كتاب: دقائق التفسير
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
كتاب دقائق التفسير
فصل
قال الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة سورة البقرة 5 قال علي بن أبي طالب الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإن انقطع الرأس بار الجسد ألا لا إيمان لمن لا صبر لهفالصبر على أداء الواجبات ولهذا قرنه بالصلاة في أكثر من خمسين موضعا فمن كان لا يصلي من جميع الناس رجالهم ونسائهم فإنه يؤمر فإن امتنع عوقب بإجماع المسلمين ثم أكثرهم يوجبون قتل تارك الصلاة وهل يقتل كافرا مرتدا أو فاسقا على قولين في مذهب أحمد وغيره والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الاقرار بالوجوب فإنه مع حجود الوجوب فهو كافر بالاتفاق
ومن ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم وامرهم بأن يصلوا بهم النبي ص - حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي رواه البخاري وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر وقال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي
فعلى إمام الصلاة أن يصلي بالناس صلاة كاملة لا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه إلا لعذر وكذلك على إمامهم في الحج وأميرهم في الحرب ألا ترى الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله وهو في مال نفسه يفوت على نفسه ما شاء فأمر الدين أهم ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح الدين للطائفتين والدنيا وإلا اضطربت الأمور عليهم جميعا
وملاك ذلك حسن النية للرعية وإخلاص الدين كله لله عز و جل والتوكل عليه فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا أن نقول في صلاتنا إياك نعبد وإياك نستعين فهاتان الكلمتان قد قيل إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء
وروى أنه صلى الله عليه و سلم كان مرة في غزاة فقال يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها
وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله عز و جل فاعبده وتوكل عليه سورة هود 123 وقوله عليه توكلت وإليه أنيب سورة هود 88 سورة الشورى 10 وكان صلى الله عليه و سلم إذا ذبح أضحيته قال منك وإليك
وأصل ذلك المحافظة عل الصلوات بالقلب والبدن والإحسان إلى الناس بالنفع والمال
الذي هو الزكاة والصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية وإذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة عرف ما يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه وفي الزكاة من الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثه الملهوف وقضاء حاجة المحتاج وفي الصحيح عن النبي ص - قال كل معروف صدقة فيدخل فيه كل إحسان ولو ببسط الوجه والكلمة الطيبة
ففي الصحيح عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله ص - ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فيستقبل النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة
وفي السنن لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق وفي رواية ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقى
وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الأشر والبطر كما قال تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الدين صبروا وعملوا الصالحات الآية سورة هود 9 11
وروى الحسن البصري إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العلق الا ليقم من
أجره على الله فلا يقوم الا من عفا وأصلح
وليس من حسن النية للرعية والإحسان اليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه قال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن سورة المؤمنون 71 وقال لأصحاب نبيه صلى الله عليه و سلم واعملوا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتهم سورة الحجرات 7
وقال الشيخ الاسلام رحمه الله تعالى
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب في التفسير الا ما هو الخطأ فيهامنها قوله إن الذين آمنوا والذين هادوا الآيتين فهو سبحانه وصف أهل السعادة من الأولين والآخرين وهو الذي يدل عليه اللفظ ويعرف به معناه من غير تناقض ومناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المعروف عند السلف ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها بالأسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال سلمان سألت النبي ص - عن أهل دين كنت معهم فذكر من عبادتهم فنزلت الآية ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار كما روى بأسانيد ضعيفة وهذا هو الصحيح كما في مسلم إلا بقايا من أهل الكتاب
والنبي ص - لم يكن بما لا علم عنده وقد ثبت أنه أثنى على من مات في الفترة كزيد بن عمرو وغيره ولم يذكر ابن أبي حاتم خلافا عن السلف لكن ذكر عن ابن عباس ثم أنزل الله ومن يبتع غير الإسلام دينا الآية ومراده أن الله يبين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين
وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يظن أن الآية دالة عليه فإن من المعلوم ان من كذب رسولا واحدا فهو كافر فلا يتناوله قوله من آمن بالله الخ
وظن بعض الناس ان الآية فيمن بعث إليهم محمدا ص - خاصة فغلطوا ثم افترقوا على أقوال متناقضة
فصل قال الشيخ الإسلام
فذكر سبحانه قصة مريم والمسيح في هذه السورة المكية التي أنزلها في أول الأمر بمكة في السور التي ذكر فيها أصول الدين التي اتفق عليها الأنبياء ثم ذكرها في سورة آل عمران وهي من السور المدينة التي يخاطب فيها من اتبع الأنبياء من أهل الكتاب والمؤمينن لما قدم عليه نصارى نجران فكان فيها الخطاب لأهل الكتاب فقال تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت أمرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أن السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ص - أنه قال ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم وإني أعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم
قال تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
ثم ذكر قصة زكريا ويحيى ثم قال هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء . . . . . الآيات من سورة آل عمران 38 - 68
فهو سبحانه قد ذكر قصة مريم والمسيح في هاتين السورتين
إحداهما مكية نزلت في أول الأمر مع السور المهدة لأصول الدين وهي سورة كهيعص
والثانية مدنية نزلت بعد أن أمر بالهجرة والجهاد ولهذا تضمنت مناظرة أهل الكتاب ومباهلتهم كما نزلت في براءة مجاهدتهم فأخبر في السور المكية أنها لما انفردت للعبادة أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا
قال أبو وائل علمت أن المتقي ذو نهيه أي تقواه ينهاه عن الفاحشة وأنها خافت منه أن يكون قصده الفاحشة فقالت أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا أي تتقي الله وما يقول بعض الجهال من أنه كان فيهم رجل فاجر اسمه تقي فهو من نوع الهذيان وهو من الكذب الظاهر الذي لا يقوله إلا جاهل ثم قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
وفي القراءة الأخرى ولأهب لك غلاما ذكيا فأخبر هذا الروح الذي تمثل لها بشرا سويا أنه رسول ربها فدل الكلام على أن هذا الروح عين قائمة بنفسها ليست صفة لغيرها وأنه رسول الله ليس صفة من صفات الله ولهذا قال جماهير العلماء إنه جبريل عليه السلام فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل وهكذا عند أهل الكتاب أنه تجسد من مريم ومن روح القدس لكن ضلالهم حيث يظنون أن روح القدس حياة الله وأنه إله يخلق ويرزق ويعبد وليس في شيء من الكتب الإلهية ولا في كلام الأنبياء أن الله سمى صفته القائمة به روح القدس ولا سمى كلامه ولا شيئا من صفاته ابنا وهذا أحد ما تبين به ضلال النصارى وأنهم حرفوا كلام الأنبياء وتأولوه على غير ما أرادت به الأنبياء فإن أصل تثليثهم مبني على ما في أحد الأناجيل من أن المسيح عليه السلام قال لهم عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس فيقال لهم هذا إذا كان قد قاله المسيح وليس في لغة المسيح ولا لغة أحد الأنبياء أنهم يسمون صفة الله القائمة به لا كلمته ولا حياته لا ابنا ولا روح قدس ولا يسمون كلمته ابنا ولا يسمونه نفسه ابنا ولا روح قدس ولكن يوجد فيما ينقلونه عنهم أنهم يسمون المصطفى المكرم ابنا وهذا موجود في حق المسيح وغيره كما يذكرون أنه قال تعالى لإسرائيل أنت ابني بكري أي بني إسرائيل وروح القدس يراد به الروح التي تنزل على الأنبياء كما نزلت على داود وغيره فإن في كتبهم أن روح القدس كانت في داود وغيره وأن المسيح قال لهم أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فسماه أبا للجميع لم يكن المسيح مخصوصا عندهم باسم الابن ولا يوجد عندهم لفظ الابن إلا اسما للمصطفى المكرم لا اسما لشيء من صفات الله القديمة حتى يكون الابن صفة الله تولدت منه وإذا كان كذلك كان في هذا ما يبين أنه ليس المراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية التي يقولون
أنها تولدت من الله عندهم مع كونها أزلية ولا بروح القدس حياة الله بل المراد بالابن ناسوت المسيح وبروح القدس ما أنزل عليه من الوحي والملك الذي أنزل به فيكون قد أمرهم بالايمان بالله وبرسوله وبما أنزله على رسوله والملك الذي نزل به وبهذا الذي نزل به وبهذا أمرت الأنبياء كلهم وليس للمسيح خاصة استحق بها أن يكون فيه شيء من اللاهوت لكن ظهر فيه نور الله وكلام الله وروح الله كما ظهر في غيره من الأنبياء والرسل
ومعلوله أن غيره أيضا فيما ينقلونه عن الأنبياء يسمى ابنا وروح القدس حلت فيه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على أن كلام الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضه بعضا وأنه ليس مع النصارى حجة سمعية ولا عقلية توافق ما ابتدعوه ولكن فسروا كلام الأنبياء بما لا يدل عليه وعندهم في الإنجيل أنه قال إن الساعة لا يعلمها الملائكة ولا الابن وإنما يعلمها الأب وحده فبين أن الابن لا يعلم الساعة فعلم أن الابن ليس هو القديم الأزلى وإنما هو المحدث الزماني
فصل موقف الأمم من الرسل
وأما قوله تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامةفهذا حق كما أخبر الله به فمن اتبع المسيح عليه السلام جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل قد جعلهم الله فوق اليهود أيضا فالنصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة
وأما المسلمون فهم مؤمنون به ليسوا كافرين به بل لما بدل النصارى دينه وبعث الله محمدا ص - بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ص - أنه قال إنا معاشر
الأنبياء دينا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا لأنه ليس بيني وبينه نبي
قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين
وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله كان أحق بنصر الله تعالى فإن الله تعالى يقول في كتابه إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
وقال في كتابه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
اليهود كذبوا الرسل
واليهود كذبوا المسيح ومحمدا ص - كما قال الله فيهم بئسما اشتروا به انفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء عباده فباءوا بغضب على غضبفالغضب الأول تكذيبهم المسيح والثاني محمدا ص - والنصارى لم يكذبوا المسيح وكانوا منصورين على اليهود والمسلمون منصورون على اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بجميع كتب الله ورسله ولم يكذبوا بشيء من كتبه ولا كذبوا أحدا من رسله بل اتبعوا ما قال الله لهم حيث قال قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
المسلمون أتباع جميع الرسل
ولما كان المسلمون هم المتبعون لرسل الله كلهم المسيح وغيره وكان الله قد وعد الرسل وأتباعهم قال النبي ص - في الحديث الصحيح لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال أيضا سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها الحديث فكان ما احتجوا به حجة عليهم لا لهمفصل
وأما قوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى بل هي مذكورة بعد قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ومعلوم أن الصفة المذكورة في قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق صفة لليهود وكذلك قوله ضربت عليهم الذلة والمسكنة
فقوله عقب ذلك من أهل الكتاب أمة قائمة لا بد أن يكون متناولا لليهود ثم قد اتفق المسلمون والنصارى على أن اليهود كفروا بالمسيح ومحمد ص - ليس فيهم مؤمن وهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد ص - والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي ص - لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ص - ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل إن النبي ص - إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم
ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمنا بالنبي ص - بمنزلة من يؤمن بالنبي ص - في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الاسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون
قال تعالى وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات
الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع الى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زينا لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني الى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا فرعون أشد العذاب فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك امرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال تعالى وضرب الله مثلا الذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين وامرأة الرجل من آله بدليل قوله إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين
وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في باطن يؤمن بالله ورسوله محمد ص - يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن إما يهودي وإما مشرك وإما معطل
كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن أهل الإيمان
بمحمد ص - يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط عنه ما يعجز عنه من ذلك
وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال لما مات النجاشي قال النبي ص - استغفروا لأخيكم فقال بعض القوم تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ذكره ابن أبي حاتم وغيره باسانيدهم وذكر حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله ص - قال استغفروا لأخيكم النجاشي فذكر مثله
وكذلك ذكر طائفة من المفسرين عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة أنهم قالوا نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل للنبي ص - في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله ص - لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم فقالوا ومن هو قال النجاشي فخرج رسول الله ص - إلى البقيع وزاد بعضهم وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه استغفروا له فقال المنافقون أبصروا الى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنها نزلت فيمن كان على دين المسيح عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا ص - فآمن به كما نقل ذلك عن عطاء
وذهبت طائفة إلى أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم
والقول الأول أجود فإن من آمن بمحمد ص - وأظهر الإيمان به وهو من أهل دار الإسلام يعمل بما يعمله المسلمون ظاهرا وباطنا فهذا من المؤمنين وإن كان قبل ذلك مشركا يعبد الأوثان فكيف إذا كان كتابيا وهذا مثل عبدالله بن سلام وسلمان الفارسي
وغيرهما وهؤلاء لا يقال إنهم من أهل الكتاب كما لا يقال في المهاجرين والأنصار إنهم من المشركين وعباد الأوثان ولا ينكر أحد من المنافقين ولا غيرهم أن يصلي على واحد منهم بخلاف من هو في الظاهر منهم وفي الباطن من المؤمنين وفي بلاد النصارى من هذا النوع خلق كثير يكتمون إيمانهم إما مطلقا وإما يكتمونه عن العامة ويظهرونه لخاصتهم وهؤلاء قد يتناولهم قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية فهؤلاء لا يدعون الإيمان بكتاب الله ورسوله لأجل مال يأخذونه كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله فيمنعونهم من الإيمان بمحمد ص -
وأما قوله من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون كتاب الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فهذه الآية تتناول اليهود أقوى مما تتناول النصارى ونظيره قوله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون هذا مدح مطلق لمن تمسك بالتوراة ليس في ذلك مدح لمن كذب المسيح ولا فيها مدح لمن كذب محمدا ص -
