كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني
وقرأ الزبير بن بكار أخبار أبي السائب المخزومي ، فلما بلغ إلى قول مالك بن أسماء الفزاري : الكامل :بَكَتِ الديارُ لفَقْدِ ساكنها . . . أفعِند قلبِي أَبْتَغِي الضَبْرَا ؟
هذا البيت نظير قول ابن وهيب : الكامل :
بينا هُمُ سكن بحيرَتِهِمْ . . . ذكروا الفراقَ فأصبحوا سَفْرا
فظللت ذا ولَه يعاتِبُني . . . مَنْ لا يرَى أَمْرِي له أَمْرَا
وإن أبا السائب قال عند سماع البيت الأوسط : ما أسرع هذا أما اقدّمَوْا ركاباً ؟ أما ودَّعُوا صديقَاَ ؟ فقال الزبير : رحم الله أبا السائب فكيف لو سمع قولَ العباس بن الأحنف : الخفيف :
سأَلونا عن حالِنا كيف أَنتُمْ . . . فَقَرنَّا ودَاعَنا بالسؤَالِ
ما أَنخْنا حتى ارتحلنَا فما فرّقْنَ بين النزول والإِرتجال ؟
هكذا رواه الزبير بن بكار لمالك بن أسماء ، ورواها غيره لأيوب بن شبيب الباهلي .
ومن ألفاظ أهل العصر في صفة الديار الخالية
دارٌ لبِسَت البِلى ، وتعطلت من الحُلى . دار قد صارت من أهلها خالية ، بعد ما كانَتْ بهم حَالية . دار قد أنفَد البين سكانَها ، وأقعد حيطانها ، شاهد اليأس منها ينطِقُ ، وحَبْلُ الرجاءِ فيها يقصر كأنّ غفرانها يُطوئ وخرابَها يُنْشر ، أركانُها قيام وقعود ، وحيطانها ركَّعٌ وهُجود .
يشبه الأول من قول مالك بن أسماء قول مزاحم العقيلي : الطويل :
بكَتْ دارُهُمْ مِن فَقْدِهم فتهلَلَتْ . . . دموعي ، فأَيَّ الجازِعَيْنِ ألومُ ؟
أَمستعبر يَبْكي على الهون والبِلَى . . . أمَ آخرُ يَبْكي شَجْوَه فيَهِيمُ
أبو الطيب المتنبي : الكامل :
لَكِ يا منازِلُ في القلوبِ منازِلُ . . . أَقْفَرْتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أَوَاهِلُ
يَعْلَمْنَ ذاك ، وما علمْتِ ، وإنما . . . أَولاَ كُما يبكي عليه العاقِلُوقال علي بن جَبَلة ، في معنى قول العباس بن الأحنف : الرمل :
زائرٌ نَمَّ عليه حسنُهُ . . . كيف يُخْفِي الليلُ بَدْراً طلَعا
بأبي مَنْ زَارَني مكتتماً . . . خائفاً مِنْ كل أَمرٍ جَزِعا
رَصَد الغَفْلَة حتى أَمْكنَتْ . . . ورَعى الحارِسَ حتى هَجَعا
رَكِبَ الأهوال في زَوْرَته . . . ثمّ ما سلم حتى ودَّعَا
وقال الحسين بن الضحاك : الرمل : بأَبي زَورٌ تَلَفَّتُّ له . . . فتنفّستُ عليه الصُّعَدا
بينما أضحكُ مسروراً به . . . إذا تقطعتُ عليه كمدَا
أبو الطيب المتنبي : الخفيف :
بأبي مَنْ وَدِدْتُه فافترَقْنا . . . وقضَى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترَقْنَا حَوْلاً ، فلما اجتمَعْنا . . . كان تسليمُه عليَّ الوداعا
وقال أبو الحسن جحظة : قال لي خالد الكاتب : دخلتُ يوماً بعض الدِّيارات فإذا أنا بشابٍّ موثَق في صِفَاد حسن الوجه ؛ فسلمتُ عليه ، فردّ عليَّ ، وقال : مَنْ أنت ؟ قلت : خالد بن يزيد ، فقال : صاحب المقطعات الرقيقة . قلت : نعم فقال : إن رأيت أن تفرِّجَ عني ببعض ما تنشدني من شعرك فافْعَل ، فأنشدته : المتقارب :
ترشَفْت من شَفَتَيْها عقاراً . . . وقبَّلتُ من خَدِّها جُلنارا
وعانَقْتُ منها كثيباً مَهِيلاً . . . وغُصْناً رَطِيباً وبَدْراً أَنارا
وأَبصرْت من نُورها في الظلام . . . لكل مكانٍ بليلٍ نهارا
فقال : أحسنت لا يفضُضِ الله فاك ، ثم قال : أجِزْ لي هذين البيتين : الخفيف :
رُبَّ ليلٍ أمدَّ من نَفَسِ الْعَا . . . شِق طُولاً قطَعْتُه بانتحابِ
وحديثٍ ألذّ من نَظَرِ الوا . . . مق بدَّلْتُه بسُوءِ العتابِ
فوالله لقد أَعملت فكري فما قدرت أن أجيزهما . ويمكن أن يجازا بهذا البيت : الخفيف :
ووصال أقل مِنْ لَمْحة الْبَا . . . رِق عُوضْتُ عنهُ طولَ اجتنابِأوصاف في طول الليل والسهر
وقال ابنُ الرومي في طول الليل : الخفيف :
رُبَّ ليل كأنه الدهرُ طولاً . . . قد تناهَى فليسر فيه مَزِيدُ
في نجومٍ كأنهنّ نجوم الشَّيْبِ ليستْ تغيبُ لكن تَزِيدُ
وهذا من أجود ما جاء في هذا المعنى ، وقد قال بشار : الطويل :
لخدَّيْكَ مِن كفَيْك في كلّ ليلةٍ . . . إلى أن ترى وَجْهَ الصباح وِسادُ
تبيتُ تُراعِي الليلَ ترجو نَفادهُ . . . وليس لليل العاشقين نَفادُ
وقال : الطويل :
خليليّ ما بالُ الدُّجَى لا تَزَحْزَحُ . . . وما بالُ ضوءِ الصبح لا يتوضَّحُ ؟
أضلَّ النهارُ المستنيرُ سبيلهُ . . . أم الدهرُ ليل كلّه ليس يَبرَح ؟
كأن الدجَى زادَتْ وما زادت الدجَى . . . ولكِنْ أطالَ الليلَ همٌ مُبَرِّحُ
وقال أيضاً : الرمل :
طال هذا الليلُ ، بل طال السهَرْ . . . ولقد أعرفُ لَيْلِي بالقِصَرْ
لم يطُلْ حتى جَفاني شَادِنٌ . . . نَاعِمُ الأطراف فتانُ النظَرْ
ليَ في ليليَ منه لوعةٌ . . . مَلَكَتْ قلبي وسَمْعِي والبصَرْ
فكأن الهمّ شَخصٌ ماثلٌ . . . كلما أبصره النّومُ نَفَرْ
وقال أيضاً : الوافر :
كأنَّ فؤادَه كُرَةٌ تَنَزَّى . . . حِذارَ البَيْن إن نفع الحِذارُ
يُرَوِّعُه السِّرارُ بكل شيءٍ . . . مخافةَ أن يكونَ به السِّرارُكأن جفونه سُمِلَتْ بشوكٍ . . . فليس لنومه فيها قَرارُ
أقول وليلتي تزدادُ طُولاً : . . . أما لِلّيل بَعْدَهُمُ نهارُ
جَفَتْ عيني عن التغميض حتى . . . كأنَّ جفونَها فيها قِصارُ
قيل لبشار : من أين سرقت قولك :
يروِّعُه السرارُ بكلِّ شيء ؟
فقال : من قول أشعب الطمع ، وقد قيل له : ما بلغ من طَمَعِك ؟ قال : ما رأيتُ اثنين يتسَارّان إلا ظننتهما يُرِيدان أن يأمرا لي بشيء . وأخذه أبو نواس فقال : الخفيف :
لا تبيحنّ حُرمه الكتمانِ . . . رَاحةُ المستهامِ في الإعلانِ
قد تستَّرْتُ بالسكوتِ وبالإط . . . راق جَهْدي فنمَّتِ العينانِ
تركَتْني الوُشَاة نُصْبَ المشيري . . . ن وأُحدوثةً بكلِّ مكانِ
ما نرى خاليَيْنِ في الناسِ إلا . . . قُلتُ ما يَخْلِوانِ إلاَّ لِشَاني
ومثل قول بشار :
جفَتْ عَيْني عن التغميض .
. . . البيتَ ، وقول الآخر : المتقارب :
كأنَّ المحبَّ بطول السُّهادِ . . . قصيرُ الجفونِ ولم تَقْصُرِ وقد تناول هذا المعنى العتابي فأفسده وقال : البسيط :
وَفِي المآقِي انقباضٌ عن جفونهما . . . وفي الجفونِ عن الآماقِ تَقْصِيرُ
وقال المتنبي : الطويل :
أعِيدوا صَباحي فَهْوَ عند الكواكبِ . . . ورُدُّوا رُقادي فَهْوَ لَحْظُ الحبائب
كأنَّ نهارِي ليلةٌ مُدْلَهِمَّةٌ . . . على مُقْلةٍ من فَقْدِكم في غَياهبِ
بعيدةُ ما بَيْنَ الجفونِ كأنما . . . عَقَدْتُمْ أعالي كل هُدْبٍ بحاجبوقال الشعبي : تشاجر الوليدُ بن عبد الملك ومسلمة أخوه في شعر امرئ القيس والنابغة في طول الليل ، أيهما أشعر . فقال الوليد : النابغة أشعر ، وقال مسلمة : بل امرؤ القيس ، فرضيا بالشعبي ، فأحضراه ، فأنشده الوليد : الطويل :
كِليني لهمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ . . . وليل أُقاسيه بطيء الكواكبِ
تطاول حتى قلتُ ليس بمنْقَضٍ . . . وليس الذي يَرْعَى النجومَ بآيبِ
وصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازبَ هَمّهِ . . . تضاعفَ فيه الحزنُ من كل جانبِ
وأنشده مسلمة قول امرئ القيس : الطويل :
وليلٍ كموج البَحْرِ أرْخَى سُدُولَهُ . . . عليّ بأنواع الهموم ليَبتَلي
فقلتُ له لمَّا تمطَّى بجَوْزه . . . وأردفَ أعْجازاً وناءَ بكَلكَلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي . . . بصُبح ، وما الإصباحُ منك بأمْثَلِ
فيا لك من ليلٍ كأنّ نجومَهُ . . . بكل مُغار الفتْل شُدّت بيَذْبُلِ
فطرب الوليد طرباً ، فقال الشعبي : بانت القضية .
معنى قول النابغة :
وصدر أراح الليل عازب همّه
أنه جعل صَدْرَه مأوى للهموم ، وجعل الهموم كالنَّعَم السارحة الغادية ، تسرحُ نهاراً ثم تَأْتي إلى مكانها ليلاً . وهو أول من استثار هذا المعنى ، ووصف أن الهمومَ مترادفةٌ بالليل لتقييد الألحاظ عمّا هي مطلقة فيه بالنهار ، واشتغالها بتصرُّف اللحظ عن استعمال الفكر ، وامرؤ القيس كره أن يقول : إن الهمَّ يخفُّ عليه في وقت من الأوقات فقال : وما الإصباح منك بأمثل .
وقال الطرماح بن حكيم الطائي : الطويل :
ألا أيها الليل الذي طال أصْبِحِ . . . بيوم ، وما الإصباح فيك بأرْوَحِعلى أن للعينين في الصُّبْح رَاحةً . . . لطرحهما طَرْفَيْهما كلّ مَطرَحِ
فنقل لفظ امرئ القيس ومعناه ، وزاد فيه زيادةً اغتفر له معها فحْش السرقَةِ وإنما تنبّه عليه من قول النابغة ، إلا أنّ النابغة لوّح ، وهذا صرّح .
وقال ابن بَسَّام : السريع :
لا أظلمُ الليلَ ولا أدّعِي . . . أنَ نجومَ الليلِ ليسَتْ تَغُورْ
ليْلِي كما شاءَتْ ، فإنْ لم تَزُرْ . . . طالَ ، وإن زارتْ فلَيْلي قصيرْ
وإنما أغار ابنُ بسام على قولِ علي بن الخليل فلم يغير إلا القافية : السريع :
لا أظلمُ الليلَ ولا أَدعي . . . أنَ نجومَ الليل ليست تَزولْ
ليلي كما شاءت ، قصيرٌ إذا . . . جادَتْ ، وإن ضنّت فلَيْلي طَوِيلْ
وهذه السرقةُ كما قال البديعُ في التنبيه على أبي بكر الخوارزمي في بيت أخذ روته وبعض لفظه : وإن كانت قضية القَطْعِ تجب في الربع ، فما أشدّ شفقتي على جوارِحه أجمع ولعمري إن هذه ليستْ سرقة ، وإنما هي مكابرة محضة ، وأحسب أن قائله لو سمع هذا لقال : هذه بضاعَتُنا رُدَّت إلينا ، فحسبت أن ربيعة بن مكدم وعُتيبة بن الحارث بن شهاب كانا لا يستحلاَّن من البيت ما استحلّه ، فإنهما كانا يأخذان جُلَّهُ ، وهذا الفاضل قد أخذ كلّه ، وقد أخذ علي بن الخليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان : البسيط :
لا أَسألُ الله تغييراً لما صنَعتْ . . . نامَتْ وإن أسهرَتْ عينيَّ عيناها
فالليلُ أطول شيء حين أفقدُها . . . والليلُ أقصرُ شيءٍ حين ألقاها
وابن بسام في هذا الشعر كما قال الشاعر : الكامل :
وفتى يقول الشعر إلا أنهُ . . . في كل حالٍ يَسْرِقُ المسروقا
ألفاظ لأهل العصر في طول الليل والسهر وما يعرض فيه من الهموم والفكر
ليلة من غُصَص الصَّدْرِ ، ونِقَم الدهْرِ . ليلةُ همومٍ وغموم ، كما شاء الحسود ، وساءَالوَدود . ليلة قصّ جناحُها ، وضَلَّ صباحُها . ليل ثابتُ الأطناب ، طامي الغوارب ، طَامح الأمواج ، وافي الذّوائب . ليال ليست لها أسْحَار ، وظلمات لا تتخلّلها أنوار . بات بليلة نابغية ، يُراد قوله : الطويل :
فبت كأني ساوَرتْنِي ضئيلة . . . من الرُّقْش في أَنيابها السُّمُّ نَاقِعُ
يُسَهَدُ من ليلِ التمامِ سليمُها . . . لِحَلْيِ النساءِ في يديه قعاقعُ
بات في الصيف بليلة شتوية . سامَرَتْه الهموم ، وعانَقَتْه الغموم ، واكتحَلَ السهاد ، وافترش القَتَاد ، فاكتحل بمُلْمُول السهر ، وتململ على فراش الفكر . قد أقِضَ مِهاده ، وقَلِقَ وسادُه . هموم تفرِّقُ بين الجَنْبِ والمهاد ، وتجْمَعُ بين العين والسُّهاد . طَرْف برَعْيِ النجوم مطروف ، وفراش بشعار الهمَ محفوت . كأنه على النجوم رقيب ، وللظلام نَقِيب .
ولهم فيما يتصل بضدّ ذلك من ذكر إقبال الليل وانتشار الظلمة ، وطلوع الكواكب : أقبَلتْ عساكِرُ الليل ، وخفقَتْ راياتُ الظلام . وقد أرخى الليلُ علينا سُدولَه ، وسحب الظلام فينا ذيوله . توقَّد الشفقُ في ثوب الغَسَقِ . أقبلت وفودُ النجوم وجاءت مواكب الكواكب . تفتّحت أزاهير النجوم ، وتورّدت حدائقُ الجوّ ، وأذْكَى الفلَك مصابيحه . قد طفت النجومُ في بَحْرِ الدُّجَى ، ولبس الظلامُ جلباباً من القار . ليلة كغراب الشباب . وحَدَقِ الحِسَان ، وذوائب العذَارى . ليلة كأنها في لباسِ بني العباس ، ليلة كأنها في لباس الثكالى ، وكأنها من الغَبَش في مواكب الْحَبَش . ليلة قد حلك إهابها ، فكأن البحر يهابُها .
ولهم في ذكر النوم والنعاس : شرِبَ كأسَ النعاس ، وانتشى من خَمر الكَرى ، قد عَسْكر النُعَاسُ بطَرْفه ، وخيّم بين عينيه . غرق في لُجةِ الكَرى ، وتمايل في سَكْرَة النوم . قد كحل الليلُ الورَى بالرقاد ، وشامت الأعين أجفانها في الأغماد .
وفي انتصاف الليل وتناهيه ، وانتشار النور ، وأُفول النجوم : قد اكْتمَل الظلامُ . قد انتصفنا عمْرَ الليلِ ، واستغرقْنَا شبابَه . قد شاب رأسُ الليل ، كاد ينمُّ النسيمُ بالسَّحَر . قدانكشف غطاءُ الليلِ . انْهَتَك ستْرُ الدّجى ، وشَمِطَتْ ذَوَائِبُه ، وتقوَّسَ ظهرُه ، وتهدَّم عُمْره . قُوِّضت خيامُ الليل ، وخلع الأُفُق ثوبَ الدُّجى . أَعرض الظلامُ وتولى ، وتَدَلّى عنقود الثريّا . طرز قميصُ الليل بغرَّة الصبح ، وباح الصبح بسِرِّهِ . خلع الليلُ ثيابَه ، وحَدَر الصبحُ نِقَابَه . لاحت تباشيرُ الصبحِ ، وافترَّ الفَجْرُ عن نواجذه ، وضرب النورُ في الدُّجى بعموده . بَثَّ الصبح طَلائِعه . تبرقَعَ الليلُ بغُرَّةِ الصبح . أطار بَازِي الصبح غرابَ الليلِ ، وعزلت نوافج الليل بجاماتِ الكافور ، وانهزم جُنْدُ الظلام عن عَسْكَر النور . خلعْنَا خلعة الظّلامِ ، ولبسنا رداء الصباح ، وملأ الآذان بَرْقُ الصباح ، وسطع الضوءُ ، وطلع النور ، وأشرقت الدنيا ، وأضاءت الآفاق . مالت الجَوْزاءُ للغروب ، وولّت مواكبُ الكواكب ، وتناثرت عقودُ النجوم ، وفَرّت أَسرابُ النجوم من حدَقِ الأنام ، وَوَهى نِطاقُ الجوزاء ، وانطفأ قنديلُ الثريّا . قال بعضُ الأعراب : خرجنا في ليلة حِنْدِس قد ألقَتْ على الأرض اكارِعَها ، فمحَتْ صورة الأبدان ، فما كنّا نتعارف إلا بالآذان .
قال ابن محكان السعدي : الطويل :
وليل يقول الناسُ في ظلماتِه . . . سواءٌ صحِيحات العيون وعُورُها
كأنّ لنا منه بيوتا ًحصينةً . . . مُسوحاً أعاليها وساجاً ستورها
وهذا بارع جدّاً ، أراد أَنَ أعلاه أشدُّ ظلاماً من جوانبه .
وقال أعرابي في صفته : خرجتُ حين انحدرَت النجومُ ، وشالَتْ أرْجُلُها ، فما زِلْتُ أصْدَع الليلَ حتى انصدعَ الفجر .
ومن بديع الشعر في صفةِ الليل قول الأعرابي : الكامل :
والليلُ يَطْردُه النهارُ ولا ترى . . . كالليلِ يطردُهُ النهارُ طَريدا
فتراه مثلَ البيتِ مَالَ رِوَاقُهُ . . . هتك المقوّضُ سِتْرَهُ الممدودَا
ومن البديع : الطويل :
على حينَ أثنى القومُ خيراً عَلَى السُّرَى . . . وطارَتْ بأُخرى الليلِ أَجنِحَةُ الفَجْرِ
آخر : الوافر :
وليل ذي غَيَاطِلَ مُدْلَهِمٍّ . . . رميتُ بنَجْمِه عرضَ الأُفولِيردُّ الطرف منقبضاً كَلِيلاً . . . ويملأُ هَوْلُه صَدْرَ الدَّلِيلِ
ابن المعتز : الكامل :
هامَت ركائِبنا إليك بنا . . . بظليل أهْلِ النارِ والمنحِ
فكأنّ أيديهنّ دائبةً . . . يفحَصْنَ ليلتهنَّ عن صُبْحِ
وقاد كشاجم : المنسرح :
سَقْياً لليلٍ قصرْتُ مُدَّتهُ . . . بِدير مُرَّانَ مَرّ مشكورا
وبات بَدر الدجى يشعشعها . . . نُوريّةَ تملأ الدُّجَى نُورَا
غارَت على نفسها وقد سَفرت . . . فعاد جيبُ الحباب مزرُورَا
حتى رأيت الظلامَ يدرجُه ال . . . غرب ودَرجَ الصباحِ منشُورا
فاختلط الليل والنهارُ كما . . . تخلط كفٌّ مسكاً وكافورا
وقال علي بن محمد الكوفي : الطويل :
مَتَى أَرتَجي يوماً شِفَاءً من الضَّنا . . . إذا كان جَانِيهِ عليَ طبيبي
ولي عائِداتٌ ضِفتهُنّ فجِئْنَ في . . . لباسٍ سوادٍ في الظلام قَشِيبِ
نجومٌ أراعِي طولَ ليلي برُوجَها . . . وهنَّ لبُعْدِ السير ذاتُ لغُوب
خوافقُ في جُنحِ الظلام كأنها . . . قلوبٌ معنَّاةٌ بطولِ وَجِيبِ
تَرَى حُوتَها في الشرقِ ذاتَ سِباحةٍ . . . وعَقْرَبها في الغربِ ذاتَ دَبيبِ
إذا ما هوَى الإكْليلُ منها حسِبْتَه . . . تهدُّلَ غُصْنٍ في الرياضِ رطيبِ
كأَنَّ التي حولَ المجرَّةِ أوردَتْ . . . لتَكرع في ماء هناك صَبيبِ
كأنّ رسولَ الصُّبحِ يخلطُ في الدُّجى . . . شجاعةَ مِقْدامٍ ِبجُبْنِ هَيُوبِ
كأنّ اخضِرَار البَحرِ صَرْحٌ ممرَّدٌ . . . وَفيه لآلٍ لم تُشنْ بثقُوبِ
كأنّ سوادَ الليلِ في ضوءِ صُبْحِه . . . سوادُ شبابٍ في بياض مَشِيبِ
كأنَّ نذيرَ الشمسِ يحكي ببشْرِه . . . عليّ بن دَاود أَخِي ونسيبيولولا اتِّقائي عَتْبَه قلت سيدي . . . ولكن يَرَاها من أَجل ذنوبي
جوادٌ بما تَحْوِي يَدَاهُ مهذّب . . . أَدِيبٌ غَدا خِلاًّ لكل أَدِيبِ
نسيب إخاءً وهو غيرُ مناسبٍ . . . قريبُ صفاءً وهو غيرُ قريبِ
ونِسبةُ ما بينَ الأقارِب وحشةٌ . . . إذا لم يؤنسها انتسابُ قلوبِ
وهذا البيت كقول الطائي : الطويل :
وقلتُ أخي قالوا أَخٌ من فرابةٍ . . . فقلت لهمْ إنّ الشكولَ أَقارِبُ
نسيبيَ في رأيي وعزمي ومذهبي . . . وإنْ باعَدَتْنَا في الأصول المناسبُ
وقال عبد السلام بن رغبان ، وسلك طريق الطائي فما ضلَّ عنها : الطويل :
أخ كنتُ أَبكِيه دماً وَهْوَ حاضرٌ . . . حِذاراً ، وتَعْمى مُقْلتِي وَهْوَ غائِبُ
بكاءَ أخ لم تَحْوِه بقرابة . . . بَلَى إن إخوانَ الصفاء أقاربُ
فمات فما شَوْقي إلى الأجْرِ واقف . . . ولا أَنا ني عُمْري إلى الله راغِبُ
وأَظلمتِ الدنيا التي أنتَ نورُها . . . كأنك للدنيا أَخ ومُناسِب
يُبرِّدُ نيرانَ المصائبِ أَنني . . . أرى زمناً لم تبق فيه مصائِبُ
وفي هذه القصيدة :
ترشَفْتُ أيامي وهُنَ كوالحٌ . . . إليك ، وغالَبْتُ الرَّدَى وهْو غالِبُ
ودافعتُ في كَيد الزمان ونَحْرِهِ . . . وأيُّ يدٍ لي والزمان المُحَاربُ ؟
وقلتُ له : خَلِّ ابنَ أُمِّي لعُصْبَةٍ . . . وها أنا أو فازْدَدْ فإنّا عَصَائِبُفواللهِ إخلاصاً من القولِ صادقاً . . . وإلاَّ فحُبِّي آلَ أحمدَ كاذِبُ
لَوَ أنَّ يَدِي كانَتْ شِفَاءك أو دَمِي . . . دَمَ القلبِ حتى يَقضِبَ الحبْلَ قاضِبُ
لسلّمتُ تَسْلِيمَ الرِّضَا واتخذتها . . . يداً للرَّدَى ما حَجَّ للَّهِ راكِبُ
فتًى كان مثلَ السيف من حيث جِئْتَهُ . . . لنائبةٍ نابَتْكَ فهو مُضَارِبُ فتى هَمُّه حَمْدٌ على الدهر رائح . . . وإن ناب عنه مَالُهُ وهْو عَازِبُ
شمائلُ إن تَشْهَدْ فهنَّ مَشاهدٌ . . . عِظامٌ ، وإن ترحل فهنَ رَكائِبُ
وقال الطائي لعليّ بن الجهم : الكامل :
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاء فإنَّنا . . . نَغْدُو ونَسْرِي في إخاءٍ تالدِ
أو يفترق نَسَبٌ يؤلِّفْ بيننا . . . أَدَبٌ أقمناهُ مُقامَ الوالدِ
أو يختلف ماءُ الوصال فماؤُنا . . . عَذْبٌ تحدَّرَ من غمامٍ وَاحِدِ
وقال محمدُ بن موسى بن حماد : سمعتُ عليّ بن الجهم ، وذكر دِعبلاً فلعنه ، وكفره ، وقال : وكان يطعَنُ على أبي تمام ، وهو خيرٌ منه ديناً وشعراً ، فقال رجلٌ : لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مَدْحِك له . فقال : إلاَّ يكن أخا نَسَب فهو أخو أدَب ، أما سمعتَ ما خاطبني به . وأنشد الأبيات .
وقال رجل لابن المقفع : إذا لم يكن أخي صديقي لم أحببه ، قال : نعم صدقت ، الأخ نسيبُ الجسم ، والصديق نسيب الروح .
وقال أبو تمام يخاطب محمد بن عبد الملك الزيات : الطويل :
أبا جعفَر ، إنَّ الجهالةَ أُمُّها . . . ولودٌ ، وأمُّ العلم جدّاءُ حَائِلُأرى الحشوَ والدهماءَ أضحوا كأنهم . . . شعوبٌ تلاقَتْ دوننا وقبائل
غدَوْا وكأنَّ الجهل يجمعهم أباً . . . وحظُ ذوي الآداب فيهم نَوَافِل
فكن هضبةً تأوِي إليها وحَرَّةً . . . يُعَرِّدُ عنها الأعوجيُّ المناقل
فإن الفتى في كلّ حال مناسبٌ . . . مُنَاسبَ روحانيةَ مَنْ يشاكلُ
وقال البحتري لأبي القاسم بن خرداذبه : البسيط :
إن كنتَ من فارسٍ في بيتِ سُؤْدَدها . . . وكنتَ من بحتري البيت والنسبِ
فلم يَضِرْنَا تَنَائي المَنْصِبَين وقَدْ . . . رُحنا نَسِيبين في علْمٍ وفي أدبِ
إذا تقاربت الآدابُ والتأمَتْ . . . دَنَتْ مسافة بين العُجْمِ والعَرَبِ
وقد احتَذى طريقَه أبو القاسم محمد بن هانئ ، فقال يمدحُ جعفر بن علي ، وذكر النجوم ، فقال الطويل :
جعَلْنَا حشايانا ثِيابَ مُدامِنا . . . وقدَّتْ لنا الظلماءُ من جِلْدِها لُحْفا
فمن كبدٍ تُدْني إلى كَبِدٍ هَوىً . . . ومن شفَةٍ تُوحي إلى شَفَةٍ رَشْفا
بعيشك نَبِّهْ كأسَه وجُفُونَهُ . . . فقد نُبِّهَ الإبريقُ من بَعْدِ ما أغفَى
وقد فكّت الظلماءُ بعضَ قيودِها . . . وقد قام جيشُ الليل للفجْرِ فاصطفّاوولّتْ نجومٌ للثُّريَّا كأنّها . . . خواتم تَبْدو في بَنَانِ يدٍ تَخْفَى
ومَرَّ على آثارِها دَبَرانُها . . . كصاحبِ رِدْءٍ أكمنتْ خيلُهُ خَلْفا
وأقبلتِ الشِّعرى العَبُورُ ملبّة . . . بِمِرْزَمِها اليَعْبوبِ تَجْنُبُهُ طِرْفا
وقد بادَرَتها أخْتُها من وَرائها . . . لِتَخرُقَ من ثِنْيَيْ مَجرَّتها سِجْفا
تخافُ زَئيرَ الليث يَقدُم نثرَةً . . . وبَرْبَرَ في الظلماءِ يَنسِفُها نَسْفَا
كأنَّ السماكَيْن اللَّذين تظاهَرا . . . على لِبْدَتَيْهِ ضامِنانِ له الْحَتْفَا
فذا رامحٌ يَهْوي إليه سِنَانُه . . . وذا أعزل قد عَضَّ أَنْمُلَهُ لَهْفا
كأنّ رقيبَ النجمِ أَجْدَلُ مَرْقَبٍ . . . يُقَلِّبُ تحتَ الليلِ في رِيشِه طَرْفا
كأنّ سُهيلاً في مَطالِع أفقهِ . . . مُفَارِقُ إلْف لم يَجِدْ بعده إلْفا
كأنَّ بني نَعْشٍ ونَعْشاً مَطَافِلٌ . . . بوَجْرَةَ قد أَضْلَلْنَ في مَهْمَهٍ خِشْفَا
كأنّ سُهاها عاشِقٌ بين عُوَّدٍ . . . فآوِتَةً يَبْدُو وآونةً يَخْفَى
كأنّ مُعَلَّى قُطْبها فارسٌ لهُ . . . لواءان مَرْكُوزانِ قد كَرِهَ الزَّحْفَا
كأنّ قدامى النَّسْر والنّسْرُ واقعٌ . . . قُصِصْنَ فلم تَسْمُ الخوافِي به ضَعْفَا كأن أَخاهُ حين دَوَّمَ طائراً . . . أتى دون نصف البَدْر فاختطف النّصْفَا
كأنَّ الهزيعَ الآبنُوسِيَّ مَوْهِناً . . . سَرَى بالنسيج الخُسْرُوانيّ مُلْتَفّا
كأنَ ظلامَ الليلِ إذْ مال مَيْلةً . . . صريعُ مُدامٍ باتَ يشرَبُها صِرْفاكأنَّ عمودَ الفجر خاقانُ عَسكَرٍ . . . من الترك نادَى بالنجاشيِّ فاسْتَخْفَى
كأن لِواءَ الشمسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ . . . رأى القِرْنَ فازدادَتْ طلاقته ضعْفَا
وقال ابن طباطبا العلوي : الطويل :
كأنّ اكتتامَ المشتري في سَحَابهِ . . . وديعةُ سرٍّ في ضَميرِ مُدِيعِ
كأنّ سُهَيْلاً والنجوم أمامَهُ . . . يعارِضُها راعٍ وراءَ قَطِيع
وقد لاحَتِ الشِّعرى العَبُور كأنها . . . تَقَلُّب طَرْفٍ بالدموعِ هموعِ
وأضجعت الجوزاء في أفْق غَرْبها . . . فباتَتْ كنَشْوانٍ هناك صَرِيعِ
إلى أن أجاب الليلُ دَاعِيَ صُبْحِه . . . وكان يُنَادي منه غيرَ سميعِ
وقال : الخفيف :
وكأنَ الهلالَ لمَّا تَبَدّى . . . شطر طوقِ المرآةِ ذي التذهيب
أو كقَوْسٍ قد انحنَتْ طَرَفَاه . . . أو كَنُونٍ في مُهْرَقٍ مكتوب
وقال علي بن محمد العلوي يصف القمرَ ، وقد طرح جرمه على دِجلة : الكامل :
لم أَنْسىَ دِجْلَةَ والدُّجَى مُتَصَرِّمٌ . . . والبَدْرُ في أفق السماءِ مغرّبُ
فكأنها فيه رداءٌ أزرقٌ . . . وكأنه فيها طرازٌ مُذْهَبُ
وقال الأمير تميم بن المعز ، وكان يحتذِي مثل ابن المعتز ، ويقف في التشبيهات بجانبه ، ويفرغ فيها على قالبه ، ويتبعه في سلوك ألفاظ الملوك : الخفيف :
اِسقِيانِي فلست أُصْغِي لعَذلٍ . . . ليس إلاَّ تَعِلَّةَ النفس شُغْلِي
أأطِيعُ العذولَ في تركِ ما أه . . . وى كأني اتَّهَمْتُ رَأْيِ وعَقلِي ؟
عَلِّلاني بها فقد أقبل اللي . . . لُ كَلَوْنِ الصدود من بعد وَصْلِ
وانْجَلَى الغَيْمُ بعد ما أضحكَ الرَّوْ . . . ضَ بكاءُ السَّحابِ جادَ بوَبْلِ
عن هلالٍ كصَوْلجانِ نُضَارٍ . . . في سماءٍ كأنّها جَامُ ذَبْلوقال : الخفيف :
رُبَّ صفراءَ عَلَّلَتْنِي بصفرا . . . ءَ وجُنْحُ الظَّلاَم مُرْخَى الإزَارِ
بين ماءٍ وروضةٍ وكُروم . . . ورَوَابٍ منيفةٍ وصحَارِي
تتثنّى به الغصونُ علينا . . . وتجيب القِيانُ فيها القَماري
وكأن الدُّجَى غَدَائرُ شَعْرٍ . . . وكأن النجومَ فيها مَدَارِي
وانْجَلَى الغيمُ عن هِلالٍ تبَدَّى . . . في يَدِ الأُفْقِ مثلَ نِصْفِ سِوَارِ
وقال : الخفيف :
عَتَبتْ فانثنى عليها العِتَابُ . . . ودَعا دَمْعَ مُقْلَتَيْها انسكَابُ
وضعت نحو خَدِّها بيديها . . . فالْتَقَى الياسمينُ والعُنّابُ
رُبَّ مُبْدِي تَعَتُّبٍ جعل العَتْ . . . بَ رِياءً وهَمُّه الإعْتَابُ
فاسْقِنيها مُدَامةً تَصْبُغ الْكأ . . . سَ كما يصبُغ الخدودَ الشبابُ
ما ترى الليلَ كيف رَق دُجَاهُ . . . وبَدَا طَيْلَسانُه يَنْجَابُ ؟
وكأن الصباحَ في الأُفْق بازٍ . . . والدُّجَى بين مِخْلَبيْهِ غُرابُ
وكأنَ السماءَ لُجَّةُ بَحْرٍ . . . وكأنَّ النجومَ فيها حَبَابُ
وكأن الجوزاءَ سَيْفٌ صَقيل . . . وكأن الدُّجَى عليها قِرَابُ
من وصف الشراب والكؤوس وَالسُّقاة في الليل
وقال : الطويل :
وزنْجِيَّة الآباءِ كَرْخِيَّة الْجَلْب . . . عَبِيْرِيَّةِ الأَنْفاسِ كَرْمِيَّة النَّسَبْ
كمَيْت بزَلْنَا دَنَّها فتفجَّرَتْ . . . بأَحْمَرَ قَانٍ مثلَ ما قَطَرَ الذَّهَبْفلمّا شرِبْنَاها صَبَوْنَا كأنَّنا . . . شرِبنَا السرورَ المَخْضَ واللهوَ والطَّرَبْ
ولم نأتِ شيئاً يُسْخِطُ المجدَ فِعْلُه . . . سوى أننا بِعْنَا الوقارَ من اللَّعِبْ
كَأن كؤوس الشَّرْبِ وهي دوائر . . . قطائعُ ماءٍ جامدٍ تَحْمِلُ اللَّهَبْ
يَمُدُّ بها كفاً خضيباً مُدِيرُهَا . . . وليس بشيء غيرها هو مختضِبْ
فبتْنَا نُسَقَّى الشمسَ والليلُ راكدٌ . . . ونَقْرُبُ من بَدْر السماء وما قربْ
وقد حجبَ الغيمُ الهلالَ كأنهُ . . . ستارة شَرْبٍ خَلْفها وَجْهُ من أُحِبّ
كأنِّ الثريَّا تحت حُلكة لوْنها . . . مداهنُ بِلَّوْرٍ على الأرض تَضْطَرِبْ
وقال : الطويل :
كأنَ السحابَ الغُرَّ أصْبحن أَكْؤساً . . . لنا ، وكأنَ الراحَ فيها سَنَا البَرْقِ
إلى أَنْ رأيتُ النجمَ وهْو مغرِّب . . . وأَقبل راياتُ الصباحِ من الشرق
كأن سوادَ الليلِ والصبحُ طالعٌ . . . بقايا مجال الكُحْلِ في الأعْيُنِ الزرْقِ
وقال : الطويل :
وكَأسٍ يُعِيدُ العُسْر يُسراً ، ويجتني . . . ثمارَ الغِنى للشَّرْبِ من شجر الفَقْرِ
يُوَلِّدُ فيها المزْجُ دُرّاً منضَّداً . . . كما فتتَتْ فوق الثرى نُقَطُ القَطْرِ
صغار وكبرى في الكؤوس كأنها . . . على الرّاح واواتٌ تجمّعن في سَطرِ
إذا حثَّهَا الساقِي الأغرّ حسبْتَها . . . نجومَ الثريا لُحْنَ في راحَةِ البَدْرِ
صبحتُ بها صَحْبي وقد رنْدَجَ الدُّجَى . . . بفضّة لألاء الصباحِ سَنَا الفَجْرِ
وقد أَزْهَرَت بِيضُ النجومِ كَأنّها . . . على الأُفُقِ الأعْلى قلائدُ من دُرِّوقال : الطويل :
ألاَ فاسقياني قَهوَةً ذهبيةً . . . فقد ألبسَ الآفاقَ جُنْحُ الدجى دَعَجْ
كأنَّ الثريّا والظلامُ يَحُفُها . . . فصوصُ لجَيْنٍ قد أحاط بِهَا سَبَجْ
كأنَّ نجومَ الليلِ تحتَ سوادِهِ . . . إذا جَن ، زنجيٌّ تَبَسَّمَ عن فلج
وقال : الطويل :
أيا دَيْر مَرْحَنّا ، سقَتْك رعودُ . . . من الغَيْمِ يهمي مُزْنها ويجودُ
فكم واصلتْنا في رُبَاك أَوَانِسُ . . . يَطُفْنَ علينا بالمُدَامَةِ غِيدُ
وكم ناب عن نُورِ الضحى فيك مَبْسِمٌ . . . ونابَتْ عن الوردِ الجنيِّ خُدُودُ
وماسَتْ على الكُثبانِ قضبانُ فِضَّة . . . فأَثْقَلها من حَمْلِهِنّ نُهودُ
وإذْ لِمَّتِي لم يوقِظِ الشيبُ ليلَها . . . وإذْ أَثَرِيَ في الغانياتِ حَمِيدُ
لياليَ أغدُو بين ثوبَيْ صبابةٍ . . . ولَهْوٍ ، وأيامُ الزمانِ هُجُودُ
وقال : البسيط :
سأَلْته قُبْلَةً منه على عَجَل . . . فاحمرَّ من خَجَل واصفَرَّ من وَجَلِ
وَاعْتَلَّ ما بينَ إسعافٍ يرقِّقُه . . . وبين مَنْعٍ تمادَى فيه بالعِلَل
وقال : وَجْهيَ بَدْرٌ لا خفاءَ بهِ . . . ومبْصِرُ البَدْرِ لا يَدْعُوهُ للقُبَلِ
وهذا ينظرُ إلى قوله : مجزوء الوافر :
أباحَ لمُقلتي السهرَا . . . وجار عليّ واقْتَدَرَا
غزالٌ لو جَرَى نَفَسي . . . عليه لذَابَ وانْفَطَرَا
ولَكِنْ عينُه حشَدَتْ . . . عَليَّ الغنْجَ والحوَرا
ومَنْ أَوْدَى به قمرٌ . . . فكيفَ يعاتبُ القمرَا ؟كأنه ذهب إلى قول أبي نُوَاس : مجزوء الوافر :
كأنَ ثيابه أَطْلَع . . . نْ أزراره قَمَرَا
يزيدك وَجْهُه حُسْناً . . . إذا ما زِدْتَه نظَرا
بعيْني خَالَطَ التفْتي . . . رُ مِنْ أجفانها الْحَوَرَا
ووَجْهٍ سابِريّ لو . . . تَصوَّب ماؤه قطَرا
قيل للجاحظ : مَنْ أنْشَدُ الناس وأشعرهم ؟ قال : الذي يقول ، وأنشد هذه الأبيات . ونظيرُ قولهِ : مجزوء الوافر : كأنَّ ثيابَه أطلعْ . . . نَ من أزراره قمرا
قول الحكم بن قَنْبَر المازني : البسيط :
ويْلِي على مَنْ أطارَ النومَ فامتنعا . . . وزاد قلبي إلى أوجاعِه وَجَعا
وقال تميم : الخفيف :
نَقبَتْ وَجْهَها بخَزٍّ وجَاءتْ . . . بمُدَامٍ مُنَقَّبٍ بزُجَاج
فتأمَّلْتُ في النقابَيْنِ منها . . . قمراً طالعاً وضوءَ سرَاجِ
فاسقيَاني بلا مِزَاجٍ فإني . . . في المعالي صِرْفٌ بغير مِزَاجِ
وانظرا الأفْقَ كيف بدّله الإص . . . باحُ من بَعْدِ آبنُوسٍ بعَاجِ
وقال : البسيط :
إذا حَذِرْتَ زَماناً لا تُسَرُّ بهِ . . . كم قد أتى سَهْلُ دهرٍ بعد أَصْعَبِهِ
فاقبَلْ من الدهرِ ما أعْطَاكَ مختلطاً . . . لعل مُرَّك يَحْلُو في تقلّبِهِ
خُذْها إليك ، ودَعْ لَوْمي ، مشَعْشَعَةً . . . من كفِّ أقنى أسيل الخدِّ مُذْهَبِهِفي كل مَعْقِد حسن فيه مُعْتَرِضٌ . . . عليه يَحْميه من أن تَستبدَّ به
فكُحْلُ عينيه ممنوعٌ بخَنْجَرهٍ . . . ووَرْدُ خدَّيْهِ مَحْمِيٌّ بِعَقْرَبه
لا تترك القَدَحَ الملآن في يدهِ . . . إني أخافُ عليه من تلهُّبِه
فصُنْه عن سَقينا ؛ إني أَغَارُ بِهِ . . . وسَقِّه واسْقني من فَضْل مَشْرَبه
وانظُر إلى الليلِ كالزنْجِيِّ منهزِماً . . . والصبحُ في إثره يَعدُو بأَشْهَبِه
والبدرُ مُنتصِبٌ ما بين أنْجُمه . . . كأنه مَلِكٌ ما بَينَ مَوْكِبه
من المختار من شعر تميم بن المعز
وإذا أفضيت إلى ذكره ، فهاك من مختار شعره ، قال : البسيط :
مُسْتَقْبَلٌ بالذي يَهْوَى وإن كَثُرَتْ . . . منه الذنوبُ ومَقْبُولٌ بما صَنَعا
في وَجْهِهِ شافعٌ يَمْحُو إساءتَهُ . . . من القلوب وَجِيهٌ حيثما شفعَا
كأنما الشمسُ مِنْ أثوابه برزَت . . . حُسْناً ، أو البدرُ من أزرارِه طَلَعا
استعارة مأخوذة من قول الآخر ، وهو ابن زُريق : البسيط :
أستودعُ الله في بغدادَ لِي قمراً . . . بالكَرْخ من فَلَكِ الأزرار مطلَعهُ
ومن قول أحمد بن يحيى الفران : مجزوء الوافر :
بَدَا فكانّما قمرٌ . . . على أزراره طلَعَا
يحث المسكَ من عَرقِ ال . . . جبين بنانُه وَلَعا
وقال أبو ذرّ أستاذ سيف الدولةِ : الكامل :
نفسي الفِدَاء لمن عصيت عَواذِلي . . . في حُبِّهِ لم أَخْشَ مِنْ رُقَبَائِهِ
الشمس تظهرُ في أَسِرَّة وجْهِهِ . . . والبدرُ يَطْلُعُ من خِلاَل قَبَائِهِوقال تميم : الطويل :
أأعذل قَلبِي وَهْوَ لِي غيرُ عاذِل . . . وأَعْصي غرامي وهو ما بين أَضلعي ؟
ومَنْ لي بِصَبْرٍ أَستزيلُ به الجَوى . . . ولا جلدي طوعي ولا كبدي معِي
فأَوَّلُ شوقِي كانَ آخر سَلْوَتي . . . وآخرُ صبْرِي كان أوَّلَ أَدْمُعِي
وقال : مجزوء الكامل :
وَرْدُ الخدودِ أَرَقُ من . . . وَرْدِ الرياضِ وَأَنْعَمُ
هذا تَنَشَقُهُ الأُنو . . . فُ وذا يُقَبِّلُهُ الفَمُ
وإذا عَدَلْتُ فأفضَلُ ال . . . وردين وردٌ يُلثَم
لا وَرْدَ إلا ما توَلَّى صَبْغَ حُمْرَتهِ الدَّمُ
هذا يُشَمُّ ولا يُضَمُّ وذَا يُضمُّ ويُشْمَمُ
سُبْحان من خلق الخدو . . . دَ شقائقاً تُتَنَسَّمُ
وأَعارَها الأصداغَ فه . . . ي بها شقيق يُعْلَمُ
واستنطَقَ الأجفانَ فَه . . . ي بلَحْظِها تتكلَّم
وتُبِينُ للمحبوبِ عَنْ . . . سِرِّ الحبيبِ فيفهَمُ
وتشير إن رأتِ الرقي . . . بَ بلَحْظِها فتُسلِّم
وأَعارَها مَرضاً تصِحُّ بهِ القلوبُ وتَسْقَمُ
فِتَنُ العيون أَجَل من . . . فِتَن الخدودِ وأَعظمُ
وقال : السريع : إنْ كانتِ الألحاظُ رُسْلَ القلوب . . . فينا فما أَهْوَنَ كَيْدَ الرقيب
قبَّلْتُ مَنْ أَهوى بعيني ولم . . . يعلَمْ بتقبيليَ خَدُّ الحبيبْلكِنَّه قد فَطِنَتْ عَيْنُهُ . . . بلَحْظِ عيني فِطْنَةَ المسترِيب
إن كان علمُ الغيبِ مُسْتَخْفِياً . . . عَنّا فعِند اللّحْظِ عِلْمُ الغيوب
وقال : مجزوء الكامل :
قالوا الرحيل لخمسةٍ . . . تَأْتي سَرِيعاً من جُمادَى
فأجَبْتهمْ إني اتَّخَذْ . . . تُ له الأَسَى والحُزْنَ زادا
سبحانَ مَنْ قَسم الأسى . . . بين الأحِبّة والبِعَادا
وأَعارَ للأَجفانِ حُسْ . . . ناً تستَرِقُّ به العبَادا
وقال : الخفيف :
عَقْرَب الصُّدْغِ فوق تفّاحة الخدّ . . . نعيمٌ مُطَرَّزٌ بعذَابِ
وسيوفُ اللحاظ في كلّ حِينٍ . . . مانِعاتٌ جَنى الثنايا العِذَابِ
وعيونُ الوشاةِ يُفْسِدْن بالرِّقْ . . . بَةِ والمَنْعِ رؤيةَ الأحبابِ
فمتى يَشْتَفي المحِبُّ وتُطْفَى . . . بالتدانِي حرَارةُ الاكتئابِ ؟
وقال : البسيط :
ترى عِذَارَيْه قد قاما بِمَعْذرتي . . . عند العَذُول فيَغْدو وهو يَعْذِرُني
رِيمٌ كأنَّ له في كل جارِحةٍ . . . عِقْداً من الحُسْنِ أَوْ نَوْعاً من الفتَنِ
كأنَ جوهرَهُ من لُطْفه عَرَضٌ . . . فليس تَحْوِيهِ إلا أَعْينُ الفطَن
واللَّه ما فتَنَتْ عيني محاسنُهُ . . . إلا وقد سَحَرَتْ ألفاظُهُ أذُني
ما تُصدرُ العينُ عنه لحظَها مَلَلاً . . . لأنه كل شَخْصٍ مرتضىً حَسَنِيا منتَهى أمَلِي لا تُدْنِ لي أجَلي . . . ولا تُعَذبْ ظُنوني فيك بالظِّنن
إنْ كان وجهُك وجهاً صِيغَ من قمرٍ . . . فإنَ قدَّكَ قَدٌّ قُدَّ مِن غُصُنِ
وقال : الطويل :
ألا يا نسيمَ الريح عرَّجْ مسلِّماً . . . على ذلك الشخص البعيدِ المُوَدّع
وهُبَّ على مَنْ شَفَّ جِسْمِي بعَادُهُ . . . سَمُوماً بما استملَيْتَ من نار أَضْلُعي
فإنْ قال : ما هذا الحَرورُ ؟ فقل له : . . . تَنَفسُ مُشْتَاقٍ بحبّك مُوجَعِ
ومختارُ شعره كثير ، وقد تفرَّق منه قطعة كافية في أعراض الكتاب .
