَمَل أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهُ بِمَوْتِهِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ مِنْ تَرِكَةِ المُتَعَدِّي لانْعِقَادِ سَبَبِهِ فِي حَيَاتِهِ , وَيُشْبِهُ ذَلكَ الخِلافَ فِيمَنْ مَال حَائِطُهُ فَطُولبَ بِنَقْضِهِ فَبَاعَهُ ثُمَّ سَقَطَ هَل يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا , وَهَل يَجِبُ الضَّمَانُ عَلى مَنْ انْتَقَل المِلكُ إليْهِ إذَا اسْتَدَامَهُ أَمْ لا؟ الأَظْهَرُ وُجُوبُهُ عَليْهِ كَمَنْ اشْتَرَى حَائِطًا مَائِلاً فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ البَائِعِ فِيهِ فَإِذَا طُولبَ بِإِزَالتِهِ فَلمْ يَفْعَل ضَمِنَ عَلى رِوَايَةٍ.
وَلوْ حَفَرَ عَبْدُهُ بِئْرًا عُدْوَانًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ تَلفَ بِهَا مَالٌ أَوْ غَيْرُهُ فَفِي المُغْنِي الضَّمَانُ عَلى العَبْدِ لاسْتِقْلالهِ بِالجِنَايَةِ وَفِي التَّلخِيصِ هُوَ عَلى السَّيِّدِ بِقَدْرِ قِيمَةِ العَبْدِ فَمَا دُونَ لثُبُوتِهِ عَليْهِ قَبْل العِتْقِ بِذَلكَ فَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ فِي مِلكِهِ فَلا يَنْتَقِل وَهُوَ بَعِيدٌ.
ستَنْبِيهٌ لوْ أَتْلفَ الغَاصِبُ المَغْصُوبَ ضَمِنَهُ ضَمَانَ إتْلافٍ وَيَدٍ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ صَيْدًا فِي الحَرَمِ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ جَعَلهُ ضَمَانَ يَدٍ وَإِلا لمَا جَازَ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الإِتْلافِ عَليْهِ وَيَدُل أَيْضًا عَلى جَوَازِ تَقْدِيمِ الكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ مُوجِبُهَا مَعْصِيَةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِالمَنْعِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي تَعْليقِهِ;لأَنَّ التَّقْدِيمَ رُخْصَةٌ فَلا تُسْتَبَاحُ بِمُحَرَّمٍ.
القاعدة التسعون
القَاعِدَةُ التِّسْعُونَ:الأَيْدِي المُسْتَوْليَةُ عَلى مَال الغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثَلاثَةٌ يَدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِاسْتِيلائِهَا المِلكُ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَمَّا يَسْتَوْلي عَليْهِ سَوَاءٌ حَصَل المِلكُ بِهِ أَوْ لمْ يَحْصُل وَيَدٌ لا يَثْبُتُ لهَا المِلكُ وَيَنْتَفِي عَنْهَا الضَّمَانُ وَيَدٌ لا يَثْبُتُ لهَا المِلكُ وَيَثْبُتُ عَليْهَا الضَّمَانُ.
أَمَّا الأُولى فَيَدْخُل فِيهَا صُوَرٌ:
منها: اسْتِيلاءُ المُسْلمِينَ عَلى أَمْوَال أَهْل الحَرْبِ.
ومنها: اسْتِيلاءُ أَهْل الحَرْبِ عَلى أَمْوَال المُسْلمِينَ ; لأَنَّهُمْ يَمْلكُونَ عَليْنَا بِالاسْتِيلاءِ وَهُوَ المَشْهُورُ عِنْدَ الأَصْحَابِ وَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُمْ فِيمَا لمْ يَمْلكُوهُ أَيْضًا مِمَّا تَثْبُتُ عَليْهِ الأَيْدِي كَأُمِّ الوَلدِ وَمَا لمْ يَحُوزُوهُ إلى دَارِهِمْ وَمَا شَرَدَ إليْهِمْ مِنْ دَوَابِّ المُسْلمِينَ وَأَرِقَّائِهِمْ عَلى قَوْلنَا أَنَّهُمْ لا يَمْلكُونَ ذَلكَ أَيْضًا.
ومنها: اسْتِيلاءُ الأَبِ عَلى مَال الابْنِ فَإِنْ كَانَ اسْتِيلاءٌ يَحْصُل بِهِ المِلكُ فَلا إشْكَال فِي انْتِفَاءِ الضَّمَانِ , وَإِنْ كَانَ عَلى غَيْرِ وَجْهِهِ وَجْهُ التَّمَلكِ فَلا يَثْبُتُ بِهِ الضَّمَانُ وَلوْ أَتْلفَهُ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ وَهُوَ المَذْهَبُ عِنْدَ صَاحِبِ المُحَرَّرِ.
وَأَمَّا اليَدُ الثَّانِيَةُ فَيَدْخُل فِيهَا صُوَرٌ:
منها: مَنْ لهُ وِلايَةٌ شَرْعِيَّةٌ بِالقَبْضِ.
