كتاب : القواعد في الفقه الإسلامي
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
لا مِنْ مَال المُوصَى لهُ فَكَذَلكَ أَجْزَاؤُهَا ; لأَنَّ القَبُول وَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا للمِلكِ مِنْ حِينِ المَوْتِ إلا أَنَّ ثُبُوتَهُ السَّابِقَ تَابِعٌ لثُبُوتِهِ مِنْ حِينِ القَبُول وَالمَعْدُومُ حَال القَبُول لا يُتَصَوَّرُ المِلكُ فِيهِ فَلا يَثْبُتُ فِيهِ مِلكٌ , نَعَمْ إنْ قِيل يَمْلكُهُ بِمُجَرَّدِ المَوْتِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ بِكُل حَالٍ كَالمُوَرِّثِ وَهَذَا كُلهُ فِي المَمْلوكِ بِالعَقْدِ فَأَمَّا مَا مُلكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: المِلكُ القَهْرِيُّ كَالمِيرَاثِ وَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ عَلى الوَرَثَةِ بِالمَوْتِ إذَا كَانَ المَال عَيْنًا حَاضِرَةً يُتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهَا. قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ تَرَكَ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِينَارٍ وَأَوْصَى لرَجُلٍ بِالعَبْدِ فَسُرِقَتْ الدَّنَانِيرُ بَعْدَ مَوْتِ الرَّجُل وَجَبَ العَبْدُ للمُوصَى لهُ وَذَهَبَتْ دَنَانِيرُ الوَرَثَةِ, وَهَكَذَا ذَكَرَ الخِرَقِيِّ وَأَكْثَرُ الأَصْحَابِ ; لأَنَّ مِلكَهُمْ اسْتَقَرَّ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ إذْ هُوَ لا يَخْشَى انْفِسَاخَهُ , وَلا رُجُوعَ لهُمْ بِالبَدَل عَلى أَحَدٍ فَأَشْبَهَ مَا فِي يَدِ المُودَعِ وَنَحْوِهِ بِخِلافِ المَمْلوكِ بِالعُقُودِ لأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَخْشَى انْفِسَاخَ سَبَبِ المِلكِ فِيهِ أَوْ يَرْجِعَ بِبَدَلهِ فَلذَلكَ اُعْتُبِرَ لهُ القَبْضُ وَأَيْضًا فَالمَمْلوكُ بِالبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَنْتَقِل الضَّمَانُ فِيهِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ القَبْضِ فَالمِيرَاثُ أَوْلى.
وَقَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ العِتْقِ: لا يَدْخُل فِي ضَمَانِهِمْ بِدُونِ القَبْضِ لأَنَّهُ لمْ يَحْصُل فِي أَيْدِيهِمْ وَلمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ وَالغَائِبَ وَنَحْوَهُمَا مَا لمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَبْضِهِ , فَعَلى هَذَا إنْ زَادَتْ التَّرِكَةُ قَبْل القَبْضِ فَالزِّيَادَةُ للوَرَثَةِ , وَإِنْ نَقَصَتْ لمْ يُحْسَبْ النَّقْصُ عَليْهِمْ وَكَانَتْ التَّرِكَةُ مَا بَقِيَ بَعْدَ النَّقْصِ حَتَّى لوْ تَلفَ المَال كُلهُ سِوَى القَدْرِ المُوصَى بِهِ صَارَ هُوَ التَّرِكَةَ وَلمْ يَكُنْ للمُوصَى لهُ سِوَى ثُلثِهِ إلا أَنْ يُقَال: إنَّ المُوصَى لهُ يَمْلكُ الوَصِيَّةَ بِالمَوْتِ بِمُجَرَّدِهِ أَوْ مُرَاعًى بِالقَبُول فَلا تُزَاحِمُهُ الوَرَثَةُ لأَنَّ مِلكَهُ سَبَقَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لمُزَاحَمَتِهِ بِالنَّقْصِ فَيَخْتَصُّ بِهِ كَمَا لوْ لمْ يَتْلفْ المَال إلا بَعْدَ قَبُولهِ , وَعَلى ذَلكَ خَرَّجَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَغَيْرُهُ كَلامَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ , وَالأَوَّل أَصَحُّ لأَنَّ المُوصَى لهُ تَمَكَّنَ مِنْ أَخَذَ العَيْنِ المُوصَى بِهَا مَعَ حُضُورِ التَّرِكَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهَا بِغَيْرِ خِلافٍ وَلوْ لمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِمْ إلا بِالقَبْضِ لمْ يُمْكِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ العَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ ثُلثِهَا وَتَوَقَّفَ قَبْضُ البَاقِي عَلى قَبْضِ الوَرَثَةِ فَكُلمَا قَبَضُوا شَيْئًا أَخَذَ مِنْ المُوصَى بِهِ بِقَدْرِ ثُلثِهِ كَمَا لوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ دَيْنًا أَوْ غَائِبًا لا يُتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَحْصُل بِسَبَبِ الآدَمِيِّ يَتَرَتَّبُ عَليْهِ المِلكُ فَإِنْ كَانَ حِيَازَةَ مُبَاحٍ كَالاحْتِشَاشِ وَالاحْتِطَابِ وَالاغْتِنَامِ وَنَحْوِهَا فَلا إشْكَال وَلا ضَمَانَ هُنَا عَلى أَحَدٍ سِوَاهُ , وَلوْ وُكِّل فِي ذَلكَ أَوْ شَارَكَ فِيهِ دَخَل فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ وَالوِكَالةِ وَكَذَلكَ اللقَطَةُ بَعْدَ الحَوْل لأَنَّهَا فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ تَعَيَّنَ مَالهُ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ فَلا يَتَعَيَّنُ فِي المَذْهَبِ المَشْهُورِ إلا بِالقَبْضِ , وَعَلى القَوْل الآخَرِ يَتَعَيَّنُ بِالإِذْنِ فِي القَبْضِ فَالمُعْتَبَرُ حُكْمُ ذَلكَ الإِذْنِ.
القاعدة الثانية والخمسون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَة وَالخَمْسُونَ:فِي التَّصَرُّفِ فِي المَمْلوكَاتِ قَبْل قَبْضِهَا: وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلى عُقُودٍ وَغَيْرِهَا فَالعُقُودُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: عُقُودُ المُعَاوَضَاتِ وَتَنْقَسِمُ إلى بَيْعٍ وَغَيْرِهِ , فَأَمَّا المَبِيعُ فَقَالتْ طَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ التَّصَرُّفُ قَبْل القَبْضِ وَالضَّمَانِ مُتَلازِمَانِ فَإِنْ كَانَ البَيْعُ مَضْمُونًا عَلى البَائِعِ لمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِيهِ للمُشْتَرِي حَتَّى يَقْبِضَهُ وَإِنْ كَانَ قَبْل القَبْضِ مِنْ ضَمَانِ المُشْتَرِي جَازَ لهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ , وَصَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي فِي الجَامِعِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِ.
وَجَعَلوا العِلةَ المَانِعَةَ مِنْ التَّصَرُّفِ تَوَالي الضَّمَانَاتِ.
وَفِي المَذْهَبِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَلازُمٌ بَيْنَ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ وَالضَّمَانُ عَلى البَائِعِ كَمَا فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْل جَدِّهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلى البَائِعِ وَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِي صُبْرَةِ الطَّعَامِ المُشْتَرَاةِ جُزَافًا عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ , وَهِيَ اخْتِيَارُ الخِرَقِيِّ مَعَ أَنَّهَا فِي ضَمَانِ المُشْتَرِي وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الأَكْثَرِينَ مِنْ الأَصْحَابِ فَإِنَّهُمْ حَكَوْا الخِلافَ فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ مَعَ عَدَمِ الخِلافِ فِي كَوْنِهَا مَضْمُونَةً عَلى البَائِعِ , وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلكَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَالخِلافِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول وَالمُفْرَدَاتِ وَالحَلوَانِيُّ وَابْنُهُ وَغَيْرُهُمْ.
وَصَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي النَّظَرِيَّاتِ بِأَنَّهُ لا تَلازُمَ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالتَّصَرُّفِ وَعَلى هَذَا فَالقَبْضُ نَوْعَانِ: قَبْضٌ يُبِيحُ التَّصَرُّفَ وَهُوَ المُمْكِنُ فِي حَال العَقْدِ وَقَبْضٌ يَنْقُل الضَّمَانَ وَهُوَ القَبْضُ التَّامُّ المَقْصُودُ بِالعَقْدِ , وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ الخِلافَ فِيمَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ هَل هُوَ المُبْهَمُ أَوْ جِنْسُ المَكِيل وَالمَوْزُونِ وَإِنْ بِيعَ جُزَافًا أَوْ المَطْعُومِ خَاصَّةً مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُمَا أَوْ المَطْعُومُ المَكِيل أَوْ المَوْزُونُ وَنَقَلهُ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ وَضَعَّفَ القَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَرَجَّحَهَا صَاحِبُ المُغْنِي وَلمْ يَذْكُرُوا فِي الضَّمَانِ ذَلكَ , وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ المَنْعَ مِنْ بَيْعِ جَمِيعِ الأَعْيَانِ قَبْل القَبْضِ مُعَللاً بِأَنَّ العَقْدَ الأَوَّل لمْ يَتِمَّ حَيْثُ بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ التَّسْليمُ فَلا يَرِدُ عَليْهِ عَقْدٌ آخَرُ قَبْل انْبِرَامِهِ وَلمْ يَجْعَل الضَّمَانَ مُلازِمًا لهُ.
وَكَلامُ القَاضِي فِي الجَامِعِ الصَّغِيرِ قَدْ يَتَأَوَّل بِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ المُتَعَيَّنَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل القَبْضِ وَغَيْرَ المُتَعَيَّنِ لا يَجُوزُ ثُمَّ لازَمَ بَعْدَ ذَلكَ بَيْنَ جَوَازِ البَيْعِ وَالضَّمَانِ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلى مَا ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ جَادَّةِ المَذْهَبِ وَهُوَ أَنْ لا ضَمَانَ وَلا مَنْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ إلا فِي المُبْهَمِ خَاصَّةً وَلمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ لا تَلازُمَ بَيْنَ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ أَنَّ المَنَافِعَ المُسْتَأْجَرَةَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا المُسْتَأْجِرُ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلى المُؤَجِّرِ الأَوَّل وَالثَّمَرُ المَبِيعُ عَلى شَجَرِ المَبِيعِ يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلى المَنْصُوصِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلى البَائِعِ الأَوَّل.
وَالمَقْبُوضُ قَبْضًا فَاسِدًا كَالمَكِيل إذَا قُبِضَ جُزَافًا فَانْتَقَل الضَّمَانُ فِيهِ إلى المُشْتَرِي وَلا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ
فِيهِ قَبْل كَيْلهِ وَبَيْعِ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ جَائِزٌ عَلى المَذْهَبِ وَليْسَ مَضْمُونًا عَلى مَالكِهِ وَكَذَلكَ المَالكُ يَتَصَرَّفُ فِي المَغْصُوبِ وَالمُعَارِ وَالمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَضَمَانُهَا عَلى القَابِضِ.
وَالتَّعْليل بِتَوَالي الضَّمَانَيْنِ ضَعِيفٌ لأَنَّهُ لا مَحْذُورَ فِيهِ كَمَا لوْ تَبَايَعَ الشِّقْصَ المَشْفُوعَ جَمَاعَةٌ ثُمَّ انْتَزَعَهُ الشَّفِيعُ مِنْ الأَوَّل , وَكَذَلكَ التَّعْليل بِخَشْيَةِ انْتِقَاصِ المِلكِ بِتَلفِهِ عِنْدَ البَائِعِ يَبْطُل بِالثَّمَرِ المُشْتَرَى فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ وَبِإِجَارَةِ المَنَافِعِ المُسْتَأْجَرَةِ وَبِهَذَا أَيْضًا يُنْتَقَضُ تَعْليل ابْنِ عَقِيلٍ , وَيَبِيعُ الدَّيْنَ مِمَّنْ هُوَ عَليْهِ ; لأَنَّ البَائِعَ وَفَّى عَليْهِ بِالتَّخْليَةِ وَالتَّمْيِيزِ فَلمْ يَبْقَ لهُ عَلقَةٌ فِي العَقْدِ.
وَعَلل أَيْضًا بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ مَا ليْسَ عِنْدَهُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالغَرَرِ لتَعَرُّضِهِ للآفَاتِ , وَهُوَ يَقْتَضِي المَنْعَ فِي جَمِيعِ الأَعْيَانِ.
وَأَشَارَ الإِمَامُ أَحْمَدُ إلى أَنَّ المُرَادَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ رِبْحِ مَا لمْ يَضْمَنْ حَيْثُ كَانَ مَضْمُونًا عَلى بَائِعِهِ فَلا يَرْبَحُ فِيهِ مُشْتَرِيهِ , وَكَأَنَّهُ حَمَل النَّهْيَ عَنْهُ هُوَ الرِّبْحُ عَلى النَّهْيِ عَنْ أَصْل الرِّبْحِ لأَنَّهُ مَظِنَّةُ الرِّبْحِ , وَيَتَخَرَّجُ لهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّبْحِ دُونَ البَيْعِ بِالثَّمَنِ الذِي اشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ مَنَعَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ إجَارَةِ المَنَافِعِ المُسْتَأْجَرَةِ إلا بِمِثْل الأُجْرَةِ لئَلا يَرْبَحَ فِيمَا لمْ يَضْمَنْ وَمَنَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ رِبْحِ مَا اشْتَرَاهُ المُضَارِبُ عَلى وَجْهِ المُخَالفَةِ لرَبِّ المَال لأَنَّهُ ضَامِنٌ لهُ بِالمُخَالفَةِ فَكَرِهَ أَحْمَدُ رِبْحَهُ لدُخُولهِ فِي رِبْحِ مَا لمْ يُضْمَنْ وَأَجَازَ أَصْل البَيْعِ وَأَجَازَ الاعْتِيَاضَ عَنْ ثَمَنِ المَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ لئَلا يَكُونَ رِبْحًا فِيمَا لمْ يَضْمَنْ فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا رِوَايَةٌ أَنَّ كُل مَضْمُونٍ عَلى غَيْرِ مَالكِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ رِبْحٍ وَيَلزَمُ مِثْل ذَلكَ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ الغَرِيمِ وَالتَّمْرِ عَلى رُءُوسِ النَّخْل وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لمْ يَضْمَنْهُ البَائِعُ.
وَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ المَوْهُوبِ قَبْل قَبْضِهِ لا بَأْسَ بِهِ مَا لمْ يَكُنْ للتِّجَارَةِ وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّ المَنْعَ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ هُوَ الرِّبْحُ وَالتَّكَسُّبُ وَلا فَرْقَ فِي ذَلكَ بَيْنَ بَيْعِهِ مِنْ بَائِعِهِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى مَنْعِ بَيْعِهِ مِنْ بَائِعِهِ حَتَّى يَكِيلهُ.
وَاخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِي الإِقَالةِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهَا عَلى الخِلافِ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا أَوْ فَسْخًا , فَإِنْ قِيل: إنَّهَا بَيْعٌ لمْ يَصِحَّ وَإِلا صَحَّتْ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ مَنَعَهَا على الرِّوَايَتَيْنِ بِدُونِ كَيْلٍ ثَانٍ لأَنَّهَا تَجْدِيدُ مِلكٍ , وَيَتَخَرَّجُ لنَا رِوَايَةٌ ثَالثَةٌ بِجَوَازِ البَيْعِ مِنْ البَائِعِ لأَنَّ أَحْمَدَ أَجَازَ فِي رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْهُ بَيْعَهُ مِنْ الشَّرِيكِ الذِي حَضَرَ كَيْلهُ وَعَلمَهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ آخَرَ فَالبَائِعُ أَوْلى.
وَحَكَى القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول فِي كِتَابِ الإِجَارَاتِ رِوَايَةً فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْل القَبْضِ مِنْ بَائِعِهِ خَاصَّةً وَ ذَكَرَ مَأْخَذَهَا , وَهُوَ اخْتِلافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ
طَعَامًا مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا قَبْل قَبْضِهِ , وَهَذَا مُخَالفٌ لمَا ذَكَرْنَاهُ فِي البَيْعِ فَإِنَّهُمَا خَصَّا فِيهِ الرِّوَايَتَيْنِ بِمَا فِي الذِّمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ هَذَا فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالبَيْعِ: وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ العُقُودِ فَقَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ: لا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلا هِبَتُهُ وَلا إجَارَتُهُ قَبْل القَبْضِ كَالبَيْعِ , ثُمَّ ذَكَرَا فِي الرَّهْنِ عَنْ الأَصْحَابِ أَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ قَبْل قَبْضِهِ لأَنَّهُ لا يُؤَدِّي إلى رِبْحِ مَا لمْ يُضْمَنْ بِخِلافِ البَيْعِ , وَفِي هَذَا المَأْخَذِ نَظَراً لأَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لأَنَّهُ يُفْضِي إلى البَيْعِ لكِنَّ تَرْكهُ فِي يَدِ البَائِعِ لا يَطُول غَالبًا وَقَبْضُهُ مُتَيَسِّرٌ فَلذَلكَ يَصِحُّ رَهْنُهُ , وَعَلل ابْنُ عَقِيلٍ المَنْعَ مِنْ رَهْنِهِ لأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ وَلا مُتَمَيِّزٍ وَلا مُتَعَيَّنٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ لإِمْكَانِ تَمْيِيزِهِ وَقَبْضِهِ.
وَعَلل مَرَّةً أُخْرَى فِي الرَّهْنِ وَالهِبَةِ بِأَنَّ القَبْضَ شَرْطٌ لهُمَا فَكَيْفَ يَنْبَنِي عَقْدٌ مَنْ شَرْطُهُ القَبْضُ عَلى عَقْدٍ لمْ يُوجَدْ فِيهِ القَبْضُ.
وَللأَصْحَابِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ بِجَوَازِ رَهْنِهِ عَلى غَيْرِ ثَمَنِهِ حَكَاهُ أَبُو الخَطَّابِ فِيمَا كَانَ مُعَيَّنًا كَالصُّبْرَةِ وَأَظُنُّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ فِي المُبْهَمِ لعَدَمِ تَأَتِّي القَبْضِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فَخَرَجَ مِنْ هَذَا وَجْهَانِ للأَصْحَابِ فِي سَائِرِ العُقُودِ.
وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَطَعَ بِجَوَازِ جَعْلهِ مَهْرًا مُعَللاً بِأَنَّ ذَلكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ يُغْتَفَرُ فِي الصَّدَاقِ وَمِنْهُمْ صَاحِبُ المُحَرَّرِ , وَهَذَا وَجْهٌ ثَالثٌ.
هَذَا كُلهُ فِي المَبِيعِ , فَأَمَّا ثَمَنُهُ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا جَازَ التَّصَرُّفُ قَبْل قَبْضِهِ , سَوَاءٌ كَانَ المَبِيعُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل القَبْضِ أَوْ لا , وَصَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَإِنْ كَانَ مُبْهَمًا لمْ يَجُزْ إلا بَعْدَ تَمْيِيزِهِ , وَإِنْ كَانَ دَيْنًا جَازَ أَنْ يُعَاوِضَ عَنْهُ قَبْل قَبْضِهِ.
ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَلمْ يُخَرِّجَا المُعَاوَضَةَ عَلى الخِلافِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَليْهِ.
وَقَدْ حَكَيَا فِي ذَلكَ رِوَايَتَيْنِ وَالأَكْثَرُونَ أَدْخَلوهُ فِي جُمْلةِ صُوَرِ الخِلافِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى جَوَازِ اقْتِضَاءِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنْ الآخَرِ بِالقِيمَةِ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ.
وَنَقَل عَنْهُ القَاضِي البرتي فِي طَعَامٍ فِي الذِّمَّةِ هَل يَشْتَرِي بِهِ شَيْئًا مِمَّنْ عَليْهِ؟ فَتَوَقَّفَ قَال فَقُلت لهُ: لمَ لا يَكُونُ مِثْل هَذَا اقْتِضَاءُ الوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ فَكَأَنَّهُ أَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَضِّحَهُ إيضَاحًا بَيِّنًا , وَهَذَا يُشْعِرُ أَنَّ اقْتِضَاءَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنْ الآخَرِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلافٍ لحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلكَ , وَالخِلافُ فِي المُعَاوَضَةِ عَنْهُمَا بِغَيْرِهِمَا , وَلمْ يَذْكُرْ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الصَّرْفِ فِي ذَلكَ خِلافًا.
وَالمَعْنَى فِي ذَلكَ أَنَّ النَّقْدَيْنِ لتَقَارُبِهِمَا فِي المَعْنَى أُجْرِيَا مَجْرَى الشَّيْءِ الوَاحِدِ فَأَخْذُ أَحَدِهِمَا عَنْ الآخَرِ ليْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ بَل هُوَ نَوْعُ اسْتِيفَاءٍ , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ قَال: ليْسَ هُوَ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِضَاءٌ وَلذَلكَ لمْ يَجُزْ إلا بِالسِّعْرِ لأَنَّهُ لمَّا كَانَتْ المُمَاثَلةُ فِي القَدْرِ لاخْتِلافِ الجِنْسِ اُعْتُبِرَتْ فِي القِيمَةِ , وَهَذَا المَأْخَذُ هُوَ الذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُغْنِي.
وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ جَعَل مَأْخَذَهُ النَّهْيَ عَنْ رِبْحِ مَا لمْ يَضْمَنْ , وَأَمَّا القَاضِي فَأَجَازَ المُعَاوَضَةَ عَنْ أَحَدِ
النَّقْدَيْنِ بِالآخَرِ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَليْهِ وَتَأَوَّل كَلامَ أَحْمَدَ بِكَلامٍ بَعِيدٍ جِدًّا , وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَرِيقَةَ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الإِجَارَةِ , أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا لمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ لأَجْنَبِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَفِي بَيْعِهِ لمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ رِوَايَتَانِ لأَنَّهُ قَبْل القَبْضِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ , وَهَذَا الكَلامُ فِي التَّصَرُّفِ فِي المَبِيعِ وَعِوَضِهِ فَأَمَّا غَيْرُ المَبِيعِ مِنْ عُقُودِ المُعَاوَضَاتِ فَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُخْشَى انْفِسَاخُ العَقْدِ بِتَلفِهِ قَبْل قَبْضِهِ مِثْل الأُجْرَةِ المُعَيَّنَةِ , وَالعِوَضُ فِي الصُّلحِ بِمَعْنَى البَيْعِ وَنَحْوِهِمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ البَيْعِ فِيمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي المَنَافِعِ المُسْتَأْجَرَةِ فَإِنْ كَانَ بِإِعَارَةٍ وَنَحْوَهَا فَيَجُوزُ لأَنَّ لهُ اسْتِيفَاءَ العِوَضِ بِنَفْسِهِ وَمِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ , وَإِنْ كَانَ بِإِجَارَةٍ صَحَّ أَيْضًا بَعْدَ قَبْضِ العَيْنِ وَلمْ يَصِحَّ قَبْلهَا إلا للمُؤَجِّرِ عَلى وَجْهٍ سَبَقَ.
وَيَصِحُّ إيجَارُهَا بِمِثْل الأُجْرَةِ وَبِأَزْيَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الأُخْرَى يُمْنَعُ بِزِيَادَةٍ لدُخُولهِ فِي رِبْحِ مَا لمْ يُضْمَنْ وَالصَّحِيحُ الجَوَازُ لأَنَّ المَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلى المُسْتَأْجِرِ فِي وَجْهٍ , بِدَليل أَنَّهُ لوْ عَطَّلهَا حَتَّى فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءٍ تَلفَتْ مِنْ ضَمَانِهِ فَهِيَ كَالثَّمَرِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَليْهِ بِإِتْلافِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لا يُخْشَى انْفِسَاخُ العَقْدِ بِهَلاكِهِ قَبْل قَبْضِهِ كَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الخُلعِ وَالعِتْقِ وَالمُصَالحِ بِهِ عَنْ دَمِ العَمْدِ , وَنَحْوِ ذَلكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل القَبْضِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَأَبِي الخَطَّابِ - غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهُ الصَّدَاقَ - وَالسَّامِرِيِّ وَصَاحِبَيْ المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى صِحَّةِ هِبَةِ المَرْأَةِ صَدَاقَهَا قَبْل القَبْضِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِيهِ , وَوَجْهُ ذَلكَ أَنَّ تَلفَ هَذِهِ الأَعْوَاضِ لا تَنْفَسِخُ بِهَا عُقُودُهَا فَلا ضَرَرَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِخِلافِ البَيْعِ وَالإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَمَعَ هَذَا فَصَرَّحَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ بِأَنَّ غَيْرَ المُتَمَيِّزِ فِيهَا مَضْمُونٌ عَلى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ هُنَا وَنَسَبَ إليْهِ صَاحِبُ التَّلخِيصِ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَأَثْبَت الضَّمَانَ وَمَنَعَ التَّصَرُّفَ وَهُوَ وَهْمٌ عَليْهِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ البَيْعِ فَلا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ المُعَيَّنِ مِنْهَا قَبْل القَبْضِ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَقَال: هُوَ قِيَاسُ قَوْل أَصْحَابِنَا وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الفُصُول وَالمُفْرَدَاتِ وَالحَلوَانِيِّ وَالشِّيرَازِيِّ وَصَاحِبِ المُحَرَّرِ , وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ المُغْنِي فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إلحَاقًا لهَا بِسَائِرِ عُقُودِ المُعَاوَضَاتِ , وَلا يَصِحُّ التَّفْرِيقُ بِعَدَمِ الانْفِسَاخِ لأَنَّ الزَّبْرَةَ الحَدِيدَةَ العَظِيمَةَ إذَا اُشْتُرِيَتْ وَزْنًا فَلا يُخْشَى هَلاكُهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا مَمْنُوعٌ , وَمَنَافِعُ الإِجَارَةِ يُخْشَى هَلاكُهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا جَائِزٌ , وَرَجَّحَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الأَوَّل وَلكِنْ بَنَاهُ عَلى أَنَّ عِلةَ مَنْعِ التَّصَرُّفِ الرِّبْحُ فِيمَا لمْ يُضْمَنْ وَهُوَ مُنْتَفٍ هَهُنَا
وَهُوَ أَحَدُ المَآخِذِ للأَصْحَابِ فِي أَصْل المَسْأَلةِ وَعَدَّ القَاضِي فِي هَذَا الضَّرْبِ القَرْضَ وَأَرْشَ الجِنَايَاتِ وَقِيَمَ المُتْلفَاتِ , وَوَافَقَهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَلى قِيَمِ المُتْلفَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ القَرْضَ لا يُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ عَلى مَا جَزَمَ بِهِ فِي المُجَرَّدِ وَقِيَمُ المُتْلفَاتِ يَنْفَسِخُ الصُّلحُ عَنْهَا بِتَلفِ العِوَضِ المَضْمُونِ وَكَذَلكَ أُرُوشُ جِنَايَاتِ الخَطَأِ بِخِلافِ العَمْدِ أَوْ نَحْوِهِ ليْسَ بِعَقْدٍ ليَدْخُلهُ الفَسْخُ ثُمَّ إنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ وَذَلكَ لا يَتَعَيَّنُ فِي الخَارِجِ إلا بِالقَبْضِ عَلى المَذْهَبِ.
وَأَلحَقَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ بِهَذَا أَيْضًا المِلكَ العَائِدَ بِالفَسْخِ قَبْل القَبْضِ وَالاسْتِرْدَادِ لأَنَّهُ لا يُخْشَى انْتِقَاضُ سَبَبِهِ , وَهَذَا مُتَّجِهٌ عَلى الوَجْهِ الأَوَّل الذِي اخْتَارَهُ.
فَأَمَّا الوَجْهُ الثَّانِي: فَإِنْ كَانَ العَقْدُ المُنْفَسِخُ عَنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ صَارَتْ العَيْنُ أَمَانَةً كَالوَدِيعَةِ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْل القَبْضِ , وَإِنْ كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلى الأَشْهَرِ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ لا يُمْنَعَ كَالعَوَارِيِّ وَالغُصُوبِ , لوْ حَجَرَ الحَاكِمُ عَلى المُفْلسِ ثُمَّ عَيَّنَ لكُل غَرِيمٍ عَيْنًا مِنْ المَال بِحَقِّهِ مَلكَهُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الزَّكَاةِ مِنْ المُجَرَّدِ فَعَلى هَذَا يَتَوَجَّهُ أَنْ يَجُوزَ لهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل القَبْضِ.
تَنْبِيهٌ: مَا اُشْتُرِطَ القَبْضُ لصِحَّةِ عَقْدٍ لا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل القَبْضِ لعَدَمِ ثُبُوتِ المِلكِ , وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي المُحَرَّرِ فِي الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلمِ , فَأَمَّا إنْ قِيل بِالمِلكِ بِالعَقْدِ فَقَدْ حَكَى فِي التَّلخِيصِ فِي الصَّرْفِ المُتَعَيَّنِ وَجْهَيْنِ لأَنَّ انْتِفَاءَ القَبْضِ هَهُنَا مُؤَثِّرٌ فِي إبْطَال العَقْدِ , فَلا يَصِحُّ وُرُودُ عَقْدٍ آخَرَ عَليْهِ قَبْل انْبِرَامِهِ , وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ المَنْعُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلمِ وَالعُقُودِ القَهْرِيَّةِ كَالأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يَصِحُّ فِيهَا قَبْل القَبْضِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي التَّلخِيصِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: عُقُودٌ يَثْبُتُ بِهَا المِلكُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَالوَصِيَّةِ وَالهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ , فَأَمَّا الوَصِيَّةُ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بَعْدَ ثُبُوتِ المِلكِ وَقَبْل القَبْضِ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الأَصْحَابِ فِيمَا نَعْلمُهُ , وَسَوَاءٌ كَانَ المُوصَى بِهِ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا , وَسَوَاءٌ قُلنَا لهُ رَدُّ المُبْهَمِ قَبْل القَبْضِ أَوْ لا , لأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي جَوَازِ رَدِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ لازِمٍ مِنْ جِهَتِهِ , وَهَذَا لا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ لأَنَّهَا لازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ المَيِّتِ بِمَوْتِهِ فَهُوَ كَالبَيْعِ المُشْتَرَطِ فِيهِ الخِيَارُ للمُشْتَرِي وَحْدَهُ , وَأَمَّا الهِبَةُ التِي تُمْلكُ بِالعَقْدِ بِمُجَرَّدِهِ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْل القَبْضِ أَيْضًا , وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَليْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ لأَنَّ حَقَّ الوَاهِبِ يَنْقَطِعُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ انْتِقَال مِلكِهِ وَليْسَتْ فِي ضَمَانِهِ فَلا مَحْذُورَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِوَجْهٍ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ الوَاجِبَةُ وَالتَّطَوُّعُ فَالمَذْهَبُ المَنْصُوصُ أَنَّهَا لا تُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ كَمَا سَبَقَ فَلا كَلامَ عَلى هَذَا , وَعَلى التَّخْرِيجِ المَذْكُورِ يَمْلكُهَا بِدُونِ القَبْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالهِبَةِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الحَارِثِ وَابْنِ بُخْتَانَ فِي رَجُلٍ عَليْهِ دَيْنٌ وَيُرِيدُ رَجُلٌ يَقْضِيه عَنْهُ مِنْ زَكَاتِهِ قَال: يَدْفَعُهُ إليْهِ , فَقِيل لهُ هُوَ مُحْتَاجٌ وَيَخَافُ أَنْ يَدْفَعَهُ إليْهِ يَأْكُلهُ قَال يَقُول لهُ حَتَّى يُوَكِّلهُ فَيَقْضِيه عَنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَلكَ الزَّكَاةَ بِالتَّعْيِينِ وَالقَبُول وَجَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا بِالوِكَالةِ قَبْل القَبْضِ , وَكَذَلكَ نَقَل حَنْبَلٌ فِي مَسَائِلهِ أَنَّ أَحْمَدَ ذَكَرَ لهُ قَوْل أَبِي سَلمَةَ: لا بَأْسَ إذَا كَانَ للرَّجُل طَعَامٌ أَمَرَ لهُ بِهِ سُلطَانٌ أَوْ وُهِبَ لهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ وَالعَبْدُ مِثْل ذَلكَ وَالدَّابَّةُ يَبِيعُهَا قَبْل أَنْ يَقْبِضَهَا قَال أَحْمَدُ: لا بَأْسَ بِذَلكَ مَا لمْ يَكُنْ للتِّجَارَةِ , وَقَوْلهُ إذَا لمْ يَكُنْ للتِّجَارَةِ لأَنَّ المَنْعَ مِنْ البَيْعِ إنَّمَا كَانَ لدُخُولهِ فِي رِبْحِ مَا لمْ يُضْمَنْ وَمَا مَلكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلا يُتَصَوَّرُ فِيهِ رِبْحٌ , فَأَمَّا لوْ نَوَى بِتَمَلكِهِ التِّجَارَةَ فَظَاهِرُ كَلامِهِ المَنْعُ لأَنَّهُ جَعَلهُ مِنْ الأَمْوَال المُعَدَّةِ للرِّبْحِ فَامْتَنَعَ بَيْعُهُ قَبْل القَبْضِ.
هَذَا الكَلامُ فِي العُقُودِ فَأَمَّا المِلكُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالمِيرَاثِ وَالغَنِيمَةِ وَالاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَمْوَال الوَقْفِ أَوْ الفَيْءِ للمُتَنَاوِلينَ مِنْهُ كَالمُرْتَزِقَةِ فِي دِيوَانِ الجُنْدِ وَأَهْل الوَقْفِ المُسْتَحِقِّينَ لهُ فَإِذَا ثَبَتَ لهُمْ المِلكُ وَتَعَيَّنَ مِقْدَارُهُ جَازَ لهُمْ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل القَبْضِ بِغَيْرِ خِلافٍ أَيْضًا لأَنَّ حَقَّهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ وَلا عَلاقَةَ لأَحَدٍ مَعَهُمْ وَيَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلةِ يَدِ المُودَعِ وَنَحْوِهِ الأُمَنَاءُ وَأَمَّا قَبْل ثُبُوتِ المِلكِ فَلهُ حَالتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ لا يُوجَدَ سَبَبُهُ فَلا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إشْكَالٍ كَتَصَرُّفِ الوَارِثِ قَبْل مَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَالغَانِمِ قَبْل انْقِضَاءِ الحَرْبِ وَمَنْ لا رَسْمَ لهُ فِي دُيُونِ العَطَاءِ فِي الرِّزْقِ.
وَالثَّانِيَة: بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَقَبْل الاسْتِقْرَارِ كَتَصَرُّفِ الغَانِمِ قَبْل القِسْمَةِ عَلى قَوْلنَا إنَّهُمْ يَمْلكُونَ الغَنِيمَةَ بِالحِيَازَةِ , وَهُوَ المَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَالمُرْتَزِقَةِ قَبْل حُلول العَطَاءِ وَنَحْوِهِ فَقَال ابْنُ أَبِي مُوسَى: لا يَجُوزُ بَيْعُ العَطَاءِ قَبْل قَبْضِهِ وَلا بَيْعُ الصَّكِّ بِعَيْنٍ وَلا وَرِقٍ قَوْلاً وَاحِدًا , وَإِنْ بَاعَهُ بِعُرُوضٍ جَازَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إذَا قَبَضَ العُرُوضَ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الأُخْرَى وَلا يَجُوزُ بَيْعُ المَغَانِمِ قَبْل أَنْ تُقَسَّمَ وَلا الصَّدَقَاتِ قَبْل أَنْ تُقْبَضَ انْتَهَى.
فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِل:
إحْدَاهَا: بَيْعُ العَطَاءِ قَبْل قَبْضِهِ وَهُوَ رِزْقُ بَيْتِ المَال وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى كَرَاهَتِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَقَال هُوَ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ لا يُدْرَى أَيَصِل إليْهِ أَمْ لا أَوْ مَا هُوَ وَقَال مَرَّةً: لا يُدْرَى يُخْرَجُ أَوْ لا وَقَال فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ فِي بَيْعِ الزِّيَادَةِ فِي العَطَاءِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يُدْرِيهِ مَا يُخْرِجُ وَمَتَى يُخْرِجُ؟! لا يَشْتَرِيه وَكَرِهَهُ وَرُبَمَا سَمَّى هَذَا أَيْضًا بَيْعَ الصِّكَاكِ وَنَقَل حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي بَيْعِ الزِّيَادَةِ فِي العَطَاءِ لا بَأْسَ بِهِ بِعَرْضٍ قُلت: وَمَا تَفْسِيرُهُ؟ قَال هُوَ الرَّجُل يُزَادُ فِي
عَطَائِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَيَشْتَرِيهَا بِعَرْضٍ قَال: وَسَأَلتُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّكِّ بِعَرْضٍ قَال: لا بَأْسَ بِهِ وَرَوَى حَرْبٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ بَيْعَ الزِّيَادَةِ فِي العَطَاءِ إلا بِعَرْضٍ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ بِالجَوَازِ قَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيمَا إذَا بَلغَ بَعْدَ حُلول العَطَاءِ لأَنَّهُ وَقْتُ الاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ حِينَئِذٍ دَيْنٌ ثَابِتٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لكن عَلى طَرِيقَتِهِمَا لا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ الغَرِيمِ فَرَجَعَا وَتَأَوَّلا الرِّوَايَةَ عَلى أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلكَ العَرْضَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلى وَقْتِ قَبْضِ العَطَاءِ وَكَانَ وَقْتُهُمَا عِنْدَهُمَا مَعْلومًا أَوْ أَنَّهُ أَحَال بِثَمَنِ العَرْضِ عَلى حَقِّهِ مِنْ العَطَاءِ , وَلا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا التَّأْوِيل لمَنْ تَأَمَّل كَلامَ أَحْمَدَ , وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُ ابْنِ أَبِي مُوسَى بِبَيْعِ العَطَاءِ قَبْل قَبْضِهِ- قَبْل اسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ الصِّكَاكِ.
المَسْأَلةُ الثَّانِيَة: بَيْعُ الصِّكَاكِ قَبْل قَبْضِهَا وَهِيَ الدُّيُونُ الثَّابِتَةُ عَلى النَّاسِ وَتُسَمَّى صِكَاكًا لأَنَّهَا تُكْتَبُ فِي صِكَاكٍ وَهِو مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ الرَّقِّ وَنَحْوِهِ فَيُبَاعُ مَا فِي الصَّكِّ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا وَبِيعَ بِنَقْدٍ لمْ يَجُزْ بِلا خِلافٍ لأَنَّهُ صُرِفَ بِنَسِيئَةٍ وَإِنْ بِيعَ بِعَرْضٍ وَقَبَضَهُ فِي المَجْلسِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لا يَجُوزُ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي بَيْعِ الصَّكِّ هُوَ غَرَرٌ , وَنَقَل أَبُو طَالبٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَقَال: الصَّكُّ لا يُدْرَى أَيُخْرَجُ أَوْ لا , وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّ مُرَادَهُ الصَّكُّ مِنْ عَطَاءِ الدِّيوَانِ.
وَالثَّانِيَة: الجَوَازُ نَصَّ عَليْهِمَا فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَحَنْبَلٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الحَكَمِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَطَاءِ وَقَال: الصَّكُّ إنَّمَا يَحْتَال عَلى رَجُلٍ وَهُوَ يُقِرُّ بِدَيْنٍ عَليْهِ وَالعَطَاءُ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ لا يَدْرِي أَيَصِل إليْهِ أَمْ لا؟ وَكَذَلكَ نَقَل حَنْبَلٌ عَنْهُ فِي الرَّجُل يَشْتَرِي الصَّكَّ عَلى الرَّجُل بِالدَّيْنِ قَال: لا بَأْسَ بِهِ بِالعَرْضِ إذَا خَرَجَ وَلا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ يَعْنِي مُشْتَرِيَهُ , وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لمْ يَجْعَلهُ مِنْ ضَمَانِ مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ القَبْضِ وَلا أَبَاحَ لهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ لأَنَّهُ بِمَنْزِلةِ المَنَافِعِ وَالثَّمَرِ فِي شَجَرِهِ , حَاصِل هَذَا يَرْجِعُ إلى جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ الغَرِيمِ وَقَدْ نَصَّ عَلى جَوَازِهِ كَمَا تَرَى.
المَسْأَلةُ الثَّالثَةُ: بَيْعُ المَغَانِمِ قَبْل أَنْ تُقَسَّمَ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى كَرَاهَتِهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِ وَعَللهُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ بِأَنَّهُ لا يَدْرِي مَا يُصِيبُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَجْهُول القَدْرِ وَالعَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِلكُهُ ثَابِتًا عَليْهِ لكِنَّ الإِمَامَ لهُ أَنْ يَخُصَّ كُل وَاحِدٍ بِعَيْنٍ مِنْ الأَعْيَانِ بِخِلافِ قِسْمَةِ المِيرَاثِ.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَال جَابِرٌ: "أَكْرَهُ بَيْعَ الخُمْسِ مِنْ قَبْل أَنْ يُقَسَّمَ" وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ البَاهِليُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ - يَعْنِي - العَبْدِيَّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَال: قَال رَسُول اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: "لا تَشْتَرُوا الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ وَالمَغَانِمَ حَتَّى تُقَسَّمَ" أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ ماجه وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ صَالحٌ لا بَأْسَ بِهِ وَالبَاهِليُّ بَصْرِيٌّ مَجْهُولٌ وَشَهْرٌ-بن حَوْشَبٍ- حَالهُ مَشْهُورٌ
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ قَال: "لا يَحِل لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَبِيعَ مَغْنَمًا حَتَّى يُقَسَّمَ" وَفِي الحَدِيثِ طُولٌ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ وَحَسَّنَهُ, وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ ; عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ "نَهَى عَنْ بَيْعِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّمَ" وَخَرَّجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ "نَهَى عَنْ بَيْعِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّمَ" –مُرْسَلٌ- وَهَذَا فِي حَقِّ آحَادِ الجَيْشِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ سَوَاءٌ بَاعَهُ قَبْل القَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ لأَنَّهُ قَبْل القَبْضِ مَجْهُولٌ وَبَعْدَهُ تَعَدٍّ وَغُلولٌ فَإِنَّهُ لا يُسْتَبَدُّ بِالقِسْمَةِ دُونَ الإِمَامِ وَأَمَّا الإِمَامُ فَإِذَا رَأَى المَصْلحَةَ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ الغَنِيمَةِ وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ فَلهُ ذَلكَ
المَسْأَلةُ الرَّابِعَةُ: بَيْعُ الصَّدَقَاتِ قَبْل أَنْ تُقْبَضَ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لا تُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ "نَهَى أَنْ تُبَاعَ الصَّدَقَةُ حَتَّى تُعْتَقَل وَتُوسَمَ" وَعَنْ يَحْيَى بْنِ العَلاءِ البَجَليِّ عَنْ خَثْعَمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَال: "نَهَى رَسُول اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ عَنْ بَيْعِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ" وَهَذَا المُرْسَل أَشْبَهُ مِنْ المُسْنَدِ السَّابِقِ.
فَأَمَّا عَلى القَوْل بِمِلكِهَا بِمُجَرَّدِ القَبُول إذَا تَعَيَّنَتْ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَقَدْ مَرَّ نَصَّ أَحْمَدَ بِجَوَازِ التَّوْكِيل فِيهَا , وَهُوَ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فَقِيَاسُهُ سَائِرُ الصَّدَقَاتِ , وَتَكُونُ حِينَئِذٍ كَالهِبَةِ المَمْلوكَةِ بِالعَقْدِ , وَأَمَّا إذَا عَيَّنَهَا المَالكُ مِنْ مَالهِ وَأَفْرَدَهَا فَلا يَصِيرُ بِذَلكَ صَدَقَةً وَلا يَخْرُجُ عَنْ مِلكِهِ بِدُونِ قَبْضِ المُسْتَحِقِّ أَوْ قَبُولهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّهَا إذَا تَلفَتْ بَعْدَ تَعَيُّنِهَا لمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ فَاسْتَحَبَّ إمْضَاءَهَا وَكَرِهَ الرُّجُوعَ فِيهَا , وَنُقِل عَنْهُ مَا يَدُل عَلى خُرُوجِهَا عَنْ مِلكِهِ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ.
وَنَقَل عَبْدُ اللهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُل شَيْءٍ جَعَلهُ الرَّجُل للهِ يُمْضِيهِ وَلا يَرْجِعُ فِي مَالهِ , وَذَلكَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ مِلكِهِ فَليْسَ هُوَ لهُ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ صِلةِ رَحِمٍ وَإِنْ كَانَ قَليلاً أَمْضَاهُ.
وَنَقَل عَنْهُ جَيْشُ بْنُ سِنْدِيٍّ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فَقَال لهُ تَصَدَّقْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ثُمَّ إنَّ الدَّافِعَ جَاءَ فَقَال رُدَّ إليَّ الدَّرَاهِمَ , مَا يَصْنَعُ المَدْفُوعُ يَرُدُّهَا عَليْهِ؟ قَال: لا يَرُدُّهَا عَليْهِ يُمْضِيهَا فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ , وَنَقَل جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَعْنَاهُ وَحَمَل القَاضِي ذَلكَ عَلى الاسْتِحْبَابِ.