قال الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد : الطويل :
لقد رحلَتْ سُعْدَى فهل لك مُسْعِد ؟ . . . وقد أنجدَتْ داراً فهل أنت مُنْجِدُ ؟
رعيتُ بطرفي النجْمَ لمَّا رأيتها . . . تَبَاعَدُ بُعْدَ النَجْمِ بل هي أبْعَدُ
تُنيرُ الثريّا وهي قرص مسلسل . . . ويشغل منها الطرف دُرٌ مبَدَّد
وتعترِضُ الجوزاءَ وهي ككاعب . . . تَميلُ من سكرٍ بها وتَميَّدُ
وتحسبها طَوْراً أسِيرَ جِنَايةٍ . . . ترشَّحَ بعدَ المشْيِ وهو مُقَيَّدُ
ولاحَ سُهيلٌ وهو للصُبح رَاقِبٌ . . . كما سُلَّ مِنْ غمدٍ جُرَازٌ مهنَّدُ
أرَدِّدُ طَرْفِي في النجوم كأنها . . . دنانيرُ لكن السماءَ زَبَرْجَدُ
رأيتُ بها ، والصبح ما حانَ ورْدُهُ ، . . . قناديلَ والخضراءُ صَرْحٌ ممرَّدُ
وفيه لنا من مربط الشمسِ أشقرٌ . . . إذا ما جرى فالريحُ تكْبُو وتركدُ
وقال أبو علي الحاتمي : الطويل :
وليل أقمنا فيه نُعْمِل كأْسنا . . . إلى أن بَدَا للصُبح في الليل عَسْكَرُ
ونَجْمُ الثريا في السماء كأنه . . . على حُلَّةٍ زَرْقَاءَ جَيْبٌ مُدَنَّرُالبحتري : الكامل :
ولقد سَرَيْتُ مع الكواكب راكباً . . . أعجازَها بعزيمةٍ كالكوكَبِ
والليلُ في لونِ الغُرَابِ كأنه . . . هو في حُلُوكَتِه وإن لم يَنْعَبِ
والعِيسُ تَنْصُلُ من دُجَاه كما انجلَى . . . صِبّغُ الخِضَابِ عن القَذَالِ الأشْيَبِ حتى تبدَّى الفَجْرُ من جَنبَاتِه . . . كالماءِ يَلْمَعُ من خِلاَلِ الطُحْلُبِ
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الكامل :
أهلاً بفَجْرٍ قد نَضى ثوبَ الدُّجى . . . كالسيف جُرِّد من سَوَادِ قِرَابِ
أو غادةٍ شقَّتْ صِداراً أزرقاً . . . ما بين ثُغْرَتِها إلى الأتراب
وقال رجلٌ من بني الحارث بن كعب يصف الشمس : الطويل :
مخبأَة أمَّا إذا الليلُ جَنَّها . . . فتَخْفَى وأمَّا بالنهار فتظهرُ
إذا انشقَّ عنها ساطِعُ الفَجْرِ وانْجَلَى . . . دُجَى الليلِ وانجابَ الحِجَابُ المستر
وألبس عرض الأرضِ لوناً كأنهُ . . . على الأفق الشرْقِي ثوبٌ مُعَصْفَرُ
تجلّتْ وفيها حين يَبْدُو شعاعُها . . . ولم يعلُ للعينِ القصيرةِ مَنظَرُ
عليها كَرَدْع الزعفرانِ يشبّهُ . . . شعَاعٌ تَلاَلا فهو أبيضُ أَصفرُ
فلما علَتْ وابيضَّ منها اصفرارُها . . . وجالَتْ كما جَالَ المَنيحُ المشهَرُ
وجلَلتِ الآفاقَ ضوءاً ينيرها . . . بحرّ لها وَجْهَ الضُّحَى تتسعر
ترى الظل يُطْوَى حين تَبْدُو وتارةً . . . تَراه إذا زالتْ عن الأرض يُنْشَركما بدأَتْ إذْ أشرقَت في مَغِيبها . . . تعود كما عادَ الكبيرُ المعمر
وتَدْنَفُ حتى ما يكادُ شعاعُها . . . يَبِين إذا ولَت لمن يتبصَرُ
فأَفْنَت قروناً وهْيَ في ذاك لم تزَلْ . . . تموتُ وتحْيَا كل يومٍ وتنشرُ
أحسن ما قالته العرب في الجاهلية
وقال عبد الملك بن مروان لبعض جلسائه يوماً : ما أَحكم أربعة أبياتٍ قالتها العرب في الجاهلية ؟ فأنشده : الكامل :
منع البقاءَ تقلُّب الشمسِ . . . وطلوعُها من حيث لا تمسي
وطلوعُها بيضاءَ صافيةً . . . وغروبُها صفراءَ كالوَرْسِ
تجرىِ على كَبِدِ السماء كما . . . يَجْرِي حِمامُ الموتِ في النفْسِ
اليوم تَعْلَم ما يجيءُ بِه . . . ومضَى بفَصْل قضائِه أَمْسِ
قال : أحسنت ، فأخبرني بأَمْدح بيتٍ قالَتْه العرب في الشجاعة ، قال : قول كعب بن مالك الأنصاري : الكامل :
نَصِلُ السيوفَ إذا قصُرْنَ بخَطْوِنا . . . قُدُماً ، ونلحقها إذا لم تلحقِ
قال : فأخبرني بأفضل بيتٍ قيل في الجود ، فأنشده لحاتم طيئ : الكامل :
أماويُّ ، ما يُغْني الثراءُ عن الفَتَى . . . إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَدْرُ
تَرَيْ أنَّ ما أبقيْتُ لم أكُ رَبَّهُ . . . وأنَّ يدِي مِمَّا بَخِلْتُ به صِفْرُ
ألم ترَ أنَ المالَ غادٍ ورائحٌ . . . ويبقَى من المالِ الأحاديثُ والذكْرُ
غَنِيْنا زماناً بالتصَعْلك والغِنى . . . فكلاًّ سَقانَاهُ بكأسيهما الدَهرُفما زادَنا بَغْياً على فذي قرابةٍ . . . غِنَاناً ، ولا أَزرى بأحسابِنا الفَقْرُ
قال : فأخبرني عن أحسَن الناس وصفاً ، قال : الذي يقول : الطويل :
كأن قلوب الطيرِ رَطْباً ويابساً . . . لدَى وَكْرِها العُنّابُ والحَشَفُ البَالي
والذي يقول : الطويِل :
كأنَ عيونَ الوَحْشِ حول خِبَائِنا . . . وأرحُلِنا الجَزْعُ الذِي لم يُثَقبِ
والذي يقوله : الطويل :
وتعرِفُ فيه من أبيه شَمائلاً . . . ومن خَالِه ومن يزيدَ ومِنْ حُجُرْ
سماحةَ ذَا ، مع بِرِّ ذَا ، ووفاءَ ذَا . . . ونائلَ ذَا ، إذا صَحَا وإذا سَكِرْ
يريد امرأ القيس .
ومن ألفاظ أهل العصر في طلوع الشمس وغروبها ومتوع النهار وانتصافه ، وابتدائه ، وانتهائه
بدا حاجِبُ الشمس ، ولمعَتْ في أجنحَة الطيرِ ، وكشفَتْ قِناعَها ، ونثرتْ شُعاعَها ، وارتفع سُرادِقُها ، وأضاءتْ مشارِقُها ، وانتشر جناحُ الضوء في أفق الجو . طَنّبَ شعاعُ الشمس في الآفاق ، وذهبَتْ أطراف الجدران . أينع النهار وارتفع . استوى شَبَابُ النهار ، وعلا رونق الضحى ، وبلغت الشمسُ كبد السماء . انتعل كل شيء ظله ، وقام قائمُ الهاجِرَة ، ورمَت الشمس بجَمَراتِ الظهر . اصفرَتْ غِلاَلَةُ الشمسِ ، وصارت كأنها الدينارُ يلمعُ في قرارِ الماء ، ونفضَتْ تِبراً على الأصيل ، وشَدَّتْ رَحْلَها للرحيل ، وتصوّبَتْالشمسُ للمغيب ، وتضيّفَتْ للغروب فأَذِن جَنْبُها للوُجوب . شاب النهارُ ، وأقبل شبابُ الليلِ ، ووقفت الشمسُ للعيان ، وشافَهَ الليلُ لسان النهارِ . الشمسُ قد أشرقَتْ بروجُها ، وجنحت للغروب ، وشافَهتْ دَرج الوجوبِ . الجوُ في أطمارٍ مُنْهَجَةٍ من أَصائله ، وشفوت مورَّسَة من غَلاَئله . استتر وَجْهُ الشمسِ بالنِّقَاب ، وتوارَتْ بالحجابِ . كان هذا الأمرُ من مطلع الفلق ، إلى مجتمع الغَسَق . فلانٌ يركبُ في مقدمة الصُبح ، ويرجع في ساقة الشفق ، ومن حين تفتحُ الشمس جَفْنَها ، إلى أن تغمض طَرْفها ، ومن حين تسكنُ الطيرُ أوكارَها ، إلى حينِ ينزلُ السَّرَاةُ مِنْ أكوارِها .
مقامة لأبي الفتح الإسكندري من إنشاء البديع ، اتصَلَتْ بذكرِ الليلِ والنهار .
قال عيسى بن هشَام : كنت وَأنا فَتِيُّ السنِّ أشدُّ رَحْلي لكلّ عَمَاية ، وأركضُ طِرْفِي لكل غَوَاية ، حتى شرِبْتُ من العُمْرِ سائغه ، ولبسْتُ من الدهر سابغَه ، فلما صاح النهارُ بجانب ليلي ، وجمعتُ للمعادِ ذَيْلِي ، وطِئْتُ ظهْرَ المَرُوضةِ ، لأداء المفروضة ، وصَحِبَنِي في الطريق رَجُل لم أنكره من سوء ، فلمّا تخالينا ، وحين تجالينا ، سفَرَتِ القصَّةُ عن أصل كوفيٍّ ومَذْهَب صوفِيٍّ ، وسِرْنا فلمّا حللْنا الكوفةَ مِلْنَا إلى داره ودخلناها وقد بَقَل وجهُ النهار ، واخضرَّ جانبُهُ ، ولما اغتمض جَفْنُ الليل وطَرَّ شارِبُه قُرعَ علينَا البابُ ، فقلْنا : من القارعُ المُنتابُ ؟ فقال : وَفْدُ الليل وبريده ، وفَل الجوع وطريده ، وأسير الضرّ ، والزمن المرّ ، وضيفٌ وطْؤُه خفيف ، وضالته رَغِيف ، وجارٌ يَستَعْدِي على الجوع ، والجَيْبِ المَرقوع ، وغريب أُوقِدت النارُ على سفره ، ونبحَ العَوَّاء في أثره ، ونُبِذت خَلْفه الحُصياتُ ، وكُنِسَتْ بعده العَرَصَات ، فنِضْوُه طَليح ، وعَيْشُه تبريح ، ومن دون أفراخه مَهَامِهُ فيح .قال عيسى بن هشام : فقبَضْتُ من كيسي قَبْضَةَ الليثِ وبعثْتُهَا إليه ، وقلتُ زِدْنَا سؤالاً نزِدْكَ نَوَالاً ، فقال : ما عُرِض عَرْفُ العودِ ، على أحرَ من نار الجُودِ ، ولا لُقيَ وَفْد البِرِّ ، بأَحسن من بريد الشكر ، ومن ملك الفَضْل فَلْيواس ، فلا يَذْهبُ العُرْفُ بين الله والناس ، وأما أَنتَ فحقَّق الله أملَك ، وجعَل اليدَ العُلْيَا لك .
قال عيسى بن هشام : ففتحْنا البابَ ، فإذا شيخُنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلْنا : يا أبا الفتح ، شدَّ ما بلَغتْ بك الخَصَاصَةُ ، وهذا الزيُ خاصة فتبسَّم وأنشأ يقول : مجزوء الخفيف :
لا يَغزَنَكَ الذي . . . أنا فيه من الطَلبْ
أنا في بُرْدَة تُشَقُّ لها بُرْدَةُ الطَرَبْ
أنا لو شِئتُ لاتخَذْ . . . تُ شِقَاقاً من الذهَبْ
وكتب البديعُ إلى بعض إخوانه : غضبُ العاشقِ أقصرُ عمراً من أن ينتظِرَ عُذْراً ، وإن كان في الظاهر مَهَابة سيْف ، إنه في الباطن سحابةُ صَيْف ، وقد رَابَني إعراضه صَفْحاً ؛ أفجدَاً قصدَ أمْ مَزْحاً ، ولو التبس القَلْبَان حق التباسهما ما وجد الشيطانُ بينهما مساغاً ، ولا والله لا أرِيكَ رَدّاً ، أجِدُ منهُ بدّاً ، وإن محبة تحتمل شَكّاً لأجْدَرُ محبة ، ألا تُشْتَرى بحبَّةٍ ، وإنْ كان قصَدَ مَزحاً فما أغناها عن مَزْح يحل عُقَد الفؤاد حتى نقف على المراد ، ولا تسعنا إلا العافية والسلام . وله إليه : المودة - أعزَك الله - غَيْب ، وهو في مكان من الصَّدْر ، لا ينفذه بصر ، ولا يُدرِكُه نَظَر ، ولكنها تُعْرَف ضرورة ، وإن لم تظهر صُورَة ، ويدرِكها الناس ، وإن لم تدركها الحوَاس ، ويستَمْلي المرءُ صحيفَتَها من صدره ، ويعلم حالَ غيرِه من نفسه ، ويعلم أنها حبٌّ وراء القلب ، وقلب وراء الخِلب ، وخِلْب وراءَ العَظم ، وعَظمٌ وراء اللحم ، ولحم ورَاءَ الجلد ، وجلد وراء البُرْد ، وبُرد وراء البعد . ولو كانت هذه الحجُبُ قوارير لم ينفذها نظر ، فيستَدِلّ عليها بغيرِ هذه الحاسة بدليل إلا أن أزوره ، والله لو التبست به التباساً ، يجعل رأسينا رأساً ، ما زدته وداً ، ولو حال بيني وبينه سُورُ الأعرافِ ، ورمْلُ الأحقافِ ، ما نقصته حقاً .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الخفيف :
وغَزَالِ مَنَحتُه ظهرَ الودِّ . . . فجازَى بالصدِّ والانتحاب
لم ألمهُ إن ردني لحجابٍ . . . ردني والِهَ الفؤاد لِمَا بيهو روح وليس يُنْكَر للرُّو . . . حِ تَوَارٍ عن الوَرَى بحِجَابِ
وللبديع إلى أخيه : كتابي أطال الله بقاءَك ، ونحن وإن بَعُدَتِ الدارُ فَرعاَ نَبْعَة ، فلا يَجْنِينَّ بُعْدِي على قُرْبك ، ولا تمحوَنّ ذِكْرِي من قلبك ، فالأَخَوَان ، وإن كان أحدُهما بخراسان والآخر بالحجاز ، مجتمعان على الحقيقةِ مفترقان على المجاز ، والاثنان ، في المعنى واحد وفي اللفظ اثنَانِ ، وما بيني وبينك إلا ستر ، طولُهُ فِترُ ، وإن صاحبني رَفيق ، اسمه توفيق ، لنلتقينَّ سريعاً ولنسعدَنّ جميعاً ، واللَّهُ وليُ المأمول .
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانه : قد قرُبَ - أيَّدك اللّه - محلّك على تراخِيه ، وتَصاقَب مستقرُّك على تَنَائيه ، لأنّ الشوقَ يمثّلُك ، والذكر يخيّلك ؛ فنحنُ في الظاهر على افتراق ، وفي الباطن على تلاق ، وفي التسميةِ مُتَباينون ، وفي المعنى متواصلُون ، وإن تفارقت الأشباحُ ، لقد تعانقت الأرواح .
جملة من كلام ابن المعتز في الفصول القصار
الدهرُ سريعُ الوثبة ، شنيع العَثْرَة . أهلُ الدنيا كرَكْبٍ يُسَارُ بهم وهم نِيام . والناسُ وَفْدُ البِلَى ، وسكّان الثَّرَى ، وأَقْران الرَّدىَ . المرءُ نُصْبُ الحوادثِ وأسيرُ الاغترار . الآمالُ حَصَائِدُ الرجالِ . الْحِرْصُ يَنْقُصُ المرءَ من قَدْرِه ، ولا يزيدُ في رِزْقه . الكذب والحسدُ والنفاق أَثافِيّ الذل . النّمامُ جسْرُ الشرّ . الحاسدُ اسمُه صديق ومعناه عدو . الحاسدُ ساخِطٌ على القدَر ، مغتاظٌ على من لا ذنْبَ له ، بخيل بما لا يملِكُه ، يشفيك منه أنه يغتمُّ في وقت سرورِك . الفُرْصَة سريعةُ الفَوْتِ بَطيئةُ العَوْد . الصبرُ من ذي المصيبة مصيبةٌ على ذوِي الشَّمات . التواضعُ سُلَّم الشرف ، والجُودُ صِوَانُ العرْضِ من الذمّ . الغَدر قاطع الأسرار إذا كثر خُزانها ازدادت ضياعاً . السوءُ كشجرة النار يَحْرِق بعضُها بعضاً . عَبْدُ الشهوة أَذلّ من عبد الرقّ . وعاء الخطأ بالصَّمْت يختم ، والخرق بالرفْقِ يلحم . الوَعْدُ مرضُ المعروف ، والإنجازُ برؤه ، والمَطْل تلفه . إذا حَضرَ الأجل ، افتضح الأمل . لا تشَنْ وَجْهَ العفوِ بالتقريع . لا تنكحْ خاطبَ سِرك . ومن زَاد أَدَبُه على عقله كان كالراعي الضعيف مع شاءٍ كثيرة .قال أبو العباس الناشئ لأبي سهل بن نوبخت : الطويل :
زعمت أبا سهل بأنك جامعٌ . . . ضُروباً من الآداب يجمعُها الكَهْلُ
وهبكَ تقولُ الحقّ أي فضيلةً . . . تكونُ لذي عِلْمٍ وليس له عَقْلُ
والهمّ حبس الروح . قلوب العقلاءِ حصونُ الأسرار . مَن كرُمَت عليه نفسه هان عليه ماله . من جرى في عنان أمله ؛ عثر بأجَلِه . ما كل من يُحْسِنُ وعدَه يحسنُ إنجازه . ربما أوردَ الطمع ولم يصدِر ، وضمن ولم يوفِ . وربما شرق شارب الماءِ قبل ريّه . من تجاوزَ الكفافَ لم يقنِعه إكثار . كلّما عظُم قَدرُ المُنَافَسِ فيه عظمت الفجيعةُ بفَقْدِه ، ومن أَرْحَلَهُ الْحِرْص أنضَاه الطلب . الأماني تعمي أعيُنَ البصائر ، والحظ يأتي من لم يؤمه . وربما كان الطمع وعَاءً حَشوه المتالف ، وسائقاً يَدعُو إلى الندامة . ما أحْلَى تلقّي البغية ، وأمرَّ عاقبة الفراق . من لم يتأمل الأمرَ بعَينِ عقله ، لم تَقَعْ حيلتُه إلا على مَقَاتِلِه .
من شعر أبي العباس الناشئ في التعزية
وقال أبو العباس يَرثي المعتضد : الطويل :
قضَوا ما قضَوا من أَمرهم ثم قدَّموا . . . إماماً إمام الْخَلق بين يَدَيْه
وصلّوا عليه خاشعين كأنهم . . . صفوفٌ قيام للسلامِ عليه
وقال يَرثيه الكامل :
قالت شريرة ما لجَفنِك ساهراً . . . قَلِقاً ، وقد هدأَتْ عيونُ النُّومِ
ما قد رأيت من الزمانِ أحل بي . . . هذا ، وتحت الصَدْرِ ما لم تَعْلَمِي
يا نفس ، صبراً للزمانِ ورَيبِه . . . فهو المليء بما كرهْتِ فسلِّمي
إن الذي حاز الفضائلَ كلَّها . . . هو ذاك في قَعْرِ الضريحِ المُظْلمِ
أما السيوفُ فمن صنائع بَأْسهِ . . . لولاه لم يَرْوَيْن من سَفْكِ الدَّم
وكأنَّ أَحْدَاثَ الزمانِ عبيدهُ . . . فمتى يؤخِّرهن لا تستقدم
يَقْظَان من سِنَة المضيِّع قَلْبَهُ . . . ومعوّل للمُعْوِلٍ المتظلِّم
يَرْعَى الضغائن قبل ساعةِ فرصةٍ . . . فإذا رآها أمكَنَتْ لم يُحْجمِ
كم فرصة تُرِكَتْ فصارَتْ غصَّةً . . . تَشْجَى بطولِ تلهّفٍ وتَنَدُّمِ
ولربَّ كَيْدٍ ظلَّ يَسْجُد بعدها . . . في بشْرِ وَجْهٍ مطلَقٍ متجهِّمِ
وهي المنايا إن رمين بنَبْلِها . . . يرمين في نَفْس الأجلّ الأعْظم
للَّهِ دَرُّك أي ليث كتيبةٍ . . . والخيلُ تعثر بالقَنَا المتحطّم
ولقد عمرت ولا حريم معاند . . . حرمٌ ولا الإسلام بالمستسلموقال للمعتضد يعزّيه بابنهِ هارون : البسيط :
يا ناصرَ الدينِ إذ هُدَّتْ قواعِدُهُ . . . وأَصْدَقَ الناسِ في بُؤْسى وإنعام
وقائدَ الخيلِ مذ شُدَّتْ مآزرُهُ . . . مذلَّلاَتٍ بإسْرَاجٍ وإلجامِ
كأنهن قناً ليسَتْ لها عُقَدٌ . . . يهزُّهَا الزَّخرُ في كرٍّ وإقدامِ
قُبّ كطيِّ ثيابِ العَصْب مضمرة . . . تقرِّبُ النارَ بين البيض والهامِ
وسائسَ الملك يَرْعاه ويكلؤُهُ . . . إذا حَلاَ الغَمْضُ في أجفانِ نُوَّامِ
تَمْرِي أنَامِلُه الدنيا لصاحبها . . . ونَصلُه مِنْ عِدَاهُ قاطرٌ دامِي
كالسَّهْمِ يبعثهُ الرَّامِي فصفحتهُ . . . تَلْقى الرََّدَى دونَه ، والفُوقُ للرامِي
لا يَشْتَكي الدَّهرَ إنْ خَطْبٌ ألمَّ بهِ . . . إلا إلى صَعْدَةٍ أو حَدِّ صمصامِ
صبراً فدَيْنَاك إنّ الصبرَ عادَتُنَا . . . وإن طُوِينَا على حُزْنٍ وتهيام
فبادِر الأجْرَ نحو الصَّبْر محتَسِباً . . . إنَ الجزوعَ صبُورٌ بعد أيامِ
ولما ماتت دُريدة ، وهي جارِيةٌ المعتضد ، وكانت مَكِينة عنده ، جزع عليها جزعاً شديداً ، فقال له عبيد الله بن سليمان : مثلُك يا أميرَ المؤمنين تَهُون عليه المصائبُ ؛ لأنّك تجدُ من كل فقيدٍ خَلَفاً ، وتنالُ جميعَ ما تريد من العِوَض ، والعِوَض لا يوجَد منك ، فلا ابْتَلى الله الإسلام بفقْدِك ، وعمره بطولِ بقاء عُمْرك ، وكأنَّ الشاعر عَنَى أمير المؤمنين بقوله : البسيط :
يُبْكَى علينا ولا نَبْكِي على أَحَدٍ . . . لنَحْنُ أغْلَظُ أكباداً من الإبلِ
فضحك المعتضد وتسلّى وعاد إلى عادته .
قال محمد بن داود الجراح : فلقيني عبيدُ الله فأخبرني بذلك ، وقال : أردت شعراً في معنى البيت الذي أنشدته فما وجدته ؛ فقلت له : قد قال البطين البجلي : الطويل :
طوى الموتُ ما بيني وبين أَحبَّةٍ . . . بهم كُنت أعْطِي مَنْ أشاء وأمنعُ
فلا يحسب الوَاشُون أن قَناتَنا . . . تَلِينُ ، ولا أنا من الموتِ نَجْزَعُ
ولكنَّ للأُلاّفِ لا بدَّ لَوْعَةًإذا جعلت أقرانها تتطلَعُ
فكتبه ، وقال : لو حفظته لما عدلتُ عنه .رجع إلى ابن المعتز
وقال ابن المعتز ، وذكر الموتى : الطويل :
وسُكَّانِ دارٍ لا تَزَاوُرَ بينهم . . . على قُرْبِ بعضٍ في المحلة من بَعْضِ كأن خواتيما من الطينِ فوقهم . . . فليس لها حتى القيامة من فَضّ
وقال يمدح عبيد الله بن سليمان : الطويل :
أيا مُوصِلَ النُعْمَى على كلّ حالةٍ . . . إليَّ قريباً كنتُ أو نازحَ الدارِ
كما يلحق الغيثُ البلادَ بسَيْلِه . . . وإن جادَ في أَرضٍ سِواها بإمطار
ويا مقبلاً والدَّهْرُ عنيَ مُعْرضٌ . . . يقسّمُ لَحْمِي بين ناب وأظفارِ
ويا مَنْ يَرَانِي حيث كنتُ بِقلبهِ . . . وكم من أناسٍ لا يَرَوْنً بأَبْصَارِ
لقد رُمْتَ بي آمالَ نفسيَ كلّها . . . فيا لَهْفَ نفسِي لو أُعِنْتَ بمقدار
ذكرتَ مُنى سَمْع الإمام وعينه . . . ورفعت ناري كي يرى ضوءها الساري
وكم نعمةٍ للَّهِ في صرْفِ نِقْمَةٍ . . . ترجى ومكروهٍ حَلاَ بعد إمرار
وما كل ما تَهْوَى النفوس بنافعٍ . . . ولا كلّ ما تخشى النفوسُ بضَرّار
قوله :
كما يلحق الغيثُ البلادَ بسَيْله
مأخوذ من قول نهشل بن حري وقد بعث إليه كثير بن الصَّلْتِ كسوةً ومالاً من المدينة : الطويل :
جزَى الله خيراً والجزاءُ بكفّهِ . . . بني الصَّلْتِ إخوانَ السماحةِ والمجدِ
أتاني وأَهْلِي بالعراق نداهُمُ . . . كما انقضَّ سيل من تهامة أو نجدِ
وقال ابن المَوْلى : الوافر :
سُرِرْتُ بجعفرٍ إذْ حَل أَرْضِي . . . كما سُرّ المسافِرُ بالإيَابِ
كممطورٍ ببلدتهِ فأَضْحَى . . . غَنِيّاً عن مطالَعة السَّحابِ
وبعث عبدُ الله بنُ طاهر إلى أبي الجنوب بن أبي حفصة وهو ببغداد عشرين ألفَ دِرْهم فقال : الطويل :
لعمري لنعم الغَيْثُ غيثٌ أصابنا . . . ببغدادَ من أَرْض الجزيرةِ وَابِلُهْونِعْمَ الفتى والبِيدُ بيني وبينهُ . . . بعشرين ألفاً صبحَتْنِي رسائِلُهْ
فكنَّا كحيٍّ صبَّحَ الغَيْثُ أهلهُ . . . ولم تنتجَع أظعانُه وحَمَائلُهْ
أتى جودُ عبدِ الله حتى كفت بهِ . . . رواحلَنا سيرَ الفَلاَةِ رَوَاحِلُهْ
من أخبار عضد الدولة في شجاع
وكانت بنو كلاب ومن والاَها من العرب بنواحي الكوفة تجمَّعوا وعزَمُوا على أَخْذِ الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة ، فبعث أبو شجاع عضد الدولة دِنير بن لشكروز فأصلحهما ، وكان أبو الطيب المتنبي بها فوصله وبعث إليه خلعاً وقاد إليه فرساً بسَرْجٍ ثقيل ، فقال في قصيدة : الطويل :
فلو لم يَسِرْ سِرْنَا إلْيه بأنفُسٍ . . . غرائِبَ يُؤْثِرْنَ الجِيادَ على الأهْلِ
وما أنا ممن يَدَّعِي الشَوق قلبُه . . . ويعتَلّ في تَرْكِ الزيارةِ بالشُّغْل
ولكن رأَيت الفَضْلَ في القَصْد شِرْكَة . . . فكان لكَ الفَضلانِ في القَصْدِ والفَضْل
وليسَ الذي يتَّبَّع الوَبْلَ رائداً . . . كمَنْ جاءه في دَارِه رائِدُ الوَبْل
عود إلى ابن المعتز
وكان ابنُ المعتز يمدحُ أبا أحمد بن المتوكل ، ويلقّب بالناصر والموفّق ، وكانت حالُه ترامَت في أيام المعتضد إلى غاية لم يبلغها الخليفة ، وقد ذكرها الصولي في قصيدة لصاحب المغرب ، فقال وقد اقتصَّ خلفاء بني العباس من أوّلهم : الطويل :
ومعتضد مِنْ بعده وموفق . . . يُرَدِّدُ من إرث الخلافةِ ما ذَهبْ
مُوَازٍ لهم في كل فَضْل وسؤدد . . . وإنْ لم يكن في العدّ منهم لِمَن حَسَبْ
وقال المعتضد ، أو قِيلَ على لسانه ، لما غلب الموفَّق على أمره : الوافر :
أليس من العجائبِ أنّ مثلي . . . يرى ما هَانَ ممتنعاً عليهِ
وتؤخذ باسْمِه الدنيا جميعاً . . . وما مِنْ ذاك شيء في يديهِوشعر ابن المعتز فيه : الطويل :
إليك امتطينا العِيسَ تنفخ في البُرى . . . وللصُبْحِ طَرْفٌ بالظلامِ كَحيلُ
صَدِينَ من التَّهْجِير حتى كأنها . . . سيوفٌ جَلاها الصَّقْل فهي تحُولُ فبتْنَا ضيوفاً للفَلاَةِ قِرَاهُمُ . . . عَنِيقٌ ونَصٌّ دائمٌ وذَمِيلُ
يهرُّ بُرُودَ العَصْبِ فَوْقَ متونِها . . . نسيمٌ كنَفْثِ الراقياتِ عَلِيلُ
ولمّا طغى أَمْرُ الدَّعيّ رميتَهُ . . . بعَزْمٍ يردُّ العَضْبَ وهو فَلِيلُ
وجرّد من أغماده كل مُرْهَف . . . إذا ما انتضَتْه الكفُّ كاد يَسيلُ
جرَى فوق مَتْنَيه الفرنْدُ كأنما . . . تنفس فيه القَيْنُ وهو صقيلُ
وأعلمته كيف التصافُح بالقَنَا . . . وكيف تُروَّى البيضُ وَهْيَ مُحُولُ
سريعٌ إلى الأعداء ، أَما جنابُه . . . فماضٍ ، وأمّا وَجْهُه فجميل
ويقْري السؤال العُذْر من بَعد ماله . . . ويستصغرُ المعروفَ حين يَنيلُ
أخذ معنى قوله : نسيم كنفث الراقيات عليل عبدُ الكريم بنُ إبراهيم ، فقال : المتقارب :
سلامّ على طِيب رَوْحاتنا . . . إلى القَصرِ والنَّهَرِ الخِضرِمِ
إلى مُزبِدِ المَوْج طامِي العبَا . . . ب يقذِفُ بالْبَانِ والساسَم
تخالُ به قَطَماً مُقرَماً . . . يكرّ على قَطَمٍ مُقْرمِ
ويَسجو فيسحب في ذائل . . . يَمَانٍ تَسهَّم بالأنجُم
كأنّ الشمال على وَجهِه . . . بها سَقَم وهي لَمْ تَسْقَمِ
ضعيفة رَشّ كنَفْثِ الرّقى . . . على كبد المُدْنف المُغْرَمِ
إذا دَرجَتْ فوقه دَرَجَت . . . ه في حَبَك الزَّرَدِ المحْكمِ
وقد جللتهُ بأَوراقِها . . . فروعٌ غَذتْها نِطَافُ السَّمِعلَتها الحمامُ بتغريدها . . . كما سجَعَ النوْحُ في مَأتمِ
كأن شعاعَ الضحَى بينها . . . على السوسن الغضّ والخُرَّمِ
وشائع من ذَهَب سائل . . . على خسروَانيَّة نُعَّم
رُباً تتفقأ من فوقها . . . عَزَالي الربيع لهَا المرْهِمِ
على كل محبية خلة . . . تسَدَّى على جَدوَلٍ مفعَم
كما فتل الوَقْفَ صَوَّاغُه . . . وكالأرقم انْسَابَ للأَرقم
وقول ابن المعتز : ولما طغا أمرُ الدعيّ يريد صاحب الزنج بالبصرة ، وكانت شوكته قد اشتدت وظُفر به بعد مواقعة كثيرة ، وفي ذلك يقول ابنُ الرومي في قصيدة طويلة جداً يمدح فيها أبا أحمد الموفق بن المتوكل ، وصاعد بن خالد ، والعلاء بن صاعد ابنه ، وهي من أجود شعره ، فقال : الطويل :
أبا أَحمدٍ ، أَبْلَيْتَ أمّةَ أحمدٍ . . . بلاءً سيرضاهُ ابنُ عمك أحمَدُ
حصرت عميدَ الزنج حتى تخاذلَتْ . . . قُواه ، وأَودى زادُه المتزوَدُ
فظلَّ ، ولم تقتلْه ، بلفظ نفسهُ . . . وظلَّ ، ولم تأسِرْه ، وهوَ مقَيدُ
وكانَتْ نواحِيه كثَافاً فلم تَزَلْ . . . تحيّفُهَا شَحْذاً كأنكَ مِبرَدُ
تفرّق عنه بالمكايد جُنْدُهُ . . . ويزدادهم جنداً وجندك محصَدُ
ولابِسُ سَيْفِ القرْنِ بعد استلابِه . . . أَضرُّ له من كاسديه وأكْيَدُ
فما رُمْته حتى استقلَّ برَأْسِه . . . مكان قناةِ الظهر أسمرُ أَجرَدُ
هذا مأخوذ من قول مسلم بن الوليد البسيط :
ورأس مهْراقَ قد ركبْتُ قُلَّتَهُ . . . لدْنا يقوم مقامَ اللَّيتِ والجيدِ
الطويل :
ولم تأل إنذاراً له غيرَ أنهُ . . . رأى أن مَتنَ البحرِ صَرْحٌ ممرَّدُ
سكَنْتَ سكوناً كان رَهْناً بوَثْبةٍ . . . عَماسٍ ، كذاك الليث للوَثْبِ يلبدُهذا مأخوذ من قول النابغة : البسيط :
وقلت يا قومُ إنَّ اللَّيثَ مُنقبضٌ . . . على براثنِهِ ، لِوَثْبَةِ الضارِي
ويقول في مدح صاعد : الطويل :
يقرَّظُ إلا أنّ ما قيلَ دونهُ . . . ويوصَفُ إلا أنه لا يحدَّدُ
أرق من الماء الذي في حُسَامِه . . . طِباعاً ، وأَمْضَى من شَبَاهُ وأَنْجَدُ له سَوْرَة مُكْتَنةٌ في سَكينةٍ . . . كما اكتنَّ في الغِمْدِ الجُرَازُ المهنّدُ
كأن أباه حين سمَاه صاعداً . . . رأى كيف يَرْقَى في المعالي ويَصْعَدُ
لما سمع البحتري هذا البيت قال : مني أخذه ، في قوله في العلاء بن صاعد : الكامل :
سماه أسرته العَلاَء وإنما . . . قصدوا بذلك أنْ يتمَّ عُلاَهُ
وهذا في قوله ، كما قال ابن المرزبان وقد أنشد لابن المعتز في مناقضة الطالبيين : المتقارب :
دَعُوا الأسْدَ تسكنُ في غابهَا . . . ولا تدخلوا بين أَنْيَابها
فنحن ورثْنَا ثيابَ النبي . . . فَلِمْ تجذِبُونَ بهدَّابها
قال : قد أخذه من أقول ، بعض العباسيين : المتقارب :
دَعُوا الأسْدَ تسكن أَغيالها . . . ولا تقربوها وأَشْبَالَها
ولكنه سرق سَاجاً ، وردَّ عاجاً ، وغلَّ قطيفة ، وردّ دِيباجاً .