ومنها: مَنْ قَبَضَ المَال لحِفْظِهِ عَلى المَالكِ فَإِنَّهُ لا يَضْمَنُهُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ أَخَذَ آبِقًا ليَرُدَّهُ إلى سَيِّدِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ أَنَّهُ لا ضَمَانَ عَليْهِ لكِنَّ أَخْذَ الآبِقِ فِيهِ إذْنٌ شَرْعِيٌّ وَفِي التَّلخِيصِ وَجْهٌ آخَرُ بِالضَّمَانِ فِي المُسْتَنْقَذِ مِنْ الغَاصِبِ للرَّدِّ لعَدَمِ الوِلايَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلوْ كَانَ القَابِضُ حَاكِمًا فَهُوَ أَوْلى بِنَفْيِ الضَّمَانِ لعُمُومِ وِلايَتِهِ وَفِي التَّلخِيصِ فِيمَا إذَا حَمَل المَغْصُوبُ إليْهِ ليَدْفَعَهُ إلى مَالكِهِ فَهَل يَلزَمُ قَبُولهُ عَلى وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ اللزُومَ وَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الحَاكِمِ وَغَيْرِهِ وَفِي المُجَرَّدِ وَالفُصُول وَالمُغْنِي ليْسَ للحَاكِمِ انْتِزَاعُ مَال الغَائِبِ وَالمَغْصُوبِ إلا أَنْ يَكُونَ لهُ وِلايَةٌ عَليْهِ بِوَجْهٍ مَا مِثْل أَنْ يَجِدَهُ فِي تَرِكَةِ مَيِّتٍ وَوَارِثُهُ غَائِبٌ فَلهُ الأَخْذُ ; لأَنَّ لهُ وِلايَةً عَلى تَرِكَةِ المَيِّتِ بِتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ أَوْ يَجِدُهَا فِي يَدِ السَّارِقِ فَيَقْطَعُهُ وَتُنتْزَعُ مِنْهُ العَيْنُ تَبَعًا لوِلايَةِ القَطْعِ , وَالمَسْأَلةُ مَذْكُورَةٌ فِي مَسْأَلةِ وُجُوبِ القِصَاصِ للغَائِبِ وَمَسْأَلةِ قَطْعِ السَّارِقِ لمَال الغَائِبِ.
ومنها: الطَّائِفَةُ المُمْتَنِعَةُ عَنْ حُكْمِ الإِمَامِ كَالبُغَاةِ لا يَضْمَنُ الإِمَامُ وَطَائِفَتُهُ وَمَا أَتْلفُوهُ عَليْهِمْ حَال الحَرْبِ وَفِي تَضْمِينِهِمْ مَا أَتْلفُوهُ عَلى الإِمَامِ فِي تِلكَ الحَال رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا نَفْيُ الضَّمَانِ إلحَاقًا لهُمْ
بِأَهْل الحَرْبِ.
وَأَمَّا أَهْل الرِّدَّةِ إذَا لحِقُوا بِدَارِ الحَرْبِ أَوْ اجْتَمَعُوا بِدَارٍ مُنْفَرِدِينَ وَلهُمْ مَنَعَةٌ فَفِي تَضْمِينِهِمْ رِوَايَتَانِ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ عَدَمَ التَّضْمِينِ إلحَاقًا لهُمْ بِأَهْل دَارِ الحَرْبِ.
وَأَمَّا اليَدُ الثَّالثَةُ: فَهِيَ اليَدُ العَارِيَّةُ التِي يَتَرَتَّبُ عَليْهَا الضَّمَانُ.
القاعدة الحادية والتسعون
القَاعِدَةُ الحَادِيَةُ وَالتِّسْعُونَ:يُضْمَنُ بِالعَقْدِ وَبِاليَدِ الأَمْوَال المَحْضَةُ المَنْقُولةُ إذَا وُجِدَ فِيهَا النَّقْل.
فَأَمَّا غَيْرُ المَنْقُول فَالمَشْهُورُ عِنْدَ الأَصْحَابِ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالعَقْدِ وَبِاليَدِ أَيْضًا, كَمَا يَضْمَنُ فِي عُقُودِ التَّمْليكَاتِ بِالاتِّفَاقِ.
وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ العَقَارَ لا يُضْمَنُ بِمُجَرَّدِ اليَدِ فِي الغَصْبِ مِنْ غَيْرِ إتْلافٍ , وَكَذَلكَ قَال أَبُو جَعْفَرٍ العكبري فِي العَارِيَّةِ فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّ القَاضِي وَأَمَّا المَنْقُول فَإِنْ حَصَل نَقْلهُ تَرَتَّبَ عَليْهِ ضَمَانُ اليَدِ وَالعَقْدِ وَإِنْ لمْ يُوجَدْ النَّقْل فَهَل يُضْمَنُ بِالعَقْدِ؟ فِيهِ كَلامٌ سَبَقَ فِي أَحْكَامِ المقُبُوضِ , وَأَمَّا اليَدُ المُجَرَّدَةُ فَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ: لا يَتَوَقَّفُ الضَّمَانُ بِهَا عَلى النَّقْل أَيْضًا كَالعَقْدِ وَكَمَا يَصِيرُ المُودِعُ ضَامِنًا بِمُجَرَّدِ جُحُودِ الوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلا إزَالةِ يَدٍ.
وَرَتَّبَ عَلى ذَلكَ أَنَّهُ لوْ بَاعَ الغَاصِبُ العَيْنَ المَغْصُوبَةَ وَخَلى بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُشْتَرِي فَتَلفَتْ قَبْل النَّقْل ثُمَّ جَاءَ المَالكُ , أَنَّ لهُ أَنْ يُضَمِّنَ المُشْتَرِي , قَال: وَإِنْ سَلمْنَاهُ تَعَيَّنَ مَنْعُ تَضْمِينِهِ فَلأَنَّهُ لمْ يَحْصُل كَمَال الاسْتِيلاءِ وَهُوَ النَّقْل فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلهُ وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ فِي هَذَا ; لأَنَّهُ فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الضَّمَانِ بِالعَقْدِ وَبِاليَدِ وَفِي التَّلخِيصِ إثْبَاتُ اليَدِ.
وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ بِأَنَّ المُشْتَرِيَ هَاهُنَا لا يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ وَإِنْ كَانَ يَضْمَنُهُ فِي البَيْعِ الصَّحِيحِ ضَمَانَ عَقْدٍ بِمُجَرَّدِ التَّخْليَةِ وَقَاسَهُ عَلى العَقَارِ فَإِنَّ البَائِعَ إذَا خَلى بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُشْتَرِي صَارَ مِنْ ضُمَّانِهِ بِالعَقْدِ , وَلوْ ظَهَرَ لهُ مُسْتَحِقٌّ لمْ يَضْمَنْهُ بِذَلكَ ضَمَانَ غَصْبٍ فِيمَا يَقْبَل النَّقْل إلا فِي الدَّابَّةِ فَإِنَّ رُكُوبَهَا كَافٍ وَكَذَلكَ الجُلوسُ عَلى مفرشٍ ; لأَنَّهُ غَايَةُ الاسْتِيلاءِ وَصَرَّحَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِمِثْل ذَلكَ فِي الدَّابَّةِ. وَأَمَّا غَيْرُ الأَمْوَال المَحْضَةِ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ شَائِبَةُ الحُرِّيَّةِ لثُبُوتِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا كَأُمِّ الوَلدِ وَالمُكَاتَبِ وَالمُدَبَّرِ فَيُضْمَنُ بِاليَدِ عَلى مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَالأَصْحَابُ وَكَذَلكَ يُضْمَنُ بِالعَقْدِ الفَاسِدِ فِي قِيَاسِ المَذْهَبِ قَالهُ أَبُو البَرَكَاتِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ.
وَالثَّانِي: الحُرُّ المَحْضُ هَل تَثْبُتُ عَليْهِ اليَدُ فَيَتَرَتَّبُ عَليْهِ الضَّمَانُ أَمْ لا؟ المَعْرُوفُ مِنْ المَذْهَبِ أَنَّ الحُرَّ لا تَثْبُتُ عَليْهِ اليَدُ فَلا يَضْمَنُ بِهَا بِحَالٍ وَلوْ كَانَ تَابِعًا لمَنْ تَثْبُتُ عَليْهِ اليَدُ كَمَنْ غَصَبَ أَمَةً حَامِلاً بِحُرٍّ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِمَا يُشْعِرُ أَنَّهُ مَحِل وِفَاقٍ حَكَى القَاضِي فِي خِلافِهِ أَيْضًا وَتَابَعَهُ
صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي ثُبُوتِ اليَدِ عَلى الحُرِّ الصَّغِيرِ وَضَمَانُهُ بِالتَّلفِ تَحْتَهَا رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ لشَبَهِهِ بِالعَبْدِ حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَعْوَى نَسَبِهِ مَعَ جَهَالتِهِ وَدَعْوَى رِقِّهِ.
وَقَال القَاضِي فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ خِلافِهِ: تَثْبُتُ اليَدُ عَلى الحُرِّ الكَبِيرِ بِالعَقْدِ دُونَ اليَدِ وَبَنَى عَلى ذَلكَ أَنَّ الأَجِيرَ الخَاصَّ إذَا أَسْلمَ نَفْسَهُ إلى مُسْتَأْجِرِهِ فَلمْ يَسْتَعْمِلهُ اسْتَقَرَّتْ لهُ الأُجْرَةُ لتَلفِ مَنَافِعِهِ تَحْتَ يَدِهِ.
وَكَذَلكَ يَجِبُ المَهْرُ بِالخَلوَةِ فِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ عِنْدَنَا لدُخُول المَنْفَعَةِ تَحْتَ اليَدِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الاسْتِيفَاءِ وَكَذَلكَ لوْ تَدَاعَا اثْنَانِ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا البَيِّنَةَ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لهُ تَرْجِيحًا بِاليَدِ كَذَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلى قَوْلنَا بِتَقَدُّمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِل.
وَحَكَى صَاحِبُ التَّلخِيصِ وَجْهًا بِثُبُوتِ اليَدِ عَلى مَنَافِعِ الحُرِّ دُونَ ذَاتِهِ وَرَتَّبَ عَليْهِ صِحَّةَ إجَارَةِ المُسْتَأْجِرِ للأَجِيرِ الخَاصِّ وَجَزَمَ الأَزَجِيُّ فِي النِّهَايَةِ بِصِحَّتِهِ وَبَنَى عَليْهِ جَوَازَ صِحَّةِ إجَارَةِ الكَافِرِ للمُسْلمِ المُسْتَأْجِرِ مَعَهُ وَذَكَرَ احْتِمَاليْنِ , وَبَنَى صَاحِبُ التَّلخِيصِ أَيْضًا عَلى ذَلكَ غَصْبَ الحُرِّ وَحَبْسَهُ عَنْ العَمَل فَإِنَّ فِي ضَمَانِ أُجْرَتِهِ وَجْهَيْنِ.
تَنْبِيهٌ: مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال مَنْفَعَةُ البُضْعِ لا تَدْخُل تَحْتَ اليَدِ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي تَذْكِرَتِهِ وَغَيْرِهِمَا , وَفَرَّعُوا عَليْهِ صِحَّةَ تَزْوِيجِ الأَمَةِ المَغْصُوبَةِ وَإِنَّ الغَاصِبَ لا يَضْمَنُ مَهْرَهَا وَلوْ حَبَسَهَا عَنْ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ بِالكِبَرِ.
وَخَالفَ ابْنُ المُنَى وَجَزَمَ فِي تَعْليقِهِ بِضَمَانِ مَهْرِ الأَمَةِ بِتَفْوِيتِ النِّكَاحِ وَذَكَرَ فِي الحُرَّةِ تَرَدُّدًا لامْتِنَاعِ ثُبُوتِ اليَدِ عَليْهَا وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ أَنَّ الأَمَةَ المَوْطُوءَةَ بِغَيْرِ إذْنِ المَالكِ لوْ حَمَلتْ ثُمَّ تَلفَتْ بِالوِلادَةِ ضَمِنَهَا الوَاطِئُ بِخِلافِ الحُرَّةِ إذَا زَنَى بِهَا كُرْهًا فَحَمَلتْ ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ الطَّلقِ قَال فِي التَّلخِيصِ ; لأَنَّ الاسْتِيلاءَ كَأَنَّهُ إثْبَاتُ يَدٍ وَهَلاكٍ تَحْتَ اليَدِ المُسْتَوْليَةِ عَلى الرَّحِمِ وَالحُرَّةُ لا تَدْخُل تَحْتَ اليَدِ وَمُجَرَّدُ السَّبَبِ ضَعِيفٌ وَفِي المُغْنِي يَضْمَنُهَا مُطْلقًا لحُصُول التَّسَبُّبِ فِي التَّلفِ.
