كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
الْعَبْدَرِيُّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى
سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ الْمُضْطَرُّ لِذَلِكَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيُّ
الْقَبِيلِيُّ الْفَاسِيُّ الدَّارِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَلَطَفَ بِهِ .الْحَمْدُ
لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالدَّوَامِ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْأَيَّامِ
الْمُوجِدِ لِلْخَلْقِ بَعْدَ الْعَدَمِ الْمُفْنِي لَهُمْ بَعْدَ أَنْ
ثَبَتَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الصُّحُفِ كَمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ
الْعَالِمِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ أَسْرَارُهُمْ فِي الْحَالِ وَفِي
الْقِدَمِ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ عَبْدٍ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا عِنْدَ زَلَّةِ
الْقَدَمِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ
إلَى أَكْرَمِ الْأُمَمِ .
وَبَعْدُ : فَإِنِّي كُنْت كَثِيرًا مَا
أَسْمَعُ سَيِّدِي الشَّيْخَ الْعُمْدَةَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ
الْمُحَقِّقَ الْقُدْوَةَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
حَمْزَةَ يَقُولُ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ
لَيْسَ لَهُ شُغْلٌ إلَّا أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ مَقَاصِدَهُمْ فِي
أَعْمَالِهِمْ وَيَقْعُدَ إلَى التَّدْرِيسِ فِي أَعْمَالِ النِّيَّاتِ
لَيْسَ إلَّا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مَا أَتَى عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا مِنْ تَضْيِيعِ النِّيَّاتِ فَقَدْ رَآنِي
ذَكَرْتُ بَعْضَ مَا كَانَ يُجْرَى عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَائِدِ فِي
ذَلِكَ لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ فَطَلَبَ أَنْ أَجْمَعَ لَهُ شَيْئًا لِكَيْ
يَعْرِفَ تَصَرُّفَهُ فِي نِيَّتِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَعَلَيْهِ
وَتَسَبُّبَهُ فَامْتَنَعْتُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِمَّا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي الْقَوْمِ
الَّذِينَ يَمْضُغُونَ أَلِسَنَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ
الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ .
وَمِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَوَّلُ مَا تُسَعَّرُ
النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَالِمٍ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ
خَلْفَهُ فَيَدُورُ فِيهَا
كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ
فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ لَهُ يَا هَذَا
أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ
الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ
وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ } أَوْ كَمَا قَالَ .
وَفِي
الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَيْضًا { أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَيَرَى غَيْرَهُ يَدْخُلُ
بِهِ الْجَنَّةَ لِعَمَلِهِ بِهِ وَهُوَ يَدْخُلُ النَّارَ لِتَضْيِيعِهِ
الْعَمَلَ وَرَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَتَرَكَهُ
لِوَارِثِهِ فَعَمِلَ بِهِ الْخَيْرَ فَيَرَى غَيْرَهُ يَدْخُلُ بِهِ
الْجَنَّةَ وَهُوَ يَدْخُلُ النَّارَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ وَهْبٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ مِنْ
أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ
اللَّهُ بِعِلْمِهِ } وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ
جِدًّا فَامْتَنَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَحْتَوِ عَلَيْهِ
عَمَلٌ فَأَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَكِنْ عَارَضَتْنِي
أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ يُمْكِنِّي الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا ؛ لِأَنَّ
تَرْكَ الْعَمَلِ مَعْصِيَةٌ وَتَرْكَ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ مَعْصِيَةٌ
أُخْرَى سِيَّمَا إذَا طُلِبَ مِنِّي فَارْتِكَابُ مَعْصِيَةٍ وَاحِدَةٍ
أَخَفُّ بِالْمَرْءِ مِنْ ارْتِكَابِ مَعْصِيَتَيْنِ بِالضَّرُورَةِ
الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ { أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ
مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ }
أَوْ كَمَا قَالَ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ أَعْمَلَ بِهِ
مِمَّنْ بَلَّغَهُ إلَيْهِ .
وَمِنْهَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا ظَهَرَتْ الْفِتَنُ
وَشُتِمَ أَصْحَابِي فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَكَتَمَهُ فَهُوَ
كَجَاحِدِ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } انْتَهَى وَهَذَا
أَمْرٌ خَطَرٌ .
وَقَدْ
أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يُعَلِّمُوا وَأَخَذَ
إذْ ذَاكَ الْعَهْدَ عَلَى الْجُهَّالِ أَنْ يَسْأَلُوا فَأَشْفَقْتُ مِنْ
هَذَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ فَآثَرْتُهُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ فِيهِ
فَائِدَةً أُخْرَى كَبِيرَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً لِي فِي
كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَمُطَالَعَتِهِ فَأَتَذَكَّرُ
بِهِ مَا كَانَ يَمْضِي مِنْ بَعْضِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فِي مَجَالِسِ
سَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيَّ
مِنْ وُجُوهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مِنْ قِبَلِ نَفْسِي
لِلتَّذْكِرَةِ .
الثَّانِي : مِنْ قِبَلِ طَالِبِهِ لِئَلَّا أَدْخُلَ بِذَلِكَ فِيمَنْ
سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ .
الثَّالِثُ
: لَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَرَاهُ وَيَعْمَلُ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ يَدْعُو
لِمُؤَلِّفِهِ الْمُنْكَسِرِ خَاطِرُهُ مِنْ قِلَّةِ الْعَمَلِ لَعَلَّ
أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَمَلِ .
وَقَدْ قَالَ
الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنِّي لَا أَكْرَهُ
الْقِصَصَ إلَّا لِثَلَاثٍ قُلْتُ إحْدَاهُنَّ قَوْله تَعَالَى {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ }
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } انْتَهَى .
لَكِنْ
قَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ
سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ
بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ
مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ .
قَالَ
مَالِكٌ صَدَقَ وَمِنْ هَذَا أَنَّ ارْتِكَابَ مَعْصِيَةٍ وَاحِدَةٍ
أَخَفُّ مِنْ ارْتِكَابِ مَعْصِيَتَيْنِ وَلَقَدْ بَدَأْتُهُ بِآيَةٍ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَى مَا أُرِيدُهُ
بِآيَاتٍ
وَأَحَادِيثَ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا فِي بَعْضِ
الْمَوَاضِعِ فَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَتَيْتُ بِهَا النَّصُّ
وَالنِّسْبَةُ لِنَاقِلِهَا وَبَعْضُهَا بِالْمَعْنَى وَعَدَمُ
النِّسْبَةِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى نَقْلِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ
لِعَدَمِ الْكُتُبِ الْحَاضِرَةِ فِي الْوَقْتِ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ
تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى بَعْضِ حِكَايَاتٍ تَكُونُ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا
لِمَا الْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى بَيَانِهِ وَرُبَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى
بَعْضِ الْآدَابِ وَوَجَدْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُونَ بِضِدِّهَا
فَاحْتَجْتُ إلَى الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ مَعَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
وَجْهُ الصَّوَابِ وَيَتَّضِحَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى
وَبَدَأْتُ فِيهِ بِمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْآكَدُ وَالْأَهَمُّ ثُمَّ
الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَتَّبْتُ ذَلِكَ عَلَى
فُصُولٍ لِيَكُونَ كَالْفَصْلِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي الْمَعْنَى
الْمُرَادِ بِهِ فَيَكُونَ أَيْسَرَ لِلْفَهْمِ وَأَهْوَنَ عَلَى مَنْ
يُرِيدُ أَنْ يُطَالِعَ مَسْأَلَةً مُعَيَّنَةً بِحَسَبِ مَا هُوَ
مَوْجُودٌ وَمَسْطُورٌ فِيهِ وَهَذَا بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْوَقْتِ فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا لَعَلَّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ سُلَّمًا يَتَرَقَّى بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَأَنْ
يُدَقِّقَ النَّظَرَ فِيمَا ذَكَرْتُهُ فَلَعَلَّهُ يَبْلُغُ الْكَمَالَ
وَيَعْذُرُ مَنْ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ فَإِنْ ظَهَرَ
غَلَطٌ أَوْ وَهْمٌ أَوْ تَقْصِيرٌ أَوْ غَفْلَةٌ أَوْ جَهْلٌ أَوْ عِيٌّ
فَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ مِنِّي وَمِنْ
الشَّيَاطِينِ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً
ظَهَرَتْ لَهُ عَوْرَةٌ أَوْ عَيْبٌ فَسَتَرَ أَوْ عَذَرَ فَاسْتَعْذَرَ
وَإِنْ ظَهَرَ خَيْرٌ فَبِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالْمَنِّ لَهُ
بَدْءًا وَعَوْدًا وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْلِحَ مَا وَجَدَ مِنْ الْغَلَطِ
وَالْوَهْمِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ
الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَنَّ الْبِرَّ خَيْرٌ .
وَسَمَّيْتُهُ بِمُقْتَضَى وَضْعِهِ كِتَابَ الْمَدْخَلِ إلَى تَنْمِيَةِ
الْأَعْمَالِ بِتَحْسِينِ النِّيَّاتِ
وَالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ وَالْعَوَائِدِ الَّتِي
اُنْتُحِلَتْ وَبَيَانِ شَنَاعَتِهَا وَقُبْحِهَا .
فَنَسْأَلُ
اللَّهَ تَعَالَى الْكَرِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ
خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَأَنْ يُرِيَنَا بَرَكَتَهُ يَوْمَ الْوُقُوفِ
بَيْنَ يَدَيْهِ وَحِينَ حُلُولِ الْإِنْسَانِ فِي رَمْسِهِ وَأَنْ
يَنْفَعَ بِهِ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَضَّ عَلَيْهِ أَوْ كَتَبَهُ أَوْ
كَسَبَهُ أَوْ طَالَعَهُ أَوْ نَظَرَ فِيهِ وَاعْتَبَرَ وَسَتَرَ
وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ وَالْإِقَالَةَ وَسَتْرَ
الْعَوْرَاتِ وَتَأْمِينَ الرَّوْعَاتِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا
وَلِوَالِدِ وَالِدَيْنَا وَلِمَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ وَلِمَنْ
عَلَّمَنَا وَلِمَنْ عَلَّمْنَاهُ وَلِمَنْ أَفَادَنَا وَلِمَنْ
أَفَدْنَاهُ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ .
فَصْلٌ فِي
التَّحْرِيضِ عَلَى الْأَفْعَالِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ بِنِيَّةِ
حَاضِرَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْإِخْلَاصُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ ، وَذَلِكَ
أَنَّ لِابْنِ آدَمَ جَوَارِحَ ظَاهِرَةً وَجَوَارِحَ بَاطِنَةً فَعَلَى
الظَّاهِرَةِ الْعِبَادَةُ وَالِامْتِثَالُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى
وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَعَلَى الْبَاطِنَةِ أَنْ
تَعْتَقِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ مُخْلِصَةً فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَالْأَصْلُ الَّذِي تَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ عَلَى
أَنْوَاعِهَا هُوَ الْإِخْلَاصُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ
فَعَلَى هَذَا الْجَوَارِحُ الظَّاهِرَةُ تَبَعٌ لِلْبَاطِنَةِ ، فَإِنْ
اسْتَقَامَ الْبَاطِنُ اسْتَقَامَ الظَّاهِرُ جَبْرًا ، وَإِذَا دَخَلَ
الْخَلَلُ فِي الْبَاطِنِ دَخَلَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ
وَكُلِّيَّتُهُ فِي تَخْلِيصِ بَاطِنِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ إذْ أَنَّ
أَصْلَ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُ تَتَفَرَّعُ ، وَهُوَ مَعْدِنُهَا ، وَقَدْ
نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ فَقَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً
إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ .
وَقَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا
فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ فَالْهِجْرَةُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ
فِي الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ لِلَّهِ وَهَذِهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ
وَهِيَ النِّيَّةُ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ
السَّاجِدَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسَّاجِدَ لِلصَّنَمِ فِي صُورَةٍ
وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ عِبَادَةً وَهَذِهِ كُفْرًا
بِالنِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ مُحَافِظًا عَلَى
نِيَّتِهِ ابْتِدَاءً فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ يَنْظُرَ
أَوَّلًا فِي نِيَّتِهِ فَيُحْسِنَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً
فَيُنَمِّيَهَا إنْ أَمْكَنَ تَنْمِيَتُهَا وَمَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِي
غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ إلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ
عَلَى بَعْضِهِمْ تَقَارُبُ أَفْعَالِهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يَفْتَرِقُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِمْ وَتَنْمِيَةِ
أَفْعَالِهِمْ .
مِثَالُ ذَلِكَ ثَلَاثُ رِجَالٍ يَخْرُجُونَ إلَى
الصَّلَاةِ أَحَدُهُمْ يَخْرُجُ وَيَنْظُرُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ
لِنَفْسِهِ أَوْ لِبَيْتِهِ قَضَاهَا فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ سَاهٍ عَنْ
نِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَهَذَا لَهُ
أَجْرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا وَالْخُطَى الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا
لِلْمَسْجِدِ قَدْ ذَهَبَتْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا
يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا
دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي
الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا
دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَشُرِطَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي حُصُولِ هَذَا الْأَجْرِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا
الصَّلَاةَ وَهَذَا الْمَذْكُورُ قَدْ أَرَادَ غَيْرَهَا بِالْحَاجَةِ
الَّتِي نَوَى قَضَاءَهَا .
وَالثَّانِي خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ
إلَّا وَلَمْ يَخْلِطْ مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ غَيْرَهَا ، فَهَذَا
أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بَرَكَةُ
الْخُطَى إلَى الْمَسْجِدِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .
وَالثَّالِثُ خَرَجَ بِمَا
خَرَجَ بِهِ الثَّانِي لَكِنَّهُ حِينَ خُرُوجِهِ نَظَرَ فِي نِيَّتِهِ
إنْ كَانَ يُمْكِنُ تَنْمِيَتُهَا أَمْ
لَا فَوَجَدَ ذَلِكَ
مُمْكِنًا مُتَحَصِّلًا فَفَعَلَهُ فَخَرَجَ وَلَهُ مِنْ الْأُجُورِ مَا
لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَإِذَا
كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى
الْمَسْجِدِ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ الْأَفْعَالِ
دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ
تَنْمِيَتُهَا فَعَلَ ذَلِكَ .
فَيَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ
وَالسَّعَادَةُ الْعُظْمَى مَعَ رَاحَةِ الْبَدَنِ مِنْ التَّعَبِ
وَغَيْرِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
مَهْمَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا نَوَاهُ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ
مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ لِلشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ فَلْيُبَادِرْ إلَيْهِ .
وَالْحَذَرَ
الْحَذَرَ مِنْ تَرْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ ، وَهُوَ قَادِرٌ
عَلَيْهِ كَانَ الْأَوْلَى بِهِ وَالْأَفْضَلُ تَرْكَ النِّيَّةِ فِيهِ ؛
لِأَنَّهُ إذَا نَوَاهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ دَخَلَ إذْ
ذَاكَ فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتَكُونُ نِيَّتُهُ تُحَصِّلُهُ فِي هَذَا
الْمَقْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا تُنَمِّي هَذِهِ
الطَّائِفَةُ أَعْمَالَهَا لِاهْتِبَالِهِمْ بِأَمْرِ دِينِهِمْ
وَقُوَّتِهِمْ فِيهِ فَإِذَا ظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَتْرُكُوهُ
فَيَحْصُلُ لَهُمْ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلُ وَمَا لَمْ يَحْصُلْ
حَصَلَ لَهُمْ أَجْرُ النِّيَّةِ .
وَقَدْ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَعَ اللَّهُ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ
انْتَهَى فَلَا يَزَالُونَ فِي خَيْرٍ دَائِمٍ وَأُجُورٍ مُتَزَايِدَةٍ
بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْهُو حِينَ الْفِعْلِ أَوْ
يَفْعَلُهُ بِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ أَوْ يَفْعَلُهُ وَلَهُ فِيهِ حَسَنَةٌ
وَاحِدَةٌ .
كَتَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اعْلَمْ يَا عُمَرُ أَنَّ
عَوْنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ بِقَدْرِ النِّيَّةِ فَمَنْ ثَبَتَتْ نِيَّتُهُ
تَمَّ عَوْنُ اللَّهِ لَهُ وَمَنْ قَصُرَتْ عَنْهُ نِيَّتُهُ قَصُرَ
عَنْهُ
عَوْنُ اللَّهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَكَتَبَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ إلَى
أَخِيهِ أَخْلِصْ النِّيَّةَ فِي أَعْمَالِك يَكْفِك قَلِيلُ الْعَمَلِ ،
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : مَنْ لَمْ
يَهْتَدِ إلَى النِّيَّةِ بِنَفْسِهِ فَلْيَصْحَبْ مَنْ يُعَلِّمُهُ
حُسْنَ النِّيَّةِ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ
رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : نَظَرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَمْ
يَأْتِنَا إلَّا مِنْ قِبَلِ الْغَفْلَةِ عَنْ النِّيَّةِ ؛ لِأَنِّي
نَظَرْت فَوَجَدْت الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :
إمَّا حَرَكَةٌ وَإِمَّا سُكُونٌ وَكِلَاهُمَا عَمَلٌ انْتَهَى كَلَامُهُ
بِالْمَعْنَى ، فَإِنْ تَحَرَّكَ الْإِنْسَانُ أَوْ سَكَنَ سَاهِيًا أَوْ
غَافِلًا كَانَ ذَلِكَ عَمَلًا عَارِيًّا عَنْ النِّيَّةِ فَيَخْرُجُ أَنْ
يَكُونَ عَمَلًا شَرْعِيًّا لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إنَّمَا
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ تَحَصَّلَ
مِنْهُ أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً وَأَكْثَرَهُمْ خَيْرًا
وَبَرَكَةً الْوَاقِفُ مَعَ نِيَّتِهِ فِي حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا
وَخِيَارِ مَنْ تَقَدَّمَنَا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِتَحْسِينِ
نِيَّاتِهِمْ وَتَحْرِيرِهَا فَكَانَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ
كُلُّهَا عِبَادَةً .
وَنَحْنُ الْيَوْمَ إنَّمَا الْعِبَادَةُ
عِنْدَنَا مَا كَانَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ
وَالْجِهَادِ وَأُصُولِ الدِّينِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَهَذِهِ إنَّمَا هِيَ
عِنْدَ الْمُوَفَّقِينَ مِنَّا أَعْنِي الْمُحَافِظِينَ عَلَى هَذِهِ
الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ بِوَاجِبِهَا وَمَنْدُوبِهَا وَبَقِيَ مَا
عَدَا هَذِهِ الْأَفْعَالِ عِنْدَنَا عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنَّا مَنْ
يَفْعَلُهَا لِلدُّنْيَا وَمِنَّا مَنْ يَفْعَلُهَا رَاحَةً وَمِنَّا مَنْ
يَفْعَلُهَا غَفْلَةً وَنِسْيَانًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ
الْعَارِضَةِ لَنَا فِي تَصَرُّفِنَا فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ سَلَفِنَا .
حَكَى الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّحْبِيرِ لَهُ
قَالَ : قِيلَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّالِحِينَ رُئِيَ فِي
الْمَنَامِ
فَقِيلَ لَهُ : مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ قَالَ : غَفَرَ لِي وَرَفَعَ
دَرَجَاتِي فَقِيلَ لَهُ : بِمَاذَا فَقَالَ لَهُ : هَاهُنَا يُعَامِلُونَ
بِالْجُودِ لَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَيُعْطُونَ بِالنِّيَّةِ لَا
بِالْخِدْمَةِ وَيَغْفِرُونَ بِالْفَضْلِ لَا بِالْفِعْلِ .
سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ وَقَعَ قَحْطٌ
بِإِفْرِيقِيَّةَ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ فَأَرْسَلَ
بَعْضُ الْأَكَابِرِ إلَى أَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَخْرُجَ
مَعَ النَّاسِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ فَجَاءَ الرَّسُولُ إلَى الشَّيْخِ
فَلَمْ يَجِدْهُ فِي بَيْتِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ : هُوَ فِي
أَرْضِهِ يَعْمَلُ فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ جَاءَ عَشِيَّةً
وَمَعَهُ الْبَقَرُ وَآلَةُ الْحَرْثِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ
وَبَلَّغَ إلَيْهِ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ فَسَكَتَ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ
جَوَابًا فَبَقِيَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُنْتَظِرًا رَدَّ
الْجَوَابِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي
أَرْسَلَهُ فَخَرَجَ وَمَرَّ عَلَى الشَّيْخِ ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي
أَرْضِهِ فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي مَا أَرُدُّ لِسَيِّدِي فُلَانٍ فِي
الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ : لَوْ عَلِمْت أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنِّي نَفَسٌ
لِغَيْرِ اللَّهِ لَقَتَلْت نَفْسِي فَمَنْ يَرَاهُ يَتَسَبَّبُ
وَيَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ يَظُنُّ أَنَّهُ طَالِبُ دُنْيَا أَوْ مُبْتَغٍ
لَهَا ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْحَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي هَذَا مَعَ
غَيْرِهِ فِي الصُّورَةِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ نَفَسٌ
عَلَى مَا ذَكَرَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَافْتَرَقَ الْعَمَلَانِ بِمَا
احْتَوَى عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَهِيَ النِّيَّةُ وَكَيْفِيَّتُهَا .
حَكَى
صَاحِبُ الْقُوتِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَ شَيْخِهِ عَشِيَّةَ
عَرَفَةَ بِالْعِرَاقِ فِي أَرْضٍ لَهُ يَزْرَعُ ، وَإِذَا بِرَجُلٍ
يَمُرُّ كَالسَّحَابِ فَوَقَفَ مَعَ الشَّيْخِ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ سَاعَةً
، وَالشَّيْخُ يَقُولُ : لَا أَقْدِرُ ثُمَّ مَضَى فَسَأَلْته مَنْ هَذَا
الرَّجُلُ : فَقَالَ : هَذَا بَدَلُ الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ فَقُلْت
لَهُ وَمَا طَلَبَ مِنْك حَتَّى امْتَنَعْت مِنْ فِعْلِهِ ؟ فَقَالَ :
طَلَبَ
مِنِّي أَنْ أَقِفَ مَعَهُ اللَّيْلَةَ بِعَرَفَةَ فَقُلْت لَهُ يَا
سَيِّدِي وَمَا مَنَعَك مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لِي كُنْت نَوَيْت
زِرَاعَةَ تِلْكَ الْبُقْعَةِ اللَّيْلَةَ فَانْظُرْ كَيْفَ تَرَكَ
الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِأَجْلِ زَرْعِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَلَوْ كَانَتْ
زِرَاعَتُهَا عِنْدَهُ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ لَتَرَكَهَا وَلَكِنْ لَمَّا
كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهَا صَالِحَةً بِحَسَبِ مَا نَوَى لَمْ يَقْدِرْ
أَنْ يَتْرُكَهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ وَفِي قَوْله تَعَالَى
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ حُكِيَ لِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ
سَيِّدِي أَبِي عَلِيٍّ حَسَنٍ الزُّبَيْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ
إمَامًا مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا مُقَدَّمًا عِنْدَ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ
مِنْ الْمَشَايِخِ مِثْلِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ
وَسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ وَنَظَائِرِهِمَا .
قَالَ
: كُنْت مَعَ سَيِّدِي حَسَنٍ فِي حَائِطٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهِ ، وَإِذَا
بِشَخْصٍ يَدُقُّ الْبَابَ فَمَشَيْت إلَى الْبَابِ لِأَنْظُرَ مَنْ هُوَ
فَإِذَا هُوَ سَيِّدِي حَسَنٌ قَدْ لَحِقَنِي فَسَأَلَنِي عَنْ قِيَامِي
بِأَيِّ نِيَّةٍ قُمْت فَقُلْت : قُمْت لِأَفْتَحَ الْبَابَ قَالَ : لَا
غَيْرَ قُلْت : هُوَ ذَاكَ أَوْ كَمَا قَالَ : قَالَ : فَعَابَ ذَلِكَ
عَلَيَّ وَانْتَهَرَنِي ، وَقَالَ : فَقِيرٌ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ
عَارِيَّةٍ عَنْ النِّيَّةِ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَامَ لِفَتْحِ
الْبَابِ وَعَدَّدَ لِي مَا قَامَ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ ، فَإِذَا هِيَ
نَحْوُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ نِيَّةً وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا
ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَا
تَخْرُجُ إلَّا بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا جَاءَ إلَى
الْحَجِّ وَوَجَدَ بَعْضَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِمَكَّةَ وَالنَّاسُ
يَسْمَعُونَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَجْلِسْ إلَيْهِ وَلَمْ
يُسَمِّعْ عَلَيْهِ شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : مَا خَرَجْت
بِهَذِهِ
النِّيَّةِ فَلَمَّا أَنْ حَجَّ وَرَجَعَ إلَى بَلَدِهِ رَحَلَ إلَى
الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ إلَى بَلَدِهِ بِالْيَمَنِ أَوْ غَيْرِهِ
فَسَمَّعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ وَهَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ
عَلَى ظَاهِرِهِ ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ .
وَهُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ إذْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ .
فَأَرَادَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الرِّحْلَةَ
لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هِيَ الْأَصْلُ
وَالْعُمْدَةُ وَمَا وَقَعَ بَعْدَهَا مِنْ النِّيَّاتِ فَتَبَعٌ لَهَا
وَفَرْعٌ عَنْهَا تَحَفُّظًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ
حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَعًا فَيَكُونَ
كَقَدَحِ الرَّاكِبِ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَدَحَ الرَّاكِبِ هُوَ الَّذِي
يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ لِقَضَاءِ مَآرِبِهِ مِنْ شُرْبٍ وَغَيْرِهِ ؛
لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ
مِنْ تَحْمِيلِ حَوَائِجِهِ كُلِّهَا عَلَيْهَا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ
حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا لَا
فَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ
قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَتَزَيَّنُوا
لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ
لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ انْتَهَى .
وَمِنْ مُحَاسَبَةِ
النَّفْسِ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ
يَجْعَلَهُ أَصْلًا وَمَتْبُوعًا لَا فَرْعًا تَابِعًا .
وَقَدْ قَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَهُ :
وَالنِّيَّةُ وَالْعَمَلُ بِهِمَا تَمَامُ الْعِبَادَةِ فَالنِّيَّةُ
أَحَدُ جُزْأَيْ الْعِبَادَةِ لَكِنَّهَا خَيْرُ الْجُزْأَيْنِ ؛ لِأَنَّ
الْأَعْمَالَ بِالْجَوَارِحِ لَيْسَتْ مُرَادَةً إلَّا لِتَأْثِيرِهَا فِي
الْقَلْبِ لِيَمِيلَ إلَى الْخَيْرِ وَيَنْفِرَ عَنْ الشَّرِّ فَلَيْسَ
الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى
الْأَرْضِ وَضْعَ
الْجَبْهَةِ ، بَلْ خُضُوعَ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَتَأَثَّرُ
بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الزَّكَاةِ إزَالَةَ
الْمِلْكِ ، بَلْ إزَالَةَ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ ، وَهُوَ قَطْعُ عَلَاقَةِ
الْقَلْبِ مِنْ الْمَالِ .
ثُمَّ قَالَ فَاجْتَهِدْ أَنْ تُكْثِرَ مِنْ
النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِك حَتَّى تَنْوِيَ لِعَمَلٍ وَاحِدٍ
نِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَلَوْ صَدَقْت رَغْبَتُك لَهُدِيت لِطَرِيقِهِ
وَيَكْفِيك مِثَالٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ الدُّخُولَ إلَى الْمَسْجِدِ
وَالْقُعُودَ فِيهِ عِبَادَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانِيَةُ
أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
، وَأَنَّ دَاخِلَهُ زَائِرُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْوِي ذَلِكَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَعَدَ فِي
الْمَسْجِدِ فَقَدْ زَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ
إكْرَامُ زَائِرِهِ وَثَانِيهَا الْمُرَابَطَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا قِيلَ : مَعْنَاهُ انْتَظِرُوا
الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَثَالِثُهَا الِاعْتِكَافُ وَمَعْنَاهُ
كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَعْضَاءِ عَنْ الْحَرَكَاتِ
الْمُعْتَادَةِ فَإِنَّهُ نَوْعُ صَوْمٍ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ .
وَرَابِعُهَا
الْخَلْوَةُ وَدَفْعُ الشَّوَاغِلِ لِلُزُومِ السِّرِّ وَالْفِكْرِ فِي
الْآخِرَةِ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا وَخَامِسُهَا
التَّجَرُّدُ لِلذِّكْرِ وَإِسْمَاعُهُ وَاسْتِمَاعُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ يَذْكُرُ اللَّهَ
تَعَالَى وَيُذَكِّرُ بِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى وَسَادِسُهَا أَنْ يَقْصِدَ إفَادَةَ عِلْمٍ وَتَنْبِيهَ مَنْ
يُسِيءُ الصَّلَاةَ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ حَتَّى
يَنْتَشِرَ بِسَبَبِهِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ وَيَكُونَ شَرِيكًا فِيهَا
وَسَابِعُهَا أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ بِأَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ فِي نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ
حَتَّى يَسْتَحِيَ مِنْهُ مَنْ رَآهُ أَنْ يُقَارِفَ ذَنْبًا
وَقِسْ
عَلَى هَذَا سَائِرَ الْأَعْمَالِ فَبِاجْتِمَاعِ هَذِهِ النِّيَّاتِ
تُزَكَّى الْأَعْمَالُ وَتَلْتَحِقُ بِأَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ كَمَا
أَنَّهُ بِنَقْصِهَا تَلْتَحِقُ بِأَعْمَالِ الشَّيَاطِينِ كَمَنْ
يَقْصِدُ مِنْ الْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ التَّحَدُّثَ بِالْبَاطِلِ
وَالتَّفَكُّهَ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ وَمُجَالَسَةَ إخْوَانِ اللَّهْوِ
وَاللَّعِبِ وَمُلَاحَظَةَ مَنْ يَجْتَازُ بِهِ مِنْ النِّسْوَانِ
وَالصِّبْيَانِ وَمُنَاظَرَةَ مَنْ يُنَازِعُهُ مِنْ الْأَقْرَانِ عَلَى
سَبِيلِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُرَاءَاةِ بِاقْتِنَاصِ قُلُوبِ
الْمُسْتَمِعِينَ لِكَلَامِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ .
وَكَذَلِكَ
لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ فِي الْمُبَاحَاتِ عَنْ حُسْنِ النِّيَّةِ
فَفِي الْخَبَرِ إنَّ الْعَبْدَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى عَنْ كُحْلِ عَيْنِهِ وَعَنْ فُتَاتِ الطِّيبِ
بِأُصْبُعَيْهِ وَعَنْ لَمْسِ ثَوْبِ أَخِيهِ .
فَمِثَالُ النِّيَّةِ
فِي الْمُبَاحَاتِ أَنَّ مَنْ يَتَطَيَّبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُمْكِنُهُ
أَنْ يَقْصِدَ التَّنْعِيمَ بِلَذَّتِهِ وَالتَّفَاخُرَ بِإِظْهَارِ
ثَرْوَتِهِ وَالتَّزْوِيقَ لِلنِّسَاءِ وَأَخْدَانِ الْفَسَادِ
وَيَتَصَوَّرُ أَنْ يَنْوِيَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَتَعْظِيمَ بَيْتِ
اللَّهِ تَعَالَى وَاحْتِرَامَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَدَفْعَ الْأَذَى عَنْ
غَيْرِهِ بِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ وَإِيصَالَ الرَّاحَةِ
إلَيْهِمْ بِالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ وَحَسْمَ بَابِ الْغَيْبَةِ إذَا
شَمُّوا مِنْهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً وَإِلَى الْفَرِيقَيْنِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَطَيَّبَ فِي اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ
الْمِسْكِ وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ اللَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنْ الْجِيفَةِ انْتَهَى .