ومن قصيدة ابن الرومي : الطويل :
تراه على الحَرْبِ العَوَانِ بمنزل . . . وآثارُه فيها ، وإنْ غابَ ، شُهَّدُ
كما احتجب المقدارُ والحكم حكمهُ . . . على الخلق طُرَّاً ليس عنه مُعَرَّدُالبحتري : الكامل : ؟ وَليَ الأمورَ بنفسه ، ومَحَلُّها مُتَقارِبٌ ، ومرامها مُتَباعِدُ
يَتَكَفَلُ الأدنَى ، ويدْرِكُ رأيَهُ ال . . . أَقصى ، ويَتبَعهُ الأَبيُّ العانِدُ
إنْ غارَ فَهوَ مِنَ النباهة منجِدٌ . . . أوْ غابَ فَهوَ مِنَ المهابة شاهدُ
وقال أعرابي يصف رجلاً : كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه ؟ ويرسل العيونَ على عيوق ؛ فهوغائبٌ عنهم ، شاهد معهم ، والمحسِنُ آمن ، والمسيء خائف : الطويل :
فتى رُوحه روحٌ بسيطٌ كيانه . . . ومسكن ذاك الرُّوحِ نورٌ مُجَسَّدُ
صَفَا ونَفَى عنه القذىَ فكأنهُ . . . إذا ما استشفّتْه العقولُ مصعّد
كرمتمْ فجاش المفحمون بمدحِكمْ . . . إذا رَجَزُوا فيكمْ أَثبتُم فقصدوا
أَرى مَنْ تعاطى ما بلغتم كرائمٍ . . . مَنالَ الثريَّا وهو أكمَهُ مُقْعَد
كما أزهرتْ جناتُ عَدْنٍ وأَثمرَتْ . . . فأضْحَتْ وعُجْمُ الطيرِ فيها يغرِّدُ
وفي هذه القصيدة يقول :
لِمَا تُؤْذِنُ الدنيا به من صروفها . . . يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يُولدُ
وإلاَّ فما يُبكِيه منها وإنها . . . لأفسَحُ ممّا كان فيه وأَرْغَدُ
إذا أبصر الدنيا استهل كأنهُ . . . بما سوفَ يَلْقَى من رداها يُهَدَّدُ
قال الصولي : افتتح ابنُ الرومي هذه القصيدة على ما لا يلزمه من فتح ما قبل حَرْفِ الروي اقتداراً ، فحمله ذلك على أن قال : الطويل :
متاحٌ له مقداره فكأنما . . . تقوّض ثَهْلانٌ عليه وصِنْدِدُ
ثهلان : اسم جبل ، وهذا لا يصحّ ، إنما هو صندِد بكسر الدال ؛ لأن فعلَلا لم يجئ إلاَّ في أربعة أحرف : درهم ، وهِجْرَع للأحمق ، وهِبْلَع للذي يبلعُ كثيراً ، وقلعم للذي يقلع الأشياء .
وقول ابن المعتز في وصف السيف : كأنما تنفّس فيه القيْنُ وهو صَقيل ( معنى بديع في وصف الفرند ، وقد قال : الطويل :
ولي صارمٌ فيه المنايا كوامنٌ . . . فما يُنتضَى إلاَّ لسَفْكِ دماءِترى فوق مَتْنَيْهِ الفِرِنْدَ كأنهُ . . . بقيَّه غَيْمٍ رقَّ دون سماءِ
وقال أيضاً إسحاق بن خلف : مجزوء الكامل :
ألقى بجانب خصره . . . أمضى من الأجل المتاحْ
وكأنما ذَرَّ الهبا . . . ء عليه أَنفاسُ الرياحْ
ولما صار سيفُ عمرو بن معد يكرب الذي يسمَّى الصمصامة إلى الهادي ، - وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص ، فتوارثَه ولدُه إلى أن مات المهدي ، فاشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل ، وكان أوسعَ بني العباس كفّاً ، وأكثرهم عطاء - ودعا بالشعراء ، وبين يديه مِكْتَل فيه بدْرَة ، فقال : قولوا في هذا السيف ، فبدر ابن يامين البصري فقال : الخفيف :
حاز صمصامةَ الزبَيْدِيِّ من بي . . . ن جميع الأنام موسى الأمينُ
سيف عَمْرو وكان فيما سمِعْنا . . . خيرَ ما أغْمِدَتْ عليه الجفونُ
أخضر اللون بين خديه بردٌ . . . من ذُعَافٍ يَميسُ فيه المنون أوقدت فوقَه الصواعِقُ ناراً . . . ثم شابَتْ فيه الذعافَ القيونُ
فإذا ما سللتهُ بهر الشم . . . س ضياءً فلم تكد تستبِينُ
ما يُبَالي مَنِ انْتَضَاهُ لحرب . . . أشِمالٌ سَطَتْ بهِ أو يَمينُ ؟
يستطِيرُ الأبصارَ كالقَبسِ المش . . . عَل ما تستقرُّ فيه العيونُ
وكأن الفرِنْد والجوهر والجا . . . ري على صفحتيْه ماءٌ معِين
نِعْمَ مخراق ذي الحفيظة في الهب . . . جاء يَعْصَى به ونِعْمَ القرينُ
قال موسى : أصبت ما في نفسي ، واستخفَّه الفرح ، فأمر له بالمِكْتَل والسيف ؛ فلمّا خرج قال للشعراء : إنما حُرمتم من أجلي ، فشأنكم المكتل ، وفي السيف غناي فقام موسى فاشترى منه السيف بمالٍ جليل .البحتري : الكامل :
قد جُدْتَ بالطِّرْفِ الجوادِ فَثَنَّهِ . . . لأخِيك من جَدْوَى يديك بمُنْصُل
يتناولُ الرُّوحَ البعيدَ منالُهُ . . . عَفْواً ، ويَفْتَحُ في الفضاء المُقفَل
بإنارة في كلّ حَتْفٍ مُظْلِمٍ . . . وهدايةٍ في كل نفسٍ مَجْهَلِ
يَغْشَى الوغى فالتُّرسُ ليس بجُنَّةٍ . . . مِنْ حَدِّه ، والدَّرْعُ ليس بمَعْقِلِ
ماضٍ وإن لم تُمْضِهِ يَدُ فارسٍ . . . بَطَلٍ ، ومَصْقُولٌ وإن لم يُصْقَلِ
مُصْغٍ إلى حُكْم الرَّدى فإذا مَضَى . . . لم يلتفِتْ ، وإذا قضَى لم يَعْدِل
متوقّدٌ يَفْرِي بأوَّل ضَرْبَةٍ . . . ما أدركَتْ ولو أنّهَا في يَذْبُل
فكأنّ فارسه إذا استعصى به الزّ . . . حفان يَعْصي بالسمَاكِ الأعْزلِ
فإذا أصابَ فكلُّ شيء مَقْتَلٌ . . . وإذا أُصيبَ فما له من مَقْتَلٍ
حَمَلَتْ حمائِلُهُ القديمةُ بَقْلَةً . . . من عَهْدِ عادٍ غَضَّةً لم تَذْبُلِ
وقال أبو القاسم بن هاني للمعز : الكامل :
عَجَباً لمُنْصُلِكَ المُقَلَّدِ كيفَ لم . . . تَسِلِ النفوسُ عليك مِنْهُ مَسيلا
لم يَخْلُ جبّارُ الملوكِ بذكرِهِ . . . إلا تَشحَّطَ في الدماءَ قتيلا
فإذا رأيناهُ رأينا عِلةً . . . للنَّيِّراتِ وَنيِّراً مَعْلولا
بك حُسْنُهُ مُتَقَلَّداً وبَهاؤهُ . . . مُتَنكَّباً ومَضاؤُه مَسْلُولافإذا غَضِبْتَ عَلَتْهُ دونك رُبْدةٌ . . . يَغْدُو بها طَرْفُ الزمان كحيلا
وإذا طربت إلى الرِّضا أهدَى إلى . . . شمس الظهيرة عَارِضاً مصقولا
كَتَبَ الفرِنْدُ عليه بعضَ صفاتِكُمْ . . . فَعَرَفْتُ فيه التاجَ والإكلِيلا
وقال : الكامل :
هل يُدْنِينِّي من فنائِك سَابحٌ . . . مَرحٌ وجائلةُ النُّسوعِ أمُونُ ؟
ومُهَنَدٍ فيه الفرِنْدُ كأنهُ . . . درّ له خَلْفَ الفراتِ كمينُ
عَضْب المضاربِ مُقْفِراً من أعين . . . لكنه من أَنْفُسٍ مَسكون
وأهدَى الكندي إلى بعض إخوانِه سيفاً ، فكتب إليه : الحمدُ للّه الذي خصَّكَ بمنافع كمنافع ما أهديتَ ، وجعلكَ تهتز للمكارم اهتزاز الصارم ، وتمضِي في الأمورِ مضاء حَدِّه المأثور ، وتصونُ عرضك بالإرفاد ، كما تُصَانُ السيوفُ بالأغماد ، ويطْرد ماء الحياء في صفحات خدك المشوف ، كما يشفّ الرونقُ في صفائح السيوف ، وتصقلُ شرَفك بالعطياتِ ، كما تصقلُ مُتونُ المشرفيِّات .
من أخبار أبي جعفر المنصور
قدم على أبي جعفر المنصور وَفْدٌ من الشام بعد انهزام عبد الله بن علي ، وفيهم الحارثُ بن عبد الرحمن الغفاري ، فتكلم جماعةٌ منهم ، ثم قام الحارث فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنا لَسْنَا وفْدَ مباهاة ، ولكنا وفدُ توبة استخفًت حليمَنا ؛ فنحن بما قدمنا معترِفون ، وبما سلَف منا مُعتذِرون ، فإنْ تعاقبنا فبِمَا أجرَمْنا ، وإن تَعْفُ عنا فطالما أحسنْتَ إلى من أساء ، فقال المنصور : أنتَ خطيب القوم ، وردَّ عليه ضياعه بالغُوطة . وقاد رجلٌ من أهل الشام للمنصور : يا أمير المؤمنين ، من انتقم فقد شَفَى غيظَهوانتصف ، ومن عفا تفضل ، ومن أخذ حقّه لم يَجِبْ شكره ولم يذكر فَضْله ، وكَظْمُ الغيظِ حلم ، والتشفي طَرَفٌ من الجَزَع ، ولم يمدح أهلَ التقى والنهى من كان حليماً بشدَّة العقاب ، ولكن بحُسْنِ الصفْحِ والاغتفارِ وشدةِ التغافل ، وبعدُ ، فالمعاقِب مستدعٍ لعداوةِ أولياءِ المذْنِب ، والعافي مسترعٍ لشكرهم آمِنٌ من مكافأتهم ، ولأن يُثْنَى عليك باتِّسَاع الصدْرِ خيرٌ من أن توصَف بضِيقِه ، على أنَّ إقالتك عثراتِ عبادِ الله موجبٌ لإقالةِ عَثْرَتك من ربِّهِمْ ، وموصول بعفوه ، وعقابُك إياهم موصولٌ بعقابه ، قال الله عزَّ وجلَّ : ' خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْف وأَعْرِضْ عن الجاهِلِينَ ' .
العفو عند المقدرة
وقال بعض الكتاب لرئيسهِ وقد عتب عليه : ' إذا كنتَ لم تَرْضَ مني بالإساءةِ فلم رضيت من نفسك بالمكافأة ' ؟ .
وأذنب رجل من بني هاشم فقبضه المأمون ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، مَنْ حمل مثلَ دالّتي ، ولَبسَ ثَوْبَ حرمتي ، غُفِرَ له مثلُ زَلَّتي ، قال : صدَقْتَ وعفا عنه .
ولمّا دخل بعضُ الكتّاب على أميرٍ بعد نكبة نالَتْه فرأى من الأمير بعضَ الازْدِرَاء ، فقال له : لا يَضَعُني عندك خمولُ النَّبْوة ، وزوال الثروة ؛ فإنّ السيفَ العتيق إذا مسَّهُ كثيرُ الصدَإ أستغنى بقليل الجلاءِ حتى يعودَ حدُّه ، ويظهر فِرِنْدُهُ ؛ ولم أَصِفْ نفسي عجباً ، لكن شُكراً . وقال ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنا أشرفُ وَلد اَدم ولا فخر ' ، فجهر بالشكر ، وترك الاستِطَالة بالكبْرِ .
من أخبار المعتصم
وكان تميم بن جميل السدوسي قد أقام ، بشاطئ الفرات ، واجتمع إليه كثيرٌ من الأعراب ، فعظُم أمرُه ، وبَعُد ذكره ؛ فكتب المعتصمُ إلى مالك بن طَوْق في النهوض إليه ، فتبدَّد جمعُه ، وظفر به فحمَلهُ مُوثَقاً إلى باب المعتصم ، فقال أحمد بن أبي داود : ما رأيتُ رجلاً عاين الموت ، فما هالَه ولا شغله عما كان يجِبُ عليه أن يفعلَه إلا تميم بن جميل ؛ فإنه لمّا مَثلَ بين يدي المعتصم وأحضر السيفَ والنطَعَ ، ووقف بينهما ، تأمِّله المعتصم - وكان جميلاً وَسيماً - فأَحبّ أن يعلمَ أين لسانُه من منظره ، فقال : تكلّميا تميم ، فقال : أما إذ أذِنتَ يا أمير المؤمنين ، فأنا أقولُ : الحمدُ للَّهِ ' الذي أَحْسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ وَبَدأَ خَلْقَ الإنسانِ من طينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالةٍ من ماء مَهِينٍ ' أيا أمير المؤمنين : جبر الله ، بك صَدْعَ الدَّين ، ولمَّ بك شَعَثَ المسلمين ، وأوضحَ بك سُبُل الحقّ ، وأخمدَ بِك شِهَابَ الباطل ؛ إن الذنوبَ تخرس الألسُن الفصيحة ، وتُعْيِي الأفئدَة الصحيحة ، ولقد عظُمَتِ الجريرة ، وانقطعَت الحجّة وساءَ الظنّ ، فلم يبق إلا عفوُك وانتقامُك ، وأَرجو أَن يكونَ أقربهما مني وأسرعهما إليَّ أشبههما بك ، وأولاهما بكرمك ، ثم قال : الطويل :
أرى الموتَ بين السيفِ وَالنطْع كامناً . . . يُلاحظني من حيثما أتلفَّتُ
وأكبَرُ ظني أنكَ اليومَ قاتِلي . . . وأَيُّ امرئ ممّا قضَى الله يفلت
وأي امرئ يأتي بعُذْرٍ وحُجّةٍ . . . وسيفُ المنايا بين عينيه مُصْلَتُ
وما جزَعِي مِنْ أن أموتَ وإنني . . . لأعلمُ أنَّ الموتَ شيءٌ موقَّتُ
ولكنّ خَلْفي صبْيةً قد تركتهم . . . وأكبادُهم من حَسْرةٍ تتفتَّتُ
فإنْ عشتُ عاشوا سالمين بغِبطةٍ . . . أذُودُ الرَّدَى عنهم وإن متُّ مَوَّتُوا
وكم قائلِ لا يبعد الله دارَهُ . . . وآخر جَذْلانٌ يسرُّ ويشمتُ
فتبسَّم المعتصم وقال : يا جميل ، قد وهبتُك للصَّبية ، وغفرت لك الصّبْوَة ، ثم أمر بفكّ قيودِه ، وخلع عليه ، وعقد له على شاطئ الفُرات .
وكتب المعتصمُ - حين صارت إليه الخلافةُ - إلى عبد الله بن طاهر : عافانا الله وإياك ، قد كانت في قلبي منك هَنَاتٌ غفرها الاقتِدار ، وبقيَتْ حزازات أَخافُ منها عليك عند نظري إليك ؛ فإن أتاك ألْفُ كتابٍ أستقدمك فيهِ فلا تقْدم ، وحَسْبُك معرفةً بما أنا مُنْطَوٍ لكَ عليه إطْلاَعِي إياك على ما في ضميري منك ، والسلام . قال العباس بن المأمون : ولما أَفضَتِ الخلافةُ إلى المعتصم دخلتُ ، فقال : هذا مجلسٌ كنتَ أكْرَهَ الناسِ لجلوسي فيه ، فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، أنتَ تعفُو عما تيقنته ، فكيف تعاقب على ما توهّمته ؟ فقال : لو أردت عقابَك لتركت عتابك .
وكان المعتصم شَهْماً ، شجاعاً ، عاقلاً ، مفوَّهاً ، ولم يكن في خلفاء ، بني العباسأميّ غيره ، وقيل : بل كان يكتبُ خطّاً ضعيفاً ، وكان سبب ذلك أنه رأى جنازة لبعضِ الخدَم ، فقال : ليتني مثله لأتخلّص من الكُتّاب فقال الرشيد : والله لا عذبتك بشيء تختارُ عليه الموتَ .
قال أبو القاسم الزجاجي : وهذا شيء يُحْكَى من غير رِواية صحيحة ، إلا أن جملته أنه كان ضعيفَ البَصر بالعربية .
وقرأ أحمد بن عمار المذري - وكان يتقلد العَرْضَ عليه في الحضرة - كتاباً فيه : ومطرنا مطراً كثُر عنه الكَلأ ' فقال له المعتصم : ما الكَلأ ؟ فقال : لا أدري . فقال : إنا لله وإنّا إليه راجعون خليفة أمي وكاتبٌ أُمي ثم قال : مَن يقرب منا من كتاب الدار ؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات ، وكان يتوَلَى قَهْرَمَةَ الدار ، ويُشْرِفُ على المطبخ ، فأحضره ، فقال : ما الكَلأ ؟ فقال : النبات كله رطبُه ويابسه ؛ فالرطب منه خاصة يقال له خلاً ، ومنه سمّيت المخلاَة ، واليابس يقال له حشيش ؛ ثم اندفع في صفاتِ النباتِ من لى ابتدائه إلى اكتماله إلى هَيْجِه ، فاستحسنَ ذلك المعتصم ، وولاّهُ العَرْض من ذلك اليوم ، فلم يزَلْ وزيراً مدة خلافتهِ وخلافةِ الواثق ، حتى نكبه المتوكل بحقودٍ حَقَدَها عليه أيام أخيه الواثق ؟ .
وقال الرياشي : كتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتهدَّده فيه ، فأمر بجوابه ، فلما قُرئ عليه لم يَرْضَ ما فيه ، وقال لبعض الكتاب : اكْتب : أمّا بعدُ ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت خطابَك ، والجوابُ ما ترى ، لا ما تسمع ، وسيعلمُ الكافرُ لمن عُقْبَى الدار .
وهذا نظيرُ قول قَطَري للحجاج ، وقد كتب إليه كتاباً يتهدَّده ، فأجابه قطري : أما بعد ، فالحمدُ للهِ الذي لو شاء لجمع شخصَينَا ؛ فعلمت أن مُثاقَفة الرجال أَقوم من تَسْطير المقَال ، والسلام .بين المهلب والحجاج
ولما افتتح المهلبُ خراسان ، ونَفَى الخوارج عنها ، وتفرّقت الأزارقة ، كتب الحجاجُ إليه أن اكتب لي بخبر الوقيعة ، واشرح لي القصةَ حتى كأني شاهِدُها ، فبعث إليه المهلبُ كعب بن معدان الأشعريَّ ، فأنشده قصيدة فيها ستون بيتاً تقتصُّ خبرهم لا يخرم منه شيئاً ؛ فقال له الحجاج : أخطِيب أم شاعر ؟ قال له : كلاهما ، أَعزّ الله الأمير قال : أخبرني عن بني المهلب ، فقال له : المغيرةُ سيدهم ، وكفاك بيزيد فارساً ، وما لقي الأبطال مثل حبيب ، وما يستحي شجاع أن يفرّ من مُدْرِك ، وعبد الملك موتٌ ذُعَاف وسم ناقع ، وحسبك بالمفضّل في النّجْدَةِ ، واسْتَجْهِزْ قبيصة ، ومحمد ليث غاب ، فقال الحجاج : ما أراك فضلت عليهم واحداً منهم ؛ فأخبِرْني عن جملتهم ومن أفضلهم ؟ فقال : هم - أَعزَّ الله الأميرَ - كالحَلْقة المفرَغَة لا يُدْرَى أين طرفها ، قال : إنّ خبرَ حَرْبِكم كان يبلغني عظيماً ، أفكذلك كان ؟ قال : نعم أيها الأمير ، والسماع دون العِيان . قال : أخبرني كيف رِضَا المهلَّبِ عن جنده ورِضَا جنده عنه ؟ قال : أعزَ الله الأمير ، له عليهم شفقة الوالد ، ولهم به برّ الولد . قال : أخبرني كيف فاتكم قَطَري ؟ قال : كِدْنَاه في منزله فتحوّل عنه ، وتوهّم أنه كادنا بذلك ، قال : فهلا اتبعتموه ؟ قال : الكلب إذا أُجحر عَقَرَ ، قال : المهلبُ كان أَعلمَ بك حيث أَرسلك . وقد رُوِي أنَّ المهلبَ لمَا فرغ من قَتْل عبد ربه الْحَروري دعا بشرَ بن مالك فأنْفذه بالبشارة إلى الحجاج ، فلمّا دخل إلى الحجاج قال : ما اسْمُك . قال : بِشر بن مالك ، فقال الحجّاج : بشارة وملك وكيف خلفتَ المهلب ؟ قال : خلفته وقد أَمن ما خاف ، وأَدرك ما طَلبَ ؛ قال : كيف كانت حالُكم مع عدوكم ؟ قال : كانت البداءة لهم ، والعاقِبَةُ لنا ، قال الحجاج : العاقبة للمتقين ، ثم قال : فما حالُ الجند ؟ قال : وسعَهم الحق ، وأغناهم النَفَل ، وإنهم لمع رجل يسوسهم سياسة الملوك ، ويقاتِلُ بهم قتالَ الصعلوك ، فلهم منْه برُّ الوالد ، وله منهم طاعة الولد ، قال : فما حال ولد المهلب ؟ قال : رعاةُ البَيَاتِ حتى يؤمنوه ، وحُماةُ السرْحِ حتى يردوه ، قال : فأيهم أفضل ؟ قال : ذلك إلى أبيهم ، قال : وأَنت أيضاً ، فإني أرى لك لساناً وعبارة ، قال : هم كالحلْقة المفرغة لا يُدْرى أين طرفها ، قال : ويحك أكنت أعددت لهذا المقامِ هذا المقال ؟ قال : لا يعلم الغيبَ إلا اللهُ .بين أبي الصقر وصاعد بن مخلد
ودخل أبو الصقر قَبْلَ وزارته على صاعِد بن مخلد ، وهم الوَزير حينئذ ، وفي المجلس أبو العباس بن ثَوَابةَ ، فسأل الوزيرُ عن رجل ، فقال : أنفي ؟ يريد نفي ؟ فقال ابن ثوابة : في الخَرْءِ ، فتضاحك به أهل المجلس ، فقام أبو الصقر مُغضَباً .
بين أبي العيناء وابن ثوابة
وكان أبو العيناء يُعَادِي ابنَ ثوابة لمُعَاداتِه لأبي صقر ؛ فاجتمعا في مجلس صاعد في غدِ ذلك اليوم ، فتلاحَيَا ، فقال ابنُ ثوابة : أما تعرفني ؟ فقال : بلى أعرفك ضيق الطعن ، كثيرَ الوَسَن ، خارّاً على الذقَن ، وقد بلغني تعدّيك على أبي الصقر ، وإنما حَلم عنك ؛ لأنه لم يَجِدْ لك عزّاً فبذلّه ، ولا عُلوّاً فيضَعه ، ولا مَجْداً فيهدمه ؛ فعافَ لحمَك أن يأكلَه ، ودمَك أن يسفكَه ، فقال ابنُ ثوابة : ما تسابّ إنسانانِ إلا غلب أَلأَمهما ، فقال أبو العيناءِ : فلهذا غلبتَ بالأمس أبا الصقر .
مكارم أبي الصقر
ومما يُعَدُّ من مكارم أبي الصقر أن ابنَ ثَوابة دخل عليه في وزارتِه ، فقال : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنَّا لخاطئين ، فقال أبو الصقر : لا تَثريبَ عليك ، يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين ، فما قَصَّرَ في الإحسانِ إليه ، والإنعام عليه ، مدة وزارته .
بين أبي الصقر وأبي العيناء
ولمّا ولي أبو الصقر الوِزارة خيّر أبا العيناء فيما يحبّه حتى يفعلَه به ، فقال : أُريد أن يكتبَ لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرِّفُه مكاني ، ويلزمُه قضاءَ حق مثلي .
فكتب إليه كتاباً بخطّه ، فوصَّله إلى الطائي ، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار ، وعاشره أجمل عشرة ، فانصرف بجميع ما يحبّه .
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً مضمنه : أنا - أعزَّك الله - طليقُك من الفقر ، ونقيذك من البؤس ، أخذْتَ بيدي عند عَثْرةِ الدهر ، وكَبْوَةِ الكِبَرِ وعلى أية حالٍ حين فقدت الأولياءَ والأشكال والإخوان والأمثال ، الذين يفهمون في غيرِ تَعب ، وهم الناسُ الذين كانوا غياثاًللناس ، فحللت عقدة الخَلّة ، ورَدَدْتَ إليّ بعد النفور النعمة ، وكتبت لي كتاباً إلى الطائي ، فكأنما كان منه إليك ، أتيتهُ وقد استصعبَتْ عليَّ الأمور ، وأَحاطَتْ بي النوائب ؛ فكَثر من بِشْرِه ؟ وبذَل من يُسرِه ، وأعطى من ماله أكرمَه ، ومن برّه أحكَمه ، مُكْرِماً لي مدةَ ما أقمت ، ومثْقِلاً لي من فوائده لما ودَّعت ، حكمني في ماله فتحكّمتُ ، وأنتَ تعرفُ جَوريِ إذا تمكّنتُ ، وزادني من طَوْله فشكَرْتُ ؛ فأحسن الله جزاءك ، وأَعظم حباءك ، وقدّمني أمامك ، وأعاذني من فَقْدِك وحمامِك ؛ فقد أنفقتَ عليّ مما مملكك الله ، وأنفقتُ من الشكر ما يسَّره الله لي ، واللَّهُ عزَ وجلَّ يقول : ' ليُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ ' فالحمدُ للَّه الذي جعل لكَ اليدَ الغالبة ، والرتبة الشريفة ، لا أَزال الله عن هذه الأمة ما بَسَطَ فيها من عَدْلِك ، وبثَّ فيها من رِفْدِكَ .
بين أبي العيناء وأحمد بن الخصيب
قطعة مختارة من نسخة الكتاب الذي عمله أبو العيناء في ذمّ أحمد بن الخصيب لَمَّا نكِب على ألسنةِ الكتّاب والقوّاد وأَرباب الدولة في ذلك الوقت . قال : ذكره محمد بن عبد الله بن طاهر فقال : ما زال يَخرق ولا يرقَع ، وما زِلْتُ أتوقع له الذي وَقع فيه . وذكره أتامش ، فقال : غدر بمن آثره ، وتخطّى إلى ما لا يقدرهُ ، فحل به ما يحذره . وذكره بُغَاءُ فقال : أبطَرَتْه النعمة ، ففجأته النقمة ، . وذكره وصيف فقال : تَرك العقلاء على يَأْسِ مرتبته ، والحمْقَى على رجاء درجته وذكره موسى بنُ بغاء فقال : لولا أن القَدَر يعشي البَصَر ، لما نَهَى فينا ولا أَمر . وذكره فارسُ بن بغاء فقال : لم تممّ له نِعْمَة ؛ لأنه لم تكُنْ له في الخير همَّة . وذكره الفضل بن العباس فقال : إن لم يكنْ تاريخ البلاء فما أعظم البلوى . وذكره هارون بن عيسى فقال : كانت دولة من دُوَلِ المجانين ، خرجَتْ من الدنيا والدّين . وذكره المعَلَّى بن أيوب ، فقيل له : ما أعجَب ما نكبَ ، فقال : نعمتهُ أَعجبُ من نكْبته وذكره ميمون بن إبراهيم ، فقال : لو تأمَّل فعاله فاجتنَبها ، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها وذكره محمد بن نجاح فقال : لئن كانت النعمةُ عظمَتْ على قوم خرجَ عنهم لقد عَظُمَت المصيبة على قومٍ نزل فيهم وذكره علي بن يحيى بن المنجم ، فقال : لم يكن له أوَّل يَرْجِعُ إليه ، ولا آخر يعود عليه ، ولا عقل فيزكو لديه وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم فقال : قبّحه الله إن ذكرتَ ذَا فَضْل تنقّصه لما فيه من ضِدّه ، أو ذكرت ذَا نَقْص تولآه لما فيه من شكله . وذكره ابنُ ثَوَابة فقال : امرؤ أساءَ عِشْرَة الأحرار ، فأصبح مَقفِر الديار . وذكره حجاج بن هارُون فقال : ما كان له في الشرف أسبابٌ مِتَان ، ولا في الخيرعادات حِسان . وذكره أحمد بن حمدون فقال : إن منحته القدرة لقد حملته النكبة . وذكره محمد بن الفضل فقال : ما زال يستوحِشُ بالنعمة حتى أَنس بالنقمة وذكره عبد الله بن فراس فقال : كنت إذا نصحتهُ زنّاني ، وإذا غششته منّاني . وذكره أبو صالح بن عمار فقال : لئن علا بحظ لقد انحطّ بحق . وذكره سعيد بن حميد فقال : إذا أصاب أحجم ، وإذا أخطأ صمم .
أخبار أبي بكر المعروف بسيبويه
وكان في هذا العصر بمصر أبو بكر المعروف بسيبويه ناقلة البصرة يُشْبِهه في حضورِ جوابِه وخطابِه ، وحُسْن عبارته ، وكَثْرَة رِوَايته ، وكان قد تناول البلاذُر ؛ فعرضت له منه لوثة ، وكان أكثرُ الناس يتبعونه ويكتبون عنه ما يقول .
قال يوماً للمصريين : يا أهل مصر ، أصحابنا البغدادِيون أحزَمُ منكم ، لا يقولون بالولد ، حتى يتَّخِذوا له العُقَد والعُدَد ؛ فهم أبداً يعتزلون . ولا يقولون باتخاذ العَقَار خوفاً أن يملِكَهم سوءُ الجوار ؛ فهم أبداً يكنزون . ولا يقولون باتخاذ الحرائر خوفاً أن تتوقَ نفسُهم إلى السَّرَارِي ؛ فهم أبداً يتسرَّرُون . ولا يقولون أبداً بإظهار الغنى في مكان عُرفوا بالفقر ؛ فهم أبداً يسافرون .
ووقف يوماً بالجامع وقد أخذت الخلق مأخَذَها ، فقال : يا أهل مصر ، حيطانُ مقابر أنفعُ منكم ، يُستَنْزَهُ بها من التعب ، ويُسْتَدْفَأُ بها من الريح ، ويُسْتَظَلُّ بها من الشمس . والبهائم خيرٌ منكم تُمْتَطى ظهورُها ، وتُحْتذى جلودها ، وتؤكل لحومُها .
وكان أبو الفضل بن خنزابَه الوزير ، ربّما رفع أنفَه ييهاً ، فقال له سيبويه ، وقد رآه فعل ذلك : أشمَّ مني الوزيرُ رائحةً كريهة فشمر أنفَه ، فأطرق وإستعمل النهوض ، فخرج سيبويه ، فقال له الرجل : من أينَ أقبلت ؟ فقال : من عند الزَاهِي بنفسه ، المدلّ بفرسه ، المستطيل على أبناء جِنْسه .
واستأذن على مسلم بن عبيد الله العلوي ، ومسلم من أهل الحجاز نزل مصر ، فحجب عنه ، فقال : قولوا له : يرجع إلى لبس العباء ، ومَصِّ النوى ، وسُكْنى الفَلا ، فهو أشبَهُ به من نعيم الدنيا .
وكان على شرطِ كافور الإخشيدي أحدُ الخاصَّةِ ؛ فوجد عليه سيبويه في بعضالأمرِ ، فعزل عن الشرطة ، فوليها رَكى صاحب الراضي ، فلم يحمده أيضاً ، فوقف لكافور وهو مارّ إلى الصلاة يوم الجمعة ، فقال : أيها الأستاذ ، ولَيت ظالماً ، وعزلْتَ ظالماً ، قليل الوفاء ، كثير الجفاء ، غليظ القَفا . فتبسّم ابن بُرك البغدادي ، وكان يسايرُ كافوراً ، فقال : وهذا ابن برك ممن يغرّك ، لن ينفعك ولن يضرَّك . وأخلئ الحمام لمفلح الحسيني ، فأتى سيبويه ليدخلَ ، فمُنِع ، وقيل : الأمير مفلحٌ به ، فقال : لا أنقى الله مغسولَه ، ولا بلّغه سُولَه ، ولا وقّاه من العذاب مَهُولُه ، وجلس حتى خرج ، فقال : إن الحمام لا يُخلى إلاَّ لأحدِ ثلاثة : مبتلًى في قُبله ، أو مبتلًى في دُبره ، أو سلطان يخافُ من شرِّه ، فأي الثلاثة أنت . قال : أنا المقدَّم .
وأحضره أبو بكر بن عبد اللّه الخازن فقال : قد بلغني بَذَاءُ لسانِك ، وقبيحُ معامَلتك للأشراف ، فاحذَرْ أن تعودَ فينالَكَ مني أشدُّ العقوبة ؛ فخرج متحزناً ، فكان الولدان يتولّعون به ويذكرون له الخازِنَ ، فيشتدّ عليه ذلك ، فينصرف ولا يكلّمهم ؛ فمرّ به رجل يكنى أبا بكر من ولد عقبة بن أبي مُعَيْطٍ ، وغلامٌ قد ألحَّ عليه بذلك ، فضحك المعيطي ، فقال للغلام : ضرب الله عنق الخازن كما ضرب النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، عنق عقبة بن أبي معيط على الكُفْر ، وضرب ظَهْرَ أبيك بالسوط كما ضرب عليّ بن أبي طالب بأمر عثمان ، رضي الله عنهما ، ظهر الوَليد بن عقبة على شُرْب الخمر ، وألحقك يا صبيّ بالصِّبْيَة ، يريد قولَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد قال له عقبة لمَا أمر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، علياً ، رضي الله عنه ، بقَتْلِه : ' فمَنْ للصِّبية يا رسول الله ؟ ' قال : ' النارُ لك ولهم ' ، فانصرف المعيطي وبَطْنُ الأرضِ أحبُّ إليه من ظَهْرِها .
رَجْع إلى أبي العيناء
وقال أبو العيناء : أنا أولُ من أظهر العقوقَ لوالديه بالبَصرة ، قال لي أبي : إنَ اللَّهَ قد قَرَن طاعتَه بطاعتي ، فقال تعالى : ' أَنِ اشْكُرْ لي ولوالديك ' فقلتُ : يا أبت ، إن الله تعالى قد أمِنني عليك ولم يأمنك عليّ ، فقال تعالى : ' ولا تَقْتُلُوا أَولادَكُمْ خَشْيَةَ إِملاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيّاكُم ' .وقال أعرابي لأبيه : يا أبت ، إن كبيرَ حقّك لا يبطل صغير حفِّي عليك ، والذي تَمُتّ به إليّ أمتّ بمثله إليك ، ولست أزعُمُ أنا سواء ، ولكن لا يحلّ لك الاعتداءُ .
ودخل على عبيد الله بن سليمان فضمّه إليه ، فقال : أنا إلى ضمّ الكفاية أحوجُ مني إلى ضَمّ اليدَيْن .
وقال له مرة : أنا معك مقبوض الظاهر ، مرحوم الباطنِ .
قال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
ماذا لَقيتُ من الدنيا وأَعْجَبها . . . أني بما أَنا باكٍ منه محسودُ
وقال له رجل : يا مخنَّثُ ، فقال : ' وضَرَبَ لنا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ ' .
وذكر أبو العيناء محمد بن يحيى بن خالد بن برمك ، فقال : بأبي وأمي دَامَ الوَجْهُ الطلْقَ ، والقول الحقّ ، والوعد الصّدق ، نيّته أفضلُ من علانيته ، وفعلُه أفضل من قوله . وقال له المتوكل : ما أشدّ ما مرّ عليك من فَقْدِ بصرك ؟ فقال : ما حُرِمْتُ منه من النظر إليك أيها الأمير وقال لعبيد الله بن يحيى : مسَّنا وأهلنا الضرّ ، وبضاعتُنا الحمدُ والشكر ، وأنت الذي لا يخيب عنده حرّ . وقال له يوماً : قد اشتدَّ الحجاب ، وفحش الحرمان ، فقال : ارفق يا أبا عبد الله ، فقال : لو رفق بي فعلُك لرفق بك قولي وقال له : أيها الوزير ، إذا تغافل اهلُ التفضّل هلك أهل التجمّل . وذم رجلاً فقال : لا يعرفُ الحقَّ فينصره ، ولا الباطلَ فيُنكِره . وقيل له : ما أَبلغ الكلام ؟ فقال : ما أسكَت المُبْطِل ، وحَيّر المحق . وقيل له : مات الحسن بن سهل ، فقال : واللّه لئن أتعب المادِحينَ ، لقد أطال بكاء الباكين ، واللّه لقد أصِيب بموتِه الأنام ، وخرست بفقده الأقلام .
باب الرثاء
قال أشجع بن عمرو السُّلمي : الطويل :
مضى ابنُ سعيدٍ حين لم يَبْقَ مَشْرِق . . . ولا مغربٌ إلاَّ له فيه مادِحُوما كنتُ أَدْرِي ما فواضل كفّه . . . على الناس حتى غيّبَتْه الصفائحُ
فأصبح في لَحدٍ من الأرض ميّتاً . . . وكانت بِه حياً تضيق الصحاصِحُ
كأن لم يمت ميتٌ سواك ولم تَقمْ . . . على أحدٍ إلا عليك النوائحُ
فما أنا من رُزءٍ وإن جَلَّ جازع . . . ولا بسرورٍ بعدَ موتِكَ فَارحُ
لئن حَسُنَتْ فيك المراثي وذكرُها . . . لقد حسُنَتْ من قَبْلُ فيك المدائحُ
سأَبكيك ما فاضَت دموعي ، فإن تَغِض . . . فحسبُك مني ما تُكِنُّ الجوانِحُ قوله : وكانت به حيّاً تَضيقُ الصحاصِحُ يتعلق بقول الحسين بن مطير في مَعْن بن زائدة : الطويل :
أَلِمَّا على مَعْنٍ وقُولا لقبرِهِ : . . . سقَتْكَ الغوادِي مَرْبعاً ثم مَرْبعَا
فيا قبرَ معنٍ أنت أولُ حُفْرَةٍ . . . من الأرض خُطَّتْ للسماحة مَضْجَعا
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف واريتَ جودَهُ . . . وقد كان منه البَرُّ والبحرُ مُتْرَعَا ؟
بلَى قد وَسِعْتَ الجودَ والجُودُ مَيتٌ . . . ولو كان حيّاً ضِقْتَ حتى تَصَدَّعا
فتى عِيشَ في مَعْرُوفه بعد موتِه . . . كما كان بعد السيل مَجْرَاه مَرْتَعَا
ولمّا مضَى مَعْنٌ مضى الجودُ وانقضى . . . وأصبح عِرنِينُ المكارم أجْدَعا
وهذا كقول عبد الصَّمد بن المعذل عمرو بن سعيد بن سَلم الباهلي : الوافر :
أقبرُ أبي أميةَ لو عُلاهُ . . . حملْتَ إذاً لضقْتَ به ذراعا
حويتَ الجودَ والتقوى وعمراً . . . فكيف أطَقْت يا قبرُ اضطلاعا ؟
لموتهمُ أطَقْت لهم ضماناً . . . ولولا ذَاك لم تُطِقِ اتّساعاوقول أشجع : لئن حسنت فيك المراثي وذكْرها من قول الخنساء : الكامل :
يا صَخرُ ، بعدَك هاجَني استعباري . . . شانِيكَ باتَ بذلتي وصَغاري
كنّا نعد لك المدائحَ مدّةً . . . فاليوم صرتَ تنَاحُ بالأشعارِ
وقالت جَنُوبُ أخت عمرو ذي الكلب : المتقارب :
سألتُ بعمرٍو أخي صَحْبَهُ . . . فأفْظَعَنِي حين ردُّوا السؤَالا
فقالوا : أُتيحَ له نائماً . . . أغرُّ السلاح عليه أجَالا
أُتيحَ له نَمِرَا أجْبُلٍ . . . فنالا لعمرك عنه ونَالا
فأقسمُ يا عمرُو لو نبَّهَاكَ . . . إذاً نبَّهَا منك داءً عُضَالا
إذاً نبَّها لَيْثَ عِرِّيسةٍ . . . مُبيداً مُفتياً نُفُوساً ومالا
إذاً نبَّها غيرَ رِعيدةٍ . . . ولا طائشاً دهشاً حين صَالا
هما معْ تصرف ريْبِ المنون . . . من الدهر ركناً شديداً أَمالا
وقالوا : قتلْناهُ في غارةٍ . . . بآية أنْ قد ورثنا النَّبالا
فهلاّ إذاً قبلَ ريب المنون . . . فقد كان فذّاً وكنتم رجَالا
وقد علمَتْ فَهْم عند اللقاء . . . بأنهمُ لك كانوا نِفالا
كأنهمُ لم يحسّوا بهِ . . . فيخلوا نساءهمْ والحِجَالا
ولم ينزلوا بمحولِ السنين . . . به فيكونوا عليه عِيالا
وقد علم الضيفُ والمُرْملونَ . . . إذا اغبَرَّ أُفقٌ وهبَّت شمالا
وخلَّتْ عَنَ أولادِها المرضعاتُ . . . ولم تَرَ عينٌ لمزنٍ بلالا
بأنَّكَ كنتَ الربيع المغيثَ . . . لمن يَعْتَفيك وكنت الثّمَالا
وخَرْقٍ تجاوزتَ مجهولَهُ . . . بوَجْنَاء حَرْفٍ تشكي الكَلاَلا
فكنت النهارَ به شمسَه . . . وكنتَ دجَى الليل فيه هلالا
وحيّ صبحت وحيّ أبحْتَ . . . غداة اللقاء منايا عِجالاوكم من قبيل وإن لم تكن . . . أرَدْتَهُمُ منك باتوا وجالا
قال عمرو بن شبة : وكان عمرو بن عاصم هذا يَغْزُو فَهْماً فيصيب منهم ، فوضعوا له رصَداً على الماء ، فأخذوه فقتلوه ، ثم مرُّوا بأخته جَنُوبَ ، فقالوا : أخاكِ ؛ فقالت : لئن طلبتموه لتجدُنّه منيعاً ، ولئن ضفتموه لتجدُنَّه مريعاً ، ولئن وعدتموه لتجدنه سريعاً فقالوا : قد أخذناه فقتلْناه ، وهذا نبله . فقالت : والله لئن سلبتموه لا تجدون ثَلَّتَه وافية ، ولا حجرته جافية ، ولربّ ثدي منكم قد افترشه ، ونهب قد احتوَشَه ؛ ثم قالت الأبياتَ المتقدمة الذكر .