القاعدة الثانية والتسعون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالتِّسْعُونَ:هَل تَثْبُتُ يَدُ الضَّمَانِ مَعَ ثُبُوتِ يَدِ المَالكِ أَمْ لا؟ فِي المَسْأَلةِ خِلافٌ وَقَدْ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الحَكَمِ فِيمَنْ أَسَرَهُ أَهْل الحَرْبِ وَمَعَهُ جَارِيَته أَنَّهَا مِلكُهُ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ المَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الكُفَّارَ يَمْلكُونَ أَمْوَال المُسْلمِينَ بِالاسْتِيلاءِ , وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ زَال انْتِفَاعُ المَالكِ وَسُلطَانُهُ ثَبَتَ الضَّمَانُ وَإِلا فَلا , وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: لوْ غَصَبَ دَابَّةً عَليْهَا مَالكُهَا وَمَتَاعُهُ فَفِي الخِلافِ الكَبِيرِ لا يَضْمَنُ , وَكَذَلكَ قَال الأَصْحَابُ: لوْ اسْتَوْلى عَلى حُرٍّ كَبِيرٍ لمْ يَضْمَنْ ثِيَابَهُ ; لأَنَّهَا فِي يَدِ المَالكِ وَلوْ كَانَ الحُرُّ صَغِيرًا وَقُلنَا لا تَثْبُتُ اليَدُ عَليْهِ فَفِي ثِيَابِهِ وَجْهَانِ نَظَرًا إلى أَنَّ يَدَهُ لا قُوَّةَ لهَا عَلى المَنْعِ وَهَذَا يَشْهَدُ لاعْتِبَارِ بَقَاءِ الامْتِنَاعِ فِي انْتِفَاءِ الضَّمَانِ.
ومنها: لوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلى مَسَافَةٍ فَزَادَ عَليْهَا أَوْ لحَمْل شَيْءٍ فَزَادَ عَليْهِ وَهِيَ فِي يَدِ المُؤَجِّرِ فَتَلفَتْ قَال فِي المُجَرَّدِ: يَضْمَنُ لتَعَدِّيهِ بِالزِّيَادَةِ , وَسُكُوتُ المَالكِ لا يَمْنَعُ الضَّمَانَ كَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَهُ وَهُوَ لا يَمْنَعُ.
وَفِي التَّلخِيصِ لا يَضْمَنُ إذَا تَلفَتْ بِفِعْل اللهِ تَعَالى , وَإِنْ تَلفَتْ بِالحَمْل فَفِي تَكْمِيل الضَّمَانِ عَليْهِ وَتَنْصِيفِهِ وَجْهَانِ , وَيَتَوَجَّهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلى الامْتِنَاعِ أَوْ لا يَكُونَ كَذَلكَ فَيَجِبُ الضَّمَانُ مَعَ عَدَمِ القُدْرَةِ كَمَنْ غَصَبَ دَابَّةً وَأَكْرَهَ المَالكَ عَلى أَنْ يَحْمِل لهُ عَليْهَا مَتَاعَهُ فَإِنَّ هَذَا زِيَادَةُ عُدْوَانٍ فَلا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ.
ومنها: الأَجِيرُ المُشْتَرَكُ إذَا جَنَتْ يَدُهُ عَلى العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ عَلى العَمَل فِيهَا وَيَدُ صَاحِبِهَا ثَابِتَةٌ عَليْهَا فَلا ضَمَانَ قَالهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ , قَال: لأَنَّهُ ليْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ الغَاصِبِ وَالغَاصِبُ لا يَضْمَنُ مَا دَامَ يَدُ صَاحِبِهِ ثَابِتَةً عَليْهِ انْتَهَى.
وَمُرَادُهُ بِثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِهِ ثُبُوتُ سُلطَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَلهَذَا لوْ أَعَادَ الغَاصِبُ المَغْصُوبَ إلى يَدِ المَالكِ عَلى وَجْهٍ لا يَعُودُ تَصَرُّفُهُ إليْهِ , مِثْل إنْ رَهَنَهُ عَبْدُهُ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ للعَمَل فِيهِ لمْ يَبْرَأْ بِذَلكَ عَلى الصَّحِيحِ إلا أَنْ يَعْلمَ أَنَّهُ مِلكُهُ.
ومنها: لوْ دَخَل دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ جَلسَ عَلى بِسَاطِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالمَالكُ جَالسٌ فِي الدَّارِ أَوْ عَلى البِسَاطِ فَفِي الخِلافِ الكَبِيرِ لا ضَمَانَ وَعَلل بِانْتِفَاءِ الحَيْلولةِ وَرَفْعِ اليَدِ.
وَكَذَلكَ قَال فِيمَنْ رَكِبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ إنْ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا ضَمِنَ وَهَذَا يَرْجِعُ إلى اشْتِرَاطِ الحَيْلولةِ وَالقَهْرِ للضَّمَانِ وَفِي التَّلخِيصِ لوْ دَخَل دَارَ المَالكِ وَهُوَ فِيهَا قَاصِدٌ للغَصْبِ فَهُوَ غَاصِبٌ للنِّصْفِ لاجْتِمَاعِ يَدِهِمَا وَاسْتِيلائِهِمَا بِشَرْطِ قُوَّةِ الدَّاخِل وَتَمَكُّنِهِ مِنْ القَهْرِ وَإِنْ كَانَ المَالكُ غَائِبًا فَالدُّخُول غَصْبٌ بِكُل حَالٍ لحُصُول الاسْتِيلاءِ بِهِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي خِلافِهِ: أَنَّ الجَالسَ عَلى بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَكُونُ ضَامِنًا لمَا جَلسَ عَليْهِ مِنْهُ وَالدَّاخِل إنْ دَخَل بِنِيَّةِ الغَصْبِ صَارَ غَاصِبًا.