وَقَال ابْنَ عَقِيلٍ: لا أَعْلمُ للاسْتِحْبَابِ وَجْهًا وَهُوَ كَمَا قَال وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَمَا يَقُول فِي الهَدْيِ وَالأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالقَوْل بِلا خِلافٍ , وَفِي تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ وَجْهَانِ فَإِذَا قَال: هَذِهِ صَدَقَةٌ تَعَيَّنَتْ وَصَارَتْ فِي حُكْمِ المَنْذُورَةِ وَصَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ لكِنْ هَل ذَلكَ إنْشَاءٌ للنَّذْرِ أَوْ إقْرَارٌ؟ فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ الأَصْحَابِ , وَإِذَا عَيَّنَ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَجْعَلهَا صَدَقَةً وَعَزَلهَا عَنْ مَالهِ فَهُوَ كَمَا اشْتَرَى شَاةً يَنْوِي التَّضْحِيَةَ بِهَا , وَلا يَلزَمُ مِنْ
ذَلكَ سُقُوطُ الزَّكَاةِ عَنْهُ بِتَلفِهَا قَبْل قَبْضِ المُسْتَحِقِّ أَوْ الإِمَامِ لأَنَّا إنْ قُلنَا الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ كَمَا لوْ عَيَّنَ عَنْ الهَدْيِ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ هَدْيًا فَعَطِبَ فَإِنَّهُ يَلزَمُهُ إبْدَالهُ وَإِنْ قُلنَا فِي العَيْنِ فَلا يَبْرَأُ مِنْهَا لفَوَاتِ قَبْضِ المُسْتَحِقِّ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِيصَالهُ أَيْضًا وَاجِبٌ عَليْهِ فَلا يَبْرَأُ بِدُونِهِ , وَلا يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّمْيِيزِ وَلوْ حَصَل التَّمْكِينُ مِنْ القَبْضِ مَنْ فِعْل الدَّفْعِ وَاجِبٌ عَليْهِ فَكَيْفَ إذَا لمْ يَحْصُل التَّمْكِينُ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
القاعدة الثالثة والخمسون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالخَمْسُونَ:مَنْ تَصَرَّفَ فِي عَيْنٍ تَعَلقَ بِهَا حَقٌّ للهِ تَعَالى أَوْ لآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ إنْ كَانَ الحَقُّ مُسْتَقِرًّا فِيهَا بِمُطَالبَةِ مَنْ لهُ الحَقُّ بِحَقِّهِ أَوْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ لمْ يَنْفُذْ التَّصَرُّفُ وَلمْ يُوجَدْ سِوَى تَعَلقِ الحَقِّ لاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا صَحَّ التَّصَرُّفُ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ , وَقِيَاسُ قَوْل أَبِي بَكْرٍ لا يَصِحُّ وَقْفُ الشَّفِيعِ وَلا رَهْنُ الجَانِي , وَكَلامُهُ فِي الشَّافِي يَدُل عَلى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ لا يَصِحُّ فِي قَدْرِهَا , وَكَذَلكَ اخْتَارَ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ أَنَّهُ لا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِي الجَانِي بِالبَيْعِ لتَعَلقِ الحَقِّ بِعَيْنِهِ فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ كَانَ افْتِكَاكًا وَسَقَطَ الحَقُّ المُتَعَلقُ بِهِ كَمَا لوْ وَفَّى دَيْنَ الرَّهْنِ وَالمَذْهَبُ الأَوَّل , وَهُوَ الفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ اسْتِحْقَاقٌ يَتَعَلقُ بِالعَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلى الثُّبُوتِ مُقْتَضَاهُ بِالأَخْذِ بِالحَقِّ أَوْ بِالمُطَالبَةِ بِهِ فَالأَوَّل مَلكَ أَنْ يَتَمَلك وَالثَّانِي يَمْلكُ أَوْ طَالبَ بِحَقِّهِ الذِي لا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُ , وَهُوَ شَبِيهٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ المُفْلسِ قَبْل الحَجْرِ عَليْهِ وَبَعْدَهُ , فَالفَلسُ مُقْتَضٍ للحَجْرِ وَالمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ , وَلا يَثْبُتُ ذَلكَ إلا بِالمُطَالبَةِ وَالحُكْمِ وَيَتَخَرَّجُ عَلى هَذِهِ القَاعِدَةِ مَسَائِل كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: التَّصَرُّفُ فِي المَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لا سِرَايَةَ لهُ لا يَصِحُّ لأَنَّ المُرْتَهِنَ أَخَذَ بِحَقِّهِ فِي الرَّهْنِ مِنْ التَّوْثِيقِ وَالحَبْسِ وَقَبَضَهُ وَحُكِمَ لهُ بِهِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلى الرَّهْنِ كَغُرَمَاءِ المُفْلسِ المَحْجُورِ عَليْهِ , فَأَمَّا العِتْقُ فَإِنَّمَا نَفَذَ لقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ كَمَا نَفَذَ حَجُّ المَرْأَةِ وَالعَبْدِ بِدُونِ إذْنِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ حَتَّى أَنَّهُمَا لا يَمْلكَانِ تَحْليلهُمَا عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَقُوَّةِ الإِحْرَامِ وَلزُومِهِ , وَلهَذَا يَنْعَقِدُ مَعَ فَسَادِهِ وَيَلزَمُ إتْمَامُهُ.
وَمِنْهَا: الشَّفِيعُ إذَا طَالبَ بِالشُّفْعَةِ لا يَصِحُّ تَصَرُّفُ المُشْتَرِي بَعْدَ طَلبِهِ لأَنَّ حَقَّهُ تَقَرَّرَ وَثَبَتَ , وَقَبْل المُطَالبَةِ إنَّمَا كَانَ لهُ أَنْ يَتَمَلكَ وَالمُطَالبَةُ إمَّا تَمَلكٌ -عَلى رَأْيِ القَاضِي- وَإِمَّا مُؤْذِنَةٌ بِالتَّمَلكِ وَمَانِعَةٌ للمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ ; إذْ تَصَرُّفُ المُشْتَرِي إنَّمَا كَانَ نَافِذًا لتَرْكِ الشَّفِيعِ الاحْتِجَارَ عَليْهِ
وَالأَخْذَ بِحَقِّهِ وَقَدْ زَال فَإِنْ نَهَى الشَّفِيعُ المُشْتَرِيَ عَنْ التَّصَرُّفِ وَلمْ يُطَالبْ بِهَا لمْ يَصِرْ المُشْتَرِي مَمْنُوعًا , بَل تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ عَلى قَوْلنَا هِيَ عَلى الفَوْرِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَمِنْهَا: إذَا حَل الدَّيْنُ عَلى الغَرِيمِ وَأَرَادَ السَّفَرَ فَإِنْ مَنَعَهُ غَرِيمُهُ مِنْ ذَلكَ لمْ يَجُزْ لهُ السَّفَرُ , وَإِنْ فَعَلهُ كَانَ عَاصِيًا بِهِ لأَنَّهُ حَبَسَهُ وَلهُ وِلايَةُ حَبْسِهِ لاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَالمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ وَإِنْ لمْ يَمْنَعْهُ فَهَل لهُ الإِقْدَامُ عَلى السَّفَرِ؟ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لأَنَّ الحَبْسَ عُقُوبَةٌ لا يَتَوَجَّهُ بِدُونِ الطَّلبِ وَالالتِزَامِ.
وَالثَّانِي: لا لأَنَّهُ يَمْنَعُ بِسَفَرِهِ حَقًّا وَاجِبًا عَليْهِ لثُبُوتِ الحَبْسِ فِي حَقِّهِ بَل لمَا يَلزَمُ فِي سَفَرِهِ مِنْ تَأْخِيرِ الحَقِّ الوَاجِبِ عَليْهِ.
وَمِنْهَا: المُفْلسِ إذَا طَلبَ البَائِعُ مِنْهُ سِلعَتَهُ التِي يَرْجِعُ بِهَا قَبْل الحَجْرِ لمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ نَصَّ عَليْهِ.
قَال إسْمَاعِيل بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلت أَحْمَدَ عَنْ المُفْلسِ هَل يَجُوزُ فِعْلهُ فِيمَا اشْتَرَى قَبْل أَنْ يُطَالبَ البَائِعَ مِنْهُ بِمَا بَايَعَ المُشْتَرِيَ عَليْهِ؟ فَقَال: إنْ أَحْدَثَ فِيهِ المُشْتَرِي عِتْقًا أَوْ بَيْعًا أَوْ هِبَةً فَهُوَ جَائِزٌ مَا لمْ يُطَالبْ البَائِعُ , وَذَلكَ أَنَّ الحَدِيثَ قَال: "هُوَ أَحَقُّ بِهِ" فَلا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ إلا بِالطَّلبِ فَلعَلهُ أَنْ لا يُطَالبَهُ قُلت: أَرَأَيْت إنْ طَلبَهُ فَلمْ يَدْفَعْهُ إليْهِ؟ قَال: فَلا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلا هِبَتُهُ وَلا صَدَقَتُهُ بَعْدَ الطَّلبِ وَنَقَل عَنْهُ إسْمَاعِيل أَيْضًا كَلامًا يَدُل عَلى أَنَّ مُطَالبَةَ البَائِعِ تَثْبُتُ إمَّا بِتَفْليسِ الحَاكِمِ أَوْ بِاشْتِهَارِ فَلسِهِ بَيْنَ النَّاسِ , وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الزبداني أَنَّ اشْتِهَارَ فَلسِهِ بِظُهُورِ أَمَارَاتِهِ يَمْنَعُ نُفُوذَ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلقًا.
وَمِنْهَا: لوْ وُجِدَ مُضْطَرًّا وَعِنْدَهُ طَعَامٌ فَاضِلٌ فَبَادَرَ فَبَاعَهُ أَوْ رَهَنَهُ هَل يَصِحُّ؟ قَال أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ: فِي الرَّهْنِ يَصِحُّ , وَيَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ مِنْ يَدِ المُرْتَهِنِ وَالبَائِعُ مِثْلهُ , ولمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَا قَبْل الطَّلبِ وَبَعْدَهُ , وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ البَيْعُ بَعْدَ الطَّلبِ لوُجُوبِ الدَّفْعِ بَل وَلوْ قِيل: لا يَصِحُّ بَيْعُهُ مُطْلقًا مَعَ عِلمِهِ بِاضْطِرَارِهِ لمْ يَبْعُدْ لأَنَّ بَذْلهُ لهُ وَاجِبٌ بِالثَّمَنِ فَهُوَ كَمَا لوْ طَالبَ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ وَأَوْلى , لأَنَّ هَذَا يَجِبُ بَذْلهُ ابْتِدَاءً لإِحْيَاءِ النَّفْسِ , وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الشَّفِيعَ حَقُّهُ مُتَعَيَّنٌ فِي عَيْنِ الشِّقْصِ , وَهَذَا حَقُّهُ فِي سَدِّ الرَّمَقِ , وَلهَذَا كَانَ إطْعَامُهُ فَرْضًا عَلى الكِفَايَةِ فَإِذَا نَقَلهُ إلى غَيْرِهِ تَعَلقَ الحَقُّ بِذَلكَ الغَيْرِ وَوَجَبَ البَدَل عَليْهِ وَأَمَّا مَا تَعَلقَ بِهِ حَقٌّ مُجَرَّدٌ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَسَائِل مُتَعَدِّدَةٌ.
مِنْهَا: بَيْعُ النِّصَابِ بَعْدَ الحَوْل فَإِنَّهُ يَصِحُّ نَصَّ عَليْهِ لأَنَّ الوُجُوبَ إنْ كَانَ مُتَعَلقًا بِالذِّمَّةِ وَحْدَهَا فَلا إشْكَال وَإِنْ كَانَ فِي العَيْنِ وَحْدَهَا فَليْسَ بِمَعْنَى للشَّرِكَةِ وَلا بِمَعْنَى انْحِصَارِ الحَقِّ فِيهَا , وَلا تَجُوزُ المُطَالبَةُ بِالإِخْرَاجِ مِنْهَا عَيْنًا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا , فَلا يَتَوَجَّهُ انْحِصَارُ الاسْتِحْقَاقِ فِيهَا بِحَالٍ.
وَمِنْهَا: بَيْعُ الجَانِي يَصِحُّ فِي المَنْصُوصِ وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الأَصْحَابِ , وَسَوَاءٌ طَالبَ المَجْنِيُّ عَليْهِ بِحَقِّهِ أَمْ لا لأَنَّ حَقَّهُ ليْسَ فِي مِلكِ العَبْدِ , وَلوْ كَانَ كَذَلكَ لمَلكَهُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا وَجَبَ لهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ وَلمْ نَجْدِ مَحَلاً يَتَعَلقُ بِهِ الوُجُوبُ سِوَى رَقَبَةِ العَبْدِ الجَانِي فَانْحَصَرَ الحَقُّ فِيهَا بِمَعْنَى الاسْتِيفَاءِ مِنْهَا فَإِنْ رَضِيَ المَالكُ بِبَذْلهِ جَازَ وَإِلا فَإِنَّمَا لهُ أَقَل الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الجَانِي أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ فَإِنَّهُمَا بَدَلٌ لزِمَ قَبُولهُ وَالمُطَالبَةُ مِنْهُ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ بِحَقِّهِ وَحَقُّهُ هُوَ أَرْشُ الجِنَايَةِ لا مِلكُ رَقَبَةِ العَبْدِ عَلى الصَّحِيحِ فَلا يَتَوَجَّهُ المَنْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ لأَنَّ تَسْليمَهُ إليْهِ لمْ يَتَعَيَّنْ.
وَمِنْهَا: مَنْ مَلكَ عَبْدًا مِنْ الغَنِيمَةِ ثُمَّ ظَهَرَ سَيِّدُهُ وَقُلنَا: حَقُّهُ ثَابِتٌ فِيهِ بِالقِيمَةٍ فَبَاعَهُ المُغْتَنِمُ قَبْل أَخْذِ سَيِّدِهِ صَحَّ وَيَمْلكُ السَّيِّدُ انْتِزَاعَهُ مِنْ الثَّانِي , وَكَذَلكَ لوْ رَهَنَهُ صَحَّ وَيَمْلكُ السَّيِّدُ انْتِزَاعَهُ مِنْ المُرْتَهِنِ ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ وَلمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يُطَالبَ بِأَخْذِهِ أَوْ لا وَالأَظْهَرُ أَنَّ المُطَالبَةَ تَمْنَعُ التَّصَرُّفَ كَالشُّفْعَةِ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ الوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ المُعَلقِ بِهَا حَقُّ الغُرَمَاءِ وَفِي صِحَّتِهْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ وَعَلى المَنْعِ يَنْفُذُ بِالعِتْقِ كَالرَّهْنِ , وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ أَنَّهُ لا يَنْفُذُ إلا مَعَ يَسَارِهِمْ لأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ تَبَعٌ لتَصَرُّفِ المُوَرِّث فِي مَرَضِهِ , وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلى قَوْلنَا: إنَّ حَقَّ الغُرَمَاءِ تَعَلقَ بِالتَّرِكَةِ فِي المَرَضِ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ الزَّوْجَةِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلاقِ إذَا قُلنَا لمْ يَدْخُل فِي مِلكِ الزَّوْجِ قَهْرًا , قَال صَاحِبُ التَّرْغِيبِ: يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ لتَرَدُّدِهِ بَيْنَ خِيَارِ البَيْعِ وَبَيْنَ خِيَارِ الوَاهِبِ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ مَنْ وَهَبَهُ المَرِيضُ مَالهُ كُلهُ فِي مَرَضِهِ قَبْل مَوْتِهِ فَيَجُوزُ وَيَنْفُذُ حَتَّى لوْ كَانَ أَمَةً كَانَ لهُ وَطْؤُهَا , ذَكَرَهُ القَاضِي وَحْدَهُ فِي خِلافِهِ وَاسْتَبْعَدَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلى إجَازَةِ الوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ قَبْلهَا , وَقَدْ يُقَال هُوَ فِي الظَّاهِرِ مَلكَهُ بِالقَبْضِ وَمَوْتِ الوَاهِبِ , وَانْتِقَال الحَقِّ إلى الوَرَثَةِ مَظْنُونٌ فَلا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ.
وَأَمَّا تَصَرُّفُ المُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الخِيَارِ لهُ وَللبَائِعِ فَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى إمْضَاءِ البَيْعِ , وَكَذَلكَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي خِلافِهِ لأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالصِ مِلكِهِ , وَلمْ يَتَعَلقْ بِهِ سِوَى حَقِّ البَائِعِ فِي الفَسْخِ وَقَدْ زَال , فَأَشْبَهَ تَصَرُّفَ الابْنِ فِيمَا وَهَبَهُ لهُ الأَبُ غَيْرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الابْنِ لا يَقِفُ عَلى إمْضَاءِ الأَبِ ; لأَنَّ حَقَّ الأَبِ فِي الفَسْخِ يَسْقُطُ بِانْتِقَال المِلكِ , وَلأَنَّ تَسَلطَ الأَبِ عَلى الرُّجُوعِ لمْ يَكُنْ لبَقَاءِ أَثَرِ مِلكِهِ , بَل هُوَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ مَعَ ثُبُوتِ مِلكِ الوَلدِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَلا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ.
وَطُرِدَ هَذَا فِي كُل مَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلكِهِ وَقَدْ تَعَلقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ لا يَبْطُل مِنْ أَصْلهِ كَتَصَرُّفِ المَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلى ثُلثِ مَالهِ فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلى إمْضَاءِ الوَرَثَةِ , وَعِتْقُ المُكَاتِبِ لرَقِيقِهِ يَقِفُ عَلى تَمَامِ مِلكِهِ , ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الخِلافِ , وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ فِي مَسْأَلةِ إجَازَةِ الوَرَثَةِ أَنَّ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ يَصِحُّ وَيَقِفُ عَلى إجَازَةِ المُرْتَهِنِ , وَذَكَرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَنَّ هَذَا قَوْل مَنْ يَقُول بِوَقْفِ تَصَرُّفِ الفُضُوليِّ وَذَكَرَ أَبُو الخَطَّابِ أَيْضًا أَنَّ تَصَرُّفَ المُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ المَشْفُوعِ يَقِفُ عَلى إجَازَةِ الشَّفِيعِ.
القاعدة الرابعة والخمسون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَة وَالخَمْسُونَ:مَنْ ثَبَتَ لهُ حَقٌّ فِي عَيْنٍ وَسَقَطَ بِتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهَا , فَهَل يَجُوزُ للمُتَصَرِّفِ فِيهَا الإِقْدَامُ عَلى التَّصَرُّفِ المُسْقِطِ لحَقِّ غَيْرِهِ قَبْل اسْتِئْذَانِهِ أَمْ لا؟ هَذَا عَلى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الحَقُّ الذِي يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ قَدْ أَخَذَ بِهِ صَاحِبُهُ وَتَمَلكَهُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَدْ طَالبَ بِهِ صَرِيحًا أَوْ إيمَاءً.
الذِينَ أَنْ يَثْبُتَ لهُ الحَقُّ شَرْعًا وَلمْ يَأْخُذْ بِهِ وَلمْ يُطَالبْ بِهِ.
فَأَمَّا الأَوَّل: فَلا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّهِ وَلوْ ضَمِنَهُ بِالبَدَل كَعِتْقِ العَبْدِ المَرْهُونِ إذَا قُلنَا بِنُفُوذِهِ عَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ , فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ , ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الأَصْحَابِ مِنْهُمْ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الكَافِي مَعَ أَنَّ عِتْقَهُ يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِ يَكُونُ رَهْنًا لأَنَّ فِيهِ إسْقَاطًا لحَقِّهِ القَائِمِ فِي العَيْنِ بِغَيْرِ رِضَاهُ , وَكَذَلكَ إخْرَاجُ الرَّهْنِ بِالاسْتِيلادِ مُحَرَّمٌ وَلأَجْلهِ مَنَعْنَا أَصْل الوَطْءِ , وَكَذَلكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِتْقُ المُفْلسِ المَحْجُورِ عَليْهِ إذَا نَفَّذْنَاهُ لأَنَّ غُرَمَاءَهُ قَدْ قَطَعُوا تَصَرُّفَهُ فِيهِ بِالحَجْرِ وَتَمَلكُوا المَال وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي تَبْذِيرِهِ قَبْل الحَجْرِ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّ ظَاهِرَ كَلامِ أَحْمَدَ جَوَازُ عِتْقِ الرَّاهِنِ كَاقْتِصَاصِهِ مِنْ أَحَدِ عَبِيدِهِ المَرْهُونِينَ إذَا قَتَلهُ الآخَرُ وَلمْ يَذْكُرْ لذَلكَ نَصًّا , وَلعَلهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلهِ بِنُفُوذِ العِتْقِ وَلا يَدُل.
وَأَمَّا اقْتِصَاصُ الرَّاهِنِ مِنْ العَبْدِ المَرْهُونِ أَوْ مِنْ قَاتِلهِ , وَقَدْ صَرَّحَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتًا لحَقِّ المُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ أَوْ قِيمَتِهِ الوَاجِبَةِ لهُ وَوَاجِبًا عَلى الرَّاهِنِ قِيمَتُهُ تَكُونُ رَهْنًا.
وَصَرَّحَا أَيْضًا بِأَنَّ العِتْقَ هَهُنَا لا يَجُوزُ وَإِنَّمَا ذَكَرَا جَوَازَهُ فِي مَسْأَلةِ العِتْقِ وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ جَوَازُ القِصَاصِ فَيَكُونُ الفَرْقُ بَيْنَ القِصَاصِ وَالعِتْقِ أَنَّ وُجُوبَ القِصَاصِ تَعَلقَ بِالعَبْدِ تَعَلقًا يُقَدَّمُ بِهِ عَلى حَقِّ المُرْتَهِنِ بِدَليل أَنَّ حَقَّ الجَانِي مُقَدَّمٌ عَلى المُرْتَهِنِ لانْحِصَارِ حَقِّهِ فِيهِ بِخِلافِ المُرْتَهِنِ وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي العِتْقِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلا يَجُوزُ أَيْضًا , وَمِنْهُ خِيَارُ البَائِعِ المُشْتَرَطِ فِي العَقْدِ لا يَجُوزُ للمُشْتَرِي إسْقَاطُهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي المَبِيعِ , وَإِنْ قُلنَا إنَّ المِلكَ لهُ فَإِنْ اشْتِرَاطَهُ الخِيَارَ فِي العَقْدِ تَعْرِيضٌ بِالمُطَالبَةِ بِالفَسْخِ.
وَأَمَّا الثَّالثُ: فَفِيهِ خِلافٌ , وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَيْضًا , وَلهَذَا لا يَجُوزُ إسْقَاطُ خِيَارِهِ الثَّابِتِ فِي المَجْلسِ بِالعِتْقِ وَلا غَيْرِهِ كَمَا لوْ اشْتَرَطَهُ.
وَيَنْدَرِجُ فِي صُوَرِ الخِلافِ مَسَائِل:
مِنْهَا: مُفَارَقَةُ أَحَدِ المُتَبَايِعَيْنِ الآخَرَ فِي المَجْلسِ بِغَيْرِ إذْنِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَفْسَخَ الآخَرُ , وَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ ; لفِعْل ابْنِ عُمَرَ.
وَالثَّانِيَة: لا يَجُوزُ ; لحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ قَال: "لا يَحِل لهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلهُ".
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي.
وَمِنْهَا تَصَرُّفُ المُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ المَشْفُوعِ بِالوَقْفِ قَبْل الطَّلبِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلى الخِلافِ فِي التِي قَبْلهَا , وَصَرَّحَ القَاضِي بِجَوَازِهِ , وَظَاهِرُ كَلامِهِ فِي مَسْأَلةِ التَّحَيُّل عَلى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ تَحْرِيمُهُ وَهُوَ الأَظْهَرُ , وَيَدُل عَليْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الشَّرِيكِ حَتَّى يَعْرِضَ عَلى شَرِيكِهِ ليَأْخُذَ أَوْ يَذَرَ" مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مِنْ الأَخْذِ لا يَسْقُطُ بِذَلكَ , فَأَوْلى أَنْ يَنْهَى عَمَّا يُسْقِطُ حَقَّهُ بِالكُليَّةِ.
وَمِنْهَا: وَطْءُ العَبْدِ زَوْجَتَهُ الأَمَةَ إذَا عَتَقَتْ وَلمْ تَعْلمْ بِالعِتْقِ ليُسْقِطَ اخْتِيَارَهَا للفَسْخِ , الأَظْهَرُ تَخْرِيجُهُ عَلى الخِلافِ, وَقَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ: قِيَاسُ مَذْهَبِنَا جَوَازُهُ وَفِيمَا قَالهُ نَظَرٌ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ الزَّوْجَةِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ إذَا طَلقَ الزَّوْجُ قَبْل الدُّخُول وَقُلنَا لمْ يَمْلكْهُ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ صَرَّحَ بِهِ فِي المُحَرَّرِ.
فَأَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِ المُتَبَايِعَيْنِ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ العِوَضِ إذَا اسْتَحَقَّ الآخَرُ رَدَّ مَا بِيَدِهِ بِعَيْبٍ أَوْ خَلفٍ فِي صِفَةٍ فَيَجُوزُ , ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ لأَنَّ تَصَرُّفَهُ لا يَمْنَعُ حَقَّ الآخَرِ مِنْ رَدِّ مَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَدَّهُ
اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِالعِوَضِ الذِي بَدَّلهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلا رَجَعَ بِبَدَلهِ وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّ للبَائِعِ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ , وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ أَنَّ للبَائِعِ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ إلا أَنْ يَتَّخِذَ حِيلةً عَلى أَنْ يُقْرِضَ غَيْرَهُ مَالاً وَيَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ صُورَةَ البَيْعِ وَيَشْتَرِطُ الخِيَارَ ليَرْجِعَ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ عَلى غَيْرِ وَجْهِ الحِيلةِ فَيَجُوزُ وَلمْ يَمْنَعْهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ.
القاعدة الخامسة والخمسون
القَاعِدَةُ الخَامِسَة وَالخَمْسُونَ:مَنْ ثَبَتَ لهُ حَقُّ التَّمَلكِ بِفَسْخٍ أَوْ عَقْدٍ هَل يَكُونُ تَصَرُّفُهُ فَسْخًا أَمْ لا؟ وَهَل يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ أَمْ لا؟ المَذْهَبُ المَشْهُورُ أَنَّهُ لا يَكُونُ تَمَلكًا , وَلا يَنْفُذُ وَفِي بَعْضِ صُوَرِهَا خِلافٌ , وَمِنْ صُوَرِ المَسْأَلةِ البَائِعُ بِشَرْطِ الخِيَارِ إذَا تَصَرَّفَ فِي المَبِيعِ لمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ فَسْخًا وَلمْ يَنْفُذْ نَصَّ عَليْهِ وَقَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ: لا يَجُوزُ عِتْقُ البَائِعِ لأَنَّهُ غَيْرُ مَالكٍ لهُ فِي ذَلكَ الوَقْتِ إنَّمَا لهُ فِيهِ خِيَارٌ فَإِذَا اخْتَارَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ فَأَمَّا دُونَ أَنْ يَرُدَّ البَيْعَ فَلا.
وَاخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِي المَسْأَلةِ عَلى طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: لا يَكُونُ فَسْخًا رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَنْفَسِخُ بِالقَوْل وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ وَصَاحِبِ المُحَرَّرِ وَهِيَ أَصَحُّ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّ بَيْعَهُ ليْسَ بِفَسْخٍ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيل بْنِ سَعِيدٍ وَنَصَّ عَلى أَنَّهُ إذَا وَطِئَ فَعَليْهِ الحَدُّ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَة: أَنَّ المَسْأَلةَ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبِي الخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي وَرَجَّحَ أَنَّهُ فَسْخٌ لأَنَّ مِلكَ المُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الخِيَارِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَيَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ تَصَرُّفِ البَائِعِ بِخِلافِ بَائِعِ المُفْلسِ فَإِنَّ مِلكَ المُفْلسِ تَامٌّ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالثَةُ: أَنَّ تَصَرُّفَهُ فَسْخٌ بِغَيْرِ خِلافٍ كَمَا أَنَّ تَصَرُّفَ المُشْتَرِي إمْضَاءٌ وَإِبْطَالٌ للخِيَارِ فِي المَنْصُوصِ , وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَالحَلوَانِيِّ فِي الكِفَايَةِ وَهِيَ مُخَالفَةٌ للمَنْصُوصِ وَلا يَصِحُّ اعْتِبَارُ فَسْخِ البَائِعِ بِإِمْضَاءِ المُشْتَرِي لأَنَّ مِلكَ المُشْتَرِي قَائِمٌ وَمِلكَ البَائِعِ مَفْقُودٌ.
وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالوَطْءِ فَسْخٌ بِلا خِلافٍ لأَنَّهُ اخْتِيَارٌ بِدَليل وَطْءِ مَنْ أَسْلمَ عَلى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَبِغَيْرِهِ وَفِيهِ الخِلافُ وَهِيَ طَرِيقَةُ صَاحِبِ الكَافِي وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الوَطْءَ اخْتِيَارٌ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَحَكَاهُ فِي الخِلافِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ وَلمْ أَجِدْهُ فِيهِ وَلا يَصِحُّ إلحَاقُ وَطْءِ البَائِعِ بِوَطْءِ مَنْ أَسْلمَ عَلى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لأَنَّ مِلكَهُ قَائِمٌ فَلذَلكَ كَانَ الوَطْءُ
اخْتِيَارًا فِي حَقِّهِ فَهُوَ كَوَطْءِ المُشْتَرِي هَهُنَا وَالبَائِعُ بِخِلافِهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّ عَليْهِ الحَدَّ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا.
وَأَمَّا نُفُوذُ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلى الأَقْوَال كُلهَا , صَرَّحَ بِهِ الأَكْثَرُونَ مِنْ الأَصْحَابِ لأَنَّهُ لمْ يَتَقَدَّمْهُ مِلكٌ اللهُمَّ إلا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الانْفِسَاخَ كَالسَّوْمِ وَنَحْوِهِ , وَذَكَرَ الحَلوَانِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ أَنَّهُ يَنْفُذُ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ قَاعِدَةٍ لنَا سَنَذْكُرُهَا -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى- وَهِيَ أَنَّهُ هَل تَكْفِي مُقَارَنَةُ شَروطِ العَقْدِ فِي صِحَّتِهِ؟.
وَمِنْهَا: إذَا بَاعَ أَمَةً بِعَبْدٍ ثُمَّ وَجَدَ بِالعَبْدِ عَيْبًا فَلهُ الفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُ الأَمَةِ , وَكَذَلكَ سَائِرُ السِّلعِ المَعِيبَةِ إذَا عَلمَ بِهَا بَعْدَ العَقْدِ وَليْسَ لهُ التَّصَرُّفُ فِي عِوَضِهِ الذِي أَدَّاهُ لأَنَّ مِلكَ الآخَرِ عَليْهِ تَامٌّ مُسْتَقِرٌّ فَلوْ أَقْدَمَ وَأَعْتَقَ الأَمَةَ أَوْ وَطِئَهَا لمْ يَكُنْ ذَلكَ فَسْخًا وَلمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ.
ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَذَكَرَ فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول احْتِمَالاً آخَرَ أَنَّ وَطْأَهُ يَكُونُ اسْتِرْجَاعًا كَمَا فِي وَطْءِ المُطَلقَةِ الرَّجْعِيَّةِ.
وَمَنْ أَسْلمَ عَلى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَهَذَا وَاهٍ جِدًّا فَإِنَّ المِلكَ عَنْ الرَّجْعِيَّةِ وَمَنْ أَسْلمَ عَليْهِنَّ لمْ يَزُل وهنا قَدْ زَال.
وَمِنْهَا: لوْ بَاعَ أَمَةً ثُمَّ أَفْلسَ المُشْتَرِي قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ وَالأَمَةُ مَوْجُودَةٌ بِعَيْنِهَا فَلهُ اسْتِرْجَاعُهَا بِالقَوْل بِدُونِ إذْنِ الحَاكِمِ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا القَاضِي بِنَاءً عَلى نَقْضِ حُكْمِ الحَاكِمِ بِخِلافِهِ فَيَكُونُ كَالفَسْخِ المُجْمَعِ عَليْهِ فَلا يَحْتَاجُ إلى حَاكِمٍ , وَلوْ أَقْدَمَ عَلى التَّصَرُّفِ فِيهَا ابْتِدَاءً لمْ يَنْفُذْ وَلمْ يَكُنْ اسْتِرْجَاعًا , وَكَذَلكَ الوَطْءُ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الخِلافِ لتَمَامِ مِلكِ المُفْلسِ.
وَفِي المُجَرَّدِ وَالفُصُول أَنَّ الوَطْءَ اسْتِرْجَاعٌ وَأَنَّ فِيهِ احْتِمَالاً آخَرَ بِعَدَمِهِ.
وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذَا الخِلافِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ عَلى طَرِيقَةِ مَنْ أَثْبَتَ الخِلافَ فِي تَصَرُّفِ البَائِعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ لأَنَّ مِلكَ المُفْلسِ غَيْرُ تَامٍّ بِدَليل مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالهِ لحَقِّ البَائِعِ فَهُوَ كَالمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الخِيَارِ غَيْرَ أَنَّ ضَعْفَ المِلكِ هَهُنَا طَارِئٌ وَفِي الذَّكَرِ الخِيَارِ مُبْتَدِئٌ وَلا أَثَرَ لذَلكَ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ الشَّفِيعِ فِي الشِّقْصِ المَشْفُوعِ قَبْل التَّمَلكِ هَل يَكُونُ تَمَلكًا وَيَقُومُ ذَلكَ مَقَامَ قَوْلهِ أَوْ تَمَلكِهِ أَوْ مَقَامَ المُطَالبَةِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ بِهَا المِلكَ أَوْ مَقَامَ الأَخْذِ بِاليَدِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ المِلكَ بِهِ. يُمْكِنُ عَلى تَخْرِيجِهِ عَلى الخِلافِ فِي المَسْأَلةِ قَبْلهَا , وَلا سِيَّمَا بَعْدَ المُطَالبَةِ لأَنَّ حَقَّهُ اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ وَانْقَطَعَ تَصَرُّفُ المُشْتَرِي.
وَمِنْهَا: لوْ وَهَبَ الأَبُ لوَلدِهِ شَيْئًا وَقَبَضَهُ الوَلدُ ثُمَّ تَصَرَّفَ الأَبُ فِيهِ بَعْدَ القَبْضِ هَل يَكُونُ تَصَرُّفُهُ رُجُوعًا؟ المَنْصُوصُ أَنْ لا.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ: إذَا وَهَبَ لابْنِهِ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا الابْنُ لمْ يَجُزْ للأَبِ عِتْقُهَا حَتَّى يَرْجِعَ فِيهَا.
وَقَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ هَذِهِ الجَارِيَةُ للابْنِ وَأَعْتَقَ الأَبُ مَا ليْسَ لهُ , وَخَرَّجَ أَبُو حَفْصٍ البَرْمَكِيُّ فِي كِتَاب حُكْمِ الوَالدَيْنِ فِي مَال وَلدِهِمَا رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّ العِتْقَ صَحِيحٌ وَيَكُونُ رُجُوعًا وَسَيَأْتِي تَخْرِيجُ هَذَا الأَصْل إنْ -شَاءَ اللهُ تَعَالى- وَفِي التَّلخِيصِ لا يَكُونُ وَطْؤُهُ رُجُوعًا وَهَل يَكُونُ بَيْعُهُ وَعِتْقُهُ وَنَحْوُهُمَا رُجُوعًا؟ عَلى وَجْهَيْنِ وَلا يَنْفُذُ عَليْهِمَا لأَنَّهُ لمْ يُلاقِ المِلكَ مَثَانِينَ وَجْهٌ بِنُفُوذِهِ لاقْتِرَانِ المِلكِ بِهِ كَمَا سَبَقَ
وَمِنْهَا: لوْ تَصَرَّفَ الوَالدُ فِي مَال وَلدِهِ الذِي يُبَاحُ لهُ تَمَلكُهُ قَبْل التَّمَلكِ لمْ يَنْفُذْ , وَلمْ يَكُنْ تَمَلكًا عَلى المَعْرُوفِ مِنْ المَذْهَبِ وَأَنَّ تَمَلكَهُ لا يَحْصُل بِدُونِ القَبْضِ الذِي يُرَادُ التَّمَلكُ بِهِ وَقَدْ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ لأَنَّهُ مُبَاحٌ فَلمْ يَتَمَلكْ بِدُونِ قَبْضِهِ كَالاصْطِيَادِ وَالاحْتِشَاشِ وَلمْ يُخَرِّجُوا فِي تَمَلكِهِ بِالقَبُول خِلافًا مِنْ الهِبَةِ وَنَحْوِهَا لأَنَّ الهِبَةَ عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالقَبُول كَعُقُودِ المُعَاوَضَةِ وَهَهُنَا اكْتِسَابُهُ مَالٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلا يُكْتَفَى فِيهِ بِدُونِ القَبْضِ وَالحِيَازَةِ وَمَا لمْ يَجُزْ فَهُوَ بَاقٍ عَلى مَا كَانَ عَليْهِ.
وَخَرَّجَ أَبُو حَفْصٍ البَرْمَكِيُّ رِوَايَةً أُخْرَى بِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ بِالعِتْقِ قَبْل القَبْضِ وَأُخِذَ ذَلكَ مِمَّا رَوَاهُ المَرُّوذِيّ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: "لوْ أَنَّ لابْنِهِ جَارِيَةً فَعَتَقَهَا كَانَ جَائِزًا" وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَكَمِ يُعْتِقُ الأَبُ مِنْ مَال الابْنِ وَهُوَ مِلكُ الابْنِ حَتَّى يَعْتِقَ الأَبُ أَوْ يُؤْخَذَ وَفِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ أَرَى أَنَّ مَالهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُعْتَقُ مِنْهُ إلا أُمَّ وَلدِ ابْنِهِ وَفِي تَوْجِيه هَذِهِ الرِّوَايَةِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَقِيقَ الابْنِ لهُ فِيهِ شِبْهُ مِلكٍ وَلذَلكَ نَفَذَ اسْتِيلاؤُهُ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ كَعِتْقِ أُمِّهِ مِنْ المَغْنَمِ لكِنْ لا يَضْمَنُ لأَنَّ الأَبَ لا يُطَالبُ بِمَا أَتْلفَهُ مِنْ مَال وَلدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَال وَقَعَ المِلكُ مُقَارِنًا للعِتْقِ فَنَفَذَ وَهَذَا القَدْرُ مِنْ المِلكِ يُكْتَفَى بِهِ فِي العِتْقِ كَمَا لوْ قَال لغَيْرِهِ: اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَليَّ ثَمَنُهُ فَفَعَل صَحَّ وَوَقَعَ العِتْقُ وَالمِلكُ مَعًا.
وَنَقَل أَبُو طَالبٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال بَيْعُ الأَبِ وَشِرَاؤُهُ عَلى ابْنِهِ جَائِزٌ لقَوْل النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: "أَنْتَ وَمَالكَ لأَبِيكَ" وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَوَازُ الإِقْدَامِ عَلى التَّصَرُّفِ فِي مَالهِ وَنُفُوذِهِ وَحُصُول التملك بِهِ وَفِي التَّنْبِيهِ لأَبِي بَكْرٍ بَيْعُ الأَبِ عَلى ابْنِهِ وَعِتْقُهُ وَصَدَقَتُهُ وَوَطْءُ إمَائِهِ مَا لمْ يَكُنْ الابْنُ قَدْ وَطِئَ جَائِزٌ وَيَجُوزُ لهُ بَيْعُ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَعِتْقُهُمْ , وَلهَذَا القَوْل مَأْخَذَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ المِلكَ يَقْتَرِنُ بِالتَّصَرُّفِ فَيَنْفُذُ كَمَا فِي نَظِيرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا تَمَلكٌ قَهْرِيٌّ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالقَوْل الدَّال عَلى التَّمَلكِ كَمَا مَلكَ الهِبَةَ المُعَيَّنَةَ بِمُجَرَّدِ القَبُول عَلى رِوَايَةٍ , وَلهَذَا حَكَى طَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ فِي بَيْعِ المُبَاحَاتِ النَّابِتَةِ وَالجَارِيَةِ فِي الأَرْضِ المَمْلوكَةِ قَبْل حِيَازَتِهَا رِوَايَتَيْنِ وَلمْ يَذْكُرُوا خِلافًا فِي أَنَّهَا عَيْنٌ مَمْلوكَةٌ وَمِمَّنْ سَلكَ هَذَا المَسْلكَ صَاحِبُ المُقْنِعِ فِي كِتَابِ البَيْعِ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ وَوَجْهُ صِحَّةِ البَيْعِ عَلى هَذَا أَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلى تَسْليمِهِ وَليْسَ مَمْلوكًا لغَيْرِهِ فَهُوَ كَالمَمْلوكِ , وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ بَيْعِ الصِّكَاكِ قَبْل اسْتِحْقَاقِهَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ الخِلافُ فِيهَا.
وَأَمَّا تَصَرُّفُ الأَبِ فِي أَمَةِ وَلدِهِ بِالوَطْءِ قَبْل القَبْضِ فَإِنْ أَحْبَلهَا صَارَتْ أُمَّ وَلدٍ لهُ , وَإِنْ لمْ يُحْبِلهَا , فَإِنْ قُلنَا: لا يَمْلكْ الأَبُ مَال وَلدِهِ إلا بِالقَبْضِ لمْ يَمْلكْهَا حَتَّى يَقْبِضَهَا , وَإِنْ قُلنَا يَمْلكُ بِمُجَرَّدِ التَّصَرُّفِ صَارَتْ مِلكًا لهُ بِالوَطْءِ بِمُجَرَّدِهِ.
وَنَقَلتُ مِنْ خَطِّ القَاضِي وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلهُ مِنْ خَطِّ ابْنِ شَاقِلا قَال الشَّيْخُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ العَزِيزِ: رَوَى الأَثْرَمُ أَنَّ المَرْأَةَ إذَا وَطِئَهَا زَوْجُهَا وَانْقَضَتْ العِدَّةُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَإِنْ أَتَتْ بِوَلدٍ لسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَدَاعَيَاهُ جَمِيعًا أَرَى القَافَةَ.
وَقَال: إذَا وَطِئَ الرَّجُل جَارِيَةَ ابْنِهِ وَإِنْ كَانَ الابْنُ قَدْ وَطِئَ فَلا حَدَّ عَلى الأَبِ لأَنَّهَا بِنَفْسِ الوَطْءِ مِلكٌ لهُ. قَال الشَّيْخُ: فِي نَفْسِي مِنْ مَسْأَلةِ الأَثْرَمِ شَيْءٌ انْتَهَى.
فَإِنْ كَانَ قَوْلهُ إذَا وَطِئَ الرَّجُل جَارِيَةَ ابْنِهِ إلى آخِرِهِ مِنْ تَمَامِ رِوَايَةِ الأَثْرَمِ فَيَكُونُ ذَلكَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَدَ وَإِلا فَهُوَ مِنْ كَلامِ أَبِي بَكْرٍ , وَهُوَ مُوَافِقٌ لمَا ذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ.
وَقَوْلهُ: وَإِنْ كَانَ الابْنُ قَدْ وَطِئَ يُرِيدُ أَنَّ تَمَلكَهَا يَثْبُتُ مَعَ وَطْءِ الابْنِ فَأَمَّا ثُبُوتُ الاسْتِيلادِ فَفِيهِ خِلافٌ فِي المَذْهَبِ وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ كَلامًا يَدُل بِمَفْهُومِهِ عَلى أَنَّهَا لا تَصِيرُ مُسْتَوْلدَةً لهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالمُرَجَّحُ عِنْدَ صَاحِبِ المُغْنِي أَنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَوْلدَةً لأَنَّ التَّحْرِيمَ لا يُنَافِي الاسْتِيلادَ وَكَالأَمَةِ المُشْتَرَكَةِ وَلكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلى التَّأْبِيدِ بِخِلافِ المُشْتَرَكَةِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّ النَّسَبَ لا يَلحَقُ بِوَطْءِ الأَمَةِ المُزَوَّجَةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا صَغِيرًا لا يُولدُ لمِثْلهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَابْنِ بُخْتَانَ وَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى فَلمُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ أَوْلى.
هَذَا كُلهُ مَا لمْ يَكُنْ الابْنُ قَدْ اسْتَوْلدَهَا فَإِنْ كَانَ اسْتَوْلدَهَا لمْ يَنْتَقِل المِلكُ فِيهَا بِاسْتِيلادِ غَيْرِهِ كَمَا لا يَنْتَقِل بِالعُقُودِ , وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ أَنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَوْلدَةً لهُمَا جَمِيعًا كَمَا لوْ وَطِئَ الشَّرِيكَانِ أَمَتَهُمَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَأَتَتْ بِوَلدٍ أَلحَقَتْهُ القَافَةُ بِهِمَا لكِنْ فِي مَسْأَلةِ القَافَةِ حُكِمَ بِاسْتِيلادِهِمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي مَسْأَلتِنَا قَدْ ثَبَتَ اسْتِيلادُ الابْنِ أَوَّلاً لهَا فَلا يَنْتَقِل إلى غَيْرِهِ إلا أَنْ يُقَال: أُمُّ الوَلدِ تُمْلكُ بِالقَهْرِ عَلى رِوَايَةٍ وَالاسْتِيلادُ سَبَبٌ قَهْرِيٌّ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ السَّيِّدِ فِي مَال عَبْدِهِ الذِي مَلكَهُ إيَّاهُ وَقُلنَا يَمْلكُهُ , ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْفُذُ وَيَكُونُ اسْتِرْجَاعًا لتَضَمُّنِهِ إيَّاهُ وَذَكَرَ القَاضِي فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ أَنَّهُ يَحْتَمِل حَمْلهُ عَلى أَنَّهُ سَبَقَ رُجُوعَهُ التَّصَرُّفُ ليَنْفُذَ.
وَمِنْهَا: تَصَرُّفُ المُوصَى لهُ بِالوَصِيَّةِ بَعْدَ المَوْتِ هَل يَقُومُ مَقَامَ القَبُول؟ الأَظْهَرُ قِيَامُهُ مَقَامَهُ لأَنَّ سَبَبَ المِلكِ قَدْ اسْتَقَرَّ لهُ استقراراً لا يُمْكِنُ إبْطَالهُ وَقَدْ كَمُل بِالمَوْتِ عَلى أَحَدِ الوُجُوهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِثْلهُ الوَقْفُ عَلى مُعَيَّنٍ إذَا قِيل بِاشْتِرَاطِ قَبُولهِ فَأَمَّا العُقُودُ التِي تُمَلك لهُ مُوجَبُهَا الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْل القَبُول , فَهَل يَقُومُ التَّصَرُّفُ فِيهَا مَقَامَ القَبُول؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ يَلتَفِتُ إلى انْعِقَادِ العُقُودِ بِالمُعَاطَاةِ.
فَأَمَّا الوِكَالةُ فَيَصِحُّ قَبُولهَا بِالفِعْل صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ لأَنَّهَا إذْنٌ مُجَرَّدٌ وَأَمْرٌ بِالتَّصَرُّفِ فَيَصِحُّ امْتِثَالهُ بِالفِعْل وَهَل يُسَاوِيهَا فِي ذَلكَ سَائِرُ العُقُودِ الجَائِزَةِ كَالشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ وَالمُسَاقَاةِ ظَاهِرُ كَلامِ التَّلخِيصِ أَوْ صَرِيحُهُ المُسَاوَاةُ وَحَكَى القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ فِي صِحَّةِ قَبُول القَاضِي القَضَاءَ بِشُرُوعِهِ فِي النَّظَرِ احْتِمَاليْنِ وَجَعَل مَأْخَذَهُمَا هَل يَجْرِي الفِعْل مَجْرَى النُّطْقِ لدَلالتِهِ عَليْهِ وَيَحْسُنُ بِنَاؤُهُمَا عَلى أَنَّ وِلايَةَ القَضَاءِ عَقْدٌ جَائِزٌ أَوْ لازِمٌ؟.