وأنشد أبو حاتم ولم يقل قائله : الطويل :
ألا في سبيل الله ماذا تضمَّنت . . . بطونُ الثرى واستُودعَ البلَدُ القَفْرُ
بدورٌ إذا الدنيا دَجَتْ أشرقَتْ بهم . . . وإن أجدبَتْ يوماً فأيديهمُ القَطْرُ فيا شامتاً بالموت لا تشمتنْ بهم . . . حياتُهُمُ فخرٌ وموتهُمُ ذكْرُ
أقاموا بظَهْرِ الأرض فاخضرَّ عودُها . . . وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الظَّهْرُ
وقال أبو عبد الله العتبي ، وتوفي له بنون فُجِع بهم ومات في آخرهم ابنٌ له يكنى أبا عَمْرو كان يقول الشعر ؛ فقال يرثيه : الطويل :
لقد شمت الواشون بي وتغيرتْ . . . وجومٌ أراها بعد موت أبي عَمْرو
تجرّى عَلَيَّ الدهرُ لما فقدته . . . ولو كَان حيَّاً لاجترأتُ على الدهرِ
أسكان بطن الأرض لو يُقبَلُ الفِدَى . . . فدينا ، وأَعطينا بكم ساكني الظهْر
فيا ليت مَنْ فيها عليها ، وليتَ من . . . عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْرِ
وقاسمني دَهري بنيّ مُشَاطراً . . . فلما توفَّى شطره مال في شَطْرِي
فصاروا كأن لم يعرفِ الموت غيرهم . . . فثكلٌ على ثكل وقبرٌ على قَبْرِ
وقاد في ابن توفي صغيراً : مجزوء الرمل :
إنْ يكُنْ ماتَ صغيراً . . . فالأَسَى غَيْرُ صغيرِ
كانَ رَيْحَانِي فأَمسى . . . وهو رَيحَانُ القبُورِ
غَرَسَته فِي بساتي . . . ن البلى أَيْدِي الدهورِومن هنا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : الطويل :
فإن تَكُ في قبر فإنك في الحشا . . . وإن تَكُ طِفَلاً فالأسَى ليس بالطفْلِ
وقال خلف بن خليفة الأقطع : الطويل :
أعَاتِبُ نفسي إن تبسَّمْتُ خَالِياً . . . وقد يَضحَكُ الموتورُ وَهْوَ حَزِينُ
وبالبذِّ أشجاني وكم من شَجٍ لهُ . . . دُوَين المصلّى والبقيعِ ، شجُونُ
رُبًى حولها أمثالُها إن أتيتها . . . قَريْنَك أشجاناً وهنّ سُكونُ
كَفى الهجر أنّا لم يَضِح لكَ أمرُنا . . . ولم يأتنا عمَّا لديك يَقين
وقال أبو عطاء السِّندي في ابن هبيرة : الطويل :
ألاَ إنَّ عيناً لم تجُدْ يوم واسطٍ . . . عليك بباقي دَمْعها لجَمُودُ
عشيةَ قام النائحاتُ وشُقَّقت . . . جيوبٌ بأبدىَ مأتَمٍ وخدودُ
فإن تُمْسِ مهجُورَ الفِنَا فربما . . . أقام به بعد الوفُودِ وفُودُ
فإنك لم تَبْعَدْ عَلى متعهِّدٍ . . . بلى كلُّ ما تحت الترابِ بعيدُ
أعرابي : الطويل :
ومن عجب أن بتَّ مستودع الثَّرَى . . . وبثُّ بما زوّدْتني متمتّعا
فلو أنني أنصفْتُك الودَّ لم أبِتْ . . . خلافك حتى نَنْطَوي في الثرى معا
سأحمي الكرى عيني وأفترش الثرى . . . يميني إذا صار الثرى لك مضجعا
وبعدك لا آسَى لعظم رزيَّةٍ . . . قَضَيْتَ فهوّنْت المصائب أجمعا
ومعنى هذا البيت الأخير تداوله الناس نظماً ونثراً .
قال أبو نواس في الأمين : الطويل :
طوَى الموتُ ما بيني وبين محمدٍ . . . وليسَ لما تَطْوِي المنيّةُ ناشِرُ
لئن عَمِرَتْ دُورٌ بمن لا أحبهُ . . . لقد عمرتْ ممن أُحِبُّ المقابِرُ
وكنتُ عليه أحْذَرُ الموتَ وحدَه . . . فلم يَبْقَ لي شيء عليه أُحاذِر
وقيل لأمّ الهيثم السدوسية : ما أسرع ما سلوت عن ابنك الهيثم قالت : أما والله لقدرُزِئته كالبدرِ في بهائه ، والرمْحِ في استوائه ، والسيفِ في مَضَائه ؛ ولقد فتّتَتْ مصيبتهُ كبدي ، وأفنى فَقْدُه جلدي ، وما اعتَضْتُ من بعده إلا أَمْنَ المصائب لفقدِه .
وعزَّى أبو العيناء أحمد بن أبي دُواد عن ولدٍ له ، فقال : ما أصيب من أثيب ، والله لقد هان لفقده ، جليل المصائب من بعدِه .
ودخل أعرابي من بادية البصرة إلى الشام ومعه بنون ، فلمّا كان بقنَّسْرِينَ مات بنوه بالطاعون فقال : الطويل :
أبعْدَ ، بَنيَّ ، الدهرَ أرجُو غَضارَةً . . . من العيش أو آسى لما فات من عُمْري ؟
غطارِفَةٌ زُهرٌ مضَوْا لسبيلهم . . . فلهفي على تلك الغَطَارِفة الزُّهْر
سقى الله أجساداً ورائي تركْتُها . . . بحاضر قنّسرين من صيِّب القَطْر يُذكّرنيهم كل خير رأيتُهُ . . . وشرٍّ ، فما أَنفكُّ منهم على ذكْرِ
هذا البيت كقول الآخر : الطويل :
رعاكِ ضمانُ الله يا أُمَّ مالك . . . ولله أن يرعاك أولَى وأَوسَعُ
يذكّرنيك الخير والشرُّ والذي . . . أخاف وأرجو والذي أتوقّعُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وإني وإسماعيل يوم ودَاعِه . . . لكالغِمْدِ يوم الرَّوع فارقَه النَصلُ
أما والحبالات الممرَّات بيننا . . . رسائل أدَّتها المودّةُ والوصلُ
لما خنتُ عهداً من إخاءٍ ولا نأى . . . بذكراك نأيٌ عن ضميري ولا شغلُ
وإنيَ في مالي وأهلي كأنني . . . لفقدك لا مالٌ لديّ ولا أهلُ
يذكّرنيك الخيرُ والشرُّ والحِجَا . . . وقيلُ الخنى والحِلْمُ والعِلْمُ والجهلُ
فألقاك عن مذمومها متنزهاً . . . وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمَدُ من إخلافِك البخلَ إنهُ . . . بعِرْضك لا بالمال حاشَا لك البخْلُ
أمنتجعاً مَرْواً بأثقال همّةٍ . . . دع الثِّقلَ واحْمِلْ حاجةً ما لها ثِقْلُ
ثناءً كَعُرْف الطيب يهدي لأهله . . . وليس له إلاَّ بني برمك أهلُ
فإن أغْشَ قوماً بعدهم أو أزورهم . . . فكالوحش يُدْنِيها مِنَ القَنص المحْلومن ألفاظ أهل العصر في التعازي وما يتعلّق بمعانيها
من ذكر البكاء والجزع وعظم المصائب : خَبرٌ عزَّ على النفوسِ مَسْمَعه ، وأثّر في القلوب مَوْقِعُه . خَبَر تصطكُّ له المسامعُ ، وترتجُّ به الأضالع ، وتسقط له الحبالى ، وتَصْحو منه السكارى . خبرٌ كادت له القلوبُ تطيرُ ، والعقول تَطيشُ ، والنفوس تَطيح . خبر يخفض البصر ويقذيه ، ويَقْبِض الأملَ ويقدح فيه . الخبر في اثناءِ الرجاءَ قد انقطع ؛ وأصمَّ به الناعي وقد أَسمع . ناعي الفضائل قائم ، وأنفُ المحاسنِ رَاغم . خبرٌ أحْرج الصَدْرَ ، وأحل البكاء ، وحَرَّم الصبر ، وأَطار واقع السكون ، وأثار كامِنَ الوجوم ، وثقلت وَطْأَته على أجزاء النفس ، وتأدت معرته إلى سرِّ القلب . كتبتُ والأرضُ واجِفةٌ ، والشمسُ كاسفةٌ ، للرزء العظيم ، والمُصَاب الجسيم ، في فلك الملك ، ورُكْنِ المجد ، وقريع الشَرق والغرب ، وما عسى أن يُقَال في الفلك الأعلى إذا انْهَار من جوانبه ، وتهافَتَ على مناكِبه . أتى الناعي ، فندب المساعي ، وقامت بواكي المجد ، وكسفت شمسُ الفَضْل ، وعاد النهارُ أسودَ ، والعيش أَنكَد . غربَ لموته نجمُ الفَضْل ، وكسدت سوقُ الأدَب ، وقامت نوادب السماحة ، ووقف فلكُ الكَرَم ، ولطمت عليه المحاسن خدودَها ، وشقّت له المناقب جيوبَها وبُرودها ، وقد كانت الرزيَّةُ بحيث مارت السماءُ مَوْراً ، وسارت الجبالُ سيراً ، حتى شوهدت الكواكبُ ظهراً ، ثم تهافتتْ شفعاً ووتراً ، فارتاعت الأُمّة ، وانبسطت الظلمة ؟ وارتفعت الرَّحْمَةُ ، واضطربت المِلّة ، وقامت نوادبُ المجد ، وأصبح الناسُ من القيامةِ على وَعد . إنَّ المجدَ بعده لجاري الدمع ، وإنَّ الفضل لمنزعج النفس ، وإن الكرمَ لَحرِجُ الصدر ، وإن المُلْكَ لواهِنُ الظَّهْر . كتابي وأنا من الحياة متذمم ، وبالعيش مُتبرِّم ، بعدما ماد الطَوْد الشامخ ، وزال الجبل الباذخ ، ونطقت نوادِب المجد ، وأقيمت مآتم الفضل . نُعِيَ فلان فتنكر وَجْهُ الدهر ، وقبضت مُهْجَةُ الفَخْرِ ، فلا قَلْبَ إلا قد تباين صَدْعه ، ولا عين إلا وهي ترشحُ بالدَّم بعده . كتبتُ والأحشاءُ محترقة ، والأجفانُ بمائها غَرِقة ، والدمعُ وَاكِفٌ ، والحزن عاكف . مصالب أطلق أسْرابَ الدموع وفرََّقها ، وأقلق أعشارَ القلوب وأحرقها ، مصابٌ فضّ عقودَ الدموع ، وشب النارَ بين الضلوع . مصاب أذاب دموعَ الأحرار ، فتحلبت سحائب الدموعِ الغِزار ، وانسدَّتْ مسالك السكون والاستقرار . كتبتُ عن عين تَدْمَع ، وقلْبِ يجزع ، ونفس تَهْلَع ، وقد أَذْلَلْتُ مَصُون العَبرة ، وحجبتُ وافِدَ الحيرة ، ومدّ الهمُّ إلى جسمي يَدَ السقم ، وجرَّ الدمعُ على خديذيولَ الدم . لولا أن العينَ بالدمع أنطقُ من كلّ لسان وقلم ، لأخبرتُ عن بعض ما أَوْهَنَ ظَهْري ، وأَوْهى أَزْرِي . إنَّ الفجيعة إذا لم تحاربْ بجيشٍ من البكاء ، ولم يخفَّفْ من أثقالِها بالاشتكاء ، تضاعفَ دَاؤها ، وازدادَتْ أعباؤها ، وعز دَواؤها . قد شفيتُ غليلي بما اسْتَذْريْتُه من أسراب الدموع المتحيرة ، وخففْتُ عني بعض البُرَحَاء بما امترَيْتُه من أخلافها المتحدّرة . إن في إسبَال العَبرة ، وإطلاق الزَّفْرَة ، والإجهاش بالبكاء والنشيج ، وإعلانِ الصياح والضجيج ، تَنْفِيساً عن بُرَحَاءِ القلوب ، وتخفيفاً من أثقالِ الكُروبِ . قد أتى الدهرُ بما هدَّ الأصلاب ، وأطارَ الألبابَ ، من النازلة الهائلة ؛ والفجيعة الفظيعة . رُزءٌ أضعفَ العزائم القويةَ ، وأبكى العيونَ البكيَّة . مصيبة زَلْزَلتِ الأرض ، وهدَّمَت الكرم المَحْض ، وسلبت الأجفان كَرَاها ، والأبدانَ قُوَاها . فجيعةٌ لا يُدَاوِي كَلْمَها آسٍ ، ولا يسدّ ثَلْمَها تَنَاسٍ . مصيبة تركتِ العقولَ مُدَلَّهَة ، والنفوس مُولَهة . رُزءٌ هضَّ وهاضَ ، وأَطال الانخزال والانخفاض ، ولم يَرْضَ بأن فضَّ الأعضاء ، حتى أفاض الدماءَ . رزءٌ ملأَ الصدورَ ارتياعاً ، وقسم الألبابَ شَعاعاً ، وترك الجفونَ مَقروحة ، والدموع مسفوحة ، والقُوى مهدودة ، وطرق العزاءِ مسدودة . رزءٌ نكأَ القلوبَ وجرحَها ، وأَحرَّ الأكْبادَ وقرّحها ، ما لي يدٌ تخطّ إلا بكلفة ، ولا نفس تردد إلا في غصَّة ، ولا عين تنظر إلا من وراء قذَى ، ولا صدر ينطوي إلا على أذى ، فالدموعُ واكفة ، والقلوب وَاجِفة ، والهمّ وارِد ، والأنسُ شارد : الكا مل :
والناسُ مَأتمُهم عليه واحدٌ . . . في كل دارٍ رَنَّةٌ وزفيرُ كَأني كِنْدَة وهي تَلَهَّفُ على حُجْر ، والخنساء تَبْكي على صخر ، أنا بين عَبْرَةٍ وزَفْرَة ، وأَنّةٍ وحسرة ، وتملمُل واضطراب ، واشتعال والتهاب . مصيبة أصبحتُ لِغُمَّتها وقيذاً ، ولكُرْبَتها أخيذاً . كَتبتَ وقد ملك الجزَعُ عَزَائي ، وحصل ناظري في إساربكائي ، فالقلْبُ دهش ، والبنَان يرتعِش ، وأنا من البقاء متوحّش : قد انتهى بي الهلَع إلى حيث لا التأَسِّي مُصحِب ، ولا التناسي مصاحِب ، بي انزعاج يحلّ عُقَدَ الْحَزْمِ ، واكتئابٌ ينقضُ شروط العَزْم . قد بلغ الحزنُ مبلغاً لم أبتذِلْه للنوائب ، وإن جلت وَقْعاً ، ونالَت مني مَنالاً لم يعتد طرق المصائب ، وإن عظُمت فجعاً . كتبتُ عن اضطرابِ نفسٍ ، واضطرامِ صدر ، والتهاب قلب ، وانتهابِ صَبر ، فما أعظمه مفقوداً وما أكْرمه ملحوداً إني لأنوح عليه نَوْحَ المناقب ، وأَرْثِيه مع النجوم الثواقب ، وأَبْكِيه مع المعالي والمحاسن ، وأثني عليه ، بثناء المساعِي والمآثر . ليت يمينَ الزمانِ شَلَّتْ قبل أن فتكَتْ بمُهْجَة الفضل ، وعَيْنَ الزمانِ كُفَّت قبل أن رأت مَصْرَع الفخر . لقد رُزِئنا من فلان عالماً في شخص ، وأمّةً في نفس . مضى والمحاسنُ تَبْكِيه ، والمناقبُ تعزّى فيه . العيونُ لما قرّت به أسخنها فيه رَيْبُ المنون ، ولما شُرِحَتْ به الصدور قبضها بفقْده المقدور . قد ركبَ على الأعناق ، بعد العِتَاق ، وعلى الأجياد بعد الجِيادِ ، وفاح فتيتُ المسكِ من مآثره ، كما يَفُوحُ العنبرُ من مجامره . كان منزلُه مَأْلفَ الأضيافِ ، ومَأنس الأشراف ، ومُنتجَع الرَّكْب ، ومَقْصد الوَفْد ، فاستبدل بالأُنْس وَحْشة ، وبالغضارة غُبْرة ، وبالبياض ظُلْمَة ، واعتاض من تَزَاحُمِ المراكب تلاَدُمَ المآتم ، ومن ضَجِيج النداء والصهيلِ ، عجيجَ البكاء والعويل . هذي المكارمُ تبْدي شجْوَها لِفَقْدِهِ ، وتَلْبَس حِدَادَها من بَعْده ، وهني المحاسنُ قد قامَتْ نوادبُهَا مع نوادبه ، واقترنَتْ مصائبُها بمصائبه . لو قَبِلَت الفدْيَة لوقيْتُه بنفسي وأيامِ عمري ، عِلماً بأن العيشَ بمثله من إخوانِ الصفا يَصْفُو ، وبظَعْنِه عن الدنيا يكدرُ ويَعْفو . لو وُقي من الموت عزيزُ قوم لِعِزَّتِه ، أو كَبيرٌ بأولاده وأُسرته ، أو ذو سُلطان باستطالته وقُدرته ، أو زعيم دولةٍ بحَشْدِهِ وعُدَّتِه ، لكان الماضي أَحق من وُقي وأولى من فُدِيَ ، وكُنّا أقدر على دفع ما حدث ، وذَبِّ ما كَرَثَ وأَرْهَق ؛ لكنه الأمرُ المسوي فيه بين مَنْ عزَّ جانبُه وذَلَّ ، وكَثُر مالُه وقَلَّ ، حتى لحق المفضولُ بالفاضل ، والناقصُ بالكامل .
ولهم فيما يطابق هذا النحو من وصف الدهر وذم الدنيا : هو الدهرُ لا يُعْجَب من طوارقِه ، ولا ينكر هجوم بوائِقه . عطاؤه في ضمانِ الارتجاع ، وحِبَاؤه في قِرَان الانتزاع . من عرفَ الزمان لم يستشعِر منه الأمان ، وتصرف الحوادثِ ، بين الموروث والوارث . الدهرُ مشحون بطوارقِ الغِيَر ، مَشُوبٌ صَفْوُ أيامِه بالكَدَر ، ممزوج صَابُهبالعسل ، موصولَةٌ حبال الأمنِ فيه بأسباب الأجل . قد جعل الله الدنيا دارَ قُلْعة ، ومحلَّ نُقْلَة ، فمن راحلِ ليومه ، ومن مؤخَّر لغده ، وكلّ متشوّفٌ لأجله ، وجارِ لأمَدِهِ . ما الدنيا إلا دار النقْلة ، ولا المقام فيها إلاَّ للزحلة ، إنّ المرءَ حقيق إذا طرقه ما يتحيَّف صَبْرَه ويتطرّق صدره ، أن يعودَ إلى عِلمِه بالدنيا كيف نُصِبت على النقْلة ، وجنبَتْ طويل المهلة ، وابتدئت بالنقاد ، وشُفع كونُها بالفساد ، وأنّ الثاوِي فيها رَاحِل ، والأيام فيها مَراحل . موهوب الدنيا مسلوب وإن أرْجِئ إلى مَهَل ، وممنوحها مجذوب وإن آخر إلى أَجل . لو خلد من سَبقَ ، لما وسِعَت الأرضُ مَنْ لحق ؛ ولذلك جعلتِ الدنيا دار قُلعة ، ومحلّ نجعة : الطويل :
سُبِقْنا إلى الدنيا فلو عاش أهلُها . . . مُنِعْنا بها من جَيْئَةٍ وذُهوبِ
تملَّكها الآتي تملُكَ سالبِ . . . وفارقها الماضِي فراقَ سليبِ
وقال عتبة بن هارون : كنتُ مع فضل الرقاشي ، فمرّ بمقبرة ، فقال : يا أهلَ الديار الموحِشة ، والمحال المقْفِرة ، التي نطق بالخرابِ فِناؤها ، وشُيد بالتراب بناؤها ، ساكِنُها مُغْترِب ، ومحلّها مُقْتَرِب ، أهلُ هذِه المنازلِ متشاغلون ، لا يتواصلون تواصُلَ الإخوان ، ولا يتزاوَرُون تزاورَ الجيران ، قد طحنهم بكَلْكَلِه البِلَى ، وأكلَهم الجَنْدَل والثرَى . وقال خاقان بن صُبَيْح : لِوَحشَة الشكّ التمسنا أنْسَ اليقين ، ومن ذلّ الجهل هربنا إلى عزّ المعرفة ، ولخَوْفِ الضلالةِ لزمنا الجادَّة .
وقال بعض الحكماء : كمونُ المصائب وسكونُ النوائب وبَغتات المنايا مطويَّات في الساعات ، متحركات في الأوقات ، ورب مغتَبطٍ بساعةٍ فيها انقضاءُ أجلِه ، ومتمتع بوقت صار فيه إلى قَبْرِه ، ومنتظر ورودَ يوم فيه منيَّتهُ .
ووعظ أعرابيٌ ابناً له أفسدَ مالَه في الشراب ، فقال : لا الدهر يَعِظك ، ولا الأيام تنذرك ، والساعات تُعَدُّ عليك ، والأنفاسُ تعذ منك ، وأَحَبُّ أَمْرَيْك إليك ، أردُّهما للمضرّة لديك .
من إنشاء بديع الزمان
ومن إنشاء بديع الزمان في المقامات : حدَّثنا عيسى بن هشام قال : كنتُ في الأهواز في رُفْقة متى ما ترقَّ العينُ فيهم تسهل ، ليس منَا إلا أمرد بكْر الآمال ، بضّ الجمال ، أومختطٌّ حَسن الإقبال ، مرجو الأيام والليال ؛ فأفضنا في العِشْرَة كيف نضعُ قواعدَها ، والأخُوّة كيف نحكم مَعاقدها ، والسرور في أي وقت نتعاطاه ، والأُنْس كيف نتَهاداهُ ، وفائت الحظ كيف نتلافاه ، والشراب من أين نخلصه ، والمجلس كيف نرتبه ؟ فقال أحدنا : على البيت والمنزل ، وقال آخر : على الشراب والنقل ، وقال بعضُنا : إلى السماع والجماع ، وقمْنا نجرُّ أذيال الفسوق ، حتى انسلخْنا من السوق ، واستقبلنا رجلٌ في طِمْرين ، في يُمْنَاه عُكَازَة ، وعلى كتفه جِنَازَةٌ ؛ فتطيَّرْنا لما رأينا الْجِنازة ، وأعرضْنَا عنها صَفْحاً ، وطوينا دونها كَشْحاً ، فصاح بنا صيحةً كادت الأرضُ لها تنفَطِر ، والنجومُ تَنكَدِر ، وقال : لتروَنَّها صُغْراً ، ولتركبُنَّها قَسراً . ما لكم تكرهون مطِيةً ركبها أسلافكم ، وسيركبها أخلافكم ، وتتقذّرون سريراً وطِئه آباؤُكم ، وسيطؤُه أبناؤُكم . أما والله لتُحْملُنَّ على هذه العِيدان ، إلى تلكم الديدان ، ولتنْقَلُنَ بهذه الجياد ، إلى تلكم الوهاد . وَيْحَكم تطَيَّرون ، كأنكم مخيرُونَ ، وتتكرهون ، كأنكم منزَّهون ، هل تنفع هذهِ الطيَرة ، يا فجرة ؟ .
قال عيسى بن هشام : فقد نقضَ علينا ما كنَّا عَقَدْناه ، وأبطلنا ما كنَّا أَردْنَاه ؛ فَملْنا إليه ، وقلنا : ما أحوجَنا إلى وعْظِك ، وأَعْشَقَنَا للفظك ولو شئتَ لزِدْتَ ، قال : إنّ وراءكم موارِدَ أنتم وارِدُوها ، وقد سرْتُم إليها عشرين حَجّة : الطويل :
وإنّ امرأً قد سار عشرينَ حَجَّةً . . . إلى منهل من وِرْدِه لَقَرِيبُ
وفوقكم مَنْ يعلم أسراكم ، ولو شاء لهتك أستارَكم ، يعامِلكم في الدنيا بحِلْم ، ويَقْضي عليكم في الآخرة بعِلم ، فليكن الموتُ منكم على ذكر ، لئلاّ تَأتوا بنكْر ؛ فإنكم متى استشعرتموه لم تجْمَحُوا ، ومتى ذكرتموه لم تمزحوا ، وإن نسيتموه فهو ذاكِرُكم ، وإن نمتُم عنه فهو ثائركم ، وإن كرهتُموه فهو زائركم قلنا : فما حاجتُك ؟ قال : هي أطولُ من أن تُحَدّ ، وأكثر من أن تُعَدّ ، قلنا : فسانحُ الوقت ؟ قال : ردُّ فائِت العُمْرِ ، ودَفْعُ نازِل الأمرِ ، قلنا : ما إلى ذلكَ سبيل ، ولكن لكَ ما شئت من متاعِ الدنيا وزخرفها ، قال : لا حاجةَ لي فيها .
قوله : وإن امرأً سار عشرين حجة محرف عن قول قائِله : وإن امرأ قد سار خمسين حجة والبيت لأبي محمد التيمي ، أنشده دِعبل : الطويل :
إذا ما مضى القَرْنُ الذي أنتَ فيهمُ . . . وخُلِّفْتَ في قَرْنِ فأَنت غَرِيبوالبيت بعده . قال دعبل : وتزعم الرواة أنه لأعرابي من بني أسد . وقال خلاد الأرقط : كنا على باب أبي عمرو بن العلاء ومعنا التيمي ، فذكرنا كتابَ الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم : إني وإياك لِدَتَان ، وإن امرأ قد سار خمسين حجة لَقمن أن يَرده . فأصلحناهُ بيتاً ، فاجتَلَبه التيمي في شعره . وكتب البديع إلى أبي القاسم الكرخي : أنا وإن لم ألقَ تطاوُلَ الإخوان إلا بالتطوّل ، وتجمل الأحرار إلا بالتجمّل ، أحاسب الشيخَ على أخلاقه ضناً بما عقدت يدي عليه من الظن به ، والتقدير في مَذْهَبه ، ولولا ذاك لقُلْتُ : في الأرضِ مجالٌ إن ضاقَتْ ظلالُه ، وفي الناس واصلٌ إن رَثَتْ حبالُه ، وأؤاخِذُه بأفعاله ؛ فإن أَعارني أذُناً واعيةً ، ونَفْساً مُرَاعية ، وقلْباً متّعظاً ، ورجوعاً عن الذهاب ، ونزوعاً عمّا يقرعُه من هذا الباب ، فرشت لمودَّته صدْرِي ، وعقدت عليه جوامع حَصْري ، ومجامع عُمْرِي ؛ وإنْ ركب من التعالي غَيْر مركب ، وذهب من التغالي في غيرِ مذهب ، أقطعتهُ خطة أَخلاقه ، وولّيته جانبَ إعراضه ، فكنت امرأ : المديد :
لا أذودُ الطيرَ عن شَجَرٍ . . . قد بلوتُ المرّ من ثَمرِهْ
فإني - أطال الله بقاء الشيخ مولاي - وإن كنت في مقتبل السن والعمر ، فقد حلبتُ شطْرَي الدهر ، وركِبْتُ ظهري البرَ والبَحْرِ ، ولقيتُ وَفْدَي الخيرِ والشرّ ، وصافحتُ يدي النَفْع والضر ، وضربتُ إبطي العُسْر واليُسْر ، وبلوتُ طعمي الحُلْو والمُرّ ، ورضعْتُ ثديي العُرْف والنُّكْر ؛ فما تكادُ الأيامُ تريني من أفعالها غريباً ، وتُسْمِعُني من أقوالِها عجيباً ، ولقِيت الأفراد ، وطارَحْتُ الآحادة فما رأيتُ أحداً إلا ملأت حافتيْ سمعِه وبصره ، وشغلت حيزَيْ فكره ونَظَره ، وأَثقلت كَفّه في الْحُزن ، وكفَتَه في الوَزْن ؛ وودَّ لو بارَزَ القِرنَ بصفحتي ، أو لَقي الفَضْل بصحيفتي ، فما لي صَغُرتُ في عينه ؟ وما الذي أزْرَى بي عنده ؟ حتى احتجبَ وقد قَصَدْتُه ، ولزِم أرضَه وقد حضرته ، وأنا أحاشيه أن يجهلَ قَدْرَ الفضل ، أو يَجْحَد فضلَ العلم ، أو يمتطي ظَهْرَ التّيه ، على أهليه ، وأسأله أن يختصَّني من بينهم بفضل إنعام إن زلت بي مرةً قَدَم رأي في قَصْده ، وكأني به وقد غضب لهذه المخاطبة المجحِفة ، والرتبة المتحيّفة ، وهو في جنب جفائه يسير ، وإن أقلع عن عادته إلى الوفاء ،ونزع عن شيمته في الجفاء ؛ فأطال الله بقاءَ الأستاذ وأدام عزه وتأييده .
وله إليه رقعة : يعزُّ عليَ - أطال الله بقاء الشيخ الرئيس - أن ينوبَ في خِدمته قلمي ، عن قَدَمِي ، ويسعد برؤيته رسولي ، دون وُصولي ، ويَرِدَ شِرعَة الأنس به كتابي ، قبل ركابي ، ولكن ما الحيلةُ والعوائق جمّة : مجزوء الكامل :
وعليّ أن أسعى ولي . . . س عليَ إدراك النجاحِ
وقد حضرتُ دارَه ، وقبَّلتُ جدارهُ ، وما بي حبّ الجدرَان ، ولكن شغفاً بالقطّانِ ، ولا عِشْق الحيطان ، ولكن شوقاً إلى السكان ، وحين عَدَتِ العَوادِي عنه ، أمليتُ ضميرَ الشوقِ على لسان القلم ، معتذِراً إلى الشيخ على الحقيقة ، عن تقصيرٍ وقع ، وفُتور في الخِدْمةِ عَرَض ، ولكني أقول : المديد :
إنْ يَكُنْ تَرْكِي لقَصْدِكَ ذنباً . . . فكفى ألا أرَاكَ عِقَابا وله جواب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد : ورد كتاب الشيخ الرئيس سيدي ، فظلت وفودُ النعم تَتْرَى عليّ ، ومثلت لدي وبين يدي ، وقد أخَذَ مكارمَ نفسِه ، فجعلها قِلاَدة غرْسه ، وتتبّع المحاسنَ من عِنده ، فحلَّى بها نَحر عَبْده وما أُشبِّه رائع حُليِه ، في نحر وَليّه ، إلا بالغُرَّةِ اللائحةِ ، على الدَّهْمَة الكالحة لا آخذَ الله الشيخ بوصفٍ نزعَه عن عرضه ، وزَرَعه في غير أرضه ، ونعتٍ سلَخه من خَلْقه وخُلُقه ، وأهداه إلى غير مستحقِّه ، وفَضْل استفاده من فَرْعِه وأصله ، وأوصله إلى مخير أهله . ذكر حديث الشوقِ ولو كان الأمرُ بالزيارة حتماً ، أو الإذن جَزْماً أطلق عزماً ، لكان آخر نظري في الكتاب ، أول نظري إلى الركاب ، ولاستعنْتُ على كُلَف السير ، بأجنحة الطير ، لكنه - أدام الله عزّه - صرعني بين يدٍ سريعة النبْذ ، ورِجْل وشيكة الأخذِ ، وأراني زهداً في ابتغاء ، كحسوٍ في ارتغاء ، ونزاعاً في نزوع ، كذهاب في رُجوع ، ورغبة فيَّ كرغبة عني ، وكلاماً في الغِلاف ، كالضرب تحت اللحاف ، فلم أصرِّحْ بالإجابة وقد عرَّض بالدعاء ، ولم أعْلِن بالزيارة وقد أسرَّ بالنداء ، ولو لم يَدْعني بلسان المُحاجَاة ، ولم يجاهِرْني بفمِ المناجاة ، لكنتُ أسرعَ إليه ، من الكرم إلى عطفيه ، وفكرتُ في مُرَادِ الشيخ ، فوجدْتُه لا يتعدّى الكرم يشبّ ناره ، والفضل يُدرك ثاره ، وإذا كان الأمرُ كذلك فما أولاه بترفيهِ مولاه ، عن زَفرَةٍ صاعدة ، بسفرةباعدة ، ونكباء جاهدة . . . وقد زاد سيدي في أمْرِ المخاطبة ، وما أحسن الاعتدال ، وقد كفانا منه الأستاذ ، وأسأله ألا يزيد ، وقد بدأ ويجب ألا يعيد ، فلا تنفع كثرة العدّ مع قلّة المعدود ، والزيادة في الحدّ مع نقصان المحدود نقص من الحدود ، وربّ ربح أدّى إلى خُسْرَان ، وزيادة أفْضَتْ إلى نُقْصَان ، ورأي الشيخ في تشريفه بجوابه موفّق إن شاء الله تعالى .
اجتلَب قولَه في أول هذه الرسالة من قول أبي إسحاق الصابي في جواب كتاب لبعض إخوانه : وصل كتابك مشحوناً بلطيف بِرِّك ، موشَّحاً بغامِر فَضْلِك ، ناطقاً بصحَّةِ عهدك ، صادقاً عن خلوص ودِّك ، وفهمتُه وشكرتُ الله تعالى على سلامتك شُكرَ المخصوص بها ، ووقَفتُ على ما وصفته من الاعتدادِ بي ، وتناهَيْتَ إليه من التقريظ لي ، فما زدتَ على أن أعزتَني خِلالَك ، ونحلْتَني خِصالَك ، لأنَّكَ بالفضائل أوْلَى ، وهي بكَ أحْرَى ، ولو كنت في نفسي ممن يشتملُ على وصفه حَدِّي إذا حددت ، أو يحيط بكماله وَصْفي إذا وصَفْت ، لَشَرَعْت في بلوغها والقرب منها ، لكن المادحَ لك مستنْفِد لك وُسْعه وقد بخَسك ، ومستغرق طَوْقَه وقد نَقَصَك ، فأبلغُ ما يأتي به المُثْني عليك ، ويتوصّل إليه المُطْرِي لك ، الوقوف في ذلك دون منتهاه ، والإقرار بالعجز دون غايته ومَدَاه .
ونقل البديعُ ما ذكره من تَرْك السفر والبغية بما حضر من قولِ ابن الرومي : الطويل :
أما حق حامِي عرضِ مثلِك أن تَرى . . . له الرِّفْدَ والتّرفِيه أوجبَ وَاجبِ
أقمت لكي تزدادَ نُعْمَاكَ نعمةً . . . وتغني بوجهٍ ناضرٍ غير شاحِبِ
وكي لا يقولَ القائلون أثابهُ . . . وعاقبه والقول جَمُّ المساغب
وليس عجيباً أن ينوبَ تكرّمٌ . . . عُدِيت به من آمل لك عائب
ذِمَامِيَ تَرْعى لا ذِمام سفينةٍ . . . وحقّيَ لا حقَّ القلاص النجائب
ودخل على أبي العتاهية ابنُهُ ، وقد تصوَّف ، فقال : ألم أكُنْ قد نهيتُك عن هذا ؟ فقال : وما عليك أن أتعوّد الخيرَ ، وأنشأ عليه فقال : يا بني ، يحتاجُ المتصوف إلى رقّة حال ، وحلاوة شمائل ، ولطافة معنى ، وأنت ثقيلُ الظلّ ، مظلم الهواء ، راكِد النسيم ، جامدُ العينين ، فأقبل على سوقك ؛ فإنها أعْوَدُ عليك ، وكان بزّازاً .فقر من كلام المتصوّفة والزهّاد والقصاص
نورُ الحقيقةِ ، أحسن من نور الحديقة . الزهد قَطْع العلائق ، وهَجْر الخلائق . الدنيا ساعة ، فاجعلها طاعة . التصوّف تَرْكُ التكلّف . قيل لمتصوّف : أتبغ مُرَقَّعتك ؟ قال : أرأيتم صياداً يبيع شبكَته وقيل لبعضهم : لو تزوَّجْتَ قال : لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها ، وأنشد : الطويل :
تجرَّدْ من الدنيا فإنك إنما . . . سقطت إلى الدنيا وأنتَ مجرّدُ الدنيا نَوْم والآخرة يقظة ، والمتوسّط بينهما الموت ، ونحن في أضغاث أحلام .
ذو النون : العبد بين نعمة وذنبٍ ، لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار .
غيره : ينبغي للعبد أنْ يكون في الدنيا كالمريض لا بدّ له من قوت ، ولا يوافقه كل طعام . ليس في الجنة نعيمٌ أعظم من علم أهلها أنها لا تزول .
ابن المبارك : الزهد إخفاء الزهد . إذا هرب الزاهدُ من الناس فاطلبه ، وإذا طلبهم فاهربْ عنه . من أطلق طرْفه كثر أسفُه . من سُوءِ القدر فَضْل النظر . من طاوعَ طَرْفه ، تابع حَتْفَه ، ومن نظر بعين الهوى حار ، ومن حَكم على الهوى جار ، ومن أطال النظر لم يدرِك الغاية ، وليس لناظر نهاية . ربما أبصر الأعمى رُشْدَه ، وأضلّ البصير قَصْدَه . وقيل : ربَّ حربٍ جُنِيت من لفظة ، وربّ حبٍّ غُرِسَ من لحظة ، وأنشد : الطويل :
نظرت إليها نظرةً لو كسوتها . . . سرابيلَ أبدانِ الحديدِ المسَرَّدِ
لرقّت حواشيها وفُضَّ حديدُها . . . ولاَنتْ كما لاَنتْ لداودَ في اليَدِ
وقال سعيد بن حميد : الطويل :
نظرتُ فقادَتْني إلى الحَتْف نظرة . . . إليَّ بمضمون الضميرِ تشيرُ
فلا تصرفنَّ الطَّرْفَ في كل مَنْظَرٍ . . . فإنَّ مَعَارِيضَ البلاء كثيرُ
ولم أَر مِثْلَ الحبِّ أسقم ذا هوىً . . . ولا مثل حُكْم الحبِّ كَيف يجُورُ
لقد صُنْتُ ما بي في الضمير لَوَ أنه . . . يُصان لدى الطَّرْف النموم ضمِيرُ
غيره : البسيط :
اليومَ أيقنْتُ أنَّ الحبَّ مَتْلَفَةٌ . . . وأن صاحبَه منه على خَطَرِكيف الحياةُ لمن أمْسَى على شَرَفٍ . . . من المنيِّةِ بين الخوفِ والحذَر
يلومُ عينيه أحياناً بذنبهما . . . ويحملُ الذنبَ أحياناً على القدر
إذا نأى أو دَنَا فالقلبُ عندكُم . . . وقلبُه أبداً منه على سَفَرِ
ونظر محمد بن أسباط الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني وقد نظر في وجه غلام مليح ، فقال : إياك وإدْمانَ النظر فإنه ، يكشف الخبر ، ويفضَحُ البشَر ، ويطول به المكثُ في سقَر .
وقال المعَلى الصوفيّ : شكوتُ إلى بعض الزهاد فسَاداً أجدُه في قلبي ، فقال : هل نظرتَ إلى شيء فتاقَتْ إليه نفسُك ؟ قلت : نعم ، قال : احفَظْ عينيك ؛ فإنك إن أطلقتهما أوقعتَاك في مكروه ، وإن ملكْتَهُمَا ملكْتَ سائرَ جوارِحِك .
وقال مسلم الخوّاص لمحمد بن علي الصوفي : أوْصِني ، فقال : أوصيك بتقوى الله في أمرِك كله ، وإيثار ما يحبّ على محبتك ، وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طَرْفك ، وشوّقك إليه قلبك ، فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئاً من جوارحك ، حتى تبلغ لهما ما يطالعانك به ، وإن ملكتهما كنت الداعي إلى ما أردت ، فلم يعصيا لك أمراً ولم يردّا لك قولاً .
قال بعض الحكماء : إن الله عز وجل جعل القلبَ أميرَ الجسدِ ، ومَلِكَ الأعضاءِ ؛ فجميعُ الجوارح تَنْقادُ له ، وكُل الحواسن تُطِيعُه ، وهو مديرُها ومصرفها ، وقائدها وسائقها ، وبإرادته تنبعثُ ، وفي طاعته تتقلب ؛ ووزيره العقل ، وعاضِدُه الفهمُ ، ورائده العينان ، وطليعته الأذنان . وهما في النقل سواء ، لا يكتمانه أمراً ، ولا يطوِيانِ دونه سرّاً ، يريد العين والأذن .
وقيل لأفلاطون : أيهما أشذ ضرراً بالقلب السمع أم البصر ؟ فقال : هما للقلب كالجناحين للطائر ، لا يستقل إلا بهما ، ولا ينهض إلا بقوتهما ، وربما قص أحدُهما فنهض بالآخر على تعب ومشقة . قيل : فما بالُ الأعمى يعشق ولا يرى ، والأصمّ يعشقُ ولا يسمع ؟ قال : لذلك قلت : إن الطائر قد ينهضُ بأحد جناحيه ولا يستقل بهما طيراناً ، فإذا اجتمعا كان ذهابه أمضى ، وطيرانه أَوْحَى .
وقال الأسود بن طالوت الجارودي : نظر إليّ أبو الغمر الصوفي وقد أطلتُ النظرَإلى غلام جميل ، فقال : ويحك إنّ طرْفك لعظيم ما اجتنى من البلاءِ قد عرَّضَك للمكروه وطول العناءِ ، لقد نظرت إلى حَتْف قاتل للقلوب ، وبلاءٍ مُظْهر للعيوب ، وعارٍ فاضح للنفوس ، ومكروه مُذهِل للعقول ، أكلُّ هذا الاغترار بالله جرّأك عليه حتى أمنت مَكْرَه ، ولم تخَفْ كيدَه ؟ اِعلمْ أنك لم تكن في وقت من أوقاتك ، ولا حالةٍ من حالاتك ، أقرب إلى عقوبة الله منك في حالتك هذه ، ولو أخذك لم يتخلّصْك الثقلان ، ولم يَقْبَلْ فيك شفاعةَ إنس ولا جان . ونظر محمد بن ضوء الصوفي إلى رجل ينظرُ إلى غلام مليح ، فقال : كفى بالعبد نقصاً عند الله ، وضعة عند ذوي العقول ، أن ينظُرَ إلى كل ما سَنحَ له من البلاء .
ونظر بو مسلم الخشوعي فأطال النظر ، فقال : إنَّ في خَلْقِ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . ثم قال : سبحان الله ما أهجمَ طَرفي على مكروه نفسه ، وأدمَنه على تسخّط سيده ، وأغراه بما نهى عنه ، وألْهَجه بما حذّر منه لقد نظرت إلى هذا نظراً شديداً خشيتُ أنه سيفضحني عند جميع مَنْ يعرفني في عَرصَة القيامة ؛ ولقد تركني نظرِي هذا وأنا أَسْتَحِي من الله تعالى إن غفر لي ثم صعق .
ونظر غالبٌ المضرور إلى غلام جميل على فرس رائع ، فقال : لا أدري بم أداوي طَرْفي ، ولا بم أُعالج قلبي ؟ ما أتوبُ إلى الله من ذنب إلا رجعت فيه ، ولا أستغفِرُه من أمر إلا أتيت أعظم منه ، حتى لقد استحييتُ أن أسأله المغفرة لما يلحق قلبي من القنوط من عفوه ، لعظيم حالي بالمنكر الذي أصنعهُ . فقال له قائل : وأيّ منكر أتيت ؟ فقال : أتريدُ مني أكثرَ من نظري هذا ؟ والله لقد خشيت أن يبطل كل عمل قدمته ، وخير أسلفته ، ثم بكى حتى ألصق خدَّه بالأرض .
ورأى بعضُ الزهّاد صوفيّاً يضحَكُ إلى غلام جَميل ، فقال له : يا خارب القلب ، ويا مفتضح الطرْف ؛ أما تستحي من كِرَام كاتبين ، وملائكة حافظين ، يحفظون الأفعال ، ويكتبون الأعمال ، وينظرون إليك ، ويشهدون عليك ، بالبلاء الظاهر ، والغِلّ الدخيل المخامر ، الذي أقمت نفسَك فيه مقام مَنْ لا يُبَالي من وقف عليه ، ونظر من الخلق إليه .
وقال أبو حمزة بن إبراهيم : قلت لمحمد بن العلاء الدمشقي - وكان سيدَ المتصوفة ، وقد رأيتهُ يماشِي غلاماً وضيئاً مدة ثم فارقه - : لِمَ هجرتَ ذلك الفتى بعد أنْ كنتَ له مواصلاً ، وإليه مائلاً ؟ فقال : والله ، لقد فارقته من غير قِلًى ولا مَلَل ؛ ولقدرأيتُ قلبي يدعوني إذا خلوت به ، وقربت منه ، إلى أمر لو أتيته لسقطت من عيْن الله عزّ وجلّ ؛ فهجرتُه تنزيهاً للهِ ولنفسي عن مصارع الفتن ، وإني لأرجو أن يعقبني سيدي من مفارقته ما أعقب الصابرين عن مَحارِمه عند صدق الوفاءِ بأحسنِ الجزاء ؛ ثم بكى حتى رحمتهُ .
قال أبو حمزة : ورأيتُ مع أحمد بن علي الصّوفي ببيت المقدس غلاماً جميلاً ، فقلت : منذ كم صحبك هذا الغلام ؟ فقال : منذ سنين ، فقلت : لو سرتما إلى بعضِ المنازهِ فكنتما فيه كان أحمد لكما من الجلوس في المسجد بحيثُ يراكما الناس ؟ فقال : أخافُ احتيالَ الشيطان عليّ به وقت خَلوتي ، وإني لأكره أن يراني الله فيه على معصية فيفرق بيني وبينه يوم يظفر المحبّون بأحبابهم .
قال أبو الفتح البستي : البسيط :
تنازع الناسُ في الصوفيّ ، واختلفوا . . . فيه وظنّوه مشتقّاً من الصوفِ
ولست أنحل هذا الاسمَ غيرَ فتًى . . . صافَى فصُوفِيَ حتى لقّب الصوفي
ورأى بقراط رجلاً من تلامذته يتفرَّس في وَجْه أوحَيَا ، وكانت فائقة الجمال ، فقال : ما هذا الشغل الذي منعك الرويّة والفكرة ؟ فقال : التعجبُ من آثار حكمة الطبيعة في صورة أوحَيا ، فقال : لا تجعلنَّ نظرك لشهوتك مركباً ، فيجمع لك في الوحول الأذية ؛ ولتَكُنْ نفسُك منه على بال ، إنَّ آثار الطبيعة في وَجْه أوحَيا الظاهرة تمحق بصرك ، وإن فكرت في صورتها الباطنة تحدّ نظرَك .
وقال بعضُهم : رأيت جارية حسناء الساعدِ ، فقلت : يا جارية ، ما أحسنَ ساعدَك فقالت : أجل ، لكنه لم تختصّ به ، فغضَّ بصَرَ جسمك عمّا ليس لك ؛ لينفتح بصرُ عقلك فتَرَى ما لك .
الرأي والهوى
وقال بعضُ الفلاسفة اليونانيين : فضلُ ما بين الرأْي والهوى أنَّ الهوَى يخُصُّ والرأي يعمّ ، وأن الهوى في حيز العاجل ، والرأي في حيز الآجل ، والرأي يبقى على طول الزمانِ ، والهوى سريع الدثور والاضمحلال ، والهوى في حيز الْحِسّ ، والرأي في حيّز العقل .
وقال بعضُ الحكماء : من انقاد لِهَوَاه عرضته الشهوات .وقال آخر : من جَرَى مع هواه طَلْقا ، جعل عليه للذلّ طرقا . وقال ابن دُريد : أَوصى بعضُ الحكماء رجلاً فقال : آمرك بمجاهدة هواك ؛ فإنه يقال : إن الهوى مفتاحُ السيئات ، وخصيم الحسنات ، وكل أهوائك لك عدو ، وأعداهما هوًى يكتُمك نفسَه ، وأعدى منه هوى يمثّل لك الإثم في صورةِ التقوى ، ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إلا بحَزْمٍ لا يشوبه وهَن ، وصِدْقٍ لا يطمع فيه تكذيبٌ ، ومَضَاءٍ لا يقاربُه التثبيط ، وصبر لا يغتاله الجزع ، وهمّة لا يتقسمها التضييع .
وقاد أبو العتاهية : البسيط :
لا تَأْمَنِ الموتَ في طَرْف وفي نَفَس . . . ولو تَمَنَعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ
فما تزالُ سِهَامُ الموتِ نافذةً . . . في جَنبِ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرسِ
ما بالُ دينكَ تَرْضَى أن تُدَنِّسَهُ . . . وثوبُك الدهر مَغسولٌ من الدَّنَسِ
ترجو النَجاةَ ولم تَسْلُكْ مسَالِكَها . . . إن السفينةَ لا تجرِي على يَبَس
من البد بدائه في مجالس الخلفاء
خرج شبيب بن شيبة من دارِ المهدي ، فقيل له : كيف رأيتَ الناس ؟ قال : رأيتُ الداخل راجياً والخارجَ راضياً ، نحا إلى هذا المعنى ربيعةُ الرَّقِّيُّ فقال : السريع :
قد بسطَ المهدي كفَّ الندى . . . للناس والعفو عن الظالمِ
فالراحلُ الصادر عن بابه . . . مبشرٌ للواردِ القادمِ
وقال مسلم بن الوليد في نحو هذا المعنى : الطويل :
جزيت ابنَ منصورٍ على نَأْي دارهِ . . . جزاءَ مقرٍّ بالصنيعة شاكِرِفَتى راغمَ الأموالَ واصطنع العُلاَ . . . وأرَّثَ نيرانَ الندى للعشائر
ترى الناسَ أَرسالاً على باب داره . . . عَلَى آمِنٍ يَحْدُو بِهِ حملُ صادِرِ
وقال المتنبي : الطويل :
وألقَى الفَمَ الضَحَّاكَ أَعْلَمُ أنهُ . . . قَرِيبٌ بذِي الكَفِّ المُفَدَّاةِ عَهْدُهُ
دخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح ، وعنده أخواله من بني الحارث بن كَعْب ، فقال : ما تقولُ في أخوالي ؟ فقال : هم هامة الشرف ، وعِرْنِينُ الكَرم ، وغَرسُ الجود ، إنّ فيهم لخصالاً ما اجتمعَتْ في غيرهم من قومهم ؛ إنهم لأطولهم أمماً ، وأكرمهم شِيَماً ، وأطيبهم طعماً ، وأوفاهم ذمماً ، وأبعدهم همماً ، الجمرة في الحرب ، والرِّفْد في الجَدْبِ ، والرأس في كل خَطْب ، وغيرهم بمنزلة العَجْب . فقال : وصفت أبا صفوان فأحسنْتَ ، فزادَ أخوالُه في الفخر فغضب أبو العباس لأعمامه ، فقال : أَفخرٌ يا خالدُ ؟ قال : أعلى أخوال المؤمنين قال : وأنتَ من أعمامه ؟ قال : كيف أفاخر قوماً بين ناسج برد ، وَسَائس قِرْد ، ودابغ جِلْد ، دلَّ عليهم هدهُد ، وغرّقهم جُرَذ ، وملكتهم أمّ ولد فأشرق وَجْهُ أبي العباس .
قال يموت ابن المزرّع : سمعتُ خالي الجاحظ ، وذكر كلام خالد هذا ، فقال : والله لو فكر في جَمْعِ معايبهم ، واختصار اللفظ في مَثَالبهم ، بعد ذلك المدحِ المهذب سَنَةً لكان قليلاً ، فكيف على بديهته لم يَرُض له فكراً .
هكذا أورد هذه الحكاية الصولي ، وقد جاءت بأطولَ من هذا ، وليس من شَرْطِنا .
قال معن بن أَوس الهذلي : الطويل :
لعمرك ما أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ . . . على أيِّنا تَأْتي المنيّة أولُوإني أخوك الدائمُ الودِّ لم أحُلْ . . . إذا ناب خطبٌ أو نَبَا بك منزِل
كأنك تشفِي منك داءَ مساءتي . . . وسُخْطِي ، وما في رِيبتي ما تَعَجَّلُ
وإن سُؤْتَني يوماً صبرتُ إلى غدٍ . . . ليعقبَ يوماً آخر منك مُقْبلُ
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني . . . يمينَك فانْظُرْ أيّ كفّ تَبدَّلُ
وفي الناس إن رثَّت حبالُك واصلٌ . . . وفي الأرض عن دارِ القلى مُتَحَوَّل
إذا أنت لم تنصفْ أخاك وجدْتَهُ . . . على طرف الهجران إنْ كان يعقلُ
ويركب حدّ السيف من أن تَضِيمَهُ . . . إذا لم يكن عن شَفْرةِ السيفِ مَزْحَلُ
وكنت إذا ما صاحبٌ رامَ ظنتي . . . وبَدَّل سوءاً بالذي كان يفعل
قلبتُ له ظَهْرَ المِجَنّ ولم أدُمْ . . . عليه العهد إلاَّ ريثما أَتحوَّلُ إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد . . . عليّ بوجهٍ آخر الدهر تُقبل
ودخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وأنشد شعر مَعْن ، فقال : لمن هذا ؟ فقال : لي يا أمير المؤمنين ، قال : لقد شَعُرْتَ بعدي يا أبا بكر ثم دخل عليه مَعْن فأنشد الشعر بعينه ، فقال : يا أبا بكر ، ألم تقل إنه شعرك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه ظِئْري فما كان له فهو لي . أراد معاتبة معاوية فعاتبه بشعر مَعْنٍ ؛ ليبلغ ما في نفسه ، وليس ادِّعاؤه له على حقيقة منه .
وقال خالد بن صفوان : دخلتُ على هشام بن عبد الملك ، فاستَدْنَاني حتى كنت أقربَ الناسِ إليه ، ثم تنفّس الصعداء ، وقال : يا خالد ، ربَّ خالدٍ جلس مجلسك هو أشهى إليّ حديثاً منك فعلمت أنه أراد خالداً القَسرِي ، فقلت : أفلا تعيده يا أمير المؤمنين ؟ فقال : هيهات ؟ إن خالداً أدلّ فأملَّ ، وأوجف فأعجف ، ولم يَدَعْ لراجع مرجعاً . وتمثلّ بهذا البيت : الطويل :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تَكَد . . . عليه بوجهٍ آخرَ الدهر تُقْبِلُ
وروى أبو حاتم عن أبي عبيدة قال : كان عبد الملك بن مروان في سَمَرِه مع أهل بيتِه وولده وخاصّته ، فقال لهم : لِيَقُلْ كلُّ واحدٍ منكم أحسن ما قيل من الشعر ، وليفضّل مَنْ رأى تفضيله ، فأنشدوا وفضّلوا . فقال بعضهم : امرؤ القيس ، وقال بعضهم : النابغة ، وقال بعضهم : الأعشى ، فلمّا فرغوا قال : أشعرُ الناس والله من هؤلاء الذي يقول ،وأنشد بعض هذه الأبيات التي أنشد ، وهي لمعن بن أوس : الطويل :
وذي رَحِمٍ قَلَّمتُ أظفارَ ضِغْنِهِ . . . بحلميَ عنه وهو ليس له حِلْمُ
يحاول رَغْمي لا يحاولُ غيرهُ . . . وكالموتِ عندي أن يَحُلّ به الرَّغْمُ
فإن أعفُ عنه أغْض عيناً على قَذىً . . . وليس له بالصَّفْح عن ذنبه عِلْمُ
وإن أنتصر منه أكُنْ مثل رائشٍ . . . سهامَ عدوّ يُستهاض بها العظمُ
صبَرْتُ على ما كان بيني وبينهُ . . . وما يستوِيَ حَرْبُ الأقارب والسّلمُ
وبادرتُ منه النأيَ والمرءُ قادرٌ . . . على سهمه ما كان في كفَه السهم
ويشتم عرضي في المغيَّب جاهداً . . . وليس لَهُ عندي هَوَانٌ ولا شتم
إذا سُمْتُه وَصْلَ القرابةِ سامني . . . قطيعتَها ، تلك السفاهةُ والإثمُ
فإن أدْعُه للنَّصْف يَأْبَ إجابتي . . . ويَدْعُو لحكم جائرٍ غيرُهُ الْحُكمُ
فلولا اتقاءُ الله والرَّحِمِ التي . . . رِعايتها حقٌّ وتعطيلها ظُلم
إذا لعَلاَه بارقٌ وخَطَمْتُهُ . . . بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابههُ وَسْمُ
ويسعى إذا أبني ليهدِمَ صالحِي . . . وليس الذي يبني كمن شَانُه الهَدْمُ
يودُّ لَوَ أنّي معدِم ذو خَصاصة . . . وأكرهُ جهدي أن يخالِطَه العُدْم
ويعتدُّ غُنْماً في الحوادث نكبتِي . . . وما إنْ له فيها سَنَاءٌ ولا غُنْم
فما زِلتُ في لِيني له وتعطُفي . . . عليه كما تحنو على الولَدِ الأمُّ
وخَفْضي له مني الجناحَ تألّفاً . . . لتُدْنيَهُ مني القرابةُ والرِّحْمُ
وصَبْرِي على أشياءَ منه تَريبني . . . وكَظْمي عن غيظي وقد ينفع الكَظْمُ
لاسْتَلّ منه الضِّغْن حتى استللْتُه . . . وقد كان ذا ضِغنٍ يصوبه الحزم
رأيتُ انثلاماً بيننا فرقَعْتُه . . . برفقيَ أحياناً وقد يرْقَع الثّلْمُ
وأبرأتُ غِلَّ الصدرِ منه توسُّعاً . . . بحلمي كما يُشْفَى بِالأَدْوِيَةِ الكَلْمُ
فأطفأت نار الحرب بيني وبينهُ . . . فأصبحَ بعد الحرب وهو لنا سَلْموكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : وصل كتابُك فصادفني قريبَ عهد بانطلاق ، من عنَتِ الفراق ، وأوقفني مستريحَ الأعضاء والجوانح من حرّ الاشتياق ، فإنّ الدهرَ جرى على حكمِه المألوف في تحويل الأحوال ، ومضى على رَسْمه المعروف في تبديل الأبدال ، وأعتقني من مخالَّتك عِتقاً لا تستحق به ولاء ، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجِبُ معها دَرَكاً ولا استثناء ، ونزع من عُنقي رِبْقَة الذلّ في إخائك بِيَدَيْ جفائك ، ورش على ما كان يحتدم في ضميري من نيرانِ الشوق ماء السلوّ ، وشن على ما كان يلتهبُ في صَدْري من الوَجْد ماءَ اليأس ، ومسح أعشار قلبي فلأَمَ فُطُورَها بجميل الصبر ، وشعبَ أفلاذَ كبدي فلاحم صدوعَها بحُسْن العزاءِ ، وتغلْغَل في مسالِك أنفاسي فعوض نفسي من النزاع إليك نزوعاً عنك ، ومن الذهاب فيك رجوعاً دونك ، وكشفَ عن عيني ضَبَابات ما ألقاهُ الهوَى على بصري ، ورفِع عنها غيابات ما سَدَلَه الشكّ دُون نظري ، حتى حدَر النقاب عن صفحاتِ شِيَمك ، وسفر عن وجوه خليقتِك ؛ فلم أَجدْ إلا منكراً ، ولم ألق إلا مستكبراً ، فوليتُ منها فِراراً ، ومُلِئتُ رُعْباً ، فاذهب فقد ألقيت حَبْلَكَ على غاربك ، ورددتُ إليك ذميماً عهدك .
وفي فصل من هذه الرسالة : وأمّا عذرُك الذي رُمْت بَسْطَه فانقبض ، وحاولْتَ تمهيدَه وتقريرَه فاستَوْفَزَ وأعرض ، ورفعتَ بضَبْعِه فانخفض ، فقد ورد ولقيته بوجهٍ يؤثر قبولُه على رَدِّه ، وتزكيته على جرحه ، فلم يفِ بما بذلته لك من نفسِه ، ولم يقم عند ظنك به ، أنَّى وقد غطى التذمُّمُ وجْهَه ، ولفَّ الحياء رَأْسَهُ ، وغضَ الخجلُ طَرفَه ؛ فلم تتمكن من استكشافه ، وولَّى فلم تقدر على إيقافه ، ومضى يعثرُ في فضولِ ما يغشاه من كرب حتى سَقَطَ ، فقلْنا : لليدِ والفم . ثم أمر بمطالعة ما صحبه فلم أجده إلا تأبط شرّاً ، أو تَحَمَّلَ وِزْراً .
وقوله هذا محلول من عقد نظمه إذ يقول : الكامل :
اِقْرَ السلامَ على الأمير وقلْ لهُ . . . قَدْكَ اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ في الغُلَوَاء
أنتَ الذي شتَّتَّ شَمْلَ مسرَّتي . . . وقَدَحْتَ نارَ الشوق في أحشائي
ورضيت بالثمن اليسير معوضةً . . . مني ، فهلا بِعْتَني بغلاءوسألتك العُتْبَى فلم تَرَنِي لها . . . أهلاً ، فجُدْتُ بعِذْرَةٍ شَوْهاء
ورَدَتْ مموّهةً فلم يرفَعْ لها . . . طرْف ، ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمّم سكتة . . . فتراجعَتْ تمشِي على استِحْيَاء
لم تشف من كمدٍ ، ولم تَبردْ على . . . كبدٍ ، ولم تَمْسَحْ جوانبَ داء
دَاوتْ جوًى بجوىً وليس بحازم . . . من يستكفّ النارَ بالحَلْفَاء
من يشف مِنْ كمد بآخر مِثلهِ . . . أثرت جوارحُهُ على الأدواء وله إليه رسالة : أخاطب الشيخ سيدي - أطال الله بقاءه - مخاطبةَ مُحرَجٍ يَرُوم الترويحَ عن قَلْبِه ، ويُريغ التفريجَ من كَرْبِهِ ؛ فأكاتبهُ مكاتبةَ مصدور ، يريدُ أن ينفثَ بعضَ ما به ، ويخفّف الشكوى من أوصابه ، ولو بقيَتْ في التصبّر بقيةٌ لسكتّ ، ولو وجدت في أثناء وجدي مَخرجة يتحللها تجلُّد لأمسكت ؛ فقديماً لبسْتُ الصديقَ على علاَّته ، وصفَحْتُ له عن هَناته ، ولكني مغلوب على العزاء ، مأخوذٌ من عادتي في الإغضاء ، فقد سل من جفائك ما ترك احتمالي جفاءً ، وذهب في نفسي من ظلمك ما أنزف حلمي فجعله هباء ، وتوالى عليّ من قُبْحِ فعلِك في هجر يستمر على نسَق ، وصدّ مطَرِدٍ متَّسِق ، ما لو فُضَّ على الوَرى ، وأُفيض على البشَر لأمتلاتْ منه صدورُهم ، فهل أقدرُ على ألا أقول ، وهل نكِلُك إلى مراعاتك ، وهل نشكوك إلى الدهرِ حليفك على الإضرار ، وعَقِيدك على الإفساد ، وأشكوه إليك ؟ فإنكما وإن كنتما في قطيعة الصديق رضِيعَيْ لِبَان ، وفي استيطاء مركب العقوق شريكي عنان ، فإنه قاصرٌ عنك في دقائقَ مخترعةٍ ، أنتَ فيها نسيجُ وَحْدِك ، وقاعد عما تقوم به من لطائف مبتدعة ، أنْتَ فيها وحيدُ عصرك ، أنتما متفقان في ظاهرٍ يَسُرُّ الناظرَ ، وباطن يسوءُ الخابر ، وفي تبديل الأبدال ، والتحوّل من حالٍ إلى حال ، وفي بث حبائل الزورِ ، ونَصْب أشراك الغرور ، وفي خلف الموعود ، والرجوع في الموهوب ، وفي فظاعة اهتضام ما يعير ، وشناعة ارتجاع ما يمنح ، وقَصْدِ مُشَارَّة الأحرار ، والتحامل عند ذوي الأخطار ، وفي تكذيب الظنون ، والميلِ عن النباهة للخمول ، إلى كثير من شِيَمكما التي أسندتما إليه ، وسنتكما التي تعاقدتُما عليها ، فأين هو ممن لا يجارى فيه نقض عُرىالعهود ، ونكْث قُوَى العقود ؟ وأنَّى هو عن النميمة والغيبة ، ومشي الضَّراء في الغِيلة ، والتنفق بالنفاق في الحيلة ؟ وأين هُو ممن ادَّعى ضروبَ الباطل ، والتحلّي بما هو منه عاطل ، وتنقّص العلماء والأفاضل ؟ هذا إلى كثير من مَسَاوٍ منثورة أنت ناظِمُها ، ومَخَازٍ متفرقة أنت جامِعُها . أنت أيّدك الله إنْ سوّيتَه بنفسك ، ووزنته بوزنِك ، أظلَمُ منه لذويه ، وأعق منه لبنيه ، وهَبْك على الجملة قد زعمت - مفترياً عليه - أنه أشدُّ منك قدرة ، وأعظمُ بَسْطَة ، وأتمّ نصرة ، وأطلق يداً في الإساءة ، وأمضى في كل نكاية شباة ، وأحد في كل عاملة شَدَاة ، وأعظم في كل مكروه مُتَغلغلأ ، وآلف إلى كل محذور متوصلاً ، إن الدهر الذي ليس بمعْتِب من يجزعُ ، وإن العُتْبَى منك مأمولة ، ومن جهتك مرقوبة ، وهيهات فهل توهَّم أنه لو كان ذا روح وجثمان ، مصوراً في صورةِ إنسان ، ثم كاتبتهُ أستعطفه على الصلة ، وأستعفيه من الهجْرِ ، وأذكِّره من المودّة ، وأستميل به إلى رعايةِ المِقَة ، وأستعدّ على ما أشاعه الفراقُ في نفسي من اللوْعة ، وأَضْرَمه بالبعادِ في صدري من الحرقة ، وكان يستَحْسِنُ ما اسْتَحْسَنته من الاضطراب عند جوابي ، ويستجيز ما اسْتَجَزْته من الاستخفافِ بكتابي .
وله فصل في هذه الرسالة ، وقد ذكر دعواه في العلم : وهبْك أفلاطون نفسه ، فأينَ ما سنَنته من السياسةِ ، فقد قرأناه ، أتجدُ فيه إرشاداً إلى قطيعة صديق ، وأحسبك أرسطاطاليس بعَيْنِه ، أين ما رَسَمْته من الأخلاق ؟ فقد رأيناه فلم نر فيه هدايةً إلى شيء من العُقُوق ، وأما الهندسة فإنها باحثةٌ عن المقادير ، ولن يعرفها إلا مَنْ جهل مقدارَ نفسه ، وقَدرَ الحقّ عليه وله ؛ بل لك في رؤساء الآداب العربية مِنَّا ريحٌ ومضطرب ، ولسنا نُشَاحّك . لكن أتحب أن تتحقّق بالغريب من القول ، دون الغريب من الفعل ؟ وقد أغربت في الذهاب بنفسك إلى حيث لا تهتدي للرجوع عنه . وأما النحوُ فلن تُدْفع عن حذق فيه ، وبصَرٍ به ، وقد اختصرتُه أوْجزَ اختصار ، وسهلت سبيلَ تعليمه على من يجعلك قُدْوة ، ويرضى بك أسوةً ، فقلت : الغدرُ والباطلُ وما جرى مجراهما مرفوع ، والصدق والحقّ وما صَاحَبَهما مخفوض ، وقد نصب الصديقُ عندك ، ولكن غرضاً يرْشَق بسهام الغيْبة ، وعَلَماً يقصد بالوقيعة ، ولست بالعروضي ذي اللّهجةِ فأعرف قَدْرَحذقك فيه ، إلا أني لا أراك تتعرّضُ لكاملٍ فيه ، ولا وافرٍ ، وليتك سبحتَ في بحر المجتث حتى تخرج منه إلى شَطّ المتقارب .
وفي فصل منها أيضاً : وهبْني سكتُّ لدعواك سُكوتَ متعجّب ، ورضيتُ رِضا متسخّط ، أيرضى الفضل اجتذابَك بأَهدابه ، من يدي أهليه وأَصحابه ، وأحسبك لم تزاحِمْ خطابه ، حتى عرفت ذلّة نَفَره وقلّة بصره ، فاصدقني هل أنشدك : المنسرح :
لو بأَبانَيْنِ جاء يَخْطبُها . . . ضُرِّجَ ما أَنْفُ خَاطبٍ بدَمِ
وليت شعري بأي حلي تصدّيت لَهُ ؛ وأنت لو تتوّجت بالثريّا ، وقلّدت قِلادة الفلك ، وتمنْطَقْتَ بمنطقة الجوزاء ، وتوشَّحْتَ بالمجرّة لم تكن إلا عُطُلاً ، ولو توشَّحْتَ بأنوارِ الربيع الزاهر وسرّجت جبينك غرَّةَ البدرِ الباهرِ ، ما كنتَ إلا عُطُلاً ، سيما مع قلّة وفائك ، وضَعْفِ إخائك ، وظلمة ما تتصرّف فيه من خِصالك ، وتراكم الدُّجَى على ضلالِك ، وقد ندِمْتُ على ما أعرتك من ودِّي ، ولكن أي ساعةِ مَنْدَم ، بعد إفناء الزمان في ابتلائك ، وتصفُّحي حالاتِ الدهر في اختيارك ، وبعد تضييع ما غرسْته ، ونقض ما أسسْتُه ، فإن الودادَ غرسٌ إذا لم يوافق ثرى ثريا ، وجوَّاً عَذِيّاً ، وماء رَوِيّاً ، لم يُرْجَ زكاؤُه ، ولم يجر نماؤُه ، ولم تفتَّح أزهارُه ، ولم تجن ثمارُه ، وليت شعري ، كيف ملك الضلالُ قيادي حتى أشكل عليَّ ما يحتاجُ إليه الممزوجان ، ولا يستغني عنه المتآلفان ، وهما ممازجة طَبْع ، وموافقة شَكْلٍ وخَلْق ، ومطابقة خِيم وخلُق ، وما وصلتنا حال تجمعنا عنى ائتلاف ، وحمَتْنَا من اختلاف ، ونحن في طرفي ضدَّين ، وبين أمرين متباعدين ؛ وإذأ حصَّلت الأمر وجدت أقلّ ما بيننا من البعاد ، أكثر ممّا بين الوِهاد والنجَادِ ، وأبعد ممّا بين البياض والسوادِ ، وأيسر ما بيننا من النفار أقلّ ما بيننا من النضار ، وأكثر ما بين الليل والنهار ، والإعلان والإسرار .قضاء الحَاجة
قال أسد بن عبد الله لأبي جعفر المنصور : يا أميرَ المؤمنين ، فَرْطُ الخُيَلاَء ، وهيبةُ العزّة ، وظل الخلافة ، يكفُ عن الطلب من أمير المؤمنين إلاّ عن إذْنِه ، فقال له : قلْ : فقد والله أصبتَ مَسْلَك الطلب ؛ فسأل حوائجَ كثيرةً قُضِيَتْ له .
وقال عمرو بن نهيك لأبي جعفر المنصور : يا أميرَ المؤمنين ، قد حضر خَدَمك الإعظام والهيبة عن ابتدائك بطلباتهم ، وما عاقبةُ هذين لهم عندك ؟ قال : عطاء يزيدهم حياءً ، وإكرامٌ يكسوهم هيبةَ الأَبد .
قال عيسى بن علي : ما زال المنصور يشاورُنا في أمره حتى قال إبراهيمُ بن هرمَة فيه : الطويل :
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميرهُ . . . فناجَى ضميراً غير مختلف العَقْلِ
ولم يُشْرِكِ الأدنين في جُل أمرِه . . . إذا اختلفت بالأضعفين قُوَىَ الحَبْلِ
فِقَر في ذكر المًشُورة
المشورةُ لِقاحُ العقل ، ورائدُ الصواب ، وحَزْمُ التدبير . المشاورة قبل المساوَرة . والمشورةُ عينُ الهداية .
ابن المعتز : من رضي بحالهِ استراح ، والمستشِيرُ على طرف النجاح .
وله : مَن أكثرَ المشورة لم يعدم في الصواب مادحاً ، وفي الخطإ عاذراً .
بشار بن برد : المشاور بين إحْدى الحسنيين : صواب يفوزُ بثمرته أو خطأ يُشارك في مكروهه ، وقال : الطويل :
إذا بلغ الرأيُ المَشُورَةَ فاستَعِنْ . . . بعَزْم نصيحٍ أو مشورةِ حازمِ
ولا تحسَبِ الشُّورى عليك غَضاضةً . . . فإنّ الخوَافِي قوة للقوادمِ
وما خيرُ كَفٍّ أمسكَ الغُل أُخْتَها . . . وما خيرُ سيفٍ لم يُؤَيَّدْ بقائمِوخَلِّ الهوَيْنَى للضعيف ولا تكنْ . . . نؤوماً فإن الحرَّ ليس بنائم
وأَذنِ إلى القرب المُقَرِّبَ نفسهُ . . . ولا تُشْهِدٍ النجوى أمرأً غير كاتم
فإنك لا تَسْتَطْرِدُ الغَمَّ بالمنى . . . ولا تَبْلُغُ العُلْيا بغيرِ المكارم
دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب في حمالات لزِمَتْه فقال : أيها الأمير ، قد عظُم شأنك أن يُستعانَ بك أو يستعانَ عليك ، ولستَ تفعل شيئاً من المعروف إلا وأنتَ أكبرُ منه ، وليس العجبُ من أن تفعل ، بلَ العجب من ألا تفعل ، فقضاها .
في التاريخ والنسب
استخلص القاضي أبو خليفة الفضلُ بن حباب الجمحيُ رجلاً للأُنْس به ، فقال : أغَيَّر ثيابي وأعود ، قال : ما أفعل ، إيناسك وَعد ، وإيحاشك نقد ، وكان أبو خليفة من جلَّةِ المحدثين ، وله حَلاوةُ معنى ، وحسن عبارة ، وبلاغةُ لفظ . قال الصولي : كاتبتُ أبا خليفة في أمور أرادها فأغفلتُ التاريخَ منها في كتابين ، فكتب إليّ بعد نفوذِ الثاني : وصل كتابك - أعزك اللّه - مبْهَم الأوان ، مُظْلم المكان ، فأدَّى خيراً ما القرب فيه بأولى من البُعْد ؛ فإذا كتبت - أكرمك الله تعالى - فلتكن كتبُك مرسومةً بتاريخ ؛ لأعرِف أدنى آثارك ، وأقرب أخبارك ، إن شاء الله تعالى .
وقال بعض الكتاب : التاريخ عمودُ اليقين ، ونَافي الشكّ ، به تُعْرَف الحقوق ، وتُحفَظُ العهود .
وقال رجل لأبي خليفة سَلّم عليه : ما أحسبك تعرف نسبي ، فقال : وجهك يدلّ على نسبك ، والإكرامُ يمنع من مسألتك ، فأَوْجِدْ لي السبيل إلى معرفتك .
وسأل أبو جعفر المنصور قبل أن تُفْضِيَ إليه الخلافةُ شبيبَ بن شيبة ، فانتسب له ، فعرفه أبو جعفر ، فأَثنى عليه وعلى قومه ، فقال له شبيب : بأبي أنت وأمي أنا أحبّ المعرفة وأجِلّك عن المسألة ، فتبسَّم أبو جعفر وقال : لطف أهل العراق أنا عبد الله بن محمد بن علي ، بن عبد الله بن العباس ، فقال : بأبي أنت وأمي ما أشبهك بنسبك ، وأدلَّك على منصبك .فِقر وأمثال يتداولها العمال
الولاية حلة الرضاع مرَّة الفطام . غُبارُ العمل خيرُ من زعفران العطلة .
ابن الزيات : الإرجاف مقدمة السكون .
عبد اللّه بن يحيى : الإرجاف رائد الفتنة .
حامد بن العباس : غرس البلوى ، يثمر الشكوى .
أبو محمد المهلبي : التصرّف أعلى وأَثنى ، والتعطّل أَصْفَى وأعفى .
إبو القاسم الصاحب : وَعدُ الكريم ، أَلْزَمُ من دَين الغريم .
أبو المعتز : ذلُّ العَزلِ يضحك من تِيه الولاية . وقال : مجزوء الكامل :
كم تائهٍ بولايةٍ . . . وبعَزْلِه رَكضَ البَريدُ
سُكْرُ الوِلاية طيبٌ . . . وخُمارها صَعْبٌ شديدُ
وقال : من ولي ولايَةَ فتاه فيها فأَخبره أَن قدره دونها . العزل طلاق الرجال وحيض العمال . وأنشدوا : الوافر :
وقالوا العَزْل للعمال حَيْضٌ . . . لحاهُ الله من حَيْضٍ بَغيضِ
فإنْ يكُ هكذا فأَبُو عَليٍّ . . . من اللائي يَئِسْنَ من المحيضِ
منصور الفقيه : المجتث :
يا مَن تولَّى فأَبدى . . . لنا الجفا وتَبدَّلْ
أليس منك سمِعنَا . . . من لم يمتْ فسيُعْزَلْ
وقال أيضاً : المتقارب :
إذا عُزِل المرءُ واصلتُه . . . وعند الولايةِ أستكبرُ
لأن المولَّى له نخوة . . . ونفسي على الذلِّ لا تَصْبِرُ
أخبار منصور الفقيه
ومنصور هذا هو منصور بن إسماعيل بن عيسى بن عمر التيمي ، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الشافعي ، رضي الله عنه ، وهو حلو المقطعات ، لا تزالُ تندر له الأبيات مما يستظرَف معناه ، ويُستحلى مغزاه ، ويبقى ثتاه ، وهو القائل لما كفَّ بصره : البسيط :
مَنْ قال ماتَ ولم يستَوْفِ مُدّتهُ . . . لعظم نازلةٍ نالَتْهُ معذورُ
وليس في الحكم أن يحيا فتىً بلغَتْ . . . به نِهايةَ ما يخشى المقاديرُفقلْ له غيرَ مرتَابٍ بغفلتِه . . . أو سوءِ مذهبه : قد عاش منصورُ
وعَتَبَ على بعض الأشراف ، وكانت أمُّه أمةً قيمتها ثمانية عشر ديناراً ، فقال : المجتث :
من فاتني بأبيه . . . لم يَفتْني بأمّه
ورام شتميَ ظلماً . . . سكتُّ عن نصفِ شَتْمِه
وقال : المجتث :
لو قيل لي خذْ أماناً . . . ممن حادث الأزمانِ
لما أخَذْتُ أماناً . . . إلا من الإخْوَانِ
وقال : المتقارب :
رضيت بما قسمَ الله لي . . . وفوّضتُ أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى . . . كذلك يُحسن فيما بَقِي
وقال : مجزوء الكامل :
لو كنت منتفعاً بعلْ . . . مك مَع مواصلة الكبائر
ما ضرَّ شُرب السمّ واع . . . لَمْ أنّ شرب السمّ ضائرْ
وقال : الهزج :
إذا القوتُ تأتّى ل . . . ك والصِّحّةُ والأمن
وأصبحتَ أخا حُزْن . . . فلا فارقك الحُزْنُ ورأيت له في أكثر النسخ - على أن أكثر الناسِ يرويه لإبراهيم بن المهدي ، وهو الصحيح - : الكامل :
لولا الحياءُ وأنني مشهورُ . . . والعيبُ يَعْلَقُ بالكبيرِ كبيرُ
لحَللْت منزلنا الذي نحتلّهُ . . . ولكان منزلنا هو المهجورُ
وهذا كقول الصاحب أبي القاسم : المتقارب :
دعَتْنيَ عيناك نحو الصبا . . . دعاء يكرر في كلّ ساعَهْ
فلولا وحقك عذرُ المشيبِ . . . لقلتُ لعينيك سمعاً وطاعَهْوقال ابن دريد في معنى البيت الأول فأحسن : البسيط :
إذا رأيت امرأً في حال عُسْرَته . . . مُصَافِياً لك ما في وُدِّه خَلَلُ
فلا تمن له أن يستفيدَ غِنىً . . . فإنه بانتقال الحالِ ينتقلُ
تغيّر بعد عسرة
وكان لمحمد بن الحسن بن سَهْل صديقٌ قد نالته عُسرةٌ ، ثم ولّي عملاً ؟ ، فأتاه محمد قاضياً حقّاً ومسلماً عليه ، فرأى منه نبوةً وتغيّراً ، فكتب إليه : الطويل :
لَئن كانتِ الدنيا أَنالتْكَ ثروةً . . . وأصبحت ذا يُسْرٍ ، وقد كُنْتَ ذا عُسْرِ
لقد كشف الإثراءُ منك خلائقاً . . . من اللؤم كانت تحتَ ثوْبٍ من الفقر
وقال أبو العتاهية في عمرو بن مَسعَدة ، وكان له خِلاًّ قبل ارتفاعِ حاله ، فلما علَتْ رتبته معِ المأمون تغيّر عليه : الطويل :
غنِيتَ عن العهد القديم غنيتا . . . وضيّعت عهداً كان لي ونسيتَا
وقد كنت لي أيام ضَعْفٍ من القوى . . . أَبرّ وأَوْفَى منك حين قَوِيتا
تجاهلت عما كنت تُحسِن وَصفَهُ . . . ومُت عن الإحسان حين حَيِيتا
وكتب بديعُ الزمانِ إلى أبي نصر بن المرزبان فيما ينخرطُ في هذا السلك : كنتُ - أطال الله بقاءَ الشيخ سيدي وأَدام عزَّه - في قديم الزمان أتمنَّى الخيرَ للإخوان ، وأسألُ الله تعالى أن يُدِرّ عليهم أخْلاَفَ الرزقِ ، ويمدّ لهم أكناف العيش ، ويؤتيهم أصنافَ الفَضْلِ ، ويوطئهم أكنافَ العزّ ، وينيلهم أعرافَ المجدِ ، وقُصارايَ الآن أن أرغبَ إلى الله تعالى ألا يُنيلَهم فوق الكفاية ، فشد ما يَطْغَونَ عند النعمة ينالونها ، والدرجةِ يعلونها ، وسَرُعَ ما ينظرون من عال ، ويجمعون من مال ، وينسون في ساعة اللدونة أوقاتَ الخشونة ، وفي أزمان العذوبة أيام الصعوبة ، وللكتَّاب مَزيّة في هذا الباب ؛ فبينا هم في الغربة أَعوان كما انفرج المشط ، وفي العُطْلَة إخوان كما انتظم السِّمْطُ ، حتى إذا لحظهم الجدُّ لحظةً حَمْقَاء بمنشور عمالة ، أَوْ صَك جعالةٍ ؛ عادَ عامر مودّتِهم خراباً ، وانقلب شرابُ عهدهم سَرَاباً ، فما اتسعت دورُهم وإلا ضاقت صدورُهم ، ولا عَلت قدورُهم إلا خبَتْ بدورهم ، ولا عَلت أمورُهم إلا أسْبِلَت ستورُهم ، ولا أوقِدَتْ نارُهم إلا انطفأنورهم . ولا هَمْلَجتْ عِتَاقهم إلا فظعت أخلاقهم ، ولا صلحت أحوالهم ، إلا فسدت أفعالهم ، ولا كثُرَ مالهم ، إلا قل جمالهم ، وعزَ معروفهم ، وورمَتْ أنوفهم ، حتى إنهم ليصيرون على الإخوان مع الخطوب خَطْباً ، وعلى الأحرار مع الزمان ألباً . قُصَارى أَحدهم من المجد أن ينصبَ تحته تَخْتَه ، وأن يوطئ استه دستَه ، وحَسْبُه من الشرف دارٌ يصهرجُ أرضَها ، ويزخرف بعضَها ، ويزوِّق سقوفها ، ويعلق شُفُوفها ، وناهيه من الشرف أَنْ تغدو الحاشيةُ أمامَه ، وتحمل الغاشية قدَّامه ، وكفاه من الكرم ألفاظ فقاعية ، وثيابٌ قداعية ، يلبسها ملوماً ، ويحشوها لُوماً ، وهذه صفة أفاضلهم . ومنهم من يمنَحُكَ الودَّ أيام خُشكاره حتى إذا أخصب جعل ميزانَه وكِيَله ، وأسنانه أكَيله ، وأنيسه كِيسه ، وأَليفه رغيفَه ، وأمينَه يمينه ، ودنانيره سَمِيره ، وصندوقه صديقَه ، ومفتاحه ضجيعَه ، وخاتمه خادِمَه ، وجمع الدرَّة إلى الدرَّة ، ووضع البَدْرَة على البدرة ، فلم تقع القَطْرَة من طَرْفه ، ولا الدرّة من كفِّه ؛ ولا يخرج ماله عن عهدة خاتمه ، إلى يوم مَأتمه ، وهو يجمعُ لحادثِ حياتِه ، أو وارثِ وفاتِه ، يسلُكُ في الغَدْرِ كلَّ طريق ، ويبيعُ بالدرهم ألْف صديق ؛ وقد كان الظنُّ بصديقنا أَبي سعيد - أيّده الله تعالى - أنه إذا أخصب آواناً كنفاً من ظلّه ، وحبَانَا من فضله ، فمَنْ لنا الآن بعدله ؟ إنه - أطال الله بقاءَه - حين طارت إلى أُذنه عُقاب المخاطبة بالوزير ، وجلس من الديوان في صَدْر الإيوان افتضَّ عُذْره السياسة لديّ ، بتعرض بعض المختلفة إليّ ، وجعل يعرضه للهلاك ، ويتسبب إليه بمال الأتراك ، وجعلت أكاتِبه مرة وأقصِدُه أخرى ، وأذكّره أنّ الراكب ربما استنزل ، والوالي ربما عُزِل ، ثم يجفّ ريق الخجل على لسان العذر ، فتبقى الحزازة في الصدْرِ ، وما يجمعني والشيخ إن كان زَادَهُ قولي إلا علوّاً في تحكمه وغلوّاً في تهكمه وجعل يمشي الجَمَزَى في ظلمه ؛ ويبرَأ إليَّ من علمه ، فأقولُ - إذا رأيت ذِلّةَ السؤال مني وعزَّةَ الردّ منه لي - : مجزوء الكامل :
قلْ لي متى فَرْزَنتَ سُرْ . . . عة ما أرى يا بَيْذَقُ
وما أضيع وقتاً فيه أضَعْتُه ، وزماناً بذكره قطَعْته ، هلمَّ إلى الشيخ وشرعته ، فقد نكأالقلب بقَرْحه ، وكيف أصِفُ حالاً لا يقرع الدهرُ مَروَةَ حالِه ، ولا ينتقض عروة إجلالِه ؛ فما أولاني بأَن أذكره مجْملاً ، وأتركه مفصَّلاً ، والسلام .
