كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
الْعَبْدَرِيُّ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَفْعَلُهَا وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ : قُلْت لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَرَأَيْت الْقَوْمَ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَءُونَ جَمِيعًا سُورَةً
وَاحِدَةً حَتَّى يَخْتِمُوهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَعَابَهُ ، وَقَالَ :
لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ إنَّمَا كَانَ يَقْرَأُ الرَّجُلُ
عَلَى الْآخَرِ يَعْرِضُهُ فَقَدْ نَقَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا كَانَ
عَلَيْهِ السَّلَفُ وَبَيَّنَهُ ، وَقَدْ قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي
تَرْجَمَهَا مَا قَالَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ
ثُمَّ نَقَلَ فِعْلَهُمْ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا تَرْجَمَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ
بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ
الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الْمَسْجِدِ
يُسْمَعُ لَهُمْ فِيهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ كُلُّ إنْسَانٍ
يَذْكُرُ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَلَا
بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ جَمَاعَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ
وَقَوْلُهُ لَهُمْ : وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ
لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِلْمًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِقَوْلِهِ : لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ
وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فَيَجْتَمِعُونَ لِلذِّكْرِ
رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ
مُبَادَرَةً لِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ وَلَا يُظَنُّ فِيهِمْ غَيْرُ مَا وَصَفَ
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
بِقَوْلِهِ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ،
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي إشْفَاقِهِ مِنْ غَسْلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ
عَلَيْهِ
الذُّبَابُ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَى النَّجَاسَةِ ، وَقَوْلُهُ :
وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي
الْإِسْلَامِ أَمَّا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( مَا
اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ
السَّكِينَةُ .
فَالدِّرَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ
لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التِّلَاوَةِ صَوْتًا وَاحِدًا مُتَرَاسِلِينَ ؛
لِأَنَّ الْمُدَارَسَةَ إنَّمَا تَكُونُ تَلْقِينًا أَوْ عَرْضًا ،
وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمْ .
أَمَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
أَمَّا
خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ فَقَالَ : مَا مَجْلِسُكُمْ قَالُوا : جَلَسْنَا نَذْكُرُ
اللَّهَ ، فَهَذَا أَفْصَحُ بِالْمُرَادِ فِي الْجَمِيعِ وَكَيْفَ كَانَ
اجْتِمَاعُهُمْ ؟ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ جَهْرًا
لَمْ يَحْتَجْ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ يَسْتَفْهِمَهُمْ بَلْ كَانَ
يُخْبِرُهُمْ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ فَلَمَّا أَنْ
اسْتَفْهَمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَانَ سِرًّا وَكَذَلِكَ
جَوَابُهُمْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِمْ
جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى سِرًّا إذْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذِكْرُهُمْ
جَهْرًا لَمَا كَانَ لِأَخْبَارِهِمْ بِذَلِكَ مَعْنًى زَائِدًا إذْ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ
فَكَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : جَلَسْنَا لِمَا سَمِعْته أَوْ
لِمَا رَأَيْته مِنَّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ؛
لِأَنَّهُمْ يَتَحَاشَوْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ الْجَوَابُ لِغَيْرِ
فَائِدَةٍ فَبَانَ وَاتَّضَحَ أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَانَ سِرًّا لَا جَهْرًا
عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى
فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً أَوْ
كَانُوا يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عِبَادَةِ
الْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْإِيمَانِ وَالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ فَتَعْظُمُ عِنْدَهُمْ النِّعَمُ عِنْدَ تَذَكُّرِ ذَلِكَ
فَيَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ
النِّعَمِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ
عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ
الصُّبْحِ يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَانُوا
يَفْعَلُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ
يَسْمَعُهُمْ فَيَتَبَسَّمُ أَحْيَانًا مِنْ حِكَايَاتِهِمْ عَنْ
أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْحَلْقَةُ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهَا قَاعِدَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى
فَحَصَلَ لَهُمْ مَا حَصَلَ مِنْ الْمُبَاهَاةِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا
تَذَاكَرُوا ذَلِكَ فِيهِ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ،
وَأَنَّ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا
بِقُدْرَتِهِمْ فَتَعْظُمُ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ
هَدَاهُمْ وَأَنْقَذَهُمْ وَأَضَلَّ غَيْرَهُمْ وَأَصَمَّهُمْ
وَأَعْمَاهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ كَمَا جَاءَ فِي
مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ
يَفْضُلُ الْجَلِيَّ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ
يَتْرُكُوا مَا هُوَ أَفْضَلُ وَيَفْعَلُونَ الْمَفْضُولَ وَمُحَالٌ فِي
حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَرَاهُمْ يَفْعَلُونَ
الْمَفْضُولَ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يُنَبِّهُهُمْ
عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى مَجْلِسَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرْغَبُونَ إلَيْهِ .
وَالثَّانِي
: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْأَلُونَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ .
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّمَا بُعِثْت مُعَلِّمًا ثُمَّ عَدَلَ إلَيْهِمْ وَجَلَسَ مَعَهُمْ
انْتَهَى .
فَقَدْ
فَسَّرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الذِّكْرَ الَّذِي كَانَ بِالْحَلْقَةِ
الثَّانِيَةِ أَنَّهُ الدُّعَاءُ ، وَالدُّعَاءُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ لَا
يَكُونُ إلَّا جَهْرًا إذْ أَنَّهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ
الدَّاعِي وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحَادِيثُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ
مِنْهَا نَصٌّ عَلَى الْمُرَادِ الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ
طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ وَتَقَرَّرَ مِنْ
أَحْوَالِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَرْكُ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ ،
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيْنَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ثُمَّ
قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ .
رَوَى الدَّارِمِيُّ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَنْ
اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا ) .
فَانْظُرْ
إنْ كَانَ فِي هَذَا شَيْءٌ يَمَسُّ مُرَادَهُ إذْ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ
فِيهِ مَنْ اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ
أَصْوَاتٍ جُمْلَةٍ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ بَلْ ذَلِكَ أَعَمُّ ، وَإِذَا
كَانَ أَعَمَّ فَيُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَا سَبِيلَ
إلَى عُرْفِ غَيْرِهِمْ وَعَادَتِهِمْ .
ثُمَّ قَالَ وَرَوَى ابْنُ
أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ
يُدَرِّسُ الْقُرْآنَ مَعَهُ نَفَرٌ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا ، فَهَذَا
أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْهَيْئَةِ
الَّتِي أَرَادَ فِي تَرْجَمَتِهِ إذْ التَّدْرِيسُ لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ
دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ حَضَرَ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ
وَتَعْلِيمُهُ لِوَاحِدٍ لَيْسَ إلَّا فِيهِ كَتْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ
وَمَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ عَلَى مَا
وَرَدَ ، وَهَذَا مُتَعَارَفٌ مُتَعَاهَدٌ مِنْ زَمَانِهِمْ إلَى
زَمَانِنَا هَذَا فَعَلَى التَّدْرِيسِ لِلْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ
مُجْتَمِعَيْنِ هَذَا فِي آيَةٍ ، وَهَذَا فِي أُخْرَى ، وَهَذَا فِي
سُورَةٍ ، وَهَذَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى ، وَهَذَا فِي حِزْبٍ ، وَهَذَا
فِي آخَرَ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
الْجَمَاعَةِ إذَا اجْتَمَعُوا
يُرِيدُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى
الشَّيْخِ وَلَا يَسَعُهُمْ الْوَقْتُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ هَلْ
يَقْرَأُ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي حِزْبٍ وَاحِدٍ ؛ لِعُذْرِ ضِيقِ
الْوَقْتِ أَوْ لَا يَقْرَأُ إلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَقَالَ :
مَرَّةً يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ
قَرَأَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ بَقِيَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ
لِكَثْرَتِهِمْ وَضِيقِ الْوَقْتِ .
وَمَرَّةً قَالَ : لَا يَجُوزُ ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ
ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ
يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَبِي
الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا فُهِمَ هَذَا النَّقْلُ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى
، وَهُوَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ وَأَبُو
الدَّرْدَاءِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ
يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُدَرِّسُهُمْ الْقُرْآنَ إمَّا تَلْقِينًا
أَوْ فِي الْأَلْوَاحِ أَوْ فِي الْمَصَاحِفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْجَمَاعَةُ يَقْرَءُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ .
أَمَّا
الْحُفَّاظُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِرَاءَةِ يَقْرَءُونَ مَعًا لِلثَّوَابِ
فَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَا بِمَرْوِيٍّ عَنْهُمْ .
، وَهَذَا
مِثْلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي
الْأَذَانِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ إذْ
إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ عَلَى زَمَانِ مَنْ مَضَى رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ ، وَعَلَى رَأْسِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ بِهِ ،
وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ
مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا
أَنَّ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ
مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي
الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا .
فَذَكَرَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا يُمْكِنُ فِيهِ فَالتَّهْجِيرُ
ذَكَرَ لَهُ الِاسْتِبَاقَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ وَالْعَتَمَةُ
وَالصُّبْحُ ذَكَرَ لَهُمَا الْحَبْوَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ رَاحَةٍ
وَغَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَكَسَلٍ فَذَكَرَ لَهُ مَا يَلِيقُ بِالْكَسَلِ ،
وَهُوَ الْحَبْوُ ، وَلَمَّا كَانَ الْأَذَانُ قَدْ يَتَعَذَّرُ فِيهِ
الِاسْتِبَاقُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ مَعًا دَفْعَةً
وَاحِدَةً وَالزَّمَانُ لَا يَسَعُهُمْ لِلْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ
وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ لَا يَسَعُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ
الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْإِتْيَانِ
فَاحْتَاجُوا إلَى الْقُرْعَةِ فِي ذَلِكَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ .
لَكِنْ
قَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إذَا تَزَاحَمَ
الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الْأَذَانِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ
الثَّوَابِ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَجُوزُ الْأَذَانُ جَمَاعَةً وَشَرَطُوا فِي
جَوَازِهِ أَنْ لَا يَكُونَ نَسَقًا وَاحِدًا بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ
يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي الشَّهَادَتَيْنِ
وَالْآخَرُ فِي التَّكْبِيرِ وَالْآخَرُ فِي الْحَيْعَلَةِ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَوْتِ صَاحِبِهِ
هَذَا
الَّذِي أَجَازَهُ عُلَمَاؤُنَا .
أَمَّا مَا اعْتَادَهُ
الْمُؤَذِّنُونَ الْيَوْمَ مِنْ الْأَذَانِ جَمَاعَةً مُتَرَاسِلِينَ
نَسَقًا وَاحِدًا مُجْتَمَعِينَ فَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ جَوَازُهُ
وَهَا هُوَ الْيَوْمَ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْمُولُ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ
غَيْرَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ كَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ
وَأَتَى بِشَيْءٍ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُعْهَدُ .
وَكَذَلِكَ فِي
الْمُدَارَسَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ كَانُوا يَدْرُسُونَ الْقُرْآنَ
وَالْحَدِيثَ وَالْفُرُوعَ وَالْأَحْكَامَ مُجْتَمَعِينَ يَتَلَقَّى
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حِفْظَ ذَلِكَ وَفَوَائِدَهُ فَانْعَكَسَ
الْأَمْرُ الْيَوْمَ وَصَارَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْيَوْمَ إلَّا
الْعَوَائِدُ الَّتِي ارْتَكَبْنَاهَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا عَادَتُنَا
وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ تَرَكْنَاهُ وَرَجَعْنَا نَنْقُلُ عَنْ عَوَائِدَ
اتَّخَذْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا أَنَّهَا سُنَّةُ
السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَلَفِنَا وَخَلْفِنَا أَلَا
تَرَى أَنَّ النَّاقِلَ الْمَذْكُورَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ .
وَقَدْ نَقَلَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِعْلَ السَّلَفِ حِينَ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ وَهْبٍ مَا
ذَكَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَعَابَهُ ، وَقَالَ : لَيْسَ هَكَذَا كَانَ
يَصْنَعُ النَّاسُ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ نَقْلَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَلَا يَرُدُّهُ لِمَا أَجْمَعُوا
عَلَيْهِ مِنْ ثِقَتِهِ وَأَمَانَتِهِ فِي نَقْلِهِ عَنْهُمْ .
أَمَّا
مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مَذْهَبِهِ ، فَهَذَا الَّذِي الْإِنْسَانُ
مُخَيَّرٌ فِيهِ إنْ شَاءَ قَلَّدَهُ ، وَإِنْ شَاءَ قَلَّدَ غَيْرَهُ .
أَمَّا
نَقْلُهُ عَنْ السَّلَفِ فَلَيْسَ إلَى مُخَالَفَتِهِ مِنْ سَبِيلٍ إلَّا
أَنْ يَتَأَوَّلَ فِعْلَ السَّلَفِ فَذَلِكَ يُمْكِنُ إنْ كَانَ
التَّأْوِيلُ تَقْبَلُهُ أَحْوَالُهُمْ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ :
هَذَا مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِكَوْنِ مَذْهَبِهِ
مَبْنِيًّا عَلَى الْأَخْذِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّ
لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا
يَكُونُ عَنْهُ مُخْتَصًّا
بِبَلَدِهِ يَقُولُ بِهِ ، وَعَلَى
ذَلِكَ أَدْرَكْت أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا بَلَدُهُ عَلَى مَا هُوَ
مَوْجُودٌ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ فَلَمَّا أَنْكَرَ
ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَهْلَ بَلَدِهِ
دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَيْضًا فَقَدْ نَقَلَ غَيْرُهُ ذَلِكَ وَصَرَّحَ
بِهِ وَلَيْسَ بِبَلَدِهِ ، بَلْ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا فَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ
عَامٌّ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا .
وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ التَّقْلِيدُ فِي أُمُورِ
الدِّينِ لِمَنْ سَهَا أَوْ غَفَلَ أَوْ غَلِطَ ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ
إنَّمَا يَكُونُ لِخَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ صَاحِبُ
الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِ كَمَا
تَقَدَّمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي الْقِرَاءَةِ جَمَاعَةً وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً أَنَّهَا مِنْ
الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ
أَوْ نَقَلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَيْفَ
يُمْكِنُهُ التَّصْرِيحُ بِكَرَاهِيَتِهِ ؟ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَتَوَقَّفَ فِيهِ أَوْ يَكْرَهَهُ فَلَمَّا أَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ
قَوْلُهُ فِي كَرَاهِيَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ
عَنْهُمْ فِيهِ إلَّا التَّرْكَ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْإِنْكَارَ لَهُ
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ شَغَلَهُ
الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي
السَّائِلِينَ إذَا شَغَلَ عَبْدِي ثَنَاؤُهُ عَلَيَّ أَعْطَيْته أَفْضَلَ
مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ مِنْ غُدْوَةٍ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا
طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ) .
وَقَالَ :
هُمْ يَتَحَلَّقُونَ
الْحِلَقَ وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ هَذَا تَفْسِيرُ
خَادِمِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ
يُقَابِلُهُ تَفْسِيرُ مُتَأَخِّرِي هَذَا الزَّمَانِ ؟ وَرُوِيَ عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَزَالُ
الْفَقِيهُ يُصَلِّي قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ : لَا تَلْقَاهُ إلَّا
وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ يُحِلُّ حَلَالًا وَيُحَرِّمُ حَرَامًا .
قَالَ
الطُّرْطُوشِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ ظَفِرْت بِهَذَا الْمَعْنَى
فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُهَيْمِنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَارُونَ
وَمُوسَى لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى فِرْعَوْنَ وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي
فَسَمَّى تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ ذِكْرًا فَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ أَنَّ
حِلَقَ الْعِلْمِ وَمَا يَتَحَاوَرُونَ فِيهِ فِي الْعِلْمِ
وَيَتَرَاجَعُونَ مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ أَنَّهَا حِلَقُ الذِّكْرِ ،
وَهَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يَعْنِي
أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ .
نَقَلَ ذَلِكَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الذِّكْرِ لَهُ .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ الْيَوْمَ ، بَلْ
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الْعَوَائِدِ الَّتِي
اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا وَلَا لِكَوْنِ سَلَفِنَا مَضَوْا عَلَيْهَا إذْ
قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا غَفْلَةٌ أَوْ غَلَطٌ أَوْ سَهْوٌ وَلَكِنْ
يُنْظَرُ إلَى الْقُرُونِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، فَإِنْ فَعَلَ هُوَ
مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ مَصْلَحَةً فِي وَقْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ
أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيَعْتَرِفَ بَيْنَ النَّاسِ
أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَيُبَيِّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ
.
قَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَأْخُذُ هَذِهِ الْأَحْزَابَ وَيَقْرَؤُهَا جَمَاعَةً
وَيَذْكُرُهَا جَمَاعَةً بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَلَمْ يَزَلْ
عَلَى ذَلِكَ دَأْبُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَوْتِهِ وَكَانَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ
لِضَرُورَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ قَلَّتْ وَقَلَّ فَقِيرٌ أَنْ
يُصَلِّيَ الصُّبْحَ أَوْ الْعَصْرَ ثُمَّ يَقُومُ يَذْكُرُ اللَّهَ
تَعَالَى وَيَقْرَأُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ الْمَشْهُودَيْنِ إلَّا
أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مِنْ مُصَلَّاهُمْ إمَّا لِلنَّوْمِ إنْ كَانَ فِي
الصُّبْحِ أَوْ لِلتَّحَدُّثِ فِيمَا لَا يَعْنِي إنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ
إنْ سَلِمُوا مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَلَمَّا أَنْ تَحَقَّقُوا
وُقُوعَ هَذَا الْمَحْذُورِ وَدَعَوْهُ لِهَذَا الْمَكْرُوهِ ؛ لِأَنَّ
ارْتِكَابَ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ ارْتِكَابِ
الْمَحْذُورَاتِ هَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى
السُّنَنِ وَحِفْظِهَا فَيُنَبِّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا وَيُعَلِّمُهُمْ
بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا وَيُخْبِرُهُمْ
بِالضَّرُورَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِفِعْلِهَا وَلِأَجْلِ
الْغَفْلَةِ عَنْ هَذَا التَّنْبِيهِ وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ الِادِّعَاءِ
بِهَا بِأَنَّهَا سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ
عَلَى النَّاسِ تَحْسِينُ ظَنِّهِمْ بِمَشَايِخِهِمْ
وَعُلَمَائِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ ، وَأَنَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا : مَنْ لَمْ يَرَ خَطَأَ شَيْخِهِ صَوَابًا لَمْ
يَنْتَفِعْ بِهِ فَيُحْمَلُ لِأَجْلِ هَذَا مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عَلَى
أَنَّهُ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ
بِذِكْرِهِ لِذَلِكَ وَتَعْلِيلِهِ ؛ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ
يَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا .
وَقَدْ حَكَى عَنْ
شَيْخِهِ الْقُدْوَةِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْمُحَقِّقِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَكَى لِي ذَلِكَ عَنْهُ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ
كَانَ عَارِفًا بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً وَكَانَ الْفُقَرَاءُ
عِنْدَهُ فِي مَجَالِسِهِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ
فِي الْغَالِبِ إلَّا الْبَحْثَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَلْ يَجُوزُ
أَوْ لَا يَجُوزُ ؟ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَلَمْ يَرْجِعْ
بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فِيهِ يَأْتُونَ إلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ
الْمَسَائِلِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا فَيَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى
الْفُقَهَاءِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهَا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ
يُحِلْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالنَّوَازِلِ
الَّتِي كَانَتْ تَنْزِلُ بِهِمْ فَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَافُ أَنْ
أُفْتِيَهُمْ فَيَقَعَ لَهُمْ الْخَلَلُ بِسَبَبِ أَنِّي إنْ مِتُّ بَقِيَ
الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيَّ لَا يَعْرِفُونَ أَمْرَ
دِينِهِمْ إلَّا مِنْ جِهَتِي فَيَقُولُونَ : قَالَ الشَّيْخُ كَذَا
وَذَهَبَ الشَّيْخُ إلَى كَذَا ، وَكَانَ طَرِيقُ الشَّيْخِ كَذَا .
فَيَظُنُّونَ
أَنَّ الشَّرِيعَةَ خُرُوجُهَا مِنْ قِبَلِ الْمَشَايِخِ فَيُرْسِلُهُمْ
إلَى الْفُقَهَاءِ لِسَدِّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ وَلِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّ
مَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا أَصْلُهُ وَعِمَادُهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ بِهِ
الْحَلُّ وَالرَّبْطُ عِنْدَنَا هُوَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَمَا نَحْنُ
فِيهِ فَرْعٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْتَظِمُ الْحَالُ أَوْ كَلَامًا هَذَا
مَعْنَاهُ .
فَانْظُرْ رَحِمَك
اللَّهُ إلَى مُحَافَظَةِ هَذَا
السَّيِّدِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصِبِ الشَّرِيعَةِ كَيْفَ
تَرَكَ أَنْ يُجِيبَ الْفُقَرَاءَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ
ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ؟ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ مَعْرُوفًا
وَمَنْسُوبًا إلَى تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَتَسْلِيكِهِمْ
وَتَرَقِّيهمْ فِي الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُنَازَلَاتِ خَافَ
أَنْ يُنْسَبَ مَا يُفْتِي بِهِ مِنْ الْفِقْهِ إلَى مَا كَانَ بِصَدَدِهِ
مِنْ التَّرْبِيَةِ فَتَرَكَ الْمَنْدُوبَ ، وَهُوَ الْفَتْوَى فِيمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَحَفُّظًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُنْسَبَ
شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الَّذِي عَنْهُ يُؤْخَذُ
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَحَفَّظَ مِنْهُ هَذَا
السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ الْيَوْمَ كَثِيرًا
مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَعْمَلُ
الْبِدْعَةَ وَيَتَهَاوَنُ بِهَا فَتَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تُرْشِدُهُ
إلَى التَّرْكِ فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ ،
وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ رَأَى شَيْخَهُ وَمَنْ
يَعْتَقِدُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ
بِدْعَةً .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي فُلَانٌ يَعْمَلُهَا ؟ فَيَسْتَدِلُّ
بِفِعْلِ سَلَفِهِ وَخَلْفِهِ وَشُيُوخِهِ عَلَى جَوَازِ تِلْكَ
الْبِدْعَةِ ، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فَصَارَ فِعْلُ الْمَشَايِخِ
حُجَّةً عَلَى مَا تَقَرَّرَ بِأَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ
وَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ وَلَا مِمَّنْ شَهِدَ لَهُمْ صَاحِبُ
الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَهَذَا أَمْرٌ
قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَرْدُودٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ
لَوْ جَازَ لَوَقَعَ الْخَلَلُ فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِهِ فَأَيٌّ مَنْ
اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وَفَعَلَهُ وَأَيٌّ مَنْ كَرِهَ شَيْئًا وَتَرَكَهُ
يَقَعُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ؟ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْصًا مَعَاذَ اللَّهِ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِينَا الْيَوْمَ شَيْءٌ
مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ، وَقَدْ عَصَمَ
اللَّهُ هَذِهِ الْمِلَّةَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ التَّبْدِيلِ
فَكُلُّ
مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مُخَالِفٍ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو هَذِهِ
الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مَحْجُوجٌ بِفِعْلِهِمْ
وَبِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَذْهَبَ شَرِيعَةَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْنِي التَّقْلِيدَ لِأَحْبَارِهِمْ
وَرُهْبَانِهِمْ دُونَ دَلِيلٍ يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ
أَمْرُهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مِنْ الْأَحَدِ إلَى الْأَحَدِ
يُجَدِّدُ لَهُمْ الْقِسِّيسُ شَرِيعَةً جَدِيدَةً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ
لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيه نَظَرُهُ
وَتَسْدِيدُهُ عَلَى زَعْمِهِ فَتَجِدُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ
كَنَائِسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ لَقَدْ جَدَّدَ الْيَوْمَ شَرِيعَةً
مَلِيحَةً ، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ
الشَّرِيعَةَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ
فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ مَغْفُولٌ عَنْهُ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهُ
إلَّا مَنْ كَانَ مُرَاقِبًا لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ
يَزِنُهَا عَلَى أَفْعَالِ السَّلَفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَعْنِي أَنَّهُ
لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَقْتَدِيَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إلَّا
بِمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُتَقَدِّمِينَ إنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِلَّا فَبِالسُّؤَالِ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ
وَيَتَبَيَّنُ لَهُ .
أَمَّا إنْ نَظَرَ إلَى أَفْعَالِهِمْ
وَوَزَنَهَا بِغَرَضٍ غَيْرِ هَذَا فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ
مِنْ بَابِ التَّشَاغُلِ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَالْبَحْثِ عَنْ
مَثَالِبِهِمْ ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى
مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ
وَالْقِرَاءَةِ لَكِنْ نَذْكُرُ أَوَّلًا مَا بَقِيَ مِنْ الْفَصْلِ
الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا النَّاقِلُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إجَازَةِ ذَلِكَ .
فَقَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ نَقْلِهِ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَهَا فِي
ذَلِكَ : وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ
الِاحْتِمَالِ ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ مَا
ذُكِرَ مِنْ إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَ فَلَمَّا أَنْ نَقَلَ
قَوْلَ مَالِكٍ لِابْنِ وَهْبٍ ، وَأَنَّهُ عَابَ مَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ
الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَكَرِهَهُ ، وَأَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ
هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ نَقَلَ
هَذَا عَنْهُ : ، فَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ
السَّلَفُ وَالْخَلْفُ وَلِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ فَهُوَ مَتْرُوكٌ
وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْبَابِهَا انْتَهَى .
فَانْظُرْ
رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا
النَّاقِلِ مَعَ حِذْقِهِ وَحِفْظِهِ كَيْفَ أَتَى بِنَقْلِ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ
وَإِعَابَتِهِ ؟ وَلَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ وَلَا بِنَقْلٍ عَنْ
غَيْرِهِمْ بِضِدِّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَأْتِ إلَّا
بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَا مِنْ فِعْلِهِمْ
كَمَا تَقَدَّمَ فَقَابَلَ مَا نَقَلَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ
بِقَوْلِهِ : أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ فِعْلَ السَّلَفِ
وَالْخَلْفِ وَهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَلَمْ
يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ بَلْ نَقَلُوا عَنْ سَلَفِهِمْ وَلَمْ
يُقَابِلْهُمْ بِأَنَّ غَيْرَهُمْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ
الْمُقَلَّدِينَ .
وَنَقْلُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَرُدُّهُ النَّقْلُ
عَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُمْ وَنَقْلُهُمْ
يَرُدُّ كُلَّ مَا تُرْجِمَ عَلَيْهِ وَقَرَّرَهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ
فِعْلَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ غَيْرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَتَبَيَّنْ
ذَلِكَ وَتَفَهَّمْهُ يَظْهَرْ لَك الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ
هَذَا .
أَمَّا فَضِيلَةُ جَمْعِهِمْ
عَلَى الْقِرَاءَةِ فَفِيهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ
بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ، وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى انْتَهَى .
فَانْظُرْ
رَحِمَك اللَّهُ هَلْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَتَى بِهِ مَا يَمَسُّ مُرَادَهُ
فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ إلَّا أَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ وَفِي نَفْسِهِ
أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَهِدَ عَلَيْهِ مَنْ
أَدْرَكَ وَمَضَوْا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ
وَالْآثَارِ عَنْهُمْ فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ أَنَّهُ
عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الِاجْتِمَاعِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَأَتَى بِكُلِّ
مَا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَالْقُرْبِ فَجَعَلَهُ
فِيمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَا هَذَا عَلَيْك بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ
وَآكَدُ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ اتِّبَاعُ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ
أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
الْإِنْسَانُ مَعَ خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ السَّبَبَ فِي
فِعْلِهِ وَالضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَيْهِ مَخَافَةً مِنْهُ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَنْ
يَخْتَلِطَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ الْمُحْدِثِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْهَبُ
إلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا فَكَانَ يَقُولُ إنَّ
بَطَالَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالنَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ جَهْرًا
إنْ كَانَ الذِّكْرُ جَهْرًا سَالِمًا مِنْ الدَّسَائِسِ الْمَحْذُورَةِ
الْمُتَوَقَّعَةِ فِيهِ فَإِنْ دَخَلَهُ شَيْءٌ مِنْ الدَّسَائِسِ فَهُوَ
الْخُسْرَانُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخُسْرَانِ وَكَانَ
يُبَيِّنُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ
بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ يَفْضُلُ الْجَلِيَّ
بِسَبْعِينَ دَرَجَةً .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ
كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ
اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ وَذَكَرَ فِيهِمْ
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ
شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَمِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَوْله
تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَنَا
وَعُلِمَ أَنَّ التَّاجِرَ إذَا وَجَدَ الرِّبْحَ فِي سِلْعَةٍ سَبْعِينَ
دِينَارًا وَأُخْرَى وَاحِدًا أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا فِيهِ رِبْحُ
سَبْعِينَ وَلَا يَأْخُذُ السِّلْعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا
الدِّينَارُ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَكَسَ التَّاجِرُ ذَلِكَ وَأَخَذَ
السِّلْعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا الدِّينَارُ الْوَاحِدُ وَتَرَكَ
السِّلْعَةَ الَّتِي يَأْخُذُ فِيهَا السَّبْعِينَ قُلْنَا عَنْهُ تَاجِرٌ
سَفِيهٌ وَالتَّاجِرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْمُؤْمِنُ لِأَنَّهُ يَتَّجِرُ
فِيمَا يَبْقَى وَغَيْرُهُ يَتَّجِرُ فِيمَا يَفْنَى ، وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَقْدُمُ عَلَى فِعْلٍ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ
وَاحِدٌ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ سَبْعُونَ هَذَا سَفَهٌ
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
النَّاسَ إنَّمَا تَفَاضَلُوا بِحَسَبِ نِيَّاتِهِمْ وَمُحَاوِلَةِ
أَعْمَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا فَيَحْتَاجُ عَلَى هَذَا أَنْ يُبَادِرَ
إلَى تِلَاوَةِ السِّرِّ وَالذِّكْرِ فِي السِّرِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ
أَفْضَلُ بِسَبْعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى سِرًّا فَلَوْ ذَكَرَ اللَّهَ مَثَلًا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ
بِسَبْعِينَ فَتَكُونُ الثَّلَاثُ تَسْبِيحَاتٍ بِمِائَتَيْ حَسَنَةٍ
وَعَشْرِ حَسَنَاتٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْفِقَ رَأْسَهُ فِي نَوْمِهِ مِنْ
وَقْتِهِ ذَلِكَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَرَّاتٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا
بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيقَ عَلَى نَفْسِهِ قَلِيلًا يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ
وَيَذْكُرُ اللَّهَ مَا قَدَرَ لَهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِينَ ثُمَّ
يَغْلِبُ عَلَيْهِ النَّوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ
فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ ، وَهُوَ مُنْكَسِرُ الْخَاطِرِ يَرَى
نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِشَيْءٍ وَيَرَى أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ
غَنِمَ وَحَصَّلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُورِ خَيْرًا ، وَهُوَ فِي
غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّذَلُّلُ وَالِانْكِسَارُ
فَيَكُونُ مَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا فَاتَهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ اُطْلُبُونِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْ أَجْلِي .
هَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا
الْأَفْذَاذُ فَإِنْ زَادَ عَلَى هَذَا بِأَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ
الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَعْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا
دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ
دُعَاءَ الْأَخِ لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابٌ هَذَا
وَأَخُوهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ الْخَطَأِ وَلَا مِنْ الزَّلَلِ فَمَا
بَالُك بِاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الَّذِي لَا يَكُونُ
إلَّا عَنْ رِضًا مِمَّنْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى
فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ
اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ إلَى أَنْ يَقُومَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ
مُصَلَّاهُ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ
، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
فَيُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى كَعُمْرَةٍ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَمَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ أَيَبْقَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ أَحَدٌ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو
دَاوُد فِي سُنَنِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ
يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيْ الضُّحَى
لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ
مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ انْتَهَى .
