كتاب: دقائق التفسير
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا
وفي الصحيحين عن النبي ص - لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال له النبي ص -
لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافي النبوة ويقدح فيها
وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة سورة آل عمران 161 وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا
ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والاستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار
وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة سورة النجم 31 32 وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين سورة آل عمران 333 336 وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي
كانوا يعملون سورة الزمر 33 35 وقال حتى إذا بلغ أشده والبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف 15 16
وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم سورة العنكبوت 26 وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سورة الأعراف 88 89 وقال في سورة إبراهيم وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين سورة إبراهيم 13
وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين سورة الشعراء 18 21 وكان موسى ص - قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 15 16
فإن قيل فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر
بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفس
قيل هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أن يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الامتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعلى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد ص - هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجميعن
فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كن لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه
واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما
وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن اذنب ذنبا آخر فإن النبي ص - قال
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفي فإذا دعي إلى كل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر
فصل
قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم فإن قوله بديع السموات والأرض أي مبدعهما كما ذكر مثل ذلك في البقرة وليس المراد أنهما بديعة سماواته وأرضه كما تحتمله العربية لولا السياق لأن المقصود نفي ما زعموه من خرق البنين والبنات له ومن كونه اتخذ ولدا
وهذا ينتفي بضده كونه أبدع السموات ثم قال أنى يكون له ولد وذكر ثلاثة أدلة على نفي ذلك
أحدها كونه ليس له صاحبة فهذا نفي الولادة المعهودة وقوله وخلق كل شيء نفي للولادة العقلية وهي التولد لأن خلق كل شيء ينافي تولدها عنه وقوله
وهو بكل شيء عليم يشبه والله أعلم أن يكون لما ادعت النصارى أن المتحد به هو الكلمة التي يفسرونها بالعلم والصائبة القائلون بالتولد والعلة لا يجعلونه عالما بكل شيء ذكر أنه بكل شيء عليم لإثبات هذه الصفة له ردا على الصائبة ونفيها عن غيره ردا على النصارى
وإذا كان كذلك فقول من قال بتولد العقول والنفوس التي يزعمون أنها الملائكة أظهر في كونهم يقولون أنه ولد الملائكة وأنهم بنوه وبناته فالعقول بنوه والنفوس بناته من قول النصارى
ودخل في هذا من تفلسف من المنتسبة إلى الإسلام حتى إني أعرف كبيرا لهم سئل عن العقل والنفس فقال بمنزلة الذكر والأنثى فقد جعلهم كالابن والبنت وهم يجعلونهم متولدين عنه تولد المعلول عن العلة فلا يمكنه أن يفك ذاته عن معلوله ولا معلوله عنه كما لا يمكنه أن يفصل نفسه عن نفسه بمنزلة شعاع الشمس مع الشمس وأبلغ
وهؤلاء يقولون إن هذه الأرواح التي ولدها متصلة بالأفلاك الشمس والقمر والكواكب كاتصال اللاهوت بجسد المسيح فيعبدونها كما عبدت النصارى المسيح إلا أنهم أكفر من وجوه كثيرة وهم أحق بالشرك من النصارى فإنهم يعبدون ما يعلمون أنه منفصل عن الله وليس هو إياه ولا صفة من صفاته والنصارى يزعمون أنهم ما يعبدون إلا ما اتحد بالله لا لما ولده من المعلولات
ثم من عبد الملائكة والكواكب وأرواح البشر وأجسادهم اتخذ الأصنام على صورهم وطبائعهم فكان ذلك أعظم أسباب عبادة الأصنام
ولهذا كان الخليل إمام الحنفاء مخاطبا لهؤلاء الذين عبدوا الكواكب والشمس والقمر والذين عبدوا الأصنام مع إشراكهم واعترافهم بأصل الجميع
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير موضع وأولئك هم الصابئون المشركون الذين ملكهم نمروذ وعلماؤهم الفلاسفة من اليونانيين وغيرهم الذين كانوا بأرض الشام والجزيرة والعراق وغيرها وجزائر البحر قبل النصارى وكانوا بهذه البلاد في أيام بني إسرائيل وهم الذين كانوا يقاتلون بني إسرائيل فيغلبون تارة ويغلبون تارة وسنحاريب وبخت نصر ونحوهما هم ملوك الصابئة بعد الخليل والنمروذ الذي كان في زمانه
فتبين بذلك ما في القرآن من الرد لمقالات المتقدمين قبل هذه الأمة والكفار والمنافقين فيها من إثبات الولادة لله وإن كان كثير من الناس لا يفهم دلالة القرآن على هذه المقالات لأن ذلك يحتاج إلى شيئين إلى تصور مقالتهم بالمعنى لا بمجرد اللفظ وإلى تصور
معنى القرآن والجمع بينهما فتجد المعنى الذي عنوه قد دل القرآن على ذكره وإبطاله
وأما اتحاد الولد فيفسر بعين الولادة وهو من باب الأفعال لا من باب الصفات كما يقوله طائفة من النصارى في المسيح
فصل
فهذا نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا بأي وجه من وجوه الولادة أو اتخاذ الولد أيا كانوأما نفي كونه مولودا فيتضمن نفي كونه متولدا بأي نوع من التوالد من أحد من البشر وسائر ما تولد من غيره فهو رد على من قال المسيح هو الله ورد على الدجال الذي يقول إنه الله ورد على من قال في بشر إنه الله من غالية هذه الأمة في علي وبعض أهل البيت أو بعض المشايخ كما قال قوم ذلك في علي وطائفة من أهل البيت وقالوه في الأنبياء ايضا وقاله قوم في الحلاج وقوم في الحاكم بمصر وقوم في الشيخ عدي وقوم في يونس العنيني وقوم يعمونه في المشايخ ويصوبون هذا كله
فقوله سبحانه لم يولد نفي لهذا كله فإن هؤلاء كلهم مولودون والله لم يولد ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال ابن مريم بخلاف سائر الأنبياء كقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح وقوله ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وقوله إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك وقوله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وقوله وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
وفي ذلك فائدتان
إحداهما بيان أنه مولود والله لم يولد
والثانية نسبته إلى مريم بأنه ابنها ليس هو ابن الله
وأما قوله لن يستنكف المسيح الآية وقوله وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله فإنه حكى قولهم الذي قالوه وهم قد نسبوه إلى الله أنه ابنه فلم يضمنوا ذلك قولهم المسيح ابن مريم
وقوله ولم يكن له كفوا أحد نفي للشركاء والأنداد يدخل فيه كل من جعل شيئا كفوا لله في شيء من خواص الربوبية مثل خلق الخلق والإلهية كالعبادة له ودعائه ونحو ذلك
فهذه نكت تبين اشتمال كتاب الله على إبطال قول من يعتقد في أحد من البشر الإلهية باتحاد أو حلول أو غير ذلك
فصل
قوله تعالى ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سورة الأنعام 103
أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم
قال الأشعري وكل المجمسة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم
قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي ص - عند أهل العلم بحديثه
وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين أقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك
إلا في نبينا ص - خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على إثبات الرؤية بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي ص - خاصة
وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة وألأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال أنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال أنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم أنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين سورة الشعراء 61 62 فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضا
ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه
وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يوصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم سورة البقرة 225 وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في
السماوات ولا في الأرض سورة سبأ 3 وقوله وما مسنا من لغوب سورة ق 38 ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه أنه لا يرى فعلم أن نفي الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه
وإذا كان المنفي هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ولا يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مدرك الرؤية ليس بمنفي وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي ص - ولا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف
ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية
فصل في ذبائح أهل الكتاب
قال شيخ الإسلامقال الله عز و جل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال وما أهل به لغير الله فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه
وروى ابن حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل
قال ابن حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال لا تأكل قال الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فلا أرى هذا ذكاته وما أهل لغير الله به
فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب
قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم كل من روي عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب
وما قال ابن حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل ما لم يسموا عليه إلا في
وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى وما أهل لغير الله به
وعند أبي عبد الله أن تفسير ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إنما عنى به الميتة وقد أخرجته في موضعه
ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله
لكن قال ابن أبي موسى ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة
والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم
ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين
ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه
قال أبو الحسن الآمدي ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما اهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به
وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم
وفي المدونة وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله أو فسقا أهل لغير الله به
قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل
ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر
الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم
والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث
نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت إن كان يرى أنه يجزىء عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله
ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في قوله عز و جل وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وفي عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله
ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وأن كان أبلغ لكن الأصل القصد
ألا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمي على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي ص - في قربانه
اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر لقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين
وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله
وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين
فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى وما أهل لغير الله به والعموم المبيح وهو قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اختلف العلماء في ذلك
والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا
ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم
ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم
فإن قيل ما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه
قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثينا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة
وأيضا فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به
لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب
ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام
قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاؤوا أبدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه حتى صرت كالنصب الأحمر يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم
وفي قوله وما ذبح على النصب قولان
أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي ص - من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه
والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل
أولم رسول الله ص - على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم
وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة
واختلاف هذين القولين في قوله تعالى على النصب نظير الاختلاف في قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وقوله تعالى وليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة
وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم
وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى وما ذبح على النصب كما قد أومأنا إليه
وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصف وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصل من قوله تعالى وما أهل لغير الله به فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله ص -
أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله ص - الوحي فقدمت إلى رسول الله ص - سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه
فصل
قال شيخ الإسلامالجن مأمورون ومنهيون كالإنس وقد بعث الله الرسل من الإنس إليهم وإلى الإنس وأمر الجميع بطاعة الرسل كما قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وهذا بعد قوله ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله قال غير واحد من السلف أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم قال البغوي قال بعضهم استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم
لهم الأمور التي يهيؤونها ويسهل سبيلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينن لهم من الضلالة والمعاصي قال محمد بن كعب هو طاعة بعضهم لبعض وموافقة بعضهم بعضا وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعلمت الإنس وعن محمد بن كعب قال هو الصحابة في الدنيا وقال ابن السائب استمتاع الإنس بالجن استعاذتهم بهم واستمتاع الجن بالإنس أن قالوا قد أسرنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في أنفسهم وعظما في نفوسهم وهذا كقوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا
قلت الاستمتاع بالشيء هو أن يتمتع به ينال به ما يطلبه ويريده ويهواه ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم لبعض كما قال فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ومن ذلك الفواحش كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث
ويدخل في هذا الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم ويدخل في ذلك الاستمتاع بالأموال كاللباس ومنه قوله ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة ولهذا قال الفقهاء أعلى المتعة خادم وأدناها كسوة يجزىء فيها الصلاة
وفي الجملة استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وقال تعالى وتقطعت بهم الأسباب قال مجاهد هي المودات التي كانت لغير الله قال الخليل إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فالمشرك يعبد ما يهواه واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه وقد وقع في الإنس والجن هذا كله
وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء في أغراضهم وهؤلاء لهؤلاء في أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه والإنس تطيع الجن فتارة يسجد له وتارة لما يأمره بالسجود له وتارة يمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك الجينات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال وهذا كثير في رجال الجن ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنسي وقد يفعل ذلك بالذكران
وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة
تارة يكون الجني يحب المصروع ليتمتع به وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل
وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حارا أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى هذا أشد الصرع وكثيرا ما يقتلون المصروع
وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل
ومن استمتاع الإنس والجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان فإن في الإنس من له غرض في هذا لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك فإن كان القوم كفارا كما كانت العرب لم تبال بأن يقال أنه كاهن كما كان العرب كهانا وقدم النبي ص - المدينة وفيها كهان وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان وكان أبو ابرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن بل يجعل ذلك من باب الكرامات وهو من جنس الكهان فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام وإما في قتل بغير حق فالشياطين لهم غرض فيما نهى الله عنه من الكفر والفسوق والعصيان ولهم لذة في الشر والفتن يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم وهم يقومون بأمر السارق أن يسرق ويذهب إلى أهل المال فيقولون فلان سرق متاعكم ولهذا يقال القوة الملكية والبهيمية والسبعية والشيطانية فإن الملكية فيها العلم النافع والعمل الصالح والبهيمية فيها الشهوات كالأكل والشرب والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي وأما الشيطانة فشر محض ليس فيها جلب منفعة ولا دفع مضرة
والفلاسفة ونحوهم ممن لا يعرف الجن والشياطين لا يعرفون هذه وإنما يعرفون الشهوة والغضب والشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة لكن المذموم هو العدوان فيهما وأما الشيطان فيأمر بالشر الذي لا منفعة فيه ويحب ذلك كما فعل إبليس بآدم لما وسوس له وكما امتنع من السجود له فالحسد يأمر به الشيطان والحاسد لا ينتفع بزوال النعمة عن المحسود
لكن يبغض ذلك وقد يكون بغضه لفوات غرضه وقد لا يكون
ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في إحضار بعض ما يطلبونه من مال وطعام وثياب ونفقة فقد يأتون ببعض ذلك وقد يدلونه على كنز وغيره واستمتاع الجن بالإنس استعمالهم فيما يريده الشيطان من كفر وفسوق ومعصية
ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم فيما يطلبه الإنس من شرك وقتل وفواحش فتارة بتمثل الجني في صورة الإنسي فإذا استغاث به في بعض أتباعه أتاه فظن أنه الشيخ نفسه وتارة يكون التابع قد نادى شيخه وهتف به يا سيدي فلان فينقل الجني ذلك الكلام إلى الشيخ بمثل صوت الإنسي حتى يظن الشيخ أنه صوت الإنسي بعينه ثم إن الشيخ يقول نعم ويشير إشارة يدفع بها ذلك المكروه فيأتي الجني بمثل ذلك الصوت والفعل يظن ذلك الشخص أنه شيخه نفسه وهو الذي أجابه وهو الذي فعل ذلك حتى إن تابع الشيخ قد تكون يده في إناء يأكل فيضع الجني يده في صورة يد الشيخ ويأخذ من الطعام فيظن ذلك التابع أنه شيخه حاضر معه والجني يمثل للشيخ نفسه مثل ذلك الإناء فيضع يده فيه حتى يظن الشيخ أن يده في ذلك الإناء فإذا حضر المريد ذكر له الشيخ أن يدي كانت في الإناء فيصدقه ويكون بينهما مسافة شهر والشيخ في موضعه ويده لم تطل ولكن الجني مثل للشيخ ومثل للمريد حتى ظن كل منهما أن أحدهما عند الآخر وإنما كان عنده ما مثله الجني وخيله وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب إما سرقة وإما شخص مات وطلب منه أن يخبر بحاله أو علة في النساء أو غير ذلك فإن الجني قد يمثل ذلك فيريه صورة المسروق فيقول الشيخ ذهب لكم كذا وكذا ثم إن كان صاحب المال معظما وأراد أن يدله على سرقته مثل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال فيذهبون إليه فيجدونه كما قال والأكثر منهم أنهم يظهرون صورة المال ولا يكون عليه لأن الذي سرق المال معه أيضا حتى يخدمه والجن يخاف بعضهم من بعض كما أن الإنس يخاف بعضهم بعضا فإذا دل الجني عليه جاء إليه أولياء السارق فآذوه وأحيانا لا يدل لكون السارق وأعوانه يخدمونه ويرشونه كما يصيب معرف اللصوص من الإنس تارة يعرف السارق ولا يعرف به إما لرغبة ينالها منه وإما لرهبة وخوف منه وإذا كان المال المسروق لكبير يخافه ويرجوه عرف سارقه فهذا وأمثاله من استمتاع بعضهم ببعض
والجن مكلفون كتكليف الإنس ومحمد ص - مرسل إلى الثقلين الجن والإنس وكفار الجن يدخلون النار بنصوص وإجماع المسلمين وأما مؤمنهم ففيهم قولان وأكثر العلماء على أنهم يثابون أيضا ويدخلون الجنة وقد روي أنهم يكونون في ربضها يراهم الإنس من
حيث لا يرون الإنس عكس الحال في الدنيا وهو حديث رواه الطبراني في معجمه الصغير يحتاج النظر في إسناده وقد احتج ابن أبي ليلى وأبو يوسف على ذلك بقوله تعالى ولكل درجات مما عملوا وقد ذكر الجن والإنس الأبرار والفجار في الأحقاف والأنعام واحتج الأوزاعي وغيره بقوله تعالى لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان وقد قال تعالى في الأحقاف أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس أنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وقد تقدم قبل هذا ذكر أهل الجنة وقوله أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ثم قال ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لايظلمون قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل الجنة تذهب علوا ودرجات أهل النار تذهب سفلا وقد قال تعالى عن قول الجن منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وقالوا وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ففيهم الكفار والفساق والعصاة وفيهم من فيه عباة ودين بنوع من قلة العلم كما في الإنس وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس فاليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى والمسلمون مع المسلمين والفساق مع الفساق وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع
واستخدام الإنس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء منهم من يستخدمهم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين وإنما هو من أفعال الشياطين
ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة إما إحضار ماله أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك
والنوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله كما يستعمل الإنس في مثل ذلك فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاههم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم وهذه حال نبينا ص - وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله وينهون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله إذ كان نبينا محمد ص - مبعوثا بذلك إلى الثقلين الإنس والجن وقد قال الله له قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وقال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وعمر رضي لما نادى يا سارية الجبل قال إن لله جنودا يبلغون صوتي وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه فيقول يا فلان فيعان على ذلك فيقول الواسطة بينهما يا فلان وقد يقول لمن هو بعيد عنه يا فلان احبس الماء تعال إلينا وهو لا يسمع صوته فيناديه الواسطة بمثل ذلك يا فلان احبس الماء أرسل الماء إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته وإلا فلا يضر بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه وهذا حكاية كان عمر مرة قد أرسل جيشا فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر فقال عمر من أين لكم هذا قالوا شخص صفته كيت وكيت فأخبرنا فقال عمر ذاك أبو الهيتم يريد الجن وسيجيء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام
وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان لكن أعطي ملكا لا ينبغي لأحد بعده وسخرت له الإنس والجن وهذا لم يحصل لغيره والنبي ص - لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فدعته حتى سال لعابه على يدي وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته فلم يستخدم النبي الجن أصلا لكن دعاهم إلى الإيمان بالله وقرأ عليهم القرآن وبلغهم الرسالة وبايعهم كما فعل بالإنس والذي أوتيه ص - أعظم مما أوتيه سليمان فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته واختار أن يكون عبدا رسولا على أن يكون نبيا ملكا فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل
عبيد فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء وكثير من أهل الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام جعلوا الخوارق جنسا واحدا وقالوا كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها
وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلا بد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك وأن يقيض له من يعارضه ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي كان معتادا للناس قالوا إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة فهذه هي المعجزات عندهم وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا المعجزات هي خرق العادة لكن أنكروا كرامات الصالحين وأنكروا أن يكون السحر والكهانة من جنس الشعبذة وحيل لم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي قالوا فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحا بهذا الإجماع وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنها تكون للسحرة ما هو مثلها وتناقضوا في ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع
فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك ثم يقولون الولي إذا تولى لا يعترض عليه فمنهم من يراه مخالفا لما علم بالاضطرار من دين الرسول مثل ترك الصلاة المفروضة وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة وغير ذلك وفعل الفواحش والفحش والتفحش في المنطق وظلم الناس وقتل النفس بغير حق والشرك بالله وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلا من الله تعالى ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين وأن هذه من أولياء الشياطين يضل به الناس ويغويهم
ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك
فتارة يأتون الشخص في النوم يقول أحدهم أنا أبو بكر الصديق وأنا أتوبك لي وأصير شيخك وأنت تتوب الناس لي ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان وقد جرى مثل هذا لعدد من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصا وتارة يقول أنا الشيخ فلان فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره
وكثيرا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت فيأتونه في صورة ذلك الشيخ وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك بالله أضلته الشياطين والملائكة لا تجيب مشركا
وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية وقد يكون ملكا أو أميرا كبيرا ويكون كافرا وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه فيسلم على يديه ويطعمه ويدله على الطريق ويقول من أنت فيقول أنا فلان ويكون في موضع
كما جرى مثل هذا لي كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق وقال له ذلك الشخص أنا ابن تيمية فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو وأخبر بذلك ملك ماردين وأرسل بذلك ملك ماردين إلى مصر رسولا وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر فعمل معهم مثل ما كنت أعمل وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك
قال لي طائفة من الناس فلم لايجوز أن يكون ملكا قلت لا إن الملك لا يكذب وهذا قد قال أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك
وكثير من الناس رأى من قال إني أن الخضر وإنما كان جنيا ثم صار من الناس من يكذب بهذه الحكايات إنكارا لموت الخضر والذين قد عرفوا صدقها يقطعون بحياة الخضر وكل من الطائفتين مخطىء فإن الذين رأوا من قال إني أنا الخضر هم كثيرون صادقون والحكايات متواترة لكن أخطؤوا في ظنهم أنه الخضر وإنما كان جنيا ولهذا يجري مثل هذا لليهود والنصارى فكثيرا ما يأتيهم في كنائسهم من يقول أنه الخضر وكذلك اليهود يأتيهم في كنائسهم من يقول أنه الخضر وفي ذلك من الحكايات الصادقة ما يضيق عنه هذا الموضع يبين صدق من رأى شخصا وظن أنه الخضر وأنه غلط في ظنه أنه الخضر وإنما كان جنيا وقد يقول أنا المسيح أو موسى أو محمد أو أبو بكر أو عمر او الشيخ فلان فكل هذا قد وقع والنبي ص - قال من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي قال ابن عباس في صورته التي كان عليه في حياته وهذه رؤيا في المنام وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجيء بنفسه للناس عيانا قبل يوم القيامة فمن جهله أتى
ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب كما يظنون أنه أتى
إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور في أناجيلهم وكلها تشهد بذلك وذاك الذي جاء كان شيطانا قال أنا المسيح ولم يكن هو المسيح نفسه ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذي يجب عليهم تبليغه ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء
وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول أن الحلاج فيرونه في صورته عيانا وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن وقد رأيت خط الجن غير مرة وفيه كلام من كلام الجن وذاك المعتقد يعتقد أن الشيخ حي وكان يقول انتقل ثم مات وكذلك شيخ آخر كان بالمشرق وكان له خوارق من الجن وقيل كان بعد هذا يأتي خواص أصحابه في صورته فيعتقدون أنه هو وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن الحنفية قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جني في صورته وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم أحيانا ويكون المرئي جنيا جنيا فهذا باب واسع واقع كثيرا وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر ففي المشركين أكثر مما في النصارى وهو في النصارى كما هو في الداخلين في الإسلام وهذه الأمور يسلم بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كان عليه كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرا مما كانوا وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدا وقد قال النبي ص - إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم وهذا كان كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل ويقوى بها قلوب كثير من أهل الحق وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها والخير والشر درجات فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبا وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه فنفس ذلك الكفر الذي كان عليه وانتهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرا فانتقل إلى خير مما كان عليه وخف الشر الذي كان فيه ثم
إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتعليلها والنبي ص - دعا الخلق بغاية الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون وأكثر المتكلمين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلما مبتدعا وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة وقد ذكرنا فيما تقدم أصناف البدع
ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليا ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين ولا أعلم عينها وقالوا أنه قال لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان وهذا القول شاذ فيهم والذي عليه عامتهم تعظيم علي
ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي ومنهم من يكفر هؤلاء ويفسقهم بخلاف طلحة والزبير وعائشة فإنهم يقولون أن هؤلاء تابوا من قتاله وكلهم يتولى عثمان ويعظمون أبا بكر وعمر ويعظمون الذنوب فهو يتحرون الصدق كالخوارج لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار غير دار الإسلام كالخوارج ولهم كتب في تفسير القرآن ونصر الرسول ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض وهو قصدهم إثبات توحيد الله ورحمته وحكمته وصدقه وطاعته وأصولهم الخمس على هذه الصفات الخمس لكنهم غلطوا في بعض ما قالوه في كل واحد من أصولهم الخمس فجعلوا من التوحيد نفي الصفات وإنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق فوافقوا في ذلك الجهمية وجعلوا من العدل أنه لا يشاء ما يكون ويكون ما لا يشاء وأنه لم يخلق أفعال العباد فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة وكذلك هم الخوارج قالوا بإنفاذ الوعيد ليثبتوا أن الرب صادق لا يكذب إذا كان عندهم قد أخبر بالوعيد العام فمتى لم يقل بذلك لزم كذبه وغلطوا في فهم الوعيد وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف قصدوا به طاعة الله ورسوله كما يقصده الخوارج والزيدية فغلطوا في ذلك وكذلك إنكارهم للخوارق غير المعجزات قصدوا به إثبات النبوة ونصرها وغلطوا فيما سلكوه فإن النصر لا يكون بتكذيب الحق وذلك لكونهم لم يحققوا خاصة آيات الأنبياء ولأشعرية ما ردوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم وبينوا ما بينوه من تناقضهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة فحصل بما قالوه من بيان تناقض
أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير
فإن الأشعري كان من المعتزلة وبقي على مذهبهم أربعين سنة يقرأ على أبي علي الجبائي فلما انتقل عن مذهبهم كان خبيرا بأصولهم وبالرد عليهم وبيان تناقضهم وأما ما بقي عليه من السنة فليس هو من خصائص المعتزلة بل هو من القدر المشترك بينهم وبين الجهمية وأما خصائص المعتزلة فلم يوالهم الأشعري في شيء منها بل ناقضهم في جميع أصولهم ومال في مسائل العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه وكثير من الطوائف كالنجارية اتباع حسين النجار والضرارية أتباع ضرار بن عمر ويخالفون المعتزلة في القدر والأسماء والأحكام وإنفاذ الوعيد والمعتزلة من أبعد الناس عن طريق أهل الكشف والخوارق والصوفية يذمونها ويعيبونها وكذلك يبالغون في ذم النصارى أكثر مما يبالغون في ذم اليهود وهم إلى اليهود أقرب كما أن الصوفية ونحوهم إلى النصارى أقرب فإن النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة فهم ضالون واليهود عندهم علم ونظر بلا قصد صالح ولا عبادة ولا زهد ولا أخلاق كريمة فهم مغضوب عليهم والنصارى ضالون
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وروى بإسناد عن أبي روق عن ابن عباس وغير طريق الضالين وهم النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه يقول فألهمنا دينك الحق وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا كما تعذبهم يقول امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك ورأفتك وقدرتك قال ابن أبي حاتم ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وقد قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى
فأهل الكلام أصل أمرهم هو النظر في العلم ودليله فيعظمون العلم وطريقه وهو الدليل والسلوك في طريقه وهو النظر
وأهل الزهد يعظمون الإرادة والمريد وطريق أهل الإرادة فهؤلاء يبنون أمرهم على الإرادة وأولئك يبنون أمرهم على النظر وهذه هي القوة العلمية ولا بد لأهل الصراط المستقيم من هذا وهذا ولا بد أن يكون هذا وهذا موافقا لما جاء به الرسول
فالإيمان قول وعمل وموافقة السنة وأولئك عظموا النظر وأعرضوا عن الإرادة وعظموا جنس النظر ولم يلتزموا النظر الشرعي فغلطوا من جهة كون جانب الإرادة لم يعظموه وإن كانوا يوجبون الأعمال الظاهرة فهم لا يعرفون أعمال القلوب وحقائقها ومن جهة أن النظر لم يميزوا فيه بين النظر الشرعي الحق الذي أمر به الشارع وأخبر به وبين النظر البدعي الباطل المنهي عنه
وكذلك الصوفية عظموا جنس الإرادة إرادة القلب وذموا الهوى وبالغوا في الباب ولم يميز كثير منهم بين الإرادة الشرعية الموافقة لأمر الله ورسوله وبين الإرادة البدعية بل أقبلوا على طريق الإرادة طريقة النظر
وأعرض كثير منهم فدخل عليهم الداخل من هاتين الجهتين ولهذا صار هؤلاء يميل إليهم النصارى ويميلون إليهم وأولئك يميل إليهم اليهود ويميلون إليهم وبين اليهود والنصارى غاية التنافر والتباغض وكذلك بين أهل الكلام والرأي وبين أهل التصوف والزهد تنافر وتباغض هذا وهذا من الخروج عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
ونسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين
148 - فصل
قال تعالى يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير الآية وفيهما قراءتان إحداهما بالنصب فيكون لباس التقوى أيضا منزلا واما قراءة الرفع فلا وكلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل وقدلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل وقدلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل أنزلنا أسبابه وقيل ألهمناهم كيفية صنعته وهذه الأقوال ضعيفة فإن النبات الذى ذكروا لم يجيءفيه لفظ أنزلنا ولم يستعمل في كل ما يصنع أنزلنا فلم يقل أ أنزلنا الدور وأنزلنا الطبخ ونحو ذلك وهو لم يقل إنا أنزلنا كل لباس ورياش
وقد قيل إن الريش والرياش المراد به اللباس الفاخر كلاهما بمعنى واحد مثل اللبس واللباس
وقد قيل هما المال والخصب والمعاش وارتاش فلان حسنت حالته
والصحيح أن الرياض هو الأثاث والمتاع قا أبو عمرو والعرب تقول أعطاني فلان ريشه أي كسوته وجهازه
وقال غيره الرياض في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفرش ونحوها
وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال والمراد به مال مخصوص
قال أبو زيد جمالا وهذا لأنه مأخوذ من ريش الطائر وهو ما يروش به ويدفع عنه الحر والبرد وجمال الطائر ريشه وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش وما يبسطه تحته ونحو ذلك والقرآن مقصوده جنس اللباس الذي يلبس على البدن وفي البيوت
والله أعلم
فصل
قال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد سورة الأعراف 29 لم يقل عند كل مشهد وقال ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين سورة التوبة 17 18ولم يقل إنما يعمر مشاهد الله بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله ويرجون غير الله وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سورة الجن 18 ولم يقل وأن المشاهد لله وقال ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا سورة الحج 40 ولم يقل ومشاهد وقال في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإ يتاء الزكاة سورة النور 36 37وأيضا فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالاضطرار من دين الاسلام أن الرسول ص - شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولاغيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ولم يكن على عهده ص - في الإسلام
مشهد مبين على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيره
بل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم ثم لما قدم إلى سرغ ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجة النبي ص -
ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا
بل كان الصحابة إذا رأوا أحدا بنى مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به