وكتب إلى بعض إخوانه في أمر رجل ولي الأشراف : فهمت ما ذكرت - أطال الله بقاءك - من أمر فلان أنه ولي الأشراف ، فإن يصدق الطير يكن إشرافاً على الهلاك ، بأيدي الأتراك ، فلا تحزُنْكَ ولايتُه فالحبل لا يبرم إلا للفتل ، ولا تعجبك خلعته فالثور لا يزينُ إلا للقتل ، ولا يرعك نِفاقُه فأرخص ما يكون النفط إذا غلا وأَسفل ما يكون الأرنب إذا علا ، وكأنِّي به وقد شنَّ عليه جران العَوْدِ ، شنَّ المطر الجَوْد ، وقيّد له مركبُ الفجار ، من مربط النجار ، وإنما جر له الحبل ، ليُصفَع كما صُفِع من قبل ، وستعودُ تلك الحالة إحالة ، وينقلبُ ذلك الحبلُ حِبَالة ، فلا يحسد الذئب على الإلية يُعْطَاها طعمة ، ولا يحسب الحبَّ يُنثر للعصفور نعمة ، وهبه وُلي إمارة البحرين أليس مرجعه ذلك العقل ، ومصيره ذلك الفضل ، ومنصبه ذلك الأصل ، وعصارته ذلك النسل ، وقعيدته تلك الأهل ، وقوله ذلك القول ، وفعله ذلك الفعل ، فكان ماذا ؟ أليس ما قد سلب أكثر مما أُوتي ، وما عدم أوفر ممّا غنم ؟ ما لك تنظرُ إلى ظاهره ، وتعمي عن باطنه ؟ أكان يعجبك أن تكونَ قعيدتُه في بيتك ، وبغلتُه من تحتك ، أم كان يسرُّك أن تكون أَخْلاقُه في إهابك ، وبوّابُه على بابك ؟ أم كنت تودّ أن تكونَ وَجْعَاؤه في إزارك ، وغِلْمانه في دارك ؟ أم كنتَ تَرْضَى أن تكون في مربطك أفراسُه ، وعليك لباسُه ، ورأسك راسُه ؟ جعلت فداك ما عندك خير ممّا عنده ، فاشكر اللهَ وحدَه على ما آتاك ، واحمَدْه على ما أعطاك ، ثم أنشد : البسيط :
إن الغنيَّ هو الراضي بعيشته . . . لا مَنْ يظلُّ على الأقدارِ مكتئبا
بين البخل والجود
ألَف سهل بن هارون كتاباً يمدح فيه البخلَ ويذمُّ الجودَ ؛ ليظهر قدرته على البلاغة ،وأهداه للحسن بن سهل في وزارته للمأمون ، فوقع عليه : لقد مدحتَ ما ذمَّه الله ، وحسنت ما قبّح الله ، وما يقوم صلاحُ لفظك بفساد معناك ، وقد جعلنا نوالك عليه قبولَ قولِكَ فيه .
وكان الحسنُ من كرماء الناسِ وعقلائهم . سُئل أبو العيناء عنه ، فقال : كأنما خَلف آدمَ في ولده ، فهو ينفع عَيْلَتهم ، ويسدُّ خَلَّتَهم ، ولقد رفع الله للدنيا من شأنها ، إذ جعله من سكَانِها .
أخذ هذا المعنى أبو العيناء من قول الشاعر : الكامل :
وكأن آدمَ كان قبل وفاتِه . . . أَوصاك وَهْوَ يجودُ بالْحَوْباء
بِبَنيه أن ترعاهُمُ فَرَعَيْتَهُمْ . . . وكَفَيْتَ آدمَ عَيْلةَ الأبْنَاء
وأخذ أبو الطيب المتنبي آخر كلام أبي العيناء فقال : البسيط :
قد شرف الله دُنيا أنْتَ سَاكِنُها . . . وشرَّفَ الناسَ إذ سوّاكَ إنسانا
وقيل للحسن بن سهل : لم قيل : قال الأول ، وقال الحكيم ؟ قال : لأنه كلام قد مزّ على الأسماع قَبْلَنا ، فلو كان زللاً لما نُقِل إلينا مستحسَناً .
ومن أمثال البخلاء واحتجاجهم ، وحِكمهم :
أبو الأسود الدؤلي : لا تُجاوِد الله ، فإنه أجودُ وأمجد ، ولو شاء أن يوسِّع على خَلْقه حتى لا يكون فيهم محتاج فعل . وقال : لو أطَعْنا المساكين في إعطائنا إياهم كنا أسوأ حالاً منهم .
وقال الكندي : قولُ ' لا ' يدفع البلاء ، وقول ' نعم ' يزيل النعم . وقال : سماع الغناء بِرْسام حَادٌ ؛ لأن المرءَ يسمع فيطرب ، فيسمح فيفتقر ، فيغتمّ فيمرض فيموت . وقال لابنه : يا بني ، كُنْ مع الناس كاللاعب بالقمار ، إنما غَرَضُه أَخذ متاعهم ، وحِفْظُ متاعه .
وقال غيره : مَنْعُ الجميع أَرْضى للجميع . إذا قبح السؤال حسن المنع .
وقال عليُّ بن الجهم : من وَهَب في عمله فهو مخدوع ، ومن وَهَب بعد العَزْلِ فهوأحمق ، ومن وَهب من جوائز سلطانه أو ميراث لم يتْعَب فيه فهو مخذول ، ومن وهب مِنْ كِيسه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه ، المختوم على سمْعه وبصره .
ومن إنشاداتهم : الخفيف :
لا تجُدْ بالعطاءِ في غير حق . . . ليس في مَنْعِ غير ذي الحقّ بُخْلُ
وقال كثيّر : الطويل :
إذا المال لم يوجِبْ عليك عطاءَهُ . . . حقيقةُ تقوى أو صديقٌ تُرَافِقُهْ
مَنَعْتَ ، وبعضُ المَنْعِ حَزْمٌ وقوّة . . . ولم يفتلتك المالَ إلاّ حَقائِقُهْ
ابن المعتز : السريع :
يا ربَّ جُودٍ جرَّ فَقْرَ امرئ . . . فقام للناس مقامَ الذليلْ
فاشدُد عُرا مَالِكَ واستَبْقِهِ . . . فالبُخْلُ خيرٌ من سؤال البخيلْ وكتب بعضُ البخلاء يصفُ بخيلاً : حضرت - أعزَّك الله - مائدةَ فلانٍ للقَدَر المجلوب ، والحَيْنِ المُتَاح ، والشقاء الغالب ، فرأيت أواني تروق العيون محاسنُهَا ، ويُونِقُ النفوسَ ظاهرها وباطنها ، وتزهى اللحظات ببدائع غرائبها ، وتستوفي الشهوات بلطائف عجائبها ، مُكَللَة بأَحسن من حلي الحسان ووجوهِها وزَهْر الرياض ونَورها ، كأنَّ الشمسَ حلّت بساحتها ، والبدر يغرف من جوانبها ، فمددت يداً عَنتهَا الشراهة ، وغلبها القدر الغالب ، وجرّها الطمع الكاذب ، وإذا له مع كَسْر كل رغيف لحظة نكْر ، ومع كل لُقْمَةٍ نَظْرة شَزْر ، وفيما بين ذلك حُرَق قائمة ، يَصْلَى بها مَنْ حضره من الغلمان والحشم ، وقام بين يديه من الولدان ، والخدم ، ومع ذلك فترة المغشيّ عليه من الموت ؛ فلمّا وضعت الحربُ أوزارها برفع الخِوَان ، وتخلّت عنه سمادير الغَشيان ، بسطلسانَ جهْلِه ، ونصر ما كان من بخله ، ونظر إلى مؤاكِلِهِ ، نظر المسترقِّ له بأكَلته ، المالك لخَيْطِ رقبته يظنُّ أنه أولى من وَالديه بنسبته ، وأحقّ بماله ، من وَلده وعياله ، يرى ذلك فضلاً ، وحقّاً لازماً ، وأمراً واجباً ، نزل به الكتابُ والسنة ، واتفقَ عليه قُضاةُ الأمة ، فإنْ دفعه ردّ حكم القضاة عليه ، وإن سَمَح به فغيرُ محمود عليه .
فقر لابن المعتز وغيره في الصديق والصدق
إنما سُمِّي الصديقُ صديقاً لصدقه فيما يدَّعيه لك ، وسُمِّي العدوّ عدواً لِعَدْوِهِ عليك إذا ظفر بك . علامةُ الصديق إذا أراد القطيعةَ أن يؤخّر الجواب ، ولا يبتدئ بالكتاب ، لا يفسدنك الظنُّ على صديق قد أصلحك اليقين له . إذا كثرت ذنوبُ الصديقِ أنْمَحَقَ السرورُ به ، وتسلّطت التهم عليه . من لم يقدم الامتحانَ قبل الثقة والثقة قبل الأُنس أثمرت مودّتُه ندماٌ . نُصْح الصديق تأديبٌ ، ونصحُ العدو تأنيب . ظاهرُ العتاب خيرٌ من باطن الحقد ، وما جُمش الود بمثل العتاب : الكامل :
تَرْكُ العتاب إذا استحق أخٌمنك العتابَ ذريعةُ الهَجْرِ
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى صديق له من الحَبْسِ : نحن في الصحبة كالنَسْرَيْنِ ، لكني واقع ، وعلى الطائر أن يغْشَى أخاه ويراجع . من قل صدقه قل صديقه . من صدقت لهجته ظهرتْ حُجته . الصادق بين المهابة والمحبة . من عرِف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يَجُزْ صِدْقه ، ومن تمام الصدق الإخبار بما تحتمل العقول .
من إنشاء الحسن بن وهب
وكتب الحسن بن وهب إنى أبي تمام أطائي : أنت ، حفظك الله ، تَحْتَذي من البيان في النظام ، مثل ما نقصد نحن في النثر من الإفهام ، والفضلُ لك - أعزّك الله - إذ كنت تأتي به في غاية الاقتدار ، على غاية الاقتصار ، في منظوم الأشعار ، فَتحلّ متعقده ، وتربط متشرّده ، وتضم أقطاره ، وتجلو أنواره ، وتفصله في حدوده ، وتخرجه في قيوده ، ثم لا تأتي به مهملاً فيستبهم ، ولا مشتركاً فيلتبس ، ولا متعقداً فيطول ، ولا متكلفاً فيحول ؛ فهو منك كالمعجزةِ تضرب فيه الأمثال ، وتشرح فيه المقال ؛ فلا أعدمنا الله هَداياك واردة ، وفوائدك وافدة ، وهي طويلة .وفي هذه الرسالة يقول أبو تمام ، وقد أَرى أنه قال ذلك في غيرها : الوافر :
لقد جَلَّى كتابُك كلَّ بَثٍّ . . . جَوٍ ، وأصاب شاكلةَ الرَّمِيِّ
فَضَضْتُ خُتامَهُ فتبلَجَتْ لي . . . غرائبُه عن الخبرِ الجلِيِّ
وكان أغَضَّ في عَيْني وأَنْدَى . . . على كبدي من الزهر الْجَنِيِّ
وأَحْسَنَ موقعاً منِّي وعندي . . . من البُشْرى أتت بَعد النُّعِيِّ
كتبتَ به بلا لفظٍ كريهٍ . . . على أذن ، ولا لفظٍ قمِيّ
وضُمِّنَ صَدره ما لم تُضمَّنْ . . . صدورُ الغانياتِ من الحلِيّ
فإن تَكُ من هداياك الصفايا . . . فربَّ هديّةٍ لك كالهَديّ
لئن غرَّبْتَها في الأرض بكرا . . . لقد زُفّتْ إلى سمعٍ كَفِيِّ
وقال البحتري في الحسن بن وهب : الكامل :
وإذا تألَّقَ في النَّدِيِّ كلامُهُ ال . . . مصقولُ خِلتَ لسانَهُ مِنْ عَضْبِه
وإذا دَجَتْ أقلامُه ثمَّ انتحَتْ . . . بَرَقَتْ مصابيحُ الدُجا في كُتْبِهِ
باللفظ يَقْرُبُ فَهْمُهُ في بُعْدِهِ . . . مِنّا ، ويَبْعُدُ نَيْلُهُ في قُرْبِهِ حِكَمٌ فَسائِحُها خِلالَ بَنانِهِ . . . مُتَدَفِّقٌ وقَلِيبُهَا من قَلْبِه
كالروض مؤتلق بحمرة ورده . . . وأنيق زهرته وخُضْرة عُشْبِهِأو كالبُرُودِ تُخُيِّرَتْ لِمُتَوَّجٍ . . . مِنْ خاله أو وشْيِهِ أو عَصْبِهِ
وكأنها والسَّمْعُ مَعْقُودٌ بها . . . وجهُ المحبّ بدا لِعَينِ مُحِبِّهِ
أنشد بعض الكتاب هذه الأبيات أبا العباس ثعلباً ، فاستعادها حتى فهمها ، ثم قال : لو سمع الأوائل هذا ما فَضَّلُوا عليه شعراً .
وقال بعض الكتّاب : مجزوء الكامل :
ورسالة ألفاظها . . . في النظم كالدّر النَّثِيرْ
جاءتْ إليك كأنها ال . . . توفيقُ في كل الأمورْ
بأرقّ من شكوى وأح . . . سن من حياة في سُرُورْ
لو واجهتْ أعمى لأصْ . . . بَح وهو ذو طَرْفٍ بَصِيرْ
فكأنها أمل سَرَى . . . من بعد يأسٍ في السرُورْ
أو كالفقيد إذا أتَتْ . . . لقدومهِ بشرى البشيرْ
أو كالمنام لساهرٍ . . . أو كالأمان لمستجيرْ
كتبت بحبر كالنَّوَى . . . أو كُفْر نعمى من كَفُور
فكأنما هو باطل . . . ما بين حقٍّ مُسْتَنيرْ
وقال أحمد بن أبي العباس بن ثوابة البسيط :
في كل يوم صدورُ الكتْب صادِرةً . . . من رأيه وندى كفّيه عن مثلِ
عن خَطّ أقلامِه يجري القضاءُ على . . . كلّ الخلائق بين البيض والأسَل
كأن أسطره في بطن مُهْرَقِه . . . نَوْرٌ يُضاحِكُ دَمعَ الواكف الخَضلِ
لعابه علل والصدر ينفثها . . . وربما كان فيه النفع للعلل
كالنار تعطيك من نُور ومن حُرَقٍ . . . والدهر يعطيك من غَمّ ومن جَذَلِوقال آخر : الوافر :
مدادٌ مثل خافية الغرابِ . . . ورَقّ مثل رَقْرَاقِ السرابِ
وأقلام كأرواح الجواري . . . وألفاظ كأيام الشبابِ
بلاغة عمرو بن مسعدة
قال أحمد بن يوسف : دخلت على المأمون ، وفي يده كتابٌ ، وهو يعاود قراءَته مرة بعد مرة ، ويصعّد فيه بصرَه ويصوَّبه ؛ فالتفت إليّ وقد لحظني في أثناء قراءته الكتاب ، فقال : أراك مُفَكَراً فيما تراه مني فقلت : نعم ، وَقى الله أميرَ المؤمنين المخاوفَ قال : لا مكروه إن شاء الله ، ولكني قرأتُ كتاباً وجدْتُه نظيرَ ما سمعت الرشيد يقوله عن البلاغة ، فإني سمعتُه يقول : البلاغةُ التباعد من الإطالة ، والتقرب من البغية ، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى ، وما كنتُ أتوهّمُ أن أحداً يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا فإذا فيه : كتابي إلى أمير المؤمنين ومَنْ قِبَلي من الأجناد والقوَّاد في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعةُ جُنْدٍ تأخَّرَتْ أعطياتهم ، واختلّت أحوالهم ألا ترى يا أحمد إلى إدماجه المسألة في الإخبار ، وإعفائه سلطانَه من الإكثار ؟ ثم أمرَ لهم برزق ثمانية أشهر .
وفي عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي : المتقارب :
أعِنِّي على بارقٍ ناصب . . . خفيٍّ كوحْيك بالحاجبِ
كأن تألقه في السماء . . . يَدَا كاتبٍ أو يَدَا حاسِب
فروّى منازلَ تذكارُهَا . . . يهيج من شوقك الغالب
غريب يحنّ لأوطانِه . . . ويَبْكي على عصره الذاهب
كفاك أبو الفضل عمرو الندى . . . مطالعة الأمَلِ الكاذبِ
وصِدْق الرجاء وحُسْن الوفاءِ . . . لعمرو بن مسعدة الكاتب
عريض الفِناء طويل البنا . . . ء في العزِّ والشرف الثاقب
بنى الملك طَوْد له بيتهُ . . . وأهل الخلافة من غَالب
هو المرتجى لصروف الزمان . . . ومعتصَم الراغبِ الراهبجوادٌ بما ملكتْ كفُّهُ . . . على الضيف والجار والصاحب
بأُدْمِ الركاب ووَشْي الثيا . . . ب والطِّرف والطِّفْلَة الكاعِبِ نؤملهُ لجسام الأمَورِ . . . وندعوه للجَلَلِ الكاربِ
خصيب الجناب مَطِير السحاب . . . بشيمته ليّن الجانِبِ
يروّي القنا من نحور العدا . . . ويُغْرِق في الجودِ كاللاّعب
إليك تبدَّتْ بأكوارها . . . حراجيج في مَهْمَهٍ لاحبِ
كأن نَعَاماً تمادى بنا . . . تزايل من بَرَدٍ حاصب
يردْن نَدَى كفَك المرتَجى . . . ويقضين من حقّك الواجبِ
وللّه ما أنت من جابر . . . بِسَجْلٍ لقومٍ ومن خارب
يُساقي العدا بكؤوس الردى . . . ويسبق مسألة الطالبِ
وكم راغب نلْته بالعطا . . . وكم نلت بالحَتْفِ من هارب
وتلك الخلائق أعطيتها . . . وفَضْلٌ من المانع الواهب
كسبت الثناء ، وكَسْبُ الثنا . . . ءِ أفضلُ مكسبة الكاسب
يقينك يجلو ستور الدجى . . . وظنُّك يُخْبِر بالغائب
وهذا الشعر يتدفّق طبعاً وسلاسة .
بين الطبع والتكلّف
قلت : والكلامُ الجيد الطبع مقبول في السمع ، قريبُ المِثَال ، بعيد المَنَال ، أنيق الديباجة ، رقيق الزجاجة ، يدنو من فَهْم سامعِه ، كدنوّه من وهم صانعه ، والمصنوع مثقف الكعوب ، معتدلُ الأنبوب ، يطرد ماءُ البديع على جَنَبَاته ، ويجول رَوْنَق الحسن في صفحاته ، كما يجول السِّحْر في الطَّرْف الكحيل ، والأثرُ في السيف الصقيل ، وحمل الصانِع شعره على الإكراه في التعمل وتنقيح المباني دون إصلاح المعاني يُعْفي آثار صنعته ، ويطفئ أنوار صيغته ، ويخرجه إلى فسادِ التعسّف ، وقَبْح التكلّف ؛ وإلقاءُ المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسُه ، وتنفثه وساوسه ، من غير إعمال النظر ، وتدقيق الفكر ، يخرجه إلى حَدّ المشتهر الرثّ ، وحيّز الغثّ ؛ وأحْسَنُ ما أجري إليه ، وأعولعليه ، التوسّط بين الحالين ، والمنزلة بين المنزلتين ، من الطبع والصنعة .
وقد قال أعرابي للحسن البصري : علمني ديناً وسيطاً ، لا ساقطاً سقوطاً ، ولا ذاهباً فروطاً ، قال الحسن : أحسنت ، خيرُ الأمور أوساطها . والبحتري عن هذا القوس ينزع ، وإلى هذا النحو يرجع .
مُلح في باب الشعر
ومن الشعر الذي يجري مع النفس قول ابن المعتز يمدح المكتفي ؛ إذ قدم من الرقة بعد القبض على القرمطي فقال : مجزوء الكامل :
لا ورمّانِ النهودِ . . . فوق أغصانِ القدودِ
وعناقيدَ مِنَ أصدا . . . غٍ ووَرْد من خُدودِ
وبدور من وُجوهٍ . . . طالعات بالسعودِ
ورسول جاء بالمي . . . عاد من بَعْدِ الوعِيد
ونعيم من وِصَال . . . في قَفَا طولِ الصدود
ما رأت عيني كظبْي . . . زارني في يوم عيد
في قَبَاء فاختيِّ اللون من لبس الجديد
كلما قاتل جند . . . يٌ بسيف وعَمُودِ
قاتل الناسَ بعي . . . نِ وخَدَّينِ وجِيدِ
قد سقاني الخمر من في . . . ه على رغم الحَسُودِ
وتعانقنا كأنا . . . وهْوَ في عَقْدٍ شديدِ
نقرع الثغر بثغر . . . طيب عند الورودِ
مثل ما عاجل بردٌ . . . قطْر مُزن بجمود
سحراً من قبل أن تر . . . جع أرواح الوفود
ومضى يخطر في المش . . . ي كجبار عنيد
مرحباً بالملك القا . . . دم بالجدِّ السعيديا مذلَّ لبَغْي يا قا . . . تل حيَّات الحقُودِ
عش ودُمْ في ظِلِّ عَيش . . . خالدٍ باقٍ جديدِ
فلقد أصبح أعدا . . . ؤك كالزرْعِ الحصِيدِ
ثم قد صاروا حديثاً . . . مثل عادٍ وثمود
جاءهم بحرُ حديد . . . تحت أجيالِ بُنُودِ
فيه عقبان خيولٍ . . . فوقها أسدُ جُنودِ
وَرَدُوا الحرب فمدُوا . . . كل خَطيٍّ مديدِ
وحسام شَرِهِ الح . . . دّ إلى قَطْعِ الوَرِيد ما لهذا الفتح يا خي . . . رِ إمام من نديد
فاحمد اللَّهَ فإن ال . . . حَمْدَ مفتاحُ المزيدِ
وقول علي بن الخليل ، مولى يزيد بن مؤيد الشيباني ، وكان يُرمى بالزندقة ، قال الفضل بن الربيع : جلس الرشيد يوماً للمظالم ، فجعلت أتصفّحُ الناسَ ، وأسمعُ كلامهم ، فرميت بطَرْفي ، فرأيت في آخرهم شيخاً حسَنَ الهيئةِ والوجْه ما رأيتُ أحسنَ منه ؛ فوقف حتى تَقَوَّضَ المجلسُ ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، رقعتي ؛ فأمر بأخذها ، فقال : إنْ رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بقراءتها ؛ فأنا أحسنُ تعبيراً لخطّي من غيري - فقال له : اقرأْ ، فقال : شيخ ضعيف ، ومقامٌ صَعب ، ولا آمَنُ الاضطراب ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يصلَ عنايَته بأمري في الإذن بالجلوس فعل ، فقال : اجلسْ ، فجلس وأنشأ يقول : الكامل :
يا خيرَ من وخدتْ بأرحُلِهِ . . . نُجُبُ الركاب بمَهْمَهٍ جَلْسِ
طوي السباسبَ في أزمتها . . . طيَ التِّجَارِ عمائمَ البِرْسِ
لما رأتك الشمسُ طالعة . . . سجدتْ لوجهك طلعة الشمْسِ
خيرُ البَرِيَّةِ أنت كلّهم . . . في يومك الغادي وفي الأمْسِوكذاك لن تنفكَّ خيرَهُم . . . تمسِي وتصبح فوق ما تُمسِي
للّه ما هارون من ملك . . . عفِّ السريرة طاهر النفْسِ
تمّت عليه لربِّه نِعَمٌ . . . تزداد جدّتها مع اللّبْسِ
من عترة طابَتْ أرومتها . . . أهل العفاف ومنتهى القُدْسِ
متهلّلين على أسِرَّتهم . . . ولدى الهياج مَصاعبُ شُمْسِ
إني لجأتُ إليك من فَزَع . . . قد كان شرَّدَني ومن لَبْسِ
لما استخَرْتُ الله مجتهداً . . . يمَّمتُ نحوك رِحْلَة العَنْس
واخترت حِلْمك لا أجاوزهُ . . . حتى أغيَّبَ في ثَرَى رَمْسِي
كم قد سريت إليك مُدَّرعاً . . . ليلاً يموجُ كحالِك النقْسِ
إن راعني من هاجسٍ فزَعٌ . . . كان التوكّلِ عنده تُرْسِي
ما ذاك إلا أنني رجلٌ . . . أصبو إلى نَفرٍ من الإنْسِ
بيض أوانس لا قرون لها . . . يقتلن بالتطويل والحَبْس
وأجاذب الفتيان بينهمُ . . . صفراءَ مثل مُجَاجةِ الوَرْسِ
للماء في حافاتها حبَبٌ . . . نظم كرقم صحائف الفُرسِ
والله يعلمُ في بنيته . . . ما إن أضعت إقامَة الْخَمسِ
قال : ومن تكون ؟ قال : علي بن الخليل ، الذي يقال إنه زنديق ، فقال له : أنت آمن ، وأمر له بخمسة آلاف درهم .
وأنشد أبو العباس المبرّد لرجل يصف دعوة دعَا بها الله عزّ وجلّ ، وقد رأيتها في شعر محمد بن حازم الباهلي : الطويل :
وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتغي . . . محلاًّ ، ولم يقطع بها البِيدَ قاطعُ
سَرَتْ حيث لم تُحْدَ الرِّكَاب ولم تُنَخْ . . . لوردٍ ، ولم يقصر لها القيد مانعُ
تمرُّ وراء الليل والليل ضاربٌ . . . بجثمانه فيه سَمِيرٌ وهاجعُ
إذا وردَتْ لم يَرْدُدِ الله وفدها . . . على أهلها ، واللَّهُ رَاءٍ وسامعُتفتَّحُ أبوابُ السمواتِ دونها . . . إذا قرع الأبوابَ منهنّ قارعُ
وإني لأرجو اللَّهَ حتى كأنني . . . أرى بجميلِ الظنّ ما الله صانع
أخبار معن بن زائدة
ودخل رجل من شيبان ، على معن بن زائدة ، فقال : ما هذه الغيبة . فقال : أيها الأميرُ ، ما غاب عن العَين مَنْ يذكرهُ القَلْب ، وما زال شوقي إلى الأمير شديداً ، وهو دون ما يَجِب له ، وذِكري له كثيراً ، وهو دُون قَدْرِه ، ولكن جفوة الحجّاب ، وقِلَّةَ بشر الغلمان ، منعاني من الإتيان فأمر بتسهيل إذنه ، وأجزل صلته .
وقال أبو جعفر المنصور لمعن بن زائدة : كبرت يا مَعْن قال : في طاعتك يا أّمير المؤمنين ، قال : إنك لجَلد ، قال : على اِّعدائك ، قال : وإنّ فيك لبقيَّة ، قال : هي لك يا أَميرَ المؤمنين ، قال : فأي الدولتين أحبُّ إليك ؛ هذه أم دولة بني أمية . قال : ذلك إليك يا أمير المؤمنين ، إن زاد برُّك على برِّهم كانت دولتُك أحبَّ إليَّ . ومعن هذا هو : معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو أخي الحوفزان بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن منبه بن مرة بن ذُهْل بن شيبان ، وبنو مطر بيت شيبان ، وشيبان بيت ربيعة .
وكان معن أَجود الناسِ ، وفيه يقول مَرْوان بن أبي حفصة ويعم بني مطر : الطويل :
بنو مطرٍ يومَ اللقاءِ كأنهم . . . أسود لها في غِيل خَفّان أشبُلَ
همُ يمنعون الجارَ حتى كأنما . . . لجارهمُ بين السِّماكَيْنِ منزلُ
ولا يستطيعُ الفاعلون فعَالهمْ . . . وإن أَحسنوا في النائبات وأَجملُوا
بهَاليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُنْ . . . كأوَّلهم في الجاهلية أولُ
هم القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعُوا . . . جابوا وإن أعْطَوْا أطابوا وأجْزَلوا
أخذ البيتَ الأولَ ابن الرومي ، وزاد فقال : البسيط :
تلقاهمُ ورِماح الخطّ بينهُمُ . . . كالأسْدِ ألبسها الآجامَ خَفَّانُبين الجبن والحزم
أتى قوم من العرب شيخاً لهم قد أَرْبى على الثمانين ، وأَهدف على التسعين ، فقالوا : إنَّ عدوَّنا استاق سَرْحَنا ، فأَشِرْ علينا بما نُدْرِك به الثّأر ، وننفي به العارَ ، فقال : الضعف فسخ هِمّتي ، ونكث إبرام عزيمتي ، ولكن شاوروا الشجعان من ذوي العَزْم ، والجبناء من ذوي الحزم ؛ فإنَّ الجبان لا يَألو برأيه ما بَقِي مهجكم ، والشجاع لا يألو برأيه ما يشيد ذكركم ، ثم أخلصوا من الرأي بنتيجة تبعد عنكم معرَّة نقصِ الجبان ، وتَهَوّر الشجعان ، فإذا نجمَ الرأيُ على هذا كان أنفذ عَلَى عدوكم من السَهْم الصائب ، والحُسَام القاضب .
بين الجهل والعقل
قال الأصمعي : سمعت أعرابية تقول لرجل تخاصِمُه : واللّه لو صُوّر الجهل لأَظلم معه النهار ، ولو صُوّر العَقْلُ لأضاء معه الليل ، وإنك من أفضلهما لمعدم ، فخَفِ الله ، واعلم أنَّ من ورائك حَكَماً لا يحتاجُ المدَّعي عنده إلى إحضار البيّنة .
هجاء بني كليب
قال الفرزدق يهجو كليباً : الوافر :
ولو يُرْمى بلؤمِ بني كُليبٍ . . . نجومُ الليل ما وضَحَتْ لِساري
ولو لبس النهارَ بنو كليب . . . لدَنَّسَ لؤمُهمْ وَضَحَ النهارِ
أقوال الأعراب في النثر والشعر
وقاد سفيان بن عيينة : سمعت أعرابياً يقول عشية عَرَفة : اللهمّ ، لا تحرِمْنِي خيرَ ما عندك لِشرِّ ما عندي ، وإن لم تتقبَّلْ تَعبِي ونَصَبي فلا تَحْرِمني أَجْرَ المصاب على مصيبته .وقال آخر منهم لصديق استبطأه فلامه : كانت لي إليك زَلة يمنعني من ذِكرها ما أَمَّلتُ من تجاوُزك عنها ، ولست أعتَذِرُ إليك منها إلا بالإقلاع عنها .
وقال آخر لابن عم له : والله ما أَعْرف تقصيراً فأقلع ، ولا ذنباً فأعتب ، ولست أَقولُ : إنك كذبت ، ولا إنني أذنبت .
وقال آخر لابن عمّ له : سأتخطّى ذنبك إلى عُذْرِك ، وإن كنت من أحدهما على يقين ، ومن الآخر على شك ، لتتمَّ النعمة مني إليك ، وتقومَ الحجةُ لي عليك .
وأصيب أعرابيٌّ بابن له فقال - وقد قيل له : اصبر - أَعَلَى الله أتجلَّد ، أم في مصيبتي أتبلّد ؟ والله للْجَزَع من أمره أحبُّ إليّ الآن من الصبر ؛ لأن الجزع استكانة ، والصبر قَساوة ، ولئن لم أجزع من النقص لا أفرح بالمزيد .
ودعا أعرابي فقال : اللهمَّ إني أعوذ بك أن أفتقرَ في غِنَاكَ ، أو أضلّ في هدَاك ، أو أذِلّ في عزّك أو أضام في سُلطَانك ، أو أضْطَهد والأمر إليك .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يَعِظُ رجلاً وهو يقول : وَيحَك إنّ فلاناً وإن ضحك إليك ، فإنه يضحكُ منك ، ولئن أظهر الشفقةَ عليك ؟ إنِّ عقاربه لتسري إليك ؛ فإن لم تتّخِذه عدوّاً في علانيتك ، فلا تجعله صديقاً في سرِيرتك .
سمع أعرابيّ رجلاً يقعُ في السلطان ، فقال : إنك غُفْل لم تَسِمك التجارب ، وفي النصح لَسْعُ العقارب ، كأني بالضاحك إليك ، وهو باكٍ عليك . وحذَّر بعضُ الحكماء صديقاً له صحبه رجل ، فقال : احْذَر فلاناً فإنه كثيرُ المسألة ، حسن البحث ، لطيف الاستدراج ، يحفظُ أول كلامك على آخره ، ويعتبرُ ما أخَّرت بما قدَّمت ، فلا تظهرنَّ له المخافة فيرى أنْ قد تحرَّزْت ؛ وأعلمْ أَنَّ من يقظة الفطْنة إظهارَ الغفلة مع شدة الحذر ، فباثِثْهُ مباثَّةَ الآمن ، وتحفَّظ منه تحفّظَ الخائف ؛ فإنَّ البحث يظهر . الخفيّ الباطن ، ويُبْدي المستكنَّ الكامن .
أتى أَعرابيّ رجلا لم يكن بينه وبينه حرمة في حاجةٍ له ، فقال : إني امتطيتُ إليك الرجاءَ ، وسَرَيْتُ على الأمل ، ورافقت الشكر ، وتوسَّلت بحُسْنِ الظنّ ، فحقق الأمل ، وأَحْسِن المثوبة ، وأكرم الصفَد ، وأَقِم الأَوَد ، وعجِّل السّراح .قال الأصمعي : وسمعتُ أعرابياً يقول : إذا ثبتت الأصول في القلوب ، نطقت الألسنةُ الفروع واللّه يعلم أَنَّ قلبي لك شاكر ، ولساني ذاكِر ، ومحال أن يظهرَ الودّ المستقيم ، من الفؤاد السقيم .
ومدح أعرابي رجلاً ، فقال : إنه ليغسل من العار وجوهاً مسودّة ، ويفتح من الرأي أبواباً منسدَّة .
وقال أعرابي : الكامل :
كم قد ولدتُمْ من رئيسٍ قَسْوَرِ . . . دامي الأظافرِ في الخميس المُمْطِرِ
سَدِكَت أنامله بقائم مرهف . . . وبنشر فائدة وجذوةِ مِنْبَرِ
ما إن يريد إذا الرماحُ تشاجرَتْ . . . درعاً سوى سربال طِيبِ العنصرِ
يلقي السيوفَ بوجهه وبنحره . . . ويقيم هامته مقام المِغْفَر
ويقول للطِّرْفِ اصطبر لِشَبَا القَنَا . . . فعقرتُ ركن المجد إن لم تُعْقَرِ
وإذا تأمّل شخصَ ضَيفٍ مقبلٍ . . . متَسَرْبل سربال مَحْلٍ أغبرِ
أَوْمى إلى الكَوْمَاء هذا طارق . . . نَحَرَتنيَ الأعداء إن لم تنحرِي
وقال : البسيط :
قامت تَصدَّى له عَمْداً لغفلته . . . فلم يرَ الناسُ وَجْداً كالذي وجَدَا
جيداء رَبْدَاء لم تعقد قلائدَها . . . وناهدٌ مثل قلب الظَّبْي ما خَضَدا
فراح كالحائم الصدْيَان ليس له . . . صَبْرٌ ولا يأمن الأعداء إن وردَا
وقال آخر : الطويل :
ومكتتماتٍ بعد وَهْن طرقْنني . . . بأَرديةِ الظلماء ملتحفاتِ
دَسْسنَ رسولاً ناصحاً وتلونهُ . . . على رقبةٍ منهنَّ مستَتراتٍ
فبتُّ أعاطيهنّ صرفَ صبابةِ . . . وبتْنَ على اللذّات معتكفاتفيا وَجْدَ قلبي يوم أتبعتُ ناظري . . . سليمى وجادَتْ بعدها عَبراتِي
وقال الأحنف بن قيس : من لم يستوحش من ذلِّ المسألة لم يأنفْ من الردّ .
وقال سفيان الثوري لأخ له : هل بلغك شيءٌ مما تكرهُه عمن لا تعرف . قال : لا ، قال : فأقلل ممن تعرف .
أخذه ابن الرومي ، فقال : الوافر :
عدوُّك من صديقك مُستَفاد . . . فأَقلِلْ ما استطعتَ من الصحابِ
فإنَّ الداءَ أكثر ما تراهُ . . . يكونُ من الطعام أو الشراب
فدَعْ عنك الكثيرَ فكم كثير . . . يُعاف ، وكم قليل مستطابِ ؟
وما اللُجَجُ المِلاح مُرَوِّياتٍ . . . ويُلْفى الرّيُّ في النُّطَفِ العِذابِ
باب المديح
وقال رجل لخالدِ القسري : واللِّه إنك لتَبْذُل ما جل ، وتجبر ما انفلّ ، وتكثر ما قلِّ ؛ ففضلك بديع ، ورأيك جميع ، تحفظ ما شَدَّ ، وتؤلف ما نَدَّ .
وسئِل أعرابي عن قومه ، فقال : يقتلون الفَقْر ، عند شدّة القرِّ ، وأَرواح الشتاء ، وهبوب الجِرْبِيَاء ، بأسنمة الجَزور ، ومُتْرَعَات القدور ، تَهَشّ وجوهُهُم عند طلب المعروف ، وتعبس عند لمعانِ السيوف .
ووصف أعرابي قوماً فقال : لهم جودُ كرام اتسعت أحوالها ، وبَأْسُ ليوث تتبعُها أشبالُها ، وهِممُ ملوكٍ انفسحت آمالُهَا ، وفَخرُ آباء شَرُفَتْ أخوالها .
وقال خالد بن صفوان ، وقد دخل على بعض الوُلاَة : قدمت فأَعطيت كلاًّ بقِسْطِه من نظرك ومجلسك ، وصوتك ، وعَدْلِك ، حتى كأنك من كلّ أحد ، وحتى كأنك لست من أحد . وذكر خالد رجلاً فقال : كان والله بديعَ المنطِق ، ذَلِق الجرأة ، جَزْل الألفاظ ، عربيَّ اللسان ، ثابت العقدة ، رقيقَ الحواشي ، خفيفَ الشفتين ، بَلِيلَ الريق ، رَحْبَالشرف ، قليل الحركات ، خفيّ الإشارات ، حُلْو الشمائل ، حسن الطلاوة ، حييَّا جريّاً ؛ قؤولاً صموتاً ، يفل الحز ، ويصيب المفاصل ، لم يكن بالهذر في مَنْطِقه ، ولا بالزمر في مروءته ، ولا بالخرق في خليقته ، متبوعاً غير تابع ، كأنه علمٌ في رأسه نار .