فَاجْتَمَعَ اسْتِغْفَارُ
الْمَلَائِكَةِ مَعَ بَرَكَةِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
مَعَ رَاحَةِ الْبَدَنِ فِي الْمَشْيِ أَوْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ التَّعَبِ مَعَ التَّحَقُّقِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ
وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الذِّكْرِ بِالْجَهْرِ مَعَ تَرْكِ
التَّعَبِ وَمَعَ حُصُولِ فَضِيلَةِ تَرْكِ الْكَلَامِ لِمَا نَقَلَ ابْنُ
رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ أَنَّ مَنْ
تَرَكَ الْكَلَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ
أُجِرَ عَلَى الذِّكْرِ ، وَعَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ وَإِنْ تَرَكَ
الْكَلَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ أُجِرَ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ
عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا إذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ نَامَ
مِنْ حِينِ صَلَاتِهِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ،
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَوْ فِي أَكْثَرِهَا مُتَيَقِّظًا
مُقْبِلًا عَلَى التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ
الْأُجُورِ بِتَعْظِيمِ النِّيَّةِ وَالْأَعْمَالِ وَمُحَاوَلَةِ ذَلِكَ
وَتَنْمِيَتِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهَا إلَّا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ
بِذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَامَ مِنْ حِينِهِ
مِنْ مُصَلَّاهُ حَتَّى لَا تَجِدُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ سَبِيلًا
إلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ
قَعَدَ يَذْكُرُ جَهْرًا فَقَدْ يَتْعَبُ مِمَّا يَرْفَعُ صَوْتُهُ ،
وَهُوَ بَعِيدٌ
لَمْ يَصِلْ إلَى الْمِائَتَيْنِ وَالْعَشَرَةِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الثَّلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ لِمَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَى هَذَا ، وَهُوَ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ
إلَى أَجْرِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَجْلِ تَضْعِيفِ الْأُجُورِ
لِذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهَذَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا
يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ رِيَاءٌ أَوْ
سُمْعَةٌ أَوْ حُظْوَةٌ عِنْدَ شَيْخِهِ أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ
الْحَاضِرِينَ أَوْ يُقَالُ عَنْهُ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ تُقَبَّلُ
يَدُهُ أَوْ يُثْنَى عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ الْعَجَبِ
لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ بِسَبَبِ تَعْمِيرِهِ
لِذَلِكَ الْوَقْتِ بِالذِّكْرِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَالْبَطَالَةُ لَا
نِسْبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَجَبِ .
وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ
مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ مُجْتَمَعِينَ عَلَى ذَلِكَ
صَوْتًا وَاحِدًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ الَّذِي هُوَ بَابُ الْجَوَازِ إلَى بَابِ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ
يَجُوزُ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَلْ يُعْمَلُ رَعْيًا لِحَقِّ
الْفُقَرَاءِ لِكَيْ يَسْلَمُوا مِنْ الْبَطَالَةِ وَالْكَلَامِ فِيمَا
لَا يَعْنِي أَوْ لَا يُعْمَلُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى فِعْلِهِ رَعْيًا
لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى
مَنْعِهِ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى وَكَفَى بِهَا
وَلَوْ كَانَ فِيهَا التَّنْشِيطُ وَغَيْرُهُ إذْ أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ
الظَّاهِرَةِ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ .
أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَامِلِهِ حِينَ
كَتَبَ لَهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا شُرْبُ
الْخَمْرِ وَكَثُرَتْ الْحُدُودُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
أَفَتَرَى أَنْ أَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ
الصَّحَابَةُ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ
فَحُدَّهُ فَإِنْ شَرِبَ فَحُدَّهُ فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ
الْمَشْرُوعِ فَلَا رَدَّهُ اللَّهُ
أَوْ كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ
فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ النَّوْمِ
وَالْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ
الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَمَجَالِسِ الْعِلْمِ فَلَا رَدَّهُ اللَّهُ
وَلَوْ سُومِحَ فِي هَذَا لَذَهَبَ الدِّينُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا
تَقَدَّمَ قَبْلُ لِأَنَّهُ إذَا وَجَدْنَا مَنْ لَمْ يَرْجِعْ
بِالسُّنَّةِ أَحْدَثْنَا لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ
وَغَيْرِهِمَا شَيْئًا لِيَرْجِعَ بِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَفِي هَذَا
ذَهَابُ الدِّينِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْ
عُمَرَ حَيْثُ سَدَّ هَذَا الْبَابَ فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ الْبَابِ
الَّذِي فَتَحَ لَهُ الشَّرْعُ فَلَا حَاجَةَ بِهِ .
ثُمَّ نَرْجِعُ
لِمَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ
عَلَى الذِّكْرِ مِنْ تَقْطِيعِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ نَفَسُهُ
فِي آيَةٍ فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ الْآيَةَ فَيَجِدُ
الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ مَعَهُ قَدْ سَبَقُوهُ بِالْآيَةِ
وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إلَى أَنْ يَقْرَأَ
مَا فَاتَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُمْ حَرْفًا
بِحَرْفٍ فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَ
آيَاتٍ وَيَتْرُكَ أُخَرَ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِهِ
الَّذِي عَلَيْهِ أُنْزِلَ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ التَّخْلِيطِ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَخْتَلِطُ آيَةُ رَحْمَةٍ بِآيَةِ
عَذَابٍ وَآيَةُ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ
فِيهِ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْدِرُ مَنْ يَقْرَأُ مَعَ جَمَاعَةٍ
أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِ مَا وُصِفَ وَلَوْ احْتَرَزَ مَا عَسَى ،
وَهَذَا أَيْضًا إذْ سَلِمَ مِنْ الْجَهْرِ بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ
بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ الْجَهْرُ
لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ
فَإِذَا كَرِهُوا ذَلِكَ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْجَهْرُ فَمَا بَالُك
فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْإِسْرَارُ وَالْإِخْفَاءُ وَكَثِيرًا
مَا
تَجِدُ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَقْعُدُونَ لِقِرَاءَةِ هَذِهِ
الْأَحْزَابِ تَنْعَقِرُ أَصْوَاتُهُمْ لِشِدَّةِ انْزِعَاجِهِمْ فِي
جَهْرِهِمْ وَيَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ
وَهَذَا أَيْضًا مُشَاهَدٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ بَاشَرَهُمْ
وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدٍ
فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّهْيِ سَوَاءٌ
بِسَوَاءٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ خَرَجَ عَلَى
أَصْحَابِهِ فَوَجَدَهُمْ يَتَنَفَّلُونَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقُرْآنِ
فَقَالَ لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ وَلِأَنَّ
الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَبَعٌ
لِلصَّلَاةِ مَا لَمْ تَضُرَّ التِّلَاوَةُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ
الْمَسَاجِدُ لَهَا فَإِذَا أَضَرَّتْ بِهَا مُنِعَتْ وَقَلَّ أَنْ
يَخْلُوَ مَسْجِدٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَإِنْ خَلَتْ فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ
لِلصَّلَاةِ فَإِذَا دَخَلَ الدَّاخِلُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَحِيَّتِهِ
إنْ لَمْ يَدْخُلْ لِفَرِيضَةٍ فَإِنْ دَخَلَ لِفَرِيضَةٍ فَمِنْ بَابِ
أَوْلَى فَعَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَالدَّاخِلُ إلَى الْمَسْجِدِ
يَجِدُ التَّشْوِيشَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ
عَلَى صَلَاتِهِ فَيُمْنَعُ كُلُّ مَا يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّي .
وَقَدْ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي
بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ
النَّاسِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ يَتَشَوَّشُ
مِنْهُ فَفِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِنَصِّ الْحَدِيثِ
وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ وَعَائِلَةٌ يَشْتَغِلُ
خَاطِرُهُ بِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ فَفِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ
مَفْضُولًا لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِخَاطِرِهِ وَهَمِّهِ وَتَحْصِيلُ جَمْعِ
خَاطِرِهِ وَهَمِّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ فَضِيلَةِ التَّنَفُّلِ
فِي الْبَيْتِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِذَا جَاءَ
الْإِنْسَانُ إلَى الْمَسْجِدِ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ
لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فِي
بَيْتِهِ فَيَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ
مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مَا هُوَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا فِي بَيْتِهِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ .
وَقَدْ
وَرَدَ لَأَنْ تَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِرَابِ الْأَرْضِ
ذُنُوبًا فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ
بِتَبِعَةٍ مِنْ التَّبِعَاتِ لِأَنَّك إذَا لَقِيته بِذُنُوبٍ بَيْنَك
وَبَيْنَهُ تَلْقَاهُ غَنِيًّا كَرِيمًا مُتَفَضِّلًا مَنَّانًا لَا
تَضُرُّهُ السَّيِّئَاتُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا يُنْقِصُهُ
الْعَطَاءُ غَنِيًّا عَنْ عَذَابِك غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِحَسَنَاتِك ،
وَإِذَا لَقِيته بِشَيْءٍ مِنْ التَّبَعَاتِ فَصَاحِبُ التَّبَعَاتِ
فَقِيرٌ مُضْطَرٌّ شَحِيحٌ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فَزِعٌ مَذْعُورٌ
مُشْفِقٌ مِنْ عَدَمِ الْخَلَاصِ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ وَجَدَ حَقًّا لَهُ
عَلَى أَبَوَيْهِ أَوْ بَنِيهِ لَعَلَّهُ يَتَخَلَّصُ مِمَّا هُوَ فِيهِ
فَإِذَا كَانَ لَهُ قِبَلَ أَحَدٍ حَقٌّ قَلَّ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَوْ
كَانَ ذَرَّةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْنِي مَنْعَ
رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ
وُجُودِ مُصَلٍّ يَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ بِسَبَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ
عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَتْهُ
الرَّكْعَةُ الْأُولَى أَوْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاةِ
الْجَهْرِ أَنَّهُ إذَا قَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَإِنَّهُ يَخْفِضُ
صَوْتَهُ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِأَقَلَّ
مَرَاتِبِ الْجَهْرِ ، وَهُوَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه
خِيفَةَ أَنْ يُشَوِّشَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْبُوقِينَ ، هَذَا
وَهُوَ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ
فَمَا بَالُك بِرَفْعِ صَوْتِ مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ فَمِنْ بَابِ
أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ
الْكَلَامُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ذِكْرِ
أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ
النَّارُ الْحَطَبَ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَذِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ تَأَذَّتْ الْمَلَائِكَةُ .
قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى
مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ
إنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ جَهْرًا أَوْ جَمَاعَةً يَجُوزُ فِي
الْمَسْجِدِ لِنَصِّ الْعُلَمَاءِ وَفِعْلِهِمْ ، وَهُوَ أَخْذُ الْعِلْمِ
فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْ رَفْعِ
الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ
عِلْمٌ وَرَفْعُ صَوْتٍ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ عِلْمٌ فِيهِ
رَفْعُ صَوْتٍ ، وَقَدْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ
كَأَخِي السِّرَارِ فَإِذَا كَانَ مَجْلِسُ عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ
الِاتِّبَاعِ فَلَيْسَ فِيهِ رَفْعُ صَوْتٍ فَإِنْ وُجِدَ رَفْعُ صَوْتٍ
مُنِعَ مِنْهُ وَأُخْرِجَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مَسْجِدُنَا
هَذَا لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ .
وَهُوَ عَامٌّ وَالضَّرَرُ
وَاقِعٌ فَيُمْنَعُ ، وَإِذَا كَانَ فِي الذِّكْرِ بِالْجَهْرِ
وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ وَإِنْ سَلِمَ وَاحِدٌ أَوْ
جَمَاعَةٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا فَقَدْ لَا
يَسْلَمُ مِنْهَا الْبَاقُونَ وَالْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ
الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَإِذَا سَلِمْت أَنْتَ مِنْ هَذِهِ
الْمَفَاسِدِ لِحُسْنِ نِيَّتِك وَقَصْدِك الظَّاهِرِ فَيُحْتَاجُ أَنْ
تُرَاعِيَ حَقَّ أَخِيك الْمُؤْمِنِ وَجَلِيسِك إنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ
عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ
الْعِلْمِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ
الدَّسَائِسِ وَغَيْرِهَا فَيَقَعُ فِي الْمَحْذُورِ وَتَكُونُ أَنْتَ
بِنِيَّتِك الصَّالِحَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي أَصْلَحْته سَبَبًا
لِأَخِيك وَجَلِيسِك وَشَرِيكِك فِي ذِكْرِ رَبِّك لِعَدَمِ الْعِلْمِ
عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُ وَحَصَلَتْ لَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا
فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ نَامَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا
ذَكَرَ اللَّهَ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَقَلُّ مَا
يُمْكِنُ فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْ
هَذِهِ
الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا وَغَيْرُهُ مُعَرَّضٌ لَهَا ، وَقَدْ قِيلَ لَا
أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ
تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ جَهْرًا وَجَمَاعَةً
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ مُحْتَمِلَةٌ
لِلْوَجْهَيْنِ وَجَاءَ فِعْلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا فَلَا شَكَّ
أَنَّهُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ .
أَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُولُ
بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ
النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ .
وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ
الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا
ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ حَيْثُ
قَالَ وَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ
بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَيُخْفِيَا الذِّكْرَ إلَّا أَنْ
يَكُونَ إمَامًا يَجِبُ أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْهُ فَيَجْهَرُ حَتَّى يَرَى
أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ ثُمَّ يُسِرُّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا يَعْنِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالدُّعَاءِ لَا تَجْهَرْ تَرْفَعْ وَلَا تُخَافِتْ
حَتَّى لَا تُسْمِعَ نَفْسَك وَأَحْسَبُ مَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ
تَهْلِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَكْبِيرِهِ كَمَا رَوَيْنَاهُ إنَّمَا جَهَرَ
قَلِيلًا لِيَتَعَلَّمَ النَّاسُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ
الرِّوَايَاتِ الَّتِي كَتَبْنَاهَا مَعَ هَذَا وَغَيْرِهَا لَيْسَ
يُذْكَرُ
فِيهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ تَهْلِيلٌ وَلَا تَكْبِيرٌ ،
وَقَدْ يُذْكَرُ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِمَا وَصَفْت
وَيُذْكَرُ انْصِرَافُهُ بِلَا ذِكْرٍ ، وَقَدْ ذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُكْثَهُ وَلَمْ تَذْكُرْ جَهْرًا وَأَحْسَبُ
أَنَّهُ لَمْ يَمْكُثْ إلَّا لِيَذْكُرَ ذِكْرًا غَيْرَ جَهْرٍ فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ وَمَا مِثْلُ ذَا قُلْت مِثْلُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى
الْمِنْبَرِ يَكُونُ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ عَلَيْهِ وَيُقَهْقِرُ حَتَّى
يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ وَأَكْثَرُ عُمْرِهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ
وَلَكِنَّهُ مِمَّا رَأَى أَحَبَّ أَنْ يُعَلِّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ
يَرَاهُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ كَيْفَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ
وَالرَّفْعُ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَعَةً انْتَهَى
كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ .
فَهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ فَإِنْ حَصَلَ
التَّعْلِيمُ أَمْسَكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ مِنْ
الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَهْرًا وَجَمَاعَةً فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ
التَّعْلِيمَ بَلْ الثَّوَابَ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
شَرْحِ الْبُخَارِيّ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنْ
كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إلَى الْآنَ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ ، وَهُوَ أَنَّ
الْمُجَاهِدِينَ إذَا صَلَّوْا الْخَمْسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ
يُكَبِّرُوا جَهْرًا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ
قَالَ فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا
بِالْإِجْمَاعِ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
يَقُولُ بِهِ وَالْإِجْمَاعُ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ انْتَهَى ، وَقَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ
بِالذِّكْرِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَيُسْتَحْسَنُ لِيُرْهِبُوا
الْعَدُوَّ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ .
أَمَّا
مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد ( عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ سَمِعَ ضَجِيجَ النَّاسِ بِالْمَسْجِدِ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ
فَقَالَ طُوبَى لِهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فَهَذَا الْحَدِيثُ
ظَاهِرُهُ الْجَهْرُ لَيْسَ إلَّا وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِرَاءَةُ
جَمَاعَةً عَلَى مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَا
يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعَادَتَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ وَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ لَمْ
يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى عَادَتِهِمْ
وَعَادَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ
التَّلْقِين أَوْ الْعَرْضِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
يَتَلَقَّنُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَعْرِضُونَ أَوْ يَدْرُسُونَ كُلُّ
وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى شَيْخِهِ أَوْ عَلَى رَفِيقِهِ وَجَلِيسِهِ
فَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ضَجَّتَهُمْ فَذَكَرَ مَا ذَكَرَ فِي
حَقِّهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى فَضِيلَةِ مَجْلِسِ الْعِلْمِ
عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَجَالِسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ
وَمُدَارَسَتَهُ هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ كُلِّهَا ، وَهُوَ مَعْدِنُ
الْجَمِيعِ فَإِذَا حُفِظَ فَقَدْ حُفِظَ عَلَى النَّاسِ أَصْلُ دِينِهِمْ
الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَلِأَجْلِ
ذَلِكَ كَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ النَّاقِلُ الْمَذْكُورُ
أَوَّلًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى إبَاحَةِ الْقُرْآنِ جَمَاعَةً وَجَهْرًا
أَيْضًا بِأَنْ قَالَ وَفِي إثْبَاتِ الْجَهْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ .
أَمَّا
الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ
وَأَفْعَالِهِمْ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ
تُذْكَرَ .
فَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيِّنٌ
فِي الْجَهْرِ لَيْسَ إلَّا دُونَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَا يُعْهَدُ
الْيَوْمَ مِنْ الْجَمْعِ عَلَى ذَلِكَ ، وَذَلِكَ أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى
الْمَوَاضِعِ الَّتِي رُوِيَ عَنْهُمْ فِيهَا الْجَهْرُ فَإِنَّهُمْ لَمْ
يُرْوَ عَنْهُمْ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَانُوا
يَجْهَرُونَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَتَوَاعَدُونَ لِضَرُورَاتِهِمْ لِقِيَامِ الْقُرَّاءِ بِاللَّيْلِ
وَكَذَلِكَ
عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فَيَقْرَأُ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِكَيْ
يَسْمَعُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ
وَتَلْبِيَتِهِمْ طُولَ إحْرَامِهِمْ وَذِكْرِهِمْ بَعْدَ الْإِحْلَالِ
مِنْ إحْرَامِهِمْ بِمِنًى كَانُوا يَسْمَعُونَ تَكْبِيرَ أَهْلِ مِنًى
وَهُمْ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ اتِّصَالِ التَّكْبِيرِ وَكَثْرَةِ النَّاسِ
وَكَذَلِكَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ وَفِي تَعَلُّمِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ
وَفِي إقْرَائِهِمْ وَفِي مُذَاكَرَتِهِمْ وَبَحْثِهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدَ
إرَادَةِ الْإِمَامِ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ
الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْبِهُ
مَا ذُكِرَ مِنْ جَهْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ مَعْلُومَةٍ
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ الْجَهْرِ عَلَى
مَا وَرَدَ عَنْهُمْ ، وَعَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ عَنْهُمْ ،
وَعَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ
، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا
يُشْبِهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فَهَذَا هُوَ
الْجَوَابُ عَنْهَا إنْ رُجِعَ إلَى نَقْلِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ
يَتَأَوَّلُ الْأَحَادِيثَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَيَتْرُكُ تَأْوِيلَ
الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فَالْحَاصِلُ مِنْ
هَذَا الْبَحْثِ كُلِّهِ وَزُبْدَتِهِ وَفَائِدَتِهِ هُوَ أَنَّ مَا
وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرَاتِ فِي
مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي
جَلَسَهُ هَذَا الْعَالِمُ لِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ
الْأَذْكَارِ دَاخِلٌ مُنْطَوٍ تَحْتَ فَضِيلَةِ هَذَا الْمَجْلِسِ وَإِذْ
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَرِمَهُ وَيُعَظِّمَهُ
إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الدِّينِ وَأَزْكَاهَا وَأَرْجَحُهَا .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ، وَقَالَ تَعَالَى ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمُ
حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَمِنْ جُمْلَةِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الْإِجْلَالُ لَهَا بِالْفِعْلِ فَإِذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَيَكُونُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْ النَّدْبِ لِيَتَّصِفَ بِالْعَمَلِ كَمَا اتَّصَفَ بِالْقَوْلِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُؤَذِّنِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنَّ يُؤَذِّنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِيَكُونَ عَقِبَ أَذَانِهِ يَرْكَعُ لِأَنَّهُ مُنَادٍ إلَى الصَّلَاةِ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ لِمَا نَادَى إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِأَذَانِهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِلٍ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عَامِلٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فَيُسْتَحَبُّ لِأَجْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ حَتَّى يَنْتَفِعَ النَّاسُ بِأَمْرِهِ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَنْبَغِي
لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَ أَوْ الْمَكْرُوهَ
أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى التَّرْكِ فَيَكُونُ سَالِمًا
مِنْ ارْتِكَابِ الْمَحْذُورَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بِحَسَبِ جَهْدِهِ
وَطَاقَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَهَذَا آكَدُ مِنْ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ
وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا
أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ
وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
فَمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ فَلَا
يُقْرَبُ لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ وَالنَّهْيُ إذَا وَرَدَ يَتَنَاوَلُ
الْمُحَرَّمَ وَالْمَكْرُوهَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ
يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ هَذَا
الْعَالِمُ عَلَى التَّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَغَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فِي
ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَلْيَحْذَرْ
كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ
فَيَكُونُ مُسْتَتِرًا وَيَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ
يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَهُوَ أَقَلُّ الْمَرَاتِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ
كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَعْنِي
التَّسَتُّرَ بِالْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ بُلِيَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ
بِشَيْءٍ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا
صَفْحَةَ وَجْهِهِ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ ) أَوْ كَمَا قَالَ
وَالْحُدُودُ رَاجِعَةٌ إلَى حَالِ مَا يَقَعُ مِنْ الشَّخْصِ فَرُبَّ
فِعْلٍ حَدُّهُ الْجَلْدُ وَآخَرَ حَدُّهُ الْهِجْرَانُ وَآخَرَ حَدُّهُ
الْبُغْضُ وَآخَرَ حَدُّهُ الزَّجْرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ
نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَكِنْ
الْعَالِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ
شَرَّهُ وَمَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتَهُ وَبِدْعَتَهُ إنْ اُبْتُلِيَ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ خَيْرَهُ
كَذَلِكَ
مُتَعَدٍّ لَكِنْ التَّعَدِّي بِهَذَا الْفَنِّ أَكْثَرُ
لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّفُوسِ الِاقْتِدَاءُ فِي شَهَوَاتِهَا
وَمَلْذُوذَاتِهَا وَعَادَاتِهَا أَكْثَرُ مِمَّا تَقْتَدِي بِهِ فِي
التَّعَبُّدِ الَّذِي لَيْسَ لَهَا فِيهِ حَظٌّ فَإِذَا رَأَتْ ذَلِكَ
مِنْ عَالِمٍ وَإِنْ أَيْقَنَتْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ
بِدْعَةٌ تُعْذِرُ نَفْسَهَا فِي ارْتِكَابِهَا لِذَلِكَ إنْ سَلِمَتْ
مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ تَقُولُ لَعَلَّ عِنْدَ هَذَا الْعَالِمِ الْعِلْمَ
بِجَوَازِ ذَلِكَ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَوْ رَخَّصَ فِيهِ
الْعُلَمَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ ، وَهُوَ كَثِيرٌ
مُشَاهَدٌ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ
وَالْخَيْرِ يَرْتَكِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ
الْقُبْحِ الِاسْتِصْغَارُ وَالتَّهَاوُنُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى ،
وَهُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ .
وَقَدْ قَالُوا ارْتِكَابُ الْكَبَائِرِ
أَهْوَنُ مِنْ الِاسْتِصْغَارِ بِالصَّغَائِرِ لِأَنَّ مُرْتَكِبَ
الْكَبِيرَةِ يُرْجَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ وَيَتُوبَ وَمَنْ
تَهَاوَنَ بِالصَّغَائِرِ قَلَّ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا
عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ ، وَقَدْ قَالُوا لَا كَبِيرَةَ مَعَ
الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَهَذَا بَيِّنٌ
لِأَنَّ الصَّغَائِرَ إذَا اجْتَمَعَتْ صَارَتْ كَبَائِرَ فَيَكُونُ هَذَا
الْعَالِمُ الَّذِي يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ
الْبِدَعِ سَبَبًا لِعَطَبِ مَنْ يَرَاهُ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ
رُتْبَةً فِي الدِّينِ لِاقْتِدَائِهِ بِهِ وَاسْتِسْهَالِهِ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ سَبَكَ الْفَقِيهُ أَبُو الْمَنْصُورِ فَتْحُ
بْنُ عَلِيٍّ الدِّمْيَاطِيُّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ
فِي قَصِيدَةٍ لَهُ مِنْهَا أَيُّهَا الْعَالِمُ إيَّاكَ الزَّلَلْ
وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ فَالْخَطْبُ جَلَلْ هَفْوَةُ الْعَالِمِ
مُسْتَعْظَمَةٌ إنْ هَفَا أَصْبَحَ فِي الْخَلْقِ مَثَلْ وَعَلَى
زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ فِيهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأَ وَزَلْ لَا تَقُلْ
يُسْتَرُ عَلَى زَلَّتِي بَلْ بِهَا يَحْصُلُ فِي الْعِلْمِ الْخَلَلْ إنْ
تَكُنْ عِنْدَك مُسْتَحْقَرَةً فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ
وَالنَّاسِ جَبَلْ لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالِمُ فِي كُلِّ مَا دَقَّ مِنْ الْأَمْرِ وَجَلْ مِثْلُ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ جَهْلُهُ إنْ أَتَى فَاحِشَةً قِيلَ جَهِلْ اُنْظُرْ الْأَنْجُمَ مَهْمَا سَقَطَتْ مَنْ رَآهَا وَهْيَ تَهْوِي لَمْ يُبَلْ فَإِذَا الشَّمْسُ بَدَتْ كَاسِفَةً وَجَلَ الْخَلْقُ لَهَا كُلَّ الْوَجَلْ وَتَرَامَتْ نَحْوَهَا أَبْصَارُهُمْ فِي انْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ وَزَجَلْ وَسَرَى النَّقْصُ لَهُمْ مِنْ نَقْصِهَا فَغَدَتْ مُظْلِمَةً مِنْهَا السُّبُلْ وَكَذَا الْعَالِمُ فِي زَلَّتِهِ يَفْتِنُ الْعَالَمَ طُرًّا وَيُضِلْ يُقْتَدَى مِنْهُ بِمَا فِيهِ هَفَا لَا بِمَا اسْتَعْصَمَ فِيهِ وَاسْتَقَلْ فَهُوَ مِلْحُ الْأَرْضِ مَا يُصْلِحُهُ إنْ بَدَا فِيهِ فَسَادٌ أَوْ خَلَلْ
(
فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَحْتَرِزَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ
مِمَّنْ يُجَالِسُهُ أَوْ يُبَاشِرُهُ كَمَا يَحْتَرِزُ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ لِحَقِّ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَلِحَقِّ الصُّحْبَةِ
وَالْمُشَارَكَةِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَلِلْوَاجِبِ مِنْ
الْخَيْرِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّغْيِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ
مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِاللِّسَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ
جُلَسَائِهِ قَدْ خَالَفَ سُنَّةً أَوْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً أَوْ تَهَاوَنَ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَهَاهُ بِلُطْفٍ وَعَلَّمَهُ بِرِفْقٍ .
قَالَ
تَعَالَى فِي التَّغْيِيرِ عَلَى عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَائِهِ مُنَازِعٍ لَهُ
فِي مُلْكِهِ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا فَإِذَا كَانَ هَذَا
الْأَمْرُ فِي حَقِّ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُتَمَرِّدِ فَمَا بَالُك فِي
حَقِّ أَخٍ مُسْلِمٍ رَفِيقٍ جَلِيسٍ جَاءَ مُسْتَرْشِدًا مُتَعَلِّمًا
فَيَجِبُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِ فَيَأْخُذَ أَمْرَهُ بِاللُّطْفِ
وَالسِّيَاسَةِ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّفُوسِ
النُّفُورُ عِنْدَ زَجْرِهَا عَنْ الشَّيْءِ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ إذْ
ذَاكَ إلَى أَمْرَيْنِ ضِدَّيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا :
مُرَاعَاةُ جَانِبِ السُّنَّةِ وَالتَّغْيِيرُ وَالِانْزِعَاجُ عِنْدَ
مُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَالرِّفْقُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي حَقِّ
إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِّمُوا وَارْفُقُوا وَيَسِّرُوا
وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا أَوْ كَمَا قَالَ
فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ
فِي أَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ أَوْ جُلَسَائِهِ أَوْ الْمُسْتَرْشِدِينَ
مِنْهُ يَنْظُرُ فِيهِمْ بِمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ فَيَرْضَى
لِرِضَى الشَّرْعِ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَيُرْجَى لَهُ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِ
الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَعْنِي فِي
اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ الْوَاصِفُ
لَهُ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ حُرَمِ
اللَّهِ
يُنْتَهَكُ كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إلَيْهَا نُصْرَةً انْتَهَى .
فَإِذَا
حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَمِيَّةُ وَالنُّصْرَةُ لِلْعَالِمِ فَيَحْتَاجُ أَنْ
يَكُونَ مَعَهُمَا الرِّفْقُ فَلَا يُنَفِّرُهُمْ بَلْ يَسْتَجْلِبُهُمْ
وَيَسْرِقُ طَبَائِعَهُمْ بِالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا إلَى قَانُونَ
الِاتِّبَاعِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي
الْمَسْجِدِ وَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا تَزْرِمُوهُ وَتَرَكَهُ حَتَّى أَتَمَّ بَوْلَهُ ثُمَّ
صَبَّ عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ثُمَّ عَلَّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ وَإِلَى مَنْ يَقَعُ
لَهُ ذَلِكَ فَلْيُعَامِلْ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَمَا
يَلِيقُ بِهِ مِنْ اللُّطْفِ وَالسِّيَاسَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ
لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَسَاوَوْا فَرُبَّ شَخْصٍ لَا يَرْجِعُ إلَّا
بِاللُّطْفِ فَإِنْ أَخَذْته بِالشِّدَّةِ نَفَّرْته وَرُبَّ شَخْصٍ لَا
يَرْجِعُ إلَّا بِالْغِلْظَةِ فَإِنْ أَخَذْته بِاللُّطْفِ أَطْمَعْته
وَقَلَّ أَنْ يَنْتَهِيَ
( فَصْلٌ ) فَإِذَا شَرَعَ هَذَا
الْعَالِمُ فِي أَخْذِ الدَّرْسِ وَقَرَأَ الْقَارِئُ فَيَحْتَاجُ إذْ
ذَاكَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَيَخْشَعُ
قَلْبُهُ وَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ لِهَذَا الْمَقَامِ الَّذِي أُقِيمَ
فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَحْكَامَهُ
وَلَعَلَّ بَرَكَةَ مَا يَحْصُلُ لَهُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِعَ
بِهِ جُلَسَاؤُهُ فَيَتَأَدَّبُونَ بِأَدَبِهِ وَيَتَأَسَّوْنَ بِهِ أَلَا
تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَى مَالِكٍ فِي أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ يُرِيدُونَ سَمَاعَ الْحَدِيثِ قَالَ فَدَخَلْت فَوَجَدْت
أَصْحَابَهُ قُعُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ
الطَّيْرُ فَقُلْت سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ سَلَامًا إلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ رَدَّ السَّلَامَ فَقُلْت مَا
بَالُكُمْ أَفِي الصَّلَاةِ أَنْتُمْ فَرَمَقُونِي بِأَطْرَافِ
أَعْيُنِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي قِصَّةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا .
وَالْمَقْصُودُ
مِنْهَا أَنَّ مَالِكًا كَانَ عِنْدَهُ التَّعْظِيمُ لِلْمَقَامِ الَّذِي
أُقِيمَ فِيهِ فَسَرَى ذَلِكَ لِطَلَبَتِهِ .
وَكَذَلِكَ سُنَّةُ
اللَّهِ أَبَدًا فِي خَلْقِهِ أَيْ مَنْ قَرَأَ عَلَى شَخْصٍ لَا بُدَّ
وَأَنْ يَسْرِقَ طِبَاعَهُ وَطَرِيقَهُ وَاصْطِلَاحَهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
كُلُّهَا كَانَ بَعْضُهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي
لِلْعَالِمِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ أَوَّلًا بِالْأَدَبِ فِيمَا ذَكَرَ
فَيَجْمَعُ هِمَّتَهُ وَخَاطِرَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ فَإِذَا
فَرَغَ الْقَارِئُ اسْتَفْتَحَ هُوَ الْإِقْرَاءَ فَيَسْتَعِيذُ إذْ ذَاكَ
مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لِكَيْ يُكْفَى شَرُّهُ فِي مَجْلِسِهِ
ذَلِكَ ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى لِكَيْ يَعْتَزِلَهُ الشَّيْطَانُ
لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سُمِّيَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ابْتِدَائِهِ
عُزِلَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ حُضُورُهُ .