وكان عمر بن الخطاب إذا رآهم ينتابون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي ينهاهم عن ذلك ويقول إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب
فهذا وأمثاله كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به الرسول إليهم ويتبعون في ذلك سنته ص -
والإسلام مبني على أصلين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع
فالنصارى خرجوا عن الأصلين وكذلك المبتدعون من هذه الأمة من الرافضة وغيرهم
وأيضا فإن النصارى يزعمون أن الحواريين الذين اتبعوا المسيح أفضل من إبراهيم
وموسى وغيرهما من الأنبياء والمرسلين ويزعمون أن الحواريين رسل شافههم الله بالخطاب لأنهم يقولون إن الله هو المسيح ويقولون أيضا إن المسيح ابن الله
والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغالبيتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء لأنهم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدته النصارى في المسيح
والنصارى يقولون إن الدين مسلم للأحبار والرهبان فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه
والرافضة تزعم أن الدين مسلم إلى الأئمة فالحلال ما حللوه والدين ما شرعوه
وأما من دخل في غلو الشيعة كالإسماعيلية الذين يقولون بإلهية الحاكم ونحوه من أئمتهم ويقولون إن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وغير ذلك من مقالات الغالية من الرافضة فهؤلاء شر من أكثر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين وهم ينتسبون إلى الشيعة يتظاهرون بمذاهبهم
فإن قيل ما وصفت به الرافضة من الغلو والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلى السنة فإن في كثير منهم غلوا في مشايخهم وإشراكا بهم وابتداعا لعبادات غير مشروعة وكثير منهم يقصد قبر من يحسن الظن به إما ليسأله حاجاته وإما ليسأل الله تعالى به حاجة وإما لظنه أن الدعاء عند قبره أجوب منه في المساجد وفيهم من يفضل زيارة قبورشيوخهم على الحج ومنهم من يجد عند قبر من يعظمه من الرقة والخشوع ما لا يجده في المساجد والبيوت وغير ذلك مما يوجد في الشيعة
ويروون أحاديث مكذوبة من جنس أكاذيب الرافضة مثل قوله لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه الله به وقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم قبر فلان هو الترياق المجرب
ويروون عن بعض شيوخهم أنه قال لصاحبه إن كان لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث بي ونحو ذلك فإن في المشايخ من يفعل بعد مماته كما كان يفعل في حياته وقد يستغيث الشخص بواحد منهم فيتمثل له الشيطان في صورته إما حيا وإما ميتا وربما قضى حاجته أو قضى بعض حاجته كما يجري نحو ذلك للنصارى مع شيوخهم ولعباد الأصنام من العرب والهند والترك وغيرهم
قيل هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه سواء كان فاعله منتسبا إلى السنة أو إلى التشييع ولكن الأمور المذمومة المخالفة للكتاب
والسنة في هذا وغيره هي في الرافضة أكثر منها في أهل السنة فما يوجد في أهل السنة من الشر ففي الرافضة أكثر منه وما يوجد في الرافضة من الخبر ففي أهل السنة أكثر منه
وهذا حال أهل الكتاب مع المسلمين فما يوجد في المسلمين شر إلا وفي أهل الكتاب أكثر منه ولا يوجد في أهل الكتاب خير إلا وفي المسلمين أعظم منه
ولهذا يذكر سبحانه وتعالى مناظرة الكفار من المشركين وأهل الكتاب بالعدل فإذا ذكروا عيبا في المسلمين لم يبرئهم منه لكن يبين أن عيوب الكفار أعظم
كما قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه اكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة 217 وهذه الآية نزلت لأن سرية من المسلمين ذكر أنهم قتلوا ابن الحضرمي في آخر يوم من رجب فعابهم المشركون بذلك فأنزل الله هذه الآية
فصل
في قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وقد روى مالك في موطئه عن زيد بن اسلم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا الآية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله ص - يسأل عنها فقال رسول الله ص - إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل اهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله ص - إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار
وهذا الحديث إنما رواه أهل السنن والمسانيد كأبي داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن وقد قيل إن إسناده منقطع وأن راويه مجهول ومع هذا فقد رواه مالك في الموطأ مع أنه أبلغ من غيره لقوله ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والثوري والليث وغيرهم فلو تأمل أبو المعالي وذووه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أمثال هذه السنن علم أصلا فكيف بالموطأ ونحوه وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك فلهذا كان مجرد
الاكتفاء بكتابه في هذا الحديث يورث جهلا عظيما بأصول الإسلام واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد في البسملة وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه كيف يكون حالهم في غير هذا وإذا اتفق أصحابه على أن لا يجوز أن يتخذ إماما في مسألة واحدة من مسائل الفروع فكيف يتخذ إماما في أصول الدين مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعة أو بحث تفطن له فلا يجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة ولهذا روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور وقال أبو عبد الله بن العباس الرستمي حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور فأقعد فقال لنا اشهدوا على أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح عليهم السلام وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور وعامة المتأخرين من أهل الكلام سلكوا خلفه من تلامذته وتلامذة تلامذته وتلامذة تلامذة تلامذته ومن بعدهم ولقلة علمه بالكتاب والسنة وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليست في الكتاب والسنة والإجماع ما يدل عليها وإنما يعلم حكمها بالقياس كما يذكر ذلك في كتبه ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله أن النصوص تستوعب جميع الحوادث أقرب إلى الصواب من هذا القول وإن كان في طريقة هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسا جليا وقد يجعل من دلالة اللفظ مثل فحوى الخطاب والقياس في معنى الأصل وغير ذلك ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم وكذلك القدح في أعراض الأئمة لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث وإن الله ورسوله قد بين للناس دينهم هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق ممن يقول أن الله لم يبين الناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة ولا ريب أن سبب هذا كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية
وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد ولكن اتبع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس الذي ينقص صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره فليس الفضل بكثرة الاجتهاد ولكن بالهدى والسداد كما جاء في الأثر ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا وقد قال النبي ص - في الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين لكن إنما يراد الحسن من ذلك كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه فقيل له يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وأما الشافعي رضي الله عنه فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه مثل حديث النزول وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه قول رسول الله ص - للجارية أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة وقد رواه مسلم في صحيحه بل روى في كتابه الكبير الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات ورواه بإسناد فيه ضعف فقال أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي ص - فقال النبي ص - ما هذه قال هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد قال النبي ص - يا جبريل وما يوم المزيد قال إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز و جل ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة
بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ويجلس من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز و جل لهم أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك فيقول قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة
وأما ما رواه الثوري والليث بن سعد وابن جريج والأوزاعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلا الله بل هؤلاء عليهم مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت وحماد بن سلمة الذي قال إن مالكا احتذى موطأه على كتابه هو قد جمع أحاديث الصفات لما أظهرت الجهمية إنكارها حتى إن حديث خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن قد رواه هؤلاء الأئمة رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي ص - مرسلا ولفظه خلق آدم على صورة الرحمن مع أن الأعمش رواه مسندا فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلا فكيف يقال أنهم كانوا يمتنعون عن روايتها
والحديث هو في الصحيحين من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة وقد روي عن ابن القاسم قال سألت مالكا عن من يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد
قلت هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولايحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة لكونه لا يأخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال كره أن يتحدث بذلك حديث يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك
واما إن قيل أنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود على من قاله فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن
عباس وعطاء بن أبي رباح وقد حدث بها نظراؤه كسفيان الثوري والليث بن سعد وابن عيينة والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظه له وهو أقل غلطا فيه من مالك وإن كان مالك ينقي من يحدث عنه وأما الليث فقد قال فيه الشافعي كان أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه ففي الجملة هذا كلام في حديث مخصوص أما أن يقال أن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم
179 -
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التوبةفصل
سئل شيخ الإسلام رحمه اللهعن قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فسماه هنا كلام الله وقال في مكان آخر إنه لقول رسول كريم فما معنى ذلك فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم ثم يقولون أنتم تعتقدون أن موسى صلوات الله عليه سمع كلام الله عز و جل حقيقة من الله من غير واسطة وتقولون إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين هذا وهذا وتقولون أن القرآن صفة لله تعالى فما الفرق بين هذا وهذا وتقولون إن القرآن صفة لله تعالى وإن صفات الله تعالى قديمة فإن قلتم أن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه الآية حق كما ذكر الله وليست إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل وذلك أن قوله وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فيه دلالة على أن يسمع كلام الله من التالي المبلغ وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله كما في حديث جابر في السنن أن النبي ص - كان يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج
على المشركين فقرأ عليهم الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون قالوا له هذا كلامك أم كلام صاحبك فقال ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي ولكنه كلام الله
وقد قال تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر فمن قال إن هذا القرآن قول البشر كان قوله مضاهيا لقول الوحيد الذي أصلاه الله سقر ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول النبي ص - إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا هذا حديث رسول الله ص - وهذا كلام رسول الله ص - ولو قال المبلغ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئا منشئا لا لمن أداه راويا مبلغا فإذا كان مثل هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق الذي هو أولى أن لا يجعل كلاما لغير الخالق جل وعلا
وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه فقال والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقال حم تنزيل من الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله ص - من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكلاهما مبلغ له كما قال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقال إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وهو مع هذا كلام الله
ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتاليين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه قال الله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إلى قوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين
كان بعض المشركين يزعم أن النبي ص - تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة إما عبد بن الحضرمي وإما غيره كما ذكر ذلك المفسرين فقال تعالى لسان الذي يلحدون إليه أي يضيفون إليه التعليم لسان أعجمي وهذا لسان عربي مبين فكيف يتصور من يعلمه أعجمي وهذا الكلام عربي وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه وبيان أن هذا الذ تعلمه من غير نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه
ومن المعلوم أن من بلغ كلام غيره كمن بلغ كلام النبي ص - أو غيره من الناس أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لبيد
... ألا كل شيء ما خلا الله باطل ...
أو قول عبد الله بن رواحة حيث قال
... شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا ...
... وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ...
أو قوله
... وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع ...
... أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
وهذا الشعر قال منشئه لفظه ومعناه وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أن شعر ذلك المنشىء وكلامه ونظمه وقوله مع أن هذا التالي أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه وقام بقلبه من المعنى نظير من قام بقلب الأول وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشىء والشعر شعر المنشىء لا شعر المنشد والمحدث عن النبي ص - إذا روى قوله إنما الأعمال بالنيات بلغه بحركته وصوته مع أن النبي ص - تكلم به بحركته وصوته وليس صوت المبلغ صوت النبي ص - ولا حركته كحركته والكلام كلام رسول الله ص - لا كلام المبلغ له عنه
فإذا كان هذا معلوما معقولا فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارىء إذا قرأ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أن يقال هذا الكلام كلام البارىء وإن كان الصوت صوت القارىء فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق وبدعوه كما جهموا من قال لفظي بالقرآن مخلوق وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فكيف من قال لفظي به قديم أو صوتي به قديم فابتدع هذا وضلاله أوضح فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو ضال مبتدع
وهؤلاء قد يحتجون بقوله حتى يسمع كلام الله ويقولون هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق ونحن لا نسمع إلا صوت القارىء وهذا جهل منهم فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة ويكون بواسطة الرسول المبلغ له قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
ومن قال إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا
ولو قال قائل إنا نسمع كلام النبي ص - كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحا فكيف من يقول أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى وإن كان الله كلم موسى تكليما بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتا للخالق وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن
صفة المخلوق هي صفة الخالق بل ولا مثلها بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فليس كلامه مثل كلامه ولا معناه مثل معناه ولا حرفه مثل حرفه ولا صوته مثل صوته كما أنه ليس علمه مثل علمه ولا قدرته مثل قدرته ولا سمعه مثل سمعه ولا بصره مثل بصره فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
ولما استقر في فطر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب
وقد بين أئمة السنة والعلم كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال وغيرهما من أئمة السنة من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين
فصل
وأما قوله تعالى إنه لقول رسول كريم فهذا قد ذكره في موضعين فقال في الحاقة إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون فالرسول هنا محمد ص - وقال في التكوير إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين فالرسول هنا جبريل فأضافه إلى الرسول من البشر تارة وإلى الرسول من الملائكة تارة باسم الرسول ولم يقل إنه لقول ملك ولا نبي لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره لا منشيء له من عنده وما على الرسول إلا البلاغ المبين فكان قوله إنه لقول رسول كريم بمنزلة قوله لتبليغ رسول أو مبلغ من رسول كريم أو جاء به رسول كريم أو مسموع عن رسول كريم وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئا منه أو أحدثه رسول كريم إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا
وأيضا فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشىء المؤلف لها فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل أحداث لفظه ونظمه ولو جاز
أن تكون الإضافة هنا لأجل إحداث الرسول له أو لشيء منه لجاز أن نقول إنه قول البشر وهذا قول الوحيد الذي أصلاه الله سقر
فإن قال قائل فالوحيد جعل الجميع قول البشر ونحن نقول إن الكلام العربي قول البشر وأما معناه فهو كلام الله
فيقال لهم هذا نصف قول الوحيد ثم هذا باطل من وجوه أخرى
وهو أن معاني هذا النظم معان متعددة متنوعة وأنتم تجعلون ذلك المعنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وتجعلون ذلك المعنى إذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من العقل والدين فإن التوراة إذا عربناها لم يكن معناها معنى القرآن والقرآن إذا ترجمناه بالعبرانية لم يكن معناه معنى التوراة
وأيضا فإن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين وإنما يشتركان في معنى الكلام ومسمى كلام الله كما تشترك الأعيان في مسمى النوع فهذا الكلام وهذا الكلام وهذا الكلام كله يشترك في أنه كلام الله اشتراك الأشخاص في أنواعها كما أن هذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان يشتركون في مسمى الإنسان وليس في الخارج خص بعينه هو هذا وهذا وهذا وكذلك ليس في الخارج كلام واحد هو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وهو معنى آية الدين وآية الكرسي
ومن خالف هذا كان في مخالفته لصريح المعقول من جنس من قال إن أصوات العباد وأفعالهم قديمة أزلية فاضرب بكلام البدعتين رأس قائلهما والزم الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وبسبب هاتين البدعتين الحمقاوين ثارت الفتن وعظمت الإحن وإن كان كل من أصحاب القولين قد يفسرونهما بما قد يلتبس على كثير من الناس كما فسر من قال إن الصوت المسموع من العبد أو بعضه قديم وأن القديم ظهر في المحدث من غير حلول فيه
وأما أفعال العباد فرأيت بعض المتأخرين يزعم أنها قديمة خيرها وشرها وفسر ذلك بأن الشرع قديم والقدر قديم وهي مشروعة مقدرة ولم يفرق بين الشرع الذي هو كلام الله والمشروع الذي هو المأمور به والمنهي عنه ولم يفرق بين القدر الذي هو علم الله وكلامه وبين المقدور الذي هو مخلوقاته والعقلاء كلهم يعلمون بالاضطرار أن الأمر والخبر نوعان للكلام لفظه ومعناه ليس الأمر والخبر صفات لموصوف واحد فمن جعل الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواعا له فقد خالف ضرورة العقل وهؤلاء في هذا بمنزلة من زعم أن الوجود