وَمِنْهَا: المُطَلقَةُ الرَّجْعِيَّةِ هَل تَحْصُل رَجْعَتُهَا بِالوَطْءِ عَلى رِّوَايَتَيْنِ مَأْخَذُهُمَا عِنْدَ أَبِي الخَطَّابِ الخِلافُ فِي وَطْئِهَا هَل هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؟ وَالصَّحِيحُ بِنَاؤُهُ عَلى اعْتِبَارِ الإِشْهَادِ للرَّجْعِيَّةِ وَعَدَمِهِ وَهُوَ البِنَاءُ المَنْصُوصُ عَنْ الإِمَامِ وَلا عِبْرَةَ بِحِل الوَطْءِ وَلا عَدَمِهِ فَلوْ وَطِئَهَا فِي الحَيْضِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتْ رَجْعَةً , وَهَل يَشْتَرِطُ غَيْرُهُ أَنْ يَنْوِيَ بِالوَطْءِ الرَّجْعَةَ أَمْ لا؟ نَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ اعْتِبَارَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالمَذْهَبُ عِنْدَ القَاضِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ خِلافُ ذَلكَ , وَلكِنَّ الرَّجْعِيَّةَ لمْ يَزُل النِّكَاحُ عَنْهَا بِالكُليَّةِ وَإِنَّمَا حَصَل لهُ تَشَعُّثٌ لكِنَّ الرَّجْعَةَ يَتَرَتَّبُ عَليْهَا الاسْتِبَاحَةُ حَقِيقَةً فِي المُدَّةِ الزَّائِدَةِ عَلى العِدَّةِ.
القاعدة السادسة والخمسون
القَاعِدَةُ السَّادِسَة وَالخَمْسُونَ:شُرُوطُ العُقُودِ مِنْ أَهْليَّةِ العَاقِدِ أَوْ المَعْقُودِ لهُ أَوْ عَليْهِ إذَا وُجِدَتْ مُقْتَرِنَةً بِهَا وَلمْ تَتَقَدَّمْ عَليْهَا هَل يُكْتَفَى بِهَا فِي صِحَّتِهَا أَمْ لا بُدَّ مِنْ سَبْقِهَا؟ المَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ الاكْتِفَاءُ بِالمُقَارَنَةِ فِي الصِّحَّةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لا بُدَّ مِنْ السَّبْقِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالقَاضِي فِي الجُمْلةِ وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل قَدْ ذَكَرْنَا عِدَّةً مِنْهَا فِي القَاعِدَةِ السَّابِقَةِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَجَعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَالمَنْصُوصُ الصِّحَّةُ اكْتِفَاءً بِاقْتِرَانِ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَهُوَ الحُرِّيَّةُ بِهِ كَمَا دَلتْ عَليْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ وَالقَاضِي عَدَمَ الصِّحَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَل مَأْخَذَهُ انْتِفَاءَ لفْظِ النِّكَاحِ الصَّرِيحِ وَهُوَ ابْنُ حَامِدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَل مَأْخَذَهُ انْتِفَاءَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ.
وَمِنْهَا: لوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَهُ عَلى ثَمَنِهِ صَحَّ نَصَّ عَليْهِ وَقَال القَاضِي وَابْنُ حَامِدٍ: لا يَصِحُّ لانْتِفَاءِ صحة المِلكِ للرَّهْنِ وَلا تَكْفِي المُقَارَنَةُ.
وَمِنْهَا: لوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ وَبَاعَهُ شَيْئًا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَقِيل: إنَّهُ المَنْصُوصُ وَذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي النِّكَاحِ وَأَبُو الخَطَّابِ وَالأَكْثَرُونَ اكْتِفَاءً بِاقْتِرَانِ البَيْعِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ كَوْنُ المُشْتَرِي مُكَاتَبًا يَصِحُّ مُعَامَلتُهُ للسَّيِّدِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: لا يَصِحُّ قَالهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي البُيُوعِ لأَنَّ الكِتَابَةَ لمْ تَسْبِقْ عَقْدَ البَيْعِ.
وَمِنْهَا: لوْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لزَيْدٍ وَأَنَّ لزَيْدٍ عَلى فُلانٍ أَلفًا وَأَقَامَ البَيِّنَةَ بِالوِكَالةِ وَالدَّيْنِ فِي حَالةٍ وَاحِدَةٍ فَهَل يَقْبَل وَيَدْفَعُ إليْهِ المَال أَمْ لا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ ثُبُوتِ الوِكَالةِ عَلى ثُبُوتِ الدَّيْنِ؟ قَال القَاضِي فِي خِلافِهِ: يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ وَالأَشْبَهُ اعْتِبَارُ تَقَدُّمِ الوِكَالةِ لأَنَّهُ مَا لمْ تُثْبِتْ وِكَالتَهُ لا يَجِبُ الدَّفْعُ إليْهِ وَاسْتَشْهَدَ للقَبُول بِمَا لوْ شَهِدَ أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ فُلانٍ دَارًا وَهُوَ مَالكٌ لهَا بِأَنَّهُ يَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا بِالبَيْعِ وَالمِلكِ فِي حَالةٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال إذَا تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ فَقَدْ وَكَّلتُكَ فِي طَلاقِهَا فَفِي التَّلخِيصِ: قِيَاسُ المَذْهَبِ صِحَّتُهُ , وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ لاقْتِرَانِ الوِكَالةِ وَشَرْطِهَا إذْ شَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ المُوَكِّل مَالكًا لمَا وَكَّل فِيهِ وَمِلكُ الطَّلاقِ يَتَرَتَّبُ عَلى ثُبُوتِ النِّكَاحِ فيقابل الوَكَالةَ.
وَمِنْهَا: لوْ وُجِدَتْ الكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ حَال العَقْدِ بِأَنْ يَقُول سَيِّدُ العَبْدِ بَعْدَ إيجَابِ النِّكَاحِ قَبِلت لهُ هَذَا النِّكَاحَ وَأَعْتَقْتُهُ فَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: قِيَاسُ المَذْهَبِ صِحَّتُهُ قَال: وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ يَمْنَعُهَا فَأَمَّا اقْتِرَانُ الحُكْمِ مَعَ شَرْطِهِ فِي غَيْرِ عَقْدٍ هَل يَثْبُتُ بِهِ الحُكْمُ أَمْ لا؟ يَتَخَرَّجُ عَليْهِ مَسَائِل.
مِنْهَا: صِحَّةُ الوَصِيَّةِ لمَنْ ثَبَتَتْ أَهْليَّةُ مِلكِهِ بِالمَوْتِ كَأُمِّ الوَلدِ وَمُدَّبَّرِهِ فَإِنَّ السَّبَبَ المُسْتَحِقَّ بِهِ هُوَ الإِيصَاءُ وَشَرْطُ الاسْتِحْقَاقِ هُوَ المَوْتُ وَعَليْهِ يَتَرَتَّبُ الاسْتِحْقَاقُ , وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ وُجُودُ أَهْليَّةِ المُسْتَحِقِّ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ المِلكِ , هَذَا إذَا قُلنَا إنَّ الوَصِيَّةَ تُمْلكُ بِالمَوْتِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ , وَإِنْ قُلنَا تَتَوَقَّفُ عَلى القَبُول وَهُوَ المَشْهُورُ فَإِنَّ القَبُول يَتَأَخَّرُ عَنْ أَهْليَّةِ الاسْتِحْقَاقِ فَيَصِحُّ القَبُول حِينَئِذٍ وَلا يَضُرُّ فَوَاتُ أَهْليَّتِهِ عِنْدَ المَوْتِ فَإِنَّهُ لوْ قَال اعْتِقُوا عَبْدِي وَأَعْطُوهُ كَذَا لصَحَّتْ هَذِهِ الوَصِيَّةُ.
وَمِنْهَا: إذَا وُجِدَتْ الحُرِّيَّةُ عَقِيبَ مَوْتِ المُوَرِّثِ أَوْ مَعَهُ كَمَا لوْ قَال لعَبْدِهِ: إنْ مَاتَ أَبُوك فَأَنْتَ حُرٌّ وَكَانَ أَبُوهُ حُرًّا فَمَاتَ أَوْ دَبَّرَ ابْنَ عَمِّهِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ لا يَرِثُهُ ذَكَرَهُ القَاضِي وَصَاحِبُ المُغْنِي وَعَللهُ بِأَنَّ المَانِعَ لا يُؤَثِّرُ زَوَالهُ حَال الاسْتِحْقَاقِ كَمَا لا يُؤَثِّرُ وُجُودُهُ عِنْدَنَا فِي إسْلامِ الطِّفْل بِمَوْتِ أَبَوَيْهِ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلى الوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا حَدَثَتْ الأَهْليَّةُ مَعَ الحُكْمِ هَل يُكْتَفَى بِهَا أَمْ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُهَا؟ فَإِنْ قُلنَا: تَكْفِي المُقَارَنَةُ وَرِثَ لأَنَّهُ صَارَ حُرًّا وَمَالكًا فِي زمن واحد انْتَهَى.
وَلا يُقَال هَذَا يُفضِي إلى اقْتِرَانَ العِلةِ وَمَعْلولهَا وَهُوَ عِنْدَكُمْ بَاطِلٌ لأَنَّا نَقُول عِلةُ الإِرْثِ وَسَبَبُهُ هُوَ النَّسَبُ وَهُوَ سَابِقٌ عَلى المَوْتِ وَإِنَّمَا الحُرِّيَّةُ شَرْطٌ لهُ.
وَمِنْهَا: عِدَّةُ أُمِّ الوَلدِ إذَا تَوَفَّى سَيِّدُهَا , هَل هِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ؟ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ , وَقَال: لوْ اعْتَدَّتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ لوَرِثَتْ ثُمَّ تَوَقَّفَ فِي ذَلكَ , وَقَال دَخَلنِي مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَال مَرَّةً: تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ اكْتِفَاءً بِالحُرِّيَّةِ المُقَارِنَةِ لوُجُوبِ العِدَّةِ وَلزُومُ مُقَارَنَةِ العِلةِ للمَعْلول هُنَا أَظْهَرُ. وَلا يَلزَمُ لأَنَّ سَبَبَ العِدَّةِ الاسْتِفْرَاشُ السَّابِقُ وَالمَوْتُ شَرْطُهَا وَالحُرِّيَّةُ شَرْطٌ للعِدَّةِ بِالأَشْهُرِ , وَمِنْ هَهُنَا لمْ يَلزَمْ التورث لأَنَّ سَبَبَهُ مُنْتَفٍ بِالكُليَّةِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالوَلاءُ.
القاعدة السابعة والخمسون
القَاعِدَةُ السَّابِعَة وَالخَمْسُونَ:إذَا تَقَارَنَ الحُكْمُ وَوُجُودُ المَنْعِ مِنْهُ , فَهَل يَثْبُتُ الحُكْمُ أَمْ لا؟ المَذْهَبُ المَشْهُورُ أَنَّهُ لا يَثْبُتُ , وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: يَثْبُتُ, وَإِنْ تَقَارَنَ الحُكْمُ ووجود المَانِعِ مِنْهُ فَهَل يَثْبُتُ الحُكْمُ مَعَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ , وَاخْتَارَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول وَصَاحِبُ المُغْنِي أَنَّهُ لا يَثْبُتُ وَاخْتَارَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَفِي الجَامِعِ الكَبِيرِ أَنَّهُ يَثْبُتُ وَكَذَلكَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلةِ وَأَبُو الخَطَّابِ فَأَمَّا اقْتِرَانُ الحُكْمِ وَالمَنْعِ مِنْهُ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَسَائِل:
مِنْهَا: لوْ قَال الزَّوْجُ لامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ , أَوْ قَال كُلمَا وَلدْت وَلدًا فَأَنْتِ طَالقٌ فَوَلدَتْ وَلدَيْنِ مُتَعَاقِبِينَ فَإِنَّهَا تَطْلقُ بِالأَوَّل وَتَنْقَضِي العِدَّةُ بِالثَّانِي , وَلا تَطْلقُ بِهِ كَمَا لا تَطْلقُ فِي قَوْلهِ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ.
هَذَا المَذْهَبُ المَشْهُورُ وَعَليْهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو حَفْصٍ وَالقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَالخِلافُ فِيهِ مَعَ ابْنِ حَامِدٍ وَحْدَهُ , وَفِي الفُصُول يُشِيرُ إلى أَنَّ مَأْخَذَ ابْنِ حَامِدٍ فِي مَسْأَلةِ الوِلادَةِ القَوْل بِتَقَارُنِ العِلةِ وَمَعْلولهَا فَيَقَعُ الطَّلاقُ فِي حَال الوِلادَةِ قَبْل البَيْنُونَةِ وَلا يَصِحُّ لأَنَّ البَيْنُونَةَ مَعْلولةٌ للوِلادَةِ فَلوْ اقْتَرَنَتْ العِلةُ وَمَعْلولهَا لبَانَتْ مَعَ الوِلادَةِ أَيْضًا.
وَمِنْهَا: لوْ قَال أَنْتِ طَالقٌ بَعْدَ مَوْتِي لمْ تَطْلقْ بِغَيْرِ خِلافٍ نَعْلمُهُ , وَلوْ قَال مَعَ مَوْتِي أَوْ مَوْتِك لمْ تَطْلقْ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا لأَنَّ المَوْتَ سَبَبُ البَيْنُونَةِ فَلا يُجَامِعُهَا الطَّلاقُ وَيَلزَمُ عَلى قَوْل ابْنِ حَامِدٍ الوُقُوعُ هَهُنَا لأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلاقُ مَعَ الحُكْمِ بِالبَيْنُونَةِ فَإِيقَاعُهُ مَعَ سَبَبِ الحُكْمِ أَوْلى وَيَلزَمُ مِثْل ذَلكَ القَاضِي وَمَنْ تَابَعَهُ عَلى الوُقُوعِ مَعَ سَبَبِ الانْفِسَاخِ لتَأَخُّرِ الانْفِسَاخِ عَنْهُ وَلمْ يَلتَزِمُوا ذَلكَ , وَادَّعَوْا هَهُنَا المُقَارَنَةَ دُونَ السَّبْقِ وَلا يَصِحُّ وَلعَل المَانِعَ مِنْ إيقَاعِ الطَّلاقِ مَعَ المَوْتِ هُوَ عَدَمُ الفَائِدَةِ فِيهِ بِخِلافِ إيقَاعِهِ مَعَ البَيْنُونَةِ فِي الحَيَاةِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ أَوْ نَقْصَ العَدَدِ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال زَوْجُ الأَمَةِ لهَا: إنْ مَلكْتُك فَأَنْت طَالقٌ ثُمَّ مَلكَهَا لمْ تَطْلقْ , قَال الأَصْحَابُ: وَجْهًا وَاحِدًا , وَلا يَصِحُّ لأَنَّ ابْنَ حَامِدٍ يُلزِمُهُ القَوْل هَهُنَا القَوْل بِالوُقُوعِ لاقْتِرَانِهِ بِالانْفِسَاخِ.
وَمِنْهَا: لوْ أَعْتِقَ الزَّوْجَانِ مَعًا وَقُلنَا لا خِيَارَ للمُعْتَقَةِ تَحْتَ الحُرِّ فَهَل يَثْبُتُ لهَا الخِيَارُ هَهُنَا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَدْ اقْتَرَنَ هُنَا المُقْتَضَى وَهُوَ حُرِّيَّتُهَا وَالمَانِعُ وَهُوَ حُرِّيَّتُهُ فَحَصَل الحُكْمُ بِثُبُوتِ الخِيَارِ مَعَ المَنْعِ مِنْهُ فَإِنْ قِيل يَشْكُل عَلى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَسْأَلتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ:
إحْدَاهُمَا: إذَا قَال لعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ , ثُمَّ بَاعَهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلى البَائِعِ مِنْ مَالهِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَلمْ يُنْقَل عَنْهُ فِي ذَلكَ خِلافٌ فَقَدْ حَكَمَ بِوُقُوعِ العِتْقِ مَعَ وُجُودِ المَانِعِ مِنْهُ وَهُوَ انْتِقَال المِلكِ وَهَذَا يَلزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ وَطَرْدُهُ فِي إثْبَاتِ الأَحْكَامِ مَعَ مُقَارَنَةِ المَنْعِ مِنْهَا , مِثْل أَنْ يَقُول لغَيْرِ المَدْخُول بِهَا: إنْ طَلقْتُك فَأَنْتِ طَالقٌ ثُمَّ يُطَلقُهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَطْلقَ طَلقَتَيْنِ , وَكَذَلكَ إنْ قَال إنْ فَسَخْت نِكَاحَكِ لعَيْبٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأَنْتِ طَالقٌ , وَكَذَلكَ إنْ قَال إنْ خَالعْتكِ فَأَنْتِ طَالقٌ.
المَسْأَلةُ الثَّانِيَةُ: إذَا مَاتَ الذِّمِّيُّ وَلهُ أَطْفَالٌ صِغَارٌ حُكِمَ بِإِسْلامِ الوَلدِ وَوَرِثَ مِنْهُ نَصَّ عَليْهِ وَلمْ يَثْبُتْ عَنْهُ خِلافُ ذَلكَ حَتَّى أَنَّ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ أَنْكَرَ القَوْل بِعَدَمِ تَوْرِيثِهِ وَقَال هُوَ خِلافُ الإِجْمَاعِ وَيَلزَمُ مِنْ تَوْرِيثِهِ إثْبَاتُ الحُكْمِ المُقْتَرِنِ بِمَانِعِهِ , وَهَذَا لا مَحِيدَ عَنْهُ.
وَالجَوَابُ: أَمَّا عَلى قَوْل ابْنِ حَامِدٍ فَهَذَا مُتَّجَهٌ لا بُعْدَ فِيهِ وَأَمَّا عَلى قَوْل بَارَكَتْ الأَصْحَابِ فَقَدْ اخْتَلفُوا فِي تَخْرِيجِ كَلامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلةِ العِتْقِ عَلى طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى قَوْلهِ بِأَنَّ المِلكَ لمْ يُنْقَل عَنْ البَائِعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ , فَأَمَّا عَلى قَوْلهِ بِالانْتِقَال وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلا يَعْتِقُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَفِيهَا ضَعْفٌ فَإِنَّ نُصُوصَ أَحْمَدَ بِالعِتْقِ هُنَا مُتَكَاثِرَةٌ وَرِوَايَةُ بَقَاءِ المِلكِ للبَائِعِ آخْ لمْ تَكُنْ صَرِيحَةً عَنْ أَحْمَدَ بَل مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ كَلامِهِ وَإِنَّمَا المَنْقُول الصَّرِيحُ عَنْهُ انْتِقَال المِلكِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ عِتْقَهُ عَلى البَائِعِ لثُبُوتِ الخِيَارِ لهُ فَلمْ تَنْقَطِعْ عُلقُهُ عَنْ المَبِيعِ بَعْدُ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الخَطَّابِ وَأُورِدَ عَليْهِمْ أَنَّ تَصَرُّفَ البَائِعِ بِالعِتْقِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ لا يَنْفُذُ عَلى المَنْصُوصِ فَأَجَابُوا بِأَنَّ هَذَا العِتْقَ أَنْشَأَهُ فِي مِلكِهِ فَلذَلكَ نَفَذَ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ بَعْدَ زَوَال مِلكِهِ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَال بِنُفُوذِ الوَصِيَّةِ بَعْدَ المَوْتِ.
وَقَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ يَعْتِقُ مِنْ مَال البَائِعِ قِيل لأَنَّهُ خَلفٌ عَنْ مِلكٍ؟ قَال نَعَمْ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالثُ: أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلى البَائِعِ عَقِيبَ إيجَابِهِ وَقَبْل قَبُول المُشْتَرِي وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيِّ وَصَاحِبَيْ المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ لأَنَّهُ إنَّمَا عَلقَهُ عَلى بَيْعِهِ وَبَيْعُهُ الصَّادِرُ عَنْهُ هُوَ الإِيجَابُ فَقَطْ , وَلهَذَا يُسَمَّى بَائِعًا وَالقَابِل مُشْتَرِيًا , وَيُقَال بَاعَ هَذَا وَاشْتَرَى هَذَا , وَإِنْ كَانَ العَقْدُ لا يَنْعَقِدُ بِقَبُول المُشْتَرِي لكِنَّ القَبُول شَرْطٌ مَحْضٌ لانْعِقَادِ البَيْعِ وَليْسَ هُوَ مِنْ مَاهِيَّتِهِ فَإِذَا وُجِدَ القَبُول تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَتَقَ على البَائِعُ قَبْلهُ فِي مِلكِهِ قَبْل الانْتِقَال وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَيْضًا نَظَرٌ فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلى نُفُوذِهِ بَعْدَ زَوَال المِلكِ وَلأَنَّ البَيْعَ المُطْلقَ إنَّمَا يَتَنَاوَل المُنْعَقِدَ لا صُورَةَ البَيْعِ المُجَرَّدَةِ.
وَالطَّرِيقُ الرَّابِعُ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلى البَائِعِ فِي حَالةِ انْتِقَال المِلكِ إلى المُشْتَرِي حَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلى الإِيجَابِ القَبُول وَانْتِقَال المِلكِ وَثُبُوتُ العِتْقِ فَيَتَدَافَعَانِ وَيَنْفُذُ العِتْقُ لقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ دُونَ انْتِقَال المِلكِ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ فِي رُءُوسِ المَسَائِل وَيَشْهَدُ لهَا تَشْبِيهُ أَحْمَدَ بِالمُدَبِّرِ وَالوَصِيَّةِ وَلا يُقَال فِي المُدَبِّرِ وَالوَصِيَّةِ لا يَنْتَقِل إلى الوَرَثَةِ لتَعَلقِ حَقِّ غَيْرِهِمْ بِهَا لأَنَّهَا تَمْنَعُ ذَلكَ عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وَنَقُول بَل يَنْتَقِل إليْهِمْ المَال المُوصَى بِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ تَعْليل أَحْمَدَ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ فَإِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ وَقَدْ قِيل لهُ كَيْفَ يَعْتِقُ عَلى البَائِعِ وَإِنَّمَا وَجَبَ العِتْقُ بَعْدَ البَيْعِ؟ فَقَال: لوْ وَصَّى لهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَاتَ يُعْطَاهَا وَإِنْ كَانَتْ وَجَبَ لهُ بَعْدَ المَوْتِ وَلا مِلكَ فَهَذَا مِثْلهُ , وَنَقَل عَنْهُ صَالحٌ نَحْوَ هَذَا المَعْنَى أَيْضًا وَعَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَيَنْفُذُ العِتْقُ مَعَ قِيَامِ المَانِعِ لهُ لقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ وَلا يَلزَمُ مِثْل ذَلكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ العُقُودِ.
وَالطَّرِيقُ الخَامِسُ: أَنْ يُعْتَقَ بَعْدَ انْعِقَادِ البَيْعِ وَصِحَّتِهِ وَانْتِقَال المِلكِ المَبِيعِ إلى المُشْتَرِي ثُمَّ يَنْفَسِخُ البَيْعُ بِالعِتْقِ عَلى البَائِعِ وَصَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَتَشْبِيهُهُ بِالوَصِيَّةِ.
وَوَجْهُ ذَلكَ: أَنَّ العَتَاقَ لقُوَّتِهِ وَنُفُوذِهِ وَسِرَايَتِهِ إلى مِلكِ الغَيْرِ يَنْفُذُ , وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي مِلكٍ وَالآخَرُ فِي غَيْرِ مِلكٍ فَإِذَا عَقَدَهُ فِي غَيْرِ مِلكٍ مُضَافًا إلى وُجُودِ المِلكِ صَحَّ المِلكُ وَنَفَذَ فِي المَذْهَبِ الصَّحِيحِ المَشْهُورِ فَكَذَا إذَا عَقَدَهُ فِي مِلكٍ عَلى نُفُوذِهِ فِي غَيْرِ المِلكِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَلهَذَا نَقُول عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لوْ قَال مَمْلوكِي فُلانٌ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِسَنَةٍ يَعْتِقُ كَمَا قَال وَإِنْ كَانَ ذَلكَ بَعْدَ زَوَال مِلكِهِ وَانْتِقَالهِ عَنْهُ , وَلا يُقَال لا يَنْتَقِل مِلكُهُ مَعَ قِيَامِ الوَصِيَّةِ لأَنَّ ذَلكَ مَمْنُوعٌ عَلى ظَاهِرِ كَلامِ أَحْمَدَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلا يَلزَمُ مِثْل
هَذَا فِي غَيْرِ العِتْقِ مِنْ العُقُودِ لأَنَّهَا لا تَسْرِي إلى مِلكِ الغَيْرِ وَلا عَهِدَ نُفُوذَهَا فِي غَيْرِ مِلكٍ بِحَالٍ , وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ وَجْهًا فِيمَا إذَا عَلقَ طَلاقَهَا عَلى خُلعِهَا فَخَالعَهَا أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلاقُ المُعَلقُ كَمَا يَقَعُ العِتْقُ بَعْدَ البَيْعِ اللازِمِ , فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقَعُ مَعَ الخُلعِ فَهِيَ مَسْأَلةُ ابْنِ حَامِدٍ فِي الوُقُوعِ مَعَ البَيْنُونَةِ وَإِنْ أَرَادَ بَعْدَهُ فَمُشْكِلٌ , فَإِنَّ الطَّلاقَ لمْ يُعْهَدْ عِنْدَنَا وُقُوعُهُ فِي غَيْرِ مِلكٍ وَسَلكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ طَرِيقَةً أُخْرَى فَقَال إنْ كَانَ المُعَلقُ للعِتْقِ قَصْدُهُ اليَمِينُ دُونَ التَّبَرُّرِ بِعِتْقِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ خَرَجَ عَنْ مِلكِهِ فَبَقِيَ كَنَذْرِهِ: أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَيُجْزِئُهُ الكَفَّارَةُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ صَارَ عِتْقُهُ مُسْتَحَقًّا كَالنَّذْرِ فَلا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَيَكُونُ العِتْقُ مُعَلقًا عَلى صُورَةِ البَيْعِ كَمَا لوْ قَال: لمَا لا يَحِل بَيْعُهُ إذَا بِعْته فَعَليَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ قَال لأُمِّ وَلدِهِ: إنْ بِعْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَطَرَدَ قَوْلهُ هَذَا فِي تَعْليقِ الطَّلاقِ عَلى الفَسْخِ وَالخُلعِ فَجَعَلهُ مُعَلقًا عَلى صُورَةِ الفَسْخِ وَالخُلعِ قَال: وَلوْ قِيل بِانْعِقَادِ الفَسْخِ وَالخُلعِ المُعَلقِ عَليْهِ فَلا يُمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلاقِ مَعَهُ عَلى رَأْيِ ابْنِ حَامِدٍ حَيْثُ أَوْقَعَهُ مَعَ البَيْنُونَةِ بِانْقِضَاءِ العِدَّةِ فَكَذَا بِالفَسْخِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا مَسْأَلةُ المِيرَاثِ فَلا رَيْبَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلى تَوْرِيثِ الطِّفْل مِنْ أَبِيهِ الكَافِرِ وَالحُكْمِ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِهِ وَخَرَّجَهُ مَنْ خَرَّجَهُ مِنْ الأَصْحَابِ كَصَاحِبِ المُغْنِي عَلى أَنَّ المَانِعَ لمْ يَتَقَدَّمْ الحُكْمُ بِالإِرْثِ وَإِنَّمَا قَارَنَهُ وَهَذَا يَرْجِعُ إلى ثُبُوتِ الحُكْمِ مَعَ مُقَارَنَةِ المَانِعِ لهُ لأَنَّ الإِسْلامَ سَبَبُ المَنْعِ , وَالمَنْعُ يَتَرَتَّبُ عَليْهِ وَالحُكْمُ بِالتَّوْرِيثِ سَابِقٌ عَلى المَنْعِ لاقْتِرَانِهِ بِسَبَبِهِ وَأَمَّا اقْتِرَانُ الحُكْمِ وَالمَانِعِ فَلهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا: تَوْرِيثُ الطِّفْل المَحْكُومِ بِإِسْلامِهِ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ الكَافِرَيْنِ مِنْهُ وَقَدْ ذُكِرَتْ.
وَمِنْهَا: إذَا قَتَلتْ أُمُّ الوَلدِ سَيِّدَهَا فَإِنَّهُ يَلزَمُهَا أَقَل الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ الدِّيَةِ نَصَّ عَليْهِ.
قَال الأَصْحَابُ: سَوَاءٌ قُلنَا إنَّ الدِّيَةَ تَحْدُثُ عَلى مِلكِ الوَرَثَةِ ابْتِدَاءً أَوْ عَلى مِلكِ المُوَرِّثِ أَوَّلاً ; لأَنَّا إنْ قُلنَا تَحْدُثُ عَلى مِلكِ الوَرَثَةِ فَقَدْ اقْتَرَنَ الضَّمَانُ بِالحُرِّيَّةِ وَإِنَّمَا لمْ يَجِبْ الضَّمَانُ هُنَا بِالدِّيَةِ مُطْلقًا اكْتِفَاءً بِمُقَارَنَةِ الشَّرْطِ للحُكْمِ عَلى مَا تَقَدَّمَ لأَنَّ الاعْتِبَارَ هُنَا فِي الضَّمَانِ بِحَالةِ الجِنَايَةِ وَهِيَ حِينَئِذٍ رَقِيقَةٌ فَلا يَلزَمُهَا أَكْثَرُ مِنْ ضَمَانِ جِنَايَةِ الرَّقِيقِ وَلا يَمْنَعُ مِنْ ذَلكَ مُقَارَنَةُ الحُرِّيَّةِ بِحَالةِ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِنَاءً عَلى أَنَّ المَانِعَ إذَا اقْتَرَنَ بِالحُكْمِ لمْ يَمْنَعْهُ وَإِنْ قُلنَا: إنَّ الدِّيَةَ تَحْدُثُ عَلى مِلكِ المَقْتُول أَوَّلاً فَقَدْ وَجَبَ لهُ ذَلكَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ , وَهِيَ إذْ ذَاكَ رَقِيقَةٌ فَسَبَقَ وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَقْتَ الحُرِّيَّةِ , وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ هُنَا للسَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ لا يَجِبُ لهُ الضَّمَانُ عَلى رَقِيقِهِ لتَعَلقِ حَقِّ الوَرَثَةِ بِمَالهِ فِي هَذِهِ الحَال فَصَارَ كَالوَاجِبِ لهَا ابْتِدَاءً , وَلهَذَا كَانُوا هُمْ المُطَالبِينَ بِهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمِنْهَا: إذَا تَزَوَّجَ العَادِمُ للطَّوْل الخَائِفُ للعَنَتِ -فِي عَقْدٍ- حُرَّةً وَأَمَةً فَهَل يَصِحُّ نِكَاحُ الأَمَةِ مَعَ الحُرَّةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: إذَا قَال المُتَزَوِّجُ بِأَمَةِ أَبِيهِ: إذَا مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالقٌ ثُمَّ مَاتَ الأَبُ فَهَل يَقَعُ الطَّلاقُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقَعُ , وَهُوَ قَوْل للقَاضِي فِي الجَامِعِ وَالخِلافِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي العُمَدِ وَاخْتِيَارُ أَبِي الخَطَّابِ لأَنَّ المَوْتَ يَتَرَتَّبُ عَليْهِ وُقُوعُ الطَّلاقِ وَالمِلكُ سَبَبُ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ فَقَدْ سَبَقَ نُفُوذُ الطَّلاقِ وُقُوعَ الفَسْخِ فَنَفَذَ.
وَالثَّانِي: لا يَقَعُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول لأَنَّ الطَّلاقَ قَارَنَ المَانِعَ وَهُوَ المِلكُ فَلمْ يَنْفُذْ.
وَمِنْهَا: إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَال لهَا إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْت طَالقٌ وَفِيهِ الوَجْهَانِ إنْ قُلنَا يَنْتَقِل المِلكُ مَعَ الخِيَارِ وَهُوَ الصَّحِيحُ , وَإِنْ قُلنَا لا يَنْتَقِل وَقَعَ الطَّلاقُ وَجْهًا وَاحِدًا كَذَا ا ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ وَفِي خِلافِ القَاضِي إذَا حَلفَ لا يَبِيعُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الخِيَارِ هَل يَحْنَثُ أَنَّ ذَلكَ مَبْنِيٌّ عَلى نَقْل المِلكِ وَعَدَمِهِ فَقِيَاسُ قَوْلهِ إنَّهُ لا يَقَعُ الطَّلاقُ هُنَا فِي مُدَّةِ الخِيَارِ إذَا قُلنَا لا يَنْتَقِل المِلكُ فِيهَا وَأَنْكَرَ ذَلكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَقَال: يَحْنَثُ بِكُل حَالٍ لأَنَّ البَيْعَ قَدْ وُجِدَ.
وَمِنْهَا: إذَا قَال لامْرَأَتِهِ التِي لمْ يَدْخُل بِهَا إنْ كَلمْتُك فَأَنْتِ طَالقٌ ثُمَّ أَعَادَهُ فَإِنَّهَا تَطْلقُ بِالإِعَادَةِ لأَنَّهُ كَلامٌ فِي المَشْهُورِ عِنْدَ الأَصْحَابِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلةِ: قِيَاسُ المَذْهَبِ عِنْدِي أَنَّهُ لا يَحْنَثُ بِهَذَا الكَلامِ لأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ اليَمِينِ الأُولى وَمُؤَكِّدٌ لهَا , وَإِنَّمَا المَقْصُودُ أَذَاهَا وَهَجْرُهَا وَإِضْرَارُهَا بِتَرْكِ كَلامِهَا وَليْسَ فِي هَذِهِ الإِعَادَةِ مَا يُنَافِي ذَلكَ فَلا يَحْنَثُ بِهِ وَهَذَا أَقْوَى وَالتَّفْرِيعُ عَلى المَشْهُورِ فَإِذَا وَقَعَ الطَّلاقُ بِالإِعَادَةِ ثَانِيًا فَهَل يَنْعَقِدُ بِهِ يَمِينٌ ثَانِيَةٌ أَمْ لا؟ فِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لا يَنْعَقِدُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي الجَامِعِ وَالخِلافِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالقَاضِي يَعْقُوبَ وَابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْل صَاحِبِ المُغْنِي وَلهُ مَأْخَذَانِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَأْخَذُ القَاضِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّ الكَلامَ يَحْصُل بِالشُّرُوعِ فِي الإِعَادَةِ قَبْل إتْمَامِهَا فَيَقَعُ الطَّلاقُ قَبْل إتْمَامِ الإِعَادَةِ فَلا يَنْعَقِدُ لأَنَّ تَمَامَ اليَمِينِ حَصَل بَعْدَ البَيْنُونَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُغْنِي فِي نَظِيرِ هَذِهِ المَسْأَلةِ: أَنَّ الطَّلاقَ وَإِنْ وَقَفَ وُقُوعُهُ إلى مَا بَعْدَ إنْهَاءِ الإِعَادَةِ إلا أَنَّ الإِعَادَةَ يَتَرَتَّبُ عَليْهَا البَيْنُونَةُ فَيَقَعُ انْعِقَادُ اليَمِينِ مَعَ البَيْنُونَةِ فَيَخْرُجُ عَلى الخِلافِ فِي ثُبُوتِ الحُكْمِ مَعَ المَانِعِ أَوْ مَعَ سَبَبِهِ وَالأَصَحُّ عِنْدَهُ عَدَمُهُ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: تَنْعَقِدُ اليَمِينُ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُحَرَّرِ بِنَاءً عَلى أَنَّ الطَّلاقَ يَقِفُ وُقُوعُهُ عَلى تَمَامِ الإِعَادَةِ لأَنَّ الكَلامَ المُطْلقَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلى المُقَيَّدِ وَلا تَحْصُل الإِفَادَةُ بِدُونِ ذِكْرِ جُمْلةِ الشَّرْطِ
وَالجَزَاءِ فَيَقِفُ الطَّلاقُ عَليْهِمَا وَيَقَعُ عَقِيبُهُمَا لأَنَّهُمَا شَرْطٌ لوُقُوعِهِ وَأَمَّا اليَمِينُ فَوُجِدَتْ مَعَ شَرْطِ الطَّلاقِ فَسَبَقَتْ وُقُوعُهُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ اليَمِينَ هِيَ اللفْظُ المُجَرَّدُ وَهُوَ المُعَلقُ عَليْهِ الطَّلاقُ فَإِذَا قَال: إنْ كَلمْتُك فَأَنْتِ طَالقٌ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلهِ: إنْ حَلفْتُ يَمِينًا بِطَلاقِك عَلى كَلامِك فَأَنْتِ طَالقٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَ اليَمِينِ سَابِقَةٌ لوُقُوعِ الطَّلاقِ.
وَمِنْهَا: إذَا قَال لامْرَأَتَيْهِ وَإِحْدَاهُمَا غَيْرُ مَدْخُول بِهَا: إنْ حَلفْتُ بِطَلاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالقَتَانِ ثُمَّ قَالهُ ثَانِيًا فَإِنَّهُمَا يُطَلقَانِ طَلقَةً -لكل منهما-عَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ وَانْعَقَدَتْ اليَمِينُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي حَقِّ المَدْخُول بِهَا.
وَأَمَّا فِي حَقِّ التِي لمْ يَدْخُل بِهَا فَفِي انْعِقَادِهَا وَجْهَانِ:
إحداهُمَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ وَهُوَ قَوْل أَبِي الخَطَّابِ وَصَاحِبِ المُحَرَّرِ وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا لأَنَّ اليَمِينَ سَبَبُ البَيْنُونَةِ وَوُجِدَتْ مَعَ شَرْطِ الطَّلاقِ لا مَعَ وُقُوعِ الطَّلاقِ.
وَالثَّانِي: لا يَنْعَقِدُ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي غَيْرَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي النَّسْخِ خَللٌ فِي تَعْليلهِ ; وَوَجْهُهُ أَنَّ اليَمِينَ وَإِنْ وُجِدَتْ مَعَ شَرْطِ الطَّلاقِ لكِنَّ انْعِقَادَهَا مُقارِنٌ لوُقُوعِ الطَّلاقِ فَلمْ يَنْعَقِدْ لاقْتِرَانِهِ بِمَا يَمْنَعُهُ , فَإِنْ أَعَادَهُ ثَالثًا قَبْل أَنْ يُجَدِّدَ نِكَاحَ البَائِنِ لمْ تَطْلقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَلى الوَجْهَيْنِ لأَنَّ الحَلفَ بِطَلاقِ البَائِنِ لا يُمْكِنُ فَإِنْ عَادَ وَتَزَوَّجَ البَائِنَ ثُمَّ حَلفَ بِطَلاقِهَا وَحْدَهَا فَعَلى الوَجْهِ الثَّانِي لا تَطْلقُ لأَنَّ اليَمِينَ الثَّانِيَة لمْ تَنْعَقِدْ بِحَقِّهَا وَتَطْلقُ الأُخْرَى طَلقَةً لوُجُودِ الحَلفِ بِطَلاقِهَا قَبْل نِكَاحِ الثَّانِيَة وَالحَلفُ بِطَلاقِ الثَّانِيَة بَعْدَ نِكَاحِهَا فَكَمُل الشَّرْطُ فِي حَقِّ الأُولى , وَعَلى الوَجْهِ الأَوَّل تَطْلقُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلقَةً طَلقَةً لأَنَّ الصِّفَةَ الثَّانِيَة مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا كَذَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ.
وَأُورِدَ عَليْهِ أَنَّ طَلاقَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعَلقٌ بِشَرْطِ الحَلفِ بِطَلاقِهَا مَعَ طَلاقِ الأُخْرَى فَكُل وَاحِدٍ مِنْ الحَلفَيْنِ جُزْءُ عِلةٍ لطَلاقِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا , فَكَمَا أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ الحَلفِ بِطَلاقِهَا فِي زَمَنٍ يَكُونُ فِيهِ أَهْلاً لوُقُوعِ الطَّلاقِ كَذَلكَ الحَلفُ بِطَلاقِ ضَرَّتِهَا لأَنَّهُ جُزْءُ عِلةٍ لطَلاقِ نَفْسِهَا وَمِنْ تَمَامِ شَرْطِهِ فَكَيْفَ يَقَعُ بِهَذِهِ التِي جَدَّدَ نِكَاحَهَا الطَّلاقُ وَإِنَّمَا حَلفَ بِطَلاقِ ضَرَّتِهَا وَهِيَ بَائِنٌ. ؟! وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ كُلهَا فِي النِّكَاحِ لا حَاجَةَ إليْهِ , وَيَكْفِي وُجُودُ آخِرِهَا فِيهِ فَيَقَعُ الطَّلاقُ عَقِيبَهُ , وَذَكَرَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ أَنَّ هَذَا هُوَ المَذْهَبُ سَوَاءٌ قُلنَا يَكْفِي فِي الحِنْثِ وُجُودُ بَعْضِ الصِّفَةِ أَمْ لا , نَعَمْ إنْ قُلنَا يَكْفِي وُجُودُ بَعْضِهَا وَقَدْ وُجِدَ حَال البَيْنُونَةِ انْبَنَى عَلى أَنَّ الخِلافَ فِي حِل اليَمِينِ بِالصِّفَةِ المَوْجُودَةِ حَال البَيْنُونَةِ انْتَهَى.
وَعِنْدِي: أَنَّ هَذَا قَدْ يَتَخَرَّجُ عَلى خِلافِ المُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ اليَمِينَ لا تَنْحَل بِوُجُودِ الصِّفَةِ حَال البَيْنُونَةِ فَإِنْ قُلنَا: إنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عُمُومِ كَلامِهِ بِقَرِينَةِ الحَال فَوُجُودُ بَعْضِهَا حَال البَيْنُونَةِ لا عِبْرَةَ لهُ أَيْضًا
كَوُجُودِ جَمِيعِهَا , وَإِنْ قُلنَا إنَّ اليَمِينَ لا تَنْحَل بِدُونِ الحِنْثِ فِيهَا اُكْتُفِيَ بِوُجُودِ آخِرِهَا فِي النِّكَاحِ لإِمْكَانِ الحِنْثِ فِيهِ عَلى أَنَّ الاكْتِفَاءَ بِوُجُودِ بَعْضِ الصِّفَةِ حَال البَيْنُونَةِ وَبَعْضِهَا فِي النِّكَاحِ مَعَ قَوْلنَا لا يُكْتَفَى بِوُجُودِ بَعْضِ الصِّفَةِ فِي الطَّلاقِ وَقَوْلنَا إنَّ الصِّفَةَ المَوْجُودَةِ حَال البَيْنُونَةِ لا تَنْحَل بِهَا اليَمِينُ لا يَخْلو عَنْ إشْكَالٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمِنْهَا: إذَا اشْتَرَى مَرِيضٌ أَبَاهُ بِثَمَنٍ لا يَمْلكُ غَيْرَهُ وَهُوَ تِسْعَةُ دَنَانِيرَ وَقِيمَةُ الأَبِ سِتَّةٌ فَقَدْ حَصَل مِنْهَا عَطِيَّتَانِ مِنْ عَطَايَا المَرِيضِ مُحَابَاةُ البَائِعِ بِثُلثِ المَال وَعِتْقُ الأَبِ إذَا قُلنَا إنَّ عِتْقَهُ مِنْ الثُّلثِ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُحَرَّرِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول يَتَحَاصَّانِ لأَنَّ مِلكَ المَرِيضِ لأَبِيهِ مُقَارِنٌ لمِلكِ المُشْتَرِي لثَمَنِهِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَطِيَّةٌ مُنْجَزَةٌ فَتَحَاصًّا لتَقَارُنِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَنْفُذُ المُحَابَاةُ وَلا يُعْتَقُ الأَبُ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُحَرَّرِ لأَنَّ المُحَابَاةَ سَابِقَةٌ لعِتْقِ الأَبِ فَإِنَّ مَلكَ المُشْتَرِي الثَّمَنَ الذِي وَقَعَتْ المُحَابَاةُ فِيهِ وَقَعَ مُقَارِنًا لمِلكِ الأَبِ , وَعِتْقُهُ يَتَرَتَّبُ عَلى مِلكِهِ وَلمْ يُقَارِنْهُ فَقَدْ قَارَنَتْ المُحَابَاةُ شَرْطَ عِتْقِ الأَبِ لا عِتْقُهُ فَنَفَذَتْ كَسَبَقِهَا.
وَمِنْهَا: لوْ أَصْدَقَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول عَلى خَمْسِينَ مِنْ المَهْرِ فَهَل تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ المَهْرِ أَوْ ثَلاثَةَ أَرْبَاعِهِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهُ كُلهُ لأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عِوَضًا عَنْ الطَّلاقِ خَمْسِينَ وَرَجَعَ إليْهِ بِالطَّلاقِ قَبْل الدُّخُول النِّصْفُ البَاقِي.
وَالثَّانِي: تَسْتَحِقُّ ثَلاثَةَ أَرْبَاعِهِ لأَنَّ الطَّلاقَ يَنْتَصِفُ بِهِ المَهْرُ وَيَصِيرُ مُشَاعًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَلا يَسْتَحِقُّ مِنْ الخَمْسِينَ المُخَالعِ بِهَا إلا نِصْفَهَا , فَلا يُسَلمُ للزَّوْجِ عِوَضًا عَنْ طَلاقِهِ إلا نِصْفُ الخَمْسِينَ وَيَرْجِعُ إليْهِ بِالطَّلاقِ النِّصْفُ.
وَمَنْ نَصَرَ الوَجْهَ الأَوَّل قَال تَنَصُّفُ المَهْرِ يَتَرَتَّبُ عَلى الخُلعِ لا يُفَارِقُهُ فَقَدْ مَلكَ الخَمْسِينَ كُلهَا قَبْل التَّنْصِيفِ , لكِنَّ مِلكَهُ لهَا قَارَنَ سَبَبَ التَّنْصِيفِ وَهُوَ البَيْنُونَةُ فَهَذَا مَأْخَذُ الوَجْهَيْنِ.
وَللمَسْأَلةِ مَأْخَذٌ آخَرُ عَلى تَقْدِيرِ التَّنَصُّفِ قَبْل المِلكِ: وَهُوَ أَنْ يُخَالعَهَا لخَمْسِينَ مِنْ المَهْرِ مَعَ عِلمِهَا بِأَنَّ المَهْرَ يَنْتَصِفُ بِالمُخَالعَةِ هَل يَتَنَزَّل عَلى خَمْسِينَ مُبْهَمَةٍ مِنْهُ أَوْ عَلى الخَمْسِينَ التِي يَسْتَقِرُّ لهَا بِالطَّلاقِ وَفِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ , وَعَليْهِمَا يَتَنَزَّل الوَجْهَانِ فِيمَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ السِّلعَةِ المُشْتَرَكَةِ هَل يَتَنَزَّل البَيْعُ عَلى نِصْفٍ مُشَاعٍ وَإِنَّمَا لهُ فِيهِ نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ أَوْ عَلى النِّصْفِ الذِي يَخُصُّهُ بِمِلكِهِ؟ وَكَذَلكَ فِي الوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَاخْتِيَارُ القَاضِي أَنَّهُ يَتَنَزَّل عَلى النِّصْفِ الذِي يَخُصُّهُ كُلهُ بِخِلافِ مَا إذَا قَال لهُ:
أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ وَهُوَ لا يَمْلكُ سِوَى النِّصْفِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْهُ الرُّبُعَ لأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي المِلكَيْنِ بِخِلافِ البَيْعِ.
وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ لا يَصِحُّ بَيْعُ النِّصْفِ حَتَّى يَقُول نَصِيبِي فَإِنْ أَطْلقَ تَنَزَّل عَلى الرُّبُعِ.