ومنها: لوْ أَرْدَفَ المَالكُ خَلفَهُ عَلى الدَّابَّةِ فَتَلفَتْ فَهَل يَضْمَنُ الرَّدِيفُ نِصْفَ القِيمَةِ لكَوْنِهِ مُسْتَعِيرًا أَمْ لا لثُبُوتِ يَدِ المَالكِ عَليْهَا ذَكَرَ فِي التَّلخِيصِ احْتِمَاليْنِ وَصَحَّحَ الثَّانِي.
تَنْبِيهٌ: لوْ كَانَتْ العَيْنُ مِلكًا لاثْنَيْنِ فَرَفَعَ الغَاصِبُ يَدَ أَحَدِهِمَا وَوَضَعَ يَدَهُ مَوْضِعَ يَدِهِ وَأَقَرَّ الآخَرَ
عَلى حَالهِ فَهَل يَكُونُ غَاصِبًا لنَصِيبِ رَفْعِ يَدِهِ خَاصَّةً أَمْ هُوَ غَاصِبٌ لنِصْفِ العَيْنِ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُشَاعًا؟ قَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ هُوَ غَاصِبٌ لنِصْفِ مَنْ رَفَعَ يَدَهُ فَقَطْ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مُسْتَدِلاً بِأَنَّ الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ , فَعَلى , هَذَا لوْ اسْتَعْمَل الغَاصِبُ وَالشَّرِيكُ المِلكَ وَانْتَفَعَا بِهِ لمْ يَلزَمْ هَذَا الشَّرِيكَ لشَرِيكِهِ المُخْرِجِ شَيْءٌ فَلوْ بَاعَا العَيْنَ صَحَّ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ البَائِعِ كُلهِ وَبَطَل فِي النِّصْفِ الذِي بَاعَهُ الغَاصِبُ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ يَدُل عَلى خِلافه ; لأَنَّهُ نَصَّ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ عَلى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ قَوْمٍ ضَيْعَةً ثُمَّ رَدَّ إلى أَحَدِهِمْ نَصِيبَهُ مُشَاعًا لمْ يَطِبْ للمَرْدُودِ عَليْهِ الانْفِرَادُ بِمَا رُدَّ عَليْهِ وَهُوَ يُشْبِهُ أَصْلهُ المَنْصُوصَ عَنْهُ فِي مَنْعِ إجَارَةِ المُشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ لتَعَذُّرِ تَسْليمِهِ بِانْفِرَادِهِ فَعَلى هَذَا ليْسَ للشَّرِيكِ الذِي لمْ يَرْفَعْ يَدَهُ التَّصَرُّفُ إلا فِي الرُّبْعِ خَاصَّةً وَالرُّبْعُ الآخَرُ حَقٌّ لشَرِيكِهِ المَغْصُوبِ مِنْهُ وَلمْ يَجْتَمِعْ هَهُنَا يَدُ الغَاصِبِ مَعَ يَدِ المَالكِ فِي شَيْءٍ.
القاعدة الثالثة والتسعون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالتِّسْعُونَ:مَنْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبِهِ وَلمْ يَعْلمْ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَالمَشْهُورُ عَنْ الأَصْحَابِ أَنَّهُ بِمَنْزِلةِ الغَاصِبِ فِي جَوَازِ تَضْمِينِهِ مَا كَانَ الغَاصِبُ يَضْمَنُهُ مِنْ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ ثُمَّ إنْ كَانَ القَابِضُ قَدْ دَخَل عَلى ضَمَانِ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ اسْتَقَرَّ ضَمَانُهَا عَليْهِ وَلمْ يَرْجِعْ عَلى الغَاصِبِ وَإِنْ ضَمِنَهُ المَالكُ مَا لمْ يَدْخُل عَلى ضَمَانِهِ وَلمْ يَكُنْ ; حَصَل لهُ بِمَا ضَمِنَهُ نَفْعٌ رَجَعَ بِهِ عَلى الغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ حَصَل لهُ بِهِ نَفْعٌ فَهَل يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهُ عَليْهِ أَمْ يَرْجِعُ عَلى الغَاصِبِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ وَفِي بَعْضِهِ خِلافٌ نُشِيرُ إليْهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ -شَاءَ اللهُ تَعَالى - وَهَذِهِ الأَيْدِي القَابِضَةُ مِنْ الغَاصِبِ على عَدَمِ العِلمِ بِالحَال عَشْرَةٌ.
الأُولى: الغَاصِبَةُ يَتَعَلقُ بِهَا الضَّمَانُ كَأَصْلهَا وَيَسْتَقِرُّ عَليْهَا مَعَ التَّلفِ تَحْتَهَا وَلا يُطَالبُ بِمَا زَادَ عَلى مُدَّتِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: الآخِذَةُ لمَصْلحَةِ الدَّافِعِ كَالاسْتِيدَاعِ وَالوَكَالةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَالمَشْهُورُ أَنَّ للمَالكِ تَضْمِينُهَا ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلى الغَاصِبِ لتَغْرِيرِهِ , وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَليْهَا لتَلفِ المَال تَحْتَهَا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ فِي بَابِ المُضَارَبَةِ وَسَيَأْتِي أَصْلهُ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَضْمِينُهَا بِحَالٍ مِنْ الوَجْهِ المَحْكِيِّ كَذَلكَ فِي المُرْتَهِنِ وَنَحْوِهِ وَأَوْلى , وَخَرَّجَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ مُودِعِ المُودَعِ حَيْثُ لا يَجُوزُ لهُ الإِيدَاعُ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلى الأَوَّل وَحْدَهُ كَذَلكَ قَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول وَذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ مَنَعَ ظُهُورَهُ وَعَلى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَذَلكَ فَرَّقُوا بَيْنَ مُودَعَ المُودِعِ وَمُودَعَ الغَاصِبِ فَإِنَّ المُوجِبَ للضَّمَانِ فِي الأَوَّل القَبْضُ
وَهُوَ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَلا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ مِنْ جِهَتَيْنِ بِخِلافِ مُودَعِ الغَاصِبِ فَإِنّ قَبْضَهُ صَالحٌ لتَضْمِينِهِ حَيْثُ كَانَ الضَّمَانُ مُسْتَقِرًّا عَلى الغَاصِبِ قَبْلهُ وَبِأَنَّ الضَّمَانَ يَتَرَتَّبُ عَلى القَبْضِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَالقَبْضُ مِنْ يَدِ أَمِينة وَلا عُدْوَانَ فِيهِ لعَدَمِ العِلمِ فَاخْتَصَّ الضَّمَانُ بِالمُتَعَدِّي بِخِلافِ مُودَعِ الغَاصِبِ لقَبْضِهِ مِنْ يَدِ ضَامِنِهِ قَبْل القَبْضِ.
وَاعْلمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ فِي الوَكَالةِ وَالرَّهْنِ أَنَّ الوَكِيل وَالأَمِينَ فِي الرَّهْنِ إذَا بَاعَا وَقَبَضَا الثَّمَنَ ثُمَّ بَانَ المَبِيعُ مُسْتَحِقًّا لمْ يَلزَمْهُمَا شَيْءٌ , ولا تُنَاقِضُ هَذِهِ المَسْأَلةُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ ; لأَنَّ مُرَادَ الأَصْحَابِ بِقَوْلهِمْ: لمْ يَلزَمْ الوَكِيل شَيْءٌ أَنَّهُ لا يُطَالبُهُ المُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الذِي أَقْبَضَهُ إيَّاهُ ; لأَنَّ حُقُوقَ العَقْدِ يَتَعَلقُ بِالمُوَكِّل دُونَ الوَكِيل.
أَمَّا أَنَّ الوَكِيل لا يُطَالبُهُ المُسْتَحِقُّ للعَيْنِ بِالضَّمَانِ فَهَذَا لمْ يَتَعَرَّضُوا لهُ هَهُنَا أَلبَتَّةَ.
وَهُوَ بِمَعْزِلٍ مِنْ مَسْأَلتِهِمْ بِالكُليَّةِ.
الثَّالثَةُ: القَابِضَةُ لمَصْلحَتِهَا , وَمَصْلحَةُ الدَّافِعِ كَالشَّرِيكِ وَالمُضَارِبِ وَالوَكِيل بِجُعْلٍ وَالمُرْتَهِنِ , فَالمَشْهُورُ جَوَازُ تَضْمِينِهَا أَيْضًا وَتَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَتْ لدُخُولهَا عَلى الأَمَانَةِ وَذَكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُغْنِي فِي الرَّهْنِ احْتِمَاليْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلى القَابِضِ لتَلفِ مَال الغَيْرِ تَحْتَ يَدِهِ التِي لمْ يُؤْذَنْ لهُ فِي القَبْضِ فَهِيَ كَالعَالمَةِ بِالحَال , وحكوا هَذَا الوَجْهَ فِي المُضَارِبِ أَيْضًا.
وَالثَّانِي: لا يَجُوزُ تَضْمِينُهَا بِحَالٍ لدُخُولهَا عَلى الأَمَانَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ المَذْهَبُ وَأَنَّهُ لا يَجُوزُ تَضْمِينُ القَابِضِ مَا لمْ يَدْخُل عَلى ضَمَانِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الأَقْسَامِ فَإِنَّ المَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا ثُمَّ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً أَنَّهُ لا يَمْلكُ المُسْتَحِقُّ قَلعَهُ إلا مَعَ ضَمَانِ نَقْصِهِ كَالغِرَاسِ المُحْتَرَمِ الصَّادِرِ عَنْ إذْنِ المَالكِ فَجُعِل المَغْرُورُ كَالمَأْذُونِ لهُ فَلا يَضْمَنُ ابْتِدَاءً مَا لمْ يَلزَمْ ضَمَانُهُ.
وَكَذَلكَ نَقَل حَرْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ فِي المَغْرُورِ فِي النِّكَاحِ أَنَّ فِدَاءَ وَلدِهِ عَلى مَنْ غَرَّرَهُ وَلمْ يَجْعَل عَلى الزَّوْجِ مُطَالبَةً.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلكَ مَا نَقَل عَنْهُ مُهَنَّا فِيمَنْ بَعَثَ رَجُلاً إلى رَجُلٍ لهُ عِنْدَهُ مَالٌ فَقَال لهُ خُذْ مِنْهُ دِينَارًا فَأَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلى المُرْسِل لتَغْرِيرِهِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلى الرَّسُول , وَحَكَى القَاضِي وَغَيْرُهُ فِي المُضَارَبَةِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الضَّمَانَ فِي هَذِهِ الأَمَانَاتِ يَسْتَقِرُّ عَلى مَنْ ضَمِنَ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لمْ يَرْجِعْ عَلى الآخَرِ.
الرَّابِعَةُ: القَابِضَةُ لمَصْلحَتِهَا خَاصَّةً إمَّا بِاسْتِيفَاءِ العَيْنِ كَالقَرْضِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ المَنْفَعَةِ كَالعَارِيَّةِ فَهِيَ دَاخِلةٌ فِي الضَّمَانِ فِي العَيْنِ دُونَ المَنْفَعَةِ فَإِذَا ضَمِنَتْ العَيْنَ وَالمَنْفَعَةَ رَجَعَتْ عَلى الغَاصِبِ بِضَمَانِ المَنْفَعَةِ ; لأَنَّ ضَمَانَهَا كَانَ بِتَغْرِيرِهِ , وَفِي المَذْهَبِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لا يَرْجِعُ بِضَمَانِ المَنْفَعَةِ إذَا تَلفَتْ بِالاسْتِيفَاءِ
وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَليْهَا فِي مُقَابَلةِ الانْتِفَاعِ لاسْتِيفَائِهَا بَدَلهُ ; كَيْ لا يَجْتَمِعَ لهَا العِوَضُ وَالمُعَوَّضُ , وَأَصْل الرِّوَايَتَيْنِ الرِّوَايَتَانِ فِي رُجُوعِ المَغْرُورِ بِالمَهْرِ عَلى مَنْ غَرَّهُ.
