كتاب: دقائق التفسير
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

الأنواع فيه وهذا قد قررناه غير مرة في القواعد المتقدمة ومن تدبره علم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة
مثال ذلك قول بعضهم في الصراط المستقيم إنه الإسلام وقول آخر إنه القرآن وقول آخر إنه السنة والجماعة وقول آخر إنه طريق العبودية فهذه كلها صفات له متلازمة لا مباينة وتسميته بهذه الأسماء بمنزلة تسمية القرآن والرسول بأسمائه بل بمنزلة أسماء الله الحسنى
ومثال الثاني قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فذكر منهم صنفا من الأصناف والعبد يعم الجميع فالظالم لنفسه المخل ببعض الواجب والمقتصد القائم به والسابق المتقرب بالنوافل بعد الفرائض وكل من الناس يدخل في هذا بحسب طريقه والتفسير والترجمة ببيان النوع والجنس ليقرب الفهم على المخاطب كما قال الأعجمي ما الخبز فقيل له هذا وأشير إلى الرغيف فالغرض الجنس لا هذا الشخص فهكذا تفسير كثير من السلف وهو من جنس التعليم فقول من قال نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض كلام صحيح فإن من معاني كونه نور السماوات والأرض أن يكون هاديا لهم أما أنهم نفوا ما سوى ذلك فهذا غير معلوم وأما أنهم أرادوا ذلك فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه وقد تقدم عن النبي ص - من ذكر وجهه وفي رواية النور ما فيه كفاية فهذا بيان معنى غير الهداية وقد أخبر الله في كتابه أن الأرض تشرق بنور ربها فإذا كانت تشرق من نوره كيف لا يكون هو نورا ولا يجوز أن يكون هذا النور المضاف إليه إضافة خلق وملك واصطفاء كقوله ناقة الله ونحو ذلك من الوجوه
أحدها أن النور لم يضف قط إلى الله إذا كان صفة لأعيان قائمة فلا يقال في المصابيح إنها نور الله ولا في الشمس والقمر وإنما يقال كما قال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه وفي الدعاء المأثور عن النبي ص -
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة
الثاني أن الأنوار المخلوقة كالشمس والقمر تشرق لها الأرض في الدنيا وليس من نور إلا هو خلق من خلق الله وكذلك من قال منور السماوات والأرض لا ينافي أنه نور وكل

منور نور فهما متلازمان ثم إن الله تعالى ضرب مثل نوره الذي في قلوب المؤمنين بالنور الذي في المصباح وهو في نفسه نور وهو منور لغيره فإذا كان نوره في القلوب هو نور وهو منور فهو في نفسه أحق بذلك وقد علم أن كل ما هو نور فهو منور
وأما قول من قال معناه منور السماوات بالكواكب فهذا إن أراد به قائله أن ذلك من معنى كونه نور السماوات والأرض وليس له معنى إلا هذا فهو مبطل لأن الله أخبر أنه نور السموات والأرض والكواكب لا يحصل نورها في جميع السماوات والأرض وأيضا فإنه قال مثل نوره كمشكاة فيها مصباح فضرب المثل لنوره الموجود في قلوب المؤمنين نور الإيمان والعلم المراد من الآية لم يضربها على النور الحسي الذي يكون للكواكب وهذا هو الجواب عما رواه عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن بعد المطالبة بصحة النقل والظن ضعفه عن ابن عباس لأنهم جعلوا ذلك من معاني النور أما أن يقولوا قوله الله نور السماوات والأرض ليس معناه إلا التنوير بالشمس والقمر والنجوم فهذا باطل قطعا
وقد قال ص -
أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ومعلوم أن العميان لا حظ لهم في ذلك ومن يكون بينه وبين ذلك حجاب لا حظ له في ذلك والموتى لا نصيب لهم من ذلك وأهل الجنة لا نصيب لهم من ذلك فإن الجنة ليس فيها شمس ولا قمر كيف وقد روي أن أهل الجنة يعلمون الليل والنهار بأنوار تظهر من العرش مثل ظهور الشمس لأهل الدنيا فتلك الأنوار خارجة عن الشمس والقمر
وأما قوله قد قيل بالأدلة والحجج فهذا بعض معنى الهادي وقد تقدم الكلام على قوله هذا يبطل قوله أن التأويل دفع للظاهر ولم ينقل عن السلف فإن هذا الكلام مكذوب علي وقد ثبت تناقض صاحبه وأنه لم يذكر عن السلف إلا ما اعترف بضعفه
وأما الذي أقوله الآن وأكتبه وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي وإنما أقوله في كثير من المجالس إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه أول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء

كثير وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في قوله تعالى يوم يكشف عن ساق فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيين ولا ريب أن ظاهر القرآن يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال يوم يكشف عن ساق نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف ولكن كثيرا من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولا له ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلا وهذا خطأ من وجهين كما قدمنا غير مرة
وأما قوله لو كان نورا حقيقة كما تقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارا على الدوام فنحن نقول بموجب ما ذكره من هذا القول فإن المشبهة يقولون إنه نور كالشمس والله تعالى ليس كمثله شيء فإنه ليس كشيء من الأنوار كما أن ذاته ليست كشيء من الذوات لكن ما ذكره له حجة عليهم فإنه يمكن أن يكون نورا يحجبه عن خلقه كما قال في الحديث حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
لكن غلط هنا في النقل وهو إضافة هذا القول إلى المشبهة فإن هذا من أقوال الجهمية المعطلة أيضا كالمريسي فإنه كان يقول إنه نور وهو كبير الجهمية وإن كان قصده بالمشبهة من أثبت أن الله نور حقيقة فالمثبتة للصفات كلهم عنده مشبهة وهذه لغة الجهمية المحضة يسمون كل من أثبت الصفات مشبها فقد قدمنا أن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ذكرا أن نفي كونه نورا في نفسه هو قول الجهمية والمعتزلة وأنهما أثبتا أنه نور وقررا ذلك هما وأكابر أصحابهما فكيف بأهل الحديث وأئمة السنة وأول هؤلاء المؤمنين بالله وبأسمائه

وصفاته ورسول الله ص - وقد أجاب النبي ص - على هذا السؤال الذي عارض به المعترض فقال ص -
حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فأخبر أنه حجب عن المخلوقات بحجابه النور أن تدركها سبحات وجهه وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فهذا الحجاب عن إحراق السبحات يبين ما يراد في هذا المقام
وأما ما ذكره عن ابن عباس في روايته الأخرى فمعناه بعض الأنوار الحسية وما ذكره من كلام العارفين فهو بعض معاني هدايته لعباده وإنما ذلك تنويع بعض الأنواع بحسب حاجة المخاطبين كما ذكرناه من عادة السلف أن يفسرها بذكر بعض الأنواع يقع على سبيل التمثيل لحاجة المخاطبين لا على سبيل الحصر والتحديد فقد تبين أن جميع ما ذكر من الأقوال يرجع إلى معنيين من معاني كونه نور السماوات والأرض وليس في ذلك دلالة على أنه في نفسه ليس بنور