وَمِنْهَا إذَا تَزَوَّجَ فِي مَرَضِ المَوْتِ بِمَهْرٍ يَزِيدُ عَلى مَهْرِ المِثْل فَفِي المُحَابَاةِ رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلى إجَازَةِ الوَرَثَةِ لأَنَّهَا عَطِيَّةُ الوَارِثِ.
وَالثَّانِيَة: تَنْفُذُ مِنْ الثُّلثِ نَقَلهَا المَرُّوذِيّ وَالأَثْرَمُ وَصَالحٌ وَابْنُ مَنْصُورٍ وَالفَضْل بْنُ زِيَادٍ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهُ أَنَّ الإِرْثَ المُقَارِنَ للعَطِيَّةِ لا يَمْنَعُ نُفُوذَهَا وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال: إنَّ الزَّوْجَةَ مِلكُهَا فِي حَال مِلكِ الزَّوْجِ البُضْعَ وَثُبُوتُ الإِرْثِ مُتَرَتِّبٌ عَلى ذَلكَ.
وَكَذَلكَ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ فِيمَنْ أَقَرَّ لزَوْجَتِهِ فِي مَرَضِهِ بِمَهْرٍ يَزِيد عَلى مَهْرِ المِثْل أَنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ مِنْ الثُّلثِ وَوَجَّهَهُ القَاضِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّرْتِيبِ لأَنَّ الإِقْرَارَ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِالعَقْدِ وَهَذَا كُلهُ يَرْجِعُ إلى أَنَّ العَطِيَّةَ وَالوَصِيَّةَ لمَنْ يَصِيرُ وَارِثًا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلثِ وَهُوَ خِلافُ المَذْهَبِ المَعْرُوفِ لكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الوَارِثُ نَسِيبًا أَوْ زَوْجًا كَمَا فَرَّقَ القَاضِي فِي كِتَابِ الوَصَايَا مِنْ خِلافِهِ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلةِ الإِقْرَارِ لأَنَّ النَّسَبَ سَبَبٌ إرْثُهُ قَائِمٌ حَال الوَصِيَّةِ بِخِلافِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَفِيمَا ذَكَرَهُ القَاضِي فِي تَوْجِيهِ رواية أَبِي طَالبٍ نَظَرٌ فَإِنَّ أَحْمَدَ لوْ اعْتَبَرَ حَالةَ العَقْدِ لمَا جَعَلهُ مِنْ الثُّلثِ , وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ رِوَايَةٌ عَنْهُ بِأَنَّ إقْرَارَ المَرِيضِ لوَارِثِهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلثِ وَاَلله أَعْلمُ.
القاعدة الثامنة والخمسون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالخَمْسُونَ:مَنْ تَعَلقَ بِهِ الامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ مُتَلبِّسٌ بِهِ فَبَادَرَ إلى الإِقْلاعِ عَنْهُ , هَل يَكُونُ إقْلاعُهُ فِعْلاً للمَمْنُوعِ مِنْهُ أَوْ تَرْكًا لهُ فَلا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ؟ هَذَا عِدَّةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: أَلا يَتَعَلقَ بِهِ حُكْمُ الامْتِنَاعِ بِالكُليَّةِ إلا وَهُوَ مُتَلبِّسٌ بِهِ فَلا يَكُونُ نَزْعُهُ فِعْلاً للمَمْنُوعِ مِنْهُ.
فَمِنْ ذَلكَ إذَا حَلفَ لا يَلبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ لابِسُهُ , أَوْ لا يَرْكَبُ دَابَّةً وَهُوَ رَاكِبُهَا , أَوْ لا يَدْخُل دَارًا وَهُوَ فِيهَا , وَقُلنَا إنَّ الاسْتِدَامَةَ كَالابْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الأَفْعَال فَخَلعَ الثَّوْبَ وَنَزَل عَنْ الدَّابَّةِ وَخَرَجَ مِنْ الدَّارِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِمْكَانِ , فَإِنَّهُ لا يَحْنَثُ لأَنَّ اليَمِينَ تَقْتَضِي الكَفَّ فِي المُسْتَقْبَل دُونَ المَاضِي وَالحَال فَيَتَعَلقُ الحُكْمُ بِأَوَّل أَوْقَاتِ الإِمْكَانِ.
وَمِنْهُ: مَا إذَا أَحْرَمَ وَعَليْهِ قَمِيصٌ فَإِنَّهُ يَنْزِعُهُ فِي الحَال وَلا فِدْيَةَ عَليْهِ ; لأَنَّ مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ إنَّمَا تَتَرَتَّبُ عَلى المُحْرِمِ لا عَلى المُحِل وَلا يُقَال إنَّهُ بِإِقْدَامِهِ عَلى إنْشَاءِ الإِحْرَامِ وَهُوَ مُتَلبِّسٌ بِمَحْظُورَاتِهِ مُنْتَسِبٌ إلى مُصَاحَبَةِ اللبْسِ فِي الإِحْرَامِ كَمَا لا يُقَال مِثْل ذَلكَ فِي الحَالفِ وَالنَّاذِرِ فَإِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ لا يَحْلفَ وَلا يَنْذِرَ حَتَّى يَتْرُكَ التَّلبُّسَ بِمَا يَحْلفُ عَليْهِ.
وَمِنْهُ: مَا إذَا فَعَل فِعْلاً مُحَرَّمًا جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَليْهِ قَطْعُهُ فِي الحَال وَلا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ أَحْكَامُ المتعمد لهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الفِعْل فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَيَعْلمَ بِالمَنْعِ وَلكِنْ لا يشعر بِوَقْتِ المَنْعِ حَتَّى يَتَلبَّسَ بِالفِعْل فَيُقْلعَ عَنْهُ فِي الحَال.
فَاخْتَلفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلكَ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ حُكْمُ الفِعْل المَنْهِيِّ عَنْهُ بَل يَكُونُ إقْلاعُهُ تَرْكًا للفِعْل لأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ مُبَاحًا حَيْثُ وَقَعَ قَبْل وَقْتِ التَّحْرِيمِ , وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ العُكْبَرِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الفَاعِل بِتَرْكِهِ لإِقْدَامِهِ عَلى الفِعْل مَعَ عِلمِهِ بِتَحْرِيمِهِ فِي وَقْتِهِ لا سِيَّمَا مَعَ قُرْبِ الوَقْتِ وَهَذَا ظَاهِرُ المَذْهَبِ.
مِنْ صُوَرِ المَسْأَلةِ مَا إذَا جَامَعَ فِي ليْل رَمَضَانَ فَأَدْرَكَهُ الفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ فِي الحَال فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يُفْطِرُ بِذَلكَ وَفِي الكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ وَاخْتَارَ أَبُو حَفْصٍ أَنَّهُ لا يُفْطِرُ وَلا خِلافَ فِي أَنَّهُ لا يَأْثَمُ إذَا كَانَ حَال الابْتِدَاءِ مُتَيَقِّنًا لبَقَاءِ الليْل.
وَيَبْنِي بَعْضُ الأَصْحَابِ المَسْأَلةَ عَلى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ النَّزْعَ هَل هُوَ جُزْءٌ مِنْ الجِمَاعِ أَوْ ليْسَ مِنْ الجِمَاعِ؟ وَحَكَى فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لا يُفْطِرُبالنزع فِي هَذِهِ الحَالةِ وَلا بِالأَكْل وَلا بِغَيْرِهِ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلقُ بِهِ حُكْمُ وُجُوبِ الإِمْسَاكِ عَنْ المُفْطِرَاتِ بَعْدَ العِلمِ بِطُلوعِ الفَجْرِ فَلا يَكُونُ الوَاقِعُ مِنْهَا فِي حَالةِ الطُّلوعِ مُحَرَّمًا أَلبَتَّةَ كَمَا قُلنَا فِي مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ إنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ التَّلبُّسِ بِهِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى ذَلكَ فَإِنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طُلوعِ الفَجْرِ فَإِنَّهُ يَأْكُل حَتَّى لا يَشُكَّ أَنَّهُ طَلعَ وَفِي المَسْأَلةِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ تَدُل عَلى ذَلكَ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمِنْهَا: إذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ فَحَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الوَطْءِ فَنَزَعَ هَل يَلزَمُهُ الكَفَّارَةُ؟
إذَا قُلنَا يَلزَمُ المَعْذُورُ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَهَا عَلى النَّزْعِ هَل هُوَ جِمَاعٌ أَمْ تَرْكٌ للجِمَاعِ , وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهَا عَلى مَسْأَلةٍ للصَّوْمِ وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلمُ بِمُقْتَضَى العَادَةِ قُرْبَ وَقْتِ حَيْضِهَا ثُمَّ وَطِئَ وَهُوَ يَخْشَى مُفَاجَأَةَ الحَيْضِ هُوَ شَبِيهٌ بِمَسْأَلةِ الصَّوْمِ وَإِلا فَلا كَفَّارَةَ لأَنَّهُ إنَّمَا تَعَلقَ بِهِ المَنْعُ بَعْدَ وُجُودِ
الحَيْضِ وَقَدْ تَرَكَ الوَطْءَ حِينَئِذٍ ، وَكَذَلكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَال فِي الوَطْءِ فِي ليْل الصِّيَامِ: إنَّهُ إنْ ظَنَّ بَقَاءَ الليْل وَأَنَّهُ فِي مُهْلةٍ مِنْهُ لمْ يُفْطِرْ وَإِنْ خَشِيَ مُفَاجَأَةَ الفَجْرِ أَفْطَرَ لأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلى مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ ابْتِدَاءً.
النَّوْعُ الثَّالثُ: أَنْ يَعْلمَ قَبْل الشُّرُوعِ فِي فِعْلٍ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِيهِ تَرَتَّبَ عَليْهِ تَحْرِيمُهُ وَهُوَ مُتَلبِّسٌ بِهِ , فَهَل يُبَاحُ لهُ الإِقْدَامُ عَلى ذَلكَ الفِعْل لأَنَّ التَّحْرِيمَ لمْ يَثْبُتْ حِينَئِذٍ أَمْ لا يُبَاحُ لأَنَّهُ يَعْلمُ أَنَّ إتْمَامَهُ يَقَعُ حَرَامًا فِيهِ؟ لأَصْحَابِنَا قَوْلانِ.
وَمِثَال ذَلكَ: أَنْ يَقُول لزَوْجَتِهِ: إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالقٌ ثَلاثًا أَوْ فَأَنْتِ عَليَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَمِثْل أَنْ يَعْلمَ أَنَّهُ مَتَى أَوْلجَ فِي هَذَا الوَقْتِ طَلعَ عَليْهِ الفَجْرُ وَهُوَ مُولجٌ.
فَحَكَى الأَصْحَابُ فِي مَسْأَلةِ الطَّلاقِ وَالظِّهَارِ رِوَايَتَيْنِ بَنَوْهُمَا عَلى أَنَّ النَّزْعَ هَل هُوَ جِمَاعٌ أَوْ ليْسَ بِجِمَاعٍ وَرَجَّحَ صَاحِبُ المُغْنِي التَّحْرِيمَ فِي مَسْأَلةِ الطَّلاقِ وَالظِّهَارِ عَلى كِلا القَوْليْنِ لأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَهُوَ حَرَامٌ وَلوْ كَانَ لمَسَ بَدَنَهَا لشَهْوَةٍ فَلمْسُ الفَرْجِ بِالفَرْجِ أَوْلى بِخِلافِ الصَّائِمِ فَإِنَّهُ لا يُفْطِرُ إلا بِالوَطْءِ وَيُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنِ النّزْعِ وَطْئًا.
قَال: فَإِنْ قِيل هَذَا إنَّمَا يَحْصُل ضَرُورَةً تَرَكَ الوَطْءَ الحَرَامَ قُلنَا: فَإِذَا لمْ يَكُنْ الوَطْءُ إلا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ ضَرُورَةً وَهُوَ تَرْكُ الحَرَامِ كَمَا لوْ اخْتَلطَ لحْمُ الخِنْزِيرِ بِلحْمٍ مُبَاحٍ لا يُمْكِنُهُ أَكْلهُ إلا بِأَكْل لحْمِ الخِنْزِيرِ أَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ فَإِنَّ الجَمِيعَ مُحَرَّمٌ انْتَهَى.
وَليْسَ هَذَا مُطَابِقًا لمَسْأَلتِنَا فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الوَطْءِ هُنَا مُنْفَرِدٌ عَنْ الحَرَامِ مُتَمَيِّزٌ عَنْهُ لمْ يَشْتَبِهْ بِحَرَامٍ أَوْ لمْ يَخْتَلطْ بِهِ , فَإِذَا انْضَمَّ إلى ذَلكَ أَنَّ النَّزْعَ تَرْكٌ للحَرَامِ لمْ يَبْقَ هَهُنَا حَرَامٌ , وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّزْعَ هَهُنَا مُقَارِنٌ البَيْنُونَةَ فَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي تَحْرِيمِهِ كَمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَهُ وَأَمَّا الإِيلاجُ فَمُقَارِنٌ لشَرْطِ البَيْنُونَةِ.
فَإِنْ قِيل: إنَّ المُقَارِنَ للشَّرْطِ كَالمُقَارِنِ للمَشْرُوطِ عَلى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي القَاعِدَةِ التِي قَبْلهَا تَوَجَّهَ تَحْرِيمُهُ أَيْضًا وَإِلا فَلا.
وَأَيْضًا فَمَنْ يَقُول: النَّزْعُ جُزْءٌ مِنْ الجِمَاعِ وَإِنَّ الجِمَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ الإِيلاجِ وَالنَّزْعِ يَلتَزِمُ أَنَّ الطَّلاقَ وَالظِّهَارَ إنَّمَا يَقَعَانِ بَعْدَ النَّزْعِ لا قَبْلهُ فَلا يَحْصُل فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَلا مُظَاهَرٍ مِنْهَا وَلا يُقَال: يَلزَمُ عَلى هَذَا أَنْ لا يُفْطِرَ الصَّائِمُ بِالإِيلاجِ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا نَزَعَ بَعْدَهُ لأَنَّ مُفْطِرَاتِ الصَّائِمِ لمْ تَنْحَصِرْ فِي الجِمَاعِ وَحْدَهُ بَل تَحْصُل بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْصُل بِأَحَدِ جُزْأَيْ الجِمَاعِ كَمَا يَحْصُل
بِالإِنْزَال بِالمُبَاشَرَةِ وَنَحْوِهِ بِخِلافِ الأَحْكَامِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى مُسَمَّى الوَطْءِ فَإِنَّهَا لا تَثْبُتُ إلا بَعْدَ تَمَامِ مُسَمَّى الوَطْءِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَعَمَّدَ الشُّرُوعَ فِي فِعْلٍ مُحَرَّمٍ عَالمًا بِتَحْرِيمِهِ ثُمَّ يُرِيدُ تَرْكَهُ وَالخُرُوجَ مِنْهُ وَهُوَ مُتَلبِّسٌ بِهِ فَيَشْرَعُ فِي التَّخَلصِ مِنْهُ بِمُبَاشَرَةٍ أَيْضًا , كَمَنْ تَوَسَّطَ دَارًا مَغْصُوبَةً ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ وَأَخَذَ فِي الخُرُوجِ مِنْهَا , أَوْ طَيَّبَ المُحْرِمُ بَدَنَهُ عَامِدًا ثُمَّ تَابَ , وَشَرَعَ فِي غَسْلهِ بِيَدِهِ قَصْدًا لإِزَالتِهِ , أَوْ غَصَبَ عَيْنًا ثُمَّ نَدِمَ وَشَرَعَ فِي حَمْلهَا عَلى رَأْسِهِ إلى صَاحِبِهَا , وَمَا أَشْبَهَ ذَلكَ.
وَالكَلامُ هَهُنَا في مَقَامَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هَل تَصِحُّ التَّوْبَةُ فِي هَذَا الحَال وَيَزُول الإِثْمُ بِمُجَرَّدِهَا , أَوْ لا يَزُول حَتَّى يَنْفَصِل عَنْ مُلابَسَةِ الفِعْل بِالكُليَّةِ , وَفِيهِ لأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ وَيَزُول عَنْهُ الإِثْمُ بِمُجَرَّدِهَا وَيَكُونُ تَخَلصُهُ مِنْ الفِعْل طَاعَةً وَإِنْ كَانَ مُلابِسًا لهُ لأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَلا يَكُونُ مَعْصِيَةً , وَلا يُقَال: مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ الإِقْلاعُ وَلمْ يُوجَدْ لأَنَّ هَذَا هُوَ الإِقْلاعُ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا فَالإِقْلاعُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ مَعَ القُدْرَةِ عَليْهِ دُونَ العَجْزِ , كَمَا لوْ تَابَ الغَاصِبُ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فِي الدَّارِ المَغْصُوبَةِ أَوْ تَوَسَّطَ جَمْعًا مِنْ الجَرْحَى متعمداً ثُمَّ تَابَ وَقَدْ عَلمَ أَنَّهُ إنْ أَقَامَ قَتَل مَنْ هُوَ عَليْهِ وَإِنْ انْتَقَل قَتَل غَيْرَهُ لكِنَّ هَذَا مِنْ مَحَل النِّزَاعِ أَيْضًا.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي الخَطَّابِ أَنَّ حَرَكَاتِ الغَاصِبِ وَنَحْوِهِ فِي جُرُوحِهِ ليْسَتْ طَاعَةً وَلا مَأْمُورًا بِهَا بَل هِيَ مَعْصِيَةٌ وَلكِنَّهُ يَفْعَلهَا لدَفْعِ أَكْبَرِ المَعْصِيَتَيْنِ بِأَقَلهِمَا وَأَبُو الخَطَّابِ وَإِنْ قَال: ليْسَتْ طَاعَةً هُوَ يَقُول لا إثْمَ فِيهَا بَل يَقُول بِوُجُوبِهَا وَهُوَ مَعْنَى الطَّاعَةِ.
وَخَرَّجَ بَعْضُ الأَصْحَابِ الخِلافَ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ عَلى جَوَازِ الخِلافِ فِي الإِقْدَامِ عَلى الوَطْءِ فِي مَسَائِل النَّوْعِ الثَّالثِ فَإِنْ قِيل بِجَوَازِهِ لزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ امْتِثَالاً مِنْ كُل وَجْهٍ فَلا يَكُونُ مَعْصِيَةً وَإِنْ قِيل بِتَحْرِيمِهِ لزِمَ تَحْرِيمُ التَّرْكِ هَهُنَا وَقَدْ يُفَرَّقُ بِالتَّحْرِيمِ ثُمَّ طَارَ وَهُنَا مُسْتَصْحَبٌ مِنْ الابْتِدَاءِ فَلا يَلزَمُ مِنْ الجَوَازِ ثُمَّ الجَوَازُ هُنَا , وَيَلزَمُ مِنْ التَّحْرِيمِ هُنَاكَ التَّحْرِيمُ هَهُنَا بِطَرِيقِ الأَوْلى.
وَالمَقَامُ الثَّانِي فِي الأَحْكَامِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى هَذَا الأَصْل وَهِيَ كَثِيرَةٌ.
فَمِنْهَا: غَسْل الطِّيبِ بِيَدِهِ للمُحْرِمِ يَجُوزُ لأَنَّ تَرْكَ الطِّيبِ لا فِعْل لهُ ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ وَاسْتَدَلوا بِحَدِيثِ الذِي أَحْرَمَ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يَغْسِلهُ عَنْهُ , وَلكِنَّ هَذَا كَانَ جَاهِلاً بِالحُكْمِ فَهُوَ كَمَنْ تَطَيَّبَ بَعْدَ إحْرَامِهِ نَاسِيًا فَإِنَّهُ يَغْسِلهُ بِغَيْرِ خِلافٍ.
وَخَصَّ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ كَالقَاضِي وَغَيْرِهِ الحُكْمَ بِالنَّاسِي وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ العَامِدَ بِخِلافِهِ وَهُوَ مُتَخَرَّجٌ عَلى الخِلافِ السَّابِقِ فِي كَوْنِهِ مَعْصِيَةً , وَالصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ لأَنَّ مُبَاشَرَةَ الفِعْل إنَّمَا جَازَتْ ضَرُورَةً اِلخُرُوجِ مِنْهُ وَالمُحْرِمُ لا ضَرُورَةَ لهُ بِالغَسْل بِيَدِهِ , فَلمَّا أَذِنَ الشَّارِعُ فِيهِ دَل عَلى أَنَّ مُبَاشَرَةَ الطِّيبِ لقَصْدِ إزَالتِهِ وَمُعَالجَتِهِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ.
وَمِنْهَا: إذَا تَعَمَّدَ المَأْمُومُ سَبْقَ إمَامِهِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ وَقُلنَا لا تَبْطُل صَلاتُهُ بِمُجَرَّدِ تَعَمُّدِ السَّبْقِ , فَهَل يَجِبُ عَليْهِ العَوْدُ إلى مُتَابَعَتِهِ للإِمَامِ أَمْ لا؟ أَطْلقَ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ وُجُوبَ العَوْدِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقِ بين العَامِدِ وَغَيْرِهِ , كَمَا وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ عَنْ الصَّحَابَةِ: عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَفَرَّقَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ بَيْنَ العَامِدِ وَغَيْرِهِ وَقَال: مَتَى عَادَ العَامِدُ بَطَلتْ صَلاتُهُ لأَنَّهُ قَدْ تَعَمَّدَ زِيَادَةَ رُكْنٍ كَامِلٍ عَمْدًا وَإِنَّمَا يَعُودُ السَّاهِي وَالجَاهِل.
وَقَدْ يُقَال إنَّ عَوْدَ العَامِدِ يَتَخَرَّجُ عَلى أَنَّ العَوْدَ إنَّمَا هُوَ قَطْعٌ للفِعْل المَنْهِيِّ عَنْهُ الذِي ارْتَكَبَهُ وَرَجَعَ عَنْهُ إلى مُتَابَعَةِ الإِمَامِ الوَاجِبَةِ فَلا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَل مَأْمُوراً بِهِ كَالخُرُوجِ مِنْ الدَّارِ المَغْصُوبَةِ وَنَحْوِهَا عَلى مَا سَبَقَ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ السُّجُودِ وَضْعُ الأَعْضَاءِ المَخْصُوصَةِ عَلى الأَرْضِ فَإِذَا زِيدَ هَذَا المِقْدَارُ عَمْدًا بَطَلتْ بِهِ الصَّلاةُ وَأَمَّا الهُوَى إليْهِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ فَليْسَا مِنْ مَاهِيَّتِهِ وَإِنَّمَا هُمَا حَدَّانِ لهُ فَلا أَثَرَ لنِيَّةِ قَطْعِهِا بِالرَّفْعِ فَإِنَّ الرَّفْعَ ليْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ غَايَةٌ لهُ وَفَصْلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَمَا مَضَى مِنْهُ وَوُجِدَ لا يُمْكِنُ رَفْعُهُ , وَهُوَ سُجُودٌ تَامٌّ فَتَبْطُل الصَّلاةُ بِزِيَادَتِهِ عَمْدًا , وَهَذَا قَدْ يَلزَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّبْقَ للرُّكْنِ عَمْدًا يُبْطِل الصَّلاةَ وَقَدْ قِيل إنَّهُ المَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ.
وَعَلى الوَجْهِ الآخَرِ فَيُقَال لمَّا لحِقَهُ الإِمَامُ فِي هَذَا الرُّكْنِ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ فِيهِ اُكْتُفِيَ بِذَلكَ فِي المُتَابَعَةِ.
القاعدة التاسعة والخمسون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَة وَالخَمْسُونَ:العُقُودُ لا تُرَدُّ إلا عَلى مَوْجُودٍ بِالفِعْل أَوْ بِالقُوَّةِ , وَأَمَّا الفُسُوخُ فَتُرَدُّ عَلى المَعْدُومِ حُكْمًا وَاخْتِيَارًا عَلى الصَّحِيحِ وَقَدْ دَل عَليْهِ حَدِيثُ المُصَرَّاةِ حَيْثُ أَوْجَبَ الشَّارِعُ رَدَّ صَاعِ التَّمْرِ عِوَضًا عَنْ اللبَنِ بَعْدَ تَلفِهِ وَهُوَ مِمَّا وَرَدَ العَقْدُ عَليْهِ فَدَل عَلى أَنَّهُ حَكَمَ بِفَسْخِ العَقْدِ فِيهِ وَرَدِّ عِوَضِهِ مَعَ أَصْلهِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ كَامِلاً فَأَمَّا الانْفِسَاخُ الحُكْمِيُّ بِالتَّلفِ فَفِي مَوَاضِعَ:
مِنْهَا: إذَا تَلفَ المَبِيعُ المُبْهَمُ قَبْل قَبْضِهِ انْفَسَخَ العَقْدُ فِيهِ وَفِي عِوَضِهِ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَنًا أَوْ مُثْمَنًا
وَمِنْهَا: إذَا تَلفَتْ العَيْنُ المُسْتَأْجَرَةُ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ الإِجَارَةِ انْفَسَخَ العَقْدُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. وَأَمَّا الفَسْخُ الاخْتِيَارِيُّ فَكَثِيرٌ.
وَمِنْ مَسَائِلهِ: إذَا تَلفَ المَبِيعُ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ هَل يَسْقُطُ الخِيَارُ أَمْ لا يَسْقُطُ؟ وَللبَائِعِ الفَسْخُ فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ وَيَرُدُّ الثَّمَنَ عَلى رِوَايَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ وَنَقَل أَبُو طَالبٍ عَنْهُ: إنْ أَعْتَقَهُ المُشْتَرِي أَوْ تَلفَ عَنْهُ فَللبَائِعِ الثَّمَنُ وَإِنْ بَاعَهُ وَلمْ يُمْكِنْهُ رَدُّهُ فَلهُ القِيمَةُ فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّلفِ الحِسِّيِّ وَالحُكْمِيِّ وَبَيْنَ التَّفْوِيتِ مَعَ بَقَاءِ العَيْنِ فَأَجَازَ الفَسْخَ مَعَ بَقَائِهَا لإِمْكَانِ الرُّجُوعِ بِخِلافِ التَّلفِ. وَأَيْضًا فَتَصَرُّفُهُ فِي المَبِيعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ جِنَايَةٌ حَال بِهَا بَيْنَ البَائِعِ وَالرُّجُوعِ فِي مَالهِ فَيَمْلكُ أَنْ يَفْسَخَ وَيُضَمِّنَهُ القِيمَةَ للحَيْلولةِ وَإِلى هَذَا المَأْخَذِ أَشَارَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ.
وَمِنْهَا: إذَا اخْتَلفَ المُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ تَلفِ المَبِيعِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: يَتَخَالفَانِ وَيُفْسَخُ البَيْعُ وَيَغْرَمُ المُشْتَرِي القِيمَةَ.
وَالثَّانِيَةُ: القَوْل قَوْل المُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَلا فَسْخَ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ.
وَمِنْهَا: إذَا تَبَايَعَا جَارِيَةً بِعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا وَقَدْ تَلفَ الآخَرُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ مَا بِيَدِهِ وَيَفْسَخُ العَقْدَ وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ التَّالفِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ وَلمْ يَذْكُرْ الأَصْحَابُ فِيهِ خِلافًا لأَنَّ هُنَا عَيْنٌ بَاقِيَةٌ يُمْكِنُ الفَسْخُ فِيهَا فَيَقَعُ الفَسْخُ فِي التَّالفِ تَبَعًا كَمَا لوْ كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا مُعَيَّنًا وَقَدْ تَلفَ فَإِنَّهُ لا خِلافَ أَنَّهُ يَرُدُّ السِّلعَةَ بِالعَيْبِ وَيَأْخُذُ بَدَل الثَّمَنِ.
وَمِنْهَا: إذَا تَلفَ بَعْضُ المَبِيعِ المَعِيبِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَهَل يَجُوزُ رَدُّ المَوْجُودِ مَعَ قِيمَةِ المَفْقُودِ وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ؟ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا جَوَازُهُ لأَنَّ الفَسْخَ فِي المَفْقُودِ هُنَا تَابِعٌ للفَسْخِ فِي المَوْجُودِ , وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ التَّلخِيصِ عَلى رِوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَبَانَ مَعِيبًا وَقَدْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيَرُدُّ مَعَهَا أَرْشَ العَيْبِ الحَادِثِ عِنْدَهُ مَنْسُوبًا مِنْ قِيمَتِهِ لا مِنْ ثَمَنِهِ فَوَرَدَ الفَسْخُ هُنَا عَلى المَفْقُودِ تَبَعًا للمَوْجُودِ وَاعْتَذَرَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ ضَمَانِهِ بِالقِيمَةِ فَإِنَّهُ لمَّا فَسَخَ العَقْدَ صَارَ المَبِيعُ فِي يَدِهِ كَالمَقْبُوضِ عَلى وَجْهِ السَّوْمِ لأَنَّهُ قَبَضَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَلذَلكَ ضَمِنَ بِالقِيمَةِ وَهَذَا رُجُوعٌ إلى أَنَّ الفَسْخَ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الأَصْل ضَمَانُهُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مَسَائِل التَّفْليسِ لأَنَّ كُل جُزْءٍ مِنْ المَبِيعِ مُقَابِلٌ لجُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ فَإِذَا لمْ يَكُنْ رَدَّ المَبِيعَ كُلهُ رَدَّ المَوْجُودَ مِنْهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَهَذَا خِلافُ أَرْشِ العَيْبِ الذِي يَأْخُذُهُ المُشْتَرِي مِنْ البَائِعِ فَإِنَّهُ
يَأْخُذُهُ مَنْسُوبًا مِنْ الثَّمَنِ وَاخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول هُوَ فَسْخٌ للعَقْدِ فِي مِقْدَارِ العَيْبِ وَرُجُوعٌ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ , وَعَلى هَذَا فَالفَسْخُ وَرَدَ عَلى مَعْدُومٍ مُسْتَحَقِّ التَّسْليمِ وَهَذَا فِي المُشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلمِ ظَاهِرًا لأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ سَليمًا فَأَمَّا فِي المُعَيَّنِ فَلمْ يَقَعْ العَقْدُ عَلى غَيْرِ عَيْنِهِ فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الأَرْشُ فَسْخًا إلا أَنْ يقال: إطْلاقُ العَقْدِ عَلى العَيْنِ يَقْتَضِي سَلامَتَهَا وَكَأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ السَّلامَةِ وَقَدْ فَاتَتْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول: بَل هُوَ عِوَضٌ عَنْ الجُزْءِ الفَائِتِ.
وَعَلى هَذَا فَهَل هُوَ عِوَضٌ عَنْ الجُزْءِ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قِيمَتِهِ؟ ذَهَبَ القَاضِي فِي خِلافِهِ إلى أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ القِيمَةِ وَذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ وَابْنُ المُنَى إلى أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ العَيْنِ عَنْهَا بِمَا شَاءَ.
وَإِنْ قُلنَا: القِيمَةَ لمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ قَال هُوَ إسْقَاطٌ لجُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلةِ الجُزْءِ الفَائِتِ الذِي تَعَذَّرَ تَسْليمُهُ لا عَلى وَجْهِ الفَسْخِ لأَنَّ الفَسْخَ لا يُقَابِل الفَائِتَةَ وَيَنْبَنِي عَلى ذَلكَ جَوَازُ المُصَالحَةِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ , فَإِنْ قُلنَا المَضْمُونُ العَيْنُ فَلهُ المُصَالحَةُ الصِّحَّةُ وَالسَّلامَةُ وَإِنَّمَا يُقَابِل الأَجْزَاءَ المُشَاعَةَ فَإِذَا عَقَدَ عَلى عَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ وَفَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهَا رَجَعَ بِمَا قَابَلهُ مِنْ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَال الثَّلاثَةِ قَالهُ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلافِهِ.
وَيَنْبَنِي عَلى الخِلافِ فِي أَنَّ الأَرْشَ فَسْخٌ أَوْ إسْقَاطٌ لجُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ مُعَاوَضَةٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ فَسْخًا أَوْ إسْقَاطًا لمْ يَرْجِعْ إلا بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَيَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ عَيْنِ الثَّمَنِ مَعَ بَقَائِهِ بِخِلافِ مَا إذَا قُلنَا هُوَ مُعَاوَضَةٌ وَأَمَّا إنْ أَسْقَطَ المُشْتَرِي خِيَارَ الرَّدِّ بِعِوَضٍ بَذَلهُ لهُ البَائِعُ وَقَبِلهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلى حَسَبِ مَا يَتَّفِقَانِ عَليْهِ وَليْسَ مِنْ الأَرْشِ فِي شَيْءٍ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الشُّفْعَةِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى مِثْلهِ فِي النِّكَاحِ فِي خِيَارِ المُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ.
وَمِنْهَا: إذَا تَلفَتْ العَيْنُ المَعِيبَةُ كُلهَا فَهَل يَمْلكُ المُشْتَرِي الفَسْخَ وَرَدِّ بَدَلهَا أَمْ لا؟ الذِي عَليْهِ الأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لا يَمْلكُ ذَلكَ وَأَشَارَ إليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ قَالوا: لأَنَّ الرَّدَّ يَسْتَدْعِي مَرْدُودًا وَلا مَرْدُودَ إلا مَعَ بَقَاءِ العَيْنِ وَظُلامَتُهُ تُسْتَدْرَكُ بِالأَرْشِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لأَنَّ البَدَل يَقُومُ مَقَامَ العَيْنِ وَخَرَّجَ القَاضِي فِي خِلافِهِ جَوَازَ ذَلكَ مِنْ رَدِّ المُشْتَرِي أَرْشَ العَيْبِ الحَادِثِ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ قِيَاسُ المَذْهَبِ وَتَابَعَهُ عَليْهِ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ , وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول مِنْ غَيْرِ خِلافٍ حَكَاهُ.
وَمِنْهَا: إذَا اشْتَرَى رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ فَبَانَ مَعِيبًا ثُمَّ تَلفَ قَبْل رَدِّهِ فَإِنَّهُ يَمْلكُ الفَسْخَ وَيَرُدُّ بَدَلهُ وَيَأْخُذُ لأَنَّهُ لا يَجُوزُ لهُ أَخْذُ الأَرْشِ عَلى الصَّحِيحِ بِمَحْذُورِ الرِّبَا فَتَعَيَّنَ الفَسْخُ.
وَمِنْهَا: الإِقَالةُ هَل تَصِحُّ بَعْدَ تَلفِ العَيْنِ؟ قَال القَاضِي مَرَّةً لا تَصِحُّ لأَنَّهَا عَقْدٌ يَقِفُ عَلى الرِّضَا مِنْ الجَانِبَيْنِ فَهِيَ كَالبَيْعِ بِخِلافِ الرَّدِّ بِالعَيْبِ ثُمَّ قَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قِيَاسُ المَذْهَبِ صِحَّتُهَا بَعْدَ التَّلفِ إذَا قُلنَا هِيَ فَسْخٌ وَتَابَعَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ وَحَكَى صَاحِبُ التَّلخِيصِ فِيهَا وَجْهَيْنِ بِخِلافِ الرَّدِّ بِالعَيْبِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الرَّدَّ يَسْتَدْعِي مَرْدُودًا بِخِلافِ الفَسْخِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الرَّدَّ فَسْخٌ أَيْضًا وَالإِقَالةُ تَسْتَدْعِي مُقَالاً فِيهِ وَلكِنَّ البَدَل يَقُومُ مَقَامَ المُبْدَل هُنَا للضَّرُورَةِ.
وَمِنْهَا: الشَّرِكَةُ فِي البُيُوعِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْهَا وَحَقِيقَتُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ شَيْئًا فَيَقُول لآخَرَ: أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْهُ فَيَقْبَل فَيَصِحُّ ذَلكَ وَيَكُونُ تَمْليكًا مُنَجَّزًا بِعِوَضٍ فِي الذِّمَّةِ وَمَوْضُوعُ هَذَا العَقْدِ أَنَّهُ إنْ رَبِحَ المَال المُشْتَرَكَ فِيهِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ويتقاصان بِالثَّمَنِ وَيَصِيرُ المُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ فَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنْهُ وَإِنْ تَلفَ المَال أَوْ خَسِرَ انْفَسَخَتْ الشَّرِكَةُ فَيَكُونُ الخُسْرَانُ أَوْ التَّلفُ عَلى المُشْتَرِي فَيُقَدِّرُ انْفِسَاخَ الشَّرِكَةِ حُكْمًا فِي آخِرِ زَمَنِ المِلكِ قَبْل بَيْعِهِ بِخَسَارَةٍ أَوْ تَلفِهِ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالانْفِسَاخِ بَعْدَ التَّلفِ وَالخُسْرَانِ فَيَكُونُ هَذَا العَقْدُ مُفِيدًا للشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ خَاصَّةً وَيَكُونُ فَسْخُهُ مُعَلقًا عَلى شَرْطٍ وَيُكْتَفَى بِذَلكَ بِمُسَمَّى الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى شَرْطٍ لفْظِيٍّ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى جَوَازِ هَذَا فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الأَثْرَمُ وَمُهَنَّا وَأَحْمَدُ بْنُ القَاسِمِ وَسِنْدِيٌّ وَأَبُو طَالبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ وَنُقِل مِثْل ذَلكَ عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ صَرِيحًا.
وَسُئِل أَحْمَدُ: هَل يَدْخُل هَذَا فِي رِبْحِ مَا لمْ يُضْمَنْ؟ فَقَال: هُوَ مِثْل المُضَارِبِ يَأْخُذُ الرِّبْحَ وَلا ضَمَانَ عَليْهِ.
وَقَدْ أَشْكَل تَوْجِيهُ كَلامِ أَحْمَدَ عَلى القَاضِي فَحَمَلهُ عَلى مَحَامِل بَعِيدَةٍ جِدًّا وَحَمَلهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى عَلى ظَاهِرِهِ وَتَبِعَهُ الشِّيرَازِيُّ إلا أَنَّهُ خَرَّجَ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الوَضِيعَةَ عَليْهِمَا كَالرِّبْحِ.
القاعدة الستون
القَاعِدَةُ السِّتُّونَ:التَّفَاسُخُ فِي العُقُودِ الجَائِزَةِ مَتَى تَضَمَّنَ ضَرَرًا عَلى أَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ لهُ تَعَلقٌ بِالعَقْدِ لمْ يَجُزْ وَلمْ يَنْفُذْ إلا أَنْ يُمْكِنَ اسْتِدْرَاكُ الضَّرَرِ بِضَمَانٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَجُوزُ عَلى ذَلكَ الوَجْهِ:
فَمِنْ ذَلكَ: المُوصَى إليْهِ أَطْلقَ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ أَنَّ لهُ الرَّدَّ بَعْدَ القَبُول فِي حَيَاةِ المُوصِي وَبَعْدَهُ وَقَيَّدَ ذَلكَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ بِمَا إذَا وَجَدَ حَاكِمًا لئَلا يَضِيعَ إسْنَادُهَا فَيَقَعُ الضَّرَرُ وَأَخَذَهَا مِنْ رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي الوَصِيِّ يَدْفَعُ الوَصِيَّةَ إلى الحَاكِمِ فَيَبْرَأُ مِنْهَا قَال: إنْ كَانَ حَاكِمًا فَنَعَمْ وَحَكَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لا يَمْلكُ الرَّدَّ بَعْدَ المَوْتِ بِحَالٍ وَلا قَبْلهُ إنْ لمْ يُعْلمْهُ بِذَلكَ لمَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِهِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً
أَنَّهُ ليْسَ لهُ الرَّدُّ بِحَالٍ إذَا قَبِلهَا وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ حَمَلهَا عَلى مَا بَعْدَ المَوْتِ , وَحَكَاهُمَا القَاضِي فِي خِلافِهِ صَرِيحًا فِي الحَاليْنِ.
وَمِنْهَا: الوَكِيل فِي بَيْعِ الرَّهْنِ إذَا عَزَلهُ الرَّاهِنُ يَصِحُّ عَزْلهُ عَلى المَنْصُوصُ لأَنَّ الحَاكِمَ يَأْمُرُهُ بِالبَيْعِ وَيَبِيعُ عَليْهِ وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لا يَنْعَزِل لأَنَّ فِيهِ تَغْرِيراً للمُرْتَهِنِ وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ ثَالثٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ حَاكِمٌ يَأْمُرُ بِالبَيْعِ أَوْ لا مِنْ مَسْأَلةِ الوَصِيَّةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ عَقْدِ الجِعَالةِ لكِنْ يَسْتَحِقُّ العَامِل أُجْرَةَ المِثْل لبُطْلانِ المُسَمَّى بِالفَسْخِ فَإِذَا عَمِل بِهِ أَحَدٌ مُسْتَنِدًا إليْهِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ المِثْل كَمَا لوْ سَمَّى لهُ تَسْمِيَةً فَاسِدَةً وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي جَعْل الرَّدِّ الآبِقِ المُسَمَّى بِالشُّرُوعِ لأَنَّ المُسْتَحَقّ بِالإِطْلاقِ وَقَدْ صَارَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ كَالعَدَمِ.
وَمِنْهَا: إذَا فَسَخ المَالكُ عَقْدَ المُسَاقَاةِ وَقُلنَا هِيَ جَائِزَةٌ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَنَصِيبُ العَامِل فِيهَا ثَابِتٌ لأَنَّهُ يَمْلكُهُ بِالظُّهُورِ رِوَايَةً وَاحِدَةً لأَنَّ حِصَّةَ المُسَاقِي ليْسَتْ وِقَايَةً للمَال بِخِلافِ المُضَارِبِ وَكَذَلكَ لوْ فَسَخَ العَامِل بَعْدَ الظُّهُورِ , وَأَمَّا إنْ كَانَ الفَسْخُ قَبْل الظُّهُورِ فَإِنْ كَانَ مِنْ العَامِل فَلا شَيْءَ لهُ لإِعْرَاضِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ المَالكِ فَعَليْهِ أُجْرَةُ المِثْل للعَامِل لأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ إتْمَامِ عَقْدٍ يَفْضِي إلى حُصُول المُسَمَّى لهُ غَالبًا فَلزِمَهُ ضَمَانُهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ ظُهُورَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الفَسْخِ لعَمَل العَامِل فِيهَا أَثَرٌ بِالقِيَامِ عَليْهَا وَخِدْمَتِهَا فَلا يَذْهَبُ عَمَلهُ مَجَّانًا وَقَدْ أَثَّرَ فِي حُصُول المَقْصُودِ وَيَتَوَجَّهُ عَلى قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ فِي المُضَارِبِ أَنْ يَنْفَسِخَ العَقْدُ بِالنِّسْبَةِ إلى المَالكِ دُونَ العَامِل فَيَسْتَحِقُّ مِنْ ثَمَرَةِ المُسَمَّى لهُ.
وَمِنْهَا: إذَا زَارَعَ رَجُلاً عَلى أَرْضِهِ ثُمَّ فَسَخَ المُزَارَعَةَ قَبْل ظُهُورِ الزَّرْعِ أَوْ قَبْل البَذْرِ وَبَعْدَ الحَرْثِ.
قَال ابْنُ مَنْصُورٍ فِي مَسَائِلهِ قُلت لأَحْمَدَ: الأَكَّارُ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الأَرْضِ فَيَبِيعُ الزَّرْعَ قَال: لا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهُ قُلت فَيَبِيعُ عَمَل يَدَيْهِ وَمَا عَمِل فِي الأَرْضِ وَليْسَ فِيهَا زَرْعٌ قَال لمْ يَجِبْ لهُ شَيْءٌ بَعْدُ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ التَّمَامِ.
قَال ابْنُ مَنْصُورٍ يَقُول: يَجِبُ لهُ بَعْدَ مَا يَبْلغُ الزَّرْعُ لمَا اُشْتُرِطَ عَليْهِ أَنْ يَعْمَل حَتَّى يَفْرُغَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ عَمَل يَدَيْهِ وَمَا أَنْفَقَ فِي الأَرْضِ فَلا وَذَلكَ أَنَّهُ إذَا أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ أَوْ خَرَجَ بِإِذْنِهِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ فَليْسَ لهُ شَيْءٌ انْتَهَى.
فَحَمَل ابْنُ مَنْصُورٍ قَوْل أَحْمَدَ أَنَّهُ لا شَيْءَ لهُ عَلى مَا إذَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ لأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الأَرْضِ بِخِلافِ مَا إذَا أَخْرَجَهُ المَالكُ أَوْ خَرَجَ بِإِذْنِهِ وَظَاهِرُ كَلامِهِ أَنَّهُ تَجِبُ لهُ أُجْرَةُ عَمَلهِ بِيَدَيْهِ
وَمَا أَنْفَقَ عَلى الأَرْضِ مِنْ مَالهِ مع أَنَّ كَلامَ أَحْمَدَ قَدْ يُحْمَل عَلى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لا يَبِيعُ آثَارَ عَمَلهِ لأَنَّهَا ليْسَتْ أَعْيَانًا وَهَذَا لا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا حَقَّ لهُ فِيهَا بِالكُليَّةِ.
وَلهَذَا نَقُول فِي آثَارِ الغَاصِبِ إنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا بِهَا عَلى أَحَدِ القَوْليْنِ وَالمُفْلسُ وَنَحْوُهُ لا خِلافَ فِيهِ مَعَ أَنَّ القَاضِيَ قَال فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ: قِيَاسُ المَذْهَبِ جَوَازُ بَيْعِ العِمَارَةِ التِي هِيَ الأثَارَةُ وَيَكُونُ شَرِيكًا فِي الأَرْضِ بِعِمَارَتِهِ.
وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَنْ زَارَعَ رَجُلاً عَلى مَزْرَعَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ أَجَّرَهَا هَل تَبْطُل المُزَارَعَةُ؟ أَنَّهُ إنْ زَارَعَهُ مُزَارَعَةً لازِمَةً لمْ تَبْطُل بِالإِجَارَةِ وَإِنْ لمْ تَكُنْ لازِمَةً أَعْطَى الفَلاحَ أُجْرَةَ عَمَلهِ وَأَفْتَى أَيْضًا فِي رَجُلٍ زَرَعَ أَرْضًا وَكَانَتْ بَوَارًا وَحَرَثَهَا فَهَل لهُ إذَا خَرَجَ مِنْهَا فَلاحُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ لهُ فِي الأَرْضِ فِلاحَةٌ لمْ يَنْتَفِعْ بِهَا فَلهُ قِيمَتُهَا عَلى مَنْ انْتَفَعَ بِهَا فَإِنْ كَانَ المَالكُ انْتَفَعَ بِهَا وَأَخَذَ عِوَضًا عَنْهَا مِنْ المُسْتَأْجِرَةِ فَضَمَانُهَا عَليْهِ وَإِنْ أَخَذَ الأُجْرَةَ عَنْ الأَرْضِ وَحْدَهَا فَضَمَانُ الفِلاحَةِ عَلى المُسْتَأْجِرِ المُنْتَفِعِ بِهَا.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعْلومَةً وَشَرَطَ عَليْهِ أَنْ يَرُدَّهَا مَفْلوحَةً كَمَا أَخَذَهَا أَنَّ لهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَليْهِ كَمَا شَرَطَ وَيَتَخَرَّجُ مِثْل ذَلكَ فِي المُزَارَعَةِ.