وَإِنْ ضَمِنَ الغَاصِبُ المَنْفَعَةَ ابْتِدَاءً فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: البِنَاءُ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ قُلنَا لا يَرْجِعُ القَابِضُ عَليْهِ إذَا ضَمِنَ ابْتِدَاءً رَجَعَ الغَاصِبُ هُنَا عَليْهِ وَإِلا فَلا وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَالقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لا يَرْجِعُ الغَاصِبُ عَلى القَابِضِ قَوْلاً وَاحِدًا قَالهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَأَمَّا العَيْنُ فَلا يَرْجِعُ بِضَمَانِهَا حَيْثُ دَخَلتْ عَلى ضَمَانِهَا وَعَلى الاحْتِمَال الأَوَّل فِي القِسْمِ الذِي قَبْلهُ يَسْتَقِرُّ هَهُنَا عَليْهَا ضَمَانُ العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ تَلفَتْ المَنْفَعَةُ بِاسْتِيفَاءٍ أَوْ بِتَفْوِيتٍ وَعَلى الاحْتِمَال الآخَرِ -وَهُوَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَضْمِينُهَا بِالكُليَّةِ- فَلا تُطَالبُ هَذِهِ بِضَمَانٍ مَا لمْ يَلتَزِمْ ضَمَانُهُ ابْتِدَاءً وَيَسْتَقِرُّ عَليْهَا ضَمَانُ مَا دَخَلتْ عَلى ضَمَانِهِ وَيَتَخَرَّجُ لنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَسْتَقِرُّ عَليْهَا ضَمَانُ شَيْءٍ وَسَنَذْكُرُ أَصْلهُ فِي القِسْمِ الذِي بَعْدَهُ.
الخَامِسَةُ: القَابِضَةُ تَمَلكًا بِعِوَضٍ مُسَمًّى عَنْ العَيْنِ بِالبَيْعِ فَهِيَ دَاخِلةٌ عَلى ضَمَانِ العَيْنِ دُونَ المَنْفَعَةِ فَإِذَا ضَمِنَتْ قِيمَةَ العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ لمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَتْ مِنْ قِيمَةِ العَيْنِ كَدُخُولهَا عَلى ضَمَانِهَا وَلكِنْ يُسْتَرَدُّ الثَّمَنُ مِنْ الغَاصِبِ ; لأَنَّهُ لمْ يَمْلكْهُ لانْتِفَاءِ صِحَّةِ العَقْدِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ القِيمَةُ التِي ضَمِنَتْ المَالكُ وَفْقَ الثَّمَنِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ عَلى مَا اقْتَضَاهُ كَلامُ الأَصْحَابِ هَهُنَا وَفِي البَيْعِ الفَاسِدِ وَفِي ضَمَانِ المَغْرُورِ المَهْرِ.
وَفِي التَّلخِيصِ احْتِمَالٌ إنْ كَانَتْ القِيمَةُ أَزْيَدَ رَجَعَتْ بِالزِّيَادَةِ عَلى الغَاصِبِ حَيْثُ لمْ يَدْخُل عَلى الضَّمَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ المُسَمَّى , وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ المُنَى فِي خِلافِهِ وَقَدْ سَبَقَ فِي قَاعِدَةِ ضَمَانِ العُقُودِ الفَاسِدَةِ بِالمُسَمَّى أَوْ بِعِوَضِ المِثْل مَا يُشْبِهُ هَذَا وَلوْ طَالبَ المَالكُ الغَاصِبَ بِالثَّمَنِ كُلهِ إذَا كَانَ أَزْيَدَ مِنْ القِيمَةِ فَقِيَاسُ المَذْهَبِ أَنَّ لهُ ذَلكَ كَمَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي المُتَّجِرِ الوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَنَّ الرِّبْحَ للمَالكِ , ثُمَّ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ بَيَّنَهُ عَلى القَوْل بِوَقْفِ العُقُودِ عَلى الإِجَازَةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلقُ ذَلكَ وَكَذَا فِي المُضَارِبِ إذَا خَالفَ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ ; لأَنَّهُ رِبْحُ مَا لمْ يَضْمَنْ.
وَهَل للمُضَارِبِ أُجْرَةُ المِثْل؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَطَرَدَهُمَا أَبُو الفَتْحِ الحَلوَانِيُّ فِي الكِفَايَةِ فِي الغَاصِبِ وَحَكَى صَاحِبُ المُغْنِي فِي بَابِ الرَّهْنِ رِوَايَةً أُخْرَى بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلى الغَاصِبِ فِي البَيْعِ فَلا يَرْجِعُ عَلى المُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِمَّا صَنَعَهُ وَحَكَاهُ فِي الكَافِي فِي بَابِ المُضَارَبَةِ وَجْهًا وَصَرَّحَ القَاضِي بِمِثْل ذَلكَ فِي خِلافِهِ فِي مَسْأَلةِ رُجُوعِ المَغْرُورِ بِالمَهْرِ.