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر
فصل
قوله تعالى ادعوني أستجب لكم
سئل شيخ الإسلام فقيل له
قوله إذا جف القلم بما هو كائن فما معنى قوله ادعوني أستجب لكم وإن كان الدعاء أيضا مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولا بد من وقوعه
فيقال الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة وكسائر الأسباب في اقتضائه المسببات ومن قال إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليس بسبب أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودا ولا عدما بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه فهما قولان ضعيفان فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وفي الصحيحين عن النبي ص - أنه قال
ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر فعلق العطايا بالدعاء تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به وقال عمر بن الخطاب إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه وأمثال ذلك كثير
وأيضا فالواقع المشهود يدل على ذلك وبينه كما يدل على ذلك مثله في سائر أسباب وقد أخبر سبحانه من ذلك ما أخبر به في مثل قوله ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون وقوله تعالى

وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض وقوله تعالى عن زكريا رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجة وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وقال تعالى ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص
فأخبر أنه إن شاء أوبقهن فاجتمع أخذهم بذنوبهم وعفوه عن كثير منها مع علم المجادلين في آياته أنه ما لهم من محيص لأنه في مثل هذا الحال يعلم المورد للشبهات في الدلائل الدالة على ربوبية الرب وقدرته ومشيئته ورحمته أنه لا مخلص له مما وقع فيه كقوله في الآية الأخرى وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال
فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال هل الرب موجب بذاته فلا يكون هو المحدث للحوادث ابتداء ولا يمكنه أن يحدث شيئا ولا يغير العالم حتى يدعى ويسأل وهل هو عالم بالتفصيل والإجمال وقادر على تصريف الأحوال حتى يسأل التحويل من حال إلى حال أو ليس كذلك كما يزعمه من المتفلسفة وغيرهم من الضلال فيجتمع مع العقوبة والعفو من ذي الجلال علم أهل المراء والجدال أنه لا محيص لهم عما أوقع بمن جادلوا في آياته وهو شديد المحال وقد تكلمنا على هذا وأشباهه وما يتعلق به من المقالات والديانات في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم أن الدعاء والسؤال هو سبب لنيل المطلوب المسؤول ليس وجوده كعدمه في ذلك ولا هو علامة محضة كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان قد نازع في ذلك طوائف من أهل القبلة وغيرهم مع أن ذلك يقربه جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين لكن طوائف من المشركين والصابئين من المتفلسفة المشائين اتباع

أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه ونحو هؤلاء يزعمون أن تأثير الدعاء في نيل المطلوب كما يزعمونه في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية فيجعلون ما يترتب على الدعاء هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق سبحانه بذلك علما مفصلا أو قدرة على تغيير العالم أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك فليس هو عندهم قادرا على إن يجمع عظام الإنسان ويسوي بنانه وهو سبحانه هو الخالق لها ولقواها فلا حول ولا قوة إلا بالله
أما قوله وإن كان الدعاء مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولا بد من وقوعه فيقال الدعاء المأمور به لا يجب كونا بل أذا أمر الله العباد بالدعاء فمنهم من يطيعه فيستجاب له دعاؤه وينال طلبته ويدل ذلك على أن المعلوم المقدور هو الدعاء والإجابة ومنهم من يعصيه فلا يدعو فلا يحصل ما علق بالدعاء فيدل ذلك على أنه ليس في المعلوم المقدور الدعاء ولا الإجابة فالدعاء الكائن هو الذي تقدم العلم بأنه كائن والدعاء الذي لا يكون هو الذي تقدم العلم بأنه لا يكون
فإن قيل فما فائدة الأمر فيما علم أنه يكون من الدعاء قيل الأمر هو سبب ايضا في امتثال المأمور به كسائر الأسباب فالدعاء سبب يدفع البلاء فإذا كان أقوى منه دفعه وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه لكن يخففه ويضعفه ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق والله أعلم

527 -

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
فصل
سئل شيخ الإسلام عن قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فقال رحمه الله
قال السائل قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إن كانت هذه اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك وإن كانت اللام للغرض لزم أن لا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته وليس الأمر كذلك فما التخلص من هذا المضيق
فيقال هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة ولم يقل ذلك أحد هنا كما ذكره السائل من أن ذلك لم يصر إلى على قول من يفسر يعبدون بمعنى يعرفون يعني المعرفة التي أمر بها المؤمن والكافر لكن هذا قول ضعيف وإنما زعم بعض الناس ذلك في قوله ولذلك خلقهم التي في آخر سورة هود فإن بعض القدرية زعم أن تلك اللام لام العاقبة والصيرورة أي صارت عاقبتهم إلى الرحمة وإلى الاختلاف وإن لم يقصد ذلك الخالق وجعلوا ذلك كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقول الشاعر ... لدوا للموت وابنوا للخراب ...
وهذا أيضا ضعيف هنا لأن لام العاقبة إنما تجيء في حق من لا يكون عالما بعواقب الأمور

ومصايرها فيفعل الفعل الذي له عاقبة لا يعلمها كآل فرعون فأما من يكون عالما بعواقب الأفعال ومصايرها فلا يتصور منه أن يفعل فعلا له عاقبة لا يعلم عاقبته وإذا علم أن فعله له عاقبة فلا يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون فإن ذلك تمن وليس بإرادة
وأما اللام فهي اللام المعروفة وهي لام كي ولام التعليل التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها على المفعول له وتسمى العلة الغائية وهي متقدمة في العلم والإرادة متأخرة في الوجود والحصول وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل
لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين
أحدهما الإرادة الكونية وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذه الإرادة في مثل قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وقوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم وقال تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله وأمثال ذلك وهذه الإرادة هي مدلول اللام في قوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم
قال السلف خلق فريقا للاختلاف وفريقا للرحمة ولما كانت الرحمة هنا الإرادة وهناك كونية وقع المراد بها فقوم اختلفوا وقوم رحموا
وأما النوع الثاني فهو الإرادة الدينية الشرعية وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى كما قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله

عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة ولهذا كانت الأقسام أربعة
أحدها ما تعلقت به الإرادتان وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة فإن الله أرادة إرادة دين وشرع فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون فوقع ولولا ذلك لما كان
والثاني ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع
والثالث ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
والرابع ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي وإذا كان كذلك فمقتضى اللام في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون هذه الإرادة الدينية الشرعية وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع فهو العمل الذي خلق العباد له أي هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم الذي به يكونون مرضيين محبوبين فمن لم تحصل منه هذه الغاية كان عادما لما يحب ويرضى ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته وعادما لكماله وصلاحه العدم المستلزم فساده وعذابه وقول من قال العبادة هي العزيمة أو الفطرية فقولان ضعيفان فاسدان يظهر فسادهما من وجوه متعددة
والله أعلم
تم الجزء الرابع وبه تم الكتاب والحمد لله رب العالمين
واللهم اجعله لنا لا علينا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم آمين

سورة الانسان
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
فصل عرض مجمل للسورة
اعلم أن سورة هل أتى على الانسان سورة عجيبة الشأن من سور القرآن على اختصارها فإن الله سبحانه ابتدأها بذكر كيفية خلق الانسان من النطفة ذات الأمشاج والاخلاط التي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يصرفه عليها أطوارا وينقله من حال إلى حال إلى أن تمت خلقته وكملت صورته فأخرجه انسانا سويا سميعا بصيرا ثم لما تكامل تمييزه وادراكه هداه طريقي الخير والشر والهدى والضلال وأنه بعد هذه الهداية اما أن يشكر ربه واما أن يكفره ثم ذكر مآل أهل الشكر والكفر وما أعد لهؤلاء وهؤلاء وبدأ أولا بذكر عاقبة أهل الكفر ثم عاقبة أهل الشكر وفي آخر السورة ذكر أولا أهل الرحمة ثم أهل العذاب فبدأ السورة بأول أحوال الإنسان وهي النطفة وختمها بآخر أحواله وهي كونه من أهل الرحمة أو العذاب ووسطها بأعمال الفريقين فذكر أعمال أهل العذاب مجملة في قوله إنا أعتدنا للكافرين سورة الانسان 4 وأعمال أهل الرحمة مفصلة وجزاءهم مفصلا
فتضمنت السورة خلق الإنسان وهدايته ومبدأه وتوسطه ونهايته وتضمنت المبدأ