وهذا الكلام تفسير سياق الكلام فإنه قال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ثم قال تعالى ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون فقد جعلهم نوعين نوعا مؤمنين ونوعا فاسقين وهم أكثرهم لقوله تعالى منهم المؤمنون يتناول من كان مؤمنا قبل مبعث محمد ص - كما يتناولهم قوله تعالى وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة إلى قوله وكثير منهم فاسقون وكذلك قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون
وقوله عن إبراهيم الخليل وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ثم قال وأكثرهم الفاسقون قال لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم
يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وضرب الذلة عليهم أينما ثقفوا ومباؤهم بغضب من الله الآية وما ذكر معه من قتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم واعتدائهم كان اليهود متصفين به قبل مبعث محمد ص - كما قال تعالى في سورة البقرة وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال بعد ذلك إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فتناولت هذه الآية من كان من أهل الملل الأربع متمسكا بها قبل النسخ بغير تبديل كذلك آية آل عمران لما وصف أهل الكتاب بما كانوا متصفا به أكثرهم قبل محمد ص - من الكفر قال ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
وهذا يتناول من كان متصفا منهم بهذا قبل النسخ فإنهم كانوا على الدين الحق الذي لم يبدل ولم ينسخ كما قال في الأعراف ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين وقد قال تعالى مطلقا وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
فهذا خبر من الله عمن كان متصفا بهذا الوصف قبل مبعث محمد ص - ومن أدرك من هؤلاء محمدا ص - فآمن به كان له أجره مرتين
فصل في
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدمدعوى النصارى في المسيح
قالوا وقال أيضا في موضع آخر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب فأعنى بقوله مثل عيسى إشارة إلى الناسوت المؤخوذ من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقطوكما أن آدم خلق من غير جماع ومباضعة فكذلك جسد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة وكما أن جسد آدم ذاق الموت فكذلك جسد المسيح ذاق الموت وقد يبرهن بقوله أيضا قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الخالقة حلت في مريم وتجسدت بإنسان كامل
وعلى هذاالمثال نقول في السيد المسيح طبيعتان
طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه
وطبيعة ناسوتية التي اخذت من مريم العذراء واتحدت به ولما تقدم به القول من الله تعالى على لسان موسى النبي إذ يقول أليس هذا الأب الذي خلقك وبرأك واقتناك قيل وعلى لسان داود النبي روحك القدس لا تنزع مني وأيضا على لسان داود النبي بكلمة الله تشددت السموات وبروح فاه جميع أفواههن وليس يدل هذا القول على ثلاثة خالقين بل خالق واحد الأب ونطقه أي كلمته وروحه أي حياته
الرد عليهم حقيقة القول في عيسى والجواب من وجوه
أحدها أن قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته
فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى
وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى كما قال وخلق منها زوجها
وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر
وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى
وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح فإن حواء خلقت من ضلع آدم وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم وخلق آدم أعجب من هذا وهذا وهو أصل خلق حواء
فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان
وهو سبحانه خلق آدم من تراب ثم قال له كن فيكون لما نفخ فيه من روحه فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له كن فيكون ولم يكن آدم بما نفخ فيه من روحه لاهوتا وناسوتا بل كله ناسوت فكذلك المسيح كله ناسوت والله تبارك وتعالى ذكر هذه الآية في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى لما قدم على النبي ص - نصارى نجران وناظروه في المسيح وأنزل الله فيه ما أنزل فبين قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى فكذب الله الطائفتين هؤلاء في غلوهم فيه وهؤلاء في ذمهم له
وقال عقب هذه الآية فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وقد امثثل النبي ص - قول الله فدعاهم إلى المباهلة فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم
لعنته فأقروا بالجزية وهم صاغرون ثم كتب النبي ص - الى هرقل ملك الروم بقوله تعالى يا أهل الكتاب تعالوا إلى آخرها وكان أحيانا يقرأ بها في الركعة الثانية من ركعتي الفجر ويقرأ في الأولى بقوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وهذا كله يبين أن المسيح عبد ليس بإله وأنه مخلوق كما خلق آدم وقد أمر أن يباهل من قال أنه إله فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المختص به ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء ويدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين فإن كان النصارى كاذبين في قولهم هو الله حقت اللعنة عليهم وإن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذبا حقت اللعنة عليه وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق
والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق نكلوا عن المباهلة وقد قال عقب ذلك إن هذا لهو القصص الحق وما من لا إله إلا الله تكذبيا للنصارى الذين يقولون هو إله حق من إله حق فكيف يقال أنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت وأن هذا هو الناسوت فقط دون اللاهوت
وبهذا ظهر الجواب عن قولهم قال في موضع آخر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فأعنى بقوله عيسى أشار الى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر الناسوت ها هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط فإنه يقال عيسى هو المسيح بدليل أنه قال ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فأخبر أنه ليس المسيح إلا رسولا ليس هو بإله وأنه ابن مريم والذي هو ابن مريم هو الناسوت وقال إنما المسيح
عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا الله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
وقال تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله انى يؤفكون
وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا
الوجه الثاني
أن ما ذكروه من موته قد بينا أن الله لم يذكر ذلك وأن المسيح لم يمت بعد وما ذكروه من أنه صلب ناسوته دون لاهوته باطل من وجهين إن ناسوته لم يصلب وليس فيه لاهوت وهم ذكروا ذلك دعوى مجردة فيكفي في مقابلتها المنعالوجه الثالث
ولكن نقول في الوجه الثالث إنهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تارة باتحاد الماء باللبن وهذا تشبيه اليعقوبية وتارة باتحاد النار بالحديد أو النفس بالجسم وهذا تشبيه الملكانية وغيرهمومعلوم أنه لا يصل إلى الماء إلا وصل إلى اللبن فإنه لا يتميز أحدهما عن الآخر وكذلك النار التي في الحديد متى طرق الحديد أو بصق عليه لحق ذلك بالنار التي فيه والبدن إذا ضرب وعذب لحق ألم الضرب والعذاب للنفس فكأن حقيقة تمثيلهم يقتضي أن اللاهوت أصابه ما أصاب الناسوت من إهانة اليهود وتعذيبهم وإتلافهم له والصلب الذي ادعوه
وهذا لازم على القول بالاتحاد فإن الاتحاد لو كان ما يصيب أحدهما لا يشركه الآخر فيه لم يكن هنا اتحاد بل تعدد
الوجه الرابع
أن هؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السموات والأرض متحدا ببشر في جوف امرأة وجعلوه له مسكنا ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه بين لصين وهو في ذلك يستغيث بالله ويقول إلهي إلهي لم تركتني وهم يقولون الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت كما سمع موسى كلام الله من الشجرة ويقولون هما شخص واحد ويقول بعضهم لهما مشيئة واحدة وطبيعة واحدةوالكلام إنما يكون بمشيئة المتكلم فيلزم أن يكون المتكلم الداعي المستغيث المصلوب هو اللاهوت هو المستغيث المتضرع وهو المستغاث به وأيضا فهم يقولون إن اللاهوت والناسوت شخص واحد فمع القول بأنهما شخص واحد إما أن يكون مستغيثا وإما أن يكون مستغاثا به وإما أن يكون داعيا وإما أن يكون مدعوا فإذا قالوا إن الداعي هو غير المدعو لزم أن يكون اثنين لا واحدا وإذا قالوا هما واحد فالداعي هو المدعو
الوجه الخامس
أن يقال لا يخلو الأمر ان يقولوا إن اللاهوت كان قادرا على دفعهم عن ناسوته وإما أن يقولوا لم يكن قادرا فإن قالوا لم يكن قادرا لزم أن يكون أولئك اليهود أقدر من رب العالمين وأن يكون رب العالمين مقهورا مأسورا مع قوم من شرار اليهود وهذا من أعظم الكفر والتنقص برب العالمين وهذا أعظم من قولهم إن لله ولدا وإنه بخيل وإنه فقير ونحو ذلك مما سب به الكفار رب العالمينوإن قالوا كان قادرا فإن كان ذلك من عدوان الكفار على ناسوته وهو كاره لذلك فسنة الله في مثل ذلك نصر رسله المستغيثين به فكيف لم يغث ناسوته المستصرخ به هذا بخلاف من قتل من النبيين وهو صابر فإن أولئك صبروا حتى قتلوا شهداء والناسوت عندهم استغاث وقال إلهي إلهي لماذا تركتني وإن كان هو قد فعل ذلك مكرا كما يزعمون أنه مكر بالشيطان وأخفى نفسه حتى يأخذه بوجه حق فناسوته أعلم بذلك من جميع الخلق فكان الواجب أن لا يجزع ولا يهرب لما في ذلك من الحكمة وهم يذكرون من جزع الناسوت وهربه ودعائه ما يقتضي أن كل ما جرى عليه كان بغير اختياره ويقول بعضهم مشيئتهما واحدة فكيف شاء ذلك وهرب مما يكرهه الناسوت بل لو يشاء اللاهوت ما يكرهه كانا متباينين وقد اتفقا على المكر بالعدو لم يجزع الناسوت كما جرى ليوسف مع أخيه لما
وافقه على أنه يجعل الصوامع في رحله ويظهر أنه سارق لم يجزع أخوه لما ظهر الصوامع في رحلة كما جزع إخوته حيث لم يعلموا وكثير من الشطار العيارين يمسكون ويصلبون وهم ثابتون صابرون فما بال هذا يجزع الجزع العظيم الذي يصفون به المسيح وهو يقتضي غاية النقص العظيم مع دعواهم فيه الإلهية
الوجه السادس
قولهم إنه كلمته وروحه تناقض منهم لأن عندهم أقنوم الكلمة فقط لا أقنوم الحياةالوجه السابع
قولهم وقد برهن بقوله رأينا أيضا في موضع آخر قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم واتحدت بإنسان كاملفيقال لهم أما قول الله في القرآن فهو حق ولكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء وما بلغوه عن الله وذلك أن الله تعالى قال إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق ليس هو ما يقوله النصارى منها أنه قال بكلمة منه وقوله بكلمة منه نكرة في الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات الله ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى
ومنها أنه بين مراده بقوله بكلمة منه وأنه مخلوق حيث قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
كما قال في الآية الأخرى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
وقال تعالى في سورة كهيعص ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له كن فيكون وهذا تفسير كونه كلمة منه وقال اسمه المسيح عيسى بن مريم أخبر أنه ابن مريم وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين وهذه كلها صفة مخلوق والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك وقالت مريم أنى يكون لي ولد فبين أن المسيح الذي هو الكلمة هو ولد مريم لا ولد الله سبحانه وتعالى
وقال في سورة النساء يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم وأن يقولوا على الله غير الحق وبين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله فبين أنه رسوله ونهاهم أن يقولوا ثلاثة وقال انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد وهذا تكذيب لقولهم في المسيح أنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ثم قال سبحانه أن يكون له ولد فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى ثم قال له ما في السموات وما في الأرض فأخبر أن ذلك ملك ليس له فيه شيء من ذاته ثم قال لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا الله ولا الملائكة المقربون أي لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى فمع ذلك البيان الواضح الجلي هل يظن ظان أن مراده بقوله وكلمته أنه إله خالق أو أنه صفة لله قائمة به وأن قوله وروح منه المراد به أنه حياته أو روح منفصلة من ذاته
ثم نقول أيضا أما قوله وكلمته فقد بين مراده أنه خلقه ب كن وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقا لقوله هذا خلق الله ويقال درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ولهذا يسمى المأمور به أمرا والمقدور قدرة وقدرا والمعلوم علما والمرحوم به رحمة
كقوله تعالى وكان أمر الله قدرا مقدورا وقوله أتى أمر الله فلا تستعجلوه
وقال النبي ص - يقول الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي وقال إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فيها تتراحم الخلق ويتعاطفون وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه الى تلك فرحم بها الخلق ويقال للمطر والآيات هذه قدرة عظيمة ويقال غفر الله لك علمه فيك أي معلومه فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الرد علىالجهمية وذكره غيره أن النصارى الحلولية والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة فقالت النصارى القرآن كلام الله غير مخلوق والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق وقالت الجهمية المسيح كلمة الله وهو مخلوق والقرآن كلام الله فيكون مخلوقا
وأجاب أحمد وغيره بأن المسيح نفسه ليس هو كلاما فإن المسيح إنسان وبشر مولود من امرأة وكلام الله ليس بإنسان ولا بشر ولا مولود من امرأة ولكن المسيح خلق بالكلام وأما القرآن فهو نفسه كلام الله فأين هذا من هذا
وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وما من عاقل إذا سمع قوله تعالى في المسيح عليه السلام إنه كلمته ألقاها الى مريم إلا يعلم أن المراد لا أن المسيح نفسه كلام الله ولا أنه صفة لله ولا خالق ثم يقال للنصارى فلو قدر أن المسيح نفس الكلام ليس بخالق فإن القرآن كلام الله وليس بخالق والتوراة كلام الله وليست بخالقة وكلمات الله كثيرة وليس منها شيء خالق فلو كان المسيح نفس الكلام لم يجز أن يكون خالقا فكيف وليس هو الكلام وإنما خلق بالكلمة وخص باسم الكلمة فإنه لم يخلق على الوجه المعتاد الذي خلق عليه غيره بل خرج عن العادة فخلق بالكلمة من غير السنة المعروفة بالبشر
وقوله بروح منه لا يوجب أن يكون منفصلا من ذات الله كقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه
وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
وقال تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة
فالمسيح الذي هو روح من تلك الروح أولى أن يكون مخلوقا قال تعالى فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
وقد قال تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين فأخبر أنه نفخ في مريم من روحه كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه وقد بين أنه أرسل إليها روحه
فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته
فهذا الروح الذي أرسله الله إليها ليهب لها غلاما زكيا مخلوق وهو روح القدس الذي خلق المسيح منه ومن مريم فإذا كان الأصل مخلوقا فكيف الفرع الذي حصل به وهو روح القدس وقوله عن المسيح وروح منه خص المسيح بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح فحبلت به من ذلك النفخ وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر فامتاز بأنها حبلت
به من نفخ الروح فلهذا سمي روحا منه
ولهذا قال طائفة من المفسرين روح منه أي رسول منه فسماه باسم الروح الذي هو الرسول الذي نفخ فيها فكما يسمى كلمة يسمى روحا لأنه كون بالكلمة لا كما يخلق الآدميون غيره ويسمى روحا لأنه حبلت به أمه بنفخ الروح الذي نفخ فيها لم تحبل من ذكر كغيره من الآدميين وعلى هذا فيقال لما خلق من نفخ الروح ومن مريم سمى روحا بخلاف سائر الآدميين فإنه يخلق من ذكر وأنثى ثم ينفخ فيه من الروح بعد مضي أربعة أشهر
والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ولو اقتصروا على هذا وفسروا روح القدس بالملك الذي نفخ فيها وهو روح الله لكان هذا موافقا لما أخبر الله به لكنهم جعلوا روح القدس حياة الله وجعلوه ربا وتناقضوا في ذلك فإنه على هذا كان ينبغي فيه أقنومان أقنوم الكلمة وأقنوم الروح
وهم يقولون ليس فيه ألا أقنوم الكلمة وكما يسمى المسيح كلمة لأنه خلق بالكلمة يسمى روحا لأنه حل به الروح فإن قيل فقد قال في القرآن والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك وقال تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