واحد إذ لم يفرق بين الواحد بالنوع والواحد بالعين فإن انقسام الموجود إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق والقائم بنفسه والقائم بغيره كانقسام الكلام إلى الأمر والخبر أو إلى الإنشاء والإخبار أو إلى الأمر والنهي والخبر فمن قال الكلام معنى واحد هو الأمر والخبر فهو كمن قال الوجود واحد هو الخالق والمخلوق أو الواجب والممكن وكما أن حقيقة هذا تؤول إلى تعطيل الخالق فحقيقة هذا تؤول إلى تعطيل كلامه وتكليمه
وهذا حقيقة قول فرعون الذي أنكر الخالق وتكليمه لموسى ولهذا آل الأمر بمحقق هؤلاء إلى تعظيم فرعون وتوليه وتصديقه في قوله أنا ربكم الأعلى بل إلى تعظيمه على موسى وإلى الاستحقار بتكليم الله لموسى كما قد بسط في غير هذا الموضع
وأيضا فيقال ما تقول في كلام كل متكلم إذا نقله عنه غيره كما قد ينقل كلام النبي ص - والصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم ويسمع من الرواة أو المبلغين أن ذلك المسموع من المبلغ بصوت المبلغ هو كلام المبلغ أو كلام المبلغ عنه
فإن قال كلام المبلغ لزم أن يكون القرآن كلاما لكل من سمع منه فيكون القرآن المسموع كلام ألف ألف قارىء لا كلام الله تعالى وأن يكون قوله إنما الأعمال بالنيات ونظائره كلام كل من رواه لا كلام الرسول وحينئذ فلا فضيلة للقرآن إنه لقول رسول كريم فإنه على قول هؤلاء قول كل منافق قرأه والقرآن يقرأه المؤمن والمنافق كما في الصحيحين عنه ص - أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها وعلى هذا التقدير فلا يكون القرآن قول بشر واحد بل قول ألف ألف بشر وأكثر من ذلك وفساد هذا في العقل والدين واضح
وإن قال كلام المبلغ عنه علم أن الرسول المبلغ للقرآن ليس القرآن كلامه ولكنه كلام الله ولكن لما كان الرسول الملك قد يقال إنه شيطان بين الله أنه تبليغ ملك كريم لا تبليغ شيطان رجيم ولهذا قال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين إلى قوله وما هو بقول شيطان رجيم وبين في هذه الآية أن الرسول البشري الذي صحبناه وسمعناه منه ليس بمجنون وما هو على الغيب بمتهم وذكره باسم الصاحب لما في ذلك
من النعمة به علينا إذ كنا لا نطيق أن نتلقى إلا عمن صحبناه وكان من جنسنا كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم وقال ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون كما قال في الآية الأخرى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وبين أن الرسول الذي من أنفسنا والرسول الملكي أنهما مبلغان فكان في هذا تحقيق أنه كلام الله
فلما كان الرسول البشري يقال إنه مجنون أو مفتر نزهه عن هذا وهذا وكذلك في السورة الأخرى قال إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين وهذا مما يبين أنه إضافة إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وأنشأه فإنه قال وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين فجمع بين قوله إنه لقول رسول كريم وبين قوله وإنه لتنزيل رب العالمين والضميران عائدان إلى واحد فلو كان الرسول أحدثه وأنشأه لم يكن تنزيلا من رب العالمين بل كان يكون تنزيلا من الرسول ومن جعل الضمير في هذا عائدا إلى غير ما يعود إليه الضمير الآخر مع أنه ليس في الكلام ما يقتضي اختلاف الضميرين ومن قال أن هذا عبارة عن كلام الله فقل له هذا الذي تقرأه أهو عبارة عن العبارة التي أحدثها الرسول الملك أو البشر على زعمك أم هو نفس تلك العبارة فإن جعلت هذا عبارة عن تلك العبارة جاز أن تكون عبارة جبريل أو الرسول عبارة عن عبارة الله وحينئذ فيبقى النزاع لفظيا فإنه متى قال إن محمدا سمعه من جبريل جميعه وجبريل سمعه من الله جميعه والمسلمون سمعوه من الرسول جميعه فقد قال الحق وبعد هذا فقوله عبارة لأجل التفريق بين التبليغ والمبلغ عنه كما سنبينه
وإن قلت ليس هذا عبارة عن تلك العبارة بل هو نفس تلك العبارة فقد جعلت ما يسمع من المبلغ هو بعينه ما يسمع من المبلغ عنه إذ جعلت هذه العبارة هي بعينها عبارة جبريل فحينئذ هذا يبطل أصل قولك
واعلم أن أصل القول بالعبارة أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام إن معنى القرآن كلام الله وحروفه ليست كلام الله فأخذ بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة والجماعة وكان قد ذهب إلى إثبات الصفات لله تعالى
وخالف المعتزلة في ذلك وأثبت العلو لله على العرش ومباينة المخلوقات وقرر ذلك تقريرا هو أكمل من تقرير أتباعه بعده وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلام غيره هل يقال له حكاية عنه أم لا وأكثر المعتزلة قالوا هو حكاية عنه فقال ابن كلاب القرآن العربي حكاية عن كلام الله ليس بكلام الله
فجاء بعهد أبو الحسن الأشعري فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات وفي مسألة القرآن أيضا واستدرك عليه قوله أن هذا حكاية وقال الحكاية إنما تكون مثل المحكي فهذا يناسب قول المعتزلة وإنما يناسب قولنا أن نقول هو عبارة عن كلام الله لأن الكلام ليس من جنس العبارة فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور
أحدها قولهم إن المعنى كلام الله وإن القرآن العربي ليس كلام الله وكانت المعتزلة تقول هو كلام الله وهو مخلوق فقال هؤلاء هو مخلوق وليس بكلام الله لأن من أصول أهل السنة أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل فإذا قام الكلام بمحل كان هو المتكلم به كما أن العلم والقدرة إذا قاما بمحل كان هو العالم القادر وكذلك الحركة وهذا مما احتجوا به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية في قولهم إن كلام الله مخلوق خلقه في بعض الأجسام قالوا لهم لو كان كذلك لكان الكلام كلام ذلك الجسم الذي خلقه فيه فكانت الشجرة هي القائلة إني أنا الله رب العالمين فقال أئمة الكلابية إذا كان القرآن العربي مخلوقا لم يكن كلام الله فقال طائفة من متأخريهم بل نقول الكلام مقول بالاشتراك بين المعنى المجرد وبين الحروف المنظومة فقال لهم المحققون فهذا يبطل أصل حجتكم على المعتزلة فإنكم إذا سلمتم أن ما هو كلام الله حقيقة لا يمكن قيامه به بل بغيره أمكن المعتزلة أن يقولوا ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره
الثاني قولهم إن ذلك المعنى هو الأمر والنهي والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وقال أكثر العقلاء هذا الذي قالوه معلوم الفساد بضرورة العقل
الثالث أن ما نزل به جبريل من المعنى واللفظ وما بلغه محمد لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله
ومسألة القرآن لها طرفان أحدهما تكلم الله به وهو أعظم الطرفين والثاني تنزيله إلى خلقه والكلام في هذا سهل بعد تحقيق الأول وقد بسطنا الكلام في ذلك في عدة مواضع وبينا مقالات أهل الأرض كلهم في هذه المسائل وما دخل في ذلك من الاشتباه ومأخذ كل طائفة ومعنى قول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق وأنهم قصدوا به إبطال
قول من يقول إن الله لم يقم بذاته كلام ولهذا قال الأئمة كلام الله من الله ليس ببائن عنه وذكرنا اختلاف المنتسبين إلى السنة هل يتعلق الكلام بمشيئته وقدرته أم لا وقول من قال من أئمة السنة لم يزل الله متكلما إذا شاء وأن قول السلف منه بدأ لم يريدوا به أنه فارق ذاته وحل في غيره فإن كلام المخلوق بل وسائر صفاته لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف يجوز أن يفارق ذات الله كلامه أو غيره من صفاته بل قالوا منه بدأ أي هو المتكلم به ردا على المعتزلة والجهمية وغيرهم الذين قالوا بدأ من المخلوق الذي خلق فيه وقولهم إليه يعود أي يسري عليه فلا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في الصدور منه آية
والمقصود هنا الجواب عن مسائل السائل
فصل
وأما قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة وتقولون أن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائل بأصوات مختلفة فما الفرق بين ذلكفيقال له بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي ص - منه بغير واسطة كسماع الصحابة منه وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وكل من السامعين سمع كلام النبي ص - حقيقة وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أو غيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه
فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم فهذا لا يقوله ذو حس سليم بل ما بين لوحي المصحف كلام الله وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره فمن قال إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره فهو ملحد مارق
ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم
فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى
والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد مثال ذلك أن الإنسان يقول رأيت الشمس والقمر والهلال إذ رآه بغير واسطة وهذه الرؤية المطلقة وقد يراه في ماء أو مرآة فهذه رؤية مقيدة فإذا أطلق قوله رأيته أو ما رأيته حمل على مفهوم اللفظ المطلق وإذا قال لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة فهو كلام صحيح مع التقييد واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد فإذا وصل بالكلام ما يغير معناه كالشرط والاستثناء ونحوهما من التخصيصات المتصلة كقوله ألف سنة إلا خمسين عاما كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس
ومن قال إن هذا مجاز فقد غلط فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين ولا يجوز نفي مفهومهما بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مع أن قول القائل هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز نزاع لفظي وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد فإنه قال فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية هذا من مجاز القرآن وأول من قال ذلك مطلقا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يجوز في اللغة ويسوغ فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء عقد لازم وجائز وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة
والمقصود أن القائل إذا قال رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة وإذا قال قائل ما رأى ذلك بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة وكذلك قول النبي ص - من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي هو كما قال ص - رآه في المنام حقا فمن قال ما رآه في المنام حقا فقد أخطأ ومن قال إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك
وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام وليس هذا كالسماع منه في اليقظة وقد يرى الرائي في المنام أشخاصا يخاطبهم ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك وإنما رأى مثالهم ولكن يقال رآهم في المنام حقيقة فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس
فإن الرؤيا ثلاثة أقسام رؤيا بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي ص - ولكن الرؤيا يظهر لكل أحد من الفرق بينها وبين اليقظة ما لا يظهر في غيرها فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة مستديرة رأى كذلك وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رأى كذلك فكذلك في السماع يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ ففي الموضعين المقصود سماع كلامه كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين كما يختلف المرئي باختلاف المرايا قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
فجعل التكليم ثلاثة أنواع الوحي المجرد والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد ص -
والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول فهذا تكليم مقيد بالإرسال وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلغ لا منه وهذا القرآن كلام الله مبلغا عنه مؤدا عنه وموسى سمع كلامه مسموعا منه لا مبلغا عنه ولا مؤدا عنه وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة
والنبي ص - يروي عن ربه ويخبر عن ربه ويحكي عن ربه فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكيا عنه فلو قال من قال إن القرآن حكاية إن محمدا حكاه عن الله كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله لكان قد قصد معنى صحيحا لكن يقصدون ما يقصده القائل بقوله فلان يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل قال الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرأة حصل مقصوده وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يتخلف باختلاف الصائتين والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود كما في الاسم والمسمى فإن القائل إذا قال جاء زيد وذهب عمرو ولم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن المسمى ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك
فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا فكذلك إذا قال القائل هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارىء وحركته كان مبطلا ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه قل هو الله أحد وسأله هل هذا كلام الله وهل هو مخلوق فأجابه بأنه كلام الله وأنه غير مخلوق فنقل عنه أبو طاب خطأ منه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فاستدعاه وغضب عليه وقال أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق قال لا ولكن قرأت عليك قل هو الله أحد وقلت لك هذا غير مخلوق فقلت نعم قال فلم تحكي عني ما لم أقل لا تقل هذا فإن هذا لم يقله عالم وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروذي وفوزان وبسطها الخلال في كتاب السنة وصنف المروذي في مسألة اللفظ مصنفا ذكر فيه أقوال الأئمة
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به لا إلى ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة وهذا باطل كما أن من رأى وجها في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر أو لم يبدر فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم لا نفس
الصوت المسموع من الناطق فلو قال هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى
وكان بعضهم يقول لفظي بالقرآن مخلوق فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة فأوجعه بالضرب فقال له لا تضربني فقال أنا ما أضربك وإنما أضرب الفروة فقال إنما يقع الضرب علي فقال هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق فالخلق إنما يقع على القرآن يقول كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة فإذا قلت مخلوق وقع ذلك على المقصود كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر ولهذا قال الأئمة القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما تصرف بخلاف أفعال العباد وأصواتهم فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعا ضالا
فصل
وأما قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله وإن صفات الله غير مخلوقة فإن قلتم أن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون بالحلولية والاتحادية وإن قلتم مغير ذلك قلتم بمقالتنا
فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله فإن منشأ الشبهة أن قول القائل هذا كلام الله يجعل أحكامه واحدة سواء كان كلامه مسموعا منه أو كلامه مبلغا عنه
ومن هنا تختلف طوائف من الناس
طائفة قالت هذا كلام الله وهذا حروف وأصوات مخلوقة فكلام الله مخلوق
وطائفة قالت هذا مخلوق وكلام الله ليس بمخلوق فهذا ليس كلام الله
وطائفة قالت هذا كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق وهذا ألفاظنا وتلاوتنا فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة
ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا فأنت تقول هذا الكلام الذي تسمعه من قائله صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول هذا الكلام صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم فالمشار إليه في الموضعين واحد وتقول أيضا إن هذا صوت حسن وهذا كلام من وسط القلب ثم إذا سمعته من الناقل تقول هذا صوت حسن أو كلام من وسط القلب فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه
هناك بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإذا كتب الكلام في صفحتين كالمصحفين تقول في كلم فهما هذا قرآن كريم وهذا كتاب مجيد وهذا كلام الله فالمشار إليه واحد ثم تقول هذا خط حسن وهذا قلم النسخ أو الثلث وهذا الخط أحمر أو أصفر والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر
فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا تبين المتفق والمفترق وعلم أن من قال هذا القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق أن المشار إليه الكلام من حيث هو مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم ومن قال هذا مخلوق وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارىء من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل
ويقال لهذا هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودا قبل أن يخلق هذا القارىء فهب أن القارىء لم تخلق نفسه ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن يكون الكلام نفسه الذي كان موجودا قبله يعدم بعدمه ويحدث بحدوثه فإشارته بالخلق إن كانت إلى ما يختص به هذا القارىء من أفعاله وأصواته فالقرآن غني عن هذا القارىء وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد وبلغه محمد لأمته وهو كلام الله الذي تكلم به فذاك يمتنع أن يكون مخلوقا فإنه لو كان مخلوقا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاما لله ولأنه لو كان سبحانه إذا خلق كلاما كان كلامه كان ما أنطق به كل ناطق كلامه مثل تسبيح الجبال والحصى وشهادة الجلود بل كان كلام في الوجود وهذا قول الحلولية يقولون
... وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه ...
ومن قال القرآن مخلوق فهو بين أمرين إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلا فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه وشبهه بالأصنام والجمادات والموات كالعجل الذي لا يكلمهم ولايهديهم سبيلا فيكون قد فر من إثبات صفات الكمال له حذرا في زعمه من التشبيه فوصفه بالنقص وشبهه بالجامد والموات
وكذلك قول القائل هذا نفس كلام الله وعين كلام الله وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله ونفس كلام الله وأمثال هذه العبارات هذه مفهومها عند الإطلاق في فطر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان فإن من ينقل كلام غيره
ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها فإذا جاء كتاب السلطان فقيل هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص يعني لم يزد فيه الكاتب ولا نقص وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل هذا الكلام كلام فلان بعينه يعني لم يزد فيه ولم ينقص كما قال النبي ص - نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه
فقوله فبلغه كما سمعه لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولاينقص فيكون قد بلغه كما سمعه فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله ص - ويكون قد سمع كلام رسول الله ص - كما قاله وذلك معنى قولهم هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجىء أصحابه إلى القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات
ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة فإذا رأى الناس كلاما صحيحا فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل أن نفس ما قام المتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه ولا فارقته وحلت في الورق بل ولا يقول أن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق بل ولايقول أن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم
وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه بل شعر مخلوق كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء ويقول الناس هذا شعر حسان بعينه وهذا هو نفس شعر حسان وهذا شعر لبيد بعينه كقوله
... ألا كل شيء ما خلا الله باطل ...
ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت
فيه وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس منه المتعلم ولا ينقص ما عند العالم كما يقتبس المقتبس ضوء السراج فيحدث الله له ضوءا كما يقال أن الهوى ينقلب نارا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح والمقرىء والمعلم يقرىء القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده
ولهذا يقال فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه ويقال العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك كما يقال نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب أو نقلت الكتاب أو نسخته وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل ما في الأول فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخا وإن كان لم يتغير الأول بخلاف نقل الأجسام وتوابعها فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول
وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها وهو وجودها العيني ولها ثبوتها في العلم ثم في اللفظ المطابق للعمل ثم في الخط وهذا الذي يقال وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني ووجود علمي ولفظي ورسمي ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فذكر الخلق عموما وخصوصا ثم ذكر التعليم عموما وخصوصا فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق العلم والعلم هو المطابق للمعلوم
ومن هنا غلط من غلط فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق فظن أن قوله إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون كقوله الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف كإثبات الرسول في المصاحف وهذا غلط إثبات القرآن كإثبات اسم الرسول هذا كلام وهذا كلام وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال أو كإثبات القرآن في زبر الأولين قال تعالى وكل شيء فعلوه في الزبر وقال تعالى وإنه لفي زبر الأولين فثبوت الأعمال في الزبر وثبوت القرآن في زبر الأولين هو مثل كون الرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ولهذا قيد سبحانه هذا بلفظ الزبر والكتب زبر يقال زبرت الكتاب إذا كتبته والزبور بمعنى
المزبور أي المكتوب فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره كما أن محمدا نفسه ليس عندهم ولكن ذكره فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم بخلاف ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف فإن نفس القرآن أثبت فيها فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا وهذا مبسوط في موضعه
والمقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول مع بقائه في الأول وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله لكن لما كان المقصود بالعلمين واحدا في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له والدليل عليه ولم يكن للناس غرض في تعدد التابع كما في الاسم مع المسمى فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ودعا به أناس متعددون فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله وقال ذلك هذا المؤذن وهذا المؤذن وقاله غير المؤذن فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله كما أن المسمى هو الله ورسوله
وإذا قال اقرأ باسم ربك وقال اركبوا فيها بسم الله وقال سبح اسم ربك الأعلى وقال بسم الله ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر فالخبر الواحد عن المخبر الواحد من مخبره والأمر الواحد بالمأمور به من الآمر الواحد بمنزلة الاسم الواحد لمسماه هذا في المركب نظير هذا في المفرد وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم
وأما قول القائل إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية فهذا قياس فاسد مثاله مثال رجل ادعى أن النبي ص - يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا إن النبي ص - لا يحل في بدن غيره فقال أنتم تقولون إن المحدث يقرأ كلامه وإن ما يقرأه هو كلام النبي ص - فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول ومعلوم أن هذا في غاية الفساد
والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكتاب وهذا الذي سمعناه كلام زيد ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم أو في هذا الورق وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي ص - استذكروا القرآن فلهو أشد نفلتا من صدور الرجال من النعم في عقلها وقوله الجوف الذي ليس فيه شيء من
القرآن كالبيت الخرب وأمثال ذلك وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال الله في صدورنا وأجوافنا ولهذا لما ابتدع شخص يقال له الصوري بأن من قال القرآن في صدورنا فقد قال بقول النصارى فقيل لأحمد قد جاءت جهمية رابعة أي جهمية الخلقية واللفظية والواقفية وهذه الرابعة اشتد نكيره لذلك وقال هذا أعظم من الجهمية وهو كما قال
فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال القرآن في الصدور ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة فإن النصارى يقولون الأب والابن وروح القدس إله واحد وإن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت الناسوت وهو عندهم إله يخلق ويرزق ولهذا كانوا يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم ويقولون المسيح ابن الله ولهذا كانوا متناقضين فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقانيم فهو الأب نفسه وإن كان هو صفة من صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها والمسيح عندهم إله ولو قال النصارى إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر
فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان وهو سبحانه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها أو قال وجوده وجود المخلوقات أو غير ذلك
فاما قول القائل إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين وإن الرسل بلغت كلام الله والذي بلغته هو كلام الله وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك فهذا لا يسمى حلولا ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلا للحقائق وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره فكيف صفة الخالق تبارك وتعالى ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه هل يقال إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور وهل يقال كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب
حافظيه ونحو ذلك فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي أبي يعلى وأمثاله وقالوا ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول حل لأن حلول صفة الخالق في المخلوق أو حلول القديم في المحدث ممتنع
وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي الملقب بشيخ الإسلام وغيره وقالوا ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته
وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا لا نطلق الحلول نفيا ولا إثباتا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفي ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاق محذور لما في ذلك من الإجمال
واما قول القائل إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا فجواب ذلك أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور فإذا زالت لم يبق منكرا
أحدها من يقول إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد والله خلقه في غيره
الثاني قول من يقول إن كلام الله ليس إلا معنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر وإن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وكذلك معنى آية الدين وآية الكرسي كمن يقول إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته
الثالث قول من يقول إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها
واما قول من قال إن القرآن العربي كلام الله بلغه عنه رسول الله ص - وأنه تارة
يسمع من الله وتارة من رسله مبلغين عنه وهو كلام الله حيث تصرف وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره ولا يكون كلام الله مخلوقا ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه وقال مع ذلك إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه
وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى وليس هو ولا شيء منه كلاما لغيره ولكن بلغته عنه رسله وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه ومع العلم بأن شيئا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا من كلام الخالق أولى وأظهر والله أعلم
فصل
قال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون سورة التوبة 59 فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف ما آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هو يسخطون ثم قال ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سورة التوبة 58 59 ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى أليس الله بكاف عبده سورة الزمر 36 وقال الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل سورة آل عمران 173 ثم دعاهم إلى أن يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قوله إنا إلى الله راغبون ولم يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب سورة الشرح 7 8وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والاستعانة به وحده والخوف
منه وحده فكثير كقوله ولا يخشون أحدا إلا الله سورة الأحزاب 39 وقوله فإياي فارهبون سورة النحل 51 و إياي فاتقون سورة البقرة 41 وقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران 175 وكذلك قوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء 213 واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا سورة النساء 36
وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى أحب إليكم من الله ورسوله سورة التوبة 24 وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين سورة التوبة 62 فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله سورة النساء 80
والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة والنسك والذبح لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة نفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبي ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شييء عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله ص - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجور فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله
فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله
والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا
يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165 وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون سورة الفرقان 68
والنبي قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون سورة البقرة 186
وفي الصحيح عن النبي ص - أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه ص - أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر
فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي ص - أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعني البقاع التي كانت
تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق
وقد قال النبي ص - شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون سورة الحجر 9 واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبني أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار وإما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة
والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضي بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفىء القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجري ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين هذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه
205 - فصل
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار سورة التوبة 100 هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة
وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين وهذا ضعيف فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة ولكن فيه سبق الذين ادركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئا فشيئا وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة ففضيلة من اسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب وليس مثل هذا مما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع بأولى بجعله خيرا من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة
والزبير وبايع النبي ص - بيده عن عثمان لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته وبسببه بايع النبي ص - الناس لما بلغه أنهم قتلوه
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي ص - قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة
وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم أنه بهم رؤوف رحيم سورة التوبة 117 فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة
وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آوما ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا سورة الأنفال 72 إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الأنفال 75 فأثبت الموالاة بينهم
وقال للمؤمنين يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين سورة المائدة 51 إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة 55 56 وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض سورة التوبة 71 فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل وكذبه بين من وجوه كثيرة
منها أن قوله الذين صيغة جمع وعلي واحد
منها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة
ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلا
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي ص -
ومنها أنه لم يكن له أيضا خاتم ولا كانوا يلبسون الخواتم حتى كتب النبي ص - كتابا إلى كسرى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من ورق ونقش فيها محمد رسول الله
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزىء إخراج الخاتم في الزكاة
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يساله سائل
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام
وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة والرافضة مخالفون لها
والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وهذا أمر مشهور فيهم يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم
وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال 64 أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من
المؤمنين وأولهم
وقال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا والذين رآهم النبي ص - يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره
وقال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم سورة الأنفال 62 63 وإنما أيده في حياته بالصحابة
وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35 وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء
وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسب إلى التشيع ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ومنهم من ادعى إلهية البشر وادعى النبوة في غير النبي ص - وادعى العصمة في الأئمة ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم
218 -
فصل
وقال شيخ الإسلام رحمه اللهقوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب
وقوله وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا وقوله الشمس والقمر بحسبان قوله والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج دليل على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب فقوله لتعلموا عدد السنين والحساب إن علق بقوله وقدره منازل كان الحكم مختصا بالقمر وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما ويشهد للأول قوله من الأهلة فإنه موافق لذلك ولأن كون الشمس ضياء والقمر نورا لا يوجب علم عدد السنين والحساب بخلاف تقدير القمر منازل فإنه هو الذي يقتضي علم عدد السنين والحساب ولم يذكر انتقال الشمس في البروج
ويؤيد ذلك قوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الآية فإنه نص على أن السنة هلالية وقوله الحج أشهر معلومات يؤيد ذلك لكن يدل على الآخر قوله وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب
وهذا والله أعلم لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب وما جاءت به الشريعة من اعتبار الشهر والعام الهلالي دون الشمسي إن كل واحد من الشهر والعام ينقسم في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي فأما الشهر الهلالي فهو طبيعي وسنته عددية
واما الشهر الشمسي فعددي وسنته طبيعية فأما جعل شهرنا هلاليا فحكمته ظاهرة لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله
خلل ولا يفتقر إلى حساب بخلاف الاجتماع فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب وبخلاف الشهر الشمسي لو ضبط
وأما السنة الشمسية فإنها وإن كانت طبيعية فهي من جنس الاجتماع ليس أمرا ظاهرا للحس بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل وإنما الذي يدركه الحس تقريب ذلك فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها الربيع أمر ظاهر بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمى برج كذا أو محاذاتها لإحدى نقطتي الرأس أو الذنب فإنه يفتقر إلى حساب
ولما كانت البروج اثني عشر فمتى تكرر الهلالي اثني عشر فقد انتقل فيها كلها فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا أو شرطا إما بأصل الشرع كالصيام والحج وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء وصوم الكفارة والنذر وإما بالشرط كالأجل في الدين والخيار والأيمان وغير ذلك
فصل
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
و أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله تعالى في كتابه وهم قسمان المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون
فولي الله ضد عدو الله قال الله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا إلى قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وقال ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون وقال أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ص - يقول الله تعالى من عادى لي
وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه
والولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته وقد ذكر النبي ص - في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله بالواجبات والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات
وذكر الله الصنفين في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفا يمزج لأصحاب اليمين
والولي المطلق هو من مات على ذلك فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته هذا فيه قولان للعلماء وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته فيه أيضا قولان للفقهاء والمتكلمين والصوفية
والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع أن ولي الله هل يصير عدوا لله وبالعكس ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما على القولين
والتحقيق هو الجمع بين القولين فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلا وأبدا وكذلك من علم الله منه
أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلا وأبدا لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته وقد يقال أنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به ويرضاه وقد يقال أنه يواليه حينئذ على ذلك
والدليل على ذلك اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنا ثم ارتد فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال وإنما يقال كما قال الله تعالى ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وقال لئن أشركت ليحبطن عملك وقال ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان إرثه المتقدم وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلا ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد صلاته وحكمه ونحو ذلك وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره لو كان محبوبا لله وليا له في حال كفره لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع
والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة
وعلى هذا يخرج جواب السائل فمن قال إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره ومن قال قد يكون وليا لله من كان مؤمنا تقيا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل
ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك فمن ثبتت ولايته بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك هذا في الأمر العام
وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم لكن هذا ليس ممن
يجب التصديق العام به فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسول ص - وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك فإن سند المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر ابن الخطاب وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله ص - أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة ولو كان أحد يأتيه من الله مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول ص - في بعض دينه وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى ومن قال هذا فهو كافر
وقد قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته واللله عليم حكيم فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته ولم يضمن ذلك للمحدث ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
ويحتمل والله أعلم أن لا يكون هذا الحرف متلوا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك وإن كان من أولياء الله المتقين فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقا بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة
وقد قال الله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون فقد وصفهم الله بأنهم هم المتقون والمتقون هم أولياء
الله ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان
وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ ومن يعتقدون أنه من الأولياء فالرافضة تزعم أن الأثني عشر معصومون من الخطأ والذنب ويرون هذا من أصول دينهم والغالية في المشائخ قد يقولون إن الولي محفوظ والنبي معصوم وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم ولهذا قال سيد ولد آدم لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها
منها قوله تعالى وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ظن طائفة أن ما نافية وهو خطأ بل هي استفهام فإنهم يدعون معه شركاء كما أخبر عنهم في غير موضع فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة ولهذا قال إن يتبعون إلا الظن ولو أراد النفي لقال إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء بل بين أن الشرك لا علم معه إن هو إلا الظن والخرص كقوله قتل الخراصون
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هودفصل عرض لما تضمنته السورة
قد افتتح السورة فقال كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير إلا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير فذكر أنه نذير وبشير نذير ينذر بالعذاب لأهل النار وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحقثم ذكر حال الفريقين في السراء والضراء فقال ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير
ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء وحال من اتبعهم ومن كذبهم كيف سعد هؤلاء في الدنيا والآخرة وشقي هؤلاء في الدنيا والآخرة فذكر ما جرى لهم إلى قوله ذلك من أنباء القرى نقصه عليك إلى قوله وذلك يوم مشهود
ثم ذكر حال الذين سعدوا والذين شقوا ثم قال إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة فإنه قد يقال غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون
وأما كونهم أهلكوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية وصاروا عبرة يذكرون بالشر ويلعنون إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابا كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابا
فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة وكان ذلك له آية وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث فقد لا يبالي بمثل هذا وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية
وقد ختم السورة بقوله وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون إلى آخرها كما افتتحها بقوله أن لا تعبدوا إلا الله فذكر التوحيد والإيمان بالرسل فهذا دين الله في الأولين والآخرين قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين
ولهذا قال ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين و أين شركائي الذين كنتم تزعمون هو الشرك في العبادة وهذان هما الإيمان والإسلام وكان النبي ص - يقرأ تارة في ركعتي الفجر سورتي الإخلاص وتارة بآيتي الإيمان والإسلام فيقرأ قوله آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية فأولها الإيمان وآخرها الإسلام ويقرأ في الثانية قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له