والمعاد والخلق والأمر وهما القدرة والشرع وتضمنت إثبات السبب وكون العبد فاعلا مريدا حقيقة وأن فاعليته ومشيئته إنما هي بمشيئة الله ففيها الرد على الطائفتين القدرية والجبرية وفيها ذكر أقسام بني آدم كلهم فأنهم أما أهل شمال وهم الكفار أو أهل يمين وهم نوعان أبرار ومقربون وذكر سبحانه أن شراب الابرار يمزج من شراب عباده المقربين لأنهم مزجوا أعمالهم ويشربه المقربون صرفا خالصا كما أخلصوا أعمالهم وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته لما حصل لقلوبهم ووصل إليها في الدنيا مع ما في ذلك من مقابلته للسعير
وأخبر سبحانه أن لهم شرابا آخر ممزوجا من الزنجبيل لما فيه من طيب الرائحة ولذة الطعم والحرارة التي توجب تغير برد الكافور واذابة الفضلات وتطهير الاجواف ولهذا وصفه سبحانه بكونه شرابا طهورا أي مطهرا لبطونهم
فوصفهم سبحانه بجمال الظاهر والباطن كما قال ولقاهم نضرة وسرورا الآية11 فالنضرة جمال وجوههم والسرور جمال قلوبهم كما قال تعرف في وجوههم نضرة النعيم سورة المطففين 24
وقريب من هذا قول امرأة العزيز في يوسف فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم سورة يوسف 32 فأخبرت بجمال ظاهره حين أشارت إليه بالخروج عليهن ثم ضمت إلى ذلك اخبارهم بأن باطنه أجمل من ظاهره بأني راودته فأبى إلا العفة والحياء والاستعصام
ثم ذكر سبحانه من أعمال الأبرار ما ينتبه سامعه على جمعهم لأعمال البر كلها فذكر سبحانه وفاءهم بالنذر وخوفهم من ربهم واطعامهم الطعام على محبتهم له واخلاصهم لربهم في طاعتهم
وذكر سبحانه الوفاء بالنذر وهو أضعف الواجبات فإن العبد هو الذي اوجبه على نفسه التزامه فهو دون ما أوجبه الله سبحانه وعليه فإذا وفى لله بأضعف الواجبين الذي التزمه هو فهو بأن يوفى بالواجب الاعظم الذي اوجبه الله عليه أولى وأحرى

ومن ههنا قال من قال من المفسرين المقربون يوفون بطاعة الله ويقومون بحقه عليهم وذلك أن العبد إذا نذر لله طاعة فوفى بها فإنما يفعل ذلك لكونها صارت حقا لله يجب الوفاء بها وهذا موجود في حقوقه كلها فهي في ذلك سواء
ثم أخبر عنهم بأنهم يخافون اليوم العسير القمطرير وهو يوم القيامة ففي ضمن هذا الخوف إيمانهم باليوم الآخر وكفهم عن المعاصي التي تضرهم في ذلك اليوم وقيامهم بالطاعات التي ينفعهم فعلها ويضرهم تركها في ذلك اليوم
ثم أخبر عنهم باطعام الطعام على محبتهم له وذلك يدل على نفاسته عندهم وحاجتهم إليه وما كان كذلك فالنفوس به أشح والقلوب به أعلق واليد له أمسك فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل
فذكر من حقوق العباد بذل قوت النفس على نفاسته وشدة الحاجة منبها على الوفاء بما دونه كما ذكر من حقوقه الوفاء بالنذر منبها على الوفاء بما هو فوقه وأوجب منه ونبه بقوله على حبه الآية 8 أنه لولا أن الله سبحانه أحب إليهم منه لما آثروه على ما يحبونه فآثروا المحبوب الأعلى على الأدنى
ثم ذكر أن مصرف طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير الذين لا قوة لهم ينصرونهم بها ولا مال لهم يكافئونهم به ولا أهل ولا عشيرة يتوقعون منهم مكافأتهم كما يقصده أهل لدنيا والمعاوضون بانفاقهم واطعامهم
ثم أخبر عنهم أنهم إنما فعلوا ذلك لوجه الله وأنهم لا يريدون من أطعموه عوضا من أموالهم ولا ثناء عليهم بألسنتهم كما يريده من لا اخلاص له باحسانه إلى الناس من معاوضتهم أو الشكور منهم فتضمن ذلك المحبة والاخلاص والاحسان
ثم أخبر سبحانه عنهم بما صدقهم عليه قبل أن يقولوه حيث قالوا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا الآية 10 فصدقهم قبل قولهم إذ يقول تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا الآية 7 ثم أخبر سبحانه بأنه وقاهم شر ما يخافونه ولقاهم فوق ما كانوا يأملونه
وذكر سبحانه أصناف النعيم الذي حباهم به من المساكن والملابس والمجالس والثمار

والشراب والخدم والنعيم والملك الكبير
ولما كان في الصبر من حبس النفس والخشونة التي تلحق الظاهر والباطن من التعب والنصب والحرارة ما فيه كان الجزاء عليه بالجنة التي فيها السعة والحرير الذي فيه اللين والنعومة والاتكاء الذي يتضمن الراحة والظلال المنافية للحر
ثم ذكر سبحانه لون ملابس الابرار وإنها ثياب سندس خضر واستبرق وحليتهم وأنها أساور من فضة فهذه زينة ظواهرهم ثم ذكر زينه بواطنهم وهو الشراب الطهور وهو بمعنى التطهير
فإن قيل فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب ومعلوم ان الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنتيهما وحليتهما وما فيهما
قيل سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين فإنه سبحانه إنما أشار اليه أشارة تنبه على ما سكت عنه وهو أن شراب الأبرار يمزج من شرابهم
فالسورة مسوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل وذلك والله أعلم لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين
وأيضا فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وأيضا فإنه سبحانه ذك أهل الكفر وأهل الشكر وأهل الشكر نوعان أبرار أهل يمين ومقربون سابقون وكل مقرب سابق فهو من الابرار ولا ينعكس فاسم الابرار والمقربين كاسم الاسلام والايمان أحدهما أعم من الآخر
وأيضا فأنه سبحانه أخبر أن هذا جزاء سعيهم المشكور وكل من الابرار والمقربين سعيهم مشكور فذكر سبحانه السعي المشكور والسعي المسخوط