وَمِنْهَا: المُضَارَبَةُ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ المَالكِ لهَا وَلوْ كَانَ المَال عَرَضَا وَلكِنْ للمُضَارِبِ بَيْعُهُ بَعْدَ الفَسْخِ لتَعَلقِ حَقِّهِ بِرِبْحِهِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَذَكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي بَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ المُضَارِبَ لا يَنْعَزِل مَا دَامَ عَرْضًا بَل يَمْلكُ التَّصَرُّفَ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ المَال وَليْسَ للمَالكِ عَزْلهُ وَأِنَّ هَذَا ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ.
وَذَكَرَ فِي المُضَارَبَةِ أَنَّهُ يَنْعَزِل بِالنِّسْبَةِ إلى الشِّرَاءِ دُونَ البَيْعِ وَحَمَل صَاحِبُ المُغْنِي مُطْلقَ كَلامِهِمَا فِي الشَّرِكَةِ عَلى هَذَا التَّقْيِيدِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ المُضَارِبَ بَعْدَ الفَسْخِ يَمْلكُ تَنْضِيض المَال وَليْسَ للمَالكِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلكَ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ لكِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ العَامِل لا يَمْلكُ الفَسْخَ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ المَال مُرَاعَاةً لحَقِّ مَالكِهِ ثُمَّ قَال ابْنُ عَقِيلٍ: إذَا قَصَدَ المَالكُ بِعَزْلهِ الحِيلةَ لاقْتِطَاعِ الرِّبْحِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا يَرْجُو بِهِ الرِّبْحَ فِي مَوْسِمِ فَيَنْفَسِخُ قَبْلهُ ليُقَوِّمَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ وَيَأْخُذُهُ لمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ المُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ وَإِذَا جَاءَ المَوْسِمَ أَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْهُ فَجَعَل العَقْدَ بَاقِيًا بِالنِّسْبَةِ إلى اسْتِحْقَاقِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ الذِي أَرَادَ المَالكُ إسْقَاطَهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ بِعَمَل المُضَارِبِ فَهُوَ كَالفَسْخِ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي بَابِ الجِعَالةِ: المُضَارَبَةُ كَالجِعَالةِ لا يَمْلكُ رَبُّ المَال فَسْخَهَا بَعْدَ تَلبُّسِ العَامِل بِالعَمَل وَأَطْلقَ ذَلكَ وَقَال فِي مُفْرَدَاتِهِ: إنَّمَا يَمْلكُ المُضَارِبُ الفَسْخَ بَعْدَ أَنْ يَنِضَّ رَأْسَ المَال وَيَعْلمَ رَبُّ المَال أَنَّهُ أَرَادَ الفَسْخَ لئَلا يَتَمَادَى بِهِ الزَّمَانُ فَيَتَعَطَّل عَليْهِ الأَرْبَاحُ.
قَال: وَهَذَا هُوَ الأليق بِمَذْهَبِنَا وَأَنَّهُ لا يَحِل لأَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَاتِ الفَسْخُ مَعَ كَتْمِ شَرِيكِهِ لأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلى غَايَةِ الإِضْرَارِ وَهُوَ تَعْطِيل المَال عَنْ الفَوَائِدِ وَالأَرْبَاحِ وَلهَذَا لا يَمْلكُ عِنْدَنَا فَسْخَهَا وَرَأْسُ المَال قَدْ صَارَ عُرُوضًا لكِنْ إذَا بَاعَ وَنَضَّ رَأْسَ المَال يَنْفَسِخُ انْتَهَى.
وَحَاصِلهُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ للمُضَارِبِ الفَسْخُ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسَ المَال وَيَعْلمَ بِهِ رَبُّهُ لئَلا يَتَضَرَّرَ بِتَعْطِيل مَالهِ عَنْ الرِّبْحِ كَمَا ذَكَر أَنَّهُ فِي الفُضُول أَنَّ المَالكَ لا يَمْلكُ الفَسْخَ إذَا تَوَجَّهَ المَال إلى الرِّبْح وَلا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ العَامِل وَهُوَ حَسَنٌ جَارٍ عَلى قَوَاعِدِ المَذْهَبِ فِي اعْتِبَارِ المَقَاصِدِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ وَلهَذَا قُلنَا: إنَّ المُضَارِبَ إذَا ضَارَبَ لآخَرَ مِنْ غَيْرِ عِلمِ الأَوَّل وَكَانَ عَليْهِ فِي ذَلكَ ضَرَرٌ رَدَّ حَقَّهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الأَوَّل مَعَ مُخَالفَتِهِ لإِطْلاقِ الأَكْثَرِينَ أَنَّهُ إذَا فَسَخَ قَبْل الظُّهُورِ فَلا شَيْءَ لهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الجِعَالةِ فَفِيهِ بُعْدٌ إلا أَنْ يُنَزَّل عَلى مِثْل هَذَا الحَال مَعَ أَنَّ القَاضِيَ ذَكَرَ مِثْلهُ أَيْضًا فِي بَابِ الجِعَالةِ.
وَمِنْهَا: الشَّرِكَةُ إذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا عَقْدَهَا بِالقَوْل انْفَسَخَتْ وَإِنْ قَال الآخَرُ عَزَلتُكَ انْعَزَل المَعْزُول وَحْدَهُ ذَكَرَهُ القَاضِي وَيَنْفَسِخُ مَعَ كَوْنِ المَال عُرُوضًا أَوْ نَاضًّا وَحَكَى صَاحِبُ التَّلخِيصِ رِوَايَةً أُخْرَى لا يَنْعَزِل حَتَّى يَنِضَّ المَال كَالمُضَارِبِ قَال: وَهُوَ المَذْهَبُ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الشَّرِيكَ وَكِيلٌ وَالرِّبْحُ يَدْخُل تَبَعًا بِخِلافِ حَقِّ المُضَارِبِ فَإِنَّهُ أَصْليٌّ وَلا يَدْخُل بِدُونِ البَيْعِ.
وَمِنْهَا: الوَكِيل إذَا وَكَّلهُ فِي فِعْل شَيْءٍ ثُمَّ عَزَلهُ وَتَصَرَّفَ قَبْل العِلمِ تَصَرُّفًا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَهَل يَضْمَنُهُ المُوَكِّل؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِيمَا إذَا وَكَّلهُ فِي اسْتِيفَاءِ القِصَاصِ ثُمَّ عَزَلهُ فَاسْتَوْفَاهُ قَبْل العِلمِ قَال أَبُو بَكْرٍ: لا ضَمَانَ عَلى الوَكِيل فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال لعَدَمِ تَفْرِيطِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال لأَنَّ عَفْوَ مُوَكِّلهِ لمْ يَصِحَّ حَيْثُ حَصَل عَلى وَجْهٍ لا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فَهُوَ كَمَا لوْ عَفَى بَعْدَ الرَّمْيِ قَال أَبُو بَكْرٍ: وَهَل يَلزَمُ المُوَكِّل الضَّمَانُ؟ عَلى قَوْليْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا ضَمَانَ عَليْهِ وَوُجِّهَ بِأَنَّ عَفْوَهُ لمْ يَصِحَّ كَمَا ذَكَرْنَا وَبِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِالعَفْوِ فَلا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ الضَّمَانُ بِهِ.
وَالثَّانِي: عَليْهِ الضَّمَانُ لأَنَّهُ سَلطَهُ عَلى قَتْل مَعْصُومٍ لا يَعْلمُ بِعِصْمَتِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَليْهِ كَمَا لوْ أَمَرَ بِالقَتْل مَنْ لا يَعْلمُ تَحْرِيمَهُ فَقَتَل كَانَ الضَّمَانُ عَلى الآمِرِ.
وَللأَصْحَابِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ البِنَاءُ عَلى انْعِزَال الوَكِيل قَبْل العِلمِ فَإِنْ قُلنَا لا يَنْعَزِل لمْ يَصِحَّ العَفْوُ فَيَقَعُ القِصَاصُ مُسْتَحَقًّا لا ضَمَانَ فِيهِ , وَإِنْ قُلنَا يَنْعَزِل صَحَّ العَفْوُ وَضَمِنَ الوَكِيل كَمَا لوْ قَتَل مُرْتَدًّا وَكَانَ قَدْ أَسْلمَ وَلمْ يَعْلمْ بِهِ وَهَل يَرْجِعُ عَلى المُوَكِّل؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ لتَغْرِيرِهِ.
وَالثَّانِي: لا لأَنَّ العَفْوَ إحْسَانٌ مِنْهُ لا يَقْتَضِي الضَّمَانَ وَعَلى هَذَا فَالدِّيَةُ عَلى عَاقِلةِ الوَكِيل عِنْدَ أَبِي الخَطَّابِ لأَنَّهُ خَطَأٌ وعند القَاضِي فِي مَالهِ لأَنَّهُ عَمْدٌ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَقَدْ يُقَال: هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ كَذَا حَكَى صَاحِبُ المُغْنِي.
وَللأَصْحَابِ طَرِيقَةٌ ثَالثَةٌ وَهُوَ إنْ قُلنَا لا يَنْعَزِل لمْ يَضْمَنْ الوَكِيل وَهَل يَضْمَنُ العَافِي؟ عَلى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلى صِحَّةِ عَفْوِهِ , وَتَرَدَّدَا بَيْنَ تَغْرِيرِهِ وَإِحْسَانِهِ , وَإِنْ قُلنَا يَنْعَزِل لزِمَتْهُ الدِّيَةُ.
وَهَل يَكُونُ فِي مَالهِ أَوْ عَلى عَاقِلتِهِ عَلى وَجْهَيْنِ , وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ وَصَاحِبِ التَّرْغِيبِ وَزَادُوا إذَا قُلنَا فِي مَالهِ فَهَل يَرْجِعُ بِهَا عَلى المُوَكِّل؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَلوْ وَكَّلهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ أَوْشرائه أَوْ فِي عِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ عَزَلهُ ثُمَّ فَعَل مَا وَكَّلهُ فِيهِ قَبْل العِلمِ بِعَزْلهِ فَإِنْ قِيل لا يَنْعَزِل قَبْل العِلمِ فَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ وَلا كَلامَ وَإِنْ قِيل يَنْعَزِل فَالعَقْدُ بَاطِلٌ وَكَذَلكَ وَقْفُ المُشْتَرِي وَعِتْقُهُ.
وَأَمَّا اسْتِقْلالهُ فَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لا يَضْمَنُهُ الوَكِيل لانْتِفَاءِ تَفْرِيطِهِ وَالمُشْتَرِي مَغْرُورٌ وَفِي تَضْمِينِهِ خِلافٌ فِي المَذْهَبِ وَإِذَا ضَمِنَ رَجَعَ عَلى الغَارِّ عَلى الصَّحِيحِ وَالغَارُّ هُنَا لا ضَمَانَ عَليْهِ فَلا ضَمَانَ عَلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْتَهَى.
وَعَلى القَوْل بِضَمَانِ الوَكِيل فِي مَسْأَلةِ اسْتِيفَاءِ القِصَاصِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ قَدْ يَتَوَجَّهُ ضَمَانُ الوَكِيل هُنَا وَفِيهِ بُعْدٌ أَيْضًا لأَنَّ الضَّمَانَ هُنَا لوْ وَجَبَ للغَارِّ وَالغَارُّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَضْمَنَ لا أَنْ يُضْمَنَ لهُ. وَأَمَّا المُشْتَرِي فَهُوَ شَبِيهٌ بِالمُشْتَرِي مِنْ المُشْتَرى مِنْ الغَاصِبِ إذَا لمْ يَعْلمَا بِالغَصْبِ , وَالمَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ تَضْمِينُهُ لكِنْ لا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ هُنَا عَلى الوَكِيل.
القاعدة الواحدة والستون
القَاعِدَةُ الحَادِيَة وَالسِّتُّونَ:المُتَصَرِّفُ تَصَرُّفًا عَامًّا عَلى النَّاسِ كُلهِمْ مِنْ غَيْرِ وِلايَةِ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الإِمَامُ , هَل يَكُونُ تَصَرُّفُهُ عَليْهِمْ بِطَرِيقِ الوِكَالةِ لهُمْ أَوْ بِطَرِيقِ الوِلايَةِ؟ فِي ذَلكَ وَجْهَانِ:
وَخَرَّجَ الآمِدِيُّ رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلى أَنَّ خَطَأَهُ هَل هُوَ عَلى عَاقِلتِهِ أَوْ فِي بَيْتِ المَال ; لأَنَّا إنْ جَعَلنَاهُ عَلى عَاقِلتِهِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ بِنَفْسِهِ وَإِنْ جَعَلنَاهُ فِي بَيْتِ المَال فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ بِوَكَالتِهِمْ لهُمْ وَعَليْهِمْ فَلا يَضْمَنُ لهُمْ وَلا يُهْدِرُ خَطَاءَهُ فَيَجِبُ فِي بَيْتِ المَال وَاخْتِيَارُ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالوِكَالةِ لعُمُومِهِمْ , وَذَكَرَ فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ رِوَايَتَيْنِ فِي انْعِقَادِ الإِمَامَةِ بِمُجَرَّدِ القَهْرِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلاً للخِلافِ فِي الوِلايَةِ وَالوِكَالةِ أَيْضًا , وَيَنْبَنِي عَلى هَذَا الخِلافِ أَيْضًا انْعِزَالهُ بِالعَزْل ذَكَرَهُ الآمِدِيُّ فَإِنْ قُلنَا هُوَ وَكِيلٌ فَلهُ أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ وَإِنْ قُلنَا هُوَ وَالٍ لمْ يَنْعَزِل بِالعَزْل كَمَا أَنَّ الرَّسُول ليْسَ لهُ عَزْل نَفْسِهِ وَلا يَنْعَزِل بِمَوْتِ مَنْ بَايَعَهُ لأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ الجَمِيعِ لا عَنْ أَهْل البَيْعَةِ وَحْدَهُمْ , وَهَل لهُمْ عَزْلهُ إذَا كَانَ بِسُؤَالهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ عَزْل نَفْسِهِ , وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سُؤَالهِ لمْ يَجُزْ بِغَيْرِ خِلافٍ , هَذَا ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ مستفاداً مِنْ تَوْليَتِهِ فَإِنْ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ كَالوَزِيرِ فَإِنَّهُ كَالوَكِيل لهُ يَنْعَزِل بِعَزْلهِ وَبِمَوْتِهِ وَإِنْ كَانَ نَائِبًا عَنْ المُسْلمِينَ كَالأَمِيرِ العَامِّ لمْ يَنْعَزِل بِمَوْتِ الإِمَامِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ.
فَأَمَّا القُضَاةُ فَهَل هُمْ نُوَّابُ الإِمَامِ أَوْ المُسْلمِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ يَنْبَنِي عَليْهِمَا جَوَازُ عَزْل الإِمَامِ لهُ وَعَزْلهِ لنَفْسِهِ. وَظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ أَنَّ الخِلافَ مُطَّرِدٌ فِي وِلايَةِ الإِمَارَةِ العَامَّةِ عَلى البِلادِ وَجِبَايَةِ الخَرَاجِ.
وَأَمَّا نُوَّابُ القَاضِي فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ وِلايَتُهُ خَاصَّةٌ كَمَنْ فَوَّضَ إليْهِ سَمَاعَ شَهَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ إحْضَارَ المُسْتَعْدَى عَليْهِ فَهُمْ كَالوُكَلاءِ يَنْعَزِلونَ بِعَزْلهِ وَمَوْتِهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ وِلايَتُهُ عَامَّةٌ كَخُلفَائِهِ وَأُمَنَائِهِ عَلى الأَطْفَال وَنُوَّابِهِ عَلى القُرَى فَهَل هُمْ بِمَنْزِلةِ وُكَلائِهِ أَوْ نُوَّابِ المُسْلمِينَ فَلا يَنْعَزِلونَ بِمَوْتِهِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الآمِدِيُّ , وَصَحَّحَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ عَدَمَ الانْعِزَال , وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ الأَصْحَابِ أَنَّهُمْ يَنْعَزِلونَ لأَنَّهُمْ نُوَّابُ القَاضِي بِخِلافِ القُضَاةِ فَإِنَّهُمْ نُوَّابٌ للمُسْلمِينَ , وَلهَذَا يَجِبُ عَلى الإِمَامِ نَصْبُ القُضَاةِ وَلا يَجِبُ عَلى القُضَاةِ الاسْتِنَابَةُ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ القَضَاءَ ليْسَ بِفَرْضِ كِفَايَةٍ عَلى رِوَايَةٍ وَلا يَجِبُ نَصْبُ قَاضٍ بِالكُليَّةِ وَبِأَنَّ الوُجُوبَ لا يَتَعَلقُ بِمُعَيَّنٍ فَلا أَثَرَ لهُ فِي عَدَمِ نُفُوذِ العَزْل وَلهَذَا مَنْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ وَعَليْهِ دُيُونٌ خَفِيَّةٌ يَجِبُ عَليْهِ الوَصِيَّةُ عِنْدَ المَوْتِ بِأَدَائِهَا وَلهُ عَزْل المُوصَى إليْهِ بِذَلكَ وَاسْتِبْدَالهُ.
وَأَمَّا المُتَصَرِّفُ تَصَرُّفًا خَاصًّا بِتَفْوِيضِ مَنْ ليْسَ لهُ وِلايَةٌ عَامَّةٌ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المُفَوِّضُ لهُ وِلايَةٌ عَلى مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَوَليِّ اليَتِيمِ وَنَاظِرِ الوَقْفِ فَإِذَا عَقَدَ عَقْدًا جَائِزًا أَوْ مُتَوَقَّعَ الانْفِسَاخِ كَالشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ وَالوِكَالة وَإِجَارَةِ الوَقْفِ فَإِنَّهَا لا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ لأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ عَلى غَيْرِهِ لا عَلى نَفْسِهِ وَكَذَلكَ الوَكِيل إذَا أَذِنَ لهُ مُوَكِّلهُ أَنْ يُوَكِّل فَيَكُونُ وَكِيلهُ وَكِيلاً لمُوَكِّلهِ لا لهُ.
وَالثَّانِي: مَنْ يُفَوِّضُ حُقُوقَ نَفْسِهِ فَهَذِهِ وَكَالةٌ مَحْضَةٌ
القاعدة الثانية والستون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَة وَالسِّتُّونَ:فِيمَا يَنْعَزِل قَبْل العِلمِ بِالعَزْل
المَشْهُورُ أَنَّ كُل مَنْ يَنْعَزِل بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ هَل يَنْعَزِل بِمُجَرَّدِ ذَلكَ؟ أَمْ يَقِفُ عَزْلهُ عَلى عِلمِهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلكَ الوَكِيل وَغَيْرُهُ وَالإِذْنُ للزَّوْجَةِ أَوْ العَبْدِ فِيمَا لا يَمْلكَانِهِ بِدُونِ إذْنٍ إذَا وُجِدَ بَعْدَهُ نَهْيٌ لمْ يَعْلمَاهُ مُخَرَّجٌ عَلى الوَكِيل ذَكَرَهُ القَاضِي وَكَذَلكَ إذْنُ المُرْتَهِنِ للرَّاهِنِ فِي التَّصَرُّفِ إذَا مُنِعَ مِنْهُ قَبْل تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ وَلمْ يَعْلمْ , وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَكِيل وَغَيْرِهِ وَدَخَل فِي هَذَا صُوَرٌ:
مِنْهَا: الحَاكِمُ إذَا قِيل بِانْعِزَالهِ قَال القَاضِي وَأَبُو الخَطَّابِ فِيهِ الخِلافُ الذِي فِي الوَكِيل.
وَفِي التَّلخِيصِ لا يَنْعَزِل قَبْل العِلمِ بِغَيْرِ خِلافٍ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لأَنَّ فِي وِلايَتِهِ حَقًّا للهِ وَإِنْ قِيل إنَّهُ وَكِيلٌ فَهُوَ شَبِيهٌ بِنَسْخِ الأَحْكَامِ لا يَثْبُتُ قَبْل بُلوغِ النَّاسِخِ عَلى الصَّحِيحِ بِخِلافِ الوِكَالةِ المَحْضَةِ.
قَال: هَذَا هُوَ المَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَيْضًا فَإِنَّ وِلايَةَ القَاضِي عَامَّةٌ لمَا يَتَرَتَّبُ عَليْهَا مِنْ عُمُومِ العُقُودِ وَالفُسُوخِ فَتَعْظُمُ البَلوَى بِإِبْطَالهَا قَبْل العِلمِ بِخِلافِ الوِكَالةِ.
وَمِنْهَا: عُقُودُ المُشَارَكَاتِ كَالشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ , وَالمَشْهُورُ أَنَّهَا تَنْفَسِخُ قَبْل العِلمِ كَالوِكَالةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ فِيمَا سَبَقَ فِي المُضَارَبَةِ أَنَّهَا لا تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ المُضَارِبِ حَتَّى يَعْلمَ رَبُّ المَال.
وَمِنْهَا: الوَدِيعَةُ وَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِلافِهِ أَنَّ للمُودَعِ فَسْخَهَا بِالقَوْل فِي غَيْبَةِ المُودَعِ وَتَنْفَسِخُ قَبْل عِلمِ المُودَعِ بِالفَسْخِ وَتَبْقَى فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلى بَيْتِهِ ثَوْبًا
لغَيْرِهِ , ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ فِي مَسْأَلةِ الوِكَالةِ أَنَّ الوَدِيعَةَ لا يَلحَقُهَا الفَسْخُ بِالقَوْل وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ إلى صَاحِبِهَا أَوْ بِأَنْ يَتَعَدَّى المُودَعُ فِيهَا فَلوْ قَال المُودَعُ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَبِّ الوَدِيعَةِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ فَسَخْت الوَدِيعَةَ أَوْ أَزَلت نَفْسَهَا عَنْهَا لمْ تَنْفَسِخْ قَبْل أَنْ يَصِل إلى صَاحِبِهَا وَلمْ يَضْمَنْهَا.
فَأِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْرِيقًا بَيْنَ فَسْخِ المُودِعِ وَالمُودَعِ أَوْ يَكُونَ اخْتِلافًا مِنْهُ فِي المَسْأَلةِ.
وَالأَوَّل أَشْبَهُ لأَنَّ فَسْخَ المُودِعِ إخْرَاجٌ للمُودَعِ عَنْ الاسْتِحْفَاظِ وَهُوَ يَمْلكُهُ وَأَمَّا المُودَعُ فَليْسَ لهُ فِيهَا تَصَرُّفٌ سِوَى الإِمْسَاكِ وَالحِفْظِ فَلا يَصِحُّ أَنْ يَرْفَعَهُ مَعَ وُجُودِهِ وَيَلتَحِقُ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ -القاعدة الآتية-.
القاعدة الثالثة والستون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالسِّتُّونَ:وَهِيَ أَنَّ مَنْ لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لفَسْخِ عَقْدٍ أَوْ حِلهِ لا يُعْتَبَرُ عِلمُهُ بِهِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: الطَّلاقُ.
وَمِنْهَا: الخُلعُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الأَجْنَبِيِّ عَلى المَذْهَبِ سَوَاءٌ قِيل هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلاقٌ وَلنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ مَعَ الأَجْنَبِيِّ إذَا قُلنَا إنَّهُ فَسْخٌ كَالإِقَالةِ وَالصَّحِيحُ خِلافُهُ لأَنَّ فَسْخَ البَيْعِ اللازِمِ لا يَسْتَقِل بِهِ أَحَدُ المُتَبَايِعَيْنِ بِخِلافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَسْتَقِل بِإِزَالتِهِ بِالطَّلاقِ.
وَمِنْهَا: العِتْقُ وَلوْ كَانَ عَلى مَالٍ نَحْوَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَليَّ ثَمَنُهُ.
وَمِنْهَا: فَسْخُ المُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ.
وَمِنْهَا: فَسْخُ البَيْعِ المَعِيبِ وَالمُدَلسِ وَكَذَلكَ الإِجَارَةُ.
وَمِنْهَا: فَسْخُ العُقُودِ الجَائِزَةِ بِدُونِ عِلمِ الآخَرِ وَقَدْ سَبَقَتْ.
وَمِنْهَا: الفَسْخُ بِالخِيَارِ يَمْلكُهُ مَنْ يَمْلكُ الخِيَارَ بِغَيْرِ عِلمِ الآخَرِ عِنْدَ القَاضِي وَالأَكْثَرِينَ وَخَرَّجَ أَبُو الخَطَّابِ فِيهَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لا يَنْفَسِخُ إلا أَنْ يَبْلغَهُ فِي المُدَّةِ مِنْ عَزْل الوَكِيل وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مَنْ لهُ الخِيَارُ يَتَصَرَّفُ بِالفَسْخِ لنَفْسِهِ , وَهَذِهِ الفُسُوخُ عَلى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلى ثُبُوتِ أَصْل الفَسْخِ بِهِ فَلا يَتَوَقَّفُ الفَسْخُ بِهِ عَلى حَاكِمٍ كَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: مَا هُوَ مُخْتَلفٌ فِيهِ كَالفَسْخِ بِالعُنَّةِ وَالعُيُوبِ فِي الزَّوْجِ وَغَيْبَتِهِ وَنَحْوِ ذَلكَ فَيَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ حَاكِمٍ لأَنَّهَا أُمُورٌ اجْتِهَادِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ الخِلافُ ضَعِيفًا يَسُوغُ نَقْضُ الحُكْمِ بِهِ لمْ يَفْتَقِرْ الفَسْخُ بِهِ إلى حُكْمِ حَاكِمٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ أَخْذُ بَائِعِ المُفْلسِ سِلعَتَهُ إذَا وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا وَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلى نَقْضِ
الحُكْمِ بِخِلافِهِ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيل بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ لهُ ذَلكَ , وَكَذَلكَ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ المَفْقُودِ فَإِنَّ فِي تَوَقُّفِ فَسْخِ نِكَاحِهَا عَلى الحَاكِمِ رِوَايَتَيْنِ , قَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ تَتَزَوَّجُ وَإِنْ لمْ تَأْتِ السُّلطَانَ وَأَحَبُّ إليَّ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلعَلهُ رَأَى الحُكْمَ بِخِلافِهِ لا يَسُوغُ لأَنَّهُ إجْمَاعُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ , وَرَجَّحَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ جَمِيعَ الفُسُوخِ لا تَتَوَقَّفُ عَلى حَاكِمٍ.
القاعدة الرابعة والستون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَة وَالسِّتُّونَ:مَنْ تَوَقَّفَ نُفُوذُ تَصَرُّفِهِ أَوْ سُقُوطُ الضَّمَانِ أَوْ الحِنْثِ عَنْهُ عَلى الإِذْنِ فَتَصَرَّفَ قَبْل العِلمِ بِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الإِذْنَ كَانَ مَوْجُودًا هَل يَكُونُ كَتَصَرُّفِ المَأْذُونِ لهُ أَوْ لا؟ فِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ تَتَخَرَّجُ عَليْهِمَا صُوَرٌ:
مِنْهَا: لوْ تَصَرَّفَ فِي مَال غَيْرِهِ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ أَذِنَ لهُ فِي التَّصَرُّفِ هَل يَصِحُّ أَمْ لا؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال لزَوْجَتِهِ إنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالقٌ ثُمَّ أَذِنَ لهَا وَلمْ تَعْلمْ بِإِذْنِهِ فَخَرَجَتْ فَهَل تَطْلقُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَأَشْهَرُهُمَا - هُوَ المَنْصُوصُ - أَنَّهَا تَطْلقُ لأَنَّ المَحْلوفَ عَليْهِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ خُرُوجُهَا عَلى وَجْهِ المُشَاقَّةِ وَالمُخَالفَةِ فَإِنَّهَا أَقْدَمَتْ عَلى ذَلكَ وَلأَنَّ الإِذْنَ هُنَا إبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَلا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا بِدُونِ عِلمِهَا كَإِبَاحَةِ الشَّرْعِ , وَلأَبِي الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ أَنَّ دَعْوَاهُ الإِذْنَ غَيْرُ مَقْبُولةٍ لوُقُوعِ الطَّلاقِ فِي الظَّاهِرِ فَلوْ أَشْهَدَ عَلى الإِذْنِ لنَفَعَهُ ذَلكَ وَلمْ تَطْلقْ وَهَذَا ضَعِيفٌ.
وَمِنْهَا: لوْ أَذِنَ البَائِعُ للمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الخِيَارِ فِي التَّصَرُّفِ فَتَصَرَّفَ بَعْدَ الإِذْنِ وَقَبْل العِلمِ فَهَل يَنْفُذُ أَمْ لا؟ يَتَخَرَّجُ عَلى الوَجْهَيْنِ فِي التَّوْكِيل وَأَوْلى وَجَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِعَدَمِ النُّفُوذِ.
وَمِنْهَا: لوْ غَصَبَ طَعَامًا مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ أَبَاحَهُ لهُ المَالكُ ثُمَّ أَكَلهُ الغَاصِبُ غَيْرَ عَالمٍ بِالإِذْنِ ضَمِنَ ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَالصَّوَابُ الجَزْمُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ لأَنَّ الضَّمَانَ لا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الاعْتِقَادِ فِيمَا ليْسَ بِمَضْمُونٍ كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَتَبَيَّنَتْ زَوْجَتَهُ فَإِنَّهُ لا مَهْرَ عَليْهِ وَلا عِبْرَةَ بِاسْتِصْحَابِ أَصْل الضَّمَانِ مَعَ زَوَال سَبَبِهِ كَمَا أَنَّهُ لوْ أَكَل فِي الصَّوْمِ يَظُنُّ الشَّمْسَ لمْ تَغْرُبْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ غَرَبَتْ فَإِنَّهُ لا يَلزَمُهُ القَضَاءُ وَيَلتَحِقُ بِهَذِهِ - القاعدة الآتية-.
القاعدة الخامسة والستون
القَاعِدَةُ الخَامِسَة وَالسِّتُّونَ:وَهِيَ مَنْ تَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ يَظُنُّ أَنَّهُ لا يَمْلكُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَمْلكُهُ , وَفِيهَا الخِلافُ أَيْضًا وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا صُوَرٌ:
مِنْهَا: لوْ بَاعَ مِلكَ أَبِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ مَاتَ وَلا وَارِثَ لهُ وَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ وَيُقَال رِوَايَتَانِ.
وَمِنْهَا: لوْ طَلقَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَتَبَيَّنَتْ زَوْجَتَهُ فَفِي وُقُوعِ الطَّلاقِ رِوَايَتَانِ , وَبَنَاهُمَا أَبُو بَكْرٍ عَلى أَنَّ الصَّرِيحَ هَل يَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ أَمْ لا؟ قَال القَاضِي: إنَّمَا هَذَا الخِلافُ فِي صُورَةِ الجَهْل بِأَهْليَّةِ المَحَل وَلا يَطَّرِدُ مَعَ العِلمِ بِهِ.
وَمِنْهَا: لوْ لقِيَ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَال تَنَحِّي يَا حُرَّةُ فَإِذَا هِيَ أَمَتُهُ وَفِيهَا الخِلافُ أَيْضًا , وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى ذَلكَ وَفِي المُغْنِي احْتِمَال التَّفْرِيقِ لأَنَّ هَذَا يُقَال كَثِيرًا فِي الطَّرِيقِ وَلا يُرَادُ بِهِ العِتْقُ.
وَهَذَا مَعَ إطْلاقِ القَصْدِ فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهِ المَدْحَ بِالعِفَّةِ وَنَحْوِهَا فَليْسَتْ مِنْ المَسْأَلةِ بِشَيْءٍ وَيَتَنَزَّل الخِلافُ فِي هَذَا عَلى أَنَّ الرِّضَا بِغَيْرِ المَعْلومِ هَل هُوَ رِضًى مُعْتَبَرٌ؟ وَالأَظْهَرُ عَدَمُ اعْتِبَارُهُ.
وَمِنْهَا: لوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلاً مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لا شَيْءَ لهُ عَليْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لهُ فِي ذِمَّتِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَفِيهَا الوَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: لوْ جَرَحَهُ جُرْحًا لا قِصَاصَ فِيهِ فَعَفَا عَنْ القِصَاصِ وَسِرَايَتِهِ ثُمَّ سَرَى إلى نَفْسِهِ فَهَل يَسْقُطُ القِصَاصُ؟ يُخَرَّجُ عَلى الوَجْهَيْنِ أَشَارَ إلى ذَلكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّين فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ وَبَنَاهُ عَلى أَنَّ القِصَاصَ هَل يَجِبُ للمَيِّتِ أَوْ لوَرَثَتِهِ كَالدِّيَةِ , وَجَزَمَ القَاضِي وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لا يَصِحُّ العَفْوُ هَهُنَا.
وَمِنْهَا: لوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ المَفْقُودِ قَبْل الزَّمَانِ المُعْتَبَرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَيْتًا قَبْل ذَلكَ بِمُدَّةٍ تَنْقَضِي فِيهَا العِدَّةُ أَوْ أَنَّهُ كَانَ طَلقَهَا فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ الوَجْهَانِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَرَجَّحَ صَاحِبُ المُغْنِي عَدَمَ الصِّحَّةِ هُنَا لفَقْدِ شَرْطِ النِّكَاحِ فِي الابْتِدَاءِ كَمَا لوْ تَزَوَّجَتْ المُرْتَابَةُ قَبْل زَوَال الرِّيبَةِ.
وَمِنْهَا: لوْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ للآمِرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَفِي التَّلخِيصِ يَحْتَمِل تَخْرِيجُهُ عَلى مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي ظُلمَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لكِنْ يَرْجِعُ هُنَا عَلى الآمِرِ بِالقِيمَةِ لتَغْرِيرِهِ لهُ , وَيُحْتَمَل أَنْ لا يَنْفُذَ لتَغْرِيرِهِ بِخِلافِ مَا إذَا لمْ يَغرهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ لمُصَادَفَتِهِ مِلكَهُ إذْ المُخَاطَبَةُ بِالعِتْقِ لعَبْدِ غَيْرِهِ شَبِيهٌ بِعِتْقِ الهَازِل وَالمُتَلاعِبِ فَيَنْفُذُ , وَكَذَلكَ فِي الطَّلاقِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ فِي الطَّلاقِ أَنْ يُوَكِّلهُ شَخْصٌ فِي تَطْليقِ زَوْجَتِهِ وَيُشِيرُ إلى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَيُطَلقُهَا ظَانًّا أَنَّهَا امْرَأَةُ المُوَكِّل ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ.
وَقَدْ تُخَرَّجُ هَذِهِ المَسْأَلةُ عَلى مَسْأَلةِ مَا إذَا نَادَى امْرَأَةً له فَأَجَابَتْهُ امْرَأَتُهُ الأُخْرَى فَطَلقَهَا يَنْوِي المُنَادَاةَ فَإِنَّهُ تَطْلقُ المُنَادَاةُ وَحْدَهَا وَلا تَطْلقُ المُوَاجِهَةُ فِي البَاطِنِ وَفِي الظَّاهِرِ رِوَايَتَانِ , فَعَلى هَذَا لا تَطْلقُ المُوَكَّل فِي طَلاقِهَا هُنَا وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الطَّلاقَ هُنَا انْصَرَفَ إلى جِهَةٍ مَقْصُودَةٍ فَلمْ يَحْتَجْ إلى صَرْفِهِ إلى غَيْرِ المَقْصُودِ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاجِهَةً بِهِ بِخِلافِ مَا إذَا لمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِهَةٌ سِوَى المُوَاجِهَةِ فَإِنَّ الطَّلاقَ يَصِيرُ يَصْرِفُهُ عَنْهَا هَزْلاً وَلعِبًا وَلا هَزْل فِي الطَّلاقِ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى آبِقًا يَظُنُّ أَنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى تَحْصِيلهِ فَبَانَ بِخِلافِهِ فَفِي صِحَّةِ العَقْدِ وَجْهَانِ لاعْتِقَادِهِ فَقْدَ شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي البَاطِنِ وَفِي المُغْنِي احْتِمَالٌ ثَالثٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَعْلمُ أَنَّ البَيْعَ يَفْسُدُ بِالعَجْزِ عَنْ تَسْليمِ المَبِيعِ فَيَفْسُدُ البَيْعُ فِي حَقِّهِ لأَنَّهُ مُتَلاعِبٌ , وَبَيْنَ مَنْ لا يَعْلمُ ذَلكَ فَيَصِحُّ لأَنَّهُ لمْ يُقْدِمْ عَلى مَا يَعْتَقِدُهُ بَاطِلاً وَقَدْ تَبَيَّنَ وُجُودُ شَرْطِ صِحَّتِهِ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ للمَسْأَلةِ التِفَاتًا إلى مَسْأَلةِ بَيْعِ الهَازِل وَالمَشْهُورُ بُطْلانُهُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي.
وَقَال أَبُو الخَطَّاب فِي انْتِصَارِهِ: هُوَ صَحِيحٌ وَهَذَا يُرَجِّحُ وَجْهَ بُطْلانِ البَيْعِ فِي المَسَائِل المَبْدُوءِ بِهَا.
القاعدة السادسة والستون
القَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ:وَلوْ تَصَرَّفَ مُسْتَنِدًا إلى سَبَبٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ فِيهِ وَأَنَّ السَّبَبَ المُعْتَمَدَ غَيْرُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الاسْتِنَادُ إلى مَا ظَنَّهُ صَحِيحًا أَيْضًا فَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ مِثْل أَنْ يَسْتَدِل عَلى القِبْلةِ بِنَجْمٍ يَظُنُّهُ الجَدْيَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجْمٌ آخَرُ مُسَامِتُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لا يَكُونَ مَا ظَنَّهُ مُسْتَنِدًا اسْتِنَادًا صَحِيحًا مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَيَتَصَرَّفَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الشِّرَاءَ كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّهُ وَرِثَ تِلكَ العَيْنَ فَإِنْ قُلنَا فِي القَاعِدَةِ الأُولى بِالصِّحَّةِ فَهُنَا أَوْلى , وَإِنْ قُلنَا ثَمَّ بِالبُطْلانِ فَيَحْتَمِل هُنَا الصِّحَّةَ لأَنَّهُ اسْتَنَدَ إلى سَبَبٍ مُسَوِّغٍ وَكَانَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ لهُ مُسَوِّغٌ غَيْرُهُ فَاسْتَنَدَ التَّصَرُّفُ إلى مُسَوِّغٍ فِي البَاطِنِ وَالظَّاهِرِ بِخِلافِ القِسْمِ الذِي قَبْلهُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَالمَذْهَبُ هُنَا الصِّحَّةُ بِلا رَيْبٍ لأَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلفُوا فِيمَا إذَا وَهَبَ الغَاصِبُ المَغْصُوبَ مِنْ مَالكِهِ وَأَقْبَضَهُ إيَّاهُ هَل يَبْرَأُ بِهِ أَمْ لا؟ وَحَكَى فِيهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَتَيْنِ وَالمَشْهُورُ أَنَّهُ لا يَبْرَأُ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ مُعَللاً بِأَنَّهُ يَحْمِل مِنَّتَهُ وَرُبَمَا كَافَأَهُ عَلى ذَلكَ وَاخْتَارَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَصَاحِبُ المُغْنِي أَنَّهُ
يَبْرَأُ لأَنَّ المَالكَ تَسَلمَهُ تَسْليمًا تَامًّا وَعَادَتْ سَلطَنَتُهُ إليْهِ فَبَرِئَ الغَاصِبُ بِخِلافِ مَا إذَا قَدَّمَهُ إليْهِ فَأَكَلهُ فَإِنَّهُ أَبَاحَهُ إيَّاهُ وَلمْ يُمَلكْهُ فلمْ يَعُدْ إلى سَلطَنَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَلهَذَا لمْ يَكُنْ لهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالبَيْعِ وَالهِبَةِ وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ عَلى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ المَالكِ تَعُودُ إليْهِ بِعَوْدِ مِلكِهِ عَلى طَرِيقِ الهِبَةِ مِنْ الغَاصِبِ وَهُوَ لا يَعْلمُ بِالحَال.
القاعدة السابعة والستون
القَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ:مَنْ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ بِفَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكَانَ قَدْ رَجَعَ إليْهِ ذَلكَ الحَقُّ بِهِبَةٍ أَوْ إبْرَاءٍ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ عَليْهِ الرُّجُوعُ فَهَل يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِبَدَلهِ أَمْ لا؟ فِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ وَلهَا صُوَرٌ:
مِنْهَا: بَاعَ عَيْنًا ثُمَّ وَهَبَ ثَمَنَهَا للمُشْتَرِي أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ثُمَّ بَانَ بِهَا عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ فَهَل لهُ رَدُّهَا وَالمُطَالبَةُ بِالثَّمَنِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَكَذَا لوْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ فَهَل لهُ المُطَالبَةُ بِقَدْرِ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ؟ عَلى الوَجْهَيْنِ , وَاخْتَارَ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّهُ إذَا رَدَّهُ لمْ يَرْجِعْ عَليْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَيَتَخَرَّجُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الهِبَةِ وَالإِبْرَاءِ فَيَرْجِعُ بِالهِبَةِ دُونَ الإِبْرَاءِ وَسَنَذْكُرُ أَصْلهُ.
وَلوْ ظَهَرَ هَذَا المَبِيعُ مَعِيبًا بَعْدَ أَنْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ فَهَل لهُ المُطَالبَةُ بِأَرْشِ العَيْبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُخَرِّجُهُ عَلى الخِلافِ فِي رَدِّهِ.
وَالأُخْرَى: يَمْنَعُ المُطَالبَةَ هُنَا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ لأَنَّهُ صَارَ مِنْهُ تَبَرُّعًا فَلا يَمْلكُ المُطَالبَةَ بِزِيَادَةٍ عَليْهِ لئَلا تَجْتَمِعَ لهُ المُطَالبَةُ بِالثَّمَنِ وَبَعْضِ الثَّمَنِ بِخِلافِ مَا إذَا رَدَّهُ فَإِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ لهُ ذَلكَ.
وَمِنْهَا: لوْ تَقَايَلا فِي العَيْنِ بَعْدَ هِبَةِ ثَمَنِهَا أَوْ الإِبْرَاءِ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: لوْ أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ عَيْنًا فَوَهَبَتْهَا مِنْهُ ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول فَهَل يَرْجِعُ عَليْهَا بِبَدَل نِصْفِهَا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ , فَإِنْ قُلنَا يَرْجِعُ فَهَل يَرْجِعُ إذَا كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا لا يَرْجِعُ لأَنَّ مِلكَهُ لمْ يَزُل عَنْهُ.
وَمِنْهَا: لوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنِ الكِتَابَةِ وَعَتَقَ فَهَل يَسْتَحِقُّ المَكَاتِبُ الرُّجُوعَ عَليْهِ بِمَا كَانَ لهُ عَليْهِ مِنْ الإِيتَاءِ الوَاجِبِ أَمْ لا؟ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَهَا عَلى الخِلافِ وَضَعَّفَ صَاحِبُ المُغْنِي ذَلكَ لأَنَّ إسْقَاطَهُ عَنْهُ يَقُومُ مَقَامَ إيتَائِهِ , وَلهَذَا لوْ أَسْقَطَ عَنْهُ القَدْرَ الوَاجِبَ إيتَاؤُهُ وَاسْتَوْفَى البَاقِيَ لمْ يَلزَمْهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ شَيْئًا , وَأَيْضًا فَالسَّيِّدُ أَسْقَطَ عَنْ المُكَاتَبِ مَا وُجِدَ سَبَبُ إيتَائِهِ إيَّاهُ فَقَامَ مَقَامَ الإِيتَاءِ بِخِلافِ إسْقَاطِ المَرْأَةِ الصَّدَاقَ قَبْل الطَّلاقِ.
وَمِنْهَا: لوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ لزَيْدٍ عَلى عَمْرٍو ثُمَّ رَجَعَا وَقَدْ قَبَضَهُ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو ثُمَّ وَهَبَهُ لهُ لمْ يَسْقُطْ عَنْهُمَا الضَّمَانُ , وَلوْ كَانَ دَيْنًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ قَبْل قَبْضِهِ ثُمَّ رَجَعَا لمْ يَلزَمْهُمَا شَيْءٌ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَلمْ يُخَرِّجْهُ عَلى الخِلافِ فِي المَسَائِل الأُولى لأَنَّ الضَّمَانَ لزِمَهُمَا بِوُجُوبِ التَّغْرِيمِ وَعَوْدِ العَيْنِ إلى الغَارِمِ مِنْ المَحْكُومِ لهُ بِهِبَةٍ لا يُوجِبُ البَرَاءَةَ كَمَا لا يَبْرَأُ الغَاصِبُ بِمِثْل ذَلكَ فِي الرَّدِّ إلى المَغْصُوبِ مِنْهُ لتَحَمُّل مِنَّتِهِ نَعَمْ يَتَخَرَّجُ القَوْل بِسُقُوطِ الضَّمَانِ هُنَا إذَا قُلنَا بِبَرَاءَةِ الغَاصِبِ بِإِعَادَةِ المَال إلى المَغْصُوبِ مِنْهُ هِبَةً لأَنَّهُمَا اعْتَرَفَا بِأَنَّهُ قَبَضَهُ عُدْوَانًا ثُمَّ رَدَّهُ إليْهِ هِبَةً , وَأَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ قَبْل القَبْضِ فَلمْ يَتَرَتَّبْ عَلى شَهَادَتِهِمَا غُرْمٌ فَلذَلكَ سَقَطَ عَنْهُمَا الضَّمَانُ.
وَمِنْهَا: لوْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ ثُمَّ وَهَبَهُ الغَرِيمُ مَا قَضَاهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَهَل يَرْجِعُ عَلى المَضْمُونِ عَنْهُ؟ ظَاهِرُ كَلامِ الأَصْحَابِ أَنَّهُ لا يَرْجِعُ.
وَلهَذَا قَالوا لوْ قَضَى الدَّيْنَ بِنَقِيضِهِ لمْ يَرْجِعْ إلا بِمَا قَضَى وَجَعَلوهُ كَالمُقْرِضِ لا يَرْجِعُ إلا بِمَا غَرِمَ لكِنَّ هَذَا فِي الإِبْرَاءِ وَالمُسَامَحَةِ ظَاهِرٌ فَأَمَّا إنْ قَضَى الدَّيْنَ لكَمَالهِ ثُمَّ وَهَبَهُ الغَرِيمُ مِنْهُ فَلا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلى الوَجْهَيْنِ.
القاعدة الثامنة والستون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالسِّتُّونَ:إيقَاعُ العِبَادَاتِ أَوْ العُقُودِ أَوْ غَيْرِهِمَا مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِ صِحَّتِهَا هَل يَجْعَلهَا كَالمُعَلقَةِ عَلى تَحْقِيقِ ذَلكَ الشَّرْطِ أَمْ لا؟ هِيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ الجَازِمَةُ فَلا يَصِحُّ إيقَاعُهُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ مَا لمْ يَكُنْ الشَّكُّ غَلبَةَ ظَنٍّ تَكْفِي مِثْلهُ فِي إيقَاعِ العِبَادَةِ أَوْ العَقْدِ كَغَلبَةِ الظَّنِّ بِدُخُول الوَقْتِ وَطَهَارَةِ المَاءِ وَالثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلكَ.