وقال بعض البلغاء لرئيسه : إنَّ من النعمة على المُثْني عليك أنه لا يَأْمَنُ التقصير ، ولا يخاف الإفراط ، ولا يحذر أن تَلْحقه نقيصةُ الكذب ، ولا ينتهي به المَدْحُ إلى غاية إلا وَجَد في فضلك عَوْناً على تجاوزها . ومن سعادةِ جَدِّك أن الداعي لا يعدم كثرةَ المشايعين ، ومساعدةَ النيَّة على ظاهر القول .
ألفاظ لأهل العصر في ضروب المَمَادح
قد وضعت كثرةُ التجارب ، في يدهِ مرآةَ العواقب . قد نَجدَته صروفُ الدهور ، وحنكَتْه مصايرُ الأمور . قد أرضعَتْه الحُنكَة بلبانها ، وأذَبَثْه الدُّرْبَة في إبانها . فلان نوازلُ التجارب حنكته ، وفوادِحُ الأيام عَرَكَتْه . هو عارف بتصاريف الأيام ، آخذٌ برهان التجارب ، نافذ في مجال التحصيل والتمييز . قد صحب الأيام ، وتولّى ، النقض والإبرام . هو ابنُ الدهر حُنْكةً وتجريباً ، وعُوداً على الدهر صليباً ، قد أَدّبه الليلُ والنهار ، ودَارت على رأسه الأدوار ، واختلفت به الأطوار . له همّة علا جناحُها إلى عنان النجم . وامتدَّ صباحها من شرق إلى غرب ، لا يتعاظمه إشراف الأمر إذا أخطره بفكره ، وانتساف الصّخْر إذا ألقاه في وَهْمه ، هِمَّته أبعَدُ من مَناطِ الفرقد ، وأعلى من منكب الجوزاء . أوسعُ من الأرض ذات العرض . هو حيّ القلب ، منشرحُ الصّدْر ، ذكيُّ الذهن ، شجاعُ الطبع ، ليس بالنؤوم ، ولا السؤوم ، فذّ فَرْد ، وأَسد وَرْد ، وكأنَّ له في كل جارحة قلباً . كأنّ قلبه عين ، وكأن جِسْمَه سمع . شهابٌ مقدّم ، وقِدْحٌ مقوّم . وهو شهمٌ مشدود النطاق ، قائم على سَاق ، قد جدّ واجتهد ، وحشر وحَشَد ، شمَّر عن ساق الجِدّ ما أَطاق ، قد ركب الصعب والذلول ، وتجشَم الحَزْنَ والسُّهُول ، وقطع البر والبحر ، وأعمل السيفَ والرمْحَ ، وأسرجَ الدّهم والشهب . هو مولود في طالع الكمال ، وهو جملة الجمال . قد أصبح عينَ المكارم ،وزَيْن المحافل . هو فَرْدُ دهره ، وشمسُ عَصْره ، وزبْنُ مِصْره ، وهو عَلَم الفضل ، وواسطة عِقْدِ الدهر ، ونادِرَة الفلك ، ونكْتة الدنيا ، وغُرَّة العصر . قد بايعته يَدُ المَجْد ، ومالت به الشورى إلى النصر . فلان يزيدُ عليهم زيادةَ الشمس على البدر ، والبحر على القَطْرِ . هو رائشُ نَبلهم ، ونَبعَة فضلهم ، وجُمَة وِرْدِهم ، وواسطة عِقْدهم . هو صَدرُهم وبَدْرُهم ، ومن عليه يدورُ أَمرُهم ، ينيف عليهم إنافة صفحة الشمسِ على كُرةِ الأرض ، كأنهم فلك هو قُطْبُه ، وجَسَدٌ هو قَلبه ، ومملوك هو ربُّهُ . هو مشهور بسيادتهم ، وواسطة قِلادتهم . موضعه من أهل الفضل موضِع الواسطة من العِقد ، وليلة التَمِّ من الشهر ، بل ليلة القَدْر إلى مطلع الفجر . أَفضَل وأَنْعَم ، وأَسدى في الإحسان وأَلحم ، وأَسرَج في الإكرام وأَلجم ، قسم من إنعامه ما يسَعُ أمماً ، وتلقى السعادة أمَماً ، أعطاه عنانَ الاهتمام ، حتى استولَى على قَصَبِ المرام . رُدّ عنه الدهرُ أَحَصَّ الجناح ، وملّكه مَقَادة النجاح . أولاه من معهود البرِّ ومألوفه ، وقَصَّرت الأعداء عن مِئاتِه وأُلوفه . أولاه إسعافاً سمْحاً ، وعطاء سحاً ، ومنناً صفواً وعفواً . أفاض عليه شِعابَ البِرِّ ومَسَايِله ، وجمع له شعوبَ الجميل وقبائله ، وهطَلتْ عليه سحائبُ عنايته ، ورفرفت حوله أجنحة رعايته . قد فكّه بكرمه من قَيْد السؤال ، ومعرَّة الاختلال . رَاشه بعدما حضَه الفقر ، وأَرضاه وقد أسخطه الدهر . ملأ العيونَ ، وسهر دوننا لتحقيق الظنون . قد شِمتُ من كرمِه أكرم سحاب ، وحصلت من إنعامه في أخصبِ جَناب . قد سدّ ثُلْمَة حالي ، وأَدرَّ حَلُوبة آمالي . ما أخلو من طَل إحسانه ووابله ، وغابر إنعامه وقابله . قد استمطرتُ منه بنَوْءٍ غزير ، وسريتُ في ضوء قمر منير . قد كرعتُ من برِّهِ في مَشَارع تغزر ولا تنزُر ، ورفَلْتُ من طَوْله في ملابس تطول ولا تقصُر . إقامته في ظلٍّ ظليل ، وفَضْل جزيل ، وريحٍ بليل ، ونسيم عليل ، وماء رَوِيّ ، ومعاد وطيٍّ ، وكنٍّ كنين ، ومكان مكين . أنا آوي إلى ظلِّه كما يأوي الطير المذعور إلى الحرم ، وأوَاجهُ منه وَجْهَ المجد وصورة الكرم . أنا من إنعامه بين خير مستفيض ، وجاهٍ عريض ، ونعم بيض . قد استظهرت على جَوْرِ الأيام بعَدْلِ ، واستَترتُ من دهري بظلِّه . ما أرددُ فيه طَرْفِي وأعدّه من خالص ملكي مكتسب إلى عطائه ، أو مكتَسَبٌ بجميل آرائه . مسافة بصري تبعد إن سافَرْتُ في مواهبه ، وركائب فكري تَطْلَحُ إن أنضيتُها في استقراء صنائعه . نعمته نعمة عمَّت الأمم ، وسبقت النعم ، وكشفت الهمومورفعت الهمم ، نعمه قد سطع صباحُها مستنيراً ، وطَنِبَ شعاعُها مستطيراً ، قد عرفتني نِعَمُه حتى استنفدت شُكْرَ لساني ويدي وأتعبت ظهري ، وملأت صَدْري . نِعَمُه عندي مشرفةُ الجوّ ، مغرقة النوء ، مونقة الضوء . تتابَعتْ نِعمُه تتابعَ القَطْر على القفر ، وترادفت مِنَنُه ترادفَ الغني إلى ذوي الفقر . نِعمُه أشرقَتْ بها أرضِي ، ومُطِرَ بها رَوْضي ، ووَرى لها زَنْدي ، وعلا معها جَدِّي ، وأتاني الزمانُ يعتذرُ من إساءته ، وجاءني الدهرُ ينتظرُ أمري . نِعمَهُ أنعمت البالَ ، وسرّت النفس والحال . نعم تعمُّ عمومَ المطر ، وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر . نعمٌ تَضْعف الخواطر عن التماسها ، وتَصْغُر القرائح عن اقتراحها . له أيادٍ قد عمَّت الآفاق ، ووسمت الأعناق ، وأيادٍ قد حبست عليك الشكر ، واستعبدت لك الحر . مِنَنٌ توالَتْ تَوَالي القَطْر ، واتسعت سَعَةَ البرَّ والبَحْر ، وأثقلت كاهل الحرِّ . عندي قلادة منتظمة من مِنَنه قد جعلتها وَقْفاً على نحور الأيام ، وجلوتها على أبصار الأنام . أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ ، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطَّوْل . أياديه أَطواق في أَجياد الأحرار ، وأفلاك تدورُ على ذوي الأخطار . له مِنَن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد ، ويتضاعفُ حملها على السَّبْع الشداد ، لو تحمل الثقَلان ثقلَ هذا الامتنان لأثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم . أياد يفرض لها الشكر ويحتم ، ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُخْتَم . أياد تثقل الكاهلَ ، ومِنَنٌ تُتْعِبُ الأنامل . مِنن تضعف مُنَنَ الشكر ، وينشر معها قوى النشر ، منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع ، وأَحْلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع . إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَطْرِها . أياد لا تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم ، ومِنَن لا تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم . أيادٍ كعدد الرمل والنمل ، أعيت على العدّ ، ولم تقف عند حد . زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد الأعداد ، وتسبق الإعداد . أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر ، وعوارفه لديَّ أسرعُ من رَجْع البصر . رفعتني من قَعْر التراب ، إلى سَمْك السحاب . استنبطه من الحضيض الأوْهَد ، إلى السناء الأمجد ، وقد نبهَهُ عن خمول ، وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول ، ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول . فضائل تزل أقدام النجوم لو وطِئَتْها ، وتقصر هِمَمُ الأفلاكِ لو طلبتها ، ثبتَ قدَمُه في المحلّ المنيف ، ومكنَه من جوامع التشريف . جذب بِضَبْعِه منأشرقَتْ بها أرضِي ، ومُطِرَ بها رَوْضي ، ووَرى لها زَنْدي ، وعلا معها جَدِّي ، وأتاني الزمانُ يعتذرُ من إساءته ، وجاءني الدهرُ ينتظرُ أمري . نِعمَهُ أنعمت البالَ ، وسرّت النفس والحال . نعم تعمُّ عمومَ المطر ، وتزيدُ عليه بإفراد النفع عن الضرر . نعمٌ تَضْعف الخواطر عن التماسها ، وتَصْغُر القرائح عن اقتراحها . له أيادٍ قد عمَّت الآفاق ، ووسمت الأعناق ، وأيادٍ قد حبست عليك الشكر ، واستعبدت لك الحر . مِنَنٌ توالَتْ تَوَالي القَطْر ، واتسعت سَعَةَ البرَّ والبَحْر ، وأثقلت كاهل الحرِّ . عندي قلادة منتظمة من مِنَنه قد جعلتها وَقْفاً على نحور الأيام ، وجلوتها على أبصار الأنام . أيادٍ يقصر عن حقوقها جهدُ القولِ ، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطَّوْل . أياديه أَطواق في أَجياد الأحرار ، وأفلاك تدورُ على ذوي الأخطار . له مِنَن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد ، ويتضاعفُ حملها على السَّبْع الشداد ، لو تحمل الثقَلان ثقلَ هذا الامتنان لأثقل كواهلَهم وأضعف عواتقَهم . أياد يفرض لها الشكر ويحتم ، ومنن يبتَدأ بها الذكر ويُخْتَم . أياد تثقل الكاهلَ ، ومِنَنٌ تُتْعِبُ الأنامل . مِنن تضعف مُنَنَ الشكر ، وينشر معها قوى النشر ، منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع ، وأَحْلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع . إن أَتعبت نفسي في تعداد مننه وحَصْرِها فسأطمع في إحصاء السحاب وقَطْرِها . أياد لا تحصى أو تحصى محَاسِنُ النجوم ، ومِنَن لا تحصر أو تحصر أَقطارُ الغيوم . أيادٍ كعدد الرمل والنمل ، أعيت على العدّ ، ولم تقف عند حد . زادَتْ أياديه حتى كادت تجهد الأعداد ، وتسبق الإعداد . أَياديه عندي أغزر من قَطْرِ المطر ، وعوارفه لديَّ أسرعُ من رَجْع البصر . رفعتني من قَعْر التراب ، إلى سَمْك السحاب . استنبطه من الحضيض الأوْهَد ، إلى السناء الأمجد ، وقد نبهَهُ عن خمول ، وأجرى الماءَ في عوده بعد ذبول ، ورقاه إلى ذروَة من المجد بعد نزول . فضائل تزل أقدام النجوم لو وطِئَتْها ، وتقصر هِمَمُ الأفلاكِ لو طلبتها ، ثبتَ قدَمُه في المحلّ المنيف ، ومكنَه من جوامع التشريف . جذب بِضَبْعِه منالمسقط المنحطّ ، إلى المرفع المشتطّ .
ولهم في أدعية من صدور الكتب تليق بهذه الأثنية والممادح
أطال الله له البقاءَ ، كطُول يدهِ بالعطاء ، ومدَّ له في العمر ، كامتداد ظلّه على الحُرّ ، وأدام له المواهب ، كما أفاض به الرغائب ، وحرس لديه الفضائل ؛ كما عوّذ به الشمائل . تولّى الله عني مكافأَته ، وأَعان على الخير نيّته وفِعْله ، وأصحب بقاءه عزّاً يبسطُ يديه لأوليائه على أعدائه ، وكلاءةً تذبِّ عن ودائع منَنه عِنده ، وزاد في نعمه وإن عظمتْ ، وبلغه آمالَه وإن انفسحَتْ ، ولا زال الفضلُ يأوي منه إلى رُكْنٍ منيع ، وجنابٍ مريع . لا زالت الألسنُ عليه بالثناء ناطقة ، والقلوبُ على مودّته متطابقة ، والشهاداتُ له بالفضل متناسقة . لا زال يعطِف على الصادر والوارد ، عَطْفَ الأم والوالد . أبقاه الله للجميل يُعْلِي معالَمه ، ويَحْمي مكارِمَه ، ويعمر مدَارِجَه ، ويثمِّر نتائجه . أدام الله أيامَه التي هي أيام الفضائل ومواقيتها ، وأزمان المآثر وتواريخها . أدامه الله للمواهب ، ساميةَ الذوائب ، موفِية على مُنْيَة الراجي وبغية الطالب . أبقاه الله للعطاء يفضه بين خدمه ، والجمال يُفيضه على إنشاء نعمه ، واللّه يتابعُ له أيامَ العلاء والغبطة ، والنماء والبسطة ، ليرتَع أنواع الخدم في رياض فواضلِه ، ويَكْرَع أصنافُ الحشم في حياضِ مواهبه ، واللَّهُ يبقيه طويلَ الذراع ، مديد الباعِ ، مليّاً بالاتصال والاصطناع . جزاهُ الله عن نعمةٍ هيّأها بعد أن أَسبغها ، وعارفة مَلاها بعد أن سوّغها ، أفضلَ ما جازى به مبتدئ إحسان ، ومُجير إنسان ، لا زال مكانُه مَصاناً للكرم ، مَعاناً للنعم ، لا تريمه المواهب ، ولا ترومُه النوائب ، بُسِطَت بالعلا يَدُه ، وقُرِن بالسعادة جَده ، وجُعل خيرُ يومَيْهِ غَدُه ، ولا زالت الأيام والليالي مطاياه ؛ في أمانيه وآماله وأيامه ، وصَرَفَ صروف الغِيَرِ عن إصابة إقباله وكماله .
وقال ابن المعتز في القاسم بن عُبيد الله : الطويل :
أيا حاسداً يكوي التلهفُ قلبَهُ . . . إذا ما رآه غازياً وَسْطَ عَسْكَرِ
تصفَّحْ بني الدنيا فهل فيهمُ لهُ . . . نظيرٌ ترى ثم اجتهدْ وتفكرِ
فإن حدَّثَتْكَ النفسُ أنك مثلُه . . . بنَجْوى ضلالٍ بين جنبيك مُضْمَرفَجُدْ ، وأجد رأياً ، وأقدم على العِدا . . . وشُدَّ عن الإثمِ المآزِرَ واصبِر
وعاصِ شياطين الشباب وقارع الن . . . وائب وارْفَعْ صرعَةَ الضرّ واجبرِ
فإن لم تطق ذا فاعذر الدهر واعْتَرِفْ . . . لأحكامه واستغفرِ الله يغفرِ
صناعة الكلام
قال الجاحظ : صِناعةُ الكلام عِلْق نفيس ، وجَوهرٌ ثمين ، هو الكنز الذي لا يَفْنَى ولا يَبْلَى ، والصاحبُ الذي لا يُمَلُّ ولا يُقْلَى ، وهو العيارُ على كلّ صناعة ، والزمامُ لكل عبارة ، والقِسْطاسُ الذي به يَسْتبينُ نَقْصُ كلِّ شيء ورُجْحانه ، والراوُوق الذي يُعْرفُ به صَفاءُ كلّ شيء وكَدَره ، والذي كل عِلم عليه عِيَال ، وهو لكلِّ تحصيل آلةٌ ومثال .
وقال ابن الرومي : البسيط :
ما عُذْرُ معتزليّ مُوسرٍ منعَتْ . . . كَفّاه مُعْتَزليّاً مِثْلَه صفَدا
أيَزْعم القَدَر المحتوم ثبَّطَه . . . إن قالَ ذاك فَقَدْ حل الَّذِي عَقَدا
وقال ابن الرومي : الكامل :
لذوي الجدال إذا غَدَوا لجدالهم . . . حُجَجٌ تضلُّ عن الهدى وتَجُورُ
وُهُنٌ كآنيةِ الزُّجاج تَصَادمتْ . . . فهوَت ، وكلٌّ كاسرٌ مَكْسورُ
فالقاتِلُ المقتولُ ثَمَّ لِضَعْفه . . . ولوهيِه ، والآسرُ المَأْسُورُ
وقال أبو العباس الناشئ يفتخر بالكلام الطويل :
ونحن أناس يَعْرفُ الناسُ فَضْلَنا . . . بألسُنِنا زينتْ صدورُ المحافلِ
تُنير وُجُوهُ الحقِّ عند جَوابِنا . . . إذا أظلمتْ يوماً وُجُوهُ المسائلِ
صمَتْنَا فلم نترُكْ مقالاً لصامتٍ . . . وقُلْنَا فلم نتركْ مَقالاً لِقائل
وقال يصفُ أصحابه : البسيط :
فلو شَهِدْتُ مقاماتي وأنْدِيَتي . . . يوْمَ الخصام وماءُ الموت يَطَّردُ
في فتيةٍ لم يلاق الناسُ مذْ وُجِدوا . . . لهم شبيهاً ولا يُلْفَوْن إنْ فقدوا مجاورو الفضل أَفْلاكُ العُلا سبل الت . . . قوى محلّ الهدى عُمْدُ النّهى الوُطُدُ
كأنهم في صدورِ الناسِ أفئِدَةٌ . . . تحسنُ ما أخطئوا فيها وما عَمَدُوايُبْدون للناس ما تخْفِي ضمائرهم . . . كأنهم وَجَدُوا منها الذي وَجَدوا
دلوا على باطنِ الدنيا بظاهرها . . . وعِلْم ما غابَ عنهمْ بالذِي شَهدوا
مطالع الحق ما مِن شبهَةٍ غَسِقتْ . . . إلا وَمِنْهُمْ لدينا كوكبٌ يَقِدُ
وقال سعيد بن حميد : الخفيف :
قالت : اكتمْ هوايَ واكنِ عن اسمي . . . بالعزيز المُهَيْمِنِ الجَبَّارِ
قلت : لا أسْتَطِيع ذلك ، قالت : . . . صرْتَ بعدي تَقولُ بالإجْبَارِ
وتخليْتَ عن مقالة بشرب . . . ن غياث لمَذْهب النجَّارِ
وقال أبو القاسم بن عباد الصاحب : الخفيف :
كنتَ دهراً أقولُ بالاستطاعهْ . . . وأَرى الجَبْرَ ضلَّةً وشَنَاعَهْ
ففقدت استطاعتي في هوى ظَب . . . ي ؛ فسمعاً للمُخبِرين وطَاعَه
وقال أيضاً : الطويل :
ولما تناءَتْ بالحبيبِ دِيَارُهُ . . . وصرْنا جميعاً من عِيَانٍ إلى وَهْمِ
تمكَّن منِّي الشوقُ غير مُخالِسٍ . . . كمعتزليّ قد تَمكَّنَ من خَصْمِ
باب النسيب
وأنشد محمد بن سلام بعضَ هذه الأبيات التي أنشدها ، وزعم أنها لأبي كبير الهذلي ، ورُويت ليزيد بن الطَّثرِيّة وغيره ، والرواة يُدْخلون بعض الشعر في بعض ، وهي : الطويل :
عُقَيْلِيةٌ ، أمَّا مَلاَثُ إزارِها . . . فَوَعثٌ ، وأمَّا خَصرها فبَتِيلُ
تقَيَّظُ أكنَاف الحِمَى ، ويُظِلّها . . . بنَعْمان من وَادِي الأراك مَقِيلُ
فيا خُلَّةَ النفس التي ليس دُونَها . . . لنا من أَخلاّءِ الصفاءِ خَليلُ
ويا من كَتَمْنَا حُبَّه ، لم يُطَعْ لَه . . . عدوٌّ ، ولم يُؤْمَنْ عليه دَخِيلُ
أمَا مِن مقام أشْتَكي غُرْبةَ النوى . . . وخَوْفَ العِدا فيه إليكِ سَبِيلُ ؟أليس قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها . . . إليكِ ؟ وكلا ليس مِنك قليلُ
وإن عناءَ النفسِ ما دمت هكذاعَنُودَ النوى محجوبةً لطويلُ
أراجعة قلبي عليّ فَرائح . . . مع الرَّكبِ لم يكتب عليك قتيل
فلا تحمِلي وِزْرِي وأنْت ضعيفةٌ . . . فَحَمْلُ دمي يوم الحساب ثَقيلُ
فيا جنَّةَ الدنيا ، ويا مُنتهَى المنى . . . ويا نُور عيني ، هل إليك سبيلُ ؟
فديتكِ ، أعدائي كثير ، وشُقَّتي . . . بعيدٌ ، وأشياعي لديكِ قَلِيلُ
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلَّةٍ . . . فأفنيت عِلاّتي ، فكيف أقول ؟
فما كل يوم لي بأرْضكِ حاجةٌ . . . ولا كل يوم لي إليك رسولُ
وأنشد ابنُ سلاّم لأبي كبير الهذلي : الطويل :
وإني لمستَسْقٍ لها الله كُلّما . . . لوى الدَّينَ مُعْتَل وشَحَّ غَريمُ
سحائبَ لا من صَيِّبٍ ذي صَوَاعِق . . . ولا مُحرقَاتٍ ماؤهنَّ حَمِيمُ
ولا مخلفات حين هِجْنَ بنَسْمَةٍ . . . إليهنّ هوجاءُ المَهَبِّ عَقيمُ
إذا ما هَبَطْنَ القاعَ قد ماتَ نَبْتُهُ . . . بَكَيْنَ بهِ حتى يَعيش هَشِيمُ
عمران بن حطان
ولمّا ظفر الحجَّاج بعمران بن حطان الشاري قال : اضربوا عُنُقَ ابن الفاجرة ، فقال عمران : لبئسما أدّبكَ أهلُك يا حجّاج كَيف أمنت أن أُجيبك بمثْلِ ما لقيتني به ؟ أبعدَ الموت منزلةٌ أصانِعك عليها ؟ فأطْرَق الحجاج استحياءً ، وقال : خَلّوا عنه ؛ فخرج إلى أصحابه ، فتقالوا : والله ما أطْلَقك إلا الله ، فارْجِعْ إلى حَرْبه معنا ، فقال : هيهات غلَّ يداً مطلقها واسترقَّ قبةً مُعْتِقُها وأنشد : الكامل :
أأقاتل الحجاجَ عن سُلْطَانِه . . . بيدٍ تُقرّ بأنها مَوْلاتُهُ ؟
إني إذاً لأخُو الدناءة ، والذي . . . عَفَّتْ عَلَى عرفانِهِ جَهلاتُهُ ماذا أقول إذا وقفت مُوَازِياً . . . في الصفِّ واحتجَّتْ له فَعَلاتُهُ ؟وتحدَّثَ الأكْفَاء أنَّ صنَائعاً . . . غُرِسَتْ لدَيّ فحَنْظَلَتْ نخَلاتُه
أأَقول جار علي ؟ إني فيكُم . . . لأحقّ مَنْ جارَتْ عليه وُلاَته
تالله ما كدت الأمير بآلةٍ . . . وجوارحي وسِلاَحها آلاَتُه
أخذ أبو تمام هذا فقال معتذراً إلى أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعي : الطويل :
أألبِسُ هُجْرَ الْقولِ مَن لو هَجَوْتهُ . . . إذاً لهجَاني عنه معروفُه عِنْدِي
كريم متى أمْدَحْه أمدحه والورَى . . . مَعِي ، وإذا ما لمْتُه لُمْتُه وَحْلِمي
وعمران بن حطان هو القائل : البسيط :
لم يعجز الموتَ شيءٌ دون خالقهِ . . . والموتُ فَانٍ إذا ما غَاله الأَجَلُ
وكلّ كرب أمامَ الموتِ مُنْقَطِعٌ . . . بالموت ، والموتُ فيما بعدُه جَلَل
وكان الفرزدَقُ عمل بيتاً ، وحلف بالطلاق أنَّ جَريراً لا ينقضه ، وهو : الطويل :
فإنّي أنا الموتُ الذي هو نازلٌ . . . بنفسك فانظُرْ كيف أنْتَ مُحَاولُهْ
فاتصل ذلك بجرير ، فقال : أنا أبو حَزْرَة ، طلقت امرأةَ الخبيث ، وقال : الطويل :
أنا الدَهْرُ يُفْنِي الموتَ والدهرُ خالِدٌ . . . فجئْنِي بمثلِ الدهرِ شيئاً يُطاوِلُهْ
وإنما أشار جرير إلى قول عمران .
وهو عِمْران بن حِطَان بن ظبيان بن سهل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن سنان بن ذهل بن ثعلبة ، ويكنى أبا شهاب ، وكان من الشُراة ، وكان من أَخطب الناس وأَفْصَحهم ، وكان إذا خطب ثارت الخوارُج إلى سلاحها ، وكان من أقبح الناسِ وَجْهاً ، قالت له امرأته وكانت في الجمال مثله في القبح : إني لأرجو أن أكون وإياك في الجنة ؛ لأن الله رزقك مِثْلي فشكرت ، وابتلاني بمثلك فصبرت .
بين أعرابي وبعض الولاة
ودخل أعرابي على بعض الوُلاة فقال : أصْلَحَ الله الأمير ، اجعلني زِماماً من أزمَّتك ،فإني مِسْعَر حَرْبٍ ، ورَكَّاب نُجُب ، شديدٌ على الأعداء ، ليِّنٌ على الأصدقاءِ ، منطوي الحصيلة ، قليلُ الثَّمِيلة ، قليل غرار النوم ، قد غذَتْني الحروبُ أفَاوِيقها ، وحَلَبْتُ الدهرَ أشْطُره ، فلا يَمْنَعْكَ مني الدَّمَامة ، فإنّ تحتَها لشَهَامة .
الدنيا وأهلها
قال المسيح عليه السلام : الدُّنْيَا لإبليس مزرعة ، وأهلها له حُرَّاث . وقال إبليس لعنَه اللّه : العجَب لبني آدم يحبُّونَ الله ويَعْصونَه ، ويُبغضونني ويطيعونني .
أربع كلمات فيهن صلاح الملك
خرج الزهري يوماً من عند هشام بن عبد الملك فقال : ما رأيتُ كاليومِ ، ولا سمعت كأربع كلمات تكلَّم بهنّ رجلٌ عند هشام ؛ دخل عليه فقال : يا أميرَ المؤمنين ، اِحفظْ عني أرْبَع كلمات ، فيهنّ صلاحُ مُلْكك ، واستقامةُ رعيّتِك . قال : هاتهنَّ ؟ قال : لا تَعِدن عِدةً لا تَثِقُ من نفسك بإنجازها ، ولا يغرَّنك المرْتَقَى وإن كان سَهْلاً إذا كان المُنحَدرُ وَعْرأ ، واعلمْ أن للأعمال جزاءً فاتّقِ العواقبَ ، وأنَّ للأمورِ بَغَتَاتٍ فكُنْ على حذَر .
قال عيس بن دَأْب : فحدَّثت بهذا الحديث الهادي وفي يده لُقْمة قد رفعها إلى فِيهِ فأمسكها ، وقال : ويحك أعِدْ عليّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، أَسِغْ لقْمتك ، فقال : حديثك أحب إليّ .
بيعة يزيد
ولمّا عقد معاويةُ البيْعَةَ ليزيدَ قام الناسُ يخطبون ؛ فقال لعمرو بن سعيد : قمْ يا أبا أمية ، فقام فحمد الله وأثنى عليهِ ثم قال : أمّا بعد ، فإنّ يزيد بن معاوية أجلٌ تؤمونه ، أملٌ تؤملونه ، إن استضفتم إلى حِلْمه وَسِعَكم ، وإن احتجْتُم إلى رَأْيه أَرشدكم ، وإنافتقرْتم إلى ذاتِ يده أعناكم ، جَذَع قَارح ، سُوبِق فسَبَقَ ، ومُوجِدَ فمَجَدَ ، وقُورع فقَرَعَ ، وهو خَلف أمير المؤمنين ، ولملا خلف عنه ، فقال له معاوية : اجلس ، فقد أَبْلَغْتَ .
وعَمرو بن سعيد هذا هو الأَشْدَق ، وإنما سُمي الأشدق لتشادقه في الكلام ، وقيل : بل كان أَفْقم مَائل الشدق ، وهذا قول عوانة بن الحكم الكلبي ، وهو خَلافُ قول الشاعر : الطويل :
تشادق حتى مال في القول شدقةُ . . . وكل خَصيبٍ لا أباً لكَ أشْدَقُ
وكان أبوهُ سعيد بن العاصِ أَحدَ خطباء بني أمية وبلغائهم . ولما ماتَ سعيد دخل عمرو على معاوية فاستَنطَقه فقال : إن أوَّل كل مركب صَعب ، وإن مع اليوم غداً ، فقالَ معاوية : وفي هذه العلّة إلى من أَوصى بك أبوك . قال : أوصى إليّ ولم يُوصِ بي ، فقال معاوية : إن ابن سعيد هذا لأشدق .
تواضع الرشيد
قال ابن السماك للرشيد : يا أميرَ المؤمنين ، تواضُعُك في شرفك أفضَلُ من شرفك ؛ إنَّ رجلاً آتاه الله مالاً وجَمَالاً وحَسَباً ، فواسَى في مَالِه ، وعفَّ في جماله ، وتَواضعَ في شربِه ، كُتب في ديوان الله عزّ وجلّ .
المتنبي يصف علِّة أصابته بمصر
نالت أبا الطيب المتنبي علَّة بمصر ، فكان بعض إخوانه من المصريين يُكثر الإلمامَ به ؛ فلمَّا أبلَّ قطعه ، فكتب إليه : وصلْتَني ، أعزك الله ، مُعتلاً ، وقطعتني مُبِلاًّ ، فإن رأيت ألا تَكْدُر الصحةُ عليّ ، وتحبّب العلّة إليّ ، فَعَلْتَ .
وفي هذه العلّة يقول : الوافر :
أقمتُ بأرضِ مِصْرَ ؛ فلا ورائي . . . تَخُبّ بيَ الرِّكابُ ، ولا أمامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القيامِ . . . شديدُ السُّكْرِ من غيرِ المُدَامِوزائِرَتِي كَأنّ بها حَياءً . . . فلَيْسَ تَزُورُ إلا في الظَّلامِ
بَذَلْتُ لها المَطارِفَ والحَشايَا . . . فعافَتهَا ، وباتَتْ في عِظامِي
يضيق الجِلْدُ عن نَفَسِي وعنها . . . فتُوسِعُهُ بأنواعِ السقَامِ
إذا ما فارقَتني غسّلَتْني . . . كأنا عاكِفانِ على حَرَامِ
كأنَّ الصبح يَطْرُدها فَتَجْرِي . . . مَدامِعُها بأربعةٍ سِجَام
أُراقِبُ وَقْتَها مِنْ غيرِ شَوقٍ . . . مُراقَبةَ المَشُوقِ المُسْتَهامِ
ويَصْدُقُ وَعْدُها والصِّدْقُ شَرٌّ . . . إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
ألفاظ لأهل العصر في العيادة وما جانسها من ذكر التَّشَكّي والمرض وتلوّنه ، وسوء أثره ، والانزعاج لِعوارضه :
عرض لي مرضٌ أساء بالنجاة ظنّي ، وكاد يصرف وجه الإفاقة عني ، هو شُورى بين أمراض أربعة : صُدَاع لا يخفّ ، وحُمّى لا تُغِبُّ ، وزُكَام لا يجفّ ، وسُعال لا يَكُفّ . علّة هو في أسْرِها مُعتَقل ، وبقَيْدِها مُكبل . أمراض تلوَنت عليَّ ، وأساءت بي وإليّ ، فأنا أشكرُ اللّه تعالى إذ جعلها عِظة وتذكيراً ، ولم يُبْقِ منها الآن إلا يسيراً ، أحسب أن الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائي مَرَاتعها ، واَلت على أن تُصيّر جوارحي مرابِعَها . عِلَل لا يصدر منها آتٍ إلا لتكدير وِرْد ولا يعزل منها والٍ إلا بولي عهد . قد كرَّت تلك العلة فعادت عِللاً ، وسقتني بعد نَهَل عَلَلاً . علل بَرَتْه بَرْي الأخلّة ، ونقصته نَقْصَ الأهلّة ، وتركته حَرَضا ، وأوسَعَتْهُ مَرَضاً ، وغادرته والخيالُ أَكثَفُ من جُثّة ، والطيفُ أَوفر منه قُوّة . عرض له من المرض ما صار معه القنوطُ يُغَاديه ويُراوِحه ، واليأس يُخاطبه ويُصَافحه . قد ورَدَ من سوء الظنّ أَوْخمَ المناهل ، وبات من حسن الرجاء على مرَاحل . طالعتُ الكرم يترجَّح نجمه بين الإضاءة والأفول ، وتمثلُ شمسه بين الإشراق والغروب . أصبح فلانٌ لا يُقل رأسَه ، ولا يحور ظلّه ، ويدُ المنية تَقْرَع بابه . ما هو للعلّة إلا عَرض ،ولسهام المنيّة إلا غَرَض . شاهدتُ نفسي وهي تَخرج ، ولقيت رُوحي وهي تَعْرُج ، وعَرفت كيف تكون السكْرة ، وكيف تقع الغَمْرة ، وكيف طَعْمُ البعد والفراق ، وكيف تلتفُّ الساق بالساق . مرض لحقتني رَوْعته ، وملكتني لَوْعته . وجدت في نفسي ألماً أوْحَشُهُ آنَسُه ، وَآنَسُه أوحشُه . بلغني من شكايته ما أَوحش جناب الأُنس ، وأَرَاني الظلمة في مَطْلع الشمس . قد بلغني ما عَرَضَ لك من المرض ، وألمّ بك من الألم ، فتحاملَ على سوداء صدري ، وأقْذَى سوادَ طَرْفي ، وقد استنفد القَلَق لعلَّتك ما أَعدّه الصبرُ من ذخيرة ، وأضعف ما قواه العزم من بصيرة . قَلْبي يتقلّب على حدِّ السيف إلى أن أعْرف انكشافَ العارض وزِيَاله ، وأتحقّق انحساره وانتقاله . أنهى إليّ من الخبر العارض ، حسمَ الله مادَّته ، وقصَّر مدَّته ، ما أراني الأفق مُظْلماً ، والعيش مُبْهَماً .
فقر في تهوين العلّة بحسن الرجاء وذكر المشاركة والاهتمام بحُلُولها والاستبشار بزوالها :
إنّ الذي بلغني من ضَعْفِه قد أضعف المنَّة ، وإنْ لم يُضعف الظنَّ باللّه والثِّقة . قد استشفَّ العافية من ثوب رقيق . ما أكثر ما رأينا هذه العلل حَلَّتْ ثم تَجلّتْ وتوالت ثم تولّت . خبَّرني فلان بعلّتك فأشركني فيها ألماً وقلَقاً ، فلا أَعَل الله لك جسماً ولا حالاً ، فليست نِكَاية الشغل في قلبي بأقلّ من نِكَايةِ الشكايةِ في جسمك ، ولا استيلاء القَلَقِ على نفسي بأيسر من اعتراضِ السّقم لبدنك ، ومَنْ ذَا الذي يصحُّ جسمه إذا تألّمت إحدى يديه ، ومن يحل محلّها في القرب إليه ؟ أنا منزعج لشَكَاتك ، مبتهج بمُعَافاتك ، إن كانت علَتك قد قَرَحَت وجرَحتْ ، فإنّ صحتك قد آسَت وآنست . بلغتني شَكَاتك فارْتَعْت ، ثم عرفت خِفّتها فارْتَحْت . الحمد للّه على قُرْبِ المدة بين المِحْنَة والمِنْحة ، والنقمة والنعمة ، وعلى أنّا لم نتهالك بأيدي المخافة حتى تدارك بحُسْنِ الرأفة ، ولم نستسلم لخطّة الحذر حتى سَلمَ من وَرْطَة القدر .
ولهم في شكاة أهل الفضل والسؤود
شكاتُه التي تتألَم منها المروءةُ والفضل . ويسقم منها الكرم المحْضُ . شكاته التي غَضَت بها حلوقُ المَجْدِ ، وحَرِجَت لها صدورُ أهل الأدب والعلم ، وبدا الشحوبُ معها على وَجْه الحرية ، وحرم معها البِشْرُ على غُزَة المروءة . قد اعتل بعلَّته الكَرَم ، وشكابشكايته السيفُ والقلم . شكاة عرضت منه لشَخص الكرم الغضَّ ، والشرف المَحْض . لو قبلت مهجتي فديةً ، دون وَعكَة تجدها ، لَجُدتُ بها ، وساعة أنس تفقدها لبذلتها ، عالماً بأني أفْدِي الكرم لا غير ، والفضل ولا ضَير .
ولهم في تنسُّمِ الإقبال وذكر الإبلال
قد شمْت بارِقَة العافية ، وشَمِمْت رائحةَ الصحة . أقبل صنع الله من حيث لم أَحتسب ، وجاءني لطْفه من حيث لا أرْتقب ؟ وتدرّجْت إلى الإبلال وقد حسبته حلْماً ، ورضيت به دون الاستقلال غُنماً وقد تخلَصت إلى شَطِّ العافية لما تداركني الله تعالى بلطيفة من لطائفه وجعل هبة الروح عارِفة من عَوَارفه ، وتنسمت روح الحياة ؟ بعد أن أَشْفَيث على الوفاة ، وثنيْت وجهي إلى الدنيا بعد مواجهتي للدار الأخرى . قد صافَحَ الإقبال والإبلال ، وقارب النهوض والاستقلال . سيُرِيك الله من العافية التي أذاقك ويُسْبغ . ثوبها ، ولا يعيد عنيد مكَروهَها . قد استقلَّ استقلالَ السيف حودثَ عهدُه وأعِيد فِرنْدُه ، والقمر انكشف سِرَارُه ، وذاعت أَسراره . حين استقلّت يدي بالقلم ، بشَرتك بانحسار الألم . قد أتاك الله بالسلامة الفائضة ، وعافاك من الشكاة العارضة . أبلَّ فانشَرَحَت الصدور ، وشمل السرور . الحمد للّه الذي حرس جِسْمَك وعافاه ، ومحا عنه أثرَ السقم وعَفّاه . الحمد للّه الذي جعل العافيةَ عقْبى ما تشكيت ، والسلامة عِوَضاً عمّا عايَنت . الحمد لله الذي أعفاك من مُعَاناة الألم . وعافاك للفَضْلِ والكرم ، ونظمني معك في سِلكِ النعمة ، وضمَني إليك في مُنْبلج الصحَّة . الحمد للّه الذي جعل السلامةَ ثوبك الذي لا تنضوه ، وسيفك فيما تأمله وتَرْجُوه . الله يَجْعَل السلامةَ أطول برْدَيك ، وأشدّهما سُبوغاً عليك ، ويدفع في صدوره المكارِم دون ربعك ، وفي نحور المحاذير قبل الانتهاء إلى ظلّك . لا زالت العافية شِعَارَك ، ما واصل ليلُكَ نهارَكَ .
فقر في أدْعية العيادة والاستشفاء بكتبها
أَغناك الله عن الطبِّ والأطباء ، بالسلامة والشفاء ، وجعله عليك تَمْحيصاًلا تنغيصاً ، وتذكيراً لا نكيراً ، وأدباً لا غضباً . الله يدرُّ لك صَوْبَ العافية ، ويُضفي عليك ثوبَ الكفاية الوافية . أوْصَل الله تعالى إليك من بَردِ الشفاء ما يكفيك حَرَّ الأدواء . كتابك قد أَدَّى رَوْحَ السلاِمة في أعضائي ، وأَوصَل بَردَ العافية إلى أحشائي . تركني كتابك والنعم تَثِب إلى صحتي ، والخطوب تتجافى عن مُهجتي ، بعد أمراضٍ اكتنفت ، وأسقام اختلفت . قد استبق كتابك والعافية إلى جسمي كأنهما فرَسَا رِهَان تباريا ، ورَسيلا مِضْمَار تجاريا . أبدلني كتابُك من حزون الشكايه شهُولَ المعافاة ، ومن شدَّة التألّم ، رخاءَ التنعم .
قطعة من كلام الأطباء والفلاسفة
العاقل يترك ما يحبُّ ليستغنيَ عن العلاج بما يكره .
جالينوس : المرض هَرَم عارِض ، والهَرَم مرضٌ طبيعي .
وله : مجالسة الثقيلِ حُمَّى الروح .
بختيشوع : أكلُ القليل ممّا يَضرُّ أصلح من أكل الكثير مما ينفع . يحوحنا بن ماسويه : عليك من الطعام بما حَدُث ، ومن الشراب بما قَدُم .
وقال له المأمون : ما أَحْسَنُ ما يُتنقّل به على النبيذ ؟ قال : قول أبي نواس ، يريد قوله : المنسرح :
الحمد للّه ليس لي مَثَلُ . . . خمري شرابي وَنَقْليَ القُبلُ
ثابت بن قُرة : ليس شيء أضرّ بالشيخ من أن تكونَ له جارية حسناء ، وطبّاخ حاذق ؛ لأنه يُكثر من الطعام فيَسقَم ، ومن الجماع فيَهْرَم .