ثم ذكر سبحانه نبيه ص - بما أنعم عليه من تنزيل القرآن عليه وأمره بأن يصبر لحكمه وهو يعم الحكم الديني الذي أمره به في نفسه وأمره بتبليغه والحكم الكوني الذي يجري عليه من ربه فإنه سبحانه امتحن عباده وابتلاهم بأمره ونهيه وهو حكمه الديني وابتلاهم بقضائه وقدره وهو حكمه الكوني وفرض عليهم الصبر على كل واحد من الحكمين وإن كان الحكم الديني في هذه الآية أظهر ارادة وأنه أمر بالصبر على تبليغه والقيام بحقوقه
ولما كان صبره عليه لا يتم بمخالفته لمن دعاه إلى خلافه من كل آثم أو كفور نهاه عن طاعة هذا وهذا وأتى بحرف أو دون الواو ليدل على أنه منهى عن طاعة أيهما كان أما هذا وأما هذا فكأنه قيل له لا تطع أحدهما وهو أعم في النهي من كونه منهيا عن طاعتهما فإنه لو قيل له لا تطعهما أو لا تطع آثما وكفورا لم يكن صريحا في النهي عن طاعة كل منهما بمفرده
ولما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيء هو أحب إليه من فوات ما يصبر عليه فوته أمره بأن يذكر ربه سبحانه بكرة وأصيلا فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر وأن يصبر لربه بالليل فيكون قيامه بالليل عونا على ما هو بصدده بالنهار ومادة لقوته ظاهرا وباطنا ولنعيمه عاجلا وآجلا
ثم أخبر سبحانه عما يمنع العبد من إيثار ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة وهو حب العاجلة وإيثارها على الآخرة تقديما لداعي الحس على داعي العقل
ثم ذكر سبحانه خلقهم واحكامه واتقانه بما شد من أسرهم وهو ائتلاف الاعضاء والمفاصل والأوصال وما بينها من الرباطات وشد بعضها ببعض وحقيقته القوة ومنه قول الشاعر

من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا ...
ولا يكون ذلك إلا فيما له شد ورباط ومنه الاسار وهو الحبل الذي يشد به الأسير
ثم أخبر سبحانه أنه قادر على أن يبدل امثالهم بعد موتهم وأنه شاء ذلك فعله واذا للمحقق فهذا التبديل واقع لا محالة فهو الاعادة التي هي مثل البداءة
هذا هو معنى الآية ومن قال غير ذلك لم يصب معناها ولا توحشك لفظة المثل فإن المعاد مثل للمبدوء وإن كان هو بعينه فهو معاد أو هو مثله من جهة المغايرة بين كونه مبدءا ومعادا وهذا كالدار إذا تهدمت وأعيدت بعينها فهي الأولى وكذلك الصلاة المعادة هي الأولى وهي مثلها
وقد نطق القرآن بأنه سبحانه يعيدهم ويعيد امثالهم إذا شاء وكلاهما واحد فقال كما بدأكم تعودون سورة الأعراف 29 وقال تعالى والينا ترجعون سورة الانبياء35 وقال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده سورة الروم 27 وقال أوليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم سورة يس 81 وقال انا لقادرون على ان نبدل امثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون سورة الواقعة 61 63
فهذا كله معاد الأبدان وقد صرح سبحانه بأنه خلق جديد في موضعين من كتابه وهذا الخلق الجديد هو المثل
ثم ختم سبحانه السورة بالشرع والقدر كما افتتحها بالخلق والهداية فقال فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا الآية 29 فهذا شرعه ومحل أمره ونهيه ثم قال وما تشاؤون إلا أن يشاء الله الآية 30 فهذا قضاؤه وقدره ثم ذكر الاسمين الموجبين

للتخصيص وهما اسم العليم الحكيم
وقوله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فأخبر أن مشيئتهم موقوفة على مشيته ومع هذا فلا يوجب ذلك حصول الفعل منهم إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين ولا يقع الفعل إلا حين يشاؤه منهم كما قال تعالى فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله سورة المدثر 55 56 وقال لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله سورة التكوير 28 29 ومع هذا فلا يقع الفعل منهم حتى يريد من نفسه اعانتهم وتوفيقهم
فهنا أربع ارادات ارادة البيان وارادة المشيئة وارادة الفعل وارادة الاعانة والله أعلم
آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما

فصل
وقوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله لا يدل على أن العبد ليس بفاعل لفعله الاختياري ولا أنه ليس بقادر عليه ولا أنه ليس بمريد بل يدل على أنه لا يشاؤه الا من يشاء الله وهذه الآية رد على الطائفتين المجبرة والجهمية والمعتزلة القدرية فإنه تعالى قال لمن شاء منكم أن يستقيم فاثبت للعبد مشيئة وفعلا ثم قال وما تشاؤون الا ان يشاء الله رب العالمين فبين ان مشيئة معلقه بمشيئة الله و الأولى رد على الجبرية وهذه رد على القدرية الذين يقولون قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله كما يقولون ان الله يشاء ما لا يشاؤون
وإذا قالوا المراد بالمشيئة هنا الأمر على أصلهم والمعنى وما يشاؤون فعل ما أمر الله به ان لم يأمر الله به قيل سياق الآية يبين انه ليس المراد هذا بل المراد وما تشاؤون بعد ان امرتم بالفعل ان تفعلوه الا أن يشاء الله فإنه تعالى ذكر الأمر والنهي والوعد والوعيد ثم قال بعد ذلك إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون الا أن يشاء الله وقوله وما تشاؤون نفي لمشيئتهم في المستقبل وكذلك قوله الا ان يشاء الله تعليق لها بمشيئة الرب في المستقبل فإن حرف أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال فالمعنى الا أن يشاء بعد ذلك والامر متقدم على ذلك وهذا كقول الانسان لا افعل هذا الا ان يشاء الله

وقد اتفق السلف والفقهاء على أن من حلف فقال لأصلين غدا ان شاء الله أو لأقضين ديني غدا إن شاء الله ومضى الغد ولم يقضه أنه لا يحنث ولو كانت المشيئة هي الأمر لحنث لأن الله أمره بذلك وهذا مما احتج به على القدرية وليس لهم عنه جواب ولهذا خرق بعضهم الاجماع القديم وقال انه يحنث
و ايضا فقوله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله سيق لبيان مدح الرب والثناء عليه ببيان قدرته وبيان حاجة العباد إليه ولو كان المراد لا يفعلون الا أن يأمركم لكان كل امر بهذه المثابة فلم يكن ذلك من خصائص الرب التي يمدح بها وان اريد انهم لا يفعلون الا بأمره كان هذا مدحا لهم لا له

22 -

فصل في قوله النبي ص
- في الحديث الصحيح بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء
لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه والعياذ بالله بل الأمر كما قال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين آل عمران 3 85 وقال تعالى إن الدين عند الله الاسلام آل عمران3 19 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون آل عمران 3 102 وقال تعالى ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون البقرة 2 130 132
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر وبينا أن الانبياء كلهم كان دينهم الاسلام الصحيح حديث عياض بن حماد عن النبي ص - أنه قال ان الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب الحديث
ولا يقتضي هذا أنه أذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر بل هو أسعد الناس كما قال في تمام الحديث فطوبى للغرباء وطوبى من الطيب قال تعالى طوبى لهم