وقد قال أئمة المسلمين وجمهورهم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وقال في المسيح وروح منه قيل هذا بمنزلة سائر المضاف إلى الله إن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة فيها كان مخلوقا وإن كان صفة مضافة إلى الله كعلمه وكلامه ونحو ذلك كان إضافة صفة وكذلك ما منه إن كان عينا قائمة تعين بغيرها كما في السموات والأرض والنعم والروح الذي أرسلها الى مريم وقال إنما أنا رسول ربك كان مخلوقا وإن كان صفة لا تقوم بنفسها ولا يتصف بها المخلوق كالقرآن لم يكن مخلوقا فإن ذلك قائم بالله وما يقوم بالله لا يكون مخلوقا
والمقصود هنا بيان بطلان احتجاج النصارى وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله وإنما تمسكوا بآيات متشابهات وتركوا المحكم كما أخبرا الله عنهم بقوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء وابتغاء تأويله والآية نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعا ثم قال وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وفيها قولان وقراءتان منهم من يقف عند قوله إلا الله ويقول الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله
ومنهم من لا يقف بل يصل بذلك قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ويقول الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وكلا القولين مأثور عن طائفة من السلف وهؤلاء يقولون قد يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه كما في قوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا أي قائلين وكلا القولين حق باعتبار فإن لفظ التأويل يراد به التفسير ومعرفة معانيه
والراسخون في العلم يعلمون تفسير القرآن قال الحسن البصري لم ينزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم في ماذا نزلت وما عني بها وقد يعني بالتأويل ما استأثر الله بعلمه من كيفية ما أخبر به عن نفسه وعن اليوم الآخر وقت الساعة ونزول عيسى ونحو ذلك
فهذا التأويل لا يعلمه الا الله وأما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره الى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز و جل
ولكن طائفة من المتأخرين خصوا لفظ التأويل بهذا بل لفظ التأويل في كتاب الله يراد به ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهرة كقوله تعالى هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل
ومنه تأويل الرؤيا كقول يوسف الصديق هذا تأويل رؤياي من قبل وكقوله إلا نبأتكما بتأويله وقوله ذلك خير وأحسن تأويلا وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه ليس للنصارى حجة لا في ظاهر النصوص ولا باطنها كما قال تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
والكلمة عندهم هي جوهر وهي رب لا يخلق بها الخالق بل هي الخالقة لكل شيء كما قالوا في كتابهم إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم والله تعالى قد أخبر أنه سبحانه ألقاها الى مريم والرب سبحانه هو الخالق والكلمة التي ألقاها ليست خالقة إذ الخالق لا يلقيه شيء بل هو يلقي غيره وكلمات الله نوعان كونية ودينية فالكونية كقوله للشيء كن فيكون
والدينية أمره وشرعه الذي جاءت به الرسل وكذلك أمره وإرادته وإذنه وإرساله وبعثه ينقسم الى هذين القسمين وقد ذكر الله تعالى إلقاء القول في غير هذا وقد قال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا
وقال تعالى وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة
وأما لقيته القول فتلقاه فذلك إذا أردت أن تحفظه بخلاف ما إذا ألقيته إليه فإن هذا بقوله فيما يخاطبه به وإن لم يحفظه كمن ألقيت إليه القول بخلاف القول إنكم لكاذبون وألقوا إليهم السلام وليس هنا إلا خطاب سمعوه لم يحصل نفس صفة المتكلم في المخاطب فكذلك مريم إذا ألقى الله كلمته إليها هي قول كن لم يلزم أن تكون نفس صفته القائمة به حلت في مريم كما لم يلزم أن تكون صفته القائمة به حلت في سائر من ألقى كلامه كما لا تحصل صفة كل منكم فيمن يلقي إليه كلامه
فصل
في الرد على أن في عيسى طبيعتينوأما قولهم وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان
طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه
وطبيعة ناسوتية التي أخذها من مريم العذراء واتحدت به فيقال لهم كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف مناقض وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه ولا قول معقول ولا قول دل عليه كتاب بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى كاليعقوبية والملكانية والنسطورية ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة كثيرة الاختلاف
ولهذا يقال لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد كما هو مذكور في أمانتهم لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء ولكن عندهم في الكتب ألفاظ متشابهة وألفاظ محكمة يتنازعون في فهمها ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح
فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء ولما ابتدعوا ما ابتدعوه من التثليث والحلول كان فيهم من يخالفهم في ذلك
وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها والقول الذي يحكيه كثير من نظائر المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم الأنصاري وغيرهما أن القديم واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم وأنهم يعنون بالأقنوم الوجود والحياة والعلم
ونقلوا عنهم أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين بل هما صفتان نفسيتان للجوهر قالوا ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض قال وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس فيعنون بالأب الوجود وبالابن المسيح والكلمة وربما سموا العلم كلمة والكلمة علما ويعبرون عن الحياة بالروح قال ولا يريدون بالكلمة الكلام فإن الكلام عندهم من صفات الفعل ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن قالوا ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت ثم اختلفوا في معنى الاتحاد
فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية قالوا إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن قالوا وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية قالوا فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة
وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما قالوا وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة والنقش في الخاتم
ومنهم من قال ظهور اللاهوت علىالناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين وذهب كثير من هذه الطوائف الى أن المراد بالاتحاد الحلول
فصل
وأما قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين يريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين آتاهم بلغتهم لا غير ممن لم يأتهم بما جاء به
فيقال لهم من فسر مراد متكلم أي متكلم كان بما يعلم الناس أنه خلاف مراده فهو
كاذب مفتر عليه وإن كان المكلم من آحاد العامة ولو كان المتكلم من المتنبئين الكذابين فإن عرف كذبه إذا تكلم بكلام وعرف مراده به لم يجز أن يكذب عليه فيقال أراد كذا وكذا فإن الكذب حرام قبيح على كل أحد سواء كان صادقا أو كاذبا فيكف بمن يفسر مراد الله ورسوله بما يعلم كل من خبر حاله علما ضروريا أنه لم يرد ذلك بل يعلم علما ضروريا أنه أراد العموم فإن قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا صيغة عامة وصيغة من الشرطية من أبلغ صيغ العموم كقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
ثم إن سياق الكلام يدل على أنه أراد أهل الكتاب وغيرهم فإن هذا في سورة آل عمران في أثناء مخاطبته لأهل الكتاب ومناظرته للنصارى فإنها نزلت لما قدم على النبي ص - وفد نجران النصارى وروى أنهم كانوا ستين راكبا وفيهم السيد والأيهم والعاقب وقصتهم مشهورة معروفة كما تقدم ذكرها
وقد قال قبل هذا الكلام يذم دين النصارى الذين ابتدعوه وغيروا به دين المسيح ولبسوا الحق الذي بعث به المسيح بالباطل الذي ابتدعوه حتى صار دينهم مركبا من حق وباطل واختلط أحدهما بالآخر فلا يكاد يوجد معه من يعرف ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره والمسيح قرر أكثر شرع التوراة وغير المعنى وعامة النصارى لا يميزون ما قرره مما غيره فلا يعرف دين المسيح
قال تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون
فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر فمن اتخذ من دونهم أربابا كان أولى بالكفر وقد ذكر أن النصارى اتخذوا من هو دونهم أربابا بقوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
ثم قال تعالى في سورة آل عمران وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
قال ابن عباس وغيره من السلف ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه والآية تدل على ما قالوا فإن قوله تعالى وإذا أخذ الله ميثاق النبيين يتناول جميع النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
وهذه اللام الأولى تسمى اللام الموطئة للقسم واللام الثانية تسمى لام جواب القسم والكلام إذا اجتمع فيه شرط وقسم وقدم القسم سد جواب القسم مسد جواب الشرط والقسم كقوله تعالى لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون
ومنه قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ومنه قوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقوله ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وقوله لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من
الخاسرين وقوله لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم وقوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك وقوله وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم وقوله ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين وقوله تعالى ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون وقوله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم وقوله ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه
ومثل هذا كثير وحيث لم يذكر القسم فهو محذوف مراد تقدير الكلام والله لئن أخرجوا لا يخرجون معهم والله ولئن قوتلوا لا ينصرونهم
ومن محاسن لغة العرب أنها تحذف من الكلام ما يدل المذكور عليه اختصارا وإيجازا لا سيما فيما يكثر استعماله كالقسم وقوله لما آتيتكم من كتاب وحكمة هي ما الشرطية والتقدير أي شيء أعطيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ولا تكتفوا بما عندكم عما جاء به ولا يحملنكم ما آتيتكم من كتاب وحكمة على أن تتركوا متابعته بل عليكم أن تؤمنوا به وتنصروه وإن كان معكم من قبله من كتاب وحكمة فلا تستغنوا بما آتيتكم عما جاء به فإن ذلك لا ينجيكم من عذاب الله
فدل ذلك على أن من أدرك محمدا من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره كما قال لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقد أقر الأنبياء بهذا الميثاق وشهد الله عليهم به كما قال تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ثم قال تعالى فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ثم قال تعالى أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ثم قال
تعالى قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ثم قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
قالت طائفة من السلف لما أنزل الله هذه الآية قال من قال من اليهود والنصارى نحن مسلمون فقال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا فقالوا لا نحج فقال تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
فكل من لم ير حج البيت واجبا عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين كما دل عليه القرآن واليهود والنصارى لا يرونه واجبا عليهم فهم من الكفار حتى أنه روي في حديث مرفوع إلى النبي ص - من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا وهو محفوظ من قول عمر بن الخطاب وقد اتفق المسلمون على أن من جحد وجوب مباني الإسلام الخمس الشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت فإنه كافر
وأيضا فقد قال تعالى في أول سورة آل عمران شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد فقد أمره تعالى بعد قوله إن الدين عند الله الإسلام أن يقول أسلمت وجهي لله ومن
اتبعن وأن يقول للذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى والأميين وهم الذين لا كتاب لهم من العرب وغيرهم أأسلمتم فالعرب الأميون يدخلون في لفظ الأميين باتفاق الناس
وأما من سواهم فإما أن يشمله هذا اللفظ أو يدخل في معناه بغيره من الألفاظ المبينة أنه أرسل إلى جميع الناس
قال تعالى فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد فقد أمر اهل الكتاب بالإسلام كما أمر به الأميين وجعلهم إذا أسلموا مهتدين وإن لم يسلموا فقد قال إنما عليك البلاغ أي تبلغهم رسالات ربك إليهم والله هو الذي يحاسبهم فدل بهذا كله على أنه عليه أن يبلغ أهل الكتاب ما أمرهم به من الإسلام كما يبلغ الأميين وأن الله يحاسبهم على ترك الإسلام كما يحاسب الأميين
وفي الصحيحين عن النبي ص - في الكتاب الذي كتبه الى هرقل ملك النصارى من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
الإسلام دين جميع الأنبياء
وأبلغ من ذلك أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الإسلام دين الأنبياء كنوح وإبراهيم ويعقوب وأتباعهم إلى الحواريين وهذا تحقيق لقوله تعالى ومن يتبغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و إن الدين عند الله الإسلام في كل زمان ومكانقال تعالى عن نوح أول رسول بعثه الى الأرض واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين
فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين
وأما الخليل فقال تعالى وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
فقد أخبر تعالى أنه أمر الخليل بالإسلام وأنه قال أسلمت لرب العالمين وأن إبراهيم وصى بنيه ويعقوب وصى بنيه أن لا يموتن إلا وهم مسلمون
وقال تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين
وقال تعالى عن يوسف الصديق بن يعقوب أنه قال رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين
وقد قال تعالى عن موسى وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين
وقال عن السحرة الذين آمنوا بموسى قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين
وقال تعالى وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين
قال تعالى في قصة سليمان إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا
علي وأتوني مسلمين و قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين وقال تعالى وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين
وقال تعالى عن بلقيس التي آمنت بسليمان رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين وقال عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال تعالى عن الحواريين وإذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون وقال تعالى ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
فهؤلاء الأنبياء كلهم وأتباعهم كلهم يذكر الله تعالى أنهم كانوا مسلمين وهذا مما يبين أن قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقوله إن الدين عند الله الإسلام لا يختص بمن بعث إليه محمد ص - بل هو حكم عام في الأولين والآخرين ولهذا قال تعالى ومن احسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فصل
قال شيخ الإسلام
الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما
أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وقوله تعالى إلا ما ذكيتم عائد إلى ما تقدم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكلية السبع عند عامة العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم
فما أصابه الموت قبل أن يموت أبيح لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك فمنهم من قال ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد
ومنهم من يقول ما يعيش معظم اليوم ذكي
ومنهم من يقول ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد
ثم من هؤلاء من يقول الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح ومنهم من يقول ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح والصحيح أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح فإن حركات المذبوح لا تنضبط بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته وفيها ما يقل زمانه وتضعف حركته وقد قال النبي ص -
ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله
والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا فإن الميت يجمد دمه ويسود ولهذا حرم الله الميتة لاحتقان الرطوبات فيها فإذا جرى منه الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله وإن تيقن أنه يموت فإن المقصود ذبح وما فيه حياة فهو حي وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح حلت ولم يشترطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمي عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة والله أعلم