وَقَدْ نَقَلَ
الشَّيْخُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إجْمَاعَ
الْعُلَمَاءِ عَلَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ فَالْمُحَاسَبَةُ حَبْسُ
الْأَنْفَاسِ وَضَبْطُ الْحَوَاسِّ وَرِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ وَإِيثَارُ
الْمُهِمَّاتِ .
يُبَيِّنُ هَذَا وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ : لَوْ قِيلَ : لَكَ
إنَّك تَمُوتُ الْآنَ بِمَاذَا كُنْت تَحْتَرِفُ ؟ أَحْتَرِفُ لِأَهْلِي
بِالسُّوقِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا
يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ إلَّا عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمَّا أَنْ
اخْتَارَ الْمَوْتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِي
السُّوقِ عُلِمَ عِنْدَ ذَلِكَ مَقَاصِدُهُمْ بِالسُّوقِ مَا كَانَتْ
وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَخْرُجُونَ إلَيْهَا ، وَهَلْ هُمْ مُعْرِضُونَ
فِي تِلْكَ الْحَالِ أَوْ حَاضِرُونَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ .
وَقَدْ
قَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَنْكِحُ النِّسَاءَ وَمَا لِي
إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ :
وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ ، فَهَذَا أَعْظَمُ
مَلْذُوذَاتِ الدُّنْيَا رَجَعَ مُجَرَّدًا لِلْآخِرَةِ يَتَقَرَّبُونَ
بِهِ إلَى رَبِّهِمْ فَمَا بَالُك بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ لَذَّةً
وَشَهْوَةً ؟ فَسُبْحَانَ مَنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَسَقَاهُمْ بِكَأْسِ
نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ الْيَوْمَ قَدْ
أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ هَذِهِ أَحْوَالُ دُنْيَاهُمْ
يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى رَبِّهِمْ وَنَحْنُ الْيَوْمَ قَدْ أَخَذْنَا
أَعْظَمَ مَا يُعْمَلُ لِلْآخِرَةِ وَرَدَدْنَاهُ إلَى الدُّنْيَا
وَلِأَسْبَابِهَا بَيَانُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ : مَا أَعْمَالُ الْبِرِّ
فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ
وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ .
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْظَمَ أَعْمَالِ
الْآخِرَةِ
إنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ
الْغَالِبَ مِنْ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الدُّنْيَا صَرْفًا يَقْعُدُ
أَحَدُنَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ وَيَبْحَثُ فِيهِ ثُمَّ يَطْلُبُ مَا
هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْوَقْتِ مِنْ طَلَبِ الْمَنَاصِبِ بِهِ
وَالرِّيَاسَاتِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالرِّفْعَةِ بِهِ عَلَى
أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَمَحَبَّةِ الْحَظْوَةِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ
وَالسَّلَاطِينِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعَوَامِّ إنْ سَلِمَ مِنْ الدَّاءِ
الْعُضَالِ ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ إلَى أَبْوَابِهِمْ وَإِهَانَةُ هَذَا
الْمَنْصِبِ الشَّرْعِيِّ الْعَظِيمِ بِالْوُقُوفِ بِهِ عَلَى أَبْوَابِ
الظَّلَمَةِ وَمُعَايَنَةِ مَا الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ يُحَرِّمُهُ
وَيَأْمُرُ بِتَغْيِيرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ
لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَجَعَلَ
الْعُلَمَاءَ فِي ثَانِي دَرَجَةٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَفِي ثَالِثِ
مَرْتَبَةٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ
فَانْظُرْ إلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْعَظِيمَةِ
كَيْفَ وَقَعَ وَنَزَلَ بِهِ هَذَا النَّاقِدُ الْمِسْكِينُ
الْمُتَشَبِّهُ بِالْعُلَمَاءِ الدَّخِيلُ فِيهِمْ تَسَمَّى بِاسْمٍ لَمْ
يَسْتَحِقَّهُ فَنَزَلَ بِهِ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ ؟ لَكِنَّ
الْعِلْمَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَنْزِلْ ، وَإِنَّمَا نَزَّلَ
نَفْسَهُ وَبَخَسَهَا حَظَّهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعِلْمِ
الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِهِ تَرَكَ عِلْمَهُ عَلَى رَأْسِهِ حُجَّةً
عَلَيْهِ يُوَبِّخُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَيَكُونُ سَبَبًا
لِإِهْلَاكِهِ .
يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ الْأَحَادِيثُ
الْوَارِدَةُ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَمِنْهَا
مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ قَالَ : رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى
عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ
فَأُتِيَ بِهِ
فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ : فَمَا عَمِلْت فِيهَا قَالَ :
قَاتَلْت فِيك حَتَّى اُسْتُشْهِدْت قَالَ : كَذَبْت وَلَكِنَّك قَاتَلْت
لِيُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ : ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ
عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ
الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ
نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ : فَمَا عَمِلْت فِيهَا قَالَ : تَعَلَّمْت
الْعِلْمَ وَعَلَّمْته وَقَرَأْت فِيك الْقُرْآنَ قَالَ : كَذَبْت ،
وَلَكِنَّك تَعَلَّمْت الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْت الْقُرْآنَ
لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى
وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ
فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ : فَمَا عَمِلْت فِيهَا قَالَ :
مَا تَرَكْت مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلَّا أَنْفَقْت
فِيهَا لَك قَالَ : كَذَبْت وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ
فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ
فِي النَّارِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ
ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
رُكْبَتَيَّ ، وَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ
أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ
بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ
لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ .
وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي
رَقَائِقِهِ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظْهَرُ هَذَا
الدِّينُ حَتَّى يُجَاوِزَ الْبِحَارَ وَحَتَّى تُخَاضَ الْبِحَارُ
بِالْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي
أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَإِذَا قَرَءُوهُ قَالُوا : مَنْ
أَقْرَأُ
مِنَّا مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ
: هَلْ تَرَوْنَ فِي أُوْلَئِكُمْ مِنْ خَيْرٍ قَالُوا : لَا قَالَ :
أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأُولَئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ
وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا
مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَعْنِي رِيحَهَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ
جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ
قَالَ : وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ
مِائَةَ مَرَّةٍ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَدْخُلُهُ قَالَ
الْقُرَّاءُ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَفِي
كِتَابِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا إنَّ جَهَنَّمَ
لَتَتَعَوَّذُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْوَادِي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ
، وَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْوَادِي لَجُبًّا إنَّ جَهَنَّمَ ، وَذَلِكَ
الْوَادِي لَيَتَعَوَّذَانِ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْجُبِّ ،
وَإِنَّ فِي الْجُبِّ لَحَيَّةً إنَّ جَهَنَّمَ وَالْوَادِي وَالْجُبَّ
لَيَتَعَوَّذُونَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْحَيَّةِ سَبْعَ
مَرَّاتٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَشْقِيَاءِ مِنْ حَمَلَةِ
الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَعْصُونَ اللَّهَ تَعَالَى انْتَهَى .
نَقَلَهُ
الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
كَثِيرَةٌ فَانْظُرْ إلَى ذَلِكَ الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ وَالرُّتْبَةِ
الْعُلْيَا كَيْفَ رَجَعَتْ فِي حَقِّ هَذَا الْقَارِئِ الْمِسْكِينِ
بِهَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ وَالْمَسْكَنَةِ الْعُظْمَى بِسَبَبِ مَا
ذُكِرَ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالْمُفَاخَرَةِ ؟
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي
أَعْلَى عِلِّيِّينَ رَجَعَ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ .
وَلِهَذَا
الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ذُكِرَ
لَهُ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى طَرَفٍ
مِمَّا ذُكِرَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ
يَقُولُ : نَاقِلٌ نَاقِلٌ خَوْفًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى
مَنْصِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ وَخَوْفًا مِنْ
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذِبًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ النَّاقِلَ لَيْسَ
بِعَالِمٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ صَانِعٌ مِنْ الصُّنَّاعِ
كَالْخَيَّاطِ وَالْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ هَذَا إذَا كَانَ نَقْلُهُ
عَلَى وَجْهِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَإِلَّا كَانَ دَجَّالًا
فَيُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ
النَّقْلُ لَيْسَ إلَّا ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ ، وَإِنَّمَا
الْعِلْمُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُلُوبِ .
وَمِنْ
كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ
الْخَوَّاصُ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ
إنَّمَا الْعِلْمُ لِمَنْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَاسْتَعْمَلَهُ وَاقْتَدَى
بِالسُّنَنِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ انْتَهَى يُبَيِّنُ هَذَا
وَيُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ
الْبَزَّارِ يَقُولُ : مَا أَظُنُّ الْقُرْآنَ إلَّا عَارِيَّةً فِي
أَيْدِينَا ، وَذَلِكَ أَنَّا رَوَيْنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَفِظَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي بِضْعِ عَشْرَةَ
سَنَةً فَلَمَّا حَفِظَهَا نَحَرَ جَزُورًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى ،
وَإِنَّ الْغُلَامَ فِي دَهْرِنَا هَذَا يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْ
الْمُعَلِّمِ فَيَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَرْفًا
فَمَا أَحْسَبُ الْقُرْآنَ إلَّا عَارِيَّةً فِي أَيْدِينَا .
وَقَالَ
أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ
يَقْتَصِرَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ دُونَ مَعْرِفَتِهِ
وَفَهْمِهِ فَيَكُونَ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْفَرَ
بِطَائِلٍ .
، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ
أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ حَتَّى
تَعْمَلُوا قَالَ : ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ قَوْلِ مُعَاذٍ وَفِيهِ
زِيَادَةٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمْ الرِّعَايَةُ ، وَأَنَّ
السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمْ الرِّوَايَةُ انْتَهَى نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْآثَارُ وَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا
تُبَيِّنُ وَتُوَضِّحُ مُرَادَ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛
لِأَنَّ مَنْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ نُورًا كَانَ بَعِيدًا مِنْ
كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ
الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا الْمَذْكُورَةُ هَنِيئًا لَهُ فَمَنْ لَمْ
يَحْصُلْ لَهُ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ
النُّورِ بَقِيَ إمَّا دَجَّالًا أَوْ لِصًّا يَكِيدُ الدِّينَ
وَأَهْلَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ .
قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ
نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ
إذَا سَلِمَ طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ عِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ مِمَّا
هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَعْلُومٌ يَطْلُبُهُ
عَلَى عِلْمِهِ فَقَدْ زَادَ ذَمًّا عَلَى مَذْمُومَاتٍ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهَا وَلَوْ وَقَفَ أَمْرُنَا عَلَى هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً
بِنَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمَرْءُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ
الْفَاسِدَةِ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا عِلْمُهُ يُرْجَى لَهُ أَنَّهُ
مَهْمَا قَدَرَ عَلَى التَّرْكِ بَادَرَ إلَيْهِ وَتَابَ وَأَقْلَعَ
وَرَجَعَ إلَى الْأَعْلَى وَالْأَكْمَلِ لَكِنَّا لَمْ نَقِفْ عِنْدَ
هَذَا الْحَدِّ ، بَلْ زِدْنَا عَلَيْهِ الدَّاءَ الْمُضِرَّ الَّذِي لَا
يُمْكِنُ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا اسْتِغْفَارٌ ، وَهُوَ أَنَّا نَرَى
أَنْفُسَنَا فِي طَاعَةٍ وَخَيْرٍ ، وَأَنَّ وُقُوفَنَا عَلَى أَبْوَابِ
مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ بَابِ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ
بِحَسَبِ مَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا وَزَيَّنَ لَنَا الشَّيْطَانُ
فَأَيُّ تَوْبَةٍ تَحْدُثُ مَعَ هَذَا الْحَالِ ؟ وَأَيُّ إقَالَةٍ تَقَعُ
لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُرْجَى لِمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ فِي
غَيْرِ طَاعَةٍ ؟ أَمَّا الطَّاعَةُ فَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْهَا ،
وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا
تَكَلَّمَ فِي وَقْتِهِ عَلَى شَيْءٍ ظَهَرَ لَهُ أَقَلَّ مِنْ هَذَا
إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَوْتِ الْأَخْيَارِ
وَالْبَقَاءِ مَعَ قَوْمٍ لَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ فَضِيحَةٍ وَلَا عَارٍ
انْتَهَى .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا تَأْخُذُهُ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ
الْمَعْلُومِ نَقُولُ فِيهِ : إنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ
وَالْعِلْمُ فِي نَفْسِ طَلَبِهِ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَهَذَا كُلُّهُ
خَطَرٌ عَظِيمٌ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَلَوْ قَطَعَ
عَنَّا مَا نَأْخُذُهُ مِنْ الْمَعْلُومِ وَبَقِينَا عَلَى طَلَبِ
الْعِلْمِ لَا نَبْرَحُ وَلَا نَفْتُرُ عَمَّا كُنَّا
بِصَدَدِهِ
لَكَانَتْ دَعْوَانَا صَحِيحَةً وَلَكِنْ نَنْظُرُ إلَى أَنْفُسِنَا
فَنَجِدُ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْمَعْلُومُ تَسَخَّطَ
إذْ ذَاكَ وَيَقُولُ إذَا كَانَ مُبْتَدِئًا كَيْفَ يُقْطَعُ عَنِّي
وَأَنَا قَدْ قَرَأْت الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ وَحَفِظْت كَذَا ؟ بَلْ
لَا نَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى قَطْعِ الْمَعْلُومِ ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ
فِينَا مَعَ وُجُودِ الْمَعْلُومِ تَجِدُ الطَّالِبَ مِنَّا يَقُولُ :
كَيْفَ يَأْخُذُ فُلَانٌ كَذَا وَأَنَا أَكْثَرُ بَحْثًا مِنْهُ
وَأَكْثَرُ فَهْمًا وَأَكْثَرُ حِفْظًا لِلْكُتُبِ وَأَكْثَرُ نَقْلًا
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لَنَا الظَّاهِرَةِ
لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَّا ؟ ، بَلْ إذَا أَرَادَ الطَّالِبُ فِي
أَوَّلِ أَمْرِهِ أَنْ يَبْتَدِيَ الْقِرَاءَةَ يَبْتَدِيهِ بِهَذَا
الِاسْمِ إنْ كَانَ هُوَ الطَّالِبُ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَلِيَّهُ
فَكَذَلِكَ فَيَدْخُلُ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ يَنْشَطَ فِي الْعِلْمِ
وَيَظْهَرَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ كِفَايَتُهُ وَحَتَّى
يَحْصُلَ عَدَالَتُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَاصِبِ الَّتِي
نَحْنُ عَامِلُونَ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ لِلَّهِ
مَعَ هَذَا الْحَالِ وَإِنْ كَانَ مُنْتَهِيًا تَجِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
نَظَائِرِهِ التَّنَافُسَ عَلَى مَنَاصِبِ التَّدْرِيسِ وَالسَّعْيَ فِيهِ
إلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ؟ .
وَالتَّدْرِيسُ
بِالْمَعْلُومِ فِي الْغَالِبِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى
أَبْوَابِ هَؤُلَاءِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَهُ طَرَفٌ
مِنْ النُّورِ ؟ وَذَلِكَ بَعِيدٌ جِدًّا ثُمَّ إذَا قُطِعَ الْمَعْلُومُ
تَسَخَّطَ إذْ ذَاكَ وَيَقُولُ : أَيُّ فَائِدَةٍ لِقُعُودِي
وَيُبْطِلُونَ الْمَوَاضِعَ مِنْ الدُّرُوسِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَعْلُومُ
فَإِذَا أَتَى الْمَعْلُومُ وَجَدْتنَا نَتَسَابَقُ إلَى تِلْكَ
الْمَوَاضِعِ وَنَهْرَعُ إلَيْهَا فَصَارَ حَالُنَا كَمَا قَالَ يُمْنُ
بْنُ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَصْبَحْنَا نَذُمُّ الدُّنْيَا
بِالْأَلْسُنِ وَنَجُرُّهَا إلَيْنَا بِالْأَيَادِي وَالْأَرْجُلِ
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ هَذَا
هُوَ حَالُ السَّالِمِ
مِنْ النِّيَّةِ السُّوءِ الْيَوْمَ فِي
هَذَا الْأَصْلِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ فِي الْمَعْنَى ،
وَإِلَّا فَأَفْعَالُنَا الْغَالِبُ عَلَيْهَا هَذَا الْمَعْنَى أَلَا
تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْأَذَانِ وَمَا فِيهِ وَفِي فَضْلِ
الْإِمَامَةِ وَمَا فِيهَا ، وَالْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ
إنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَهُ مَعْلُومٌ حِينَئِذٍ يُعْمَرُ بِالْأَذَانِ
وَالْإِقَامَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مَعْلُومٌ تُرِكَ مُغْلَقًا حَتَّى يُخْرَبَ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ
مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالْهَدْمِ وَالْبَيْعِ .
فَانْظُرْ بِعَيْنِ
الْبَصِيرَةِ وَمَيِّزْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ حَالِ سَلَفِنَا فِي
أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَحَالِنَا فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي
هِيَ لِلْآخِرَةِ تَجِدُ إذْ ذَاكَ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى
مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ وَقِسْ عَلَى
هَذَا وَانْظُرْ بِنَظَرِك أَيَّ شَبَهٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخَذْنَا وَاَللَّهِ فِي الضِّدِّ عَمَّا
كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ مِنْ
أَحْوَالِنَا وَأَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَنَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَقَاءَ
فِي هَذَا سُخْفٌ فِي الْعَقْلِ وَحِرْمَانٌ بَيِّنٌ فَيَحْتَاجُ مَنْ
لَهُ لُبٌّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتُوبَ مِنْ هَذِهِ
الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ وَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْعِلْمِ فِيهَا
وَيُصْلِحَهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ
أَنَّ صَلَاحَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِهَا بَلْ يَكُونُ بِتَرْكِهَا
وَبِالْإِقَامَةِ فِيهَا هَذَا رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَرُبَّ
شَخْصٍ لَا يُنَظِّفُهُ إلَّا التَّرْكُ ، وَآخَرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى
التَّرْكِ ، بَلْ يُبَدِّلُ النِّيَّةَ وَيُحَسِّنُهَا وَيَسْتَقِيمُ
حَالُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ
أَخْذِ الدَّرْسِ فِي الْمَدَارِسِ فَيُلْتَمَسُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَعْنِي مَنْ هُوَ
الْأَصْلَحُ لَهُ التَّرْكُ أَوْ غَيْرُهُ
إلَّا لِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ أَوْ مَنْ يُبَاشِرُهُ بِعَيْنِ
الْبَصِيرَةِ وَالتَّمْيِيزِ .
فَالْحَاصِلُ
مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
سَلَفِنَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِنَا إنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ
النِّيَّةِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَيْهَا سُوَيْدَاءُ الْقُلُوبِ إذْ
أَنَّا نُصَلِّي كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ وَنَصُومُ كَمَا كَانُوا
يَصُومُونَ وَنَحُجُّ كَمَا كَانُوا يَحُجُّونَ وَافْتَرَقْنَا لِأَجْلِ
افْتِرَاقِ النِّيَّاتِ فَبَعْضُنَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُ كَثِيرًا ،
وَبَعْضُنَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُ قَلِيلًا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ .
فَمَنْ
لَهُ عَقْلٌ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ أَنْ
يُصْلِحَ مَا وَقَعَ مِنْ الْخَلَلِ فِي نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَيُحَسِّنَ
نِيَّتَهُ وَيُزِيلَ عَنْهَا الشَّوَائِبَ ثُمَّ يُنَمِّيهَا مَا
اسْتَطَاعَ جَهْدُهُ وَيَلْجَأُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى مَوْلَاهُ
وَيَسْتَغِيثُ بِهِ لَعَلَّهُ يَمُنُّ عَلَيْهِ وَيُلْحِقُهُ بِسَلَفِهِ .
وَكَيْفِيَّةُ الْمَأْخَذِ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
فَصْلٌ
فِي كَيْفِيَّةِ مُحَاوَلَةِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى
الْوُجُوبِ أَوْ إلَى النَّدْبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ : ( : لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ
أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِمْ ثُمَّ لَا يَزَالُ الْعَبْدُ
يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته
كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ
وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَبْقَى تَصَرُّفُهُ كُلُّهُ
لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِلَّهِ
وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِلَّهِ وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ لِلَّهِ وَإِنْ غَضَّ
طَرْفَهُ غَضَّهُ لِلَّهِ وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ لِلَّهِ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ
الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّ الْفَقِيرَ
حَالُهُ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْأَلْفِ يَعْنِي أَنَّ حَرَكَاتِهِ
وَسَكَنَاتِهِ خَالِصَةٌ لِرَبِّهِ قَائِمًا فِيهَا بِهِ إذْ أَنَّهُ لَا
يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا فَهُوَ بِهِ وَإِلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا
الْمَعْنَى حَمَلَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَوْلَ الْحَلَّاجِ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَنَفَعَ بِهِ لِمَا قِيلَ : لَهُ أَيْنَ اللَّهُ قَالَ : فِي
الْجُبَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْجُبَّةِ الَّتِي عَلَيْهِ
لِنَفْسِهِ تَصَرُّفٌ ، وَإِنَّمَا التَّصَرُّفُ كُلُّهُ لِلَّهِ
وَبِاَللَّهِ عَلَى مُقْتَضَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ
بِسَبِيلِهِ فَأَفْتَى مَنْ يُشَارُ إلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ
الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِقَتْلِهِ ؛ تَحَفُّظًا مِنْهُمْ عَلَى
مَنْصِبِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ غَيْرُ مُحَقِّقٍ فَيَدَّعِي
شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ وَيَجْعَلَ قُدْوَتَهُ فِي ذَلِكَ
الْحَلَّاجَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ
بَرَكَاتِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ
حَقِيقَةُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ
.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ سَهْلٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " مَنْ انْتَقَلَ مِنْ
نَفَسٍ إلَى نَفَسٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ ضَيَّعَ وَأَدْنَى مَا
يَدْخُلُ عَلَى مَنْ ضَيَّعَ دُخُولُهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَتَرْكُهُ
مَا يَعْنِيهِ ، وَقَدْ قَالُوا : إنَّ الذِّكْرَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ ، وَهُوَ مَا يَحْتَوِي
عَلَيْهِ مِنْ النِّيَّاتِ وَمِنْ الْوُقُوفِ مَعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
وَنُقِلَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ
لِمَنْ هَذِهِ الدَّارُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : مَا لِي
وَهَذَا السُّؤَالُ وَهَلْ هَذِهِ إلَّا كَلِمَةٌ لَا تَعْنِينِي ؟ فَآلَى
عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَصُومَ سَنَةً كَامِلَةً كَفَّارَةً لِهَذِهِ
الْكَلِمَةِ ، وَسَبَبُ هَذَا الْوَاقِعِ مِنْهُ وُقُوفُهُ مَعَ نِيَّتِهِ
وَالنَّظَرُ فِيهَا وَتَحْرِيرُهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا فَإِذَا
تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِأَعْظَمَ مِنْ
أَدَاءِ الْفَرَائِضِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ لُبٌّ إنْ قَدَرَ أَنْ
يَعْمَلَ الشَّيْءَ عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ كَانَ أَوْلَى بِهِ إذْ أَنَّ
ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى رَبِّهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي
الْفِعْلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَالْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ
إلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ خَمْسَةٌ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ
وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ فَالْحَرَامُ قَدْ تُرِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
فَلَا سَبِيلَ إلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُرِّمَ وَالْمَكْرُوهُ مَا
كَانَ فِي تَرْكِهِ أَجْرٌ فَلَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ ؛ لِأَنَّ فِي
فِعْلِهِ تَرْكَ الْأَجْرِ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي دِينِهِ نَهَّابًا .
كَمَا قَالَ
بَعْضُهُمْ : اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَنْهَبَانِ فِيك فَانْهَبْ فِيهِمَا
فَهُوَ يَنْهَبُ فِي الْأَعْمَالِ يَفْتَرِسُهَا كَالْأَسَدِ عَلَى
فَرِيسَتِهِ يَغْتَنِمُهَا وَيُحَصِّلُهَا ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي
مَضَى عَنْهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ أَبَدًا ، وَهُوَ شَاهِدٌ عَلَيْهِ
يَوْمَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهُ
فِعْلُهُ لِأَجْلِ تَرْكِ الْأَجْرِ فِيهِ وَلِمَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ
عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَالَ : إنَّ الْحَلَالَ
بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا
يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ
فِي الْحَرَامِ كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ
أَلَا ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا ، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ
مَحَارِمُهُ أَلَا ، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا
وَهِيَ الْقَلْبُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
أَمَّا عَلَى
مَذْهَبِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُمْ كَالْمُحَرَّمِ لَا
سَبِيلَ إلَى ذِكْرِهِ فَضْلًا عَنْ فِعْلِهِ وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ
وَسَمِعْته يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْحُكَمَاءِ قَالَ : مَا كُنْت
لَاعِبًا لَا بُدَّ أَنْ تَلْعَبَ بِهِ فَلَا تَلْعَبَنَّ بِدِينِك .
قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّهُ لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَامِحَ أَحَدًا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي مُسَامَحَتِهِ فِيهِ إثْمٌ وَإِنْ
سَامَحَهُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصْبِحَ
الرَّجُلُ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا فَيَدْعُوهُ إلَى الْفِطْرِ مِنْ صَنِيعٍ
يَصْنَعُهُ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ : أَنَّهُ إنْ حَلَفَ عَلَيْهِ
بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعِتْقِ لَيُفْطِرَن فَلْيُحَنِّثْهُ وَلَا
يُفْطِرُ ، وَإِنْ حَلَفَ هُوَ فَلْيُكَفِّرْ وَلَا يُفْطِرُ وَإِنْ
عَزَمَ عَلَيْهِ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الْفِطْرِ
فَلْيُطِعْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَحْلِفَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ
رِقَّةً مِنْهُمَا عَلَيْهِ لِاسْتِدَامَةِ صَوْمِهِ انْتَهَى فَبَقِيَتْ
الْأَفْعَالُ ثَلَاثَةً وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ فَالْمُبَاحُ مَا
اسْتَوَى طَرَفَاهُ لَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ وَلَا فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ
وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيْهِ سَاعَةٌ إلَّا ،
وَهُوَ فِيهَا طَائِعٌ لِرَبِّهِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ ، وَالسَّاعَةُ
الَّتِي يَفْعَلُ فِيهَا الْمُبَاحَ يَكُونُ عَرِيًّا عَنْ ذَلِكَ ،
وَذَلِكَ لَا
يَنْبَغِي .
أَمَّا أَهْلُ الطَّرِيقِ
فَالتَّصَرُّفُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُبَاحِ لَا يُمْكِنُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ
تَصَرُّفَهُمْ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ فَإِذَا
تَقَرَّرَ ذَلِكَ نَظَرْنَا إلَى الْمُبَاحِ فَوَجَدْنَاهُ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ يَنْتَقِلُ إلَى النَّدْبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي
أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَقِيَتْ الْأَفْعَالُ
فِعْلَيْنِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ لَيْسَ إلَّا ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ
الْوَاجِبَ أَعْظَمُ أَجْرًا فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ نَظَرْنَا إلَى
الْمَنْدُوبِ هَلْ يُمْكِنُ نَقْلُهُ إلَى الْوَاجِبِ أَمْ لَا ؟
فَوَجَدْنَاهُ يَنْتَقِلُ إلَى أَكْثَرِ الْأَعْمَالِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَقِيَ التَّصَرُّفُ
فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْوَاجِبُ أَعْنِي فِي غَالِبِ الْحَالِ
وَالْمَنْدُوبُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ .
فَصْلٌ فِي الْهُبُوبِ
مِنْ النَّوْمِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي يَكُونُ
بَعْدَهُ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَإِنْ انْتَبَهَ
الْإِنْسَانُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَامَ مِنْ فِرَاشِهِ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ
فَإِنَّ اللِّبْسَ مِنْ جِهَةِ الْمُبَاحِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ
يَرُدَّهُ إلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَذَلِكَ مَوْجُودٌ يَلْبَسُهُ
بِنِيَّةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو
الثَّوْبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ
كَانَ كَذَلِكَ ضَمَّ إلَى نِيَّةِ الْوَاجِبِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي
إظْهَارِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى
عَبْدِهِ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ .
فَيَنْوِي
بِذَلِكَ مُبَادَرَتَهُ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ
الثَّوْبُ مِمَّا لَا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَيَنْوِي بِلُبْسِهِ التَّوَاضُعَ
لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْكِسَارَ وَالتَّذَلُّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ إلَيْهِ وَامْتِثَالَ
السُّنَّةِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ
كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْيَاقُوتِ أَوْ
كَمَا قَالَ .
وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ أَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : مَنْ تَرَكَ لُبْسَ جَمَالٍ ،
وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ قَالَ بِشْرٌ أَحْسِبُهُ قَالَ : تَوَاضُعًا
كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ هَذَا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَهُ
اتِّسَاعٌ وَتَرَكَ اللِّبَاسَ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ .
أَمَّا إنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ الثَّوْبِ فَقَدْ بَقِيَ عَلَى الْوُجُوبِ
لَيْسَ إلَّا لَكِنْ يَضُمُّ إلَى نِيَّةِ الْوُجُوبِ الرِّضَى بِمَا
قَسَمَ اللَّهُ لَهُ وَتَرْكَ الِاخْتِيَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَالتَّسْلِيمَ لَهُ فِي حُكْمِهِ ، وَهَذَا أَعْظَمُ أَجْرًا إذَا
أَحْسَنَتْ نِيَّتُهُ فِيمَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ الرِّضَى ،
وَمَقَامُ الرِّضَى عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقُومُ فِيهِ إلَّا وَاحِدُ
عَصْرِهِ
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى ثِيَابٍ كَثِيرَةٍ لَا بُدَّ لَهُ
مِنْهَا يَلْبَسُهَا لِأَجْلِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيَنْوِي بِذَلِكَ
دَفْعَ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ عَنْهُ مُمْتَثِلًا فِي ذَلِكَ حِكْمَةَ
اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالِاضْطِرَارَ فِي
لُبْسِهِ مَعَ اعْتِقَادِ النِّيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ الْحَرَّ
أَوْ الْبَرْدَ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ .
وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ حَكَى بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ كَانَ
فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ قَاعِدًا لِأَجْلِ الدَّرْسِ ، وَإِذَا بِهِ قَدْ
أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ ثَوْبَهُ وَأَوْمَأَ لِذَلِكَ وَتَحَرَّكَ إلَيْهِ
ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فَسُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : حَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ إلَى ثَوْبِي
فَوَجَدْتنِي قَدْ لَبِسْته مَقْلُوبًا فَعَزَمْت عَلَى تَعْدِيلِهِ ثُمَّ
إنِّي فَكَّرْت أَنِّي كُنْت لَبِسْته حِينَ قُمْت مِنْ الْفِرَاشِ
بِنِيَّةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَاسْتَغْفَرْت اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا
أَرَدْت فِعْلَهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَهَذَا السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
لَمْ تَخْلُصْ لَهُ النِّيَّةُ بِحَضْرَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي
الْوَقْتِ أَوْ خَلَصَتْ وَخَافَ أَنْ يَشُوبَهَا شَيْءٌ مَا لِأَجْلِ
حُضُورِهِمْ فَتَرَكَهُ أَلْبَتَّةَ أَوْ أَرَادَ بِتَرْكِ ذَلِكَ عَلَى
حَالِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ مِمَّا أَرَادَ فِعْلَهُ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ
كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَيَكُونُ لُبْسُ
الثَّوْبِ مِنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى بَقَائِهَا ، وَإِلَّا لَوْ حَوَّلَهُ
ذَلِكَ الْوَقْتَ وَعَدَّلَهُ بِنِيَّةِ إكْمَالِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِ
النِّعَمِ عَلَى تَرْتِيبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ مُضَادًّا لِنِيَّتِهِ الْأُولَى لَكِنَّ هَذِهِ
الطَّائِفَةَ أَخَذَتْ بِالْجِدِّ وَالْحَزْمِ فَمَهْمَا وَقَعَ لَهُمْ
شَيْءٌ مَا مِنْ الشَّوَائِبِ أَوْ تَوَهَّمُوهَا بِطَرْفٍ مَا تَرَكُوا
الْفِعْلَ أَلْبَتَّةَ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَرَّ
بِالْفُرَاتِ وَفِيهِ مَرْكَبٌ مَوْسُوقٌ خَمْرًا ، وَكَانَ
صَاحِبُ
الْخَمْرِ مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ فِي وَقْتِهِ
لَا يُطَاقُ لِشِدَّةِ سَطْوَتِهِ فَطَلَعَ الْمَرْكَبَ وَكَسَرَ مَا
هُنَاكَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ يَتَعَرَّضُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا
أَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْسِيرِ جَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَقَفَ
عِنْدَهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَرَكَهَا يَعْنِي لَمْ يَكْسِرْهَا ثُمَّ
انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ .
فَلَمَّا أَنْ أَخْبَرُوا
الظَّالِمَ بِقِصَّتِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَأُحْضِرَ فَقَالَ : لَهُ
مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت فَقَالَ عَمِلْت مَا خَطَرَ لِي فَاعْمَلْ
مَا خَطَرَ لَك فَقَالَ لَهُ الظَّالِمُ : فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَرَكْت
الْجَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَمْ تَكْسِرْهَا وَكَسَرْت الْجَمِيعَ ؟ فَقَالَ
: ذَلِكَ لِأَنِّي لَمَّا أَنْ رَأَيْت الْمُنْكَرَ لَمْ أَتَمَالَك إلَّا
أَنْ أُغَيِّرَهُ فَفَعَلْت فَكَانَ ذَلِكَ خَالِصًا لِرَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ ثُمَّ لَمَّا أَنْ بَقِيَتْ تِلْكَ الْجَرَّةُ خَطَرَ لِي فِي
نَفْسِي أَنِّي مِمَّنْ يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ فَرَأَيْت أَنْ قَدْ حَصَلَ
لَهَا فِي ذَلِكَ دَعْوَى فَخِفْت أَنْ يَكُونَ كَسْرُ مَا بَقِيَ فِيهِ
حَظٌّ لِنَفْسِي فَتَرَكْتهَا وَانْصَرَفْت لِأَسْلَمَ مِنْ آفَاتِهَا
أَوْ كَمَا قَالَ فَرَدَّ الظَّالِمُ رَأْسَهُ إلَى خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ ،
وَقَالَ لَهُمْ لَا يَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذَا مُعَامَلَةٌ
يَفْعَلُ مَا يَخْتَارُ السَّلَامَةَ السَّلَامَةَ أَوْ كَمَا قَالَ :
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ شِدَّةَ مُلَاحَظَتِهِمْ لِنِيَّاتِهِمْ
وَإِخْلَاصَهَا وَتَحْرِيرَهَا وَتَحْرِيمَ رَفْعِ الشَّوَائِبِ عَنْهَا
وَتَرْكِ الدَّعَاوَى وَالْمُبَاهَاةِ لَا جَرَمَ أَنَّ الظَّالِمَ كَانَ
لَا يُطَاقُ رَجَعَ لِأَجْلِ بَرَكَةِ مَا ذَكَرَ مِنْ حَالِهِ خَائِفًا
مِنْهُ فَزِعًا وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى
وَسُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمْ وَاحِدَةٌ لَا يَخْذُلُهُمْ
وَلَا يَتْرُكُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ
لِنَفْسِهِ مَنْ كَانَ مَعَهَا وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا .
أَمَّا مَنْ
كَانَ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَدْ بَتَّ طَلَاقَ نَفْسِهِ فَلَا
شَكَّ أَنَّ أَمْرَ هَذَا لَا يُطَاقُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْطِقُ عَنْ
رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ عَرِيًّا عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ مُقْبِلًا عَلَى مَا
يَلْزَمُهُ وَيَعْنِيهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ جَاءَ مَا وَرَدَ
عَنْهُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : لَوْ كَادَتْهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَأَهْلُ
الْأَرْضِ لَجَعَلْت لَهُ مِنْ أَمْرِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا .
وَمَنْ
كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي دُنْيَاهُ
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَكَرَامَتُهُ حِينَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ ؟
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَهَذَا
الْخَيْرُ كُلُّهُ أَصْلُهُ النِّيَّةُ وَتَحْرِيرُهَا وَالْوُقُوفُ
مَعَهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا فَكَيْفَ يُغْفَلُ عَنْهَا أَوْ تُتْرَكُ
أَوْ يَرْضَى عَاقِلٌ أَنْ يَتْرُكَ لِنَفْسِهِ تَذَكُّرَهَا ؟ هَذَا
غَيْرُ كَامِلِ الْعَقْلِ ضَرُورَةً نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى
السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ فَحَصَلَ لَنَا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ مِنْ
النِّيَّاتِ سَبْعَ عَشْرَةَ نِيَّةً .
وَمَنْ نَظَرَ وَأَعْطَاهُ اللَّهُ نُورًا ازْدَادَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ
مِمَّا ذُكِرَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ
فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهِ فَإِذَا لَبِسَ
الثَّوْبَ عَلَى مَا ذُكِرَ يَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَوْ
يُزِيلَ حُقْنَةً وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا فَإِذَا دَخَلَ
لِرَاحَةِ نَفْسِهِ فَلَهُ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ وَإِنْ
دَخَلَ سَاهِيًا أَوْ غَافِلًا فَكَالْأَوَّلِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَفْعَالَ قَدْ بَقِيَتْ عَلَى قِسْمَيْنِ :
وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ .
وَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ لَا شَكَّ فِيهِ وَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَانَ
لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
بَيَانُ
وُجُوبِهِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ
وَاجِبٌ أَعْنِي اسْتِفْرَاغَ مَا فِي الْمَحَلِّ مِنْ مَادَّةِ الْبَوْلِ
وَكَذَلِكَ إزَالَةُ الْحُقْنَةِ أَيْضًا وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ
الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ يَقُولُ : لَا
يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ ، وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ .
وَهَذَا
نَهْيٌ ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا
أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا انْتَهَى وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ
إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالصَّلَاةُ لَا يُمْكِنُ
إيقَاعُهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ إلَّا بِإِزَالَةِ الْحُقْنَةِ فَصَارَتْ
إزَالَتُهَا وَاجِبَةً فَإِذَا قَامَ إلَى هَذَا الْوَاجِبِ يَفْعَلُهُ
فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى نِيَّةِ هَذَا الْوَاجِبِ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ
يُضِيفُ إلَيْهَا نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ
ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ آدَابَ التَّصَرُّفِ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ وَهِيَ تَنُوفُ عَلَى سَبْعِينَ خَصْلَةً يَحْتَاجُ مَنْ
قَامَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِهَا ، وَهِيَ كُلُّهَا
مَاشِيَةٌ عَلَى قَانُونِ الِاتِّبَاعِ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ .
الْأُولَى : الْإِبْعَادُ حَتَّى لَا يُرَى لَهُ شَخْصٌ وَلَا يُسْمَعُ
لَهُ صَوْتٌ .
الثَّانِيَةُ : الِاسْتِعْدَادُ لِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِيَسِيرٍ
مِنْ الْمَاءِ وَالْأَحْجَارِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يُقَدِّمَ الشِّمَالَ وَيُؤَخِّرَ الْيَمِينَ .
الرَّابِعَةُ
: إذَا خَرَجَ فَلْيُقَدِّمْ الْيَمِينَ أَوَّلًا وَيُؤَخِّرْ
الشِّمَالَ .
الْخَامِسَةُ
: أَنْ يَتَعَوَّذَ التَّعَوُّذَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الدُّخُولِ
، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبْثِ
وَالْخَبَائِثِ النَّجِسِ الرِّجْسِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
السَّادِسَةُ : أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ إذْ ذَاكَ .
السَّابِعَةُ
: أَنْ لَا يَسْتَدْبِرَهَا إلَّا فِي الْمَنَازِلِ الْمَبْنِيَّةِ فَلَا
بَأْسَ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي سَطْحٍ
فَأُجِيزَ وَكُرِهَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْلِيلِ هَلْ النَّهْيُ
إكْرَامًا لِلْقِبْلَةِ فَيُكْرَهُ أَوْ إكْرَامًا لِلْمَلَائِكَةِ
فَيَجُوزُ ؟ وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ إنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ فَيَجُوزُ ،
وَإِنْ كَانَ فِي السَّطْحِ فَيُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى
التَّعْلِيلِ .
الثَّامِنَةُ : أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِعَوْرَتِهِ
فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُمَا يَلْعَنَانِهِ .
التَّاسِعَةُ : أَنْ يَسْتَتِرَ عِنْدَ التَّبَرُّزِ .
الْعَاشِرَةُ : أَنْ يَتَوَقَّى مَسَالِكَ الطُّرُقِ .
الْحَادِيَةَ
عَشَرَ : أَنْ يَتَوَقَّى مَهَابَّ الرِّيَاحِ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَتَوَقَّى الْبَوْلَ فِي الْمَرَاحِيضِ الَّتِي فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُشْبِهُهَا فِيمَا كَانَ مِنْهَا فِي
الرَّبُوعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السَّرَابَ
مُتَّسَعًا جِدًّا وَالْمَرَاحِيضُ الَّتِي لِلرَّبْعِ كُلُّهَا نَافِذَةٌ
إلَيْهِ فَيَتَّسِعُ فِيهِ الْهَوَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْ
بَعْضِ الْمَرَاحِيضِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْأُخْرَى وَاَلَّذِي يَخْرُجُ
مِنْهَا مَوْضِعَ مَهَابِّ الرِّيَاحِ ، فَمَنْ يَبُولُ فِيهِ يَرْجِعُ
إلَى بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ وَمَنْ اُضْطُرَّ
إلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبُولَ فِي وِعَاءٍ ثُمَّ يُفَرِّغُهُ فِي
الْمِرْحَاضِ فَيَسْلَمُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
الثَّانِيَةَ عَشَرَ : أَنْ يَتَوَقَّى مَا عَلَا مِنْ الْأَرْضِ .
الثَّالِثَةَ عَشَرَ : أَنْ يُبَالِغَ فِي أَكْثَرِ مَا يَجِدُ مِنْ
الْأَرْضِ انْخِفَاضًا وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَائِطُ غَائِطًا
؛
لِأَنَّ الْغَائِطَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ
مِنْ الْأَرْضِ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا ذَهَبَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ
قِيلَ : ذَهَبَ لِلْغَائِطِ أَيْ : الْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مِنْ
الْأَرْضِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَسَمَّوْا الْخَارِجَ
بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ تَنْزِيهًا لِأَسْمَاعِهَا عَمَّا
تَنَزَّهَ عَنْهُ أَبْصَارُهَا وَكَانَتْ تَنْظُرُ إلَى الْمَكَانِ
الْمُنْخَفِضِ مِنْ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ
وَأَأْمَنُ مِنْ مَهَابِّ الرِّيَاحِ .
الرَّابِعَةَ عَشَرَ : أَنْ لَا يَقْعُدَ حَتَّى يَلْتَفِتَ يَمِينًا
وَشِمَالًا .
الْخَامِسَةَ عَشَرَ : أَنْ لَا يَكْشِفَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ
الْأَرْضِ .
السَّادِسَةَ عَشَرَ : إذَا قَعَدَ لَا يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَلَا
شِمَالًا .
السَّابِعَةَ عَشَرَ : أَنْ لَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ .
الثَّامِنَةَ عَشَرَ : أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى عَوْرَتِهِ .
التَّاسِعَةَ
عَشَرَ : أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ
لَا بُدَّ مِنْهَا وَكَذَلِكَ فِي النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ أَيْضًا .
الْعِشْرُونَ : أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ إذْ ذَاكَ كَذَلِكَ عِنْدَ
الْجِمَاعِ .
الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ : تَرْكُ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ
غَيْرَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعِيذَ عِنْدَ الِارْتِيَاعِ وَيَجِبُ
إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فِي أَمْرٍ يَقَعُ مِثْلِ حَرِيقٍ أَوْ
أَعْمَى يَقَعُ أَوْ دَابَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
الثَّانِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ : لَا يُسَلِّمُ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ
أَحَدٌ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ .
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : أَنْ يُقِيمَ عُرْقُوبَ رِجْلِهِ
الْيُمْنَى عَلَى صَدْرِهَا .
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يَسْتَوْطِئَ الْيُسْرَى .
الْخَامِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ : أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى فَإِنَّ
هَذِهِ الصِّفَاتِ أَسْرَعُ لِخُرُوجِ الْحَدَثِ .
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : يُكْرَهُ الْبَوْلُ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ
إلَى أَسْفَلَ خَوْفًا مِنْ الرِّيحِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ .
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : يُكْرَهُ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَوَاضِعِ
الْمُنْحَدِرَةِ إذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَسْفَلَ ؛ لِأَنَّ
بَوْلَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ .
الثَّامِنَةُ
وَالْعِشْرُونَ : اُخْتُلِفَ فِي الْبَوْلِ قَائِمًا فَأُجِيزَ وَكُرِهَ
وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ
الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَكَانَ الْمَوْضِعُ رَخْوًا فَإِنَّهُ يُسْتَشْفَى
بِهِ مِنْ وَجَعِ الصُّلْبِ ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلُوا مَا وَرَدَ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا .
التَّاسِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ : يَبْتَدِي بِغَسْلِ قُبُلِهِ قَبْلَ دُبُرِهِ لِئَلَّا
يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ عِنْدَ غَسْلِ دُبُرِهِ
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَنَظَّفُ إلَّا بَعْدَ أَنْ
يَقُومَ فَلَا فَائِدَةَ لِغَسْلِهِ أَوَّلًا ، بَلْ يَغْسِلُ الدُّبُرَ
وَيَتَوَقَّى مِنْ النَّجَاسَةِ أَنْ تُصِيبَ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ .
الثَّلَاثُونَ : يَغْسِلُ يَدَهُ بِالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ عِنْدَ
الْفَرَاغِ فَهُوَ أَنْظَفُ .
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : يَسْتَجْمِرُ وِتْرًا .
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا يَسْتَنْجِي فِي مَوْضِعِ قَضَاءِ
الْحَاجَةِ .
الثَّالِثَةُ
وَالثَّلَاثُونَ : لَا يَسْلُتُ ذَكَرَهُ إلَّا بِرِفْقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ
يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ
كَالضَّرْعِ كُلَّمَا تَسْلُتُهُ يُعْطِي الْمَادَّةَ فَيَكُونُ ذَلِكَ
سَبَبًا ؛ لِعَدَمِ التَّنْظِيفِ .
الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ :
يُفَرِّجُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ عِنْدَ الْبَوْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ
وَالْإِسْهَالِ لِئَلَّا يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ ،
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ .
الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ لَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ .
السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ .
السَّابِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ : إذَا رَجَعَ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ قَالَ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي سَوَّغَنِيهِ طَيِّبًا وَأَخْرَجَهُ عَنِّي خَبِيثًا .
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحْجَارِ
وَالْمَاءِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَطْيَبُ لِلنَّفْسِ .
التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْجِيَ
فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ الْيُسْرَى قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَ النَّجَاسَةَ
بِيَدِهِ لِئَلَّا تَعْلَقَ بِهَا الرَّائِحَةُ .
الْأَرْبَعُونَ
: إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَحْجَارٌ لِيَجْمَعَ بَيْنَ
الْفَضِيلَتَيْنِ فَلَا يَتْرُكُ الِاسْتِجْمَارَ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ
يَسْتَجْمِرُ بِأُصْبُعِهِ الْوُسْطَى أَوَّلًا بَعْدَ غَسْلِهَا
فَيَسْمَحُ بِهَا الْمَسْرُبَةَ وَمَوْضِعَ النَّجَاسَةِ عَلَى سُنَّةِ
الِاسْتِجْمَارِ وَمَا لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ الْمَقَالَاتِ
وَالِاخْتِيَارَاتِ ثُمَّ يَغْسِلُهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِهَا ثُمَّ
يَسْتَجْمِرُ بِهَا أَيْضًا إلَى أَنْ يُنَقِّيَ فَإِذَا أَنْقَى طَلَبَ
الْوِتْرَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ السَّبْعَ فَإِنْ جَاوَزَهَا سَقَطَ عَنْهُ
طَلَبُ الْوِتْرِ .
الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا اسْتَنْجَى
بِالْمَاءِ فَلْيَكُنْ الْإِنَاءُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَسْكُبُ بِهَا
الْمَاءَ وَيَدُهُ الْيُسْرَى عَلَى الْمَحَلِّ يَعْرُكُهُ وَيُوَاصِلُ
صَبَّ الْمَاءِ وَيُبَالِغُ فِي التَّنْظِيفِ خِيفَةَ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ
شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ فَيُصَلِّيَ بِالنَّجَاسَةِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ
مِنْ هَذَا الْبَابِ .
الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ لَا يَتَغَوَّطَ تَحْتَ شَجَرَةٍ
مُثْمِرَةٍ .
الثَّالِثَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ لَا يَتَغَوَّطَ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ الرَّابِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ .
الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ تَحْتَ ظِلِّ
حَائِطٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَلَاعِنُ .
وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ : : اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ انْتَهَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ
الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا هِيَ لِرَاحَةِ النَّاسِ فِي الْغَالِبِ إذَا
أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يَسْتَرِيحَ يَطْلُبُ ظِلًّا أَوْ يَرِدَ
النَّهْرَ لِلْمَاءِ فَيَجِدُ مَا يَجْعَلُ هُنَاكَ فَيَقُولُ :
اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ فَعَلَ هَذَا .
السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ
: أَنْ يَتَجَنَّبَ الْبَوْلَ فِي كُوَّةٍ فِي الْأَرْضِ إذَا لَاقَاهَا
بِعَيْنِ الذَّكَرِ وَاخْتُلِفَ إذَا بَعُدَ عَنْهَا فَوَصَلَ بَوْلُهُ
إلَيْهَا فَيُكْرَهُ خِيفَةً مِنْ حَشَرَاتٍ تَنْبَعِثُ عَلَيْهِ مِنْ
الْكُوَّةِ وَقِيلَ يُبَاحُ لِبُعْدِهِ مِنْ الْحَشَرَاتِ إنْ كَانَتْ
فِيهَا .
السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ يَتَجَنَّبَ بِيَعَ
الْيَهُودِ .
الثَّامِنَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ يَتَجَنَّبَ كَنَائِسَ النَّصَارَى سَدًّا
لِلذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِنَا كَمَا نُهِيَ
عَنْ سَبِّ الْآلِهَةِ الْمَدْعُوَّةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
التَّاسِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ : يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي الْأَوَانِي النَّفِيسَةِ
لِلسَّرَفِ وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
لِتَحْرِيمِ اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا .
الْخَمْسُونَ : يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي مَخَازِنِ الْغَلَّةِ .
الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي الدُّورِ
الْمَسْكُونَةِ الَّتِي قَدْ خَرِبَتْ لِلْأَذَى .
الثَّانِيَةُ
وَالْخَمْسُونَ : يَسْتَرْخِي قَلِيلًا عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ ؛
لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ
اسْتَرْخَى مِنْهُ ذَلِكَ الْعُضْوُ فَيَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْضِعِ
الَّذِي لَمْ يَغْسِلْهُ عَلَى ظَاهِرِ بَدَنِهِ فَيُصَلِّي
بِالنَّجَاسَةِ .
الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ : يَحْذَرُ أَنْ
يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ فَإِنَّهُ مِنْ فِعَالِ أَشْرَارِ
النَّاسِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِنَفْسِهِ ،
وَذَلِكَ حَرَامٌ الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ فِي
الِاسْتِبْرَاءِ فَيَعْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فَرُبَّ شَخْصٍ يَحْصُلُ لَهُ
التَّنْظِيفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْبَوْلِ عَنْهُ وَآخَرُ لَا يَحْصُلُ
لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ وَيَقْعُدَ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ
إلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي أَمْزِجَتِهِمْ وَفِي مَآكِلِهِمْ
وَاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ
بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَعْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ
عَادَةً فَيَعْمَلُ عَلَيْهَا فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّجَاسَةِ أَوْ يَتَوَسْوَسَ فِي طَهَارَتِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا
يَظْهَرُ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ حَالِ مِزَاجِهِ وَغِذَائِهِ
وَزَمَانِهِ فَلَيْسَ الشَّيْخُ كَالشَّابِّ ، وَلَيْسَ مَنْ أَكَلَ
الْبِطِّيخَ كَمَنْ أَكَلَ الْجُبْنَ وَلَيْسَ الْحَرُّ كَالْبَرْدِ .
الْخَامِسَةُ
وَالْخَمْسُونَ
: إذَا قَامَ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَلَا يَخْرُجُ بَيْنَ النَّاسِ وَذَكَرُهُ
فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ ثَوْبِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ شَوْهٌ
وَمُثْلَةٌ ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَهَذَا قَدْ
نُهِيَ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ضَرُورَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ
بِالنَّاسِ إذْ ذَاكَ فَلْيَجْعَلْ عَلَى فَرْجِهِ خِرْقَةً يَشُدُّهَا
عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَإِذَا رَجَعَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَنَظَّفَ إذْ
ذَاكَ .
السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ
بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ نَتْفِ إبِطٍ أَوْ غَيْرِهِ لِئَلَّا
يُبْطِئَ فِي خُرُوجِ الْحَدَثِ ، وَالْمَقْصُودُ الْإِسْرَاعُ فِي
الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ .
قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " إذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يَسَّرَ عَلَيْهِ الطَّهَارَةَ " .
السَّابِعَةُ
وَالْخَمْسُونَ : لَا يَسْتَجْمِرُ فِي حَائِطِ مَسْجِدٍ ؛ لِحُرْمَتِهِ
وَلَا فِي حَائِطٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ
الْغَيْرِ وَلَا فِي حَائِطِ وَقْفٍ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ ، وَهُوَ
فِي حَوْزِ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا
كُلُّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ وَكَثِيرًا مَا يُتَسَاهَلُ الْيَوْمَ فِي
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سِيَّمَا فِيمَا سُبِّلَ لِلْوُضُوءِ فَتَجِدُ
الْحِيطَانَ فِي غَايَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقَذَرِ
لِأَجْلِ اسْتِجْمَارِهِمْ فِيهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
الثَّامِنَةُ
وَالْخَمْسُونَ : يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَجْمِرَ فِي حَائِطِ مِلْكَهُ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَوْ يُصِيبُهُ بَلَلٌ مِنْ
الْمَاءِ وَيَلْتَصِقُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ إلَيْهِ فَتُصِيبُهُ
النَّجَاسَةُ فَيُصَلِّي بِهَا .
وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
فِي الْحَائِطِ حَيَوَانٌ فَيَتَأَذَّى بِهِ ، وَقَدْ رَأَيْت عِيَانًا
بَعْضَ النَّاسِ اسْتَجْمَرَ فِي حَائِطٍ فَلَسَعَتْهُ عَقْرَبٌ كَانَتْ
هُنَاكَ عَلَى رَأْسِ ذَكَرِهِ وَرَأَى مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً عَظِيمَةً .
التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : لَا يَسْتَجْمِرُ بِفَحْمٍ ؛ لِأَنَّهُ
يُلَوِّثُ الْمَحَلَّ وَلَا بِعَظْمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَقِّي
وَيَتَعَلَّقُ
بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ مُؤْمِنِي
الْجِنِّ وَلَا بِزُجَاجٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَقِّي ، وَهُوَ مُؤْذٍ وَلَا
بِرَوْثٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الدَّعْكِ وَلَا يُنَظِّفُ
وَيَتَفَتَّتُ ، وَهُوَ زَادُ دَوَابِّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ وَلَا بِنَجَسٍ
؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ تَنْجِيسًا وَلَا بِمَائِعٍ ؛ لِأَنَّهُ يُلَطِّخُ
الْمَحَلَّ وَيَزِيدُهُ تَلْوِيثًا وَلَا بِطَعَامٍ لِحُرْمَتِهِ وَلَا
بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ لِإِضَاعَةِ
الْمَالِ وَلَا بِثَوْبٍ حَرِيرٍ وَلَا بِثَوْبٍ رَفِيعٍ مِنْ غَيْرِ
الْحَرِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَرَفٌ وَيَسْتَجْمِرُ بِمَا عَدَا
مَا ذُكِرَ .
وَقَدْ حَدَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
لِهَذَا حَدًّا يَجْمَعُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ آلَاتِ الِاسْتِجْمَارِ
يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ فَقَالُوا : يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ
بِكُلِّ جَامِدٍ طَاهِرٍ مُنَقٍّ قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ غَيْرِ مُؤْذٍ
لَيْسَ بِذِي حُرْمَةٍ وَلَا سَرَفٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ
الْغَيْرِ ، وَهُوَ ضَابِطٌ جَيِّدٌ انْتَهَى وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا
خَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ أَنْ يَعْتَبِرَ إذْ ذَاكَ فِي الْخَارِجِ وَفِي
نَتِنِهِ وَقَذَرِهِ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَعَافُهُ وَيَعْلَمُ وَيَتَحَقَّقُ
أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ بِنَفْسِهِ كَذَلِكَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ
يُطْرَحُ قَذَرًا مُنْتِنًا تَعَافُهُ نَفْسُ كُلِّ مَنْ يَرَاهُ ،
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَمُوتُ فَإِذَا دُفِنَ فِي قَبْرِهِ تَدَوَّدَ
فَأَكَلَتْهُ الدِّيدَانُ فَإِذَا أَكَلَتْهُ الدِّيدَانُ رَمَتْهُ مِنْ
جَوْفِهَا قَذِرًا مُنْتِنًا ، وَيُعْلَمُ أَنَّ ثَمَّ قَوْمًا لَا
يُدَوِّدُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَلَا تَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ
وَلَا يَتَغَيَّرُونَ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ
وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ .
فَالْمَقَامُ
الْأَوَّلُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهُ
بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَتْ
الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثُ فَيُنْظَرُ مَا فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لَهُ مِنْ
تِلْكَ الْمَقَامَاتِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ بِهِ مِنْ
هَذَا
الْقَذَرِ وَالنَّتِنِ إنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ ، وَإِلَّا
فَهُوَ يُعَايِنُ مَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَتَكَرَّرُ
ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي حَالِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ مِنْ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا حَتَّى يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنَّا مَا هُوَ إلَيْهِ صَائِرٌ وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُوا
الْأَلْبَابِ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ نَظَرَ إلَى أَوَّلِهِ فَوَجَدَهُ
نُطْفَةً كَمَا عَايَنَ وَنَظَرَ إلَى آخِرِهِ فَوَجَدَهُ كَمَا رَأَى
كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَإِلَى وَسَطِهِ فَوَجَدَهُ حَامِلًا مَا
يَرَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيُعَايِنُهُ فَأَيُّ دَعْوَى
تَبْقَى مَعَ هَذَا الْحَالِ ؟ وَأَيُّ نَفْسٍ تَشْمَخُ وَلَوْ كَانَ
ثَمَّ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ إنْ لَمْ يَكُنْ
الْفَيْضُ الرَّبَّانِيُّ وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ فَيَسْتُرُ الْقَبِيحَ
وَيُظْهِرُ الْجَمِيلَ وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ وَيُؤْمِنُ الرَّوْعَاتِ ،
وَإِلَّا فَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِكُلِّ رَذِيلَةٍ وَنَقِيصَةٍ كَمَا تَرَى
.
هَذَا وَجْهٌ مِنْ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَيَنْبَغِي لَهُ
أَيْضًا أَنْ يَنْظُرَ وَيَعْتَبِرَ فِيمَا انْفَصَلَ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ
كَانَ طَاهِرًا طَيِّبَ الْمَذَاقِ شَهِيًّا لِلنُّفُوسِ لَا يُوصَلُ
إلَيْهِ إلَّا بِعِوَضٍ وَالْعِوَضُ فِي الْغَالِبِ قَدْ جَرَتْ
الْحِكْمَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمُكَابَدَةٍ وَتَعَبٍ
فِي الْغَالِبِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ فَهُوَ عَزِيزٌ إذَا يَسَّرَ
اللَّهُ أَسْبَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ
شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فَمَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُوصَلُ إلَيْهِ ثُمَّ ، مَعَ
هَذِهِ الْعِزَّةِ الَّتِي لَهُ وَالطَّهَارَةِ الَّتِي لَدَيْهِ إذَا
خَالَطْنَا قَلِيلًا سُلِبَتْ طَهَارَتُهُ وَذَهَبَ عِزُّهُ وَصَارَ
مُنْتِنًا قَذِرًا يُتَحَامَى عَنْهُ وَيَتَوَلَّى الْوَجْهُ مِنْهُ ،
فَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ خُلْطَتَهُ لَنَا وَمُمَازَجَتَهُ بِنَا ، وَقَدْ
ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ
حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى فَلْيَنْظُرْ
الْإِنْسَانُ إلَى
طَعَامِهِ فَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ذَهَبَ
أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ إلَى طَعَامِهِ إذَا صَارَ رَجِيعًا
لِيَتَأَمَّلَ حَيْثُ تَصِيرُ عَاقِبَةُ الدُّنْيَا ، وَعَلَى أَيِّ
شَيْءٍ يَتَعَانَى أَهْلُهَا .
وَهَذَا نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَحْدَثَ فَإِنَّ
مَلَكًا يَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ فَيَرُدُّ بَصَرَهُ إلَى
نَحْرِهِ مُوقِفًا لَهُ وَمُعْجِبًا فَيَنْفَعُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ عَقْلٌ
انْتَهَى ثُمَّ إنَّهُ لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي الطَّعَامِ وَحْدَهُ ، بَلْ
فِي كُلِّ مَا نُبَاشِرُهُ إنْ لَبِسْنَا ثَوْبًا جَدِيدًا فَعَنْ قَلِيلٍ
يَتَوَسَّخُ وَيَتَقَذَّرُ وَعَنْ قَلِيلٍ يَتَمَزَّقُ وَيَخْلَقُ وَإِنْ
مَسَّنَا طِيبًا فَعَنْ قَلِيلٍ تَذْهَبُ رَائِحَتُهُ وَيُسْتَقْذَرُ
وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ فَنَتَجَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ
الْمُؤْمِنَ يَعْتَبِرُ إذْ ذَاكَ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ فِي الْأَدَبِ بِهِ
مِنْ وَجْهَيْنِ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : الْهَرَبُ مِنْ خِلْطَةِ مَنْ
لَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
آثَارِ هَذِهِ الْخِلْطَةِ لِغَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا صَارَ الطَّعَامُ فِي
جَوْفِهِ هُوَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ
يَكُونَ إذَا خَالَطَهُ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ
يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دِينِهِ أَوْ يَنْفَعُهُ هُوَ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ
أَنْ يُغَيِّرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِسَبَبِ خِلْطَتِهِ كَمَا يَتَغَيَّرُ
كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ذُكِرَ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ فِي طَبْعِهِ
وَمِزَاجِهِ أَعْنِي التَّغْيِيرَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ، وَهَذَانِ
وَجْهَانِ عَظِيمَانِ فِي السُّلُوكِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي قَضَاءِ
الْحَاجَةِ مَعَ الْفَوَائِدِ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا فَهَذِهِ جُمْلَةُ
عِبَادَاتٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ عِنْدَنَا عَلَى طَرِيقِ الرَّاحَةِ
وَالْإِبَاحَةِ شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا فَتَحْصُلُ لَنَا مِنْ
النِّيَّاتِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ ، وَهَذِهِ
الْآدَابُ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ
بِالْحَضَرِ وَمِنْهَا مَا هُوَ
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيِّنٌ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَعْنِي مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ أَوْ فِي الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ
فِي الْوُضُوءِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ
الِاسْتِبْرَاءِ وَإِزَالَةِ الْحَقْنَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَرَّ
يَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَيُفَرِّغُ قَلْبَهُ
وَذِهْنَهُ لِذَلِكَ وَيَنْشَطُ إلَيْهِ وَيَمُرُّ بِبَالِهِ الطَّهَارَةُ
لِمَاذَا وَلِأَيِّ شَيْءٍ تُرَادُ ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقِفَ بِهَا
بَيْنَ يَدَيْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ
مِنْهُ هُوَ بِنَفْسِهِ وَيَنْظُرُ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي غَسْلِ
هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَعْلُومَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ
الْبَدَنِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مَا يَتَحَرَّكُ
لِلْمُخَالَفَةِ أَسْرَعُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَأَمَرَ الشَّارِعُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَوَّلًا بِغَسْلِهَا تَنْبِيهًا
مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى طَهَارَتِهَا الْبَاطِنَةِ
إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى
قُلُوبِكُمْ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ
وَآمَنْتُمْ .
فَالْمَطْلُوبُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْبَاطِنُ
وَتَخْلِيصُهُ مِنْ غَمَرَاتِ هُمُومِ الدُّنْيَا وَمُكَابَدَتِهَا
وَالْفِكْرَةِ فِيهَا وَالتَّعَرِّي مِنْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً هَذِهِ
هِيَ الطَّهَارَةُ الْبَاطِنَةُ ، وَالظَّاهِرَةُ تَبَعٌ لِهَذِهِ
وَإِشَارَةٌ إلَيْهَا وَتَحْرِيضٌ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَنَبَّهَ
الْغَافِلُ وَالسَّاهِي لِلْمُرَادِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ عَبْدُ الْجَلِيلِ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لَهُ : فَالْوُضُوءُ
الَّذِي هُوَ غَسْلُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا مِنْ الْإِسْلَامِ وَطَهَارَةُ
الْبَاطِنِ عَلَى مَعْنَى التَّوْبَةِ مِنْ اكْتِسَابِ الْجَوَارِحِ
إيمَانًا وَبِهِ يَكْمُلُ الْوُضُوءُ انْتَهَى ثُمَّ إذَا رَتَّبَ
غَسْلَهَا عَلَى تَرْتِيبِ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَمَا
كَانَ مِنْهَا عَلَى التَّحْرِيكِ أَسْرَعُ مِنْ غَيْرِهِ أُمِرَ
بِغَسْلِهِ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ أَوَّلًا ،
وَفِيهِ الْفَمُ وَالْأَنْفُ وَالْعَيْنَانِ فَابْتَدَأَ بِالْمَضْمَضَةِ
أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَعْضَاءِ
وَأَشَدُّهَا حَرَكَةً أَعْنِي
اللِّسَانَ فِيمَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ
غَيْرَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ قَدْ يَسْلَمُ ، وَهُوَ كَثِيرُ الْعَطَبِ
قَلِيلُ السَّلَامَةِ فِي الْغَالِبِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَأْنِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْضَاءَ فِي يَوْمٍ
تُنَاشِدُهُ فِي أَنْ يُسْلِمَهَا مِنْ آفَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ
لَا يَهْلَكُ وَحْدَهُ بَلْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ وَيُهْلِكُ إخْوَانَهُ .
فَإِذَا
جَاءَ الْمُؤْمِنُ إلَى غَسْلِ فَمِهِ يَذْكُرُ إذْ ذَاكَ أَنَّ طَهَارَةَ
الظَّاهِرِ إنَّمَا هِيَ إشَارَةٌ إلَى تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ فَوَجَدَ إذْ
ذَاكَ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ الطَّهَارَةُ الْبَاطِنَةُ فَتَابَ إلَى
اللَّهِ وَأَقْلَعَ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُهُ وَنَطَقَ ثُمَّ
يَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا شَمَّ بِأَنْفِهِ وَاسْتَنْشَقَ
ثُمَّ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا نَظَرَتْ عَيْنَاهُ
وَالْتَذَّتْ فَإِذَا تَابَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَخَلَ إذْ ذَاكَ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا
قَبْلَهَا .
جَاءَ الْحَدِيثُ فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ
الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ
عَيْنَيْهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ
؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ اللِّسَانُ وَنَظَرَتْ الْعَيْنَانِ بَطَشَتْ
الْيَدَانِ وَلَمَسَتَا فَالْيَدَانِ بَعْدَهُمَا فِي تَرْتِيبِ
الْمُخَالَفَةِ فَأَمَرَ بِطَهَارَتِهِمَا فَإِذَا جَاءَ إلَى
طَهَارَتِهِمَا ابْتَدَأَ بِطَهَارَتِهِمَا بَاطِنًا فَتَابَ مِمَّا
لَمَسَتْ يَدُهُ أَوْ تَحَرَّكَتْ النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ
تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ الْحَدِيثُ .
فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ
خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ
أَظَافِرِ يَدَيْهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِمَسْحِ
رَأْسِهِ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِالْغَسْلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ
بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَاوِرٌ لِمَنْ يَقَعُ مِنْهُ
الْمُخَالَفَةُ ، وَهُوَ اللِّسَانُ وَالْعَيْنَانِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ
بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُخَالِفُ لَكِنْ كَانَ مُجَاوِرًا لِلْمُخَالِفِ
أُعْطِيَ
حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَأُمِرَ بِالْمَسْحِ وَلَمْ يُؤْمَرْ
بِالْغَسْلِ .
وَأَيْضًا
قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأُذُنَيْنِ هَلْ هُمَا مِنْ الرَّأْسِ
أَمْ لَا ؟ وَالْأُذُنَانِ قَدْ يَسْمَعَانِ مَا لَا يَنْبَغِي لَكِنْ
لَمَّا كَانَ السَّمْعُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي غَالِبِ
الْحَالِ ، وَهُوَ لَا يَتَعَمَّدُهُ خُفِّفَ أَمْرُهُ فَكَانَ الْمَسْحُ
فَإِذَا مَسَحَهُ قَدَّمَ طَهَارَتَهُ الْبَاطِنَةَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا
سَمِعَتْ الْأُذُنَانِ وَمِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ مُجَاوِرِهِ مِنْ
تِلْكَ الْأَعْضَاءِ النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا
قَبْلَهَا جَاءَ الْحَدِيثُ .
فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى
تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ .
ثُمَّ
أَمَرَهُ الشَّرْعُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ
الْعَيْنَيْنِ إذَا نَظَرَتَا وَتَكَلَّمَ اللِّسَانُ وَلَمَسَتْ الْيَدُ
وَسَمِعَتْ الْأُذُنُ حِينَئِذٍ تَسْعَى الرِّجْلُ فَالرِّجْلُ آخِرُ
الْجَمِيعِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَجُعِلَتْ آخِرَ الْجَمِيعِ فِي الْغَسْلِ
فَغَسَلَهَا إذْ ذَاكَ وَقَدَّمَ طَهَارَتَهَا الْبَاطِنَةَ فَابْتَدَأَ
بِالتَّوْبَةِ مِمَّا سَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ .
النَّدَمُ
تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَإِذَا
غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ
مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِ رِجْلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ عَلَى
هَذَا التَّرْتِيبِ أَرَادَ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَأَتَمِّهَا
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ
الْوُضُوءَ ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : أَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ
الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ .
إشَارَةٌ مِنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى تَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ
الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَارِضِ وَالْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ
وَالنَّزَعَاتِ فَفَهِمَ الْمُؤْمِنُ إذْ ذَاكَ الْمُرَادَ فَامْتَثَلَ
طَهَارَةَ
الْقَلْبِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ تَجْدِيدِ
الْإِيمَانِ وَتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ ، وَلِهَذَا
الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ :
يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ جَدِيدًا
يَحْتَرِزُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ خَلَقًا وَالْخَلَقُ أَنْ لَا
يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِتَجْدِيدِ الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ
الْفُضَلَاءِ يَسْتَفِيقُ مِنْ اللَّيْلِ فَيَمُرُّ بِيَدِهِ عَلَى
وَجْهِهِ وَيَتَشَهَّدُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : أَمَّا
تَشَهُّدِي فَأَتَفَقَّدُ بِهِ الْإِيمَانَ هَلْ بَقِيَ أَمْ لَا ؟
لِأَنَّ أَعْمَالِي لَا تُشْبِهُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ .
أَمَّا
تَمْشِيَةُ يَدِي عَلَى وَجْهِي فَأَتَفَقَّدُهُ أَنْ يَكُونَ حُوِّلَ
إلَى الْقَفَا أَوْ مُسِخَ أَمْ لَا فَإِذَا وَجَدْته سَالِمًا أَحْمَدُ
اللَّهَ الَّذِي سَتَرَ عَلَيَّ بِفَضْلِهِ وَلَمْ يُعَاقِبْنِي
وَيَفْضَحْنِي بِعَمَلِي .
هَذَا قَوْلُهُ وَكَانَ لَهُ قَدَمٌ فِي
الدِّينِ وَسَبْقٌ وَتَقَدُّمٌ فَمَا بَالُك بِأَحْوَالِنَا الْيَوْمَ
عَلَى مَا يُشَاهِدُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ ، فَبِالْأَحْرَى وَالْأَوْلَى
أَنْ نَتَفَقَّدَ الْإِيمَانَ الْيَوْمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ
فَلَمَّا أَنْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ بِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَتَطْهِيرِ الظَّاهِرِ عَلَى مَا
مَضَى شَرَعَ لَهُ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ الدُّعَاءَ
الْمَذْكُورَ إذْ ذَاكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ
التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ .
وَقَوْلُهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ
إشَارَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ
تَعَالَى فِي قَبُولِ مَا قَدْ أَتَى بِهِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ كَمُلَ الْحَالُ
وَتَمَّتْ النِّعْمَةُ وَقُبِلَ الدُّعَاءُ بِتَخْيِيرِهِ عَلَى أَيِّ
أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَبْدٌ قَدْ تَابَ مِنْ
كُلِّ مَا جَنَى وَتَطَهَّرَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
جَاءَ
الْحَدِيثُ فِيمَنْ امْتَثَلَ مَا ذُكِرَ مِنْ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ
وَكَمَالِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ نَافِلَةٌ لَهُ وَالنَّوَافِلُ الزَّوَائِدُ
إنْ لَمْ تَجِدْ مِنْ الذُّنُوبِ شَيْئًا تَكُونُ الصَّلَاةُ لِلتَّوْبَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّطْهِيرِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَبَقِيَتْ
صَلَاتُهُ نَافِلَةً أَيْ : زَائِدَةً فَكَانَ مَوْضِعُهَا رَفْعَ
الدَّرَجَاتِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ شَيْءٌ تُكَفِّرُهُ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ فَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَتُوبُ مِمَّا
تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَشَمَّ الْأَنْفُ وَنَظَرَتْ الْعَيْنَانِ
وَسَمِعَتْ الْأُذُنَانِ وَبَطَشَتْ الْيَدَانِ وَمَشَتْ الرِّجْلَانِ
وَخَطَرَ بِالْقَلْبِ ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
كَانَتْ التَّوْبَةُ لِلْغَفَلَاتِ الْوَاقِعَةِ ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا
مِنْ الْغَفَلَاتِ كَانَتْ التَّوْبَةُ لِعَدَمِ التَّوْبَةِ بِحَقِّ
الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يَجِبُ لَهَا ، وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
الْعَبْدُ أَصْلًا فَهَذِهِ سَبْعَةٌ مُنْضَمَّةٌ إلَى شُرُوطِ وُجُوبِ
الطَّهَارَةِ وَالْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي نَصَّ
عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِيهِ .
فَالشُّرُوطُ خَمْسَةٌ : وَهِيَ
الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَارْتِفَاعُ دَمِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَدُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ .
وَالْفَرَائِضُ
ثَمَانِيَةٌ : أَرْبَعَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ ، وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَاثْنَتَانِ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَهُمَا النِّيَّةُ
وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ وَاثْنَتَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَهُمَا
الْفَوْرُ وَالتَّرْتِيبُ وَسُنَنُهُ اثْنَا عَشْرَ أَرْبَعَةٌ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَهِيَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ
وَالِاسْتِنْثَارُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ مَعَ تَجْدِيدِ الْمَاءِ
لَهُمَا وَثَمَانِيَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا قِيلَ : إنَّهَا مِنْ السُّنَنِ
وَقِيلَ : مِنْ الْفَضَائِلِ ، وَهِيَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ
إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ إنْ أَيْقَنَ بِطَهَارَتِهِمَا وَمَا زَادَ
عَلَى الْوَاحِدَةِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ وَالِابْتِدَاءُ بِالْيَمِينِ
قَبْلَ الشِّمَالِ وَالِابْتِدَاءُ بِمُقَدَّمِ
الرَّأْسِ وَرَدُّ
الْيَدَيْنِ فِي مَسْحِهِ وَغَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعَارِضِ
وَالْأُذُنِ وَاسْتِيعَابُ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ وَتَرْتِيبُ الْمَفْرُوضِ
مَعَ الْمَسْنُونِ .
واسْتِحْباباتِهِ ثَلَاثَةَ عَشْرَ : وَهِيَ
السِّوَاكُ وَيَجْزِي الْأُصْبُعُ الْخَشِنُ عَنْهُ وَجَعْلُ الْإِنَاءِ
عَلَى الْيَمِينِ وَالتَّسْمِيَةُ وَأَنْ لَا يَتَوَضَّأَ فِي الْخَلَاءِ
وَلَا عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَتَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ
وَتَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَذِكْرُ
اللَّهِ وَأَنْ يَقْعُدَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَنْ الْأَرْضِ
لِئَلَّا يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ مَا يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَاءِ
وَالصَّمْتُ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ وَالْإِقْلَالُ مِنْ الْمَاءِ مَعَ إحْكَامِ الْغَسْلِ فِي
الْأَعْضَاءِ فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْآدَابِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ ،
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
فَصْلٌ فِي الرُّكُوعِ
بَعْدَ الْوُضُوءِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهِ فَإِذَا أَسْبَغَ
الْوُضُوءَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ يَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ
أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ صَلَّاهُمَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ
فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ الْفَرْضَ فَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِالنَّذْرِ
لَكِنْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْذِرَهُمَا ثُمَّ يَعْجَزَ عَنْ
الْإِتْيَانِ بِهِمَا نَظَرًا لِلْعَوَارِضِ فَيَحْذَرَ مِنْ هَذَا
وَيَتْرُكَ النَّذْرَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَنْذِرَ ذَلِكَ عِنْدَ
الْإِحْرَامِ بِهِمَا فَذَلِكَ حَسَنٌ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِعْلُ
الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ الْعَائِقِ إذْ ذَاكَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى
قِسْمَيْنِ قِسْمٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ وَقِسْمٌ
أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ وَكِلَاهُمَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ
النَّفْلِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي
الرُّكُوعِ بَعْدَ الْوُضُوءِ .
لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ
التَّرْغِيبِ وَالنَّدْبِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ
امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِلْحَدِيثِ
الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ إخْبَارًا عَنْ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ مَنْ أَحْدَثَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَلَمْ يَرْكَعْ فَقَدْ
جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَدْعُنِي فَقَدْ
جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَرَكَعَ وَدَعَانِي فَلَمْ
أُجِبْهُ فَقَدْ جَفَوْته وَلَسْت بِرَبٍّ جَافٍ وَلَسْت بِرَبٍّ جَافٍ .
وَيَنْوِي
مَعَ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ بِالصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا فَيَحْصُلُ لَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ
بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنْ النِّيَّاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَتَحَصَّلَ
لَنَا مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُ نِيَّاتٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
.
فَصْلٌ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَكَيْفِيَّةِ
النِّيَّةِ
فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْدَ مَا ذُكِرَ فِي الْخُرُوجِ إلَى
الْمَسْجِدِ فَيَنْوِي بِخُرُوجِهِ الْمَشْيَ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ
تَعَالَى لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ
مِنْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ أَجْرُ الْخُطَى
إلَى الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا
يُرِيدُ غَيْرَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ
كَانَتْ لَهُ بِإِحْدَى خُطْوَتَيْهِ حَسَنَةٌ وَالْأُخْرَى تُمْحَى
عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ ، فَإِذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ السَّيِّئَاتِ
كَانَتْ الِاثْنَتَانِ بِالْحَسَنَاتِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنْدَ
الْوُضُوءِ لَيْسَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ خُرُوجِ
الْخَطَايَا حَسَنَاتٌ وَرَفْعُ دَرَجَاتٍ مَعَ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ
يَكُونَ إنْسَانٌ سَالِمًا مِنْ الذُّنُوبِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ
وَمَرْتَبَتِهِ ، حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ
ثُمَّ يُضِيفُ إلَى نِيَّةِ الْخُرُوجِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ
تَعَالَى نِيَّةَ زِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارَ شِعَارِ
الْإِسْلَامِ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَإِزَالَةَ الْأَذَى مِنْهُ
وَالِاعْتِكَافَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ أَوْ الْجِوَارَ
فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَشْتَرِطُ فِي
الِاعْتِكَافِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً وَأُمُورًا مَعْلُومَةً عَلَى مَا
هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ وَأَخْذَ الزِّينَةِ لِلْمَسْجِدِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ .
وَتَعَلُّمَ
الْعِلْمِ مِنْ الْعَالِمِ وَتَعْلِيمَهُ الْجَاهِلَ وَالْبَحْثَ فِيهِ
مَعَ الْإِخْوَانِ وَزِيَارَةَ الْإِخْوَانِ فِيهِ وَزِيَارَةَ
الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَزِيَارَةَ الصُّلَحَاءِ فِيهِ وَاقْتِبَاسَ بَرَكَةِ
الِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِيهِ وَاقْتِبَاسَ بَرَكَةِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ
فِيهِ وَعِيَادَةَ الْمَرِيضِ إنْ وُجِدَ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مَنْ خَرَجَ
يَعُودُ مَرِيضًا خَرَجَ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ
عِنْدَهُ اسْتَقَرَّتْ الرَّحْمَةُ فِيهِ أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَتَعْزِيَةَ الْمُصَابِينَ لِمَا وَرَدَ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ
أَجْرٌ مِثْلُ الْمُصَابِ .
فَيَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْخَيْرُ
الْعَظِيمُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَيَنْوِي مَعَ
ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ وَيَنْوِي السَّلَامَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَنْوِي رَدَّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي
ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّوقِ وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي
السَّعْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّدَقَةَ عَلَى مُحْتَاجٍ إذَا وَجَدَهُ
بِاَلَّذِي يُمْكِنُهُ وَإِعَانَةَ ذِي الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ وَقَضَاءَ
حَاجَةِ مُضْطَرٍّ إنْ وَجَدَهُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ
يَخْرُجَ بِشَيْءٍ مَعَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ وَيَخْرُجَ
مَعَهُ عِدَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ شَاةً أَوْ غَيْرَهَا تُرِيدُ
أَنْ تَمُوتَ بِنَفْسِهَا فَتَكُونُ مَعَهُ آلَةُ الذَّبْحِ فَيُغِيثُ
صَاحِبَهَا وَيَجْبُرُهَا عَلَيْهِ بِالتَّذْكِيَةِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ
هَذَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي النَّفَقَةِ قَدْ يُصَادِفُ مُضْطَرًّا
لَهَا فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ ، وَإِلَّا إذَا
خَرَجَ عَرِيًّا عَمَّا ذُكِرَ ، وَقَدْ نَوَى إعَانَةَ ذِي الْحَاجَةِ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ ذَلِكَ دَعْوَى يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا
كُلُّ مَنْ يَدَّعِي بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَذَّبَتْهُ شَوَاهِدُ
الِامْتِحَانِ وَيَنْوِي إرْشَادَ الضَّالِّ وَأَنْ يَأْمُرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
بِشَرْطِهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ وَأَنْ يَحْضُرَهَا إنْ
وَجَدَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ
الِابْتِدَاعِ ، وَأَنْ يُخْمِدَ بِدْعَةً وَيُظْهِرَ سُنَّةً مَهْمَا
قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنْ يَلْقَى الْمُسْلِمِينَ بِبَشَاشَةِ
الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَاءُ
الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ صَدَقَةٌ وَأَنْ يَمْتَثِلَ
السُّنَّةَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ بِتَقْدِيمِ الْيَمِينِ
وَتَأْخِيرِ الشِّمَالِ .
وَأَنْ يَتَعَوَّذَ التَّعَوُّذَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنْ
يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ
أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ
أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ .
وَيَقُولُ
: عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا ( بِسْمِ اللَّهِ آمَنْت بِاَللَّهِ وَتَوَكَّلْت
عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ اعْتَزَلَهُ الشَّيْطَانُ يَقُولُ
: قَدْ هُدِيَ وَوُقِيَ فَلَيْسَ لِي عَلَيْهِ سَبِيلٌ .
وَكَذَلِكَ
أَيْضًا يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ
لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُ غِنَاهُ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ .
وَيَنْوِي اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي دُخُولِهِ
الْمَسْجِدَ بِأَنْ يُقَدِّمَ الْيَمِينَ وَيُؤَخِّرَ الشِّمَالَ وَأَنْ
يَخْلَعَ الشِّمَالَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ الْيَمِينَ سُنَّتَانِ فِي
فِعْلٍ وَاحِدٍ ، وَكَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُ أَنْ يَخْلَعَ الشِّمَالَ
أَوَّلًا ثُمَّ يَجْعَلَهَا عَلَى النَّعْلِ مِنْ فَوْقِهَا ثُمَّ
يَخْلَعَ بَعْدَهَا الْيَمِينَ فَيُدْخِلَهَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ
يُدْخِلَ رِجْلَهُ الشِّمَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجْتَمِعَ السُّنَّتَانِ
خَلْعُ الشِّمَالِ أَوَّلًا وَتَقْدِيمُ الْيَمِينِ فِي الْمَسْجِدِ
أَوَّلًا وَيَنْوِي اتِّبَاعَ السُّنَّةِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ
بِأَنْ يَمْسَحَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ الْبَابِ عِنْدَ دُخُولِهِ وَيَنْظُرَ
فِي قَعْرِ نَعْلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ أَزَالَهُ وَإِلَّا
دَخَلَ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا تَقُولُ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ : اُدْخُلْ فَقَدْ غُفِرَ لَك وَيَنْوِي انْتِظَارَ
الصَّلَاةِ لِمَا جَاءَ فِيهِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ
الرِّبَاطُ مَرَّتَيْنِ وَيَنْوِي جُلُوسَهُ فِي مُصَلَّاهُ لِمَا جَاءَ
فِيهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي
عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ تَقُولُ
: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ : .
وَيَنْوِي
الِاقْتِدَاءَ وَالِاقْتِبَاسَ بِآثَارِ مَنْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ
مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِمْ أَعْنِي
بِالنَّظَرِ إلَى تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .
حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
صَلَّى
بِجَنْبِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَجَعَلَ يَدْعُو فِي السُّجُودِ يَرْفَعُ
صَوْتَهُ بِذَلِكَ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ : يَا أَخِي عَسَى
أَنَّك تَذْهَبُ إلَى فُلَانٍ ، وَكَانَ فُلَانٌ مِنْ أَكَابِرِ وَقْتِهِ
فَصَلِّ إلَى جَنْبِهِ وَاسْتَمِعْ إلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ
لَعَلَّك تُفِيدُنِي إيَّاهُ فَمَضَى إلَيْهِ فَصَلَّى إلَى جَنْبِهِ
أَيَّامًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي لَمْ
أَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي هَؤُلَاءِ قُدْوَتُنَا
إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ لَمْ نَقْتَدِ بِهِمْ فَبِمَنْ نَقْتَدِي
فَعَلَّمَهُ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ وَعَلَّمَهُ كَيْفِيَّةَ الِاقْتِبَاسِ
مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ .
فَيَنْوِي حِينَ خُرُوجِهِ
الِالْتِفَاتَ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُرَاعَاتِهَا فَإِنَّهَا
أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي الدِّينِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا اللَّهُ
بِهِ عَلِيمٌ ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْمَنْظُورُ
إلَيْهِ أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ سَالِمًا مِنْ الْبِدَعِ ، وَإِلَّا
فَالتَّغَفُّلُ عَنْهُ يَجِبُ إنْ كَانَ الَّذِي يَرَاهُ غَيْرَ قَادِرٍ
عَلَى الْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ
نَهْيُهُ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ
الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ تَغْيِيرِ الْبِدَعِ وَالْمَنَاكِرِ ، وَذَلِكَ
مَسْطُورٌ فِي كُتُبِهِمْ مَوْجُودٌ بِمُطَالَعَتِهِ أَوْ بِالسُّؤَالِ
عَنْهُ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ أَجْرُ مَنْ
ذَبَّ عَنْ السُّنَّةِ وَحَمَاهَا وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ إزَالَةَ
الْأَذَى مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَوْكٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى
مُبْتَلًى فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِي عَمَلِهِ أَنْ
يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُبْتَلًى فَقَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاهُ بِهِ وَفَضَّلَنِي
عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ
انْتَهَى .
لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْ
كَسْرِ
الْخَوَاطِرِ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ أَوْ التَّشْوِيشِ الْوَاقِعِ مِنْ
بَعْضِ النَّاسِ ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ وَيَنْوِي أَنْ يَرْفَعَ
وَيُكْرِمَ وَيُعَظِّمَ مَا يَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ بَيْنَ
الْأَرْجُلِ مِنْ الْأَوْرَاقِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى
أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي هَذَا أُجُورٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
أَوَّلِ كِتَابِ التَّحْبِيرِ لَهُ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ
الْحُسْنَى قَالَ : يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كِتَابٌ يُلْقَى بِمَضْيَعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ
فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ إلَّا
بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَائِكَةً يَحُفُّونَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى
يَبْعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَيَرْفَعَهُ مِنْ
الْأَرْضِ وَمَنْ رَفَعَ كِتَابًا مِنْ الْأَرْضِ فِيهِ اسْمٌ مِنْ
أَسْمَاءِ اللَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي عِلِّيِّينَ وَخَفَّفَ عَنْ
أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ .
وَيُرْوَى عَنْ مَنْصُورِ
بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت مُولَعًا فِي صِبَايَ بِرَفْعِ
الْقَرَاطِيسِ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى عُرِفْت بِذَلِكَ فَبَيْنَمَا أَنَا
ذَاتَ يَوْمٍ فِي صَحْرَاءَ إذْ وَجَدْت قِرْطَاسًا فِيهِ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ فَرَفَعْته وَلَمْ يَكُنْ بِإِزَائِي حَائِطٌ وَلَا شَيْءٌ
أَرْفَعُهُ فِيهِ فَبَلَعْته فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ
هَاتِفًا يَهْتِفُ بِي ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا مَنْصُورُ إنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ سَيَرَى لَك مَا فَعَلْت .
وَيَنْوِي أَنْ يَرْفَعَ
وَيُكْرِمَ وَيُعَظِّمَ مَا يَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ بَيْنَ
الْأَرْجُلِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَهَنَةً فَيُعَظِّمَهَا
بِرَفْعِهِ لَهَا وَصِيَانَتِهَا .
وَيَنْوِي غَضَّ الْبَصَرِ ، وَقَدْ
نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا وَبَيَّنُوهُ فَقَالُوا : لَيْسَ
لِلرَّجُلِ إذَا خَرَجَ فِي السُّوقِ أَنْ يَنْظُرَ إلَّا لِمَوْضِعِ
قَدَمِهِ اللَّهُمَّ
إلَّا أَنْ تَكُونَ زَحْمَةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
الْأَذَى فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِذَلِكَ .
وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ
الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ
وَذِكْرُ اللَّهِ وَيَنْوِي خَفْضَ الْجَنَاحِ ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ
لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَامَلَتُهُمْ بِالْحُسْنَى وَيَنْوِي
مَعَ ذَلِكَ تَحْسِينَ الْخُلُقِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْمِلُ
عَلَى نَفْسِهِ فِي عَدَمِ أَغْرَاضِهِ لِأَغْرَاضِهِمْ .
وَيَنْوِي
حَمْلَ الْأَذَى مِنْ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكَ الْأَذَى
لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَوُجُودَ الرَّاحَةِ لَهُمْ وَيَدْعُو
النَّاسَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ ، وَعَلَى
أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَيَلْقَى إخْوَانَهُ
الْمُسْلِمِينَ بِسَلَامَةِ الصَّدْرِ لِمَا جَاءَ فِيهِ .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَلَامَةُ الصَّدْرِ لَا
تُبْلَغُ بِعَمَلٍ انْتَهَى .
وَيَنْوِي
تَرْكَ التَّكَبُّرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ
وَيَنْوِي تَرْكَ الْإِعْجَابِ بِنِيَّتِهِ وَعَمَلِهِ .
وَيَنْوِي
السُّؤَالَ عَمَّنْ غَابَ مِنْ الْإِخْوَانِ لَعَلَّ عَارِضًا يَعْرِضُ
لِأَحَدِهِمْ فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إعَانَتِهِ وَإِزَالَتِهِ .
وَيَنْوِي
السُّؤَالَ عَنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ لَعَلَّ يَسْمَعُ عَلَيْهِمْ
خَيْرًا فَيُسَرُّ بِهِ فَيُشَارِكُهُمْ فِي غَزْوِهِمْ فِي الْأُجُورِ
بِالسُّرُورِ الَّذِي وَجَدَهُ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ
أَنَّهُ مَاتَ فَلَمْ تُوجَدْ لَهُ حَسَنَةٌ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ
لِسُرُورِهِ يَوْمًا وَاحِدًا بِمَا ذُكِرَ ، وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ
مَغْفُولٌ عَنْهُ وَيَنْوِي السُّؤَالَ عَنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ وَشَأْنِهِ
لَعَلَّ يَسْمَعُ خَبَرًا يَتَشَوَّشُونَ مِنْهُ فَيُسَرُّ بِهِ فَلَهُ
أَجْرٌ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ فِي الْعَكْسِ
إنْ سَمِعَ عَنْهُمْ مَا يَسُرُّهُمْ تَشَوَّشَ هُوَ فَلَهُ الْأَجْرُ فِي
ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ إنْ سَمِعَ عَنْ
الْمُسْلِمِينَ مَا يُقْلِقُهُمْ جَزِعَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ الْكَثِيرُ أَجْرٌ بِلَا عَمَلٍ وَلَا تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ .
وَيَنْوِي
السُّؤَالَ عَنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَعَلَّ يَسْمَعُ مَا يُسَرُّ
بِهِ أَيْضًا مِثْلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ فِي
الْخَيْرِ وَضِدِّهِ لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ
أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ السُّؤَالِ فَإِذَا حَصَلَ الْمُرَادُ سَكَتَ
وَأَقْبَلَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ لِئَلَّا يَكُونَ السُّؤَالُ ذَرِيعَةً
إلَى التَّحَدُّثِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ التَّحْذِيرُ
عَنْهُ لَمَّا أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ مَاتَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَعَلَّهُ كَانَ يَتَحَدَّثُ
فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ كَمَا قَالَ وَهَذَا الْبَابُ كَثِيرًا مَا
يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ
يَبْتَدِئُونَ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ وَبِمَسَائِل الْعِلْمِ وَالْإِقْرَاءِ
ثُمَّ يُدْرِجُهُمْ إلَى الْحَدِيثِ فِيمَا لَا يَعْنِي إنْ وَقَعَتْ
السَّلَامَةُ مِنْ ذِكْرِ غَائِبٍ أَوْ جِدَالٍ يَقَعُ أَوْ مُفَاوَضَةٌ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِ آدَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَهُ : اعْلَمْ أَنَّ
لِلْكَلَامِ شُرُوطًا أَرْبَعَةً : لَا يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ
الزَّلَلِ إلَّا بِهَا وَلَا يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ إلَّا أَنْ
يَسْتَرْعِيَهَا : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ
لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ
دَفْعِ ضَرَرٍ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ .
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ
بِهِ انْتَهَى .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي
مُبَاحٍ وَالْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ
يَكُونَ فِي مُبَاحٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ
الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ مِنْهَاجِ
الْعَابِدِينَ لَهُ .
أَمَّا الْمُبَاحُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : شُغْلُ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ الْكَاتِبِينَ بِمَا لَا
خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ
وَحَقٌّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْتَحِيَ مِنْهُمَا فَلَا
يُؤْذِيهِمَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ .
وَالثَّانِي
: رَفْعُ الْكِتَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ اللَّغْوُ وَالْهَذْرُ
فَلْيَحْذَرْ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ وَلْيَخْشَ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ
وَجَلَّ وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَظَرَ إلَى رَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي
الْخَنَا فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّمَا تُمْلِي كِتَابًا إلَى رَبِّك
فَانْظُرْ مَا تُمْلِي .
وَالثَّالِثُ : قِرَاءَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ
الْمَلِكِ الْجَبَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ
بَيْنَ يَدَيْ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ عَطْشَانَ عُرْيَانَ جَوْعَان .
وَالرَّابِعُ : اللَّوْمُ وَالتَّعْيِيرُ لِمَاذَا قُلْت وَانْقِطَاعُ
الْحُجَّةِ وَالْحَيَاءِ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ .
وَقَدْ قِيلَ : إيَّاكَ وَالْفُضُولَ فَإِنَّ حِسَابَهُ يَطُولُ وَكَفَى
بِهَذِهِ الْأُصُولِ وَاعِظًا لِمَنْ اتَّعَظَ انْتَهَى .
لَكِنْ
إنْ اشْتَغَلَ بَعْدَ السُّؤَالِ بِإِلْقَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِمْ
أَوْ بِاقْتِبَاسِهَا مِنْهُمْ أَوْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا ؛
لِكَوْنِهِمْ يُسَرَّوْنَ بِكَلَامِهِ مَعَهُمْ أَوْ يُسَرُّ هُوَ
بِكَلَامِهِمْ مَعَهُ فَحَسَنٌ ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى حَالِ مَنْ يَقَعُ
لَهُ ذَلِكَ ، وَالْمَقْصُودُ اجْتِنَابُ الْبَطَالَةِ ، وَهُوَ أَنْ
يَمْضِيَ وَقْتٌ هُوَ فِيهِ عَرِيٌّ عَنْ الطَّاعَةِ .
وَيَنْوِي
مَعَ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ
بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْهُ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا
تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تُسْرِعُونَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ
وَالْوَقَارُ وَيَنْوِي امْتِثَالَ السُّنَّةِ حِينَ دُخُولِهِ
الْمَسْجِدَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ
: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي
وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك .
وَيَنْوِي أَيْضًا امْتِثَالَ
السُّنَّةِ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُقَدِّمَ الشِّمَالَ
وَيُؤَخِّرَ الْيَمِينَ وَيَنْوِيَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ حِينَ خُرُوجِهِ
بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ أَيْضًا فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ
اللَّهِ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي
أَبْوَابَ فَضْلِك .
وَيَنْوِيَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي أَخْذِ
الْقَدَمِ بِالشِّمَالِ حِينَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ وَحِينَ خُرُوجِهِ
مِنْهُ فَإِنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ أَنَّ كُلَّ مُسْتَقْذَرٍ
يُتَنَاوَلُ بِالشِّمَالِ ، وَكُلُّ طَاهِرٍ يُتَنَاوَلُ بِالْيَمِينِ
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِي التَّخَتُّمِ أَنْ
يَكُونَ فِي الشِّمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ
طَاهِرٌ وَيُجْعَلُ فِي الشِّمَالِ .
فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ وَخَرَجَ
بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَعَلَّهُ يَسْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي
يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَتَرَاهُمْ إذَا
دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ يَأْخُذُ قَدَمَهُ بِالْيَمِينِ ، وَقَلَّ
أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمْ مِنْ كِتَابٍ فَيَكُونُ الْكِتَابُ فِي
شِمَالِهِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي أُمُورِهِ مَحْذُورَاتٌ .
مِنْهَا
أَنْ يَجْهَلَ السُّنَّةَ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَإِذَا جَهِلَ
الطَّالِبُ السُّنَّةَ فِي مُنَاوَلَةِ كِتَابِهِ وَقَدَمِهِ فَكَيْفَ
حَالُهُ فِي غَيْرِهَا ؟ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ .
وَمِنْهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ
عِنْدَ
أَوَّلِ دُخُولِهِ بَيْتَ رَبِّهِ وَإِلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ وَمِنْهَا
ارْتِكَابُهُ الْبِدْعَةَ فَيَسْتَفْتِحُ عِبَادَتَهُ بِهَا .
وَمِنْهَا
اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ وَقِلَّةُ تَحَفُّظِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ
السُّنَّةِ فِي تَصَرُّفِهِمْ لِأَجْلِ تَصَرُّفِهِ وَمِنْهَا مَا فِيهِ
مِنْ التَّفَاؤُلِ ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَمِيعِ ، وَهُوَ أَخْذُ
كِتَابِهِ بِشِمَالِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ وَحُسْنَ
الْعَاقِبَةِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ .
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ امْتِثَالَ
السُّنَّةِ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ نَعْلَهُ فِي قِبْلَتِهِ وَلَا عَنْ
يَمِينِهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ خَلْفَهُ
يَتَشَوَّشُ فِي صَلَاتِهِ وَقَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ جَمْعُ خَاطِرٍ
فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ
لِلطَّهَارَاتِ فَمَا بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَسَارِ ،
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد نَصًّا
صَرِيحًا فِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ النَّهْيُ
عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ حِينَ رَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ النُّخَامَةَ فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ
مِنْهُ الْكَرَاهِيَةُ لِذَلِكَ وَوَقَعَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ
فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ النُّخَامَةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ فَمَا
بَالُك بِالْقَدَمِ الَّتِي قَلَّ أَنْ تَسْلَمَ فِي الطَّرِيقِ مِمَّا
هُوَ مَعْلُومٌ ؟ فَجَعَلَهُ عَلَى يَسَارِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
يَكُونَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ فَلَا يَفْعَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى
يَمِينِ غَيْرِهِ فَيَجْعَلُهُ إذْ ذَاكَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا سَجَدَ
كَانَ بَيْنَ ذَقَنِهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَيَتَحَفَّظُ مِنْ أَنْ
يُحَرِّكَهُ فِي صَلَاتِهِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مُبَاشِرًا لَهُ فِيهَا
فَيُسْتَحَبُّ لَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لَهُ خِرْقَةٌ أَوْ
مِحْفَظَةٌ يَجْعَلُ فِيهَا قَدَمَهُ فَهُوَ أَوْلَى .
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ إدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى إخْوَانِهِ
الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَمْكَنَهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ .
وَيَنْوِي امْتِثَالَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ مُنَافَرَةِ أَهْلِ
الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَنَاكِرِ لِمَا قَدْ نَصَّ
الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ هِجْرَانُ مَنْ هُوَ
مُجَاهِرٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَيَنْوِي
تَرْفِيعَ بَيْتِ رَبِّهِ وَتَوْقِيرَهُ بِأَنْ لَا يَنْشُدَ فِيهِ
شِعْرًا وَلَا يَنْشُدَ فِيهِ ضَالَّةً وَلَا يَرْفَعَ فِيهِ صَوْتًا
وَلَا يُصَفِّقَ فِيهِ بِكَفَّيْهِ وَلَا يَضَعَ كِتَابًا مِنْ يَدِهِ ،
وَهُوَ قَائِمٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِيَدِهِ ثَوْبٌ فَلَا يَضَعُهُ ،
وَهُوَ قَائِمٌ فَيَكُونُ لِوَقْعِهِ فِي الْأَرْضِ صَوْتٌ وَرَفْعُ
الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ
الْأَدَبِ مَعَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ
بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ فَلَا يُلْقِيهَا مِنْ يَدِهِ ، وَهُوَ قَائِمٌ
فَيَكُونُ لِوُقُوعِهَا فِي الْمَسْجِدِ صَوْتٌ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ ،
وَهُوَ قَائِمٌ يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ فَلَا يَفْعَلُهُ ؛ لِئَلَّا يَقَعَ
فِي النَّهْيِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَلْبَسَ دَاخِلَ
الْمَسْجِدِ فَيَتَحَفَّظَ أَنْ يُلْقِيَ نَعْلَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ
قَائِمٌ فَيَكُونَ لِوُقُوعِهِ فِي الْأَرْضِ صَوْتٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
بَقِيَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ الطَّرِيقِ فَيَقَعَ لِقُوَّةِ
الرَّمْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بَصَقَ فِي
نَعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَلِقُوَّةِ الرَّمْيَةِ يَنْزِلُ ذَلِكَ فِي
الْمَسْجِدِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا ، وَذَلِكَ
كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ
الْفُقَهَاءِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ
أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ
يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ .
وَالْقَذَاةُ هِيَ مَا
يَقَعُ فِي الْعَيْنِ وَلَا تُبَالِي الْعَيْنُ بِهَا فَإِذَا كَانَ
يُؤْجَرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ لَهُ
بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَيُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُومَ
بِمَا نَوَاهُ كُلَّهُ وَمَا فَعَلَهُ فِي جَنْبِ مَا قَلَّ مِنْ
الْأَدَبِ مَعَ بَيْتِ رَبِّهِ فَيَحْصُلُ لَهُ النُّقْصَانُ .
وَيَنْوِي
اجْتِنَابَ اللَّغَطِ فِيهِ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ كَالنَّارِ فِي الْحَطَبِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ إلَى تِجَارَةٍ فَيَرْجِعَ خَاسِرًا بِسَبَبِ لَغَطِهِ وَكَلَامِهِ .
وَيَنْوِي الصَّلَاةَ بِالسِّلَاحِ وَيَحْمِلُ ذَلِكَ مَعَهُ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالسِّلَاحِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا أَظُنُّهُ بِسَبْعِينَ .
وَيَنْوِي الِاجْتِنَابَ وَالْكَرَاهَةَ لِمَا يُبَاشَرُ فِي
الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ الْبِدَعِ .
سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ عَنْ
شَيْخِهِ الْقُدْوَةِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْمُحَقِّقِ سَيِّدِي أَبِي
الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
وَاَللَّهِ مَا أُبَالِي بِكَثْرَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْبِدَعِ ،
وَإِنَّمَا أُبَالِي وَأَخَافُ مِنْ تَأْنِيسِ الْقَلْبِ بِهَا ؛ لِأَنَّ
الْأَشْيَاءَ إذَا تَوَالَتْ مُبَاشَرَتُهَا اشْتَهَتْهَا النُّفُوسُ ،
وَإِذَا أَنِسَتْ النُّفُوسُ بِشَيْءٍ قَلَّ أَنْ تَتَأَثَّرَ لَهُ
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ
ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي تَغْيِيرِ
الْمُنْكَرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( مَنْ
رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَهُوَ
أَضْعَفُ الْإِيمَانِ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَالتَّغْيِيرُ
بِالْقَلْبِ هُوَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْبُغْضِ
لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَرْئِيِّ وَانْزِعَاجِهِ إذْ ذَاكَ وَقَلَقِهِ ،
وَهَذَا فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ .
أَمَّا
الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُعْهَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ فَقَدْ
أَنِسَتْهَا النُّفُوسُ وَلَا يَجِدُ الْقَلَقَ وَالِانْزِعَاجَ مِنْهَا
إذْ ذَاكَ أَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِهَا وَاسْتِمْرَارِهَا إلَّا أَهْلُ
الْعِلْمِ الْمُنْتَبِهُونَ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْعَارِفُونَ
بِذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ
أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ، وَالتَّغْيِيرُ قَدْ عُدِمَ فِي الْغَالِبِ
لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ
فَذَهَبَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ، وَإِذَا عُدِمَ أَضْعَفُهُ فَمَاذَا
يُرْجَى أَنْ يَبْقَى بَعْدَ عَدَمِ هَذَا الْأَضْعَفِ أَسْأَلُ اللَّهَ
تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمُحَمَّدٍ
وَآلِهِ .
يُبَيِّنُ هَذَا
وَيَزِيدُهُ إيضَاحًا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْقُوتِ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّلُ بِدْعَةٍ رَأَيْت
بُلْت الدَّمَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بُلْتُهُ أَصْفَرَ ثُمَّ تَغَيَّرَ
الْأَمْرُ إلَى الْعَادَةِ أَوْ كَمَا قَالَ فَلِقُوَّةِ الْإِيمَانِ إذْ
ذَاكَ عِنْدَهُ وَمُبَاشَرَةِ مَا لَمْ يَعْهَدْهُ مِنْ السُّنَّةِ قَوِيَ
انْزِعَاجُ تِلْكَ النَّفْسِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى تَغَيَّرَ مِزَاجُهُ
فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي مَائِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَطِبَّاءَ
يَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَا بِالْمَرِيضِ مِنْ الشِّكَايَةِ بِالنَّظَرِ
إلَى مَائِهِ فَلَمَّا أَنْ اسْتَمَرَّ أَمْرُ تِلْكَ الْبِدْعَةِ وَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِهَا لِلْأُمُورِ الْمَانِعَةِ لَهُ فِي وَقْتِهِ
تَغَيَّرَ مِنْ ذَلِكَ الِانْزِعَاجُ الْأَوَّلُ لِاسْتِئْنَاسِ النَّفْسِ
بِالْعَوَائِدِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ التَّغْيِيرِ
بِالْقَلْبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ بِدْعَةٍ هِيَ الَّتِي بَالَ
مِنْهَا هَذَا السَّيِّدُ الدَّمَ ثُمَّ سَكَنَ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ
وَلَعَلَّهَا مَا حَدَثَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُنْخُلِ أَوْ الْأُشْنَانِ
أَوْ الْخِوَانِ أَوْ مَا يُشَاكِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ظَهَرَتْ
فِي زَمَانِهِمْ .
أَمَّا زَمَانُنَا هَذَا فَمَعَاذَ اللَّهِ وَمَا
ذَاكَ إلَّا رَاجِعٌ لِمَا قَالَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَقَدْ أَحْسَنَ فِيهِ : حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ
الْمُقَرَّبِينَ أَعْنِي مِمَّا رَأَى هَذَا السَّيِّدُ الْعَظِيمُ ،
وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ
الْبِدْعَةِ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ
بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا
أَدْرَكْت عَلَيْهِ النَّاسَ إلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ فَانْظُرْ
كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ لِكُلِّ أَفْعَالِهِمْ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَذَانِ ؟ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ ، وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ فَتَحَ الْكَلَامَ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ ، وَهُوَ رَضِيعُ
إحْدَى زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهِيَ
أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهَا
مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَجَدُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ
يَبْكِي فَسُئِلَ مِمَّ بُكَاؤُك ؟ فَقَالَ : وَمَالِي لَا أَبْكِي وَمَا
أَعْرِفُ لَكُمْ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْت عَلَيْهِ النَّاسَ إلَّا
الْقِبْلَةَ هَذَا فِي زَمَانِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَمَا بَالُك
وَظَنُّك بِزَمَانِنَا هَذَا وَمَسَاجِدِنَا هَذِهِ ؟ لَكِنْ قَدْ
أَخْبَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنَّ ذَلِكَ
يَكُونُ فَكَانَ كَمَا قَالَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً
قَالُوا : تَرَكَ سُنَّةً ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إذَا أَطْلَقَهَا
الْعُلَمَاءُ فَالْمُرَادُ بِهَا طَرِيقَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَادَتُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى ذَلِكَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ .
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا .
أَيْ
: عَادَةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَعَادَةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنَا قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا فَلَمَّا أَنْ ارْتَكَبْنَا عَوَائِدَ
اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا بِحَسَبِ مَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا صَارَتْ
تِلْكَ الْعَوَائِدُ الَّتِي ارْتَكَبْنَاهَا وَمَضَيْنَا عَلَيْهَا
سُنَّةً لَنَا فَإِذَا جَاءَنَا مَنْ يَعْرِفُ السُّنَّةَ وَيَعْمَلُ
بِهَا أَنْكَرْنَاهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِخِلَافِ سُنَّتِنَا
وَقُلْنَا : هَذَا يَعْمَلُ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى سُنَّتِنَا
الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا فَإِذَا نَهَانَا عَنْ عَادَتِنَا
وَأَمَرَنَا بِتَرْكِهَا وَتَرَكَهَا هُوَ قُلْنَا : هَذَا يَتْرُكُ
السُّنَّةَ أَيْ : يَتْرُكُ السُّنَّةَ الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا
فَجَاءَ مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ ( عَنْ الْعَلَاءِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَرَجَ يَوْمًا إلَى
الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ قَرِيبٍ
بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت إخْوَانَنَا فَقَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ
أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدُ ، وَأَنَا
فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَك مِنْ أُمَّتِك ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ
لَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ دُهْمٌ أَلَا يَعْرِفُ
خَيْلَهُ مِنْ غَيْرِهَا ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ :
فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ
آثَارِ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَلَيُذَادَنَّ
رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ
أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ : إنَّهُمْ قَدْ
بَدَّلُوا بَعْدَك فَأَقُولُ : فَسُحْقًا فَسُحْقًا انْتَهَى .
فَأَتَى
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَفْظِ التَّبْدِيلِ عَلَى طَرِيقِ
الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّبْدِيلُ فِي الِاعْتِقَادِ
وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِذَا تَقَرَّرَ
هَذَا وَعُلِمَ مِنْ أَحْوَالِنَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى
الْعَوَائِدِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا
نَحْنُ فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ سُخْفٌ فِي الْعَقْلِ وَحِرْمَانٌ
بَيِّنٌ فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ هَذَا أَنْ يَنْوِيَ حِينَ الْخُرُوجِ
التَّحَفُّظَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا حَتَّى يَكُونَ
مُتَيَقِّظًا إذَا وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَيُغَيِّرَهُ بِاَلَّذِي
يَقْدِرُ عَلَيْهِ جُهْدُهُ مَرَّةً بِالْيَدِ وَأُخْرَى بِاللِّسَانِ
وَأُخْرَى بِالْقَلْبِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَرَاءٌ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ
تَرْكِ الثَّالِثِ فَإِنَّ تَرْكَهُ خَطَرٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُ
ذَلِكَ .
مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مَوْجُودٌ الْيَوْمَ بَيْنَنَا فِي
الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ وَالزِّيَادَةِ
فِيهِ بِالْمَدِّ الْفَاحِشِ وَالنَّقْصِ بِحَسَبِ مَا يُوَافِقُ
نَغَمَاتِهِمْ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا
سُنَّتُهُمْ الذَّمِيمَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ يَجُوزُ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ أَمْ
لَا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ
بِالْقُرْآنِ .
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَرَوَى ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ
الْأَلْحَانِ فَقَالَ : لَا تُعْجِبُنِي ، وَإِنَّمَا هُوَ غِنَاءٌ
يَتَغَنَّوْنَ بِهِ لِيَأْخُذُوا عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ وَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَاحْتَجُّوا
بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَحَمَلُوهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَهُوَ عِنْدَ
الْجَمَاعَةِ مُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى يَسْتَغْنِي بِهِ
مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ وَقِيلَ : يَجْهَرُ
بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَذِنَ اللَّهُ
لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ
يَجْهَرُ بِهِ .
قَالَ : عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ يُسْمِعُ
نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ .
وَقَالَ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ
بِالصَّدَقَةِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ :
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ وَجْهٌ آخَرُ
ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَيْ : يَسْتَغْنِي بِهِ عَمَّا
سِوَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ
الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاتِّبَاعِهِ التَّرْجَمَةَ فِي
كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ الِاسْتِغْنَاءُ
بِالْقُرْآنِ عَنْ عِلْمِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَالَهُ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
، وَقِيلَ : إنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ يَتَحَزَّنُ بِهِ أَيْ :
يَظْهَرُ فِي قَارِئِهِ الْحُزْنُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السُّرُورِ عِنْدَ
قِرَاءَتِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَلَيْسَ مِنْ الْغُنْيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ مِنْ الْغُنْيَةِ لَقَالَ : يَتَغَانَى بِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ
يَتَغَنَّى بِهِ ذَهَبَ إلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ
الْحَلِيمِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ
وَمُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيِّ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :
رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ .
الْأَزِيزُ بِزَاءَيْنِ صَوْتُ الرَّعْدِ وَغَلَيَانُ الْقِدْرِ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَؤُمُّ بِالنَّاسِ فَطَرَّبَ فِي
قِرَاءَتِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ سَعِيدٌ يَقُولُ : أَصْلَحَك اللَّهُ إنَّ
الْأَئِمَّةَ لَا تَقْرَأُ هَكَذَا فَتَرَكَ عُمَرُ التَّطْرِيبَ بَعْدُ .
وَرُوِيَ
عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ النَّبْرِ فِي
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ
كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَأَنْكَرَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ .
وَرَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِنْ كَانَ أَذَانُك سَهْلًا
سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ .
فَإِذَا
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ ذَلِكَ فِي
الْأَذَانِ فَأَحْرَى أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
الَّذِي حَفِظَهُ الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ :
وَقَوْلُهُ الْحَقُّ إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
قَالَ
أَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى
ظَاهِرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ أَيْ : زَيِّنُوا
أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ
بِالْقُرْآنِ ، وَقَالُوا : هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ كَمَا قَالُوا :
عَرَضْت الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَرَضْت النَّاقَةَ
عَلَى الْحَوْضِ قَالَ : وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ
فَقَدَّمَ الْأَصْوَاتَ عَلَى الْقُرْآنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرَوَاهُ
طَلْحَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ .
أَيْ
: الْهَجُوا بِقِرَاءَتِهِ وَاشْغَلُوا بِهِ أَصْوَاتَكُمْ وَاتَّخِذُوهُ
شِفَاءً ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَالدَّأْبُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ "
) .
ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْقُرْآنَ يُزَيَّنُ بِالْأَصْوَاتِ أَوْ
بِغَيْرِهَا ، فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا فَقَدْ وَاقَعَ أَمْرًا عَظِيمًا ،
وَهُوَ أَنْ يُحْوِجَ الْقُرْآنَ إلَى مَنْ يُزَيِّنُهُ كَيْفَ ، وَهُوَ
النُّورُ وَالضِّيَاءُ وَالزَّيْنُ الْأَعْلَى لِمَنْ أُلْبِسَ بَهْجَتَهُ
وَاسْتَنَارَ بِضِيَائِهِ ؟ ثُمَّ قَالَ : إنَّ فِي التَّرْجِيعِ
وَالتَّطْرِيبِ هَمْزَ مَا لَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَمَدَّ مَا لَيْسَ
بِمَمْدُودٍ فَتَرْجِعُ الْأَلِفُ الْوَاحِدَةُ أَلِفَاتٍ كَثِيرَةً
فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ
وَإِنْ وَافَقَ
ذَلِكَ مَوْضِعَ نَبْرَةٍ صَيَّرَهَا نَبَرَاتٍ
وَهَمَزَاتٍ وَالنَّبْرَةُ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا
هِيَ هَمْزَةٌ وَاحِدَةٌ لَا غَيْرَ إمَّا مَمْدُودَةٌ ، وَإِمَّا
مَقْصُورَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ عَامَ الْفَتْحِ عَلَى
رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ .
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ .
،
وَقَالَ : فِي صِفَةِ التَّرْجِيعِ ( آ آ آ ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْنَا :
ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى إشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ حِكَايَةُ صَوْتِهِ عِنْدَ هَزِّ الرَّاحِلَةِ كَمَا
يَعْتَرِي رَافِعَ صَوْتِهِ إذَا كَانَ رَاكِبًا مِنْ انْضِغَاطِ صَوْتِهِ
وَتَقْطِيعِهِ وَضِيقِهِ لِأَجْلِ هَزِّ الْمَرْكُوبِ ، وَإِذَا احْتَمَلَ
هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ قَالَ : وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ مَا
لَمْ يُبْهِمْ مَعْنَى الْقُرْآنِ بِتَرْدِيدِ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةِ
التَّرْجِيعَاتِ فَإِذَا زَادَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا
يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ كَمَا يَفْعَلُهُ
الْقُرَّاءُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ أَمَامَ
الْمُلُوكِ وَالْجَنَائِزِ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهِمَا الْأُجُورَ
وَالْجَوَائِزَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ فَيَسْتَحِلُّونَ
بِذَلِكَ تَغْيِيرَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُهَوِّنُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي
تَنْزِيلِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ جَهْلًا بِدِينِهِمْ وَمُرُوقًا عَنْ
سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَرَفْضًا لِسِيَرِ الصَّالِحِينَ فِيهِ مِنْ
سَلَفِهِمْ وَتَزْيِيغًا إلَى مَا يُزَيِّنُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مِنْ
أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا فَهُمْ
فِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَبِكِتَابِ اللَّهِ يَتَلَاعَبُونَ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ لَكِنْ .
قَدْ أَخْبَرَ
الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ
فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِينٍ وَأَبُو
عَبْدِ
اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ
حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ
وَأَصْوَاتِهَا وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَلُحُونَ أَهْلِ
الْكِتَابَيْنِ وَسَيَجِيءُ بَعْدِي أَقْوَامٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ
تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ
مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ
اللُّحُونُ جَمْعُ لَحْنٍ ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ
وَتَحْسِينُهُ بِالْقِرَاءَةِ كَالشِّعْرِ وَالْغِنَاءِ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَيُشْبِهُ هَذَا الَّذِي
يَفْعَلُهُ قُرَّاءُ زَمَانِنَا بَيْنَ يَدَيْ الْوُعَّاظِ فِي
الْمَجَالِسِ مِنْ اللُّحُونِ الْأَعْجَمِيَّةِ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا
مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالتَّرْجِيعُ فِي الْقِرَاءَةِ تَرْدِيدُ الْحُرُوفِ كَقِرَاءَةِ
النَّصَارَى وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ التَّأَنِّي فِيهَا
وَالتَّمَهُّلُ وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ تَشْبِيهًا
بِالشِّعْرِ الْمُرَتَّلِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
.
قَالَ : وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : وَاَلَّذِي يَظْهَرُ بِدَلَالَةِ
الْأَخْبَارِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّغَنِّي أَنْ يُحَسِّنَ الْقَارِئُ
صَوْتَهُ مَكَانَ مَا يُحَسِّنُ الْمُغَنِّي صَوْتَهُ بِغِنَائِهِ إلَّا
أَنَّهُ يَمِيلُ بِهِ نَحْوَ التَّحَزُّنِ دُونَ التَّطْرِيبِ أَيْ : قَدْ
عَوَّضَ اللَّهُ مِنْ غِنَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ خَيْرًا مِنْهُ ، وَهُوَ
الْقُرْآنُ ، فَمَنْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَرْضَ
بِهِ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ الْغِنَاءِ فَلَيْسَ مِنَّا إلَّا أَنَّ
قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنْ التَّغَنِّي وَفُضُولِ
الْأَلْحَانِ وَتَرْدِيدِ الصَّوْتِ مِمَّا يُلْبِسُ الْمَعْنَى
وَيَقْطَعُ أَوْصَالَ الْكَلَامِ كَمَا قَدْ دَخَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي
الْغِنَاءِ ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ حُسْنُ الصَّوْتِ
وَالتَّحْزِينُ بِهِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ
قِرَاءَةً فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ النَّاسِ
قِرَاءَةً مَنْ إذَا سَمِعْته يَقْرَأُ رَأَيْت أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ
تَعَالَى .
وَقَالَ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ
فَاقْرَءُوهُ بِحُزْنٍ ؛ فَابْكُوا ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا
انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي
التَّحَزُّنِ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ مُتَلَبِّسًا
بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَتَعَاطَ أَسْبَابَ
الْحُزْنِ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَأَنَّ
النَّارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَذَلِكَ ؛ لِيَكُونَ ظَاهِرُهُ
مُوَافِقًا لِبَاطِنِهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ مِنْ
التَّحْزِينِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ خُشُوعِ
النِّفَاقِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ
كَذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ رَأَى
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَمْشِي ، وَهُوَ
مُنْحَنِي الرَّأْسِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ : ارْفَعْ رَأْسَك
الْخُشُوعُ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى قَلْبِهِ .
فَإِذَا كَانَ
الْأَمْرُ كَمَا وَصَفَ فَيَحْتَاجُ الْخَارِجُ إلَى الْمَسْجِدِ ؛ لَأَنْ
يَكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِئَلَّا يُعْجِبَهُ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ وَلَا يَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَرَى وَكَذَلِكَ
مَا يُفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ الْجَائِزِ مِنْ جِنْسِ مَا
ذُكِرَ مِمَّا تَأْبَاهُ السُّنَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ
يَطُولُ تَتَبُّعُهُ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَلَبَ
الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ كُلِّهِ فَيَعْرِفُهُ حِينَ
رُؤْيَتِهِ ، وَقَدْ صَارَتْ كَأَنَّهَا شَعَائِرُ الدِّينِ ، وَقَلَّ
مَنْ يُنْكِرُهَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَيَنْوِي
مَعَ مَا ذُكِرَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فِي حَالِ
تَلَبُّسِهِ بِالْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحْضَرَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ
وَالِاحْتِسَابِ إذْ ذَاكَ كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِمَّنْ كَانَ غَافِلًا
عَنْهَا أَوْ سَاهِيًا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ مَنْ صَامَ
رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ رَمَضَانَ إلَى
رَمَضَانَ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الصَّوْمِ مَا قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ
مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ
فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَهَذَا أَجْرُهُ كَمَا تَرَى لَكِنْ
لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ زِيدَ لَهُ
فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةً مَا بَيْنَ رَمَضَانَ إلَى رَمَضَانَ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ قَامَ
رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ .
وَقِيَامُ رَمَضَانَ فِيهِ الْأَجْرُ ابْتِدَاءً لَكِنْ
لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا فِي نِيَّتِهِ إحْضَارَ الْإِيمَانِ
وَالِاحْتِسَابِ زِيدَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةَ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا
فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ وَاجِبَةٌ
وَالْوَاجِبُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَجْرُهُ أَعْظَمُ وَأَفْضَلُ مِنْ
غَيْرِهِ لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الِاحْتِسَابِ فِي
فِعْلِهِ زِيدَ لَهُ عَلَى أَجْرِ الْوَاجِبِ أَجْرُ صَدَقَتِهِ انْتَهَى .
وَإِحْضَارُ
ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْفِعْلَ يَسْتَحْضِرُ الْإِيمَانَ إذْ
ذَاكَ ، وَأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا
أَمَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
مُنْقَادًا مُطِيعًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا مُجْبَرًا وَلَا
مُسْتَحِيًا ، بَلْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ لَيْسَ إلَّا وَالِاحْتِسَابُ
أَنْ يَحْتَسِبَ تَعَبَ الْفِعْلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ وَمَشَقَّتَهُ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى لَا
عَلَى غَيْرِهِ مِنْ عِوَضٍ يَأْخُذُهُ أَوْ
ثَنَاءٍ أَوْ مِدْحَةٍ أَوْ مَظْلِمَةٍ تَرْتَفِعُ عَنْهُ أَوْ يُرْجَعُ
إلَيْهِ أَوْ يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَوْ إشَارَتُهُ ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ
خَالِصًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُرِيدُ بِهِ بَدَلًا فَإِذَا
فَعَلَ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا
التَّرْتِيبِ فَقَدْ أَتَى بِالْمَقْصُودِ وَالْمُرَادِ ، وَقَدْ كَمَّلَ
النِّيَّةَ وَأَتَمَّهَا وَنَمَّاهَا فَيُرْجَى لَهُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ
مَا وَعَدَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ
اللَّهِ قِيلًا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا ، وَهَذِهِ
الْقَاعِدَةُ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا دَقِيقِهَا
وَجَلِيلِهَا وَاجِبِهَا وَمَنْدُوبِهَا وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ :
كُلُّ مَا ذَكَرْته مُتَعَذِّرٌ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا
كُلَّهُ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ النَّاسِ
أَرْبَابُ ضَرُورَاتٍ فَلَا يُمَكِّنُهُمْ الْوُقُوفُ لِمُرَاعَاةِ مَا
ذُكِرَ فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ .
قَالَ : قَالَ لَنَا
أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِثَغْرِ
عَسْقَلَانَ : سَمِعْت إمَامَ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ يُحْضِرُ
الْإِنْسَانُ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالصَّلَاةِ النِّيَّةَ وَيُجَرِّدُ
النَّظَرَ فِي الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ حَتَّى يَنْتَهِيَ
نَظَرُهُ إلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ قَالَ وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى
زَمَانٍ طَوِيلٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَدْنَى لَحْظَةٍ ؛
لِأَنَّ تَعْلِيمَ ذَلِكَ الْجُهَّالِ يَفْتَقِرُ إلَى الزَّمَانِ
الطَّوِيلِ وَتَذَكُّرَهَا يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ انْتَهَى .
وَمِنْ
تَمَامِ النِّيَّةِ وَتَكْمِلَتِهَا وَحُسْنِهَا وَتَنْمِيَتِهَا أَنْ
تَكُونَ مُسْتَصْحَبَةً فِي كُلِّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ لَكِنْ هَذَا فِي
الْغَالِبِ صَعْبٌ عَسِيرٌ فِي حَقِّ أَكْثَرِ النَّاسِ ، وَذَلِكَ حَرَجٌ
وَمَشَقَّةٌ فَيُجْزَى بِالنِّيَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْخُرُوجِ إلَى
الْمَسْجِدِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ مَعَ مَا يُضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ
نِيَّةِ شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا
وَفَضَائِلِهَا ، وَذَلِكَ سَبْعٌ وَسِتُّونَ .
فَالشُّرُوطُ خَمْسَةٌ
وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَانْقِطَاعُ دَمِ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَدُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ .
وَتَخْتَصُّ
الْجُمُعَةُ بِثَمَانِيَةِ شُرُوطٍ : أَرْبَعٌ لِلْوُجُوبِ ، وَأَرْبَعٌ :
لِلْأَدَاءِ فَأَمَّا الْأَرْبَعُ الَّتِي لِلْوُجُوبِ فَهِيَ
الذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ وَمَوْضِعُ
الِاسْتِيطَانِ .
أَمَّا الَّتِي لِلْأَدَاءِ فَهِيَ إمَامٌ وَجَمَاعَةٌ وَمَسْجِدٌ
وَخُطْبَةٌ .
وَالْفَرَائِضُ
ثَمَانِيَةَ عَشْرَ ، وَكَذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ وَكَذَلِكَ مِنْ
الْفَضَائِلِ فَالْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ
عَشْرَةٌ : وَهِيَ النِّيَّةُ وَالطَّهَارَةُ وَمَعْرِفَةُ الْوَقْتِ
وَالتَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَرَفْعُ
الرَّأْسِ مِنْ السُّجُودِ وَالْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ الْأَخِيرُ
وَتَرْتِيبُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا ثَلَاثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهِيَ تَكْبِيرَةُ
الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامُ وَقِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِمَامِ
وَالْفَذِّ ، وَمِنْهَا خَمْسٌ مُخْتَلِفٌ فِيهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ الرَّفْعُ مِنْ الرُّكُوعِ وَطَهَارَةُ
الثَّوْبِ وَالْبُقْعَةُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ
وَالِاعْتِدَالُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَاثْنَتَانِ
مُخْتَلِفٌ فِيهِمَا هَلْ هُمَا شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطُ كَمَالٍ ؟
وَهُمَا الْخُشُوعُ وَدَوَامُ النِّيَّةِ .
أَمَّا السُّنَنُ فَأَوَّلُهَا إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ
وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ
الْإِحْرَامِ
وَيَخْتَلِفُ فِي الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ مِنْهُ
وَالسُّورَةُ الَّتِي تُقْرَأُ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَالْجَهْرُ
بِالْقِرَاءَةِ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا فِي مَوْضِعِ
السِّرِّ ، وَالْإِنْصَاتُ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ
وَالتَّكْبِيرُ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَقَدْ قِيلَ : أَنَّ
كُلَّ تَكْبِيرَةٍ بِانْفِرَادِهَا سُنَّةٌ وَسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ لِلْإِمَامِ وَالْفَذِّ ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ
وَالْجُلُوسُ لَهُ وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَالْجُلُوسُ لَهُ ، وَهُوَ
مَا كَانَ مِنْهُ زَائِدًا عَلَى مَا يَقَعُ فِيهِ السَّلَامُ
وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الصَّلَاةِ سُنَّةً وَفَرِيضَةً مُطْلَقَةً فِي غَيْرِهَا وَرَدُّ
السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ وَتَأْمِينُ الْمَأْمُومِ إذَا قَالَ
الْإِمَامُ : وَلَا الضَّالِّينَ وَقَوْلُهُ : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ
إذَا قَالَ الْإِمَامُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالْقِنَاعُ
لِلْمَرْأَةِ وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
أَمَّا
الْفَضَائِلُ فَأَوَّلُهَا أَخْذُ الرِّدَاءِ وَالتَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ
وَقِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ
وَإِطَالَةُ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَتَخْفِيفُهَا فِي
الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَتَوَسُّطُهَا فِي الْعِشَاءِ وَتَقْصِيرُ
الْجِلْسَةِ الْأُولَى وَالتَّأْمِينُ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ
لِلْفَذِّ وَالْإِمَامِ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ وَقَوْلُ الْفَذِّ :
رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ وَصِفَةُ الْجُلُوسِ وَالْإِشَارَةُ
بِالْأُصْبُعِ فِيهِ وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ وَالْقِيَامُ مِنْ
مَوْضِعِهِ سَاعَةَ يُسَلِّمُ وَالسُّتْرَةُ وَاعْتِدَالُ الصُّفُوفِ
وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْيَدَيْنِ فِي الْفَرِيضَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي
وَضْعِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي الصَّلَاةِ ، وَقَدْ كَرِهَهَا
فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَعْنَى كَرَاهِيَتِهَا أَنْ تُعَدَّ مِنْ
وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ .
وَالصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى مَا
أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ وَالصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ مُسْتَحَبَّةٌ
لِلرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ .
أَمَّا إقَامَةُ
الْجَمَاعَةِ
فِي الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ وَسُنَّةٌ فِي كُلِّ
مَسْجِدٍ ، وَهَذَا مُنْتَهَى مَا عَدَّهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فَيَجْتَمِعُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآدَابِ فَيَكُونُ
الْجَمِيعُ مِائَةً وَتِسْعَةً وَخَمْسِينَ فَإِنْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ
نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إلَى
الصَّلَاةِ وَعِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ
مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ فِيهِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَرْجُوٌّ فِيهِ قَبُولُ
الدُّعَاءِ ثُمَّ يَنْوِي الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَيْضًا ؛
لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ أَعْنِي دُعَاءَ كُلِّ إنْسَانٍ فِي سِرِّهِ
لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ دُونَ جَهْرٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ
إمَامًا وَيُرِيدَ أَنْ يُعَلِّمَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ تَعَلَّمُوا
سَكَتَ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ التَّوْبَةَ حِينَ الدُّخُولِ فِي
الصَّلَاةِ مِمَّا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ السَّقَطَاتِ فِي الْكَلَامِ أَوْ
الْغَفَلَاتِ وَالْخَطَرَاتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ
حَالِهِ ، وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعَاقِدِ لِلنِّكَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ
قَبْلَ الْعَقْدِ لِيَحْصُلَ الْعَقْدُ مِنْ تَائِبٍ فَتَكُونُ عَدَالَةُ
الْوَلِيِّ حَاصِلَةً بِالتَّوْبَةِ الْوَاقِعَةِ إذْ ذَاكَ فَيَخْرُجُ
بِهِ مِنْ الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْوَلِيِّ غَيْرِ الْعَدْلِ وَكَذَلِكَ
فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ يُحَصِّلُ التَّوْبَةَ ؛ لِكَيْ يَتَّصِفَ
بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ إذْ ذَاكَ فِي
قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ .
وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجْدِيدًا لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ تَوْبَتِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ
حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَعَ بَابَ الْمَلِكِ بِالدُّخُولِ فِي
مُنَاجَاتِهِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ
مَوْلَاهُ فِي صَلَاتِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
فَهَذِهِ أَرْبَعٌ مُضَافَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَكُونُ
الْجَمِيعُ
مِائَةً وَثَلَاثَةً وَسِتِّينَ مِنْ الْآدَابِ فَيَنْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ فَمَا صَادَفَهُ بَادَرَ إلَى عَمَلِهِ وَمَا لَمْ يُصَادِفْهُ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى جِهَةِ التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ نُورًا وَتَأْيِيدًا وَتَوْفِيقًا يَرَى أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ وَيَعْلَمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا هُوَ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النُّورَ لَا يُشْبِهُ الظَّلَامَ ، وَنَظَرُ الْعَالِمِ لَيْسَ كَنَظَرِ الْعَامِّيِّ ، وَنَظَرُ الْعَامِلِ لَيْسَ كَنَظَرِ الْبَطَّالِ ، وَنَظَرُ الْمُتَّبِعِ لَيْسَ كَنَظَرِ الْمُبْتَدِعِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ فِي الشَّخْصِ وَتَعَرَّى مِنْ هَذِهِ النَّقَائِصِ حَصَلَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا .
لَكِنْ بَقِيَ فِي
هَذَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ هَلْ
يُجْزِي عَنْهُمَا أَوْ لَا يُجْزِي أَوْ يُجْزِي عَنْ إحْدَاهُمَا
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ : يُجْزِي عَنْهُمَا لَا يُجْزِي
عَنْهُمَا يُجْزِي عَنْ الْجَنَابَةِ لَيْسَ إلَّا يُجْزِي عَنْ
الْجُمُعَةِ لَيْسَ إلَّا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اغْتَسَلَ
لِلْجَنَابَةِ وَيَقُولُ : أَرْجُو أَنْ يُجْزِيَنِي عَنْ غُسْلِ
جُمُعَتِي أَعْنِي أَنَّهُ يَنْوِي بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ
وَمَسْأَلَتُنَا مِثْلُهَا سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ
يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ فَيَنْوِي بِالصَّلَاةِ الْمَشْيَ إلَى أَدَاءِ
فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ نَفْسِهَا ثُمَّ
يَقُولُ : وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَنِي عَنْ كَذَا وَكَذَا فَيَتَعَدَّدُ
مَا ذُكِرَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَإِذَا خَرَجَ بِمَا تَقَدَّمَ فَمَا وَافَقَ مِمَّا نَوَاهُ بَادَرَ
إلَيْهِ يَفْتَرِسُهُ فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ
وَمَا لَمْ يُوَافِقْهُ فِي الْوَقْتِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ ،
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْقَعَ اللَّهُ أَجْرَهُ
عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكِيَ عَنْ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي
سِيَاقِ الْمَوْتِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : انْوُوا بِنَا حَجًّا انْوُوا
بِنَا جِهَادًا انْوُوا بِنَا رِبَاطًا وَجَعَلَ يُعَدِّدُ لَهُمْ
أَنْوَاعَ الْبِرِّ وَكَثُرَ فَقَالُوا لَهُ : يَا سَيِّدَنَا كَيْفَ
وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ ؟ فَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ عِشْنَا
وَفَّيْنَا وَإِنْ مُتْنَا حَصَلَ لَنَا أَجْرُ النِّيَّةِ هَكَذَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي النِّيَّةِ وَتَنْمِيَتِهَا بِمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَالْغَافِلُ الْمِسْكِينُ صَحِيحٌ مُعَافًى ،
وَهُوَ فِي عَمًى عَنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ سَاهٍ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ
عَمَلِهِ لَكِنْ إذَا نَوَى مَا ذُكِرَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ
مُتَيَقِّظًا مَهْمَا قَدَرَ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ اتِّسَاعِ الزَّمَانِ
عَلَيْهِ فَعَلَهُ
لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ فَيَقَعُ فِي الْمَقْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
فَإِذَا
خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَبَقَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخْطِرَ لَهُ
فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ
فَيَقَعُ فِي الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى فَكَانَ تَرْكُهُ لِزِيَادَةِ
تِلْكَ النِّيَّاتِ أَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ مُحْبِطٌ
لِلْأَعْمَالِ إذَا صَحَّتْ فَكَيْفَ بِهِ فِي عَمَلٍ لَمْ يُعْرَفْ
صِحَّتُهُ مِنْ سَقَمِهِ ؟ ، بَلْ يَخْرُجُ مُحْسِنَ الظَّنِّ
بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ فَيَتَّهِمُ
نَفْسَهُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهِ الشَّرَّ ،
وَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا رَآهُ
يَفْعَلُ الشَّرَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ كَمَا حُكِيَ عَنْ
بَعْضِهِمْ أَظُنُّهُ مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَنَفَعَنَا بِبَرَكَاتِهِ وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ سِرِّهِ أَنَّهُ
مَرَّ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَوْضِعٍ فَرُمِيَ عَلَيْهِ مِنْ كُوَّةِ دَارٍ
رَمَادٌ فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ أَنْ يُعَنِّفُوا أَهْلَ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا هَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى وَفَأْلٌ حَسَنٌ لِمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ ثُمَّ صُفِحَ عَنْهُ
، وَوَقْعُ الصُّلْحِ عَلَى الرَّمَادِ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّهِ
وَمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الْخُلُقِ مِنْهُ إلَّا سُوءَ ظَنِّهِ
بِنَفْسِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ آخَرَ أَنَّهُ مَرَّ مَعَ أَصْحَابِهِ
بِمَوْضِعٍ وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَلَّ أَنْ يُغَيِّرَ مُنْكَرًا
فَمَرُّوا بِدُكَّانٍ وَرَجُلٌ يُجَامِعُ امْرَأَةً عَلَى مَسْطَبَةِ
الدُّكَّانِ فَغَمَّضَ الشَّيْخُ عَيْنَيْهِ وَمَرَّ فَجَاءَ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ فَأَمْسَكَهُ .
وَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي مَا بَقِيَ
لَك هَاهُنَا تَأْوِيلٌ أَوْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ فَقَالَ : لَهُ
الشَّيْخُ أَمَا تَعْذُرُهُمْ يَا أَخِي كَثُرَتْ الْعِيَالُ وَضَاقَتْ
الْبُيُوتُ حَتَّى احْتَاجَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِزَوْجَتِهِ لِمِثْلِ هَذَا
الْمَوْضِعِ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا تَحْسِينُ ظَنِّهِ
بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَانَ
صَاحِبُ حَالٍ فَحَمَلَهُ حَالُهُ عَلَى مَا فَعَلَ ، وَإِلَّا
فَتَحْسِينُ الظَّنِّ مُمْكِنٌ وَنَهْيُهُ وَاجِبٌ أَيْضًا ، وَإِنْ
كَانَتْ
زَوْجَتُهُ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ
نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرِّجَالِ أَنْ يَجْتَمِعُوا
بِالنِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ لِحَدِيثٍ وَلَا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ
زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ لَكِنَّ الْحَالَ حَامِلٌ لَا مَحْمُولٌ .
سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ إذَا مَرَّ عَلَيْك إنْسَانٌ بِجَرَّةِ خَمْرٍ ثُمَّ غَابَ عَنْك
وَرَجَعَ عَرِيًّا عَنْهَا لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ : شَرِبَهَا
وَلَا أَوْصَلَهَا لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا ، وَإِنَّمَا تَقُولُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاهُ وَتَابَ عَلَيْهِ .
هَكَذَا تَكُونُ
نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي هَذِهِ
سَبِيلُهُ مَعَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْخِلْطَةِ فَيَدْخُلُ إذْ ذَاكَ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَلَامَةُ الصَّدْرِ لَا
تُبْلَغُ بِعَمَلٍ .
أَمَّا مَعَ الْخِلْطَةِ ، فَالسُّنَّةُ سُوءُ
الظَّنِّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُمْ سَبَبٌ لِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ
، وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ
الْحَزْمِ سُوءُ الظَّنِّ
فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ عَلَى مَا وَصَفَ وَدَخَلَ إلَيْهِ يُحَيِّيهِ فَهُوَ فِي تَحِيَّتِهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنْ شَاءَ فَعَلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، فَالِاسْتِحْبَابُ بَيِّنٌ وَالْوُجُوبُ بِنَذْرِهَا فَتَصِيرُ وَاجِبَةً ثُمَّ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ يُحْرِمُ بِهَا وَفِعْلُ الْوَاجِبِ فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهِ .
فَإِذَا
فَرَغَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ إحْدَى
أُمُورٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ مُهِمٌّ
فِي الدِّينِ كَالْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَالْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ
وَالْمُؤَدِّبِ وَالْمُجَاهِدِ وَالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ لِلْعِبَادَةِ
التَّارِكِ لِلْأَسْبَابِ ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ عَلَيْهِمْ يَدُورُ
أَمْرُ الدِّينِ فَأَهَمُّهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ هُوَ الْعَالِمُ إذْ أَنَّ
السِّتَّةَ الْبَاقِينَ كُلَّهُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِ دَاخِلُونَ تَحْتَ
أَحْكَامِهِ وَإِشَارَتِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْعِلْمُ إمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ .
وَقَوْلُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ
لِكِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ فِي عَصْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ هُوَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ
وَالْحَرَامِ وَبِقَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ : ذَكَرَ أَبُو
عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقْرِئُهُمْ الْعَشْرَ فَلَا
يُجَاوِزُونَهَا إلَى عَشْرٍ أُخْرَى حَتَّى يَتَعَلَّمُونَ مَا فِيهَا
مِنْ الْعَمَلِ فَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ جَمِيعًا
وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَسَارٍ السُّلَمِيِّ قَالَ : كُنَّا
إذَا تَعَلَّمْنَا عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمْ
الْعَشَرَةَ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا
وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا انْتَهَى .
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ
الْإِمَامَ يَكُونُ أَعْلَمَ الْقَوْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ يَؤُمُّ الْقَوْمَ
أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
فَهُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ حَاجَةً إلَى الْعِلْمِ وَالْإِمَامَةُ أَعْلَى
الْمَنَاصِبِ وَأَجَلُّهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَالِمًا
أَعْنِي عَلَى طَرِيقِ
الْكَمَالِ ، وَإِلَّا فَبِالسُّؤَالِ مِنْ
الْعَالِمِ يَسْتَقِيمُ حَالُهُ وَيَصِيرُ عَالِمًا بِأَحْكَامِ خُطَّتِهِ
وَمَرْتَبَتِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْخَمْسَةِ الْبَاقِينَ كُلٌّ
مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي أُهِّلَ إلَيْهِ إمَّا
بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ مِنْ الْعَالِمِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَهْلِ الْبَلَاءِ
إلَى الْجَنَّةِ ، وَالْعُلَمَاءُ وُقُوفٌ فِي الْمَحْشَرِ فَيَقُولُونَ
يَا رَبَّنَا بِفَضْلِ عِلْمِنَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَيْ : أَنَّهُمْ
عَلَّمُوهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي بَلَائِهِمْ وَمَا
لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأُجُورِ وَكَيْفِيَّةَ الصَّبْرِ وَمَا
لِلصَّابِرِينَ فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَكَانُوا سَبَبًا لِمَا
جَرَى ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُجَاهِدِينَ
وَالْمُصَابِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
وَالْعُلَمَاءُ وُقُوفٌ
يَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا بِفَضْلِ عِلْمِنَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ ،
فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْتُمْ عِنْدِي كَأَنْبِيَائِي
اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَاشْفَعُوا تُشَفَّعُوا ، وَإِذَا
كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْعَالِمِ
، وَتُقَدَّمُ رُتْبَتُهُ بِالذِّكْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الرُّتَبِ
الْبَاقِيَةِ إذْ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لَهُمْ فِي مَقَامِهِ الَّذِي
أُقِيمَ فِيهِ وَالْبَاقُونَ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ مُضْطَرُّونَ لَا
تَتِمُّ لَهُمْ صَفْقَةٌ وَلَا يَتَقَوَّمُ لَهُمْ أَمْرٌ إلَّا بِدُخُولِ
الْعَالِمِ بَيْنَهُمْ ، وَإِلَّا كَانَ سَعْيُهُمْ هَبَاءً مَنْثُورًا
فَجَاءَ مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ
نِعْمَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ نَفَعَ وَإِنْ
اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ أَغْنَى نَفْسَهُ بِاَللَّهِ .
وَبِالْكَلَامِ عَلَى الْعَالِمِ وَتَمْيِيزِ مَقَامِهِ يَنْدَرِجُ
غَيْرُهُ فِيهِ مِنْ مُتَعَلِّمٍ أَوْ غَيْرِهِ .
وَأَبْقَيْت
بَقِيَّةً مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاقِينَ وَسَنَذْكُرُ كُلًّا
مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
( فَصْلٌ )
فِي الْعَالِمِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ وَأَدَبِهِ فَأَوَّلُ
مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ جَهْدَهُ مَا اسْتَطَاعَ
أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ إذْ أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ هُوَ أَصْلُ
الدِّينِ وَعِمَادُهُ ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فَرْعٌ
عَنْهُ وَتَابِعٌ لَهُ كَأَصْلِ الشَّجَرَةِ إنْ اسْتَقَامَ اسْتَقَامَتْ
الْفُرُوعُ وَإِنْ أَصَابَتْ الْأَصْلَ آفَةٌ هَلَكَتْ الْفُرُوعُ
وَالنِّيَّةُ هِيَ الْأَصْلُ لِإِحْرَازِ هَذَا الْأَصْلِ إنْ كَانَ
حَسَنًا يَسْلَمُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ
عَمَلِهِ .
وَلَا يُوجَدُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا عَلَى مَا
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ ، وَذَلِكَ
بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهِ حَسَنَةً فَإِذَا كَانَتْ
النِّيَّةُ حَسَنَةً كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ ، وَإِلَّا فَتَكُونُ
الْأَعْمَالُ تَفْضُلُهُ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهِ أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِابْنِ وَهْبٍ لَمَّا أَنْ
قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مَا الَّذِي قُمْت إلَيْهِ بِأَوْجَبَ عَلَيْك مِنْ
الَّذِي قُمْت عَنْهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ
نِيَّاتُهُمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَا كَانَتْ فَكَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ
لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّلَاةُ تُدْرَكُ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا
مُمْتَدٌّ وَمَسَائِلَ الْعِلْمِ تَفُوتُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَلَا
تَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ وَحْدَهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ
مَضَتْ الْحِكْمَةُ وَبِهِ وَقَعَ التَّكْلِيفُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ، وَهُوَ الْآنَ
مُتَيَسِّرٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُجَالَسَتِهِ الْإِمَامَ مَالِكًا الَّذِي
كَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ تَفُوتُهُ مُجَالَسَتُهُ بَعْدَ
الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالنِّيَّةُ أَوْلَى مَا يُرَاعِي
الْعَالِمُ أَوَّلًا ثُمَّ يُنَمِّيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهَا
وَالْعَالِمُ أَوْلَى بِتَنْمِيَتِهَا وَتَحْسِينِهَا ، إذْ الْعِلْمُ
الَّذِي عِنْدَهُ يُبَصِّرُهُ بِذَلِكَ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهِ .
قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ
وَكَيْفِيَّةُ إخْلَاصِ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ
بِنِيَّةِ أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ وَقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَيُقْرَأُ أَيْضًا تُعَلِّمُونَ وَتَعْلَمُونَ
بِمَعْنَى تَتَعَلَّمُونَ فَتَجْمَعُ الْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ الْعِلْمَ
وَالتَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ
يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ ، وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً
.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا لِيُبَلِّغْ
الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ
إلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْت أَنْ أُنْفِذَ كَلِمَةً سَمِعْتهَا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ
تُجْهِزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا .
وَالْأَجْرُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ .
قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ
قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَعْمَالَ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ
بِالثَّوَابِ .
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُبَّادِ كَتَبَ إلَى مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَحُضُّهُ عَلَى الِانْفِرَادِ وَتَرْكِ مُجَالَسَةِ
النَّاسِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى قَدْ قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَعْمَالَ كَمَا قَسَّمَ
الْأَرْزَاقَ فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُفْتَحْ
لَهُ فِي الصِّيَامِ وَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصِّيَامِ وَلَمْ
يَفْتَحْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرُبَّ رَجُلٍ
فُتِحَ لَهُ فِي كَذَا وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي كَذَا فَعَدَّدَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ : وَمَا أَظُنُّ مَا أَنْتَ فِيهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا أَنَا فِيهِ ، وَكِلَانَا عَلَى خَيْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّلَامُ .
وَيَجِبُ
عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا ، الْعَمَلُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ إذْ هُوَ الَّذِي
يُقِرُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ إلَّا وَسَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَخْلُو
أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَوْ قَالَ لَيْلَةَ تَمَامِهِ
يَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي
يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ
آدَمَ مَا غَرَّك بِي مَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت يَا ابْنَ آدَمَ ؟
مَاذَا أَجَبْت الْمُرْسَلِينَ ؟ .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
أَنَّهُ قَالَ ( مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَالِمٌ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ رَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ
أَوْ أَوْحَى إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْ لِلَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ
فِي غَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ وَيَطْلُبُونَ
الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الْكِبَاشِ
وَقُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِ الذِّئَابِ أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ
الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ إيَّايَ يُخَادِعُونَ
وَبِي يَسْتَهْزِئُونَ لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الْحَلِيمَ
فِيهَا حَيْرَانَ .
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ
النُّفُوسِ بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ صَدَقَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
تُخَادِعُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يُخَادِعْهُ
اللَّهُ وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ كَانَ يَشْعُرُ قَالُوا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، وَكَيْف يُخَادَعُ اللَّهُ ؟ قَالَ : تَعْمَلُ بِمَا أَمَرَك
اللَّهُ بِهِ وَتَطْلُبُ بِهِ غَيْرَهُ وَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ
الشِّرْكُ
، وَإِنَّ الْمُرَائِيَ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ يُنْسَبُ إلَيْهَا يَا كَافِرُ يَا
فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ عَمَلُك وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا
خَلَاقَ لَك الْيَوْمَ فَالْتَمِسْ أَجْرَك مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ
يَا مُخَادِعُ انْتَهَى .
، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَا جَاءَ فِي نَصِّ التَّنْزِيلِ سَوَاءٌ
بِسَوَاءٍ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى يُخَادِعُونَ اللَّهَ ، وَهُوَ خَادِعُهُمْ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : مَعْنَاهُ يُقَابِلُهُمْ
عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَمِنْ كِتَابِ الْقُرْطُبِيِّ أَيْضًا رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبِسَتْكُمْ
فِتْنَةٌ يَرْبُو أَوْ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا
الْكَبِيرُ وَتُتَّخَذُ سُنَّةٌ مُبْتَدَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ
فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ : غُيِّرَتْ السُّنَّةُ قِيلَ :
مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : إذَا كَثُرَ
قُرَّاؤُكُمْ ، وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ
أُمَنَاؤُكُمْ وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَتَفَقَّهَ
الرَّجُلُ لِغَيْرِ الدِّينِ ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ
بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ أَنَّ
حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَخَذُوهُ بِحَقِّهِ أَوْ كَمَا يَنْبَغِي
لَأَحَبَّهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ طَلَبُوا بِهِ الدُّنْيَا فَأَبْغَضَهُمْ
اللَّهُ وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكُبْكِبُوا
فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ قَالَ : قَوْمٌ وَصَفُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَخَالَفُوهُ بِقُلُوبِهِمْ إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى .
وَمِنْ
كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْإِمَامِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى
مَنْ يَنْسِبُ الْحِكْمَةَ لِغَيْرِ أَهْلِهَا أَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ
صَارَ هَذَا الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الطَّبِيبِ ، وَعَلَى الشَّاعِرِ ،
وَعَلَى الْمُنَجِّمِ حَتَّى عَلَى الَّذِي
يُخْرِجُ الْقُرْعَةَ
وَاَلَّذِي يَجْلِسُ عَلَى شَوَارِعِ الطُّرُقِ لِلْحِسَابِ فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ
هِيَ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهَا فَقَالَ : وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ الْحِكْمَةِ يَتَعَلَّمُهَا الرَّجُلُ
خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا .
ثُمَّ قَالَ وَانْظُرْ كُلَّ مَا
ارْتَضَاهُ السَّلَفُ مِنْ الْعُلُومِ قَدْ انْدَرَسَ وَمَا رَكِبَ
النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَأَكْثَرُهُ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ ، وَقَدْ
صَحَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بَدَأَ
الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى
لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ : وَمَنْ الْغُرَبَاءُ ؟ فَقَالَ : الَّذِينَ
يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي وَاَلَّذِينَ يُحْيُونَ
مَا أَمَاتُوهُ مِنْ سُنَّتِي وَفِي خَبَرٍ آخَرَ مَرْوِيٍّ هُمْ
الْمُتَمَسِّكُونَ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ .
وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرٍ مَنْ
يَبْغُضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا
رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ كَثِيرَ الْأَصْدِقَاءِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ
مُخْلِطٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَطَقَ بِالْحَقِّ أَبْغَضُوهُ انْتَهَى .
وَعَنْ
الْقُرْطُبِيِّ أَيْضًا وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ
بِالصَّوْنِ عَنْ طُرُقِ الشُّبُهَاتِ وَيُقَلِّلَ الضَّحِكَ وَالْكَلَامَ
بِمَا لَا فَائِدَ فِيهِ وَيَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْفُقَرَاءِ وَيَجْتَنِبَ
التَّكَبُّرَ وَالْإِعْجَابَ وَيَتَجَافَى عَنْ الدُّنْيَا وَأَبْنَائِهَا
إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ انْتَهَى وَإِنْ لَمْ يَخَفْ
خَالَطَهُمْ بِالظَّاهِرِ مَعَ سَلَامَةِ بَاطِنِهِ لِيُبَلِّغَهُمْ
أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَيَتْرُكُ
الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالرِّفْقِ وَالْأَدَبِ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُؤْمَنُ شَرُّهُ وَيُرْجَى
خَيْرُهُ وَيُسْلَمُ مِنْ ضَرِّهِ وَأَنْ لَا يَسْمَعَ مِمَّنْ ثَمَّ
عِنْدَهُ وَيُصَاحِبُ مَنْ يُعَاوِنُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيَدُلُّهُ عَلَى
الصِّدْقِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيُزَيِّنُهُ وَلَا يَشِينُهُ
انْتَهَى .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
التَّقْصِيرِ مُشْفِقًا عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّبْلِيغِ يَرَى نَفْسَهُ
أَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ أَقَلُّ
عَبِيدِ اللَّهِ وَأَكْثَرُهُمْ حَاجَةً إلَيْهِ وَأَفْقَرُهُمْ إلَى
التَّعْلِيمِ كَمَا قِيلَ : الْعَالِمُ عَالِمٌ مَا كَانَ يَرَى نَفْسَهُ
أَنَّهُ جَاهِلٌ فَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَقَدْ جَهِلَ
بَلْ مُسْتَرْشِدٌ مُتَعَلِّمٌ يَقْعُدُ مَعَ إخْوَانِهِ يُرْشِدُهُمْ
وَيَسْتَرْشِدُ مِنْهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ وَقَعَ
لِي سُؤَالٌ مَعَ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا جِئْت
أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : لِي أَمَا تَقْرَأُ عَلَى
الْعُلَمَاءِ فَقُلْت : أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك فَقَالَ : لِي
كَيْفَ تَتْرُكُ الْعُلَمَاءَ وَتَأْتِي تَقْرَأُ عَلَى مِثْلِي فَقُلْت :
أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك فَقَالَ : اسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى
فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ جِئْت إلَيْهِ فَقُلْت : أَقْرَأُ
قَالَ : عَزَمْت قُلْت : نَعَمْ فَقَالَ : لِي لَا يَخْطِرُ بِخَاطِرِك
وَلَا يَمُرُّ بِبَالِك أَنَّك تَقْرَأُ عَلَى عَالِمٍ وَلَا أَنَّك بَيْنَ
يَدَيْ
شَيْخٍ إنَّمَا نَحْنُ إخْوَانٌ مُجْتَمِعُونَ نَتَذَاكَرُ أَشْيَاءَ مِنْ
أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا فَعَلَى أَيِّ لِسَانٍ خَلَقَ
اللَّهُ الصَّوَابَ وَالْحَقَّ قَبِلْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا مِنْ
الْمَكْتَبِ .