وَمِنْ أَمْثِلةِ ذَلكَ إذَا صَلى يَظُنُّ نَفْسَهُ مُحْدِثًا فَتَبَيَّنَ مُتَطَهِّرًا.
وَمِنْهَا: لوْ شَكَّ هَل ابْتَدَأَ مُدَّةَ مَسْحِ الخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ أَوْ الحَضَرِ فَمَسَحَ يَوْمًا آخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الحَضَرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ابْتَدَأَهَا فِي السَّفَرِ لزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلاةِ بِالشَّكِّ وَهَل يَلزَمُهُ إعَادَةُ الوُضُوءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لا يَلزَمُهُ وَبِهِ جَزَمَ فِي المُغْنِي لأَنَّ الوُضُوءَ يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ كَمَنْ شَكَّ فِي الحَدَثِ فَتَوَضَّأَ يَنْوِي رَفْعَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ مُحْدِثًا.
وَالثَّانِي: يَلزَمُهُ لأَنَّ المَسْحَ رُخْصَةٌ وَلمْ تَتَحَقَّقْ إبَاحَتُهَا فَلمْ يَصِحَّ كَمَنْ قَصَرَ وَهُوَ يَشُكُّ فِي جَوَازِ القَصْرِ.
وَمِنْهَا: لوْ تَوَضَّأَ مِنْ إنَاءٍ مُشْتَبَهٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ لمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ فِي المَشْهُورِ وَقَال القَاضِي أَبُو الحُسَيْنِ يَصِحُّ وَهُوَ يَرْجِعُ إلى أَنَّ الجَزْمَ بِصِحَّةِ الوُضُوءِ لا يُشْتَرَطُ كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: لوْ تَوَضَّأَ شَاكًّا فِي الحَدَثِ أَوْ صَلى مَعَ غَلبَةِ ظَنِّهِ بِدُخُول الوَقْتِ وَنَوَى الفَرْضَ إنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ الوَقْتُ قَدْ دَخَل وَإِلا فَالتَّجْدِيدُ أَوْ النَّفَل , فَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ وَلوْ لمْ يَنْوِهِ , فَإِذَا نَوَاهُ لمْ يَضُرَّهُ.
وَمِنْهَا: لوْ كَانَ لهُ مَال حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَدَّى زَكَاةً وَنَوَى أَنَّهَا عَنْ الغَائِبِ إنْ كَانَ سَالمًا وَإِلا فَتَطَوُّعٌ فَبَانَ سَالمًا أَجْزَأَهُ لمَا ذَكَرْنَا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ لأَنَّهُ لمْ يُخْلصْ النِّيَّةَ عَنْ الفَرْضِ.
وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ وَجْهٌ فِي التِي قَبْلهَا أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَأَوْلى لأَنَّ هُنَاكَ لمْ يَبْنِ عَلى أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ وَلكِنَّهُ بَنَى عَلى غَلبَةِ ظَنٍّ بِدُخُول الوَقْتِ وَهُوَ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الصَّلاةِ.
وَمِنْهَا: إذَا نَوَى ليْلةَ الشَّكِّ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضٌ وَإِلا فَهُوَ نَفْلٌ.
فَهَل يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ وَافَقَ؟ يَنْبَنِي عَلى أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ هَل تُشْتَرَطُ لرَمَضَانَ فَإِنْ قُلنَا تُشْتَرَطُ -وَهُوَ المَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ- لمْ يُجْزِئْهُ لأَنَّهُ لمْ يَجْزِمْ بِالتَّعْيِينِ وَلمْ يَبْنِ عَلى أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ يَجُوزُ الصِّيَامُ فِيهِ بِخِلافِ مَسْأَلةِ الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلافِ مَا لوْ نَوَى ليْلةَ الثَّلاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْهُ وَإِلا فَأَنَا مُفْطِرٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ صِيَامُهُ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ لأَنَّهُ بُنِيَ عَلى أَصْلٍ لمْ يَثْبُتْ زَوَالهُ وَلا يَقْدَحُ تَرَدُّدَهُ لأَنَّهُ حُكْمُ صَوْمِهِ مَعَ الجَزْمِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ لا يُجْزِئُهُ للتَّرَدُّدِ.
وَنَقَل صَالحٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ النِّيَّةُ المُتَرَدِّدَةُ مَعَ الغَيْمِ دُونَ الصَّحْوِ لأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الغَيْمِ لا يَخْلو مِنْ تَرَدُّدٍ يُنَافِي الجَزْمَ فَإِذَا تَرَدَّدَتْ النِّيَّةُ فَقَدْ نَوَى حُكْمَ الصَّوْمِ فَلا يَضُرُّهُ بِخِلافِ حَالةِ الصَّحْوِ فَإِنَّهُ لا يَحْتَاجُ فِيهَا إلى التَّرَدُّدِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا لا يَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ جَازِمَةٍ فَالصَّحِيحُ فِيهِ الصِّحَّةُ وَقَدْ سَبَقَ مِنْ أَمْثِلتِهِ إذَا نُكِحَتْ امْرَأَةُ المَفْقُودِ قَبْل أَنْ يَجُوزَ لهَا النِّكَاحُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: لوْ كَانَ عِنْدَ رَجُلٍ دَنَانِيرُ وَدِيعَةً فَصَارَفَهُ عَليْهَا وَهُوَ يَجْهَل بَقَاءَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: -وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ- لا يَصِحُّ لأَنَّهَا ليْسَتْ تَالفَةً فَتَكُونُ مُصَارَفَةً عَليْهَا وَهِيَ فِي الذِّمَّةِ وَلا حَاضِرَةً فَتَكُونُ مُصَارَفَةً عَلى عَيْنٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَصِحُّ لأَنَّ الأَصَحَّ بَقَاؤُهَا فَصَارَ كَبَيْعِ الحَيَوَانِ الغَائِبِ بِالصِّفَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ احْتِمَال تَلفِهِ لأَنَّ الأَصْل بَقَاؤُهُ قَال ابْنُ عَقِيلٍ: فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً تَقَابَضَا وَصَحَّ العَقْدُ وَإِنْ كَانَتْ تَالفَةً تَبَيَّنَ بُطْلانُ العَقْدِ , وَهَذَا الذِي قَالهُ صَحِيحٌ إذَا تَلفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَأَمَّا إنْ تَلفَتْ تَلفًا مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَيَنْبَنِي عَلى تَعْيِينِ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ قُلنَا يَتَعَيَّنُ لمْ يَصِحَّ العَقْدُ وَإِلا صَحَّ وَقَامَتْ
الدَّنَانِيرُ التِي فِي الذِّمَّةِ مَقَامَ الوَدِيعَةِ لا عَلى الوَجْهِ الذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ للصَّرْفِ التَّعْيِينُ فَلا يَصِحُّ عَلى مَا فِي الذِّمَّةِ.
وَمِنْهَا: لوْ وَكَّلهُ فِي شِرَاءِ جَارِيَةٍ فَاشْتَرَاهَا لهُ ثُمَّ جَحَدَ المُوَكِّل الوِكَالةَ فَأَرَادَ الوَكِيل أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ فَلمْ يَعْتَرِفْ بِالمِلكِ ثُمَّ قَال لهُ إنْ كُنْتُ أَذِنْت لك فِي شِرَائِهَا فَقَدْ بِعْتُكَهَا فَهَل يَصِحُّ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا يَصِحُّ لأَنَّ البَيْعَ لا يَصِحُّ تَعْليقُهُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ ذَكَرَهُ فِي الكَافِي احْتِمَالاً لأَنَّهُ تَعْليقٌ عَلى شَرْطٍ وَاقِعٍ يَعْلمَانِهِ فَلا يُؤَثِّرُ ذِكْرُهُ فِي العَقْدِ كَمَا لوْ قَال بِعْتُك هَذِهِ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَيَشْهَدُ لهُ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ بِصِحَّةِ بَيْعِ الغَائِبِ إنْ كَانَ سَالمًا فَإِنَّ هَذَا مُقْتَضَى إطْلاقِ العَقْدِ فَلا يَضُرُّ تَعْليقُ البَيْعِ عَليْهِ.
وَمِنْهَا: الرَّجْعَةُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ شُكَّ فِي وُقُوعِ الطَّلاقِ فِيهِ قَال أَصْحَابُنَا: هِيَ رَجْعَةٌ صَحِيحَةٌ رَافِعَةٌ للشَّكِّ وَهِيَ المَسْأَلةُ التِي أَفْتَى فِيهَا شَرِيكٌ بِأَنَّهُ يُطَلقُ ثُمَّ يُرَاجِعُ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ الرَّجْعَةَ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّلاقِ يُصَيِّرُهَا كَالمُعَلقَةِ عَلى شَرْطٍ وَلا يَصِحُّ تَعْليقُهَا فَلا يَصِحُّ تَمْثِيل قَوْلهِ بِمَنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَأَمَرَ بِتَنْجِيسِهِ ثُمَّ يَغْسِلهُ وَكَذَلكَ لمْ يُصِبْ مَنْ أَدْخَل قَوْلهُ فِي أَخْبَارِ المُغَفَّلينَ فَإِنَّ مَأْخَذَهُ فِي ذَلكَ خَفِيٌّ عَنْهُ فَأَمَّا الرَّجْعَةُ مَعَ الشَّكِّ فِي حُصُول الإِبَاحَةِ بِهَا كَمَنْ طَلقَ وَشَكَّ هَل طَلقَ ثَلاثًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَ فِي العِدَّةِ فَيَصِحُّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا هَهُنَا لأَنَّ الأَصْل بَقَاءُ النِّكَاحِ وَقَدْ شَكَّ فِي انْقِطَاعِهِ وَالرَّجْعَةُ اسْتِيفَاءٌ لهُ فَصَحَّ مَعَ الشَّكِّ فِي انْقِطَاعِهِ وَعِنْدَ الخِرَقِيِّ لا يَصِحُّ لأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ سَبَبَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الطَّلاقُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ثَلاثًا فَقَدْ حَصَل التَّحْرِيمُ بِدُونِ زَوْجٍ وَإصَابَة وَإِنْ كَانَ وَاحِدَةً فَقَدْ حَصَل بِهِ التَّحْرِيمُ بَعْدَ البَيْنُونَةِ بِدُونِ عَقْدٍ جَدِيدٍ فَالرَّجْعَةُ فِي العِدَّةِ لا يَحْصُل بِهَا الحِل إلا عَلى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَطْ فَلا يَزُول الشَّكُّ مُطْلقًا فَلا يَصِحُّ لأَنَّ تَيَقُّنَ سَبَبِ وُجُودِ التَّحْرِيمِ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ المَانِعِ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ تَحَقُّقِ وُجُودِ الحُكْمِ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ المَانِعِ فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ وُجُودِ السَّبَبِ كَمَا يُعْمَل بِالحُكْمِ وَيُلغَى المَانِعُ المَشْكُوكُ فِيهِ كَمَا يُلغَى مَعَ تَيَقُّنِ وُجُودِ حُكْمِهِ. وَقَدْ اسْتَشْكَل كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ كَلامَ الخِرَقِيِّ فِي تَعْليلهِ بِأَنَّهُ تَيَقَّنَ التَّحْرِيمَ وَشَكَّ فِي التَّحْليل فَظَنُّوا أَنَّهُ يَقُول بِتَحْرِيمِ الرَّجْعَةِ وَليْسَ بِلازِمٍ لمَا ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا: لوْ حَكَمَ حَاكِمٌ فِي مَسْأَلةٍ مُخْتَلفٍ فِيهَا بِمَا يَرَى أَنَّ الحَقَّ فِي غَيْرِهِ أَثِمَ وَعَصَى بِذَلكَ وَلمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مُخَالفًا لنَصٍّ صَرِيحٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَقَال السَّامِرِيُّ: بَل يُنْقَضُ حُكْمُهُ لأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الحُكْمِ مُوَافَقَةُ الاعْتِقَادِ , وَلهَذَا لوْ حَكَمَ بِجَهْلٍ لنُقِضَ حُكْمُهُ مَعَ أَنَّهُ لا يَعْتَقِدُ بُطْلانَ مَا حَكَمَ بِهِ فَإِذَا اعْتَقَدَ بُطْلانَهُ فَهُوَ بِالرَّدِّ أَوْلى
وَللأَصْحَابِ وَجْهَانِ فِيمَا يُنْقَضُ فِيهِ حُكْمُ الجَاهِل وَالفَاسِقِ.
أَحَدُهُمَا: تُنْقَضُ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ لفَقْدِ أَهْليَّتِهِ وَهُوَ قَوْل أَبِي الخَطَّابِ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: تُنْقَضُ كُلهَا إلا مَا وَافَقَ الحَقَّ المَنْصُوصُ وَالمُجْمَعَ عَليْهِ وَيُنْقَضُ مَا وَافَقَ الاجْتِهَادَ لأَنَّهُ ليْسَ مِنْ أَهْلهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي وَيُشْبِهُ هَذَا القَوْل فِي الوَصِيِّ الفَاسِقُ إذَا قَسَّمَ الوَصِيَّةَ فَإِنْ أَعْطَى الحُقُوقَ لمُسْتَحِقٍّ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ قَبْضُهُ لمْ يَضْمَنْهُ لأَنَّهُ يَجِبُ إيصَالهُ إليْهِ وَقَدْ حَصَل وَإِنْ كَانَ لغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَوَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: الحُكْمُ بِإِسْلامِ مَنْ اُتُّهِمَ بِالرِّدَّةِ إذَا أَنْكَرَ وَأَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ صَحِيحٌ وَإِنْ حَصَل التَّرَدُّدُ فِي مُسْتَنَدِهِ هَل هُوَ الإِسْلامُ المُسْتَمِرُّ عَلى مَا يَدَّعِيه أَوْ الإِسْلامُ المُتَجَدِّدُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا اُتُّهِمَ بِهِ.
وَقَدْ قَال الخِرَقِيِّ: وَمَنْ شهد عَليْهِ بِالرِّدَّةِ؟ فَقَال: مَا كَفَرْتُ فَإِنْ شَهِدَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللهِ لمْ يَكْشِفْ عَنْ شَيْءٍ.
قَال فِي المُغْنِي: لأَنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ إسْلامُ الكَافِرِ الأَصْليِّ فَكَذَلكَ المُرْتَدُّ قَال وَلا حَاجَةَ فِي ثُبُوتِ إسْلامِهِ إلى الكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ.
وَنَقَل مُحَمَّدُ بْنُ الحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ أَسْلمَ مِنْ أَهْل الكِتَابِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَشَهِدَ قَوْمٌ عُدُولٌ أَنَّهُ تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ وَقَال هُوَ: لمْ أَفْعَل أَنَا مُسْلمٌ قَال: أَقْبَل قَوْلهُ وَلا أَقْبَل شَهَادَتَهُمْ وَذَكَرَ كَلامًا مَعْنَاهُ: أَنَّ إنْكَارَهُ أَقْوَى مِنْ الشُّهُودِ وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ أَبُو طَالبٍ فِي رَجُلٍ تَنَصَّرَ فَأُخِذَ فَقَال لمْ أَفْعَل قَال: يُقْبَل مِنْهُ وَعَلل بِأَنَّ المُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ لعَلهُ يَرْجِعُ فَيُقْبَل مِنْهُ فَإِذَا أَنْكَرَ بِالكُليَّةِ فَهُوَ أَوْلى بِالقَبُول وَليْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ثَبَتَ عَليْهِ الرِّدَّةُ وَلا فِيهَا أَنَّهُ وَجَدَ مِنْهُ غَيْرَ إنْكَارِ الرِّدَّةِ.
وَأَمَّا مَسْأَلةُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَكَمِ فَفِيهَا أَنَّهُ قَال: أَنَا مُسْلمٌ وَذَلكَ يَحْصُل بِهِ الإِسْلامُ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ يَدُل عَلى أَنَّ إنْكَارَهُ يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ إلى الإِسْلامِ وَلوْ ثَبَتَت عَليْهِ الرِّدَّةُ بِالبَيِّنَةِ وَهُوَ خِلافُ قَوْل أَصْحَابِنَا.
وَأَمَّا إنْ ثَبَتَ كُفْرُهُ بِإِقْرَارِهِ عَليْهِ ثُمَّ أَنْكَرَ فَفِي المُغْنِي يَحْتَمِل أَنْ لا يُقْبَل إنْكَارُهُ وَإِنْ سَلمْنَا فَلأَنَّ الحَدَّ هُنَا وَجَبَ بِقَوْلهِ فَيُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْهُ. بِخِلافِ مَا ثَبَتَ بِالبَيِّنَةِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا.
القاعدة التاسعة والستون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَة وَالسِّتُّونَ:العَقْدُ الوَارِدُ عَلى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ لازِمًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ بِعِوَضٍ كَالإِجَارَةِ فَالوَاجِبُ تَحْصِيل ذَلكَ العَمَل وَلا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْمَلهُ المَعْقُودُ مَعَهُ إلا بِشَرْطٍ أَوْ قَرِينَةٍ تَدُل عَليْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لازِمٍ وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ فَلا يَجُوزُ للمَعْقُودِ مَعَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي عَمَلهِ إلا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ أَوْ قَرِينَةٍ دَالةٍ عَليْهِ وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ كَانَ تَصَرَّفَ بِوِلايَةٍ إمَّا ثَابِتَةٍ بِالشَّرْعِ كَوَليِّ النِّكَاحِ أَوْ بِالعَقْدِ كَالحَاكِمِ وَوَليِّ اليَتِيمِ.
أَمَّا الأَوَّل فَلهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا: الأَجِيرُ المُشْتَرَكُ فَيَجُوزُ لهُ الاسْتِنَابَةُ فِي العَمَل لأَنَّهُ ضَمِنَ تَحْصِيلهُ لا عَمَلهُ بِنَفْسِهِ وَاسْتَثْنَى الأَصْحَابُ مِنْ ذَلكَ أَنْ يَكُونَ العَمَل مُتَفَاوِتًا كَالفَسْخِ فَليْسَ لهُ الاسْتِنَابَةُ فِيهِ بِدُونِ إذْنِ المُسْتَأْجِرِ صَرِيحًا وَنَقَلتُ مِنْ خَطِّ القَاضِي عَلى ظَهْرِ جُزْءٍ مِنْ خِلافِهِ قَال: نَقَلتُ مِنْ مَسَائِل ابْنِ أَبِي حَرْبٍ الجُرْجَانِيِّ سَمِعَتْ أَبَا عَبْدِ اللهِ سُئِل قَال: دَفَعْت ثَوْبًا إلى خَيَّاطٍ فَقَطَّعَهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلى آخَرَ ليَخِيطَهُ قَال هُوَ ضَامِنٌ وَلعَل هَذَا فِيمَا إذَا دَلتْ الحَال عَلى وُقُوعِ العَقْدِ فِيهِ عَلى خِيَاطَةِ المُسْتَأْجِرِ لجَوْدَةِ صِنَاعَتِهِ وَحِذْقِهِ وَشُهْرَتِهِ بِذَلكَ وَلا يَرْضَى المُسْتَأْجِرُ بِعَمَل غَيْرِهِ وَالمَذْهَبُ الجَوَازُ بِدُونِ القَرِينَةِ وَعَليْهِ بَنَى الأَصْحَابُ صِحَّةَ شَرِكَةِ الأَبْدَانِ حَتَّى أَجَازُوهَا مَعَ اخْتِلافِ الصَّنَائِعِ عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وَكَذَلكَ لوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لعَمَلٍ وَهُوَ لا يُحْسِنُهُ فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ لأَنَّ العَقْدَ وَقَعَ عَلى ضَمَانِ تَسْليمِ العَمَل وَتَحْصِيلهِ لا عَلى المُبَاشَرَةِ.
وَمِنْهَا: لوْ أَصْدَقَهَا عَمَلاً مَعْلومًا مُقَدَّرًا بِالزَّمَانِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَقُلنَا يَصِحُّ ذَلكَ فَهُوَ كَالأَجِيرِ المُشْتَرَكِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ المُتَصَرِّفُ بِالإِذْنِ المُجَرَّدِ فَلهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا: الوَكِيل وَفِي جَوَازِ تَوْكِيلهِ بِدُونِ إذْنٍ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ إلا فِيمَا اقْتَضَتْهُ دَلالةُ الحَال مِثْل أَنْ يَكُونَ العَمَل لا يُبَاشِرُهُ مِثْلهُ أَوْ يَعْجَزُ عَنْهُ لكَثْرَتِهِ فَلهُ الاسْتِنَابَةُ بِغَيْرِ خِلافٍ لكِنْ هَل لهُ الاسْتِنَابَةُ فِي الجَمِيعِ أَوْ فِي القَدْرِ المَعْجُوزِ عَنْهُ خَاصَّةً؟ عَلى وَجْهَيْنِ وَالأَوَّل اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي. وَالثَّانِي: قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ.
وَمِنْهَا: العَبْدُ المَأْذُونُ لهُ وَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالوَكِيل وَهُوَ المَذْكُورُ فِي الكَافِي لأَنَّهُ اسْتَفَادَ التَّصَرُّفَ بِالإِذْنِ فَهُوَ كَالوَكِيل.
وَالثَّانِي: ليْسَ لهُ الاسْتِنَابَةُ بِدُونِ إذْنٍ أَوْ عُرْفٍ بِغَيْرِ خِلافٍ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّلخِيصِ لقُصُورِ العَبْدِ فِي أَمْلاكِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ فَلا يَمْلكُ التَّصَرُّفَ بِدُونِ إذْنٍ أَوْ قَرِينَةٍ.
وَمِنْهَا: الصَّبِيُّ المَأْذُونُ لهُ وَهُوَ كَالوَكِيل ذَكَرَهُ فِي الكَافِي.
وَمِنْهَا: الشَّرِيكُ وَالمُضَارِبُ وَفِيهِمَا طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الوَكِيل عَلى الخِلافِ فِيهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي وَالأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِيَة: يَجُوزُ لهُمَا التَّوْكِيل بِدُونِ إذْنٍ وَهُوَ المَجْزُومُ بِهِ فِي المُحَرَّرِ وَكَذَلكَ رَجَّحَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي رُءُوسِ المَسَائِل لعُمُومِ تَصَرُّفِهِمَا وَكَثْرَتِهِ وَطُول مُدَّتِهِ غَالبًا وَهَذِهِ قَرَائِنُ تَدُل عَلى الإِذْنِ فِي التَّوْكِيل فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَكَلامُ ابْنِ عَقِيلٍ يُشْعِرُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ المُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ فَيَجُوزُ للشَّرِيكِ التَّوْكِيل لأَنَّهُ عَلل بِأَنَّ الشَّرِيكَ اسْتَفَادَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الوَكَالةُ لأَنَّهَا أَخَصُّ وَالشَّرِكَةُ أَعَمُّ فَكَانَ لهُ الاسْتِنَابَةُ فِي الأَخَصِّ بِخِلافِ الوَكِيل فَإِنَّهُ اسْتَفَادَ بِحُكْمِ العَقْدِ مِثْل العَقْدِ وَهَذَا يَدُل عَلى إلحَاقِ المُضَارِبِ بِالوَكِيل.
وَهَذَا الكَلامُ فِي تَوْكِيلهِمَا فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَأَمَّا دَفْعُ المُضَارِبِ المَال مُضَارَبَةً إلى غَيْرِهِ فَلا يَجُوزُ بِدُونِ إذْنٍ صَرِيحٍ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ وَعَلل بِأَنَّهُ إنَّمَا ائْتَمَنَهُ عَلى المَال فَكَيْفَ يُسَلمُهُ إلى غَيْرِهِ , وَحَكَى فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى بِالجَوَازِ
وَأَمَّا الثَّالثُ: وَهُوَ المُتَصَرِّفُ بِالوِلايَةِ فَمِنْهُ وَليُّ اليَتِيمِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالوَكِيل وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي لأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِذْنِ فَهُوَ كَالوَكِيل.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِخِلافِ الوَكِيل وَرَجَّحَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي كِتَابِ الوَصَايَا وَأَبُو الخَطَّابِ وَجَزَمَ بِهِ فِي المُحَرَّرِ لأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالوِلايَةِ وَليْسَ وَكِيلاً مَحْضًا فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بَعْدَ المَوْتِ بِخِلافِ الوَكِيل وَلأَنَّهُ يَعْتَبِرُ عَدَالتَهُ وَأَمَانَتَهُ وَهَذَا شَأْنُ الوِلايَاتِ وَلأَنَّهُ لا يُمْكِنُهُ الاسْتِئْذَانُ أَوْ تَطُول مُدَّتُهُ وَيَكْثُرُ تَصَرُّفُهُ بِخِلافِ الوَكِيل هَذَا فِي تَوْكِيلهِ فَأَمَّا فِي وَصِيَّتِهِ إلى غَيْرِهِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَاخْتَارَ المَنْعَ أَبُو بَكْرٍ وَالقَاضِي.
وَمِنْهَا: الحَاكِمُ هَل لهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ لهُ فِي ذَلكَ؟ وَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: طَرِيقُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَالخِلافِ أَنَّهُ كَالوَكِيل عَلى مَا مَرَّ فِيهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ طَرِيقُ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُحَرَّرِ أَنَّ لهُ الاسْتِحْلافَ قَوْلاً وَاحِدًا وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا بِنَاءً عَلى أَنَّ القَاضِيَ ليْسَ بِنَائِبٍ للإِمَامِ بَل هُوَ نَاظِرٌ للمُسْلمِينَ لا عَمَّنْ وَلاهُ وَلهَذَا لا يُعْزَل بِمَوْتِهِ وَلا بِعَزْلهِ عَلى مَا سَبَقَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي وِلايَتِهِ حُكْمَ الإِمَامِ بِخِلافِ الوَكِيل وَلأَنَّ الحَاكِمَ يَضِيقُ عَليْهِ تَوَلي جَمِيعَ الأَحْكَامِ بِنَفْسِهِ وَيُؤَدِّي ذَلكَ إلى تَعْطِيل مَصَالحِ النَّاسِ العَامَّةِ فَأَشْبَهَ مَنْ وَكَّل فِيمَا لا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتَهُ عَادَةً لكَثْرَتِهِ
وَمِنْهُ: وَليُّ النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا فَلا إشْكَال فِي جَوَازِ تَوْكِيلهِ لأَنَّ وِلايَتَهُ ثَابِتَةٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ المَرْأَةِ وَلذَلكَ لا يُعْتَبَرُ مَعَهُ إذْنُهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْبَرٍ فَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالوَكِيل وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي لأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالإِذْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لهُ التَّوْكِيل قَوْلاً وَاحِدًا وَهُوَ طَرِيقُ صَاحِبِ المُغْنِي وَالمُحَرَّرِ لأَنَّ وِلايَتَهُ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ المَرْأَةِ فَلا تَتَوَقَّفُ اسْتِنَابَتُهُ عَلى إذْنِهَا كَالمُجْبَرِ وَإِنَّمَا افْتَرَقَا عَلى اعْتِبَارِ إذْنِهَا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلا أَثَرَ لهُ هَهُنَا.
القاعدة السبعون
القَاعِدَةُ السَّبْعُونَ:الفِعْل المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ أَوْ المُتَعَلقُ بِظَرْفٍ أَوْ مَجْرُورٍ إذَا كَانَ مَفْعُولهُ أَوْ مُتَعَلقُهُ عَامًّا فَهَل يَدْخُل الفَاعِل الخَاصُّ فِي عُمُومِهِ أَمْ يَكُونُ ذِكْرُ الفَاعِل قَرِينَةً مُخْرِجَةً لهُ مِنْ العُمُومِ أَوْ يَخْتَلفُ ذَلكَ بِحَسَبِ القَرَائِنِ؟ فِيهِ خِلافٌ فِي المَذْهَبِ , وَالمُرَجَّحُ فِيهِ التَّخْصِيصُ إلا مَعَ التَّصْرِيحِ بِالدُّخُول أَوْ قَرَائِنَ تَدُل عَليْهِ.
وَتَتَرَتَّبُ عَلى ذَلكَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
مِنْهَا: النَّهْيُ عَنْ الكَلامِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ لا يَشْمَل الإِمَامَ عَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ.
وَمِنْهَا: الأَمْرُ بِإِجَابَةِ المُؤَذِّنِ هَل يَشْمَل المُؤَذِّنَ نَفْسَهُ؟ المَنْصُوصُ هَاهُنَا الشُّمُول وَالأَرْجَحُ عَدَمُهُ طَرْدًا للقَاعِدَةِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ لمْ يَمْلكْ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ , وَللمَنْعِ مَأْخَذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ المَنَافِعَ ليْسَتْ مِنْ أَمْوَال التِّجَارَةِ ذَكَرَهُ القَاضِي
وَمِنْهَا: إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لعَبْدِهِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ مِنْ رَقِيقِ السَّيِّدِ لمْ يَمْلكْ أَنْ يُعْتِقَ نَفْسَهُ وَخَرَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلى وَجْهَيْنِ وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلى طَرِيقَتِهِ وَطَرِيقَةِ ابْنِ حَامِدٍ وَالمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّ تَكْفِيرَ العَبْدِ بِالمَال لا يَنْبَنِي عَلى مِلكِهِ بِالتَّمْليكِ بَل يُكَفِّرُ بِهِ إذْنَ السَّيِّدِ وَإِنْ لمْ يَمْلكْهُ , وَإِلا فَلوْ مَلكَ نَفْسَهُ لانْعَتَقَتْ عَليْهِ قَهْرًا وَلمْ تُجْزِئْهُ عَنْ الكَفَّارَةِ.
وَمِنْهَا: هَل يَكُونُ الرَّجُل مُصَرِّفًا لكَفَّارَةِ نَفْسِهِ؟ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ ثُمَّ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يحكيهما فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ لوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهَا فِي الجَمِيعِ وَجَعَل ذَلكَ خُصُوصًا للأَعْرَابِيِّ وَإِسْقَاطِ الكَفَّارَةِ عَنْهُ لعَجْزِهِ وَكَوْنِهَا لا تَفْصُل عَنْهُ.
وَاخْتَلفُوا فِي مَحَل الخِلافِ فَقِيل هُوَ إذَ كَفَّرَ الغَيْرُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ هَل يَجُوزُ لهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إليْهِ أَمْ لا؟ بِنَاءً عَلى أَنَّ التَّكْفِيرَ مِنْ الغَيْرِ عَنْهُ لا يَسْتَلزِمُ دُخُولهَا فِي مِلكِهِ قَبْل مِلكِ الفَقِيرِ لهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلهُ فِي العِتْقِ وَقِيل: بَل إذَا تَصَدَّقَ عَليْهِ بِهَا لفَقْرِهِ هَل يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلهَا وَتَكُونُ كَفَّارَةً أَمْ لا؟ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَمِنْهَا: هَل يَكُونُ الرَّجُل مُصَرِّفًا لزَكَاتِهِ إذَا أَخَذَ السَّاعِي مِنْهُ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا. فَلهُ أَنْ يُعِيدَهَا إليْهِ بَعْدَ ذَلكَ , هَذَا هُوَ المَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ القَاضِي لأَنَّ عَوْدَهَا إليْهِ هَهُنَا بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ كَإِرْثِهِ لهَا وَلا نَقُول: إنَّهُ قَبَضَهَا عَنْ زَكَاةِ مَالهِ لأَنَّهُ بَرِئَ مِنْ زَكَاةِ مَالهِ بِقَبْضِ السَّاعِي وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا مِنْ جُمْلةِ الصَّدَقَاتِ المُبَاحَةِ لهُ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ لا يَحِل لهُ أَخْذُهَا ذَكَرَهُ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ وَعَلل بِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَلا
يَجُوزُ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِمَا قَدْ تَطَهَّرَ بِهِ وَهَكَذَا الخِلافُ فِي رَدِّ الإِمَامِ خُمُسَ الفَيْءِ وَالغَنِيمَةِ عَلى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَأَمَّا إسْقَاطُهَا قَبْل القَبْضِ فَلا يَجُوزُ لأَنَّ الإِبْرَاءَ مِنْ الدَّيْنِ لا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ وَلا الخُمُسَ بَل يَجِبُ فِيهَا القَبْضُ بِخِلافِ الخَرَاجِ وَالعُشْرُ المَأْخُوذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الكِتَابِ لأَنَّهُ فَيْءٌ فَيَجُوزُ للإِمَامِ إسْقَاطُهُ مِمَّنْ هُوَ وَاجِبٌ عَليْهِ إذَا رَأَى فِيهِ المَصْلحَةَ وَكَذَلكَ خُمُسُ الرِّكَازِ إذَا قِيل هُوَ فَيْءٌ.
وَمِنْهَا: هَل يَكُونُ الوَاقِفُ مُصَرِّفًا لوَقْفِهِ كَمَا إذَا وَقَفَ شَيْئًا عَلى الفُقَرَاءِ ثُمَّ افْتَقَرَ فَإِنَّهُ يَدْخُل عَلى الأَصَحِّ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ وَكَذَلكَ لوْ انْقَطَعَ مُصَرِّفُ الوَقْفِ وَقُلنَا يَرْجِعُ إلى أَقَارِبِهِ وَقْفًا وَكَانَ الوَاقِفُ حَيًّا هَل يَرْجِعُ إليْهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي المُفْرَدَاتِ بِدُخُولهِ , وَكَذَلكَ لوْ وَقَفَ عَلى أَوْلادِهِ وَأَنْسَابِهِمْ أَبَدًا عَلى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلدٍ رَجَعَ نَصِيبُهُ إلى أَقْرَبِ النَّاسِ إليْهِ فَتُوُفِّيَ أَحَدُ أَوْلادِهِ عَنْ غَيْرِ وَلدٍ وَالأَبُ الوَاقِفُ حَيٌّ فَهَل يَعُودُ نَصِيبُهُ إليْهِ لكَوْنِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إليْهِ أَمْ لا؟ يُخَرَّجُ عَلى مَا قَبْلهَا وَالمَسْأَلةُ مُلتَفِتَةٌ إلى دُخُول المُخَاطَبِ فِي خِطَابِهِ.
وَمِنْهَا: الوَكِيل فِي البَيْعِ هَل لهُ الشِّرَاءُ مِنْ نَفْسِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَللمَنْعِ مَأْخَذَانِ.
أَحَدُهُمَا: التُّهْمَةُ وَخَشْيَةُ تَرْكِ الاسْتِقْصَاءِ فِي الثَّمَنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ التَّوْكِيل فِي البَيْعِ يَدُل عَلى إخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلةِ المُشْتَرِينَ لأَنَّهُ جَعَلهُ بَائِعًا فَلا يَكُونُ مُشْتَرِيًا , وَهَذَانِ المَأْخَذَانِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَالثَّالثُ: أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلى طَرَفَيْ العَقْدِ وَاحِدٌ بِنَفْسِهِ وَيَأْخُذُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ مِنْ الأُخْرَى فَإِذَا وَكَّل رَجُلاً يَشْتَرِي لهُ مِنْهُ جَازَ نَقَل ذَلكَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ.
فَعَلى المَأْخَذِ الأَوَّل: لا يَجُوزُ لهُ البَيْعُ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِمُحَابَاةٍ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّنْ لا تُقْبَل شَهَادَتُهُ لهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِمَنْ لهُ عَليْهِ وِلايَةٌ وَهُوَ وَلدُهُ الصَّغِيرُ دُونَ مَنْ لا وِلايَةَ لهُ عَليْهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي.
وَعَلى الثَّانِي وَالثَّالثِ: يَجُوزُ لهُ البَيْعُ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ أَهْلاً للقَبُول , وَيَجُوزُ عَلى المَأْخَذِ الثَّالثِ أَيْضًا أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَشْتَرِي لهُ لانْدِفَاعِ مَحْذُورِ إيجَادِ المُوجِبِ وَالقَابِل , وَإِنْ وَكَّل مَنْ يَبِيعُ السِّلعَةَ وَيَشْتَرِيهَا هُوَ فَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا لهُ فِي التَّوْكِيل فِي البَيْعِ
جَازَ الشِّرَاءُ مِنْ وَكِيلهِ قَوْلاً وَاحِدًا بِنَاءً عَلى أَنَّ هَذَا الوَكِيل الثَّانِي وَكِيلٌ للمُوَكِّل الأَوَّل فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى السِّلعَةَ مِنْ مَالكِهَا , وَإِنْ كَانَ لمْ يَأْذَنْ لهُ فِي التَّوْكِيل انْبَنَى عَلى جَوَازِ تَوْكِيلهِ بِدُونِ إذْنٍ فَإِنْ أَجَزْنَاهُ صَحَّ البَيْعُ وَإِلا فَلا, فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الصِّحَّةِ أَنَّ الوَكِيل الثَّانِي وَكِيلٌ للمُوَكِّل الأَوَّل , وَيَدُل عَليْهِ تَعْليلهُ بِذَلكَ فِي صُورَةِ الإِذْنِ فِي مَسْأَلةِ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَل أَنْ يُعْتَبَرَ التَّوْكِيل لئَلا يَتَّحِدَ المُوجِبُ وَالقَابِل مَعَ أَنَّ هَذَا مُنْتَقِصٌ بِالأَبِ فِي مَال وَلدِهِ الطِّفْل.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الجَوَازِ فَاخْتُلفَ فِي حِكَايَةِ شُرُوطِهَا عَلى طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الزِّيَادَةَ عَلى الثَّمَنِ الذِي يَنْتَهِي إليْهِ الرَّغَبَاتُ فِي النِّدَاءِ , وَفِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَتَوَلى النِّدَاءَ غَيْرُهُ وَجْهَانِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ المُشْتَرَطَ التَّوْكِيل المُجَرَّدُ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالشِّيرَازِيِّ.
وَالثَّالثُ: أَنَّ المُشْتَرَطَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَبِيعُهُ عَلى قَوْلنَا بِجَوَازِ ذَلكَ وَإِمَّا الزِّيَادَةُ عَلى ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَأَبِي الخَطَّابِ.
وَأَمَّاإنْ بَاعَ الوَكِيل وَاشْتَرَطَ عَلى المُشْتَرِي أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهِ فَهَل يَجُوزُ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ, نَقَلهَا أَبُو الحَارِثِ فِي الوَكِيل يَبِيعُ وَيَسْتَثْنِي لنَفْسِهِ الشَّرِكَةَ أَرْجُو أَلا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
وَالثَّانِيَة: تُكْرَهُ نَقَلهَا ابْنُ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ يُدْفَعُ إليْهِ الثَّوْبُ يَبِيعُهُ فَإِذَا بَاعَهُ قَال: أَشْرِكْنِي فِيهِ قَال: أَكْرَهُ هَذَا, فَأَمَّا إنْ أَذِنَ لهُ المُوَكِّل فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ , قَال كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ رِوَايَةً وَاحِدَةً بِخِلافِ النِّكَاحِ وَحَكَى الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ بِالمَنْعِ قَال: وَهَل يَكُونُ حُضُورُ المُوَكِّل وَسُكُوتُهُ كَإِذْنِهِ؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ أَشْبَهُهُمَا بِكَلامِ أَحْمَدَ المَنْعُ.
وَنَقَل أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الخَفَّافُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ لهُ عَلى رَجُلٍ خَمْسُونَ دِينَارًا فَوَكَّلهُ فِي بَيْعِ دَارِهِ وَمَتَاعِهِ ليَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ ليُصَارِفَ نَفْسَهُ وَيَأْخُذُهَا بِالدَّنَانِيرِ لمْ يَجُزْ وَلكِنْ يَبِيعُهَا وَيَسْتَقْصِي وَيَأْخُذُ حَقَّهُ.
قَال القَاضِي: ظَاهِرُ كَلامِهِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لهُ بَيْعُهَا بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ ليَسْتَوْفِيَ مِنْهُ لأَنَّ التُّهْمَةَ مَوْجُودَةٌ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ لنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا أَذِنَ لهُ فِي الاسْتِيفَاءِ وَلمْ يَأْذَنْ لهُ فِي المُصَارَفَةِ فَإِذَا بَاعَهَا بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلهُ الاسْتِيفَاءُ مِنْهَا بِالإِذْنِ لأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ مُوَكِّلهِ فَهُوَ يَقْبِضُ عن يَدِ غَيْرِهِ لنَفْسِهِ لكِنَّ هَذِهِ العِلةَ مَوْجُودَةٌ فِي شِرَاءِ المُوَكِّل مِنْ نَفْسِهِ وَكَذَلكَ حَكَى فِي الخِلافِ فِي المَسْأَلتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ وَجَعَلهَا صَاحِبُ
التَّلخِيصِ رِوَايَةً يَجُوزُ أَنَّ تَوْكِيل الوَكِيل فِي إيفَاءِ نَفْسِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ خَاصَّةً وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلالةٌ عَلى المَنْعِ مُدَّةَ البَيْعِ بِغَيْرِ جِنْسِ الحَقِّ لا سِيَّمَا إنْ كَانَ جِنْسُ الحَقِّ غَيْرَ نَقْدِ البَلدِ وَحَمَل قَوْل أَحْمَدَ بِبَيْعِهَا عَلى الدَّرَاهِمِ التِي هِيَ الثَّمَنُ وَبَنَى ذَلكَ عَلى قَوْلنَا بِمَنْعِ الوَكِيل مِنْ البَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا عَلى قَوْلنَا بِجَوَازِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لهُ هَهُنَا مُصَارَفَةُ نَفْسِهِ.
وَمِنْهَا: شِرَاءُ الوَكِيل لمُوَكِّلهِ مِنْ مَالهِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ شِرَاءِ الوَكِيل مِنْ مَال مُوَكِّلهِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ وَفِي مَسَائِل ابْنِ هَانِئٍ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ بَعَثَ إليْهِ بِدَرَاهِمَ ليَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ بَعْضِ المَوَاضِعِ فَبَعَثَ إليْهِمْ بِمَا عِنْدَهُ وَبَالغَ فِي الاسْتِقْصَاءِ قَال مِمَّا لا يُعْجِبُنِي أَنْ يَبْعَثَ إليْهِمْ بِمَا عِنْدَهُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَدْ بَعَثَ إليْهِمْ مِنْ المَتَاعِ الذِي عِنْدَهُ.
وَمِنْهَا: شِرَاءُ الوَصِيِّ مِنْ مَال اليَتِيمِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ شِرَاءِ الوَكِيل , وَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَلمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيهِ سِوَى المَنْعِ وَكَذَلكَ حُكْمُ الحَاكِمِ وَأَمِينِهِ فِي مَال اليَتِيمِ وَيَتَوَجَّهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الحَاكِمِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الحَاكِمَ وِلايَتُهُ غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إلى إذْنٍ فَيَكُونُ عَامَّةً بِخِلافِ مَنْ أُسْنِدَتْ وِلايَتُهُ إلى إذْنٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي التَّصَرُّفِ فَإِنَّ إطْلاقَ الإِذْنِ لهُ يَقْتَضِي أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَ غَيْرِهِ لا مَعَ نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ وَقَدْ اعْتَمَدَ القَاضِي عَلى هَذَا الفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفِ الأَبِ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا: الوَكِيل فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ ليْسَ لهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لنَفْسِهِ عَلى المَعْرُوفِ مِنْ المَذْهَبِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ إنْ أَذِنَ لهُ الوَليُّ فِي التَّوْكِيل فَوَكَّل غَيْرَهُ فَزَوَّجَهُ صَحَّ وَكَذَا إنْ لمْ يَأْذَنْ لهُ وَقُلنَا: للوَكِيل أَنْ يُوَكِّل مُطْلقًا فَأَمَّا مَنْ لهُ وِلايَةٌ بِالشَّرْعِ كَالوَليِّ وَالحَاكِمِ وَأَمِينِهِ فَلهُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَإِنْ قُلنَا ليْسَ لهُمْ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ المَال ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ المَال القَصْدُ مِنْهُ الرِّبْحُ وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ التُّهْمَةُ بِخِلافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ القَصْدَ مِنْهُ الكَفَاءَةُ وَحُسْنُ العِشْرَةِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلكَ صَحَّ وَأُلحِقَ أَيْضًا الوَصِيُّ بِذَلكَ , وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الوَصِيَّ يُشْبِهُ الوَكِيل لتَصَرُّفِهِ بِالإِذْنِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلكَ اليَتِيمَةُ وَغَيْرُهَا صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي ذَلكَ وَذَلكَ حَيْثُ يَكُونُ لهَا إذْنٌ مُعْتَبَرٌ وَمَتَى زَوَّجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاءِ نَفْسَهُ بِإِذْنِ المَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ بَل مُبَاشَرَةً لطَرَفَيْ العَقْدِ فَفِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ وَكَّل فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَقَال أَكْثَرُ الأَصْحَابِ يَصِحُّ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَأَنْكَرَ ذَلكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَقَال: مَتَى قُلنَا لا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلاهُ بِنَفْسِهِ لمْ يَصِحَّ عَقْدُ وَكِيلهِ لهُ لأَنَّ وَكِيلهُ قَامَ مَقَامَ نَفْسِهِ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ الإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ليْسَ لهَا وَليٌّ فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا بِوِلايَةِ أَحَدِ نُوَّابِهِ لأَنَّ نُوَّابَهُ نُوَّابٌ عَنْ المُسْلمِينَ لا عَنْهُ فِيمَا يَخُصُّهُ.
وَمِنْهَا: إذَا عَمِل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَال الشَّرِكَةِ عَمَلاً يَمْلكُ الاسْتِئْجَارَ عَليْهِ وَدَفَعَ الأُجْرَةَ فَهَل لهُ أَنْ يَأْخُذَ الأُجْرَةَ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: المُوصَى إليْهِ بِإِخْرَاجِ مَال لمَنْ يَحُجُّ أَوْ يَغْزُو وَليْسَ لهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَحُجَّ بِهِ وَيَغْزُوَ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَقَال: هُوَ مُتَعَدٍّ لأَنَّهُ لمْ يَأْمُرْهُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ المَنْعِ عَدَمُ تَنَاوُل اللفْظِ لهُ.
وَمِنْهَا: المَأْذُونُ لهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ هَل لهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لنَفْسِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْل الصَّدَقَةِ؟ المَذْهَبُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بَخْتَانِ وَذَكَرَ فِي المُغْنِي احْتِمَاليْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الجَوَازُ مُطْلقًا.
وَالثَّانِي: الرُّجُوعُ إلى القَرَائِنِ فَإِنْ دَلتْ قَرِينَةٌ عَلى الدُّخُول جَازَ الأَخْذُ أَوْ عَلى عَدَمِهِ لمْ يَجُزْ وَمَعَ التَّرَدُّدِ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ وَالجَوَازُ مُتَخَرَّجٌ مِنْ مَسْأَلةِ شِرَاءِ الوَكِيل وَأَوْلى إذْ لا عِوَضَ هَهُنَا يَنْبَغِي وَهُوَ أَمِينٌ عَلى المَال يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالمَصْلحَةِ وَلكِنَّ الأَوْلى سَدُّ الذَّرِيعَةِ لأَنَّ مُحَابَاةَ النَّفْسِ لا يُؤْمَنْ وَعَلى هَذَا فَهَل لهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ لا تُقْبَل شَهَادَتُهُ؟ لهُ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَشْهَرُهُمَا: المَنْعُ.