فصل
وتجوز ذكاة المرأة والرجل وتذبح المرأة وإن كانت حائضا فإن حيضتها ليست في يدها وذكاة المرأة جائزة باتفاق المسلمين وقد ذبحت امرأة شاة فأمر النبي ص - بأكلهافصل
والتسمية على الذبيحة مشروعة لكن قيل هي مستحبة كقول الشافعي وقيل واجبة مع العمد وتسقط مع السهو كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه وقيل تجب مطلقا فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد اختارها أبو الخطاب وغيره وهو قول غير واحد من السلف وهذا أظهر الأقوال فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله في غير موضع كقوله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه وقوله فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه
وفي الصحيحين أنه قال
ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا وفي الصحيح أنه قال لعدي
إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل وإن خالط كلبك كلاب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وثبت في الصحيح أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال
لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي ص -
فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن
فهو ص - لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه فكيف بالإنس ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه ويذكر اسم الله عليه لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة كما ثبت في الصحيح أن قوما قالوا
يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتونا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فقال سموا أنتم وكلوا
فصل
أما عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنس ذلك كالحافر ونحوه وشعرها وريشها ووبرها
ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال
أحدها نجاسة الجميع كقول الشافعي في المشهور وذلك رواية عن أحمد
والثاني أن العظام ونحوها نجسة والشعور ونحوها طاهرة وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد
والثالث أن الجميع طاهر كقول أبي حنيفة وهو قول في مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصواب لأن الأصل فيها الطهارة ولا دليل على النجاسة
وأيضا فإن هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث فتدخل في آية التحليل وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث لا لفظا ولا معنى أما اللفظ فكقوله تعالى حرمت عليكم الميتة لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها وذلك لأن الميت ضد الحي والحياة نوعان حياة الحيوان وحياة النبات فحياة الحيوان خاصتها الحس والحركة الإرادية وحياة النبات النمو والاغتذاء
وقوله حرمت عليكم الميتة إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية فإن الزرع والشجر إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين وقد تموت الأرض ولا يوجب ذلك نجاستها باتفاق المسلمين وإنما الميتة المحرمة ما كان فيها الحس والحركة الإرادية وأما الشعر فإنه ينمو ويغتذي ويطول كالزرع ليس فيه حس ولا يتحرك بإرادة ولا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها ولا وجه لتنجيسه
وأيضا فلو كان الشعر جزءا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة فإن النبي ص - سئل عن قوم يحبون أسنمة الإبل وأليات الغنم فقال
ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت رواه أبو داود وغيره وهذا متفق عليه بين العلماء فلو كان حكم الشعر حكم السنام والألية لما جاز قطعه في حال الحياة فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان حلالا طاهرا علم أنه ليس مثل اللحم
وأيضا فقد ثبت أن النبي ص - أعطى شعره لما حلق رأسه للمسلمين وكان النبي ص - يستنجي ويستجمر فمن سوى بين الشعر والبول والعذرة فقد أخطأ خطأ مبينا
وأما العظام ونحوها فإذا قيل أنها داخلة في الميتة لأنها تنجس قيل لمن قال ذلك لم تأخذوا بعموم اللفظ فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم
وعند جمهور العلماء مع أنها ميتة موتا حيوانيا
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ص - قال
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ومن نجس هذا قال في أحد القولين أنه لا ينجس المائعات الواقعة فيه لهذا الحديث وإذا كان كذلك علم أن علة نجاسة الميتة إنما هو احتباس الدم فيها فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل فإذا مات لم يحتبس فيه الدم فلا ينجس فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجيس من هذا فإن العظم ليس فيه دم سائل ولا كان متحركا بالإرادة إلا على وجه التبع
فإذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه سائل
ومما يبين صحة قول الجمهور أن الله إنما حرم علينا الدم المسفوح كما قال تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا فإذا عفي عن الدم غير المسفوح مع أنه من جنس الدم حيث علم أن الله سبحانه فرق بين الدم الذي يسيل وبين غيره فلهذا كان المسلمون يصنعون اللحم في المرق وخيوط الدم في القدر تبين ويأكلون ذلك على عهد رسول الله ص - كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق كما يفعل اليهود
والله تعالى حرم ما مات حتف أنفه أو لسبب غير جارح محدد كالموقودة والمتردية والنطيحة وحرم ص - ما صيد بغيره من المعراض وقال إنه وقيذ والفرق بينهما إنما هو سفح الدم فدل على أن سبب التنجيس هو احتقان الدم واحتباسه وإذا سفح بوجه خبيث بأن يذكر عليه غير اسم الله كان الخبث هنا من وجه آخر فإن التحريم تارة لوجود الدم وتارة لفساد التذكية كذكاة المجوسي والمرتد والذكاة في غير المحل
فإذا كان كذلك فالعظم والظفر والقرن والظلف وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح فلا وجه لتنجيسه وهذا قول جمهور السلف
قال الزهري كان خيار هذه الأمة يتمشطون بأمشاط من عظام الفيل وقد روي في العاج حديث معروف لكن فيه نظر ليس هذا موضعه فإنا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - أنه قال في شاة ميمونة
هلا أخذتم إهابها
فانتفعتم به قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها وليس في البخاري ذكر الدباغ ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه ولكن ذكره ابن عيينة ورواه مسلم في صحيحه وقد طعن الإمام أحمد في ذلك وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث
وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدبغ بطريق الأولى لكن إذا قيل أن الله حرم بعد ذلك الانتفاع بالجلود حتى تدبغ أو قيل إنها لا تطهر بالدباغ لم يلزم تحريم العظام ونحوها لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم كما في سائر أجزائه والنبي ص - جعل ذكاته دباغه لأن الدبغ ينشف رطوبته فدل على أن سبب التنجيس هو الرطوبات والعظم ليس فيه نفس سائلة وما كان فيه منها فإنه يجف وييبس وهي تبقى وتحفظ أكثر من الجلد فهي أولى بالجهارة من الجلد
والعلماء تنازعوا في الدباغ هل يطهر فذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما أنه لا يطهر ومذهب الشافعي وأبي حنيفة والجمهور أنه يطهر وإلى هذا القول رجع الإمام أحمد كما ذكر ذلك عنه الترمذي
وحديث ابن حكيم يدل على أن النبي ص - نهاهم أن ينتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب بعد أن كان أذن لهم في ذلك لكن هذا قد يكون قبل الدباغ فيكون قد رخص فإن حديث الزهري بين أنه قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ فيكون قد رخص لهم في ذلك لما نهاهم عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم ص - عن ذلك ولهذا قال طائفة من أهل اللغة أن الإهاب اسم لما لا يدبغ ولهذا قرن معه العصب والعصب لا يدبغ
فصل وأما لبن الميتة وأنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء
أحدهما أن ذلك طاهر كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمدوالثاني أنه نجس كقول الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فإن ذبائح المجوس حرام عند جمهور السلف والخلف وقد قيل أن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فإذا صنعوا جبنا والجبن يصنع بالأنفحة كان فيه هذان القولان
والأظهر أن أنفحة الميتة ولبنها طاهر لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس وكان هذا ظاهرا سائغا بينهم وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر
فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز
ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام وقد ثبت عنه أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي ص - ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمر بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان ذلك روي عن النبي ص - انقطع النزاع بقول النبي ص -
وأيضا فاللبن والأنفحة لم يموتا وإنما نجسها من نجسها لكونها في وعاء نجس فتكون مائعا في وعاء نجس فالنجس مبني على مقدمتين على أن المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا فيقال أولا لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته ويقال ثانيا الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال تعالى من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في باطنه والله أعلم
فصل
في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم سئل شيخ الإسلام عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل من ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقا ولا يدري ما حالهم هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي ص - أم بعد ذلك بل يتناكحون وتقر مناكحتهم عند جميع الناس وهم أهل ذمة يؤدون الجزية ولا يعرف من هم ولا من هم آباؤهم فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمينأجاب رضي الله عنه ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان ولا يحرم ذبحهم للمسلمين ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطىء مخالف لإجماع المسلمين فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء كيف والقول بتحريم ذلك
في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما علم من سنة رسول الله ص - ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن قولين
إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقا كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا ولا من أقوال أتباعهم وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم فإن الله تعالى قال في كتابه وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
فإن قيل هذه الآية معارضة بقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وبقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر قيل الجواب من ثلاثة أوجه
أحدهما أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال الله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب وقال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا فجعلهم قسما غيرهم فأما دخولهم في المقيد ففي قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فوصفهم بأنهم مشركون
وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ولكنهم بدلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانا فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا لا باعتبار أصل الدين وقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم
الكوافر هو تعريف للكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين وأولئك كن مشركات لا كتابيات من أهل مكة ونحوها
والوجه الثاني إذا قدر أن لفظ المشركات ولفظ الكوافر يعني الكتابيات فآية المائدة خاصة وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق باتفاق العلماء كما في الحديث
المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين لكن الجمهور يقولون أنه مفسر له فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام وطائفة يقولون أن ذلك نسخ بعد أن شرع
الوجه الثالث إذا فرضنا النصين خاصين فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم والآخر أحلهما فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين
أحدهما أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء فتكون ناسخة للنص المتقدم ولا يقال أن هذا نسخ للحكم مرتين لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك بل كان لعدم التحريم بمنزلة شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل ولهذا لم يكن تحريم النبي ص - لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ناسخا لما دل عليه قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية من أن الله عز و جل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول الآية ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبي والمجنون وكما في الحديث المعروف
الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وهذا محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفا عليه أو مرفوعا إلى النبي ص -
ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة اليوم أحل لكم الطيبات فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم وسورة المائدة مدنية بالإجماع وسورة الأنعام مكية بالإجماع فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة وقوله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم إلى آخرها فثبت
نكاح الكتابيات وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح وإما محرما ثم نسخ يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء
الوجه الثاني أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم فإذا ثبت حل أحدهما ثبت حل الآخر وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلا ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهوديه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك
فإن قيل قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم محمول على الفواكه والحبوب قيل هذا خطأ لوجوه
أحدها أن هذه مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة
الثاني أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحما بذكاتهم فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمي
الثالث أنه قرن حل الطعام بحل النساء وأباح طعامنا لهم كما أباح طعامهم لنا ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين وكذلك حكم الطعام والفاكهة والحب لا يختص بأهل الكتاب
الرابع أن لفظ الطعام عام وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة فيجب إقرار اللفظ على عمومه لا سيما وقد قرن به قوله تعالى وطعامكم حل لهم ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا فكذلك يحل لنا أن نأكل أنواع طعامهم
وأيضا فقد ثبت في الصحاح بل بالنقل المستفيض أن النبي ص - أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية فأكل منها لقمة ثم قال
إن هذه تخبرني أن فيها سما ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة وثبت في الصحيح أنهم لما غزوا خيبر أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم قال قلت لا أطعم اليوم من هذا أحدا فالتفت فإذا رسول الله ص - يضحك ولم ينكر عليه وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة
وأيضا فإن رسول الله ص - أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة رواه الإمام أحمد والإهالة في الودك الذي يكون من الذبيحة ومن السمن ونحوه الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم
وقد ثبت عن النبي ص - أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل
وأيضا فقد استفاض أن أصحاب رسول الله ص - لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين لأن الجبن يحتاج إلى الأنفحة وفي أنفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء فأبو حنيفة يقول بطهارتها ومالك والشافعي يقولان بنجاستها وعن أحمد روايتان
فصل المأخذ الثاني الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة وهذا مبني على أصل وهو أن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل على قولين للعلماء
فالقول الأول هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلاف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد بل هو المنصوص عنه صريحا
والثاني قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد
وأصل هذا القول أن عليا وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب فقال علي لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وروي عنه تغزوهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان فإنه شرط عليهم أن لا وغير ذلك من الشروط وقال ابن عباس بل تباح لقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم ولا يعرف ذلك إلا عن علي وحده وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب
فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس وهو قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وصححها طائفة من أصحابه بل هي آخر قوليه بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول وقال أبو بكر الأثرم ما علمت أحدا من أصحاب النبي ص - كرهه إلا عليا وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق وفقهاء الحديث والرأي كالحسن وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم وهو الذي نقله عن أحمد أكثر
أصحابه وقال إبراهيم بن الحارث كان آخر قولي أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا
ومن العلماء من رجح قول علي وهو قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب وهم الذين تنازع فيهم الصحابة فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل تنوخ وبهراء وغيرهما من اليهود فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك وما أعلم للقول الآخر قدوة من السلف
ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد قالوا بأنه من كان أحد أبويه غير كتابي بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحته نسائه وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيا وأما الأم فله فيها قولان فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وحكي ذلك عن مالك وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب
وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب وهي الرواية التي اختارها هؤلاء فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب أو قيل أن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم
ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه فهو مخطىء خطأ لا ريب فيه لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصراني العرب مطلقا ومن كان أحد أبويه غير كتابي كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد وهذا تناقض
والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير وهو آخر كتبه فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان كالروم وقبائل من العرب وهم تنوخ وبهراء ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم
سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته
وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركا فهو أولى بذلك هذا هو المنصوص عن أحمد فإن قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان فإنه يقر بالجزية قال أصحابه وإذا أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونساؤهم وهو مذهب ابي حنيفة ومالك وغيرهما
وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع علي وغيره من الصحابة في بني تغلب والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد
ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا في مأخذ علي فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل وأن من شككنا في أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطا وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطا وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد
وقال آخرون بل علي لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته بل أخذوا منه حل المحرمات فقط ولهذا قال إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر وهذا المأخذ من قول علي هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب
وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف والقول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد ذلك قول ضعيف بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وهو المنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا
وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب فإنه تؤكل ذبيحته وتنكح نساؤه وهذا يبين خطأ من يناقض منهم
وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور يقولون من دخل هو أو أبواه أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية سواء دخل في زماننا هذا أو قبله وأصحاب القول الآخر يقولون متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي والصواب قول الجمهور والدليل عليه من وجوه
أحدها أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي ص - بقليل كما قال ابن عباس أن المرأة كانت مقلاتا والمقلات التي لا يعيش لها ولد كثيرة القلت والقلت الموت والهلاك كما ياقل امرأة مذكار ميناث إذا كانت كثيرة الولادة للذكور والإناث والسما الكثيرة الموت قال ابن عباس فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب والعرب كانوا أهل شرك وأوثان فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي الآية
فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه وهذا بعد النسخ والتبديل ومع هذا نهى الله عز و جل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر
ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع
الوجه الثاني أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا في دين اليهود ومع هذا فلم يفصل النبي ص - في أكل طعامهم وحل نسائهم وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام ومن دخل قبل ذلك ولا بين المشكوك في نفسه بل حكم في الجميع حكما واحدا عاما فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم تفريق ليس له أصل في سنة رسول الله ص - الثابتة عنه
وقد علم من النقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب ولهذا قال النبي ص - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن
إنك تأتي قوما أهل كتاب وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله مغافر ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية وكذلك سائر اليهود والنصارى من قبائل العرب لم يفرق رسول الله ص - ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية وأباحوا ذبائحهم ونساءهم وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة
الوجه الثالث أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لا باعتقاده وإرادته وقوله وعمله لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا حكم أبويه لكونه لا يستقل بنفسه فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه باتفاق المسلمين فلو كان أبواه يهودا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا باتفاق المسلمين فقد كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين فكذلك إذا كان يهوديا أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كونه آبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول
الوجه الرابع أن يقال قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وقوله وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارا ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار والله تعالى مع ذلك سوغ إقرارهم بالجزية وأحل طعامهم ونساءهم
الوجه الخامس أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير
أهل الكتاب بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم فمن كان أبوه مسلما وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام هل تقبل توبته على قولين هما روايتان عن أحمد وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليهما كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم ومن كفر بشيء من كتب الله فليس مسلما في أي زمان كان
وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام وأنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد ص - ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة في الدين والدنيا فكفروا نعمته وكذبوا رسله وبدلوا كتابه وغيروا دينه فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوأ الكفار عند الله وهو أشد غضبا عليهم من غيرهم لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على سائر إخوانهم الكفار مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار وإما أغلظ منه إذ لا يمكن أحدا أن يقول إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود
الوجه السادس أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل فإن الله تعالى قال يا أيها الناس إنا خلقناك من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال النبي ص -
لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على
أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه ولا يذم أحدا بنسبه وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم الكفر والفسوق والعصيان
وقد ثبت أنه ص - في الصحيح أنه قال
أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم فجعل الفخر بالأحساب من أمول الجاهلية فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأجل النسب علم أنه لأفضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان أبوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين والشريعة إنما علقت بالنسب أحكاما مثل كون الخلافة من قريش وكون ذوي القربى لهم الخمس وتحريم الصدقة على آل محمد ص - ونحو ذلك لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم كما قال النبي ص -
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي ص - ضعفين من العذاب كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب
فذووا الأنساب الفاضلة إذا أساؤوا كان إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فكفر من كفر من بني إسرائيل إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم ولهذا لم يقل أحد من العلماء أن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه
الوجه السابع أن يقال أصحاب رسول الله ص - لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم لا يميزون بين طائفة وطائفة ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة لأمر يختص بهم كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم ولم يلحق بهم سائر العرب وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم
الوجه الثامن أن يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودا أو نصارى قبل النسخ والتبديل ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع فإذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم أنه باطل
الوجه التاسع أن يقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل وأنه مقتضى الدليل فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذا خلاف إجماع المسلمين فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلابحجة شرعية
وكذلك تنازعوا في متروك التسمية وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله وفي شحم الثرب والكليتين وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من المسائل وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين فمن صار إلى قول مقلد لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت
ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة بل من كان مقلدا لزم حل التقليد فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطىء ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه فقبل ما تبين أنه حق ورد ما تبين أنه باطل ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان
وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون والله تعالى يهدينا وإخواننا لما
يحبه ويرضاه وبالله التوفيق والله أعلم
فصل
قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين
فيه قراءتان مشهورتان النصب والخفض
فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم
ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس لأوجه
أحدها أن الذين قرؤوا ذلك من السلف قالوا عاد الأمر إلى الغسل
الثاني أنه لو كان عطفا على الرؤوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو فقال تعالى وامسحوا برؤوسكم وقال فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يقرأ القراء المعروفون في آية التيمم وأيديكم بالنصب كما قرؤوا في آية الوضوء فلو كان عطفا لكان الموضعان سواء وذلك أن قوله وامسحوا برؤوسكم وقوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم يقضتي إلصاق الممسوح لأن الباء للإلصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة وإذا قيل امسح رأسك ورجلك لم يقتض إيصال الماء إلى العضو وهذا يبين أن لباء حرف جاء لمعنى لا زائدة كما يظنه بعض الناس وهذا خلاف قوله
معاوى إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو على ما قبله
الثالث أنه لو كان عطفا على المحل لقرىء في آية التيمم فامسحوا بوجوهكم وامسحوا بأيديكم فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارح بأنه قد دلت عليه فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه بالنصب لأن اللفظين سواء فلما اتفقوا على الجر في آية التيمم مع إمكان العطف على المحل لو كان صوابا علم أن العطف على اللفظ ولم يكن في آية التيمم منصوب معطوف على اللفظ كما في آية الوضوء
الرابع أنه قال وأرجلكم إلى الكعبين ولم يقل إلى الكعاب فلو قدر أن العطف على المحل كالقول الآخر وأن التقدير أن في كل رجلين كعبين وفي كل رجل كعب واحد لقيل إلى الكعاب كما قيل إلى المرافق لما كان في كل يد مرفق وحينئذ فالكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي الساق ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يرى المسح على الرجلين فإذا كان الله تبارك وتعالى إنما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين والماسح يمسح إلى مجمع القدم والساق علم أنه مخالف القرآن
الوجه الخامس أن القراءتين كالآيتين والترتيب في الوضوء إما واجب وإما مستحب مؤكد الاستحباب فإذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء
الوجه السادس أن السنة تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وهي قد جاءت بالغسل
الوجه السابع أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخف الشطر الثاني وذلك فإنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا
وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض فهي لا تخالف السنة المتواترة إذ القراءتان كالآيتين والسنة الثابتة لا تخالف كتاب الله بل توافقه وتصدقه ولكن تفسره وتبينه لمن قصر فهمه عن فهم القرآن فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس وفيه مواضع ذكرت مجملة تفسرها السنة وتبينها
والمسح اسم جنس يدل على إلصاق الممسوح به بالممسوح ولا يدل على لفظه وجريانه لا بنفي ولا إثبات قال أبو زيد الأنصاري وغيره العرب تقول تمسحت للصلاة فتسمي الوضوء كله مسحا ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاما تحته نوعان خصوا أحد نوعيه باسم خاص وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر كما في لفظة الدابة فإنه عام للإنسان وغيره من الدواب لكن للإنسان اسم يخصه فصاروا يطلقونه على غيره
وكذلك لفظ الحيوان ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم لكن للوارث بفرض أو تعصيب اسم يخصه
وكذلك لفظ المؤمن يتناول من آمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله ومن آمن بالجبت
والطاغوت فصار لهذا النوع اسم يخصه وهو الكافر وأبقي اسم الإيمان مختصا بالأول وكذلك لفظ البشارة ونظائر ذلك كثيرة
ثم إنه مع القرينة تارة ومع الإطلاق أخرى يستعمل اللفظ العام في معنيين كما إذا أوصى لذوي رحمه فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء فقوله تعالى في آية الوضوء وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم يقتضي إيجاب مسمى المسح بينهما وكل واحد من المسح الخاص الخالي عن الإسالة والمسح الذي معه إسالة يسمى مسحا فاقتضت الآية القدر المشترك في الموضعين ولم يكن في لفظ الآية ما يمنع كون الرجل يكون المسح بها هو المسح الذي معه إسالة ودل على ذلك قوله إلى الكعبين فأمر بمسحهما إلى الكعبين
وأيضا فإن المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل فهما نوعان المسح العام الذي هو إيصال الماء ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفي بأحد اللفظين كقولهم علفتها تبنا وماء باردا والماء سقي لا علف وقوله
... ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا ...