وحسن مآب الرعد 13 29 فإنه يكون من جنفى السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا وهم أسعد الناس أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الانبياء عليهم السلام
وأما في الدنيا فقد قال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين الانفال 8 64 أي ان الله حسبك وحسب متبعك وقال تعالى ان وليى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين الأعراف 7 196 وقال تعالى أليس الله بكاف عبده الزمر 39 36 وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق 65 2 3 فالمسلم المتبع للرسول الله تعالى حسبه وكافيه وهو وليه حيث كان ومتى كان
ولهذا يوجد المسلمون المتمسكون بالاسلام في بلاد الكفر لهم السعادة كلما كانوا أتم تمسكا بالاسلام فإن دخل عليهم شر كان بذنوبهم حتى ان المشركين وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالاسلام عظموه وأكرموه وأعفوه من الأعمال التي يستعملون بها المنتسبين إلى ظاهر الاسلام من غير عمل بحقيقته لم يكرم
وكذلك كان المسلمون في أول الاسلام وفي كل وقت
فإنه لا بد أن يحصل للناس في الدنيا شر ولله على عباده نعم لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل والنعم التي تصل إليه أكثر فكان المسلمون في أول الاسلام وان ابتلوا بأذى الكفار والخروج من الديار فالذي حصل للكفار الهلاك كان أعظم بكثير والذي كان يحصل للكفار من عز أو مال كان يحصل للمسلمين أكثر منه حتى من الاجانب
فرسول الله ص - مع ما كان المشركون يسعون في أذاه بكل طرق كان الله يدفع عنه ويعزه ويمنعه وينصره من حيث كان أعز قريش ما منهم الا من كان يحصل له من يؤذيه ويهينه من لا يمكنه دفعه إذ لكل كبير كبير يناظره ويناويه ويعاديه وهذه حال من

فصل سورة الليل معنى آية ان
علينا للهدى ونظيريها من سورتي الحجر والنحل وبيان اغلاط المفسرين فيها
قال شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه
فصل في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعنى يخفى معناها على أكثر
الناس
قوله تعالى قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من العاوين الحجر 15 41 42
وقوله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر النحل 16 6 وقوله تعالى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى الليل 92 12 13 فلفظ هذه الآيات فيه أن السبيل الهادي هو على الله
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولى ثلاثة أقوال بخلاف الآيتين الآخريين فإنه لم يذكر فيهما إلا قوله واحدا فقال في تلك الآية اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال

أحدها انه يعني بقوله هذا الاخلاص فالمعنى أن الاخلاص طريق إلي مستقيم وعلى بمعنى إلى
والثاني هذا طريق علي جوازه لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وهو خارج مخرج الوعيد كما تقول للرجل تخاصمه طريقك علي فهو كقوله إن ربك لبالمرصاد الفجر 89 14
والثالث هذا صراط على استقامته أي أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان قال وقرأ قتادة ويعقوب هذا صراط علي أي رفيع
قلت هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها من قبله كالثعلبي والواحدي والبغوي وذكروا قولا رابعا فقالوا واللفظ للبغوي وهو مختصر الثعلبي
قال الحسن معناه صراط إلى مستقيم وقال مجاهد الحق يرجع إلي وعليه طريقه لا يعرج على شيء
وقال الاخفش يعني على الدلالة على الصراط المستقيم
وقال الكسائي هذا على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه طريقك علي أي لا تفلت مني كما قال تعالى ان ربك لبالمرصاد
وقيل معناه على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية
فذكروا الأقوال الثلاثة وذكروا قول الاخفش على الدلالة على الصراط المستقيم وهو يشبه القول الأخير لكن بينهما فرق فإن ذاك يقول على استقامته بإقامة الأدلة فمن سلكه كان على صراط مستقيم والآخر يقول أن أدل الخلق عليه بإقامة الحجج ففي كلا القولين أنه بين الصراط المستقيم بنصف الأدلة لكن هذا جعل عليه الدلالة عليه وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعا
وذكروا القراءة الأخرى عن يعقوب وغيره أي رفيع قال البغوي وعبر بعضهم عنه رفيع أن ينال مستقيم أن يمال

قلت القول الصواب هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه فإنهم أعلم بمعاني القرآن لا سيما مجاهد فإنه قال عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به والأئمة كالشافعي وأحمد والبخاري ونحوهم يعتمدون على تفسيره والبخاري في صحيحة أكثر ما ينقله من التفسير ينقله عنه
والحسن البصري أعلى التابعين بالبصرة
وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه رواه الناس كابن أبي حاتم وغيره من تفسير ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله هذا صراط علي مستقيم الحق يرجع الى الله وعليه طريقة لا يعرج على شيء
وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ علي فقال أي رفيع مستقيم
وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل فروى من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله قصد السبيل قال طريق الحق على الله قال وروى السدي أنه قال الاسلام وعطاء قال هي طريق الجنة
فهذه الأقوال قول مجاهد والسدي وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد والحسن في تلك الآية
وذكر ابن أبي الحاتم من تفسير العوفي عن ابن عباس في قوله وعلى الله قصد السبيل يقول على الله البيان أن يبين الهدى والضلالة
وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد فقط
وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني وذكره عن الزجاح فقال

وعلى الله قصد السبيل القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا قصد بك إلى ما تريد قال الزجاج المعنى وعلى الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين
وكذلك الثعلبي والبغوي ونحوهما لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين
قال البغوي يعني بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل بيان الحق بالآيات والبراهين
قال والقصد الصراط المستقيم و ومنها جائر يعني ومن السبيل ما هو جائر عن الاستقامة معوج فالقصد من السبيل دين الاسلام والجائر منها اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر قال جابر بن عبدالله قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع ودليله قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله الأنعام 6 153
ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر ذكره في تفسير قوله تعالى إن علينا للهدى الليل عن القراء كما سيأتي فقد ذكر القولين في الآيات الثلاث تبعا لمن قبله كالثعلبي وغيره
والمهدوي ذكر في الآية الأولى قولين من الثلاثة وذكر في الثانية ما رواه العوفي وقولا آخر فقال
قوله هذا صراط علي مستقيم أي على أمري وارادتي وقيل هو على التهديد كما يقال على طريقك وإلى مصيرك
وقال في قوله وعلى الله قصد السبيل قال ابن عباس أي بيان الهدى من الضلال وقيل السبيل الاسلام ومنها جائر أي ومن السبل جائر أي عادل عن الحق وقيل المعنى وعنها جائر أي عن السبيل ف من بمعنى عن
وقيل معنى قصد السبيل سيركم ووجوعكم والسبيل واحدة بمعنى الجمع

قلت هذا قول بعض المتأخرين جعل القصد بمعنى الارادة أي عليه قصدكم للسبيل في ذهابكم ورجوعكم وهو كلام من لم يفهم الآية فإن السبيل القصد هي السبيل العادلة أي عليه السبيل القصد والسبيل اسم جنس ولهذا قال ومنها جائر أي عليه القصد من السبيل ومن السبيل جائر فاضافة إلى اسم الجنس إضافة النوع إلى الجنس أي القصد من السبيل كما تقول ثوب خز ولهذا قال ومنها جائر
وأما من ظن أن التقدير قصدكم السبيل فهذا لا يطابق لفظ الآية ونظمها من وجود متعددة
وابن عطية لم يذكر في آية الحجر إلا قول الكسائي وهو أضعف الأقوال وذكر المعنى الصحيح تفسير للقراءة الأخرى فذكر أن جماعة من السلف قرأوا على مستقيم من العلو والرفعة قال والاشارة بهذا على هذه القراءة إلى الاخلاص لما استثنى ابليس من أخلص قال الله له هذا الاخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت باغوائك أهله
قال وقرأ جمهور الناس على مستقيم والاشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص لما قسم ابليس هذين القسمين قال الله هذا طريق علي أي هذا أمر إلى مصيره والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي اليه يصير النظر في أمرك وهذا نحو قوله إن ربك لبالمرصاد قال والآية على هذه القراءة خبر يتضمن وعيدا
قلت هذا قول لم ينقل عن أحد من علماء التفسير لا في هذه الآية ولا في نظيرها وإنما قاله الكسائي لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف ودل عليه السياق والنظائر
وكلام العرب لا يدل على هذا القول فإن الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده ويتوعده على طريقك فإنه لا يقول إن طريقك مستقيم
وأيضا فالوعيد إنم يكون للمسيء لا يكون للمخلصين فكيف يكون قوله هذا إشارة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء هؤلاء سلكوا الطريق المستقيم التي تدل على الله وهؤلاء سلكوا السبيل الجائرة
وأيضا فإنما يقول لغيره في التهديد طريقك علي من لا يقدر عليه في الحال لكن ذاك يمر