فَإِذَا قَعَدَ الْإِنْسَانُ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى هَذَا
التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ
مَنْزِلَةً وَأَكْثَرِهِمْ خَيْرًا وَبَرَكَةً أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ مَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ ثُمَّ قَعَدَ يُعَلِّمُ النَّاسَ
الْخَيْرَ نُودِيَ فِي السَّمَوَاتِ عَظِيمًا .
وَبِهَذَا تَوَاطَأَتْ
الْأَخْبَارُ وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ خَلْفًا عَنْ سَلَفٍ أَعْنِي
تَعْظِيمَ الْعَالِمِ وَرَفْعَ مَنْزِلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذْ أَنَّهُ
لَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا الْعُلَمَاءُ ثُمَّ بَعْدَ
دَرَجَتِهِمْ دَرَجَةُ الشُّهَدَاءِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ لَوْ
وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ عَلَيْهِ
مِدَادُ الْعُلَمَاءِ .
وَهَذَا بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ دَمَ الشُّهَدَاءِ
إنَّمَا هُوَ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ أَوْ سَاعَاتٍ ثُمَّ انْفَصَلَ
الْأَمْرُ فِيهِ لِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ، وَمِدَادُ الْعُلَمَاءِ هُوَ
وَظِيفَةُ الْعُمُرِ لَيْلًا وَنَهَارًا ثُمَّ إنَّهُ مُحْتَاجٌ فِيهِ
لِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُعَلِّمَ أَوْ
يَتَعَلَّمَ ، وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُجَاهِدَةٍ عَظِيمَةٍ
لِأَجْلِ خِلْطَةِ النَّاسِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَسِيرٌ
؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنَّ كُلَّ مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ يَنْفَصِلُ ،
وَهُوَ طَيِّبُ النَّفْسِ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِذَلِكَ مَضَتْ
السُّنَّةُ وَانْقَرَضَ السَّلَفُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ
الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ فِيهَا ،
وَعَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ فِي الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ
وَالسَّلَامَةِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَةِ
الصَّدْرِ لَهُمْ وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ فِي
الْخِلْطَةِ وَالتَّوْفِيَةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَعْبٌ عَسِيرٌ
فَضْلًا عَنْ مُكَابَدَةِ فَهْمِ الْمَسَائِلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى
مَعَانِيهَا
وَغَامِضِ خَبَايَاهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مَعَ مَا
يَنْزِلُ مِنْ النَّوَازِلِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ فِي زَمَانِهِ
كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ خَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ بِفَضِيلَةٍ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا
غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْبَدُ بِتَقْوَاهُمْ
وَيُعْرَفُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ
بِشُكْرِ النِّعْمَةِ مُدَافِعُونَ لِوُجُودِ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ
وَحَادِثَةٍ وَبِدْعَةٍ انْتَهَى .
وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ إذْ بِهِ
يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُطَاعُ وَبِهِ يُنْهَى عَنْ مَعَاصِيهِ
وَتُتْرَكُ فَكُلُّ مَنْ تَرَكَ مَعْصِيَةً أَوْ بِدْعَةً فَفِي
صَحِيفَتِهِ ، بَلْ وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَعَبَدَ اللَّهَ
فَذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ أَيْضًا .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك
رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ فَكَيْفَ تَكُونُ
صَحِيفَةُ هَذَا الْعَالِمِ ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ مَنْزِلَتُهُ ؟ وَكَيْفَ
يَكُونُ حَالُهُ عِنْدَ الْوُفُودِ عَلَى رَبِّهِ عِنْدَ ظُهُورِ
السَّرَائِرِ وَالْمُخَبَّآتِ ؟ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ
الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُك
وَالْمَالُ تَحْرُسُهُ ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ
عَلَيْهِ ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو
بِالنَّفَقَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
الْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْمُجَاهِدِ ، وَإِذَا
مَاتَ الْعَالِمُ انْثَلَمَتْ فِي الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا
إلَّا خَلْفٌ مِنْهُ .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ : لَيْسَ شَيْءٌ
أَعَزَّ مِنْ الْعِلْمِ الْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ
وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خُيِّرَ سُلَيْمَانُ
بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بَيْنَ الْعِلْمِ
وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ
الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعَهُ .
وَسُئِلَ
ابْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ النَّاسُ فَقَالَ : الْعُلَمَاءُ قِيلَ : فَمَنْ
الْمُلُوكُ ، قَالَ الزُّهَّادُ : قِيلَ ، فَمَنْ السَّفَلَةُ قَالَ
الَّذِي يَأْكُلُ بِدِينِهِ دُنْيَاهُ فَلَمْ يَجْعَلْ غَيْرَ الْعَالَمِ
مِنْ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا
النَّاسُ عَنْ سَائِرِ الْبَهَائِمِ هُوَ الْعِلْمُ الْإِنْسَانُ إنْسَانٌ
بِمَا هُوَ شَرِيفٌ لِأَجْلِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الشَّخْصِ
فَإِنَّ الْجَمَلَ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا بِعِظَمِ جِسْمِهِ فَإِنَّ
الْفِيلَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا بِشَجَاعَتِهِ فَإِنَّ السَّبُعَ أَشْجَعُ
مِنْهُ وَلَا بِأَكْلِهِ فَإِنَّ الْجَمَلَ أَوْسَعُ بَطْنًا مِنْهُ وَلَا
بِمُجَامَعَتِهِ فَإِنَّ أَخَسَّ الْعَصَافِيرِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى
السِّفَادِ ، بَلْ لَمْ يُخْلَقْ الْإِنْسَانُ إلَّا لِلْعِلْمِ .
وَقَدْ
ذُكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مَا هُوَ
أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ
فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ أَطْنَبَ فِي ذَلِكَ وَأَمْعَنَ فِيهِ
نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى
آلِهِ وَسَلَّمَ .
لَكِنْ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ
اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ الْمُؤَاخَذَةُ أَشَدَّ إذْ أَنَّهُ يُحَاسِبُ
عَلَى أُمُورٍ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا غَيْرُهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَمَدَّ
رِجْلَهُ لِيَسْتَرِيحَ ثُمَّ قَبَضَهَا وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَنَا حِسًّا ؛
لِأَنَّ الْمَلِكَ عِنْدَنَا لَا يُؤَاخِذُ السَّائِسَ بِمَا يُؤَاخِذُهُ
بِهِ النَّائِبُ وَالْوَزِيرُ كُلٌّ فِي مَرْتَبَتِهِ ، وَكُلٌّ يُخَاطَبُ
عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَعَقْلِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْعَالِمِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ
أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ مِنْ أَنْ
يُدَنِّسَهُ بِمُخَالَفَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ يَتَأَوَّلُهَا أَوْ يُبِيحُهَا
أَوْ يَسْهُو عَنْ سُنَّةٍ أَوْ يَغْفُلُ
عَنْهَا أَوْ يَتْرُكُ
بِدْعَةً مَعَ رُؤْيَتِهَا بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا أَوْ يَمُرُّ
عَلَيْهِ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ عِلْمِهِ لَا يَحُضُّ فِيهِ عَلَى
السُّنَّةِ وَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَى هَذَا انْعَقَدَتْ مَجَالِسُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ،
وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانُوا يُكَرِّرُونَ مَجَالِسَهُمْ حِينَ
كَانَتْ السُّنَنُ قَائِمَةً وَالْبِدَعُ خَامِدَةً فَكَيْفَ بِهِ
الْيَوْمَ ؟ .
وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ
تَعَيَّنَ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ
فَضْلًا عَنْ مَسَائِلَ لِكَثْرَةِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فِي
زَمَانِنَا هَذَا وَشَنَاعَتِهَا وَقُبْحِهَا إذْ أَنَّهَا كُلُّهَا
صَارَتْ كَأَنَّهَا شَعَائِرُ الدِّينِ وَمِنْ الْأُمُورِ الْمُفْتَرَضَةِ
عَلَيْنَا وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَقْوَالِنَا وَتَصَرُّفِنَا وَلَيْسَ
لَنَا طَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَجَالِسِ
عُلَمَائِنَا فَبَانَ مِنْ هَذَا أَتَمَّ بَيَانٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَعَيَّنٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُبَاشِرْ
الْبِدَعَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَرَهَا .
أَمَّا مَعَ رُؤْيَتِهَا فَلَا
يُمْكِنُ لِلْعَالِمِ تَرْكُهَا لِمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى حِينِ
قَرَأَ الْقَارِئُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ فَقَالَ
الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَأْخُذُوا هَذِهِ الْآيَةَ
عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ الْمُنْكَرُ فَلَمْ
تُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِعَذَابٍ
وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي
التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ ثُمَّ بِالْقَلْبِ عَلَى مَا
مَرَّ ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إنَّ
التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَبِاللِّسَانِ
مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَبِالْقَلْبِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى
غَيْرِهِمَا ، وَمَا قَالُوهُ هُوَ فِي غَالِبِ الْحَالِ ، وَإِلَّا
فَقَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُ يَتَعَيَّنُ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ عَلَى
غَيْرِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِ الْعَالِمِ فَضْلًا عَنْهُمَا .
وَإِذَا
كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْقَسِمُ التَّغْيِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى
الْعَالِمِ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِالْيَدِ ، وَقِسْمٌ
يَتَغَيَّرُ بِاللِّسَانِ ، وَالشَّاذُّ النَّادِرُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ .
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ مَا هَذَا لَفْظُهُ إنَّ
الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَارِفًا
بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا
بِهِمَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذْ لَا يَأْمَنُ مِنْ
أَنْ يَنْهَى عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَأْمُرَ بِالْمُنْكَرِ لِجَهْلِهِ
بِحُكْمِهِمَا وَتَتَمَيَّزُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ .
وَالثَّانِي
: أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ
مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيُؤَوَّلُ نَهْيُهُ
عَنْ ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا
لَمْ يَأْمَنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ .
وَالثَّالِثُ
: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ
الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ ، وَأَنَّ أَمْرَهُ مُؤَثِّرٌ وَنَافِعٌ ؛
لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ .
فَالشَّرْطَانِ : الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي مُشْتَرَطَانِ فِي الْجَوَازِ وَالشَّرْطُ الثَّالِثِ
مُشْتَرَطٌ فِي الْوُجُوبِ فَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى ، وَإِذَا
عُدِمَ
الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَازَ
لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَقِيَ
عَلَيْهِ رَابِعٌ ، وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ فَمَا
دُونَهُ فَيَجُوزُ إنْ لَمْ يَأْمَنْ لِحَدِيثِ أَعْظَمُ الْجِهَادِ
كَلِمَةُ حَقٍّ تُقَالُ : عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ .
وَقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا
يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ الْآيَةَ مَعْنَاهُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا
يُنْتَفَعُ فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا بِالنَّهْيِ عَنْ
الْمُنْكَرِ وَلَا يَقْوَى مَنْ يُنْكِرُهُ ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى
الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ
عَنْهُ وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ
عَلَيْهِ سِوَى الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ مَنْ
ضَلَّ يُبَيِّنُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قِيلَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ
عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ : إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنْيِ
إسْرَائِيلَ قِيلَ : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إذَا ظَهَرَ
الِادِّهَانُ فِي خِيَارِكُمْ وَالْفَاحِشَةُ فِي شِرَارِكُمْ وَتَحَوَّلَ
الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ وَالْفِقْهُ فِي أَرَاذِلِكُمْ .
وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ
فَقُلْت : كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؟ قَالَ : أَيَّةُ آيَةٍ
قُلْت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا
يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ الْآيَةَ فَقَالَ : لِي أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ
سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنَاهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا
وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ
بِرَأْيِهِ وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ
وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ ،
فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ
مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ يَعْمَلُونَ مِثْلَ
عَمَلِكُمْ .
وَمَا
أَشْبَهَ زَمَانَنَا هَذَا بِهَذَا الزَّمَانِ تَغَمَّدَنَا اللَّهُ
بِعَفْوٍ مِنْهُ وَغُفْرَانٍ انْتَهَى ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَكُونَ
مُتَيَقِّظًا مُنْتَبِهًا لِتَغْيِيرِ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ كَثِيرٌ عِنْدَنَا مَوْجُودٌ مُبَاشَرٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِ
عِلْمِنَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَجَالِسِ ، وَيَا لَيْتَنَا
لَوْ كُنَّا نُبَاشِرُهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ إذْ لَوْ
كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ لَرُجِيَ لِأَحَدِنَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْ
ذَلِكَ وَيَتُوبَ ، وَلَكِنَّا قَدْ أَخَذْنَا أَكْثَرَ ذَلِكَ
فَجَعَلْنَاهُ شَعِيرَةً لَنَا وَدِينًا وَتَقْوَى مُقْتَفِينَ فِي ذَلِكَ
آثَارَ مَنْ غَلِطَ أَوْ سَهَا أَوْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ
وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً أَوْ حُجَجًا مَرْدُودَةً عَلَيْهِ مِنْ
نَفْسِ حَالِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَقَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ ، وَنَجْعَلُ
ذَلِكَ قُدْوَةً لَنَا فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يُغَيِّرُ عَلَيْنَا مَا
ارْتَكَبْنَا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَنَّعْنَا عَلَيْهِ الْأَمْرَ .
وَقُلْنَا
: إنْ حَسَّنَّا بِهِ الظَّنَّ وَكَانَ لَهُ تَوْقِيرٌ فِي قُلُوبِنَا
هَذَا وَرَعٌ أَوْ مَرْبُوطٌ قَدْ أَفْتَى فُلَانٌ بِجَوَازِهِ وَإِنْ
كَانَ الْمُغَيِّرُ عَلَيْنَا مِمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَعْتَقِدُهُ
فَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَّا مَا لَا يَظُنُّهُ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ
كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ فِينَا
فَصَارَ
حَالُنَا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذُكِرَ أَنْ بَقِينَا مِنْ الْقِسْمِ
الرَّابِعِ الَّذِي قَسَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :
عَالِمٌ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَيُتَعَلَّمُ مِنْهُ
وَجَاهِلٌ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ وَعَالِمٌ ،
وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَنَبِّهُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ
وَجَاهِلٌ ، وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَاهْرَبُوا مِنْهُ فَقَدْ
صَارَتْ أَحْوَالُنَا الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الرَّابِعِ ، وَهُوَ
الْجَهْلُ وَالْجَهْلُ بِالْجَهْلِ هَذَا هُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ ؛
لِأَنَّا لَوْ رَأَيْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ
الْجَهْلِ لَرُجِيَ لَنَا الِانْتِقَالُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ
الذَّمِيمَةِ وَلَكِنْ مَنْ يَنْتَقِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ لَا
يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ وَظَنَنَّا بِأَنْفُسِنَا أَكْثَرَ مِنْ
هَذَا كُلِّهِ ، وَلَوْلَا مَا تَرَكَّبَ فِينَا مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ مَا
أَقَمْنَا الْحُجَّةَ فِي دِينِنَا بِمَنْ سَهَا أَوْ غَلِطَ أَوْ غَفَلَ
؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِهِ إلَّا
مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ وَذَلِكَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ إلَّا أَوْ مَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ
الْعِصْمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَيْرِ ، وَهُوَ
الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ
وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ
وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
وَقَوْلِهِ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْحَابِي مِثْلُ النُّجُومِ
بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَوْلِهِ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فَقِيلَ لَهُ : فَمَا بَعْدَ
هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي ذَكَرْت فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يَعْنِي لَا
شَيْءَ .
وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ يَعْنِي فِي غَالِبِ الْحَالِ
مِنْهُمْ مَا ذَكَرَ ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ لَا
يُقْتَدَى بِهِمْ ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى
إلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْ قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ ، وَعَلَى هَذَا
أَدْرَكْت النَّاسَ وَمَا رَأَيْت النَّاسَ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ
الْعُلَمَاءَ ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَالْحَدِيثُ
مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ
لَيْسَ إلَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ مِنْ
صَاحِبِ الْعِصْمَةِ بِالْخَيْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَانْظُرْ
إلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي
هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَيْفَ خَصَّهُمْ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؟
وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْقُرُونِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ
الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ لَكِنْ اخْتَصَّتْ تِلْكَ الْقُرُونُ بِمَزِيَّةٍ
لَا يُوَازِيهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
خَصَّهُمْ لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَالْقَرْنُ
الْأَوَّلُ خَصَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِخُصُوصِيَّةٍ لَا سَبِيلَ
لِأَحَدٍ أَنْ يَلْحَقَ غُبَارَ أَحَدِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَمَلِهِ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَصَّهُمْ بِرُؤْيَةِ نَبِيِّهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُشَاهَدَتِهِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ
عَلَيْهِ غَضًّا طَرِيًّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَتَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَخَصَّهُمْ بِالْقِتَالِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ
وَنُصْرَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَإِخْمَادِهِ وَرَفْعِ
مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَائِهِ وَحِفْظِهِمْ آيِ الْقُرْآنَ الَّذِي
كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا نُجُومًا فَأَهَّلَهُمْ اللَّهُ لِحِفْظِهِ
حَتَّى لَمْ يَضِعْ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَجَمَعُوهُ وَيَسَّرُوهُ
لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَالْأَقَالِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ
وَمَهَّدُوهَا لَهُمْ وَحَفِظُوا أَحَادِيثَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صُدُورِهِمْ وَأَثْبَتُوهَا
عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَمِ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ
وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ .
وَقَدْ
كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ تَرَكَهُ
أَلْبَتَّةَ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَرْنِهِمْ بَلْ
مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي فَمَا بَالُك بِهِمْ وَهُمْ خَيْرُ الْخِيَارِ ؟
وَصْفُهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ
وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ
خَيْرًا لَقَدْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى الدَّعْوَةَ وَذَبُّوا عَنْ
دِينِهِ بِالْحُجَّةِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلِيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ
الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا
وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا اخْتَارَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي
آثَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى .
فَلَمَّا
أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَجَمَعُوا مَا كَانَ مِنْ الْأَحَادِيثِ
مُتَفَرِّقًا وَبَقِيَ أَحَدُهُمْ يَرْحَلُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ
الْوَاحِدِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ
وَضَبَطُوا أَمْرَ الشَّرِيعَةِ أَتَمَّ ضَبْطٍ وَتَلَقَّوْا الْأَحْكَامَ
وَالتَّفْسِيرَ مِنْ فِي الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
مِثْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : سَلُونِي مَا دُمْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ
فَإِنِّي أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ السَّمَاءِ كَمَا أَنَا أَعْرَفُ
بِأَزِقَّةِ الْأَرْضِ " وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
ابْنِ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ، فَمَنْ لَقِيَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ
كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَعَمَلُهُ ؟
فَحَصَلَ لِلْقَرْنِ الثَّانِي نَصِيبٌ وَافِرٌ أَيْضًا فِي إقَامَةِ
هَذَا
الدِّينِ وَرُؤْيَةِ مَنْ رَأَى بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلِذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِنْ
الَّذِينَ بَعْدَهُمْ ثُمَّ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ وَهُمْ
تَابِعُو التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِمْ حَدَثَ
الْفُقَهَاءُ الْمُقَلَّدُونَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِمْ فِي النَّوَازِلِ
الْكَاشِفُونَ لِلْكُرُوبِ فَوَجَدُوا الْقُرْآنَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
مَجْمُوعًا مُيَسَّرًا وَوَجَدُوا الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ
وَأُحْرِزَتْ فَجَمَعُوا مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا وَتَفَقَّهُوا فِي
الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ
وَاسْتَخْرَجُوا فَوَائِدَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَاسْتَنْبَطُوا
مِنْهَا فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَبَيَّنُوا عَلَى مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ
وَالْمَعْقُولِ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ وَيَسَّرُوا عَلَى النَّاسِ
وَبَيَّنُوا الْمُشْكِلَاتِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِنْ الْأُصُولِ
وَرَدُّوا الْفَرْعَ إلَى أَصْلِهِ وَبَيَّنُوا الْأَصْلَ مِنْ فَرْعِهِ .
فَانْتَظَمَ
الْحَالُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الدِّينِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِهِمْ الْخَيْرُ الْعَمِيمُ فَحَصَلَتْ لَهُمْ
فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ خُصُوصِيَّةٌ أَيْضًا بِلِقَائِهِمْ مَنْ
رَأَى مَنْ رَأَى صَاحِبَ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبْقُوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا
يَحْتَاجُ أَنْ يَقُومَ بِهِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إنَّمَا
هُوَ مُقَلِّدٌ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَابِعٌ لَهُمْ ، فَإِنْ ظَهَرَ
لَهُمْ فِقْهٌ غَيْرُ فِقْهِهِمْ أَوْ فَائِدَةٌ غَيْرُ فَائِدَتِهِمْ
فَمَرْدُودٌ كُلُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يَزِيدَ فِي
حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا
فَذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا مَا اسْتَخْرَجَهُ مَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ الْفَرَائِضِ غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ
فَمَقْبُولٌ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
الْقُرْآنِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ
الرَّدِّ فَعَجَائِبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَا يَنْقَضِي إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ
كُلُّ قَرْنٍ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَوَائِدَ جَمَّةً
خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا وَضَمَّهَا إلَيْهِ لِتَكُونَ بَرَكَةُ هَذِهِ
الْأُمَّةِ مُسْتَمِرَّةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ .
قَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَّتِي مِثْلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ
أَنْفَعُ أَوَّلُهُ أَوْ آخِرُهُ أَوْ كَمَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ وَالدَّعْوَةِ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ لَا أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ
حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّهُمَّ إلَّا مَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ
مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لَا
بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْبَيَانِ فَيَجِبُ إذْ ذَاكَ
أَنْ يُنْظَرَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ فِي
الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ الْمُبَيَّنَةِ الصَّرِيحَةِ ،
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى أُصُولِهِمْ قَبِلْنَاهُ فَلَمَّا
أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ ثُمَّ أَتَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ
فَلَمْ يَجِدْ فِي هَذَا الدِّينِ وَظِيفَةً يَقُومُ بِهَا وَيَخْتَصُّ
بِهَا ، بَلْ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمْ يَبْقَ
لَهُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَ مَا دَوَّنُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ
وَاسْتَخْرَجُوهُ وَأَفَادُوهُ فَاخْتَصَّتْ إقَامَةُ هَذَا الدِّينِ
بِالْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ إلَّا ، فَلِأَجَلِ
ذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ وَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ
يَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ
إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِ فَبَقِيَ كُلُّ مَنْ يَأْتِي
بَعْدَهُمْ فِي مِيزَانِهِمْ وَمِنْ بَعْضِ حَسَنَاتِهِمْ فَبَانَ مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ .
فَإِذَا
تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَكُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ يَقُولُ فِي
بِدْعَةٍ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ
خَارِجٍ عَنْ أُصُولِهِمْ ، فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ
، بَلْ يَحْتَاجُ
أَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْبِدَعِ
أَوَّلًا كَيْفَ كَانَتْ ؟ وَكَيْفَ كَانُوا يُرَاعُونَ هَذَا الْأَصْلَ
وَيُسْتَحْفَظُونَ عَلَيْهِ ؟ فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ فِي
أَصْلِ الدِّينِ وَعُمْدَتِهِ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَكَيْفِيَّةِ جَمْعِهِ
وَمَا قَالُوا : بِسَبَبِ ذَلِكَ وَإِشْفَاقِهِمْ مِنْ الْأَخْذِ فِيهِ
مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى جَمْعِهِ إذْ أَنَّهُ لَوْلَا جَمْعُهُ
لَذَهَبَ هَذَا الدِّينُ فَانْظُرْ مَعَ جَمْعِهِ وَضَبْطِهِ كَيْفَ
وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الْكَثِيرُ فِي التَّأْوِيلِ ؟ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ لَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التِّلَاوَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ
كُفْرًا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ .
رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو
بَكْرٍ بَعْدَ مَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ : إنَّ الْقَتْلَ قَدْ
اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ
يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ
مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يَجْمَعُوهُ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ يُجْمَعَ
الْقُرْآنُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقُلْت لِعُمَرَ : كَيْفَ أَفْعَلُ
شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي
حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ صَدْرِي فَرَأَيْت الَّذِي رَآهُ
عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ : وَغَيْرُهُ وَعُمَرُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّك رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُك قَدْ
كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاَللَّهِ لَوْ
كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ
مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْت : كَيْفَ تَفْعَلُ
شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ وَاَللَّهِ
خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي
شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
فَقُمْت فَتَتَبَّعْت
الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعَسِيبِ
وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْت مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ
مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ غَيْرِهِ لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ إلَى آخِرِ السُّورَةِ انْتَهَى .
فَانْظُرْ مَعَ
هَذَا النَّفْعِ الْعَظِيمِ الَّذِي وَقَعَ بِجَمْعِهِ أَشْفَقُوا أَنْ
يَفْعَلُوهُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدَثًا يُحْدِثُونَهُ بَعْدَ
نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا بَالُك بِبِدْعَةٍ
لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَفْعٌ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُظُوظُ
النُّفُوسِ أَوْ الرُّكُونُ إلَى الْعَوَائِدِ ؟ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
يَضَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَهَا فَضْلًا عَنْ الْكَلَامِ فِيهَا بِنَفْيٍ
أَوْ إثْبَاتٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ فِي شَكْلِ
الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ وَتَعْشِيرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَإِنْ
كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعُظْمَى الَّتِي قَدْ
ظَهَرَتْ فِي الْأُمَّةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فِي تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ
لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي
الْمُصْحَفِ ، وَأَنَّهُ كَانَ يُحْكِمُهُ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ وَالطِّيبَ فِي الْمُصْحَفِ
.
وَقَالَ
أَشْهَبُ سَمِعْت مَالِكًا حِينَ سُئِلَ عَنْ الْعُشُورِ الَّتِي تَكُونُ
فِي الْمُصْحَفِ بِالْحُمْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْوَانِ فَكَرِهَ
ذَلِكَ ، وَقَالَ : تَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ بِالْحِبْرِ لَا بَأْسَ بِهِ
سُئِلَ عَنْ الْمَصَاحِفِ تُكْتَبُ فِيهَا خَوَاتِمُ السُّوَرِ فِي كُلِّ
سُورَةٍ مَا فِيهَا مِنْ آيَةٍ قَالَ : إنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ فِي
أُمَّهَاتِ الْمَصَاحِفِ أَنْ يُكْتَبَ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ تُشَكَّلَ
فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّمُ بِهِ الْغِلْمَانُ مِنْ الْمَصَاحِفِ فَلَا
أَرَى فِي ذَلِكَ بَأْسًا ، وَقَالَ قَتَادَةُ : بَدَءُوا فَنَقَّطُوا
ثُمَّ خَمَّسُوا ثُمَّ عَشَّرُوا ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ
كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا مُجَرَّدًا فِي الْمَصَاحِفِ فَأَوَّلُ مَا
أَحْدَثُوا فِيهِ النُّقَطَ عَلَى الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ
وَقَالُوا
: لَا بَأْسَ هُوَ نُورٌ لَهُ ثُمَّ أَحْدَثُوا نُقَطًا عِنْدَ مُنْتَهَى
الْآيَةِ ثُمَّ أَحْدَثُوا الْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ .
وَعَنْ أَبِي
حَمْزَةَ قَالَ : رَأَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي مُصْحَفٍ فَاتِحَةَ
سُورَةِ كَذَا فَقَالَ : اُمْحُهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ
قَالَ لَا تَخْلِطُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ مِنْهُ
انْتَهَى فَانْظُرْ مَا تَرَتَّبَ عَلَى نَقْطِهِ وَشَكْلِهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعُظْمَى لِلصِّغَارِ ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ
مِنْ الْكِبَارِ كَيْفَ كَرِهُوا ذَلِكَ مَعَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ
الْعُظْمَى ؟ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْهَاجُهُمْ فِي تَحَرِّيهِمْ
لِلْبِدَعِ .
أَلَا تَرَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَمَّا أَنْ
دَخَلَ الْخَلَاءَ وَرَأَى ذُبَابًا قَدْ وَقَعَ عَلَى فَضْلَةٍ كَانَتْ
هُنَاكَ ثُمَّ طَارَ وَوَقَعَ عَلَى ثَوْبِهِ فَعَزَمَ أَنَّهُ يَغْسِلُ
مَوْضِعَ الذُّبَابِ إذَا خَرَجَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ غَسْلَهُ أَشْفَقَ
مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ
بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ انْتَهَى .
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتْ الْبِدَعُ عِنْدَهُمْ ؟ وَكَيْفَ كَانَ
تَحَرِّيهِمْ لَهَا ؟
قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ مَعَ
الْقُرَّاءِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقِيلَ لَهُ : اقْرَأْ فَرَفَعَ
صَوْتَهُ وَطَرِبَ وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ فَكَشَفَ أَنَسٌ عَنْ
وَجْهِهِ وَكَانَ عَلَى وَجْهِهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ لَهُ : يَا
هَذَا مَا هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، وَكَانَ إذَا رَأَى شَيْئًا
يُنْكِرُهُ كَشَفَ الْخِرْقَةَ عَنْ وَجْهِهِ وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ
عَبَّادٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ
وَالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ
وَغَيْرُهُمْ وَكَرِهَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
كُلُّهُمْ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبِ فِيهِ
انْتَهَى .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ فِي أَوْرَادِهِمْ
بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي
هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَأَنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ
وَيُسْمَعُ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، كُلُّ
هَذَا إشْفَاقٌ مِنْهُمْ أَنْ يَرْفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ
حَدَثًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ النَّهْيِ ،
وَقَدْ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ
وَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْقُرْآنِ فَكَرِهَ ذَلِكَ ، وَقَالَ
: لَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ .
وَمِنْ ذَلِكَ
مَا أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرِهِ عَنْ
أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ
فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ : كَبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَسَبِّحُوا
اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ : فَيَقُولُونَ ذَلِكَ قَالَ : نَعَمْ فَإِذَا رَأَيْتهمْ
فَعَلُوا ذَلِكَ
فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ قَالَ : فَأَتَيْته فَأَخْبَرْته بِمَجْلِسِهِمْ فَأَتَاهُمْ ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ فَجَلَسَ فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا فَقَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا فَقَالَ : أَحَدُهُمْ مُعْتَذِرًا وَاَللَّهِ مَا جِئْنَا بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَا فُقْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّونَ ضَلَالًا بَعِيدًا .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو
حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْجَامِّ
فِي ذَمِّ الْعَوَامّ لَهُ : اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ قَاطِبَةً عَلَى ذَمِّ
الْبِدْعَةِ وَزَجْرِ الْمُبْتَدِعِ وَتَعْتِيبِ مَنْ يُعْرَفُ
بِالْبِدْعَةِ ، فَهَذَا مَفْهُومٌ عَلَى الضَّرُورَةِ بِالشَّرْعِ ،
وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي مَحِلِّ الظَّنِّ وَذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِدْعَةَ وَعُلِمَ بِتَوَاتُرٍ
مَجْمُوعُ أَخْبَارٍ تُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ جُمْلَتُهَا فَمِنْ
ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ
بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ
الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ
وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ بِمَا ابْتَدَعُوا فِي دِينِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَنَ
أَنْبِيَائِهِمْ وَقَالُوا بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَقَالَ :
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا مَاتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ
فُتِحَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتْحٌ .
وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ مَشَى إلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ
عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ أَعْرَضَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بُغْضًا لَهُ فِي اللَّهِ مَلَأَ
اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا وَمَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ
رَفَعَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ
بِدْعَةٍ أَوْ لَقِيَهُ بِالْبِشْرِ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ بِمَا يَسُرُّهُ
فَقَدْ اسْتَخَفَّ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلَا صَلَاةً
وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا صَرْفًا
وَلَا عَدْلًا وَيَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ
مِنْ الرَّمِيَّةِ أَوْ كَمَا يَخْرُجُ الشَّعْرُ مِنْ
الْعَجِينِ
انْتَهَى مَا نَقَلَهُ بِلَفْظِهِ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
كَثِيرَةٌ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ لَا
يُمْكِنُ حَصْرُهَا وَلَا عَدُّهَا وَالْكِتَابُ يَضِيقُ عَنْ
الْإِكْثَارِ مِنْهَا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا
اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
الَّتِي هِيَ عِنْدَنَا مِمَّا نَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّنَا ؟
وَكَيْفَ كَانَ إسْرَاعُهُمْ إلَى تَغْيِيرِهَا وَانْزِعَاجُهُمْ عِنْدَ
سَمَاعِهَا وَشِدَّتُهُمْ فِي أَمْرِهَا ؟ فَانْظُرْ بِنَظَرِك فِي هَذَا
الْأَمْرِ الْعَجِيبِ مَا بَيْنَ حَالِنَا وَحَالِهِمْ إذْ مَا
نَتَقَرَّبُ بِهِ الْيَوْمَ كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ
الِانْزِعَاجِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ .
وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى اقْتَصَرْت فِي التَّمْثِيلِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَلَى
مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلِ الدِّينِ وَعُمْدَتِهِ الَّذِي مَنْ
يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ عِنْدَنَا هُوَ الرَّجُلُ الْأَعْظَمُ الَّذِي
تَغْتَنِمُ خَيْرَهُ وَبَرَكَتَهُ فَمَا بَالُك بِفِعْلِ غَيْرِهِ
وَعِبَادَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَصْلُ
الدِّينِ وَعُمْدَتُهُ وَقِوَامُهُ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ
وَالتِّلَاوَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ بِالْجُوعِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
بِالنَّظَرِ إلَى إحْرَازِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ مِنْ الْعَاهَاتِ
وَالْآفَاتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَيْهِ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ
وَغَيْرِهَا وَالْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ مَا الْإِنْسَانُ مُخَاطَبٌ بِهِ
فِي تَغْيِيرِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ
الشَّرِيفِ فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالتَّغْيِيرِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَيَنْظُرُ إلَى
مَا حَدَثَ فِي زَمَانِ مَنْ شُهِدَ فِيهِمْ بِالْخَيْرِ فَيُقْبِلُ
عَلَيْهِ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ وَمَا حَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ
فَالتَّرْكُ لِذَلِكَ أَوْلَى مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَمُوَاصَلَةِ
اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ ، وَالتَّدَيُّنُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالْأَخْذُ
عَلَى يَدِ فَاعِلِهِ إنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ شَوْكَةٌ عَلَى
ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ .
قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ .
وَقَالَ
تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَالْعَالِمُ لَهُ الشَّوْكَةُ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ
وَهِيَ الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ كَمَا قِيلَ : مَنْ دَرَسَ وَالنَّاسُ
نِيَامٌ تَكَلَّمَ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَمَا عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يُغَيِّرَ
مَا أُمِرَ بِتَغْيِيرِهِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي
ذَلِكَ بِالْقَوْلِ فَيَذْكُرُ الْحُكْمَ فِيهِ ، فَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ
وَرُجِعَ إلَيْهِ حَصَلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تُرِكَ قَوْلُهُ كَانَ قَدْ
أَقَامَ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرَهُ وَقَامَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ
وَيَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ الْآفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فِي
عَدَمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَتَعَلَّقُ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ : مَا
لَك مَا رَأَيْتُك قَطُّ فَيَقُولُ : بَلَى رَأَيْتنِي يَوْمًا عَلَى
مُنْكَرٍ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ عَلَيَّ .
أَوْ كَمَا قَالَ ، وَهَذَا
أَمْرٌ خَطَرٌ قَلَّ أَنْ تَقَعَ السَّلَامَةُ مِنْهُ وَبِالْكَلَامِ
يَنْجُو مِنْ هَذَا الْخَطَرِ ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ
وَلَا تَعَبٌ ، وَأَكْثَرُ الْمَنَاكِرِ وَالْبِدَعِ فِي زَمَانِنَا هَذَا
لَيْسَ عَلَى الْعَالِمِ مَشَقَّةٌ وَلَا خَوْفٌ فِي الْكَلَامِ فِيهَا
وَلَا فِي الْحَضِّ عَلَى تَرْكِهَا ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهَا مَعَ
رُؤْيَتِهَا وَلَا يَحُضُّ عَلَيْهَا فِي مَجْلِسِهِ فِي الْغَالِبِ
لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، وَذَلِكَ هُوَ
الَّذِي أَهْلَكَ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى : بَلْ قَالُوا إنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، وَقَدْ
وَرَدَ أَنَّ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ، وَقَدْ أَهْلَكَهَا اللَّهُ
فَقَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ أَهْلَكْتَهُمْ وَكُنْت أَعْرِفُ فِيهَا
رَجُلًا صَالِحًا ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى إنَّهُ
لَمْ يُغَيِّرْ لِي مُنْكَرًا فَأَفَادَ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّهُ لَوْ
غَيَّرَ عَلَيْهِمْ أَيْ : مَنَعَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرِ مَا هَلَكَ
وَلَا هَلَكُوا ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ
بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِتَرْكِ مَا
أَحْدَثُوا مِنْ الْمُخَالَفَاتِ فَلَمَّا أَنْ وَقَعُوا فِي
الْمُخَالَفَاتِ وَسَكَتَ هُوَ كَانَ ذَلِكَ وُقُوعًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ
ارْتَكَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ السُّكُوتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ
الْمُخَالَفَاتِ فَاسْتَوَى مَعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ
فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إذْ ذَاكَ مَنْ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ
عَنْهُمْ إذْ نَزَلَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ إنَّمَا يَرْفَعُهُ
الِامْتِثَالُ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ إذْ ذَاكَ مُمْتَثِلٌ فَحَصَلَ مَا
حَصَلَ وَهَا هُوَ الْيَوْمَ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا خَفَاءَ فِي وُقُوعِ
هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا لِوُقُوعِ مَا يَقَعُ وَسُكُوتِ عُلَمَائِنَا
فِي الْجَمِيعِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَلَا يَحُضُّونَ
فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ عَلَى تَرْكِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مُوجِبَاتِ
نُزُولِ الْعَذَابِ كُلِّهَا مُتَوَفِّرَةٌ عِنْدَنَا فِي الْغَالِبِ
إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ .
لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ
الْخَسْفُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَعَمَّ الْآفَاقَ وَمِنْ الْأَحْيَاءِ قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ : الْعُلَمَاءُ يُحْشَرُونَ فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ
، وَالْقُضَاةُ يُحْشَرُونَ فِي زُمْرَةِ السَّلَاطِين وَفِي مَعْنَى
الْقُضَاةِ كُلُّ فَقِيهٍ قَصَدَ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ .
قَالَ
: وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدُمُ مُوسَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ : حَدَّثَنِي مُوسَى
صَفِيُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُوسَى
كَلِيمُ اللَّهِ حَتَّى أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ فَفَقَدَهُ مُوسَى
فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ فَلَا يَحُسُّ لَهُ أَثَرًا حَتَّى جَاءَهُ ذَاتَ
يَوْمٍ
رَجُلٌ وَفِي يَدِهِ خِنْزِيرٌ وَفِي عُنُقِهِ حَبْلٌ أَسْوَدُ فَقَالَ
لَهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَعْرِفُ فُلَانًا ؟
قَالَ : نَعَمْ هُوَ هَذَا الْخِنْزِيرُ فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ : يَا رَبِّ أَسْأَلُك أَنْ تَرُدَّهُ إلَى حَالِهِ حَتَّى
أَسْأَلَهُ بِمَ أَصَابَهُ هَذَا ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
إلَيْهِ يَا مُوسَى لَوْ دَعَوْتنِي بِاَلَّذِي دَعَانِي بِهِ آدَم ،
فَمَنْ دُونَهُ مَا أَجَبْتُك فِيهِ وَلَكِنْ أُخْبِرُك لِمَ صَنَعْت
هَذَا بِهِ ؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ .
وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ
: كَانَ الْخَسْفُ لِمَنْ قَبْلِنَا بِالْإِعْدَامِ وَلِكَرَامَةِ هَذِهِ
الْأُمَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا رُفِعَ عَنَّا خَسْفُ
الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَبَ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَخْسِفَ بِأُمَّتِهِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ
مَضَى مِنْ الْأُمَمِ فَشَفَّعَهُ اللَّهُ فِيمَا طَلَبَ فِي الظَّاهِرِ
لِيَقَعَ بِذَلِكَ السَّتْرُ .
.
أَمَّا خَسْفُ الْبَاطِنِ فَلَمْ
يَرْفَعْهُ عَلَى مَا وَرَدَ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا
يَرْتَابُ أَحَدٌ فِيهِ وَلَا يَشُكُّ أَلَا تَرَى إلَى الْخِنْزِيرِ
وَحَالَتِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّنْجِيسِ وَالتَّقْذِيرِ فَانْظُرْ
إلَى شَارِبِ الْخَمْرِ هَلْ تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ؟ إلَّا فِي
الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ
أَيْضًا إذَا نَظَرْت إلَى الثُّعْبَانِ تَجِدُهُ نَاعِمًا أَمْلَسَ
مَلِيحَ الْمَنْظَرِ فَإِذَا قَرُبْته قَتَلَك بِسُمِّهِ وَأَنْتَ تَرَى
كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْوَقْتِ كَذَلِكَ فَتَنْظُرُ فِي أَحَدِهِمْ تَرَى
الْعِبَارَةَ الْعَذْبَةَ وَالْكَلَامَ الطَّيِّبَ ، وَكَأَنَّهُ أَعْظَمُ
النَّاسِ لَك فِي الْمَحَبَّةِ فَإِذَا اطْمَأْنَنْت إلَيْهِ أَوْ رَكَنْت
إلَى جَانِبِهِ أَوْ غِبْت عَنْهُ أَهْلَكَك بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَالِك ،
إمَّا فِي مَالِك أَوْ عِرْضِك أَوْ دِينِك ، وَذَلِكَ سُمُّهُ فَأَيُّ
فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي
جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا .
أَلَا
تَرَى إلَى السَّبُعِ وَحَالَتِهِ وَإِيذَائِهِ وَرُعْبِهِ لِلنَّاسِ
وَخَوْفِهِمْ مِنْهُ إذَا سَمِعُوا بِحِسِّهِ فَضْلًا عَنْ رُؤْيَتِهِ ،
بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ فَمَا رَآهُ إلَّا
وَيَهْلَكُ ، وَهُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى الضَّرَرِ الْكُلِّيِّ أَلَا تَرَى
إلَى حَالِهِ إذْ قَدْ يَكُونُ شَبْعَانًا رَيَّانًا وَمَعَ ذَلِكَ إذَا
رَأَى آدَمِيًّا أَوْ مَاشِيَةً لَمْ يَتَمَالَكْ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ
يَنْقَضَّ عَلَيْهِ يَعْبَثَ بِهِ وَيَقْتُلَهُ ثُمَّ يَمْضِيَ
وَيَتْرُكَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ لِشِبَعِهِ
فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ وَمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى لَمْ يُبْقِ لَهُمْ أُمْنِيَّةً إلَّا وَهِيَ
حَاصِلَةٌ فَضْلًا عَنْ الضَّرُورَاتِ ثُمَّ فَضَلَتْ الْأَمْوَالُ
عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ بِهَا حَاجَةٌ يُدْبِرُونَ عَلَى بَعْضِهَا
بِالدَّفْنِ ، وَعَلَى بَعْضِهَا بِالْحُرُمَاتِ وَفِي الْبُنْيَانِ
وَالْإِسْرَافِ ثُمَّ مَعَ مَا مُدَّ لَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ
لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَتْرُكَ لِلضَّعِيفِ
الْمِسْكِينِ دِرْهَمًا يَكْتَسِبُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَعَائِلَتِهِ .
بَلْ
يَضْرِبُونَ النَّاسَ الْفُقَرَاءَ عَلَى الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الضَّرْبَ
الْمُؤْلِمَ وَيَسُوءُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَالْغَرَامَةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالرُّعْبِ
لِلْمَسَاكِينِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا
يَسْتَطِيعُونَ رُؤْيَتَهُمْ لِشِدَّةِ سَطْوَتِهِمْ فَأَيُّ فَرْقٍ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّبُعِ ؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ
وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا .
أَلَا تَرَى إلَى الْكِلَابِ
وَحَالَتِهَا وَإِيذَائِهَا وَتَسْلِيطِهَا عَلَى رُعْبِ النَّاسِ مَرَّةً
بِرُؤْيَتِهَا وَمَرَّةً بِصَوْتِهَا وَمَرَّةً بِتَقْطِيعِهَا الثِّيَابَ
وَإِيذَائِهَا فِي الْبَدَنِ ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ أَمْرُهَا أَنَّ كُلَّ
مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ سَوَاءٌ كَانَ صَبِيًّا
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ضَعِيفًا إلَى الْإِعْدَامِ أَلْبَتَّةَ ، وَقَدْ
يَكُونُ فِيهَا مَنْ هُوَ كَلْبٌ فَيَهْلَكُ مَنْ قَرُبَ
مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا كَثِيرًا ،
وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَارَفٌ .
فَانْظُرْ
إلَى هَؤُلَاءِ الْحَرَسِ الْمُجْتَزِئَةِ الْجَنَادِرَةِ فِي
إرْعَابِهِمْ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْأَذِيَّةِ
الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالرُّوحِ وَالرُّعْبِ
الْحَاصِلِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِلصِّبْيَانِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ
الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْكِلَابِ ؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي .
أَلَا
تَرَى إلَى الْعَقْرَبِ وَحَالَتِهَا وَإِيذَائِهَا وَكَثْرَةِ
تَعْقِيدِهَا وَسُمِّهَا ، وَأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا صَدْرٌ فَانْظُرْ إلَى
بَعْضِهِمْ تَجِدْهُ كَذَلِكَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ وَمَعْقُودَ الْوَجْهِ
لَا تَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ لِتَعَقُّدِ وَجْهِهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ ،
فَإِنْ قَرُبْته وَأَنْتَ لَا تَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِك مِنْهُ حَصَلَ
لَك مِنْهُ الْأَذِيَّةُ الْعُظْمَى إمَّا فِي مَالِك أَوْ بَدَنِك أَوْ
عِرْضِك ، وَذَلِكَ سُمُّهُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي
الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ ؟ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى
بِالْمَعْنَى .
وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَلَا عَدُّهُ ،
وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَمْثِيلًا لِمَنْ لَهُ لُبٌّ
فَيَنْظُرُ إلَى كَيْفِيَّةِ الْخَسْفِ الْوَاقِعِ لِكُلِّ إنْسَانٍ
بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَالِ دِينِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ عَلَى خَسْفِ الْقُلُوبِ وَعَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ
ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ الْمُوَاطَأَةُ مِنْ
الْبَعْضِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُخَالَفَاتِ وَمِنْ الْبَعْضِ عَلَى
السُّكُوتِ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ أَوْ سَمَاعِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالْيَدِ مَرَّةً
وَبِاللِّسَانِ مَرَّةً وَالشَّاذُّ لُزُومُ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ ، وَهُوَ
التَّأْثِيرُ وَالْبُغْضُ الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ لِذَلِكَ
الْفِعْلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ الْآدَابِ فِي ذَلِكَ
وَالْكَمَالِ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا قَبْلَ غَيْرِهِ
بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ فَإِذَا اسْتَقَامَتْ النَّفْسُ عَلَى مَا
يَنْبَغِي
مِنْ الِامْتِثَالِ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ .
، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ
شَيْءٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ أَوَّلَ دُخُولِهِ لِمَوْضِعِ
التَّدْرِيسِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَهُ قَلِيلًا
قَلِيلًا فَلَا يَخْلُو مَوْضِعُ التَّدْرِيسِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ
إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْتًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ مَسْجِدًا وَأَفْضَلُ
مَوَاضِعِ التَّدْرِيسِ الْمَسْجِدُ ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لِلتَّدْرِيسِ
إنَّمَا فَائِدَتُهُ أَنْ تَظْهَرَ بِهِ سُنَّةٌ أَوْ تَخْمَدُ بِهِ
بِدْعَةٌ أَوْ يُتَعَلَّمُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَيْنَا وَالْمَسْجِدُ يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ مُتَوَفِّرًا ؛
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مُجْتَمَعِ النَّاسِ رَفِيعِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ
وَعَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ
عَلَى النَّاسِ إلَّا مَنْ أُبِيحَ لَهُ ، وَذَلِكَ لِأُنَاسٍ
مَخْصُوصِينَ ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ قَدْ أَبَاحَ بَيْتَهُ لِكُلِّ
مَنْ أَتَى لَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْبُيُوتَ تُحْتَرَمُ
وَتُهَابُ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَحْصُلُ لَهُ الْإِدْلَالُ عَلَى
ذَلِكَ فَكَانَ الْمَسْجِدُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ فِي تَوْصِيلِ
الْأَحْكَامِ وَتَبْلِيغِهَا لِلْأُمَّةِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا
بِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْمَسْجِدُ أَفْضَلَ مِنْ
الْمَدْرَسَةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّلَفَ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَدَارِسُ ، وَإِنَّمَا كَانُوا
يُدَرِّسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَدْرَسَةِ
فِيهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ لَكِنْ لَمَّا أَنْ لَمْ
يَقَعْ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ أَخْذُهُ فِي
الْمَسَاجِدِ فِيهِ صُورَةُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرُهُ يَجُوزُ وَكَفَى لَنَا أُسْوَةٌ بِهِمْ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ الْمَدْرَسَةَ لَا يَدْخُلُهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا
آحَادُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ
النَّاسِ يَقْصِدُ الْمَدْرَسَةَ ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَعَمُّهُمْ
الْمَسَاجِدَ ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا لَهُ رَغْبَةٌ فِي طَلَبِ
الْعِلْمِ ، وَإِذَا كَانَ التَّدْرِيسُ أَيْضًا فِي
الْمَدْرَسَةِ
امْتَنَعَ تَوْصِيلُ الْعِلْمِ عَلَى مَنْ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهِ ،
وَالْمَقْصُودُ بِالتَّدْرِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ التَّبْيِينُ
لِلْأُمَّةِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَتَعْلِيمُهُ وَدَلَالَةُ
الْخَيْرَاتِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ
الْمَدْرَسَةِ ضَرُورَةً ، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ أَفْضَلَ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى الْأَفْضَلِ وَيَتْرُكَ مَا عَدَاهُ
اللَّهُمَّ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ أُخَرُ ،
وَإِذَا قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ أَيْضًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ
بَارِزًا لِلنَّاسِ بِمَوْضِعٍ يَصِلُ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمِسْكِينُ
وَالْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ لِكَيْ يَسْمَعُوا أَحْكَامَ رَبِّهِمْ
عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ يَجْهَلُهَا ، وَلَمْ يَسْأَلْ
عَنْهَا سَمِعَهَا اسْتَفَادَهَا حِينَ إلْقَاءِ الْمَسَائِلِ
وَالْإِيرَادِ عَلَيْهَا وَالْجَوَابِ عَنْهَا .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ
تَنْشِيطًا لَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ وَالْعَمَلِ عَلَى
تَحْصِيلِهِ فَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتُوبُ مِنْ جَهْلِهِ ،
وَقَدْ يَكُونُ ثَمَّ آخَرُ يَسْأَلُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْمَحِلَّ قَابِلًا
لِلسُّؤَالِ فَسَأَلَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَآخَرُ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ الْعِلْمِ وَحُضُورِ الْمَجْلِسِ وَآخَرُ
تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ هَذَا
الْمَجْلِسَ الَّذِي جَلَسَهُ هَذَا الْعَالِمُ هُوَ الْمَجْلِسُ
الْمَشْهُودُ خَيْرُهُ الْمَعْرُوفُ بَرَكَتُهُ الْمُسْتَفِيضُ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ بِرُّهُ وَاحْتِرَامُهُ الشَّائِعُ الذَّائِعُ الَّذِي
وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ فَمِنْهَا مَا
رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا حَفَّتْ بِهِمْ
الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ
السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى
وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ
وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ
اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
(
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَقَالَ : مَا مَجْلِسُكُمْ ؟ قَالُوا : جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ
تَعَالَى وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا
بِهِ فَقَالَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَنِي
أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ :
حَسَنٌ صَحِيحٌ انْتَهَى .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ : الذِّكْرُ وَالْمَجَالِسُ الْمَذْكُورَاتُ فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ مَجْلِسُ الْعِلْمِ وَهِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ
وَالْحَرَامِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا
يَجُوزُ ؟ كَيْفَ يَتَوَضَّأُ ؟
وَمَا يَجِبُ فِيهِ وَمَا يُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ
وَكَيْفَ يُصَلِّي ؟ وَمَا يَجِبُ فِيهَا وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ
وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يَنْكِحُ ؟ وَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ
وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يَبِيعُ ؟
وَكَيْفَ يَشْتَرِي ؟ وَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ
وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى الْحَرَكَاتِ
وَالسَّكَنَاتِ وَالنُّطْقِ وَالصَّمْتِ فَيَجِبُ أَنْ تَعْرِفَ
الْأَحْكَامَ عَلَيْك فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلِهَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ ،
بَلْ التَّصْرِيحُ مِنْ الصَّحَابِيِّ ، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ فَنَادَى
فِيهِمْ مَا بَالُكُمْ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُقَسَّمُ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ أُمَّتِهِ وَأَنْتُمْ
مُشْتَغِلُونَ فِي الْأَسْوَاقِ فَتَرَكُوا السُّوقَ وَأَتَوْا إلَى
الْمَسْجِدِ فَوَجَدُوا النَّاسَ حِلَقًا حِلَقًا لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ مَا
ذَكَرْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ : قَالَ : هَذَا مِيرَاثُ نَبِيِّكُمْ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ
وَهَا هُوَ ذَا أَوْ كَمَا قَالَ فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الصَّحَابِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرَادَ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ
عُمَرَ وَقَلْبِهِ ، وَقَالَتْ الصَّحَابَةُ فِي حَقِّهِ : مَا كُنَّا
نَرَى إلَّا أَنَّ مَلَكًا عَلَى لِسَانِهِ يَنْطِقُ ، وَأَنَّ مَلَكًا
مَعَهُ يُسَدِّدُهُ : يَا أَيَّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ
فَإِنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ رِدَاءً يُحِبُّهُ ، فَمَنْ طَلَب بَابًا
مِنْ الْعِلْمِ رَدَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِدَائِهِ فَإِنْ
أَذْنَبَ اسْتَعْتَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ؛ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ رِدَاءَهُ
ذَلِكَ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ ذَلِكَ الذَّنْبُ حَتَّى يَمُوتَ فَعَلَى
هَذَا
الْكَلَامِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَفْضَلُ
مِنْ ذِكْرِهِ بِاللِّسَانِ انْتَهَى .
وَلِأَنَّهُ
لَيْسَ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ خَاصَّةً بَلْ
الْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفُرُوعِهِ
وَالْمَشْيِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هُوَ
مُحْتَاجٌ إلَيْهَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَبِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ
يَكُونُ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ إنْ قَامَ بِهِ فَقَدْ حَصَلَ
لَهُ الْأَجْرُ الْكَثِيرُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ ، وَإِنْ عَجَزَ
عَنْهُ فَقَدْ أَتَى بِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ
حِينَئِذٍ يَكُونُ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَرْعًا عَنْ هَذَا الْأَصْلِ
الَّذِي حَصَلَ ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَبِيبُ الدِّينِ ، وَقَدْ عَهِدْنَا
فِي مَرَضِ الْبَدَنِ أَنَّ الطَّبِيبَ لَا يُعْطِي الدَّوَاءَ إلَّا
بَعْدَ الْحِمْيَةِ فَإِذَا احْتَمَى الْعَلِيلُ حِينَئِذٍ يُعْطِيهِ
الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَرْضَى مَنْ يَنْتَفِعُ
بِالْحِمْيَةِ وَيَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ أَخْذِ الدَّوَاءِ ، فَإِنْ لَمْ
يَحْتَمِ الْعَلِيلُ فَقَلَّ أَنْ يُعْطِيَهُ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ ،
وَإِنْ أَعْطَاهُ قَلَّ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ، بَلْ يَعُودُ عَلَيْهِ
بِالضَّرَرِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ
الْحِمْيَةُ أَوَّلًا وَهِيَ مَجَالِسُ الْعِلْمِ فَيَعْرِفُ مِنْهَا
الْإِنْسَانُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَيَجِبُ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ
وَمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَوْجَبُ فَيَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى مَا
يَحْصُلُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَصَلَ
لَهُ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ فِي الِامْتِثَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ
مِنْ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْمَسَائِلِ بِمَا يَأْتِي مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبِفِعْلِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
فَتَحْصُلُ لَهُ تِلَاوَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالتَّرَضِّي عَنْ أَصْحَابِهِ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمْ
وَمَحَبَّتُهُمْ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ .
وَهَذَا
أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ تِلَاوَةُ كِتَابِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَحْصُلُ لِقَلْبِهِ الذِّكْرُ أَيْضًا
، وَهُوَ الْفِكْرَةُ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَتَفَهُّمِهَا وَيَحْصُلُ
لِأَعْضَائِهِ أَيْضًا كَسْبُهَا ، وَهُوَ مَا امْتَثَلَتْ مِنْ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ وَمَا اسْتَفَادَتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى
هَذَا الذِّكْرَ لِوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَهْلِهِ لِحَمْلِهِ لَهُمْ
عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَمَعْرِفَتِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَحْكَامِ
الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذِكْرِهِ هُوَ ثُمَّ يَتَعَدَّى
ذَلِكَ لِمَعَارِفِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ كُلٌّ عَلَى
قَدْرِ حَالِهِ لِمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَتَصَرُّفِهِ مَعَهُمْ
بِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ مِمَّنْ خَالَطَهُ أَوْ اقْتَبَسَ مِنْهُ أَوْ
رَآهُ أَوْ رَأَى مَنْ رَآهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِلثَّقَلَيْنِ
جِنِّهِمْ ، وَإِنْسِهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ
لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لِتَعَلُّمِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْجَمِيعِ
وَتَعْلِيمُ ذَلِكَ مِثْلِ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى
الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ كَانَ الْعَالِمُ إذَا مَاتَ
بَكَى عَلَيْهِ كُلُّ الْخَلْقِ حَتَّى الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ
وَالسَّمَكُ فِي الْمَاءِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ فِي تَبْيِينِ
الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ لِأَجْلِ
عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ بِالْجَهْلِ عَذَابٌ لَهُمْ
نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ
غَيْرُهَا لِلْمَقْتَلِ وَنَهَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ أَحَدٌ ،
وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَسْأَلُ الْعُودَ لِمَ خَدَشَ الْعُودَ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : أَهْلُ الذِّكْرِ فِي
الْآيَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ النَّوَازِلِ
وَبِفَتْوَاهُمْ يُعْبَدُ اللَّهُ وَيُطَاعُ وَيُمْتَثَلُ أَمْرُهُ
وَيُجْتَنَبُ نَهْيُهُ فَعَلَى هَذَا فَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ
الْعُلَمَاءُ لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ ،
وَلِهَذَا الْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي الْمَذْكُورِ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : لَمَجْلِسُ عَالِمٍ
عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُعْصَى
اللَّهُ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ .
وَقَالَ تَعَالَى إنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ
فِي أَنَّ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ
بِاللِّسَانِ ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى هِيَ الْمَقْصُودُ
وَالْمَطْلُوبُ وَلَا يُرَادُ الذِّكْرُ إلَّا لِأَجْلِهَا ، وَهِيَ لَا
تَحْصُلُ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : "
إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ " وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ عَلَى مَا قَالَهُ
النَّحْوِيُّونَ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا
الْعَالِمُونَ وَأَيْنَ هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ ، وَهَذَا الْفَضْلُ
كُلُّهُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ
فِي أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ الْقَاصِرِ
عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ فَبَانَ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ
وَالْقَاعِدَةُ فِي أَلْفَاظِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ وَأَوْلَى
وَأَفْضَلُ بَلْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ دُونَ عِلْمٍ
مَكْرُوهٍ لِمَا جَاءَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ
مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَظُنُّهُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ( يَا دَاوُد
قُلْ لِلظَّالِمِينَ لَا يَذْكُرُونِي فَإِنِّي آلَيْت عَلَى نَفْسِي
أَنَّ مَنْ ذَكَرَنِي ذَكَرْته ، فَإِنْ هُمْ ذَكَرُونِي ذَكَرْتهمْ
بِالْغَضَبِ ) .
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمْ مِنْ قَارِئٍ
يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ
يَلْعَنُهُ يَقْرَأُ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، وَهُوَ ظَالِمٌ ) انْتَهَى وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ مَدَّ يَدَهُ لِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ الظُّلْمُ أَعَمُّ فَقَدْ يَكُونُ يَظْلِمُ نَفْسَهُ فِي ارْتِكَابِهِ لِلْمُخَالَفَاتِ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَمَعَانِيهِ ، وَذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَتِلَاوَتِهِ بِاللِّسَانِ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الْمَقْصُودِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْأَعْظَمِ وَصَاحِبِ النُّورِ الْأَكْمَلِ إلَّا عَلَى الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودِ الَّذِي يَجْمَعُ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا .
وَقَدْ
ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا
عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا وَسَاقَهَا فِي
فَضْلِ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مُجْتَمَعِينَ وَفَضْلِ
الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ وَبَيَانِ فَضِيلَةِ مَنْ حَضَّهُمْ
وَجَمَعَهُمْ عَلَيْهَا وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ : اعْلَمْ
أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ مُجْتَمَعِينَ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُمْ
بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَأَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ
الْمُتَظَافِرَةِ انْتَهَى .
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ شَيْءٌ
مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ .
وَقَدْ
ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى
مَعْرِفَةِ تَلَقِّي الصَّحَابَةِ لَهَا كَيْفَ تَلَقَّوْهَا مِنْ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَإِنَّهُمْ
أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ انْتَهَى ؟ .
وَمَا
ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَنُصُّ عَلَى
أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى مَا تُرْجِمَ عَلَيْهِ أَمَّا قَوْلُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِ اللَّهِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى
ذَلِكَ يَتَرَاسَلُونَ بَيْنَهُمْ صَوْتًا وَاحِدًا ، بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ
هَلْ كَانَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ
عَلَى عَدَمِ ارْتِكَابِهِمْ ذَلِكَ وَنَهْيِهِمْ عَنْهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ نُبَذًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ
نَفْسِهِ .
فَقَالَ
وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا :
أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الدِّرَاسَةَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بْنُ
إسْمَاعِيلَ فِي قُدُومِهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي
دَاوُد عَنْ الضَّحَّاكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذِهِ
الدِّرَاسَةَ ، وَقَالَ : مَا رَأَيْت وَلَا سَمِعْت وَلَا أَدْرَكْت
أَحَدًا مِنْ