والرمح لا يتقلد ومنه قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس إلى قوله وحور عين فكذلك اكتفى بذكر أحد اللفظين وإن كان مراده الغسل ودل عليه قوله إلى الكعبين والقراءة الأخرى مع السنة المتواترة
ومن يقول يمسحان بلا إسالة يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين كما أنه مخالف للسنة المتواترة وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة وإنما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة
وذكر المسح بالرجل مما يشعر بأن الرجل يمسح بها بخلاف الوجه واليد فإنه لا يمسح بهما بحال ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين ما لم يجىء مثله في الوجه واليد ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين
ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل والرجل إذا كانت ظاهرة وجب غسلها وإذا كانت في الخف كان حكمها مما بينته السنة كما في آية الفرائض فإن السنة بينت حال الوارث إذا كان عبدا أو كافرا أو قاتلا ونظائره متعددة والله سبحانه أعلم
فصل
في مجادلة أهل الكتاب في أمر المسيحقال شيخ الإسلام
قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا وقال تعالى أيضا لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
وقال تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد فقد قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم في موضعين
وقال تعالى لقد كفرا الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
وقال تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
وقال تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله
فذكر الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة والنصارى قالت الأقوال الثلاثة لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم وهذا وهذا قول طائفة منهم وقولهم ثالث ثلاثة قول النسطورية وقولهم أنه ابن الله قول الملكانية ومنهم من يقول قوله أن الله هو المسيح بن مريم قول اليعقوبية وقولهم والابن وروح القدس
وظن ابن جرير الطبري أن هذه الطوائف كانوا قبل اليعقوبية والنسطورية والملكية كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم ثالث ثلاثة بالأب والابن وروح القدس
والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الأب والابن وروح القدس فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح إنه الله وتقول إنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من إله حق مولود غير مخلوق
وأما قوله تعالى ولا تقولوا ثلاثة وقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في امانتهم ومن الناس من يقول إن الله هو المسيح بن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالأب والابن وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله
قال السدي في قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
قال هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المرسية يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله فقد يقال إن هذا قول هؤلاء كما أن القول بأن عزيرا ابن الله قول طائفة من اليهود
وأما الأول فمتوجه فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وقال فآمنوا بالله ورسله ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم ولم يذكر هنا أمه وقوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم وهو قوله كن فكان وكذلك قال قتادة ليس الكلمة صار عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في مصنفه الذي صنفه في كتبه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا آخر فقال إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا أي آية
قال قول الله إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم
فقلنا إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى عليه السلام تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قول عيسى ولكن المعنى في قوله جل ثناؤه إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان عيسى فالكن من الله قوله وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا عيسى روح الله وكلمته لأن الكلمة مخلوقة
قالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة
قال أحمد وأما قوله جل ثناءه وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله كما يقول عبد الله وسماء الله وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله
وقال الشعبي في قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم الكلمة حين قال له كن
فكان عيسى ب كن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان وقال الليث عن مجاهد وروح منه قال رسول منه يريد مجاهد قوله فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك
والمعنى أن عيسى خلق من هذه الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس لأنه جاء كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب وهذا غلط منهم فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى بن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم أتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث
وقد قال تعالى والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين
وقال تعالى ومريم بنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا
فهذا يوافق قوله تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة فيجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم فإذا ثبت هذا لم يغن
عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب ولا الاحتجاج بشيء من المعقول بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح عليه السلام لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي ص - المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان من الكذابين امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به بنوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد ص - أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد ص - أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو ص - قد جمع في شريعته بين العدل والفضل فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك فيبطل بتكذيبهم محمدا ص - جميع ما معهم من النبوات إذ حكم احد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع ويحيى كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا أو قال ما يقوله السامرة إن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء أو قال ما يقوله اليهود إن داود وسليمان وشيعا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة احق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء او قال إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن له علم بالهيئة
ومن قال إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال إن
موسى وعيسى رسولان رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمدا ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لن تدبر ما جاء به محمد ص - وما جاء به من قبله وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به
فصل في عقوبة المحاربين بين وقطاع الطريق
قال الله تعالى فيهم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قطاع الطريقإذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا
وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا
وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف
وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم
كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله
ومنهم من قال للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حدا لله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول عير مكافىء للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم
وإذ كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي ص - قال
المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قعدهم يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية
فغنمت مالا فإن الجيش يشاركها فيما غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت ولكن تنفل عنه نفلا فإن النبي ص - كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي ص - لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن نحوهما ظالمتان كما قال النبي ص -
إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال أراد قتل صاحبه أخرجاه في الصحيحين وتضمن كل طائفة أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد
وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا كما قد يفعله الأعراب كثيرا فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى أو تقطع أيديهم وأرجلهم تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله
وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم اغمدوه أو هربوا أو تركوا الحراب فإنهم ينفون فقيل نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد وقيل هو حبسهم وقيل هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك
والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل
وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه وقال النبي ص -
إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته وقال
إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان
وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما ما خطبنا رسول الله ص - خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانها عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم ما فعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي ص -
لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا فأنزل الله هذه الآية وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وقوله وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي ص - بل نصبر
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال كان النبي ص - إذا بعث
أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاهم بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول
اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا
ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس
وقال أكثرهم إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه غالبا إلا بعض ماله وهذا الصواب لا سيما هؤلاء المحترفون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين
ولو حاربوا بالعصي والحجارة والمقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها فهم محاربون أيضا وقد حكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الإجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل
وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأني نوع كان من أنواع القتال فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصا فهو مجاهد في سبيل الله
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود فيه قولان للفقهاء
أحدهما أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به
والثاني أن المحارب هو المجاهر بالقتال وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم والأول أشبه بأصول الشريعة بل قد يكون هذا أشد لأنه لا يدري به
واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم على قولين في مذهب أحمد وغيره لأن في قتله فسادا
فصل
وهذا كله إذا قدر عليه فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة فإنهم يقاتلون كما ذكرناه ولكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذا لم يكونوا كفارا ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يموت يكون قد وجب عليه القتل وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهموأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس
والدواب والأحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين وقد اختلف الفقهاء جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فإن الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبي ص - في الغامدية
لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له
ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتل المحاربين بإجماع المسلمين ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم فإن النبي ص - قال
من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد وهذا الذي يسميه الفقهاء الصائل وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية فإذا كان مطلوبه المال جاز منعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز وأما إذا كان مطلوبه الحرمة مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجوربه فإنه يجب عليه أن يدفع نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز
وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه قتله أم لا على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره وهذا إذا كان للناس سلطان فأما إذا كان والعياذ بالله فتنة مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية وقد أخذوا الأموال التي للناس فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس ويردها عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم
وكذلك السارق فإن امتنعوا من إحضارهم المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره والإخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع من حق وجب عليه أداؤه فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليها حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذا المطالبة والعقوبة حق لرب المال فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عن عقوبتهم فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليهم فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال
وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وتبقى مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة وقيل لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار وهو قول مالك رحمه الله
ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا عن طلب المحاربين وإقامة الحد وارتجاع أموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمي البيكار وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة فإن كان له أقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات فإن هذا من سبيل الله فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين جاز ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الإمام من الفيء والمصالح أو الزكاة لبغض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر بالكتاب والسنة وأصول الشريعة
ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقارمة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين ببعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال فيه الردء والعون لهم
فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثر أهل العلم
وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله
وإن قتلوا وأخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل يخير بين هذين وإن كان لم يأذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود
ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم وقد لعنه الله ورسوله روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ص -
لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحل الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأنه نصر المظلوم واجب ففي الصحيحين عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله ص -
انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وروى مسلم نحوه عن جابر
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال
أمرنا رسول الله ص - بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم وإجابة الدعوة ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسي والديباج والاستبرق فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جاز عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولاتجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل في قوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وفي قول النبي ص -
ألا لا يجني جان إلى على نفسه وإنما ذلك مثل أن يطالب بمال قد وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال
أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره من غير أن يكون قد أذنب لا بترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذي لا يحل فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسه وهو أن يكون قد علم مكان الظالم الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع إما محاباة وحمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض وإما معاداة أو بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وإما إعراضا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعله التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوي الضعيف وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفى به دينه أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبة وكما تجب الدية على عاقلة القاتل
وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يعتدي عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهه وشهرته والواجب تمييز الحق من الباطل وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة وإذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناوئهم ويناوؤنه فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناوئهم ذلا أو عجزا وهذا على الإطلاق جاهلية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا ومن أذل نفسه لله أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ومن اعتز بالظلم في منع وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى من كان يريد العزة
فلله العزة جميعا وقال تعالى عن المنافقين يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن أما من صلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة وإن كان كل منهما ظالما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلط وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وقال تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما وقد روى أبو داود في السنن
عن النبي ص - أنه قيل له أمن العصبية أن ينصر الرجل قومه في الحق قال لا قال ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل وقال
خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم وقال
مثل الذي ينصر قومه بالباطل كبعير تردى في بئر فهو يجر بذنبه وقال
من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا
وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار قال النبي ص -
أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا
فصل
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة أو بالإقرار تأخيره لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لا شفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق بمنزلة الوالد إذا أدب ولده فإنه لو كف عن تأيب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة
فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وآبتغي بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أو ليبذلوه له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي ص - وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم قالوا ما نستطيع أن ننظر إليه قال كيف محبتكم له قالوا هو أحب إلينا من أهلنا قال فكيف أدبه فيكم قالوا ما بين
الثلاثة الأسواط إلى العشرة هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء
وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا ورابعا ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى
وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعي وأحمد ومنهم من يقول دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن رسول الله ص - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم وفي لقظ لمسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاث دراهم والمجن الترس وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ص -
تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا وفي رواية للبخاري قال اقطعو في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الديار يومئذ دراهم والدينار اثني عشر درهما
ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الأخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث
وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله ص -
لا قطع في ثمر ولا كثر والكثر جمار النخل رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال
سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله ص - قال يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال فالضالة من الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها قال فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع
إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثلية وجلدات نكال رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي ولذلك قال النبي ص - ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح
فصل
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة قال عامة المفسرين كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء الوسيلة القربةقال قتادة تقربوا إلى الله بما يرضيه قال أبو عبيدة توسلت إليه أي تقربت وقال عبد الرحمن بن زيد تحببوا إلى الله والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الإيمان برسوله وطاعته وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا توسله بالإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة وفي كل وقت وما خص من العبادات بمكان كالحج أو زمان كالصوم والجمعة فكل في مكانه وزمانه وليس لنفس الحجرة من داخل فضلا عن جدارها من خارج اختصاص شيء في شرع العبادات ولا فعل شيء منها فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين والمسجد خص بالفضيلة في حياته ص - قبل وجود القبر فلم تكن فضيلة مسجده لذلك ولا استحب هو ص - ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر ولايعكف عليه لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكنى قريبا من قبر أي قبر كان وسكنى المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع مكة وغيرها بل كان ذلك
واجبا من أعظم الواجبات فلما فتحت مكة قال النبي ص -
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وكان من اتى من اهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة يأمره أن يرجع إلى مدينته ولا يأمره بسكناها كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخرى لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة يخرجوا إلى أماكن أخرى لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة فكيف بها بعد ذلك إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله وأما ما سوى ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال
يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا وقال ص - إن
آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين وقال
إن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا
قال الشيخ الإسلام رحمه الله
فصلقوله سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
قيل اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويمسعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله سمع الله لمن حمده فالسماع متضمن معنى القول أي قائلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد
9 - ثم قال سماعون للكذب أكالون للسحت فذكر أنهم في غذاءي الجسد والقلب يغتدون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه فيدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله اهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون في معصية الخالق
ومثله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع واكثرهم كاذبون فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع
ثم قال في السورة لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم
ولهذا خير نبيه صلى الله عليه و سلم بين الحكم بينهم وبين تركه لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كاذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة
فصل
قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هاوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم إلى قوله وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يعلم من هذا أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد ص - فيها حكم الله
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله ص - وإن قيل أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما يختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحدا أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ وهذا بخلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور وبالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وذلك أن اليهود قبل النبي ص - وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة
وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان هذا ممكنا لكان ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه
فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله تعالى في الإنجيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد ص -
وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي فإنه تعالى قال وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل
الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون فإذا قرأ وليحكم كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق ولا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول هو ذلك الإنجيل
وأما قراءة الجمهور وليحكم أهل الإنجيل فهو أمر بذلك فمن العلماء من قال هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله تعالى وليحكم أمرا لهم قبل مبعث محمد ص - وقال آخرون لا حاجة إلى هذا التكليف فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي ص - من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله ثم تولوا عن حكم الله وقال بعد ذلك وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب
ممتنع وإنما يكون الأمر لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد ص - كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد ص - كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيه باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد ص - لمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد ص - بما أنزله الله في التوراة والإنجيل ولم يحكم بما يخالف حكم محمد ص - إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد ص - كما قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
وقال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق
فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد هذا ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله ص - فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله ص - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فأمر بهما النبي ص - فرجما
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال
أتي رسول الله ص - بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق حتى جاء يهودي فقال ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا نسود وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قال فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله ص - مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا صدق فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا وإن أحبارنا أحدثوا التحميم
والتحبية فأمر رسول الله وسلم برجمهما فرجما
وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال
مر على رسول الله ص - بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد الرجم ولكنه كثير في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله ص - اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم إلى قوله فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون قال هي في الكفارة كلها
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال
رجم النبي ص - رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال
أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله ص - إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله ص - وسادة فجلس عليها ثم قال ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال ائتوني بأعمالكم فأتي بشاب ثم ذكر قصة الرجم
وأخرج أيضا ابو داود وغيره عن أبي هريرة أنه قال
زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا نبي من أنبيائك قالوا فأتوا النبي ص - وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن
قالوا نحمم ونحبيه ونجلده والتحبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل
أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي ص - ساكتا أنشده فقال اللهم إذا نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي ص - فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي ص - فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما
قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا
وكان النبي ص - منهم وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية
قال أبو داود سلمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلا حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر
فلما بعث النبي ص - قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط
والقسط النفس بالنفس ثم نزلت أفحكم الجاهلية يبغون قال أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون
وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول فقد أخبر الله عز و جل أن في التوراة الموجودة بعد المسيح عليه السلام حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني
وهذا من التبديل الثاني الذي ذموا عليه ودل على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل ومعلوم أن
الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة لم ينسخه الإنجيل ولا القرآن فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه فإنه يحكم به
ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله كما أن الله أمر أمة محمد ص - أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة
قال تعالى سورة المائدة الآيات 48 56
فقد أمر نبيه محمدا ص - أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه وهو حكم الجاهلية حيث قال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله عز و جل
وكذلك موسى عليه السلام كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله عز و جل والمسيح ص - أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله عز و جل فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ بل كان إذا ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله ومما يوضح هذا قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد ص - أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذا كان ذلك مما قرره محمد ص - ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يضاد وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول إنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع
وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد ص - فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد ص - وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون
ما أنزل الله والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات هل هو المسيح بن مريم عليه السلام أو مسيح آخر ينتظر والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقنهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك
وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال إن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب على شبهة عن يقول إنه لم يبدل شيء من ألفاظها فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد ص - لم يعلم الحق من الباطل فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيها واستشهد بهما في مواضع وجواب ذلك أن ماوقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة بينة بالمقصود تبين غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة وسائر نصوص الكتب يناقضها وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي ص - فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ص - ما يبين ضعف تلك بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط وأنه ليس في كلام النبي ص - بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار كما قد بسط في موضعه والقرآن يدل على غلط هذا وبين أن الخلق في ستة أيام وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد وكذلك ما روي أنه ص - صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة فإن الثابت المتواتر عن النبي ص - في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك وضعف الشامي والبخاري وأحمد فإن النبي ص - إنما
صلى الكسوف مرة في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاثة والأربع فإن النبي ص - إنما صلى مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه
فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين ذلك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد ص - بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي ص - فيهما ما أنزله الله عز و جل والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفةفي الألفاظ اختلافا بينا والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذا الكتب فإن عند السامرة نسخا متعددة وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود عليه السلام وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة
فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب عن ترك الحكم بما أنزل الله منها قيل النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالأخبار عن الله وعن
اليوم الآخر وغير ذلك فلم تنسخ
وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول لأن أهل الكتاب كفروا من جهتين من جهة تبديلهم الكتاب الأول وترك الإيمان والعمل ببعضه ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني وهو القرآن كما قال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه قال تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين
وقال تعالى فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
وقال تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن وبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول كما ليس في أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني
فصل
قوله في سورة المائدة وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من
التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل الله فيه كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لما يخالفك وأنت رسول الله
فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله من أعظم الذنوب
ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه بقوله سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون لهم كما قال في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون لهم مطيعون لهم ومن قال إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال سماعون لهم هم الجواسيس فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه ومعلوم أن النبي ص - كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيهم من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه ص - أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه
قال تعالى سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم
تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يظهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم
ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل
قال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ثم قال سورة المائدة الآيات 43 46
فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل فإنه قال في الإنجيل وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور وقال فيه وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
وقال في التوراة يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهو سبحانه مع إخباره بإنزال
الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل
كما قال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذي أسلموا للذين هادوا
وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا صلى الله عليهما وسلم تسليما وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى فكذلك ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا ص - وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل فعلم اتفاق أهل الملل كلها المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا ص - ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ
فصل
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليموهذه حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا لم يا أبا عبد الرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة
فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم
العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل
ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم
وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة
وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر وعمر وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي
وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي ص - فنهاهم نبي الله ص - وقال
أليس لكم بي أسوة فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله ص - فقال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله ص - قال من قال عائشة رضي الله عنها فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث
وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي فقال لا على ملة علي ولا على ملة عثمان أنا على ملة رسول الله ص -
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم فرفضه قوم فقال رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم فسموا زيدية لانتسابهم إليه ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع
ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وهو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ماله من صديق
فصل
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ
منها قوله تعالى وعبد الطاغوت والصواب عطفه على قوله من لعنه الله فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية لكن المتقدمة الفاعل الله مظهرا أو مضمرا وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد حرف من لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود والله أعلم
فصل في بطلان الاستدلال بالمتشابه
قال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون
فذكر القسيسين والرهبان لئلا يقال إن هذا قيل عن غيرنا فدل هذا على أفعالنا وحسن نياتنا ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة
والجواب أن يقال تمام الكلام وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين
فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد ص - الذين قال فيهم وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهم الشهداء الذين قال فيهم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ولهذا قال ابن عباس وغيره فاكتبنا مع الشاهدين قال محمد ص - وأمته
وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس
وأما قوله في أول الآية لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى فهو كما أخبر سبحانه وتعالى فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى والنصارى أقرب مودة لهم وهذا معروف من أخلاق اليهود فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى
وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم فكيف ببغضهم للمؤمنين
واما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم المؤمنين بجميع الكتب والرسل
وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة وقوله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون أي بسبب هؤلاء وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين
ثم قال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة والضمير وإن عاد إلى المتقدمين فالمراد به جنس المتقدمين لا كل واحد منهم كقوله تعالى والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
وكان جنس الناس قالوا لهم إن جنس الناس قد جمعوا ويمتنع العموم فإن القائل من الناس والمقول له عنه من الناس والمقول عنه من الناس ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس إنه قد جمع لكم جميع الناس
ومثل هذا قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله أي جنس اليهود قال هذا لم يقل هذا كل يهودي ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود وهذا حق وأما قولهم ونفى عنا اسم الشرك فلا ريب أن الله فرق بين المشركين وأهل الكتاب في عدة مواضع ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في عدة مواضع وكلا الأمرين حق فالأول كقوله
تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
وقوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا وقال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا
وأما وصفهم بالشرك ففي قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فنزه نفسه عن شركهم وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد والنهي عن الشرك كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون
وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كواكب ولا وثن ولا أن تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل ولا مصورة في الحيطان ولا يجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل أو تعظيمهم والاستشفاع بهم وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها وقصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها كما فعله جهال المشركين وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته فإنه يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه ويقول أنا الخضر أنا المسيح أنا جرجس أنا الشيخ فلان
كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى وقد يدخل الشيطان في
بعض التماثيل فيخاطبهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك
وأما الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك فالنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة ولكن بتعظيم التماثيل المصورة فليسوا على التوحيد المحض وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل فلهذا جعلهم الله نوعا غير المشركين تارة وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة
وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار لا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء كما كان عبد الله بن عمر ينهي عن نكاح هؤلاء ويقول لاأعظم شركا من أن يقول عيسى ربنا
وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم
وأما جمهور السلف والخلف فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان
وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى لأن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود
وكذلك قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ونحو ذلك وهذا لأن لفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الأفراد والتجريد ما لا
يدخل فيه عند الاقتران كلفظ المعروف والمنكر في قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فإنه يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف وجميع ما نهى عنه فإنه منكر
وفي قوله لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس
وكذلك المنكر في قوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قرن الفحشاء بالمنكر وقوله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون قرن الفحشاء بالمنكر والبغي
وكذلك لفظ البر والإيمان وإذا أفرده دخل فيه الأعمال والتقوى كقوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
وقال إن الأبرار لفي نعيم وقوله إنما المؤمنون ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري وقال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون وقد يقرنه بغيره كقوله وتعاونوا على البر والتقوى وقوله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكذلك لفظ الفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه لفظ الآخر
وقد يجمع بينهما في قوله إنما الصدقات للفقراء والمساكين فيكونان هنا صنفين وفي تلك المواضع صنف واحد فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا يدخل فيه جميع الكفار
أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي ص -
كان إذا أرسل أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال لهم اغزوا بسم الله في سبيل الله في دعة قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فإنهم ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم
وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي ص - النصارى بالشام واليهود باليمن
وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولكن تنازعوا في الجزية هل تؤخذ من غير أهل الكتاب وهذا مبسوط في موضعه
فصل في ادعاء النصارى أن القرآن سوى بين الأديان
قالوا في سورة المائدة إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونفساوى بهذا القول بين سائر الناس اليهود والمسلمون وغيرهم
والجواب أن يقال أولا لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من بعث المسيح إليهم فكذبوه
وكذا الصابئون من حيث بعث إليهم رسول فكذبوه فهم كفار فإن كان في الآية مدح
لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد ص - ففيها مدح دين اليهود أيضا وهذا باطل عندكم وعند المسلمين
وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل
وكذلك يقال لليهودي إن احتج بها على صحة دينه
وأيضا فإن النصارى يكفرون اليهود فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلا بد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوت بينهما
فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد ص - والذين هادوا الذين اتبعوا موسىعليه السلام وهم الذين كانوا على شرعة قبل النسخ والتبديل والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل
والصابئون وهم الصائبون الحنفاء كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ
فإن العرب من ولد إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة وهو عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله ولهذا قال النبي ص -
رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه في النار وهو أول من بحر البحيرة وسيب السوائب وغير دين إبراهيم
وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم الذين مدحهم الله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا كما قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
3 -
فصل في كفارة اليمين
قال شيخ الإسلام ابن تيميةكفارة اليمين هي المذكورة في سورة المائدة قال تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فمتى كان واحدا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك ومقدار ما يطعم مبني على أصل وهو أن إطعامهم هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف فيه قولان للعلماء منهم من قال هو مقدر بالشرع وهؤلاء على أقوال
منهم من قال يطعم كل مسكين صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر كقول أبي حنيفة وطائفة
ومنهم من قال يطعم كل واحد نصف صاع من تمر أو شعير أو ربع صاع من بر وهو مد كقول أحمد وطائفة
ومنهم من قال بل يجزىء في الجميع مد من الجميع كقول الشافعي وطائفة
والقول الثاني أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا وهذا معنى قول مالك قال إسماعيل بن إسحاق كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزىء بالمدينة قال مالك وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم لقول الله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا
والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول ولهذا كانوا يقولون الأوسط خبز ولبن خبز وسمن خبز وتمر والأعلى خبز ولحم وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وهو قياس مذهب أحمد وأصوله فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف لا سيما مع قوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولا واحدا ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه هذا مع أن هذه واجبة بالشرط فكيف يقدر طعاما واجبا بالشرع بل ولا يقدر الجزية في أظهر الروايتين عنه ولا الخراج ولا يقدر أيضا الأطعمة الواجبة مطلقا سواء وجبت بشرع أو شرط ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقا فطعام الكفارة أولى أن لا يقدر
والأقسام ثلاثة فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظا بل أصله في هذه الأمور من جنس أصل مالك كما أن قياس مذهبه أن يكون الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من بر وقد
دل على كلامه أيضا كما قد بين في موضع آخر وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك وبالصاع كالتمر والشعير
وقد تنازع العلماء في الأدم هل هو واجب أو مستحب على قولين والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم وإن كان إنما يطعمهم بلا أدم لم يكن عليه أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله
وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة وإذا صنع خبزا جاء نحو رطلين بالعراقي وهو بالدمشقي خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية فإن جعل بعضه أدما كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق وهذا لا يكفي أكثر أهل الأمصار فلهذا قال جمهور العلماء يطعم في غير المدينة أكثر من هذا إما مدان أو مد ونصف على قدر طعامهم فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقي وإما ثلثا رطل وإما رطل وإما أكثر وإما مع الأدم وإما بدون الأدم على قدر عادتهم في الأكل في وقت
فإن عادة الناس تختلف بالرخص والغلاء واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف وغير ذلك
وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزا كان رطلا وثلثا بالدمشقي فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعا ثمانية أرطال وذلك بقدر ما يوجبه الشافعي ست مرات وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات
والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس وعادتهم فقد يجزىء في بلد ما أوجبه أبو حنيفة وفي بلد ما أوجبه أحمد وفي بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملا بقوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم
وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا أو أدما من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم وهو أظهر القولين في الدليل فإن الله تعالى أمر بالإطعام لم يوجب التمليك وهذا إطعام حقيقة ومن أوجب التمليك احتج بحجتين
إحداهما أن الطعام الواجب مقدر بالشرع ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه
وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع وإن قدر أنه مقدر به فالكلام إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر وأما التصرف بما شاء فالله تعالى لم يوجب ذلك إنما أوجب الإطعام ولو أراد ذلك لأوجب مالا
من النقد والزكاة ونحوه وهو لم يوجب ذلك
والزكاة إنما أوجب فيها التمليك لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين ولهذا حيث ذكر الله التصرف كقوله وفي الرقاب وفي سبيل الله فالصحيح أنه لا يجب التمليك بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن تمليكا للمعتق ويجوز أن يشتري منها سلاحا يعين به في سبيل الله وغير ذلك ولهذا قال من قال من العلماء الإطعام أولى من التمليك لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله بل قد يكنزه فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعا
وغاية ما يقال أن التمليك قد يسمى إطعاما كما يقال أطعم رسول الله ص - الجدة السدس وفي الحديث
ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر من بعده
لكن يقال لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم فيقال أطعمه كذا فأما إذا أطلق وقيل أطعم هؤلاء المساكين فإنه لا يفهم منه إلا نفس الإطعام لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمى التمليك للطعام إطعاما لأن المقصود هو الإطعام أما إذا كان المقصود مصرفا غير الأكل فهذا لا يسمى إطعاما عند الإطعام
91 -
فصل في معنى روح القدس
قال تعالى يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدسفيقال هذا مما لا ريب فيه ولا حجة لكم فيه بل هو حجة عليكم فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى في البقرة وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
وهذا ليس مختصا بالمسيح بل قد أيد غيره بذلك وقد ذكروا هم أنه قال لداود روحك القدس لا تنزع مني وقد قال نبينا ص - لحسان بن ثابت
اللهم أيده بروح القدس
وفي لفظ روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه
وكلا اللفظين في الصحيح
وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس وكذلك عندهم روح القدس حدث في جميع الأنبياء
وقد قال تعالى سورة النحل الآيات 98 102
وقد قال تعالى في موضع آخر نزل به الروح الأمين على قلبك
وقال قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون
وقال تعالى يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق
فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب وكلاهما يتسمى روحا وهما متلازمان فالروح التي ينزل بها
الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا
وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس
ولم يقل أحد أن المراد بذلك حياة الله ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح
ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان لاهوت الكلمة ولاهوت الروح فيكون قد اتحد به أقنومان ثم في قوله تعالى وأيدناه بروح القدس يمتنع أن يراد بها حياة الله فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره ولا تختص ببعض الموجودات غيره وأما عندهم فالمسيح هو الله الخالق فكيف يؤيد بغيره وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة فلا يصح تأييده بها
فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد
فصل عيسى عبد الله ورسوله
قال تعالى سورة البقرة الآية 87فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به بقوله أن اعبدوا الله ربي وربكم وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم وبعد وفاته كان الله الرقيب عليهم فإذا كان بعضهم قد
غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين
وقد أخبر الله سبحانه أن أول ما تكلم به المسيح أن قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا
ثم طلب لنفسه السلام فقال والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
والنصارى يقولون علينا منه السلام كما يقوم الغالية فيمن يدعون فيه الإلهية كالنصيرية في علي والحاكمية في الحاكم
الوجه الثاني أن يقال إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل وإنما قال يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وقال المسيح فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
وقال تعالى سورة النساء الآيات 155 161
فذم الله اليهود بأشياء منها قولهم على مريم بهتانا عظيما حيث زعموا أنها بغي ومنها قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
قال تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وأضاف هذا القول إليهم
وذمهم عليه ولم يذكر النصارى لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود ولم يكن أحد من النصارى شاهدا معهم بل كان الحواريون خائفين غائبين فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب
قال تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم فنفى عنه القتل ثم قال وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح وقد قيل قبل موت اليهود وهو ضعيف كما قيل إنه قبل موت محمد ص - وهو أضعف فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
وإن قيل المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة لم يكن في هذا فائدة فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به ولأنه قال قبل موته ولم يقل بعد موته ولأنه ولا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليه وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية فيموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وقوله ليؤمنن به فعل مقسم عليه وهذا إنما يكون في المستقبل فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا ولو أريد قبل موت الكتابي لقال وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به لم يقل ليؤمنن به
وأيضا فإنه قال إن من أهل الكتاب وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما يقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى
والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعي أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني وهذا خلاف الواقع وهو لما قال وإن منهم إلا ليؤمنن به قبل موته ودل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به لا إيمان من كل منهم ميتا
وهذا كما يقال إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة أي في المدائن الموجودة حينئذ وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين
فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله إني متوفيك ورافعك إلي وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر الآية الزخرف الآيات 59 65
في الصحيحين أن النبي ص - قال
يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية
وقوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت
وكذلك قوله ومطهرك من الذين كفروا ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره
معنى التوفي
ولفظ التوفي في لغة العرب معناه الاستيفاء والقبض وذلك ثلاثة أنواع أحدها توفي النوم والثاني توفي الموت والثالث توفي الروح والبدن جميعا فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس ويخرج منهم الغائط والبول والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم والغائط والبول ونحو ذلكالوجه الثالث قولهم إنه عنى بموته عن موت الناسوت كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم عنى بتوفيته عن توفي الناسوت وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت فليس هناك شيء غيره لم يتوف الله تعالى قال
إني متوفيك ورافعك إلي فالمتوفى هو المرفوع إلى الله وقولهم إن المرفوع هو اللاهوت مخالف لنص القرآن ولو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى
وكذلك قوله في الآية الأخرى وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه هو تكذيب لليهود في قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله واليهود لم يدعوا قتل لاهوت ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت
وقد زعموا أنهم قتلوه فقال تعالى وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه وإنما هو الناسوت فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل وهو الذي رفع والنصارى معترفون برفع الناسوت لكن يزعمون أنه صلب وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام ثم صعد إلى السماء وقعد عن يمين الأب الناسوت مع اللاهوت
وقوله تعالى وما قتلوه يقينا معناه أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا بأنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل إذ لا حجة معه بذلك
ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون إنه لم يصلب فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره كما دل عليه القرآن وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس أنا أعرفه فعرفوه وقول من قالوا معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف
الوجه الرابع أنه قال تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا فلو كان المرفوع هو اللاهوت لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته إني رافعك إلي وكذلك قوله بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله
ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه وإذا قالوا هو الكلمة فهم مع ذلك أنه الإله الخالق لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما مما هو كلام الله الذي قال فيه إليه يصعد الكلم الطيب بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع
الوجه الخامس قوله وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر كقوله إن كان هذا هو الحق ونحو ذلك فعلم أن المسيح بعد
توفيته ليس رقيبا على اتباعه بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها
فصل فساد قول النصارى في أن المسيح خالق
قالوا وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال وإذ تخلق من الطير كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني سورة المائدة 110فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذة من مريم أنه كذا قال على لسان داود النبي
بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه
وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره لأنه حيث قال وتخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت
والجواب إن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما نطق به أنبياؤه فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله تعالى
إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه
وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزل الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة
أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم ببعض ببع ويؤخذ كلامه ها هنا وها هنا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ يجعل كلامه متناقضا ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه
فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم فإذا عرف هذا فيقول
الرد عليهم
الجواب عما ذكروه هنا من وجوهأحدهما أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا ولا خلقا عاما كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد ص - اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم
وقال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى
فذكر نفسه بأنه الخالق البارىء المصور ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا وكذلك قال تعالى الله خالق كل شيء وهو وكيل له مقاليد السماوات والأرض
وقال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم
سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
ووصف نفسه بأنه رب العالمين وبأنه مالك يوم الدين وأنه له الملك وله الحمد وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ونحو ذلك من خصائص الربوبية ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى
وأما المسيح عليه السلام فقال فيه وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني
وقال المسيح عن نفسه وأخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله فكيف يكون هذا الخلق هو ذاك
الوجه الثاني أنه خلق من الطين كهيئة الطير والمراد به تصويره بصورة الطير وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير وغير الطير من الحيوانات ولكن التصوير محرم بخلاف تصوير المسيح فإن الله أذن له فيه
والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز و جل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين فإن هذا مشترك ولقد لعن النبي ص - المصورين وقال
إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون
الوجه الثالث أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير وهو محرم والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله وأخبر الله أن هذا من نعمته التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
وقال تعالى له ياعيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص وإذ تخرج
الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات
وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء وصريح بأن الإذن غير المأذون له والمعلم ليس هو المعلم والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه كما ليس هو والدته
والوجه الرابع أنهم قالوا أشاروا بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ثم قالوا في قوله بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ففرق بين المسيح وبين الله وبين أن الله هو الآذن للمسيح وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن
الوجه الخامس أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه فإنهم يقولون هو إله واحد وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه
الوجه السادس أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات فإن كان هو الكلام فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة ولو لم تتحد بالناسوت واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا فكيف وهو ممتنع
فقد تبين امتناع كونه الكلمة تكون خالقة من وجوه وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين وعندهم هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكل شيء والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته فليس المسيح هو ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه
الوجه السابع قولهم فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذة من مريم أنه كذا قال على لسان داود النبي بكلمة الله خلقت السماوات والأرض
فيقال لهم هذا النص عن داود حجة عليكم كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم فإن داود عليه السلام قال بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ولم يقل إن كلمة الله هي الخالقة كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض أمر ظاهر معروف كالفرق بين القادر والقدرة فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء
بقدرته وليست القدرة هي الخالقة وكذلك الفرق بين المريد والإرادة فإن خلق الأشياء بمشيئته وليست مشيئته هي الخالقة وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته فالناس كلهم يقولون يا الله يا ربنا يا خالقنا ارحمنا واغفر لنا ولا يقول أحد يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه وليست صفاته هي الخالقة
الوجه الثامن أن قول داود عليه السلام بكلمة الله خلقت السماوات والأرض يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء أن الله يقول للشيء كن فيكون وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله ليكن كذا ليكن كذا
الوجه التاسع قولهم لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه إن أرادوا بكلمته كلامه وبروحه حياته فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه ثم يقال هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته وحينئذ فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه فإن الله لا شريك له
ولهذا لما قال تعالى الله خالق كل شيء دخل كل ما سواه في مخلوقاته ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أسماؤه مباينة له بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذات مجردة عن صفات الكمال فإن تلك حقيقة لها ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته يمتنع تحقق ذاته دونها
ولهذا لا يقال الله وعلمه خلق والله وقدرته خلق وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق وإن شئت قلت إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة لله فتلك داخلة في مسمى اسمه وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت
الوجه العاشر أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت وهو عندهم اسم اللاهوت والناسوت لما اتحد والاتحاد فعل حادث عندهم فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحيا فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ولكن غايتهم أن يقولوا أراد الكلمة التي اتحدت فيها بعد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح
عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين
فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي بها خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح
فصل
قال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 53فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم وقوة وصحة وجمال ومال قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف 32 وإذا خص أحد الشخصين بقوة وطبيعة تقتضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة والعافية ون لم يعط الآخر ذلك نقص عنه وحصل له ضعف ومرض
والظلم وضع الشيء في غير موضعه فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها على محسن أبدا وفي الصحيح عن النبي ص - أنه قال
يمين الله ملأى لا يغيضها
نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يقبض ويبسط فبين أنه سبحانه وتعالى يحسن ويعدل ولا يخرج فعله عن العدل والإحسان ولهذا قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل
ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه كما في الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
وقد قال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك فالحسنات والسيئات هنا أراد بها النعم والمصائب كما قال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات سورة الأعراف 68 وكما قال تعالى إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل سورة التوربة 50 وقوله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها سورة آل عمران 120 ومثل هذا قوله تعالى وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون سورة الروم 36 فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى عباده وما أصابهم به من العقوبات فبذنوبهم وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع آخر
وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة لكن تنازعوا في تفسير ذلك
فقالت طائفة الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده
ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة
وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في الأحكام الشرعية وإنما ينازع في ذلك طائفة من نفاة القياس وغير نفاته وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم
وأصحاب القول الأول كجهم بن صفوان وموافقيه كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة
وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعال الله وأحكامه
والقاضي أبو يعلى وأبو الحسن بن الزاغوني ونحوهما من أصحاب أحمد وإن كانوا قد يقولون بالأول فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع وكذلك أمثالهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وغيرهما
وأما ابن عقيل في بعض المواضع وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى وأبو الخطاب الصغير فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر
والحنفية هم من أهل السنة وقائلين بالقدر وجمهورهم يقولون بالتعليل والمصالح
والكرامية وأمثالهم هم أيضا من القائلين بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين لأبي بكر وعمر وعثمان وهم أيضا يقولون بالتعليل والحكمة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولون بالتعليل والحكمة وبالتحسين والتقبيح العقليين كأبي بكر القفال وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهم من أصحاب الشافعي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب من أصحاب أحمد
وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالأمانة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل
ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين
إحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة وإن عقل الإحداث بلا علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل
الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله
وأوردوا على المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة وإن كان وجودها أولى فإن كانت منفصلة عنه لزم أن يستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث
وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة وأتباعهم من الشيعة تثبت من التعليل ما لا يعقل وهو أنه فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء
وأما أهل السنة القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى كما دل على ذلك الكتاب والسنة ويقولون إن المحبة والرضا أخص من الإرادة وأما المعتزلة وأكثر أصحاب الأشعري فيقولون إن المحبة والرضا والإرادة سواء فجمهور أهل السنة يقولون إن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى شخص يكون عديم الحكمة بل لله في المخلوقات حكم قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها
فصل
قال تعالى وإذا جاءك الذين لا يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم سورة الأنعام 54 لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة ولا يجوز أن يقال إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم
ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء سورة الطور 21 وقوله تعالى وما من إله إلا الله سورة آل عمران 62 وقوله فما منكم من أحد عنه حاجزين سورة الحاقة 47 ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفي الجنس قطعا فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى لا إله لا الله سورة آل عمران 62 وقوله لا ريب فيه سورة البقرة 2 ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن من موجودة كقولك ما رأيت رجلا فإنها ظاهرة لنفي الجنس ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس كما قال سيبويه يجوز أن يقال ما رأيت رجلا بل رجلين فتبين أنه يجوز إرادة الواحد وإن كان الظاهر نفي الجنس بخلاف ما إذا دخلت من فإنه ينفي الجنس قطعا
ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا
كلهم وكذلك لو قال لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن طلقن كلهن فإن المقصود بقوله منكم بيان جنس المعطي والمبرىء لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج
فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك
قيل نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ولكن مقصودنا أن من لا ينافي شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل إن الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى آخر الكلام ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا والسيما في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدؤون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم
فصل
في قول إبراهيملا أحب الآفلين
ظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام هذا ربي سورة الأنعام 77 أراد به هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركةوهذا خطأ من وجوه
أحدها أن قول الخليل هذا ربي سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي أو غير ذلك ليس المراد به هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من أهل المقالات المعروفة التي ذكرها الناس لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم ص - كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم
وهذا دين المشركين من الصابئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطو وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي الروحاني والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة
وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين سورة الزخرف 26 27 وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء 75 77 وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدوه غير الله
وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون إنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم
فالشرك الذي نهى عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام الجعد بن درهم معلم مروان ابن محمد
قال الإمام أحمد وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في هذا الموضع
الوجه الثاني أنه لو كان المراد بقوله هذا ربي أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكواكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال إن إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم
الوجه الثالث أن الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو مجرد الحركة والانتقال ولا يقول أحد لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير إن الشمس والقمر في حال ميسرهما في السماء إنهما آفلان ولا يقول للكواكب المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وطار إنه آفل
الوجه الرابع أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا بد من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع
وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعنى الإمكان كما قال في إشاراته
قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما
قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوث قوله تعالى لا أحب الآفلين سورة الأنعام 76 فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله
ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولا كل موجود يجب وجوده بغيره لا بنفسه آفلا ولا ما كان من هذه المعاني التي يعنيها هؤلاء بلفظ الإمكان بل هذا أعظم افتراء على القرآن واللغة من تسمية كل متحرك آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله لا أحب الآفلين سورة الأنعام 76 هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك
وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره إن هذا قول المحققين
واستعارته لفظ الهوى والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه
وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها أن الكواكب والشمس والقمر هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك
وشبهتهم في ذلك أن إبراهيم ص - أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل الفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله
وقول هؤلاء وإن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس
وأيضا فلو قدر أن ذلك يسمى كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا
والقرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول ص - فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبيه والاستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو
وأيضا فإنه قال تعالى فلما جن عليه الليل رأى كوكبا الأنعام 76 فذكره منكرا لأن الكواكب كثيرة ثم قال فلما رأى القمر الأنعام 77 فلما رأى الشمس سورة الأنعام 78 بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر المعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان
وايضا فإن قال لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجبا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجوب عندهم لا يرى بالأبصار بحال بل تمتنع رؤيته بالأبصار عندهم
وإن أراد المغيب عن بصائر القلوب فهذا أمر نسبي إضافي فيمكن أن تكون تارة حاضرة في القلب وتارة غائبة عنه كما يمكن مثل ذلك في واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها
وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك
فلو ذكر القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك لو ذكروه من الفساد أما مع ذكر كوكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا
فصل
الأنبياء أفضل الخلققال تعالى ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام 84 87 فأخبر أنه اجتباهم وهداهم
والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء
والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم
والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الأخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة 7 12 وقال في تقسيمهم عند الموت فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم سورة الواقعة 88 94 وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة
والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوسف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذلك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبي كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين سورة العنكبوت 27 وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101
فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها
وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاة الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم
وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق
اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصي على النبي وهذا يقتضي فساد قولهم بأن قولهم كل معصية كفر وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا
وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من اتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقوه أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن
وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما عملناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء 192 226
فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا ص - شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها
أن النبي ص - لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يخزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح
وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسي وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشيطان ويوحون إليهم