بنفسه عليه وهو متمكن منه كما كان أهل المدينة يتوعدون أهل مكة بأن طريقكم علينا لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدا وأصحابه كما قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما ذهب سعد إلى مكة إلا أراك تطوف بالبيت أمنا وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم فقال لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة أو نحو هذا
فذكر أن طريقهم في متجرهم إلى الشام عليهم فيتمكنون حينئذ من جزائهم
ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى فإن الله قادر على العباد حيث كانوا كما قالت الجن وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا الجن 72 13 وقال وما أنتم بمعجزين في الأرض العنكبوت 29 22
فلان أي إليه يصير أمرك فهذا يطابق تفسير مجاهد وغيره من السلف كما قال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء فطريق الحق على الله وهو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه هذا صراط على مستقيم كما فسرت به القراءة الأخرى
فالصراط في القرائتين هذا الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين أن يسألوه اياه في صلاتهم فيقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهو الذي وصى به في قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعو السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون الأنعام 6 153
وقوله هذا إشارة إلى ما تقدم ذكره وهو قوله الا عبادك منهم المخلصين الحجر 15 40 فتعبد العباد له باخلاص الدين له طريق يدل عليه وهو طريق مستقيم ولهذا قال بعده ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الحجر 15 42

وابن عطية ذكر أن هذا معنى الآية في تفسير الآية الأخرى مستشهدا به مع أنه لم يذكره في تفسيرها فهو بفطرته عرف أن هذا معنى الآية ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول كأنه هو الذي اتفق أن رأى غيره قد قاله هناك فقال رحمه الله

فصل في معنى السبيل
وقوله وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر وهذه أيضا من أجل نعم الله تعالى أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون
قال ويحتمل أن يكون المعنى أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله طريقه وإلى ذلك مصيره فيكون هذا مثل قوله هذا صراط علي مستقيم وضد قول النبي ص - والشر ليس إليك أي لا يفضي إلى رحمتك وطريق قاصد معناه بين مستقيم قريب ومنه قول الراجز
قصد عن نهج الطريق القاصد
قال والألف واللام في السبيل للعهد وهي سبيل الشرع وليست للجنس ولو كانت للجنس لم يكن منها جائر وقوله ومنها جائر يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعباد الاصنام والضمير في منها يعود على السبيل التي يتضمنها معنى الآية كأنه قال ومن السبيل جائر فأعاد عليها وان كان لم يجر لها ذكر لتضمن لفظة السبيل بالمعنى لها
قال ويحتمل أن يكون الضمير في منها على سبيل الشرع المذكورة ويكون من للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد كأنه قال ومن بينات الطرق من هذه السبيل ومن شعبها جائر
قلت سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه ولا يقال ان ذلك من السبيل المشروعة
وأما قوله إن قوله قصد السبيل هي سبيل الشرع وهي سبيل الهدى والصراط المستقيم وأنها لو كانت للجنس لم يكن منها جائر فهذا أحد الوجهين في دلالة الآية وهو مرجوح والصحيح الوجه الآخر أن السبيل اسم جنس ولكن الذي على

الله هو القصد منها وهي سبيل واحد ولماكان جنسا قال ومنها جائر والضمير يعود على ما ذكر بلا تكلف
وقوله لو كان للجنس لم يكن منها جائر ليس كذلك فإنها ليست كلها عليه بل إنما عليه القصد منها وهي سبيل الهدى والجائر ليس من القصد وكأنه ظن أنه إذا كانت للجنس يكون عليه قصد كل سبيل وليس كذلك بل إنما عليه سبيل واحدة وهي الصراط المستقيم وهي التي تدل عليه وسائرها سبيل الشيطان كما قال وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وقد أحسن رحمه الله في هذا الاحتمال وفي تمثيله ذلك بقوله هذا صراط علي مستقيم
وأما آية الليل قوله إن علينا للهدى فابن عطية مثلها بهذه الآية لكنه فسرها بالوجه الأول فقال
ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا أي تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك كما قال وعلى الله قصد السبيل ثم كل أحد يتكسب ما قدر له وليست هذه الهداية بالارشاد إلى الإيمان ولو كان كذلك لم يوجد كافر
قلت وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي وذكره عن الزجاج قال الزجاج ان علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال
وهذا التفسير ثابت عن قتادة رواه عبد بن حميد قال حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة إن علينا للهدى علينا بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد عن قتادة في قوله إن علينا للهدى يقول على الله البيان بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته
لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فتبين به حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته
وأما الثعلبي والواحدي والبغوي وغيرهم فذكروا القولين وزادوا أقوالا آخر فقالوا واللفظ للبغوي

إن علينا للهدى يعني البيان قال الزجاج علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة وهو قول قتادة قال على الله بيان حلاله وحرامه
وقال القراء يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى وعلى الله قصد السبيل يقول من أراد الله فهو على السبيل القاصد
قال وقيل معناه إن علينا للهدى والاضلال كقوله بيدك الخير
قلت هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن السلف وكذلك ما اشبهه فإنهم قالوا معناه بيدك الخير والشر والنبي ص - في الحديث الصحيح يقول والخير بيديك والشر ليس اليك
والله تعالى خالق كل شيء لا يكون في ملكه إلا ما يشاء والقدر حق لكن فهم القرآن ووضع كل شيء موضعه وبيان حكمة الرب وعدله مع الايمان بالقدر هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان
ذكر المهدوي ثلاثة أقوال

وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة فقال إن علينا للهدى والضلال فحذف قتادة المعنى إن علينا بيان الحلال والحرام
وقيل المعنى إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى
قلت هذا هو قول القراء لكن عبارة القراء أبين في معرفة هذا القول
فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين
وأما الثاني فقد يقول طائفة ليس على الله شيء لا بيان هذا ولا هذا فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه كما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة الأنعام 6 54 وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين الروم 20 47 وقوله وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها هود 11 6
وإذا كان عليه بيان الهدى من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فهذا يوافق قول من يقول إن عليه ارسال الرسل وإن ذلك واجب عليه فإن البيان لا يحصل إلا بهذا
وهذا يتعلق بأصل آخر وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه أوجبته مشيئته وحكمته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاءه رجب وجوده وما لم يشأه امتنع وجوده وبسط هذا له موضع آخر
ودلالة الآيات على هذا فيها نظر
وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعا وأنه أرشد بها إلى الطريق المستقيم وهي الطريق القصد وهي الهدى إنما تدل عليه وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه
لكن نشأت الشبهة من كونه قال علينا بحرف الاستعلاء ولم يقل الينا والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال هذه الطريق إلى فلان وطن يمر به ويجتاز عليه أن يقول طريقنا على فلان

وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء
فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا كما قال تعالى يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه الانشقاق 84 6 وقال وإلى الله المصير آل عمران 3 28 النور 24 42 فاطر 35 18 ان الينا ايابهم الغاشية 88 25 أي الينا مرجعهم وقال وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنت تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا على الله مولاهم الحق الانعام 6 60 62 وقال أم لم ينبأ بما في ضعف موسى وابراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزيه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى النجم 53 36 42 وقال واما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فالينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون يونس 10 46 فأي سبيل سلكها العبد فالى الله مرجعه ومنتهاه لا بد له من لقاء الله ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى النجم 53 31
وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدى وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان وهذه سبيل من عبدالله وحده وأطاع رسله فلهذا قال إن علينا للهدى وعلى الله قصد السبيل قال هذا صراط علي مستقيم فالهدى وقصد السبيل والصراط المستقيم إنما يدل على عبادته وطاعته يدل على معصيته وطاعة الشيطان
فالكلام تضمن معنى الدلالة إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة فإن الجزاء يعم الخلق كلهم بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله ما الذي يدل على ذلك فكأنه قيل الصراط المستقيم يدل على الله على عبادته وطاعته
وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون هذه الطريق على فلان إذا كانت تدل

عليه وكان هو الغاية المقصودة بها وهذا غير كونها عليه بمعنى أن صاحبها يمر عليه وقد قيل ... هن المنايا أي واد سلكته ... عليها طريقي أو على طريقها ...
وهو كما قال الفراء من سلك الهدى فعلى الله سبيله
فالمقصود بالسبيل هو الذي يدل ويوقع عليه كما يقال ان سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود ونحو ذلك وكما يقال على الخبير سقطت فإن الغاية المطلوبه إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها
وأيضا فسالك طريق الله متوكل عليه فلا بد له من عبادته ومن التوكل عليه
فإذا قيل عليه الطريق المستقيم تضمن أن سالكه عليه يتوكل وعليه تدله الطريق وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط لا يعدل عن ذلك إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية
وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم فعليه الصراط المستقيم وهو على صراط مستقيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا والله أعلم آخر كلام شيخ الاسلام ابن تيمية فيما يتعلق بهذه السورة

سورة التين
فصل قوله في أسفل سافلين
وفي قوله أسفل سافلين قولان قيل الهرم وقيل العذاب بعد الموت وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعا فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين والناس نوعان فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين والمؤمن في عليين
وأما القول الأول ففيه نظر فإنه ليس كل من سوى المؤمنين يهرم فيرد إلى أسفل سافلين بل كثير من الكفار يموتون قبل الهرم وكثير من المؤمنين يهرم وإن كان حال المؤمن في الهرم أحسن حالا من الكافر فكذلك في الشباب حال المؤمن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف
ولهذا قال بعضهم إن الاستثناء منقطع على هذا القول وهو أيضا ضعيف فإن المنقطع لا يكون في الموجب ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أي استثناء شاء أنه منقطع وأيضا فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول والمؤمنون بعض نوع الانسان
وقد فسر ذلك بعضهم على القول الأول بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز قال ابراهيم النخعي إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل وهو قوله فلهم أجر غير ممنون وقال ابن قتيبة المعنى الا الذين

آمنوا في وقت القوة والقدرة فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات فإن الله يعلم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجري لهم أجر ذلك
فيقال وهذا أيضا ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ص - قال إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم
وفسره بعضهم بما روي عن ابن عباس أنه قال من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى ارذل العمر فيقال هذا مخصوص بقارىء القرآن والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرأوا القرآن أو لم يقرأوه وقد قال النبي ص - في الحديث الصحيح مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها
وأيضا فيقال هرم الحيوان ليس مخصوصا بالانسان بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم
وأيضا فالشيخ وان ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشاب ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردا إلى أسفل سافلين فإنه سبحانه إنما يصف الهرم بالضعف كقوله ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الروم 30 54 وقوله ومن نعمره ننكسه في الخلق يس 36 68 فهو يعيده إلى حال الضعف ومعلوم أن الطفل ليس هو في أسفل سافلين فالشيخ كذلك أولى
وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين لا في عليين كما قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار النساء 4 145
ومما يبين ذلك قوله فيما يكذبك بعد بالدين التين 95 7 فإنه يقتضي ارتباط هذا بما قبله لذكره بحرف الفاء ولو كان المذكور إنما هو رده إلى الهرم دون ما بعد

الموت لم يكن هناك تعرض الدين والجزاء بخلاف ما إذا كان المذكور أنه بعد الموت يرد إلى أسفل سافلين غير المؤمن المصلح فإن هذا يتضمن الخبر بأن الله يدين العباد بعد الموت فيكرم المؤمنين ويهيمن الكافرين
وأيضا فإنه سبحانه أقسم على ذلك بأقسام عظيمة بالتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين وهي المواضع التي جاء منها محمد والمسيح وموسى وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين
وهذا الاقسام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل واحد بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالأقسام فان اقسام الله وهو على أنباء الغيب
وفي نفس المقسم به وهو ارسال هؤلاء الرسل تحقيق للمقسم عليه وهو الثواب والعقاب بعد الموت لأن الرسل أخبروا ب
وهو يتضمن أيضا الجزاء في الدنيا كاهلاك من أهلكهم من الكفار فانه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصي كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه
وقوله فما يكذبك بعد الدين أي بالجزاء يتناول جزاءه على الأعمال في الدنيا والرزخ والآخرة إذا كان قد أقسم بأماكن هؤلاء المرسلين الذين أرسلوا بالآيات البينات الدالة على أمر الله ونهيه ووعده ووعيده مبشرين لأهل الايمان منذرين لأهل الكفر وقد أقسم بذلك على أن الانسان بعد أن جعل في أحسن تقويم ان آمن وعمل صالحا كان له أجر غير ممنون والا كان في أسفل سافلين

فتضمن السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم والاقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم فإن موضع الانسان إذا عظم لأجله كان هو أحق التعظيم ولهذا يقال في الكاتبات إلى المجلس والمقر ونحو ذلك السامي والعالي ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه
فلما قال فما يكذبك بعد بالدين دل على أن ما تقدم قد بين فيه ما يمنع التكذيب بالدين
وفي قوله يكذبك قولان قيل هو خطاب للإنسان كما قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ولم يذكر البغوي غيره قال عكرمة يقول فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك وعن مقاتل فما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء وزعم أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة
والثاني أنه خطاب للرسول وهذا أظهر فإن الانسان إنما ذكر مخبرا عنه لم يخاطب والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن والخطاب في هذه السور له كقوله وما ودعك ربك وما قلى وقوله ألم نشرح لك صدرك وقوله اقرأ باسم ربك
والانسان إذا خوطب قيل له يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا
وأيضا فبتقدير أن يكون خطابا للانسان يجب أن يكون خطابا للجنس كقوله يا أيها الانسان أنك كادح وعلى قول هؤلاء أنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين
وأيضا فان قوله يكذبك بالدين أي يجعلك كاذبا هذا هو المعروف من لغة العرب فإن استعمال كذب غيره أي نسبه إلى الكذب وجعله كاذبا مشهور والقرآن مملوء من هذا وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل أو التكذيب بالحق ونحو ذلك فهذا مراده
لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال يكذبك بالدين فذكر المكذب بالدين فذكر المكذب والمكذب به جميعا وهذا قليل جاء نظيره في قوله فقد كذبوكم بما تقولون الفرقان 25 19 فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما اما المكذب كقوله كذبت قوم نوح المرسلين وأما المكذب به كقوله بل كذبوا بالساعة وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل

ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للانسان وفسر معنى قوله فما يكذبك فما يجعلك مكذبا
وعبارة آخرين فما يجعلك كذابا قال ابن عطية وقال جمهور من المفسرين المخاطب الانسان الكافر أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين تجعل لله أندادا وتزعم أنه لا بعث بعد هذه الدلائل
قلت وكلا القولين غير معروف في لغة العرب أن يقول كذبك أي جعلك مكذبا بل كذبك جعلك كذابا
وما قيل جعلك كاذبا أي كاذبا فيما يخبر به كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم وهذا يقول جعلك كاذبا بالدين فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد وهذا ضد الذي ينكر
ذاك جعله مكذباا بالدين وهذا جعله كاذبا بالدين والأول فاسد من جهة العربية والثاني فاسد من جهة المعنى فان الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر والكافر كذب به لم يكذب هو به
وأيضا فلا يعرف في الخبر أن يقال كذبت به بل يقال كذبته
وأيضا فالمعروف في كذبه أي نسبه إلى الكذب لا أنه جعل الكذب فيه فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة بل المعروف خلافه وهو لم يقل فما يكذبك ولا قال فما كذبك
ولهذا كان علماء العربية على القول الثاني قال ابن عطية واختلف في المخاطب بقوله فما يكذبك فقال قتادة والفراء والأخفش هو محمد ص - قال الله له فما

الذي يكذبك فيما تخبربه من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت
قال ويحتمل أن يكون على هذا التأويل جميع شرعه ودينه
قلت وعلى أن المخاطب محمد ص - في المعنى قولان أحدهما قول قتادة قال فما يكذبك بعد بالدين أي استيقن فقد جاءك البيان من الله وهكذا رواه عنه ابن أبي حاتم باسناد ثابت
وكذلك ذكره المهدوي فما يكذبك بعد بالدين أي استيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين فالخطاب للنبي ص - وقال معناه عن قتادة قال وقيل المعنى فما يكذبك أيها الشاك يعني الكفار في قدرة الله أي شيء يحملك على ذلك بعد ما تبين لك من قدرته قال وقال الفراء فمن يكذبك بالثواب والعقاب وهو اختيار الطبري
قلت هذا القول المنقول عن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبي ص - كما روى الناس ومنهم ابن أبي حاتم عن الثوري عن منصور قال قلت لمجاهد فما يكذبك بعد بالدين عنى به النبي ص - قال معاذ الله عني به الانسان
وقد أحسن مجاهد في تنزيه النبي ص - أن يقال له فما يكذبك أي استيقن ولا تكذب فإنه لو قيل له لا تكذب لكان هذا من جنس أمره بالايمان والتقوى ونهيه عما نهى الله عنه وأما إذا قيل فما يكذبك بعد بالدين فهو لم يكذب بالدين بل هو الذي أخبر بالدين وصدق به لهو الذي جاء بالصدق وصدق به الزمر 39 33 فكيف يقال له ما يكذبك بعد بالدين فهذا القول فاسد لفظا ومعنى
واللفظ الذي رأيته مقولا بالاسناد عن قتادة ليس صريحا فيه بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الانسان فإنه قال فما يكذبك بعد بالدين قال استيقن فقد جاءك البيان وكل انسان مخاطب بهذا فإن كان قتادة أراد هذا فالمعنى صحيح
لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول ص - وعلى هذا فهذا المعنى باطل فلا يقال للرسول فأي شيء يجعلك مكذبا بالدين وان ارتأت به النفس لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده ولهذا استعاذ منه مجاهد
والصواب ما قاله الفراء والأخفش وغيرهما وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري وغيره من العلماء كما تقدم

وكذلك ذكره أبو الفرج بن الجوزي عن الفراء فقال انه خطاب للنبي ص - والمعنى فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الانسان على ما وصفنا قاله الفراء
قال وأما الدين فهو الجزاء قلت وكذلك قل غير واحد كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي فما يكذبك بعد بالدين أي بالحساب
ومن تفسير العوفي عن ابن عباس أي بحكم الله قلت قال بحكم الله لقوله أليس الله بأحكم الحاكمين وهو سبحانه يحكم بين المصدق بالدين والمكذب به
وعلى هذا قوله فما وصف للأشخاص ولم يقل فمن لأن ما يراد به الصفات دون الأعيان وهو المقصود كقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله لا أعبد ما تعبدون وقوله ونفس ما سواها كأنه قيل فما المكذب بالدين بعد هذا أي من هذه صفته ونعته هو جاهل ظالم لنفسه والله يحكم بين عباده فيما يختلفون فيه من هذا النبأ العظيم
وقوله بعد قد قيل انه بعد ما ذكر من دلائل الدين
وقد يقال لم يذكر الا الاخبار به وأن الناس نوعان في أسفل سافلين ونوع لهم أجر غير ممنون فقد ذكر البشارة والنذارة والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين
فمن كذبك بعد هذا فحكمة إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه
وقوله فما يكذبك ليس نفيا للتكذيب فقد وقع بل قد يقال انه تعجب منه كما قال وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد الرعد 13 5
وقد يقال ان هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه كما يقال من فلان ومن يقول هذا الا جاهل لكنه ذكر بصيغة ما فإنها تدل على صفته وهي المقصودة اذ لا غرض في عينه كأنه قيل فأبي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين
وقوله أليس الله بأحكم الحاكمين يدل على أنه الحاكم بين المكذب بالدين والمؤمن به والأمر في ذلك له سبحانه وتعالى

والقرآن لا تنقضي عجائبه والله سبحانه بين مراده بيانا أحكمه لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة فان هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي
ومنها أن قوله فما يكذبك بعد بالدين ذكر فيه الرسول المكذب والدين المكذب به جميعا فإن السورة تضمنت الأمرين تضمنت الاقسام بأماكن الرسل المبينة لعظمتهم وما أتوا به من الآيات الدالة على دقهم الموجبة للايمان وهم قد أخبروا بالمعاد المذكور في هذه السورة
وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله زعم الذين كفروا أن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن التغابن 64 7 وقوله وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم سبأ 34 3
فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب فقال فما يكذبك بعد بالدين والله سبحانه أعلم
وأيضا فإنه لا ذنب له في ذلك والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه ولهذا قال إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات كما قال ان الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر العصر 103 2 و3
لكن هنا ذكر الخسر فقط فوصف المستثنين بأنه تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الايمان والصلاح وهناك ذكر أسفل سافلين وهو العذاب والمؤمن المصلح لا يعذب وان كان قد ضيع أمورا خسرها لو حفظها لكان رابحا غير خاسر وبسط له موضع آخر

والمقصود هنا أنه سبحانه يذكر خلق الانسان مجملا ومفصلا
وتارة يذكر احياءه كقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون البقرة 2 28 وهو كقول الخليل عليه السلام ربي الذي يحيى ويميت البقرة 2 258
فان خلق الحيوة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة والنعمة والحكمة آخر كلام الشيخ على سورة والتين

أقسام الكتاب
1 2 3