وقال ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ففيها الإيمان والإسلام في آخرها وقال الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون
فصل
وقوله تعىلى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت فقد فصله بعد إحكامه بخلاف من تكلم لم يحكمه وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده كما قال وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين وقال ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علموقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل فقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إلى قوله فهل أنتم مسلمون فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه كان في مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله كما قال قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
وحينئذ فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله وما كان مختصا بنوع فهو دليل عليه فإنه مستلزم له وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها فإنها مختصة بجنسهم
وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتي به غيره وكان ذلك برهانا بينا على أن الله أنزله وأنه نزل بعلم الله هو الذي أخبره بخبره وأمر بما أمر به كما قال لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه الآية وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد وأنه لا إله إلا الله من جهة أن الرسول أخبر بذلك ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه كما قد بسط ونبه عليه في غير هذا الموضع ولا سيما هذه السورة فإن فيها
من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يقدر قدره إلا الله
والمقصود هنا هو الكلام على قوله أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه حيث سأل السائل عن تفسيرها وذكر ما في التفاسير من كثرة الاختلاف فيها وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عمى عن معرفة المراد الذي يحصل به الهدى والرشاد فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدي به لا ليختلف فيه والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعاني التي لا يمكن الجمع بينه وبينها ولم يعرف الحق ولم تفهم الآية ومعناها ولم يحصل به الهدى والعلم الذي هو المراد بإنزال الكتاب
قال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عثمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ص - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا
وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عنى بها وقد قال تعالى أفلا يتدبرون القرآن وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم وقال إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل والعقل يتضمن العلم والعمل فمن عرف الخير والشر فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا ولهذا لا يعد عاقلا إلا من فعل ما ينفعه واجتنب ما يضره فالمجنون الذي لا يفرق بين هذا وهذا قد يلقي نفسه في المهالك وقد يفر مما ينفعه
فصل
قال تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء سورة هود 7 وأخبر أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ص - أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان
عرشه على الماء وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي ص - أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض وفي رواية ثم خلق السموات والأرض والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله تعالى خلق السموات من بخار الماء الذي سماه الله دخانا
وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم قالوا الآثار المروية أن أول ما خلق الله القلم معناها من هذا العالم وقد اخبر الله تعالى أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام
فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار
وفي الصحيحين عن النبي ص - أنه قال في خطبته عام حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ومنها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وفي الصحيح عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله ص - خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم
هذا وفي التوراة ما يوافق خبر الله تعالى في القرآن وأن الأرض كانت مغمورة بالماء والهواء يهب فوق الماء وأن في أول الأمر خلق الله السموات والأرض وأنه خلق ذلك في
أيام ولهذا قال من قال من علماء اهل الكتاب ما ذكره الله تعالى في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى وأنه خلق ذلك في أزمان قبل أن يخلق الشمس والقمر
وليس فيما أخبر الله تعالى به في القرآن وغيره أنه خلق السموات والأرض من غير مادة ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة من غير مادة بل يخبر أنه خلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين وفي صحيح مسلم عن النبي ص - أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد إن لم يكن
وأما قولهم في تلك المادة هل هي قديمة الأعيان أو محدثة بعد أن لم تكن أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء فإنها أمة عربت كتبهم ونقلت من لسان إلى لسان وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى مثل المتواتر وليس لنا غرض معين في معرفة قول كل واحد منهم بل تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون سورة البقرة 134 141
لكن الذي لا ريب فيه أن هؤلاء اصحاب التعاليم كأرسطو واتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد
وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم علم أنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل وهذا هو المقصود في هذا الباب
ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم على خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به وتبين
أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفس ويشقيها منهم وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك
ولكن سلفهم اكثروا الكلام في ذلك لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة وكان الشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك وكذلك الأمور الطبيعية وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية كالعلم بالوجود المطلق وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر عرض وتقسيم الجواهر ثم تقسيم الأعراض وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان
فصل
في قوله تعالى يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم الناروزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله أدخلوا آل فرعون أشد العذاب قالوا فإنما أدخل آله دونه وقوله يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه
وهذا القول كفر معلوم فساده باضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة بل ولا من اليهود ولا من النصارى بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون
فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون
ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص إنما هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان وليس في الكفار أعظم من كفره والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع
أحدها قوله تعالى في القصص فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين إلى قوله وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين
فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه وأخبر أنهم كانوا قوما فاسقين وأخبر أنهم قالوا ما هذا إلاسحر مفترى وأخبر أن فرعون قال ما علمت لكم من إله غيري وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذبا وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين
فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة
وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون وهو في الآخرة مقبوح غير منصور وهذا إخبار عن غاية العذاب وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وهذا إخبار عن فرعون وقومه أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب وهذه الآية أحد ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ
وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون خارج منهم وهذا تحريف للكلم عن مواضعه بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه
أحدها أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص مثل قومه في الملائكة الذي ضافوا إبراهم إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ثم قال فلما جاء آل لوط المرسلون قال يعني لوطا إنكم قوم منكرون وكذلك قوله إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر ثم قال بعد ذلك ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر
ومعلوم أن لوطا في هذه المواضع وكذلك فرعون داخل في آل فرعون والمكذبين المأخوذين ومنه قول النبي ص - قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وكذلك قوله كما باركت على آل إبراهيم فإبراهيم داخل في ذلك وكذلك قوله للحسن إن الصدقة لا تحل لآل محمد
وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان القوم إذا أتوا رسول الله ص - بصدقة يصلي عليهم فأتى أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى وأبو أوفى هو صاحب الصدقة
ونظير هذا الاسم أهل البيت فإن الرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وقول النبي ص - سلمان منا أهل البيت وقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وذلك لأن آل الرجل ممن يؤول إليه ونفسه ممن يؤول إليه وأهل بيته هم من يأهله وهو ممن يأهل أهل بيته
فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم هي حجة عليهم في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ وفي يوم القيامة ويبين ذلك أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه قال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب إلى قوله قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد إلى قوله وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى إلى قوله فحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليه غدوا وعشيا إلى قوله قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد
فأخبر عقب قوله أدخلوا آل فرعون أشد العذاب عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء إنا كل فيها ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين وهو الذي استخف قومه فأطاعوه ولم يستكبر احد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه
الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله تعالى فاتبعوا أمر فوعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود إلى قوله بئس الرفد المرفود فأخبر أن يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرين النار كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادما بل كان سائقا يوضح ذلك أنه قال وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة
وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب والذين كفروا بعضهم أولياء بعض وأيضا فقد قال الله تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا يقول هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس
وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض إلى قوله سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ وأن هذه سنة الله الخالية في عباده
وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعا أو مقبولا فمن قال إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده
يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يكن كافرا لما يستحق عذابا
وقوله بعد هذا فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية يوجب أن يعتبر من خلفه ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه وأيضا فإن النبي ص - لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال هذا فرعون هذه الأمة فضرب النبي ص - المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى
فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمنا ومعلوم أن من مات مؤمنا لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو عن النبي ص - في تارك الصلاة يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف
وسئل رحمه الله
عن قوله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض وقوله تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتبفأجاب الحمد لله قال طوائف من العلماء أن قوله ما دامت السموات والأرض أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي ص - أنه قال إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن وقال بعض العلماء في قوله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون هي أرض الجنة
وعلى هذا فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التي هي سقف الجنة إذ كل ما علا فإنه يسمى في اللغة سماء كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء
وأيضا فإن السموات وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال كما قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة وأرض دائمة والله أعلم
272 -
فصل
وأما قوله ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد الهم همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف ص - هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وأما ما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا ص - حرفا واحدا
وقوله وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهودته راودته فحينئذ قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه بل الأدلة تدل على نقيضه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
فصل
وسئل الشيخ الإمام العالم العامل
الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل في قوله تعالى فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون و الصفح الهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس
فأجاب رحمه الله
الحمد لله أما بعد الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل فالهجر الجميل هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا عتاب والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة و السلام إنما أشكو بثي وحزني إلى الله مع قوله فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة و السلام أنه كان يقول اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي ص - اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وانت ربي اللهم إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا ابالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف
بخلاف الشكوى إلى المخلوق قرىء على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسا كره أنين المريض وقال إنه شكوى فما أن حتى مات وذلك أن المشتكي طالب بلسان
الحال إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وقال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
ولا بد للإنسان من شيئين طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا إلى قوله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط وقال تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقد قال يوسف أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
ولهذا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات سعيدها وشقيها مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبىء الكاذب وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه والملائكة المقربون والمردة الشياطين
فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره ولا يشهد الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه
وأعدائه وبين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له وطاعته رسوله وفعل ما يحبه ويرضاه وهو ما أمر به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب وترك ما نهى الله عنه ورسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين وهو شر من اليهود والنصارى
فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية إذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل افلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولهذا قال سبحانه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال بعض السلف تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره
فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين
بعض الفجار ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه
فهذا التقسيم في القول والاعتقاد
وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك كما قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين
وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما قال بعضهم أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي وفي الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع
وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر وآخرون
يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه
والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا من القدر الكوني وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام
أحدها أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة
والثاني الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرض أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه
والثالث قوم له نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر
وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير
منوعا فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار
وفي الصحيح عن النبي ص - أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبرا على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك
وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة قال الله تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فوركم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وقال الله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم
وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط وقال إخوة يوسف له أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما وخصوصا فقال تعالى واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين
وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقا لخبر الله وطاعة لأمره وقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار وقال تعالى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين فهذه مواضع قرن فيه الصلاة والصبر
وقرن بين الرحمة والصبر في مثله قوله تعالى وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة وفي الرحمة والإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضا رباعية إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يC تعالى كما قال النبي ص - إنما يرحم الله
من عباده الرحماء وقال من لا يرحم لا يرحم وقال لا تنزع الرحمة إلا من شقي وقال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء والله أعلم انتهى
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعدفصل
قال تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثالشبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان القرآن فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار فاحتمل الزبد فقذفه بعيدا عن القلب وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع فيستقر ويبقى في القلب
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
فصلفي قوله تعالى وجعلوا لله شركاء قل سموهم قيل المراد سموهم بأسماء حقيقية لها معان تستحق بها الشرك له والعبادة فإن لم تقدروا بطل ما تدعونه
وقيل إذا سميتموها آلهة فسموها باسم الإله كالخالق والرازق فإذا كانت هذه كاذبة عليها فكذلك اسم الآلهة وقد حام حول معناها كثير من المفسرين فما شفوا عليلا ولا أرووا غليلا وإن كان ما قالوه صحيحا
فتأمل ما قبل الآية وما بعدها يطلعك على حقيقة المعنى فإنه سبحانه يقول أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وهذا استفهام تقرير يتضمن إقامة الحجة عليهم ونفي كل معبود مع الله الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت بعلمه وقدرته وجزائه في الدنيا والآخرة فهو رقيب عليها حافظ لأعمالها مجاز لها بما كسبت من خير وشر
فإذا جعلتم أولئك شركاء فسموهم إذ بالأسماء التي يسمى بها القائم على كل نفس بما كسبت فإنه سبحانه يسمى بالحي المحيي المميت السميع البصير الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه ووجوه كل شيء به فهل تستحق آلهتكم اسما من تلك الأسماء فإن كانت آلهة حقا فسموها باسم من هذه الأسماء وذلك بهت بين فإذا انتفى عنها ذلك علم بطلانها كما علم بطلان مسماها
وأما إن سموها بأسمائها الصادقة عليها كالحجارة وغيرها من مسمى الجمادات وأسماء الحيوان التي عبدوها من دون الله كالبقر وغيرها وبأسماء الشياطين الذين أشركوهم مع الله جل وعلا وبأسماء الكواكب المسخرات تحت أوامر الرب والأسماء الشاملة لجميعها أسماء المخلوقات المحتاجات المدبرات المقهورات
وكذلك بنو آدم عبادة بعضهم بعضا فهذه أسماؤها الحق وهي تبطل إلهيتها لأن الأسماء التي من لوازم الإلهية مستحيلة عليها فظهر أن تسميتها آلهة من أكبر الأدلة على بطلان إلهيتها وامتناع شركاء لله عز و جل
324 -
فصل
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكونقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله
الحمد لله رب العالمين هذه المسألة مبنية على أصلين
أحدهما الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة وإن كان ذلك جميعه بجول الله وقوته إذ لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي أو هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة
والأصل الثاني أن المعدوم في حال عدمه هل هو شيء أم لا فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات عين وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجودها زائد على حقيقتها وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من
المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة والذي عليه جماهير الناس وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين وأنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة والآخر وجوده الزائد على خقيقته فإن الله ابدع الذوات التي هي الماهيات فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدو له سبحانه وتعالى لكن في هؤلاء من يقول المعدوم ليس بشيء أصلا وإنما سمي شيئا باعتبار ثبوته في العلم كان مجازا ومنهم من يقول لا ريب أن له ثبوتا في العلم ووجودا فيه فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت كما فرق من قال المعدوم شيء ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء من الممكن والممتنع كما فرق من قال المعدوم شيء ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع كما فرق أولئك إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن وعمدة من جعله شيئا إنما هو لأنه ثابت في العلم وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخير عنه والأمر به والنهي عنه وغير ذلك قالوا وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم والمحض فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب
وقوله تعالى إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه وبذلك كان مقدرا مقضيا فإن سبحان وتعالى يقول ويكتب من ما يعلمه ما شاء كما قال النبي ص - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي ص - أنه قال كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي ص - أنه قال أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال ما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه مكتوبا فيه شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتا في الخارج بل هو عدم محض ونفي صرف وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت به القدرة وخلق وكون كما قال إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فالذي يقال له كن هو الذي يراد وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره وبهذا يحصل الجواب عن
التقسيم فإن قول السائل إن كان المخاطب موجودا فتحصيل الحاصل محال يقال له هذا إذا كان موجود في الخارج وجوده الذي هو وجوده ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا ولا هو في نفسه ثابت وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة وهو قول السائل إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم ويقال له أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال إلا من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل وكذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالا بل هو أمر ممكن بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقد أمر ا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم وإن كان عاجزا لم يحصل وقد يقول الإنسان ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه والله سبحانه على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
فصل
في قوله تعالى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