وَالثَّانِي: الجَوَازُ اخْتَارَهُ صَاحِبَا المُغْنِي وَالمُحَرَّرِ.
وَمِنْهَا: إذَا وَكَّل غَرِيمَهُ أَنْ يُبْرِئَ غُرَمَاءَهُ لمْ يَدْخُل فِيهِمْ بِمُطْلقِ العَقْدِ فَإِنْ سَمَّاهُ أَوْ وَكَّلهُ وَحْدَهُ جَازَ ذَلكَ كَمَا قُلنَا فِي البَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ عَلى الأَصَحِّ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الهِدَايَةِ وَعَزَاهُ إلى القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ قَال: وَالفَرْقُ عَلى الوَجْهِ الآخَرِ افْتِقَارُ البَيْعِ إلى الإِيجَابِ وَالقَبُول بِخِلافِ الإِبْرَاءِ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال فِي الأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّعْليقَاتِ: مَنْ دَخَل دَارِي أَوْ قَال: مَنْ دَخَل دَارَك لمْ يَدْخُل المُتَكَلمُ فِي الصُّورَةِ الأُولى وَلا المُخَاطَبُ بِهَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَة ذَكَرَهُ القَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَمِنْهَا: الأَمْوَال التِي تَجِبُ الصَّدَقَةُ فِيهَا شَرْعًا للجَهْل بِأَرْبَابِهَا كَالغُصُوبِ وَالوَدَائِعِ لا يَجُوزُ لمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ الأَخْذُ مِنْهَا عَلى المَنْصُوصِ وَخَرَّجَ القَاضِي جَوَازَ الأَكْل لهُ مِنْهَا إذَا كَانَ فَقِيرًا عَلى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شِرَاءِ الوَصِيِّ مِنْ نَفْسِهِ كَذَا نَقَلهُ عَنْهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ وَأَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الغَاصِبِ الفَقِيرِ إذَا تَابَ وَعَلى المَذْهَبِ يَتَخَرَّجُ فِي إعْطَاءِ مَنْ لا تُقْبَل شَهَادَتُهُ لهُ الوَجْهَانِ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يُحَابِي بِهِ أَصْدِقَاءَهُ بَل يُعْطِيهِمْ أُسْوَةً بِغَيْرِهِمْ نَقَلهُ عَنْهُ صَالحٌ وَكَذَا نَقَل عَنْهُ المَرُّوذِيّ إذَا دَفَعَهَا إلى أَقَارِبَ لهُ مُحْتَاجِينَ إنْ كَانَ عَلى طَرِيقِ المُحَابَاةِ لا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لمْ يُحَابِهِمْ فَقَدْ تَصَدَّقَ وَنَقَل عَنْهُ حَرْبٌ إذَا كَانَ لهُ إخْوَانٌ مَحَاوِيجُ قَدْ كَانَ يَصِلهُمْ أَيَجُوزُ لهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إليْهِمْ فَكَأَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ
غَيْرَهُمْ وَقَال: لا يُحَابِي بِهَا أَحَدًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَل إعْطَاءَهُمْ مَعَ اعْتِبَارِ صِلتِهِمْ مُحَابَاةً فَكَذَلكَ اسْتَحَبَّ العُدُول عَنْهُمْ بِالكُليَّةِ.
تَنْبِيهٌ: لوْ وَصَّى لعَبْدِهِ بِثُلثِ مَالهِ دَخَل فِي الوَصِيَّةِ ثُلثُ العَبْدِ نَفْسِهِ فَيَعْتِقُ عَليْهِ , نَصَّ عَليْهِ, وَيُكَمِّل عِتْقَهُ مِنْ بَاقِي الوَصِيَّةِ لأَنَّ مِلكَهُ للوَصِيَّةِ مَشْرُوطٌ بِعِتْقِهِ فَكَذَلكَ دَخَل فِي عُمُومِ المَال المُوصَى بِهِ ضَرُورَةُ صِحَّةِ الوَصِيَّةِ لهُ.
القاعدة الحادية والسبعون
القَاعِدَةُ الحَادِيَة وَالسَّبْعُونَ:فِيمَا يَجُوزُ الأَكْل مِنْ الأَمْوَال بِغَيْرِ إذْنِ مُسْتَحِقِّيهَا وَهِيَ نَوْعَانِ: مَمْلوكٌ تَعَلقَ بِهِ حَقُّ الغَيْرِ وَمَمْلوكٌ للغَيْرِ.
فَأَمَّا الأَوَّل: فَهُوَ مَال الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ الأَكْل مِمَّا تَتُوقُ إليْهِ الأَنْفُسُ وَيَشُقُّ الانْكِفَافُ عَنْهُ مِنْ الثِّمَارِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إليْهِ مِنْ ذَلكَ وَيُطْعِمُ الأَهْل وَالضِّيفَانَ وَلا يَحْتَسِبُ زَكَاتَهُ وَكَذَلكَ يَجِبُ عَلى الخَارِصِ أَنْ يَدَعَ في خَرْصه الثُّلثَ أَوْ الرُّبُعَ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الحَال مِنْ كَثْرَةِ الحَاجَةِ وَقِلتِهَا كَمَا دَلتْ عَليْهِ السُّنَّةُ فَإِنْ اُسْتُبْقِيَتْ وَلمْ تُؤْكَل رَطْبَةً رَجَعَ عَليْهِمْ بِزَكَاتِهَا.
وَأَمَّا الزُّرُوعُ فَيَجُوزُ الأَكْل مِنْهَا بِقَدْرِ مَا جَرَتْ العَادَةُ بِأَكْلهِ فَرِيكًا وَنَحْوَهُ نَصَّ عَليْهِ وَليْسَ لهُ الإِهْدَاءُ مِنْهَا , وَخَرَّجَ القَاضِي فِي الأَكْل مِنْهَا وَجْهَيْنِ مِنْ الأَكْل مِنْ الزُّرُوعِ التِي ليْسَ لهَا حَافِظٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَنْقَسِمُ إلى مَا لهُ مَالكٌ مُعَيَّنٌ وَإِلى مَا لهُ مَالكٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ:
فَأَمَّا مَا لهُ مَالكٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ كَالهَدْيِ وَالأَضَاحِيّ فَيَجُوزُ لمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَهُوَ المُهْدِي وَالمُضَحِّي أَنْ يَأْكُل مِنْهَا وَيَدَّخِرَ وَيُهْدِيَ كَمَا دَلتْ عَليْهِ السُّنَّةُ , وَهَل يَجُوزُ أَكْل أَكْثَرِ مِنْ الثُّلثِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَشْهَرُهُمَا الجَوَازُ , وَهَل المُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الهَدْيَ أَثْلاثًا كَالأَضَاحِيِّ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلهُ أَوْ بِمَا يَأْكُلهُ مِنْهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا مَا لهُ مَالكٌ مُعَيَّنٌ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لهُ عَليْهِ وِلايَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الوِلايَةُ عَليْهِ لحِفْظِ نَفْسِهِ كَالرَّهْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لهُ الأَكْل مِمَّا بِيَدِهِ إذَا كَانَ دَارًا وَالانْتِفَاعُ بِظَهْرِهِ إذَا كَانَ مَرْكُوبًا لكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَاوِضَ عَنْهُ بِالنَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَتْ الوِلايَةُ لمَصْلحَةِ المُوَلى عَليْهِ فَالمَنْصُوصُ جَوَازُ الأَكْل مِنْهُ أَيْضًا بِقَدْرِ عَمَلهِ.
وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: وَليُّ اليَتِيمِ يَأْكُل مَعَ الحَاجَةِ بِقَدْرِ عَمَلهِ وَهَل يَرُدُّهُ إذَا أَيْسَرَ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَأْكُل مَعَ الحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَلوْ فَرَضَ لهُ الحَاكِمُ شَيْئًا جَازَ لهُ أَخْذُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ خِلافٍ هَذَا ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ البرزاطي فِي الأُمِّ الحَاضِنَةِ أَنَّهَا لا تَأْكُل مِنْ مَال وَلدِهَا إلا لضَرُورَةٍ إلا أَنْ يَفْرِضَ لهَا الحَاكِمُ فِي المَال حَقَّ الحَضَانَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلهُ الأخذ مَعَ الغِنَى بِخِلافِ الأَخْذِ بِنَفْسِهِ وَلهَذَا أَجَازَ للوَصِيِّ الأَخْذُ إذَا شَرَطَ لهُ الأَبُ مَعَ غِنَاهُ وَجَازَ للوَليِّ أَنْ يَدْفَعَ مَال اليَتِيمِ مُضَارَبَةً إلى مَنْ يَعْمَل فِيهِ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ وَلمْ يَجُزْ لهُ إذَا عَمِل فِيهِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَأْخُذَ وَلهَذَا المَعْنَى جَازَ الأَخْذُ لعَامِل الزَّكَاةِ مَعَ الغِنَى لأَنَّ المُعْطِيَ لهُ هُوَ الإِمَامُ
وَمِنْهَا: أَمِينُ الحَاكِمِ أَوْ الحَاكِمُ إذَا نَظَرَ فِي مَال اليَتِيمِ.
قَال القَاضِي: مَرَّةً لا يَأْكُل وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الوَصِيِّ بِأَنَّ الأَبَ لهُ أَنْ يَجْعَل للوَصِيِّ جُعْلاً مَعَ وُجُودِ مُتَبَرِّعٍ بِالنَّظَرِ فِي مَال اليَتِيمِ وَالوَليُّ مُتَصَرِّفٌ بِإِذْنِهِ وَتَوْليَتِهِ بِخِلافِ أَمِينِ الحَاكِمِ فَإِنَّهُ لوْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا بِالحِفْظِ لمْ يَجُزْ لهُ أَنْ يَجْعَل لأَحَدٍ جُعْلاً عَليْهِ.
وَقَال مَرَّةً: لهُ الأَكْل كَوَصِيِّ الأَبِ وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ عَلى أَنَّ الحَاكِمَ يَأْخُذُ عَلى القَضَاءِ أَجْرًا بِقَدْرِ شُغْلهِ وَقَال: هُوَ مِثْل وَليِّ اليَتِيمِ وَأَمَّا الأَبُ فَقَال القَاضِي ليْسَ لهُ الأَكْل لأَجْل عَمَلهِ لغِنَاهُ عَنْهُ بِالنَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ فِي مَالهِ وَلكِنْ لهُ الأَكْل مِنْهُ بِجِهَةِ التَّمْليكِ عِنْدَنَا وَضَعَّفَ ذَلكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
وَمِنْهَا: نَاظِرُ الوَقْفِ وَالصَّدَقَاتِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى جَوَازِ أَكْلهِ نَقَلهُ عَنْهُ أَبُو الحَارِثِ أَنَّهُ قَال فِي وَالي الوَقْفِ: إنْ أَكَل مِنْهُ بِالمَعْرُوفِ فَلا بَأْسَ.
قِيل لهُ: فَيَقْضِي مِنْهُ دَيْنَهُ؟ قَال: مَا سَمِعْنَا فِيهِ شَيْئًا وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ حَرْبٌ فِي رَجُلٍ أَوْصَى إلى رَجُلٍ بِأَرْضٍ أَوْ صَدَقَةٍ للمَسَاكِينِ فَدَخَل الوَصِيُّ الحَائِطَ أَوْ الأَرْضَ فَتَنَاوَل بِطِّيخَةً أَوْ قِثَّاءَ أَوْ نَحْوَ ذَلكَ قَال لا بَأْسَ بِذَلكَ إذَا كَانَ القَيِّمَ بِذَلكَ أَكَل.
وَتَرْجَمَ عَليْهِ بَعْضُ الأَصْحَابِ - وَأَظُنُّهُ أَبَا حَفْصٍ العكبري - الوَصِيُّ يَأْكُل مِنْ الوَقْفِ الذِي يَليه وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لا يَشْتَرِطُ لهُ الحَاجَةَ.
وَخَرَّجَهُ أَبُو الخَطَّابِ عَلى عَامِل اليَتِيمِ وَنَقَل المَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ حِينَ وَقَفَ فَأَوْصَى إلى حَفْصَةَ ثُمَّ قَال أَحْمَدُ: وَليُّهُ يَأْكُل مِنْهُ بِالمَعْرُوفِ إذَا اشْتَرَطَ ذَلكَ وَمَفْهُومُهُ المَنْعُ مِنْ الأَكْل بِدُونِ الشَّرْطِ فَأَمَّا الوَكِيل فِي الصَّدَقَةِ فَلا يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا نَقَل يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ فِي يَدِهِ مَالٌ للمَسَاكِينِ وَأَبْوَابُ البِرِّ وَهُوَ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إليْهِ فَلا يَأْكُل مِنْهُ إنَّمَا أُمِرَ أَنْ يُنَفِّذَ وَصَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ بِأَنَّ مَنْ أَوْصَى إليْهِ بِتَفْرِقَةِ مَالٍ عَلى المَسَاكِينِ أَوْ دَفَعَ إليْهِ رَجُلٌ فِي حَيَاتِهِ مَالاً ليُفَرِّقَهُ صَدَقَةً لمْ يَجُزْ لهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا بِحَقِّ قِيَامِهِ لأَنَّهُ مُنَفِّذٌ وَليْسَ بِعَامِلٍ.
وَمِنْهَا: الوَكِيل وَالأَجِيرُ وَالمَعْرُوفُ مَنْعُهُمَا مِنْ الأَكْل لاسْتِغْنَائِهِمَا عَنْهُ بِطَلبِ الأُجْرَةِ مِنْ المُؤَجِّرِ وَالمُوَكِّل لا سِيَّمَا وَالأَجِيرُ قَدْ أَخَذَ الأُجْرَةَ عَلى عَمَلهِ وَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الوَليِّ وَالوَصِيِّ يَأْكُلانِ بِالمَعْرُوفِ إذَا كَانَا يُصْلحَانِ وَيَقُومَانِ بِأَمْرِهِ فَأَكَلا بِالمَعْرُوفِ فَلا بَأْسَ بِهِ بِمَنْزِلةِ الوَكِيل وَالأَجِيرِ , قَال القَاضِي فِي خِلافِهِ: وَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ الأَكْل للوَكِيل.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لا وِلايَةَ لهُ عَليْهِ فَيَجُوزُ الأَكْل مِنْهُ للضَّرُورَةِ بِلا نِزَاعٍ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَيَجُوزُ فِيمَا تَتُوقُ إليْهِ النُّفُوسُ مَعَ عَدَمِ الحِفْظِ وَالاحْتِرَازِ عَليْهِ وَذَلكَ فِي صُوَرٍ:
مِنْهَا: الأَكْل مِنْ الأَطْعِمَةِ فِي دَارِ الحَرْبِ وَإِطْعَامُ الدَّوَابِّ المُعَدَّةِ للرُّكُوبِ فَإِنْ كَانَتْ للتِّجَارَةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ كَانَتْ للتَّصَيُّدِ بِهَا فَوَجْهَانِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ يَحْتَاجُ إليْهِ أَوْ لمْ يَكُنْ فِي أَشْهَرِ الطَّرِيقِينَ.
وَفِي الثَّانِيَة لا يَجُوزُ إلا للحَاجَةِ بِقَدْرِهَا وَفِي رَدِّ عِوَضِهَا فِي المَغْنَمِ رِوَايَتَانِ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَاخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِي مَحَل الجَوَازِ فَقِيل: مَحَلهُ مَا لمْ يُحْرِزْهُ الإِمَامُ فَإِذَا أَحْرَزَهُ أَوْ وَكَّل بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ لمْ يَجُزْ الأَكْل إلا لضَرُورَةٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ الخِرَقِيِّ لأَنَّ إحْرَازَهُ مَنْعٌ مِنْ التَّنَاوُل مِنْهُ وَأَمَّا قَبْل الإِحْرَازِ فَإِنَّ حِفْظَهُ يَشُقُّ وَيُتَسَامَحُ بِمِثْلهِ عَادَةً.
وَقِيل يَجُوزُ الأَكْل مَا دَامُوا فِي أَرْضِ الحَرْبِ وَإِنْ أُحْرِزَ مَا لمْ يُقَسَّمْ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي , وَإِنْ فَضَلتْ مِنْهُ فَضْلةٌ فَهَل يَجِبُ رَدُّهَا مُطْلقًا أَوْ يُشْتَرَطُ كَثْرَتُهَا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: إذَا مَرَّ بِثَمَرٍ غَيْرِ مَحُوطٍ وَلا عَليْهِ نَاظِرٌ فَلهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ مَعَ الحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَلا يَحْمِل عَلى الصَّحِيحِ المَشْهُورِ مِنْ المَذْهَبِ وَلا فَرْقَ بَيْنَ المُتَسَاقِطِ عَلى الأَرْضِ وَمَا عَلى الشَّجَرِ كَمَا دَلتْ عَليْهِ السُّنَّةُ وَتَنْزِيلاً لتَرْكِهِ بِغَيْرِ حِفْظٍ مَعَ العِلمِ بِتَوَقَانِ نُفُوسِ المَارَّةِ إليْهِ مَنْزِلةَ الإِذْنِ فِي الأَكْل مِنْهُ لدَلالتِهِ عَليْهِ عُرْفًا مَعَ العِلمِ بِتَسَامُحِ غَالبِ النُّفُوسِ فِي بَذْل يَسِيرِ الأَطْعِمَةِ بِخِلافِ المَحْفُوظِ بِنَاظِرٍ أَوْ حَائِطٍ فَإِنَّ ذَلكَ بِمَنْزِلةِ المَنْعِ مِنْهُ.
وَفِي المَذْهَبِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ بِجَوَازِ الأَكْل مِنْ المُتَسَاقِطِ دُونَ مَا عَلى الشَّجَرِ لأَنَّ المُسَامَحَةَ فِي المُتَسَاقِطِ أَظْهَرُ ليُسْرِعَ الفَسَادُ إليْهِ وَلمْ يُثْبِتْهَا القَاضِي.
وَرِوَايَةٌ ثَالثَةٌ بِمَنْعِ الأَكْل مُطْلقًا إلا مَعَ الحَاجَةِ فَيُؤْكَل حِينَئِذٍ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ هَل يَلحَقُ الزَّرْعُ وَلبَنُ المَوَاشِي بِالثِّمَارِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ فَإِنَّ الأَكْل مِنْ الزَّرْعِ وَحَلبَ اللبَنِ مِنْ الضَّرْعِ إنَّمَا يُفْعَل للحَاجَةِ لا للشَّهْوَةِ.
القاعدة الثانية والسبعون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَة وَالسَّبْعُونَ:اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ وَالكِسْوَةِ فِي العُقُودِ يَقَعُ عَلى وَجْهَيْنِ مُعَاوَضَةٍ وَغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَأَمَّا المُعَاوَضَةُ فَتَقَعُ فِي العُقُودِ اللازِمَةِ وَيُمْلكُ فِيهَا الطَّعَامُ وَالكِسْوَةُ كَمَا يُمْلكُ غَيْرُهُمَا مِنْ الأَمْوَال المُعَاوَضِ بِهَا فَإِنْ وَقَعَ التَّفَاسُخُ قَبْل انْقِضَاءِ المُدَّةِ رَجَعَ بِمَا عَجَّل مِنْهَا إلا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَكِسْوَتِهَا فَإِنَّ فِي الرُّجُوعِ بِهِمَا ثَلاثَةَ أَوْجُهٍ ثَالثُهَا يَرْجِعُ بِالنَّفَقَةِ دُونَ الكِسْوَةِ.
فَمنها: الإِجَارَةُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا عَلى الصَّحِيحِ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ لمْ يَجْعَل فِيهِ خِلافًا.
وَمِنْهَا: اسْتِئْجَارُ غَيْرِ الظِّئْرِ مِنْ الأُجَرَاءِ بِالطَّعَامِ وَالكِسْوَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا الجَوَازُ كَالظِّئْرِ.
وَمِنْهَا: البَيْعُ فَلوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِنَفَقَةِ عَبْدِهِ شَهْرًا صَحَّ , ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَمِنْهَا: النِّكَاحُ تَقَعُ النَّفَقَةُ وَالكِسْوَةُ فِيهِ عِوَضًا عَنْ تَسْليمِ المَنَافِعِ وَلا يُحْتَاجُ إلى شَرْطِهَا فِي العَقْدِ كَمَا لا يُحْتَاجُ فِيهِ إلى ذِكْرِ المَهْرِ الذِي يَحْصُل بِهِ أَصْل الاسْتِبَاحَةِ وَلوْ شَرَطَتْ عَليْهِ نَفَقَةَ وَلدِهَا وَكِسْوَتِهِ صَحَّ وَكَانَ مِنْ المَهْرِ, وَأَمَّا غَيْرُ المُعَاوَضَةِ فَهُوَ إبَاحَةُ النَّفَقَةِ للعَامِل مَا دَامَ مُتَلبِّسًا بِالعَمَل وَيَقَعُ ذَلكَ فِي العُقُودِ الجَائِزَةِ إمَّا بِأَصْل الأَصْل أَوْ لأَنَّهُ لا يَجُوزُ المُعَاوَضَةُ فِيهِ بِالشَّرْعِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: المُضَارَبَةُ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ المُضَارِبِ النَّفَقَةَ وَالكِسْوَةَ فِي مُدَّةِ المُضَارَبَةِ.
وَمِنْهَا: الشَّرِكَةُ.
وَمِنْهَا: الوِكَالةُ.
وَمِنْهَا: المُسَاقَاةُ وَالمُزَارَعَةُ إذَا قُلنَا بِعَدَمِ لزُومِهَا وَمَا بَقِيَ مَعَهُمْ مِنْ النَّفَقَةِ المَأْخُوذَةِ وَالكِسْوَةِ بَعْدَ فَسْخِ هَذِهِ العُقُودُ هَل يَسْتَقِرُّ مِلكُهُمْ عَليْهِ أَمْ لا؟ يَحْتَمِل أَنْ لا يَسْتَقِرَّ لأَنَّ مَا يَتَنَاوَلهُ إنَّمَا هُوَ عَلى وَجْهِ الإِبَاحَةِ لا المِلكِ , وَلهَذَا قَال الأَصْحَابُ: إذَا اشْتَرَطَ المُضَارِبُ التَّسَرِّي مِنْ مَال المُضَارَبَةِ فَاشْتَرَى أَمَةً مِنْهُ مَلكَهَا وَيَكُونُ ثَمَنُهَا قَرْضًا عَليْهِ لأَنَّ الوَطْءَ لا يُسْتَبَاحُ بِدُونِ المِلكِ بِخِلافِ المَال فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِالبَذْل وَالإِبَاحَةِ كَمَا يَسْتَبِيحُ المُرْتَهِنُ الانْتِفَاعَ بِالرَّهْنِ بِشَرْطِهِ فِي عَقْدِ البَيْعِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ وَيَكُونُ إبَاحَةً وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ العَزِيزِ إلى رِوَايَةٍ أُخْرَى يَمْلكُ المُضَارِبُ الأَمَةَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعَلى هَذَا
فَيُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ وَالكِسْوَةُ تَمْليكًا فَلا يُرَدُّ مَا فَضَل مِنْهُمَا وَيُحْتَمَل أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اليَسِيرِ وَالكَثِيرِ كَمَا فِي المَأْخُوذِ مِنْ المَغْنَمِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَخَذَ الحَاجُّ نَفَقَةً مِنْ غَيْرِهِ ليَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَالنَّفَقَةُ فِيهِ إعَانَةٌ عَلى الحَجِّ لا أُجْرَةٌ وَيُنْفِقُ عَلى نَفْسِهِ بِالمَعْرُوفِ إلى أَنْ يَرْجِعَ إلى بَلدِهِ وَإِنْ فَضَلتْ فَضْلةٌ رَدَّهَا نَصَّ عَليْهِ وَكَذَا إنْ كَانَتْ الحَجَّةُ عَنْ المَيِّتِ بِأَنْ تَكُونَ حَجَّةَ الإِسْلامِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّ فَاضِل النَّفَقَةِ يَسْتَرِدُّهُ الوَرَثَةُ إلا أَنْ يُعَيِّنَ المُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ إعْطَاءَ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً فَإِنَّ الفَاضِل يَكُونُ لهُ فِي المَعْرُوفِ مِنْ المَذْهَبِ.
وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا قَال: حُجُّوا عَنِّي بِأَلفِ دِرْهَمٍ حَجَّةً يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَمَا فَضَل يُرَدُّ إلى الوَرَثَةِ , وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلى مَنْ يَحُجُّ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَلمْ يَجْعَل البَاقِي وَصِيَّةً لأَنَّ الحَاجَّ هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ لهُ بِخِلافِ مَا إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَوَجْهُ المَذْهَبِ أَنَّ المُوصَى لهُ يَتَعَيَّنُ بِحَجَّةٍ فَيَصِيرُ مَعْلومًا وَإِنْ قَال حُجُّوا عَنِّي بِأَلفٍ وَلمْ يَقُل حَجَّةً فَالمَذْهَبُ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَنْفُذَ.
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً بِنَفَقَةِ المِثْل وَالبَاقِي للوَرَثَةِ.
ومنها: إذَا أَخَذَ الحَاجُّ مِنْ الزَّكَاةِ ليَحُجَّ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلى قَوْلنَا إنَّ الحَجَّ مِنْ السَّبِيل فَإِنْ حَجَّ ثُمَّ فَضَلتْ فَضْلةٌ فَهَل يُسْتَرَدُّ أَمْ لا؟ الأَظْهَرُ اسْتِرْدَادُهَا كَالوَصِيَّةِ وَأَوْلى لأَنَّ هَذَا المَال يَجِبُ صَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ المُعَيَّنَةِ شَرْعًا وَلا يَجُوزُ الإِخْلال بِذَلكَ بِخِلافِ فَاضِل الوَصِيَّةِ فَإِنَّ الحَقَّ فِيهِ للوَرَثَةِ وَلهُمْ تَرِكَةٌ وَقِيَاسُ قَوْل الأَصْحَابِ فِي الغَازِي أَنَّهُ لا يُسْتَرَدُّ وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ أَنَّ الدَّابَّةَ لا تُسْتَرَدُّ وَلا يَلزَمُ مِثْلهُ فِي النَّفَقَةِ لأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ صُرِفَتْ فِي سَبِيل اللهِ بِخِلافِ فَاضِل النَّفَقَةِ وَيَمْلكُهَا بِخُرُوجِهِ مِنْ بَلدِهِ بِخِلافِ الغَازِي نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ وَعَلل بِأَنَّهُ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ فَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ لهُ حَقٌّ فِي الزَّكَاةِ , وَالغَازِي إنَّمَا أُعْطِيَ للغَزْوِ فَلا يَمْلكُ بِدُونِهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلى أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِسَبَبٍ فَانْتَفَى وَخَلفَهُ سَبَبٌ آخَرُ مُبِيحٌ للأَخْذِ أَنَّ لهُ الإِمْسَاكَ بِالسَّبَبِ الثَّانِي وَفِيهِ خِلافٌ بَيْنَ الأَصْحَابِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَخَذَ الغَازِي نَفَقَةً أَوْ فَرَسًا ليَغْزُوَ عَليْهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا لا لازِمًا وَهُوَ إعَانَةٌ عَلى الجِهَادِ لا اسْتِئْجَارَ عَليْهِ فَإِنْ رَجَعَ وَالفَرَسُ مَعَهُ مَلكَهَا مَا لمْ يَكُنْ وَقْفًا أَوْ عَارِيَّةً نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ وَلا يَمْلكُهَا حَتَّى يَغْزُوَ.
وَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ وَيَكُونُ تَمْليكًا بِشَرْطٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَمْليكٌ مُرَاعاً بِشَرْطِ الغَزْوِ فَإِنْ غَزَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلكَهُ بِالقَبْضِ فَإِنَّ قَاعِدَةَ المَذْهَبِ أَنَّ الهِبَةَ لا تَقْبَل التَّعْليقَ وَكَذَلكَ عُقُودُ المُعَاوَضَاتِ وَإِنْ فَضَل مَعَهُ مِنْ الكِسْوَةِ فَهُوَ كَالفَرَسِ وَإِنْ فَضَل مِنْ النَّفَقَةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
فَيُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ وَالكِسْوَةُ تَمْليكًا فَلا يُرَدُّ مَا فَضَل مِنْهُمَا وَيُحْتَمَل أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اليَسِيرِ وَالكَثِيرِ كَمَا فِي المَأْخُوذِ مِنْ المَغْنَمِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَخَذَ الحَاجُّ نَفَقَةً مِنْ غَيْرِهِ ليَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَالنَّفَقَةُ فِيهِ إعَانَةٌ عَلى الحَجِّ لا أُجْرَةٌ وَيُنْفِقُ عَلى نَفْسِهِ بِالمَعْرُوفِ إلى أَنْ يَرْجِعَ إلى بَلدِهِ وَإِنْ فَضَلتْ فَضْلةٌ رَدَّهَا نَصَّ عَليْهِ وَكَذَا إنْ كَانَتْ الحَجَّةُ عَنْ المَيِّتِ بِأَنْ تَكُونَ حَجَّةَ الإِسْلامِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّ فَاضِل النَّفَقَةِ يَسْتَرِدُّهُ الوَرَثَةُ إلا أَنْ يُعَيِّنَ المُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ إعْطَاءَ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً فَإِنَّ الفَاضِل يَكُونُ لهُ فِي المَعْرُوفِ مِنْ المَذْهَبِ.
وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا قَال: حُجُّوا عَنِّي بِأَلفِ دِرْهَمٍ حَجَّةً يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَمَا فَضَل يُرَدُّ إلى الوَرَثَةِ , وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلى مَنْ يَحُجُّ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَلمْ يَجْعَل البَاقِي وَصِيَّةً لأَنَّ الحَاجَّ هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ لهُ بِخِلافِ مَا إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَوَجْهُ المَذْهَبِ أَنَّ المُوصَى لهُ يَتَعَيَّنُ بِحَجَّةٍ فَيَصِيرُ مَعْلومًا وَإِنْ قَال حُجُّوا عَنِّي بِأَلفٍ وَلمْ يَقُل حَجَّةً فَالمَذْهَبُ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَنْفُذَ.
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً بِنَفَقَةِ المِثْل وَالبَاقِي للوَرَثَةِ.
ومنها: إذَا أَخَذَ الحَاجُّ مِنْ الزَّكَاةِ ليَحُجَّ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلى قَوْلنَا إنَّ الحَجَّ مِنْ السَّبِيل فَإِنْ حَجَّ ثُمَّ فَضَلتْ فَضْلةٌ فَهَل يُسْتَرَدُّ أَمْ لا؟ الأَظْهَرُ اسْتِرْدَادُهَا كَالوَصِيَّةِ وَأَوْلى لأَنَّ هَذَا المَال يَجِبُ صَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ المُعَيَّنَةِ شَرْعًا وَلا يَجُوزُ الإِخْلال بِذَلكَ بِخِلافِ فَاضِل الوَصِيَّةِ فَإِنَّ الحَقَّ فِيهِ للوَرَثَةِ وَلهُمْ تَرِكَةٌ وَقِيَاسُ قَوْل الأَصْحَابِ فِي الغَازِي أَنَّهُ لا يُسْتَرَدُّ وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ أَنَّ الدَّابَّةَ لا تُسْتَرَدُّ وَلا يَلزَمُ مِثْلهُ فِي النَّفَقَةِ لأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ صُرِفَتْ فِي سَبِيل اللهِ بِخِلافِ فَاضِل النَّفَقَةِ وَيَمْلكُهَا بِخُرُوجِهِ مِنْ بَلدِهِ بِخِلافِ الغَازِي نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ وَعَلل بِأَنَّهُ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ فَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ لهُ حَقٌّ فِي الزَّكَاةِ , وَالغَازِي إنَّمَا أُعْطِيَ للغَزْوِ فَلا يَمْلكُ بِدُونِهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلى أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِسَبَبٍ فَانْتَفَى وَخَلفَهُ سَبَبٌ آخَرُ مُبِيحٌ للأَخْذِ أَنَّ لهُ الإِمْسَاكَ بِالسَّبَبِ الثَّانِي وَفِيهِ خِلافٌ بَيْنَ الأَصْحَابِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَخَذَ الغَازِي نَفَقَةً أَوْ فَرَسًا ليَغْزُوَ عَليْهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا لا لازِمًا وَهُوَ إعَانَةٌ عَلى الجِهَادِ لا اسْتِئْجَارَ عَليْهِ فَإِنْ رَجَعَ وَالفَرَسُ مَعَهُ مَلكَهَا مَا لمْ يَكُنْ وَقْفًا أَوْ عَارِيَّةً نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ وَلا يَمْلكُهَا حَتَّى يَغْزُوَ.
وَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ وَيَكُونُ تَمْليكًا بِشَرْطٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَمْليكٌ مُرَاعاً بِشَرْطِ الغَزْوِ فَإِنْ غَزَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلكَهُ بِالقَبْضِ فَإِنَّ قَاعِدَةَ المَذْهَبِ أَنَّ الهِبَةَ لا تَقْبَل التَّعْليقَ وَكَذَلكَ عُقُودُ المُعَاوَضَاتِ وَإِنْ فَضَل مَعَهُ مِنْ الكِسْوَةِ فَهُوَ كَالفَرَسِ وَإِنْ فَضَل مِنْ النَّفَقَةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: يَمْلكُهَا أَيْضًا نَقَلهَا عَليُّ بْنُ سَعِيدٍ.
وَالثَّانِيَة: يَرُدُّ الفَاضِل فِي الغَزْوِ إلا أَنْ يُؤْذَنَ لهُ فِي الاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى نَقَلهَا حَنْبَلٌ.
وَالفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ صُرِفَتْ فِي سَبِيل اللهِ وَاسْتُعْمِلتْ فِيهِ وَكَذَلكَ الكِسْوَةُ يَحْصُل المَقْصُودُ بِهَا بِخِلافِ مَا فَضَل مِنْ النَّفَقَةِ فَأَمَّا إنْ أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ ثُمَّ فَضَلتْ فَضْلةٌ فَقَال الخِرَقِيِّ وَالأَكْثَرُونَ لا تُسْتَرَدُّ وَحَكَى صَاحِبُ المُحَرَّرِ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الفَرْقَ بَيْنَ مَال الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ , وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ عَلى أَنَّ الدَّابَّةَ تَكُونُ لهُ وَلا يَلزَمُ مِثْلهُ فِي النَّفَقَةِ لمَا قَدَّمْنَا.
القاعدة الثالثة والسبعون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالسَّبْعُونَ:اشْتِرَاطُ نَفْعِ أَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ فِي العَقْدِ عَلى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِئْجَارًا لهُ مُقَابَلاً بِعِوَضٍ فَيَصِحُّ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ كَاشْتِرَاطِ المُشْتَرِي عَلى البَائِعِ خِيَاطَةَ الثَّوْبِ أَوْ قِصَارَتَهُ أَوْ حَمْل الحَطَبِ وَنَحْوَهُ , وَلذَلكَ يَزْدَادُ بِهِ الثَّمَنُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إلزَامًا لهُ لمَا لا يَلزَمُهُ بِالعَقْدِ بِحَيْثُ يَجْعَل لهُ ذَلكَ مِنْ مُقْتَضَى العَقْدِ وَلوَازِمِهِ مُطْلقًا وَلا يُقَابَل بِعِوَضٍ فَلا يَصِحُّ وَلهُ أَمْثِلةٌ:
مِنْهَا: اشْتِرَاطُ مُشْتَرِي الزَّرْعِ القَائِمِ فِي الأَرْضِ حَصَادَهُ عَلى البَائِعِ فَلا يَصِحُّ وَيَفْسُدُ بِهِ العَقْدُ ذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي فَسَادِهِ بِهِ وَجْهَيْنِ لأَنَّ حَصَادَ الزَّرْعِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّسْليمِ الوَاجِبِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الفُقَهَاءِ.
وَمِنْهَا: اشْتِرَاطُ أَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ فِي المُسَاقَاةِ وَالمُزَارَعَةِ عَلى الآخَرِ مَا لمْ يَلزَمْهُ بِمُقْتَضَى العَقْدِ فَلا يَصِحُّ وَفِي فَسَادِ العَقْدِ بِهِ خِلافٌ وَيَتَخَرَّجُ صِحَّةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَيْضًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَكْثَرِ المُتَأَخِّرِينَ وَلذَلكَ اسْتَشْكَلوا مَسْأَلةَ الخِرَقِيِّ فِي حَصَادِ الزَّرْعِ.
وَمِنْهَا: شَرْطُ إيفَاءِ المُسَلمِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ العَقْدِ وَحُكِيَ فِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فَسَادُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَأَوْمَأَ إليْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَقَال ليْسَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ تَسْمِيَةُ المَكَانِ يُشِيرُ بِذَلكَ إلى أَنَّ السَّلمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يُذْكَرَ فِي العَقْدِ أَوْصَافُ المُسَلمِ فِيهِ
قَدْرُهُ وَزَمَانُ مَحَلهِ كَمَا دَل عَليْهِ الحَدِيثُ وَليْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ إيفَائِهِ فَاشْتِرَاطُ ذِكْرِ مَكَانِهِ يُوهِمُ أَنَّ ذَلكَ مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ زَمَانُهُ وَأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِنَفْسِ العَقْدِ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنْ البُيُوعِ التِي لا يُذْكَرُ فِي عُقُودِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلكَ.
القاعدة الرابعة والسبعون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَة وَالسَّبْعُونَ:فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ العِوَضَ عَنْ عَمَلٍ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَل العَمَل وَدَلالةُ حَالهِ تَقْتَضِي المُطَالبَةَ بِالعِوَضِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْمَل عَمَلاً فِيهِ غَنَاءٌ عَنْ المُسْلمِينَ وَقِيَامٌ بِمَصَالحِهِمْ العَامَّةِ أَوْ فِيهِ اسْتِنْقَاذٌ لمَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ الهَلكَةِ.
أَمَّا الأَوَّل فيندرج تَحْتَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كَالمَلاحِ وَالمُكَارِي وَالحَجَّامِ وَالقَصَّارِ وَالخَيَّاطِ وَالدَّلال وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَرْصُدُ نَفْسَهُ للتَّكَسُّبِ بِالعَمَل , فَإِذَا عَمِل اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ المِثْل وَإِنْ لمْ يُسَمَّ لهُ شَيْءٌ نَصَّ عَليْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَدْخُل تَحْتَهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا: مَنْ قَتَل مُشْرِكًا فِي حَال الحَرْبِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ فِي قَتْلهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَلبَهُ بِالشَّرْعِ لا بِالشَّرْطِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: العَامِل عَلى الصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ عَمَلهِ بِالشَّرْعِ.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ: العَامِلينَ عَليْهَا الذِينَ جَعَل اللهُ لهُمْ الثَّمَنَ فِي كِتَابَةِ السُّلطَانِ وَقَال فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ يَكُونُ لهُمْ الذِي يَرَاهُ الإِمَامُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنْ يَجِبَ ذَلكَ لهُ بِالشَّرْعِ إمَّا مُقَدَّرًا أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ وَالوَليُّ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ بِالاسْتِعْفَافِ مَعَ الغِنَى وَأَيْضًا فَأَمْوَال الزَّكَاةِ حَقٌّ لغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِخِلافِ مَال اليَتِيمِ وَأَيْضًا فَمَال الزَّكَاةِ يَسْتَحِقُّهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الغَنِيِّ فَالعَامِل الذِي حَصَل الزَّكَاةَ وَجَبَاهَا أَوْلى وَأَيْضًا فَالعَامِل هُوَ الذِي جَمَعَ المَال وَحَصَّلهُ بِخِلافِ وَليِّ اليَتِيمِ وَذَكَرَ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ أَنَّ قِيَاسَ المَذْهَبِ أَنَّ العَامِل لا يَسْتَحِقُّ إذَا لمْ يُشْتَرَطْ لهُ جُعْلٌ إلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الأُجْرَةِ عَلى عَمَلهِ وَالأَوَّل أَصَحُّ لأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَهُوَ كَجُعْل رَدِّ الإِبَاقِ وَأَوْلى لوُرُودِ القُرْآنِ بِهِ.
وَمِنْهَا: مَنْ رَدَّ آبِقًا عَلى مَوْلاهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلى رَدِّهِ جُعْلاً بِالشَّرْعِ سَوَاءٌ شَرَطَهُ أَوْ لمْ يَشْرُطْهُ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ وَفِيهِ أَحَادِيثُ مُرْسَلةٌ وَآثَارٌ وَالمَعْنَى فِيهِ الحَثُّ عَلى حِفْظِهِ عَلى سَيِّدِهِ وَصِيَانَةِ
العَبْدِ عَمَّا يَخَافُ مِنْ لحَاقِهِ بِدَارِ الحَرْبِ وَالسَّعْيِ فِي الأَرْضِ بِالفَسَادِ وَلهَذَا المَعْنَى اخْتَصَّ الوُجُوبُ بِرَدِّ الآبِقِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الحَيَوَانِ وَالمَتَاعِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِرَدِّ الإِبَاقِ أَوْ لمْ يَكُنْ إلا السُّلطَانُ فَإِنَّهُ لا شَيْءَ لهُ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ لانْتِصَابِهِ للمَصَالحِ وَلهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ المَال عَلى ذَلكَ وَكَذَلكَ لمْ يَكُنْ لهُ الأَكْل مِنْ مَال اليَتِيمِ كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: مَنْ أَنْقَذَ مَال غَيْرِهِ مِنْ التَّلفِ كَمَنْ خَلصَ عَبْدَ غَيْرِهِ مِنْ فَلاة مُهْلكَةٍ أَوْ مَتَاعَهُ مِنْ مَوْضِعٍ يَكُونُ هَلاكُهُ فِيهِ مُحَقَّقًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ بِالبَحْرِ وَفَمِ السُّبُعِ فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى وُجُوبِ الأُجْرَةِ لهُ فِي المَتَاعِ وَذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُغْنِي فِي العَبْدِ أَيْضًا وَحَكَى القَاضِي فِيهِ احْتِمَالاً بِعَدَمِ الوُجُوبِ كَاللقَطَةِ وَأَوْرَدَ فِي المُجَرَّدِ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِيمَنْ خَلصَ مِنْ فَمِ السَّبُعِ شَاةً أَوْ خَرُوفًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَهُوَ لمَالكِهِ الأَوَّل وَلا شَيْءَ للمُخَلصِ وَالصَّحِيحُ الأَوَّل لأَنَّ هَذَا يُخْشَى هَلاكُهُ وَتَلفُهُ عَلى مَالكِهِ بِخِلافِ اللقَطَةِ وَكَذَلكَ لوْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ فَخَلصَ قَوْمٌ الأَمْوَال مِنْ البَحْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لهُمْ الأُجْرَةُ عَلى المُلاكِ على مَا ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي لأَنَّ فِيهِ حَثًّا وَتَرْغِيبًا فِي إنْقَاذِ الأَمْوَال مِنْ التَّهْلكَةِ فَإِنَّ الغَوَّاصَ إذَا عَلمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ غَرَّرَ بِنَفْسِهِ وَبَادَرَ إلى التَّخْليصِ بِخِلافِ مَا إذَا عَلمَ أَنَّهُ لا شَيْءَ لهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى رَدِّ الآبِقِ.
وَفِي مُسَوَّدَةِ شَرْحِ الهِدَايَةِ لأَبِي البَرَكَاتِ: وَعِنْدِي أَنَّ كَلامَ أَحْمَدَ عَلى ظَاهِرِهِ فِي وُجُوبِ الأُجْرَةِ عَلى تَخْليصِ المَتَاعِ مِنْ المَهَالكِ دُونَ الآدَمِيِّ لأَنَّ الآدَمِيَّ أَهْلٌ فِي الجُمْلةِ لحِفْظِ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرًا أَوْ عَاجِزًا وَتَخْليصُهُ أَهَمُّ وَأَوْلى مِنْ المَتَاعِ وَليْسَ فِي كَلامِ أَحْمَدَ تَفْرِقَةٌ فَأَمَّا مَنْ عَمِل فِي مَال غَيْرِهِ عَلى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا فَالمَعْرُوفُ مِنْ المَذْهَبِ أَنَّهُ لا أُجْرَةَ لهُ.
وَنَقَل أَبُو جَعْفَرٍ الجُرْجَانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ عَمِل فِي قَنَاةِ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَال: لهَذَا الذِي عَمِل نَفَقَتُهُ إذَا عَمِل مَا يَكُونُ مَصْلحَةً لصَاحِبِ القَنَاةِ وَهَذِهِ تَتَخَرَّجُ عَلى أَصْليْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الغَاصِبَ يَكُونُ شَرِيكًا بِآثَارِ عَمَلهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُجْبَرَ عَلى أَخْذِ قِيمَةِ آثَارِ عَمَلهِ مِنْ المَالكِ لتَمَلكِهَا عَليْهِ وَخَرَّجَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيكًا بِآثَارِ عَمَلهِ إذَا زَادَتْ بِهِ القِيمَةُ وَذَكَرَ نَصَّ أَحْمَدَ فِي العَمَل فِي القَنَاةِ مِنْ رِوَايَةِ حَرْبٍ وَابْنِ هَانِئٍ وَتَبِعَهُ عَلى ذَلكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ وَحَمَل ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ هَذِهِ النُّصُوصَ عَلى أَنَّ العَامِل هُنَا فِي القَنَاةِ كَانَ شَرِيكًا فِيهَا وَليْسَ فِي المَنْصُوصِ شَيْءٌ يُشْعِرُ بِذَلكَ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ أَقَرَّ النُّصُوصَ عَلى ظَاهِرِهَا وَجَعَل هَذَا الحُكْمَ مُطَّرِدًا فِي كُل مَنْ عَمِل عَمَلاً لغَيْرِهِ فِيهِ مَصْلحَةٌ لهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إليْهِ كَحَصَادِ زَرْعِهِ وَالاسْتِخْرَاجِ مِنْ مَعْدِنِهِ وَنَحْوِ ذَلكَ تَخْرِيجًا مِنْ العَمَل فِي القَنَاةِ وَمِنْهُمْ الحَارِثِيُّ وَكَأَنَّهُمْ جَعَلوهُ بِمَنْزِلةِ تَصَرُّفِ الفُضُوليِّ فَللمَالكِ حِينَئِذٍ أَنْ يُمْضِيَهُ وَيَرُدَّ عِوَضَهُ وَهُوَ أُجْرَةُ المِثْل وَلهُ أَنْ لا يُمْضِيَهُ فَيَكُونُ العَامِل شَرِيكًا بِالعَمَل.