غيره : ليس لثلاث حيلة : فقرٌ يخالِطُه كسل ، وخصومة يخامرها حَسَد ، ومرضٌ يمازِجه هرم .
ثلاثة يجب مداراتهم : السلطان ، والمريض ، والمرأة .
ثلاثة يُعْذَرون على سوء الخلق : المريض ، والمسافر ، والصائم .
فقر في ذكر المرض والصحة والموت والحياة لغير واحد :
شيئان لا يُعرفان إلا بعد ذهابهما : الصحة والشباب . بمرارة السقم توجد حلاوةُالصحة . هذا كقول أبي تمام : الطويل :
إساءة دَهْرٍ أذْكَرَت حسْنَ فِعلِهِ . . . إليَّ ، ولولا الشَرْيُ لم يُعْرَفِ الشَّهْدُ
وقوله أيضا : الكامل :
والحادثاتُ وإنْ أصابك بُؤْسها . . . فهو الذي أدْراك كيفَ نعيمُها
ما سلامةُ بدن معرّض للآفات ، وبقاء عمر معرض للساعات ؟ قال أبو النجم : الرجز :
إنَّ الفتى يصبح للسقام . . . كالغَرض المنصوب للسّهام
أخطأ رامٍ وأصابَ رَام
وقيل لبعض الأطباء وقد نهكته العلّة : ألا تتعالج ؟ فقال : إذا كان الداء من ، السماء بطل الدواء ، وإذا قدّر الرب بطل حَذَرُ المربوب ، ونِعْمَ الدواء الأمل ، وبئس الداء الأجل .
بزرجمهر : إنْ كان شيء فوق الحياة فالصحة ، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض ، وإن كان شيء مثل الحياة فالغِنَى ، وإن كان شيء مثل الموت فالفقر .
غيره : خير من الحياة ما لا تطِيبُ الحياةُ إلا به ، وشرٌّ من الموت ما يُتمنَّى الموت له .
قال المتنبي في مرثية سيف الدولة : الوافر :
أطَابَ النفْسُ أنكِ مُتِّ مَوْتاً . . . تَمَنَّتْهُ البَواقِي والْخَوَالِي
وزُلْتِ ولم تَرَيْ يوماً كريهاً . . . تُسَرُّ النَفْسُ فِيهِ بالزوالِ
رِوَاقُ العِزِّ فَوْقَكِ مُسْبَطِرّ . . . ومُلْكُ عليٍّ ابنِكِ في كمَالِ
الموت باب الآخرة .
الحسن : ما رأيتُ يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت .ابن المعتز : الموت سَهْمٌ مُرْسَل إليك ، وعمرك بقدر سفره نحوك . أخذه بعض أهل العصر فقال : مجزوء الكامل :
لا تَأْمَن الدهرَ الخؤو . . . ن وخَفْ بوادرَ آفَتِهْ
فالموت سَهْمٌ مُرْسَلٌ . . . والعمرُ قَدْر مسافَتِهْ
البستي : الخفيف :
لا يغرنْكَ أنني ليّنُ المسّ فعزمي إذا انتضيتُ حُسام
أنا كالورد فيه راحةُ قَوْمٍ . . . ثم فيه لآخرين زُكَام
وقال آخر : الكامل :
إن الجهولَ تضرُّني أخلاقهُ . . . ضرر السُّعال لمن به استسقاءُ
ولآخر ، وهو البستي : البسيط :
فلا تكن عَجِلاً في الأمر تطلبهُ . . . فليس يحمد قبل النّضج بُحرَانُ
وقال آخر : الكامل :
لا تعتمِدْ إلاَّ رئيساً فاضلاً . . . إنّ الكبار أطبُّ للأَوجاع
وقال آخر : المتقارب :
وإني لأخْتَصُّ بعض الرجال . . . وإن كان فَدْماً ثقيلاً عَبَاما
فإن الجُبُنَّ على أنهُ . . . ثقيل وخيمٌ يُشَهّي الطعاما
وقال المتنبي : البسيط :
لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقبُهُ . . . وربّما صحَّتِ الأجسامُ بالْعِلَلِ
وقال أيضاً : البسيط :
أُعِيذُها نَظَرات مِنْكَ صادِقةً . . . أنْ تحْسِبَ الشَحْمَ فيمَنْ شَحمُهُ وَرَمُ
الجواب المفحم
قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي : كان بلالُ بن أبي بردة جَلْداً حينابْتُلي ، أحضره يوسف بن عمر في قيودِه لبعض الأمر ، وهُم بالحِيرة ؛ فقام خالدُ بن صفوان فقال ليوسفَ : أيها الأميرُ ، إنّ عدو الله بلالاً ضربني وحَبَسني ولم أفارِق جماعة ؛ ولا خلعْتُ يداً من طاعة ، ثم التَفت إلى بلالٍ فقال : الحمدُ للّه الذي أَزال سلطانَك ، وهدَّ أركانك ، وأَزال جَمالك ، وغيَّر حالك ، فوالله لقد كنتَ شديدَ الحجاب ، مستخفاً بالشريف ، مظهراً للعصبية فقال بلال : يا خالد ، إنما استطلت علي بثلاث معك هن عليَّ : الأمير مُقْبِل عليك ، وهو عني مُعْرِض . وأنت مُطلَق ، وأنا مأسور . وأنت في طينتك ، وأنا غريب فأفحمه ، ويقال : إن آل الأهتم زعنفة دخنت في بني منقر فانتسبت إليهم .
وكان سبب ضرب بلال خالداً في ولايته أنّ بلالاً مَرَّ بخالد في موكب عظيم ، فقال خالد : الطويل :
سحابة صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ .
فسمعه بلال ، فقال : والله لا تقشع أو يصيبك منها شؤبوب برد ، وأمر بِضَربه وحَبْسِه .
ما قيل في القداح
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي قَدَحاً له انكسر : المتقارب :
عَرَاني الزمانُ بأحْدَاثه . . . فبعضاً أطَقْتُ ، وبعضٌ فَدَح
وعندي فَجائع للحادثات . . . وليس كفجعَتِنا بالقَدَحْ
وِعاءُ المُدَام ، وتاجُ البنان . . . ومُدْنِي السرور ، ومُقْصِي التَّرَحْ
ومعرض رَاحٍ متى تكسه . . . ويُستودع السرَّ منها يبحْ
وجسم هواءً وإن لم يكن . . . يُرَى للهواء بكفّ شَبحْ
يردُّ على الشخْصِ تمثالهُ . . . وإن تتخِذْه مِرَاةً صَلح
ويَعْبَقُ من نكهاتِ المُدَام . . . فتحسب منه عَبِيراً نَفَحْ
ورَقَّ . فلو حلَّ في كِفّةٍ . . . ولا شيء في أخْتِها ما رَجَحْ
يكادُ مع الماء إن مسّه . . . لما فيه ممن شكله ينفسح
هوَى من أَنامل مجدولةٍ . . . فيا عجباً مِنْ لطيفٍ رَزَح
فأَفْقَدَنِيه على ضِنّةٍ . . . به للزمان غَرِيم مَلحْكأنّ له ناظراً ينتقي . . . فمتى يَتعَمَّدُ غَيْرَ المُلحْ
أقلَبُ ما أبقتِ الحادثا . . . ت منه وفي العين دَمْعٌ يسُح
وقد قدح الوجد مني بهِ . . . على القَلْبِ من ناره ما قدح
وأعجب من زمن مانح . . . وآخرَ يسلب تلك المِنَحْ
فلا تبعدنّ فكم من حَشاً . . . عليك كَلِيمٍ وقَلْب قَرِحْ
سيُقفرُ بعدك رَسم الغبُوق . . . وتُوحِش منك مغَاني الصّبحْ
ومن أحسن ما قيل في وصف قدح ، ابن الرومي يصف قدحاً أهداه إلى علي بن يحيى المنجم : الخفيف :
وبديعٍ من البدائع يَسْبِي . . . كلَّ عقل ، ويَطَّبي كلَّ طَرْفِ
رَقّ في الحسنِ والملاحةِ حتى . . . ما يوفّيه واصفٌ حق وَصْفِ
كفم الْحِبّ في الملاحة بل أَش . . . هى وإن كان لا يناجي بحرْفِ
تنفذ العينُ فيه حتى تراها . . . أخطأَتْه من رِقَّةِ المستشَفِّ
كهواء بلا هباء مشُوب . . . بضياءٍ ، أًرْقِقْ بذاك وأصْفِ
صِيغ من جوهر مصفًّى طباعاً . . . لا علاجاً بكِيمِيَاء مُصَفّ
وسط القَدْرِ ، لم يكبَّر لِجَرْع . . . مُتوالٍ ، ولم يصغَّر لرَشْفِ
لا عجول على العقول جَهولٌ . . . بل حليم عنهنَّ في غير ضعفِ
فيه نون معقرب عطَّفَتْه . . . حكَمَاءُ القيون أحكم عَطْفِ
مثل عطف الأصداغ في وجَنَاتٍ . . . من حبيب يُزْهى بحُسْنٍ وظرْفِ
ما رأى الناظرون قدّاً وشكلاً . . . مثله فارِساً على بطن كَفِّ
وقال أبو القاسم التنوخي : المتقارب :
وراحٍ من الشمس مخلوقةٍ . . . بَدَتْ لك في قَدَح من نهارْ
هواءٌ ولكنه جامدٌ . . . وماءٌ ولكنه غير جَارْ إذا ما تأمّلتها وهي فيه . . . تأمَّلت نوراً محيطاً بِنَارْ
فهذا النهاية في الابيضاضِ . . . وهذا النهاية في الاحمرارْ
وما كان في الحقّ أن يُقرَنا . . . لفَرْطِ التَّنافِي وبعد النِّفَارْولكن تجاور شكلاهما ال . . . بسيطَانِ فاتَّفقا في الْجِوارْ
كأَنَّ المديرَ لها باليمين . . . إذا قام للسَّقْي أو باليَسار
تدرّعَ ثوباً من الياسمِين . . . له فَرْدُ كُمٍّ مِنَ الجلّنار
نماذج شعرية في وصف منديل وثلج
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي منديل كُمّ : السريع :
من يَبْكِ من وَجْدٍ على هالكٍ . . . فإنما أَبْكِي عَلى دَسْتَجَهْ
جاذَبَنِيْها رَشأٌ أَغْيَدٌ . . . فجادتِ النفسُ بها محرَجَهْ
بديعةٌ في نَسْجِها ، مثلها . . . يفقد من يحسِن أَنْ يَنْسُجَهْ
كأنما رِفَةُ أشكالِها . . . من رقةِ العشاق مُستَخْرَجهْ
كأنما مفتولُ أهدابِها . . . أيدي دَبَى في نَسَقٍ مُزْوجَه
كأنما تفريقُ أعلامها . . . طَاوُوسة تخْتَال أو دُرّجهْ
لَبيسَةٌ جَدَّدَها حُسْنُها . . . لا رَثه السِّلْكِ ولا مُنْهَجه
كم رقعةٍ من عند مَعْشُوقةٍ . . . تُرْسَلُ في أثنائها مُدْرَجَه
أو مسحة من شَفَةٍ عَذْبَة . . . تُبْردُ حرّ الكَبِدِ المُنضَجَه
إلى تحياتٍ لِطافٍ بها . . . تُسْكِنُ مني مُهْجَةً مُزْعَجه
كانت لمَسحِ الكأس حتى ترى . . . منها لآثارِ القذَى مخرجه
وخاتمي يُعْقَدُ فيها إذا . . . آثرتُ مِنْ كفيَ أن أخْرِجَه
وأتَّقي الجامَ بها كلّما . . . كلّله المازجُ أو تَوَّجَه
فاستأْثَرَ الدَّهْر بها ؛ إنهُ . . . ذو همَّة مُجْلِية مُرْهجَه
فأَصْبَحَتْ في كَمّ مُخْتَالَةٍ . . . مُلجمَة في هَجْرِنا مُسْرجَه
وقال أيضاً يصف سقوط الثلج : الكامل :
الثلج يَسْقُط أم لُجَيْنٌ يُسْبَك . . . أمّ ذا حَصَا الكافورِ ظَلَّ يفرَّكُ ؟
راحت به الأرضُ الفضاء كأنها . . . في كل ناحية بثغرِ تضحَكُشابت مَفارقُهَا فبيّن ضِحْكها . . . طوراً ، وعهدي بالمَشيب يُنَسكُ
أرْبى على خُضر الغصون فأصبحَتْ . . . كالدرِّ في قُضُب الزبرجدِ يُسلك
وتردَّتِ الأشجارُ منه مُلاءةً . . . عمَّا قليل بالرياح تَهَتَّكَ
كانت كعودِ الهند طُرِّيَ فانكفى . . . في لَونِ أبيضَ وهو أسود أحلكُ
والجوُّ من أَرَجِ الهواء كأنهُ . . . خِلَعٌ تُعَنبَرُ تَارةً وتُمَسِّكُ
فخذِي من الأوتار حظَّك إنما . . . يتحرَّك الإطرابُ حين تحرَّكُ
فاليوم يوزَنُ بالملاحة ، إنهُ . . . سيُطَلُّ فيه دَمُ الدَنان ويُسْفَكُ
وقال أيضاً : المنسرح :
باكر فهذي صَبِيحةٌ قَرَّهْ . . . واليوم يومٌ سماؤه ثَرَّهْ
ثَلْج وشمس وصَوْبُ غَادِيَة . . . والأرضُ من كل جانب غُرَّهْ
باتَتْ وقيعانها زَبَرْجَدَةٌ . . . فأصبحَت قد تحوّلت دُرَّه
كأنها والثلوجُ تضحكها . . . تُعَارُ ممن أحِبِّه ثَغْره
كأنَّ في الجو أيدياً نَثَرَتْ . . . دُرَّاً علينا فأسرعت نثره
شابَتْ فسُرَّتْ بذاك وابتهجَتْ . . . وكان عهدي بالشيب يُسْتَكْرَه
قد جلّيت بالبياض بلدتنا . . . فاجْل علينا الكؤوسَ بالحُمْرَه
وقال الصنوبري : مجزوء الكامل :
ذَهِّب كؤوسك يا غلا . . . م فإنَّ ذَا يومٌ مفَضَّضْ
الجوُّ يُجلى في البيا . . . ض وفي حُلَى الكافور يُعرضْ
أزعمت ذا ثَلْجٌ وذا . . . وَرْدٌ على الأغصان يُنْفَضْ ؟
وردُ الربيع مورَّدٌ . . . والوَرْد في تشرين أَبْيَضْ
وقال البستي : الخفيف : كم نَظَمْنَا عقود لهوٍ وأُنْسٍ . . . وجعَلْنَا الزمانَ لِلَّهْوِ سِلْكَا
وفتقْنا الدنان في يوم ثلجٍ . . . عُزل الكأسُ فيه رُشْداً ونُسْكَا
فكأن السماءَ تنحلّ كافو . . . راً علينا ، ونحنُ نَفْتِقُ مِسْكَا
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي يصف الْجَمد : الرجز :
ربَّ جَنِين من حَيَا النمير . . . مهتك الأستارِ والضميرِسللته من رحم الغدير . . . كأنها صحائف الْبَلُورِ
أو أكُرٌ تجسمتْ من نُور . . . أو قِطَعٌ من خَالِصِ الكافور
لو بقيت سِلكاً على الدهور . . . لعطّلتْ قلائد النحُور
وأخجلت جواهرَ البحور . . . وسميت ضرائر الثغور
يا حُسْنهُ َفي زَمنِ الحرور . . . إذا قَيْظُه مثل حَشَا المَهجُور
يُهْدِي إلى الأكبادِ والصدُورِ . . . رَوحاً يُجلّي نَفْثَةَ المصدور
ويَخلِبُ السرورَ للمَقْرورِ
ألفاظ لأهل العصر في وصف الثلج والبرد والأيام الشتوية
ألقى الشتاءُ كَلْكَله ، وأحلّ بنا أثقاله . مدّ الشتاء أرِواقه ، وألقى أوراقه ، وحلّ نِطَاقه . ضرب الشتاء بجِرَانه ، واستقلّ بأركانه ، وأناخ بنوازله ، وأَرْسَى بكلاكله ، وكلح بوجهه ، وكشّر عن أنيابه . قد عادت هامات ، الجبال شِيبَاً ، ولبست من الثلج بُرداً قَشِيباً . شابت مفارق البروج لتراكم الثلوج ، ألمّ الشيب بها وابيضَّت لِمَمُها . قد صار البردُ حجاباً ، والثلج حجازاً . بَرْد يغير الألوان ، وينشف الأبدان . بردُ يُقَضْقِض الأعضاء ، وينفض الأحشاء . برد يُجْمد إلريقَ في الأشداق ، والدمعَ في الآماق . بَرْد حال بين الكلب وهَرِيره ، والأسَد وزئيره ، والطير وصَفِيره ، والماء وخرِيره . نحن بين لثق ، ورثق ، وزلق ، يوم كأنَّ الأرضَ شابَتْ لهَوْلِه . يوم فضّي الْجِلْبَاب ، مِسْكِيّ النقاب ، عبوس قَمْطَرير ، كشّر عن ناب الزمهرير ، وفرش الأرض بالقوارير . يوم أخذت الشَّمال زِمامه ، وكسا الصِّرُ ثيابه . يوم كأنّ الدنيا فيه كافُورة ، والسماء بلّورة . يوم أرضه كالقوارير اللامعة ، وهواؤه كالزنانير اللاسعة . يوم أَرضه كالزجاج ، وسماؤه كأطراف الزِّجَاج . يوم يثقل فيهالخفيف إذا هجم ، ويخفّ الثقيل إذا هجَر ، نحن فيه بين أطباق البَرْد فما نستغيث إلا بحرِّ الراح ، وسَوْرَة الأقداح . ليس للبرد كالبُرْد ، والخَمْرِ ، والجَمْرِ . إذا كَلِبَ الشتاء ، فترياق سمومه الصَلاء ، ودَرَقُ سيوفِه الطِّلاء .
نقيض ذلك من كلامهم في وصف القيظ وشدة الحرّ
قوِي سلطان الحَرّ ، وبُسِطَ بساط الجَمر . حَر الصيف ، كحدِّ السيف . أوقدت الشمس نارَها ، وأذكت أُوارها . حرّ يلفح حرّ الوجه . حَرٌ يشبه قَلْبَ الصَّبِّ ، ويُذيب دماغ الضّبِّ . هاجرة كأنها من قلوب العشّاق ، إذا اشتعلت فيها نارُ الفراق . هاجرة تحكي نارَ الهَجْر ، وتذيب قَلبَ الصخر . كأن البسيطة من وَقدة الحرّ ، بساط من الجمر . حَرٌ تهرب له الحِرْباء من الشمس ، قد صهَرَت الهاجرةُ الأبدان ، وركبت الجنادبُ العيدان . حرّ يُنْضِج الجلود ، ويُذيب الجلمود . أيام كأيام الفُرْقة امتداداً ، وحرّ كحرّ الوَجد اشتداداً . حرٌّ لا يطيبُ معه عيش ، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش . حمارة القيظِ ، تغلي كدم ذي الغيظ . آبَ آبٌ يَجِيش مِرْجَلُه ، ويَثُور قَسطَلُه . هاجرة كقلب المهجور ، أو التنور المَسْجور . هاجرة كالجحيم الجاحم ، تجرّ أذيالَ السمائم .
العجلة أُم الندامة
قال بعض الحكماء : إياك والعجَلة فإنَّ العرب كانت تكْنِيها أمَّ الندامة ؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم ، ويجيب قبل أن يفهم ، ويعزم قبل أَنْ يفكّر ، ويقطع قبل أن يُقَدّر ، ويَحمَدُ قبل أن يجرّب ، ويذمّ قبل أن يَخْبُر ، ولن يصحب هذه الصفَةَ أحدٌ إلا صحب الندامة ، واعتزل السلامة .
قضاء الحاجة
ولما وَلّى المهتدي سليمانَ بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حُرْمَته ، فقال : أعزَّ الله الوزيرَ ، أنا خادمك المؤمِّل لدولتك ، السعيدُ بأيامك . المنطوي القلب على وُدّك ، المنشورُ اللسان بمدحك ، المرتهن بشكر نعمتك ، وقد قال الشاعر : البسيط :
وفيتُ كل صديق ودَّني ثمناً . . . إلا المؤمل دولاتي وأيّامِي فإنني ضامنٌ أَلاَّ أكُافِئَهُ . . . إلاَّ بتسويغه فَضْلِي وإنعاميوإني لكما قال القيسي : ما زلت أَمْتَطِي النهارَ إليك ، وأستدلُّ بفضلك عليك ، حق إذا جنَّني الليلُ فغضَّ البصرَ ، ومحا الأثر ، أقام بدني ، وسافر أملي ، والاجتهاد عُذْر ، فإذا بلغتك فَقَدِ . قال سليمان : لا عليك ، فإني عارفٌ بوسيلتك ، محتاج إلى كفايتك واصطناعك ، ولست أؤخر عن يومي هذا توليتك ما يَحْسُنُ عليك أثره ، ويطيب لك خَبَرهُ ، إن شاء الله .
وكتب محمد بن عباد إلى أبي الفضل جعفر بن محمود الإسكافي وزير المعتز بالله ، وكان المعتز يخْتصّ به ؛ ويتقرب إليه قبل الوزارة : ما زلت - أيدك الله تعالى - أذمّ الدهر بذمّك إياه ؛ وأنتظر لنفسي ولك عُقْباه ، وأتمنى زوال حال من لا ذَنْبَ له إلا عاقبة محمودة تكون لك بزوال حاله ، وأترك الإعذار في الطلب على الاختلال الشديد ؛ ضناً بالمعروف عندي إلاَّ عن أهله ، وحَبْساً لشِعْري إلا عن مستحقّه .
فوقّع في كتابه : لم أُؤَخر ذكرك ناسياً لحقَكَ ، ولا مهْمِلاً لواجبك ، ولا مرجياً لمُهِمِّ أمْرِك ، ولكني ترقبت اتساع الحال ، وانفساحَ الآمال ، لأخصَّك بأسْناها خطَراً ، وبأجلِّها قَدْراً ، وأَعْوَدها بنَفْعٍ عليك ، وأوفرها رِزْقاً لك ، وأقربها مسافةً منك ؛ فإذا كنتَ ممن يَحْفِزه الإعجال ، ولا يتَّسِع له الإمهال ، فسأختار لك خيرَ ما يشير إليه الوقت ، وأنعم النظر فيه ، وأجعله أول ما أمضيه ، إن شاء الله .
ولما ولي سليمان بن وهب الوزارة كتب إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : الطويل :
أبى دهرُنا إسعافَنا في نفوسنا . . . وأَسْعَفَنَا فيمن نحبُّ ونكرمُ
فقلت له : نُعْماك فيهم أَتمَّها . . . ودَعْ أمرَنا ؛ إن المهمَّ المقدَّمُ
فعجب من لطيف شكواه في تهنئته ، وقَضى حَوائِجَه .
ووقّع عبيد الله في كتاب رجل اعتدَّ عنده بأثرٍ جميل : وقفت على ما ذكرته من شكايتك ، فوقع ذلك عندنا الموقع الذي أرَدْته ، وصدَر جوابنا إليك بما شكرته ، ولم تَعْدُ ظننا ، وما قدرنا فيك ، ثم اعتدت الاعتداد حتى كأنك لم تكاتبنا ؛ فلا تفسدنَ تالد إحسانك بطارف امتنانك ، واقتصر من وصف سالفك على ذكر مستأنفك .التقسيم
ووقّع عبيد الله في أَمر رجل خرج عن الطاعة : أنا قادرٌ على إخراج هذه النُّعَرَة من رَأسه ، والوَحَرة من نفسه .
ونحو هذا التقسيم قولُ قتيبة بن مسلم بخراسان : من كان في يده شيء من مال عبد الله فلينبذه ؛ أو في فمه فَلْيَلْفِظْه ، أو في صدره فلينفثه .
وقال عبد الله بن علي ، بعد قتْله مَنْ قتل من بني أمية ، لإسماعيل بن عمرو : أساءك ما فعلت بأصحابك ؟ قال : كانوا يداً فقطعْتَها ، وعضداً ففَتتَها ، وعقدةً فنقضتَها ، وركْناً فهَدَمْتَه ، وجبلاً فَهِضْتَهُ ، وجناحاً فقَصَصْتَه ، قال : إني لخليقٌ بأَن أُلحقك بهم ، قال : إني إذاً لسعيد .
وقال المنصورُ لجرير بن عبد الله : إني لأُعِدُّك لأمر كبير قال : يا أمير المؤمنين ، قد أعدَّ الله لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك ، ويداً مبسوطةً بطاعتك ، وسيفاً مسلولاً على أعدائك .
وكتب الحسن بن وهب إلى القاسم بن الحسن بن سهل يعزّيه : مَدَّ الله في عمرك موفوراً غير منتقَص ، وممنوحاً غير ممتحَن ، ومُعْطًى غير مُسْتَلب .
ومن جيد التقسيم مع المطابقة قولُ بعض الكتاب : إنَّ أهل النصح والرَّأْي لا يساويهم أَهْلُ الأَفَنِ والغِشّ ، وليس مَنْ جمع إلى الكفاية الأمانَةَ كمن أَضافَ إلى العَجْزِ الخيانة .
وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لرجل دَعَتْ له وقد أَولاها يداً : شكَرتْكَ يدٌ نالتها خَصَاصة بعد ثروة ، وأغناك الله عن يد نالتها ثروة بعد فاقة .
ومن بديع التقسيم في هذا النوع قولُ البحتري : البسيط :
كأنك السيفُ حَدّاهُ ورَوْنَقُهُ . . . والغَيْث وَابِلُهُ الدَّانِي وَرَيِّقُهُهل المكارم إلا ما تُجمّعه . . . أو المواهب إلا ما تفرِّقُهُ ؟ وقال الحسنُ بن سهل يوماً للمأمون : الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك ؛ وسَنِيِّ ما أَعطاك ؛ إذ قَسم لك الخلافة ، ووهب لك معها الحجة ، ومكَّنك بالسلطان ، وحلاَّه لك بالعَدل ، وأَيّدك بالظفَر ، وشفَعَه لك بالعفو ، وأَوجب لك السعادة ، وقرَنَها بالسياسة ، فمن فُسِحَ له في مثل عطيّةِ الله لك ؟ أم مَنْ ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما أَلبسك ؟ أم من ترادفَتْ نِعَمُ الله تعالى عليه ترادفَها عليك ؟ أم من حاولها وارتبطها بمثل محاولتك ؟ أم أي حاجة بقيَتْ لرعيّتك لم يجدوها عندك ؟ أم أي قيِّم للإسلام انتهى إلى غايتك ودَرَجتك ؟ تعالى الله ما أعظم ما خَصّ القرنَ الذي أنت ناصره وسبحان الله أية نعمة طبقت الأرض بك إن أُدِّيَ شكرها إلى بارئها ، والمنعم على العباد بها ؟ إن الله تعالى خلق الشمس في فَلكها ضياءً يستنيرُ بها جميعُ الخلائق ؛ فكلُّ جوهر زَها حسنهُ ونوره فهي ألبسته زينتَهُ لما اتصل به من نورِها . وكذلك كل وَلي من أوليائك سَعِد بأفعاله في دولتك ، وحَسُنَتْ صنائعه عند رعيتك ، فإنما نالها بما أيّدتَه من رأيك وتدبيرك ، وأَسْعَدتَه من حسنك وتقويمك .
قينة تعشق أربعة رجال
قال بعضُ الظرفاء : اجتمع لقَيْنَةٍ أربعةٌ من عشَاقها ، وكلهم يُوَرِّي عن صاحبه أمرَه ، ويُخْفِي عنه خبرَه ، ويُومئ إليها بحاجبه ، ويناجيها بلَحْظِه ، وكان أحدُهم غائباً فقدمِ ، والآخر مقيماً قد عَزَم على الشخوص ، والثالث قد سلَفَتْ أيامُه ، والرابع مستأنفةٌ مودَّته ، فضحكَتْ إلى واحد ، وبَكَتْ إلى آخر ، وأقصت آخر ، وأطمعَتْ آخر ؛ واقترح كل واحد منهم ما يشاكِلُ بثه وشأنه ؛ فأجابته ، فقال القادم : جُعِلت فِدَاكِ ، أتحسنين : الطويل :
ومن يَنْأَ عن دار الهوى يُكْثِر البُكَا . . . وقَوْلَ لَعلِّي أو عَسى سَيكون
وما اخترت نَأْيَ الدار عنك لِسَلْوةٍ . . . ولكنْ مَقاديرٌ لهنَّ شؤونُ
فقالت : أحْسِنه ، ولا أقيمُ لَحْنه ، ولكن مُطَارحه لتستغني به عنه ، لقُرْبه منه ، وأنا به أحْذَقُ ، ثم غنّت : الطويل :
وما زلت مُذ شَطَتْ بك الدارُ باكياً . . . أؤَمِّلُ منك العَطْفَ حين تؤُوبُ
فأضعفْتَ ما بي حين أبتَ وزِدْتَنِي . . . عذاباً وإعراضاً وأنتَ قَرِيبُوقال الظاعن : جْعلت فِدَاك ، أتحسنين : الكامل :
أزفَ الفِراق فأعني جَزَعَاً . . . ودَعِي العتابَ فإننا سَفْرُ
إنّ المحبّ يصد مقترباً . . . فإذا تباعد شَفّه الذِّكْر
قالت : نعم ، وأحسن منه ومن إيقاعه ، ثم غنت : الخفيف :
لأقيمنَّ مأتماً عن قريب . . . ليس بعد الفراق غَيْرُ النَّحيبِ
ربما أَوْجَع النّوى للقلوب . . . ثم لا سيما فراقُ الحبيبِ
ثم قال السالف : جعلت فداك ، أتحسنين : الكامل :
كنّا نُعاتبكُمْ لياليَ ، عُودُكمْ . . . حُلْوُ المَذَاقِ وفيكُمُ مستَعْتَبُ
فالآن حين بَدَا التنكُّر منكم . . . ذهب العِتَابُ فليس عنكم مَذْهَبُ
قالت : لا ، ولكن أحسن منه في معناه ، ثم غنّت : الطويل :
وصلْتُكَ لمّا كان ودُّك خالصاً . . . وأَعرضتُ لما صار نَهْباً مقَسّما
ولن يلبث الحوض الجديدُ بناؤه . . . إذا كثر الورَّادُ أن يتهدما
فقال المستأنف : أتحسنين ، جعلت فداك : الكامل :
إني لأعْظِمُ أن أبوح بحاجتي . . . وإذا قرَأْت صحيفتي فتفهَّمي
وعليك عَهْدُ الله إن أبثثتِه . . . أحداً ولا آذنته بتكلم
فقالت : نعم ، ومن غناء صاحبه ؛ ثم غنّت : الطويل :
لعمرك ما استودَعْتُ سِرِّي وسرَّهَا . . . سوانا ، حِذاراً أن تَذِيعَ السرائرُ
ولا خالَطَتْها مُقْلَتايَ بنَظْرَةٍ . . . فتعلم نَجْوَانا العيونُ النواظرُ
ولكن جعلت الوَهْمَ بيني وبينها . . . رسولاً فأَدَّى ما تُجِنُ الضمائرُ
أكُاتم ما في النفس خوفاً من الهوى . . . مخافةَ أن يُغرى بذِكرك ذَاكِرُ
فتفرّقوا وكلهم قد أومأ بحاجته ، وأَجابته بجوابه .
من أخبار ابن المعتز وشعره
قال أبو العباس بن المعتز : كان لنا مجلس حظ أرسلت بسببه خادمة إلى قينة فأجابت ، فلمّا مرَت في الطريق وجدَت فيه حارساً فرجعت ، فأرسلتُ أُعاتبها فكتبت إلي : لم أتخلف عن المسير إلى سيدي في عشيتي أَمس لأرى وَجْهَهُ المبارك وأُجيبدعاءه ، إلا لعلة قد عرَفَتْها فلانة ، ثم خِفْتُ أن يسبقَ إلى قلبه الطاهر أني قد تخلّفْتُ بغير عذر ؛ فأحبَبْتُ أن تقرأَ عذري بخطي ، ووالله ما أقدر على الحركة ، ولا شيء أسر إليّ من رؤيتك ، والجلوس بين يَدَيْك ، وأنت ، يا مولاي ، جاهي وسَنَدي ، لا فَقَدْت قربك ، ولك رأيك في بسط العُذر موفقاً .
وكتبت في أسفل الكتاب : الطويل :
أليس من الحرمان حظٌ سُلبتهُ . . . وأحْوَجَني فيه البلاءُ إلى العُذْرِ ؟
فصبراً فما هذا بأؤَّل حادثٍ . . . رَمَتْني به الأقدار مِنْ حيثُ لا أَدْرِي
فأجبتها : كيف أَردّ عُذر من لا تتسلط التهمة عليه ، ولا تهتدي المَوْجِدة إليه وكيف أعلمه قبولَ المعاذير ، ولستُ آمَنُ بعضَ خواطره أن تشير إلى انتهاز فرصة فيما دعا إلى الفرقة ، وإن سَلِمتُ من ذلك فمن يُجيرني من توكله على تقديم العُذْر ، ووقوعه مواقع التصديق في كل وقت ، فتتّصل أيامُ الشغل والعِلة ، وتنقضي أيامُ الفراغ والصحة ، فتطولُ مدةُ الغيبة ، وتَدْرُس آثار المودّة ، وكتبْتُ في آخر الرقعة : الطويل :
إذا غِبْت لم تعرف مكانيَ لذةٌ . . . ولم يلق نفسي لَهْوها وسُرُورها
وحدثتُ سمعاً واهناً غير مُمْسِك . . . لقولي ، وعيناً لا يراني ضَمِيرُها
وكتب إلى بعض الوزراء : ما زال الحاسدُ لنا عليك أيها الوزير يَنْصِبُ الحبائلَ ، ويطلب الغوائل ، حتى انتهز فرصته ، وأَبلغك تشنيعاً زَخْرَفه ، وكذباً زَوَّره ، وكيف الاحتراس ممن يحضر وأغِيبُ ، ويقول وأمْسِكُ ؟ مرتصداً لا يَغْفل ومَاكِراً لا يَفتر ، وربما استنصح الغاش ، وصدق الكاذب ؛ والحظوة لا تُدْرَكُ بالحيلة ، ولا يجري أكثرها على حسب السَّبَب والوسيلة .
فأجابه : حصول الثقة بك - أعزك الله - تُغْني عن حضورك ، وصدق حالتك يحتجُ عنك ، وما تقرَّر عندنا من نيّتك وطوّيتك يُغْنِي عن اعتذارِك .
وقد قال ابن المعتز : الكامل :
أَخْنَى عليك الدهر مقتدراً . . . والدهرُ ألأم غالب ظَفرا
ما زلت تَلْقَى كلَّ حادثةٍ . . . حتى حَنَاك وبيَّض الشَّعَرَا
فالآن هل لك في مُقَاربةٍ ؟ . . . فلقد بلغت الشَيْب والكِبَرا
لله إخوان فقدتهمُ . . . سكنوا بطونَ الأرض والحُفَرا
أين السبيلُ إلى لقائهمُ ؟ . . . أم من يحدِّث عنهمُ خَبرا ؟
كم مورِق بالبِشْر مُبتسم . . . لا أَجتني من غُصْنِه ثَمرَاما زال يوليني خلائقهُ . . . وصبرت أَرقُبه وما صَبرا
وعدو غيْبٍ طَالب لدمي . . . لو يستطيعُ لجاوز القَدَرا
يُورِي زنادي كي يُخادِعني . . . ويُطير في أثوابيَ الشَّرَرا
وقال أيضاً : الطويل :
وإني على إشفاق عيني من القذى . . . لتجمح مني نَظْرَةٌ ثم أطرِقُ
كما حُلِّئتْ من بَرْدِ ماءٍ طَرِيدةٌ . . . تمدّ إليه جِيدها وَهْيَ تَفرَقُ
وقال : الطويل :
وما زلتُ مذ شدَت يدي عقد مِئْزَري . . . غنايَ لغيري وافتقاري على نفسي
ودلَّ عليّ الحمدَ مَجْدي وعِفّتي . . . كما دلّ إشراقُ الصَّباح على الشمسِ
وقال : البسيط :
سَعَى إلى الدَّنَ بالمِبْزَالِ يَنْقُرهُ . . . ساقٍ توشَحَ بالمنديل حين وَثَبْ
لمَّا وَجاها بَدَتْ صفراءَ صافيةً . . . كأنما قَدَّ سَيْراً من أديمِ ذَهَبْ
وقال : الخفيف :
لبسَتْ صفرةً فكم فتَنتْ من . . . أعْيُنٍ قد رأيتها وعُقُولِ
مثل شَمْس الغروب تَسْحَبُ ذيلاً . . . صَبَغَتْهُ بزَعْفَرَانِ الأصيلِ
والشمس عند طلوعها ، وعند غروبها ، تمكّنُ الناظر إليها فيمكن التشبيه بها ؛ قال قيس بن الخطيم : الكامل :
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها . . . في الحسن أو كدنوِّها لغروبِ
جرير وأهل المدينة
ولما قدم جرير بن الخَطَفَي المدينَةَ اجتمع إليه أهلُها ، وقالوا : يا أبا حَزْرَة ، أنشدنا من شعرِك ، قال : ما تصنعون به ؟ وفيكم من يقول : الكامل :
أنى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سرُوبِ . . . وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِما تُمْنَعي يَقْظَى فقد نولتهِ . . . في النوم غيرَ مصردٍ محسوب
كان المُنَى يُلقي بها فلقيْتُها . . . فلَهَوتُ عن لهوِ امرئ مكذوب
فرأيتُ مثل الشمسِ عند طلوعها . . . في الحسنِ أو كدُنوِّها لغروب
تخطو على بردِيَّتَيْنِ غَذَاهُما . . . غَدِقٌ بِسَاحَةِ حائر يَعبُوب
يزيد بن خالد الكوفي
وقَّع يزيد بن خالد الكوفي رقعة إلى يعقوب بن داود ضمّنها : البسيط :
قل لابن داودَ والأنباءُ سائرةٌ : . . . لا يحرِزُ الأجْرَ إلا مَن له عَمَل
يا ذا الذي لَمْ تزل يُمْنَاه مُذْ خُلِقَتْ . . . فيها لباغي نَدَاه العَلُّ والنَّهَلُ
إن كنت مسديَ معروفٍ إلى رجلٍ . . . فضل شكرٍ فإني ذلك الرجلُ
فامْنُنْ عليّ ببرٍّ منك يَنْعَشُني . . . فإنني شاكرُ المعروف محتملُ
قال يعقوب : قد جرَبنا شكرك فوجدناه قد سبق برَّنا ، وقد أمرتُ لك بعشرة آلاف درهم تصلح حالك ، وليست آخر ما عندنا لك ، فاستوفاها حتى مات .
ولما سخط المهديّ على يعقوب أحضره ، فقال : يا يعقوب ، قال : لبَّيْك يا أمير المؤمنين تلبية مكروبٍ لِمَوْجِدَتك ، شَرِقَ بغُصَّتك ، قال : ألم أرفع قَدْرَك وأنتَ خامل ، وأسيّر ذكرك وأنت هامل ، وألبِسكَ من نِعَمِ الله تعالى ونِعَمي ما لم أجدْ عندك طاقةً لحمله ، ولا قياماً بشكْرِه ؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهر عليك ، وردَّ كَيْدَك إليك ؟ .
قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف ، وإن كان بسعاية الباغين ، ونمائم المعاندين ، فأنت أعلم بأكثرها ؛ وأنا عائذ بكرمك ، وعميم شرفك .
فقال : لولا الحِنْثُ في دَمك لألبستك قميصاً لا تشدّ عليه زرّاً ؛ ثم أمر به إلى الحبس ، فتولّى وهو يقول : الوفاءُ يا أمير المؤمنين كَرَم ، والمودة رَحِم ، وما على العفو نَدَم . وأنت بالعفو جَدير ، وبالمحاسن خَليق . فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد .أخذ معنى قول المهدي : ' لألبسنّك قميصاً لا تشدّ عليه زرّاً ' أبو تمام فقال : المنسرح :
طوّقته بالحسام طَوْق ردًى . . . أغناه عن مَسّ طَوْقِه بيدِه
وقال ابن عمر في معنى قول الطائي : البسيط :
طوّقته بحسام طَوْقَ داهيةٍ . . . لا يستطيعُ عليه شَدَّ أزرارِ
ولما قبض المهدي على يعقوب ورأى أبو الحسن النميري مَيْلَ الناس عليه ، وكان مختلطاً به قال : الكامل :
يعقوبُ لا تَبعَد وجُنبتَ الردى . . . فلأبكينَّ كما بكى الغُصْن النَّدَى
لو أنَّ خيرك كان شرّاً كلّهُ . . . عند الذين عدَوْا عليك لما عَدَا
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين في الغزل فقال : الكامل :
لو أن هجرك كان وَصْلاً كلّهُ . . . ممّا أقاسي منك كان قليلا
بين أحمد بن أبي دواد والواثق
قال أبو العيناء : قال لي أحمد بن أبي دُوَاد : دخلت على الواثق فقال لي : ما زال اليوم قوم في ثَلْبك ونَقْصك فقال : يا أمير المؤمنين ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولَى كِبْرَه منهم له عذاب عظيم ، واللَّهُ وليُّ جزائه ، وعقابُ أَمير المؤمنين من ورائه ، وما ذَلَّ - يا أمير المؤمنين - منْ كنت نَاصِره ، وما ضاق مَنْ كنتَ جاراً له ، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت : يا أبا عبد الله : الكامل :
وسعى إليّ بصرمِ عَزَّةَ مَعْشَرٌ . . . جعل الإلهُ خُدودَهنَّ نِعَالَها
قال الفتح بن خاقان : ما رأيت أظرف من ابن أبي دواد ؛ كنت يوماً أُلاعب المتوكل بالنرْد ، فاستُؤْذن له عليه ، فلمّا قَرُب منا هممت برفعها ، فمنعني المتوكل وقال : أجاهرُ الله وأَسْتُره من عباده ؟ فقال له المتوكل : لما دخَلْتَ أراد الفتح أن يرفع النَّرْد قال : خاف يا أمير المؤمنين أن أعلم عليه فاستحليناه ، وقد كنا تجهَّمناه .
شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان
قيل لبعض الأمراء : إن شبيب بن شيبة يتعمَّل الكلام ويستدعيه ، فلو أمرته أن يصعدَ