ثُمَّ
يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصُلَ
الْبَرَكَةُ فِي مَجْلِسِهِ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ مَعَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ ذُكِرَ
وَحَيْثُ كَانَ ثُمَّ
يَتَرَضَّى عَنْ أَصْحَابِهِ لِتَكْمُلَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةُ فِي
مَجْلِسِهِ لِأَنَّهُمْ الْأَصْلُ الَّذِينَ أَسَّسُوا مَا جَلَسَ إلَيْهِ
ثُمَّ يَجْعَلُ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَرَّى
مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَإِنْ
قَدَرَ أَنْ يَكُونَ سَبْعًا كَانَ أَحْسَنَ كَذَلِكَ كَانَ
الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ يُسْنِدُ
أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي تَسْدِيدِهِ
وَتَوْفِيقِهِ وَيَفْتَقِرُ فِي ذَلِكَ وَيَضْطَرُّ إلَيْهِ أَمَّنْ
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَتَعَرَّى إذْ ذَاكَ مِنْ فَهْمِهِ
وَذِهْنِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَبَحْثِهِ ، وَأَنَّهُ الْآنَ كَأَنْ لَا
يَعْرِفْ شَيْئًا فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إذْ ذَاكَ
كَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَتْحًا مِنْهُ وَكَرَمًا لَا لِأَجْلِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ مُحَاوَلَةِ الْمُطَالَعَةِ وَالدَّرْسِ وَالْفَهْمِ ثُمَّ
يَسْتَجِيرُ بِرَبِّهِ مِنْ عَثَرَاتِ اللِّسَانِ وَمِنْ نَزَغَاتِ
الشَّيْطَانِ وَمِنْ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِمَا قَدْ
تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي
قَرَأَ الْقَارِئُ وَيَذْكُرُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَيُوَجِّهُ
أَقْوَالَهُمْ وَيَرُدُّ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إلَى أُصُولِهِمْ الَّتِي
اسْتَخْرَجُوا الْأَحْكَامَ مِنْهَا ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَيَكُونُ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِهِ لِلْعُلَمَاءِ يَتَرَضَّى عَنْهُمْ
وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ مَنْ يَحْضُرُهُ بِقَدْرِهِمْ
وَفَضِيلَتِهِمْ وَحَقِّ سَبْقِهِمْ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ الْحِكَايَاتُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَمُجَالَسَتِهِمْ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْفِقْهِ لِأَنَّهَا آدَابُ الْقَوْمِ
وَأَخْلَاقُهُمْ انْتَهَى .
ثُمَّ يُوَجِّهُ مَذْهَبَهُ وَيَنْتَصِرُ
لَهُ ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّحَفُّظِ عَلَى مَنْصِبِ غَيْرِ إمَامِهِ
أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِ مَا يَنْسِبُ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنْ
الْغَلَطِ
وَالْوَهْمِ لِغَيْرِ إمَامِهِ فَإِنْ كُنْت عَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ مَثَلًا فَلَا يَدْخُلُك غَضَاضَةٌ لِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
لِأَنَّهُمْ الْكُلُّ جَعَلَهُمْ اللَّهُ رَحْمَةً لَك لِأَنَّهُمْ
أَطِبَّاءُ دِينِك كُلَّمَا اعْوَجَّ أَمْرٌ فِي الدِّينِ قَوَّمُوهُ
وَكُلَّمَا وَقَعَ لَك خَلَلٌ فِي دِينِك اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى
ذَهَابِهِ عَنْك وَتَلَافِي أَمْرِك وَإِصْلَاحِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي
كَيْفِيَّةِ الدَّوَاءِ لَك عَلَى مَا اقْتَضَى اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ عَلَى مُقْتَضَى الْأُصُولِ فِي تَخْلِيصِك مِنْ عِلَّتِك
وَحَمِيَّتِك وَإِعْطَاءِ الدَّوَاءِ لَك فَإِذَا رَجَعْت إلَى طَبِيبٍ
مِنْهُمْ وَسَكَنْت إلَى وَصْفِهِ وَمَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنْ
الْمَصْلَحَةِ لَك فَلَا يَكُنْ فِي قَلْبِك حَزَازَةٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ
الْبَاقِينَ الَّذِينَ قَدْ شَفَوْا مَرَضَ غَيْرِك مِنْ إخْوَانِك
الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ أَقَامَهُمْ اللَّهُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ
وَتَدْبِيرِ دِينِهِمْ فَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَجِدَ فِي قَلْبِك
حَزَازَةً لِبَعْضِهِمْ وَإِنْ قَامَ لَك الدَّلِيلُ وَوَضَحَ عَلَى
بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ مَا قَالَ مَا قَالَهُ
مَجَّانًا بَلْ مُسْتَنِدًا إلَى الْأُصُولِ وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا
يَبْحَثُ مَعَك لَرَأَيْت مَذْهَبَهُ هُوَ الصَّوَابُ لِمَا يَظْهَرُ لَك
مِنْ بَحْثِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ
رَأَيْته رَجُلًا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى هَذَا الْعَمُودِ
أَنَّهُ مِنْ ذَهَبٍ لَفَعَلَ فَيَكُونُ قَلْبُك وَاعْتِقَادُك مَعَ
لِسَانِك مُجِلًّا لَهُمْ وَمُعَظِّمًا وَمُحْتَرِمًا وَإِنْ كُنْت قَدْ
خَالَفْتَهُمْ بِالرُّجُوعِ إلَى إمَامِك فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فَإِنَّك
لَمْ تُخَالِفْهُمْ فِي أَكْثَرِ الْفُرُوعِ فَالْأُصُولُ قَدْ جَمَعَتْ
الْجَمْعَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلَى
الْأَقَالِيمِ بِكِتَابِ الْمُوَطَّأِ وَبِالْأَمْرِ أَنْ لَا يَقْرَأَ
أَحَدٌ إلَّا إيَّاهُ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ لَا تَفْعَلْ يَا
أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْأَقَالِيمِ ، وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ
عَنْهُمْ .
فَانْظُرْ إلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ
فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَرْجَحُ عَلَى
مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنَّظَرِ فَلَمْ يَطْعَنْ عَلَى مَا ذَهَبَ
إلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَعِبْهُ وَلَمْ يَقُلْ الْأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ
إلَى مَا رَأَيْته فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ يَتَأَسَّى بِهَذَا
الْإِمَامِ فِي التَّسْلِيمِ لِمَذَاهِبِ النَّاسِ فِي الْفُرُوعِ
وَالْأَحْكَامِ مَعَ اعْتِقَادِ الصَّوَابِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دُونَ
تَغْلِيطِ غَيْرِهِ أَوْ تَوْهِيمِهِ ثُمَّ يَمْشِي فِيمَا قَعَدَ إلَيْهِ
عَلَى مَا جَلَسَ إلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ التَّأَدُّبِ وَالِاحْتِرَامِ
فَيَتَكَلَّمُ بِلُطْفٍ وَرِفْقٍ وَيَحْذَرُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ
وَأَنْ يَنْزَعِجَ فَيُؤْذِيَ بَيْتَ رَبِّهِ إنْ كَانَ فِيهِ وَبِرَفْعِ
صَوْتِهِ يَخْرُجُ عَنْ أَدَبِ الْعِلْمِ وَعَنْ حَدِّ السَّمْتِ
وَالْوَقَارِ وَيُوقِعُ مَنْ جَالَسَهُ فِي ذَلِكَ لِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ
وَكَذَا أَيْضًا يُحَذِّرُ أَنْ يَرْفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ مِنْ
جُلَسَائِهِ فَإِنْ رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ نَهَاهُ بِرِفْقٍ وَأَخْبَرَهُ
بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ إذْ ذَاكَ
فِيهِ مَحْذُورَاتٌ .
مِنْهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْعِلْمِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ إنْكَارُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِذَلِكَ وَمِنْهَا رَفْعُ
الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ فِيهِ ، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ
عَنْهُ .
وَمِنْهَا قِلَّةُ الْأَدَبِ مَعَ الْعَالِمِ الَّذِي حَكَى
مَذْهَبَهُ أَوْ كَلَامَهُ إذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانُوا فِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَذَاكَرُونَهُ أَوْ
أَوْرَدُوهُ إذْ ذَاكَ شَاهِدًا لِمَسْأَلَتِهِمْ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي
النَّهْيِ وَأَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ فَيَقَعُونَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ فِي حَبْطِ
الْعَمَلِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ رَفْعِهِ عَلَى حَدِيثِهِ كَذَا قَالَ إمَامُ الْمُحَدِّثِينَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
(
فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ
فَأُورِدَتْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ وَالتَّنْظِيرَاتُ
أَنْ لَا يُجِيبَ أَحَدًا عَنْ مَسْأَلَتِهِ وَلْيَمْضِ فِيمَا هُوَ
بِسَبِيلِهِ وَيُسْكِتُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ أَوْ يَأْمُرُ
مَنْ يُسْكِتُهُ لِأَنَّ الْإِيرَادَ إذْ ذَاكَ يَخْلِطُ الْمَجْلِسَ
وَلَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ فَيُبَيِّنُ هُوَ
الْمَسْأَلَةَ لِنَفْسِهِ وَيُوَجِّهُهَا وَيَسْتَدِلُّ لَهَا وَيُورِدُ
عَلَيْهَا وَيَعْتَرِضُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
بِمَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ
يَنْظُرُهَا بِمَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَمَا يَقْرَبُ مِنْهَا
ثُمَّ يُفَرِّعُ عَلَيْهَا مَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّفْرِيعِ بَعْدَ
حَلِّهِ أَوَّلًا لِلَفْظِ الْكِتَابِ وَتَبْيِينِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ
صُورَةَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِجَمِيعِ مَنْ حَضَرَ الصَّغِيرِ
وَالْكَبِيرِ لِأَنَّ حَلَّ لَفْظِ الْكِتَابِ مَطْلُوبٌ مِنْ الْجَمِيعِ
مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْكِتَابَ وَمِمَّنْ لَا
يَحْفَظُهُ ، وَهُوَ أَقَلُّ فَائِدَةَ حُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا
يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ فَذَلِكَ الَّذِي
تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي فَهْمِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَصِّلُ
الْجَمِيعَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَصِّلُ الْبَعْضَ عَلَى قَدْرِ مَا رَزَقَ
اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَهْمِ فَيَكُونُ فِي أَوَّلِ
مَرَّةٍ يَسِيرُ سَيْرَ الضَّعِيفِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
سِيرُوا بِسَيْرِ أَضْعَفِكُمْ
فَإِذَا تَحَصَّلَ لِلضَّعِيفِ مَقْصُودُهُ ، وَهُوَ حَلُّ لَفْظِ
الْكِتَابِ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى
مِنْهُ ثُمَّ يَتَدَرَّجُ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى مَا
مَرَّ وَالتَّأَدُّبُ وَحُسْنُ السَّمْتِ وَالْوَقَارُ مُسْتَصْحَبٌ
مَعَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِذَا فَرَغَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ
فِي ذَلِكَ وَالْبَيَانِ فَلْيُعْطِ إذْ ذَاكَ سَكْتَةً وَيُعْلِمْ مَنْ
حَضَرَهُ مِمَّنْ يُرِيدُ الْكَلَامَ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ
فَلْيُورِدْهُ الْآنَ فَإِذَا كَانَ
بَقِيَ شَيْءٌ أَوْرَدُوهُ إذْ ذَاكَ فَيَتَنَبَّهُ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ وَالْغَائِبُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى إذْ ذَاكَ لِأَحَدٍ مَا يَقُولُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُرِيدُ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ إذَا سَكَتَ لِآخَرِ الْمَجْلِسِ يَجِدُ الشَّيْخَ قَدْ أَوْرَدَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ شَتَّ عَنْهُ فَيَسْتَدْرِكُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَوَابِ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ وَبَيَانِهِ فَلْيَقْرَأْ الْقَارِئُ إذْ ذَاكَ ثُمَّ يَمْشِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَبَيَّنَتْ الْمَسَائِلُ لِكُلِّ الْحَاضِرِينَ وَانْتَفَعُوا ، وَقَدْ يَقْطَعُونَ الْكِتَابَ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ بِخِلَافِ أَنْ لَوْ بَقِيَ يُجِيبُ كُلَّ مَنْ سَأَلَهُ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَاءِ إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إيرَادٌ وَسُؤَالٌ وَغَرَضٌ قَدْ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ جَوَابِ الْبَعْضِ إلَّا ، وَقَدْ طَالَ الْمَجْلِسُ وَثَقُلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَلَمْ تَحْصُلْ بَعْدُ فَائِدَةٌ فَإِذَا سَكَتُوا إلَى أَنْ يَفْرُغَ كَلَامُ الشَّيْخِ انْتَفَعَ الْجَمِيعُ وَقَلَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إشْكَالٌ أَوْ سُؤَالٌ لِأَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْمَجْلِسِ ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِوَظِيفَتِهِ فَقَدْ نَظَرَ إلَيْهِ وَحَصَّلَ مَا لَمْ يُحَصِّلْ غَيْرُهُ
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا إذَا أُورِدَتْ
عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ أَنْ لَا يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ
حَتَّى يَفْرُغَ صَاحِبُ السُّؤَالِ بِكَلَامِهِ إلَى آخِرِهِ أَوْ
الْمُعْتَرِضُ بِاعْتِرَاضِهِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا
هُوَ بِآخِرِهِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي
حَقِّ مَنْ جَالَسَهُ أَنْ لَا يُجِيبُوا عَنْ الْمَسَائِلِ حَتَّى
يَفْرُغَ مَنْ يُلْقِيهَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ .
وَكَثِيرًا مَا
يَقَعُ هَذَا الْيَوْمَ تَجِدُ أَحَدَ الطَّلَبَةِ يُرِيدُ أَنْ
يَتَكَلَّمَ عَلَى مَسْأَلَةٍ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا أَوْ
يُعَارِضَهَا أَوْ يَنْظُرَ بِهَا أَوْ يَسْتَدِلَّ لَهَا فَيُقْطَعُ
الْكَلَامُ فِي فَمِهِ ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَنْطِقْ مِنْهُ إلَّا
بِشَيْءٍ مَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَسْرِقُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ مَا
يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ فَيُقْطَعُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَيَسْتَبِدُّ
هُوَ بِالْجَوَابِ أَوْ إلْقَاءِ الْمَسْأَلَةِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا
كُلُّهُ لَا يَجُوزُ وَأَصْلُهُ الرِّيَاءُ وَالْعُجْبُ وَالْمُبَاهَاةُ
وَالْفَخْرُ وَمَحَبَّةُ النَّقْلِ عَنْهُ وَمَحَبَّةُ الظُّهُورِ عَلَى
الْأَقْرَانِ .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ السُّكُوتَ ثُمَّ هُمْ
الْيَوْمَ يَتَعَلَّمُونَ الْكَلَامَ انْتَهَى .
فَيَحْذَرُ هُوَ أَنْ
يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي
مَجْلِسِهِ فَإِنْ وَقَعَ امْتَثَلَ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّغْيِيرِ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَأْتُونَ
بِالْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ وَلَا
يُرِيدُونَ أَنْ تُنْسَبَ إلَيْهِمْ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ
الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَكَانُوا مِنْ ذَلِكَ بُرَآءَ لِشِدَّةِ
إخْلَاصِهِمْ وَمُرَاقَبَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ .
،
وَقَدْ قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَدِدْت أَنَّ النَّاسَ انْتَفَعُوا
بِهَذَا الْعِلْمِ وَلَا يُنْسَبُ إلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَقَالَ أَيْضًا
رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مَا نَاظَرْت أَحَدًا قَطُّ فَأَحْبَبْت أَنْ
يُخْطِئَ ، وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَلَّمْت أَحَدًا قَطُّ
إلَّا أَحْبَبْت أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ وَتَكُونَ عَلَيْهِ
رِعَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى .
وَنَحْنُ الْيَوْمَ مَعَ
قِلَّةِ الْإِخْلَاصِ وَقِلَّةِ الْيَقِينِ وَالْجَزَعِ مِنْ الْخَلْقِ
وَالطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ نُحِبُّ
أَنْ يُسْمَعَ مَا نُلْقِيهِ وَيُخْبَرُ عَنَّا بِهِ وَيُشَاعُ وَيُذَاعُ
كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ الْمُوَاطَأَةُ لِبَعْضِنَا بَعْضًا فَإِذَا كَانَ
الْعَالِمُ حِينَ جُلُوسِهِ يَعْمَلُ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنْ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ وَيَتَنَبَّهُ فِي نَفْسِهِ لَهَا وَيُنَبِّهُ أَصْحَابَهُ
عَلَيْهَا انْحَسَمَتْ وَقَلَّ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهِ خَلَلٌ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَجْحَدَ ضَرُورَةً وَأَنْ لَا يَنْزَعِجَ عِنْدَ إيرَادِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ بِهَا لِأَنَّ الِانْزِعَاجَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْحَقِّ لَيْسَ مِنْ شِيَمِهِمْ بَلْ مِنْ شِيَمِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا أَيْضًا فِي نَفْسِهِ وَفِي مَجْلِسِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ حِينَ جُلُوسِهِ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ عَلَى لِسَانِ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَيَسَّرَ بِهِ وَلَا يَخْتَارُ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالصَّوَابِ فِي كُلِّ دَرْسِهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ يَخْتَارُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ وَلَا يُعَيِّنُ جِهَةً لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ انْتَهَى وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَأْخُذُ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَنْ يَعْرِفُهُ فَكَيْفَ يَأْخُذُ بِهِ مَنْ يَجْهَلُهُ بَلْ النَّاسُ مُطَالَبُونَ بِتَصَرُّفِ هَذَا الْعَالِمِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَكَمَا لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُحِبُّ لَهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ إلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَيَمْتَثِلُ هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيُرْشِدُ غَيْرَهُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنَّ يَتَفَقَّدَ إخْوَانَهُ وَجُلَسَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ وَالْفُرُوعِ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَمَعْرِفَةِ فَضْلِهَا وَعُلُوِّ قَدْرِهَا ، وَقَدْرِ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا وَالتَّجَنُّبِ عَنْ الْبِدْعَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا وَمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْمَقْتِ لِفَاعِلِهَا فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْيَوْمَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ لِأَنَّا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ طَلَبَةِ هَذَا الزَّمَانِ يَقْعُدُونَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ صِغَارٌ مِمَّ يَشِيبُونَ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ حُضُورِ الْمَجَالِسِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا ذَكَرْت لَهُ سُنَّةً أَوْ بِدْعَةً يَعْرِفُهَا أَوْ يَتَنَبَّهُ لَهَا لِمَا قَدْ تَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ هَذَا الْفَنِّ إلَّا قَوْلَهُ إنْ كَانَ حَاذِقًا نَبِيهًا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى كَذَا وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى كَذَا ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ كَذَا ، وَقَالَ الرَّبِيعُ كَذَا فَيَبْحَثُ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَلَا يَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ وَهَذَا قُبْحٌ عَظِيمٌ شَنِيعٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَنْسُوبَةُ لِلْعُلَمَاءِ تَسْأَلُ أَحَدَهُمْ عَنْ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ تَصَرُّفِهِ لَا يَعْرِفُهَا أَوْ بِدْعَةٍ فِي زَمَانِهِ لَا يَعْلَمُهَا بَلْ يَحْتَاجُ عَلَى جَوَازِهَا لِأَجْلِ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ تَيْقَظُوا لِلسُّنَّةِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فَأَحَبُّوهَا وَتَنَبَّهُوا لِلْبِدْعَةِ فَأَبْغَضُوهَا وَهَذَا الْيَوْمَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ فَكَيْفَ بِهَذَا الْعَالِمِ الَّذِي قَعَدَ يُعَلِّمُ الْأَحْكَامَ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عُرِفَتْ السُّنَّةُ إذْ ذَاكَ مِنْهُ وَعُرِفَتْ الْبِدْعَةُ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ أَنْ يَبْقَى كُلُّ مَنْ حَضَرَ يَعْلَمُ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ وَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ وَهَلْ هُوَ فِي سُنَّةٍ أَوْ فِي بِدْعَةٍ وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ
لِبَقَاءِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ نَظِيفًا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ غَيْرُ مَا هُوَ فِيهِ فَتَزُولُ بِسَبَبِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا فِي زَمَانِنَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى أَنَّهَا مِنْ السُّنَّةِ فَإِذَا نَبَّهَ عَلَيْهَا هَذَا الْعَالِمُ عُرِفَتْ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ يَتْبَعُ وَيَمْتَثِلُ لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ النَّاسِ وَإِنْ عُدِمَ فِي بَعْضِهِمْ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي آخَرِينَ
(
فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا إذَا قَعَدَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ
أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ رَبِّهِ
وَتَعْلِيمِهَا لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ ثُمَّ قَعَدَ
يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ نُودِيَ فِي السَّمَوَاتِ عَظِيمًا أَوْ
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَيَنْفِي عَنْهُ الشَّوَائِبَ مَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ وَهَذَا الَّذِي يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
أَمَّا
مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَلَيْسَ هُوَ مُكَلَّفًا بِأَنْ لَا يَقَعَ
إنَّمَا عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَيُبْغِضُهُ
لِأَنَّ تَكْلِيفَ أَنْ لَا يَقَعَ مِمَّا لَا يُطَاقُ ، وَقَدْ رَفَعَهُ
اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا يَقْعُدُ
لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يُقَالَ فُلَانٌ مُدَرِّسٌ أَوْ
مُفِيدٌ أَوْ يَبْحَثُ أَوْ نَبِيهٌ أَوْ حَاذِقٌ أَوْ صَاحِبُ فَهْمٍ
مَعَ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ هَذَا الْيَوْمَ لِكَثْرَةِ تَغَالِيهِمْ
فِي الشَّخْصِ فَإِذَا رَأَوْا أَحَدًا يَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى
مَا يَنْبَغِي قَالُوا عَنْهُ مُجْتَهِدٌ هَذَا الشَّافِعِيُّ الصَّغِيرُ
هَذَا مَالِكٌ الصَّغِيرُ وَانْسَاغَ لَهُ ذَلِكَ وَمَوَّهَتْ عَلَيْهِ
نَفْسُهُ وَحَسِبَ أَنَّهُ كَمَا قَالُوا فَيَكُونُ مِثْلُهُ إذْ ذَاكَ
كَمَا قَالُوا مِثْلَ نَائِمٍ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَا يَسُرُّهُ
وَيُعْجِبُهُ فَيَفْرَحُ بِهِ وَيُخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ ثُمَّ
يَنْتَبِهُ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ حَالُ هَذَا
سَوَاءٌ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ النَّاسُ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ حَسِبَ
نَفْسَهُ إذْ ذَاكَ كَمَا قَالُوا هَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْحِلْمِ فَلَوْ
تَيَقَّظَ مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَالْغَفْلَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا
أَوْ نَظَرَ إلَى مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ مَالِكًا وَالشَّافِعِيِّ
وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْفَهْمِ
الْعَظِيمِ وَالتَّقْوَى الْمَتِينَةِ لَتَلَاشَى عِلْمُهُ إذْ ذَاكَ
وَفَهْمُهُ وَتَقْوَاهُ وَيَجِدُ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ أَسَدُ بْنُ
الْفُرَاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ رَأَى بَعْضَ
الْعُلَمَاءِ بِجَامِعِ مِصْرَ ، وَهُوَ يَقُولُ قَالَ مَالِكٌ كَذَا ، وَهُوَ خَطَأٌ وَذَهَبَ مَالِكٌ لِكَذَا ، وَهُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ كَذَا فَقَالَ مَا أَرَى هَذَا إلَّا مِثْلَ رَجُلٍ جَاءَ إلَى الْبَحْرِ فَرَأَى أَمْوَاجَهُ وَعَجِيجَهُ فَجَاءَ إلَى جَانِبِهِ فَبَالَ بَوْلَةً ، وَقَالَ هَذَا بَحْرٌ آخَرَ انْتَهَى فَكَذَلِكَ هَذَا يَجِدُ نَفْسَهُ سَوَاءً أَوْ أَعْظَمَ فَإِذَا تَيَقَّظَ مِنْ سِنَةِ غَفْلَتِهِ لِكَثْرَةِ مَا يَجِدُ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ تَلَاشَى مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ وَرَأَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ التَّقْصِيرِ وَالْجُمُودِ وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي فِي عِلْمِهِ وَتَصَرُّفِهِ
( فَصْلٌ ) فِي ذِكْرِ النُّعُوتِ وَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا
الْبَلْوَى وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهَا كَبِيرٌ أَوْ صَغِيرٌ وَهِيَ
مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ
الْقَرِيبَةِ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ
مِمَّنْ مَضَى ، بَلْ هِيَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَهِيَ
فُلَانُ الدِّينِ وَفُلَانُ الدِّينِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ
يَتَحَفَّظُ نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيَذُبُّ عَنْ السُّنَّةِ
فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْآنَ رَاعٍ عَلَى
كُلِّ مَنْ حَضَرَهُ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ فَإِذَا نَطَقَ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ نَهَاهُ
بِرِفْقٍ وَتَلَطَّفَ بِهِ فِي التَّعْلِيمِ ، وَنَبَّهَهُ بِمَا وَرَدَ
فِي التَّزْكِيَةِ مِنْ النَّهْيِ .
وَكَذَلِكَ إذَا نَادَاهُ أَحَدٌ
بِهَذَا الِاسْمِ فَيُعَلِّمُهُ كَمَا ذُكِرَ ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ
فِي حَقِّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ أَنْ لَا يَسْتَجِيبَ لِمَنْ
نَادَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ حَتَّى يُنَادِيَهُ بِالِاسْمِ الْمَشْرُوعِ ؛
لِأَنَّ هَذَا الْمَجْلِسَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ خُصُوصًا التَّغْيِيرُ
بِاللِّسَانِ وَالتَّعْلِيمُ بِالرِّفْقِ ؛ لِأَنَّهُ لِذَلِكَ قَعَدَ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِيهَا مِنْ التَّزْكِيَةِ مَا فِيهَا
فَيَقَعُ بِسَبَبِهَا فِي الْمُخَالَفَةِ بِدَلِيلِ كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِ
الْعُلَمَاءِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ وقَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ
فَتِيلًا اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى
بِهِ إثْمًا مُبِينًا وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُزَكُّوا عَلَى اللَّهِ أَحَدًا
وَلَكِنْ قُولُوا إخَالُهُ كَذَا وَأَظُنُّهُ كَذَا .
وَأَمَّا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ أَسْمَاءِ
اللَّهِ
الْحُسْنَى ، فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ
تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ثُمَّ قَالَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا
وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا قَدْ كَثُرَ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَالْعَجَمِ مِنْ
نَعَتْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَةَ
وَالثَّنَاءَ كَزَكِيِّ الدِّينِ وَمُحْيِي الدِّينِ وَعَلَمِ الدِّينِ
وَشَبَهِ ذَلِكَ انْتَهَى .
فَإِذَا نَادَاكَ مُنَادٍ بِهَذَا الِاسْمِ
فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَنْبَغِي لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّى الْغَيْرَ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ وَأَنْتَ إذَا
اسْتَحْبَبْتَ لَهُ صِرْت مِثْلَهُ لِمَا تَقَدَّمَ .
أَلَا تَرَى إلَى
مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي
إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ
الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ
اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي
إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ ، وَمَا
يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ
عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَمِنْهُ أَيْضًا
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ
تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ .
وَقَدْ
وَرَدَ أَيْضًا لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى
يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صَادِقًا وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَحَرَّى
الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَاذِبًا .
وَقَدْ سُئِلَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ ؟ قَالَ : قَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ ، قِيلَ : أَيَزْنِي الْمُؤْمِنُ ؟ قَالَ : قَدْ يَكُونُ
ذَلِكَ ، قِيلَ : أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ قَالَ : إنَّمَا يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ
قَالَ لَا انْتَهَى .
وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى مَا يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَقَدْ وَرَدَ فِيمَنْ انْفَلَتَتْ
دَابَّتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إمْسَاكِهَا فَأَرَاهَا الْمِخْلَاةَ
فَتَأْتِي عَلَى أَنَّ الْعَلَفَ فِيهَا فَيُمْسِكُهَا أَنَّهَا تُكْتَبُ
عَلَيْهِ كَذْبَةٌ يُحَاسَبُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُ
مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَفِعْلُهُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ
صِيَانَتِهِ .
أَلَا تَرَى إلَى الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا
أَنْ رَحَلَ مِنْ بِلَادِهِ إلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ لِيَسْمَعَ عَلَيْهِ
الْحَدِيثَ فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ عِنْدَهُ جَاءَ صَغِيرٌ لِيَقَعَ مِنْ
مَوْضِعٍ فَقَبَضَ الشَّيْخُ يَدَهُ لِكَيْ يَظُنَّ الصَّبِيُّ أَنْ فِي
يَدِهِ شَيْئًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ لِيَأْتِيَ فَيَأْخُذُ مَا فِيهَا ،
فَقَامَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَرَكَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ
عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبًا وَقَدْحًا فِي
الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، فَإِذَا قَالَ مَثَلًا مُحْيِي الدِّينِ أَوْ
زَكِيُّ الدِّينِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَيُقَالُ لَهُ هَذَا هُوَ الَّذِي أَحْيَا الدِّينَ
وَهَذَا هُوَ الَّذِي زَكَّى الدِّينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكَيْفَ
يَكُونُ حَالُهُ إذْ ذَاكَ حِينَ السُّؤَالِ بَلْ حِينَ أَخْذِهِ
صَحِيفَتَهُ فَيَجِدُهَا مَشْحُونَةً بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
التَّزْكِيَةِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى
: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ هَلْ
الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ يَكْتُبُونَ كُلَّ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ
الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ كَانَ مَا كَانَ أَوْ لَا يَكْتُبُونَ إلَّا مَا
تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ
الثَّانِي هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ بِسَبِيلِهَا إذْ أَنَّهَا
احْتَوَتْ عَلَى أَشْيَاءَ مَذْمُومَةٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَهِيَ
تَزْكِيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَتَزْكِيَتُهُ لِغَيْرِهِ وَالْكَذِبُ
وَمُخَالَفَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّا
لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَلَوْ وَقَفَ أَمْرُنَا عَلَى هَذَا
لَكَانَ قَرِيبًا أَنْ لَوْ كَانَ سَائِغًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَرَّرَ
عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا كَذِبًا وَتَزْكِيَةً يُرْجَى لِأَحَدِنَا
التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَلَكِنْ زِدْنَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرَ
الْمَخُوفَ وَهُوَ أَنَّا نَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَوْ مَنْدُوبٌ
إلَيْهِ بِحَسَبِ مَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا مِنْ أَنَّ النَّاسَ
إذَا خُوطِبُوا بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَشَوَّشُوا مِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ وَتَوَلَّدَتْ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ فَوَضَعْنَا لَهُمْ
التَّزْكِيَةَ الْخَالِصَةَ حَتَّى لَا يَتَشَوَّشُوا وَلَا تَتَوَلَّدُ
الْبَغْضَاءُ وَلَا الْعَدَاوَةُ ، لَا جَرَمَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ وَالشَّحْنَاءَ قَدْ كَمَنَتْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَحَصَلَ
مِنْهَا أَوْفَرُ نَصِيبٍ ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ
فَبَقِيَتْ الْبَوَاطِنُ مُتَنَافِرَةً مَعَ الْأَذْهَانِ فِي الظَّاهِرِ
، فَأَدَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ إلَى الْأَمْرِ الْمَخُوفِ ؛ لِأَنَّ
صِفَةَ الْمُنَافِقِ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ وَمُعْتَقَدُهُ خِلَافَ
ظَاهِرِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ
الْأَسْمَاءُ تَجُوزُ لَمَا كَانَ أَحَدٌ أَوْلَى بِهَا مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَنَّهُمْ شُمُوسُ
الْهُدَى وَأَنْوَارُ الظُّلَمِ وَهُمْ أَنْصَارُ الدِّينِ حَقًّا كَمَا
نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي
الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ .
أَلَا تَرَى إلَى أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي اخْتَارَهُنَّ
اللَّهُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاصْطَفَاهُنَّ لِمَا
عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا فِيهِنَّ مِنْ الشِّيَمِ
الْكَرِيمَةِ وَالْأَحْوَالِ الْعَالِيَةِ الْمُرْضِيَةِ لَمَّا أَنْ
دَخَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِزَيْنَبِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ لَهَا : مَا اسْمُكِ فَقَالَتْ : بَرَّةُ
فَكَرِهَ ذَلِكَ الِاسْمَ وَقَالَ لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ .
لِمَا فِيهِ مِنْ اشْتِقَاقِ اسْمِ الْبِرِّ ، وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا مَا
اُخْتِيرَتْ
لِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ إلَّا وَفِيهَا مِنْ الْبِرِّ
بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَرِهَ ذَلِكَ الِاسْمَ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ
التَّزْكِيَةِ فَجَدَّدَ اسْمَهَا زَيْنَبَ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
وَجَدَّدَ اسْمَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ ، فَإِذَا
كَرِهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ فِيهِ
ذَلِكَ حَقِيقَةً وَنَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
فَمَا بَالُك بِأَحْوَالِنَا الْيَوْمَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ
أَيْضًا مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَيْحٍ عَنْ
أَبِيهِ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ
سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ
وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ، فَقَالَ : إنَّ
قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ
فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنْ
الْوَلَدِ ، فَقَالَ : لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ
: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ، قَالَ : شُرَيْحٌ ، قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو
شُرَيْحٍ .
، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ
مَجَازٌ لَا عِبْرَةَ بِهَا ، وَقَدْ صَارَتْ أَيْضًا كَأَسْمَاءِ
الْأَعْلَامِ حَتَّى لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ إلَّا بِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ
عَنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ إلَى بَابِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ
كَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ مَا
نُشَاهِدُهُ فِي الْوُجُودِ مُبَاشَرَةً ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا
إذَا قِيلَ لَهُ اسْمُهُ الْعَلَمُ الشَّرْعِيُّ كَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ
تَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَادَاهُ بِذَلِكَ وَوَجَدَ عَلَيْهِ
الْحَنَقَ لِكَوْنِهِ تَرَكَ ذَلِكَ الِاسْمَ وَعَدَلَ عَنْهُ إلَى
غَيْرِهِ فَهَذَا يُوَضِّحُ وَيُبَيِّنُ
أَنَّ التَّزْكِيَةَ
بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَأَنَّهَا لَمْ تَبْرَحْ
وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ مَعَ أَنَّهُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا الْكَذِبُ وَالتَّزْكِيَةُ لَكَانَ
مَنْهِيًّا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَهَذِهِ
الْأَسْمَاءُ مَا ظَهَرَتْ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ ، وَقَدْ رَأَيْتُ
لِبَعْضِ الشُّيُوخِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى
وَالدِّينِ يَقُولُ : إنَّهُ أَدْرَكَ أَبَاهُ وَمَنْ كَانَ فِي سِنِّهِ
لَا يَتَسَمَّوْنَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يَعْرِفُونَهَا .
وَكَانَ
سَبَبُهَا أَنَّ التُّرْكَ لَمَّا تَغَلَّبُوا عَلَى الْخِلَافَةِ
تَسَمَّوْا إذْ ذَاكَ هَذَا شَمْسُ الدَّوْلَةِ ، وَهَذَا نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ ، وَهَذَا نَجْمُ الدَّوْلَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
فَتَشَوَّفَتْ نُفُوسُ بَعْضِ الْعَوَامّ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ إلَى
تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْفَخْرِ ، فَلَمْ
يَجِدُوا سَبِيلًا إلَيْهَا لِأَجْلِ عَدَمِ دُخُولِهِمْ فِي الدَّوْلَةِ
فَرَجَعُوا إلَى أَمْرِ الدَّيْنِ ، فَكَانُوا فِي أَوَّلِ مَا حَدَثَتْ
عِنْدَهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ إذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ مَوْلُودٌ لَا
يَقْدِرُ أَنْ يُكَنِّيَهُ لِفُلَانِ الدِّينِ إلَّا بِأَمْرٍ يَخْرُجُ
مِنْ جِهَةِ السَّلْطَنَةِ فَكَانُوا يُعْطُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْوَالَ
حَتَّى يُسَمَّى وَلَدُ أَحَدِهِمْ بِفُلَانِ الدِّينِ ، فَلَمَّا أَنْ
طَالَ الْمَدَى وَصَارَ الْأَمْرُ إلَى التُّرْكِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ
بِالتَّسْمِيَةِ بِالدَّوْلَةِ مَعْنًى إذْ أَنَّهَا قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ
فَانْتَقَلُوا إلَى الدَّيْنِ ، ثُمَّ فَشَا الْأَمْرُ وَزَادَ حَتَّى
رَجَعُوا يُسَمُّونَ أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ مَالٍ يُعْطُونَهُ عَلَى
ذَلِكَ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَيْهِ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا
عَمَلَ ، ثُمَّ صَارَ الْأَمْرُ مُتَعَارَفًا مُتَعَاهَدًا حَتَّى أَنِسَ
بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
كَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعَالِمِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ فَصَارَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُحْدِثَ
الْأَعَاجِمُ
، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ شَيْئًا فَيُقْتَدَى بِالْعَالِمِ وَبِهِمْ
، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْأُمُورِ
وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ .
أَلَا تَرَى إلَى الْإِمَامِ الْحَافِظِ
النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَرْضَ قَطُّ
بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً عَلَى مَا
نُقِلَ عَنْهُ وَصَحَّ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ
الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَا
أَجْعَلُ أَحَدًا فِي حِلٍّ مِمَّنْ يُسَمِّينِي بِمُحْيِي الدَّيْنِ
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ ،
وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَهْلِ
الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ إذَا حَكَى شَيْئًا عَنْ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ قَالَ يَحْيَى النَّوَوِيُّ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ
فَقَالَ : إنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُسَمِّيَهُ بِاسْمٍ كَانَ يَكْرَهُهُ فِي
حَيَاتِهِ .
فَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ إنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ تَفَعُّلًا وَهُمْ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَمَّى الرَّجُلُ بِيَاسِينَ وَلَا بِجِبْرِيلَ وَلَا بِمُهْدٍ .
قِيلَ
فَالْهَادِي قَالَ هَذَا أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ الْهَادِيَ هَادِي الطَّرِيقِ
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ سَيِّئَ
الْأَسْمَاءِ مِثْلَ حَرْبٍ وَمُرَّةٍ وَجَمْرَةٍ وَحَنْظَلَةٍ انْتَهَى .
ثُمَّ
الْعَجَبُ مِمَّنْ يَتَسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي كَوْنِهِمْ
أَكْثَرُوا النَّكِيرَ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِهِ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي ، ثُمَّ
إنَّهُمْ اقْتَدُوا فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْ أَحْدَثَهَا فِي
الْقَرْنِ السَّابِعِ وَلَيْسُوا بِالْمَدِينَةِ بَلْ بِالْعِرَاقِ
وَغَيْرِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَمَلُ
أَثْبُتُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَالَ : مَنْ اقْتَدَى بِهِ وَإِنَّهُ
لَضَعِيفٌ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ
فُلَانٍ .
وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ التَّابِعِينَ تَبْلُغُهُمْ عَنْ
غَيْرِهِمْ الْأَحَادِيثُ فَيَقُولُونَ مَا نَجْهَلُ هَذَا وَلَكِنْ مَضَى
الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
جَرِيرٍ رُبَّمَا قَالَ لَهُ أَخُوهُ لِمَ لَمْ تَقْضِ بِحَدِيثِ كَذَا
فَيَقُولُ : لَمْ أَجِدْ النَّاسَ عَلَيْهِ قَالَ النَّخَعِيُّ لَوْ
رَأَيْت الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَوَضَّئُونَ إلَى
الْكُوعَيْنِ مَا تَوَضَّأْتُ كَذَلِكَ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا إلَى
الْمَرَافِقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ السُّنَنِ
وَهُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَهُمْ أَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى
اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ .
قَالَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ السُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ
سُنَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَيْرٌ مِنْ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ الْحَدِيثُ مَضَلَّةٌ إلَّا لِلْفُقَهَاءِ يُرِيدُ أَنَّ
غَيْرَهُمْ قَدْ يَحْمِلُ الشَّيْءَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَهُ تَأْوِيلٌ
مِنْ حَدِيثٍ غَيْرِهِ أَوْ دَلِيلٌ يَخْفَى عَلَيْهِ أَوْ مَتْرُوكٌ
أَوْجَبَ تَرْكَهُ غَيْرُ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهِ
إلَّا مَنْ اسْتَبْحَرَ وَتَفَقَّهَ .
قَالَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا فَسَدَتْ الْأَشْيَاءُ حِينَ
تَعَدَّى بِهَا مَنَازِلُهَا وَلَيْسَ هَذَا الْجَدَلُ مِنْ الدَّيْنِ
بِشَيْءٍ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ ، وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ
مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْأَمْرِ الْمَاضِي الْمَعْرُوفِ الْمَعْمُولِ
بِهِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى مَكِيدَةِ الشَّيْطَانِ
فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمَا أَوْقَعَ فِيهَا مِنْ سُمِّهِ السَّمُومِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ
فِيهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ نَبِيٍّ
إلَّا بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَيْهِمْ مَلَكَا
يُقَدِّسُهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ
عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَيُوقِفُ
الْعَبْدَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ
مُحَمَّدٌ قَالَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : عَبْدِي أَمَا
اسْتَحَيْتَ مِنِّي وَأَنْتَ تَعْصِينِي وَاسْمُك اسْمُ حَبِيبِي
مُحَمَّدٍ فَيُنَكِّسُ الْعَبْدُ رَأْسَهُ حَيَاءً وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ
إنِّي قَدْ فَعَلْت فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ خُذْ
بِيَدِ عَبْدِي وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، فَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ
أُعَذِّبَ بِالنَّارِ مَنْ اسْمُهُ اسْمُ حَبِيبِي .
فَإِذَا كَانَتْ
هَذِهِ الْعِنَايَةُ الْعُظْمَى فِي اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ
فَكَيْفَ بِهَا فِي اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَفَى بِهَا
بَرَكَةً أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَوْ
اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَعُودُ
عَلَيْهِمْ بَرَكَتُهُ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ هَذِهِ
الْبَرَكَةَ
وَعُمُومَهَا أَرَادَ أَنْ يُزِيلَهَا عَنْهُمْ بِعَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ
وَشَيْطَنَتِهِ الْكَمِينَةِ فَلَمْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَهَا إلَّا
بِضِدِّهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالضِّدِّ
، ثُمَّ إنَّهُ لَا يَأْتِي لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي
يَعْرِفُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ
الْغَالِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَالرِّيَاسَةِ أَبْدَلَ
لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمُبَارَكَةَ بِمَا فِيهِ ذَلِكَ نَحْوَ
عِزِّ الدَّيْنِ وَشَمْسِ الدَّيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ
عُلِمَ ، فَنَزَّلَ التَّزْكِيَةَ مَوْضِعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ
الْمُبَارَكَةِ ، وَلَمَّا أَنْ كَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ الْغَالِبُ
عَلَيْهِمْ التَّوَاضُعُ وَتَرْكُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ أَتَى
لِبَعْضِهِمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَهُ
مِنْهُ فَأَوْقَعَهُمْ فِي الْأَلْقَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِنَصِّ
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا لِمُحَمَّدٍ حَمُّو ، وَلِأَحْمَدَ
حَمْدُوسٌ ، وَلِيُوسُفَ يَسْوَ وَلِعَبْدِ الرَّحْمَن رَحْمُو إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَعَارَفٌ
بَيْنَهُمْ ، فَأَعْطَى لِكُلِّ إقْلِيمٍ الشَّيْءَ الَّذِي يَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا
كَانَ الْأَصْلُ هَذَا فَكَيْفَ يُتَّبَعُ أَوْ كَيْفَ يُرْجَعُ إلَيْهِ
هَذَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ فَكَيْفَ مَعَ
وُجُودِهِمَا وَالْعَالِمُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يَنْصَحَ نَفْسَهُ
وَيَنْصَحَ جُلَسَاءَهُ وَإِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ سُنَّةٍ
وَالْإِرْشَادِ إلَيْهَا وَإِخْمَادِ بِدْعَةٍ وَالنَّهْيِ عَنْهَا
وَالتَّهَاوُنِ بِهَا .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِنْ
الْفَائِدَةِ إلَّا مَعْرِفَةُ الذُّنُوبِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ إلَيْهِ
مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الشَّامِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ هَذَا أَوْ
نَحْوَهُ حَصَلَ لَهُ إذْ ذَلِكَ وَصَارَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُمْ
بِالْجَنَّةِ وَمَنْ لَهُ بِهَذَا وَالْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ
الْعَشَرَةُ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ
الرُّضْوَانِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ مَا جَاءَ مِنْ الْأَفْرَادِ
الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ، ثُمَّ هَذَا الْعَالِمُ الْمَذْكُورُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ
سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ
مَعِي فِي الْجَنَّةِ وَأَيُّ غَنِيمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ أَنْ
يَكُونَ مَشْهُودًا لَهُ بِالْجَنَّةِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الزَّمَنِ
الْعَجِيبِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِينَنَا عَلَى مَا يَقْرَبُنَا إلَيْهِ بِمَنِّهِ .
وَسَيَأْتِي
بَاقِي الْكَلَامِ عَلَى كُنَى الرِّجَالِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ الْكَلَامِ
فِي نُعُوتِ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ،
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلَّمَ .
( فَصْلٌ ) فِي اللِّبَاسِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا
أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِيمَنْ يُجَالِسُهُ
بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فِي تَفْصِيلِ ثِيَابِهِ مِنْ طُولِ هَذَا
الْكُمِّ وَالِاتِّسَاعِ وَالْكِبَرِ الْخَارِقِ الْخَارِجِ عَنْ عَادَةِ
النَّاسِ ، فَيَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ
وَيَقَعُونَ بِسَبَبِهِ فِي الْمَحْذُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ
الْمَالِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ كُمَّ بَعْضِ مَنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ الْيَوْمَ فِيهِ إضَاعَةُ مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
يُفَصِّلُ مِنْ ذَلِكَ الْكُمِّ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ رَوَى
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إزْرَةُ الْمُسْلِمِ إلَى أَنْصَافِ
سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ
مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي
النَّارِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ
إزَارَهُ بَطَرًا فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَزِيدُ فِي
ثَوْبِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ إذْ أَنَّ مَا تَحْتَ
الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ حَاجَةٌ فَمَنَعَهُ مِنْهُ
وَأَبَاحَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ ، فَلَهَا أَنْ تَجُرَّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا
شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَهِيَ
التَّسَتُّرُ وَالْإِبْلَاغُ فِيهِ إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا
عَوْرَةٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلرَّجُلِ سِعَةَ الثَّوْبِ وَطُولَهُ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ .
وَقَدْ
حَكَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيُّ
الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلْكِ
وَالْخُلَفَاءِ لَهُ قَالَ : وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ
سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى بِلَالِ بْنِ
أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ
وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ
سَاقَيْهِ قَالَ لَهُ بِلَالٌ مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ
فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَاسِعٍ أَنْتُمْ شَهَرْتُمُونَا هَكَذَا كَانَ
لِبَاسُ مَنْ مَضَى وَإِنَّمَا أَنْتُمْ طَوَّلْتُمْ ذُيُولَكُمْ
فَصَارَتْ السُّنَّةُ بَيْنَكُمْ بِدْعَةً وَشُهْرَةً انْتَهَى .
فَتَوْسِيعُ
الثَّوْبِ وَكِبَرُهُ وَتَوْسِيعُ الْكُمِّ وَكِبَرُهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ
بِهِ حَاجَةٌ فَيُمْنَعُ مِثْلُ مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ سَوَاءٌ
بِسَوَاءٍ ، وَإِنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ
لَكِنْ تَصَرُّفًا غَيْرَ تَامٍّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ
لَا يَمْلِكُ الْمِلْكَ التَّامَّ ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ أَنْ
يَصْرِفَهُ فِي مَوَاضِعَ وَمَنَعَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَوَاضِعَ ،
فَالْمَالُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ هُوَ مَالُهُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي
يَدِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ عَلَى أَنْ يَصْرِفَهُ فِي كَذَا
وَلَا يَصْرِفُهُ فِي كَذَا ، وَهَذَا بَيِّنٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي
الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
يَقُولُ أَحَدُهُمْ مَالِي مَالِي وَلَيْسَ لَك مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا
أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ وَمَا لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ وَمَا تَصَدَّقْتَ
فَأَبْقَيْتَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ
وَاحِدٌ يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى مَعَهُ عَمَلُهُ أَوْ
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ
عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَصَرُّفِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَضَعَ الْمَالَ إلَّا حَيْثُ أُجِيزَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ إذْ أَنَّهُ
مُتَصَرِّفٌ فِيمَا لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ
صِفَةِ الِاتِّسَاعِ وَالْكِبَرِ فِي الثِّيَابِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إذْ
أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ فَيُمْنَعُ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا
وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ لَبِسَ
ثَوْبًا فَوَجَدَ كُمَّهُ يَزِيدُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ
فَطَلَبَ
شَيْئًا يَقْطَعُهُ بِهِ فَلَمْ يَجِدْ فَأَخَذَ حَجَرًا وَأَلْقَى
كُمَّهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا آخَرَ فَجَعَلَ يَرُضُّهُ بِهِ
حَتَّى قَطَعَ مَا فَضَلَ عَنْ أَصَابِعِهِ ، ثُمَّ تَرَكَهُ كَذَلِكَ
مُدَلًّى حَتَّى خَرَجَتْ الْخُيُوطُ مِنْهُ وَتَدَلَّتْ فَقِيلَ لَهُ فِي
خِيَاطَتِهِ فَقَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَلَ بِثَوْبٍ كَذَلِكَ وَلَمْ يَخِطْهُ بَعْدُ حَتَّى
تَقَطَّعَ الثَّوْبُ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ كُمَّ رَجُلٍ إلَى قَدْرِ أَصَابِعِ
كَفَّيْهِ ، ثُمَّ أَعْطَاهُ فَضْلَ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ خُذْ هَذَا
وَاجْعَلْهُ فِي حَاجَتِكَ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
إنَّمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ رَأَى
أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي طُولِ الْكُمَّيْنِ عَلَى قَدْرِ الْأَصَابِعِ
مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَرَآهُ مِنْ السَّرَفِ وَخَشَى عَلَيْهِ
أَنْ يَدْخُلَهُ مِنْهُ عُجْبٌ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَقَدْ نَقَلَ
الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ قَالَ : وَمِمَّا
أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْكَثِيرَةِ الْأَثْمَانِ
قَالَ : وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثَوْبُ
أَحَدِهِمْ مِنْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَكَانُوا
لَا يُجَاوِزُونَ هَذَا إلَّا نَادِرًا أَوْ كَمَا قَالَ .
وَأَمَّا
الْخُرُوجُ بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ فَلَا يَخْفَى عَلَى
ذِي بَصِيرَةٍ حَالُهُمْ بِهِ كَيْفَ هُوَ لِخُرُوجِهِمْ بِهِ عَنْ زِيِّ
سَائِرِ النَّاسِ وَتَكَلُّفِهِمْ فِي حَمْلِهِ أَنْ تَرَكُوهُ مُدَلًّى
ثَقُلَ عَلَيْهِمْ فِي مَشْيِهِمْ فَتَقِلُ مُرُوءَةُ أَحَدِهِمْ
بِسَبَبِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِهِ وَلَا
يَقْدِرُ عَلَى تَعَاطِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِسَبَبِهِ وَإِنْ رَفَعَ
يَدَهُ بِهِ احْتَاجَ إلَى حَمْلِهِ وَفِي حَمْلِهِ كُلْفَةٌ وَإِنْ كَانَ
يُصَلِّي ثَقُلَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ بِبِطَانَةٍ
وَتَرَكَهُ مُدَلًّى ، وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ بِهِ كَانَ حَامِلًا لِثُقْلٍ
فِي صَلَاتِهِ فَهُوَ شُغْلٌ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِذَا كَانَ شُغْلًا فِي
الصَّلَاةِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَنْ يَكْفِتَ أَحَدٌ شَعْرَهُ فِي
الصَّلَاةِ أَوْ يَضُمَّ ثَوْبَهُ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ شُغْلٌ فِي
الصَّلَاةِ .
فَإِذَا ضَمَّ ثَوْبَهُ حِينَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَقَعَ فِي هَذَا النَّهْيِ الصَّرِيحِ وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ وَتَرَكَهُ
عَلَى حَالِهِ انْفَرَشَ عَلَى الْأَرْضِ حِينَ السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ
فَيُمْسِكُ بِهِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ
يُمْسِكَهُ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَتْ تَنْقَطِعُ مِنْ عِنْدِ
مَنَاكِبِهِمْ لِشِدَّةِ تَرَاصِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ
حَتَّى يُسَوِّيَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ تَرْصِيصَ الصُّفُوفِ وَكَيْفَ هِيَ
وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ :
أَدْرَكْتُ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ وَرِجَالٌ مُوَكَّلُونَ بِالصَّلَاةِ
، فَإِنْ رَأَوْا أَحَدًا صَلَّى فِي صَفٍّ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ
إلَى الْقِبْلَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلَهُ ذَهَبُوا بِهِ بَعْدَ
الصَّلَاةِ إلَى الْحَبْسِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ
إلَّا مَوْضِعُ قِيَامِهِ وَسُجُودِهِ وَجُلُوسِهِ وَمَا زَادَ عَلَى
ذَلِكَ فَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْحُصْرُ الْيَوْمَ عَلَى مَا
يُعْهَدُ
وَيُعْلَمُ ، وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ هَذِهِ السَّجَّادَةِ .
فَإِذَا
بَسَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ احْتَاجَ لِأَجْلِ سِعَةِ
ثَوْبِهِ أَنْ يَبْسُطَ شَيْئًا كَبِيرًا لِيَعُمَّ ثَوْبَهُ عَلَى
سَجَّادَتِهِ فَيَكُونُ فِي سَجَّادَتِهِ اتِّسَاعٌ خَارِجٌ فَيُمْسِكُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ مَوْضِعَ رَجُلَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا إنْ سَلِمَ مِنْ
الْكِبْرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُمُّ إلَى سَجَّادَتِهِ أَحَدًا ، فَإِنْ
لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى النَّاسُ عَنْهُ وَتَبَاعَدُوا مِنْهُ
هَيْبَةً لَكُمِّهِ وَثَوْبِهِ وَتَرَكَهُمْ هُوَ وَلَمْ يَأْمُرُهُمْ
بِالْقُرْبِ إلَيْهِ فَيُمْسِكُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ
غَاصِبًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَنْصُوصِ عَنْ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ أَوْ كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي
أَمْسَكَهُ بِسَبَبِ قُمَاشِهِ وَسَجَّادَتِهِ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ
بِهِ حَاجَةٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ فِي
وَقْتِ الصَّلَاةِ غَاصِبٌ لَهُ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِسَبَبِ
قُمَاشِهِ وَسَجَّادَتِهِ وَزِيِّهِ ، فَإِنْ بَعَثَ سَجَّادَتَهُ إلَى
الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَهُ فَفُرِشَتْ لَهُ هُنَاكَ
وَقَعَدَ هُوَ إلَى أَنْ يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ
يَأْتِي فَيَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَيَقَعُ فِي مَحْذُورَاتٍ جُمْلَةً
مِنْهَا غَصْبُهُ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَتْ السَّجَّادَةُ
فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْجِزَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ
إلَّا مَوْضِعُ صَلَاتِهِ وَمِنْ سَبَقَ كَانَ أَوْلَى وَلَا نَعْلَمُ
أَحَدًا يَقُولُ بِأَنَّ السَّبَقَ لِلسَّجَّادَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ
لِبَنِي آدَمَ فَيَقَعُ فِي الْغَصْبِ أَوَّلًا لِكَوْنِهِ مَنَعَ ذَلِكَ
الْمَوْضِعَ مِمَّنْ سَبَقَهُ ، فَإِذَا جَاءَ كَانَ غَاصِبًا لِمَا زَادَ
عَلَى مَوْضِعِ صَلَاتِهِ بَلْ
غَاصِبًا لِلْمَوْضِعِ كُلِّهِ ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِذَلِكَ
الْمَوْضِعِ مِنْهُ فَيَكُونُ غَيْرُهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ
هُوَ ، فَلَمَّا أَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مَنْ سَبَقَهُ كَانَ غَاصِبًا
وَمِنْهَا تَخَطِّيهِ لِرِقَابِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ إتْيَانِهِ
لِلسَّجَّادَةِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى
فَاعِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُؤْذٍ وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي دَخَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ :
اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت فَنَهَاهُ وَأَخْبَرَ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ
مُؤْذٍ .
وَقَدْ وَرَدَ كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ فَيَقَعُ فِي هَذَا
الْوَعِيدِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ
مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ بِسَاطٍ كَبِيرٍ فِي
الْمَسْجِدِ لِكَيْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ هُوَ وَبَعْضُ خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ
، ثُمَّ يَبْسُطُ عَلَى الْبِسَاطِ هَذِهِ السَّجَّادَةَ فَيُمْسِكُ فِي
الْمَسْجِدِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً غَاصِبًا لَهَا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخُيَلَاءِ ، وَهَذَا
أَمْرٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْأَعَاجِمِ أَوْ الْجُهَلَاءِ بِدِينِهِمْ
لَوَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ تَحْذِيرُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَزَجْرُهُمْ
وَنَهْيُهُمْ وَالْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ أَوْ وَعْظُهُمْ إنْ كَانَ
يَخَافُ شَوْكَتَهُمْ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْعَالِمُ فِي نَفْسِهِ .
كَانَ
النَّاسُ يَقْتَبِسُونَ أَثَارَ الْعَالِمِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ
وَيَرْجِعُونَ عَنْ عَوَائِدِهِمْ لِعَوَائِدِهِ فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ
فَصَارَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ
يُحْدِثُونَ أَشْيَاءَ مِثْلَ هَذَا وَغَيْرِهِ فَيُسْكَتُ لَهُمْ عَنْ
ذَلِكَ ، ثُمَّ يَأْتِي الْعَالِمُ فَيَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمْ
فَكَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَرَجَعْنَا نَقْتَدِي
بِفِعْلِ الْجُهَلَاءِ ، وَهَذَا الْبَابُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي
تُرِكَتْ مِنْهُ السُّنَنُ غَالِبًا أَعْنِي اتِّخَاذَ عَوَائِدَ يَقَعُ
الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهَا وَيُمْشَى عَلَيْهَا فَيَنْشَأُ نَاسٌ عَلَيْهَا
لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا وَيَتْرُكُونَ مَا وَرَاءَهَا ،
فَجَاءَ مَا قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيْلَكُمْ يَا مَعَاشِرَ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ الْجَهَلَةِ بِرَبِّهِمْ جَلَسْتُمْ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ تَدْعُونَ النَّاسَ إلَى النَّارِ بِأَعْمَالِكُمْ فَلَا أَنْتُمْ دَخَلْتُمْ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ أَعْمَالِكُمْ وَلَا أَنْتُمْ أَدْخَلْتُمْ النَّاسَ بِهَا بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ قَطَعْتُمْ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُرِيدِ وَصَدَدْتُمْ الْجَاهِلَ عَنْ الْحَقِّ فَمَا ظَنُّكُمْ غَدًا عِنْدَ رَبِّكُمْ إذَا ذَهَبَ الْبَاطِلُ بِأَهْلِهِ وَقَرَّبَ الْحَقُّ أَتْبَاعَهُ انْتَهَى .
عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى أَنَّهُ كَانَ
لِعُلَمَائِهِمْ لِبَاسٌ يُعْرَفُونَ بِهِ غَيْرُ لِبَاسِ النَّاسِ
جَمِيعًا لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الثَّوْبِ وَلَا فِي
التَّفْصِيلِ بَلْ لِبَاسُ بَعْضِهِمْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ لِبَاسِ
النَّاسِ لِتَوَاضُعِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَلِمَعْرِفَةِ
الْحَقِّ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَلِفَضِيلَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْعِ ،
وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَرْجَحِ
وَالْأَزْكَى فِي الشَّرْعِ .
نَعَمْ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ أَسْتَحِبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ أَبْيَضَ
يَعْنِي يَفْعَلُ ذَلِكَ تَوْقِيرًا لِلْعِلْمِ فَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا
وَسِخًا وَلَا قَذِرًا بَلْ نَظِيفًا مِنْ الْأَوْسَاخِ وَلَمْ يَقُلْ
أَحَدٌ أَنَّهُ يُخَالِفُ لِبَاسَ النَّاسِ بِسَبَبِ عِلْمِهِ .
قَدْ
كَانَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ثِيَابٌ كَثِيرَةٌ يُوَقِّرُ بِهَا
مَجَالِسَ الْحَدِيثِ حِينَ كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَدِيثِ
إلَّا عَلَى الْعَادَةِ ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا
طَلَبَهُ الْفُقَهَاءُ لِلدَّرْسِ سَأَلَهُمْ مَا يُرِيدُونَ ، فَإِنْ
أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَسَائِلَ الْفِقْهِ خَرَجَ عَلَى
الْحَالَةِ الَّتِي يَجِدُونَهُ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُ عَلَى نَفْسِهِ
شَيْئًا ، وَإِنَّ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْحَدِيثَ دَخَلَ
إلَى بَيْتِهِ وَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَتَبَخَّرَ
بِالْمِسْكِ وَالْعُودِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْحَدِيثِ وَيُطْلِقُ
الْبَخُورَ بِالْمِسْكِ وَالْعُودِ طُولَ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ حَتَّى
يَفْرُغَ تَعْظِيمًا لِلْحَدِيثِ .
وَلَقَدْ حَكَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ ، وَلَوْنُهُ
يَتَغَيَّرُ وَيَصْفَرُّ وَيَتَلَوَّنُ إلَى أَنْ فَرَغَ الْمَجْلِسُ
وَانْقَضَى النَّاسُ أَخْرَجَ الْخُفَّ مِنْ رِجْلِهِ ، فَإِذَا فِيهِ
عَقْرَبٌ قَدْ لَسَعَتْهُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً قَالَ : فَقُلْت لَهُ
يَا إمَامُ مَا مَنَعَك أَنْ تَخْلَعَهُ فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ ضَرَبَتْك
فَقَالَ : اسْتَحْيَيْتُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ يُقْرَأُ وَأَقْطَعُهُ لِضُرٍّ أَصَابَ بَدَنِي أَوْ كَمَا قَالَ .
فَكَانَ تَعْظِيمُهُ لِلْحَدِيثِ كَمَا تَرَى .
وَهَذَا
اللِّبَاسُ الْيَوْمَ لَمْ يَجْعَلُوهُ لِمَجْلِسِ الْحَدِيثِ بَلْ
لِمَجَالِسِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانُوا فِي مَجْلِسِ الْحَدِيثِ
فَتَجِدُهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ إذْ ذَاكَ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ الْآيَةَ .
قَالَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ
فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ عَلَى حَدِيثِهِ ، فَيُوَقِّرُونَ
مَجَالِسَ الْحَدِيثِ فِي اللِّبَاسِ وَيُقِلُّونَ الْأَدَبَ فِي رَفْعِ
الصَّوْتِ وَالْبَحْثِ وَالِانْزِعَاجِ إذْ ذَاكَ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ
الَّذِي يَقْرَؤُنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ اللِّبَاسِ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إضَاعَةِ
الْمَالِ ، وَمِنْ أَمْرِهِ بِإِزْرَةِ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ
سَاقَيْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ التَّأْكِيدِ فِي لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ
الثِّيَابِ إلَّا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِي
ذَلِكَ مُخَالَفَةُ لِبَاسِ النَّاسِ لِفَقِيهٍ وَلَا لِغَيْرِهِ ،
وَمَجَالِسُ الْعِلْمِ اللُّبْسُ لَهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْجُمَعِ
وَالْأَعْيَادِ ، وَقَدْ جُعِلَتْ الْيَوْمَ هَذِهِ الثِّيَابُ
لِلْفَقِيهِ كَأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلطَّالِبِ
مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الدَّرْسِ إلَّا بِهَا ، فَإِنْ
قَعَدَ بِغَيْرِهَا قِيلَ عَنْهُ مُهِينٌ يَتَهَاوَنُ بِمَنْصِبِ
الْعِلْمِ لَا يُعْطِي الْعِلْمَ حَقَّهُ لَا يَقُومُ بِمَا يَجِبُ لَهُ
فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَدَثَرَتْ السُّنَّةُ ، وَنُسِيَ فِعْلُ السَّلَفِ
بِفَتْوَى مَنْ غَفَلَ أَوْ وَهَمَ وَاتِّبَاعِهَا وَشَدِّ الْيَدِ
عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا جَاءَتْ فِيهَا حُظُوظُ النَّفْسِ
وَمَلْذُوذَاتُهَا ، وَهِيَ التَّمْيِيزُ عَنْ الْأَصْحَابِ
وَالْأَقْرَانِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَبِسَ ذَلِكَ الثَّوْبَ عِنْدَهُمْ قِيلَ
هُوَ فَقِيهٌ فَيَتَمَيَّزُ إذْ ذَلِكَ عَنْ الْعَوَامّ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ
لَا
تَحْصُلُ لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ
طَوِيلَةٍ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ دَرَجَةُ فَضِيلَةٍ تَنْقُلُهُ عَنْ
دَرَجَةِ الْعَوَامّ فَبِنَفْسِ اللُّبْسِ لِتِلْكَ الثِّيَابِ
انْتَقَلَتْ دَرَجَتُهُ عَنْهُمْ وَرَجَعَ مَلْحُوقًا بِالْفُقَهَاءِ ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
رَجَعَ الْفِقْهُ
بِالزِّيِّ دُونَ الدَّرْسِ وَالْفَهْمِ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
الْإِشَارَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ بِقَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ
انْتِزَاعًا يَنْزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ
بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ
النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ
فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا انْتَهَى .
وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ
الْعَوَامَّ لَا يَأْتُونَ الْعَوَامَّ يَسْأَلُونَهُمْ وَلَا يَرْأَسُ
عَامِّيٌّ عَلَى آخَرَ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ لَكِنْ لَمَّا صَارَ
الْفِقْهُ عِنْدَهُمْ لَهُ خِلْعَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا فَجَاءَ هَذَا
الْمُبْتَدِئُ فَلَبِسَ تِلْكَ الْخِلْعَةَ ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَعْرِفْ
شَيْئًا أَوْ عَرَفَ الْبَعْضَ وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَعْضَ ، وَرَآهُ
الْعَوَامُّ عَلَى زِيِّ مَنْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي
زَمَانِهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ تَقَعُ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ
وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْخِلْعَةِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ
لِئَلَّا يُنْسَبَ إلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَيَسْقُطُ
مِنْ أَعْيُنِهِمْ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْ
الْفُقَهَاءِ ، فَتُجْمَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّسِيسَةُ السُّمَيَّةُ
مَعَ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ فَيُفْتِي
بِرَأْيِهِ وَبِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَيَقِيسُ مَسْأَلَةً
عَلَى غَيْرِهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا مِثْلُهَا أَوْ تُقَارِبُهَا
وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْصِبٌ فَيَكُونُ
ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ فَيُرْتَكَبُ الْمَحْظُورَ وَيُدْخِلُ نَفْسَهُ
فِي الْخَطَرِ وَيُفْتِي فَيَضِلُّ بِارْتِكَابِهِ لِلْبَاطِلِ وَيُضِلُّ
غَيْرَهُ فَحَصَلَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ الْعُظْمَى بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ
السُّنَّةِ
فِي اللِّبَاسِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَشْهُورٌ
بَيْنَهُمْ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا تُرِكَتْ فِي شَيْءٍ لَا يَأْتِي مَا
عُمِلَ عِوَضًا مِنْهَا إلَّا تُرِكَ الْخَيْرُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ
بِحَذَافِيرِهِ فِي قَدَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْخَيْرُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ .
وَالْجَنَّةُ
لَا تُنَالُ إلَّا مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
، أَعْنِيَ بِاتِّبَاعِهِ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَا حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا
أَنَّهُ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً إحْدَاهَا مِنْ
أُدْمٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَالِمِ
وَغَيْرِهِ إلَّا بِحُسْنِ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ أَوْ حُسْنِ كَلَامِهِ .
قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَالِمُ يُعْرَفُ بِلَيْلِهِ
إذَا النَّاسُ نَائِمُونَ وَبِنَهَارِهِ إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ
وَبِبُكَائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ وَبِصَمْتِهِ إذَا النَّاسُ
يَخُوضُونَ وَبِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ وَبِحُزْنِهِ إذَا
النَّاسُ يَفْرَحُونَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخُوضَ مَعَ مَنْ يَخُوضُ وَلَا
يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيُصْفَحُ انْتَهَى .
فَانْظُرْ
رَحِمَك اللَّهُ إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَلْ قَالَا الْعَالِمُ
يُعْرَفُ بِوُسْعِ كُمِّهِ وَطُولِهِ وَوُسْعِ ثَوْبِهِ وَحُسْنِهِ بَلْ
وَصَفُوهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ أَوْصَافِنَا
الْيَوْمَ كَثِيرًا ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَصِفُوا
الْعَالِمَ إلَّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ .
قَالُوا وَيَنْبَغِي
لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حَامِدًا وَلِنِعَمِهِ شَاكِرًا وَلَهُ
ذَاكِرًا وَعَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا وَبِهِ مُسْتَعِينًا وَإِلَيْهِ
رَاغِبًا وَبِهِ مُعْتَصِمًا وَلِلْمَوْتِ ذَاكِرًا وَلَهُ مُسْتَعِدًّا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْ ذَنْبِهِ رَاجِيًا
عَفْوَ رَبِّهِ وَيَكُونَ خَوْفُهُ فِي صِحَّتِهِ أَغْلِبُ عَلَيْهِ انْتَهَى .
فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّهُ يَكُونُ زِيُّهُ كَذَا وَلِبَاسُهُ كَذَا .
حِينَ
كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا انْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَوَجَدُوا
الْبَرَكَةَ وَالْخَيْرَ وَالرَّاحَةَ عَلَى أَيْدِيهِمْ ، حَكَى لِي
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ شَيْخِهِ سَيِّدِي أَبِي
الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى بُسْتَانِهِ
لِيَعْمَلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ يَخْرُجُ إلَى
حَائِطِهِ يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَإِذَا بِبَعْضِ الظَّلَمَةِ أَخَذُوهُ مَعَ
غَيْرِهِ فِي السُّخْرَةِ لِبْسَتَانِ السُّلْطَانِ فَمَضَى مَعَهُمْ
وَقَعَدَ يَعْمَلُ مَعَهُمْ إلَى أَنْ جَاءَ الْوَزِيرُ وَدَخَلَ
لَلِبْسَتَانِ لِيَنْظُرَ مَا عُمِلَ فِيهِ فَإِذَا بِهِ ، وَقَدْ
وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى الشَّيْخِ ، وَهُوَ يَعْمَلُ فَطَأْطَأَ عَلَى
قَدَمَيْهِ يُقَبِّلُهُمَا وَيَقُولُ : يَا سَيِّدِي مَا جَاءَ بِك هُنَا
فَقَالَ : أَعْوَانُكُمْ الظَّلَمَةُ .
فَقَالَ : يَا سَيِّدِي عَسَى
أَنَّك تُقِيلُنَا وَتَخْرُجُ فَأَبَى ، فَقَالَ لَهُ : وَلِمَ ، قَالَ :
هَؤُلَاءِ إخْوَانِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ أَخْرُجُ وَهُمْ فِي
ظُلْمِكُمْ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ فَأَبَى
فَقَالَ لَهُ : وَلِمَ ؟ فَقَالَ لَهُ : غَدًا تَأْخُذُونَهُمْ أَنْتُمْ
إنْ كَانَتْ لَكُمْ بِهِمْ حَاجَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى
تَابُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوا أَحَدًا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا انْتَهَى .
فَانْظُرْ إلَى بَرَكَةِ زِيِّ
الْعَالِمِ إذَا كَانَ مِثْلَ زِيِّ النَّاسِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ
مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ هَذَا فِي وَاحِدَةٍ فَمَا بَالُك
بِغَيْرِهَا وَغَيْرِهَا فَلَوْ كَانَ عَلَى الشَّيْخِ إذْ ذَلِكَ لِبَاسٌ
يُعْرَفُ بِهِ لَمْ يُؤْخَذْ فَكَانَتْ تِلْكَ الْبَرَكَةُ تُمْتَنَعُ
عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ أُخِذُوا إذْ ذَلِكَ فِي ظُلْمِ
السُّلْطَانِ .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ
الَّتِي وَقَعَتْ لِهَذَا السَّيِّدِ الْجَلِيلِ يُؤْخَذُ مِنْهَا
الِاسْتِحْبَابُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ لِبَاسُهُ مِثْلَ لِبَاسِ
سَائِرِ
النَّاسِ لِتَحْصُلَ بِهِ الْمَنْفَعَةُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ .
قَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ
أَكْرَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَشَحُّوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَعَزُّوا الْعِلْمَ
وَصَانُوهُ وَأَنْزَلُوهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَخَضَعَتْ
لَهُمْ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ وَانْقَادَتْ لَهُمْ النَّاسُ وَكَانُوا
لَهُمْ تَبَعًا وَعَزَّ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ ، وَلَكِنَّهُمْ
أَذَلُّوا أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِمْ
إذَا سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ وَبَذَلُوا عِلْمَهُمْ لِأَبْنَاءِ
الدُّنْيَا لِيُصِيبُوا بِذَلِكَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، فَذَلُّوا
وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ انْتَهَى .
فَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا
ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُكَابَرُ فِيهَا لِوُجُودِهَا حِسِّيَّةً
مُشَاهَدَةً عِنْدَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَّا مَعَ مَا يَحْصُلُ
فِيهَا مِنْ الْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْخُيَلَاءِ .
فَأَيْنَ
هَذَا مِمَّا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ إلَى
الشَّامِ وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ خِطَامُهُ لِيفٌ وَرَحْلُهُ وَزَادُهُ
تَحْتَهُ وَمُرَقَّعَتُهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ الْأَجْنَادُ أَنْ يَلْبَسَ
ثَوْبًا أَبْيَضَ وَأَنْ يَرْكَبَ بِرْذَوْنًا لِيُرْهِبَ الْعَدُوَّ
بِذَلِكَ فَفَعَلَ ، فَلَمَّا أَنْ اسْتَوَى عَلَى الْبِرْذَوْنِ نَادَى
بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَقِيلُوا عُمَرَ عَثْرَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ
عَثْرَتَكُمْ فَرَجَعَ إلَى ثَوْبِهِ وَجَمَلِهِ وَقَالَ بِالْإِيمَانِ
اعْتَزَزْنَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ الْبِلَادِ عَلَى مَا
نَقَلَهُ أَهْلُ التَّارِيخِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَوَاءٌ
بِسَوَاءٍ ، وَإِنَّمَا عَزَّ الْفَقِيهُ بِفَهْمِ الْمَسَائِلِ
وَشَرْحِهَا وَمَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْعَمَلِ
عَلَيْهَا وَتَعْظِيمِهَا وَتَرْفِيعِهَا وَتَعْلِيمِ مَا حَصَلَ مِنْ
بَرَكَتِهَا وَخَيْرِهَا وَمَعْرِفَةِ الْبِدَعِ وَتَجَنُّبِهَا
وَتَبْيِينِ شُؤْمِهَا وَمَقْتِهَا وَظَلَامِهَا وَمَا يَحْصُلُ مِنْ
الْمَقْتِ لِفَاعِلِهَا أَوْ الْمُسْتَهِينِ لِلْقَلِيلِ مِنْهَا
وَتَبْيِينِ مَا يَحْصُلُ لِفَاعِلِ هَذَا كُلِّهِ مِنْ الْخَيْرِ
وَالْبَرَكَةِ ،
وَمِنْ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَالْعَمَلِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ فَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ خِلْعَةَ الْعُلَمَاءِ الْخَشْيَةَ وَجَعَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ خِلْعَةَ الْعَالِمِ تَوْسِيعَ الثِّيَابِ وَالْأَكْمَامِ وَكِبَرِهَا وَحُسْنِهَا وَصِقَالَتِهَا
وَإِنْ
كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ مَعَ الْعِمَامَةِ إلَى طَيْلَسَانٍ فَتَجِدُ
بَعْضَهُمْ قَدْ خَنَقَ نَفْسَهُ بِهِ وَيَتَفَقَّدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ
وَحِينٍ مِنْ جَوَانِبِ خَدَّيْهِ أَنْ يَكُونَ مَالَ إلَى أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ فَيَظْهَرُ وَجْهُهُ لِلنَّاسِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ
تَحْتَجِبُ تَخَافُ أَنْ تُبَيِّنَ وَجْهَهَا لِلرِّجَالِ حَتَّى أَنَّ
بَعْضَهُمْ لَيَغْرِزُ الْإِبَرَ فِي الطَّيْلَسَانِ مَعَ الْعِمَامَةِ
حَتَّى لَا يَكْشِفَهُ الْهَوَاءُ عَنْ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ ، وَهَكَذَا
تَفْعَلُ الْمَرْأَةُ بِالْقِنَاعِ وَالْخِمَارِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ
تُمْسِكُ ذَلِكَ بِالْإِبَرِ وَتَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهَا أَنْ
تَنْكَشِفَ رَأْسُهَا مِنْ قِنَاعِهَا أَوْ يَبِينَ وَجْهُهَا لِغَيْرِ
مَحَارِمِهَا ، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ
بِالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الرِّدَاءُ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ،
وَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ وَالْعَذْبَةُ لَكِنَّ الرِّدَاءَ كَانَ
أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا ، وَالْعِمَامَةُ سَبْعَةُ
أَذْرُعٍ وَنَحْوَهَا يُخْرِجُونَ مِنْهَا التَّلْحِيَةَ وَالْعَذْبَةَ
وَالْبَاقِي عِمَامَةٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَالَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ :
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ
فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّلَحِّي وَنَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطِ .
قَالَ
ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُحْكَمِ : قَعَطَ الرَّجُلُ
عِمَامَتَهُ يَقْتَعِطُهَا اقْتِعَاطًا أَيْ أَدَارَهَا عَلَى رَأْسِهِ
وَلَمْ يَتَلَحَّ بِهَا .
وَقَدْ نَهَى عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَ
الِاقْتِعَاطَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ،
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ الِاقْتِعَاطُ أَنْ يَعْتَمَّ الرَّجُلُ
بِالْعِمَامَةِ ، وَلَا يَتَلَحَّى وَالْمُقْتَعَطَةُ الْعِمَامَةُ ،
وَقَدْ اقْتَعَطَهَا .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
الْمُعْتَمِّ لَا يُدْخِلُ تَحْتَ ذَقَنِهِ مِنْهَا فَكَرِهَ ذَلِكَ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اقْتِعَاطُ
الْعَمَائِمِ هُوَ التَّعْمِيمُ دُونَ حَنَكٍ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ
مُنْكَرَةٌ قَدْ شَاعَتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَنَظَرَ مُجَاهِدٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمًا إلَى رَجُلٍ قَدْ اعْتَمَّ وَلَمْ يَحْتَنِكْ
فَقَالَ : اقْتِعَاطٌ كَاقْتِعَاطِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ عِمَامَةُ
الشَّيَاطِينِ وَعَمَائِمُ قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَاتِ
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ
الْوَاضِحَةِ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ
وَدَارِهِ بِالْعِمَامَةِ دُونَ تَلَحٍّ ، وَأَمَّا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ
وَالْمَسَاجِدِ فَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ الِالْتِحَاءِ ، فَإِنَّ تَرْكَهُ
مِنْ بَقَايَا عَمَائِمِ قَوْمِ لُوطٍ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَقَدْ شَدَّدَ
الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْكَرَاهَةَ فِي تَرْكِ
التَّحْنِيكِ .
قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وَفِي الْمُخْتَصَرِ رَوَى
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ
الْعِمَامَةِ يَعْتَمُّ بِهَا الرَّجُلُ ، وَلَا يَجْعَلُهَا تَحْتَ
حَلْقِهِ فَأَنْكَرَهَا وَقَالَ : إنَّهَا مِنْ عَمَائِمِ الْقِبْطِ
فَقِيلَ لَهُ ، فَإِنْ صَلَّى بِهَا كَذَلِكَ قَالَ : لَا بَأْسَ
وَلَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِمَامَةً قَصِيرَةً
لَا تَبْلُغُ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ مَالِكٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا اعْتَمَّ جَعَلَ مِنْهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ
وَسَدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْمَعُونَةِ لَهُ :
وَمِنْ الْمَكْرُوهِ مَا خَالَفَ زِيَّ الْعَرَبِ وَأَشْبَهَ زِيَّ
الْعَجَمِ كَالتَّعْمِيمِ مِنْ غَيْرِ حَنَكٍ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا عِمَامَةُ الشَّيَاطِينِ وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ السُّنَّةُ فِي الْعِمَامَةِ أَنْ يُسْدِلَ طَرَفَهَا إنْ
شَاءَ أَمَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ خَلْفِهِ بَيْنَ
كَتِفَيْهِ ، وَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ التَّحْنِيكِ فِي الْهَيْئَتَيْنِ
، وَأَمَّا حُكْمُ
طَرَفِ الْعِمَامَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْيِيرُ
الْعُلَمَاءِ فِي سَدْلِهِ إنْ شَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ
بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَرْخَى طَرَفَ
عِمَامَتِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ أَرَ
أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكْته يُرْخِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ الذُّؤَابَةَ
وَلَكِنْ يُرْسِلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ إرْسَالَ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ
بِدْعَةٌ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ مِنْ
الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ السَّلَفِ فَيَكُونُ هُوَ قَدْ
أَصَابَ السُّنَّةَ وَهُمْ قَدْ أَخَطَؤُهَا وَابْتَدَعُوهَا أَسْأَلُ
اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ قَالَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا
أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا انْتَهَى .
وَمَا
حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ
اللَّهُ مَا أَفْتَى حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْعَذْبَةَ دُونَ تَحْنِيكٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ
الْمَكْرُوهِ ؛ لِأَنَّ وَصْفَهُمْ بِالتَّحْنِيكِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُمْ قَدْ امْتَازُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ
لِوَصْفِهِمْ بِالتَّحْنِيكِ فَائِدَةٌ إذْ الْكُلُّ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ
، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ :
إنَّمَا الْمَكْرُوهُ فِي الْعِمَامَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِهِمَا ، فَإِنْ
كَانَا مَعًا فَهُوَ الْكَمَالُ فِي امْتِثَالِ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ
أَحَدُهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْمَكْرُوهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَعَلَى هَذَا إذَا أَرْخَى الْعَذْبَةَ وَتَقَنَّعَ أَكْمَلَ السُّنَّةَ كَمَا لَوْ تَحَنَّكَ وَأَرْخَى الْعَذْبَةَ .
وَقَدْ
نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَمُّونَ
حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ طُلُوعَهَا إنَّمَا
يَكُونُ فِي زَمَانِ الْحَرِّ فَيُزِيلُونَهَا عَنْ رُءُوسِهِمْ ، وَمَنْ
فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً
فِي الدَّيْنِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَرُدُّونَ
شَهَادَتَهُ
وَيَقَعُونَ فِي حَقِّهِ بِنِسْبَتِهِ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِذَلِكَ فِي
جُمْلَةِ الْمُوَلِّهِينَ وَأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ بِسَبَبِ مَا
ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ فَرَجَعَ فِعْلُ السَّلَفِ جُرْحَةً فِي حَقِّ
مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ مَنْ حَضَرَ
السَّمَاعَ وَرَقَصَ وَسَقَطَتْ عِمَامَتُهُ وَظَهَرَ مِنْهُ فِعْلُ
الْمَجَانِينِ ، وَمَا يُذْهِبُ الْمُرُوءَةَ وَالْحِشْمَةَ
بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسْقِطُونَهُ وَرُبَّمَا نَسَبُوهُ إلَى
الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَرُبَّمَا اعْتَقَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ
وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي
الْعِمَامَةِ وَمَا تَكَلَّمُوا عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ الْعِمَامَةَ دُونَ تَحْنِيكٍ وَدُونَ عَذْبَةٍ
جَائِزَةٌ لَيْسَتْ بِمَكْرُوهَةٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ
اللُّبْسَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ وَتَرَكَهُ وَمَضَى .
فَانْظُرْ إلَى
هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الْعَجِيبِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لِلْعُلَمَاءِ
فِيهَا مِنْ النُّصُوصِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ اللُّبْسُ مِنْ قَبِيلِ
الْمُبَاحِ مُطْلَقًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ فِي حَقِّ
الرَّجُلِ أَنْ يَسْتُرَ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَفِي حَقِّ
الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهَا إلَّا الْوَجْهَ
وَالْكَفَّيْنِ ، وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتُرَ جَمِيعَ
جَسَدِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِذَلِكَ
لِأَجْلِ الِامْتِثَالِ ، ثُمَّ الْعِمَامَةُ عَلَى صِفَتِهَا فِي
السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالرِّدَاءُ فِي الصَّلَاةِ
مَطْلُوبٌ شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ
بِالْخُرُوجِ إلَى الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ بِثِيَابٍ غَيْرِ ثِيَابِ
مِهْنَتِهِ ، فَأَيْنَ الْمُبَاحُ الْمُطْلَقُ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
كُلُّهُ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، ثُمَّ لَوْ تَنَزَّلْنَا
مَعَهُ إلَى مَا قَالَهُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ فَالْأَكْلُ
أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ أَنْ
يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ أَوَّلِهِ
وَيَأْكُلَ بِيَمِينِهِ ، وَلَا يَأْكُلُ بِيَسَارِهِ وَأَنْ لَا يَنْهَشَ الْخُبْزَ كَاللَّحْمِ وَأَنْ يُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرَ مَضْغَهَا وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ حَاضِرًا وَأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ آخِرِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي شُرْبِهِ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا ، وَكَذَلِكَ الدُّخُولُ إلَى الْبَيْتِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يُقَدِّمَ الْيُمْنَى وَيُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، فَإِذَا كَانَ نَفْسُ لُبْسِ الْعِمَامَةِ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فِعْلِ سُنَنٍ بِهَا مِنْ تَنَاوُلِهَا بِالْيَمِينِ وَقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ إنْ كَانَ مَا لَبِسَهُ جَدِيدًا وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي صِفَةِ التَّعْمِيمِ مِنْ فِعْلِ التَّحْنِيكِ وَالْعَذْبَةِ وَتَصْغِيرِ الْعِمَامَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
فِي تَارِكِ شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ وَالْآدَابِ : إنَّ الْوَاجِبَ أَنْ
يُقَبَّحَ لَهُ فِعْلُهُ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ
يَرْجِعَ وَإِلَّا هُجِرَ مِنْ أَجْلِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ خِلَافِ
السُّنَّةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِالْجَوَازِ دُونَ كَرَاهَةٍ
مَعَ النُّصُوصِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ بَلَغَنِي
أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَى الْيَمَنِ وَأَنَّهُ ارْتَدَى بُرْدَةً وَكَانَتْ طَوِيلَةً
فَانْجَرَّتْ مِنْ خَلْفِهِ فَقِيلَ لَهُ ارْفَعْ ارْفَعْ فَانْجَرَّتْ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ .
هَكَذَا الشَّيْءُ يُجْعَلُ بِغَيْرِ قَدْرٍ وَعَزَلَهُ .
قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا قِيلَ لَهُ ارْفَعْ ارْفَعْ لَمَّا
انْجَرَّتْ خَلْفَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ
إزَارَهُ بَطَرًا .
فَطُولُ الرِّدَاءِ مَكْرُوهٌ مَخَافَةَ أَنْ
يَغْفُلَ عَنْهُ فَيَجُرُّهُ مِنْ خَلْفِهِ ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ
ذَلِكَ لِمَنْ فَعَلَهُ بَطَرًا فَالتَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ
حَالٍّ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ
الْأَرْبَعِينَ لَهُ : اعْلَمْ أَنَّ مِفْتَاحَ السَّعَادَةِ فِي
اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَحَرَكَاتِهِ
وَسَكَنَاتِهِ حَتَّى فِي هَيْئَةِ أَكْلِهِ وَقِيَامِهِ وَنَوْمِهِ
وَكَلَامِهِ لَسْتُ أَقُولُ ذَلِكَ فِي آدَابِهِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ لَا
وَجْهَ لِإِهْمَالِ السُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِيهَا بَلْ ذَلِكَ فِي
جَمِيعِ أُمُورِ الْعَادَاتِ فَبِهِ يَحْصُلُ الِاتِّبَاعُ الْمُطْلَقُ
كَمَا قَالَ تَعَالَى : قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمْ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فَعَلَيْك
بِأَنْ تَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا وَتَتَعَمَّمَ قَائِمًا وَتَأْكُلَ
بِيَمِينِك وَتُقَلِّمَ
أَظْفَارِكَ وَتَبْتَدِئَ بِمُسَبِّحَةِ
الْيَدِ الْيُمْنَى وَتَخْتِمَ بِإِبْهَامِهَا ، وَفِي الرِّجْلِ
تَبْتَدِئُ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى وَتَخْتِمُ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى ،
وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِك وَسَكَنَاتِك فَلَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ
بْنُ أَسْلَمَ لَا يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُنْقَلُ
كَيْفِيَّةُ أَكْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَهَا أَحَدُهُمْ فَلَبِسَ الْخُفَّ وَابْتَدَأَ بِالْيَسَارِ
فَكَفَّرَ عَنْهُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَسَاهَلَ فِي
امْتِثَالِ ذَلِكَ فَتَقُولُ : هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَادَاتِ
فَلَا مَعْنَى لِلِاتِّبَاعِ فِيهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْلِقُ عَنْك
بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ السَّعَادَاتِ انْتَهَى .
قَالَ
الْهَرَوِيُّ فِي غَرِيبِهِ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْكُرُّ
بِالْبَصْرَةِ سِتَّةُ أَوْقَارٍ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الْكُرُّ
سِتُّونَ قَفِيزًا وَالْقَفِيزُ ثَمَانِيَةُ مَكَاكِيكَ وَالْمَكُّوكُ
صَاعٌ وَنِصْفُ ، وَهُوَ ثَلَاثُ كِيلَجَاتٍ ، فَالْكُرُّ عَلَى هَذَا
الْحِسَابِ اثْنَا عَشْرَ وَسْقًا كُلُّ وَسْقٍ سِتُّونَ صَاعًا انْتَهَى .
فَإِنْ
زَادَ فِي كِبَرِ الْعِمَامَةِ قَلِيلًا لِأَجْلِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ
فَيُسَامَحُ فِيهِ ، وَالذُّؤَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يُرْسِلُونَ مِنْهَا
إلَّا الْقَلِيلَ نَحْوَ الذِّرَاعِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ
أَقَلَّ مِنْهُ قَلِيلًا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الطَّيْلَسَانِ أَنَّهُ رِيبَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ .
وَقَدْ
وَرَدَ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ إنَّمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ فِي
زَمَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ هَذَا
الطَّيْلَسَانِ الْيَوْمَ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِهِمْ .
وَمِنْ
الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ سُكَيْنَةَ
بِنْتَ حُسَيْنٍ أَوْ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ رَأَتْ بَعْضَ وَلَدِهَا
مُقَنِّعًا رَأْسَهُ فَقَالَتْ لَهُ : اكْشِفْ عَنْ رَأْسِك ، فَإِنَّ
الْقِنَاعَ رِيبَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ .
وَقَالَ
مَالِكٌ وَأَمَّا مَنْ تَقَنَّعَ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا بَأْسَ
بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى فِي هَذَا
بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَنَّعَ بِاللَّيْلِ اُسْتُرِيبَ مِنْهُ
مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ تَقَنَّعَ لِسُوءٍ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ
اغْتِيَالِ أَحَدٍ أَوْ شَبَهِ ذَلِكَ ، وَإِذَا تَقَنَّعَ بِالنَّهَارِ
لَمْ يُكْرِمْهُ مَنْ لَقِيَهُ ، وَلَا وَفَّاهُ حَقَّهُ ، وَلَا عَرَفَ
مَنْزِلَتَهُ وَاضْطَرَّهُ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ وَذَلِكَ إذْلَالٌ
لَهُ .
وَمِنْ كِتَابِ مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ وَالْمِقْنَعَةُ مَا
تُقَنِّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا ، وَالْقِنَاعُ أَوْسَعُ مِنْهَا ،
وَمِنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ وَالْمِقْنَعُ وَالْمِقْنَعَةُ بِالْكَسْرِ
مَا تُقَنِّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا وَالْقِنَاعُ أَوْسَعُ مِنْ
الْمِقْنَعَةِ ، وَمِنْ النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ الرَّأْسُ
مَوْضِعُ الْقِنَاعِ قَالَ : وَفِي حَدِيثِ بَدْرٍ فَانْكَشَفَ قِنَاعُ
قَلْبِهِ فَمَاتَ .
قِنَاعُ الْقَلْبِ غِشَاؤُهُ تَشْبِيهًا بِقِنَاعِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْمِقْنَعَةِ .
وَمِنْهُ
حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً عَلَيْهَا قِنَاعٌ فَضَرَبَهَا
بِالدُّرَّةِ وَقَالَ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ ، وَقَدْ كَانَ
يَوْمَئِذٍ مِنْ لِبَاسِهِنَّ انْتَهَى .
فَمَا نَقَلُوهُ دَلِيلُ
عَلَى أَنَّ الْمِقْنَعَةَ وَالْقِنَاعَ مَعًا مُخْتَصَّانِ بِالْمَرْأَةِ
، وَأَمَّا قِنَاعُ الرَّجُلِ ، وَهُوَ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ
بِرِدَائِهِ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى أَحَدِ كَتِفَيْهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ
؛
لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ كَحَرٍّ
أَوْ بَرْدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ ، وَالرِّدَاءُ هُوَ السُّنَّةُ ،
وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ دُونَ أَنْ يُغَطِّيَ بِهِ
رَأْسَهُ ، فَإِنْ غَطَّى بِهِ رَأْسَهُ صَارَ قِنَاعًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا
الطَّيْلَسَانُ الْمَعْهُودُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيُكْرَهُ لِمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا
بَأْسَ بِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ هَذَا التَّكَلُّفَ
الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ فِيهِ وَمَا لَمْ يَخْرُجُ
بِهِ إلَى حَدِّ هَذَا الْكِبَرِ الشَّنِيعِ ، وَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ
أَيْضًا وَالْبَقْيَارُ الَّذِي يُرْسِلُونَهُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ لَا
بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ حَرِيرًا خَالِصًا ، وَلَا
غَالِبُهُ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ إلَى حَدِّ هَذَا الْكِبَرِ وَأَنْ
يَنْظُرَ إلَى عِطْفِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ فَيَعْدِلُهُ ؛ لِأَنَّ
هَذَا إنَّمَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى لِبَاسِهَا
وَزِينَتِهَا وَتَعْدِيلِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ
فَالزِّينَةُ وَالتَّعْدِيلُ لَهَا زِيَادَةٌ لِلرَّجُلِ فِي بَاعِثِ
الشَّهْوَةِ لَهَا ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَيَكْفِيهِ مِنْ
الزِّينَةِ لُبْسُ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ لَا غَيْرُ دُونَ أَنْ
يَخْرُجَ بِهِ إلَى مَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مِنْ الزِّينَةِ
وَالتَّعْدِيلِ الْخَارِجِ عَنْ عَوَائِدِ مَنْ مَضَى مِنْ الرِّجَالِ
أَوْ لُبْسِ حَرِيرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ الْيَوْمَ ، فَتَجِدُ كُمَّ أَحَدِهِمْ لَهُ
سِجَافٌ مِنْ حَرِيرٍ نَحْوُ شِبْرٍ ، وَكَذَلِكَ فِي أَذْيَالِ ثَوْبِهِ
وَذَلِكَ شَرَفٌ وَخُيَلَاءُ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ الْحَرِيرِ فِي
ثَوْبِ الرَّجُلِ الْخَيْطُ الرَّقِيقُ وَذَلِكَ قَدْرُ الْأُصْبُعِ عَلَى
الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْخِلَافُ
مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ إلَى كَمَالِ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ ، وَكَثِيرٌ مِنْ
بَعْضِهِمْ تَجِدُ سَرَاوِيلَهُ قَدْ نَزَلَتْ عَنْ حَدِّ الْكَعْبَيْنِ ،
وَهُوَ مَوْضِعٌ
لِلنَّهْيِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ وَيُوَسِّعُونَ
ذَلِكَ كَثِيرًا وَيَتَّخِذُونَهُ مِنْ أَرْفَعِ الْقُمَاشِ حَتَّى
تَنْكَشِفَ الْعَوْرَةُ بِسَبَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ
لَهُ أَنْ يَتَخَفَّفَ فِي بَيْتِهِ وَخَلْوَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ ،
وَالسَّرَاوِيلُ لَا تَسْتُرُهُ لِرِقَّةِ قُمَاشِهِ فَالْبَشَرَةُ
ظَاهِرَةٌ مِنْ تَحْتِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ يَجْمَعُ رُكْبَتَيْهِ
، وَهُوَ قَاعِدٌ أَوْ اضْطَجَعَ وَرَفَعَ رُكْبَتَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَدْ
تَنْكَشِفُ الْعَوْرَةُ أَيْضًا لَسِعَةِ كُمِّهِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ
مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
الطَّرْزِ فِي أَكْتَافِ ثَوْبِهِ فَتَجِدُهُ يَرْفَعُ الطَّيْلَسَانَ
عَنْ كَتِفَيْهِ وَيُشَمِّرُهُ خِيفَةً عَلَى الطَّرْزِ أَنْ يَتَخَبَّأَ
عَنْ النَّاسِ فَلَا يَرَوْنَهُ ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ النِّسَاءِ
وَزِينَتِهِنَّ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بِهِنَّ .
وَإِنَّمَا أُبِيحَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا نَاقِصَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنَّكُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدَيْنٍ .
فَأُبِيحَ
لَهُنَّ الْحَرِيرُ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ لِنُقْصَانِهِنَّ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ مَحَلُّ الْكَمَالِ
فَقَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَزَيَّنَهُ فَمَا لَهُ وَلِزِينَةِ
النَّاقِصَاتِ ؟ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ مِمَّا ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ
نَقْصٌ مِنْ كَمَالِ زِينَتِهِ الَّتِي زَيَّنَهُ اللَّهُ بِهَا ،
وَأَمَّا الْعَالِمُ فَقَدْ زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالًا عَلَى
كَمَالٍ وَزَيَّنَّهُ وَتَوَّجَهُ بِتَاجِ الرِّيَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
فَمَا لَهُ وَلِلزِّينَةِ وَالرِّيَاسَةِ بِالْقُمَاشِ بَلْ هِيَ عَاهَةٌ
وَآفَةٌ أَتَتْ عَلَى الزِّينَةِ الَّتِي زَيَّنَهُ اللَّهُ بِهَا يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا قَبْلَ
أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا لِذَلِكَ .
وَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا جَرَّتْ إلَيْهِ بِدْعَةُ
هَذِهِ اللِّبْسَةِ الَّتِي جَعَلُوهَا عَلَامَةً عَلَى الْفَقِيهِ كَيْفَ
جَرَّتْ إلَى مُحَرَّمٍ اتِّفَاقًا
، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ
الْمُخَايِلِينَ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ إذَا عَمِلُوا
الْخَيَالَ بِحَضْرَةِ بَعْضِ الْعَوَامّ وَغَيْرِهِمْ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ يُخْرِجُونَ فِي أَثْنَاءِ لَعِبِهِمْ لُعْبَةً
يُسَمُّونَهَا بِأَبَّةِ الْقَاضِي فَيَلْبَسُونَ زِيَّهُ مِنْ كِبَرِ
الْعِمَامَةِ وَسِعَةِ الْأَكْمَامِ وَطُولِهَا وَطُولِ الطَّيْلَسَانِ
فَيَرْقُصُونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَ عَلَيْهِ فَوَاحِشَ كَثِيرَةً
يَنْسِبُونَهَا إلَيْهِ فَيَكْثُرُ ضَحِكُ مَنْ هُنَاكَ وَيَسْخَرُونَ
بِهِ وَيُكْثِرُونَ النُّقُوطَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَوْ
أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ لَسَلِمُوا مِنْ هَذِهِ
الْإِهَانَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، فَإِنَّ الْمُتَّبِعَ
لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَمَاهُ عَنْ
ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْطِنِ سُوءٍ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِيهِ أَحَدٌ لَكَانَ
مُحَارِبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَكَثُرَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَلَى يَدِهِ
وَلَمْ يَتْرُكْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ الْجَنَابُ رَفِيعٌ جِدًّا لَا
يَتَحَمَّلُ الدَّنَسَ ، نَعَمْ إنَّمَا يَحْتَاجُ الْعَالِمُ أَنْ
يَتَزَيَّنَ وَيُزَيِّنَ مَا زَيَّنَهُ اللَّهُ بِهِ بِالزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَإِطْرَاحِهَا وَتَرْكِ الْمُبَاهَاةِ
بِهَا وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِ الْغَلِيظِ وَالْهَرَبِ مِنْ
الدُّنْيَا وَمِنْ زِينَتِهَا وَمِنْ أَبْنَائِهَا مَعَ النَّصِيحَةِ
لَهُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا
وَطَلَبِهَا وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا وَمَحَبَّةِ أَهْلِهَا وَخِدْمَتِهِمْ
وَالنَّصِيحَةِ لَهُمْ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
هَذِهِ
هِيَ زِينَةُ الْعَالِمِ الَّتِي تُزَيِّنُهُ وَتَرْفَعُهُ وَتُعَظِّمُهُ
وَتَزِيدُ رِيَاسَتُهُ بِسَبَبِهَا وَيَرْتَفِعُ قَدْرُهُ وَيَعْلُو
أَمْرُهُ وَيَظْهَرُ عِلْمُهُ وَيَتَمَيَّزُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ مَنْ
يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ بِهِ مَنْ سُلْطَانٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ عَامِّيٍّ .
أَلَا
تَرَى إلَى مَا يُحْكَى عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَيْبَةِ
الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ
وَالْعَوَامِّ لَهُ مَعَ جُلُوسِهِ
فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مَرَّةً بِكُلُوثَةٍ عَلَى رَأْسِهِ وَمَرَّةً
بِقَبَاءٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حُكِيَ عَنْهُ فَلَمْ يَزِدْهُ
ذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً وَعِزًّا لِاتِّصَافِهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
مِنْ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْوَقْتِ مِنْ
اسْتِبَاحَةِ مَا يَلْبَسُونَهُ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ أَنَّ ذَلِكَ
بِفَتْوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى فَتْوَاهُ
فَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ وَخَطَأٌ صُرَاحٌ وَوُقُوعٌ فِي حَقِّهِ بِمَا لَا
يَنْبَغِي وَادِّعَاءٌ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَا يُجِيزُهُ ، وَلَا يَرْضَاهُ
لِنَفْسِهِ ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانه الْمُسْلِمِينَ يُبَيِّنُ
ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ جَوَابٌ فِي فَتَاوِيهِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ : هَلْ فِي
لُبْسِ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُوَسَّعَةِ الْأَرْدَانِ وَالْعَمَائِمِ
الْكَبِيرَةِ بَأْسٌ أَوْ بِدْعَةٌ تَسْتَعْقِبُ تَوْبِيخًا فِي
الْقِيَامَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْسِينِ الْخِيَاطَةِ وَالَزِيقِ
وَالتَّضْرِيبِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْوَرَعِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا هَذَا نَصُّهُ : الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ
يَقْتَدِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الِاقْتِصَادِ فِي اللِّبَاسِ ، وَإِفْرَاطُ تَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ
وَالثِّيَابِ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ ، وَلَا تُجَاوِزُ
الثِّيَابُ الْأَعْقَابَ فَمَا زَادَ عَلَى الْأَعْقَابِ فَفِي النَّارِ ،
وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ
لِيُعْرَفُوا بِذَلِكَ فَيُسْأَلُوا ، فَإِنِّي كُنْتُ مُحْرِمًا
فَأَنْكَرْتُ عَلَى جَمَاعَةِ مِنْ الْمُحْرِمِينَ لَا يَعْرِفُونَنِي مَا
أَخَلُّوا بِهِ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ فَلَمْ يَقْبَلُوا ، فَلَمَّا
لَبِسْت ثِيَابَ الْفُقَهَاءِ وَأَنْكَرْت عَلَى الطَّائِفِينَ مَا
أَخَلُّوا بِهِ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا ، فَإِنَّ
لُبْسَ شِعَارِ الْفُقَهَاءِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ فِيهِ أَجْرٌ
؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَالِانْتِهَاءِ
عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي
تَحْسِينِ
الْخِيَاطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمِنْ فِعْلِ أَهْلِ الرُّعُونَةِ
وَالِالْتِفَاتِ إلَى الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ
بِأُولِي الْأَلْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى .
فَانْظُرْ
رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ فِي جَوَابِ هَذَا
الْعَالِمِ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ يُبِيحُ مَا ذَكَرُوهُ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
يُفْهَمَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قَدَّمَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ بِأَنْ قَالَ عَنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ
وَسَرَفٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ فَبَعْدَ أَنْ قَعَّدَ هَذِهِ
الْقَاعِدَةَ وَصَرَّحَ بِهَا حِينَئِذٍ قَالَ : وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ
شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لِيُعْرَفُوا بِذَلِكَ
فَتَحَفَّظَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْبِدْعَةِ وَالسَّرَفِ وَإِضَاعَةِ
الْمَالِ ، ثُمَّ تَحَفَّظَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ : الْعُلَمَاءُ مِنْ
أَهْلِ الدِّينِ فَلَوْ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَكَتَ لَكَانَ
لِلْمُنَازِعِ فِيهِ طَرِيقٌ مَا إلَى الْمَيْلِ إلَى غَرَضِهِ الْخَسِيسِ
، فَلَمَّا أَنْ وَصَفَ الْعُلَمَاءَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ
أَزَالَ الِاحْتِمَالَ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إذَا كَانَ
ذَا دِينٍ لَمْ يُسَامِحْ نَفْسَهُ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ
الْمَكْرُوهَاتِ ، وَلَا فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى
مَا قَدْ عُلِمَ وَاسْتَقَرَّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ سَلَفًا وَخَلْفًا
نَقْلًا عَمَّنْ مَضَى وَمُبَاشَرَةً فِيمَنْ يُبَاشِرُهُ مِنْهُمْ
وَيُعَايِنُهُ ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ
عَلَى مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ يَرْتَكِبُونَ الْمُحَرَّمَ الْمَمْنُوعَ
فِعْلُهُ ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ إضَاعَةَ
الْمَالِ وَالسَّرَفَ مَمْنُوعَانِ مُحَرَّمَانِ لَا قَائِلَ مِنْهُمْ
بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَأْتِي الْعَالِمُ الدَّيِّنُ يَقَعُ فِي
مُحَرَّمَاتٍ ثَلَاثٍ ، وَهِيَ الْبِدْعَةُ وَالسَّرَفُ وَإِضَاعَةُ
الْمَالِ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ لِأَحَدٍ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ
أَحْوَالِنَا أَنَّ لُبْسَنَا تِلْكَ الثِّيَابِ وَتَعَلُّقَنَا
بِقَوْلِهِ : وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ
الدِّينِ ، وَرَأَيْنَا بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ الْيَوْمَ
إلَى
الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَلْبَسُ تِلْكَ الثِّيَابَ فَقُلْنَا هَذِهِ تِلْكَ
الثِّيَابُ جَهْلًا مِنَّا بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَصِفَتِهِمْ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى حَالِ مَنْ
تَعَلَّقُوا بِفَتْوَاهُ وَمَا جَرَى لَهُ حِينَ سَأَلَهُ السَّائِلُ
فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ شَيْءٌ فَقَطَعَ نِصْفَ عِمَامَتِهِ
وَدَفَعَهَا لَهُ ، ثُمَّ مَرَّ وَسَأَلَهُ آخَرُ فَأَعْطَاهُ النِّصْفَ
الْآخَرَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ خُذْ عِمَامَتِي فَأَبَى
عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي أَتَمْشِي هَكَذَا بَيْنَ النَّاسِ
مَكْشُوفَ الرَّأْسِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا وَمَشَى
لِسَبِيلِهِ وَشَقَّ الطَّرِيقَ مِنْ بَابِ زُوَيْلَةَ إلَى مَا بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ ، وَالنَّاسُ يَتَزَاحَمُونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَفْتُونَهُ
وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ ، فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ فِي الْمَدْرَسَةِ قَالَ
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْعِمَامَةَ لِمَنْ جَاءَ النَّاسُ
يَسْتَفْتُونَ إلَيْكَ أَوْ إلَيَّ أَوْ كَمَا قَالَ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ
بِمَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا اسْتَبَاحُوهُ
فِي هَذَا الْوَقْتِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا شَابَهَهُ قَالَ
رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا لِوَضْعِهِمْ الْأَسْمَاءَ عَلَى غَيْرِ
مُسَمَّيَاتٍ ؛ لِأَنَّ لِبَاسَ الْعُلَمَاءِ كَانَ عَلَى وَجْهٍ
مَعْرُوفٍ فِيمَنْ مَضَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ
تَغَيَّرَ ذَلِكَ وَصَارَ لِبَاسُهُمْ الْيَوْمَ عَلَى مَا يُعْهَدُ ،
فَجَاءَ هَذَا الْعَالِمُ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ
الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَظَنَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْمَقَالَ
أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْمَذْكُورُونَ وَأَنَّ هَذِهِ
الثِّيَابَ هِيَ الْمُرَادُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ
مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلِبَاسِهِمْ ، وَمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ
مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَوَقَعَ الِاسْمُ عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى فَوَقَعَ
مَا وَقَعَ بِسَبَبِ وَضْعِ الْأَسْمَاءِ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى قَوْلِهِ فِي تَحْسِينِ الْخِيَاطَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ
أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الرُّعُونَةِ وَالِالْتِفَاتِ إلَى
الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ مَعَ أَنَّ تَحْسِينَ الْخِيَاطَةِ لَيْسَ
فِيهِ خَطَرٌ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مَا
ذَكَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُحَرَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يُبِيحُهُ
أَوْ يَسْتَحِبُّهُ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ
بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ ، وَلَا يُتَعَقَّلُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ ،
وَاَلَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَشَنَّعَ أَمْرَهُ
وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ تَحْسِينُ الْخِيَاطَةِ فَكَيْفَ
بِهِ الْيَوْمَ تَرَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَزْيَاقَ وَهَذِهِ
التَّضَارِيبَ وَهَذِهِ السَّجَفَ الَّتِي رَجَعَتْ الْيَوْمَ كُلُّهَا
حَرِيرًا الْخِرْقَةُ وَالْخَيْطُ مَعًا فَبَانَ وَاتَّضَحَ بُطْلَانُ مَا
نَسَبُوهُ إلَى هَذَا الْإِمَامِ إنْ كَانَ تَعَلُّقُهُمْ بِفَتْوَاهُ
وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهُمْ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ، فَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ .
وَإِنْ
وُجِدَ هَذَا فَمَحْمُولٌ عَلَى الثَّوْبِ النَّقِيِّ النَّظِيفِ
الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ، وَلَا مَكْرُوهٍ ؛ لِأَنَّ
مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا يُنْقَلُ
عَنْهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ لَيْسَ إلَّا ، وَمَنْ لَمْ
تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ فَلَا سَبِيلَ أَنْ يُرْجَعَ إلَى نَقْلِهِ ؛
لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الدِّينِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ قَوَاعِدُ
الشَّرِيعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَعُرِفَتْ فَأَيُّ مَنْ خَالَفَهَا
عُرِفَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ
حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْحَافِظِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا اللِّبَاسِ أَشْيَاءُ
كَثِيرَةٌ لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ لَكِنْ نُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا
لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا ، فَمِنْهَا مَا ذُكِرَ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِهِ يُغْسَلُ لَهُ ثَوْبُهُ وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا
يَلْبَسُهُ فَلَبِسَ ثَوْبَ زَوْجَتِهِ وَجَلَسَ يَشْغَلُ وَلَدَهُ حَتَّى
تَفْرُغَ أُمُّهُ مِنْ غَسْلِهِ ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى خَبْزِ الْعَجِينِ
فِي الْفُرْنِ فَأَخَذَ الطَّبَقَ عَلَى يَدِهِ وَالْوَلَدَ عَلَى
ذِرَاعِهِ الْآخَرِ وَخَرَجَ لَأَنْ يَخْبِزَ ، وَإِذَا بِامْرَأَةٍ
عَجُوزٍ لَقِيَتْهُ فَطَلَبَتْ مِنْهُ أَدَاءَ شَهَادَةٍ عِنْدَ
الْحَاكِمِ فَذَهَبَ مَعَهَا فِي الْوَقْتِ ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ
الْحَالَةِ وَالْعَجِينُ عَلَى يَدِهِ وَوَلَدُهُ عَلَى ذِرَاعِهِ حَتَّى
جَاءَ إلَى الْقَاضِي وَجَمَاعَةُ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فَأَدَّى
الشَّهَادَةَ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي : وَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ تَأْتِيَ
عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَالَ لَهُ : غَسَلْت ثَوْبِي وَلَمْ أَجِدْ
شَيْئًا أَلْبَسُهُ فَلَبِسْت ثَوْبَ الزَّوْجَةِ وَكُنْت أَشْغَلُ
الْوَلَدَ عَنْ أُمِّهِ ، ثُمَّ احْتَجْتُ إلَى الْخُبْزِ فَخَرَجَتْ
لِأَخْبِزَ فَلَقِيَتْنِي هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَطَلَبَتْ مِنِّي أَدَاءَ
الشَّهَادَةِ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيَّ فَخِفْت أَنَّهُ لَا يَطُولُ
الْعُمُرُ فَبَادَرْت إلَى خَلَاصِ الذِّمَّةِ ، وَبَعْدَهَا أُدْرِكُ
قَضَاءَ حَاجَتِي فَرَدَّ الْقَاضِي رَأْسَهُ إلَى الْعُدُولِ فَقَالَ
لَهُمْ : أَفِيكُمْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا فَقَالُوا :
لَا فَقَالَ : وَأَيْنَ الْعَدَالَةُ .
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ
الْعُلَمَاءِ مُتَقَدِّمِهِمْ وَمُتَأَخِّرِهِمْ مِنْ أَنَّ عُلَمَاءَ
الْمَغْرِبِ إلَى الْآنَ لَا يَعْرِفُونَ ثِيَابَ الدُّرُوسِ ، وَلَا
يَعْرُجُونَ عَلَيْهَا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقَّى مِنْ الْأَمْرِ
بَقِيَّةً تُعَرِّفُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ الْعَالِمَ الْكَبِيرَ
الْمَرْجُوعَ إلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَالْمُقَلَّدَ فِي النَّوَازِلِ
الَّذِي يَحْضُرُ عِنْدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ إذَا
قَعَدَ لِأَخْذِ
الدُّرُوسِ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِهِمْ بَلْ هُوَ
أَقَلُّهُمْ لِبَاسًا ؛ لِأَنَّهُ أَزْهَدُهُمْ وَأَوْرَعُهُمْ فَهُوَ
أَقَلُّهُمْ تَكَلُّفًا مِنْ الدُّنْيَا وَرُبَّمَا يَخْرُجُ لِلسُّوقِ
لِشِرَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَّخِذُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ خَادِمًا ، وَلَا يَشْتَرُونَ عَبْدًا ، وَلَا
يَتَّخِذُونَ مَرْكُوبًا بَلْ يَحْمِلُ أَحَدُهُمْ حَاجَتَهُ بِيَدِهِ
وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِي يَدِهِ الْخُضْرَةُ وَالْكَانُونُ وَاللَّحْمُ
وَالْعَجِينُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا أَتَاهُ الْقَاضِي
بِجَمَاعَتِهِ لِيَسْتَفْتِيَهُ فِي بَعْضِ النَّوَازِلِ ، وَهُوَ عَلَى
تِلْكَ الْحَالَةِ فِي السُّوقِ فَيَقِفُ مَعَهُمْ وَيُفْتِيهِمْ ، وَهُوَ
عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ وَيَمُرُّ هُوَ إلَى
بَيْتِهِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَجْسُرُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِهِ
شَيْئًا أَوْ يَمْشِيَ مَعَهُ اتِّقَاءً عَلَى خَاطِرِهِ وَعَمَلًا عَلَى
مَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمْ ، وَإِذَا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ مِنْ
الدَّرْسِ خَرَجَ وَحْدَهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَنْ يَتْبَعُهُ اتِّقَاءً
عَلَى خَاطِرِهِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ
رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ أَخْذِ الدُّرُوسِ وَوَجَدَ عِنْدَ
بَابِ الْمَسْجِدِ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ يَنْتَظِرُونَهُ يَسْأَلُهُمْ مَا
تُرِيدُونَ ، فَإِنْ أَخْبَرُوهُ أَجَابَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
حَاجَةٌ يَسْأَلُهُمْ أَيَّ طَرِيقٍ تُرِيدُونَ فَيُخْبِرُونَهُ
بِالطَّرِيقِ الَّتِي يُرِيدُهَا هُوَ لِكَيْ يَمْشُوا مَعَهُ فَيَقُولُ
هُوَ : أَنَا أَمْضِي مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي
يُرِيدُونَهَا فَيُبْعِدُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّرِيقَ .
وَكَذَلِكَ إنْ
كَانَ مَارًّا بِالطَّرِيقِ فَلَقِيَهُ أَحَدٌ فَسَأَلَهُ وَقَفَ مَعَهُ
حَتَّى يُجِيبَهُ ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ
سَأَلَهُ أَيَّ طَرِيقٍ تُرِيدُ فَيَقُولُ لَهُ الشَّخْصُ هَذِهِ
الطَّرِيقَ لِلطَّرِيقِ الَّتِي يَرَى الشَّيْخُ مَارًّا إلَيْهَا
فَيَقُولُ هُوَ : وَأَنَا أُرِيدُ هَذِهِ الطَّرِيقَ لِطَرِيقٍ غَيْرِ
تِلْكَ وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَتَى مِنْهَا
وَيُبْعِدُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنْ يُوطَأَ عَقِبَهُ أَوْ يُقَالُ عَنْهُ .
وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ
وَالدَّرْسِ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ اللِّبَاسِ ، وَلَا يَقْصِدُ لِذَلِكَ
لِبَاسًا مُعَيَّنًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ
وَكَانَ يَخْرُجُ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ بِقَمِيصٍ خَامٍ غَلِيظٍ يَصِلُ
إلَى نِصْفِ سَاقِهِ أَوْ نَحْوِهِ وَلِبَاسٍ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَعَلَى
رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ طَاقٌ وَاحِدٌ وَمِنْدِيلٌ أَوْ خِرْقَةٌ يَجْعَلُهَا
عَلَى أَكْتَافِهِ حِينَ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ يُزِيلُهَا إذَا فَرَغَ
مِنْهَا وَيَجْعَلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ
الشِّتَاءِ زَادَ عَلَى ذَلِكَ دَلَقًا وَاحِدًا غَلِيظًا وَفُوطَةً
تُسَاوِي سَبْعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ نَحْوَهَا وَعِمَامَةً خَمْسَ طَيَّاتٍ
أَوْ نَحْوَهَا ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْرُجُ يَمْلَأُ الْمَاءَ
مِنْ الْبَحْرِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إلَى بَيْتِهِ ، فَإِنْ
لَقِيَهُ أَحَدٌ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ
إلَّا أَنْ يَحْلِفَ فَيَبَرُّ قَسَمَهُ ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ عَكْسُ
هَذَا سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ نَلْبَسُ هَذِهِ الْخِلَعَ الْمُتَقَدِّمَ
ذِكْرُهَا لَعَلَّ أَنْ نُنْسَبَ بِسَبَبِهَا إلَى الْعُلَمَاءِ ،
وَلَعَلَّ أَنْ يُسْمَعَ مِنَّا وَيُرْجَعَ إلَيْنَا فِي حُظُوظِ
أَنْفُسِنَا ، وَأَمَّا أَخْذُ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَّا
وَالِاقْتِدَاءُ بِنَا فِي الْخَيْرِ فَبَعِيدٌ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك
، وَإِنْ وَطِئَ أَحَدٌ عَقِبَنَا وَمَشَى مَعَنَا نَرَى لَهُ تِلْكَ
الْحُرْمَةَ وَنَنْظُرُ لَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ بِتَنْزِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ
مِنْ الْمَنَافِعِ ، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ مِنَّا
وَالْحَظْوَةُ وَإِيثَارُ الظُّهُورِ عَلَى الْخُمُولِ وَمَحَبَّةُ
الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالْجَاهِ وَمَا فَعَلْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُذْهِبُ
ذَلِكَ كُلَّهُ عَنَّا وَيَأْتِي بِضِدِّهِ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ
فِي الْأَثَرِ مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَبِرَأْسِهِ حَكَمَةٌ مِثْلُ
حَكَمَةِ الدَّابَّةِ بِيَدِ مَلَكٍ ، فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ
الْمَلَكُ وَقَالَ لَهُ : ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ وَإِنْ ارْتَفَعَ
ضَرَبَهُ الْمَلَكُ وَقَالَ لَهُ اتَّضِعْ وَضَعَكَ
اللَّهُ .
أَوْ
كَمَا قَالَ مَعَ أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يُزَيِّنُهُ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مَعَ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ بِمَعْرِفَةِ مَذَاهِبِ النَّاسِ
وَاخْتِلَافِهِمْ وَالْمُشَارَكَةِ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ وَاللِّبَاسِ
الْحَسَنِ عَلَى زِيِّ مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي
الْعِلْمِ بَلْ يُزِيلُ بَهْجَتَهُ وَيَكُونُ سَبَبًا إلَى ضِدِّ مَا
يُوَرِّثُهُ الْعِلْمُ مِنْ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ وَالسُّكُونِ ،
وَلَوْ كَانَتْ الزِّينَةُ تَزِيدُ فِي الْعِلْمِ شَيْئًا لَمْ يَجْرِ
عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا جَرَى لِأَجْلِ
حُسْنِ وَجْهِهِ الَّذِي هُوَ خِلْقَةٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَا
مُسْتَعَارَةٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَلَدِ
آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَلُ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سُجِنَ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ
حُسْنِ وَجْهِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَفَ عَلَى بَرَاءَتِهِ بِالشَّاهِدِ
الَّذِي أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِتَصْدِيقِهِ وَبَيَانِ بَرَاءَتِهِ ،
وَبَعْدَ إقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي
رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فَحُبِسَ بَعْد ذَلِكَ كُلِّهِ
لِحُسْنِ وَجْهِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ
بَعْدِ مَا رَأَوْا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ فَدَلَّ
قَوْله تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ سُجِنَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ لِعِلَّةِ حُسْنِ
وَجْهِهِ وَلِيُغَيِّبُوهُ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَطَالَ فِي
السِّجْنِ حَبْسُهُ حَتَّى إذَا عَبَّرَ الرُّؤْيَا وَقَفَ الْمَلِكُ
عَلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَاشْتَاقَ إلَيْهِ وَرَغِبَ فِي
صُحْبَتِهِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمَلِكِ
عِنْدَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ يُوسُفَ وَمَعْرِفَتِهِ قَبْلَ
أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ
كَلَامَهُ وَحُسْنَ عِبَارَتِهِ صَيَّرَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ
وَفَوَّضَ إلَيْهِ الْأُمُورَ فَتَبَرَّأَ مِنْهَا وَصَارَ يُعِينُ
الْمَلِكَ كَأَنَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ ،
فَكَانَ هَذَا الَّذِي
بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ لَا
بِحُسْنِهِ وَلَا بِجَمَالِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا
كَلَّمَهُ قَالَ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَلَمْ
يَقُلْ إنِّي حَسَنٌ جَمِيلٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ
فَوَاَللَّهِ مَا يُبَالِي الْمَرْءُ عَلَى هَذَا بِحُسْنِ وَجْهِهِ أَوْ
قُبْحِهِ ، وَلَا بِحُسْنِ ثَوْبِهِ وَكُمِّهِ كَانَ مَا كَانَ لَا
مَنْفَعَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَشِينُهُ عَدَمُ
عِلْمِهِ وَسُوءُ فَهْمِهِ ، وَاَلَّذِي يُزَيِّنُهُ كَثْرَةُ عِلْمِهِ
وَجَوْدَةُ فَهْمِهِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ
اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أَنَّهُ
كَانَ لَهُ لِبَاسٌ خَاصٌّ لَا يَلْبَسُ إلَّا إيَّاهُ بَلْ كَانَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَلْبَسُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَتَكَلَّفَ فَكَانَ يَخْرُجُ بِالْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ
وَالرِّدَاءِ وَرُبَّمَا خَرَجَ بِالْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ دُونَ
الرِّدَاءِ وَرُبَّمَا خَرَجَ بِالْقَلَنْسُوَةِ دُونَ الْعِمَامَةِ
وَالرِّدَاءِ وَرُبَّمَا خَرَجَ عُرْيًا مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى مَا
نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ .
قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقَلَانِسُ مَا كَانَ لَهَا
ارْتِفَاعٌ فِي الرَّأْسِ عَلَى أَيِّ شَكْلٍ كَانَتْ انْتَهَى ، وَقَدْ
لَبِسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَبَاءَ وَالضَّيِّقَ مِنْ
الثِّيَابِ وَالْوَاسِعَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،
وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ صِفَةُ هَذِهِ الثِّيَابِ الَّتِي فِي
وَقْتِنَا هَذَا ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُطَالَبُ بِالِاتِّبَاعِ
وَالِاقْتِدَاءِ وَالْفَضَائِلِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِنْ النَّقْصِ شَيْءٌ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الثِّيَابِ لَا يَتَّصِفُ
بِالتَّوَاضُعِ
غَالِبًا ، وَالتَّوَاضُعُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ
يَزْعُمُ فِي نَفْسِهِ التَّوَاضُعَ ، فَالتَّوَاضُعُ فِي النَّفْسِ
دَعْوَى بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ
التَّوَاضُعَ لَظَهَرَ فِي اتِّبَاعِهِ لِسَلَفِهِ فِي اللُّبْسِ
وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُ ذَلِكَ مِنْهُ حُرْمَةً لِلْعِلْمِ لَيْسَ
إلَّا ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ حُرْمَةَ الْعِلْمِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِتِلْكَ
الْخِلْعَةِ فَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ
وَيَسْتَغْفِرَ وَيَعْتَرِفَ بِخَطَئِهِ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ
ازْدِرَاءٌ بِالْمَاضِينَ إذْ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَصْلًا
فَيَكُونُ هُوَ أَعْرَفُ مِنْهُمْ بِإِقَامَةِ حُرْمَةِ الْعِلْمِ وَهُمْ
لَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُقِيمُونَ حُرْمَتَهُ فَيَكُونُ هُوَ أَعْرَفَ
مِنْ سَلَفِهِ وَأَفْضَلَ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى هَذِهِ
الْمَفْسَدَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَذَا اللِّبَاسِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى
حِرْمَانِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ فَلَقَدْ رَأَيْت وَبَاشَرْت مَنْ لَهُ
أَوْلَادٌ يُرِيدُ أَنْ يُشْغِلَهُمْ بِالْعِلْمِ فَيُمْتَنَعُ عَلَيْهِ
ذَلِكَ لِأَجْلِ قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحَصِّلَ
لِأَحَدِهِمْ تِلْكَ الثِّيَابَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا ، وَلَا
يَقْدِرُ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْعِلْمِ بِغَيْرِهَا
فَتَرَكُوا تَعَلُّمَ الْعِلْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ
الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ إذْ أَنَّ الْعِلْمَ
بِهِ يُخَالَفُ إبْلِيسُ وَبِتَرْكِهِ يُطَاعُ ، فَأَيُّ مَفْسَدَةٍ
أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ فَتَنَبَّهْ لَهَا ، وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ
الْوُقُوعُ فِيمَا وَقَعْنَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ
إذْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنَا عِلْمٌ وَفَهْمٌ لَعَرَفْنَا أَنَّ
الْفَضَائِلَ وَالْخَيْرَاتِ لِمَنْ تَقَدَّمَ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا
يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِاتِّبَاعِهِمْ فَإِذَا خَالَفْنَاهُمْ فَمَا
يَحْصُلُ لَنَا إلَّا النَّقْصُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ .
قَالَ ابْنُ
رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ الْعِلْمُ أَوَّلًا فِي صُدُورِ
الرِّجَالِ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى جُلُودِ الضَّأْنِ وَبَقِيَتْ
مَفَاتِحُهُ فِي صُدُورِ
الرِّجَالِ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : وَقَدْ قَلَّتْ الْمَفَاتِيحُ
وَإِنْ وُجِدَ مِفْتَاحٌ فَقَلَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمًا انْتَهَى .
وَأَمَّا
الْآنَ فَقَدْ عُدِمَتْ الْمَفَاتِيحُ فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ صَارَتْ
الْعُلُومُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِحُسْنِ الثِّيَابِ وَطُولِهَا وَوُسْعِهَا
.
وَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي
تَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا اللِّبَاسِ مَا أَشْنَعَهَا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ
كَانَ مُصَانًا مُرَفَّعًا مُعَظَّمًا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ إلَّا
أَهْلُهُ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ لَبِسُوا لَهُ خِلْعَةً
يَخْتَصُّ بِهَا بَقِيَ يَدَّعِيهِ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بَلْ
مَغْمُوسٌ فِي الْجَهْلِ وَاخْتَلَطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَالِمُ
مَعَ الْعَامِّيِّ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَقَدْ قِيلَ
لِبَعْضِ عُدُولِ هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُورِينَ تَيَمَّمَ عَنْ جُرْحٍ
أَصَابَ يَدَهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى مَذْهَبِ
إمَامِهِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَسَحَ أُصْبُعَ الْجَرِيحِ
فِي حَائِطٍ وَقَالَ هَذَا التَّيَمُّمُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ مَا قَالَ
فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ : وَيَتَيَمَّمُ عَنْ الْجَرِيحِ أَنَّ ذَلِكَ
هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّيَمُّمِ عَنْهُ فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ فِي هَدْيِ الْعَالِمِ وَسَمْتِهِ
وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَتَقَشُّفِهِ وَخَوْفِهِ وَقَلَقِهِ وَهَرَبِهِ
وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَأَبْنَائِهَا وَحُسْنِ مَنْطِقِهِ
وَعُذُوبَةِ عِبَارَتِهِ وَوُقُوفِهِ عَلَى بَابِ رَبِّهِ وَدَعْوَى
النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَتَوَاضُعِهِ وَإِشْفَاقِهِ عَالِمًا بِأَهْلِ
زَمَانِهِ مُتَحَفِّظًا مِنْ سُلْطَانِهِ سَاعِيًا فِي خَلَاصِ نَفْسِهِ
وَنَجَاةِ مُهْجَتِهِ مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
مِنْ عَرَضِ دُنْيَاهُ مُجَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ
وَيَكُونُ أَهَمُّ أُمُورِهِ عِنْدَهُ الْوَرَعَ فِي دِينِهِ
وَاسْتِعْمَالَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُرَاقَبَتَهُ فِيمَا أَمَرَهُ
بِهِ وَنَهَاهُ عِنْدَهُ ، فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَعْضِ هَذَا
لَحُفِظَ بِهِمْ الْعِلْمُ وَتَمَيَّزَ أَهْلُهُ
مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَكِنْ خَلَطُوا فَتَخَلَّطَ الْأَمْرُ وَانْدَرَسَ وَصَارَ لَا يُعْرَفُ الْعَالِمُ مِنْ الْعَامِّيِّ لِتَقَارُبِ النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ وَالْحَالِ ، فَتَجِدُ لِبَاسَ بَعْضِ الْعَوَامّ كَلِبَاسِ الْعَالَمِ لِيُدْخِلَ نَفْسَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَعْرِفُهُ .
وَتَجِدُ تَصَرُّفَ الْعَالِمِ
فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَتَصَرُّفِ الْعَامِّيِّ
الَّذِي لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا
يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِنْ الْجَائِزِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَمْنُوعِ إنَّمَا
هُوَ فِي الدُّرُوسِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ لَيْسَ إلَّا ، وَأَمَّا
عِنْدَ التَّصَرُّفِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ فَقَلَّ أَنْ
تَجِدَ إذْ ذَاكَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ يَقُومُ بِشَيْءٍ
مِمَّا ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ فِي دَرْسِهِ ، فَالْعَارِفُ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ الْيَوْمَ بِمَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمَاهِرُ فِيهِ إنَّمَا
هُوَ بِاللِّسَانِ دُونَ التَّصَرُّفِ أَعْنِي فِي الْغَالِبِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقْعُدُ يَبْحَثُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ
الْبُيُوعِ وَيُحَرِّرُ فِيهَا النَّقْلَ عَنْ الْعُلَمَاءِ بِالْمَنْعِ
أَوْ الْكَرَاهَةِ وَيَنْفُضُ تِلْكَ الْأَكْمَامَ إذْ ذَاكَ وَيَضْرِبُ
عَلَى الْحَصِيرِ وَيُقِيمُ الْغَبَرَةَ الَّتِي تَحْتَهُ ، ثُمَّ يَقُومُ
مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ فَيُرْسِلُ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ
الْعَبْدَ الصَّغِيرَ وَالصَّبِيَّ الصَّغِيرَ وَالْمَرْأَةَ وَمَنْ لَا
يَعْرِفُ شَيْئًا وَلَا قَرَأَ ، وَفِي السُّوقِ مَا يَعْلَمُ مِنْ
الْعَوَامّ الْجَهَلَةِ بِمَا يَلْزَمُهُمْ فِي سِلَعِهِمْ مِنْ
الْأَحْكَامِ وَمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَمِنْ أَيْنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ
الْمَفَاسِدُ وَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الرِّبَا فَيَقَعُ
الْبَيْعُ مِنْ جَاهِلٍ وَالشِّرَاءُ مِنْ مِثْلِهِ .
هَذَا هُوَ حَالُ
بَعْضِهِمْ وَإِلَّا فَالْغَالِبُ مِنْهُمْ يُبَاشِرُونَ شِرَاءَ
حَوَائِجِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَلَا يَعْرُجُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا
ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كَوْنِهِ لَا يُجِيزُ الْبَيْعَ إلَّا بِالْإِيجَابِ
وَالْقَبُولِ ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَيْنَهُمْ فِي الْغَالِبِ بَلْ
مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مَعْدُومٌ بَيْنَهُمْ ،
وَهُوَ قَرِيبٌ ؛ لِأَنَّهُ يُجِيزُ إذَا عُدِمَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ
مَا شَارَكَهُمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَى الْبَاطِنِيِّ مِنْ
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَتَكْفِي الْمُعَاطَاةُ ، وَهُوَ
أَنْ
تُعْطِيَهُ وَيُعْطِيَكَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ مَذْكُورٍ فِي كُتُبِهِمْ .
وَكَذَلِكَ
بَيْعُ الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِرْسَالِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا ،
وَهُوَ أَنْ تَقُولَ لَهُ بِعْنِي كَيْفَ بِعْت فَهَذَانِ وَجْهَانِ
سَهْلَانِ قَرِيبَانِ وَمَعَ هَذَا التَّسَاهُلِ وَالتَّرْخِيصِ
فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ عَلَى مَا يُشَاهَدُ مِنْ بَعْضِهِمْ
مُبَاشَرَةً مِنْ شِرَاءِ حَوَائِجِهِمْ عَلَى يَدِ الْعَبْدِ
وَالصَّبِيِّ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ ، وَفِي السُّوقِ أَيْضًا مِثْلُهُمْ
مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَدْ يَخْرِقُونَ الْإِجْمَاعَ
بِسَبَبِ التَّعَاطِي فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إنْ كَانُوا
اكْتَسَبُوهُ أَوَّلًا مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الْحَرَامِ
الْبَيِّنِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْكَسْبُ أَيْضًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ
الْمَفَاسِدِ فَقُبْحٌ عَلَى قُبْحٍ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ حُبُّ
الرِّيَاسَةِ وَالْحَيَاءُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَرَوْهُ يَبِيعُ
وَيَشْتَرِي وَيَحْمِلُ الْحَاجَةَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَضْعًا
مِنْ حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِهِ .
وَأَمَّا دُخُولُ
الْأَسْوَاقِ وَشِرَاءُ الْحَاجَةِ بِالْيَدِ وَمُبَاشَرَتُهَا فَهِيَ
السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا فَبَقِيَتْ عِنْدَهُمْ
الْيَوْمَ كَأَنَّهَا عَيْبٌ كَمَا صَارَ الثَّوْبُ الشَّرْعِيُّ
عِنْدَهُمْ عَيْبًا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثِيَابِهِمْ وَخِلَعِهِمْ
أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ الْبَلَاءِ بِمَنِّهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ
فِيهَا وُجُوهٌ مِنْ الْحِكْمَةِ عَدِيدَةٌ ، مِنْهَا التَّوَاضُعُ ،
وَمِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ ،
وَمِنْهَا لِقَاءُ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمُبَاشَرَتُهُمْ
وَاغْتِنَامُ بَرَكَةُ بَعْضِهِمْ وَإِرْشَادُ الْبَاقِينَ ، وَمِنْهَا
النَّظَرُ فِي تَصْفِيَةِ الْغِذَاءِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الرِّبَا
وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ وَمَا لَا يَنْبَغِي ، وَمِنْهَا ذِكْرُ
اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ سِيَّمَا فِي وَقْتِنَا هَذَا
لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي نِيَّةِ
الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ وَعَدَدِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَضْرِبُ بِالدُّرَّةِ مَنْ يَقْعُدُ فِي السُّوقِ ، وَهُوَ لَا
يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ وَيَقُولُ : لَا يَقْعُدُ فِي سُوقِنَا مَنْ لَا
يَعْرِفُ الرِّبَا أَوْ كَمَا كَانَ يَقُولُ .
وَقَدْ أَمَرَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِقَامَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ مِنْ
السُّوقَةِ لِئَلَّا يُطْعِمَ النَّاسَ الرِّبَا .
سَمِعْت سَيِّدِي
أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَدْرَكَ
بِالْمَغْرِبِ الْمُحْتَسِبَ يَمْشِي عَلَى الْأَسْوَاقِ وَيَقِفُ عَلَى
كُلِّ دُكَّانٍ فَيَسْأَلُ صَاحِبَ الدُّكَّانِ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي
تَلْزَمُهُ فِي سِلَعِهِ وَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّبَا فِيهَا
وَكَيْفَ يَتَحَرَّزُ عَنْهَا ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَبْقَاهُ فِي
الدُّكَّانِ وَإِنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَهُ مِنْ
الدُّكَّانِ ، وَيَقُولُ : لَا نُمَكِّنُك أَنَّك تَقْعُدُ بِسُوقِ
الْمُسْلِمِينَ تُطْعِمُ النَّاسَ الرِّبَا أَوْ مَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى
.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ
يُكْرَهُ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِجِدَارِ صَيْرَفِيٍّ مَعَ أَنَّ الْأَحْكَامَ
كَانَتْ إذْ ذَاكَ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَحْكَامِ
فَعَلَى هَذَا الْفَتْوَى الْيَوْمَ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ
غَالِبًا لِلْجَهْلِ بِالْأَحْكَامِ ، وَتَصَرُّفُ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي بِمَا لَا يَنْبَغِي فِي جُلِّ الْبِيَاعَاتِ فَالْحُكْمُ
فِي الْجَمِيعِ الْيَوْمَ حُكْمُ الصَّيْرَفِيِّ إذْ ذَاكَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا كَيْفَ كَانَ
الْعَوَامُّ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنَّا وَكَيْفَ حَالُ
الْعُلَمَاءِ الْيَوْمَ وَمَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ أَمْرٌ طَائِلٌ ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
سُنَّةٌ فِيهَا
وُجُوهٌ مِنْ الْحِكَمِ عَدِيدَةٌ صَارَ الْعَالِمُ مِنَّا يَسْتَحِي مِنْ
فِعْلِهَا وَيَحْتَشِمُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا ، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ
الرُّجُوعُ إلَى الْعَوَائِدِ فِي التَّصَرُّفِ وَالْمَلْبَسِ وَتَرْكِ
النَّظَرِ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَإِلَى فِعْلِ الْمَاضِينَ مِنْ
فُضَلَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
( فَصْلٌ ) فِي الْقِيَامِ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ
وَفِيمَنْ جَالَسَهُ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي عَمَّتْ
بِهَا الْبَلْوَى وَكَثُرَ وُقُوعُهَا عِنْدَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
مِنَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَمِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ أَعْنِي فِي
الْأَكْثَرِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، وَهُوَ
هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي اعْتَادَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ فِي الْمَجَالِسِ
وَالْمَحَافِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى
وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ
وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ سِيَّمَا إنْ كُنَّا فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ
فَهُوَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ
يَذْكُرُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا دَخَلَ أَحَدٌ عَلَيْنَا إذْ
ذَاكَ قَطَعْنَا مَا كُنَّا فِيهِ وَقُمْنَا إلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْنَا ،
فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ صَبِيًّا صَغِيرًا أَوْ شَابًّا أَوْ مَنْ لَا
بَالَ لَهُ فِي دِينِهِ فَيَكُونُ أَعْظَمَ فِي قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ
الْعَالِمِ الَّذِي حَكَيْنَا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ ،
فَإِنْ كَانَ مَجْلِسُنَا إذْ ذَاكَ لِلْحَدِيثِ فَهُوَ أَعْظَمُ ؛
لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقِلَّةُ احْتِرَامٍ وَعَدَمُ مُبَالَاةٍ أَنْ يُقْطَعَ
حَدِيثُهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ لِبِدْعَةٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
يُوَقِّرُونَ مَجْلِسَ الْحَدِيثِ حَتَّى فِي رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ
يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَرْفَعُوهَا إذْ ذَاكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ الْآيَةَ قَالَ مَالِكٌ وَلَا فَرْق بَيْنَ
رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ عَلَى حَدِيثِهِ بَعْدَ
مَمَاتِهِ بَلْ كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ حَدِيثَهُ ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ
وَإِنْ أَصَابَهُمْ الضُّرُّ فِي أَبْدَانِهِمْ وَيَتَحَمَّلُونَ
الْمَشَقَّةَ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِمْ إذْ ذَاكَ احْتِرَامًا لِحَدِيثِ
نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ صِفَةِ تَوْقِيرِهِمْ لِلْحَدِيثِ كَيْفَ كَانَ وَمَا جَرَى لِمَالِكٍ
رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي لَسْعِ الْعَقْرَبِ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً ، وَهُوَ
لَمْ يَتَحَرَّكَ ، وَتَحَمُّلُهُ لِلَسْعِهَا تَوْقِيرًا لِجَانِبِ
حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ
يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ لِضُرٍّ أَصَابَ بَدَنَهُ مَعَ أَنَّهُ
مَعْذُورٌ فِيمَا وَقَعَ بِهِ فَكَيْفَ بِالْحَرَكَةِ وَالْقِيَامِ إذْ
ذَاكَ لَا لِضَرُورَةٍ بَلْ لِبِدْعَةٍ ، سِيَّمَا إنْ انْضَافَ إلَى
ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ فِي سَلَامِ
بَعْضِنَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ التَّمَلُّقِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالْأَيْمَانِ
بِوُجُودِ الْمَحَبَّةِ وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ وَإِحْنَاءِ الرَّأْسِ
وَرُكُوعِهِ بَلْ يَقْرُبُ بَعْضُهُمْ مِنْ السُّجُودِ بَلْ يَفْعَلُونَهُ
لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ
بَلَائِهِ بِمَنِّهِ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا
يَلْقَى أَخَاهُ وَصَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ لَا قَالَ
أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا زَادَ رَزِينٌ إلَّا أَنْ
يَأْتِيَ مِنْ سَفَرٍ انْتَهَى .
وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنْ
الْمَحْذُورَاتِ مِنْهَا ارْتِكَابُ النَّهْيِ فِي التَّشَبُّهِ
بِالْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ نَهَانَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ ، وَقِيَامُ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ مِنْ
فِعْلِهِمْ .
وَمِنْهَا أَنَّ فِيهِ إذْلَالًا لِلْقَائِمِ وَإِذْلَالًا لَلْمَقُومِ إلَيْهِ .
أَمَّا إذْلَالُ الْقَائِمِ فَبِقِيَامِهِ حَصَلَتْ لَهُ الذِّلَّةُ .
وَأَمَّا
الْمَقُومُ إلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَنْحَطُّ إذْ ذَاكَ وَيُقَبِّلُ يَدَهُ
أَوْ يُشِيرُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاشِرُ
بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ إذْلَالٌ مَحْضٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ ،
وَلَا يَشُكُّ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ وَمِنْهَا الْحَلِفُ
بِاَللَّهِ إذْ ذَاكَ ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ يُوَقِّرُونَ الْحَلِفَ كَثِيرًا وَتَكْثِيرُهُ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ مِنْ
الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَهُمْ ، وَالْيَمِينُ
هُنَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُوَقِّرُ أَنْ يَذْكَرَ
اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا عَلَى سَبِيلِ الذِّكْرِ حَتَّى إذَا
اُضْطُرُّوا فِي الدُّعَاءِ إلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ
بِالْمُكَافَأَةِ لَهُ يَقُولُونَ جُزِيت خَيْرًا خَوْفًا عَلَى اسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِغَيْرِ صِفَةِ
الذِّكْرِ .
وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ مِنْ حِرْمَانِ بَرَكَةِ
السُّنَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ بِالسَّلَامِ الْمَشْرُوعِ أَوْ
الْمُصَافَحَةِ الْمَشْرُوعَةِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ
يَتَفَرَّقَا .
وَمِنْهُ أَيْضًا عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا الْتَقَى
الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَاهُ غُفِرَ
لَهُمَا وَذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَافَحَ عَالِمًا صَادِقًا
فَكَأَنَّمَا صَافَحَ نَبِيًّا مُرْسَلًا انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ
فِي السَّلَامِ مِنْ الْفَضْلِ وَالتَّرْغِيبِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ
مَعْرُوفٌ كَفَى بِهِ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
يَنْطِقُونَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِثَالِ
وَالتَّشْرِيعِ فَيَكُونُ بِسَبَبِهِ مِنْ الذَّاكِرِينَ ، وَقَدْ وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ : مَنْ ذَكَرَنِي ذَكَرْتُهُ وَأَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي .
فَيَحْصُلُ
لَهُمْ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ وَالنِّعْمَةُ الشَّامِلَةُ ،
وَالْغَالِبُ أَنَّ السَّلَامَ الْمَشْرُوعَ إذْ ذَاكَ بَيْنَنَا
مَتْرُوكٌ ، وَكَذَلِكَ الْمُصَافَحَةُ ، فَإِنْ وَقَعَ مِنَّا السَّلَامُ
كَانَ قَوْلُنَا صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ مَسَّاكَ اللَّهُ
بِالْخَيْرِ يَوْمٌ مُبَارَكٌ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ
الْبِدَعِ وَالْحَوَادِثِ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً وَالدُّعَاءُ كُلُّهُ
حَسَنٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يُصَادِمْ سُنَّةً كَانَ مُبَاحًا أَوْ
مَنْدُوبًا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَالنِّيَّةِ ، وَأَمَّا إنْ صَادَمَ
سُنَّةً فَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَنْعِهِ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْبِدَعِ هَلْ
تُمْنَعُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَوْ لَا تُمْنَعُ إلَّا إذَا عَارَضَتْ السُّنَنَ ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ ، وَهَذَا مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي
عَارَضَ سُنَّةً ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ بِسَبَبِهِ
وَأَحَلَّ الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ مَحَلَّهُ ، وَلَا قَائِلٌ بِهِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ
بَعْدَ السَّلَامِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَوَامَّ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي
الْبِدَعِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ السُّنَّةَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ
هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا .
وَإِنْ وَقَعَتْ
الْمُصَافَحَةُ بَيْنَنَا إذْ ذَاكَ كَانَ عِوَضًا عَنْهَا تَقْبِيلُ
الْيَدِ ، وَقَدْ وَقَعَ إنْكَارُ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ
الْمُقَبَّلُ يَدُهُ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا أَوْ هُمَا مَعًا
فَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا
تَقْبِيلُ يَدِ غَيْرِ هَذَيْنِ فَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ يَقُولُ
بِجَوَازِهِ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
الْمُقَبَّلُ يَدُهُ ظَالِمًا أَوْ بِدْعِيًّا أَوْ مِمَّنْ يُرِيدُ
تَقْبِيلَ يَدَهُ وَيَخْتَارُهُ فَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الْوَاقِعُ
بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ وَبِمَنْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمَا
لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَعِيدِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْمُخَالَفَةِ وَتَرْكِ الِامْتِثَالِ .
كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ تَرْكُ
السُّنَّةِ أَوْ التَّهَاوُنُ بِشَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُتْرَكُ
أَبَدًا إلَّا وَيَنْزِلُ بِمَوْضِعِهَا عُقُوبَةٌ لِتَارِكِهَا بِدْعَةٌ
أَوْ بِدَعٌ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا مِنْ سَيِّئَةٍ إلَّا وَلَهَا أُخَيَّاتٌ .
وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ فَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ : إنَّ كُلَّ شَيْءٍ إذَا تَمَّ نَقَصَ ،
وَإِنْ هَذَا الْقَمَرَ قَدْ تَمَّ فَهُوَ يَنْقُصُ بَعْدَ هَذِهِ
اللَّيْلَةِ ، وَإِنِّي لَا أَرَى الْإِسْلَامَ إلَّا وَقَدْ تَمَّ ،
وَإِنِّي لَا أَرَاهُ إلَّا وَسَيَنْقُصُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو
الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ الْأَمْرُ فِي
الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا زَالَ يَنْقُصُ
إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَهُوَ بَعْدُ فِي نَقْصٍ كَمَا سَبَقَ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ بِرَحْمَتِهِ انْتَهَى .
وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا مِنْ عَامٍ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ
مِنْهُ سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( مَا
مِنْ سَنَةٍ إلَّا وَتُحْيُونَ
فِيهَا بِدْعَةً وَتُمِيتُونَ فِيهَا
سُنَّةً وَلَنْ تُمِيتُوا سُنَّةً فَتَرْجِعُ إلَيْكُمْ أَبَدًا ) وَهَا
هُوَ ذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا
السَّلَامَ وَهُوَ السُّنَّةُ وَاسْتَعْمَلُوا الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ
صَارَ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَا يُعْرَفُ حَتَّى
لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ لَشَقَّ
عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ وَقَالُوا عَنْهُ لَا يُنْصِفُ فِي السَّلَامِ مَا
يُسَاوِي أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْئًا لَا يَعْبَأُ بِأَحَدٍ لَا يَلْتَفِتُ
إلَى أَحَدٍ مُتَكَبِّرٌ لَا يُعَاشَرُ مُتَجَبِّرٌ لَا يُخَالَطُ ،
وَإِنْ حَسَّنُوا الظَّنَّ بِهِ قَالُوا : مَرْبُوطٌ يَابِسٌ مُشَدِّدٌ
ثَقِيلٌ ، وَلَرُبَّمَا وَجَدُوا عَلَيْهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ
يُقَرِّبُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَا مِنْ مَجَالِسِهِمْ حَنَقًا
عَلَيْهِ فِيمَا عَامَلَهُمْ بِهِ فَصَارَ مَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مُبَارَكَةً طَيِّبَةً مَنْ عَامَلَهُمْ بِذَلِكَ وَجَدُوا عَلَيْهِ ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ
وَالْجَهْلِ بِهَا وَالْحِرْمَانِ مِنْ بَرَكَتِهَا وَبَرَكَةِ
مَعْرِفَتِهَا وَبَرَكَةِ مَعْرِفَةِ أَهْلِهَا .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا
لَوْ أَتَى بِالْمُصَافَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَرَكَ تَقْبِيلَ الْيَدِ
لَوَجَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا وَجَدُوا عَلَى مَنْ قَبْلَهُ أَوْ
أَكْثَرَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا نَحَوْنَا نَحْوَهُ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ : كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا
تَرَكْتَ بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً .
وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَعْنَاهُ فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ يَتَحَرَّزُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ
كُلِّهِ وَيَتَفَطَّنُ لَهُ وَيَرْعَاهُ إذْ هُوَ رَاعٍ لِمَنْ حَضَرَهُ
وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَحَصَلَ فِي
هَذَا الْقِيَامِ وَمَا جَرَّ إلَيْهِ مِنْ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ
شَرْعًا مَا هَذَا عَدَدُهُ ، وَهِيَ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ وَفِعْلِهِ
وَالِانْحِنَاءِ وَالرُّكُوعِ وَالْكَذِبِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي
اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ التَّزْكِيَةِ
وَالتَّمَلُّقِ
وَتَكْرَارِ ذَلِكَ وَالْيَمِينِ عَلَيْهِ وَتَكْرَارِهَا وَالْمُدَاهَنَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ وَالتَّكَبُّرِ بِذَلِكَ وَالِاحْتِقَارِ لِمَنْ لَا يُقَامُ لَهُ وَالرِّيَاءِ بِالْقِيَامِ وَمَا جَرَّ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ خَصْلَةً أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْتَرَّ أَوْ يَمِيلَ إلَى بِدْعَةٍ لِدَلِيلٍ قَامَ عِنْدَهُ عَلَى إبَاحَتِهَا مِنْ أَجْلِ اسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ أَوْ بِفَتْوَى مُفْتٍ قَدْ وَهِمَ أَوْ نَسِيَ أَوْ جَرَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَجْرِي عَلَى الْبَشَرِ وَهُوَ كَثِيرٌ ، بَلْ إذَا نَقَلَ إبَاحَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَأْخَذِ الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ وَتَجْوِيزِهِ إيَّاهَا مِنْ أَيْنَ اخْتَرَعَهَا وَكَيْفِيَّةِ إجَازَتِهِ لَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَحْفُوظٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ فِيهِ قَوْلًا وَيَتْرُكُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ فَيُرْجَعُ لِلْقَوَاعِدِ وَلِلدَّلَائِلِ الْقَائِمَةِ ، وَيَكُونُ قَوْلُ هَذَا الْعَالِمِ بَيَانًا وَتَفْهِيمًا وَبَسْطًا لِلْقَوَاعِدِ وَالدَّلَائِلِ ، وَإِنْ أَتَى عَلَى مَا يَقُولُهُ بِدَلِيلِ فَيُنْظَرُ فِي الدَّلِيلِ ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا قُبِلَ وَكَانَ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَمْ يُقْبَلْ وَكَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ هُوَ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى نِيَّتِهِ وَجَدِّهِ وَنَظَرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَأْتِي بِمَسْأَلَةٍ إلَّا وَيَأْتِي بِمَأْخَذِهَا وَدَلِيلِهَا فَيُسْنِدُهَا إلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْ إلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إلَى إجْمَاعٍ أَوْ إلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَوْ فَتَاوِيهِمْ أَوْ أَحْكَامِهِمْ فَيَقُولُ : وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَبِذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَبِذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَبِذَلِكَ كَانَ رَبِيعَةُ يُفْتِي وَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ يَفْعَلُ كَذَا وَيَقُولُ كَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ فِي إسْنَادِهِ كُلَّ مَسْأَلَةٍ يَرُدُّهَا إلَى أَصْلِهَا
وَيَعْزُوهَا
إلَى نَاقِلِهَا وَالْمُفْتِي فِيهَا أَوْ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا أَوْ
إجْمَاعِ النَّاسِ فِيهَا هَذَا مَعَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجْمَعِ
عَلَى تَقْلِيدِهِمْ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَشَاعَ وَذَاعَ
شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِالتَّقَدُّمَةِ وَقَدْ سُمِّيَ إمَامُ دَارِ
الْهِجْرَةِ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا أَتَوْا بِالْمَسْأَلَةِ ذَكَرُوا مَأْخَذَهَا
إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهَا بَيِّنًا جِدًّا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى
ذِكْرِهِ لِكَثْرَةِ وُضُوحِهِ لِلْغَالِبِ مِنْ النَّاسِ ، فَإِذَا كَانَ
هَذَا دَأْبُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُجْمَعِ عَلَى جَوَازِ
تَقْلِيدِهِمْ فَكَيْفَ الْمُتَأَخِّرُ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إلَى هَذِهِ
الدَّرَجَةِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلْنَرْجِعْ إلَى مَا
كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ
فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ
الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ
وَأَلَّفَ عَلَيْهِ تَأْلِيفًا فِي إبَاحَتِهِ وَنَدْبِهِ وَحَاوَلَ
ذَلِكَ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقِسْمِ الْمَكْرُوهِ ، وَجَعَلَ
التَّأْلِيفَ الَّذِي أَلَّفَهُ عَلَى بَابَيْنِ : الْبَابُ الْأَوَّلُ :
فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ لِذَلِكَ وَالنَّدْبِ
إلَيْهِ .
وَالْبَابُ الثَّانِي : فِيمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ
ذَلِكَ وَالِاسْتِعْذَارِ عَنْهُ فَمَنْ يَنْظُرُ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ
يَقِفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْرِفُ
بِهِ مَأْخَذًا لِمَسَائِلَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ مِنْ الْقِسْمِ
الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ ، فَنَحْتَاجُ إذَنْ أَنْ نَنْظُرَ إلَى
مَأْخَذِ دَلِيلِهِ وَاسْتِبَاحَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْقَوَاعِدِ
وَشَهِدَتْ لَهُ الْأُصُولُ قَبِلْنَا وَسَلَّمْنَا وَإِنْ كَانَ عَلَى
غَيْرِ ذَلِكَ نَحْتَاجُ أَنْ نُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ
وَمَا الْجَائِزُ مِنْهُ وَمَا الْمَنْدُوبُ وَمَا الْمَكْرُوهُ مِنْهُ
وَمَا الْمَمْنُوعُ .
وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ رَحِمَهُ اللَّهُ آيَةً وَأَحَادِيثَ جُمْلَةً عَلَى جَوَازِ الْقِيَامِ أَوْ النَّدْبِ
إلَيْهِ .
فَعَلَى
هَذَا نَحْتَاجُ أَنْ نَأْتِيَ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَاحِدًا وَاحِدًا
وَنُبَيِّنَ مَعْنَى كُلِّ دَلِيلٍ وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ
لِلْمَنْعِ لَا لِلْجَوَازِ بَعْدَ بَيَانِ مَأْخَذِ دَلِيلِهِ
وَإِيضَاحِهِ فَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ ظَهَرَ لَك الصَّوَابُ فَاسْلُكْهُ
وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا وَإِيَّاكَ لِطَرِيقِ السَّدَادِ وَيُجَنِّبُنَا
وَإِيَّاكَ طَرِيقَ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ وَأَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكَ
الْإِنْصَافَ وَالِاتِّصَافَ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
وَالِاعْتِقَادِ .
فَبَدَأَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابَ فَقَالَ
: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ :
وَمِنْ الْخَفْضِ لَهُمْ وَالْإِكْرَامِ أَنْ يُحْتَرَمُوا بِالْقِيَامِ
لَا عَلَى طَرِيقِ الرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ
التَّكَرُّمِ وَالِاحْتِرَامِ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ مَنْ لَا يُحْصَى
مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَمَاثِلِ وَالْأَعْلَامِ ، فَاَلَّذِي يَخْتَارُ
الْقِيَامَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَطَلَبَتِهِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالصَّالِحِينَ وَسَائِرِ أَخْيَارِ
الْبَرِيَّةِ ، فَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ جُمَلٌ مِنْ الْأَخْبَارِ وَأَنَا
أَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَرِيمُ جُمَلًا مِمَّا بَلَغَنِي فِيمَا
ذَكَرْته لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهَا مِمَّا حَذَفْتُهُ
وَذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ
النَّيِّرَةِ الْحُكْمِيَّةِ : أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ
أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ .
وَقَدْ
احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ
عَلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَمِمَّنْ احْتَجَّ بِهِ أَبُو
دَاوُد فِي سُنَنِهِ فَتَرْجَمَ لَهُ بَابَ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ ،
وَكَذَلِكَ
تَرْجَمَ لَهُ غَيْرَهُ .
وَمِمَّنْ احْتَجَّ بِهِ
الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ صَاحِبُ الصَّحِيحِ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَالَ : لَا أَعْلَمُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ حَدِيثًا
أَصَحَّ مِنْ هَذَا قَالَ : وَهَذَا الْقِيَامُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ لَا
عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى
هَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ
عَلَى الْقِيَامِ ، وَالْمُخَاطَبُ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ مُنْدَرِجُونَ بَعْدَهُ فِي الْخِطَابِ
وَاَللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فَهَلْ يُنْقَلُ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ قَامَ لِأَحَدٍ أَوْ أَمَرَ
بِالْقِيَامِ لِأَحَدٍ مَعَ أَنَّهُ نَدَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ فَهَلْ بَعْدَ
نَدْبِهِ لِذَلِكَ كَانَ يَقُومُ لِتَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ بَلْ
بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَنَدْبِهِ إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ كَانَ
خَفْضُ جَنَاحِهِ لَهُمْ بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَازُلِ عَنْ الدَّرَجَةِ
الْعُلْيَا الَّتِي وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَهُ بِهَا إلَى
مُخَاطَبَتِهِ الضَّعِيفَ الْفَقِيرَ فِي دُنْيَاهُ أَوْ الْفَقِيرَ فِي
إيمَانِهِ فَيُبَاسِطُهُمْ وَيُؤَانِسُهُمْ بِحَدِيثِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ
ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَهْذِيبِهِ
وَتَقْوِيَتِهِ يَقِينَ هَذَا وَإِيمَانَ هَذَا وَتَدْرِيبِهِمْ إلَى
الثِّقَةِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَمَضْمُونِهِ وَمَا وَهَبَ لِأَوْلِيَائِهِ
وَمَا تَوَعَّدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ .
هَذَا وَمَا شَابَهَهُ هُوَ
الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ خَفْضِ
جَنَاحِهِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَيْهِ لَا الْقِيَامُ ، وَهُوَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُبَيِّنُ لِلْأَحْكَامِ وَعَنْهُ
تُتَلَقَّى ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ
الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ نَدْبُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَلْطُفُ بِالْكَبِيرِ فِي دُنْيَاهُ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مَعَ إظْهَارِ الْبَشَاشَةِ إلَيْهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْأُنْسِ وَالْبَسْطِ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَهُ وَالْمُبَاسِطِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ كَانَ كَبِيرًا فِي دِينِهِ بِسَبَبِ صَلَاحٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ هُمَا مَعًا فَيَلْطُفُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ ذَكَرَ قَبْلَهُ أَعْنِي فِي الْأُنْسِ وَالدُّنُوِّ وَالْبَسْطِ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَنْزِلَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَةِ الدُّنْيَا فَيَعْظُمُ فِي إكْرَامِهِ عَلَى مَا وَرَدَ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُبَيِّنُ لِلْأَحْكَامِ فَأَفْعَالُهُ مُفَسِّرَةٌ وَمُبَيِّنَةٌ لِأَقْوَالِهِ وَأَحَادِيثِهِ وَلِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَيَمْتَثِلُ قَوْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا امْتَثَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ وَعَلَى مَا امْتَثَلَهُ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ - الْفَصْلَ إلَى آخِرِهِ - فَلَوْ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا وَسَكَتَ لَكَانَ يَخْطُرُ لِلسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يُحَصِّلُ بَعْدُ شَيْئًا أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ السُّنَّةُ ، وَلَكِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَتَى بِذِكْرِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَذِكْرِ مَذَاهِبِهِمْ وَاسْتِنَادِهِمْ إلَى مَا ذَكَرَ وَعَيَّنَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَبَسَطَ وَظَهَّرَ الْأَمْرَ لِلْعَالِمِ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ أَوَّلًا الْحَدِيثَ
الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ فَهَذَا
الْحَدِيثُ لَا يُنَازَعُ فِي صِحَّتِهِ ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الْقِيَامِ
كَمَا ذَكَرَ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَصَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِلْأَنْصَارِ ،
وَالْأَصْلُ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ الْعُمُومُ ، وَلَا يُعْرَفُ فِي
الشَّرْعِ قُرْبَةٌ تَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلَّا أَنْ
تَكُونَ قَرِينَةً تَخُصُّ بَعْضَهُمْ فَتَعُمُّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ
مَشْهُورٌ .
فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَهُمْ بِالْقِيَامِ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَكَانَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا نَدَبَ
إلَيْهِ ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ خُصُوصًا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ وَأُمَّتُهُ
عُمُومًا فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَا
أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَلَا فَعَلُوهُ بَعْدَ أَمْرِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَنْصَارِ ، بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى
أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِيَامَ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ إذْ
لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَاشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي الْأَمْرِ بِهِ
وَفِي فِعْلِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقِيَامِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الضَّرُورَاتِ الْمُحْوِجَاتِ لِذَلِكَ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قِصَّةِ
الْحَدِيثِ وَبِسَاطِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا
نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ إذْ ذَاكَ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُثْقَلًا
بِالْجِرَاحِ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَتَرَكَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجُوزًا تَخْدُمُهُ ،
فَلَمَّا أَنْ نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِهِ أَرْسَلَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ فَأُتِيَ بِهِ
عَلَى
دَابَّةٍ وَهُمْ يُمْسِكُونَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لِئَلَّا
يَقَعَ عَنْ دَابَّتِهِ ، فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ إذْ ذَاكَ
قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ أَيْ قُومُوا
فَأَنْزَلُوهُ عَنْ الدَّابَّةِ .
وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ
فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ لِيُنْزِلُوهُ عَنْ
الدَّابَّةِ لِمَرَضٍ بِهِ انْتَهَى .
لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ
جَرَتْ أَنَّ الْقَبِيلَةَ تَخْدُمُ سَيِّدَهَا فَخَصَّهُمْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنْزِيلِهِ وَخِدْمَتِهِ عَلَى
عَادَتِهِمْ الْمُسْتَمِرَّةِ بِذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ
كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ
الدَّابَّةِ لَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ مَنْ
يَقُومُ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ وَهُمْ نَاسٌ مِنْ نَاسٍ ، فَلَمَّا أَنْ
عَمَّهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمِيعُ إذْ أَنَّ
بِبَعْضِهِمْ تَزُولُ الضَّرُورَةُ الدَّاعِيَةُ إلَى تَنْزِيلِهِ ،
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ
عَلَى عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ وَشَمَائِلِهِ اللَّطِيفَةِ
الْمُسْتَقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ
خَصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ وَالْأَمْرِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ
إظْهَارًا لِخُصُوصِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ قَبِيلَتِهِ ، فَيَحْصُلُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ انْكِسَارُ خَاطِرٍ فِي كَوْنِهِ
لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَكَانَتْ إشَارَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَوْ نَظَرُهُ أَوْ أَمْرُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْبَرِ
الْخُصُوصِيَّةِ ، فَأَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ
بِذَلِكَ عُمُومًا تَحَفُّظٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنْ يَنْكَسِرَ خَاطِرُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَتَغَيَّرَ ، فَكَانَ
ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ مِثْلَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنْ قَامَ بِهِ
أَجْزَأَ عَنْ الْبَاقِينَ ، فَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ
عَلَيْهِ الْحَدِيثُ لِلْقَرَائِنِ الَّتِي قَارَنَتْهُ ، وَهِيَ هَذِهِ
وَمَا
تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُرَبِ تَعُمُّ ، وَلَا
تَخُصُّ قَبِيلَةً دُونَ أُخْرَى ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي
أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ هَلْ كَانَ
لِلْأَنْصَارِ خُصُوصًا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَوْ لِلْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَمَا وَقَعَ مِنْ الْجَوَابِ يَعُمُّ الْقَبِيلَتَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ غَائِبٌ قَدِمَ وَالْقِيَامُ لِلْغَائِبِ مَشْرُوعٌ .
الْوَجْهُ
الثَّالِثُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهُمْ
بِالْقِيَامِ لِتَهْنِئَتِهِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ
التَّوْلِيَةِ وَالْكَرَامَةِ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ .
وَالْقِيَامُ لِلتَّهْنِئَةِ مَشْرُوعٌ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ : الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهٌ يَكُونُ الْقِيَامُ فِيهِ مَحْظُورًا
وَوَجْهٌ يَكُونُ فِيهِ مَكْرُوهًا وَوَجْهٌ يَكُونُ فِيهِ جَائِزًا
وَوَجْهٌ يَكُونُ فِيهِ حَسَنًا .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ
فِيهِ مَحْظُورًا لَا يَحِلُّ فَهُوَ أَنْ يَقُومَ إكْبَارًا وَتَعْظِيمًا
لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا عَلَى
الْقَائِمِينَ إلَيْهِ ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَامُ
فِيهِ مَكْرُوهًا فَهُوَ أَنْ يَقُومَ إكْبَارًا وَتَعْظِيمًا
وَإِجْلَالًا لِمَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إلَيْهِ ، وَلَا
يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إلَيْهِ فَهَذَا يُكْرَهُ لِلتَّشَبُّهِ
بِفِعْلِ الْجَبَابِرَةِ وَمَا يُخْشَى أَنْ يُدْخِلَهُ مِنْ تَغْيِيرِ
نَفْسِ الْمَقُومِ إلَيْهِ ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ
الْقِيَامُ فِيهِ جَائِزًا فَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا
لِمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ ، وَلَا يُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ الْجَبَابِرَةِ
وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إلَيْهِ لِذَلِكَ وَهَذِهِ
صِفَةٌ مَعْدُومَةٌ إلَّا مَنْ كَانَ بِالنُّبُوَّةِ مَعْصُومًا ؛
لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَتْ نَفْسُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِالدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَ عَلَيْهَا فَمَنْ سِوَاهُ بِذَلِكَ أَحْرَى
، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَامُ فِيهِ حَسَنًا فَهُوَ
أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إلَى الْقَادِمِ عَلَيْهِ مِنْ سَفَرٍ فَرِحًا
بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَوْ إلَى الْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا
بِنِعْمَةٍ أَوْلَاهُ اللَّهُ إيَّاهَا لِيُهَنِّئَهُ بِهَا أَوْ
لِقَادِمٍ عَلَيْهِ مُصَابٍ بِمُصِيبَةٍ لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابِهِ ،
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا
الْبَابِ مِنْ الْآثَارِ ، وَلَا يَتَعَارَضُ شَيْءٌ مِنْهَا انْتَهَى .
وَحَاصِلُ
مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ نَدَبَكَ الشَّرْعُ أَنْ تَمْشِيَ
إلَيْهِ لِأَمْرٍ حَدَثَ عِنْدَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ مَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْك
الْمُتَّصِفُ
بِذَلِكَ فَالْقِيَامُ إلَيْهِ إذْ ذَاكَ عِوَضٌ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي
فَاتَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، فَقَدْ حَصَلَ الْقِيَامُ
لِسَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْقِسْمِ الْمَنْدُوبِ
لِتَهْنِئَتِهِ بِمَا أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعْمَتِهِ
بِتِلْكَ التَّوْلِيَةِ الْمُبَارَكَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ .
فَقَدْ
ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ احْتَجَّ بِهِ ، وَهُوَ أَبُو دَاوُد
وَمُسْلِمٌ ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ
دَأْبُهُمْ أَبَدًا فِي الْحَدِيثِ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ
إلَى فِقْهِ الْحَدِيثِ فَيُبَوِّبُونَ عَلَيْهِ وَيَذْكُرُونَ
فَوَائِدَهُ فِي تَرَاجِمِهِمْ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا
قَالُوا فِي الْبُخَارِيِّ : رَحِمَهُ اللَّهُ جُلُّ فِقْهِهِ فِي
تَرَاجِمِهِ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ ، وَلَا
يَتَعَرَّضُونَ فِي غَالِبِ أَمْرِهِمْ إلَى التَّفْصِيلِ بِالْجَوَازِ
أَوْ الْمَنْعِ أَوْ الْكَرَاهَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا شَأْنُهُمْ
سِيَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالْفُقَهَاءُ
يَتَعَرَّضُونَ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا دَاوُد رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَدْ بَوَّبَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَهُوَ
الْحَدِيثُ الَّذِي وَقَعَ النَّهْيُ فِيهِ عَنْ الْقِيَامِ فَقَالَ :
بَابُ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
وَتَبْوِيبِهِ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِقْهَهُ اقْتَضَى مَنْعَ
الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي
يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَقُلْ : بَابُ مَا جَاءَ فِي
فَضْلِ الْقِيَامِ ، وَلَا اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ ، وَلَا جَوَازِ
الْقِيَامِ بَلْ قَالَ : بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ وَلَمْ يَزِدْ ،
وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآخَرَ قَالَ : بَابُ كَرَاهَةِ
الْقِيَامِ لِلنَّاسِ فَيَلُوحُ مِنْ فَحْوَى خِطَابِهِ أَنَّهُ يَقُولُ
بِالْكَرَاهَةِ ، وَلَا يَقُولُ بِالْجَوَازِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ
وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَمْ نَأْخُذْ مِنْهُ الْحُكْمَ فَلَا سَبِيلَ
إلَى أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّهُ أَخَذَ بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَتَرَكَ الْآخَرَ إلَّا بِقَرِينَةٍ ، وَالْقَرِينَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى مَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَخْرَجَ
الْإِمَامَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ
تَوْبَتِهِ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ فَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ
وَانْطَلَقْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إلَيَّ طَلْحَةُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي
وَاَللَّهِ مَا قَامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ ،
وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ انْتَهَى .
اسْتَدَلَّ رَحِمَهُ اللَّهُ
عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَوْنُهُ قَامَ
إلَيْهِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ بَلْ لَا
يُعْطِي الْحَدِيثُ وَنَصُّهُ غَيْرَ ذَلِكَ .
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ
لَوْ كَانَ الْقِيَامُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ إذْ ذَاكَ أَوْ مَشْرُوعًا لَمْ
يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتْرُكَهُ ؛
لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا شَرَعَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ جَالَسَهُ إذْ
ذَاكَ يَجْهَلُ هَذَا الْمَنْدُوبَ أَوْ الْجَائِزَ حَتَّى لَمْ
يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ قَامَ
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَنْهَهُ ، وَهَذَا وَقْتُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُهُ
لَا يَجُوزُ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ
وَصَرَّحَ فِيهِ بِالْقِيَامِ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ ، وَهُوَ كَوْنُهُ
قَامَ لِتَهْنِئَتِهِ وَمُصَافَحَتِهِ فَكَانَ قِيَامُهُ لِثَلَاثِ
مَعَانٍ ، وَهِيَ الْبِشَارَةُ وَالْمُصَافَحَةُ وَالتَّهْنِئَةُ وَلَمْ
يَكُنْ لِنَفْسِ الْقِيَامِ إذْ لَوْ كَانَ لَصَرَّحَ بِهِ كَمَا صَرَّحَ
بِغَيْرِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ
مَضَتْ عَلَى أَنَّ التَّهْنِئَةَ وَالْبِشَارَةَ وَالْمُصَافَحَةَ
تَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ
عَلَى قَدْرِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ فِي
الْمَعْرِفَةِ وَالْخُلْطَةِ وَالْمُمَازَجَةِ بِخِلَافِ السَّلَامِ ،
فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ ،
فَقَدْ يَكُونُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ
مَا ذَكَرَ فَكَانَ مَا صَدَرَ مِنْهُ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ
عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
أَمْرٌ تَقَرَّرَ ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَسَاوَوْا فِي كَثْرَةِ
الْمَوَدَّةِ وَتَأْكِيدِ الْحُقُوقِ ، فَرُبَّ شَخْصٍ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ
وَآخَرَ لَهُ حَقَّانِ وَآخَرَ لَهُ ثَلَاثُ حُقُوقٍ إلَى مَا هُوَ
أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارَ لَهُ حَقُّ
الْجِوَارِ لَيْسَ إلَّا إنْ كَانَ ذِمِّيًّا ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا
كَانَ لَهُ حَقَّانِ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبًا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ
حُقُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ صِهْرًا كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ ، فَإِنْ
كَانَ قَرِيبًا كَانَ لَهُ خَمْسَةُ حُقُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ صَدِيقَا
صَاحِبَ سِرٍّ كَانَ لَهُ سِتَّةُ حُقُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ رَأْيٍ
وَنَظَرٍ فِي الْعَوَاقِبِ ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْ رَأْيِهِ وَيُرْجَعُ
إلَيْهِ كَانَ لَهُ سَبْعَةُ حُقُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي
مَجْلِسِ عِلْمٍ كَانَ لَهُ ثَمَانِيَةُ حُقُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ
مُشَارِكًا فِي سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ كَانَ لَهُ تِسْعَةُ حُقُوقٍ ،
فَإِنْ كَانَ صَالِحًا كَانَ لَهُ عَشْرَةُ حُقُوقٍ ، فَإِنْ كَانَ
عَالِمًا كَانَ لَهُ أَحَدَ عَشْرَ حَقًّا ، فَإِنْ كَانَ يُدْلِي
بِقَرَابَتَيْنِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ حَقًّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ،
وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ كَثِيرٌ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ
فِعْلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ كَعْبٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، فَيَأْتِي عَلَى
هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَانَ مُمْتَثِلًا مَا يَلْزَمُهُ وَمَا
يُنْدَبُ إلَيْهِ مَنْ قَامَ حَتَّى بَشَّرَ وَهَنَّأَ وَقَعَدَ .
وَهَذَا
هُوَ الْأَوْلَى بَلْ هُوَ الْأَوْجَبُ ؛ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَا قِيَامَ
طَلْحَةَ لِأَجْلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَأَنَّهُ مِنْ الْمَنْدُوبِ
فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ جَلَسَ وَلَمْ يَقُمْ قَدْ
زَهِدَ فِي فِعْلِ
الْخَيْرِ ، وَقَدْ زَهِدَ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوبِ وَتَمَالَئُوا عَلَى
تَرْكِهِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ مُبَاشِرٌ لَهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ وَلَمْ يُرْشِدْهُمْ
وَلَمْ يُعَلِّمْهُمْ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ هَذَا
بِالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ صَالِحِي أُمَّتِهِ فَكَيْفَ بِمُتَقَدِّمِيهَا
فَكَيْفَ بِالصَّحَابَةِ الْخِيَارِ خِيَارِ الْخِيَارِ فَكَيْفَ
بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يُقِرُّ عَلَى النِّسْيَانِ ، وَلَا الْغَلَطِ ،
وَلَا الْوَهْمِ لِعِصْمَتِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ سِيَّمَا فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ أَوْ الْمَنْدُوبِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ
عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبَانَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَمْرُ
وَاتَّضَحَ أَنَّ قِيَامَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى
الْمَنْعِ لَا عَلَى الْجَوَازِ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ
أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا
وَهَدْيًا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا قَالَتْ : وَكَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَهَا فَقَبَّلَهَا
وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ
وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ
انْتَهَى .
اسْتَدَلَّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ
مَشْرُوعٌ بِمَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَا أَتَى بِهِ
مِنْ الْبَابِ مَا يُبَيِّنُ بِهِ مُرَادَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَوْ
سَلَّمَ لَهُ ظَاهِرُهُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى
الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الْقِيَامُ ، وَهُوَ التَّقْبِيلُ وَإِجْلَاسُ
الْوَارِدِ فِي مَجْلِسِ صَاحِبِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ نَدَبَ إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ
مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْزِلَةٌ أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَتِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،
ثُمَّ مَنْزِلَتُهَا بَعْدَهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهَا ) فَاطِمَةُ
بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهَا فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ وَأَنَّهَا بِضْعَةٌ مِنْهُ
فَيَجِبُ تَرْفِيعُهَا وَتَعْظِيمُهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : تَرْفِيعُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا تَرْفِيعٌ لِنَفْسِهِ
الْمُكَرَّمَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ
يُعْرَفُ مِنْهُ تَرْفِيعٌ ، وَلَا تَعْظِيمٌ قَطُّ لِنَفْسِهِ
الْمُكَرَّمَةِ إلَّا مَا كَانَ صَادِرًا بِسَبَبِ تَرْفِيعِ جَنَابِ
اللَّهِ تَعَالَى .
أَلَا تَرَى إلَى وَصْفِ وَاصِفِهِ وَكَانَ لَا
يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا رَأَى حُرْمَةً مِنْ حُرَمِ اللَّهِ
تُنْتَهَكُ كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إلَيْهَا نُصْرَةً وَمِنْ هَذَا
الْمَعْنَى مَا وَرَدَ عَنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ فِي كَلَامِهِنَّ
مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَفْضِيلِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا بِزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ لَهَا وَسَأَلْنَهُ أَنْ
يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَحَبَّةِ فَأَجَابَهُنَّ بِأَنْ قَالَ :
لَمْ يُوحَ إلَيَّ فِي فِرَاشِ إحْدَاكُنَّ إلَّا فِي فِرَاشِهَا
وَلِكَوْنِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلَّمَ عَلَيْهَا وَلَمْ
يُسَلِّمْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ لِمَا
اُخْتُصَّتْ بِهِ وَلِكَوْنِهَا أَيْضًا أُخِذَ عَنْهَا شَطْرُ الدِّينِ ،
فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ وَمَا شَاكَلَهَا كَانَ إيثَارُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا .
وَمِنْ
هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَحَبَّتُهُ فِي خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا غِرْتُ مِنْ
أَحَدٍ مَا غِرْت مِنْ خَدِيجَةَ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أُدْرِكْهَا قَدْ
كَانَتْ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تَأْتِيهِ فَيُكْرِمُهَا وَيَقُولُ : كَانَتْ
تَأْتِينَا فِي أَيَّامِ خَدِيجَةَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا مَيَّزَهَا
اللَّهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا .
أَلَا تَرَى
أَنَّ تَفْضِيلَهُ
لِعَائِشَةَ كَانَ لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ،
وَخَدِيجَةُ لَهَا مَعَانٍ أُخَرُ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا ، وَهِيَ
ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ طَالَعَ الْأَحَادِيثَ أَوْ سَمِعَهَا ،
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَزِيَّةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
سَلَّمَ عَلَيْهَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَيْنَ
مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِمَّنْ سَلَّمَ
عَلَيْهَا جِبْرِيلُ بَيْنَهُمَا مَا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كُنَّ الْكُلُّ
فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ الْكَامِلَةُ وَالْخَيْرُ الشَّامِلُ ؛ لِأَنَّهُنَّ
مَا اُخْتِرْنَ لِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ إلَّا
لِاحْتِوَائِهِنَّ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَمَكْرُمَةٍ لَكِنَّ زِيَادَةَ
الْخُصُوصِيَّةِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يَزِيدُ لِكُلِّ شَخْصٍ فِي الْمَحَبَّةِ بِحَسَبِ مَا
كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ
بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي
صِفَةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ
بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ أَيْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا
لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ عَلَى مَا مَرَّ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ ،
وَلَا لِلْهَوَى فِيهِ مَطْمَعٌ ، وَلَا لِلْعَادَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَوْلِيَاءِ فَمَا بَالُك بِصِفَةِ
الْأَنْبِيَاءِ فَمَا بَالُك بِصِفَةِ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ قُطْبِ دَائِرَةِ الْكَمَالِ وَمَحَلِّ الْفَضَائِلِ
الْعَلِيَّةِ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا كُلُّ الْبَشَرِ عَدَاهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعْظِيمَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي
تَقْبِيلِهَا حِينَ دُخُولِهَا عَلَيْهِ وَإِجْلَاسِهَا فِي مَجْلِسِهِ
لِأَجْلِ مَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الشِّيَمِ الْكَرِيمَةِ
وَاللَّطَائِفِ الْجَمِيلَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خُصُوصِيَّةٌ
تَمْتَازُ بِهَا إلَّا حُصُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
صَحِيفَتِهَا فَأَيُّ صَحِيفَةٍ مِثْلُ هَذِهِ وَأَيُّ مَزِيَّةٍ أَكْبَرُ
مِنْهَا وَاَللَّهِ مَا وُجِدَتْ قَطُّ ،
وَلَا تُوجَدُ أَبَدًا ،
فَسُبْحَانَ مَنْ مَنَّ عَلَيْهَا بِمَا مَنَّ وَتَكَرَّمَ بِمَا
تَكَرَّمَ فَكَانَ قِيَامُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَقِيَامُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ عَلَى مَا
قَدْ عُلِمَ مِنْ ضِيقِهَا ، وَقَدْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى مَا قَدْ
عُلِمَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ الدُّنْيَا سِيَّمَا فَاطِمَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الَّتِي أَثَّرَتْ الطَّاحُونُ فِي يَدِهَا
فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى أَبِيهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَالرِّفْدُ قَدْ أَتَاهُ فَحَمَلَهَا عَلَى حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَاخْتَارَ لَهَا مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ
فَأَعْطَى النَّاسَ وَتَرَكَهَا لِقُوَّةِ نُورِ إيمَانِهَا ،
وَعَلَّمَهَا عِوَضًا عَنْ الْخَادِمِ الَّتِي طَلَبَتْ إذَا أَوَتْ إلَى
فِرَاشِهَا أَنْ تُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدَ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ .
وَقَدْ كَانَتْ
تَقْعُدُ الْأَيَّامَ لَا تَأْكُلُ شَيْئًا وَفِيهَا وَفِي بَعْلِهَا
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ الْآيَةَ
فِي قِصَّةٍ مِنْ الْمُجَاهِدَةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا
أَهْلُ التَّفْسِيرِ ، وَمَنَاقِبُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ
يَطُول تَتَبُّعُهَا ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي
الْكُتُبِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِهَذَا الْفَنِّ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ
هَذَا أَنَّ الْإِقْلَالَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا
كَانُوا يَمْتَنِعُونَ بِسَبَبِهِ مِنْ فِرَاشٍ زَائِدٍ عَلَى مَا
يَضْطَرُّونَ إلَيْهِ أَوْ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ
.
أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
حِينَ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَ : فَاضْطَجَعْتُ فِي
عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَلَوْ كَانَ ثَمَّ وِسَادَةٌ غَيْرُهَا
لَجَعَلُوهَا لَهُ دُونَ وِسَادَتِهِمْ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا
إلَّا وَطَاءٌ وَاحِدٌ ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَلَيْهِ وَدَخَلَ عَلَيْهَا
أَبُوهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَلَى الْأَرْضِ ،
وَهِيَ عَلَى حَائِلٍ لَا يُمْكِنُ
ذَلِكَ أَصْلًا فَاحْتَاجَتْ إلَى الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِهَا حَتَّى
يَقْعُدَ أَبُوهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَائِلِ ،
ثُمَّ تَقْعُدُ هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا عَلَى طَرَفِ الْحَائِلِ أَوْ
عَلَى الْأَرْضِ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا دَخَلَتْ هِيَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا عَلَى أَبِيهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،
وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُفَضِّلُهَا وَيُعَظِّمُهَا بِتَفْضِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُمْكِنُ
أَنْ يَقْعُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى حَائِلٍ ، وَهِيَ
تَقْعُدُ مُبَاشِرَةً لِلْأَرْضِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ حَتَّى يُجْلِسَهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَالِسًا
لِأَجْلِ الْمَنْزِلَةِ الْعُظْمَى الَّتِي لَهَا عِنْدَ رَبِّهَا ،
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ وَقِيَامَهَا كَانَ لِمَا ذُكِرَ
، وَهُوَ الْإِفْسَاحُ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِيثَارُ بِهِ مَعَ
التَّقْبِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي الْحَدِيثِ مَا
يَأْتِي بَعْدَ هَذَا ، وَهُوَ نَصْرٌ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَفِي هَذَا الْجَوَابِ
وَإِيضَاحِهِ مَقْنَعٌ مَعَ الْإِنْصَافِ ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَوْ
جِئْنَا بِقِرَابِ الْأَرْضِ أَجْوِبَةً وَاضِحَةً لَا يُمْكِنُ
التَّسْلِيمُ ، وَلَا الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْصَافَ هُوَ رَأْسُ
الْخَيْرِ وَزُبْدَتُهُ وَمَنْبَعُهُ ، فَقَدْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ
وَاتَّضَحَ فَاسْلُكْ أَيَّ الطَّرِيقِينَ شِئْتَ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا
وَإِيَّاكَ لِطَرِيقِ الرَّشَادِ وَيُجَنِّبُنَا وَإِيَّاكَ طَرِيقَ
الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى أَبُو
دَاوُد أَنَّ عَمْرَو بْنَ السَّائِبِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا
يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ
ثَوْبِهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا
شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ
أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ انْتَهَى .
اسْتَدَلَّ
رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ بِقِيَامِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَخِيهِ مِنْ
الرَّضَاعَةِ وَلَقَدْ نَطَقَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْحِكْمَةِ فِي
قَوْلِهِ : كُلُّ كَلَامٍ مَأْخُوذٌ مِنْهُ وَمَتْرُوكٌ إلَّا كَلَامُ
صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا
بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ إلَى هَذَا الْعَالِمِ كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ
لِلْأَخِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ
وَنَقَلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَقُولُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُمْ لِأَبِيهِ ، وَلَا لِأُمِّهِ وَإِنَّمَا
قَامَ لِأَخِيهِ وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ وَالْمَوْضِعُ وَاحِدٌ ، وَقَدْ
قَدَّمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ قَوْلَهُ الَّذِي
يَخْتَارُ الْقِيَامَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ
وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِخْوَةَ ، ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا
عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْوَالِدَيْنِ وَأَنَّهُ
الَّذِي اخْتَارَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ وَأَقْوَمُ طَرِيقٍ
عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ
الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْرِهِ بِذَلِكَ لِعُذْرٍ كَانَ
هُنَاكَ مَوْجُودًا مِنْ غَيْرٍ قَصْدٍ لِلْقِيَامِ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَإِكْرَامِهِمَا وَقَرَنَ رِضَاهُمَا بِرِضَاهُ وَسَخَطَهُمَا بِسَخَطِهِ
.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي سَأَلَهُ
عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَلَوْ كَانَ
الْقِيَامُ لَهُمَا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَتْرُكَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ ،
وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَوْجَبَ بِرَّهُمَا مَعَ
إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقِيَامُ لِأَخِيهِ وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْجَوَازِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَخِيهِ
قَدْ تَبَيَّنَ ، وَاتَّضَحَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقِيَامُ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ أَبُوهُ بَسَطَ لَهُ طَرَفَ رِدَائِهِ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ بَسَطَ لَهَا طَرَفَ رِدَائِهِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ أَخُوهُ قَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى أَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ قِيَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ لَهُمَا مَعًا ، إمَّا أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ يُوَسِّعَ لَهُ فِي الرِّدَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ رِدَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رِدَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا نُقِلَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا فَمِنْ أَيْنَ يَسْعَ عَلَى هَذَا أَرْبَعَةً فَضَاقَ الرِّدَاءُ عَنْ أَرْبَعَةٍ ، وَمِنْ أَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ وَمُعَاشَرَتِهِ الْجَمِيلَةِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقْعُدَ هُوَ بِنَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ وَأَبَوَاهُ عَلَى الرِّدَاءِ وَأَخُوهُ عَلَى الْأَرْضِ مُبَاشِرًا لَهَا فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى فَسَحَ لَهُ فِي الرِّدَاءِ حَتَّى وَسِعَهُمْ أَوْ حَتَّى وَسَّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ لِئَلَّا يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ الْحَائِطَ وَكَانَ مَعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَخَذَ عُودًا مِنْ أَرَاكٍ وَقَسَمَهُ نِصْفَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُعْوَجًّا وَالْآخَرُ مُسْتَقِيمًا فَأَخَذَ الْمُعْوَجَّ وَأَعْطَى الْمُسْتَقِيمَ لِلْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَنِي الْمُسْتَقِيمَ وَأَخَذْتَ الْمُعْوَجَّ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ إذَا سَأَلَنِي أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ فَضَّلْتُكَ فِيهَا عَلَى نَفْسِي فَإِذَا كَانَ هَذَا دَأْبَهُ وَخُلُقَهُ وَمُعَامَلَتَهُ مَعَ رَجُلٍ لَمْ يُشَارِكْهُ إلَّا فِي دُخُولِ
حَائِطٍ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ مَعَ مَنْ شَارَكَهُ فِي
الرَّضَاعِ وَالْحِجْرِ وَالتَّرْبِيَةِ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَأَبٍ وَاحِدٍ
أَعْنِي : الْجَمِيعُ مِنْ الرَّضَاعِ فَكَيْفَ يَكُونُ بِرُّهُ بِهِ
وَإِكْرَامُهُ لَهُ فَلَمْ يُمْكِنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا شَابَهَهَا أَنْ يَقْعُدَ عَلَى
حَائِلٍ عَنْ الْأَرْضِ وَأَخُوهُ دُونَ حَائِلٍ .
وَأَمَّا إكْرَامُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ بِالْقِيَامِ فَلَا سَبِيلَ إلَى
الْقَوْلِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الْوَالِدَيْنِ بِذَلِكَ مِنْ
بَابِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ
وَالْإِكْرَامِ وَتَرَكَهُ لَكَانَ قَدْ تَرَكَ لِوَالِدَيْهِ شَيْئًا
مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَهُمَا ، وَهَذَا
لَا يَخْطُرُ لِمَنْ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَلَوْ
عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ مَا فِي هَذَا الَّذِي قَرَّرَ مِنْ الْخَطَرِ
مَا قَالَهُ ، وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ فِي
الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ
اللَّهُ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ : إنَّ أُمَّ حَكِيمِ بِنْتَ
الْحَارِثِ بْنَ هِشَامٍ كَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ
فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا مِنْ الْإِسْلَامِ
حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ
عَلَيْهِ الْيَمَنَ فَدَعَتْهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَقَدِمَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَ إلَيْهِ
فَرِحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ انْتَهَى .
اسْتَدَلَّ
رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّدْبِ إلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ،
وَهَذَا لَا يُنَازَعُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَامٌّ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَدَمُ قِيَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِأَبَوَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِيَامُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ
وَالْإِكْرَامِ لَفَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبَوَيْهِ
، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَا يَرِدُ مِنْ الْقِيَامِ
فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْبِرِّ
وَالِاحْتِرَامِ لِمَا ذُكِرَ .
وَقَدْ
أَجَازَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْقِيَامَ لِلْغَائِبِ
؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْوَارِدِ أَنَّكَ تَأْتِي إلَيْهِ فَتُسَلِّمُ
عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْكَ فَأَقَلُّ
مَا يُمْكِنُ أَنَّك تَقُومُ مَاشِيًا إلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا فَاتَكَ
مِنْ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ نَصَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ بَابِهِ .
وَكَذَلِكَ
قَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
حِينَ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَبَّلَهُ وَعَانَقَهُ وَقَالَ :
وَاَللَّهِ مَا أَدْرَى بِأَيِّهِمَا أُسَرُّ أَكْثَرَ هَلْ بِقُدُومِ
جَعْفَرٍ أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ حَمَلَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ عَلَى الْقِيَامِ لِلْغَائِبِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ
بِسَبِيلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ
قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ
انْتَهَى .
فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا نَحْنُ
بِسَبِيلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ
ضَرُورَةً لِأَحَدِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ لِسَيِّدِ الْعُلَمَاءِ
وَقُدْوَتِهِمْ أَجْمَعِينَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَالِمَ إذَا
قَعَدَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ حَلْقَةً كُلُّ إنْسَانٍ يَتْرُكُ مَا
كَانَ فِيهِ مِنْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ وَبَحْثٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَجُلُوسٍ
فِي مُصَلَّاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَسْمَعُ إذْ ذَاكَ
وَيَسْتَفِيدُ مِنْ الْعَالِمِ ، فَإِذَا فَرَغَ الْعَالِمُ وَانْصَرَفَ
انْصَرَفَ النَّاسُ بِانْصِرَافِهِ إلَى مَا كَانُوا بِصَدَدِهِ أَوْ إلَى
قَضَاءِ بَعْضِ ضَرُورَاتِهِمْ أَوْ إلَى مُصَلَّاهُمْ أَوْ إلَى
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ
الْمُحْوِجَةِ إلَى الْحَرَكَةِ وَالْقِيَامِ ، وَبُيُوتُ