وَهُوَ عِنْدِي قِيَاسُ المَذْهَبِ حَيْثُ قُلنَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِرُجُوعِ المَغْرُورِ بِنِكَاحِ الأَمَةِ عَلى مَنْ
غَرَّهُ مَعَ اسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةَ البُضْعِ وَاسْتِهْلاكِهَا وَدُخُولهِ عَلى ضَمَانِهَا , وَلهَذَا طَرَدَ مُحَقِّقُوا الأَصْحَابِ هَذَا الخِلافَ فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا الغَاصِبُ وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ هَل يَرْجِعُ بِالمَهْرِ عَلى الغَاصِبِ سَوَاءٌ ضَمَّنَهُ المَالكُ المَهْرَ أَوْ لمْ يُضَمِّنْهُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ المَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ البَائِعَ إذَا دَلسَ العَيْبَ ثُمَّ تَلفَ عِنْدَ المُشْتَرِي فَلهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ وَكَذَلكَ لوْ نَقَصَ أَوْ تَعَيَّبَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذ الثَّمَنَ إلا أَنْ يَكُونَ حَصَل لهُ انْتِفَاعٌ بِمَا نَقَصَهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عِوَضَهُ عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ إلحَاقًا لهُ بِلبَنِ المُصَرَّاةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَخَل عَلى ضَمَانِ العَيْنِ بِالمُسَمَّى وَلكِنْ سَقَطَ عَنْهُ كَتَدْليسِ البَائِعِ العَيْبَ وَهُوَ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ العَقْدِ عَلى الصَّحِيحِ مِنْ المَذْهَبِ فَلأَنَّهُ لا يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلى المُشْتَرِي مِنْ الغَاصِبِ مَعَ تَدْليسِ الغَاصِبِ عَليْهِ وَعَدَمِ صِحَّةِ العَقْدِ أَوْلى.
وَأَمَّا المَنَافِعُ إذَا ضَمِنَهَا المَالكُ للمُشْتَرِي بِنَاءً عَلى أَنَّ المَنَافِعَ المَغْصُوبَةَ مَضْمُونَةٌ وَهُوَ المَذْهَبُ فَيَرْجِعُ بِذَلكَ عَلى الغَاصِبِ لدُخُولهِ عَلى اسْتِيفَائِهَا فِي مِلكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَسَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَوْ تَلفَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لا يَرْجِعُ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ لاسْتِيفَائِهِ عِوَضَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَحُكْمُ الثَّمَرَةِ وَالوَلدِ الحَادِثِ مِنْ المَبِيعِ حُكْمُ المَنَافِعِ إذَا ضَمِنَهَا رَجَعَ بِبَدَلهَا عَلى الغَاصِبِ.
وَكَذَلكَ الكَسْبُ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي خِلافِهِ إلا أَنْ يَكُونَ انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلكَ فَيُخَرَّجَ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ وَقَدْ أَشَارَ أَحْمَدُ إلى هَذَا فِي رِوَايَة ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ بَاعَ مَاشِيَةً أَوْ شَاةً فَوَلدَتْ أَوْ نَخْلاً لهَا ثَمَرَةٌ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَوْ اسْتَحَقَّ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الثَّمَرَةِ وَقِيمَةَ الوَلدِ إنْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِمْ شَيْئًا أَوْ بِأَنْ بَاعَ أَوْ اسْتَهْلكَ فَإِنْ كَانَ مَاتَ أَوْ ذَهَبَ بِهِ الرِّيحُ فَليْسَ عَليْهِ شَيْءٌ فَأَوْجَبَ عَليْهِ ضَمَانَ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ دُونَ مَا أُتْلفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلهِ وَلمْ يَذْكُرْ رُجُوعًا عَلى الغَاصِبِ.
وَظَاهِرُ كَلامِهِ أن مَا تَلفَ فِي يَدِهِ مِنْ النَّمَاءِ فَليْسَ للمَالكِ تَضْمِينُهُ ابْتِدَاءً ; لأَنَّهُ لمْ يَدْخُل عَلى ضَمَانِهِ وَلمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَهَذَا يُقَوِّي التَّخْرِيجَ المَذْكُورَ فِي القِسْمِ الذِي قَبْلهُ , وَكَذَلكَ ظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى: لا يَضْمَنُ المُشْتَرِي إلا مَا يَسْتَقِرُّ عَليْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ دَخَل عَلى ضَمَانِهِ أَوْ لمْ يَدْخُل عَليْهِ لكِنْ انْتَفَعَ بِهِ كَالخِدْمَةِ وَمَهْرِ المُشْتَرَاةِ وَأَمَّا قِيمَةُ الأَوْلادِ فَلا يَرْجِعُ بِهَا عِنْدَهُ ; لأَنَّ نَفْعَهَا لغَيْرِهِ لا لهُ , وَأَوْجَبَ عَلى الغَاصِبِ قِيمَةَ غَرْسِ المُشْتَرِي غَيْرِ مَقْلوعٍ إذَا قَلعَهُ المَالكُ وَمُرَادُهُ مَا نَقَصَ بِقَلعِهِ وَإِنَّمَا أَجَازَ للمَالكِ قَلعَ الغِرَاسِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ نَقْصِهِ ; لأَنَّ ذَلكَ ليْسَ مِنْ بَابِ تَضْمِينِ الغَاصِبِ بَل هُوَ مِنْ بَابِ امْتِنَاعِ المَالكِ مِنْ الضَّمَانِ لهُ فَإِنَّ تَفْرِيغَ الأَرْضِ مِنْ الغِرَاسِ الذِي لمْ يَأْذَنْ فِيهِ لا بُدَّ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْهُ , وَلا ضَمَانَ عَليْهِ فِيهِ حَيْثُ لمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَإِنَّمَا الضَّمَانِ عَلى الغَارِّ لتَعَدِّيهِ.
كَمَا أَنَّ تَضْمِينَ القَابِضِ مَا لمْ يَلتَزِمْ ضَمَانُهُ مُمْتَنِعٌ حَيْثُ أَمْكَنَ تَضْمِينُ الغَاصِبِ لالتِزَامِهِ للضَّمَانِ وَتَعَدِّيهِ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الذِي يَدُل عَليْهِ كَلامُ