سئل شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله روحه عن قول النبي ص - دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالميمن ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته ما معنى هذه الدعوة ولم كانت كاشفة للكرب وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها حتى يوجب كشف ضره وما مناسبة ذكره إني كنت من الظالمين مع أن التوحيد يوجب كشف الضر وهل يكفيه اعترافه أم لا بد من التوبة والعزم في المستقبل وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين والتعلق بهم بالكلية وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية وما السبب المعين على ذلكفأجاب الحمد لله رب العالمين
لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين
دعاء العبادة
ودعاء المسألة
قال الله تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقال تعالى ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو وقال وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا وقال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وقال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون وقال في آخر السورة قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم
قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل لولا دعاؤه إياكم فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول تارة ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى لأنه لا بد له من فاعل فلهذا كان هذا أقوى القولين أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه فقد كذبتم فسوف يكون لزاما أي عذاب لازم للمكذبين
ولفظ الصلاة في اللغة أصله الدعاء وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء وهو العبادة والمسألة
وقد فسر قوله تعالى ادعوني أستجب لكم بالوجهين قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم كما قال تعالى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي يستجيب لهم وهو معروف في اللغة يقال استجابه واستجاب له كما قال الشاعر
... وداع دعايا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
وقيل سلوني أعطكم
وفي الصحيحين عن النبي ص - أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسالني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فذكر أولا لفظ الدعاء ثم ذكر السؤال والاستغفار والمستغفر سائل كما أن السائل داع لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير وذكرهما جميعا بعد ذكر الداعي الذي تناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام
وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسؤول ولك عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال
والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته قال تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وقال تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب من الخوف والطمع
وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة فهذا قد يفسر
مراده بأن المقربين يريدون وجه الله فيقصدون التلذذ بالنظر إليه وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب ويخافون حرمانه فلم يخلوا عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم بحسب مطلوبهم
ومن قال من هؤلاء لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها فدندن
وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه وأنه لا نعيم إلا بمخلوق فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب وهؤلاء أنكروا ذلك
وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري ومن قال لو أدخلني النار لكنت راضيا فهو عزم منه على الرضا والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال
... وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فامتحني ...
فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون
وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن وبقي من لم يزل يخرج عن هذه الأمور وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعا
أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسا محبا لما يلائمة مبغضا لما ينافره ومن قال إن إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل وإما أنه مكابر معاند ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله سواء سمى اصطلاما أو محوا أو فناء أو غشيا أو ضعفا فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها
فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط بل لا بد من الفرق فإنه أمر ضروري
لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه
ولهذا لما وقعت هذه المسألة بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني وهو أن يفرق بين المأمور والمحظور وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده للقدر الجامع فيشهد الفرق في القدر الجامع ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام
وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية وإن خرجوا عنه كانوا كفارا من شر الكفار وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة كالعصاة من أهل القبلة وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء يتناول هذا وهذا قال الله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وفي الحديث أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا وقال النبي ص - في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته سماها دعوة لأنها تتضمن نوعي الدعاء فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية وتوحيد الإلهية يتضمن احد نوعي الدعاء فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عباده ودعاء مسألة وهو الله لا إله إلا هو
وقوله إني كنت من الظالمين اعتراف بالذنب وهو يتضمن طلب المغفرة فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر إما يوصف حاله وإما بوصف حال المسؤول وإما بوصف الحالين كقول نوح عليه السلام رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر
ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة وكذلك قول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين هو من هذا الباب ومن ذلك قول
موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه
وقد روى الترمذي وغيره عن النبي ص - أنه قال من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه مالك بن الحويرث وقال من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ
وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان
... أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتك الحباء ...
... إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء ...
قال فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى
ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان فهذا خبر يتضمن السؤال
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره وهي صيغة خبر تضمنت السؤال وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه أنا جائع أنا مريض حسن أدب في السؤال وإن كان في قوله أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسؤول فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب
وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك فإنها تقال على وجه الأمر إما لما في ذلك من حاجة الطالب وإما لما فيه من نفع المطلوب فأما إذا كانت من الفقير من كل وجهه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال
ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال وهو أبلغ من جهة العلم والبيان
وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول وتصريح به باللفظ وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والإجابة ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة كقول النبي ص - لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم أخرجاه في الصحيحين
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه وفيه بيان المقتضى للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب
وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك كقول موسى عليه السلام أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة وقوله رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فيه وصف حال النفس والطلب وقوله إني لما أنزلت إلي من خير فقير فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة
يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب
فيقال لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي فأصل الشر هو الذنب والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر فهذا مقدم في قصده وإرادته وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده
وهذا يتبين بالكلام على قوله سبحانك فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب يقول أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي قال تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقال تعالى وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم وقال وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا
وكذلك قال النبي ص - في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وفي صحيح البخاري سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعتمك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة
فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لايظلم الناس شيئا فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل
فقوله لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية والألهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلى العباد فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل
وقوله سبحانك يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص فإن التسبيح وإن كان يقال يتضمن نفي النقائص وقد روي في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي ص - في قول العبد سبحان الله إنها براءة الله من السوء فالنفي لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله ولله الأسماء الحسنى
وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته وقوله وما مسنا من لغوب يتضمن كمال قدرته ونحو ذلك فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء ونفي النقض عنه يتضمن تعظيمه ففي قوله
سبحانك تبرئته من الظلم وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله والله غني عن كل شيء عليم بكل شيء وهو غني بنفسه وكل ما سواه فقير إليه وهذا كمال العظمة
وأيضا ففي هذا الدعاء للتهليل والتسبيح فقوله لا إله إلا أنت تهليل وقوله سبحانك تسبيح وقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - أنه قال أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له وفي الصحيح عن النبي ص - أنه سئل أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده وفي الصحيحين عن النبي ص - أنه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفي القرآن فسبح بحمد ربك وقالت الملائكة ونحن نسبح بحمدك
وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد والأخرى بالتعظيم فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال والحمد إنما يكون على المحاسن وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام إذ ليس كل معظم محبوبا محمودا ولا كل محبوب محمودا معظما وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن وفيها الذل له الناشىء عن عظمته وكبريائه ففي إجلاله وإكرامه وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام
ومن الناس من يحسب أن الجلال هو الصفات السلبية والإكرام الصفات الثبوتية كما ذكر ذلك الرازي ونحوه والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يعظم كقوله إن الله هو الغني الحميد وكذلك قوله له الملك وله الحمد فإن كثيرا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودا بل مذموما إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة فيتضمن إخبارا بمحاسن المحبوب محبة له
وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك فالأول يهاب ويخاف ولا يحب وهذا يحب ويحمد ولا يهاب ولا يخاف والكمال اجتماع الوصفين كما ورد في الأثر أن المؤمن رزق حلاوة ومهابة وفي نعت النبي ص - كان من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه
فقرن التسبيح بالتحميد وقرن التهليل بالتكبير كما في كلمات الأذان ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبا بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يجب فالإلهية تتضمن كمال الحمد ولهذا كان الحمد لله مفتاح الخطاب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجدم وسبحان الله فيها إثبات عظمته كما قدمناه ولهذا قال فسبح باسم ربك العظيم وقد قال النبي ص - اجعلوها في ركوعكم رواه أهل السنن وقال اما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم رواه مسلم فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم
ففي قوله سبحان الله وبحمده إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده وأما قوله لا إله إلا الله والله أكبر ففي لا إله إلا الله إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته وفي قوله الله أكبر إثبات عظمته فإن الكبرياء تتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل
ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول الله أكبر فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم كما ثبت في الصحيح عن النبي ص - أنه قال يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء ومعلوم أن الرداء أشرف فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه وتضمن ذلك التعظيم وفي قوله سبحان الله صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم فصار كل من الكلمتين متضمنا معنى الكلمتين الأخريين إذا أفردتا وعند الاقتران تعطي كل كلمة خاصيتها
وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله فإنه يستلزم معنى الآخر لكن هذا باللزوم وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة ودلالتها على أحدهما بالتضمن
فقول الداعي لا إله إلا أنت سبحانك يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ففيها كمال المدح
وقوله إني كنت من الظالمين فيه اعتراف بحقيقة حاله وليس لأحد من العباد أن يبرىء نفسه عن هذا الوصف لا سيما في مقام مناجاته لربه وقد ثبت في الصحاح عن النبي ص - أنه قال لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقال من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب فمن ظن أنه خير من يونس بحيث يعلم أنه ليس
عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب ولهذا كان سادات الخلائق لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام بل يقولون كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد ص -
فصل
في بطلان الاحتجاج بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدونسئل شيخ الإسلام حسنة الأيام أحد المجتهدين قامع المبتدعين تقي الدين أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي رضي الله عنه عن قوم يحتجون بالقدر ويقولون قد قضي الأمر من الذر فالسعيد سعيد والشقي شقي من الذر ويحتجون بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ويقولون ما لنا في جميع الأفعال قدرة وإنما القدرة لله تعالى قدر الخير والشر وكتبه علينا والمراد بيان خطأ هؤلاء بالأدلة القاطعة ويقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ويحتجون بالحديث الذي فيه قوله ص - وإن زنا وإن سرق وبغير ذلك فما الجواب عن هذا جميعه أفتونا مأجورين
فأجاب نفعنا الله بعلومه الحمد لله رب العالمين هؤلاء القوم إذا صبروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى فإن النصارى واليهود يؤمنون بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما فإذا كان من آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقا فكيف بمن كفر بالجميع ومن لم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده بل ترك ذلك محتجا بالقدر فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض وقول هؤلاء يظهر بطلانه من وجوه
أحدها أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد وإما أن لا يراه حجة للعبد فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس فإنهم كلهم مشتركون في القدر
وحينئذ يلزمه أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون فإن أحدهم لا يزال يذم هذا ويبغض هذا ويخالف هذا حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه وينكرون عليه فإذا كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن لا يذموا أحدا ولا يبغضوا أحدا ولا يقولون عن أحد أنه ظالم ولو فعل ما فعل ومعلوم أن هذا لا يمكن أحدا فعله ولو فعل الناس هذا لهلك العالم فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع وأنهم كذابون مفترون في قولهم إن القدر حجة للعبد
الوجه الثاني أن هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وقوم هود وكل من أهلكه الله بذنوبه معذورين وهذا من الكفر الذي اتفق عليه أرباب الملل
الوجه الثالث أن هذا يلزم منه أن لا يفرق بين أولياء الله وأعداء الله ولا بين المؤمنين والكفار ولا أهل الجنة وأهل النار وقد قال تعالى وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وذلك أن هؤلاء جميعهم سبقت لهم من الله تعالى السوابق وكتب الله تعالى مقاديرهم قبل أن يخلقهم وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان فعلم بذلك أن القضاء والقدر ليس بحجة لأحد على معاصي الله تعالى
الوجه الرابع أن القدر نؤمن به ولا نحتج به فمن احتج بالقدر فحجته داحضة ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا لقبل من إبليس وغيره من العصاة ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب الله أحدا من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة ولو كان القدر حجة لم يقطع سارق ولا قتل قاتل ولا أقيم حد على ذي جريمة ولا جوهد في سبيل الله ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر
الوجه الخامس أن النبي ص - سئل عن هذا فإنه قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقيل يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على
الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر في الصحيح أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أفيما جفت به الأقلام وطويت به الصحف فقيل ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له
الوجه السادس أن يقال إن الله تعالى علم الأمور وكتبها على ما هي عليه فهو سبحانه قد كتب أن فلانا يؤمن ويعمل صالحا فيدخل الجنة وفلانا يفسق ويعصي فيدخل النار كما علم وكتب أن فلانا يتزوج امرأة ويطؤها فيأتيه ولد وأن فلانا يأكل ويشرب فيشبع ويروى وأن فلانا يبذر البذر فينبت الزرع فمن قال إن كنت من أهل الجنة فأنا أدخلها بلا عمل صالح كان قوله قولا باطلا متناقضا لما علمه الله وقدره ومثال من يقول أنا لا أطأ امرأة فإن كان الله قضى لي بولد فهو يولد فهذا جاهل فإن الله تعالى إذا قضى بالولد قضى أن أباه يطأ امرأة فتحبل وتلد فأما الولد بلا حبل ولا وطء فإن الله لم يقدره ولم يكتبه كذلك الجنة إنما أعدها الله تعالى للمؤمنين فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان كان ظنه باطلا وإذا اعتقد أن الأعمال التي أمر الله بها لا يحتاج إليها ولا فرق بين أن يعملها أو لا يعملها كان كافرا والله قد حرم الجنة إلا على أصحابها
فصل وأما قوله تعالى
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية فمن سبقت له من الله الحسنى فلا بد أن يصير مؤمنا تقيا فمن لم يكن من المؤمنين لم تسبق له من الله الحسنى لكن الله إذا سبقت للعبد منه سابقة استعمله بالعمل الذي يصل به إلى تلك السابقة كمن سبق له من الله تعالى أن يولد له ولد فلا بد أن يطأ امرأة يحبلها فإن الله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات فسبق منه هذا وهذا فمن ظن أن أحدا سبق له من الله الحسنى بلا سبب فقد ضل بل هو سبحانه ميسر الأسباب والمسببات وهو قد قدر فيما مضى هذا وهذافصل ومن قال أن آدم عليه الصلاة و السلام ما عصى فهو مكذب للقرآن يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن الله تعالى قال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى والمعصية هي مخالفة الأمر الشرعي فمن خالف أمر الله الذي أرسل فيه رسله وأنزل به كتبه فقد عصاه وإن كان داخلا فيما قدره الله وقضاه وهؤلاء ظنوا أن المعصية هي الخروج عن قدر الله فإن لم تكن المعصية إلا هذا فلا يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وقوم عاد وثمود وجميع الكفار عصاة أيضا لأنهم داخلون في قدر الله تعالى ثم قائل هذا يضرب ويهان فإذا تظلم ممن فعل ذلك به قيل له هذا الذي فعل هذا ليس هو بعاص لله
تعالى فإنه داخل في قدر الله عز و جل كسائر الخلق وقائل هذا القول متناقض لا يثبت على حال
فصل وأما قول القائل ما لنا في جميع أفعالنا قدرة فقد كذب فإن الله تعالى
فرق بين المستطيع القادر وغير المستطيع وقال فاتقوا الله ما استطعتم وقال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقال تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعض ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة والله تعالى قد أثبت للعبد مشيئة وفعلا كما قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقال تعالى جزاء بما كنتم تعملون لكن الله سبحانه خالقه وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل فإنه لا رب غيره ولا إله سواه وهو خالق كل شيء وربه ومليكهفصل وأما قول القائل الزنا من المعاصي مكتوب فهو كلام صحيح لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به فإن الله تعالى كتب أفعال العباد خيرها وشرها وكتب ما يصيرون إليه من السعادة والشقاوة وجعل الأعمال سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للمرض والموت فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت والله تعالى قدر وكتب هذا وهذا كذلك من فعل ما نهي عنه من الكفر والفسوق والعصيان فإنه فعل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي من جنس حجة المشركين الذين قال الله تعالى عنهم وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم وقال تعالى سيقول الذين أشركوا ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وأنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين
454 -
فصل
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه في قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والأخرة ولهم عذاب عظيم في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية وغيرها فقال وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه
أحدها أن هذه الآية في أزواج النبي ص - خاصة في قول كثير من أهل العلم فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات إلى آخر الآية قال هذه في شأن عائشة وأزواج النبي ص - خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة قال فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر
وقال أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس إن الذين يرمون المحصنات الغافلات نزلت في عائشة خاصة واللعنة في المنافقين عامة فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله ص - وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيما ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرأ الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال
ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة والذمية ولها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين والرواية الأخرى عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه لأنه أذى لهما لا قذف لهما والحد التام إنما يجب بالقذف وفي جانب النبي ص - بعيب أزواجه فهو منافق وهذا معنى قول ابن عباس اللعنة في المنافقين عامة
وقد وافق ابن عباس جماعة فروى الإمام أحمد والأشج عن خصيف قال سألت سعيد بن جبير فقلت الزنا أشد أو قذف المحصنة قال لا بل الزنا قال قلت فإن الله تعالى يقول إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة
فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة قال هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة وروى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال هن نساء النبي ص - وقال معمر عن الكلبي إنما عنى بهذه الآية أزواج النبي ص - فأما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال الله تعالى أو يتوب
ووجه هذا أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله المحصنات الغافلات المؤمنات لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي ص - لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك ويؤيد هذا القول أن الله سبحانه رتب هذا الوعد على قذف محصنات غافلات مؤمنات وقال في أول السورة والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية فرتب الحدود والشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات فلا بد أن يكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي ص - مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا ولهم عذاب عظيم فعلم أن الذي رمى أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله ص - وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي ص - لعن صاحبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال ابن عباس ليس فيها توبة لأن مؤذي النبي ص - لا تقبل توبته أو يريد إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي ص - أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة فإنه ما بغت امرأة نبي قط
وما يدل على أن قذفهن أذى للنبي ص - ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت فقام رسول الله ص - فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت فقال رسول الله ص - وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه عن أهل بيتي فوالله ما علمت على أهل بيتي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ص - قائم على المنبر فلم يزل رسول الله ص - يخفضهم حتى سكتوا وسكت
وفي رواية أخرى صحيحة أن هذه الآية في أزواج النبي ص - خاصة ويقول آخرون يعني أزواج المؤمنين عامة وقال أبو سلمة قذف المحصنات من الموجبات ثم قرأ إن الذين يرمون المحصنات الآية وعن عمر بن قيس قال قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواها الأشنج وهذا قول كثير من الناس ووجهه ظاهر الخطاب فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي ص - داخل في العموم وليس هو من السبب ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة هنا ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك وقد علم أن شيئا منها لم يقصر على سببه والفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم وقد روي عن النبي ص - من غير وجه عن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر وفي لفظ في الصحيح قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثمالي بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله ص - عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله ص - إلى المدينة
مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنها خرجت تفجر فعلى يكون يكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الإيمان ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب بن الأشرف وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر وهو بمنزلة من سب النبي ص -
وقوله إنها نزلت زمن العهد يعني والله أعلم أنه عنى بها مثل أولئك المشركين المعاهدين وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق والهدنة كانت بعد ذلك بسنتين
ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها لأن سبب نزولها قذف عائشة وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لا بد أن يندرج في العموم ولأنه لا موجب لتخصيصها والجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا لعنوا في الدنيا والآخرة على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن وقال في الآية الأخرى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت وجاز أن الله يتولى لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنا في الدين ويتولى خلقه لعنة الآخرين وإذا كان اللاعن مخلوقا فلعنه قد يكون بمعنى الدعاء عليهم وقد يكون بمعنى أنهم يبعدونهم عن رحمة الله
ويؤيد هذا أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبا في القذف أن يلعنه الله كما أمر الله ورسوله أن يباهل من حاجة في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يعلن به القاذف ومما يلعن به أن يجلد وأن ترد شهادته ويفسق فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول وهي من رحمة الله وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة فإن لعنة الله توجب زوال النصر عنه من كل وجه وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين
ومما يؤيد الفرق أنه قال إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار كقوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وقوله وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا
وقوله فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين اتخذا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين
وأما قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أفضتم عذاب عظيم وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم وفي المحارب ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وفي القاتل وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وقوله ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم وقد قال سبحانه ومن يهن الله فما له من مكرم وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي وذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان فلما قال في هذه الآية وأعد لهم عذابا مهينا علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين ولما قال هناك ولهم
عذاب عظيم جاز أن يكون من جني العذاب في قوله لمسكم فيما أفضم فيه عذاب عظيم
ومما يبين به الفرق أيضا سبحانه قال هناك وأعد لهم عذابا مهينا والعذاب إنما أعد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد أن يدخلوها وما هم منها بمخرجين
وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين قال سبحانه واتقوا النار التي أعدت للكافرين فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع أنها معدة للكافرين لا لهم ولذلك جاء في الحديث أما أهل النار هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما أقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها
وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم ويدخلها قوم بالشفاعة وقوم بالرحمة وينشىء الله لما فضل منها خلقا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه ولمن أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر والله أعلم
فصل
اعتراض وجوابه
قال المعترض في أسماء الله الحسنى النور الهادي يجب تأويله قطعا إذ النور كيفية قائمة بالجسمية وهو ضد الظلمة وجل الحق سبحانه أن يكون له ضد ولو كان نورا لم تجز إضافته إلى نفسه في قوله مثل نوره فتكون إضافته الشيء إلى نفسه وهو غير جائز وقوله الله نور السماوات والأرض قال المفسرون يعني هادي أهل السماوات والأرض وهو ضعيف لأن ذكر الهادي بعده يكون تكرارا وقيل منور السماوات بالكواكب وقيل بالأدلة والحجج الباهرة والنور جسم لطيف شفاف فلا يجوز على الله والتأويل مروي عن ابن عباس وأنس وسالم وهذا يبطل دعواه أن التأويل يبطل الظاهر ولم ينقل عن السلف ولو كان نورا حقيقة كما يقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارا على الدوام
وقوله إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ومعلوم أنه ص - لم يكن السراج المعروف وإنما سمي سراجا بالهدى الذي جاء به ووضوح أدلته بمنزلة السراج المنير
وروي عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن يعني منور السماوات والأرض شمسها وقمرها ونجومها ومن كلام العارفين النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده ونور أسرار المحبين بتأييده وقيل هو الذي أحيا قلوب العارفين بنور معرفته ونفوس العابدين بنور عبادته
والجواب أن هذا الكلام وأمثاله ليس باعتراض علينا وإنما هو ابتداء نقص حرمته منهم لما يظن أنه يلزمنا أو يظن أنا نقوله على الوجه الذي حكاه وقد قال تعالى اجتنبوا كثيرا
من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي ص -
إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وإذا كان في الكلام إخبار عن الغير بأنه يقول أقوالا باطلة في العقل والشرع وفيه رد تلك الأقوال كان هذا كذبا وظلما فنعوذ بالله من ذلك ثم مع كونه ظلما لنا يا ليته كان كلاما صحيحا مستقيما فكنا نحلله من حقنا ويستفاد ما فيه من العلم ولكن فيه من تحريف كتاب الله والإلحاد في آياته وأسمائه والكذب والظلم والعدوان الذي يتعلق بحقوق الله مما فيه لكن عفونا عن حقنا فحق الله إليه لا إلى غيره
ونحن نذكر من القيام بحق الله ونصر كتابه ودينه ما يليق بهذا الموضع فإن هذا الكلام الذي ذكره فيه من التناقض والفساد ما لا أظن تمكنه من ضبطه من وجوه
أحدها أنه قال في أوله النور كيفية قائمة بالجسمية ثم قال في آخره جسم لطيف شفاف فذكر في أول الكلام أنه عرض وصفة في آخره جسم وهو جوهر قائم بنفسه
الثاني أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي وضعف ذلك ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده وأسرار المحبين بتأييده وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولا فيضعفه أولا ويجعله من كلام العارفين وهي كلمة لها صولة في القلوب وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في تحقيق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد وبعضها مكذوب على قائله مفترى كالمنقول عن جعفر وغيره وبعضها من المنقول الباطل المردود فإن إشارات المشايخ وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به وليس هذا موضعه وينقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة وإن كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه وإن كان تحريفا للكلام على غير تأويله كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية فتدبر هذا فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات
الوجه الثالث في تناقضه فإن قال التأويل منقول عن ابن عباس وأنس وسالم ولم يذكر
إلا ثلاثة أقوال أحدها أنه هادي أهل السماوات والأرض وقد ضعف ذلك فإن كان المنقول هو هذا الضعيف فيا خيبة المسعى إذ لم ينقل عن السلف في جميع كلامه إلى هنا شيئا عن السلف إلا هذا الذي ضعفه وأوهاه وإن كان المنقول عن هؤلاء الثلاثة أنه منور السماوات بالكواكب كان متناقضا من وجه آخر وهو أنه قد ذكر فيما بعد أن هذا روي عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن أنه منورها بالشمس والقمر والنجوم وهذا يوجب أن يكون المنقول عن ابن عباس والاثنين أولا غير المنقول عنه في رواية أخرى وعمن ليس معه في الأولى وإن كان نوره بالحجج الباهرة والأدلة كان متناقضا فإن هذا هو معنى الهادي إذا نصبه للأدلة والحجج هي من هدايته وهو قد ضعف هذا القول فما أدري من أيهما العجب أم من حكايته القولين اللذين أحدهما داخل في معنى الآخر أم من تضعيفه لقول السائل الذي يوجب تضعيف الاثنين وهو لا يدري أنه قد ضعفهما جميعا
فيجب على الإنسان أن يعرف معنى الأقوال المنقولة ويعرف أن الذي يضعفه ليس هو الذي عظمه
الوجه الرابع أنه قد تبين أنه لم ينقل عن ابن عباس وأنس وسالم إلا القول الذي ضعفه أو ما يدخل فيه فإنه إن كان قولهم الهادي فقد صرح بضعفه وإن كان مقيم الأدلة فهو من معنى الهادي وإن كان المنور بالكواكب فقد جعله قولا آخر وإن كان ما ذكره عن بعض العارفين فهو أيضا داخل في الهادي وإذا كان قد اعترف بضعف ما حكاه عن ابن عباس وأنس وسالم لم يكن فيه حجة علينا
فتبين أن ما ذكره عن السلف إما أن يكون مبطلا في نقله أو مفتريا بتضعيفه وعلى التقديرين لا حجة علينا بذلك
الوجه الخامس أنه أساء الأدب على السلف إذ يذكر عنهم ما يضعفه وأظهر للناس أن السلف كانوا يتأولون ليحتج بذلك على التأويل في الجملة وهو قد اعترف بضعف هذا التأويل ومن احتج بحجة وقد ضعفها وهو لا يعلم أنه ضعفها فقد رمى نفسه بسهمه ومن رمى بسهم البغي صرع به والله لا يهدي القوم الظالمين
الوجه السادس قوله هذا يبطل دعواه أن التأويل دفع الظاهر ولم ينقل عن السلف فإن هذا القول لم أقله وإن كنت قلته فهو لم ينقل إلا ما عرف أنه ضعيف والضعيف لا يبطل شيئا فهذه الوجوه في بيان تناقضه وحكايته عنا ما لم نقله
وأما بيان فساد الكلام فنقول أما قوله يجب تأويله قطعا فلا نسلم أنه يجب تأويله ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم وهذا مذهب
السلفية وجمهور الصفاتية من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم وهو قول أبي سعيد بن كلاب ذكره في الصفات ورد على الجمهية تأويل اسم النور وهو شيخ المتكلمين الصفاتية الأشعرية الشيخ الأول وحكاه عنه أبو بكر ابن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب والأشعرية ولم يذكرا تأويله إلا عن الجهمية المذمومين باتفاق وهو أيضا قول أبي الحسن الأشعري ذكره في الموجز
وأما قوله إن هذا ورد في الأسماء الحسنى فالحديث الذي ذكر فيه ذلك هو حديث الترمذي روى الأسماء الحسنى في جامعه من حديث الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ورواها ابن ماجه في سننه من طريق مخلد بن زياد القطواني عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي ص - وإنما كل منهما من كلام بعض السلف فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسرا في بعض طرق حديثه ولهذا اختلف أعيانهما عنه فروى عنه في إحدى الروايات من الأسماء بدل ما ذكر في الرواية الأخرى لأن الذين جمعوها قد كانوا يذكرون هذا تارة وهذا تارة واعتقدوا هم وغيرهم أن الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة ليست شيئا معينا بل من أحصى تسعة وتسعين اسما من أسماء الله دخل الجنة أو أنها وإن كانت معينة فالاسمان اللذان يتفقان معناهما يقوم أحدهما مقام صاحبه كالأحد والواحد فإن في رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عنه رواها عثمان بن سعيد الأحد بل الواحد والمعطي بدل المغني وهما متقاربان وعند الوليد هذه الأسماء بعد أن روى الحديث عن خليد بن دعلج عن قتادة عن ابن سيرين عن أبي
هريرة ثم قال هشام وحدثنا الوليد حدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال كلها في القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو مثل ما ساقها الترمذي لكن الترمذي رواها عن طريق صفوان بن صالح عن الوليد عن شعيب وقد رواها ابن أبي عاصم وبين ما ذكره هو والترمذي خلاف في بعض المواضع
وهذا كله مما يبين لك أنها من الموصول المدرج في الحديث عن النبي ص - في بعض الطرق وليست من كلامه ولهذا جمعها قوم آخرون على غير هذا الجمع واستخرجوها من القرآن منهم سفيان بن عيينة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم كما ذكرت ذلك فيما تكلمت به قديما على هذا وهذا كله يقتضي أنها عندهم مما يقبل البدل فإن الذي عليه جماهير المسلمين أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين قالوا ومنهم الخطابي قوله
إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها التقييد بالعدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بأنها هي هذه الأسماء فهذه الجملة وهي قوله
من أحصاها دخل الجنة صفة للتسعة والتسعين ليست جملة مبتدأة ولكن موضعها النصب ويجوز أن تكون مبتدأة والمعنى لا يختلف والتقدير إن لله أسماء بقدر هذا العدد من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل إن مائة غلام أعددتهم للعتق وألف درهم أعددتها للحج فالتقييد بالعدد هو في الموصوف بهذه الصفة لا في أصل استحقاقه لذلك العدد فإنه لم يقل إن أسماء الله تسعة وتسعون
قال ويدل على ذلك قوله في الحديث الذي رواه أحمد في المسند
اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته احدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فهذا يدل على أن لله أسماء فوق تسعة وتسعين يحصيها بعض المؤمنين
وأيضا فقوله
إن لله تسعة وتسعين تقييد بهذا العدد بمنزلة قوله تعالى عليها تسعة عشر فلما استقلوهم قال وما يعلم جنود ربك إلا هو فأن لا يعلم أسماءه إلا
هو أولى وذلك أن هذا لو كان قد قيل منفردا لم يفد النفي إلا بمفهوم العدد الذي هو دون مفهوم الصفة والنزاع فيه مشهور وإن كان المختار عندنا أن التخصيص بالذكر بعد قيام المقتضى للعموم يفيد الاختصاص بالحكم فإن العدول عن وجوب التعميم إلى التخصيص إن لم يكن للاختصاص بالحكم وإلا كان تركا للمقتضى بلا معارض وذلك ممتنع فقوله إن لله تسعة وتسعين قد يكون للتحصيل بهذا العدد فوائد غير الحصر ومنها ذكر أن إحصاءها يورث الجنة فإنه لو ذكر هذه الجملة منفردة وأتبعها بهذه منفردة لكان حسنا فكيف والأصل في الكلام الاتصال وعدم الانفصال فتكون الجملة الشرطية صفة لا ابتدائية فهذا هو الراجح في العربية مع ما ذكر من الدليل ولهذا قال
انه وتر يحب الوتر ومحبته لذلك تدل على أنه متعلق بالإحصاء أي يجب أن يحصي من أسمائه هذا العدد وإذا كانت أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين أمكن أن يكون إحصاء تسعة وتسعين اسما يورث الجنة مطلقا على سبيل البدل فهذا يوجه قول هؤلاء وإن كان كثيرا
وكثير من الناس من يجعلها أسماء معينة ثم من هؤلاء من يقول ليس إلا تسعة وتسعين اسما فقط وهو قول ابن حزم وطائفة والأكثرون منهم يقولون وإن كانت أسماء الله أكثر لكن الموعود بالجنة لمن أحصاها هي معينة وبكل حال فتعيينها ليس من كلام النبي ص - باتفاق أهل المعرفة حديثه ولكن روي في ذلك عن السلف أنواع
من ذلك ما ذكره الترمذي ومنها غير ذلك فإذا عرف هذا فقوله في أسمائه الحسنى النور الهادي لو نازعه منازع في ثبوت ذلك عن النبي ص - لم تكن له حجة ولكن جاء ذلك في أحاديث صحاح مثل قوله في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي ص - أنه كان يقول
اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال
سألت رسول الله ص - هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه أو قال رأيت نورا فالذي في القرآن والحديث الصحيح إضافة النور بقوله نور السماوات والأرض أو نور السماوات والأرض ومن فيهن
وأما قوله أن النور كيفية قائمة فنقول النور المخلوق محسوس لا يحتاج إلى بيان كيفية لكنه نوعان أعيان وأعراض فالأعيان هو نفس جرم النار حيث كانت نور السراج والمصباح
الذي في الزجاجة وغيره وهي النور الذي ضرب الله به المثل ومثل القمر فإن الله سماه نورا فقال جعل الشمس ضياء والقمر نورا ولاريب أن النار جسم لطيف شفاف وأعراض مثل ما يقع من شعاع الشمس والقمر والنار على الأجسام الصقيلة وغيرها فإن المصباح إذا كان في البيت أضاء جوانب البيت فذلك النور والشعاع الواقع على الجدر والسقف والأرض هو عرض وهو كيفية قائمة بالجسم
وقد يقال ليس الصفة القائمة بالنار والقمر ونحوهما نورا فيكون الاسم على الجوهر تارة وعلى صفة أخرى ولهذا يقال لضوء النهار نور كما قال تعالى وجعل الظلمات والنور ومن هذا تسمية الليل ظلمة والنهار نورا فإنهما عرضان وقد قيل هما جوهران وليس هذا موضع بسط ذلك فتبين أن اسم النور يتناول هذين والمعترض ذكر أولا حد العرض وذكر ثانيا حد الجسم فتناقض وكأنه أخذ ذلك من كلامي ولم يهتدوا لوجه الجمع وكذلك اسم الحق يقع على ذات الله تعالى وعلى صفاته القدسية القديمة كقول النبي ص - أنت الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق
وأما قول المعترض النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له لم تفهم معنى الضد المنفي عن الله فإن الضد يراد به ما يمنع ثبوت الآخر كما يقال في الأعراض المتضادة مثل السواد والبياض ويقول الناس الضدان لا يجتمعان ويمتنع اجتماع الضدين وهذا التضاد عند كثير من الناس لا يكون إلا في الأعراض وأما الأعيان فلا تضاد فيها فيمتنع عند هذا أن يقال لله ضد أو ليس له ضد ومنهم من يقول يتصور التضاد فيها والله تعالى ليس له ضد يمنع ثبوته ووجوده بلا ريب بل هو القاهر الغالب الذي لا يغلب
وقد يراد بالضد المعارض لأمره وحكمه وإن لم يكن مانعا من وجود ذاته كما قال النبي ص -
من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره رواه أبو داود وتسمية المخالف لأمره وحكمه ضدا كتسميته عدوا وبهذا الاعتبار فالمعادون المضادون لله كثيرون فأما على التفسير الأول فلا ريب أنه ليس في نفس الأمر مضادا لله لكن المضاد يقع
في نفس الكافر فإن الباطل ضد الحق والكذب ضد الصدق فمن اعتند في الله ما هو منزه عنه كان هذا ضدا للإيمان الصحيح به
وأما قوله النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له والحي ضد الميت والعليم ضد الجاهل والسميع والبصير والذي يتكلم ضد الأصم لأعمى الأبكم وهكذا سائر ما سمى الله به من الأسماء لها أضداد وهو منزه عن أن يسمى بأضدادها فجل الله أن يكون ميتا أو عاجزا أو فقيرا ونحو ذلك
وأما وجود مخلوق له موصوف بضد صفته مثل وجود الميت والجاهل والفقير والظالم فهذا كثير بل غالب أسمائه لها أضداد موجودة في الموجودين ولا يقال لأولئك إنهم أضداد الله ولكن يقال إنهم موصوفون بضد صفات الله فإن التضاد بين إنما يكن في المحل الواحد لا في محلين فمن كان موصوفا بالموت ضادته الحياة ومن كان موصوفا بالحياة ضاده الموت والله سبحانه يمتنع أن يكون ظلمة أو موصوفا بالظلمة كما يمتنع أن يكون ميتا أو موصوفا بالموت فهذا المعترض أخذ لفظ الضد بالاشتراك ولم يميز بين الضد الذي يضاد ثبوته ثبوت الحق وصفاته وأفعاله وبين أن يكون في مخلوقاته ما هو موصوف بضد صفاته وبين ما يضاده في أمره ونهيه فالضد الأول هو الممتنع وأما الآخران فوجودهما كثير لكن لايقال إنه ضد الله فإن المتصف بضد صفاته لم يضاده والذين قالوا النور ضد الظلمة قالوا يمتنع اجتماعهما في عين واحدة ولم يقولوا أنه يمتنع أن يكون شيء موصوف بأنه نور وشيء آخر موصوف بأنه ظلمة فليتدبر العاقل هذا التعطيل والتخطيط
وأما قوله لو كان نورا لم يجز إضافته إلى نفسه في قوله مثل نوره فالكلام عليه من طريقين أحدهما أن نقول النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض وقد أخبر النص أن الله نور وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور فهذه ثلاثة أنوار في النص وقد تقدم ذكر الأول
وأما الثاني قوله وأشرقت الأرض بنور ربها وفي قوله مثل نوره وفيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ص -
إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ومنه قوله
ص - في دعاء الطائف
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك رواه الطبراني وغيره ومنه قول ابن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه ومنه قوله ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي ص - قال قام فينا رسول الله ص - بأربع كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فهذا الحديث فيه ذكر حجابه فإن تردد الراوي في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها نار ونور كما سمى الله نار المصباح نورا بخلاف النار المظلمة كنار جهنم فتلك لا تسمى نورا
فالأقسام ثلاثة إشراق بلا إحراق وهو النور المحض كالقمر وإحراق بلا إشراق وهي النار المظلمة وما هو نار ونور كالشمس ونار المصابيح التي في الدنيا توصف بالأمرين وإذا كان كذلك صح أن يكون نور السماوات والأرض وأن يضاف إليه النور وليس المضاف هو عين المضاف إليه
والطريق الثاني أن يقال هذا يرد عليكم لا يختص بمن يسميه بما سمى به نفسه وبينه فأنت إذا قلت هاد أو منور أو غير ذلك فالمسمى نورا هو الرب نفسه ليس هو النور المضاف إليه فإذا قلت هو الهادي فنوره الهدى جعلت أحد النورين عينا قائمة والآخر صفة فهكذا يقول من يسميه نورا وإذا كان السؤال يرد على القولين والقائلين كان تخصيص أحدهما بأنه مخالف ظلما ولددا في المحاجة أو جهلا وضلالا عن الحق
واما ما ذكره من الأقوال فلا ريب أن للناس فيها من الأقوال أكثر مما ذكره والموجود بأيدي الأمة من الروايات الصادقة والكاذبة والآراء المصيبة والمخطئة لا يحصيه إلا الله والكلام في تفسير أسماء الله وصفاته وكلامه فيه من الغث والسمين ما لا يحصيه إلا رب العالمين وإنما الشأن في الحق والعلم والدين
وقد كتبت قديما في بعض كتبي لبعض الأكابر أن العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول فالشأن في أن نقول علما وهو النقل والصدق والبحث المحقق فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق وإلا فباطل مطلق مثلما ذكره في هذه الآية وغيرها
وهذه الكتب التي يسميها كثير من الناس كتب التفسير فيها كثير من التفسير منقولات عن السلف مكذوبة عليهم وقول على الله ورسوله بالرأي المجرد بل بمجرد شبهة قياسية أو شبهة أدبية فالمفسرون الذين ينقل عنهم لم يسمهم ومع هذا فقد ضعف قولهم بالباطل فإن القوم فسروا النور في الآية بأنه الهادي ولم يفسروا النور في الأسماء الحسنى والحديث عن النبي ص - فلا يصح تضعيف قولهم بما ضعفه ونحن ما ذكرنا ذلك لبيان تناقضه وأنه لا يحتج علينا بشيء يروج على ذي لب فإن التناقض أول مقامات الفساد وهذا التفسير قد قاله طائفة من المفسرين
وأما كونه ثابتا عن ابن عباس أو غيره فهذا مما لم يثبته ومعلوم أن في كتب التفسير من النقل عن ابن عباس من الكذب شيء كثير من رواية الكلبي عن أبي صالح وغيره فلا بد من تصحيح النقل لتقوم الحجة فليراجع كتب التفسير التي يحرر فيها النقل مثل تفسير محمد بن جرير الطبري الذي ينقل فيه كلام السلف بالإسناد وليعرض عن تفسير مقاتل بقي بن مخلد الأندلسي وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الشامي وعبد بن حميد الكشي وغيرهم إن لم يصعد إلى تفسير الإمام إسحاق ابن راهويه وتفسير الإمام أحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة الذين هم أعلم أهل الأرض بالتفاسير الصحيحة عن النبي ص - وآثار الصحابة والتابعين كما هو أعلم الناس بحديث النبي ص - وآثار الصحابة والتابعين في الأصول والفروع وغير ذلك من العلوم فأما أن يثبت أصلا يجعله قاعدة بمجرد رأي فهذا إنما ينفق على الجهال بالدلائل الأغشام في المسائل ومثل هذه المنقولات التي لا يميز صدقها من كذبها والمعقولات التي لا يميز صدقها من خطئها ضل من ضل من أهل المشرق في الأصول والفروع والفقه والتصوف
وما أحسن ما جاء هذا في آية النور التي قال الله تعالى فيها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور نسأل الله يجعل لنا نورا
ثم نقول هذا القول الذي قاله بعض المفسرين في قوله الله نور السماوات والأرض أي هادي أهل السماوات لا يضرنا ولا يخالف ما قلناه فإنهم قالوه في تفسير الآية التي ذكر النور فيها مضافا لم يذكروه في تفسير نور مطلق كما ادعيت أنت من ورود الحديث به فأين هذا من هذا
ثم قول من قال من السلف هادي أهل السماوات والأرض لا يمنع أن يكون في نفسه نورا فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر من الأسماء أو بعض أنواعه ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات المسمى بل قد يكونان متلازمين ولا دخول لبقية