وَقَدْ قَال القَاضِي فِي بَعْضِ تَعَاليقِهِ وَقَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ فِي الأَجِيرِ إذَا عَمِل فِي العَيْنِ المُسْتَأْجَرِ عَليْهَا دُونَ مَا شَرَطَ عَليْهِ أَنَّ المَالكَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ رَدَّ عَمَلهُ وَأَخَذَ الأجرة وَصَارَ الأَجِيرُ شَرِيكًا بِعَمَلهِ وَإِنْ شَاءَ قَبِل العَمَل وَرَجَعَ عَلى الأَجِيرِ بِالأَرْشِ وَذَكَرَ نَصَّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ بِالرُّجُوعِ بِالأَرْشِ ثُمَّ حَمَلهُ عَلى أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِالعَمَل.
وَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ: قِيَاسُ المَذْهَبِ إذَا لمْ يَأْتِ الحَائِكُ بِالثَّوْبِ عَلى الصِّفَةِ المَشْرُوطَةِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الغَزْل وَلا أُجْرَةَ لهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَنْسُوجًا وَعَليْهِ الأُجْرَةُ , وَتَكُونُ الأُجْرَةُ هَهُنَا بِمَا زَادَ عَلى قِيمَةِ الغَزْل.
ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ المَيْمُونِيِّ هَذِهِ وَقَال: هِيَ مَحْمُولةٌ عَلى أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ اخْتَارَ تَقْوِيمَهُ مَعْمُولاً وَالتَزَمَ قِيمَةَ الصَّنْعَةِ التِي هِيَ دُونَ التِي وَافَقَهُ عَليْهَا وَهَذَا الذِي قَالهُ بَعِيدٌ جِدًّا أَنْ يُضَمِّنَ المَالكُ الصَّانِعَ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَعَ بَقَائِهِ وَلا يَصِحُّ حَمْل كَلامِ أَحْمَدَ عَلى مَا قَالهُ لأَنَّ أَحْمَدَ قَال: يُنْظَرُ مَا بَيْنَهُمَا فَيُرْجَعُ بِهِ عَلى الصَّانِعِ , وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالرُّجُوعِ عَليْهِ بِالأَرْشِ خَاصَّةً.
وَأَيْضًا فَلوْ غَصَبَ غَزْلاً وَنَسَجَهُ لمْ يَمْلكْ المَالكُ التِزَامَهُ بِهِ وَيُطَالبُهُ بِالقِيمَةِ فَكَيْفَ يَمْلكُ مُطَالبَةَ الأَجِيرِ بِذَلكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ أَنَّ المَالكَ يَمْلكُ اسْتِرْجَاعَ الأُجْرَةِ المُسَمَّاةِ وَدَفْعَ أُجْرَةِ المِثْل ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالاً بِالرُّجُوعِ بِالأَرْشِ كَمَا هُوَ المَنْصُوصُ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَمَتَى كَانَ العَمَل فِي مَال الغَيْرِ إنْقَاذًا لهُ مِنْ التَّلفِ المُشْرِفِ عَليْهِ كَانَ جَائِزًا كَذَبْحِ الحَيَوَانِ المَأْكُول إذَا خِيفَ مَوْتُهُ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ المُغْنِي وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّهُ لا يَضْمَنُ مَا نَقَضَ بِذَبْحِهِ.
القاعدة الخامسة والسبعون
القَاعِدَةُ الخَامِسَة وَالسَّبْعُونَ:فِيمَنْ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلى مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ أَدَّى وَاجِبًا عَنْ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ أَنْفَقَ عَلى مَا تَعَلقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ مَال غَيْرِهِ.
فَأَمَّا النَّوْعُ الأَوَّل فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا: إذَا قَضَى عَنْهُ دَيْنًا وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَليْهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ المَذْهَبُ عِنْدَ الخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَالقَاضِي وَالأَكْثَرِينَ , وَاشْتَرَطَ القَاضِي أَنْ يَنْوِيَ الرُّجُوعَ وَيُشْهِدَ عَلى نِيَّتِهِ عِنْدَ الأَدَاءِ فَلوْ نَوَى التَّبَرُّعَ أَوْ أَطْلقَ النِّيَّةَ فَلا رُجُوعَ لهُ وَاشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ المَدِينُ مُمْتَنِعًا مِنْ الأَدَاءِ , وَهُوَ يَرْجِعُ إلى أَنْ لا رُجُوعَ إلا عِنْدَ تَعَذُّرِ إذْنِهِ وَخَالفَ فِي ذَلكَ صَاحِبَا المُغْنِي وَالمُحَرَّرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الخِلافِ للقَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَالأَكْثَرِينَ وَهَذَا فِي دُيُونِ الآدَمِيِّينَ.
فَأَمَّا دُيُونُ اللهِ عَزَّ وَجَل كَالزَّكَاةِ وَالكَفَّارَةِ فَلا يَرْجِعُ بِهَا مَنْ أَدَّاهَا عَمَّنْ هِيَ عَليْهِ , وَعَلل القَاضِي ذَلكَ بِأَنَّ أَدَاءَهَا بِدُونِ إذْنِ مَنْ هِيَ عَليْهِ لا يَصِحُّ لتَوَقُّفِهَا عَلى نِيَّتِهِ وَيَلزَمُ عَلى هَذَا لوْ حَجَّ رَجُلٌ عَنْ مَيِّتٍ بِدُونِ إذْنِ وَليِّهِ وَقُلنَا يَصِحُّ أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ فِي نَذْرٍ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةٍ وَقُلنَا يَصِحُّ أَنَّ لهُ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ لسُقُوطِ اعْتِبَارِ الإِذْنِ هُنَا وَيَكُونُ كَأَدَاءِ أَحَدِ الخَليطَيْنِ الزَّكَاةَ مِنْ مَالهِ عَنْ الجَمِيعِ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى أَسِيرًا مُسْلمًا حُرًّا مِنْ أَهْل دَارِ الحَرْبِ ثُمَّ أَطْلقَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ إلى دَارِ الإِسْلامِ فَلهُ الرُّجُوعُ إليْهِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ سَوَاءٌ أَذِنَ لهُ أَوْ لمْ يَأْذَنْ لأَنَّ الأَسِيرَ يَجِبُ عَليْهِ افْتِدَاءُ نَفْسِهِ ليَتَخَلصَ مِنْ الأَسْرِ فَإِذَا فَدَاهُ غَيْرُهُ فَقَدْ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا رَجَعَ بِهِ عَليْهِ وَأَكْثَرُ الأَصْحَابِ لمْ يَحْكُوا فِي الرُّجُوعِ هَهُنَا خِلافًا وَحَكَى القَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى يَتَوَقَّفُ: الرُّجُوعُ عَلى الإِذْنِ. وَهَل يُعْتَبَرُ للرُّجُوعِ هَهُنَا نِيَّةٌ أَمْ يَكْفِي إطْلاقُ النِّيَّةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الرُّجُوعِ لقَضَاءِ الدُّيُونِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ مَا لمْ يَنْوِ التَّبَرُّعَ وَبِهِ جَزَمَ فِي المُحَرَّرِ للأَثَرِ المَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَلأَنَّ انْفِكَاكَ الأَسْرَى مَطْلوبٌ شَرْعًا فَيُرَغَّبُ فِيهِ بِتَوْسِعَةِ طَرَفِ الرُّجُوعِ لئَلا تَقِل الرَّغْبَةُ فِيهِ.
وَمِنْهَا: نَفَقَةُ الرَّقِيقِ وَالزَّوْجَاتِ وَالأَقَارِبِ وَالبَهَائِمِ إذَا امْتَنَعَ مَنْ يَجِبُ عَليْهِ النَّفَقَةُ فَأَنْفَقَ عَليْهَا غَيْرُهُ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ فَلهُ الرُّجُوعُ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ.
وَمِنْهَا: لوْ أَنْفَقَ عَلى عَبْدِهِ الآبِقِ فِي حَال رَدِّهِ إليْهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ نَصَّ عَليْهِ وَجَزَمَ بِهِ الأَكْثَرُونَ مِنْ غَيْرِ خِلافٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جُعْلاً عَلى الرَّدِّ عِوَضًا عَنْ بَذْلهِ مَنَافِعَهُ فَلأَنْ يَجِبَ لهُ العِوَضُ عَمَّا بَذَلهُ مِنْ المَال فِي رَدِّهِ أَوْلى , وَاشْتَرَطَ أَبُو الخَطَّابِ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ العَجْزَ عَنْ اسْتِئْذَانِ المَالكِ وَضَعَّفَهُ صَاحِبُ المُغْنِي وَلا يَتَوَقَّفُ الرُّجُوعُ عَلى تَسْليمِهِ فَلوْ أَبِقَ مِنْهُ قَبْل ذَلكَ فَلهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَنْفَقَ عَليْهِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ وَصَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ وَكَذَلكَ حُكْمُ المُنْقَطِعِ بِمَهْلكَةٍ وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الرُّجُوعِ بِنَفَقَتِهِ رِوَايَتَيْنِ , وَلوْ أَرَادَ اسْتِخْدَامَهُ بَدَل النَّفَقَةِ فَفِي جَوَازِهِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الفَتْحِ الحَلوَانِيُّ فِي الكِفَايَةِ كَالعَبْدِ المَرْهُونِ.
وَمِنْهَا: نَفَقَةُ اللقَطَةِ حَيَوَانًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلى مُؤْنَةٍ وَإِصْلاحٍ فَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ حَاكِمٍ رَجَعَ بِهَا لأَنَّ إذْنَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إذْنِ الغَائِبِ وَإِنْ لمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ هَاهُنَا عَدَمَ الرُّجُوعِ لأَنَّ حِفْظَهَا لمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا بَل كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّ المُلتَقِطَ إذَا أَنْفَقَ غَيْرَ مُطَوَّعٍ بِالنَّفَقَةِ فَلهُ الرُّجُوعُ بِهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَسَبًا ففِي الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ.
وَمِنْهَا: نَفَقَةُ اللقِيطِ خَرَّجَهَا بَعْضُ الأَصْحَابِ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَال يَرْجِعُ هَهُنَا قَوْلاً وَاحِدًا وَإِليْهِ مَيْل صَاحِبِ المُغْنِي لأَنَّ لهُ وِلايَةً عَلى المُلتَقِطِ وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلى بَيْتِ المَال.
وَمِنْهَا: الحَيَوَانُ المُودَعُ إذَا أَنْفَقَ عَليْهِ المُسْتَوْدَعُ نَاوِيًا للرُّجُوعِ فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ مَالكِهِ رَجَعَ وَإِنْ لمْ يَتَعَذَّرْ فَطَرِيقَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَوْلى لأَنَّ للحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلى قضاء الدُّيُونِ أَحْيَانًا وَهِيَ طَرِيقَةُ صَاحِبِ المُغْنِي.
وَالثَّانِيَةُ: لا يَرْجِعُ قَوْلاً وَاحِدًا وَهِيَ طَرِيقَةُ المُحَرَّرِ وَمُتَابَعَةٌ لأَبِي الخَطَّابِ لكِنْ مَنْ اعْتَبَرَ الرُّجُوعَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ بِعُذْرِ الإِذْنِ فَهَهُنَا أَوْلى وَأَمَّا مَنْ لمْ يَعْتَبِرْ ذَلكَ فِي الدَّيْنِ وَاعْتَبَرَهُ هَهُنَا فَالفَرْقُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ فِيهِ بَرَاءٌ لذِمَّتِهِ وَتَخْليصٌ لهُ مِنْ الغَرِيمِ وَهَهُنَا اشْتِغَالٌ لذِمَّتِهِ بِدَيْنٍ لمْ تَكُنْ مُشْتَغِلةً بِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيُنْتَقَضُ بِنَفَقَةِ الأَقَارِبِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ المُطَالبَةَ هُنَا مُتَوَجِّهَةٌ مِنْ الحَاكِمِ بِإِلزَامِهِ فَقَدْ خَلصَهُ مِنْ ذَلكَ وَعَجَّل بَرَاءَتَهُ مِنْهُ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لمْ تَبْرَأْ بِهِ ذِمَّتُهُ بِالكُليَّةِ بَل هِيَ مَشْغُولةٌ بِدَيْنِ المُؤَدِّي عَنْهُ أَيْضًا فَإِنَّ الإِذْنَ فِي الإِنْفَاقِ عَلى الحَيَوَانِ المُؤْتَمَنِ عَليْهِ عُرْفِيٌّ فَيُنَزَّل مَنْزِلةَ اللفْظِيِّ.
وَمِنْهَا: نَفَقَةُ طَائِرٍ غَيْرِهِ إذَا عَشَّشَ فِي دَارِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ فِي طَيْرَةٍ أَفْرَخَتْ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ الجِيرَانِ فَالفِرَاخُ تَتْبَعُ الأُمَّ يَرُدُّونَ عَلى أَصْحَابِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلفَ الفِرَاخَ مُدَّةَ مَقَامِهَا فِي يَدِهِ مُتَطَوِّعًا لمْ يَرْجِعْ وَإِنْ لمْ يَتَطَوَّعْ يَحْتَسِبُ بِالنَّفَقَةِ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهَا مَا أَنْفَقَ وَلمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ إمْكَانِ الاسْتِئْذَانِ وَعَدَمِهِ , وَخَرَّجَ القَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى بِعَدَمِ الرُّجُوعِ بِكُل حَالٍ مِنْ نَظِيرَتِهَا فِي المُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي هُوَ مَا يَرْجِعُ فِيهِ بِالإِنْفَاقِ عَلى مَال غَيْرِهِ لتَعَلقِ حَقِّهِ بِهِ فَلهُ صُوَرٌ.
مِنْهَا: إنْفَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلى المَال المُشْتَرَكِ مَعَ غَيْبَةِ الآخَرِ أَوْ امْتِنَاعِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي القَاسِمِ فِي رَجُليْنِ بَيْنَهُمَا أَرَاضٍ أَوْ دَار أَوْ عَبْد يَحْتَاجُ إلى أَنْ يُنْفِقَ عَلى ذَلكَ فَيَأْبَى الآخَرُ.
قَال: يُنْظَرُ فِي ذَلكَ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِشَرِيكِهِ وَيَمْتَنِعُ مِمَّا يَجِبُ عَليْهِ أُلزِمَ ذَلكَ وَحُكِمَ بِهِ عَليْهِ وَلا يَضُرُّ بِهَذَا يُنْفِقُ وَيَحْكُمُ بِهِ عَليْهِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلى هَذِهِ المَسْأَلةِ فُرُوعٌ مِنْ جُمْلتِهَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ أَوْ سَقْفٌ فَانْهَدَمَ وَطَلبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ الآخَرُ مَعَهُ فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلى ذَلكَ , وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى لا يُجْبَرُ فِيهِ فَيَنْفَرِدُ الطَّالبُ بِالبِنَاءِ وَيَمْنَعُ الشَّرِيكَ مِنْ الانْتِفَاعِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَخُصُّ حِصَّتَهُ مِنْ النَّفَقَةِ نَصَّ عَليْهِ ; لأَنَّ مَنْ جَازَ لهُ البِنَاءُ فِي مِلكِ غَيْرِهِ لمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا كَالوَصِيِّ وَالحَاكِمِ فِي مِلكِ اليَتِيمِ.
وَمِنْ صُوَرِ النَّوْعِ: إذَا جَنَى العَبْدُ المَرْهُونُ فَفَدَاهُ المُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ , قَال أَكْثَرُ الأَصْحَابِ كَالقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ إنْ لمْ يَتَعَذَّرْ اسْتِئْذَانُهُ فَلا رُجُوعَ وَإِنْ تَعَذَّرَ خُرِّجَ عَلى
الخِلافِ فِي نَفَقَةِ الحَيَوَانِ المَرْهُونِ لأَنَّ الفِدَاءَ هُنَا لمَصْلحَةِ الرَّهْنِ وَاسْتِبْقَائِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلى الرَّاهِنِ لحَقِّ المُرْتَهِنِ.
وَقَال صَاحِبُ المُحَرَّرِ: لا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَأَطْلقَ لأَنَّ المَالكَ لمْ يَجِبْ عَليْهِ الافْتِدَاءُ هَهُنَا , وَكَذَلكَ لوْ سَلمَهُ لمْ يَلزَمْهُ قِيمَتُهُ لتَكُونَ رَهْنًا وَقَدْ وَافَقَ الأَصْحَابُ عَلى ذَلكَ وَإِنَّمَا خَالفَ فِيهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى.
وَمِنْهَا مُؤْنَةُ الرَّهْنِ مِنْ كِرَى مَخْزَنِهِ وَإِصْلاحِهِ وَتَشْمِيسِهِ وَنَحْوِ ذَلكَ لا يَلزَمُ الرَّاهِنَ إذَا قَامَ بِهَا المُرْتَهِنُ بِدُونِ إذْنِهِ مَعَ تَعَذُّرِهِ فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى نَفَقَةِ الحَيَوَانِ المَرْهُونِ عَلى مَا سَيَأْتِي صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ لأَنَّ ذَلكَ مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ لحِفْظِ مَاليَّةِ الرَّهْنِ فَصَارَ وَاجِبًا عَلى الرَّهْنِ لعَلاقَةِ حَقِّ المُرْتَهِنِ.
وَمِنْهَا: لوْ خَرِبَتْ الدَّارُ المَرْهُونَةُ فَعَمَّرَهَا المُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَقَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَصَاحِبُ المُغْنِي وَالمُحَرَّرِ: لا يَرْجِعُ إلا بِأَعْيَانِ آلتِهِ لأَنَّ بِنَاءَ الدَّارِ لا يَجِبُ عَلى المَالكِ , وَالمَجْزُومُ بِهِ فِي الخِلافِ الكَبِيرِ للقَاضِي أَنَّهُ يَرْجِعُ لأَنَّهُ مِنْ مَصْلحَةِ الرَّهْنِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ يَحْتَمِل عِنْدِي أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا ينحفظ بِهِ أَصْل مَاليَّةِ الدَّارِ لحِفْظِ وَثِيقَتِهِ لأَنَّهَا نَفَقَةٌ لحِفْظِ مَاليَّةِ وَثِيقَةٍ وَذَلكَ غَرَضٌ صَحِيحُ انْتَهَى.
وَلوْ قِيل: إنْ كَانَتْ الدَّارُ بَعْدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا تُحْرِزُ قِيمَةَ الدَّيْنِ المَرْهُونِ بِهِ لمْ يَرْجِعْ لأَنَّهُ لا حَاجَةَ لهُ إلى عِمَارَتِهَا حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ حَقِّهِ أَوْ وَفْقَ حَقِّهِ وَيُخْشَى مِنْ تَدَاعِيهَا للخَرَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَنْقُصَ عَنْ مِقْدَارِ الحَقِّ فَلهُ أَنْ يَعْمُرَ وَيَرْجِعَ لمَكَانِ مَسْحِهَا.
وَمِنْهَا عِمَارَةُ المُسْتَأْجِرِ فِي الدَّارِ المُسْتَأْجَرَةِ وَلا يَرْجِعُ بِهَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي غَلقِ الدَّارِ إذَا عَمِلهُ السَّاكِنُ وَيَحْتَمِل الرُّجُوعَ بِنَاءً عَلى مِثْلهِ فِي الرَّهْنِ , وَلكِنْ حَكَى صَاحِبُ التَّلخِيصِ أَنَّ المُؤَجِّرَ يُجْبَرُ عَلى التَّرْمِيمِ بِإِصْلاحِ مُنْكَسِرٍ وَإِقَامَةِ مَائِلٍ فَأَمَّا تَجْدِيدُ البِنَاءِ وَالأَخْشَابِ فَلا يَلزَمُهُ لأَنَّهُ إجْبَارٌ عَلى تَسْليمِ عَيْنٍ لمْ يَتَنَاوَلهَا العَقْدُ وَللمُسْتَأْجِرِ الخِيَارُ , قَال وَيَحْتَمِل أَنْ يَلزَمَهُ التَّجْدِيدُ انْتَهَى.
فَعَلى القَوْل الأَوَّل لا يُمْكِنُ القَوْل بِرُجُوعِ المُسْتَأْجِرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلى التَّجْدِيدِ وَعَلى الثَّانِي يَتَوَجَّهُ الرُّجُوعُ.
فَصْلٌ: وَقَدْ يَجْتَمِعُ النَّوْعَانِ فِي صُوَرٍ فَيُؤَدِّي عَنْ مِلكِ غَيْرِهِ وَاجِبًا يَتَعَلقُ بِهِ حَقُّهُ وَفِي ذَلكَ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ هَهُنَا رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي خِلافِهِ فَمِنْ ذَلكَ أَنْ يُنْفِقَ المُرْتَهِنُ عَلى الرَّهْنِ بِإِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ حَيَوَانًا فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ كَذَلكَ وَقَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَالرِّوَايَتَيْنِ وَأَبُو الخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَكْثَرُونَ وَالمَذْهَبُ عِنْدَ الأَصْحَابِ
الرُّجُوعُ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الحَارِثِ , وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ ابْنُ القَاسِمِ وَأَبِي هَانِئٍ أَنَّهُ يَرْكَبُ وَيَحْلبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ.
وَلمْ يَعْتَبِرْ إذْنًا كَمَا دَل عَليْهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ وَأَيْضًا فَالإِذْنُ فِي الإِنْفَاقِ هَهُنَا عُرْفِيٌّ فَيَقُومُ مَقَامَ اللفْظِيِّ وَبِالمُرْتَهِنِ إليْهِ حَاجَةٌ لحِفْظِ وَثِيقَتةِ فَصَارَ كَبِنَاءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الحَائِطَ المُشْتَرَكَ.
وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ فِيمَنْ ارْتَهَنَ دَابَّةً فَعَلفَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا فَالعَلفُ عَلى المُرْتَهِنِ , مَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْلفَ؟ وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ مُهَنَّا فِي كَفَنِ العَبْدِ المَرْهُونِ لكِنَّ الكَفَنَ مِنْ النَّوْعِ الأَوَّل , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرُ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَحَمَل القَاضِي فِي كِتَابِ الخِلافِ هَذَا النَّصِّ عَلى أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ حَاضِرًا وَأَمْكَنَ اسْتِئْذَانُهُ وَعَلفَ بِدُونِ إذْنٍ وَقَدْ صَرَّحَ القَاضِي بِأَنَّ الرُّجُوعَ مَشْرُوطٌ بِتَعَذُّرِ الاسْتِئْذَانِ وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي لزُومِ نَفَقَةِ الأَقَارِبِ أَنْ يُسْتَدَانَ عَليْهِ بِإِذْنِ الحَاكِمِ مَعَ قَوْلهِ إنَّهَا لا تَلزَمُ بِفَرْضِ الحَاكِمِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَفِي التَّرْغِيبِ ليْسَ لغَيْرِ الأَبِ الاسْتِقْرَاضُ إلا بِإِذْنِ الحَاكِمِ حَتَّى وَلا للزَّوْجَةِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ وَلدِهَا الصَّغِيرِ , وَإِنَّمَا للزَّوْجَةِ الأَخْذُ مِنْ مَال زَوْجِهَا المُوسِرِ عِنْدَ الامْتِنَاعِ إذَا قَدَرَتْ عَلى قَدْرِ كِفَايَتِهَا وَحَكَى فِي أَخْذِهَا لوَلدِهَا وَجْهَيْنِ قَال وَليْسَ لهَا الإِنْفَاقُ عَلى الطِّفْل مِنْ مَالهِ لوْ كَانَ لهُ مَالٌ بِدُونِ إذْنِ وَليِّهِ لانْتِفَاءِ وِلايَتِهَا عَليْهِ , وَهَذَا كُلهُ مُخَالفٌ لظَاهِرِ كَلامِ أَحْمَدَ المُتَقَدِّمِ وَلقَوَاعِدِ المَذْهَبِ فَإِنَّ المَذْهَبَ أَنَّهَا تَأْخُذُ لنَفْسِهَا وَلوَلدِهَا وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّهَا تَقْبِضُ الزَّكَاةَ لوَلدِهَا الطِّفْل وَقَدْ سَبَقَ قَوْل القَاضِي وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ عَلى أَقَارِبِ غَيْرِهِ الذِينَ يَلزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلكَ عَليْهِ كَمَا يَرْجِعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ الوَاجِبِ عَليْهِ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا اسْتَدَانَتْ عَلى زَوْجِهَا نَفَقَةَ المِثْل مَعَ غَيْبَتِهِ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ عَليْهِ وَلمْ يَعْتَبِرْ إذْنَ حَاكِمٍ مَعَ أَنَّهُ لمْ يَحْكِ خِلافًا فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِنَاءً عَلى أَنَّهَا لا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بِدُونِ فَرْضِ الحَاكِمِ لهَا وَكَذَلكَ أَبُو الخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ مَعَ أَنَّهُ وَافَقَ طَرِيقَةَ الخِلافِ فِي الرُّجُوعِ قَوْلاً وَاحِدًا بِخِلافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الضَّمَانِ.
وَمِنْهَا: إذَا هَرَبَ الجَمَّال وَتَرَكَ الجِمَال فَأَنْفَقَ عَليْهَا المُسْتَأْجِرُ بِدُونِ إذْنِ حَاكِمٍ فَفِي الرُّجُوعِ الرِّوَايَتَانِ وَمُقْتَضَى طَرِيقَةِ القَاضِي أَنَّهُ يَرْجِعُ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
ثُمَّ إنَّ الأَكْثَرِينَ اعْتَبِرُوا هُنَا اسْتِئْذَانَ الحَاكِمِ بِخِلافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الرَّهْنِ وَاعْتَبَرُوهُ أَيْضًا فِي المُودَعِ وَاللقَطَةِ وَفِي المُغْنِي إشَارَةٌ إلى التَّسْوِيَةِ مِنْ الكُل فِي عَدَمِ الاعْتِبَارِ وَأَنَّ الإِنْفَاقَ بِدُونِ إذْنِهِ يُخَرَّجُ عَلى الخِلافِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ , وَكَذَلكَ اعْتَبَرُوا الإِشْهَادَ عَلى نِيَّةِ الرُّجُوعِ وَفِي المُغْنِي وَغَيْرِهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يُعْتَبَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَمِنْهَا: إذَا هَرَبَ المُسَاقِي قَبْل تَمَامِ العَمَل اُسْتُؤْجِرَ عَليْهِ مَنْ يُتِمُّهُ وَالحُكْمُ فِيهِ كَالجَمَّال إلا أَنَّ للمَالكِ الفَسْخَ وَلوْ قُلنَا بِلزُومِ المُسَاقَاةِ لتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ المَعْقُودِ عَليْهِ.
وَمِنْهَا: إذَا غَابَ الزَّوْجُ فَاسْتَدَانَتْ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ عَلى نَفْسِهَا وَأَوْلادِهَا الصِّغَارِ نَفَقَةَ المِثْل مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ بِذَلكَ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ وَلمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الحَاكِمِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَعَارَهُ شَيْئًا ليَرْهَنَهُ ثُمَّ افْتَكَّهُ المُعِيرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ هُنَا قَوْلاً وَاحِدًا عَلى ظَاهِرِ كَلامِ القَاضِي.
وَمِنْهَا: لوْ قَضَى أَحَدُ الوَرَثَةِ الدَّيْنَ عَنْ المَيِّتِ ليَزُول تَعَلقُهُ بِالتَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ أَيْضًا وَلمْ يَذْكُرْ القَاضِي فِيهِ خِلافًا وَهَذِهِ المَسْأَلةُ وَاَلتِي قَبْلهَا قَدْ لا يَطَّرِدُ فِيهِمَا الخِلافُ لأَنَّ الإِنْفَاقَ هَهُنَا لاسْتِصْلاحِ مِلكِ المُنْفِقِ فَهُوَ كَإِنْفَاقِ الشَّرِيكِ عَلى عِمَارَةِ الحَائِطِ يَرْجِعُ بِهِ بِغَيْرِ خِلافٍ وَإِنَّمَا الخِلافُ إذَا كَانَ الإِنْفَاقُ لاسْتِصْلاحِ مَا تَعَلقَ بِهِ حَقُّ المُنْفِقِ إلا أَنَّ الأَصْحَابَ صَرَّحُوا بِاطِّرَادِ الخِلافِ فِي صُورَةِ المُسَاقَاةِ مَعَ تَعَلقِ الاسْتِصْلاحِ فِيهَا بِعَيْنِ مَال المُنْفِقِ.
القاعدة السادسة والسبعون
القَاعِدَةُ السَّادِسَة وَالسَّبْعُونَ:الشَّرِيكَانِ فِي عَيْنِ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ إذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلى رَفْعِ مَضَرَّةٍ أَوْ إبْقَاءِ مَنْفَعَةٍ أُجْبِرَ أَحَدُهُمَا عَلى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ المَذْهَبِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إنْ أَمْكَنَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَقِل بِدَفْعِ الضَّرَرِ فَعَلهُ وَلمْ يُجْبِرْ الآخَرُ مَعَهُ لكِنْ إنْ أَرَادَ الآخَرُ الانْتِفَاعَ بِمَا فَعَلهُ شَرِيكُهُ فَلهُ مَنْعُهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ حِصَّةَ مِلكِهِ مِنْ النَّفَقَةِ فَإِنْ احْتَاجَا إلى تَجْدِيدِ مَنْفَعَةٍ فَلا إجْبَارَ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: إذَا انْهَدَمَ الحَائِطُ المُشْتَرَكُ فَالمَذْهَبُ إجْبَارُ المُمْتَنِعُ مِنْهُمَا بِالبِنَاءِ مَعَ الآخَرِ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةٍ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ الإِجْبَارَ هُنَا مِنْ جِنْسِ المُعَاوَضَةِ فِي الأَمْوَال المُشْتَرَكَةِ وَاجِبَةٌ لدَفْعِ الضَّرَرِ بِالانْتِزَاعِ بِالشُّفْعَةِ وَبَيْعِ مَا لا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ والمعنى فِيهِ أَنَّ المَالكَ مُسْتَحِقٌّ الانْتِفَاعَ بِمِلكِهِ وَيَجِبُ عَلى شَرِيكِهِ تَمْكِينُهُ مِنْهُ فَإِذَا دَار الأَمْرُ بَيْنَ تَعْطِيل الحَقِّ بِالكُليَّةِ وَبَيْنَ المُعَاوَضَةِ عَليْهِ فَالمُعَاوَضَةُ عَليْهِ أَوْلى لأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهَا إلى الانْتِفَاعِ بِالبَدَل بِخِلافِ التَّعْطِيل.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّابِتَةُ بِعَدَمِ الإِجْبَارِ فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ عَلى عَدَمِ الإِجْبَارِ فِي بِنَاءِ حِيطَانِ السُّفْل إذَا كَانَ العُلوُّ لآخَرَ وَانْهَدَمَ الكُل أَنَّهُ لا يُجْبَرُ صَاحِبُ العُلوِّ عَلى البِنَاءِ مَعَ صَاحِبِ السُّفْل فِي السُّفْل وَالفَرْقُ وَاضِحٌ لأَنَّ السُّفْل مِلكُهُ مُخْتَصٌّ بِصَاحِبِهِ بِخِلافِ الحَائِطِ المُشْتَرَكِ وَلذَلكَ عَقَدَ
الخَلال لكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا وَذَكَرَ النَّصَّ بِالإِجْبَارِ فِي الحَائِطِ وَالنَّصَّ بِانْتِفَائِهِ بِالصُّورَةِ الأُخْرَى وَعَلى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الحَائِطِ فَللشَّرِيكِ الاسْتِبْدَادُ بِبِنَائِهِ مِنْ مَالهِ بِغَيْرِ إذْنِ حَاكِمٍ وَصَرَّحَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَاعْتَبَرَ فِي المُجَرَّدِ اسْتِئْذَانَ الحَاكِمِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّهُ يُشْهِدُ عَلى ذَلكَ , وَلهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ الآخَرُ مِنْ الانْتِفَاعِ بِمَا كَانَ لهُ عَليْهِ مِنْ الحُقُوقِ إنْ أَعَادَهُ بِآلةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ مَالهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بِآلتِهِ الأُولى فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: ليْسَ لهُ المَنْعُ لأَنَّهُ عَيْنُ مِلكِهِمَا المُشْتَرَكِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِي: لهُ المَنْعُ حَتَّى يَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَةِ التَّالفِ لأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ حَيْثُ وَقَعَ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ المُحَرَّرِ وحكاه صَاحِبُ التَّلخِيصِ عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الأَصْحَابِ.
وَإِذَا أَعَادَهُ بِآلةٍ جَدِيدَةٍ وَاتَّفَقَا عَلى دَفْعِ القِيمَةِ جَازَ , لكِنْ هَل المَدْفُوعُ نِصْفُ قِيمَةِ البِنَاءِ أَوْ نِصْفُ مَا أُنْفِقَ عَليْهِ؟ ذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ مَأْخَذُهُمَا هَل ذَلكَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ عَلى مِلكِهِ بِإِذْنٍ مُعْتَبَرٍ أَوْ هُوَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ مِلكِ الثَّانِي كَضَمَانِ سِرَايَةِ العِتْقِ وَالاسْتِيلادِ , وَإِنْ امْتَنَعَ الثَّانِي مِنْ القَوْل وَطَلبَ رَفْعَ البِنَاءِ مِنْ أَصْلهِ ليُعِيدَاهُ مِنْ مَالهِمَا فَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَلى هَذَا البِنَاءِ فَإِنْ قُلنَا هُوَ رُجُوعٌ بِمَا أَنْفَقَ عَلى مِلكِهِ لمْ يَكُنْ لهُ الامْتِنَاعُ وَإِنْ قُلنَا هُوَ مُعَاوَضَةٌ فَلهُ ذَلكَ وَفِي المُجَرَّدِ وَالفُصُول البِنَاءُ عَلى الإِجْبَارِ ابْتِدَاءً وَعَدَمُهُ فَإِنْ قُلنَا يُجْبَرُ أُجْبِرَ هُنَا عَلى التَّبْقِيَةِ وَإِلا فَلا.
وَقَدْ يُقَال هُوَ مُعَاوَضَةٌ سَوَاءٌ كَانَ بِالقِيمَةِ أَوْ بِالنَّفَقَةِ كَمَا أَنَّ زَرْعَ الغَاصِبِ يُعَاوَضُ عَنْهُ بِالقِيمَةِ عَلى رِوَايَةٍ وَبِالنَّفَقَةِ عَلى أُخْرَى وَالإِجْبَارُ عَلى المُعَاوَضَاتِ لإِزَالةِ الضَّرَرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ.
فَإِنْ قِيل فَعِنْدَكُمْ لا يَجُوزُ للجَارِ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ الانْتِفَاعِ بِوَضْعِ خَشَبَةٍ عَلى جِدَارِهِ فَكَيْفَ مَنَعْتُمْ هَهُنَا؟
قُلنَا إنَّمَا مَنَعْنَاهَا هُنَا مِنْ عَوْدِ الحَقِّ القَدِيمِ المُتَضَمِّنِ مِلكَ الانْتِفَاعِ قَهْرًا سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إليْهِ أَوْ لمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا التَّمْكِينُ مِنْ الوَضْعِ للارْتِفَاقِ فَتِلكَ مَسْأَلةٌ أُخْرَى وَأَكْثَرُ الأَصْحَابِ يَشْتَرِطُونَ فِيهَا الحَاجَةَ وَالتَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي المُفْرَدَاتِ تَخْرِيجَ رِوَايَةٍ مِنْ هَذِهِ المَسْأَلةِ مَنَعَ الجَارَ مِنْ وَضْعِ الخَشَبِ مُطْلقًا ثُمَّ اعْتَذَرَ بِأَنَّ حَقَّ الوَضْعِ هُنَا سَقَطَ عُقُوبَةً لامْتِنَاعِهِ مِنْ النَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ وَحَمَل حَدِيثَ الزُّبَيْرِ وَشَرِيكِهِ فِي شِرَاجِ الحُرَّةِ عَلى مِثْل ذَلكَ.
وَمِنْهَا: إذَا انْهَدَمَ السَّقْفُ الذِي بَيْنَ سُفْل أَحَدِهِمَا وَعُلوِّ الآخَرِ فَذَكَرَ الأَصْحَابُ فِي الإِجْبَارِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالمَنْصُوصُ هَهُنَا أَنَّهُ إنْ انْكَسَرَ خَشَبُهُ فِيهِ فَبِنَاؤُهُمَا بَيْنَهُمَا لأَنَّ المَنْفَعَةَ لهُمَا جَمِيعًا وَظَاهِرُهُ الإِجْبَارُ وَإِنْ انْهَدَمَ السَّقْفُ وَالحِيطَانُ لمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ العُلوِّ عَلى بِنَاءِ الحِيطَانِ لأَنَّهَا خَاصٌّ مِلكُ صَاحِبِ السُّفْل وَلكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلى أَنْ يَبْنِيَ مَعَهُ السَّقْفَ فَإِنْ لمْ يَفْعَل أَشْهَدَ عَليْهِ وَمَنَعَهُ مِنْ الانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ حَقَّهُ وَيُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْل عَلى بِنَائِهِ لأَنَّهُ سُتْرَةٌ لهُ نَقَل ذَلكَ عَنْهُ أَبُو طَالبٍ.
وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ الحَكَمِ أَنَّ صَاحِبَ السُّفْل لا يُجْبَرُ عَلى بِنَاءٍ لأَجْل صَاحِبِ العُلوِّ لكِنَّ صَاحِبَ العُلوِّ لهُ أَنْ يَبْنِيَ الحِيطَانَ ويسقف عَليْهَا وَيَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْل مِنْ الانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا بَنَى بِهِ السُّفْل وَيَكُونُ لهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا يَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا بَنَى بِهِ الحِيطَانَ فَيَصِيرُ البَيْتُ كَمَا كَانَ لأَحَدِهِمَا سُفْلهُ وَللآخَرِ عُلوُّهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِهِ , وَيُحْتَمَل أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ قِيمَةِ بِنَاءِ السُّفْل وَتَكُونَ الحِيطَانُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا.
وَلذَلكَ حَكَى الأَصْحَابُ رِوَايَتَيْنِ فِي مُشَارَكَةِ صَاحِبِ العُلوِّ لصَاحِبِ السُّفْل فِي بِنَاءِ الحِيطَانِ حَتَّى أَخَذَ القَاضِي مِنْهُمَا رِوَايَةً بِعَدَمِ الإِجْبَارِ فِي الحَائِطِ المُشْتَرَكِ وَهُوَ بَعِيدٌ لأَنَّ هَذَا المَعْنَى لوْ كَانَ صَحِيحًا لكَانَ الاشْتِرَاكُ حَادِثًا بَعْدَ البِنَاءِ , فَلا يَلحَقُ بِهِ المِلكُ المُشْتَرَكِ قَبْل البِنَاءِ وَحَكَى القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي إجْبَارِ صَاحِبِ السُّفْل عَلى بِنَاءِ حَائِطِهِ لحَقِّ صَاحِبِ العُلوِّ ثَلاثَ رِوَايَاتٍ:
أَحَدُهَا: إجْبَارُهُ مُنْفَرِدًا بِنَفَقَتِهِ وَأَخَذَهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لأَنَّ أَحْمَدَ عَلل بِأَنَّهُ سُتْرَةٌ لهُ فَعَلمَ أَنَّ إجْبَارَهُ لحَقِّ جَارِهِ لا لحَقِّ صَاحِبِ العُلوِّ وَلكِنْ قَدْ يُقَال إنَّ تَضَرُّرَ صَاحِبِ العُلوِّ بِتَرْكِ بِنَاءِ السُّفْل أَشَدُّ مِنْ تَضَرُّرِ الجَارِ بِتَرْكِ السُّتْرَةِ لأَنَّ هَذَا يَمْنَعُهُ حَقَّهُ بِالكُليَّةِ بِخِلافِ تَرْكِ السُّتْرَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ المَذْهَبُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَالثَّانِيَة: يُجْبَرُ عَلى الاتِّفَاقِ عَلى وَجْهِ الاشْتِرَاك نَقَلهَا يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ فَقَال يَشْتَرِكُونَ عَلى السُّفْل وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الثَّالثَةُ: لا يُجْبَرُ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الحَكَمِ وَحَكَى فِي المُجَرَّدِ إجْبَارَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلى أَنْ يَبْنِيَ مَعَ الآخَرِ الحِيطَانَ رِوَايَتَانِ وَكَذَا فِي الإِجْبَارِ عَلى بِنَاءِ السَّقْفِ الذِي يَخْتَصُّ بِمِلكِ صَاحِبِ العُلوِّ وَحَاصِل هَذَا يَرْجِعُ إلى أَنَّهُ هَل يَلزَمُ الإِنْسَانُ بِنَاءَ مِلكِهِ الخَاصِّ بِهِ إذَا كَانَ انْتِفَاعُ غَيْرِهِ بِهِ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَلزَمُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ بِبِنَاءِ السُّتْرَةِ؟ وَهَل يَلزَمُ الشَّرِيكَ فِي الانْتِفَاعِ بالبِنَاءُ مَعَ المَالكِ كَالشَّرِيكِ فِي المِلكِ وَعَلى هَذَا يُخَرَّجُ إذَا كَانَ لهُ عَلى حَائِطِ جَارٍ لهُ يُحَاذِيهِ سَابَاطٌ بِحَقٍّ فَانْهَدَمَ الحَائِطُ هَل يُجْبَرُ المَالكُ عَلى بِنَائِهِ؟ وَظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي خِلافِهِ إجْبَارُهُ أَنْ يَبْنِيَهُ مُنْفَرِدًا بِهِ بِغَيْرِ خِلافٍ وَلعَل هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ بِحَقِّ مُعَاوَضَةٍ.
وَمِثْلهُ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ فِي مَنْ لهُ حَقُّ إجْرَاءِ مَائِهِ عَلى سَطْحِ غَيْرِهِ فَعَابَ السَّطْحَ وَلوْ بِجَرَيَانِ مَائِهِ عَليْهِ لمْ يَلزَمْ صَاحِبَ المَاءِ المُشَارَكَةُ فِي الإِصْلاحِ وَكَذَا لوْ كَانَ مَاءُ تِلكَ الدَّارِ يَجْرِي إلى بِئْرٍ بِحَقٍّ فَعَابَتْ البِئْرُ لمْ يَلزَمْ صَاحِبَ المَاءِ المُشَارَكَةُ فِي إصْلاحِهَا وَيُخَرَّجُ ذَلكَ كُلهُ عَلى الخِلافِ فِي السُّفْل الذِي عُلوُّهُ لمَالكٍ آخَرَ يَتَوَجَّهُ وَيَرْجِعُ إلى أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الانْتِفَاعِ هَل هِيَ كَالشَّرِكَةِ فِي المِلكِ.
ومنها: القَنَاةُ المُشْتَرَكَةُ إذَا تَهَدَّمَتْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى الإِجْبَارِ عَلى العِمَارَةِ كَمَا سَبَقَ وَلمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيهِ خِلافًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الحَائِطِ وَالفَرْقُ أَنَّ الحَائِطَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِخِلافِ القَنَاةِ وَالبِئْرِ وَطَرَدَ القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ فِيهِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِذَا لمْ نَقُل بِالإِجْبَارِ فَعَمَّرَ أَحَدُهُمَا لمْ يَكُنْ لهُ مَنْعُ الآخَرِ مِنْ المَاءِ.
ذَكَرَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ التَّلخِيصِ وَالمُغْنِي لأَنَّ المَاءَ بَاقٍ عَلى مَا كَانَ عَليْهِ مِنْ المِلكِ وَالإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا أَزَال الضَّرَرَ عَنْ طَرِيقِهِ وَلا يَقَعُ الاشْتِغَال عَلى مِلكِ الآلاتِ المَعْمُورِ بِهَا , وَفِي الخِلافِ الكَبِيرِ وَالتَّمَامِ لأَبِي الحُسَيْنِ لهُ المَنْعُ مِنْ الانْتِفَاعِ بِالقَنَاةِ وَيَشْهَدُ لهُ نَصَّ عَليْهِ بِالمَنْعِ مِنْ سُكْنَى السُّفْل إذَا بَنَاهُ صَاحِبُ العُلوِّ وَمَنَعَ الشَّرِيكَ مِنْ الانْتِفَاعِ بِالحَائِطِ إذَا أُعِيدَ بِآلاتِهِ العَتِيقَةِ لأَنَّ ذَلكَ كُلهُ انْتِفَاعٌ بِمَا بَذَل فِيهِ الشَّرِيكُ مَالهُ فَيُمْنَعُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلأَنَّ إنْفَاقَهُ عَلى نَفْسِهِ وَشَرِيكِهِ جَائِزٌ فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ وَلا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَا يَقْبَل القِسْمَةَ مِنْ الأَعْيَانِ إذَا طَلبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قِسْمَتَهُ أُجْبِرَ الآخَرُ عَليْهَا وَعَلى التِزَامِ كُلفِهَا وَمُؤَنِهَا لتَكْمِيل نَفْعِ الشَّرِيكِ , فَأَمَّا مَا لا يَقْبَل القِسْمَةَ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلى بَيْعِهِ إذَا طَلبَ الآخَرُ بَيْعَهُ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى ذَلكَ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ فَقَال: إذَا اخْتَلفُوا فِي القِسْمَةِ فَليْسَ للمُضَارِّ شَيْءٌ إذَا كَانَ يَدْخُلهُ نُقْصَانُ ثَمَنِهِ بِيعَ وَأُعْطُوا الثَّمَنَ وَكَذَا نَقَل حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: كُل قِسْمَةٍ مِنْهَا ضَرَرٌ لا أَرَى أَنْ يُقْسَمَ.
مِثْل عَبْدٍ بَيْنَ رَجُليْنِ وَأَرْضٌ فِي قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ وَيُقَال لصَاحِبِهَا إمَّا أَنْ تَشْتَرِيَ وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ إذَا كَانَ ضَرَرًا وَصَرَّحَ بِذَلكَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي وَالحَلوَانِيُّ وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَالسَّامِرِيُّ وَصَاحِبُ التَّرْغِيبِ , وَصَرَّحَ بِمِثْلهِ فِي إجَارَةِ العَيْنِ إذَا لمْ يَتَّفِقَا عَلى المُهَايَأَةِ أَوْ تَشَاحَّا , وَكَذَلكَ قَال القَاضِي فِي خِلافِهِ وَأَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ , وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُبَاعُ عِنْدَ طَلبِ القِسْمَةِ وَإِنْ لمْ يَطْلبْ البَيْعَ.
وَلهَذَا مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ قِسْمَةُ العَيْنِ عُدِل إلى قِسْمَةِ بَدَلهَا وَهُوَ القِيمَةُ , وَهَذَا مَأْخَذٌ مَنْ قَال: يُبَاعُ بِمُجَرَّدِ طَلبِ القِسْمَةِ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ القِيمَةِ مِثْلاً لا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ فَلوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مُفْرَدًا لنَقَصَ حَقُّهُ وَيَدُل عَلى أَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ القِيمَةِ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ فِي السِّرَايَة أَنْ يُقَوَّمَ العَبْدُ كُلهُ ثُمَّ يُعْطَى الشُّرَكَاءُ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ.