كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني
صَفَن ، وإن استوقف فطن ، وإنْ رعَى أبنَ ، فهو كما قال تأبّط شرًّا ، وذكر البيت .وأول هذه الأبيات : الطويل :
وإني لَمُهْدٍ من ثَنائي فَقَاصِد . . . به لابْنِ عمّ الصَدْقِ شَمس بن مالكِ
أهزُ به في نَدْوَةِ الحيّ عِطْفَهُ . . . كما هز عِطْفي بالهِجانِ الأوَارِكِ
قليل التشَكَي لِلْمُلَم يُصيبُهُ . . . كثيرُ الهوَى شَت النَوَى والمسَالِك
يظَل بِمَوْماةٍ ويُمْسِي بِغَيرِها . . . جَحِيشاً ويَعْرَوْرِي ظُهورَ المهالِك
ويَسْبِقُ وَفْدَ الرّيح من حيث ينتحي . . . بمُنْخَرِقٍ مِنْ شَدّه المتدارك
إذا خاط عينيه كرَى النوم لم يَزًل . . . له كالئٌ من قلب شَيْحَانِ فاتِكِ
إذا طَلَعَتْ أُولى العدوً فَنَفْرُهُ . . . إلى سَلَّةٍ من صارم الغَرْب باتِك
ويجعل عينيه ربَيئة قلبه . . . إلى ضربة من حَدَ أخلقَ صائِكِ
إذا هَزَهُ في عظم قِرْنٍ تَهَلَلت . . . نواجذُ أَفواهِ المنايا الضَّوَاحِكِ
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي . . . بحيث اهْتَدَتْ أمُ النجوم الشَوابِك
وأهدى عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرساً من سَوابِق خَيْل مِصْر ، فعُرِضت عليه ، وعنده عقبة بن سنان بن يزيد الحارثي ، فقال له معاوية : كيف تَرَى هدايانا يا أَبا سعيد ؟ فإن أخَاك عَمْراً قد أَطْنَبَ في وَصْفها ، فقال : أراها يا أميرَ المؤمنين على ما وصف ، وإنها لمُخَيِّلة بكل خير ؛ إنها لسَامِيَةُ العُيون ، لاحقة البطون ، مصغية الآذان ، قَبَّاءالأسنان ، ضِخَام الرُّكبات ، مشرفات الحجبات ، رِحَاب المَناخِرِ ، صِلاب الحوافر ، وقعُها تحليل ، ورفعها تعليل ، فهذه إن طلِبت سبقت ، وان طَلَبت لَحِقتَ . قال له معاوية : اصرفها إلى رَحْلك ؛ فإنّ بِنَا عنها غِنًى ، وبفتيانك إليها حاجة .
وقال النابغة الجعديّ : الطويل :
وإنا أنَاسٌ لا نُعَوِّدُ خَيْلَنَا . . . إذا ما التقَينَا أن تَحِيدَ وتَنفرَا ونُنكر يوم الرَوْعِ ألوانَ خَيْلِنا . . . من الطعن حتى نحسب الجَونَ أَشْقَرا
فليس بمعروفٍ لنَا أنْ نَرُدَّهَا . . . صِحَاحاً ، ولا مُسْتَنكَر أن تعَقرا
وقال بعض العرب : الكامل :
ولقد شَهِدْتُ الخيلَ يوم طرادها . . . بسليم أَوْظِفَهِ القَوَائِم هَيْكلِ
فدعَوا : نزالِ فكنت أوَّل نازلٍ . . . وعَلاَمَ أركبه إذا لم أنزلِ ؟
ووصف أعرابي فرساً فقال : لما أرسلت الخيل جَاءوا بشيطان في أَشْطَان ، فأرسلوه ، فلمع لَمْعَ البَرْقِ ، واستهل استهلالَ الوَدْقِ ، فكان أَقْرَبهم إليه الذي يقعُ عينه من بُعْدٍ عليه .
وذكر أعرابي رجلاً فقال : عنده فرسٌ طويل العِذَار ، أمِينُ العِثَار ؛ فكنت إذا رأيته عليه ظننته بَازِياً على مَرْبأ ، عليه رُمْحٌ طويل يقصرُ به الآجال .
وقال بعض المحدثِينَ في هذا التطابق : الوافر :
لَقيناهُمْ بأَرْماح طوالٍ . . . تبُشرُهُمْ بأعمارٍ قِصَارِ
ووصف أعرابي خيلاً لبني يربوع فقال : خرجَتْ علينا خيل من مستطير نَقْعٍ ، كأنهَوَادِيهَا أعْلام ؟ وآذانَها أقلام ، وفرسانها أُسود آجام .
ولما أنشد العمَّاني الرشيد يصف فرساً : الرجز :
كأنً أذْنَيْهِ إذا تَشَوَّفَا . . . قادِمَةً أو قَلَماً مُحَرفا
ولحن ، ففهم ذَلك أكْثَرَ من حضر ؛ فقال الرشيد : اجعل مكان كأَن يَخَال ، فعِجبوا لسُرْعَة تَهَدَيه .
وللطائيين في هذا النوع أشعار كثيرة منعني من اختبارها كثرةُ اشتهارها ، وسأنشد بعض ذلك ، قال أبو تمام : الكامل :
ما مُقْرَبٌ يَخْتَالُ في أَشْطَانِه . . . ملآنُ مِنْ صَلَفٍ به وتَلَهْوُق
بحَوافرِ حُفرٍ وصَلْتٍ أَصلتٍ . . . وأَشَاعِرٍ شُعْرٍ وخلق أَخْلَقِ
ذو أولقٍ تحْتَ العجاج ، وإنما . . . من صحةٍ إفراطُ ذاك الأَوْلق
صافي الأديم كأنما ألبستهُ . . . من سنْدُس بُرْداً ومن إسْتَبْرَق
إمْلِيسةٌ إمليدةٌ لو عُلِّقت . . . في صَهْوتيهِ العينُ لم تتعلَّقِ
مُسْوَدُ شَطْرٍ مثل ما اسْوَدَ الدجى . . . مبيضُّ شَطْرٍ كابيضاض المُهْرَقِ
وقال أبو عبادة : الكامل :
وأغَرَّ في الزمَنِ البهيم مُحَجَّل . . . قد رُحْتُ عنه على أغرَ مُحَجلوَافي الضْلوع يَشُد عَقْدَ حِزامه . . . يوم اللقاء على مُعِمّ مُخْولِ
يهوي كما هَوَتِ العُقابُ إذا رَأَتْ . . . صيداً ويَنتصِبُ انتِصَابَ الأجدَلِ
متوحّشٌ بدقيقتين كأنما . . . تُرَيَانِ من وَرقٍ عليه مُوَصَلِ
كالرائح النَشْوان أكْثَرُ مَشيهِ . . . عَرْض على السنَن البعيد الأطْوَل
ويظن رَيْعَان الشباب يَرُوعُه . . . من نَشْوَةٍ أو جِنة أو أَفْكَل
هَزج الصهيل كأنَّ في نَبَراتِهِ . . . نغماتِ مَعْبَدَ في الثقيلِ الأوَل
تتوَهمُ الْجَوْزاء في أرْسَاغِه . . . والبَدْرُ غُرةُ وَجْهِهِ المتهللِ
صافي الأديم كأنَما عُنِيَتْ له . . . بصفاءَ نُقْبَته مَدَاوِكُ صَيْقَلِ
وكأنما كُسِيَ الخدودَ نَوَاعِماً . . . مهما تلاحِظْها بلَحْظٍ يخْجَل
وكأنما نَفَضْتُ عليه صِبْغَها . . . صَهْبَاءُ للبَرَدانِ أو قُطْرَبُّلِ
مَلَكَ العيون ؛ فإن بَدَا أعْطَينهُ . . . نَظَرَ المُحب إلى الحبيبِ المُقْبلِ
وقال إسحاق بنُ خلف النهرواني لأبي دُلَف ، وكان له فرسٌ أدهم يسميه غراباً : الكامل :
كم كم تجرَعه المنونُ ويسلمُ . . . لو يستطيعُ شَكَا إليك لَهُ الفمُ
من كل منبت شعرة من جِلْدِهِ . . . خَط ينمّقُه الْحُسامُ المِخْذَمُ
ما تُدْرِكُ الأرواح أدْنَى جَرْيهِ . . . حتى يَفُوتَ الريحَ وهو مقدَمُ
رَجَعَتْه أَطْرَافُ الأسِنة أشْقراً . . . واللون أدْهَمُ حين ضَرَّجه الدَمُوكأنما عقد النجُومَ بِطَرْفِهِ . . . وكأنَه بِعُرَى المجرَة مُلْجَمُ وقال أبو الطيب : الطويل :
جَفَتْني كأني لَسْت أنْطَقَ قَوْمِها . . . وأطْعَنَهمْ والشُهْبُ في صُوَر الدُهْمِ
وقال أبو الفتح كشاجم : الرجز :
قد راح تحت الصُّبْحِ ليْل مظلم . . . إذ لاح في السَّرْج المحلَّى الأدْهَمُ
ديباجُ أَلْوانِ الجيادِ ، ولم يكن . . . ليُخَص بالديباج إلا الأكْرَمُ
ضَحِكَ اللجَيْنُ على سَوادِ أدِيمه . . . وكذا الظلامُ تنِيرُ فيه الأنجمُ
فكأنه ببنات نعْشٍ ملبب . . . وكأنما هُوَ بالثريا مُلجَمُ
قلت : هذا من قول ابن المعتز : الطويل :
أَلاَ فاسقياني والظلامُ مُقَوّضٌ . . . ونَجْم الدُجَى تحت المغارب يَرْكُض
كأنَّ الثريا في أواخرِ لَيلِها . . . تَفتّحُ نَوْرٍ أو لِجامٌ مفضض
وقال أبو الفتح : الكامل :
مَنْ شَك في فضلِ الكُمَيْت فبينه . . . فيهُ وبين يقينهِ المِضْمارُ
في منظَرٍ مستحسَنٍ محمودة . . . أخبَارُه إذ تُبْتَلى الأخبارُ
ماء تَدَفَّق طَاعَةً وسَلاَسَة . . . فإذا أسْتُدرَ الْحُضْرُ فيه فنَار
وإذا عَطَفْتَ به على نَاوَرْدِه . . . لتُدِيرَه فكأنَّه بِركَارُ
وصف الخَلوقَ أَديِمه فكَأنما . . . أَهْدَى الْخَلوق لجلدِه عَطّارُ
قصرَتْ قِلاَدَةُ نحْرِهِ وعِذَارِه . . . والرُسْغ ، وهيَ من العِتَاق قِصَارُ
وكأنما هاديه جِذعٌ مُشْرِفٌ . . . وكأنما للضبع فيه وِجارُ
يَرِدُ الضحَاضِحَ غير ثاني سُنْبكٍ . . . ويَرُودُ طَرْفك خَلْفَه فتحارُ
لو لم تكن للخيل نسبة خَلْقهِ . . . حَاكَتْه من أَشْكالِها الأطْيَارُوقال ابن المعتز : الطويل :
وخَيْل طَواها القَوْدُ حتى كأنّها . . . أنابيبُ سُمرٌ من قَنَا الخَطِّ ذُبَّل
صببْنا عليها ظالمين سِيَاطنافطارَتْ بها أيدٍ سِرَاعِّ وأرْجُلُ
قولُهُ : ظالمين من أَبْدَع حَشْوٍ جرى في بيت ، وكأنّ ابن المعتز أشار إلى قول أعرابي مولد : الطويل :
وعَوْدٍ قليل الذنب عاوَدْتُ ضربَه . . . إذا هاج شَوْقِي من معاهدها ذِكر
فقلت له : ذَلفاءُ ويْحَك سَبّبتْلك الضَّرْبَ ، فاصبر إنَّ عادتَك الصّبرُ
قال ابن المعتز : الوافر :
أراجعتي فِدَاك بأعوَجِيّ . . . كقدْح النّبعِ في الرّيشِ اللُؤامِ
بأدهمَ كالظَّلاَمِ أغرَّ يَجْلُو . . . بغُرَّتِهِ دَياجِيرَ الظّلامِ
تَرَى أحْجَاله يَصْعَدْنَ فيه . . . صُعودَ البَرْقِ في جَوِّ الغَمَام
وقال أيضاً : الرجز :
قد أَغْتَدي والصُّبْحُ كالمَشيبِ . . . في أُفُقٍ مِثْلِ مَدَاكِ الطِّيبِ
بقارح مسَوَّم يَعْبُوبِ . . . ذي أُذن كخُوصَةِ العَسيبِ
أو أسةٍ أوْفَتْ على قَضِيب . . . يَسْبِقُ شأَوَ النظرِ الرّحيبِ
أَسْرَع من ماءً إلى تَصْوِيب . . . ومن رُجوع لحظة المُرِيبِ
وقال : المديد :
رُب رَكْب عرّسوا ثم هَبُّوا . . . نحو إسْرَاجٍ وشَدَ رِحَالِوعَدَوْنا بأعِنة خيل . . . تَأْكُلُ الأرْضَ بأَيْدٍ عِجَالِ
زينتها غررّ ضَاحِكاتّ . . . كبدورٍ في وُجُوهٍ ليال
وقال علي بن محمد الإياديَ : الكامل :
مسحَ الظلام بعرفه يدَهُ . . . ومَشَى فقبَّل وَجْهَهُ البَدْرُ
وقال الناشئ أبو العباس عبد الله بن محمد : الكامل :
أحْوَى عليه مَسائحٌ من لِيطَةٍ . . . شهب تسيل على نَوَاشِرِ ساقه
فكأَنه مُتَلفع قبطِية . . . أَثنَاؤُها مشدودةٌ بِنطَاقهِ
فَسَوادُه كاللَيْل في إظلاَمِهِ . . . وبَيَاضه كالصُبْح في إشراقه
صافي الأدِيم كريمةٌ أنسَابهُ . . . أخْلاَقه عَيْنٌ على أعْرَاقِهِ
كتب أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي إلى الأمير أبي الفضل عبد اللّه بن أحمد بن ميكال ، وقد زاره الأميرُ في داره : الكامل : لا زال مَجْدُك للسِّمَاك رَسِيلا . . . وعلوُّ جَدِّكَ بالخلود كَفِيلا
يا غُرَةَ الزمنِ البهيم إذا غَدَا . . . أهلُ العُلاَ لزمانهم تَحْجِيلاَ
يا زائراً مَدّت سَحَائبُ طَوْله . . . ظِلاًّ عليَ مِنَ الجَمال ظليلا
وأتت بصَوْبِ جواهرٍ من لَفْظِه . . . حتى انتظَمْنَ لمفْرقي إكْلِيلاَ
بأبي وغَيْر أبي هِلالٌ نُورُهُ . . . يستَعْجِلُ التسبيحَ والتهليلا
نقشت حوافِرُ طِرفِه في عَرصَتي . . . نَقْشاً مَحَوْتُ رسومَه تَقْبِيلا
ولو استطعت فرَشتُ مَسقَطَ خَطوه . . . بعيون عِينٍ لا تَرَى التكْحِيلاَ
ونثرتُ رُوحي بعدما مَلَكَت يَدِي . . . وخَرَرْتُ بين يَدَيْ هَواهُ قَتيلا
وقال أبو القاسم بن هانئ يصف خيل المعزّ : الطويل :
له المُقْرَبات الْجُرْدُ يُنْعِلُها دماً . . . إذا فَرَعَتْ هَامَ الكُماةِ السنَابِكُ
يُرِيق عليها اللؤلؤُ الرَطْبُ مَاءه . . . ويَسْبِكُ فيها ذائبَ التّبْرِ سابِكُصقيلات أجْسامِ البرُوق كأنما . . . أُمِّرَتْ عليها بالشموس المَدَاوِكُ
وقال يصف فرساً لجعفر بن علي بن حمدون : الطويل :
تهلَلَ مَصْقُولَ النواحي كأنه . . . إذا جالَ ماءُ الْحُسن فيه غريقُ
مِنَ البُهْم وَرْدُ اللون شِيبَ بِكُمْتَةٍ . . . كما شِيبَ بالمسكِ الفتيق خَلوقُ
فلو مِيزَ منه كبنُ لون بذاته . . . جَرَى سَبَجٌ منه وذَابَ عَقِيق
وقال في قصيدة يمدح بها أبا الفرج الشيباني : الكامل :
فَتَقَتْ لكم رِيحُ الجِلاَدِ بعَنْبَرِ . . . وأمدَكُمْ فَلَقُ الصَباح المسفِرِ
وجنيتمُ ثمرَ الوقائع يانعاً . . . بالنصرِ من وَرَق الحديد الأخْضَرِ
أبني العوالي السَمْهَرِية والسيو . . . ف المَشْرَفية والعديد الأكْثَرِ
مَنْ منكم الملكُ المطاعُ كأنَهُ . . . تحت السَوابغِ تبعٌ في حميَرِ
القائدَ الخيل العِتاق شوازباً . . . خُزْراً إلى لحظ السنان الأخْزَر
شُعْثَ النَوَاصِي حَسْرَةً آذانُها . . . قُب الأياطل دامِيات الأنْسُرِ
تنبَو سنابكُهُن عن عَفَرِ الثرى . . . فيَطَأنَ في خد العزيز الأصْعَرِ
في فتية صدَأُ الحديدِ عَبِيرُهُمْ . . . وخَلوقهم عَلَقُ النَجيع الأحمرلا يأكلُ السرحانُ شِلْوَ عقيرهم . . . مما عليه من القَنا المتكَسر
وقال في قصيدة يمدح بها إبراهيم بن جعفر بن علي : الكامل :
فخرٌ لِطْرفٍ أعوجي أنْتَ في . . . صهواته والحسن والتطهيمُ
يُبْدِي لعزَك نَخْوَةً ، فكأنَّهُ . . . مَلك تَدينُ له الملوكُ عَظيمُ
هادٍ على الخيلِ العِتاق ، كأنَهُ . . . بين الدُجُنَّة والصباحِ صَرِيمُ
سامي القَذال بمِسْمَعَيْه عيافَةٌ . . . تحت الدُجَى ولطَرْفه تَنْجِيمُ
أذُن مُؤَللةٌ ، وقلب أصْمَع . . . وحَشاً أقب ، وكَلْكَل ملمومُ
فالطَّوْدُ من صَهَواته مُتَزَلْزِلٌ . . . والجيشُ من أنْفَاسِه مَهْزُومُ
خَرَقَ العيونَ فَضَل عنها لونُه . . . وصفَا فقُلْنَا ما عليه أديمُ
فكأنما جَمَدَتْ عليه مُزْنَة . . . وانْجابَ عَنْه عارِضٌ مَرْكومُ
وكأنما نُحِرَتْ عليه بَوارِقٌ . . . وكأنما كُسِفَتْ عليه نُجومُ
وكأنكَ ابنُ المنذِرِ النعمانُ فو . . . ق سَراته ، وكأنه اليَحْمُومُ
وقال علي بن محمد الإيادي يصف فرس أبي عبد اللّه جعفر بن أبي القاسم القائم : الكامل :
وأقب من لَحْق الجيادِ ، كأنه . . . قَصْرٌ تباعَدَ ركْنُه من ركْنِهِلَبِسَتْ قوائمهُ عصائبَ فِضَّةٍ . . . وغَدَتْ بسُمْرِ صفَا المسيل ودُكْنِهِ وكأنما انفجرَ الصَباحُ بوجههِ . . . حُسناً ، أو احْتَبس الظلامُ بمتْنِهِ
قَيْدُ العيون إذا بصرْنَ بشَخْصه . . . ورضا القلوب إذا اصطليْنَ بضِغْنِه
مُتَسَيْطِر بالراكبينَ ، كأنَّهُ . . . بَازٍ تروح به الْجَنوب لوَكْنِهِ
يستوقف اللحَظَاتِ في خَطَراتِه . . . بكمال خِلْقَتِه ودِقَّة حُسنِهِ
حُلْوُ الصَهيل تخال في لَهَواتِه . . . حادٍ يَصُوغُ بدائعاً من لحنِه
متجبِّر يُنْبِي بعِتْق نِجارهِ . . . إشرافُ كاهِلِهِ ودِقَّةُ أذْنِه
ذو نَخْوَةٍ شمختْ به عن نِدهِ . . . وشهامةٍ طمحت به عن قِرْنِه
وكأنهُ فلكٌ إذا حركتَهُ . . . جارٍ على سَهْل البلادِ وحَزْنه
قد راح يحمِلُ جعفرَ بن محمدٍ . . . حَمْلَ النسيم لوابل من مُزْنه
وما أحسن ما قال أبو الطيب المتنبي : الطويل :
ويوم كَلَوْنِ العاشقينَ كَمَنته . . . أُراقِبُ فيه الشَّمسَ أيانَ تَغْرُبُ
وعَيْني إلى أُذْنَي أغرَ كأنهُ . . . مِنَ الليلِ باقٍ بين عينيه كَوْكَب
له فَضْلةٌ عن جسمِه في إهَابه . . . تجيءُ على صدْرٍ رحيب وتذْهَبُ
شقَقْتُ به الظلْمَاءَ ، أُدْني عِنَانَهُ . . . فيَطْغَى ، وأرْخيه مِرارًاً فيلْعَبُ
وأصْرَعُ أي الوَحْش قَفَّيْتُه بهِ . . . وأنْزِلُ عنه مِثْلَه حينَ أرْكَبُ
وما الخيلُ إلاَّ كالصَدَيقِ قليلة . . . وإنْ كَثُرَتْ في عَيْنِ مَنْ لا يُجَرِّبُإذا لم تُشَاهِدْ غيْرَ حُسْنِ شِياتِها . . . وأعْضائها فالْحُسنُ عنك مُغيبُ
وينخرط في سِلْك هذا المعنى مقامة من مقامات الإسكندري في الكُدْية ، ممّا أنشأه بديعُ الزمان وأملاه في شهور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة . قال البديع : حدَّثنا عيسى بن هشام قال : حضرْنا مجلسَ سيف الدولة يوماً وقد عُرِضَ عليه فَرسٌ : الطويل :
متى ما تَرَق العين فيه تَسهَّل
فلحَظَتْهُ الجماعة ؛ فقال سيف الدولة : أيكم أحْسَنَ صفته ، جعلته صِلَته ؛ فكلٌّ جَهد جَهْدَه ، وبذل ما عِنْدَه ؛ فقال أحد خَدَمِه : أصْلَح اللّه الأمير رأيْتُ بالأمْس رجلاً يَطأُ الفَصاحَة بنَعْلَيْه ، وتَقفُ الأبصارُ عليه ، يُسَلَي الناس ، ويشفي الياس ، ولو أمر الأميرُ بإحضاره ، لفضَلَهم بحِضَاره .
فقال سيفُ الدولة : علي به في هيئته ، فصار الخدمُ في طلبه ، فجاءوا للوقت به ، ولم يُعْلِموه لأيّ حالٍ دُعِيَ به ، ثمَّ قُرِّب واستُدْني ، وهو في طِمْرَيْنِ قد أكل الدهرُ عليهما وشرب ، وحين حضر السِّماط ، لثمَ البساطَ ، ووقف . فقال سيف الدولة : بلغَتْنا عنك عارِضة ، فأعرِضْها في هذا الفرس وصِفْه . فقال : أصلح الله الأمير كيف به قبْلَ ركوبه ووُثُوبه ، وكَشْفِ عيوبه وغُيُوبهِ ؟ فقال : اركَبْه ، فركبه وأَجْراه ، ثم قال : أصلح اللَّهُ الأميرَ هو طويل الأُذنين ، قليل الاثنين ، واسع الْمَراثِ ، لين الثلاث ، غَليظَ الأكرُع ، غامض الأربع ، شَديد النَّفس ، لطيف الْخَمْس ، ضيق القَلْبِ ، رقيق الست ، حديدالسَمْع ، غليظ السَبع ، رقيق اللسان ، عريض الثمان ، شديد الضِّلع ، قصير التّسع ، واسع السحْر ، بعيد العَشْر ، يأخذ بالسابح ، ويُطلِقُ بالرَّامح ، ويَطلُع بلائِح ، ويَضْحَكُ عن قَارح ، يحز وَجْهَ الكديد ، بمداقّ الحديد ، يُحْضِر كالبَحر إذا ماجَ ، والسيل إذا هاج .
فقال سيفُ الدولة : لك الفرس مُباركاً فيه . فقال : لا زِلت تأخذُ الأنفاس ، وتَمْنَحُ الأفراس ، ثم انصرف ، وتبعتُه ، وقلت : لك عليَ ما يليقُ بهذا الفرس من خِلعَة إن فسرْتَ ما وصفْتَ ، فقال : سَلْ عما أحببت .
فقلت : ما معنى قولك : بَعيدُ العَشْر ؟ فقال : بَعيد النظر ، والْخَطْو ، وأعالي الْجَنبَيْن ، وما بين الوَقْبَيْنِ والْجَاعِرتَين ، وما بين الغُرَابَيْنِ ، والمنخرين ، وما بين الرُجلين ، وما بين النقبة والصفاق ، وبعيد القامة في السباق . فقلت : لا فُضّ فُوك فما معنى قولك : قصير التسْع ؟ قال : هاك : قصير الشّعرة ، قصير الأُطْرَة ، قصير العَسيب ، قَصِير القضيب ، قصير العَضُدين ، قصير الرُسْغَيْن ، قصير النسَا ، قصير الطهْر ، قصير الوَظيفِ .
فقلت : لله أنت فما معنى قولك : عريض الثمان ؟ قال : عريض الْجَبهة ، عريض الصهْوَة ، عريض الكتف ، عريض الْجنْب ، عريض الورك ، عريض العَصَب ، عريض البَلْدة ، عريض صَفْحة العنق .
فقلت : أحسنت ، فما معنى قولك : غليظ السبع ؟ قال : غليظ الذراع ، غليظ المحْزِمِ ، غليظ العُكْوَة ، غليظ الشوَى ، غليظ الرُسْغِ ، غليظُ الفَخِذَيْنِ ، غليظ الْحِبَالِ .
فقلت : لله درك فما معنى قولك : رقيق الست ؟ فقال : رقيق الجَفْن ، رقيق السَالِفة ،رقيق الجَحْفَلة ، رقيق الأديم ، رقيق أَعْلَى الأُذنين ، رقيق الغَرضَيْن .
فقلت : أجَدْتَ ، فما معنى قولك : لطيف الخمس ؟ قال : لطيف الزور ، لطيف النسْر ، لطيف الجُبَّة ، لطيف العُجَايَة ، لطيف الركْبَة .
فقلت : حياك الله فما معنى قولك : غامِض الأربع ؟ قال : غامض أعالي الكَتِفَيْن ، غامض المَرْفِقَيْن ، غامض الحِجَاجَيْن ، غامض الشَّظَى .
قلت : فما معنى قولك : لَين الثلاث ؟ قال : لين المَرْدَغَتَيْنِ ، لَين العُرْفِ ، لين العِنان .
قلت : فما معنى قولك : قليل الاثْنَين ؟ قال : قيل لَحم الوجه ، قليل لحم المَتْنَين .
قلت : فمن أين نَبَاتُ هذا العلم ؟ قال : من الثغور الأموية ، وبلاد الإسكندرية .
فقلت له : أنت مع هذا الفضل ، تُعَرضُ وجهكَ لهذا البَذْلِ ؟ فأنشأ يقول : المجتث :
ساخِفْ زمانك جِدَّا . . . فالدهر جِد سَخيفِ
دَعِ الحميةَ نِسْياً . . . وعِشْ بخَيْرٍ ورِيفِ
وقُلْ لعبدك هَذا . . . يَجئ لنا بِرَغِيفِ
سقط عنا تفسيره في لين الثلاث ، وأكثرُ هذا التفسير يحتاجُ إلى تفسير ، ولم يُرِدْ بما أورد إفْهام العَوامّ ، والبلاغة لمحة دالة ، وبلاغة النثر أخت بلاغة الشعر ؛ وقد قال البحتري : المنسرح :
والشعْرُ لَمْح يخفي إشارتُهُ . . . وليس بالهَذر طُولتْ خُطَبُهُ
وسأقول في شرحه بكلام وجيز زيادة في الإفادة : الوَقْبان : نُقْرتان فوق العينين .والجاعِرتان من الفرس : موضع الرّقمتين من الحمار ، وهما منتهى ضَرْبه بذَنَبه إذا حرَكه . والغرابان : الناتئان من أعلى الوركين ، وفكر النقبة هنا ، وهو الذي يُعْرف بالمنْقَبِ ، وهو من السُرَّة حيث ينقب البيطار . والصَفاق : الخاصرة ، وقد قيل : جلد البطن كفه صفاق ، والذي أراده الخاصرة . وأراد بِبُعْد القامة في السباق امتدادَهُ إذا جَرَى مع الأرض . والأُطرَة هنا : طرف الأبْهر ، وهي طِفطفة غلِيظة . والأبهر : عِرْق يستبطن الظّهر ، فيتّصل بالقلب ، وقيل : هو الأكحل . والعسيب : عظم الذنب . والرُّسْغ من الفرس : موضع القيد . والنَّسَا : عرق مستبطن الفخذين ، وقصَره محمود في جرْي الفرس ، ولكنه لا يسمح بالمشي . والوظيف لكل ذي أربع : ما فوق الرُسْغ إلى الساق . والصَهوة : الظهر . والبَلْدة : ما بين عينيه . والعُكْوَة : مغرز الذَّنب . والشّوى : الأطراف . والحبال : حبلا العاتق والظهْر . والجَحْفَلة من ذوات الحافر : كالشفة من الإنسان . والغُرْضَانْ من الفرس : ما انحدر من قَصَبة الأنف من جانبيها . والزور : الصدر . والنَّسْر في الحافر : لحمة يابسة أَسفَله يشبهها الشعراء بالنَّوى . والجبَّة : التي فيها الحوشب ، والحَوْشب : حشو الحافر . والعُجَاية : عَصَب في قوائم الفرس والبعير مركب فيه فصوص من عظام كأمثال الكِعَاب تكون عند الرّسغ . والحِجَاجان : العظمان المُطِيفان بالعين . والشَّظَى : عظم لاصق بالذراع . والمتنان : جانبا الظهر ؛ وسقط عنّا تفسير الثلاث من نفس المقامة .
ما قيل في المواعد
قال الجاحظ : قال أبو القاسم بن معن المسعودي لعيسى بن موسى : أيها الأمير ، ما انتفعتُ بك مُنْذُ عرفتُك ، ولا إلى خيرٍ وصلتُ منك منذ صَحِبْتُك ، فقال : ولم ؟ ألم أُكلَمْ لك أميرَ المؤمنين في كذا وكذا ؟ قال : بلى فهل استنجزتَ ما وعِدْت ، وعاودت ما ابتَدَأْت ؟ فقال : حالَتْ دون ذلك أمورٌ قاطعة ، وأحوال عاذرة . قال : أيها الأمير ، فما زِدْتَني على أنْ نبهْتَ الهمَّ من رَقْدَتِه ، وأثرْتَ الحُزْنَ من رَبْضتِه ، إنَ الوعدَ إذا لم يصحَبْه إنجازٌ يحقِّقُه كان كلفظٍ لا مَعْنَى له ، وجسمٍ لا روحَ فيه . وكلَّم منصورُ بن زيادٍ يحيى بن خالدٍ في حاجةٍ لرجل ، فقال : عِدْه قَضَاءَها . قال : فقلت : أصلحك اللّه وما يَدْعُوك إلى العِدَة مع وجود القدرة ؟ فقال : هذا قولُ من لا يعرفُ موضِعَ الصّنائع من القلوب ، إنَّ الحاجةَ إذا لم يتقدمها مَوْعد يُنتظر به نُجْحُها لم تتجاذَب الأنفس سرورها ؛ إن الوَعْدَ تطعُم والإنجاز طَعَام ؛ وليس من فَاجأهُ طعامٌ كمن وَجَدَ رائِحته ؛ وتمطَق به ، وتطعَمه ثم طَعِمه ؛ فدَعِ الحاجَة تُخْتَمْ بالوَعد ؛ ليكونَ بها عند المصطنع حُسْنُ مَوْقع ، ولُطْفُ مَحَلّ .ووعد المهديُ عيسى بن دَأْب جَارِيةً ، ثم وهبها له ، فأنشده عبد اللّه بن مُصْعب الزبيري معرَضاً بقول مضرس الأسدي : الطويل :
فلا تيأسَنْ مِنْ صالحٍ أَن تَنَالَهُ . . . وإن كَانَ قِدماً بين أيدٍ تبادرُه
فضَحك المهدي ، وقال : ادفعوا إلى عبد اللّه فلانة ، لجاريةٍ أخرى ؛ فقال عبد الله بن مصعب : الرجز :
أنجز خَيْرُ الناس قبل وَعدِهِ . . . أراح من مَطْل وطُول كَدّهِ
فقال ابن دأب : ما قلت شيئاً ، هلا قلت : الرجز :
حَلاَوَةُ الفضل بوعْدٍ يُنْجَزُ . . . لا خَيْرَ في العُرْفِ كَنَهبٍ يُنْهَزُ
فقال المهدي : مجزوء الكامل :
الوَعْدُ أحْسنُ ما يكو . . . نُ إذا تَقَدَّمه ضَمَانُ
وقد قال أبو قابوس النصراني يمدح يحيى بن خالد : البسيط :
رأيتُ يحْيَى ، أتمَّ اللَّهُ نِعْمَتَه . . . عليه ، يَأتي الَذِي لم يَأته أحَدُ
يَنْسَى الَّذي كان من معروفه أَبداً . . . إلى الرَجال ، ولا يَنْسَى الذي يعِدُ
وقال أبي الطيب المتنبي : المنسرح :
قَوْمٌ بُلوغُ الغُلامِ عندَهُمُ . . . طَعْنُ نُحُورِ الكُماةِ لاَ الْحُلُمُ
كَأَنما يُولَدُ النَّدى مَعَهُمْ . . . لا صِغَرٌ عَاذرٌ ولا هَرَمُ
إذا تَوَالَوا عداوَةً كَشَفوا . . . وإنْ تَوَلَوْا صنيعَةً كَتَمُوا
تظُنُّ من فَقْدِكَ اعْتِدادَهُمُ . . . أنَهُمُ أنْعَموا وما عَلِموا
ودخل أبو عليّ البصير على الفضل بن يحيى ، فأنشده : الرمل :
وُصِفَ الصدُّ لمَنْ أَهَوَى فصدْ . . . وبدا يَمْزَح بالهَجْرِ فجد
ما لَهُ يعدل عَنّي وَجْهَهُ . . . وهو لا يعدِلُهُ عِندي أحَدْ ؟
لا تُريدوا غِرّة الفَضْل ، ومنْ . . . يطلب الغروّة في خِيسِ الأسَدْ
ملكٌ نَدْفَعُ ما نَخْشَى بِهِ . . . وَبِهِ نُصْلِحُ منَا ما فَسَدْ
يُنْجِزُ الناسُ إذا ما وَعدُوا . . . وإذا ما أنْجَزَ الفضلُ وَعَدْوقال ابن الرومي في هذا المعنى : البسيط :
له مواعدُ بالخَيْرَاتِ بادِرَةٌ . . . لكنها تَسْبِقُ الميعادَ بالصّفَدِ
يُعْطِيكَ في اليوم حق اليوم مبتدئاً . . . ولا يُضَيِّع بَعْدَ اليومِ حق غَدِ
في البرّ والإنعام
خطب سليمانُ بن عبد الملك فقال : أيها الناسُ ، مَنْ لم يعلم أبْوَابَ مَدْخَله في الكرامة ، وجَهِل طريقته التي وقَعَتْ به على النَعمة كان بِعُرْضِ رُجوعٍ إلى دارِ هَوَان ، وانقلابٍ بفادح خُسْران .
فقام إليه أبو وائلة السدوسي ، وهو حاجِبُه ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، كنّا كما قال اللّه تعالى . ' هَلْ أتى عَلَى الإنْسَانِ حِين مِنَ الدَهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذكُوراً ' ، ثم صِرْنا كما قال زُهير : الوافر :
يَدُ المَلِكِ الجليل تناولَتْهُمْ . . . بإحسانٍ فليس لها مُزيلُ
لأنَ الخيرَ أَجْمَعَ في يَدَيْه . . . ورَبي بالجزاء له كَفِيلُ
فقال سليمان : هذه والله المعرِفةُ بقَدْرِ النَعمة ، والعلمُ بما يَجب للمنعم .
ورؤي يونس بن المختار في دار المأمون ، ومرتبَتُه في أَعلَى مراتِبِ بني العباس ، قاعداً على الأرض ، فقال الحاجبُ : ارتفِعْ يا أَبا المعلّى إلى مَرتبَتِكَ ، قال : قد رفعني اللّه إليها بأمير المؤمنين ، وليس لي عملٌ يَفي بها ، فلِم لا أكرِمها عن القعود عنها إلى أن يتهيأ لي الشكر عليها ؟ فبلغ الكلامُ المأمونَ ؛ فقال : هذا والله غايةُ الشكر ، وبمثله تدر النَعَم . وقال رجل للمعلى بن أيوب ، وقد رَفَعه المعتصمُ إلى مرتبَة أَهْل بيته : ما يزيدُك التقريبُ إلاَّ تباعُداً . فقال : يا هذا ، إني أَصُون تقريبَه إياي بتباعدي منه ؛ لئلاَ تفسد حُرْمَتي عنده بقلَّةِ الشكرِ على نعمته .
ولما استعانَ المنصورُ بالحارث بن حسان قال له : يا حارث ، إني قد مكنتك من حُسْنِ رَأيي فيك ، فاحفَظْهُ بتركِ إغفال ما يجبُ عليك قال : يا أميرَ المؤمنين ، مَنْ أَغْفَل سببَ حُلولِ النعمة ، وَلَهَا عَن الحال التي أصارَتهُ إليها ، استصحبَ اليأسَ من نَيْلِ مِثْلِها ، وانقطع رجاؤُه من الزيادة فيها ، فقال أبو جعفر : مَن كانت عنده هذه المعرفة دامَت النعمةُ له ، وبقي الإحسانُ إليه .ولما قال المأمونُ لعبد اللّه بن طاهر عند قدومه من مصر : ما سرَني اللَهُ منذ ولّيتُ الخلافةَ بشيءً عظُم موقُعه عندي ، بعد جميل عافيةِ الله ، هو أكثر من سروري بقدومك ، فقال عبدُ اللّه : إيذَنْ لي يا أميرَ المؤمنين ، في تفريق أَمْوالي من طَارِفٍ وتالد . قال : ولم ؟ قال : شكراً على هذه الكلمة ؛ وإلاَ قَصَّر بي الحياءُ عن النظرِ إلى أمير المؤمنين ، فقال المأمون لمَنْ حضر من أهل بيته وقوَاده : ما شيءٌ من الخلافة يَفِي لعبد اللّه ببعض شكره .
وقال أبو نواس : الكامل :
قد قلتُ للعباس معتذراً . . . عن ضعف شُكْرِيه ومُعْتَرفا
أنتَ امرؤٌ جَلَلْتَنِي نِعَماً . . . أَوْهَتْ قُوى شكري فقد ضَعُفَا
فإلَيْكَ مني اليوم تَقْدِمةً . . . تَلْقَاك بالتَّصريح منكشفا
لا تُسْدِيَنَ إلي عارِفةً . . . حتى أقومَ بشكر مَا سَلَفا
عارضه الناشئ واعترض معناه ، فقال : الكامل :
إنْ أَنْتَ لم تُحْدِثْ إليَ يداً . . . حتى أقومَ بشُكرِ ما سَلَفَا
لم أَحْظَ مِنكَ بنائل أبداً . . . ورجَعْتُ بالْحِرْمان مُنْصَرِفا
وقال ابن الرومي : الخفيف :
عاقَنا أنْ نعودَ أنَكَ أَوْلَي . . . تَ أموراً يَضيقُ عَنْهَا الجزاءُ
غَمَرتْنا مِنْكَ الأيادي اللّواتي . . . ما لِمِعْشارِها لَدَيْنا كِفاءُ
فَنَهانا عنك الحياءُ طَوِيلاً . . . ثُمَ قد رَدَنا إلَيْك الحياءُ
ولَمَا حقَّ إنْ قَرُبْتَ التنائي . . . ولَمَا حقَّ إنْ بَرَزْتَ الجفاءُ
غَيْرَ أنا أنْضاءُ شُكْرٍ أُريحتْ . . . وقَدِيماً أريحَتِ الأنضاءُ
ألفاظ لأهل العصر في العجز عن الشكر لتكاثر الإنعام والبرّ
عندي من بره ما ملك الاعتذار بأَزِمَتِه ، وقبض أَلسِنةَ أمراء الكلام وأئمته . عندي لهمبارّ أعجزني شكرها ، كما أعوزني حَصْرها . شُكْرُه شَأْوٌ بعيدٌ لا تبلغه أشْوَاطي ، ولا أتلاَفَى التفريطَ في حقَه بإفراطي . إحسانُه يُعيد العربَ عُجْماً ، والفُصحاء بُكْماً . قد زحمني من مكارِمه ما يُحصَرُ عنه المبين ، ويصحبه العي وبئس القَرين .
وقال أعرابي : الطويل :
رهنت يَدِي بالعَجْزِ عن شُكْرِ بِرِّهِ . . . وما فَوْقَ شُكْرِي للشكورِ مَزِيد
ولو كان شيئاً يستطاعُ استطعْتُهُ . . . ولكنً ما لا يُسَتطاعُ شَدِيدُ
وقال يحيى بن أكثم : كنتُ عند المأمونِ ، فأتى برجل تُرْعَدُ فرائِصُه ؛ فلمّا مثل بين يديه قال المأمونُ : كَفَرْتَ نعمتي ، ولم تشكر معروفي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وأين يقعُ شكري في جَنْبِ ما أنعم اللَّهُ بك عليّ ، فنظر إليّ المأمون ، وقال متمثلاً : الطويل :
ولو كان يَسْتغني عن الشكر مَاجِدٌ . . . لرفعةِ قَدْر أو علوِّ مَكانِ
لما أمر اللَهُ العبادَ بشكرهِ . . . فقال : اشكروا لي أيّها الثقَلاَن
ثم التفت إلى الرجل فقال : هلاّ قلت كما قال أصرم بن حميد : البسيط :
ملكت حمدِي حتى إنَني رَجُلٌ . . . كُلِّي بكلّ ثناءً فيك مشتَغِلُ
خُوّلت شكري لما خَوّلت من نِعَمٍ . . . فحُرّ ُشكري ، لما خَولْتَني ، خَوَل
وقال أبو الفتح البستي : الطويل :
لئن عَجَزَتْ عن شُكْرِ بِرَك قوّتي . . . وأقوَى الوَرَى عن شكْرِ بِرِّك عاجِزُ
فإنّ ثنائي واعتقادي وطاقتي . . . لأفلاكِ ما أوليتِنيها مَراكِزُ وقال أبو القاسم الزعفراني : الخفيف :
لي لسانٌ كأنه لي مُعَادِي . . . ليس يُنْبي عن كُنْهِ ما في فؤادي
حكم اللَهُ لي عليه فلو أن . . . صف قلبي عَرَفْتُ قَدْرَ ودادِيوقال إسماعيل بن القاسم ، أبو العتاهية ، يمدحُ عُمر بن العلاء : الكامل :
إني أَمِنْتُ من الزمان ورَيْبهِ . . . لمَّا عَلِقْتُ من الأمير حِبَالا
لو يستطيعُ الناسُ من إجلالِه . . . لحذَوْا له حُرَ الوجُوهِ نِعَالا
ما كان هذا الجودُ حتى كنت يا . . . عمر ، ولو يوماً تَزُولُ لزالا
إنَ المطايا تشتكيكَ لأنَّهَا . . . قطعَتْ إليك سَبَاسِباً ورِمالا
فإذا ورَدْنَ بنا وَرَدْن مُخِفَةً . . . وإذا صدرْنَ بنا صَدَرْنَ ثِقالا
وهي قصيدة سهلةُ الطبع ، سلسلة النظام ، قريبة المتناول .
وروي أنَّ عمر بن العلاء وصلَه عليها بسبعين ألف درهم ، فحسدته الشعراء ، وقالوا : لنا بباب الأمير أعَوامٌ نَخْدُم الآمالَ ، ما وصلنا إلى بعض هذا ا فاتصل ذلك به ، فأمر بإحضارهم ، فقال : بلغني الذي قُلْتُم ؛ وإنَّ أحدكم يأتي فيمدحني بالقصيدة يشبِّب فيها فلا يَصِلُ إلى المدح حتى تذهب لذّةُ حلاوته ، ورائقُ طلاوته ؛ وإنَّ أبا العتاهية أتى فشبَّب بأبياتٍ يسيرة ، ثم قال : إنَّ المطايا تشتكيك ؛ لأنَّها . . . وأنشد الأبيات . وكان أبو العتاهية لمّا مدحه بهذا الشعر تأَخر عنه برّه قليلاً ، فكتب إليه يستبطِئه : الطويل :
أصابت علينا جودَك العينُ يا عُمَرْ . . . فنحن لها نَبْغِي التمائمَ والنُشَر
أصابتك عَيْنٌ في سخائك صُلبةٌ . . . ويا ربّ عين صُلْبَةٍ تَفْلِقُ الْحَجَرْ
سَنَرْقيكَ بالأَشعارِ حتى تّملّها . . . فإن لم تُفِقْ منها رقَيْنَاكَ بالسُوَرْ
وقال : البسيط :
يا ابنَ العَلاء ويا ابْنَ القَرْم مرداس . . . إني مَدَحْتُكَ في صَحْبي وجُلاسي
أُثني عليك ولي حالٌ تُكَذِّبني . . . فيما أَقول فأَسْتَحْيي مِنَ الناسِ
حتى إذا قيل : ما أوْلاكَ من صَفَدٍ . . . طَأْطأْتُ من سُوء حالي عندها رَاسي
فأمر حاجبه أن يدفع إليه المال ، وقال : لا تُدْخِلْه عَلَيَ ، فإني أَسْتَحْي منه .
وذكر بعضُ الرواة أنَّ المهدي خرج متصيداً ، فسمِعَ رجلاً يتغنَّى من القصيدة التيمرَت منها الأبيات في عمر بن العلاء آنفاً : الكامل :
يا مَنْ تفرَدَ بالجمال فما تَرَى . . . عيني على أحَدٍ سِوَاهُ جَمَالا
أكثرتُ في قولي عليك من الرُقَى . . . وضرَبْتُ في شِعرِي لك الأمثَالا
فأبيتَ إلا جفوة وقَطِيعة . . . وأبيت إلاَ نخوَةً ودَلالاَ
باللَّهِ قولي إنْ سألتك واصْدُقي . . . أوَجَدْتِ قَتلي في الكتاب حَلاَلاَ ؟
أمْ لاَ ، ففِيمَ جَفَوتني وظلَمْتني . . . وجعلتني للعالمين نكَالاَ ؟
كم لائم لو كنت أسْمَعُ قوله . . . قد لامني ونَهَى وعَدَ وَقَالاَ
فقال المهدي : عَلَيَ به ، فجاءه ، فقال : لِمَنْ هذا الشعر ؟ قال : لإسماعيل ابن القاسم أبي العتاهية ، قال : لمن يقوله ؟ قال : لعُتْبة جارية المهدي ، قال : كَذَبْتَ ، لو كانَتْ جاريتي لوَهَبْتُها له ، وكانت عُتبة لرَيطة بنت أبي العباس السفاح ، وكان أبو العتاهية فد بلغ من أمرها كل مبلغ ، وكل ذلك فيما زعم الرواةُ تصنع ، وتخلق ، ليُذكَر بذلك .
أبو العتاهية
قال يزيد بن حوراء المغني : كلمني أبو العتاهية أَن أكلمَ المهدي في عتبة ؛ فقلت : إن الكلام لا يمكنني ، ولكن قل شعراً أغنيه إياه ، فقال : البسيط :
نفسي بشيء من الدنيا مُعَلقَة . . . اللهُ والقائمُ المهدِيُ يَكفِيها
إني لأيأسُ منها ثم يطمِعُني . . . فيها احتقارُك للدنيا وما فيها
فعملت فيه لَحْناً وغنَيْتُه المهدي ؛ فقال : لِمَنْ هذا ؟ فأخبرته خَبَرَ أبي العتاهية ، فقال : ننظرُ في أمره ، فأخبرت بذلك أبا العتاهية ؛ فمكث أشهراً ، ثم أتاني فقال : هل حَدَثَ خبر ؟ فقلت : لا ، فقال : غَنه بهذا الشعر : الخفيف : ليت شِعْري ما عندكم ليت شعري . . . إنما أخرَ الجوابُ لأِمرِ
ما جواب أولى بكل جميل . . . من جوابٍ يُرَدُ من بَعدِ شهرِ
قال يزيد : فغنَيتُ به المهدي ، فقال : علي بعُتبة ، فأحضرت ، فقال : إن أبا العتاهية كلمني فيك ، وعندي لكِ وله ما تحبانِ ؛ فقالت له : قد علم مولاي أمير المؤمنين ما أوجَبه من حق مولاتي ، فأُريد أن أذكُرَ لها ذلك ؛ قال : فافعلي ؛ فأَعلَمتُ أبا العتاهية بما جرى ، ومضت الأيام ؛ فسألني معاودةَ المهدي ، فقلتُ له : قد عرفت الطريقَ فقل ما شئت حتى أُغنيه ، فقال : الكامل :
أَشرَبتَ قَلْبي مِن رَجائك مالَهُ . . . عَنَق إليكَ يَخبُ بي ورَسيمُوأمَلْتُ نحو سماءً صوْبِكَ ناظِرِي . . . أرْعَى مَخَايل بَرْقِها وأشيمُ
ولقد تنسَمْتُ الرياحَ لحاجتي . . . وإذا لها من راحَتَيْك نسِيم
ولربما استيأستُ ثم أقولُ : لا . . . إنَّ الذي ضَمِنَ النجاحَ كريم
فغنيته بالشعر ، فقال : عَلَيَ بعُتبة ، فأَتت ؛ فقال : ما صنعت ؟ قالت : ذكرت ذلك لمولاتي فأبتْه وكرِهَتْه ، فليفعَلْ أميرُ المؤمنين ما يريد ، فقال : ما كنتُ لأفعل شيئاً تكرهه ، فأعلمت أبا العتاهة بذلك ، فقال : الكامل :
قَطعْتُ منك حبائِلَ الآمالِ . . . وأَرَحْتُ من حلّ ومن ترحال
ما كان أشأمَ إذْ رجاؤك قَادَني . . . وبناتُ وعدك يَعْتَلِجْنَ بِبالي
ولئن طَمِعتُ لَرُب بَرْقٍ خُلَبِ . . . مالَت بذِي طَمَعٍ ولُمْعَةِ آلِ
وقد نُقِلت هذه الحكاية على غير هذا الوجه ، والله أعلم بالحقّ في ذلك .
وضرب المهدي أبا العتاهية مائة سوط لقوله : الطويل :
ألاَ إنَ ظَبْياً للخليفة صادَني . . . ومالي على ظَبْي الخليفة مِنْ عَدْوَى
وقال : أبي يتمرَسُ ، ولحرمي يَتَعَرَضُ ، وبِنِسَائي يَعْبث ؟ ونَفَاهُ إلى الكوفة .
وفي ضربه يقول أبو دهمان : المنسرح :
لولا الَذِي أحدَث الخليفةُ لل . . . عُشاق من ضَرْبهمْ إذا عشقوا
لبُحْتُ باسمِ الذي أحِب ول . . . كنيّ امرْؤٌ قد ثنانِيَ الفَرَقُ
وكان أبو العتاهية بالكوفة ، لمَا نفي ، يَذْكُرُ عُتبة ، ويكنّي باسمها ، فمن ذلك قوله : مجزوء الرمل :
قُلْ لمن لسْتُ أسمي . . . بأَبي أنْت وأمِّي
بأبي أنْت لقد أص . . . بحْت من أكْبَرِ هَمِّي
ولقد قلت لأهْلي . . . إذْ أذاب الحب لَحْمِي
وأرَادُوا لي طبيباً . . . فاكتَفُوا منّي بعلمي :من يكن يَجْهَلُ ما ألْ . . . قى فإنَ الحبَّ سُقْمِي
إنَ رُوحِي لببغدا . . . دَ ، وفي الكوفةِ جِسْمِي
وقوله : البسيط :
أَمسى ببغدادَ ظَبْيٌ لَسْتُ أَذْكُرُهُ . . . إلاَ بَكَيْتُ إذا ما ذِكْرُه خَطَرا
إن المحب إذا شطَتْ منازِلُهُ . . . عن الحبيب بكى أوْ حَنَ أو ذَكَرا
يَا رب لَيْلى طويل بِتُّ أرْقُبهُ . . . حتى أضاءَ عمودُ الصُبْح فانْفَجَرا
ما كنتُ أحسِب إلاَ مُذْ عرفتكُمْ . . . أن المضَاجِعَ مِمَّا تُنْبِتُ الإبَرا
وَاللَيْلُ أطْوَلُ مِنْ يَوْمِ الحِسَابِ عَلَىعَيْنِ الشَّجِيِّ إذا ما نَوْمُهُ نَفَرا
ولمَا قدمت عُتبة ببَغْداد قدِم معها أبو العتاهية ، وتلطَف حتى اتَّصَل بالرشيد في خلافة أبيه المهدي ؛ وتمكَّن منه ، وبلغ المهديّ خبرُه ، فأحضره ؛ فقال : يا بائس ، أنت مستقتل ، وسأَله عن حاله ؛ فأنشده قصيدته التي يقول فيها : مجزوء الكامل :
أنْتَ المُقَابِلُ والمُدَا . . . بِر في المناسبِ والعَديدِ
بَيْنَ العُمُومَةِ والخُؤو . . . لةِ والأُبُوّةِ والجُدُودِ
فَإذَا انْتَمَيْتَ إلى أبِي . . . كَ فأنْتَ في المَجْدِ المَشِيدِ
وإذا انتمَى خَالٌ فَما . . . خالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ يَزِيدِ
يريد يزيد بن منصورة وكانت أم المهديّ أم موسى بنت منصور الحميري ، وأنشده : المديد :
عَلِمَ العَالَم أنَّ المنَايا . . . سامعاتٌ لَكَ فِيمَنْ عَصَاكا فإذا وجَّهْتَها نحْوَ طَاغٍ . . . رَجَعَتْ تَرْعُفُ منه قَنَاكا
وَلَوَ أنَّ الريحَ بارَتْكَ يَوماً . . . في سماحٍ قصرَتْ عن نَدَاكا
وأنشده : المتقارب :
أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً . . . إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها
فلم تَكُ تَصْلُحُ إلاّ لهُ . . . ولم يَكُ يَصْلُحُ إلاَّ لَهَا
ولو رامَها أحدٌ غيرهُ . . . لزُلزِلَت الأرضُ زِلْزالَها
ولو لم تُطِعْه بناتُ القلوبِ . . . لَمَا قَبِل اللَهُ أعمالَها
فقال له المهدي : إن شئت أدَبناك بضَرْبٍ وجيع ؛ لإقدامك على ما نُهيت عنه ،وأعطيناك ثلاثين ألف درهم جائزةً على مَدحِك لنا . وإن شئتَ عَفَونا عنك فقط .
فقال : بل يضِيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميلَ معروفه ؛ ومكرُمتان أكثرُ من واحدة ، وأمير المؤمنين أولى من شَفع نعمَته وأتمّ كرمه . فأمر له بثلاثين ألف درهم وعَفا عنه .
ولمَا قدم الرشيد الرَقَّة أظهر أبو العتاهية الزهد والتصوَف وترك الغَزل ، فأمره الرشيد أن يتغزّل ، فأبى ، فحبسه ، فغنّى بقوله : الطويل :
خَلِيليَ ما لي لا تزال مَضَرَتي . . . تكونُ على الأقدار حَتْماً من الحَتْمِ
كفاك بحقّ اللَه ما قد ظلمتَني . . . فهذا مقام المستجير من الظلمِ
أَلاَ في سبيل اللَّه جسمي وقُوتي . . . أَلاَ مُسعِدٌ حتى أنوحَ على جِسْمِيَ
فأمر بإحضاره وقال : بالأمس يَنْهاك أمير المؤمنين المهدي عن الغَزل فتأبى إلاّ لجاجاً ومَحْكا ؛ واليوم آمرك بالقول فتأبَى جُرْأة عليّ وإقداماً ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الحسناتِ يُذْهبنَ السيئات ، كنتُ أقول الغزلَ ولي شبابٌ وجِدَّة ، وبي حَراك وقُوَة ، وأنا اليوم شيخ ضعيف لا يحسن بمثلي تَصابٍ ؛ فردَه إلى حبسه ؛ فكتب إليه : الطويل :
أنا اليوم لي ، والحمدُ للَّه ، أشْهرٌ . . . يَرُوح عليَ الغَمُّ منك ويَبْكُرُ
تذكَّر ، أمينَ اللَهِ ، حَقّي وحُرْمَتي . . . وما كنت تُوليني ، لعلَك تَذْكُرُ
لياليَ تُدني منك بالقُرب مجلسي . . . ووجهُك من ماءِ البشاشة يقطُرُ
فمَن لي بالعين التي كنتَ مرّةً . . . إليَّ بها من سالِفِ الدَّهْرِ تَنْظُرُ ؟
فبعث إليه : لا بأس عليك : فقال : الوافر :
كأنَّ الخلقَ رَكْبٌ فيه رُوح . . . له جَسَدٌ وأنْت عليه راسُ
أمين اللّهِ إنَّ الحَبْسَ بأسٌ . . . وقد وقّعتَ : ليس عليك باسُ
فأخرجه .
أخذ البيتَ الأول من هذين علي بن جبلة وزاد فيه ، فقال لأبي غانم الطوسي : السريع :
دجلة تَسْقي وأبو غانمٍ . . . يُطْعِمُ مَنْ تَسْقي من النَّاسِ
والخلْقُ جِسمٌ ، وإمام الهدى . . . رَأس ، وأنتَ العينُ في الرَاسعمر بن العلاء
وكان عمر بن العلاء ممدَّحاً ، وفيه يقول بشار بن برد : المتقارب :
إذا أيقظَتْكَ حُرُوبُ العِدَى . . . فَنبِّه لها عُمَراً ثمَّ نَمْ
دَعَاني إلى عُمرٍ جودُهُ . . . وقولُ العشيرة بَحْرٌ خِضَم
ولولا الذي ذكروا لم أكُنْ . . . لأمدَح ريحانةً قبل شَم
فتًى لا يَبيتُ على دِمنَةٍ . . . ولا يشرب الماءَ إلا بدَم
أخذ هذا البيت أبو سعيد المخزومي ، فقال : البسيط :
وما يُرِيدون ، لولا الجبن ، من رَجُل . . . بالليل مشتَمِل بالجَمْرِ مُكْتَحِلِ
لا يضربُ الماء إلاَ من قلِيبِ دم . . . ولا يبيتُ له جارٌ على وَجَلِ
وقال أبو الطيب : الطويل :
تعوَدَ ألاَ تَقضَمَ الحَب خيْلُهُ . . . إذا الهامُ لم تَرْفَعْ جُنُوبَ العَلائِق
ولا تَرِد الغُدْران إلا ومَاؤُها . . . مِنَ الدَمِ كالرَّيْحَانِ تحتَ الشَقائِقِ
وقال أبو القاسم بن هانئ : الكامل :
مَنْ لَمْ يَرَ المَيْدَان لَمْ يَرَ مَعْرَكاً . . . أشِباً ، ويَوْماً بالأَسنة أكْهَباوكتائباً تُرْدِي غَوَارِبُها العِدَى . . . وفَوَارساً تَعْدو صوالِجها الظبا لا يورِدون الماء سُنْبُكَ سَابحٍ . . . أو يكتسي بِدَمِ الفَوَارس طُحْلُبا
قال : وبلغ عمرَ بن العلاء أن أبا العتاهية عاتبٌ عليه في هَنَاتٍ نالها منه في مجلس ، وكان كثيرَ الانقطاع إليه ، فتخلّف عنه ، فساء ذلك عمر ، فكتب إليه : قد بلغني الذي كان من تجنبك فيما استخفك به سوءُ الأدب عن عِلْمِ حقيقةٍ مني ، فصرت مُتَردّداً . من العمى في يَلامِيع الشبهة ؛ ولو كان معك من علمك داع إلى لقائي لكشفت لك مَوْرِدَ الأمر ومصدره ، لترجع إلى الصلة ، فتقال أو تأبى إلا الصَّريمة فتَصْرِم ؛ وقد قال الأول : الطويل :
ومُستَعتب أَبْدَى على الظن عَتْبَهُ . . . وأخرج منه المحفِظَاتِ غَليلُ
كشفتُ له عُذراً فأَبْصَر وجهه . . . فعاد إلى الإنصافِ وهو ذَليلُ
فأجابه أبو العتاهية : لم أَجُزْ بعَتْبي الحقيقةَ إلى الشبهة ، ولم أجد سعةً مع عظيم قدرتك إلى حمل اللائمة ، فقصَر بي الخوفُ من سُخْطِك ، على تَرْك معاتبتك ، لأنَّ المعاتبة لا تجتني إلاَّ من المساوِي ، ولو رغبت عن الصلة إلى القطيعة لتقاضيتك ذلك عن طول الصُحبة ، وسالف المدَّة ، وأنا أقول : الطويل :
رضِيتُ ببعض الذلّ خَوْفَ جميعهِ . . . وليسَ لمثلي بالملوكِ يَدَانِ
وكنتُ امْرَأً أخْشَى العقابَ وأتقي . . . مَغَبةَ ما تَجْني يَدِي ولسَاني
فهل مِنْ شَفِيع منك يَضْمَن تَوْبَتي . . . فإني امْرَؤٌ أوفي بكل ضمانِ ؟
فتراجعا إلى أحسن ما كانا عليه .
وإنما ألّم أبو العتاهية في قوله : إن المطايا تشتكيك . . . وما يليه بقول أبي الْحَجناء نُصَيبٍ الأكبر : الطويل :
فعاجوا فأَثْنَوا بالذي أَنْتَ أهْلُه . . . ولو سَكَتُوا أَثْنَت عليك الْحَقائِبُ
وقال أبو الطيب في أبي العشائر الحمداني : المنسرح :
تُنْشِدُ أثْوَابُنَا مَدَائحَهُ . . . بألْسُنٍ مَا لَهُنَ أفْوَاهُإذَا مَرَرْنَا عَلَى الأصْمِّ بِهَا . . . أَغْنتهُ عَن مِسْمَعَيْهِ عَيْنَاهُ
وهذا المعنى من النصْبَةِ الدالة بذاتها التي ذكرتُها عن الجاحظ في أقسام البيان .
سبحان الخالق الكريم
وقال بعْضُ الخطباء : أشهد أنّ في السماوات والأرض آياتٍ ودَلالات ، وشواهدَ قائماتٍ ، كل يؤدي عنك الحجَّة ، ويشهد لك بالربوبية .
ونظيرُ هذا قولُ أبي العتاهية ، وروى أنه جلس في دكان ورَاق ، وأخذ كتاباً فكتب على ظهره : المتقارب :
فوا عجباً كيف يُعْصَى المَلِي . . . كُ أمْ كيف يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ ؟
وللَّهِ في كل تحريكةٍ . . . وتَسْكِينَةٍ في الوَرَى شاهِدُ
وفي كلِّ شيءً له آيَة . . . تَدُلُ على أنَه وَاحِدُ
وانصرف ، فاجتاز أبو نواس بالموضع فرأى الأبياتَ ، فقال : لمِنْ هذا ؟ فلودِدْتها لي بجميع شِعْرِي ، فقيل : لإسماعيل بن القاسم ، فوقع تحتها : المجتث :
سبحانَ مَنْ خَلَقَ الْخَل . . . قَ من ضعِيفٍ مَهِينِ
فصَاغَهُ من قَرَارٍ . . . إلى قَرَار مكينِ
يَحُولُ شيئاً فشيئاً . . . في الْحُجْبِ دونَ العيونِ
حتى بَدَتْ حركات . . . مخلوقةٌ مِنْ سُكُونِ
وقال الفضل بن عيسى الرَقاشي : سَلِ الأرض مَنْ غَرس أشْجارَكِ ، وشَق أنهارَكِ ، وجَنَى ثمارَكِ ، فإنْ لم تُجِبْكَ حِوَارا ، أجابَتْك اعتباراً .وهذا شبيهٌ بقول عديّ بن زيد ، وقد نزل النعمانُ بن المنذرِ تحت سَرْحَة ، فقال : أتدرِي ما تقول هذه السَّرْحة أيها الملك ؟ قال : وما تقول ؟ قال : تقول : الرمل :
رُبً رَكْبٍ قد أنَاخُوا حَوْلَنا . . . يشربون الْخَمْرَ بالماءِ الزُلالِ
ثم أضْحَوْا لَعِبَ الدّهرُ بهم . . . وكذَاك الدَّهْرُ حالاً بَعْدَ حالِ
ويروى عَكَفَ الدَهْرُ بهم فثَوَوْا . فتكدَّرَ حالُ النُعمان وما كان فيه من لذةٍ .
ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال
لو سكت الشَّاكرُ لنَطَقَت المآثِرُ . لو صَمتَ المُخَاطِبُ لأثْنَت الحقائِبُ ، ولَشَهِدَتْ شواهِدُ حاله ، على صِدْقِ مَقَالِه . إن جَحَدْتُ ما أوْلاَنيه ، كَفَرْتُ ما أعْطَانيه ، نطقتْ آثارُ أياديه عليَّ ، ولمعت أعلامُ عَوَارِفه لديَ .
ولأبي الفضل الميكالي من رسالة : وردَ فلانٌ فتعاطى من شُكْرِه على نعمِه التي ألبسه جمالَها ، وأسحَبه أفْيالَها ، ما لو لم يتحدّث به ناشراً ومُثنياً ، ومعِيداً ومُبْدياً ، لأَثنَت به حَالُه ، وشهَدَتْ به رِحَاله ، حتى لقد امتلأت بذكرِه المحافلُ ، وسارت بحبره الركْبَان والقوافل ، وصارت الألسِنةُ على الشكر والثناء لساناً ، والجماعة على النَّشْرِ والدعاءَ أنصاراً وأعواناً ، على أنه وإن بالغَ في هذا الباب ، وجاوزَ حَدَ الإكثار والإسهاب ، نهايتُه القصورُ دون واجبه ، والسقوطُ عن أدنى درجاته ومَرَاتبه .
ومما يقترن لهم بهذا المعنى من ذِكْرِ الشكر : قال أبو الفتح البستي : الحرّ نَحْلُ الشكر ، إن أجْنَاه المرءُ من خيره شكراً أجناه من بِرّه شَهْداً .
غيره : الشكر ترجمانُ النيَّةِ ، ولسانُ الطَوَية ، وشاهدُ الإخلاصِ ، وعنوان الاختصاص . الشكرُ نسيمُ النِّعَمِ ، وهو السببُ إلى الزيادة ، والطريقُ إلى السعادة . الشكرُ قيْدُ النَعْمَة ، ومفتاح المزيد ، وثَمنُ الجنةِ . مَنْ شكرَ قليلاً ، استحقَّ جزيلاً . شكْرُ الموْلَى ، هو الأوْلى . الشكر قَيْد النِّعم وشِكالها ، وعِقالُها ، وهو شبيه بالوَحْشِ التي لا تقيم مع الإيحاش ، ولا تَريم مع الإيناس . مَوْقِعُ الشكرِ من النعمة مَوْقِعُ القِرَى من الضيفِ ، إنْ وجده لم يَرِم ، وإن فَقَدهُ لم يُقِم . الشكر غرسٌ إذا أُودِع سَمْع الكريم أثْمر الزيادةَ ، وحفظَ العادة . الشكرُ تعرّض للمزيد السائغ ، والنِّعم السَوابغ . شُكْرُهُ شكرُ الأسير لمن أطلْقَه ،والمملوك لمن أعتْقَه . أثْنَى عليه ثناء الرَوْضِ المُمْحِل ، على الغَيْثِ المُسْبِل . أثنى عليه ثناء لسان الزهَر ، على راحة المطر . أْثنى عليه ثناء العطشان الوارد ، على الزُلالِ الباردِ . شكْرُه شكر الأرض للدِّيم ، وزُهَيْر لهَرِم . بَسَطَ لسانَ الثناء والدعاء ، وبلغ عنان الشكْرِ عَنَان السماء . شَكَره شكراً ترتاحُ له المكارم ، وتهتز له المواسم . لأشكُرَنه شُكْراً تَشِيع أنواعُه ، وتَنَبسطُ أبْواعه ، ويلذ ذكره وسماعُه . شُكر ملأَ القلبَ واللسانَ ، كشكر حَسَان لآل غَسانَ . أَطال عِنان الشكْرِ ، وفسح مجالَه ، ورفع أعْمِدته ، ومذَ أرْوِقته . شكْر كأنفاسِ الأحبابِ ، أو أنفاس الأسحارِ ، أو أنفاس الرّياض غِب القِطَار .
من أخبار نُصَيب وشعره
رجع إلى ما انقطع : كان سببُ قولِ نصيب : الطويل :
فَعَاجُوا فأَثْنَوا بالَذي أنْتَ أهْلُه
أنه كان مع الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك ، فقال سليمان بن عبد الملك : يا فرزدق ، مَنْ أشعر الناس ؟ قال : أنا يا أمير المؤمنين ، قال : لماذا ؟ قال : بقولي : الطويل :
ورَكْبٍ كأَنَ الريحَ تطلُبُ عندهُم . . . لها تِرَةً من جَذْبها بالعصائبِ
سرَوْا وسَرَتْ نكباءُ وَهْيَ تلفهمْ . . . إلى شُعَب الأكْوارِ ذاتِ الحقائِبِ
إذا آنسُوا ناراً يقولون : لَيتَها ، . . . وقد خَصِرَتْ أيديهُمُ نارُ غالبِ
يريد أباه - وهو غالب بن صَعْصَعَةَ بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان ابن مجاشع - فأَعرض عنه سليمان كالمغضَب ؛ لأنه إنما أراد أن يُنشِدَ مدحاً فيه ؛ ففهم نُصَيب مراده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد قلتُ أبياتاً على هذا الروي ليست بدونها ، فقال :هَاتِها ؛ فأنشأ نُصَيْبٌ يقول : الطويل :
أقولُ لركْبٍ قافلين لَقِيتهُمْ . . . قَفَا ذاتِ أَوْشالٍ وموْلاَك قَارِبُ
فقد أخبروني عن سليمان أنني . . . لمعروفهِ من آل وَدَّانَ طالبُ
فعاجوا فأَثْنوا بالَذي أنْتَ أهلُهُ . . . ولو سكتوا أثنَتْ عليكَ الحقائِبُ
فقالوا : تركْنَاهُ وفي كل لَيْلَةٍ . . . يُطِيفُ به من طالبي العُرْف راكِبُ
ولو كان فَوْقَ الناس حي فِعاله . . . كفعلِك أو للفعل منكَ يقارِبُ
لقُلْنا : له شِبْهُ ، ولكِنْ تعذَّرَتْ . . . سِوَاك عن المستشفعين المطالِبُ هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حَوْلَه . . . وهل تُشْبِه البدرَ المنيرَ الكواكبُ ؟
فقال سليمانُ : أحسنتَ ، والتفتَ إلى الفرزدق فقال : كيف تسمعُ يا أبا فِراس ؟ قال : هو أشعَرُ أهل جِلْدَته ، قال : وأهل جِلْدَتك ؛ فخرج الفرزدق وهو يقول : الوافر :
وخَيْرُ الشعر أكْرَمُه رجالاً . . . وشَرُ الشعرِ ما قَال العبيدُ
في باب المدائح
قال أبو العباس محمد بن يزيد : وهذا بابٌ في المدح حسن متجاوز مُبْتدع لم يُسْبَق إليه .
قول نصيب : من أهْل ودّان . قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : ذكر محمد ابن كناسة والزبيدي أن نصَيباً من أهل ودّان ، وكان عبْداً لرجل من بني كنانة هو وأهل بيته ، وزعم أبو هفان أنه عبد لعبد العزيز بن مروان ، وكان نصيبٌ شديدَ السواد ، وهو القائل : الطويل :
كُسيتُ ولم أمْلِكْ سَواداً ، وتحتَهُقميصٌ من القُوهيِّ بيضٌ بنَائقُهْ
فما ضرَّ أثْوابي سَوادي ، وإنَني . . . لكالمِسْك لا يَسْلُو عن المسك ذائِقُهْ
وقال سُحَيم عبد بني الحسحاس : البسيط :
أشْعَارُ عبد بني الحسْحاس قُمْنَ لهُ . . . عند الفَخار مَقَامَ الأصْل والوَرِقِإن كنتُ عبْداً فنفسي حُرَّةٌ كَرَماً . . . أو أسْوَدَ اللَّونِ إني أبْيَضُ الخُلُقِ
وقال أبو الطيب المتنبي لكافور الإخشيدي : الخفيف :
إنَما الجِلْدُ مَلْبَسٌ وابيِضاضُ ال . . . خلق خَيْرٌ من ابْيضاضِ القَباءِ
وقال نصيب لبعض ملوك بني أمية : إن لي بنات نفَضْت عليهنّ من سواديَ ، فقال : ما أحسن ما تلطّفت لهنّ وأمر له بصلة .
وكان أبو تمام حبيبُ بن أوْسٍ ، لمَّا مدح أبا جعفر محمد بن عبد الملك الزيات بقصيدته التي أولها : الطويل :
لَهَان علينا أنْ نقولَ وتَفْعلا . . . ونذكرَ بعضَ الفضل منك وتفضلا
وهي من أحسن شعره ، وفج له على ظهرها : الطويل :
رأيتك سَمْحَ البيع سَهْلاً ، وإنما . . . يُغَالي إذا ما ضَنَّ بالشيءِ بائعُهْ
فأما إذا هانتْ بضائعُ بَيْعهِ . . . فيوشك أنْ تبقى عليه بَضَائعُهْ
هو الماء إن أجْممتَهُ طابَ وِرْدُهُ . . . ويفسد منه أَنْ تُباحَ مَشَارعه
فأجابه بقصيدة طويلة ، واحتجّ عليه واعتذرَ إليه في مدحه لغيره ؛ فقال في بعض ذلك : البسيط :
أمّا القوافي فقد حصَّنْتُ غُرَّتها . . . فما يُصَاب دَمٌ منها ولا سَلَبُ
مَنَعْت إلاَّ مِنَ الأكفاء أيِّمَها . . . وكانَ منكَ عليها العَطْف والحدَبُ
ولو عَضَلْتَ عن الأكفاء أيمَها . . . ولم يكن لكَ في إظهارها أرَبُ
كانت بناتِ نصيبٍ حين ضَن بها . . . على المَوالي ولم تحفل بها العَرَبُ
وقد قيل إن أبا تمام أجابه بقوله : الطويل :
أبا جعفر ، إن كنتُ أصبحْتُ شاعراً . . . أُسامح في بَيْعِي له من أبايعُهْ
فقد كنتَ قبلي شاعراً تاجراً بهِ . . . تسَاهلُ من عادَت عليك مَنافعُهْفصِرْتَ وزيراً والوزارة مَكرع . . . يَغَصُ به بعد اللَّذَاذة كَارِعُهْ
وكم من وزير قد رأينا مسَلَّطاً . . . فعادَ وقد سُدَّتْ عليه مَطَالِعُهْ
وللَه قَوْسٌ لا تطيش سِهامُها . . . وللَّهِ سيفٌ لا تقلُّ مَقَاطعُهْ
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي : ويقال إن هذه الأبيات متحولة لحبيب . وليس مثل أبي جعفر في جلالةِ قَدْره واصطناعه لحبيب يُعَامَل بمثل هذا الجواب ، ولا يَنْتَهي جَهْلُ حبيب أن يقابل مأموله ومن يَرْتَجي جليلَ الفائدة منه بهذه الأبيات .
وقد قيل : بل قالها ، ولم ينشدها أحداً ؛ وإنما ظهرت بعد موته .
وكان ابنُ الزيات كما قال شاعراً ، ومدح الحسن بن سهل في وزارته للمأمون ؛ وأعطاه عشرة آلاف درهم ، فقال : البسيط :
لم أمْتَدِحكَ رجاءَ المالِ أطْلُبه . . . لَكن لِتُلْبِسني التَّحْجِيلَ والغُرَرَا
ما كان ذلك إلاَّ أنّني رَجُلٌ . . . لا أقربُ الوِردَ حتى أعْرِفَ الصَدَرا قال الصولي : وكان السببُ الذي أوْجد أبا جعفر على أبي تمام حتى قال : لقد رأيتك سَهْلَ البيع - الأبيات قولَ أبي تمام قصيدته المشهورةَ في ابن أبي دوَاد التي أولها : الوافر :
سَقَى عَهْدَ الحمى سَبَلُ العِهادِ . . . ورُوِّيَ حاضر منه وبادِ
نَزَحْتُ به رُكِيَّ الدمعِ لما . . . رأيت الدمعَ عِنْ خَيْر العَتاد
يقول فيها في مدحه :
هُمُ عِظَمُ الأثافي من نَزَارٍ . . . وأهلُ الهَضب منها والنَّجَادِ
مُعَرَسُ كل معْضَلةٍ وخَطْبٍ . . . ومَنْبِتُ كلًّ مكرمةٍ وآدِ
إذا حدَثُ القبائلِ ساجَلُوهم . . . فإنهم بَنُو المجد التَلادِتُفرج عنهم الغمراتِ بيضٌ . . . جِلاد تحت قَسْطَلةِ الجِلاد
وحشو حوادِث الأيام منهم . . . معاقل مِطْرَدٍ وبنو طِرادِ
لهم جهلُ السباع إذا المنايا . . . تمشَّتْ في الوغى وحُلُومُ عادِ
لقد أنْسَتْ سُلوّي كل دهرٍ . . . محاسنُ أحمدَ بن أبي دُوادِ
متى تحْلُلْ به تحلُلْ جَنابا . . . رضيعاً للسواري والغَوادِي
وما اشتبهت سبيلُ المَجدِ إلاَ . . . هَداك لِقبْلَةِ المعروفِ هادِ
وما سافرتُ في الآَفاق إلاّ . . . ومِنْ جَدْواك راحِلَتي وزادي
مقيمُ الظنِّ عندك والأماني . . . وإن قَلِقَتْ ركابي في البلادِ
وهذه النكَت التي أحْقَدت أبا جعفر ، وأعتبته على أبي تمام ، وفي هذه القصيدة يقول معتذراً إليه في الذي قُرِفَ به عنده من هجاء مضر :
أتاني عائر الأنباء تَسْري . . . عقاربُهُ بداهيةٍ نآد
نَثَا خَبَرا كأنَ القلبَ منهُ . . . يُجَرُ به على شَوْكِ القَتَادِ
بأني نِلْتُ من مُضَرٍ وخَبتْ . . . إليكَ شَكِيتي خَبَب الجوادِ
وما رَبْع القطيعةِ لي برَبْعٍ . . . ولا نَادى الأَذىَ مِني بِنَادِ
وأين يجوز عن قَصْدٍ لساني . . . وقَلْبي رائحٌ برِضاكَ غادِ ؟
ومما كانتِ الحُكَماء قالَتْ : . . . لِسَانُ المرء من خَدمِ الفُؤَادِ
وقِدْما كنتُ معسولَ القوافي . . . ومأدومَ المعاني بالسَّدادِابن أبي دُوَاد
وكان ابن أبي دُوَاد غالياً في التعصُب لإياد وإلحاقها بنزار ، على مذهب نُسَاب العَدْنانيين . قال : وكل من بالعراق من إياد دخلوا في النَخَع ، وإليهم يُنْسَبون ؛ ومَنْ كان بالشام فهم على نسبهم في نزار ، وابن أبي دُوَاد يرمى بالدعوة ؛ والتكثيرُ من أخباره يُخْرِجُ إلى ما أخَافَهُ من تَطْويلِ التصرُف ، في مملول التكلُفِ .
وكان ابن أبي داود عالماً بضروبِ العِلم والأدب ، متصرّفاً في صناعة الجِدال ، على مذهبِ أهل الاعتزال ، وكانت العداوة بينه وبين ابن الزيات بينة ، والنفاسة في الرياسة بينهما متمكَنة ، وقال له بعض الشعراء : الوافر :
أكلّ أبي دُوادٍ من إيادِ . . . فكل أبي ذؤيبٍ من هُذَيلِ
قال مسلم : ما تاه إلاَ وضيع ، ولا فاخر إلا سقيط ، ولا تعصَب إلاَّ دَخِيل .
وقال مدني لرجل : ممن أنت ؟ فقال : من قريش ، والحمد لله ، قال : بأبي أنت التحميد هاهنا ريبة واسم أبي دُوَاد دُعْمِيّ ، قال أبو اليقظان : وهم من قبيلة يقالُ لها بنو زهرة أخوة بني جدان ، وقد ذكرهُ الطائي في قوله : الكامل :
والغيث من زهْرٍ سحابةُ رَأفةٍ . . . والركنُ من شيبانَ طَوْدُ حديدِ
ذكر شيبان ؛ لأن خالدَ بن يزيد الشيباني شَفَع له عند ابن أبي دُوَاد فيما ينساقُ الحديثُ إليه من مَوْجِدَتِه عليه . قال محمود الوراق : كنتُ جالساً بطَرفِ الْجِسْر مع أصحاب لي ، فمرَ بنا أبو تمام ، فجلس إلينا ، فقال له رجل منّا : يا أبا تمّام ، أيّ رجل أنْتَ لو لم تكن من اليَمَن ؟ قال : ما أحب أني بغير الموضع الذي اختاره اللَهُ لي ، فَمِفَن تحِب أن أكونَ ؟ قال : من مُضَر ، قال : إنما شَرُفَتْ مُضَر بالنبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولولا ذلك ما قيسوا بملوكنا وأذْوائنا ، وفينا كَذَا ، ومنا كذا - يَفْخَر ؛ وذكر أشياءَ عاب بها مُضَر ، ونُمِي الخبرُ إلى ابن أبي دُوَاد وزِيدَ فيه ، فقال : ما أُحِب أنْ يَدْخُلَ علَيَّ ، فقال يعتذر إليه بقصيدة أولها : الخفيف :
سَعِدَتْ غُرْبةُ النوَى بسُعَادِ . . . في طلوع الإتْهامِ والإنجادِ
يقول فيها :
بعد أن أصْلَت الوُشاةُ سُيُوفاً . . . قَطَعَتْ فيَ وَهْيَ غيرُ حِدَادِفَنَفى عنكَ زُخْرف القولِ سَمعٌ . . . لم يكن فرضه لغيرِ السدادِ
ضربَ الحِلْمُ والوقارُ عليه . . . دونَ عُورِ الكلامِ بالأسْدادِ
ملأتك الأحْسابُ أيّ حياةٍ . . . وحيا أزْمَةٍ وحيَّة وَادِ
عاتقٌ مُعْتَق من الرقّ إلاَ . . . من مُقَاساةِ مَغْرَمٍ أوْ نِجَادِ
للحَمالاتِ والحمائلِ فيهِ . . . كلُحوب الموارِدِ الأعدادِ
فما رَضِي عنه حتى تشفع إليه بخالد بن يزيد بن مزْيد الشيباني ، فقال في قصيدة : الكامل :
أسْرَى طريداً للحياء مِنَ التي . . . زَعَمُوا ، وليس لقوله بطَريدِ
كنتَ الربيعَ ، أمامَهَ ووراءَه . . . قَمَرُ القبائل خالِدُ بن يزيدِ
وغداً تَبيّنُ ما براءة ساحتي . . . لو قدْ نفضت تَهائمي ونجودِي
لله درُك أيُ بابِ مُلِمَةِ . . . لم يُرْمَ فيه إليك بالإقليدِ
لما أظلَتني غَمامُك أصبْحَتْ . . . تلك الشهودُ علي وهْي شُهودي
من بعد ما ظنُوا بأنْ سيكونُ لي . . . يومٌ بِزَعمهم كيوم عَبيدِ
يريد عَبِيد بن الأبرص الأسدي ، وكان النعمان بن المنذر لقيه يوم بُؤْسِه فقتله .
وكان ابن أبي دُوَاد كريماً فصيحاً جَزْلاً . قال أبو العيناء : كنا عند ابن أبي دُواد ومعنا محمود الورّاق وجماعة من أهل الأدب والعلم ؛ فجاءه رسول إيتاخ فقال : إن الحاجب أبا منصور يقرأُ على القاضي السلام ، ويقول : القاضي يتَعنَى ويَجيء في الأوقات ؛ وقد تفاقم الأمرُ بينه وبين كاتب أمير المؤمنين ، يريد ابن الزيات ، فصار يضرُنا عند قَصْدِه القاضي ، وما أحِب أن يتعنى إلي لهذا السبب ؛ إذ كنت لا أصِل إلى مكافأته . فقال : أجيبوهعن رسالته ، فلم نَدْر ما نقول ، ونظر بعضُنا إلى بعض فقال : أمَا عندكم جواب ؟ قلنا : القاضي - أعزّه اللّه ، أعلمُ بجوابه منّا ، فقال للرسول : اقرَأْ عليه السلام ، وقلْ له : ما أتيتك متكثراً بك من قلة ، ولا متعززاً بك من ذِلَة ، ولا طالباً منك رُتْبة ، ولا شاكياً إليك كُرْبَة ، ولكنّك رجلٌ ساعدَك زَمَان ، وحرَكَك سلطان ، ولا علم يُؤلف ، ولا أصل يُعْرَف ؛ فإن جِئتك فبسلطانك ، وإن تركتك فلنفسك فعَجبْنا من جَوَابِه .
خالد بن عبد اللّه القسْري
صعد خالدُ بن عبد اللّه القسري المنبر يومَ جمعة ، فخطب وهو إذْ ذاك أميرٌ على مكة ، فذكر الحجَّاج فأحْمَد طاعتَه ، وأثْنى عليه خيراً ، فلمّا كان في الجمعة الثانية وردَ عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك يأمرُه فيه بِشَتْم الحجّاج وذِكْرِ عيوبهِ ، وإظهار البراءة منه ، وصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : إن إبليس كان مَلَكاً من الملائكة ، وكان يُظْهِر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترَى له بذلك فضلاً ، وكان الله تعالى قد علم من غِشّه ما خَفِيَ عن الملائكة ، فلّما أراد الله فضيحتَه ابتلاه بالسجود لآدم ، فظهر لهم ما كان يُخْفيه عنهم فلعنوه ؛ وإن الحجاجَ كان يُظْهِر من طاعة أمير المؤمنين ما كنَّا نرى له بذلك فضلاً ، وكان الله عزّ وجلّ ، أطْلَعَ أميرَ المؤمنين من غِلَه وخُبْثه على ما خَفِيَ عنّا ، فلما أراد الله فضيحتَه أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين ، فالْعَنُوه ، لعنهُ الله . ثم نزل .
أبو تمام والأفشين
وكان أبو تمام قد مدح الأفشين التركي ، واسمه خيذر بن كَاوُس ، وكان من أجلّ قُوَاد المعتصم ، وأبْلَى في أمر بابك الخُرّمِيَ بلاءً حمده له ؛ فلما سَخِطَ المعتصمُ عليه لِمَا نُسِبَ إليه من سوء السيرة ، وقُبْح السريرة ، وأنه يخْطب درجة بابك ، ويريد التحصن بموضع يَخْلَع فيه يدَه عن الطاعة ، وأظْهر القاضي أحمد بن أبي دُواد عليه أنه على غير الإسلام ، قال أبو تمام معتذراً للمعتصم من تقديمه واجتبائه ، ولنفسه من مدحه وإطرائه : الكامل :
ما كان لولا فحشُ غدرة حيدرٍ . . . ليكونَ في الإسلام عامُ فِجَارِ
هذا الرسول وكان صفوةَ ربِّهِ . . . من خَيْرِ بادٍ في الأنام وقارِقد خصَ من أهل النفاق عصابةً . . . وهم أشدُ أذًى من الكُفارِ
واختار من سعدٍ لَعِينَ بني أبي . . . سَرْح لعمر اللّه غيرَ خيار
حتى استضاءَ بشعلةِ السُوَرِ التي . . . رفَعت له ستراً من الأستار
ثم ذكر في هذه القصيدة أنّ قتل الأفشين لبابك لم يكن بصِدْق بصيرة ، ولا لصحة سريرة ، فقال :
والهاشمون المستقلة ظُعنهم . . . عن كَربلاءَ بأَثْقَل الأوزار
فشفاهم المختارُ منهُ ولم يكن . . . في دينهِ المختارُ بالمختارِ
أهل النفاق
أما من ذُكِر من أهل النفاق ، فقد كانوا يظهرون غَيْرَ ما يُسِرُّون ، حتى أَطلع الله نبيَّه عليه السلام على أخبارهم ، ونَشَرَ له مَطْوِفي أسرارهم .
وأما ابنُ أبي سَرْح فهو عبدُ الله بن سعد بن أبي سَرْح بن الحسام بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيٌ ، أسلم قبل الفَتْح ، واستكتبه النبيّ عليه السلام ؛ فكان يكتبُ موضِعَ الغفورِ الرحيم العزيزِ الحكيم ، وأشباه ذلك ؛ فأطْلَع اللَهُ عليه النبيّ عليه السلام ، فهرب إلى مكة مرتداً ؛ وأُنزل فيه : ' ومَنْ قالَ سأنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَهُ ' . فأَهْدَر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، يوم الفتح دَمَه ، فهرب من مكة ، فاستَأمن له عثمانُ رضي اللّه عنه ؛ فأمَنه رسولُ الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو أخو عثمان من الرَضاعة ، وأسلم فحسُنَ إسلامُه ، وولّي مصر سنة أربع وعشرين ، فأقام عليها إلى أنْ حُصِر عثمان ، ومات بقيسارية الشام ، ولم يدخل في شيء من الفتَن الحجازية في ذلك الوقت .
وأما المختارُ الذي ذكره فهو المختار بن أبي عُبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير ابن عوف بن عَفدة بن عروة بن عَوف بن قَسي وهو ثقيف ؛ وكانت لأبيه في الإسلام آَثارٌ جميلة ، وأختُ المختار صفية بنت أبي عبيد زوجُ ابن عمر ، والمختار هو كذاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث ، وكان يَزْعُم أنه يُوحَى إليه في قتَلَةِ الحسين ؛ فقتلهم بكل موضع ،وقتل عبيد الله بن زياد ، وله أسْجاع يَصْنَعُها ، وألفاظ يبتدعها ، ويزعم أنها تنزل عليه ، وتُوحَى إليه .
وقيل للأحنف بن قيس : إنّ المختارَ يزعم أنه يُوحَى إليه فقال : صدق ، وتلا : ' وَإنَّ الشَيَاطِينَ لَيُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ ' . وأخبارُه كثيرة ليس هذا موضعها .
لما هُزم أمية بن خالد بن أُسَيْدٍ لم يَدْرِ الناس كيف يقولون له ، فدخل عبدُ الله بن الأهتم عليه ، فقال : الحمد للّه الذي نظر لنا أيها الأمير عليك ، ولم ينظرْ لك علينا ، فقد تعرَضت للشهادة بجَهْدِك ، إلاَ أن اللّه علم حاجةَ أهل الإسلام إليك ، فأبقاك لهم بخذلان مَنْ معك . فصدر الناسُ عن كلامه .
ويتعلّق بهذه المقامة فصل في غرائب التكاتب
كتب حمدون بن نَهْران إلى عامل عُزِل عن عَمَله : بلغني ، أعزَّك الله ، انْصِرافك عن عملك ، ورجوعُكَ إلى منزلك ؛ فسُرِرْت بذلك ، ولم أسْتَفْظِعْهُ وأجْزَع له ؛ لعلمي بأَنَّ قدرَك أجلُّ وأعْلى من أنْ يرفعَك عملٌ تتولاَه ، أو يضعَك عَزْلٌ عنه ؛ ووالله لو لم تختَر الانصرافَ وتُرِد الاعتزالَ لكان في لُطْفِ تدبيرك ، وثُقوبِ رَوِيتك ، وحُسْنِ تأتيك ، ما تُزِيل به السببَ الداعي إلى عَزْلك ، والباعثَ على صَرْفِك ؛ ونحن إلى أن نهنئك بهذه الحال أوْلى بنا من أن نعزيك ؛ إذ أردْتَ الانصرافَ فأوتيته ، وأحبَبْتَ الاعتزالَ فأُعْطِيته ، فبارك اللَهُ لك في مُنْقَلَبك ، وهنَّاكَ النعمَ بدَوامها ، ورزقك الشُكرَ الموجِب لها الزائدَ فيها .
وكتب ابن مكرم إلى نصراني أسْلَم : أمَا بعد ، فالحمدُ لله الذي وفقك لشكره ، وعرَّفك هدايتَه ، وطهر من الارتياب قلبَك ، وما زالت مَخَايِلُك ممثلةً لنا حقيقةَ ما وهب اللَهُ فيك ، حتى كأنَّك لم تزل بالإسلام مَوْسُوماً ، وإن كنت على غيره مُقيماً ، وكنا مؤملين لما صِرْتً إليه ، مُشْفِقين مما كنتَ عليه ، حتى إذا كاد إشفاقُنا أن يَستَعْلي رجاءنا أتت السعادةُ بما لم تَزَل الأنفسُ تعدّ منْكَ ؛ فأسأل اللهَ الذي أضاءَ لك سبيلَ رُشدِك أن يوفقَك لصالح العمل ، وأنْ يؤتيك في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً ، ويَقِيَك عذابَ النار .
قال بعضُ الكتاب : من الحقّ ما يُستْحَسن تَرْكُه ، ويستهجَنُ عملُه ، وقد يقع من ذلكفيما يحِلّه الشرع ، ويكرهه الأدباء ؛ وكثير ممن يغلبُ على طبعه هذا المعنى يراه سموَ نَفْس ، وعلوَ همة ، حتى رأينا من لا يحضر تزويج كريمتِهِ ، ويولّي أمرَها غير نفسه ، ورأينا من يُجَاوِزَ ذلك إلى ألا يُنكِحَ مستنكحاً ، وزاد به العلوُ إلى تَرْكِ ما ذكره أوْلى ، وكنّا عرفنَا حال إنسان تزوجَتْ أُمّه ، فعظُمَ لذلك همُه ، وانفرد عن أوِدَّائه ، وتوارَى عن أصفيائه ؛ حياءً من لقّائهم ، وكُرْهاً لتهنئتهم له أو عَزائهم ، واضطرته الوَحْشَة إلى قَصْدِ من ظنّ به منهم المسْكَة في تحامي خطابه فيما اجتنب لأجله خُلانَه ، وفارق بسببه إخوانه ، وتخَيّل ذلك المقصودُ أنه إنما لجأَ إليه ليسلّيه ؛ فأَفاض معه فيما قدَر أنه قصد له من المعنى الذي جعله وحيداً خوف المفاوضة .
ثم مضت الأيامُ واختلف الحال ، ورجع إلى العِشرَة وأبناء المودَة ؛ فكان عنده من لم يخاطِبْه أحْظَى ، وفي نفسه أوْفى ، وعلى قلبه أخفّ ، وفي نفسه أشفت ، ونَقَم على ذلك الصديق وعَتب ؛ إذْ لكل من الناس - إلاَّ من طاب مَحْتِدُه وطالَ سؤدده - حالٌ من الإلف والرغبة تحسن المساوي ، ثم حال من المَلَلِ والزَهادة تقبحُ المحاسن ؛ واعتذر المتكلَف من التسلية بما لم يلزمه ، ولم يُرِدْه صفيه ، فإنه فعل ما أوجبته الأخوَّة ، وحقوق الخلطة ، وأسبابُ العشرة ، وانبساط المفاوَضة ؛ ودبَت عقارب الظنون والوشاية ، إلى أن خرجَا بالمُلاحاةِ إلى المُعَاداة ؛ فلمّا وقع بعضُ الناس بينهما من معاوَدَة الحسنى ، ومراجعة الأوْلى ؛ جاهرَ هذا الماقِتُ بفَرْعِ سِنَ الأسَفِ على تخيل النهى والوقار من الممقوت ، وظاهر الممقوت بتقريع الماقت ، بتزويج أمِّه ، الذي تجشّم من كلامِه فيه فضَلاً ، وتكلّف من خطابه عليه ما من حَسْرة خَلاَ ؛ فأفضى الأمرُ بينهما إلى الأوْتَار ، وطلب الثأر .
فإن اضطر إلى القول في هذا المعنى أحدٌ بأَمرٍ قاهر من السلطان ، أو حوادثِ الأزمان ، أو تطارُحِ الإخوان ، فليقل وليكتُبْ ما مثّلنا إن لم يَجِدْ عنه بدّاً : أنت - بِفَضْلِ اللّه عليك وإحسانِ تبصيره إياك - حق أهْل الدّين ، وخلوصِ اليقين ، فكما لا تتبع الشهوة في محظوَر تُبيحه ، فكذا لا تتبَعُ الأَنَفَة في مُباح تحظره ؛ وقد اتّصَل بنا ما اختاره اللَّهُ والقّضاء لذات الحق عليك ، المنسوبةِ - بعد نسبك إليها - إليك ، ممّا كرهه إباؤك الدنيوي لك ولها ، ورَضِيَه الحلالُ الديني له ولها ، فنحن نعزيك عن فائت محبوبك ، ونهنئك في الخيرة في اختيارِ القَدَر لك ، ونسألُ الله أن يجعلها أبداً معك فيما رضيت وكَرِهْتَ ، وأبيت وأتيْتَ .
فهذا ، ونحوه أصْوَبُ وأسلم ، إن اضطررت إليه ، وتركهُ أحْسن وأحزم ، إن ملكت رأيك فيه ؛ والتلطف للكتابة عمّا يُستهْجن ولا يستحسن التواجه به من أحْسنِ الأشياء وأَسدها .وكتب أبو الفضل بن العميد في بابه : الحمدُ للّه الذي كشف عنًا سِتْرَ الَحَيْرة ، وهدانا لسَترِ العَورَة ، وجَدَع بما شرع من الحلال أنْفَ الغَيْرَة ، ومَنَع من عَضْلِ الأمهات ، كما منع من وَأدِ البنات ، استِنزالاً للنفوس الأبيَّة ، عن حَمِيَّةِ الجاهلية . ثم عرّض للجزيل من الأحر من استسلم لمواقع قضائه ؛ وعوض جزيلَ الثواب لمنْ صبر على نازلِ بلائِه ؛ وهناك الله ، الذي شرح للتقوى صَدرك ، ووسع في البَلْوى صبرَك ، ما ألهمك من التسليم بمشيئته ، والرضا بقضيته ، ووفّقك له من قضاء الواجب في أَحد أبويك ، ومن عظم حقه عليك ؛ وجعل اللِّه تعالى حَدَه ما تجرَّعتَه من أَنفٍ ، وكظَمْتَه من أَسفٍ ، معدوداً يعظم اللهُ عليه أجرك ، ويجزل به ذُخرك ؛ وقَرَن بالحاضر من امتِعَاضك لِفعْلها المنتظَرَ من ارتماضِك لدَفنِها ، وعوّضك من أسِرَة فرشِها أعواد نَعْشِها ؛ وجعل ما يُنْعِمُ به عليك من بعدها من نعمة مُعَرًّى من نِقمة ، وما يوليك بعد قَبْضها من منحة مبرأً من مِحْنَةٍ .
ألفاظ لأهل العصر في التهاني بالبنات
هنأ اللّه سيدي وِرْدَ الكريمة عليه ، وثمّر بها أعداد النسل الطيِّب لديه ؛ وجعَلَها مُؤْذِنةً بأخوة برَرَة ، يَعْمُرون أنْدِية الفَضْل ، ويَغْبُرون بقيّةَ الدَّهْرِ .
اتصل بي خَبَر المولودة ، كرّم الله غُرّتها وأنْبتها نباتاً حسناً ، وما كان من تَغَيُّرِك بعد اتِّضَاحِ الخبَر ، وإنكارك ما اختاره اللَّهُ لك في سابقِ القَدَر ، وقد علمتَ أنهن أقربُ من القلوب ، وأنَّ الله تعالى بدأ بهن في الترتيب ، فقال جلى من قائل : ' يَهَبُ لِمَنْ يشاءُ إناثاً ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُكُورَ ' . وما سمّاه هبة فهو بالشكر أوْلَى ، وبحُسْنِ التقبل أحرَى . أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء ، وأُمّ الأبناء ، وجالبة الأصهار ، وأولاد الأطهار ، والمبشّرة بأخوة يتناسقون ، ونُجَباء يتلاحقون : الوافر :
فَلَوْ كانَ النِّسَاءُ كَمِثْلِ هذِي . . . لَفُضِّلَتِ النَسَاءُ على الرِّجَالِ
فما التأْنِيثُ لاسْمِ الشَّمْس عَيْبٌ . . . ولاَ التذْكِيرُ فَخْرٌ لِلهلاَلِ
والله يعرفُكَ البركةَ في مَطْلعها ، والسعادةَ في موقعها ، فأدَرع اغتباطاً ، واستأنِفنشاطاً . الدنيا مؤنثة ، والرجال يخدمونها . والنارُ مؤنثة ، والذكور يَعْبُدونها . والأرض مؤّنثة ، ومنها خُلِقت البرية ، وفيها كثرت الذريّة . والسماءُ مؤنثة ، وقد حُلِّيت بالكواكب ، وزينت بالنجوم الثواقب . والنفسُ مؤنثة ، وهي قوام الأبدان ، ومِلاَك الحيوان . والحياةُ مؤنثة ، ولولاها لم تتصرَّف الأَجسامُ ولا عُرِفَ الأنام . والجنّة مؤنّثة ، وبها وُعِدَ المتقون ، وفيها يَنْعَم المرسلون ؛ فهنأك اللّه ما أُوليت ، وأوْزَعك شُكْرَ ما أُعطيت ، وأطَالَ اللَّهُ بقاءك ما عُرِفَ النَسْل والوَلد ، وما بقي العَصْرُ والأبد ؛ إنه فعّالٌ لما يشاء .
مديح النساء
والتصرّف في النساء ضيِّقُ النطاق ، شديدُ الخِنَاق ، وأكثرُ ما يُمْدح به الرجال ذمّ لهنّ ، وَوَصْمٌ عليهنّ ، قال ابن الرومي : البسيط :
ما للحِسان مسيئاتٍ بِنَا ، ولنا . . . إلى المسيئات طولَ الدَهْرِ تَحنْاَنُ
فإن يَبُحْنَ بعَهدٍ قُلن : معذرةً . . . إنا نسينا ، وفي النسوان نَسيانُ
لا نُلزَم الذكْرَ ، إنا لَمْ نُسَمَ به . . . ولا مُنِحْنَاه ، بل للذكر ذُكْرَانُ
فَضْلُ الرجالِ علينا أنّ شيمتهم . . . جودٌ وبأس وأحلامٌ وأذْهان
وأن منهم وفاءً لا نقوم له . . . وهل يكون مع النقصان رُجحَانُ ؟
وقال أبو الطيب المتنبي : الطويلَ :
بنَفْسي الخيالُ الزائِرِي بَعْدَ هَجعَةٍ . . . وقَوْلته لي : بَعْدَنا الغُمْضَ تَطْعَمُ
سَلام فلولا البخْلُ والخَوْف عِنْدَهُ . . . لَقُلْنا أبو حَفْصٍ عَلَيْنا المسَلَمُ
ألا ترى أَن الجود ، والوفاء بالعهود ، والشجاعة والفطَن ، وما جرى في هذا السنن ، من فضائل الرجال ، لو مُدِح النساءُ به لكان نَقْصاً عليهن ، وذمَّاً لهنَ ؟ ولمديح النساء أبواب تفرقت في الكتاب : أنشد رجل زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور : مجزوء الكامل :
أزُبيدةُ ابنةُ جَعْفَرٍ . . . طُوبَى لزائرك المثَابِ تُعطِينَ من رِجْلَيك ما . . . تُعْطِي الأكف من الرَغابِ
فوثب إليه الخدم يضربونه ، فمنعتهم من ذلك ، وقالت : أراد خيراً وأخطأ ، وهو أحب إلينا ممن أراد شراً فأصاب ، سمم قولهم شِمالك أنْدَى من يمين غيرك فظن أنه إذاقال هكذا كان أبلغ ، أعطوه ما أمّل ، وعرَفوه ما جهل .
وقال كثير : الطويل :
ولمّا قضَينا من منَى كل حاجة . . . ومَسًحَ بالأركانِ مَن هو ماسِحُ
وشُدت على حدبِ المَطَايا رحالنا . . . ولا يعلم الغادي الذَي هو رَائِحُ
أخَذْنَا بأطْرَافِ الأحاديثِ بيننا . . . وسَالَتْ بأَعْنَاقِ المَطِيَ الأباطِحُ
نَقَعْنا قلوباً بالأحاديثِ واشتَفَت . . . بذاك صدُورِّ منضجاتٌ قَرَائِح
ولم نَخْشَ رَيْبَ الدهرِ في كلِّ حالة . . . ولا رَاعَنا مِنه سَنِيح وبَارحُ
وقال : الطويل :
تفرّق أُلاَّفُ الحجيج على مِنَى . . . وشتّتهم شَحْط النوى مَشْيَ أربعِ
فريقان منهم سَالك بطن نَخلَةٍ . . . وآخرُ منهم جازع ظَهر تَضرُع
فلم أر داراً مثلها دَار غِبطة . . . ولهْوٍ إذا التفَ الحجيج بمجمع
أقلَّ مقيماً رَاضِياً بمكانِهِ . . . وأكثرَ جَاراً ظاعناً لم يُوَدَع
فأصبح لا تلقى خباءً عَهدْتهُ . . . بمَضْربه أوْتادهُ لم تُنزع
فشاقُوك لما وجّهوا كل وجهةٍ . . . فبانُوا وخلّوا عن مَنازِل بَلقع
ودخل كثير على عزَّة يوماً ، فقالت : ما ينبغي أن نَأذَن لك في الجلوس ، فقال : ولم ذلك ؟ قالت : لأني رأيت الأحوص أَلينَ جانباً عند الغواني منك في شعره ، وأضرعَ خدًّا للنساء ، وأنه الذي يقول : البسيط :
يا أيها اللائمي فيها لأِصْرِمَها . . . أكْثَرْتَ لو كان يُغْنِي عنك إكثارُ
أكثِر فلسْتَ مُطاعاً إذ وَشَيْتَ بها . . . لا القَلْبُ سَالٍ ولا في حبها عارُ
ويعجبني قولُه : الطويل :
أدُورُ ولَوْلاَ أنْ أرَى أُمَّ جَعْفَرٍ . . . بأَبياتِكُمْ ما دُرْتُ حَيْثُ أدُورُ
وما كنتُ زوَّاراً ، ولكنَّ ذا الهوى . . . إذَا لم يُزرْ لا بدَّ أنْ سَيزُورُ
لقد مَنَعَتْ معروفَها أمُ جَعفرٍ . . . وإني إلى معروفِها لَفَقيرُ
ويعجبني قوله : البسيط :
كم من دني لها قد كنتُ أتبَعُهُ . . . ولو صحا القَلْبُ عنها كان لي تَبَعَا
لا أستطيع نُزوعاً عن مَحبَّتِها . . . أوْ يصنع الحبُّ بي فوق الذي صنَعا
أدْعُو إلى هَجْرِها قلبي فَيْتبعني . . . حتى إذا قلتُ هذا صادقٌ نَزَعَاوزادني رغبةً في الحبِّ أن منَعتْ ، . . . أشْهَى إلى المرء من دُنياه ما مُنعَا
وقوله : الطويل :
إذا أنت لم تَعْشَق ولم تَدْرِ ما الهوى . . . فكُنْ حجَراً من يابس الصَّخْر جَلْمَدا
وما العَيْش إلاَّ ما تلَدُّ وتَشْتَهِي . . . وإن لام فيه ذو الشّنَانِ وفَنَدا
وإني لأهْوَاها وأَهوى لقاءَها . . . كما يشتهي الصَّادِي الشرابَ المبَرَّدَا
علاقة حبّ لجَّ في سنن الصِّبا . . . فأَبْلَى ، وما يزدادُ إلاّ تجدُدا
هذان البيتان ألحقهما العُتبي وغيره بشعر الأحوص ، وأنشدها أبو بكر بن دريد لأعرابي ، فقال كثير : قد والله أجادَ فما استقبحت من قولي ؟ قالت : قولك : الطويل :
وكنت إذا ما جِئْت أجْلَلْنَ مَجْلسي . . . وأظْهَرنَ مِني هيبة لا تجهُما
يُحَاذِرْنَ منّي غيرةً قد عَرَفْنها . . . قديماً ، فلا يضحكْنَ إلاّ تبسُما
تراهنّ إلاَّ أن يخالِسْنَ نظرةً . . . بمؤْخِرِ عَيْنٍ أو يقلّبْنَ مِعْصَمَا
كواظِمَ لا يَنْطِقن إلاَ مَحُوَرَة . . . رَجيعَة قول بعد أن يتَفهّما
وكن إذا ما قُلْنَ شيئاً يسرُّهُ . . . أسر الرضَا في نَفْسِه وتَحرَّمَا
وقولك : الطويل :
وَدِدْتُ وَبَيْتِ اللَهِ أنك بَكْرَةٌ . . . هِجانٌ ، وأني مُصْعَبٌ ثم نَهْرُبُ كِلاَنا به عُرّ فَمَنْ يَرَنا يَقُلْ . . . على حُسْنها جَرْبَاءُ تُعْدِي وأجْرَبُ
نكون لذِي مالٍ كثير مغَفَل . . . فلا هو يَرْعَانا ولا نَحْنُ نُطْلَبُ
إذا ما ورَدْنا منهلاً صاح أهْلُه . . . علينا فما ننفك نُؤْذىَ ونُضْرَبُ
وَيْحك لقد أردتَ بي الشقاءَ ، أفما وجدت أمنية أوْطأَ من هذه ؟ فخرج خَجلاً .
وقد تمنَّى بمثل هذه الأُمنية الفرزدق . وأغرب من هذا قول أبي صَخْر الهذلي : الطويل :
تَمَنَيتُ من حُبي عُلَيةَ أنَّنا . . . على رَمَثٍ في البحر ليس لنا وَفْرُ
على دائمٍ لا يعبر الفلكُ مَوْجَهُ . . . ومِنْ دوننا الأهوال واللُجَج الخُضْرُفنقضيَ همَّ النفسِ في غير رِقْبةٍ . . . ويُغْرِق مَنْ نَخْشَى نميمتَه البَحْرُ
وقيل : الأمل رفيق مُؤْنِس ؛ إن لم يُبلغك فقد ألهاكَ .
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وأكثرُ أفعال الليالي إساءةٌ . . . وأكثرُ ما تَلْقَى الأماني كَوَاذِبا
وقال آخر : الطويل :
مُنى إن تكُن حَقاً تكن أحْسنَ المُنَى . . . وإلا فقد عِشْنا بها زمناً رَغْدَا
أمانيّ من لَيْلَى حِسَانٌ كأنما . . . سقتني بها لَيْلَى على ظَمَإ بَرْدا
وقال آَخر : الطويل :
رَفَعْتُ عن الدنيا المُنَى غير حبّها . . . فلا أسأل الدنيا ولا أستزيدُها
وقيل لأعرابي : ما أمتع لذَّات الدنيا ؟ فقال : ممازحةُ المحبّ ، ومحادثةُ الصديق ، وأماني تقطَع بها أيامك ، وأنشد : مجزوء الخفيف :
علَلِيني بمَوْعدٍ . . . وامْطُلِي ما حَيِيتِ بِهْ
ودَعِيني أفوزُ من . . . ك بنَجْوَى تطلبهْ
فعسى يعثر الزَّمَا . . . ن بخطَي فينتبِهْ
كثير عزة
وكان كثير بن عبد الرحمن بن أبي جُمْعة الخزاعي - ويعرف بعزّة ، على حدَةِ خاطرِه ، وجَوْدَةِ شعره - أحْمَقَ الناس .
دخل عليه نفرٌ من قريش وهو عليل يهزأون به ، قال بعضهم : فقلت له : كيف تجدُك ؟ قال : بخير ، هل سمعتُم الناسَ يقولون شيئاً . فقلت : نعم ، سمعتُهم يقولون : إنك الدجّال . فقال : والله لئن قلتَ ذلك إني لأجِدُ في عيني اليمنى ضَعْفاً منذ أيام .
وكان رافضياً يَدِين بالرَّجْعَة ، ويقول بإمامة محمد بن الحنفية ، والروافض يزعمون أنه دخل في شِعْب باليمن في أربعين من أصحابه ، ولا بدَ من ظهوره ، وفي ذلك يقول : الوافر :
ألاَ إنَ الأئمة مِنْ قُرَيشٍ . . . وُلاَةَ الْحَقِّ أرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَليٌ والثلاثَةُ مِنْ بَنِيهِ . . . هم الأسْبَاطُ لَيْسَ بهمْ خَفَاءُ
فَسِبْط سِبطُ إيمَانٍ وبِر . . . وَسِبْطٌ غَيبتْهُ كَربَلاءُوَسِبطٌ لا يَذُوق الْمَوْتَ حتى . . . يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُها اللَواء
تَغَيَّبَ لا يُرَى عنهم زَماناً . . . برَضوَى عِنْدَهُ عَسَل ومَاء
وكان خلفاءُ بني أمية يعلمون ذلك منه ، ويَلْبَسُونه عليه .
دخل يوماً على عبد الملك بن مروان فقال : نشدتك بحقِّ علي بن أبي طالب ، هل رأيت أعْشَق منك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لو سألتَني بحقّك لأخبرتُك ، نعم ، بينما أنا أسيرُ في بعض الفَلَوات إذا أنا برجل قد نَصَب حَبَائِلَه ، فقلت له : ما أَجْلَسك هاهنا ؟ قال : أهلكني وأهلي الجوع ، فنصبت حَبَائلي لأُصِيبَ لهم ولنفسي ما يكفينا سحابة يَوْمنا ، قلت : أرأيتَ إن أقمتُ معك فَأَصَبْنا صيدا ، أتجْعَلُ لي منه جزءًا ؟ قال : نعم ، فبينما نحن كذلك إذْ وقَعَتْ ظبيةٌ ، فخرجْنَا مُبْتدِرِين ، فأسرع إليها فحلها وأطلقها ؛ فقلت : ما حملك على هذا ؟ قال : دخلتني لها رِقَةٌ لشبهها بلَيْلَى ، وأنشأ يقول : الطويل :
أيا شِبْهَ لَيْلَى لا تُرَاعِي فإنَني . . . لك اليوم من وَحْشِيَّةٍ لَصَدِيقُ
أقول وقد أطلقْتُها من وَثاقهالأنْتَ لليلى ما حَييت طليقُ
وروى الكلبي وابن دَاب أنه لمّا حَلَها قال : الخفيف :
اذهبي في كِلاءة الرَّحْمنِ . . . أنْتِ مني في ذِمَة وأَمانِ
لا تخافي بأن تُهاجي بسوءً . . . ما تَغَنَّى الحَمَام في الأغصانِ ترهبيني والجيدُ منك لِلَيْلَى . . . والحَشَا والبُغَام والعينانِ ؟
وقال قيس بن الملوّح : الكامل :
راحوا يَصِيدون الظباء وإنني . . . لأرى تَصَيُّدها عليَّ حَرَاما
أشْبَهْنَ مِنْكِ محاجراً وسوَالِفاً . . . فأرى عليَ لها بذاك ذِمَاما
أعْزِزْ عليَ بأنْ أرُوع شبيهها . . . أو أنْ يَذُقْنَ على يَدَيَ حِمَاما
ومن جيد شعر كثير : الطويل :
وكانت لِقطْعِ الْحَبْل بيني وبينها . . . كنا ذرة نَذْراً فأوْفَتْ وحَلتِ
فقلتُ لها : يا عزُ ، كل مُصيبة . . . إذا وُطنَتْ يَوْماً لها النَفْسُ ذَلَتِ
ولم يَلْقَ إنسان من الحبِّ مَيْعَةً . . . تعم ولا غماء إلاَ تَجَلَتأباحَتْ حِمَى لم يَرْعَهُ الناسُ قبلها . . . وحَلًت تِلاَعاً لم تكن قَبْلُ حُلَّتِ
هنيئاً مريئاً غَيْرَ دَاءً مُخَامر . . . لعزَةَ من أعْرَاضنا ما استحلَتِ
أسِيئي بِنَا أوْ احْسِني لا مَلُومة . . . لَدَيْنا ولا مَقْلية إنْ تَقَلَتِ
وواللَّهِ ما قاربْتُ إلاّ تباعدتْ . . . بهَجْر ، ولا استكثرت إلاّ أقلّتِ
وما مرَّ من يوم عليَّ كيومها . . . وإن عَظُمَتْ أيام أخرى وجَلَتِ
فيا عجباً للقَلْبِ كيف اعترافُه . . . وللنفس لما وُطِّنت كيف ذَلَتِ
وإنّي وتَهيامي بعزَّة بعدما . . . تخلَّيْتُ ممّا بَيْنَنا وتَخَلَّتِ
لكالمرتَجِي ظلَّ الغمامة ، كلما . . . تبوَّأ منها للمَقِيلِ اضْمَحلَّتِ
وكان كثير قصيراً دميماً ، ولذلك قال : الطويل :
فإنْ أكُ معروقَ العِظام فإنني . . . إذا ما وَزَنْتُ القومَ بالقومِ وَازِنُ
ودخل كثير على عبد الملك بن مروان في أول خلافته ، فقال : أنت كثير ؟ فقال : نعم ، فاقتحمه ، وقال : تَسْمَع بالمعَيْدي لا أنْ تَراه ؛ فقال : يا أميرَ المؤمنين ، كلّ إنسان عند محلّه رَحْبُ الفِناء ، شامخُ البناء ، عَالي السناء ، وأنشد يقول : الوافر :
ترى الرجل النحيفَ فتَزْدَرِيه . . . وفي أثوابه أسَد هَصُورُ
وَيُعْجِبُك الطَّرِيرُ إذا تراهُ . . . فيُخْلِفَ ظنك الرجلُ الطريرُ
بُغَاثُ الطير أطولها رِقاباً . . . ولم تَطُلِ البُزاة ولا القصور
خَشاشُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً . . . وأم الباز مِقْلاَة نَزُورُ
ضِعافُ الأُسْدِ أكثرُها زئيراً . . . وأصْرَمُها اللَواتي لا تَزيرُ
وقد عَظُمَ البعيرُ بغير لُب . . . فلم يستَغْنِ بالعِظَم البعيرُيُنَوَّخُ ثم يُضْرَبُ بالهَراوَى . . . فلا عُرْف لديه ولا نكيرُ
يُقَوِّدُه الصبيُ بكلِّ أرْضٍ . . . ويصْرَعُه على الْجَنْبِ الصغير
فما عِظَمُ الرجال لهم بزَيْنٍ . . . ولكنْ زَيْنهُمْ حَسَبٌ وخِيرُ
فقال : قاتله اللّه ما أطْوَلَ لسانَه ، وأمدّ عِنَانه ، وأَوْسع جَنانه ؛ إني لأحسبه كما وصف نفسه .
في الطول والقصَر
وأنشد أحمد بن عبيد اللّه الشاعر قديم : الطويل :
وعاذلةٍ هبَّتْ بليل تَلُومُني . . . ولم يغتمرني قَبْلَ ذاك عَذولُ
تقول : اتئدْ لا يَدْعُك الناسُ مُمْلِقاً . . . وتُزْرِي بمَنْ يا ابْنَ الكرام تَعولُ ؟
فقلتُ : أبَتْ نفس عليَّ كريمةٌ . . . وطارقُ ليل عند ذاكَ يَقُولُ
ألم تعلمي يا عَمْرَكِ اللَّه أنني . . . كريمٌ على حين الكرامُ قليلُ
وأني لا أخْزَى إذا قيل مُمْلِق . . . سَخِي ، وأخْزَى أنْ يُقالَ بخيلُ
فلا تَتْبَعي النفسَ الغويةَ وانظرِي . . . إلى عُنْصُرِ الأحساب كيف يَؤُولُ
ولا تَذْهَبْن عيناكِ في كل شَرْمَحٍ . . . له قَصَبٌ جُوفُ العِظام أسيلُ
عسى أن تَمَنَى عرسُه أنني لها . . . به ، حين يشتدُّ الزمانُ ، بَدِيلُ إذا كنتُ في القوم الطوال فطُلْتُهُمْ . . . بعارفةٍ حتى يقال طويلُ
ولا خيرَ في حُسْنِ الجسوم وطولها . . . إذا لم تَزِنْ حُسْن الجُسوم عقولُ
فكائنْ رأينا من فروع طويلة . . . تموت إذا لم تُحيِهِنَّ أصول
فإلاّ يَكُنْ جسمي طويلاً فإنني . . . له بالفِعَال الصالحاتِ وَصولولم أرَ كالمعروفِ : أمَّا مَذاقُه . . . فحُلوٌ ، وأماَّ وَجْهُهُ فجميلُ
وقال ابن الرومي : الخفيف :
ونَصِيفٍ من الرجال نحيفٍ . . . رَاجح الوَزِن عند وَزنِ الرجال
في أُناسٍ أوتوا حلومَ العَصافي . . . ر فلم تُغنِهِم جسوم البِغَالِ
أخذه من قول حسان بن ثابت ؟ وقال له بنو الديان الحارثيون : قد كنَّا نحن نَطول بأجسامنا على العرب حتى قلت : البسيط :
دَعوا التَّخاجؤَ وامشوا مشيَةً سجحاً . . . إنَ الرجال ذوو قدَ وتَذْكير
لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظمٍ . . . جِسمُ البغالِ وأحْلاَمُ العَصافيرِ
فتركتنا لا نرى أجسامَنا شيئاً .
والعربُ تمدح الطول ، وتثني عليه ، وقال عنترة بن شداد : الكامل :
بَطَلٌ كأنَّ ثِيَابَه في سَرحَة . . . يُحْذَى نِعَالَ السبْت لَيس بتَوْأمِ
قوله : ليس بتوأم يريد ليس ممن زوحم في الرَّحم فضعف ، كما قال الشعبي ، وقد دخل على عبد الملك بن مروان ، فجعل ينظُرُ إليه ، وكان الشعبي قد وُلد توأماً مع أخيه ، فكان نحيفاً ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني زُوحمت في الرحم ، وقال : الطويل :
ولمّا التقى الصفَّانِ واختلف القَنَا . . . نِهَالاً ، وأسبابُ المنايا نِهالها
تبين لي أنّ القماءةَ ذِلّةٌ . . . وأنَّ أعزاء الرجال طِوالُها
وقال أبو نواس : الطويل :
وكنّا إذا ما الحائنُ الْجَدِّ غرَّهُ . . . سَنَى بَرْقِ غادٍ أو ضجيجُ رِعَادِ
ترَدَّى له الفضلُ بن يحيى بن خالدٍ . . . بماضي الظبَى يَزْهاه طولُ نجادِ
أمام خميس أرجوانٍ كأنهُ . . . قَميص مَحُوكٌ من قناً وجِيَادٍومن هذا البيت أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : المتقارب :
ومَلموَمة زرد ثَوبهَا . . . ولَكِنهُ بالقَنا مخمَل
رجع إلى كثير عزة
ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان وهو عَليل ، وأهلُه يتمنون أنْ يتبسًم ، فقال : لولا أنّ سرورك لا يتمّ بأن تَسلَم وأسقم لدعوت اللهَ أن يصرف ما بك إلي ، ولكني أسألُ الله أيها الأمير العافيةَ لك ولي في كنَفك ؛ فضحك وأمر له بمال فخرج وهو يقول : الكامل :
ونعودُ سيدنا وسيِّدَ غيرنا . . . ليت التشكّي كانَ بالعُوَادِ
لو كان تُقْبَلُ فِدْيةٌ لفديتهُ . . . بالمصطَفى من طارِفي وتِلاَدي
قال محمد بن سلام الجمحي : قال أبي : ذاكرتُ مروان بن أبي حَفْصة شِعرَ جرير والفرزدق وكثير ، فذهب إلى تقديم كثير ، وجعل يُطْرِيه ويقول : هو أمدحهم للخلفاء ، فقلت : أمِنْ جودة مدحه للخلفاء قوله لعبد الملك بن مروان : الطويلَ :
ترى ابنَ أبي العاصي وقد صُفّ دونهُ . . . ثمانون ألفاً قد تَوافَتْ كمولها
يقلِّب عينَي حية بمفَازَةٍ . . . إذا أمكَنته شَدّةٌ لا يُقيلها ؟
فقال هذا للخليفة ودونه ثمانون ألفاً ، وجعله يقلّب عيني حية .
وقوله : الطويل :
وإنَ أميرَ المؤمنين هو الذي . . . غَزَا كامناتِ الودِّ مني فنالها
زعم أن أمير المؤمنين استعطفَه حتى غَزَا كامناتِ صَدْره .
وقوله لعبد العزيز بن مروان : الوافر :
وما زالَتْ رُقاكَ تَسُل ضِغْني . . . وتخُرِجُ من مَكَامنها ضِبَابي
ويَرْقيني لك الحاوون حتى . . . أجابَك حَيّة تحت الحجابِ
زعم أن عبد العزيز تَرَضَّاه ، واحتال له ورقَاه ، حتى أجابه ؛ أكَذَا تُمدَح الملوك ؟ فأسْكَته .فصول قصار
من كان له من نَفْسِه واعظ ، كان من الله عليه حافظ . العبد حرٌ إذا قَنَع ، والحُرُ عبدٌ إذا طمع . الأماني تَخْدَعك ، وعند الحقائق تَدَعك . إذا كان الطمعُ هلاكاً ، كان اليأسُ إدراكاً . ليس يُعَدٌ حكيماً ، من لم يكن لنفسه خَصِيماً . تعزَ عن الشيء إذا مُنِعْتَه ، بقلة ما يصحبك إذا مُنحْتَه . تجرَعْ مَضَض الصبر تطفئ نار الضر . الحكمة حفظُ ما كلفت ، وتَرْكُ ما كفيت . الصَّبْرُ عن محارِم اللّه ، أيْسر من الصبر على عذاب اللّه .
شذور لأهل الصِّرّ في معانٍ شتَّى
قطعة من كلام الأمير قابوس بن وَشْمَكير شمس المعالي في أثناء رَسائِله : بزَنْد الشفيع تُورِي نار النجاح ، ومن كفّ المفيض يُنتظر فوز القِداح ، الوسائل أقدام ذوي الحاجات ، والشفاعات مفاتيحُ الطلِبَات . العفو عن المجرم من مُوجبات الكرم ، وقَبُول المعذرة من محاسن الشَيَم . وبالقوادم والخوافي قُوَةُ النجاح ، وبالأسنّة والعًوَالي عمل الرماح . الدنيا دار تغرير وخداع ، وملتقى ساعة لوداع ، والناس مُتَصرّفون بين كلّ وِرد وصدَر ، وصائرون خبَراً بعد أثر . غايةُ كل متحرك إلى سكون ، ونهاية كل متكون أَلاَ يكون ، وآّخر الأحياء فناء والجزع على الأموات عَنَاء ، وإذا كان ذلك كذلك ، فلِمَ التهالك على الهالك ؟ حشْوُ الدهر أحزان وهموم ، وصَفْوُه من غير كدر معدوم . إذا سمح الدهر بالْحِبَاء ، فأبْشر بوشْك الانقضاء ، وإذا أعار ، فاحسبه قد أغار . الدهر طعمان ؛ حلو ومر ، والأيام ضربان ؛ عُسْر ويسر . لكل شيء غاية ومنتهى ، وانقطاع وإن بلغ المدى . تَرْكُ الجواب ، داعيةُ الارتياب ، والحاجة إلى الاقتضاء ، كسوف في وجه الرجاء . هم المنتظر للجواب ثقيل ، والمدى فيه وَإن كان قصيراً طويل . النجيب إذا جرى لم يشق غباره ، وإذا سرى لم تلحق آثاره . ومن أيْنَ للضباب صَوْب السحاب ، وللغراب هُوِيّ العقاب ، وهيهات أن يكتسب الأرض لطافة الهواء ، ويصير البدر كالشمس في الضياء .
شمس المعالي ابن وشمكير
وقد ترجم عن شمس المعالي أبو منصور الثعالبي في كتاب ألفه له ؛ قال في أوله : أما على أثر حَمدِ الله الذي هو أولُ كتابه ، وآخرُ دعوى ساكني دَار ثَوابه ، والصلاةِ على خيرته من بريتِه ، وعلى الصَفْوةِ من ذريته ، فإن خيرَ الكلام ما شغل بخِدمَة مَن جمع اللهُ لهعِزَةَ المُلْكِ إلى بَسْطَةِ العلم ، ونورَ الحكمة إلى نفوذِ الحكم ، وجَعَلَه مميَّزاً على ملوكِ العصر ، ومدبِّرِي الأرضِ ووُلاة الأمر ، بخصائص من العَدْلِ ، وجلائلَ من الفضل ، ودقائقَ من الكرَمِ المَحْضِ ، لا يدخلُ أيسرُها تحت العادات ، ولا يُدْرَك أقلُها بالعبارات ؛ ومحاسنُ سِيَرِ الأنام ، تَحْرُسها أسِنّةُ الأقلام ، وتدرسها ألسنةُ الليالي والأيام ، وهذه صفة تُغني عن تشبيه الموصوف لاختصاصه بمعناها ، واستحقاقه إياها ، واستئثاره على جميع الملوك بها ، ولعِلْم سامعها ببديهة السّماع أنها للأميرِ ، شمسِ المعالي ، خالصةً وعليه مقصورة ، وبه لائقة ، وعن غيره نَافِرة ؛ إذ هو - بِمُعَاينة الآثار ، وشهادة الأخيار ، وإجماع الأولياء ، واتفَاقِ الأعداء - كافلُ المجد ، وكافي الخَلق ، وواحدُ الدهر ، وغُرَّة الدنيا ، ومفزَع الوَرَى ، وحسنَةُ العالم ، ونكْتَةُ الفَلكِ الدائر ؛ فبلّغه الله أقصى نهايةِ العمر ، كما بلّغه أقصى غايةِ الفخر ؛ وملكه أزِمَة الأمر ، كلّما ملَّكه أعِنَة الفضل ؛ وأدام حُسْنَ النظر للعباد والبلاد ، بإدامة أيامه التي هي أعيادُ الدَّهْرِ ، ومواسم اليُمن والأمْنِ ، ومطالع الخير والسَّعْدِ ، وزاد دولَتَهُ شباباً ونموًّا ، كما زادهُ في الشرف عُلوًّا ، حتى تكون السعاداتُ وَفْدَ بابه ، والبشائر قِرَى سَمْعِهِ ، والمسارّ غِذَاءَ نفسه ، ويترامَى به الإقبالُ إلى حيث لا يبلُغه أمل ، ولا يَقطَعَه أجل .
نَحَا في قوله : وهذه صفة تُغني عن الموصوف إلى قول أبي الطيب يَرْثي أُختَ سيف الدولة : البسيط :
يا أخْتَ خَيْرِ أخٍ يا بنْتَ خَيْرِ أبِ . . . كنايةً بهمَا عن أشْرَفِ النَسَبِ
أجلُ قَدْرَكِ أن تُسْمَيْ مُؤَثثةً . . . ومَنْ دعَاكِ فَقَدْ سَمَاكِ لِلْعَرَبِ
ومن شمس المعالي يقول الأمير أبو الفضل الميكالي : الرجز :
لا تَعْصِيَنْ شَمْسَ العُلاَ قابوساً . . . فمن عَصَى قابوسَ لاقى بوسا وله يقولُ بديعُ الزمان في قصيدة نظمها في تضاعيف رسالةٍ موشحة : الخفيف :
إن مَنْ كنت من مُناه بمَرْأَى . . . وتعدّاك سيّءُ الاقتراحِ
بين بِشْرٍ يَرُدُّ غائِضَ جاهي . . . وقَبُولٍ يُعيد رِيشَ جناحِي
وبساطِ ورَدْتُ مَشْرَعة الأُن . . . س به وادرَعتُ بُرْد النجاحِ
فاقْض أوْطَاراً التَقتْ والمَعَالي . . . في نظام من النُهَى وتَصاحِ
ملك دُونَه تقطَّعُ أبصا . . . ر الليالي يَوْمَا نَدى وكِفَاحِ
ملك لو يشاءُ مَد على النَّج . . . م رِوَاقاً ورَدَّ وفْدَ الريَاحتارةً في خُشونَةِ الدَّهْرِ تَلْقا . . . ه وطوراً في حُسْنِ ذات الوِشَاحِ
ملك كلَّما بَدَا نقفُ الأف . . . لاك عُجباً به وفَرْطَ ارْتِيَاحِ
هكذا هكذا تكونُ المعالي . . . طُرُقُ الجدِّ غَيْرُ طُرْقِ المزاحِ
وهي طويلةٌ ، كتبتها على طريق الاختيار .
رقعة لبديع الزمان إلى شمس المعالي ، وقد ورد حضرته : لم تَزَلِ الآمالُ - أطال اللَهُ بقاء الأمير السيد شمس المعالي ، وأدام سلطانه - تَعِدُني هذا اليوم ، والأيامُ تمطُلني بأَلسنةِ صروفِها ، على اختلافِ صنوفها ، بين حُلْوٍ استرقَني ، ومرٍّ استخفني ، وشرّ صار إليّ ، وخيرٍ صِرْتُ إليه ، وأنا في خلال هذه الأحوال أذْرَعُ الآفاقَ فأكون طوراً مَشْرِقاً للمشرق الأقصى ، وطوراً مَغْرِباً للمغرب ، ولا مطمح إلا حضرته الرفيعةْ ، وسُدَتُه المريعة ، ولا وسيلة إلاّ المنزع الشّاسع ، والأمل الواسع ؛ وقد صرت - أطال اللَّهُ بقاء الأمير مولانا - بين أنياب النوائب ، وتجشَّمْت هَوْلَ الموارد ، وركبت أكْتَافَ المكاره ، ورضعْتُ أخْلاَفَ العوائق ، ومسحت أطْراف المراحل ، حتى حضرت الحَضْرَة البهيّة أو كِدتُ ، وبلغت الأُمنية أو زِدْت ، وللأمير السيد في الإصغاء إلى المجد ، والبَسْطِ من عنان الفَضل ، بتمكين خادِمه من المجلس يَلْقَاه بقَدَمه ، والبساط يلْثِمُه بفمه ، تَفضُّله ، فلهُ الرأي العالي إن شاء الله .
وله إلى بعض الرؤساء وقد وعد بحضور مجلسه بالغداة وأمره أنْ يزف إليه ما أنشأه ، فبعث به وكتب إليه : مَرْحَباً بسلامِ الشيخ سيّدي ومولاي أطال اللَهُ بقاه ، ولا كالمَرْحَبِ بِطَلْعَتِه ؛ وقد وصَلت تحيَّتُه فشكرتها ، وعِدَتُه الجميلةُ بالحضورِ غدا فانتظرتها ؛ ودعوتُ الله أن يَطْوي ساعاتِ النهار ، ويزجّ الشمسَ في المَغَار ، ويُقَرَب مسافَة الفَلكِ الدَّوَار ، ويَرْفَع البركة من سيره ، ويجهز الحركة إلى دوره ؛ ويُسِرّني بوفْدِ الظلام وقد نزل ، ثم لم يَلْبَثْ إلا ريثما رَحَل ؛ وقد بعثتُ بما طلب سمعاً لأمره وطاعة ، والنسخة أسقمُ من أجْفان الغَضْبان ، والشيخ سيدي - أدام اللَّهُ عزه - يُرْكِضُ قلمه في إصلاحها ، وحبَّذا هو في غدٍ ، وقد طلع كالصبح إذا سطع ، والبرق إذا لمع : الكامل :
يا مرحباً بغَدٍ ويا أهلاً بهِ . . . إن كان إلمامُ الأحبةِ في غدِ
وله إلى أبي الطيب سهل بن محمد يسأله أن يصله بأبي إبراهيم إسماعيل بن أحمد : لو كان للكرم عن جَنابِ الشيخ مُنْصَرَفٌ لانْصَرَفْت ، أو للأمل مُنحَرَف إلى سواه نْحَرَفت ، أو للنجح بابٌ سواه لَوَلجت ، أو للفضل خاطبٌ غيره لزوجت ، ولكِن أبى اللهأنْ يعقدَ إلاّ عليه الخنصر ، أو يتحلى إلا بفواضله الدهر ، ولا يزال كذا يتسِم المجدُ بِسِمَته ، ويجذب العلاءَ بهمته ، ويُسعِدُ الدينَ بنظره ، والدنيا بجماله ، وغلامُه أنا لو استعار الدهر لسانا ، واتّخذ الريح تَرجُمانا ، ليُشِيع إنعامَه حقّ الإشاعة ، لقَصُرَت به يَدُ الاستطاعة ، فليس إلا أن يلبس مكارمه صافيةً سابغة ، ويَرِدَ مشارِعَه صافيةً سائغة ، ويحيل الجزاء على يد قصور ، والشكر على لسان قَصِير ؛ ثم إنَ حاجاتي ، إذا لم يَعْرَ من قلائدِ المجدِ نحْرُها ، ولم يَعْطَلْ من حَلْي المجدِ صَدرُها ، كبر مَهْرُها ، وَعَز كفؤها ، ولم أجد لها إلا واحداً أخْضَر الجلدة في بيت العرب ، أو ماجداً يملأُ الدَلْو إلى عقد الكَرَب . وهذه حاجة أنا أزفها إلى الشيخ الإمام حرَص اللَّهُ مُهجَته ، وأَسوقها منظومة من الصدْرِ إلى العجزِ ، كما يساقُ الماءُ إلى الأرض الجُرُز ؛ وأنا من مفتًتح اليوم إلى مختَتِمه ، ومن قَرْنِ النهار إلى قَدَمِهِ ، قاعد كالكُرْكِي ، أو الديك الهنْدِي ، في هذا الأُدْحِي ، يمرُّ بي أولو الحلى والحلل ، ويجتاز ذوو الخَيل والخَول ، ومَا أنا والنظر إلى ما لا يَليني ، والسؤال عما لا يَعنِيني ، واليوم ، لما افتضضنا عُذرة الصباح ، ملأتُ جفوني من مَنظَرٍ ما أحْوَجَه إلى عَيبٍ يَصْرِفُ عَيْنَ كمالِه ، عن جماله ، فقلت لمن حضر : مَنْ هذا ؟ فأخذوا يحركون الرؤوسَ استظرافاً لحالي ، ويتغامزون تعجباً من سؤالي ، وقالوا : هذا الشيخُ الفاضلُ أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بن أحمد ، فقلت : حَرَسَ اللهُ مُهجَته ، وأدام غِبْطته ؛ فكيف الوصولُ إلى خِدْمَته ، وأنى مَأتى معرفته ؟ قالوا : إن الشيخ الإمام - أدام الله تأييده - يضربُ في مَودته بالقِدْحِ المُعَلَى ، ويَأخُذ في معرفته بالحظ الأعلى ، فإن رأى الشيخ - أطال الله بقاه - أن تُجعَل عنايتُه حَرْفَ الصلة ، وتفضّله لاَمَ المعرِفَة ، فَعَلَ ، إن شاء الله .
البرامكة
قال الرشيد ليحيى بن خالد : يا أبتِ ، إني أردتُ أن أجعل الخاتم الذي في يد الفَضل إلى جعفر ، وقد احتشمت منه فاكفِنِيه .
فكتب إليه يحيى : قد أمر أميرُ المؤمنين - أَعلَى الله أمره - أن يحول الخاتم من يمينك إلى شمالك .فأجاب الفضل : قد سَمعتُ ما قاله أمير المؤمنين في أخي ، وقد اطلعت على أمره ، وما انقلَبَتْ عني نعمةٌ صارت إليه ، ولا غَرَبت عني رتبة طلعَتْ عليه .
فقال جعفر : لله أخي ما أَنْفَسَ نفسه ، وأَبيَن دلائل الفضل عليه ، وأقوى مُنَة العَقْل فيه ، وأَوْسع في البلاغة ذَرْعَه ، وأَرْحَبَ بها جنابه . يُوجب على نفسه ما يجب له ، ويَحْمِلُ بكرمه فوق طاقته .
وذُكِر جعفرُ بن يحيى في مجلس ثُمامَة بن أشرس فقال : ما رأيت أحداً من خَلْق الله كان أبْسَطَ لساناً ، ولا أَلْحَن بحجّة ، ولا أقدر على كلام ، بنَظْمٍ حَسَنٍ ، وألفاظٍ عذبة ، ومَنْطق فصيح ، من جعفر بن يحيى ، كان لا يتوقف ، ولا يتحبس ، ولا يَصِلُ كلامه بِحَشْوِ من الكلام ، ولا يُعِيدُ لفظاً ولا معنى ، ولا يَخْرجُ من فنّ إلى غيره ، حتى يبلغ آخِرَ ما فيه ؛ وكان لا يرى شيئاً إلا حكاه ، ولا يَحْكي شيئاً إلاّ كان أكثر منه ، ولا يمُرُ بذهنه شيء إلاّ حفظه ، وكان إذا شاء أضحك الثكْلَى ، وأَذْهَل الزاهد ، وخشَن قَلْبَ العابد .
قلت : فكيف كانت معرفته ؟ قال : كان من أعلم الناس بالخبر الباهر ، والشعر النادر ، والمثل السائر ، والفصاحة التامة ، واللسان البسيط . قال سهل بن هارون ، وذكر يحيى بن خالد وابنه جعفراً ، فقال : لو كان الكلام مُتصوَراً دُرُّاً ، ويُلْقيه المنطق جَوْهَراً ، لكان كلامَهُمَا ، والمنتقى من ألفاظهما . ولقد غَبَرت معهما ، وأدرَكْتُ طبقة المتكلمين في أيامهما ، وهم يَرَوْن البلاغة لم تُسْتَكْمَلْ إلاّ فيهما ، ولم تكُنْ مقصورةً إلاّ عليهما ، ولا انقادت إلاّ لهما . وإنهما للُبابُ الكرم ، عِتْقَ منظرٍ ، وجودةَ مَخْبرٍ ، وسهولَةَ لفظِ ، وجزالة منطق ، ونزاهة نفس ، وكمال خصال ؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهما ، والمأثورِ من خصائصها جميعَ أيامِ مَنْ سواهما من لدُنْ آدم إلى أن يُنْفَخَ في الصور ، ويبْعث أهل القبور - حاشا أنبياء اللّه الكرام ، وسَلَفِ عباده الصالحين - لما باهت إلاّ بهما ، ولا عَوَلت في الفخر إلاّ عليهما ، ولقد كنا - مع تهذيب أخلاقهما ، ومَعْسُول مَذَاقهما ، وسنا إشراقهما ، وكمالِ الخيرِ فيهما - في محاسن المأمونِ كالنقْطَة في البحر ، والخَردَلِ في القَفْرِ .
ووقع جعفرُ بن يحيى لرجو اعتذر عنده من ذنب : قد قدمَتْ طاعَتك ، وظهرت نصيحتك ، ولا تغلب سيئة حسنتين .ووَقَع - وقد قرأ كتاباً فاستحسن خطّه - : الخطُ خَيْطُ الْحِكمة ، يُنْظَمُ فيه منثورُها ، ويفصل فيه شذُورُها .
واختصم رجلان بحضرته ، فقال لأحدهما : أنت خلِيّ ، وهذا شَجِي ؛ فكلامك يجْرِي على بَرْدِ العافية ، وجوابُه يَجْرِي على حَرِّ المصيبة .
ودخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده : الطويل :
ابرُ فما تَرْجُو الْجِيادُ لحَاقهُ . . . أبو الفضل سَبَّاقُ الأضامِيم جَعْفَرُ
وزيرٌ إذا ناب الخلافةَ حادِثٌ . . . أشار بما عنه الخلافةُ تَصْدُرُ
فقال جعفر : أنشدني مرثيتك في مَعْنِ بن زائدة ، فأنْشَدَهُ : الوافر :
أقَمْنَا باليمامة أو نَسينا . . . مقاماً ما نُرِيدُ به زَوالا
وقلنا : أينَ نذهبُ بعد مَعْنٍ . . . وقد ذهب النَوَالُ فلا نَوَالا ؟
وكان الناسُ كلُهم لمَعْنٍإلى أن زار حُفْرَتَهُ عِيَالا
حتى فرغ من القصيدة ، وجعفر يُرْسِل دموعه على خدّيه ، فقال : هل أثابك على هذه المرثية أحدٌ من أهْلِ بيته وولده ؟ قال : لا ، قال : فلو كان معن حيًّا ، ثم سمعَها منك ، كم كان يُثنيك عليها ؟ قال : أربعمائة دينار ، قال : فإنَما كنَّا نظنّ أنه لا يَرْضَى لك بذلك ، وقد أمرنا لك عن مَعْن - رحمه الله - بالضّعف مما ظننته ، وزِدْناك مثلَ ذلك ؛ فاقْبِض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تخرج ، فقال مروان - يذكر جعفراً وما سمح به عن معن - : الوافر :
نَفَحْتَ مُكافِئاً عن جُودِ مَعْنٍ . . . لنا فيما تَجُودُ به سِجَالا
فعجلْتَ العطية يا ابْنَ يحيى . . . لنادِبهِ ولم تُرِدِ المِطَالا
فكافأ عن صَدَى معْنٍ جَوَادٌ . . . بأَجْوَدِ راحةٍ بَذَلتْ نَوَالا
بَنَى لك خالدٌ وأبوك يحيى . . . بناءً في المكارمِ لَنْ يُنالا
كأن البرمكيّ لكل مالٍ . . . تجودُ به يداه يُفيد مَالا
أخذ هذا من قول زهير : الطويل :
تَرَاه إذَا ما جِئْتَه مُتَهَلَلاً . . . كأنكَ تُعْطِيه الَذِي أنْتَ سائِلُهْوهذا البيت لزهير من قصيدة يقول فيها :
وَذِي نِعْمَةٍ تَمَّمْتها وشكرتها . . . وخَصْمِ يكادُ يغِلبُ الحقَّ باطلُهْ
دفعتُ بمعروفٍ من الحق صائبٍ . . . إذا ما أضَلَّ القائلين مَفَاصِلُهُ
وذي خطل في القول يَحْسَبُ أنه . . . مُصيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائِلُهْ
عَبَأْتُ له حلماً ، وأكرمت غيرهُ . . . وأعرضتُ عنهُ وهو بادٍ مَقاتِلُهُ
وأبيضَ فيّاضٍ يَدَاهُ غَمامَةٌ . . . على مُعْتَفيهِ ما تُغِبُّ نَوافِلُهْ
غَدَوْتُ عليه غَدْوَةً فرأيْتُهُ . . . قُعُوداً لَدَيْهِ بالصَريمِ عَواذِلُه
يُفَدِّينَهُ طَوْراً ، وطَوْراً يَلُمْنَهُ . . . وأعْيا فما يَدْرِينَ أينَ مَخاتلهْ
فأعْرَضْنَ عنه عن كريم مُرَزَّإ . . . جَمُوح على الأمرِ الذي هو فاعلُهْ أخِي ثِقَةٍ لا يُذْهِبُ الخمرُ مَالَهُ . . . ولكنّه قد يُذْهِبْ المالَ نائِلُهْ
قال أبو الفرج قُدامةُ بن جعفر ، في معنى أبيات زهير الأولى : لما كانت فضائلُ الناسِ من حيث هم ناس ، لا من طريقِ ما هم مشترِكون فيه مع سائر الحيوان ، على ما عليه أهلُ الألباب من الاتّفاق في ذلك ، إنما هي العقلُ والعفةُ والعَدْلُ والشجاعة ، كان القاصد للمَدْح بهذه الأربعة مُصِيباً ، وبما سواها مخطئاً ؛ وقد قال زهير :
أخي ثقةٍ لا يُتْلِفُ الخمرُ مالَهُ . . . ولكنه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
فوصفه بالعفَة لقلّةِ إمعانه في اللذات ، وأنه لا يُنْفد فيها ماله ، وبالسخاء لإهلاك ماله في النوال ، وانحرافه إلى ذلك عن اللذّات ، وذلك هو العدل ، ثم قال :
تراه إذا ما جِئْتَه مُتَهَلِّلاً . . . كأنّك تُعْطِيه الذي أنتَ سائِلُهْ
فزاد في وَصْفِ السخاء بأنه يَهَش ولا يلحقه مضَض ولا تكَرُّهٌ لِفعْله ثم قال :
فَمَنْ مثلُ حِصْنٍ في الحروب ومِثْلهُ . . . لإنكار ضَيْم أو لأمْرٍ يُحاوِلُه
فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل ؛ فاستوفى ضروبَ المدحِ الأربعة ، التي هي فضائلُ الإنسان على الحقيقة ، وزاد الوفاءَ ، وإن كان داخلاً في الأربعة ؛ فكثير من الناس لا يعلم وَجْهَ دخوله فيها حيث قال : أخي ثقة فوصفه بالوفاء ؛ والوفاءُ داخل في هذه الفضائل التي قدّمناها .وقد يتفنن الشعراء فيعدّون أنواعَ الفضائل الأربع وأقسامها ، وكلّ ذلك داخل في جملتها ؛ مثل أن يذكروا ثقابَةَ المعرفة ، والحياءَ ، والبيانَ ، والسياسة ، والصدْعَ بالحجة ، والعلم ، والحلم عن سفاهة الْجَهَلةِ ؛ وغير ذلك ممّا يَجْرِي هذا المجرى ، وهو من أقسام العقل . وكذكرهم القناعة ، وقلّة الشَرهَ ، وطهارة الإزار ؛ وغير ذلك أيضاً من أقسام العِفة . وكذِكْرِهم الحماية ، والأخْذَ بالثَّار ، والدفاع ، والنكايةَ ، والمهابة ، وقَتْلَ الأقران ، والسير في المَهَامِه والقفار ؛ وما يشاكلُ ذلك ، وهو من أقسام الشجاعة ؛ وكذِكرهم السماحة ، والتغابن ، والانظلام ، والتبرّع بالنائل ، وإجابة السائل وقِرَى الأضياف ؛ وما جانس هذه الأشياء ، وهو من أقسام العدل .
فأمّا تركيب بعضها على بعض فتحدث منها ستة أقسام : يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة : الصبرُ على الملمات ، ونوازِلِ الخطوب ، والوفاءُ بالوعود . وعن تركيب العقل مع السخاء : إنجازُ الوعد ، وما أشبه ذلك . وعن تركيب العقل مع العفة : التنزه والرغبةُ عن المسألة ، والاقتصار على أدنى معيشة ، وما أشبه ذلك . وعن تركيب الشجاعة مع السخاء : الإخلاف ، والإتلاف ، وما أشبه ذلك . وعن تركيب الشجاعة مع العفة : إنكارُ الفواحش ، والغيرةُ على الحُرَم . ومن السخاء مع العفة : الإسعاف بالقوت ، والإيثارُ على النفس ، وما شاكَلَ ذلك . وكل واحدة من هذه الفضائل الأربع وَسَط بين طرفين مذمومين .
وقد قال أبو جعفر محمد بن مناذر لمّا حجَ الرشيد مع البرامكة : الطويل :
أتانا بنو الأملاكِ مِنْ آلِ بَرْمَكٍ . . . فيا طِيبَ أخْبَارٍ ، ويا حُسنَ مَنظرِ
لهم رِحْلة في كلّ عام إلى العِدا . . . وأُخْرى إلى البيتِ العتيقِ المُشَهّرِ
فتُظلِم بغداد ، ويَجْلو لنا الدُّجَى . . . بمكةَ ما حَجوا ثلاثةُ أقمُرِ
إذا نزلوا بطحاءَ مكة أشرقَتْ . . . بيَحْيَى وبالفضل بن يحيى وجعفرِ
فما خُلِقَتْ إلا لجودٍ أكفُهم . . . وأقدامُهم إلا لأغوَادِ مِنبَرِ
إذا راضَ يحيى الأمرَ ذَلَتْ صِعَابهُ . . . وحَسْبُك مِن راعِ له ومدبرِ
ترى الناسَ إجلالاً له وكأنهم . . . غَرانِيقُ ماءً تحت بازٍ مُصَرصِرِمذهب التجنيس في الغزل
قطعة من شعر الأمير أبي الفضل الميكالي في طَرف أخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل ، قال : الطويل :
لقد راعني بَحْرُ الدُّجَى بصُدُودهِ . . . ووَكَّلَ أجفاني بِرَعي كواكِبِهْ
فيا جَزَعي ، مَهْلاً عَساهُ يَعودُ لي . . . ويا كَبِدي ، صَبْراً على ما كَواكَ بِهْ
وقال : الطويل :
مواعيده في الفَضْل أحلامُ نائم . . . أشَبِّهُهَا بالقَفْرِ أو بِسَرَابِهِ فمَنْ لي بوَجْهٍ لو تَحَيرَ في الدُجَى . . . أخُو سَفَرٍ في ليل غَيْمٍ سَرَى بِهِ
وقال : الخفيف :
صِل محبًّا أعياه وَصْف هواهُ . . . فضَناه يَنُوبُ عن ترُجمانِه
كلّما راقهُ سِواكَ تَصَدَتْ . . . مُقْلَتاهُ بدمعةِ تَرْجُمانِه
وقال : السريع :
يا ذا الذي أرسل من طَرْفِه . . . عليّ سَيْفاً قْدني لو فَرَا
شفاءُ نفسي منك تخميشةٌ . . . تَغْرِسُ في خدّك نَيْلَوْفَرا
وقال : الكامل :
يا مُبْتَلًى بضناه يَرْجُو رحمةً . . . من مالكٍ يشفيه من أوْصابهِ
أوصاك سِحْرُ جفونه بتسهُد . . . وتبلّد ، فقبلت ما أوْصَى به
اصْبِر على مَضَضِ الهوى فلرَبما . . . تَحلُو مرارةُ صبرهِ أوصابه
وقال : الوافر :
كتبْتُ إليه أستهدي وِصالاً . . . فعلَلني بوَعْدِ في الجوابِ
ألا ليت الجوابَ يكون خيراً . . . فيطفئ ما أحاط من الجوَى بي
وقال : الكامل :
إنْ كنتَ تأنَسُ بالحبيبِ وقُربه . . . فاصْبر على حُكمِ الرقيبِ ودارِهِ
إن الرقيبَ إذا صبرت لحكمه . . . بَواكَ في مَثْوَى الحبيبِ ودَارِهِوقال : الطويل :
شكوتُ إليه ما ألاقي فقال لي : . . . رُوَيداً ، ففي حُكم الهوَى أنْتَ مُؤتلي
فلو كان حقاً ما ادَّعيت مِنَ الهوى . . . لقل بما تلقَى إذاَ أن تموتَ لي
وقال : الوافر :
نَوى لي بعد إكثارِ السؤال . . . حبيب أنْ يُسامحَ بالنوَالِ
فلما رُمْتُ إنجازاً لوعدي . . . عليه أبى الوفاءَ بما نَوَى لي
وكان القربُ منه شفاءَ نفسي . . . فقد قضتِ النوائبُ بالنَّوَى لي
وقال : البسيط :
سقياً لدهرٍ مضَى والوصلُ يجمَعُنَا . . . ونحنُ نحكِي عِناقاً شكل تَنْوينِ
فصرْتُ إذ عَلِقَتْ كفّي حَبَائِلكُم . . . فسَهْمُ هجرك تَرْمِي ثم تَنْويني
وقال : مجزوء الكامل :
صَدَفَ الحبيبُ بوَصْلهِ . . . فجفَا رُقَادِي إذْ صَدَفْ
ونثرت لؤلؤ أدمُع . . . أضْحَى لها جَفْني صَدفْ
وقال : الكامل :
يا مَنْ يقولُ الشعرَ غَيْرَ مهذّبٍ . . . ويَسُومُني التعذيبَ في تهذيبهِ
لو أنّ كل النَّاس فيك مُسَاعِدِي . . . لعجزت عن تهذيبِ ما تَهْذِي بهِ
وقال : السريع :
أراد أن يُخْفِي هَوَاهُ وقَدْ . . . نمَ بما تُخْفي أسَاريرُهُ
وكيفَ يُخْفي داءَه مُدْنَفٌ . . . قد ذاب من فرْط الأسَى رِيرُهُ
وقال : مجزوء الكامل :
ومهفهف تهفُو بِل . . . ب المرء منْه شَمَائِلُ
فالرّدْفُ دِعْصٌ هائلٌ . . . والقَدُ غُصنٌ مائلُ
والخدّ نورُ شقائق . . . تنشقُّ عنه خمائلُ
والعَرْفُ نَشْرُ حَدائق . . . تمّت بهن شمائلوالطَّرْفُ سَيْف ما لهُ . . . إلاّ العِذار حَمائِلُ
ولأبي الفتح البستي في هذا المذهب : الخفيف :
إن لي في الهوى لِسَاناً كَتُوماً . . . وجَناناً يخفي حَرِيقَ جَواهُ
غير أني أخاف دَمْعِي عليهِ . . . سَتَرَاهُ يُفْشِي الذي ستَرَاهُ
ولأبي الفتح البستي في مذهب هذا البيت الأخير : الخفيف :
نَاظِرَاه فيما جَنَى نَاظِرَاهُ . . . أوْدَعاني أَمُتْ بما أَوْدَعاني
وله : المتقارب :
خُذِ العفوَ وأمُرْ بعَرْفٍ كما . . . أُمِرْتَ وأعْرِضْ عن الجاهلينْ
ولنْ في الكلام لكلِّ الأنام . . . فمستَحْسَن من ذوي الجاه لِينْ
وله : مجزوء الوافر :
إلى حَتْفِي سَعَى قَدَمِي . . . أَرَى قَدَمِي أراقَ دَمِي
فَمَا أنفَكُّ من نَدَمِي . . . وليس بنافعي نَدَمِي
وله : البسيط :
إنْ هز أقلامَه يوماً ليُعْمِلَها . . . أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عامِلَهُ
وإن أقرَّ على رَق أنامِلهُ . . . أقرَّ بالرِّق كتَّابُ الأنامِ لهُ
وقال لمن استدعاه إلى مودَّته : المتقارب : فَدَيْتُكَ قلَّ الصديقُ الصدُوق . . . وقلّ الْخَليلُ الْحَفيُّ الوفي
ولي راغب فيك إمَّا وفيت . . . فهل راغبٌ أنت في أنْ تَفِي ؟
وللأمير أبي الفضل : مخلع البسيط :
أهلاً بَظْبِي حواهُ قَصْر . . . كجنَّةٍ قد حَوَتْ نَعِيما
طَرَقْتُه لا أهاب سوءًا . . . أبَاحَني حبّه الحريما
فجاد مَنْ فيه لي برَاحٍ . . . تَنْفي حريقاً به قديما
أفْدِي حريقاً أباح رِيقا . . . لا بَلْ حَرِيماً أباح رِيمَاوله : البسيط :
مَنْ لي بشَمْل المُنَى والأُنْس أجْمًعهُ . . . بشادنٍ حَل فيه الحسْنُ أجمعُهُ
ما زال يُعْرِضُ عن وَصْلي وأَخْدَعُهُ . . . فالآن قد لاَنَ بعد الصدّ أخْدعُهُ
وقال : الكامل :
بأبي غَزال نام عَن وًصَبي به . . . ومُراقِ دَمْعي للنَّوَى وصَبِيبِهِ
يا لَيته يَرْثي على وَلَهي بهِ . . . لغرامِ قَلْبي في الهَوَى ولَهيبه
وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلاماً مخموراً خمش وجهه : الكامل :
هَبْهُ تْغَيَّرَ حائلاً عن عَهْدِه . . . ورَمى فُؤادي بالصدود فأَزْعَجَا
ما بالُ نَرْجِسهِ تحوَل وردةً . . . والوردُ في خديه عاد بَنَفْسَجا
وله في هذا المعنى : المتقارب :
وريمٍ على السُكْرِ خمّشْتُهُ . . . بقَرْص بعارضهِ أثرا
فأصبح نرْجسُه وردةً . . . ووردةُ خدَيْهِ نَيْلَوفَرا
وقال في وصف العِذار : الكامل :
ظَبْيٌ كَسَا رَأسَ الشبابِ بعارضٍ . . . نَمَ العِذارُ بحافَتيه فَلاَحا
فكأنما أهْدَى لعارضِ خدِّهِ . . . شعري ظَلاماً واستعاضَ صَبَاحا
وقال في غلام افتصد : مجزوء الكامل :
ومُهفْهفِ غرس الجما . . . لُ بخده رَوْضاً مَرِيعا
فًصَدً الطبيبُ ذِراعَهُ . . . فجرى له دَمعِي ذريعا
وأمسني وقعُ الحدي . . . د بعِرقِة ألماً وَجيعاً
فأريته من عَبْرتي . . . ما سال من دَمِهِ نجيعَا
فِقرٌ في ذكر العلم والعلماء
العلماء ورثةُ الأنبياء . والعلماءُ أعلامُ الإسلام . العلماء في الأرض كالنجوم في السماء .ابن المعتز - العلماءُ غرباء ، لكَثْرَةِ الجهل . وله : العلمُ جمالٌ لا يخفى ، ونَسَب لا يُجْفَى . وله : زَلَةُ العالم كانكِسَار سفينةٍ تَغْرق ويَغْرق معها خَلْقٌ كثير .
غيره - إذا زلّ العالم ، زَل بزلَتِه عالَم . غيره : الملوك حُكامٌ على الناس ، والعلماء حكام على الملوك . من لم يحتمل ذلَّ التعلّم ساعة ، بقي في ذلّ الجهل أبداً . مَا صِينَ العلم بمثل بَذْلِهِ لأهله . من كتم علماً فكأنه جاهلُه : مجزوء الكامل :
العلمُ يمنعَ أهله . . . أن يمنعوه أهلُه
أبو الفتح كشاجم : مجزوء الكامل :
لا تمنع العلم أمرأً . . . والعلمُ يمنعُ جانبَهْ
أمّا الغبي فليس يف . . . هم لطْفَهُ وغَرائبهْ
وتكون حاضرةُ الفوا . . . ئد عنده كالغائبهْ
وأخو الحصافة مُسْتَحِق . . . أَن ينالَ مَطَالبهْ
فبحقَه أعطيتهُ . . . مِنْ فَضْلِ علمك وَاجِبَهْ
ومن رق وجْهه عند السؤال ، رقّ عِلمُه عند الرجال . عِلْم بلا عمل ، كشجرة بلا ثمر . كما لا يُنْبِتُ المطرُ الكثيرُ الصَخْرَ ، كذلك لا ينفعُ البليدَ كثرة التعلّم . من ترفَّع بعلمه وضَعه اللَهُ بعملِهِ . الجاهلُ صغيرٌ وإن كان كبيراً ، والعالم كبيرٌ وإن كان صغيراً . من أكثر مذاكرةَ العلماء ، لم ينس ما علم ، واستفاد ما لم يعلم .
ابن المعتز : المتواضعُ في طلاب العلم أكثرهم عِلْماً ، كما أن المكان المنخفضَ أكثر البقاع ماء . إذا علمت فلا تَذْكُرْ مَنْ دونك من الجهال ، واذكُرْ مَنْ فوقَك من العلماء . النارُ لا يُنقِصُها ما أخذَ منها ، ولكن يُنْقِصُها أَلاَّ تجد حطباً ، كذلك العلمُ لا يُفْنِيه الاقتباس منه ، وفَقْدُ الحاملين له سببُ عدمه . مات خَزَنة الأموال وهم أحياء ، وعاش خُزانُ العلم وهم أموات . مثَلُ عِلم لا ينفع ككنز لا ينفَق منه . أزْهَدُ الناس في عالم جيرانُه . وقيل للصلْتِ بن عطاء ، وكان مقدماً عند البرامكة : كيف غَلَبت عليهم وعندهم مَنْ هو آدبُ منك ؟ قال : ليس للقُرَباء طَرافة الغُرَباء ، وكنت أمرأَ بعيدَ الدار ، نائي المَزار ، غريبَ الاسم ، قليلَ الجرم ، كثير الالْتِواء ، شحيحاً بالإملاء ؛ فرغَبهم فيَ رغبتي عنهم ، وزهَدني فيهم رغبتُهم في .
علم لا يَعْبُر معك الوادي ، لا يعمر بك النادي . لو سكت مَنْ لا يعلم لسقط الاختلاَف . إذا ازدحمَ الجوابُ خَفِي الصواب . الغلط تحت اللَغط . خَرقُ الإجماع خُرْق . المحجوج بكل شيء ينطق .استعارات فقهية تليق بهذا المكان
دخل أبو تمام الطائي على أحمد بن أبي دُوَاد في مجلس حكمه ، وأنشده أبياتاً يستَمْطِرُ نائِله ، وينشر فضائله ، فقال : سيأتيك ثوابُها يا أبا تمام ، ثم اشتغل بتوقيعات في يده ؛ فأحْفَظَ ذلك أبا تمام ، فقال : احضرْ ، أيّدك اللّه ، فإنك غائب ، واجْتَمِعْ فإنك مفترق ، ثم أنشده : المنسرح :
إنَّ حَرَاماً قبولُ مِدْحَتِنا . . . وتَرْكُ ما نَرْتَجي من الصَّفَدِ
كما الدنانير والدراهمُ في ال . . . صَّرْف حرام إلاَ يَداً بيَدِ
فأمر بتوفير حِبَائه ، وتعجيلِ عطائه .
ولمّا ولي طاهر بن عبد اللّه بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه ، وفيهم تمام بن أبي تمام فأنشده : السريع :
هَنَاك رَبُّ الناس هنَاكا . . . ما من جزيل الملك أعطاكا
قرَّت بما أعطِيت يا ذَا الحِجَى . . . والبأسِ والإنعامِ عَيْناكا
أشرقتِ الأرضُ بِمَا نِلْتَهُ . . . وأوْرَقَ العودُ بجَدْوَاكا
فاستضعف الجماعةُ شعره ، وقالوا : يا بُعدَ ما بينه وبين أبيه فقال طاهر لبعض الشعراء : أجبه ، فقال :
حياك ربُّ الناس حيَّاكا . . . إنَّ الذي أمَّلْتَ أخطاكا
فقلتَ قولاً فيه ما زانهُ . . . ولو رأى مَدْحاً لآساكا
فهاك إن شئتَ بها مدحةً . . . مثل الذي أعطيتَ أعْطاكا
فقال تمام : أعز اللّه الأمير ، وإنَ الشّعْرَ بالشعر رِباً ، فاجعلْ بينهما صنجاً من الدراهم ، حتى يحلّ لي ولك فضحك وقال : إلا يكن معه شعرُ أبيه ، فمعه ظرف أبيه ؛ أعطوه ثلاثة آلاف درهم فقال عبد الله بن إسحاق : لو لم يعط إلاّ لقول أبيه في الأمير أبي العباس - رحمه اللّه - يريد عبد الله بن طاهر : البسيط :
يقولُ في قَوْمَسٍ صَحْبي وقد أخذَتْ . . . منا السُّرَى وخُطَا المَهْرِيةِ القُودِ
أمطلع الشمس تبغي أن تَؤُمَّ بنا ؟ . . . فقلتُ : كلاّ ، ولكن مطلعَ الجودِ
فقال : ويعطى بهذا ثلاثة آلاف .ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان
وكان سببُ ولاية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدَّث به أبو العيناء قال : كنّا عند أحمد بن أبي دواد ، فجاء الخبر أنّ الكتبَ وردت على الواثق من خراسان بوفاة عبد الله بن طاهر ، وأن الواثق يُعَزَّى عنه ، وأنه قد ولّي مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم ، وكان عدوًّا له لانخراطِه في سِلْكِ ابن الزيات ؛ فلبس ثيابَه ومضى ، وقال : لا تبرحوا حتى أعودَ إليكم ، فلبث قليلاً ، ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد اللّه وجلس ، قال : فقال لي الواثق : قد وَلّينا إسحاق خراسان ، فما عندك ؟ قلت : وفق اللّه أمير المؤمنين ولا نذمّه . قال : قلْ ما عندك في هذا . قلت : أمر قد أُمضِي ، فما عسيت أن أقولَ فيه . قال : لَتَفْعَلنّ . فقلت : يا أمير المؤمنين ، خراسانُ منذ ثلاثين سنة في يد طاهر وابنه ، وكلّ مَن بها صنائعهُم ، وقد خَلَّفَ عبدُ الله عشرَ بنين أكثرهم رجال ، وجميعُ جيش خراسان لهم عبيد أو مَوَالٍ أو صَنَائع ، وسيقولون : أما كان فينا مُصْطَنع ؟ وكان يجب أن يجرّبَنا أميرُ المؤمنين ، فإن وَفَيْنا بما كان يَفي به أبونا وجدُّنَا ، وإلاّ استبدل منّا بعد عُذْرٍ فينا ؛ ويقدم خراسانَ إسحاقُ وهو رجل غريب فينافسه هؤلاء ، ويتعصّب أهلُها لهم ؛ فينتقض ما أُبْرِمَ ، ويفسد ما أُصلح .
قال : صدقت يا أبا عبد اللّه ، والرأي ما قلت ، اكتبوا بعهد طاهر بن عبد اللّه على خراسان . فكتبت كتبُ طاهر ، وحُرِقت كتب إسحاق ، فخرجت الزنج تطيرُ بها ، ثم لقيني إسحاق داخلاً ، فقلت : يا أبا الحسن ، لا عدمت عداوة رجل أزال عنك ولاية خراسان بكلمة . ومدح ابن الرومي أبا العباس بن ثوابة ، فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها ، فقال ابن الرومي : المتقارب :
ألَيْسَ الْقَوافي بَنَاتِ الْفَتى . . . إذا صورَةُ الحق لم تُمْسَخِ
فلا تَقبَلَنَّ أَمادِيهُ . . . حَرامٌ نِكاحُ بناتِ الأخِ
ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم :
السيف أصدق أنباء من الكتب
قال له : لقد جَلَوْتَ عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلاءَها . قال : يا أمير المؤمنين ، والله لو كانت من الحورِ العين لكان حُسْنُ إصغائك إليها من أوْفَى مُهُورِها .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الوافر :
أقول لشَادِنَ في الحُسْنِ أضْحَى . . . يَصِيدُ بلَحْظِهِ قَلبَ الكَميملكت الحسنَ أجمعَ في قوام . . . فأدّ زكاةَ منظرك البَهيّ
وذلك أن تجودَ لمُسْتَهام . . . بريق من مُقَبلِك الشَهِي
فقال : أبو حنيفة لي إمامٌ . . . فعندي لا زكاةَ على الصَبيِّ
وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال : الوافر :
أقول لشَادنِ في الحسن فَرْدٍ . . . يصيد بلحظِهِ قَلْبَ الجليدِ
ملكتَ الحسن أجمعَ في قوام . . . فلا تَمْنَع وجوباً عن وجُودِ
وذلك أنْ تجودَ لمستهام . . . برَشْفِ رُضَابك العذْبِ البَرودِ
فقال : أبو حنيفة لي إمام . . . فعندي لا زَكاة على الوليدِ
وقال : الطويل :
بنَفْسِي غَزال صار للحُسْنِ قبلةً . . . يُحَج من البيت العتيق ويُقصَدُ
دعاني الهوى فيه فلبَّيتُ طائعاً . . . وأحْرَمْتُ بالإخلاص والسَعْي يَشْهَدُ
فطرفيَ بالتسهيد والدَمْعِ قارِنٌ . . . وقلبي عليْه بالصبابة مُفرِدُ
وقال أبو الفتح كشاجم : البسيط :
فَدَيْتُ زائرةً في العيد واصِلةً . . . والهَجْرُ في غفلة من ذلك الخبرِ
فلم يزل خذُها رُكْناً أطوف بِه . . . والخالُ في خدّها يُغْني عن الحجَرِ
وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبي نصر بن المرزبان : كتابي ، أطال الله بقاء الشيخ وأنا سالم ، والحمد لله رب العالمين ، كيف تقلبُ الشيخ في درع العافية ، وأحوالُه بتلك الناحية ؛ فإني ببعده مُنغصُ شِرْعة العيش ، مقصوص أجنحة الأنس . ورد كتابه المشتملُ من خبر سلامته ، على ما أرغب إلى الله في إدامَته ، وسكنتُ إليه بعد انزعاجي لتأخُره ؛ وقد كان رَسَمَ أن أعرفه سببَ خروجي من جرجان ، ووُقوعي بخُراسان ، وسببَ غضبِ السلطان ؟ وقد كانت القصة أني لما وردتُ من ذلك السلطان حضرتَه ، التي هي كَعْبَةُ المحتاج ، لا كعبة الحجاج ، ومستقرُ الكرم ، لا مَشعَر الحرم ، وقِبْلة الصلاَتِ ، لا قبلة الصلاة ، ومُنَى الضَّيف ، لا مِنَى الخَيْفِ ، وجدت بها نُدَماء من نَبَات العام ، اجتمعوا قيضَةَ كلب على تلفيق خطب ، أزعجني عن ذلك الفِنَاء ،وأِشرف بي على الفَنَاء ، لولا ما تدارك اللّه بجميل صُنْعه ، وحسن دفعه ؛ ولا أعلم كيف احتالوا ، ولا ما الَذي قالوا ؛ وبالجملة غَيَّروا رأيَ السلطان ، وأشار علي إخواني ، بمفارقةِ مكاني ، وبقيت لا أعلم أيمنةً أضرِب أم شآمة ، ونَجْدا أقصد أم تهامة : الطويل :
ولو كنت في سَلْمى أجد وشِعابِها . . . لكان لِحَجاجٍ عليَ دليلُ وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماءٌ إذا تغيم لم يُرْجع صَحْوُه ، وماء إذا تغيَّر لم يُشرب صَفْوُه ، وملك إذا سَخِط لم يُنتظر عفوه ، وليس بين رضاه والسخط عَوْجَة ، كما ليس بين غَضَبه والسيف فَرْجة ، وليس من وراء سُخْطِهِ مجاز ، كما ليس بين الحياة والموت معه حِجاز ؛ فهو سيدٌ يُغْضبه الْجُرم الْخَفِيّ ، ولا يُرْضِيه العذر الجلي ؛ وتكفيه الجناية وهي إرجاف ، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف ، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظلّ الرمح ، ويَعْمَى عن العذر وهو أبين من عمود الصُبْح ؛ وهو ذو أذنين يسمع بهذهِ القول وهو بهتان ، ويحجب عن هذه العذر وله برهان ؛ وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح ، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح ؛ وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم ، ويغمض الأخرى عن الحلم ، فمزحه بين القَدِّ والقَطْع ، وجدّه بين السيف والنِّطْع ، ومراده بين الظهور والكمون ، وأمره بين الكاف والنون ؛ ثم لا يعرف من العقاب ، غير ضرب الرقاب ، ولا يهتدي من التأنيب إلاَ لإزالة النعم ، ولا يعلم من التأديب غير إراقة الدم ، ولا يحتمل الهَنَة على حجم الذرة ، ودقة الشعرة ، ولا يحلم عن الهَفْوَة ، كوزن الهَبْوَة ، ولا يُغْضي عن السقطة ، كجرم النقطة ؛ ثم إن النقم بين لفظه وقلمه ، والأرض تحت يده وقدمه ، لا يلقاه الولي إلاَ بفمه ، ولا العدو إلاَ بدمه ؛ والأرواح بين حَبْسه وإطلاقه ، كما أنَّ الأجسام بين حله ووَثاقِه ؛ فنظرتُ فإذا أنا بين جُودَين ؛ إما أن أجودَ ببأسي ، وإمّا أن أجود برأسي ، وبين رُكُوَبين ؛ إما المفازة ، وإمّا الجِنَازة ، وبين طريقين ؛ إما الغُرْبة ، وإمَا التربة ، وبين فِراقَيْنِ ؛ إمّا أن أُفارق أَرْضي ، أو أُفارق عرضي ، وبين راحلتين ؛ إمّا ظهور الجِمال ، وإمَا أَعْنَاق الرجال ، فاخترتُ السماح بالوَطَن ، على السماح بالبَدَن ؛ وأنشدت : الطويل :
إذا لم يكُنْ إلا المنية مَرْكَبٌ . . . فلا رَأيَ للمحمول إلا ركوبُها
وَلَدَ ما ذكر من كعبة المحتاج ، لا كعبة الْحُجّاج ، من قول أبي تمام : الكامل :
بيتان حجهُما الأنامُ ؛ فهذه . . . حجُ الغَنِيَ ، وتِلكمُ لِلْمُعْدِمأبو عليّ البصير
وشتم بعضُ الطالبيين أبا عليّ الفضلَ بن جعفر البصيرَ ، فقال أبو عليّ : والله ما نَعْيَا عن جوابك ، ولا نَعْجِزُ عن مَسَابِّك ؛ ولكنَّا نكونُ خيراً لِنَسَبِك منك ، ونحفظ منه ما أَضَعْتَ ؛ فاشكُرْ توفيرَنا ما وفَّرْنا منك ، ولا يَغُرَّنك بالجهل علينا حِلْمُنا عنك .
وسأل أبو علي البصير بعض الرؤساء حاجةً ولقيه ؛ فاعتذر إليه من تأخرها ؛ فقال أبو عليّ : في شُكْرِ ما تقدّم من إحسانك شاغلٌ من استبطاء ما تأخر منه .
وأبو عليً أحَدُ مَنْ جمع له حظُ البلاغة في الموزون والمنثور ، وهو القائلُ : الطويل :
ألمَت بنا يَوْمَ الرحيل اختلاسَةً . . . فأضرَمَ نيرانَ الهَوى النَّظَرُ الخَلْسُ
تأبتْ قليلاً وهي تُرعَدُ خِيفةً . . . كما تتأتَّى حين تَعْتَدِل الشمسُ
فخاطبها صَمْتي بما أنا مُضْمِرٌ . . . وأَنْبَسْتُ حتى ليس يُسْمَع لي حِسُ
وولَت كما ولّى الشباب لِطِيّةٍ . . . طوَتْ دونها كَشْحاً على يَأسها النفسُ
وقال يصف بلاغةَ الفتح بن خاقان وشعره : الطويل :
سَمِعنا بأشعار الملوكِ ؛ فكلُها . . . إذا عَضَ مَتْنَيْه الثقافُ تأوَدَا
سوى ما رأينا لأمْرِئ القيس ؛ إننانراه متى لم يَشْعُر الفَتْحُ أوْحَدا
أقام زماناً يَسْمَعُ القولَ صامتاً . . . ونحسبه إن رام أكْدَى وأصْلَدا
فلما امتطاه راكباً ذل صعبُه . . . وسار فأضحى قد أغار وأنجَدَا
والفتح بن خاقان يقول : الطويل :
وإني وإياها لكالْخَمْرِ ، والفتى . . . متى يستَطِع منها الزيادةَ يَزْدَدِ
إذا ازدَدْتُ منها زاد وَجْدِي بقُرْبها . . . فكيف احتراسِي مِنْ هوًى متجددِ ؟ وكتب إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى : وإن أميرَ المؤمنين لمَا استْخلَصك لنفسه ، وائتمنك على رعيته ؛ فنطق بلسانك ، وأخذَ وأعطى بيدك ، وأوْرَدَ وأصدْرَ عن رأيك ، وكان تفويضُه إليك بعد امتحانه إياك ، وتَسلِيطه الحقّ على الهوى فيك ، وبعد أن مثل بينك وبين الذين سمَوا لمرْتَبتك ، وجرَوْا إلى غايتك ، فأسقطهم مَضَاؤُك ، وخَفُوا في ميزانك ، ولم يزدك - أكرمك الله - رفعة وتشريفاً إلا ازددتَ له هيبةً وتعظيماً ، ولا تسليطاً وتمكيناً ، إلا زِدْتَ نفسك عن الدنيا عُزوفاً وتنزيهاً ، ولا تقريباً واختصاصاً ، إلا ازددتَ بالعامة رأفةً وعليها حدَبا ، لا يخرجك فَرطُ النصح له عن النظر لرعيته ، ولا إيثار حقه عنالأخذ بحقِّها عنده ، ولا القيامُ بما هو له عن تضمين ما هو عليه ، ولا يشغلك مُعَاناةُ كبار الأمور عن تفقُد صغارِها ، ولا الْجِدُّ في صلاح ما يَصْلُحُ منها عن النظر في عواقبها ، تمْضي ما كان الرَّشَدُ في إمضائه ، وتُرْجِئُ ما كان الحَزْمُ في إرجائه ، وتبذُلُ ما كان الفضلُ في بَذْله ، وتمنعُ ما كانت المصلحةُ في مَنْعِه ، وتَلِين في غير تكبر ، وتَخُص في خير مَيل ، وتعمُ في غير تصنّع ، لا يَشْقَى بك المحق وإن كان عدواً ، ولا يَسْعَدُ بك المبطلُ وإن كان وليّاً ؛ فالسلطان يعتدّ لك من الغَناء والكِفاية ، والذَّبِّ والحياطة ، والنُصح والأمانة ، والعِفة والنزاهة ، والنصب فيما أدَى إلى الراحة ، بما يراك معه - حيث انتهى إحسانُه إليك - مستوجباً للزيادة ، وكافةُ الرعية - إلاَّ من غَمِطَ منهم النَعْمة - مُثْنُونَ عليك بحُسْنِ السيرة ، ويُمْنِ النقيبة ، ويَعُدُونَ من مآثرك أنك لم تُدْحِض لأحدٍ حُجة ؛ ولم تدفع حقاً لشبْهَة ؛ وهذا يسيرٌ من كثير ، لو قصدنا لتفصيله ، لأنْفَدْنا الزمان قبل تحصيله ، ثم كان قَصْدُنا الوقوفَ دون الغاية منه .
وله إلى عبيد الله بن يحيى : يقطعني عن الأخْذِ بحظِّي من لقائك ، وتعريفك ما أنا عليه عن شُكْرِ إنعامك ، وإفرادي إياك بالتأميل دونَ غيرك ، تخلفي عن منزلة الخاصة ، ورغبتي عن الحلول محل العامة ، وأني لسْتُ معتاداً للخِدْمَة ولا الملازمة ، ولا قويًّا على المغَادَاةِ والمُرَاوَحة ؛ فَلاَ يمنَعْك ارتفاعُ قَدْرك ، وعلو أمرك ، وما تعانيه من جلائل الأحوال الشاغلة ، من أنْ تتطوَل بتجديد ذكري ، والإصغاء إلى مَنْ يحضك على وَصْلي وبري ، ويرغَبك في إسداء حُسْنِ الصنيعة عندي .
وله إليه آخِرَ فصل من كتاب : وأنا أسألُ الله الذي رَحِم العبادَ بك ، على حينِ افتقارٍ منهم إليك ، أن يُعِيذهم من فَقْدِك ، ولا يُعيدهم إلى المكاره التي استنقذتهم منها بيدك .
السفر
ولقي رجلٌ رجلاً خارجاً من مِصْر يريد المغْرِب ، فقال : يا أخي ، أتتَبعُ القَطْرَ ، وتَدُع مَجْرى السيول ؟ فقال : أخرجني من مصر حَق مُضَاع ، وشُكى مُطَاع ، وإقتار الكريم ، وحركة اللئيم ، وتغير الصديق ، بين السعة والضيق ، والهربُ إلى النزرِ بالعز ، خير من طلب الوَفْرِ بذلُ العَجزِ .
وأوصى بعضُ الحكماء صديقاً له ، وقد أرادَ سفراً ، فقال : إنك تدخُلُ بلداً لا يَعْرِفُك أهلُه ، فتمسّك بوصيتيَ تنفق بها فيه ؛ عليك بحُسن الشمائل فإنها تدكُ على الحرية ، ونَقَاء - الأطراف فإنها تشهد بالمُلوكية ؛ ونظافة البِزة فإنها تنبئ عن النَشء في النعمة ؛ وطيبالرائحة فإنها تظهرُ المروءة ، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة ، وليَكُن عقلُك دون دينك ، وقولُك دون فِعْلك ، ولباسُك دونَ قَدْرِك ، والزمِ الحياءَ والأنفَة ؛ فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبتْ الخساسة ، وإن أنِفْتَ عن الغلبة ، لم يتقدمْكَ نظيرٌ في مرتبة .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يُوصِي آخرَ أراد سفراً ، فقال : آثر بعملك مَعَادَك ، ولا تَدَع لِشَهْوَتِكَ رَشادَك ، وليكُنْ عقلُك وزيرَك الذي يَدْعُوك إلى الهدى ، ويجنِّبك من الرَدى ، واحْبِس هواك عن الفواحش ، وأطْلِقه في المكارم ؛ فإنك تبرّ بذلك سلَفك ، وتَشِيد به شرفَك .
وأوصت أعرابية ابنَها في سفر ، فقالت : يا بني ، إنك تجاورُ الغرباء ، وتَرْحَلُ عن الأصدقاء ، ولعلك لا تَلْقَى غيرَ الأعداء ؛ فخالِط الناسَ بجميل البِشْر ، واتَّقِ اللَّهَ في العَلاَنية والسرّ .
وقال بعضُ الملوك لحكيم وقد أراد سفراً : قِفْني على أشياء من حِكْمتك أعْمَلْ بها في سفري ، فقال : اجعلْ تأنيك أمام عَجَلَتِك ، وحِلْمَك رسولَ شِدَّتك ، وعفوَك مالِكَ قدرتك ، وأنا ضامن لك قلوبَ رعيتك ، ما لم تُحْرِجْهم بالشدّةِ عليهم ، أو تُبْطِرْهم بالإحسان إليهم .
وقال أبان بن تغلب : شهدت أعرابيةً لُوصِي ولداً لها أراد سفراً وهي تقول : أي بني ، اجلسْ أمْنَحك وصيتي ، وباللّه توفيقك ، قال أبان : فوقفت مستمعاً لكلامها ، مستحسناً لوصيتها ، فإذا هي تقول : أي بني ، إياك والنَّمِيمة ، فإنها تَزْرَعُ الضغينة ، وتفرَق بين المحبّين ، وإياك والتعرض للعيوبِ فتُتخذ غَرَضاً ، وخليقٌ ألاَ يَثْبُتَ الغَرضُ على كثرة السهام ؛ وقلَما اعتَوَرَتِ السهامُ غَرَضاً إلاَ كَلَمَتْه ، حتى يَهيَ ما اشتدَ من قُوَته ؛ وإياك والجودَ بدينك ، والبخلَ بمالك ؛ وإذا هززت فاهزز كريماً يَلِنْ لِمَهَزتك ؛ ولا تَهْزُز اللئيم فإنه صخرةٌ لا يتفجَّرُ ماؤها ، ومثِّل بنفسك مثال ما استحسنتَ من غيرك فاعمل به ، وما استقبحتَ من غيرك فاجتنبه ؛ فإن المرءَ لا يرى عيْبَ نفسه ؛ ومن كانت مودته بشره ، وخَالَفَ منه ذلك فعلُهُ ، كان صديقه منه على مِثْل الريح من تصرفها .
ثم أمسكت ، فدنوتُ منها ، فقلت لها : بالله يا أعرابية ، إلا ما زِدْته في الوصية ؛ قالت : أو قد أعْجَبَك كلامُ العرب يا حَضَري ؟ قلت : نعم قالت : الغَدرُ أقبح ما تعاملَ به الناسُ بينهم ، ومَنْ جمع الْحِلْمَ والسخاءَ فقد أجادَ الحُلّة رَيْطَتها وسِرْبَالها .فقر في مدح السفر
أبو القاسم بن عباد الصاحب : الخبر المنقول أنَ المقبوضَ غريباً شهيد . وفي الحديث : سافروا تَغْنَموا . السفرُ أحدُ أسباب العيش التي بها قِوامه ، وعليها نِظَامه . إن الله لم يجمَعْ منافعَ الدنيا في الأرض ؛ بل فرَّقها وأحوجَ بعضها إلى بعض . المسافرُ يسمع العجائب ، ويَكْسبُ التجاربَ ، ويَجْلِبُ المكاسب . الأسفارُ مما تَزِيدك علماً بقدرة اللّه وحِكْمته ، وتدعوكُ إلى شكر نعمته . ليس بينك وبين بلدٍ نَسب ؛ فخيرُ البلاد ما حملك . السفرُ يُسْفِر عن أخلاق الرجال . أوحِشْ أهلَك إذا كان في إيحاشهم أُنْسُك ، واهْجُرْ وطنَك إذا نبَتْ عنه نفسك . ربما أسفر السفر عن الظفَر ، وتعذر في الوطن قضاءُ الوطَر ، وأنشد : البسيط
ليس ارتحالُكَ تَرْتَادُ الغِنَى سفراً . . . بَلِ المُقَامُ على خَسْفٍ هو السفرُ
وهذا كقول الطائي : الطويل
وما القفْرُ بالبيدِ الفضاء ، بَكِ الَتي . . . نَبتْ بي وفيها ساكِنُوها هِي القَفْرُ
أخذه المتنبي فقال : البسيط
إذا تَرَحَلْتَ عن قوم وقد قَدرُوا . . . ألاَ تُفارِقَهُمْ فالرَاحِلونَ هُمُ
نقيض ذلك في ذمّ السفر والغربة
في الحديث إن المسافرَ وماله لعَلَى ، قلت : إلاّ ما وَقى الله ؛ أي على هلاك . شيئان لا يعرفهما إلا من ابْتُلِي بهما : السفرُ الشاسع ، والبناءُ الواسع . السفرُ والسقَمُ والقتال ثلاث متقاربة ؛ فالسفرُ سفينة الأذى ، والسقَمُ حَريقُ الجسد ، والقتالُ مَنبتُ المنايا . إذا كنتَ في غير بلدك فلا تَنسَ نصيبك من الذل . الغربةُ كرْبة . النّقلة مُثْلة . الغريب كالغرسِ الذي زايل أرْضَه ، وفَقَد شِرْبَه ؛ فهو ذَاوٍ لا يُثْمِر ، وذابلٌ لا ينضر . الغريب كالوَحْشِ النائي عن وطنه ؛ فهو لكل سَبُعٍ فَرِيسة ، ولكل رام رَمية ؛ وأنشد : الوافر
لَقربُ الدار في الإقتار خَيْرٌ . . . منْ العيش الموسع في اغترابِ
وقال أبو الفتح البُسْتي : البسيط
لا يعدم المرء شيئاً يستعينُ به . . . ومنعه بين أهليه وأصحابهومن نأى عنهمُ قلَّتْ مهابتهُ . . . كالليثِ يحقر ُلما غاب عن غابِهْ
العزل بعد المؤانسة
كتب أبو عبيد الله إلى المهدي بعد عَزْلِه إيّاه عن الدواوين : لم يُنكِر أميرُ المؤمنين حالي في قُرْب المؤانسة وخصوص الخلطة ، وحالي عنده قَبْلَ ذلك في قيامي بواجب خِدمَته ، التي أدنتني من نعِمته ، فلم أبدِّل - أعز اللّه أميرَ المؤمنين - حال التبعيد ، ويقرّب في محل الإقصاء ، وما يعلمُ اللّه مني فيما قلت إلاَّ ما علمه أميرُ المؤمنين ، فإن رأى أكرمه اللّه أن يُعَارِض قولي بعلمه بدءًا وعاقبةً فعل إن شاء اللّه .
فلمّا قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبُه ، فقال : ظلمنا أبا عبيد اللّه ، فيردّ إلى حاله ، ويُعْلَم ما تجدّد له من حُسْنِ رأيي فيه . ولما أمر المأمونُ أن يُحْجَب عنه الفضلُ بن الربيع لسبب تألَمَ قلبُه منه كتب إليه : يا أمير المؤمنين ، لم يُنْسِني التقريبُ حالي أيامَ التبعيد ، ولا أغفلتني المُؤانسة عن شكر الابتداء ، فعلى أيِّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين ، ويَلْحَقُني ذمُ التقصيرِ في واجب خدمته ؟ وأميرُ المؤمنين أعْدلُ شهودي على الصَدْق فيما وَصْفت ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين ألا يكتم شهادتي فَعل إن شاء اللّه .
وقال أبو جعفر المنصور لأبي مسلم حين أزْمَع قَتْله : هل كنتَ قبل قيامك بدولتنا جائزَ الأمْرِ على عَبْدين ؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين . قال : فلِمَ لَمْ تَعْرِض حالَيْ عُسرتك ومَهانتك على أيامنا ، وتعرِف لنا ما يَعْرِفُ غيرُك من إجلالنا وإعظامنا ، حتى لا ينازعك الحين عِنَان الطمأنينة ؟ قال : قد كان ذلك يا أميرَ المؤمنين ، ولكنَ الزمانَ وإساءتَه قَلَبَا ما كان من حُسْنِ صنيعتي ، قال : فلا مرغوبَ فيك ، ولا مأسوفَ عليك ، وفي اللّه خَلَفٌ منك وأَمر بقتله .
جملة من شعر أبي الفتح كشاجم في الأوصاف
قال يصف أجزاء من القرآن : الخفيف
مَنْ يَتُبْ خشيةَ العقابِ فإني . . . تُبْتُ أنْساً بهذهِ الأجزاء
بَعَثَتني على القراءة والنُس . . . ك وما خِلْتُني مِنَ القرَاء
حين جاءت تَرُوقني باعتدال . . . من قدود وصيغَةٍ واستواء
سبعة أشْبَهَت ليَ السبعةَ الأن . . . جم ذاتَ الأنوار والأضواء
كُسيت من أديمِها الحالِك اللَو . . . ن غِشاءً أحبب به من غِشَاءمُشْبِهاً صبغة الشَّبَابِ ولَمَا . . . ت العَذارى ولبْسَةَ الخطباءِ
ورأت أنها تحسنُ بالضدِّ . . . فَتَاهَتْ بحِلْية بيضاء
فهي مسودّةُ الظهور ، وفيها . . . نورُ حق يَجْلُو دُجَى الظلماءَ
مطبقات على صحائفَ كالرّي . . . ط تخيرنّ من مُسُوك الظباء
وكأنَّ الخطوط فيها رياض . . . شَاكِرات صنيعةَ الأنْواء
وكأنَّ البياض والنُّقَطَ السُّو . . . دَ عَبِيرٌ رشَشْتهُ في مُلاء
وكأن العشورَ والذَّهب السا . . . طع فيها كواكب في سماءِ
وهي مشكولةٌ بعدَّةِ أشكا . . . لٍ ومقروءةٌ على أنحاءِ
فإذا شئتَ كان حمزةُ فيها . . . وإذا شئت كان فيها الكِسَائي
خُضْرة في خلالِ حُمرٍ وصفْر . . . بين تلك الأضْعَاف والأثناء
مثل ما أثَر الدَّبيبُ من الذرّ . . . على جلد ِبَضَةٍ عَذْراء
ضُمِّنت مُحكَم الكتابِ كتاب الل . . . ه ذي المكرُمات والآلاء
فحقيقٌ عليَّ أنْ أتلوَ القر . . . آنَ فيهنَّ مُصْبَحِي ومَسائي
وقال يصفُ التخت الذي يُضْرَب عليه حساب الهند : الرجز
وقلمٍ مِدادُهُ ترَابُ . . . في صُحُفٍ سُطُورها حِسابُ
يَكْثُر فيها المَحْوُ والإضرابُ . . . من غير أن يُسَوّد الكتابُ
حتى يبينَ الحقُّ والصواب . . . وليس إعجامٌ ولا إعرابُ
فيه ولا شكَ ولا ارتيابُ
وقال يصف برْكاراً استهداه : المنسرح :
جُدْ لي ببركارك الذي صَنَعَتْ . . . فيه يَدَاً قَيْنةِ الأعاجيبا
ملتئم الشُعبتَيْن معتدلٌ . . . ماشِينَ من جانبٍ ولا عِيَبا
شخصان في شكْل واحدٍ قُدَرا . . . ورُكبا بالعقولِ تركيبا
أشبه شيئين في اشتكالهما . . . بصاحبٍ لا يزالُ مصحوبا
أُوثِقَ مسمارُهُ وغُيِّب عن . . . نواظر الناقدين تَغْييبا
فعَيْنُ مَنْ يجتَلِيه يحسبُهُ . . . في قالب الاعتدال مَصْبوباقد ضَمَ قُطْرَيْه مُحْكِماً لهما . . . ضَمَ مُحِب إليه محبوبا
يزداد حِرْصاً عليه مُبصِره . . . ما زَاده بالبَنانِ تَقْلِيبا
ذو مُقْلَة بصَرَتْهُ مَذهبه . . . لم تَألُهُ رِقةً وتهذيبا
ينظرُ فيها إلى الصواب فما . . . بها يزالُ الصوابُ مطلوبا لولاه ما صحَّ خطُ دَائرة . . . ولا وَجَدْنَا الحسابَ محسوبا
الحقّ فيه فإن عَدَلت إلى . . . سواه كان الحسابُ تقريبا
لَوْ عَيْنُ إقليدسٍ به بَصُرَت . . . خرَ لهُ بالسجودِ مكبوبا
فابعَثْهُ واجْنبه لي بمسْطَرة . . . تُلْفِ الهوَى بالثناء مَجْنُوبا
وقال يصف بيكاتا : البسيط :
روح من الماء في جِسْمٍ من الصُفْر . . . مولد بلطيف الحِسَ والنظرِ
مستعبر لم يَغِبْ عن طَرْفِهِ سكن . . . ولم يَبِتْ من ذَوِي ضِغْن على حَذَرِ
له على الظهر أجفان محجرةٌ . . . ومُقْلة دمْعُها جَارٍ على قَدَرِ
تنْشَا له حركاتٌ من أسافلِه . . . كأنها حركاتُ الماء في الشجرِ
وفي أعاليه حُسْبان يُفَصِّلُه . . . للناظرين بلا ذهنٍ ولا فِكَرِ
إذا بكى دارَ في أحشائه فلَك . . . خافي المسير وإن لم يبكِ لم يدُرِ
مُتْرجم عن مَواقيتٍ يخبرُنا . . . بها فيوجَدُ فيها صادق الخبر
تُقْضَى به الخمسُ في وَقْتِ الوجوب وإن . . . غطى على الشمس سِتْرُ الغَيْم والمَطَرِ
وإن سَهِرْتُ لأوقاتٍ تؤرقني . . . عرفتُ مقدارَ ما ألقى من السَّهَرِ
مُحَدد كل ميقاتٍ تخيرَه . . . ذَوو التخَيرِ للأسفار والحَضَرِ
ومخرج لكَ بالأجزاء ألْطَفَها . . . من النهار وقوسُ الليلِ والسحَرِ
نتيجة العلمِ والتفكير صورَتُه . . . يا حبذا أبدع الأفكار في الصور
وقال يصفُ أسطَرلاباً : البسيط
ومستدير كجِرْم البدرِ مَسْطوح . . . عن كلِّ رافعةِ الأشكال مَصْفُوحصُلْبٌ يُدَارُ على قُطْبٍ يثبته . . . تمثالُ طرفٍ بشكر الحذقِ مَكبُوحِ
ملء البنَانِ وقد أوفَتْ صفائحُه . . . على الأقاليم من أقطارهَا الفِيح
تُلْفى به السبعةَ الأفلاكَ مُحْدِقةً . . . بالماء والنارِ والأرْضِينَ والريحِ
تُنْبيك عن طائح الأبرَاجِ هيئتُه . . . بالشمس طَوراً ، وطَوْراً بالمصابيح
وإن مضَتْ ساعة أو بعض ثانية . . . عرفْتَ ذاك بعلم فيه مَشرُوح
وإنْ تعرَض في وقتٍ يُقَدره . . . لك التشككُ جَلاَهُ بتصحيحِ
مميز في قياساتِ الضلوع بهِ . . . بين المشائم منها والمنَاجِيحِ
له على الظهر عَيْنَا حِكمةٍ بهما . . . يَحْوِي الضياء وتُنْجِيه من اللوح
وفي الدواوين من أشكاله حِكم . . . تنقح العقلُ فيها أيَ تَنْقيح
لا يستقل لما فيه بمعرفةٍ . . . إلاَ الخصيف اللطيفُ الْحِسّ والرُوحِ
حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال . . . أبوَابِ عمن سواهُ جدّ مفتوح
نتيجة الذهنِ والتفكير صَوره . . . ذَوُو العقولِ الصحيحاتِ المَرَاجِيحِ
وكان أبو شجاع فَنَاخَسْرو عَضُدُ الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابي ، على تقدمه في الكتابة ، ومكانه في البلاغة ، واستصفى أمواله من غير إيقاعِ به في نفسه ، فأهدى إليه في يوم مهرجان أسطرلاباً في دَور الدرهم ، وكتب إليه : البسيط
أهدَى إليكَ بنو الحاجاتِ واحْتَشَدوا . . . في مِهْرَجانٍ عظيمٍ أنْتَ تُعْلِيهِ
لكنَ عبدَك إبراهيم حين رأى . . . سُمُو َقَدْرِكَ عن شيءً يُسَامِيهِ
لَمْ يرضَ بالأرض يُهْدِيها إليك ، فقد . . . أفدَى لك الفَلَكَ الأعْلَى بما فيه
وصف المرأة
وقولُ أبي الفتح : ملء البنان . . . . . . البيت نظيرُ قولِ علي ابن العباس الرومي يصف هَنَ امرأة : الخفيف :
يَسَعُ السبعة الأقاليم طُراً . . . وهو في أصبعين من إقليم
كضميرِ الفؤادِ يَلتَهمُ الدن . . . يا وتحويهِ دَفتا حَيْزُومِوإنما أخذه ابن الرومي من قول بعض الشعراء يذكر كاتباً : السريع في كَفّهِ أخْرَس ذُو منطق . . . بقافهِ واللام والميمِ
شَبْر إذا قيسَ ، ولكنه . . . في فعلهِ مِثلُ الأقاليمِ
محذف الرَّأسِ ومُسْودُه . . . كإبرةِ الرَوْقِ منَ الرَيمِ
وهذا البيت الأخير مقلوب من قول عدي بن الرقاع العاملي ، وقد وصف قًرْنَ ريم ، وشبّهه بقلم عليه مداد ، وذكر ظبية : الكامل
تُزْجِي أغَنَ كأنَ إبرَةَ رَوْقِه . . . قلمٌ أصابَ منَ الدَوَاةِ مِدَادَهَا
وقلب المعنى إذا تمكن الشاعرُ من إخفائه لا يَجْرِي مَجْرَى السرقةِ .
وقد ترى تكثيرَ الشعراء من تشبيه أوراك النسوان بالرَملِ والكُثبان ، قال الشاعر : الطويل
وبيض نضيرَاتِ الوجوه كأنما . . . تأزَرْنَ دُون الأزْرِ رَمْلاَتِ عالجِ
خِدالِ الشَوى لا تحتشي غير خَلقها . . . إذا الرُسحُ لم يصبرنَ دون المَنَافِجِ
يَذرْنَ مُرُوط الخزِّ مَلأى كأنها . . . قِصَار وإنْ طالَتْ بِأيدِي النوَاسِجِ
وهذا المعنى متداوَل متناقَل في الجاهلية والإسلام ، فأغرب ذو الرمة في قلبه وأحسن ، فقال يصف رملا : الطويل
ورمل كأوْرَاكِ العذارى قطعْتُه . . . وقد جلَلَتهُ المظلماتُ الْخَنادِسُ
وكذلك مدحهم ضُمُورَ الكَشْح ، وجولان الوُشُح ، وصمُوت القُلْب والخلخال ، وامتناع الخِدَام من المَجَال ؛ قال خالد بن يزيد بن معاوية ، وذكر رملة بنت الزبير بن العوام : الطويل :
تجولُ خلاخيلُ النساءَ ، ولا أرَى . . . لِرملَةَ خلخالاً يجولُ ولا قُلْباأُحِب بني العوَّام طُرّاً لحبِّها . . . ومن أجلها أحببتُ أخوالها كَلْبا
وقال النابغة : الطويل :
على أن حِجْلَيْهَا وإن قلتَ أوسعا . . . صمُوتانِ من ملءً وقلّةِ منطقِ
وقال الطائي : الطويل :
مَهَا الوحشِ إلاَ أنَ هَاتَا أوانِسٌ . . . قَنَا الخط إلاَ أنَ تلك ذَوَابِلُ
من الهِيف لو أن الخلاخيلَ صُيِّرَت . . . لها وُشُحاً جالت عليها الخلاخِلُ
وقال ابن أبي زرعة الدمشقي : الكامل :
اِسْتَكْتَمَتْ خلخالها ومَشَتْ . . . تحتَ الظلام به فما نطقا
حتى إذا ريحُ الصَّبَا نَسَمت . . . ملأ العبيرُ بسيرها الطُرُقَا
وقال المتنبي : الوافر :
وخَصْرٍ تثبُتُ الأبصارُ فيه . . . كأنَ عليه من حَدقِ نِطَاقا
قلَبَ هذا كلّه أبو عثمان الناجم ، فقال يهجو قَيْنة ، مخلع البسيط :
مسلولة الكلِّ غيْر َبَطْن . . . مثقل فهي عنكبوتُ
حُجولها الدهْرَ في اصْطِخَابٍ . . . ووُشْحُهَا كظم صُمُوتُ
وقال أبو عثمان يمدح قَيْنة : السريع
محسنة في كل ألْحَانها . . . لا كالتي تحسن في الندْرَة
ثم قلبه في هجاء ، فقال : السريع :
عجِبْتُ منها وَيْحَها كيف لا . . . تُخْطِئ بالإحسان في الندرَهْ
وهذا مأخوذ من قول محمد بن مناذر يهجو خالد بن طليق ، وكان قد تقلد قضاء البصرة : السريع :
يا عجباً من خالدِ كيف لا . . . يخطئ فينا مرَةً بالصوابكان قضاةُ الناسِ فيما مضى . . . مِنْ رحمَةِ اللّه ، وهذا عَذابْ
وهذا أيضاً من قلب الهجاء مديحاً ، والمديح هجاء ؛ كما قال مسلم بن الوليد يهجو قوماً : الكامل :
قَبُحَت مَنَاظِرُهُمْ فحين خَبَرْتُهم . . . حَسُنَتْ مناظرهُمْ بقبح المخبَرِ
قلبه أبو الطيب المتنبي فقال : الطويل :
وأَسْتَكْثِرُ الأخْبَارَ قَبْلَ لِقائه . . . فَلما التَقَينا صَغر الخبَر الخبرُ
وقال أبو تمام : الكامل :
عبأ الْكَمِينَ له فَضَل لحينه . . . وكمينُه المخفي عليه كمينُ
قلبه البحتري فقال : المنسرح :
لا ييأس المرءُ أن يُنجيَهُ . . . ما يَحسِبُ الناسُ أنه عَطَبُهْ
وقال أبو تمام : الكامل :
وَحشية ترمِي القلوبَ إذا غَدَت . . . وَسْنَى فما تَصْطَادُ غَيْرَ الصيدِ
قلبه البحتري فقال : الطويل
على أنني أخشَى على دارِ أمْنِها . . . فوارس يصطاد الفوارسَ صِيدُها
وقال أبو تمام : الخفيف : يُشْنَأُ الغيثُ وهو جدُ حبيب . . . رب حَزام بِغْضِةِ الموموقِ
قلبه البحتري فقال : المنسرح :
يَسرُني الشيء قد يسوءكُم . . . نوَهَ يَوْماً بِخامِل لقبُهقال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر : المعنى في المصراع الأول أبْيَنُ منه في الثاني ؛ ألا ترى أنه لو قال : إنه ليسوءك الشيء قد يسر ، كان مثل ذلك المعنى مستوياً ، إلاّ أنه قلبه لحاجته .
قال ابن الرومي يهجو مغنية : الرمل :
قينة ملعونة من أجلها . . . رفَضَ اللهو َمعاً مَن رَفضَهْ
فإذَا غَنت ترى في حَلقها . . . كل عِرْقٍ مثل بَيتِ الأرَضَة
فقلبَهُ ابن المعتز فقال يصف أرَضة أكلت له كتاباً : الرجز
تَثْني أنابيبَ لها فيها سبل . . . مثل العروق لا ترَى فيها خَلَلْ
وهذا كثير يُكْتَفى منه باليسير .
ما لا ينقلب من المعاني
ومن المعاني ما لا ينقلب : ألا تَرَى أنك تقول : نام القوم حتى كأنهم موتى ، ولا يحسن أن تقول : ماتوا حتى كأنهم نيام ؛ وقد أخذ على أبي نواس قوله يصف داراً وقف بها : السريع :
كأنها إذ خَرستْ جارم . . . بين يَدَي تفنيده مُطرِقُ
قالوا : إنما يجب أن يشبه الجارم إذا عذلوه فسكت وانقطعت حجتُه بالدار الخالية التي لا تُجِيب .
وأخذوا عليه قوله : البسيط :
كأن نيراننا في جنبِ حصنهمُ . . . معصفرات على أرسَانِ قَصَارِ
وقد تبعه أبو تمام الطائي فقال في الأفشين لما أحرق : الكامل :
ما زالَ سرُ الكُفْر بينَ ضُلُوعِه . . . حتى اصْطَلى سرَ الزنادِ الوَارِي
نارٌ يساورُ جسمَه من حرها . . . لَهب كما عصفرتَ شِق إزارِطارت له شُعَل يهدِّم لفحها . . . أركانَهُ هَدْماً بغيرِ غبَارِ
فصَّلْنَ منه كلَّ مجمَع مَفْصِل . . . وفعَلْنَ فاقرة بكُلّ فَقَارِ
صلّى لها حيًّاً ، وكان وقُودها . . . مَيتاً ، ويدخُلها مع الكفارِ
وكذاك أهلُ النارِ في الدنيا هم . . . يومَ القيامة جلُ أهْلِ النَّارِ
أردت البيت الثاني ، قالوا : وإنما تشبه الثيابُ المعصفرة بالنار ؛ فهذا وما أشبهه لا يتوازنُ انعكاسه ، وتتضادّ قضاياه ؛ وإنما يصح القلْب فيما يتحقّق تضادّه أو يتقارب .
قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم
قال أبو الفتح البستي : البسيط :
قد غضَّ مِن أملي أني أرى عملي . . . أقْوَى من المشتري في أوَلِ الحَمَلِ
وأنني راحِل عمّا أُحاوِله . . . كأنني أسْتدرُّ الحظ من زُحَلِ
وقال : البسيط
إذا غدا ملكٌ باللَّهْوِ مشتغلاً . . . فاحكم على مُلْكِه بالوَيْلِ والحَربِ
ألم تر الشمس في الميزان هابطةً . . . لمّا غدا برج نجمِ اللَّهْو والطَّرَبِ ؟
وقال : الوافر
وقد تُدْني الملوكُ لدى رِضَاها . . . وتُبْعِدُ حين تحتقدُ احتقادا
كما المرَيخ في التثليث يُعْطي . . . وفي التربيع يَسْلُبُ ما أفَادا
وقال : المتقارب
ألا فثقوا بي فإني كما . . . تمدَحت فَلْيمتحن من يُحبْ
فما كوكبي راجعاً في الوفاء . . . ولا بُرْجُ قلبيَ بالمنقلبْوقال : المتقارب
لئن كسَفُونا بلا علّةٍ . . . وفازت قِداحُهُمُ بالظفَرْ
فقد يَكْسِفُ المرءَ مَنْ دونه . . . كما يَكْسِفُ الشمسَ جِرمُ القَمَر
وقال : الرمل :
شَرَفُ الوَغْد بوغد مثلهِ . . . ما فيهِ بزيغٍ وخَلَلْ
ودليل الصدقِ فيما قُلْتُه . . . شرفُ المرّيخ في بيت زُحَلْ
وقال : الكامل :
قل للذي غَرَّتهُ عِزَّةُ مُلْكِه . . . حتى أخَل بطاعةِ النصحاءِ
شرفُ الملوكِ بعلمهم وبرأيهم . . . وكذاك أوْجُ الشمسِ في الجوزاء
وقال : المتقارب :
وقد يفسدُ المرء بعد الصلاح . . . فساد الأماكن ، والشر يُعْدِي
كما السّعد يَقبل طبع النحوس . . . إذا كان في موضعٍ غَيْر سَعْدِ
وقال : الرجز : ما أنْسُ ظمآنٍ بماءً باردِ . . . من بَعْدِ طولِ العهد بالمواردِ
إلاّ كأُنْسِي بكتابٍ وارد . . . من سيدٍ مَحْضِ النِّجار ماجِدِ
كأنما استملاه من عُطارِد
وقال : الكامل :
يا معشرَ الكتاب لا تتعرضوا . . . لرياسةٍ ، وتصاغرُوَا وتخادَموا
إن الكواكب كُن في أشرافها . . . إلاّ عطارد حين صُوَر آدمُ
وقال : المتقارب :
دعاني إلى بيته سيّدٌ . . . له الْخُلق الأشرفُ الأظرفُفلازَمْتُ بيتي ولاطَفْتُهُ . . . بعذر هو الأظرف الأطرفُ
عُطَارِدُ نَجْمِي ، ولا شكّ أن . . . عطاردَ في بيته أشرفُ
وقال : البسيط :
لئن تنقلْتُ مِنْ دارٍ إلى دارِ . . . وصِرْتُ بعد ثَوَاء رَهْنَ أسفارِ
فالحر حرٌ عزيزُ النفس حيث ثَوَى . . . والشَمْسُ في كل بُرْج ذاتُ أنوار
وقال : الطويل :
لئن صدع الدهرُ المشتتُ شملنا . . . وللدهر حكم للجميع صَدُوعُ
فللنَجْمِ من بعد الرجوع استقامةٌ . . . وللشمس من بعد الغروب طلوع
وقال لمحبوس : الطويل :
حُبسْتَ ومن بعد الكسوف تبلّج . . . تضيءُ به الآَفاقُ للبدر والشمسِ
فلا تعتقدْ للحبس غماً ووَحْشَة . . . فأول كون المرء في أضْيَق الحبْسِ
وقال أيضاً : الكامل :
يا من تولى المشتري تدبيرَهُ . . . حاشاك أن تنقادَ للمريخِ
وقال : الكامل :
لا تفزعَنْ من كل شيء مُفْزعٍ . . . ما كلُّ تدبير البروج بضائِرِ
وقال يرثي أبا القاسم الصاحب : الطويل :
فَقَدْناهُ لما تمَ واعتمَ بالعُلاَ . . . كذاك كسوفُ البدر عند تمامِهِ
وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن درست لأبي الفضل الميكالي : الوافر :
إذا ما غاب وَجْهُ البَدْرِ عنا . . . فَوَجهُكَ عِندَنا البَدرُ المُقيمُ
فإن رَجَعَت نُجومُ السعدِ يَوماً . . . فوجهك نجمُ سعدٍ مستقيمُ
وقال مسكويه الخالدي : البسيط :
لا يعجبنكَ حسنُ القصر تنزله . . . فضيلة الشمس ليست في منازلهالو زيدت الشمسُ في أبراجها مائةً . . . ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
وقال أبو بكر الخوارزمي : الطويل :
رأيتك إن أيسرْتَ خيمتَ عندنا . . . لزاماً ، وإن أعسَرت زُرْتَ لماما
فما أنت إلا البدر : إن قل ضوؤه . . . أغَب ، وإن زاد الضياء أقاما
وهذا كقول إبراهيم بن العباس الصولي في محمد بن عبد الملك الزيات : الرمل :
أسَدٌ ضَارٍ إذا مانَعْتَهُ . . . وأبٌ برٌ إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ، ولا . . . يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
وقال ابن المعتز : الطويل :
إذا ما أراد الحاسدون انهدامَه . . . بناهُ إلهٌ غالبُ العز قاهرُهْ
وماذا يريد الحاسدون من امرئً . . . تزينهمُ أخلاقُهُ ومآَثِرُه ؟
إذا ما هو استغنى اهتدى لافتقارهمْ . . . ولا تهتدي يَوْماً إليهم مَفَاقِرُهْ
وكانوا كَرَام كوكبا ببصاقِهِ . . . فرُدَ عليهم وَبْله ومَوَاطِرُهْ
وهذا البيت كما قال بعض العرب في إحدى الروايات : الطويل :
رَماني بأمر كنتُ منه وَوَالدي . . . برياً ومِنْ جالِ الطوِيَ رَمَاني
الجُول والجَال : الناحية ، والطوي : البئر ؛ يريد رماني بما عاد عليه ، والرواية المشهورة : من أجل الطَّوِي ، فعلى هذا تسقط المناسبة بينه وبين قول ابن المعتز .
من أخبار الأصمعي
قال بعضُ الرواة : كنّا مع أبي نصر رَاوية الأصمعي في رياضٍ من المذاكرة نَجْتَني ثمارَها ، ونَجتَلي أنوارَها ، إلى أن أفَضْنَا في ذكر أبي سعيد عبد الملك بن قرَيب الأصمعي ؛ فقال : رحم اللَهُ الأصمعي إنه لمَعدِنُ حِكم ، وبَحرُ عِلْم ، غيرَ أنه لم نر قط مثلَ أعرابي وقف بنا فسلم ، فقال : أيكم الأصمعي ؟ فقال : أنا ذاك ، فقال : أتأذنون بالجلوس ؟ فأذِنا له ، وعجبنا من حُسن أدبه مع جفاء أدب الأعراب . قال : يا أصمعي ، أنتَ الذي يزعمُ هؤلاء النَفر أنك أثقبهُم معرفة بالشعر والعربية ، وحكايات الأعراب ؟ قال الأصمعي : فيهم مَنْ هو أعلم مني ، ومَنْ هُوَ دوني ، قال : تنشدونني من بعض شعر أهل الحضر حتى أقيسَهُ على شعر أصحابنا ؟ فأنشده شعراً لرجل امتدح به مسلمة بن عبدَ الملك : الطويل :
أمَسلمَ ، أنتَ البحرُ إن جاءَ واردٌ . . . وليث إذا ما الحربُ طارَ عُقابُهاوأنت كسيف الهنْدُوَانِيّ إن غدَت . . . حوادثُ من حربٍ يعب عُبابها
وما خُلِقت أُكْرومَةٌ في امرئٍ له . . . ولا غاية إلاّ إليك مَآَبُها
كأنك ديَّانٌ عليها مُوَكَّلٌ . . . بها ، وعلى كفيك يَجرِي حِسابُها
إليك رحلْنَا العِيسَ إذ لم نجد لها . . . أخا ثقة يرجَى لديه ثوابُهَا
قال : فتبسَّم الأعرابي ، وهزَّ رأسه ، فظننا أن ذلك لاستحِسانه الشعر ، ثم قال : يا أصمعيّ ، هذا شعرٌ مهَلهل خَلَق النسج ، خطْؤه أكثر من صوابه ، يغطي عيوبَه حسن الرَوِيِّ ، ورواية المنشد ؛ يشبّهون الملك إذا امتُدح بالأسد ، والأسد أبْخَر شَتيم المَنظَر ، وربما طرده شِرْذِمَة من إمائِنَا ، وتلاعَب به صبياننا ، ويشبّهونه بالبحر ، والبحرُ صَعْبٌ على مَن رَكبه ، مُرّ على من شربه ، وبالسيف وربما خان في الحقيقة ، ونَبَا عند الضِّريبة ألا أنشدتني كما قال صبيّ من حيّنا قال الأصمعي : وماذا قال صاحبكم ؟ فأنشده : البسيط :
إذا سألت الوَرَى عن كل مكرمة . . . لم يُعْزَ إكرامها إلاّ إلى الهولِ
فتًى جَوادٌ أذابَ المالَ نَائِلهُ . . . فالنّيلُ يشكرُ منه كثْرَةَ النَّيْلِ
الموتُ يكره أن يلقى مَنِيّتَهُ . . . في كرِّهِ عند لفِّ الخيل بالخيلِ
وزاحم الشمسَ أبقى الشمسَ كاسِفة . . . أو زاحم الصُّمَّ ألْجَاها إلى الميْل
أمضَى من النجم إن نابَتْه نائبةٌ . . . وعند أعدائه أجْرَى من السَّيْلِ
لا يستريح إلى الدنيا وزينتها . . . ولا تراه إليها ساحبَ الذيْلِ
يقصَرُ المجدُ عنه في مكارمِهِ . . . كما يقصّر عن أفعاله قَوْلي
قال أبو نصر : فأَبْهَتَنا والله ما سمعنا من قوله ، قال : فتأنّى الأعرابي ، ثم قال للأصمعي : ألا تنشدني شعراً ترتاحُ إليه النفس ، ويسكن إليه القلب ؟ فأنشده لابن الرِّقاع العاملي : الطويل :
وناعمة تجْلُو بعود أراكةٍ . . . مؤشَّرَة يَسْبي المُعانِق طِيبُها
كأنّ بها خمراً بماءِ غمامةٍ . . . إذا ارتشِفَتْ بعد الرّقاد غُروبُها
أراك إلى نَجْدٍ تَحِنُّ ، وإنما . . . مُنَى كلِّ نفس حيثُ كان حبيبُها
فتبسَم الأعرابي وقال : يا أصمعي ، ما هذا بدون الأول ، ولا فوقه ، ألا أنشدتني كما قلت ؟ قال الأصمعي : وما قلت ؟ جعلت فداك فأنشده : الطويل :
تَعلَّقْتُها بِكراً ، وعُلِّقْت حبَّها . . . فقلبيَ عن كلِّ الورَى فارغٌ بِكْرُإذا احتجَبَتْ لم يكفكِ البدرُ ضوءَها . . . وتكفيك ضوءَ البدر إن حُجِبَ البَدْرُ
وما الصبرُ عنها ، إن صبرتَ ، وجدتُه . . . جميلاً ، وهل في مثلها يَحْسُن الصَّبْرُ ؟
وحسبُك من خمر يفوتُك ريقُها . . . وواللّه ما من ريقها حَسْبُكَ الخمرُ
ولو أن جلد الذر لامَسَ جِلْدَها . . . لكان لمسَ الذر في جِلْدِها أثْرُ
ولو لم يكُنْ للبَدْرِ ضِدًّا جمالُها . . . وتفضله في حُسْنِها لصفا البَدْرُ
قال أبو نصر : قال لنا الأصمعي : اكتبوا ما سمعتم ولو بأطرافِ المُدَى في رِقاق الأكباد قال : وأقامَ عندنا شهراً ، فجمَع له الأصمعيُّ خمسمائة دينار ، وكان يتعاهدنا في الْحِين بعد الْحِين ، حتى مات الأصمعي وتفرّق أصحابنا
فِقَرٌ من كلام الأعراب في ضروب مختلفة
قال الجاحظ : ليس في الأرض كلامٌ هو أمْتَع ، ولا أنْفَع ، ولا آنقُ ، ولا ألذّ في الأسماع ، ولا أشد اتّصالاً بالعقول السليمة ، ولا أفْتَق لِلسان ، ولا أجود تقويماً للبيان ، من طُولِ استماع حديث الأعراب العقلاءِ الفصحاءَ . قال ابنُ المقفع ، وقد جرى ذِكْرُ الشعرِ وفضيلته : أي حكمة تكون أبلغ ، أو أحسن ، أو أغرب ، أو أعجب ، من غلام بدوي لم ير رِيفاً ، ولم يشبع من طعام ؛ يستوحشُ من الكلام ، ويَفْزَع من البشر ، ويَأوِي إلى القَفْرِ واليرابيع والظَباء ، وقد خالط الغِيلاَن ، وأنسَ بالجانِ ؛ فإذا قال الشعر وصف ما لم يَرَه ، ولم يغذ به ، ولم يعرفه ، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساويها ، ويمدح ويهجو ، ويذمّ ويعاتب ، ويشبب ويقول ما يُكتب عنه ، ويروى له ، ويبقى عليه .
وقال بعض الأعراب : الطويل :
وإني لأهدَى بالأوانس كالدُمى . . . وإني بأطراف القَنَا للَعوبُ
وإني على ما كان من عُنْجُهيتي . . . ولُوثَة أعرابيتي لأدِيبُكأن الأدب غريب من الأعراب ، فافتخر بما عنده منه .
وقال الطائي في فطنتهم ، يستعطف مالك بن طَوْق على قومه بني تغلب : الكامل :
لا رِقة الخَصْرِ اللطيف غَذَتْهُمُ . . . وتباعدوا عن فطْنَةِ الأعرابِ
فإذا كَشَفْتُهُمُ وجدْت لديهمُ . . . كرَم النفوس وقلّةَ الآَدابِ
ووصف أعرابي رجلاً فقال : هو أطهرُ من الماء ، وأرق طباعاً من الهواء ، وأمضى من السيل ، وأهدى من النجم .
ووصف أعرابيّ رجلاً فقال : ذاك والله من ينفع سِلمه ، ويتَواصَفُ حِلمه ، ولا يُسْتَمرَأ ظُلْمه .
وقال أعرابي : جلستُ إلى قوم من أهل بغداد فما رأيتُ أرجَح من أحلامهم ، ولا أطيًشَ من أقلامهم .
وذكر أعرابي من بني كلاب رجلاً فقال : كان والله الفهمُ منه ذا أذنين ، والجواب ذا لِسَانين ، ولم أرَ أحداً أرتقَ لخلَلِ رَأي ، ولا أبعد مسافة روية ، ومَرادَ طَرْفٍ منه ؛ إنما كان يرمي بهمّته حيث أشار إليه الكرم ، وما زال يتحسى مرارة أخلاق الإخوان ، ويسقيهم عذوبةَ أخلاقه .
وذكر أعرابي رجلاً فقال : والله لكأن القلوب والألسُن ريِضتْ له ، فما تُعْقَدُ إلا على وُده ، ولا تنطق إلاَّ بحمده .
وقال أعرابي : أقبحُ أعمال المقتدرين الانتقامُ ، وما استنبط الصوابُ بمثل المشاوَرة ، ولا اكتُسِبت البغضاءُ بمثل الكبر .
قال الأصمعي : وخطَبنا أعرابي بالبادية ، فقال : أيها الناس ، إنّ الدنيا دارُ مفر ، والآَخرة دار مقَر ؛ فخذوا من مفركم لمقَركم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم .
قال المعافر بن نعيم : وقفتُ أنا ومعبد بن طوق العنبري على مجلس لبني العنبري ، وأنا على ناقة وهو على حمار ، فقاموا فبدأوني فَسَلموا علي ؛ ثم انكفَأوا على معبد ، فقبض يده عنهم ؛ وقال : لا ، ولا كَرَامة بدأتم بالصغير قبل الكبير ، وبالمولَى قبل العربي ،وبالمُفْحَم قبل الشاعر ، فأسكت القومُ ، فانبرى إليه غلام ، فقال : بدَأنا بالكاتب قبل الأُمي ، وبالمهاجر قبل الأعْرابي ، وبراكب الراحلة قبل راكب الحمار .
ووصف أعرابي قومَه فقال : ليوثُ حَرْب ، وغُيوث جَدْب ، إنْ قاتلوا أبْلَوْا ، وإنْ بذلوا أغْنَوْا .
ووصف أعرابي قوماً فقال : إذا اصطفُوا سَفَرَتْ بينهم السهام ، وإذا تصافَحُوا بالسيوف فَغَر فَمَه الْحِمامُ .
وُسئل أعرابي عن صديق له ، فقال : صَفِرت عِيَابُ الود بيني وبينه بعد امتلائها ، واكفهّرت وجوهٌ كانت بمائها .
وقال الأصمعي : وسمعت أعرابياً يقول : إن الآمال قَطَعتْ أعناقَ الرجال ، كالسراب غَرَ مَنْ رآه ، وأخلف من رَجاه ، ومَنْ كان الليلُ والنهار مَطِيته أسرعا السير والبلوغ به : البسيط :
والمرءُ يفرح بالأيام يقطَعُها . . . وكلُّ يوم مضى يُدْني من الأجَل
وذكر أعرابي مصيبة نالَتْه ، فقال : إنها ، والله ، مصيبة جعلت سُودَ الرؤوس بيضاً ، وبيضَ الوجوه سوداً ، وهونت المصائب ، وشَيبت الذوائب .
وهذا كقول عبد الله بن الزَبير الأسدي : الوافر :
رَمَى الحِدْثَانُ نِسْوَةَ آل حَرْبٍ . . . بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمُودا
فرد شعورهنَ السُود بيضاً . . . ورد وجوهَهُن البيضَ سُودا
وإنكُ لو رأيت بكاءَ هِنْدٍ . . . ورَمْلَة إذ تَصُكَانِ الخدُودا
بَكَيتَ بُكاءَ مُعْوِلةٍ حَزين . . . أصابَ الدهرُ واحدَها الفقيدا
ونظيرُ هذا التطابق بين السواد والبياض ، وإن لم يكن من هذا المعنى ، قولُ ابن الرومي : الخفيف :
يا بياضَ المَشِيبِ سَوَّدْتَ وَجْهي . . . عند بيضِ الوجوه سُودِ القرونِ فلعمري لأخفينَك جَهْدِي . . . عن عِياني وعن عِيان العيونِ
ولعمري لأمنعنك أن تَض . . . حك في رَأسِ آسفٍ محزونبسوادِ فيه ابيضَاضٌ لوجهي . . . وسوادٌ لوَجْهِكَ المَلْعُونِ
سأل أعرابيان رجلاً ، فحرمهما ، فقال أحدُهما لصاحبه : نزلتَ والله بوادٍ غير ممطور ، وأتيتَ رجلاً بك غير مسرور ، فلم تّدرك ما سألت ، ولا نِلْتَ ما أمَّلْت ؛ فارتحِل بندم ، أو أَقمْ على عَدَم .
قال الأصمعي : وسمعتُ أعرابياً يقول : غَفَلنا ولم يَغْفُلِ الدهرُ عنّا ، فلم نتعظ بغيرنا حتى وُعِظ غيرُنا بنا ، فقد أدركتِ السعادةُ من تَنبه ، وأدركت الشقاوة من غفَل ، وكَفى بالتجربة واعظاً .
وقال أعرابي لرجل : أشكر للمنعم عليك ، وأنْعم على الشاكر لك ، تستَوْجب من ربك زيادته ، ومن أخيك مُنَاصحته .
ومدح أعرابي رجلاً فقال : ذلك والله فَسيح الأدب ، مُسْتَحْكِم السبب ، من أيِّ أقطاره أتيته تُثْني عليه بكرم فعال ، وحُسْن مقال .
وذمّ أعرابي رجلاً فقال : أفسد آخِرتَه بصلاح دُنْياه ، ففارقَ ما أصْلح غيرَ راجعِ إليه ، وقدم على ما أفسد غَيْرَ منتقل عنه ، ولو صدق رجلٌ نفسه ما كَذَبتهّ ، ولو ألقى زمامه أوْطأه رَاحِلتَهُ .
وقال أعرابي : خرجت حين انحدرَتْ أيدي النجوم ، وشالَتْ أرجلها ، فما زلّتُ أصدع الليلَ حتى انصدَع الفجر .
وقال أعرابي : الرجز :
وقد تَعَالَلْتُ ذَمِيلَ العَنْسِ . . . بالسَّوْطِ في دَيْمُومة كالتّرسِ
إذ عَرّج الليلُ بُرُوجَ الشَمْسِ
ومن مليح الاستعارة في نحو هذا قولُ الحسن بن وهب : شربت البارحة على وَجْهِ الجوزاء ؛ فلما انتبه الفَجْرُ نِمْت ، فما عقلت حتى لَحَفَني قَمِيصُ الشَمْسِ .
وقال أعرابي لصاحبه في شيء ذكره : قل إن شاء الله ، فإنها تُرْضِي الربَّ ، وتُسْخِط الشيطان ، وتُذْهِب الحِنْثَ ، وتَقْضي الحاجة .وروى العتبيُ عن أبيه قال : سمعت أعرابيَاً يقول لأخيه في معاتبة جرَتْ بينهما : أما والله لرُبً يوم كتَنُّور الطاهي ، رقّاص بالحمامة ، قد رميتُ نَفْسي في أجِيج سَمُومِه ، أحتَمِلُ منه ما أكره لما أحبّ .
قال أبو العباس محمد بن يِزيد : وأحسب العتبي صنع هذا الكلام ، وأخذه من قول بَشَار : الطويل :
ويوم كَتَنورِ الإماء سَجَرنَه . . . وأوقَدنَ فيه الْجَزْل حتى تَضرَّما
رميتُ بنفسي في أجيج سَمُومه . . . وبالعيس حتى بَضّ مَنْخَرها دَمَا
أخذ هذا المعنى بعضُ أصحاب أبي العباس ثعلب فقال يهجو المبرد : الطويل :
ويوم كتنُّور الطّهاة سَجَرْتُه . . . على أنه منه أحَرّ وأوقدُ
ظللت به عند المبرّدِ جالِساً . . . فما زلت في ألفاظِهِ أتبرَدُ
قال الأصمعي : حجت أعرابيةٌ ومعها ابنٌ لها ، فأصيبت به ، فلمّا دُفِن قامت على قبره ، وهي مُوجَعَة فقالت : واللّه يا بنيّ لقد غَذَوْتُك رضيعاً ، وفقدتُك سريعاً ، وكأنه لم يكن بين الحالين مدةٌ ألتذُ بعيشك فيها ، فأصبحتَ بعد النَّضارة والغَضَارة ورونق الحياة والتنسّم في طِيب روائحها ، تحت أطباق الثرَى جَسداً هامداً ، ورُفَاتاً سحيقاً ، وصعيداً جُرُزاً ؛ أي بني لقد سَحَبَتِ الدنيا عليك أذيال الفناء ، وأسكنتك دارَ البِلَى ، ورمتني بعدك نكْبَةُ الرَّدَى ، أي بني ، لقد أسفر لي وجهُ الدنيا عن صباح دَاجٍ ظلامُه .
ثم قالت : أي ربّ ومنك العدل ، ومن خَلْقِك الجَوْر ، وهَبْتَه لي قُرَةَ عين فلم تُمَتِّعني به كثيراً ، بل سَلَبتنِيه وَشِيكاً ؛ ثم أمرتني بالصبر ، وَوَعَدْتني عليه الأجر ، فصدقت وَعْدَك ، ورضيت قضاءك ، فرحم الله من ترحَّم على من استودَعْتُه الرَّدْم ، ووسَدْتُه الثَّرَى ؛ اللهم ارحم غربته ، وآنِس وحشَته ، وأسترْ عَوْرَته ، يوم تُكْشَف الهَنَات والسوءات .
فلما أرادت الرجوعَ إلى أهلها وقفت على قبره ، فقالت أي بني ، إني قد تزوَّدْت لسفري ، فليت شعري ما زادُك لبُعْدِ طريقك ، ويوم مَعَادِك ؟ اللهم إني أسألُك له الرضا برضائيِ عنه . ثم قالت : استودَعْتُك مَن استودَعَنِيك في أحْشَائي جنيناً ؛ وأثكلَ الوالدات ما أمض حرارةَ قلوبهنّ ، وأَقْلَق مضْاجِعهن ، وأطولَ ليلهن ، وأقصرَ نهارهن ، وأقلَّأنسهنّ ، وأشدّ وحشتهن ، وأبعدهنّ من السرور ، وأقربهنّ من الأحزان . لم تزلْ تقولُ هذا ونحوه حتى أبكتْ كل مَنْ سمِعها . وحمدت الله عزَّ وجلَّ واسترجعَتْ وصلت ركعات عند قَبْره وانطلقت .
وأنشد المُفضلُ الضبيُ لامرأةٍ من العرب ترثي ابناً لها : الكامل :
يا عمرُو مالي عنك من صبرِ . . . يا عَمْرو يا أسَفي على عَمْرِو
لله يا عمرو ، وأيَ فتىً . . . كفّنْت يوم وُضِعْتَ في القبرِ ؟
أحْثوا الترابَ على مَفَارقهِ . . . وعلى غَضَارة وجهه النضْرِ
حين استوى وعَلا الشبابُ بهِ . . . وبدا مُنِيرَ الوجه كالبدر
ورجا أقاربُه منافَعهُ . . . ورأوا شمائل سَيّد غَمْرِ
وأهمَه هَمَي فساوَرَهُ . . . وغَدَا مع الغادِينَ في السفر
تغدُو به شَقراء سامية . . . مَرَطَى الْجِراء شَديدةُ الأسْر
ثبت الجَنَان به ، ويقدمها . . . فَلِجٌ يقلبُ مُقْلتي صَقْرِ
ربيتُه دَهْراً أفتَقُهُ . . . في اليُسْر أغْذُوه وفي العُسْرِ
حتى إذا التأميلُ أمكنني . . . فيه قبَيْلَ تلاحُقِ الثغر
وجعلتُ من شغفي أُنقلهُ . . . في الأرض بين تَنَائِفٍ غُبْرِ
أدَع المَزارعَ والحصونَ بهِ . . . وأُحِلُه في المهْمَهِ القَفْرِ
ما زلْتُ أُصْعِده وأُحْدِرُهُ . . . من قُتْر مَوْمَاةِ إلى قُتْرِ
هرباً به والمَوْتُ يطلبُه . . . حيث انتويْتُ به ولا أدْري
حتى دفَعْتُ به لمَصْرَعِه . . . سَوقَ المُعيز تُسَاق للعَتْرِما كان إلاَ أن هَجَعْتُ له . . . ورمى فأغْفَى مطلع الفجر
ورمى الكَرَى رَأسي ومال به . . . رمسٌ يُسَاوِر منه كالسُكْرِ
إذ راعني صوت هببت به . . . وذُعِرْتُ منه أيّما ذُعْرِ
وإذا منيتُه تساوِرُه . . . قد كدَحت في الوَجْه والنَحْرِ
وإذا له عَلَقٌ وحَشْرَجة . . . مما يَجِيشُ به من الصَدْرِ
والموتُ يَقْبِضُه ويَبْسُطه . . . كالثوبِ عند الطيِّ والنشْرِ
فدَعَا لأنْصُرَه وكُنْتُ له . . . من قبل ذلك حاضرَ النصْر
فعجزتُ عنه وهي زَاهِقة . . . بين الوريد ومَدْفَعِ السحْرِ
فمَضى وأي فتى فُجعْتُ به . . . جَلَت مصيبتُه عن القَدْرِ
لو قيل تَفدِيه بذلتُ له . . . مالي وما جمَّعتَ من وَفْرِ
أو كنت مقتدراً على عُمُري . . . آثرتُه بالشَّطْرِ من عُمْرِي
قد كنتُ ذا فَقْرٍ له ، فَعَدا . . . ورَمَى عليَّ وقد رأى فَقْرِي
لو شاء رَبِّي كان متعني . . . بابْني وشد بأزْرِه أزْري
بُنيَتْ عليك بُنَي ، أحوج ما . . . كنّا إليك ، صفائحُ الصَخْر
لا يبعدنكَ الله يا عمري . . . إمَا مَضَيْتُ فنحنُ بالإثْر
هذي سبيلُ الناس كلهم . . . لا بد سالكها على سَفْرِ
أوَ لا تراهم في ديارهم . . . يتوقعون وهم على ذُعْرِ
والموتُ يُورِدهم مواردهم . . . قَسراً ؛ فقد ذَلُوا على القَسْرِ
وقال أعرابي يمدح رجلاً : الطويل :
يمُدُ نِجادَ السيف كأنه . . . بأعلى سنامَيْ فالجٍ يَتَطَوَحُ
ويُدلجُ في حاجاتِ مَنْ هو نائم . . . ويُوري كريماتِ الندى حين يقدحُ
إذا اعتمّ بالبُرْدِ اليماني حسبته . . . هلالاً بَدَا في جانب الأفْقِ يَلْمَحُ
يزيدُ على فَضْل الرجال فضيلة . . . وَيقصُر عنه مَدْحُ مَنْ يتمدَحُ
وأنشد ابنُ أبي طاهر لأعرابي : الطويل :
وقبليَ أبكىَ كل من كان ذا هوى . . . هَتُوفُ البواكي والديارُ البَلاقِعُوهن على الأطلال من كلّ جانبٍ . . . نَوَائح ما تَخْضَلُّ منها المَدَامِعُ مُزَبْرَجَةُ الأعناق نمْرٌ ظهورُها . . . مخطّمة بالدُّرِّ خضر رَوَائع
تَرَى طرُزاً بَيْنَ الخَوَافي كأنها . . . حَوَاشِيّ بُرْدٍ زَيَّنتها الوَشائعُ
ومن قِطَع الياقوتِ صيغَتْ عُيُونُها . . . خواضب بالحِنّاء منها الأصابع
ومن جيد ما قيل في الحمام قول ابن الرومي : الطويل :
وقَفْتُ بمِطْرَاب العشياتِ والضُحَى . . . فظَلْتُ أسُحُّ الدمع مني وأسْجُمُ
حليفة شَجْوٍ هَاجَ ما بي وما بها . . . تباريح شوق يشتكيها المتيّمُ
فباحَ به فُوها وأخْفَتْه عينها . . . وباحَتْ به عَيني وكتَّمه الفَم
ودخل أعرابي على الرشيد ، فأنشده أرجوزةً مدحه بها ، وإسماعيل بن صبيح يكتبُ كتاباً بين يديه - وكان من أحسن الناس خطّاً ، وأسرعهم يدا - فقال الرشيد للأعرابي : صف الكاتب فقال : الطويل :
رقيقُ حَواشي العلم حينَ تبورهُ . . . يُرِيك الهُوينا والأُمورُ تَطِيرُ
له قَلَمَا بؤسى ونُعْمى كلاهما . . . سحابَتُه في الحالتَيْنِ ذَرُورُ
يُنَاجِيك عمّا في ضميرك خَطّهُ . . . ويَفْتَحُ باب النُّجْحِ وهو عسيرُ
فقال الرشيد : قد وجب لك يا أعرابي عليه حقّ ، كما وجب لك علينا يا غلام ؛ ادفَعْ له دِية الْحُرّ ، فقال إسماعيل : وعلى عبدِك دية العَبْد .
وقال أعرابي من بني عقيل : الطويل :
أَحِنُّ إلى أرضِ الحجاز ، وحاجَتي . . . خِيامٌ بنَجْدٍ دونها الطَّرْفُ يَقْصُرُ
وما نَظَرِي نحو الحِجازِ بنافعي . . . فتيلاً ، ولكني على ذَاك أنْظُر
أفي كلِّ يوم نَظْرَةٌ ثم عَبرةٌ . . . لعيَنْيك يجرِي ماؤُها يتحَدَرُ
متى يستريح القلب إمَا مجاورٌ . . . حزينٌ وإمَا نازح يتذَكَرُ
وقال أعرابي : الطويل :
وإني لأُغْضِي مقلتيَّ على القَذَى . . . وألْبَسُ ثوبَ الصبْرِ أبْيَض أبْلَجا
وإنّي لأدْعو اللَّهَ والأمرُ ضَيّقٌ . . . عليَ ، فما ينفك أنْ يتفرجا
وكم من فتًى ضاقَتْ عليه وجوهُهُ . . . أصاب لها من دَعْوَةِ اللَهِ مَخْرَجاوقال آخر : الطويل :
ذكرتُك ذِكْرى هائمٍ بك تَنتهِي . . . إليك أمانيه وإن لم يكُنْ وَصْلُ
وليسَتْ بِذِكرى ساعةٍ بعد ساعةٍ . . . ولكنها موصولةٌ ما لَهَا فَصْلُ
وقال آخر : الطويل :
أريتُكِ إنْ شطتْ بك العامَ نِية . . . وعَالَكَ مُصْطَافُ الحِمَى ومرابِعُهْ
أترعَيْنَ ما استُودعت أم أنت كالذي . . . إذا ما نَأى هَانَتْ عليك ودَائِعُهْ
ألا إنّ حَسْياً دونه قُلَةُ الحِمَى . . . مُنَى النفسِ لو كانت تُنَالُ شَرَائِعُهْ
أخذت أزْدُ العتيك شاعراً من قَيْس بن ثعلبة اسمه المعذل في دَم ، فأتاه البَيْهَس بن ربيعة فحمله ، وأمره أن يَنْجُوَ بنفسه ، وأسلم نفسه مكانه ، فقال له المعذل : أُخيرك بين أن أمْدَحَك أو أمدح قومَك ؛ فاختار مدحَ قومه فقال : الطويل :
جزى الله فتْيانَ العَتيك ، وإن نَأَتْ . . . بيَ الدَّارُ عنهم ، خيرَ ما كان جازِيا
هُمُ خَلَطُوني بالنفوس وأحسنوا الصّح . . . ابة لما حُمَ ما كان آتيا
مَتَاعُهُمُ فَوْضى فَضاً في رحالِهِمْ . . . ولا يحسنُون الشَرَ إلا تبَادِيا
كأنّ دنانيراً على قَسَمَاتِهِمْ . . . إذا الموتُ في الأبطال كان تحاميا
وذكرت الرواة أن المهلب بن أبي صُفْرَة عرض جُنَده بخراسان ، فعرض جيش بكر بن وائل ، فمرّ به المعذّل فقال : هذا المعذل القيسي الذي يقولُ ، وأنشد الأبيات ، فقالوا : أيها الأمير ، أحسبه علينا ، فانطلق مائة منهم ، فجاءوا بمائة وصيف ووصيفة ، فقالوا : أَعْطِه هذا وليعذرنا .
قوله : كأن دنانيراً على قسماتهم نظيرُ قول أبي العباس الأعمى : الخفيف :
ليت شِعْرِي من أيْنَ رائحة الْمس . . . ك وما إن إخال بالخَيْف إنسْي ؟
حين غابت بنو أمية عنهُ . . . والبهاليلُ من بني عبد شمس
خطباء على المنابر ، فُرسَا . . . نٌ عليها ، وَقَالة غيرُ خُرسِ في حلوم إذا الحلوم استُفزَتْ . . . ووجوه مثل الدنانير مُلْسِمن أخبار أبي نواس
ولما خلع المأمونُ أخاه محمد بن زُبيده ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته ، كان يعملُ كتباً بعيوبِ أخيه تُقْرأ على المنابر بخراسان ؛ فكان مما عابه به أن قال : إنه استخلص رجلاً شاعراً ماجِناً كافراً ، يقال له الحسن بن هانئ ، واستخلصه ليَشرَبَ معه الخمر ، ويرتكبَ المآثم ، ويَهْتِكَ المحارم ، وهو الذي يقول : الطويل :
ألا فاسقِني خَمْراً وقُل لي هي الخمرُ . . . ولا تسقني سرَاً إذا أمْكَنَ الجَهرُ
وُبحْ باسم مَنْ تهوى ودَعْني عن الكُنَى . . . فلا خَيرَ في اللَذاتِ من دونها سِتْرُ
ويذكر أهلَ العراق فيقول : أهل فسوق وخمور ، ومَاخُور وفجور ؛ ويقوم رَجلٌ بين يديه فيُنْشِد أشعار أبي نواس في المجون ؛ فاتصل ذلك بابن زبيدة ؛ فنهى الحسنَ عن الخمر ، وحبسه ابنُ أبي الفضل بن الربيع ؛ ثم كلمه فيه الفضل ، فأخرجه بعد أن أخذ عليه ألا يشربَ خمراً ، ولا يقول فيها شعراً ، فقال : الكامل :
ما مِنْ يدٍ في الناس واحدةٍ . . . كَيَدٍ أبو العباسِ مَولاَها
نامَ الثقاتُ على مضاجعهم . . . وسَرَى إلى نفسي فأحياها
قد كنتُ خِفْتُكَ ، ثم آمنني . . . من أن أخافك ، خَوْفُكَ الله
فَعفوتَ عني عَقوَ مُقتدرٍ . . . وجَبَت لهُ نِقَم فألغاها
ومن قوله في ترْك الشراب : الخفيف :
أيها الرائحان باللَّومِ ، لُوما . . . لا أذوقُ المُدَامَ إلا شَمِيما
نَالَني بالمَلام فيها إمام . . . لا أرى لي خلافَهُ مُستقيما
فاصرِفاها إلى سِوَايَ ؛ فإني . . . لست إلا على الحديث نديما
جُل حظي منها إذا هي دارت . . . أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزينُ منها . . . قَعَدِي يُزَيًن التحكيماكَل عَنْ حَمْلِهِ السلاح إلى الحر . . . ب فأوصى المُطِيقَ ألاّ يُقيما
القَعَدِيّة : فرقة من الخوارج ، يَأمرون بالخروج ولا يخرجون ؛ وزعم المبرد أنه لم يُسْبَقْ إلى هذا المعنى .
وقال : الكامل :
عَيْن الخليفةِ بي مُوَكلة . . . عَقَدَ الحِذارُ بطَرْفِها طَرْفي
صَحَتْ عَلاَنيتي له ، وأرى . . . دِينَ الضمير له على حَرْفِ
ولئن وَعَدْتُكَ تَرْكَها عِدَةً . . . إني عليك لخائف خُلْفي
سلبوا قِناعَ الدن عن رَمق . . . حي الحياةِ مُشَارِفِ الحَتْفِ
فْتنفسَتْ في البيت إذ مُزِجَتْ . . . كتنفُس الريْحانِ في الأنْفِ
أخذْ قوله : ولئن وعدتك تركها عدة الحسنُ بن علي بن وكيع فقال : البسيط :
متى وَعَدْتُك في تركِ الصَبا عِدَةً . . . فاشْهَدْ على عِدَتي بالزورِ والكَذِبِ
أمَا تَرى الليل قد ولَت عَساكِرُهُ . . . وأقبل الصبحُ في جيش له لَجِبِ
وجدَ في أثر الجوزْاء يطلُبُها . . . في الجو رَكْضاً هِلالٌ دائمُ الطلب
كصولَجانِ لُجَين في يدَيْ ملك . . . أدناه من كُرَةٍ صيغَتْ من الذهب
فقُم بنا نَصْطَبِحْ صفراءَ صافيةً . . . كالنار لكنها نَار بلا لَهَبِ
عروسُ كَرْم تختالُ في حُلَل . . . صُفْرٍ على رأسها تاجٌ من الحَبَبِ
وقال أبو الفضل الميكالي في اقتران الهلال بالزهرة : الرجز :
أما ترى الزُهرةَ قد لاحَتْ لنا . . . تحت هلال لونُه يَحكِي اللَهَبْ
ككُرة من فِضةٍ مَجلوة . . . وافَى عليها صَولَجانٌ من ذَهَبْ
وعلى قول أبي نواس : الكامل :
صَحت عَلانيتي له ، وأرى . . . دِينَ الضمير له على حَرْفِ
كتب أبو العباس بن المعتز إلى أبي الطيب القاسم بن محمد النميري : السريع :
يا أيها الجافي ويستجفي . . . ليس تجنيك من الظرفِإنَّك في الشوقِ إلينا كمَنْ . . . يُؤْمِنُ باللّهِ على حَرْفِ
مَحَوْتَ آثارَكَ من ودِّنا . . . غير أساطيرك في الصُحْفِ فإن تحامَلْتَ لنا زَوْرَةً . . . يوماً تحاملت على ضَعْفِ
وحدث أبو عمر الزاهد قال : دَلَك بعضُ الزهاد المرائين جَبْهَتَهُ بِتُوْمٍ وعصبها ، ونام ليصْبح بها كأثر السجود ، فانحرفت العِصابة إلى صُدْغه ، فأخَذ الأثر هناك ، فقال له ابنُه : ما هذا يا أبت ؟ فقال : أصبح أبوك ممن يَعْبُدُ اللّه على حرف وقال أبو نواس في الباب الأول : الخفيف :
غَنَنا بالطلولِ كيف بَلِينا . . . واسْقِنَا نُعْطِكَ الثناءَ الثمينا
من سُلاَفٍ كأنها كلُّ شيءً . . . يتمنَّى مُخَيَّرٌ أنْ يَكونا
أكَلَ الدهرُ ما تجسَم منها . . . وتبقَّى لُبابها المكْنُونَا
فإذا ما اجْتَلَيْتَها فَهَباء . . . يمنع الكَفَّ ما يُبِيحُ العيونا
ثم شُجتْ فاستضحكتْ عن لآلٍ . . . لو تَجَمَعْنَ في يدٍ لاقْتينا
في كؤوس كأنهن نجومٌ . . . دائراتٌ بُرُوجُها أيْدِينا
طالعات مع السُقَاةِ علينا . . . فإذا ما غَرَبْنَ يَغْربْنَ فينا
لو ترى الشربَ حولَها من بعيد . . . قُلْتَ قوماً من قِرة يصَطلُونا
وغزال يُدِيرُها ببَنَانِ . . . ناعماتِ يَزِيدُها الغَمْز لِينَا
كلما شِئْتُ عَلنِي بِرُضَاب . . . يَتْرُك القلبَ للسرور قرينا
ذاك عيشٌ ، لو دَامَ لي غيرَ أني . . . عِفْتُه مُكْرهاً وخِفْتُ الأمِينا
وقال : الطويل :
أعاذلَ ، أعتبْت الإمامَ ، وأعْتبا . . . وأعْرَبْتُ عمَا في الضمير وأعْرَبا
وقلتُ لساقيها : أجزْها فلم أكن . . . ليأبى أميرُ المؤمنين وأشْرَبافجوَّزَها عنِّي سُلاَفاً تَرَى لها . . . لدى الشَّرَفِ الأعلى شُعاعا مُطَنَبا
إذا عَبَّ فيها شاربُ القوم خِلته . . . يُقَبلَُ في داجٍ من الليل كوكبا
ترى حيثما كانَتْ من البيت مَشْرِقاً . . . وما لم تكن فيه من البيت مَغْرِبا
يَدُور بها رَطْبُ البنان ترى لهُ . . . على مُسْتَدار الخدّ صُدْغاً مُعَقْرَبا
سقاهُمْ ومَنانِي بعيْنَيْهِ مُنْيَةً . . . فكانت إلى قلبي ألذ وأطَيبا
قال الحسين بن الضحاك الخليع : أنشدت أبا نواس قولي : المنسرح :
وشاطريَ اللسانِ مختلق التَّ . . . كْرِيه شابَ المُجُونَ بالنُّسُكِ
فلما بلغْتُ فيه :
كأنما نُصْبَ كَأسِهِ قَمَر . . . يَكْرَعُ في بعْضِ أنْجُم الفَلَكِ
نَعرَ نَعْرَةً منكرةً ، فقلت : ما لكَ ، فقد رعتني ؟ قال : هذا المعنى أنا أحقُّ به منك ؛ ولكن سترى لمن يُرْوَى ثم أنشد بعد أيام :
إذا عبَّ فيها شاربُ القوم خِلْتَهُ . . . يُقْبِّلُ في داجٍ من الليل كوكبا
فقلت : هذه مطالبة يا أبا علي فقال : أتظنّ أنه يُرْوى لك معنى مليح وأنا في الحياة ؟ وقال ابن الرومي فكان أحسن منهما : الكامل :
ومهفهف كَمُلَتْ مَحَاسِنُهُ . . . حتى تجاوزَ مُنْيَةَ النَّفْسِ
تَصْبُو الكؤوس إلى مَرَاشِفِه . . . وتَضِجّ في يده من الحَبْسِ
أبصرْتُها والكأسُ بين فمٍ . . . منه وبين أنامِل خَمْسِ
فكأنهَّا وكأن شَارِبها . . . قمرٌ يقتل عَارِضَ الشمسِ
وقال أبو الفتح كشاجم : الخفيف :
وسحاب يجرُ في الأرض ذَيْلَيْ . . . مُطْرَفٍ زَرَهُ على الأرض زَرا
بَرْقُه لَمْحةٌ ، ولكن له رَع . . . د بطيءٌ يكسو المسامِعَ وَقْرا
كخَلِي منافق لِلَّذي يه . . . واهُ يَبْكي جَهْراً ويَضْحَك سِرا
قد سقتني المُدام فيها فتاةٌ . . . سحَرَتْني وليس تُحْسِنُ سِحْرافإذَا ما رأيتُها تشربُ الرا . . . حَ أرَتني شَمْساً تُقبلُ بَدْرا
بشار بن برد
وإنما احتذَى أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها تَرْك الشراب وطاعته لأمْرِ الأمين مثالَ بشار بن بُرْد ، وصبّ على قالبه ؛ وذاك أن بشاراً لما قال : الكامل : لا يُؤْيَسَنكَ من مخبأةِ . . . قَول تُغَلظُهُ وإن جَرَحا
عُسرُ النساء إلى مُياسرة . . . والصعبُ يُمكِنُ بعدما جَمَحَا
بلغ ذلك المهدي فغاظه ؛ وقال : يحرض النساء على الفجور ، ويسهل السبيل إليه فقال له خالهُ يزيد بن منصور الحميري : يا أمير المؤمنين ، قد فتن النساء بشعره ، وأي امرأة لا تَصْبُو إلى مثل قوله : الرمل :
عَجِبَتْ فَطْمَةُ من نَعْتِي لها . . . هل يُجِيد النعتَ مكفوفُ النظَر ؟
بِنْتُ عَشرٍ وثلاث قسمَتْ . . . بين غُصْنٍ وكثيبٍ وقَمَرْ
درّةٌ بَحْرِيةٌ مكنونة . . . مازَها التاجر من بين الدُرَرْ
أذْرَتِ الدمعَ وقالت : ويلَتي . . . من وَلُوعِ الكف ركابِ الخَطَر
أمَتي بددَ هذا لُعبَي . . . ووِشاحِي حله حتى انتثَرْ
فَدَعيني معه يا أمتي . . . علنا في خَلْوةٍ نَقْضِي الوَطَرْ
أقْبَلَتْ في خَلْوَة تضربها . . . واعتراها كجنونٍ مُسْتَعِرْ
بِأَبي واللهِ ما أحسنَه . . . دَمْعُ عين غَسلَ الكُحْلَ قَطَرْ
أيها النُّوَامُ هبوا وَيْحَكُم . . . وسَلُوني اليومَ ما طَعْمُ السهَر
فأمره المهدي ألا يتغزل ، فقال أشعاراً في ذلك ، منها : مجزوء الكامل :
يا منظراً حسناً رأيْتُه . . . من وجه جارية فدَيتُه
لمعتْ إلي تَسُومني . . . ثَوْبَ الشباب وقد طويْتُه
واللهِ رب محمدٍ . . . ما إن غَمَزتُ ولا نَوَيْتُه
أمْسَكْتُ عنكِ ، وربما . . . عَرض البلاءُ وما ابتغيْتُهْ
إن الخليفة قد أبى . . . وإذا أبى شيئاً أبيْتُهويَشُوقني بيتُ الحبي . . . ب إذا غَدَوتُ ، وأين بيتهْ
قام الخليفةُ دونَهُ . . . فصبَرت عنه وما قَلَيْتُهْ
ونهانيَ المَلِكُ الهُما . . . مُ عن النساء فما عصيْتُه
بل قد وفيتُ ولم أُضِع . . . عَهْداً ، ولا رأياً رأيْتُه
وقال أيضاً : المنسرح :
والله لولا رِضَا الخليفةِ ما . . . أعطيتُ ضَيماً عليَ في شجَن
قد عِشْتُ بين النَدْمان والرَّاح وال . . . مِزْهر في ظل مَجْلسٍ حَسَنِ
ثم نهاني المهديُ فانصرفَتْ . . . نفسيَ ، صُنْعَ الموفَق اللَقِن
وقال : السريع :
أفنيتُ عمري وتَقَضى الشبابْ . . . بين الحمَيا والجَوَاري العِذَابْ
فالآن شفعتُ إمام الهُدَى . . . وربما طِبْتُ لحب وطَابْ
لهوتُ حتى رَاعَني دَاعياً . . . صوتُ أمير المؤمنين المُجَابْ
لَبيكَ لبيك هَجَرتُ الصّبا . . . ونَام عُذالي وماتَ العِتَاب
أبصرت رُشدِي وتركتُ المُنَى . . . وربما ذلًتْ لهن الرَقَابْ
في كلمة طويلة يقول فيها :
يا حامد القول ، ولم يَبلُه . . . سَبَقْتَ بالسَيْلِ مَسَاك السَحَابْ
الفعلُ أَوْلَى بثناء الفتى . . . ما جاءه من خطإ أوْ صَوَابْ
دعْ قولَ وَاءً وانتظر فعله . . . يثْني على اللقْحَةِ ما في الحِلاَبْإذا غدا المهديُّ في جُنْدِهِ . . . ورَاحَ في آلِ الرسول الغِضَابْ
بدَا لك المعروف في وجهِه . . . كالظَّلْم يَجْرِي في الثنايا العِذَابْ
ومن شعر بشار في الغزل : الخفيف :
أيها الساقيان صُبَّا شَرَابي . . . واسقياني من ريق بيضاءَ رُودِ
إن دائي الصَّدى ، وإنّ شفائي . . . شَرْبَةٌ من رُضَابِ ثَغْرٍ بَرُودِ
عندها الصبرُ عن لقائي ، وعندي . . . زَفَراتٌ يأكُلْنَ قَلْبَ الجَلِيدِ
ولها مَبْسِمٌ كغُرّ الأقاحي . . . وحديثٌ كالوَشْي وَشْي البُرُودِ
نزلَت في السواد من حبّة القل . . . ب ونالت زيادةَ المستزيد ثم قالت : نَلقَاك بعد لَيالٍ . . . والليالي يُبْلِينَ كلَّ جديد
لا أُبالي مَنْ ضَنَ عني بوَصْل . . . إنْ قَضَى الله منك لي يَوْم جودِ
وقال : البسيط :
تُلْقَى بتسبيحةٍ من حسن ما خُلِقَتْ . . . وتستفزّ حَشَا الرَائي بإرْعَادِ
كأنما صُوَرَتْ من ماءِ لؤلؤةٍ . . . فكلّ جارحةٍ وَجْهٌ بمِرْصَادِ
وقال : الوافر :
وهبْتِ له على المسواك رِيقاَّ . . . فطابَ له بطيبِ ثَنِيتَيْكِ
أقبله على الذكرى كأنّي . . . أقبِّلُ فيه فاكِ ومُقْلَتَيْكِ
وقال : المنسرح :
لا أستطيعُ الهوى وهِجْرَتَها . . . قلبي ضعيفٌ وقَلْبُها حَجَرُكأنَّ وجْدِي بها وقد حجبت . . . في الرأس والعين والْحَشَا سُكُرُ
وأنشد له أبو تمام ، وكان يقول : ما رأيتُ شعراً أغزل منه : الخفيف :
زوَدينا يا عَبْدَ قبْلَ الفراق . . . بتلاقِ ، وكيف لي بالتَّلاَق ؟
أنا والله أشتهي سِحْرَ عيني . . . ك وأخْشَى مصارعَ العشّاق
أُمَّتي من بني عُقيل بن كَعْبٍ . . . موضعَ السلْكِ في طُلاَ الأعناق
وقال : الطويل :
لقد عَشِقَتْ أذْني كلاماً سمعْتُه . . . رَخيماً ، وقَلْبي للمليحةِ أعْشَقُ
ولو عايَنُوها لم يَلومُوا على البُكا . . . كريماً سقاهُ الخمرَ بَدْرٌ مُحَلّق
وكيف تناسِي مَنْ كأنَّ حديثه . . . بأذني وإن عنيت قُرْطٌ مُعَلَقٌ
وقال : الطويل :
وقد كنت في ذاك الشبابِ الذي مضى . . . أزارُ ويَدْعُوني الهوَى فأَزُورُ
فإن فاتني إلْفٌ ظَلِلْتُ كأنما . . . يُديرُ حياتي في يديه مُدِيرُ
ومُرْتجةِ الأرْداف مهضومةِ الحشَا . . . تَمُورُ بسِحْرٍ عَيْنُها وتَدُورُ
إذا نظرتْ صبَّتْ عليك صَبابة . . . وكادَتْ قلوبُ العالمين تَطِيرُ
خَلَوْتُ بها لا يَخْلصُ الماءُ بيننا . . . إلى الصُبْح دوني حَاجِبٌ وسُتُورُ
ومن هذا أخذ علي بن الجهم قوله : الطويل :
صِليني وحَبْلُ الوصل لم يتشعَبِ . . . ولا تهجري أفْدِيك بالأُم والأْبِ
رَعَى اللَّهُ دهراً ضَمَنَا بعد فُرقَةٍ . . . وأدْنَى فؤاداً من فؤادٍ مُعَذبِ
عناقاً وضماً والتزاماً كأنما . . . يرى جَسدَانَا جسم روح مركبِ
فَبِتْنَا وإنا لو تُرَاق زجاجة . . . من الْخَمْرِ فيما بيننا لم تَسَربِ
وشعره في هذا المعنى كثير .
وروى أنه قال : أنا أشْعَرُ الناسِ ؛ لأن لي اثني عشر ألفَ قصيدة ، فلو اختير من كلقصيدة بيت لاستندر ، ومن ندرت له اثنا عشر ألف بيت فهو أشعرُ الناس ؛ وقد نثرتُ نَظْمَه في أضعاف الكتاب استدعاءً لنشاط القارئ وكراهة في إملاله .
وكان بشار أرقّ المحدَثين ديباجةَ كلام ، وسُمي أبا المحدثين ؛ لأنه فَتَقَ لهم أكمام المعاني ، ونهَج لهم سبيل البديع ، فاتَبعوه ؛ وكان ابن الرومي يُقَدمه ، ويزعمُ أنه أشعرُ من تقدَّم وتأخر .
وهو يتعلّق في شعره بولاء عَقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، ويفتخرُ بالمضرية . قال له المهدي : فيمن تَعْتَزِي ؟ قال : أمَا اللسان فعربيّ ، أما الأصل فكما قلت في شعري قال : وما قلت ؟ فأنشده : المتقارب :
ونبئْتُ قوماً لهمْ إحنة . . . يقولون مَنْ ذا وكَنْتُ العَلمْ
ألا أيها السائلي جَاهِلاً . . . ليَعْرِفَني أنا إلْفُ الكَرَمْ
نمَتْ في المكارمِ بي عامر . . . فُرُوعي وأصلي قُريشُ العَجَمْ
وإني لأُغني مَقامَ الفتى . . . وأُصْبي الفتاة فلا تَعْتَصِمْ
البيت الأول من هذه الأبيات ينظرُ إلى قول جميل : الطويل :
إذا ما رأوني طالعاً من ثنيّةٍ . . . يقولون مَنْ هذا وقد عَرَفوني
وفي هذه القصيدة يقول بشار : المتقارب :
وبيضاءَ يضحكُ ماءُ الشبا . . . ب في وجهها لك إذ تبتسم
دُوارُ العذَارى إذا زُرْنَها . . . أطَفْنَ بَحَوْراءَ مِثْلِ الصَنَمْ يَرُحْنَ فَيَمْسَحْنَ أركانَها . . . كما يَمْسَحُ الحجَرَ المستَلِم
أصفراء ليس الفتى صَخْرَةً . . . ولكنه نُصبُ هَمّ وغَمّ
صَبَبْتِ هواكِ على قلبهِ . . . فضاق وأعْلَنَ ما قد كَتَم
ويقال : إنه مولى لأم الظباء السَدُوسية ، ولذلك قال أبو حُذَيفة واصِلُ بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة لمّا هجاه بشار : أمَا لهذا الأعمى الملحِد المشَنَف المكتني بأبي معاذمَنْ يَقْتُله ؟ واللّه لولا أنَ الغِيلة من سجَايَا الغَالِية ، لبعثتُ إليه من يَبْعَجُ بطنه في جوف منزله ، ولا يكون إلاَ سَدُوسِيّاً ، أو عُقَيْلِياً .
وكان واصلُ بن عطاء أحَد أعاجيب الدنيا ؛ لأنه كان ألثغ في الراء ، فأسقطها من جميع كلامه وخطبه ؛ إذ كان إمامَ مَذْهَب ، وداعيَ نحِلْة ، وكان محتاجاً إلى جَوْدَةِ البَيَانِ ، وفصَاحَةِ اللَسَان . قال الجاحظ : فانظر كثرةَ ترداد الراء في هذا الكلام وكيف أسقطها ؟ قال : الأعمى ، ولم يقل الضرير ، وقال : الملحد ولم يقل الكافر ، وقال : المشنَف ، ولم يقل المرعَث ، وقال : المكتَني : بأبي معاذ ، ولم يقل بشاراً ولا ابن برد ، وقال : الغالية ، ولم يقل المغيرية ، ولا المنصورية ، وهم الذين أراد ، وقال : لبعثت ، ولم يقل لأْرْسلت ، وقال : يبعَج ، ولم يقل يَبْقُر ، وقال : في جوف منزله ، ولم يقل في داره ، وأراد بذكر عُقَيْل وسدُوس ما ذكر من اعتزائه إليهم .
وزعم الجاحظ أن بشاراً كان يَدِين بالرَجعة ، ويُكَفر جميعَ الأمة ؛ وأنشد له أشعاراً صوب بها رَأيَ إبليس في تقديم النار على الطين ، منها قولُه : البسيط
الأرض مُظْلِمَةٌ ، والنارُ مُشْرِقةٌ . . . والنارُ معبودةٌ مُذْ كانتِ النارُ
وقال داود بن رَزِين : أتينا بشاراً ، فأذِنَ لنا والمائدةُ بين يديه ، فلم يَدْعُنَا إلى الطعام ، ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصل ، ودعا بطسْت فَبالَ بحضرتنا ، فقلنا له : أنت أستاذُنا ، وقد رأينا منك أشياءَ أنكرناها ، قال : ما هي ؟ قلنا : دخلْنَا والطعامُ بين يديك فلم تَدْعُنَا ، قال : إنما أذِنْتُ لتَأكلوا ، ولو لم نُرِدْ ذلك لم نأذن لكم ، قلنا له : ودعوت بالطست ونحن حضور ، قال : أنا مكفوف ، وأنتم مأمورون بغض الأبصار دوني ، قلنا : وحضرت الصلاة فلم تصلّ قال : الذي يقبلها تفارِيقَ يقبلها جملة هذا وهو القائل : الخفيف :
كيف يبكي لمَحْبَس في طُلُول . . . من سَيُفْضِي لِحَبْسِ يَوم طويلِ
إن في البعث والحساب لشغلاً . . . عن وقوفٍ برَسْمِ دَار محيلوقال : الطويل :
ذكرتُ بها عيشاً فقلت لصاحبي : . . . كأن لم يكُنْ ما كان حينَ يزولُ
وما حاجتي لو ساعد الدهرُ بالْمُنى . . . كِعَابٌ عليها لؤلؤٌ وشُكولُ
بدا ليَ أن الدهرَ يَقْدَحُ في الصّفَا . . . وأن بَقَائي إن حَيِيتُ قَلِيلُ
فعِشْ خائفاً للموتِ أو غيرَ خَائِفٍ . . . على كلِّ نفس للحمامِ دَلِيل
خليلك ما قدَمْتَ من عمل الثُقَى . . . وليس لأيام المَنُون خَليلُ
وكان بشَارٌ حاضرَ الجواب ، سجًّاعاً ، خطيباً ، صاحبَ منثور ومُزْدَوج ورَجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام ، ودخل على عُقْبة بن مسلم بن قتيبة ، فأنشده مديحاً وعنده عقبة بن رُؤْبة ، فأنشده أرجوزة ، ثم أقبل على بشار فقال : هذا طِراز لا تحسنه يا أبا معاذ فقال : واللّه لأنا أرجز منك ومن أبيك ؛ ثم غدا على عقبة من الغَد ، فأنشده أرجوزته : رجز :
يا طَلَل الحيّ بذات الصَّمْد . . . باللّهِ خَبّر ْكيف كنتَ بعدي
يقول فيها :
صَدَّتْ بخدً وجلَتْ عن خَد . . . ثم انثَنَتْ كالنَّفَس المُرْتَد
وصاحبٍ كالدمل المُمِدّ . . . حملْتُه في رُقْعَة من جِلدي
حتى اغتدى غيرَ فقيد الفَقْد . . . وما درى ما رَغْبَتي من زهدي
وهذا كقول الآخر : الطويل
يودون لو خَاطُوا عليك جلودَهم . . . ولا يَدْفع الموتَ النفوسُ الشحائحُ
وفيها يقول :
الحرّ يُلْحَى والعصا لِلْعَبْد . . . وليس لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الردَاسْلَمْ وحُيِّيتَ أبا المِلَدّ . . . مفتاحَ باب الْحَدَث المُنْسَدِّ والبَسْ طِرَازي غيرَ مُسْتَرَد . . . للَّهِ أيامُك في مَعَد
هي طويلة ، فأجزلَ صلته ، فلمّا سمع ابن رُؤبة ما فيها من الغريب قال : أنا وأبي وجدي فتحْنَا الغريبَ للناس ؛ وإني لخليق أن أسدّه عليهم ، فقال بشار : ارحمهمْ ، رحمك اللّه قال : تستخفّ بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر ؟ قال : إذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجْس وطهَّرهم تطهيراً فضحك كلّ مَنْ حضر .
ودخل على المهدي وعنده خالُه يزيد بن منصور الحميري ، فأنشده قصيدة ، فلمّا أتمها قال له يزيد : ما صناعتك يا شيخ . قال : أثْقُبُ اللُؤلُؤَ ، فقال له المهدي : أتهْزَأُ بخَالي ؟ . فقال : يا أميرَ المؤمنين ، فما يكونُ جَوَابي لمن يَرَى شَيْخاً أعمى يُنْشِدُ شعراً فيسأله عن صِنَاعته ؟ وقْال جَوَاري المهدي للمهدي : لو أذِنْتَ لبشَّار يدخل إلينا يؤانسنا ويُنُشِدنا فهو محجوب البَصَرِ ، لا غيرة عليك منه ، وأكمره فدخل إليهنّ واستظرفْنَه ، وقلْن له : وددْنا واللَّهِ يا أبا معاذ أنك أبونا حتى لا نفارقِك ، قال : ونحن على دينِ كسرى فأمر المهدي ألاّ يدخل عليهن .
وكأن المتنبي نظر إلى هذا فقال : الكامل :
يا أخْتَ مُعْتَنِقِ الفوارسِ في الوَغَى . . . لأخُوكِ ثَمَّ أرَق مِنْكِ وأرْحَمُ
يَرْنُو إليك مع العَفافِ وعِنْدَه . . . أنَ المجوسَ تصِيبُ فيما تَحْكُم
في المودة والعتاب والصدق والكذب
قال علي بن عبيدة الريحاني : المودَةُ تَعَاطُفُ القلوب ، وائتلافُ الأرواح ، وحَنين النفوس إلى مَثَابة السرائر ، والاسترواحُ بالمستكنات في الغرائز ، ووحشة الأشخاص عند تَبَايُن اللقاء ، وظاهر السرور بكثرة التزوار ، وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون اتفَاقُ الخصَال .وقال : العِتابُ حدائقُ المتحابِّين ، وثمارُ الأوداء ، ودليل الظنّ ، وحركات الشَوق ، وراحةُ الوَاجد ، ولسان المُشْفق .
قال بعض الكتاب : العِتاب عَلاَمةُ الوَفاء ، وحاصَة الْجَفاء ، وسلاحُ الأكفاء .
وقال علي بن عبيدة : التجنّي رسولُ القطيعة ، وداعي القلَى ، وسبب السلو ، وأولُ التجافي ، ومنزل التهاجر .
وقال : الصدقُ ربيعُ القلب ، وزكاة الْخَلْقِ ، وثمرة المروءة ، وشُعاعُ الضمير ، وعن جلالة القدر عبارته ، وإلى اعتدالِ وزْن العقل يُنْسَب صاحبه ، وشهادتُه قاطعةٌ في الاختلاف ، وإليه ترجع الحكومات .
وقال : الكذبُ شِعارُ الخيانة ، وتحريفُ العلم ، وخواطر الزور ، وتسويلُ أضغاث النفس ، واعوجاج التركيب ، واختلافُ البنية ، وعن خمول الذكر ما يكون صاحبه .
وعلي بن عبيدة كثير الإغاْرة ، عَلَى ما كان غَيْرُه قد استثَارَه .
فقر في الكذب لغير واحد
بعض الفلاسفة : الكذاب والميتُ سواء ؛ لأن فضيلة الحي النُّطق ، فإذا لم يُوثَق بكلامه فقد بطلت حياته .
الحسن بن سهل : الكذاب لِصّ ؛ لأن اللص يسرقُ مالك ، والكذاب يسرقُ عقلك ؛ ولا تأمن مَنْ كذب لك أنْ يَكذِب عليك ، ومن اغتاب غيرَك عندك فلا تأمَنْ أن يغتابَك عند غيرك .
قال إبراهيم بن العباس في هذا النحو : مجزوء الكامل :
إني متى أحقِدُ بحق . . . دك لا أضُر به سِوَاكا
ومتى أطعتُك في أخي . . . ك أطعتُ فيك غداً أخاكا
حتى أرى متقسماً . . . يَوْمِي لذا ، وغَداً لِذَاكا
حَسبُ الكاذب بعقله سَقَماً وبقلبه خصماً .ابن المعتز : علامةُ الكذاب جُوْده باليمين لغير مستحلف ، وقال : البسيط
وفي اليمين على ما أنت فاعلهُ . . . ما دلّ أنك في الميعادِ مُتَّهَمُ
وقال : اجتنِبْ مصاحبة الكذاب ، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه ، ولا تُعلِمه أنك تكذبه ، فينتقل عن وده ، ولا ينتقل عن طبعه . يعترِي حديثَ الكذّاب من الاختلاف ما لا يعتري الْجَبانَ من الارتعاد عند الحَرْب . لا تَصِحُ للكذاب رُؤْيا ، لأنه يُخْبر عن نفسه في اليقظة بما لم يَرَ ، فتريه في النوم ما لا يكون ، وأنشد : البسيط :
لا يكذب المرءُ إلاَّ مِنْ مَهَانَته . . . أو عادة السوء ، أو مِنْ قِلَةِ الأدَبِ
ولأهل العصر : فلان مُنْغَمِس في عيبه ، يكذب لذيله على جَيْبِه ، يقول بهْتاً ، وزُوراً بَحْتاً ، قد ملأ قلبه رَيْناً ، وقوله مَيْناً ؛ يدين بالكذب مَذْهباً ، ويستثير الزور مركباً . أقاويلُ يتمشى الزُورُ في مناكِبها ، ويَبْرُزُ البهتانُ في مذاهبها .
وقال أعرابي لابنه وسمعه يَكْذِب : يا بني ، عجبتُ من الكذَّاب المُشِيد بكَذبه ، وإنما يدكُ على عَيْبِه ، ويتعرَّضُ للعقاب من رَبِّه ؛ فالآثامُ له عادة ، والأخبارُ عنه متضادة ، إن قال حقاً لم يُصَدَق ، وإن أراد خيراً لم يوفَّق ، فهو الجاني على نفسه بفعاله ، والدّالُ على فضيحته بمقَالِه . فما صحَّ من صدقه نُسِب إلى غيره ، وما صحّ من كذب غَيْرِه نُسِب إليه ، فهو كما قال الشاعر : مجزوء الكامل :
حَسْب الكذوب من المَهَا . . . نة بَعْضُ ما يحكى عليهِ
ما إن سمعت بكذبة . . . من غَيْرِه نسبَتْ إليهِ
ما قيل في الزفاف
كتب الحسن بن سهل إلى المأمون ، بعد أن زُفَّت إليه بوران وتوهَّم القوادُ أن هذا التزويجَ قد أنْسَى الحسَن حالَه قبل ذلك ؛ قد تولّى أميرُ المؤمنين من تَعْظِيم عبده في قبول أمَتِه شيئاً لا يتسعُ له الشكرُ عنه إلاَ بمعونة أميرِ المؤمنين ، أدام الله عزَه ، في إخراج توقيعه بتزيين حَالي في العامة والخاصة ، بما يراه فيه صواباً إن شاء اللّه .
فخرج التوقيع : الحسنُ بن سهل زمامٌ على ما جمع أُمور الخاصة ، وكَنَف أسباب العامة ، وأحاط بالنفقات ، ونفذ بالولاة ، وإليه الخراجُ والبريدُ واختيارُ القُضَاة ، جزاءً بمعرفته بالحالِ التي قَربَتْهُ منا ، وإثابةً لشكره إيانا على ما أولينا .قال يحيى بن أكثم : أراد المأمون أن يزوج ابنته من الرضا فقال : يا يحيى تكلّم ، فأجللْتُه أن أقولَ : أنكحت ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنت الحاكم الأكبر ، والإمام الأعظم ، وأنْتَ أوْلى بالكلام ، فقال : الحمدُ للّه الذي تصاغرت الأمور بمشيئته ، ولا إلهَ إلا هو إقراراً بربوبيته ، وصلّى الله على محمد عند ذكره .
أمّا بعد ، فإن الله قد جعل النكاح دِيناً ، ورَضِيَه حُكْماً ، وأنزله وحياً ؛ ليكونَ سببَ المناسبة ؛ ألاَ وإني قد زوجت ابنة المأمون من عليّ بن موسى ، وأمهرتها أرْبَعَمِائَةِ درهمٍ ، اقتداءً بسنةِ رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وانتهاء إلى ما دَرَج إليه السلفُ ، والحمدُ لله ربّ العالمين .
قال الأصمعي : كانوا يستحبّون من الخاطب إلى الرجل حُرمته الإطالة ، لتدل على الرغبة ، ومن المخطوب إليه الإيجاز ، ليدلّ على الإجابة .
وخطب رجل من بني أمية إلى عمر بن عبد العزيز أخته ، فأطال ؛ فقال عمر : الحمدُ لله في الكبرياء ، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء ؛ أما بعد ، فإن الرغبةَ منك دَعَتْك إلينا ، والرغبة منّا فيك أجابَتْ ، وقد زوّجناك على كتاب الله : إمساكٌ بمعروف ، أو تسريحٌ بإحسان .
وخطب رجل إلى قوم فأتى بمن تَخْطُب له ، فاستفتح بحمد الله وأطال ، وصلّى على النبي عليه السلام وأطال ، ثم ذكر البَدء وخلْقَ السماوات والأرض ، واقتص ذِكر القرون حتى ضَجِر مَنْ حضر ، والتفت إلى الخاطب ، فقال : ما اسمُكَ أعزَّك الله ؟ فقال : والله قد أنسيت اسمي من طول خطبتك ، وهي طالقٌ إن لزوجتها بهذه الخطبة ؛ فضحك القوم ، وعَقَدُوا في مجلس آخر .
فقر في الكتاب والقلم والسيف والخطّ
وقال ابن المعتز : الكتاب وَالِجُ الأبواب ، جريءٌ على الحجاب ، مُفْهِم لا يَفْهَم ، وناطقٌ لا يتكلم ، به يشخص المشتاقُ ، إذا أقعده الفراق ، والقلم مجهزٌ لجيوش الكلام ، يخدم الإرادة ، لا يمل الاستزادة ، ويسكتُ واقفاً ، ويَنْطِقُ سائراً ، على أرض بياضُهَا مُظْلِم ، وسوادها مُضِيء ، وكأنه يقبل بِسَاط سلطان أو يفتح نُوَار بستان .
وهذا كقوله في القاسم بن عبيد الله ، قال الصولي : لما عُرض القاسم بن عبيد الله ليخلف أباه : قال ابن المعتز : الخفيف :
قلم ما أراهُ أم فلك يَج . . . ري بما شاء قاسم ويسيرُخاشعٌ في يدَيْه يَلْثِمُ قِرْطا . . . ساً كما قتل البساطَ شكورُ
ولَطِيفُ المعنى جَليلٌ نَحِيفٌ . . . وكبير الأفعال وَهْوَ صغيرُ
كم منايا وكم عطايا وكم حت . . . فٍ وعيشٍ تَضُمُّ تلك السُطُورُ
نقشت بالدُجا نهاراً فما أدْ . . . ري أخطٌ فيهن أم تَصْويرُ
هكذا مَنْ أبوه مِثْلُ عُبَيْدِ ال . . . له ينمى إلى العُلاَ ويَصِير عَظُمَتْ مِنّةُ الإله عليْهِ . . . فهناك الوزيرُ وهْوَ الوَزِيرُ
وقال بعض البلغاء : صورةُ الخطّ في الأبصار سواد ، وفي البصائر بَيَاض .
وقال أبو الطيب المتنبي : الطويل :
دَعاني إليكَ العلمُ والحِلْمُ والحِجَى . . . وهذا الكلامُ النَظْمُ والنّائِلُ النثْرُ
وما قُلْتُ مِنْ شِعْرٍ تكَادُ بُيوتهُ . . . إذا كُتِبَتْ يَبْيَضُ مِنْ نورِها الحِبْرُ
وقال ابن المعتز في عبيد الله بن سليمان بن وهب : الطويل :
عليمٌ بأعْقَاب الأمور ، كأنه . . . بمختلسات الظن يسمعُ أو يرى
إذا أخذ القرطاس خِلْتَ يمينهُ . . . يُفتَح نَوْراً أو يُنَظمُ جوهرا
فاخرَ صاحبُ سيفٍ صاحبَ قلم ، فقال صاحب القلم : أنا أقتلُ بلا غَرَر ، وأنت تقتلُ على خَطَر . فقال صاحب السيف : القلمُ خادِمُ السيف ، إن تَمَ مرادُه وإلاَ فإلى السيف مَعاده ؛ أما سمعت قول أبي تمام : البسيط :
السيفُ أصدَقُ إنباءَ من الكتُبِ . . . في حده الحدُ بَيْنَ الجِد واللَعبِ
بِيضُ الصفائح لا سُودُ الصحائفِ في . . . مُتُونِهنَ جَلاَءُ الشًكَّ والرَيَبِ
وقال أبو الطيب : البسيط :
ما زِلْتُ أُضْحِكُ إبلي كُلما نظرَتْ . . . إلى مَن احتَضَنَتْ أخْفافُها بدَمِ
أسِيرُها بَيْنَ اصنام أشاهِدها . . . ولا أشاهِدُ فيها عِفةَ الصَنَمِ
حتى رَجَعْتُ وأقلامِي قوائِلُ لي . . . المجد للسيف ليسَ المَجدُ لِلقَلِم
أكتُب بنا أبداً بعدَ الكِتَابِ به . . . فإنما نَحنُ للأسيافِ كالخَدمهذا مقلوبٌ من قول علي بن العباس النوبختي ، وقد رواه أبو القاسم الزجاجي لابن الرومي ، وإنما وهم لاتّفاق الاسمين : البسيط :
إن يَخْدُمِ القلم السيف الذي خضعَتْ . . . له الرقابُ ودانَتْ خوفه الأممُ
فالموتُ والموت لا شيء يُغَالبه ما زال يَتْبَع ما يَجْرِي به القلم
بذا قَضَى اللَه للأقلام مذْ بُرِيَتْأنّ السيوفَ لها مذْ أرهِفت خَدَم
وقال ابن الرومي : المتقارب :
لَعَمْرُكَ ما السيْفُ سَيْف الكَمِي . . . بأخْوَفَ منْ قَلمِ الكاتِبِ
لَهُ شاهد إنْ تأمَلْتَهُ . . . ظَهَرْتَ على سِرِّهِ الْغَائِبِ
أداةُ المنيَّةِ في جانبيه . . . فمِنْ مِثْلِه رَهْبَةُ الرَّاهِبِ
سِنَانُ المنية في جانِبِ . . . وحَدُّ المنِيةِ في جَانِبِ
ألم تَرَ في صَدْرِهِ كالسنَانِ . . . وفي الرِّدْفِ كالمُرْهَفِ الْقَاضِبِ ؟
وقال أبو الفتح البستي : الطويل :
إذا أقسم الأبطالُ يوماً بسيفهم . . . وعدّوه ممّا يُكْسِبُ المجدَ والكرمْ
كفى قَلَمُ الكتاب مَجْداً ورفعةً . . . مدَى الدَّهرِ أنّ اللَه أقْسَم بالقَلَمْ
وقد قيل : صريرُ الأقلام ، أشدّ من صليل الحُسام .
قال الصولي : أنشدني طلحة بن عبيد : الكامل :
وإذا أمرَ على المهارِقِ كَفَّهُ . . . بأنامل يَحْمِلْنَ شَخْتا مُرْهَفا
متقاصراً مُتَطاوِلاً ومفصلاً . . . وموصلاً ومشتتاً ومُؤلفا
ترك العُداة رَواجفاً أحشاؤُها . . . وقِلاَعَها قِلَعاً هنالِكَ رُجَفا
كالحيّة الرَّقْشَاء إلاَّ أنه . . . يستنزل الأرْوَى إليه تلطفا
يرمي به قلماً يمجُّ لُعابه . . . فيعود سيفاً صارِماً ومثقَّفا
وقال محمود بن أحمد الأصبهاني : السريع :
أخرسُ يُنْبيك بإطْرَاقِهِ . . . عن كل ما شئتَ منَ الأمرِ
يُذْرِي على قِرْطاسهِ دَمْعَةً . . . يُبْدِي بها السرَّ وما يَدْرِي
كعاشق أخْفَى هواه وقد . . . نفَت عليه عَبْرَة تجْرِيتُبْصِرُه في كلِّ أحوالهِ . . . عُرْيانَ يكسُو الناس أو يُعْرِي
يُرَى أسيراً في دوَاةٍ وقد . . . أطلَق أقواماً من الأسْرِ
أخرق لو لم تَبْرِه لم يَكُنْ . . . يَرْشُقُ أقواماً وما يَبْرِي كالبَحْر إذْ يجري ، وكالليل إذْ . . . يَغْشَى ، وكالصارم إذْ يَفْرِي
وقال أحمد بن جِرَار : السريع :
أهيفُ ممشوقٌ بتحريكهِ . . . يحل عقدَ السِّرَ إعلانُ
له لسانٌ مُرْهَفٌ حدُهُ . . . من رِيقَة الكُرْسُف رَيانُ
تَرَى بسيطَ الفكر في نَظْمِهِ . . . شخْصاً له حدٌ وجُثْمَانُ
كأنما يَسْحَبُ في إثرهِ . . . ذَيْلاً من الحِكمَة سَحْبَانُ
لولاه ما قام مَنارُ الهدى . . . لا سَمَا لِلْمُلْكِ ديوانُ
ومن أجود ما قيل في صفة القلم قول تمام لمحمد بن عبد الملك الزيات : الكامل :
لَكَ القَلَمُ الأعْلَى الّذي بِشَباتهِ . . . تُصابُ من الأمرِ الكُلى والمفاصِلُ
له رِيقة طَلٌّ ولكِن وَقْعَها . . . بآثارِه في الشَرْقِ والغَرْبِ وَابِلُ
لُعابُ الأفاعِي القاتِلاَتِ لُعَابُهُ . . . وَأرْيُ الْجَنَى اشْتَارَتْهُ أيْدٍ عَوَاسِلُ
له الخلوات اللاء لولا نَجِيُّها . . . لما اختلفتِ للمُلك تِلْكَ المَحَافل
وقال الأمير تميم بن المعز : الطويل :
وذي عَجَبٍ من طول صَبْرِي على الذي . . . أُلاقي من الأرْزَاءِ وَهْوَ جليلُ
يقولون : ما تَشْكو ؟ فقلت : مَتَى شَكَا . . . شَبَا السيفِ عَضبُ الشفرتَيْنِ صَقِيل ؟
وإن أمرأ يشكو إلى غير نافع . . . ويَسْخو بما في نفسهِ لجَهولعذابيَ أنْ أشكو إلى الناس أنني . . . عليلٌ ومَنْ أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى اللَّه عِلْمُهُ . . . بجمْلَة ما ألْقاه قَبْلَ أقولُ
سأسكتُ صَبْراً واحتساباً فإنني . . . أرى الصبْرَ سيفاً ليس فيه فُلُولُ
وقال : الكامل :
يا دَهْرُ ، ما أقساك مِنْ مُتَلون . . . في حالَتَيك ، وما أقلَّك مُنْصِفَا
أتروح للنكْس الجهول ممهّداً . . . وعلى اللبيب الحُرِّ سيفاً مُرْهَفا ؟
وإذا صَفَوْتَ كَدُرْتَ ، شيمةَ باخل ، . . . وإذا وَفَيتَ نَقَضْتَ أسباب الوَفا
لا أرتضيك ، وإن كرمْتَ ؛ لأنني . . . أدري بأنك لا تدومُ على الصّفَا
زمنٌ إذا أعطى استرد عَطاءَهُ . . . وإذا استقام بَدَا له فتحرَّفا
ما قام خيرك يا زمانُ بشرّهِ . . . أوْلَى بنا ما قل منك وما كَفَى
من أخبار الكاتب أحمد بن يوسف
وكان أحمدُ بن يوسف منصرفاً عن غسَّان بن عباد ، وجرَتْ بينهما هَنَات بحَضْرَةِ المأمون ، فقال يوماً بحضرة خاصَّة أصحابه : أخبروني عن غسَان بن عباد ؛ فإني أُريده لأمرٍ جسيم ؛ وكان قد عَزم على تقليده السند مكانَ بِشْرِ بن داود ؛ فتكلّمَ كلُّ فريق بما عنده في مَدْحِه ؛ فقال أحمد بن يوسف : هو ، يا أميرَ المؤمنين ، رجلٌ محاسِنُه أكثرُ من مساويه ، لا يتطرَّفُ به أمرٌ إلاّ تقدَم فيه ، ومهما تخوف عليه فإنه لن يَأْتي أمراً يَعْتذر منه ؛ لأنه قسم أيامه بين أفعال الفَضْل ؛ فجعل لكلِّ خُلُق نَوبة ، إذا نظرتَ في أمْرِه لم تَدْرِ أيّ حالاته أعجب ؛ أمَا هَدَاهُ إليه عَقْلُه أمْ ما اكتسبه بأدبه ؟ فقال له المأمون : لقد مدحته على سوء رَأيك فيه قال : لأني في أمير المؤمنين كما قال الشاعر : الوافر :
كفَى ثمنا لِمَا أسْدَيْت أني . . . نصحتُك في الصديق وفي عِدَائي
وأني حين تَنْدُبُني لأمرٍ . . . يكون هَواكَ أغْلَبَ مِنْ هَوائيقال الصولي : وقد روي هذا لغير أحمد ، ولعل أحمد استعاره ؛ فأعجب المأمون ذلك منه ، وشكره غسان بن عبّاد له ، وتأكَّدت الحالُ بينهما . وكان أحمدَ بن يوسف بن القاسم بن صبيح ، مولى عِجْل بن لجيم ، عَاليَ الطبقة في البلاغة ، ولم يكن في زمانه أكْتب منه ، وله شعرٌ جيد مرتفع عن أشعار الكتّاب ، ووزر للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد ، وكان أول ما ارتفع به أحمد أن المخلوعَ محمد بن الرشيد لمّا قتِل أمر طاهر بن الحسين الكُتَّاب أن يكتبوا إلى المأمون ؛ فأطالوا ، فقال طاهر : أريد أخصر من هذا ، فوُصِفَ له أحمد بن يوسف وموضعه من البلاغة ، فأحضره لذلك ، فكتب : أمَا بعد ، فإنْ كان المخلوع قَسيمَ أمير المؤمنين في النَّسَب واللّحْمَة ، فقد فرَّق بينهما حكمُ الكتاب في الولاية والخدمة ، بمفارقته عِصمة الدين ، وخروجه عن الأمْرِ الجامع للمسلمين ؛ لقول اللّه عزّ وجلّ فيما اقتص علينا من نبإ نوح وابنه : ' إنّه ليسَ مِنْ أهْلِك إنّه عَمَلٌ غَيْرُ صالحٍ ' ، ولا طاعة لأحدٍ في معصية الله ، ولا قطيعةَ ما كانت القطيعةُ في ذاتِ اللّه ؛ وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد أنجز اللَّهُ له ما كان ينتظرُ من سابقِ وَغدِه ، والحمد للّه الراجع إلى أمير المؤمنين معلوم حقّه ، الكائد له فيمن خَتَر عَهْدَه ، ونَقَضَ عَقدَه ، حتى رَدّ به الأُلْفَةَ بعد فُرْقَتِها ، وجَمع به الأمة بعد شَتَاتِها ، وأضاء به أعْلام الدين بعد درُوسِها ؛ وقد بعثتُ إليك بالدنيا وهي رَأسُ المخلوع ، وبالآخرة وهي البُرْدَةُ والقَضيب ؛ والحمدُ لله الآخذِ لأمير المؤمنين حقَه ، الراجع إليه تُرَاثَ آبائه الراشدين .
وكان أحمد بن أبي خالد كثيراً ما يَصِفُ أحمد للمأمون ويحثه عليه ، فأمره المأمون بإحضاره ، فلمّا وقف بين يديه قال : الحمدُ للّه يا أميرَ المؤمنين الذي استخصَّك فيما استحفظَك من دينه ، وقلدَك من خلافته ، بسوابغ نعَمه ، وفضائل قِسَمِه ، وعرَفَكَ من تيسير كلِّ عسيرٍ حاولك عليه متمرّد ، حتى ذلَّ لك ما جعله تكملة لما حَبَاك به من مواردِ أمورِه بنُجْح مصادرها ، حَمْداً نامياً زائداً لا يَنْقَطِعُ أُولاه ، ولا يَنْقَضِي أُخْرَاه ، وأنَا أسأَلُ الله يا أميرَ المؤمنين من إتمام بلائه لديك ، ومِنَنِه عليك ، وكفايَتِه ما ولاَّك واسترعاك ، وتحصين ما حازَ لك ، والتمكين من بلادِ عدوِّك ، مما يمنعُ به بَيْضَةَ الإسلام ، ويُعِز بك أهْلَه ، ويُبِيحُ بك حِمَى الشِّرْكِ ، ويجمع لك مُتَباين الأُلْفَة ، ويُنْجِز بكَ في أهل العِنادِ والضلالة وَعْدَهُ ؛ إنه سميع الدعاء ، فعّال لما يشاء .
فقال المأمون : أحسنتَ ، بُورك عليك ناطقاً وساكتاً ثم قال بعد أن بَلاه واختبره : ياعجباً لأحمد بن يوسف كيف استطاع أن يكْتُم نَفْسَه ؟ وكتب إلى المأمون يستَجْدِي لزوار على بابه : إن داعِي نَدَاك ، ومُنَادِي جَدْوَاك ، جَمَعاً ببابك الوُفود ، يرجون نائلَكَ العَتيد ، فمنهم من يَمُتُ بحُرْمة ، ومنهم من يُدْلي بسالفِ خِدْمَة ، وقد أَجْحَفَ بهم المقام ؛ فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يَنْعَشهم بسِيبِه ، ويحقق ظنَهُم بطَوْله ، فَعَلَ .
فوقعَ المأمون في عرض كتابه : الخيرُ متبع ، وأموال الملوك مَظَان لطلاب الحاجات ؛ فاكتُب أسماءَهم ، وبيِّنْ مرتبةَ كل واحد منهم ، ليصيرَ إليه على قَدرِ استحقاقه ؛ ولا تكدرَن معروفنا بالمَطْلِ والحجاب ؛ فقد قال الشاعر : الوافر :
فإنك لَنْ تَرَى طَرْداً لحُرّ . . . كإلصاق به طرف الهَوَانِ
ولم تُجْلَبْ مودَةُ ذِي وَفَاءً . . . بمثل الوُدّ أو بَذلِ اللسَانِ
قال أحمد بن يوسف : أمرني المأمون أن كتب في زيادة قناديل شهر رمضان ؛ فأعْيا علي ، ولم أجِدْ مثالاً أحْتَذِي عليه ؛ فبت مغموماً ، فأتاني آتٍ في النوم فقال : اكتب : فإنَ فيها إضاءة للمتهجدين ، ونفياً لمكان الريب ، وأنْسَا للسابِلة ، وتنزيهاً لبيوت الله من وَحْشَةِ الظلم ، فأخبرت بذلك المأمون ، فاستظرفه ، وأمر أن تمضي الكُتُب عليه .
وأهدى إلى المأمون في يوم نوروز طبقَ جَزع عليه ميلِ من ذَهب ، فيه اسمه منقوش ، وكتب إليه : هذا يوم جَرَت فيه العادةُ ، بإلطاف العبيد السادة ، وقد بعثتُ إلى أمير المؤمنين طبق جزع فيه ميل .
فلمّا قرأ المأمون الرقعة قال : أجاءت هديةُ أحمد بن يوسف ؟ قالوا : نعم ، قال : هي في داري أمً داري فيها ؟ فلمّا رفع المنديل استظرف الهدية واسترجح مُهدِيها . وأهدى إلى إبراهيم بن المهدي هدية وكتب إليه : الثقةُ بك قد سهلت السبيلَ إليك ، فأهْدَيْتُ هديةَ من لا يَحتَشِم إلى من لا يَغْتَنِم .
وكتب إلى بني سعيد بن سلم : لولا أن الله ، عز وجلّ ، ختم نبوته بمحمد ، ( صلى الله عليه وسلم ) ،وكتبَه بالقرآن ، لنزَل فيكم نبيَ نِقْمَة ، وأنزل فيكم قرآن غَدْر ؛ وما عَسيت أن أقولَ في قومٍ محاسنهم مساوي السُفْل ، ومساويهم فَضَائحُ الأمم ، وألسنتُهم معقولة بالعِيِّ ، وأيديهم معقودة بالبخْل ، وهم كما قال الشاعر : البسيط :
لا يكبرون وإن طَالَتْ حياتهُمُ . . . ولا تَبِيد مَخَازِيهم وإن بَادُوا
وغنَّى مُغَن بحضرة أحمد بن يوسف ولم يكن مُحسناً ، فلم يُنْصِتوا له ، وتحدَثوا مع غِنائه ، فغضب المغنّي ، فقال أحمد بن يوسف : أنت ، عافاك الله ، تحمَل الأسماع ثقلاً ، والقلوب مَلَلا ، والأعْيُن قَبَاحة ، والأنف نتَانة ، ثم تقولُ : اسمعوا مني ، وأنصِتوا إلي هذا إذا كانت أفهامُنا مُقْفَلة ، وآذاننا صَدِئِة ، فإمّا رضيت بالعَفْو منا ، وإلا قمت مذموماً عنّا .
ألفاظ لأهل العصر في ذم المغنين
يترنَم فيُتْعِبُ ولا يُطْرِب . إذا غنى عَنى ، وإذا أدَى آذى . يميت الطَّرَب ، ويحيي الكُرَب . ضرْبُه يُوجِب ضَرْبه . من عجائب غِنائه أنه يُورِد الشتاء في الصيف . ما رؤي قطّ في دارٍ مرتين ، وحضر جحظة مجلساً فيه علي بن بسام ، فتفرق القومُ المخادّ ، فقال جحظة : فما لي لم تعطوني مخدَّة ؟ فقال علي بن بسام : غنِّ فالمخاد كلّها إليك تصير وفيه يقول ابن بسام : السريع :
يا مَنْ هَجَوْناه فَغَنّانا . . . أنت ، وبيتِ اللَه ، أهجانا
سِيان إن غنّى لنا جحظةٌ . . . أو مرَ مجنون فزنانا
وكان خالد يُستَبرد ، فبعث بعضُ الظرفاء غلامه يشتري له خمسة أرطال ثلج ، فأتاه بخالدٍ وقال : يا مولاي ، طلبت خمسة أرطال ، وهذا حِمْل وتغنى بحَضْرة محموم ، فقال : ويحك دَعْنا نعرق وقال بعض المحدثين في قريس المغني : المتقارب :
ألاَ فاسقني قدحاً وافراً . . . يُعِينُ على البَلْغَمِ الهائجِ
أكلنا قَرِيساً وغَنى قريس . . . فنحنُ على شرف الفالجِ
ولقي أبو العباس المبرد بردَ الخيار المغنّي في يوم ثَلْج بالجسر ، فقال : أنت المبّرد وأنا برد الخيار ، واليوم كما تَرى ، اعبُر بنا لا يهلك الناس بالفالج بسببنا .وقال ابن عباد الصاحب في مغن يعرف بابن عذاب : مخلع البسيط :
أقول قولاً بلا احتشام . . . يعقله كلُّ مَن يَعيهِ
ابن عذابٍ إذا تغنّى . . . فإنني منه في أبيه
رجع إلى أحمد بن يوسف
ومن شعر أحمد بن يوسف : مخلع البسيط :
ضمِيرُ وَجدٍ بقَلبِ صَب . . . تَرجَمَ دَمعِي بِهِ فَشَاَعا
فصار دَمْعي لِسانَ وَخدِي . . . ضيّع سِرَيً به فَذاعا
لولا دموعي وفَرط حُبي . . . ما كان سِرِّي كذا مضاعا
وقال : المنسرح :
وعامل بالفجورِ يَأمُر بال . . . بِرِّ كهادٍ يخوضُ في الظلَمِ
أو كطبيب قد شفَّه سَقَم . . . وَهْو يُدَاوي من ذلك السَقَمِ
يا واعظَ الناسِ غير متَّعظٍ . . . ثَوْبَكَ طَهِّرْ أوْلا فلا تَلُمِ
وقال : الطويل :
إذا ما التقينا والعيون نواظرٌ . . . فألْسُنُنا حَرْبٌ وأبصارنا سَلْمُ
وقال في الحزن : الطويل :
كثير همومِ القلبِ حتى كأنما . . . عليه سرورُ العالَمين حَرَامُ
إذا قيلَ ما أضْنَاك أسْبَل دَمْعَهُ . . . فأخبر ما يلقي وليس كلامُ
وقال : الطويل :
كريم له نفس يَلينُ بلِينها . . . ليردَعَ عَنْ سلطانِهِ سُنَنَ الكِبْرِ
إذا ذكَّرَتْه نفسه عَظْمَ قَدْرها . . . دعاه إلى تسكينها عظم القَدْرِ
ووقَّع في كتاب رجل يحثه على استتمام صنائعه عنده : مستتمُّ الصنيعةِ من عَدَّل زَيْغها ، وأقام أوَدها ، صيانةً لمعروفِه ، ونصرةً لرأيه ؛ فإن أول المعروف مستخفّ ، وآخره مستَثْقَل ، يكاد أول الصنيعة يكون للهوى ، وآخرها للرَّأي ، ولذلك قيل : رَبُّ الصنيعة أشدّ من ابتدائها .وكان أبو العتاهية له صديقاً قبل ارتفاع حالِه ، فأحس منه في حين وزارته تغيراً ، فكتب إليه : الطويل : أمنْتَ إذا استغنيْتَ من سورةِ الفَقْرِ . . . فصرتَ تَرَى الإخوانَ بالنَّظَرِ الشزْرِ
أبا جعفر إن الشريفَ يُهينهُ . . . تتَايُهه دونَ الأخلاّء بالوَفْرِ
فإنْ تِهْتَ يوماً بالذي نِلْتَ من غنى . . . فإن عنائي بالتجمُّل والصَبْرِ
ألم تر أنّ الفقرَ يُرْجَى له الغِنَى . . . وأن الغِنى يُخْشَى عليه من الفَقْرِ
وروىَ أبو بكر يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال : حجب أحمد بن يوسف أبا العتاهية ، ثم عاد ، فقيل : هو نائم ، فكتب إليه : الطويل :
لئن عدتُ بعد اليوم إني لظالمٌ . . . سأصْرِف وجهي حيثُ تُبْغَى المكارِمُ
متى يظفر الغادي إليك بحاجةٍ . . . ونِصْفُك محجوب ونِصْفُك نائمُ
وقال : الخفيف :
في عداد الموتى وفي ساكني الدن . . . يا أبو جعفر أخي وخَلِيلي
ميت مات وهو في ورق العَي . . . شِ مقيماً في ظِل عَيْش ظليلِ
لم يمت ميتةَ الوَفاةِ ، ولَكِنْ . . . مات عن كلِّ صالحٍ وجَمِيل
وخاصم أحمدُ بن يوسف رجلاً بين يدي المأمون ، وكان صَغَا المأمون إليه على أحمد ، ففطن لذلك ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنه يَسْتَمْلي من عينيك ما يَلْقَاني به ، ويستَبِينُ بحركته ما تُجِنّه له ، وبلوغُ إرادتك أحب إليّ من بلوغ أملي ، ولذّةُ إجابتك أمتَعُ عندي من لذة ظفري ؛ وقد تركتُ له ما نازعني فيه ، وسلَمتُ له ما طالبني به ، فاستحسن ذلك المأمون .
ومن كلام أحمد بن يوسف : مجالسةُ البُغَضَاء تُثِيرُ الهمومَ ، وتَجْلِبُ الغموم ، وتُؤْلم القَلْبَ ، وتقدح في النّشاط ، وتَطْوي الانبساط .
ألفاظ لأهل العصر في صفات الثقلاء
فلان ثقيل الطَّلْعَة ، بَغيضُ التفصيل والجُمْلة ، باردُ السكونِ والحَرَكةِ ؛ قد خرج عنحد الاعتدال ، وذهب مِن ذاتِ اليمين إلى ذات الشمال . يحكي ثقل الحديث المعَاد ، ويَمْشي في القلوب والأكباد ، ولا أدْرِي كيف لم تحمل الأمانةَ أرضٌ حَمَلَتْهُ ؟ وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلّتْه ؟ كأن وجهَه أيامُ المصائب ، وليالي النوائب ، وكأنما قُرَّ به فقْدُ الحبائب ، وسوء العواقب . وكأنما وصلُه عدمُ الحياة ، وموتُ الفجأة ، وكأنما هَجره قوة المنّة ، وريحُ الجنة . يا عجبي من جِسْمٍ كالخيال ، وروحٍ كالجبال ، كأنه ثقل الدينِ ، على وَجعِ العين . هو ثقيلُ السكون ، بغيضُ الحرَكَة ، كثيرُ الشؤم ، قليلُ البركة . هو بين الْجَفن والعين قَذَاة ، وبين الأخمص والنَّعلِ حصاة . ما هو إلا غداةُ الفراق ، وكتابُ الطلاق ، وموتُ الحبيب ، وطلوعُ الرقيب . ما هو إلا أربعاء لا تَدُور في صفَر ، والكابوسُ في وَقْتِ السحَر ، وأثْقَل من خَرَاجٍ بلا غلّة ، ودَوَاءً بلا عِلَة ، وأبْغَض من مثل غير سائر ، وأجْمَع للعيوب من بغلة أبي دُلامة ، وحمار طيّار ، وطيلسان ابْن حَرْب ، وأير أبي حكيمة ، وأنشد : الطويل :
مشى فدعا من ثقلِهِ الحوتُ ربَّهُ . . . وقال : إلَهي زِيدَتِ الأرضُ ثانِيَهْ
وأنشد : الخفيف :
مشتَمِل بالبُغْض لا تَنْثَني . . . إليه لَحْظاً مُقْلَة الرَامِقِ
يظل في مجلسنا قاعداً . . . أثْقَل من وَاشٍ على عاشِقِ
وقال الحمدوني : المتقارب :
سألتك باللَّهِ إلا صدقْتَ . . . وعِلْمي بأنَك لا تصدقُ
أتبغضُ نفسَك من ثقلها . . . وإلا فأنت إذاً أحْمَقُ
وكتب أبو عبد الرحمن العطوي إلى بعض إخوانه : الطويل :
إذا أنت لم تُرْسِل وجئتَ فلم أصل . . . مَلأت بعذْرٍ منك سَمْعَ لبيبِ
أتيتك مشتاقاً فلم أرَ حاجباً . . . ولا صاحباً إلا بوجهٍ قطوبِ
كأني غريمٌ مُقْتَضٍ ، أو كأنني . . . طلوعُ رَقيبٍ أو نهوضُ حبيبِ
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يستثقلُ جليساً اسمه زنباع ، فقال له رجل يوماً : ما الزنبعة في كلام العرب ؟ قال : التثاقلُ ، ولذلك سُمَي جليسُنا زنباعاً .وقد كَثر الناس في الثقلاء ، وأنا أستحسن قول جحظة ، وإن كان غيره قد تقدمه في مثله : السريع :
يا لفظةَ النَّعْي بمَوْتِ الخليلْ . . . يا وقفة التَّوْديع بين الحُمُولْ يا شربةَ اليارَجِ يا أُجرة . . . المَنْزِل يا وَجْهَ العَذولِ الثقيل
يا طلعة النعْش ويا منزلاً . . . أقفَر منٍ بعد الأنيس الْحُلُولْ
يا نهضة المحبوب عن غَضْبةِ . . . يا نعمة قد آذَنَتْ بالرَحيلْ
يا كتاباً جاء من مُخْلِفٍ . . . للوعد مملوءا بعذرٍ طويلْ
يا بُكرة الثكْلَى إلى حُفْرةٍ . . . مستودعٍ فيها عزيزُ الثكُولْ
يا وثبةَ الحافظِ مستَعْجِلاً . . . بصَرْفِه القَيْناتِ عند الأصيلْ
ويا طبيباً قد أتى باكراً . . . على أخي سُقْمٍ بماءِ البقول
يا شوكةً في قدم رخْصَةٍ . . . ليس إلى إخراجها من سبيل
يا عِشْرَةَ المجذوم في رَحْله . . . ويا صُعود السِّعْر عند المُعِيل
يارَدَّة الحاجب عن قَسْوةٍ . . . ونكسَةً من بعد بُرْءِ العليل
وجَحْظَة هذا هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك ، وقال أبو الحسن علي بن محمد بن مُقْلة الوزيرُ : سألتُ جَحْظَة مَنْ لقبه بهذا اللقب ؟ فقال : ابنُ المعتز ، لقيني يوماً ، فقال لي : ما حيوان إنْ نكَّسُوه أتانا آلة للمراكب البحرية ، فقلت : عَلَقٌ ، إذا نكَس صارَ قِلْعاً ، قال : أحسنت يا جحظة ؛ فلزمني هذا اللقب ، وكان ناتئ العينين جدًّا ، قبيحَ الوجه ، ولذلك قال ابن الرومي : الكامل :
نبئت جَحْظَة يستعيرُ جُحوظَهُ . . . مِنْ فِيل شِطْرَنْجٍ ومن سرطان
يا رحمتي لمُنادميهتحمَلواألمَ العيونِ للذَّةِ الآذان
وكان طيبَ الغناء ، ممتدَ النفَس ، حسنَ المسموع ؛ إلاّ أنه كان ثقيلَ اليد في الضرب ؛ وكان حُلْوَ النادرة ، كثير الحكاية ، صالح الشعْرِ ، ولا تزال تندر له الأبيات الجيدة ، وهو القائل : الكامل :
جانبت أطْيَب لذتي وشرابي . . . وهجرت بعدك عامداً أصحابي
فإذا كتبتُ لكي أنزِّه ناظري . . . في حُسْنِ لفظك لم تَجُدْ بجوابِ
إن كنت تنكر ذِلَتي وتذلّلي . . . ونُحُولَ جسمي وامتدادَ عَذَابي
فانظر إلى بَدَنيِ الذي موَّهتُه . . . للناظرين بكَثْرة الأثوابِوقال : مجزوء الكامل :
وإذا جفاني صاحِبٌ . . . لم أستَجِزْ ما عِشتُ قَطْعَهْ
وتركتُه مِثْلَ القُبُو . . . رِ أزورها في كُلّ جُمْعَه
وقال : البسيط :
ضاقت عليَ وجوهُ الرأي في نَفَر . . . يَلْقَوْن بالْجَحدِ والكُفْرَان إحساني
أقلَب الطرْفَ تصعيداً ومنحدراً . . . فما أُقابل إنساناً بإنساني
وقال : المتقارب :
لقد مات إخواني الصالحون . . . فما لي صديقٌ وما لي عمادُ
إذا أقبل الصبحُ وَلَى السرور . . . وإن أقبل الليل ولى الرقاد
وقال يهجو رجلاً : الكامل :
لا تعذلوني إن هَجَرْتُ طعامه . . . خوفاً على نفسي مِنَ المأكولِ
فمتى أكَلْتُ قتلتُه من بُخْلِه . . . ومتى قَتَلْتُ قُتِلت بالمقتولِ
ومن حكاياته ما حدّثني خالد الكاتبُ قال : جاءني يوماً رسولُ إبراهيم ابن المهدي ، فصرت إليه ، فرأيتُ رجلاً أسْودَ على فُرُش فد غاص فيها ، فاستجلسني وقال : أنشدني من شعرك ، فأنشدته : الطويل :
رأتْ منه عيني منظَرَيْنِ كما رأتْ . . . من الشمس والبدرِ المنير على الأرضِ
عشيّة حيَّاني بوَرْد كأنهُ . . . خدودٌ أضِيفَتْ بعضهُنً إلى بعضِ
ونازعني كأْساً كأنّ حبَابَها . . . دموعيَ لما صَدّ عن مقلتي غمضي
وراح وفِعْلُ الراحِ في حَرَكاتِهِ . . . كفعْل نسيم الريح بالغُصُنِ الغضِّ
فزحف حتى صار في ثلثي الفراش ، وقال : يا فتى ، شبهوا الخدودَ بالوَرْدِ ، وأنت شبهْتَ الورد بالخدود ، زِدْني فأنشدته : مجزوء الكامل :
عاتبتُ نفسي في هوا . . . ك فلم أجدْها تَقْبَلُ
وأطعتُ داعيَها إلي . . . ك فلم أطِعْ من يَعْذُلُ
لا والذي جعل الوُجُو . . . ه لحُسنِ وَجْهِك تَمْثُلُ
لا قلتُ إنّ الصبرَ عن . . . ك من التَّصَابي أجْمَلُفزحف حتى انحدر عن الفرش ثم قال لي : زدْني ، فأنشدته : الرمل :
عِش فحُبِّيك سَريعاً قاتلي . . . والضَّنى إن لم تَصلني وَاصلي
ظَفرَ الحبّ بقَلَب دَنِفٍ . . . فيك والسّقْمُ بجسمٍ ناحلِ
فهما بين اكتئابٍ وضَنًى . . . ترَكاني كالقضيب الذَّابل
وبكى العاذِلُ لي من رحمة . . . فبكائي لبكاء العاذِل
فنَعر طربَاً وقال : يَلبَق ؛ كم معك لنفقتنا ؟ قال . ثمانمائة وخمسون ديناراً . قال : أقسمها بيني وبين خالد ، فدفع إليَ نصفها .
وأنشد جحظة أو غيره ولم يسمِّ قائله : البسيط :
لا يبعد اللّه إخواناً لنا سلفوا . . . أفناهم حَدَثان الدهر والأبدُ
نمِدّهُمْ كل يومٍ من بقيَّتنا . . . ولا يَوؤوب إلينا مِنْهُمُ أحَدُ
ما قيل في السكّين
وكان أحمد بن يوسف جالساً بين يدي المأمون ، فسأل المأمون عن السكّين فناوله أحمد السكين ، وقد أمسك بنِصَابها ، وأشار إليه بالحدّ ، فنظر إليه المأمون نظر مُنكِر ؛ فقال : لعل أميرَ المؤمنين أنكر عليَّ أخْذِي النّصاب ؛ وإشارتي إليه بالحدِّ ؛ وإنما تفاءلت بذلك أن يكونَ له الحدَّ على أعدائه ، فعجب المأمون من سرْعَةِ فطنته ، ولطيف جوابه .
وقال بعض الكتاب : السكين مسُّ الأقلام يشحذها إذا كلّت ، ويَصْقُلُها إذا نَبَتْ ، ويطْلِقُها إذا وقفت ، ويلمّها إذا شَعِثت ، وأحْسَنُها ما عَرُضَ صَدْرُه ، وأُرْهِفَ حَدُّه ، ولم يفصل على القبضة نِصَابُه .
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي سكيناً سرقت له : البسيط :
يا قاتل اللّه كتابَ الدواوين . . . ما يستحثُونَ من أخذِ السكاكينِ
لقد دهاني لطيفٌ منهمُ خَتِلٌ . . . في ذات حدٍّ كحدّ السيفِ مَسْنُونِ
فأقَفْرَتْ بعد عُمْرانٍ بموقعها . . . منها دواةُ فتًى بالكُتْبِ مَفْتُون
تبكي على مُديَةٍ أودى الزمان بها . . . كانت على جائرِ الأقلام تُعْدِيني
كانت تقدِّمُ أقلامي وتَنْحَتُها . . . نحتاً وتسْخِطها بَرْياً فتُرْضينيوأضحك الطرس والقرطاس عن حَلل . . . ينوب للعين من نَوْرِ البساتين
فإن قَشَرت بها سوداءَ من صُحفي . . . عادت كبعض خدودِ الْخُرَّدِ العِين
جزْعُ النصاب لطيفات شَعَائرُها . . . محسَنات بأصناف التَّحاسين
هيفاء مُرْهَفَةٌ بيضاء مُذْهَبة . . . قال الإله لها سبحانه : كُوني
لكن مقطيَ أمسى شامتاً جَذِلاً . . . وكان في ذِلَةٍ منها وفي هُونِ
فَصِين حتى يُضاهي في صيانته . . . جَاهي لصَوْنِيهِ عَمَّنْ لا يُدَانيني
ولستُ عنها بسَالٍ ما حَيِيتُ ، ولا . . . بواجِدٍ عِوَضاً منها يُسليني
ولو يَردُ فِدَاء ما فَجِعتُ بِهِ . . . منها فديناه بالدنيا وبالدين
ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين
سكّين كأنَّ القدرَ سائقُها ، أو الأجَل سابقها ، مُرْهَفَة الصَدْرِ ، مُخْطَفة الخصْر ، يجولُ عليها فِرند العِتْق ، ويموج فيها ماء الْجَوهر ؛ كأنّ المنية تبرق من حدها ، والأجل يَلْمع من متنها ، رَكبَتْ في نِصَاب آبنوس ، كأنَ الحَدَق نفضَت عليه صِبْغَها ، وحَبّ القلوب كستهْ لباسها . أخذ لها حديدها الناصح بخط من الروم ، وضرب لها نصابها الحالِك بسهم من الزنج ، فكأنها ليل من تحتِ نَهار ، أو مجمر أبْدَى سَنَا نَار ، ذات غِرار ماضٍ ، وذبَاب قاض . سكيِن ذات مِنْسَر بازِيّ ، وجَوْهر هوائي ، ونِصَاب زنجي ، إن أُرضِيت أولت مَتْناً كالدهان ؛ وان أُسْخِطَتْ اتَقَتْ بنابِ الأُفعوان . سكين أحْسَنُ من التلاَقْ ، وأقْطَع من الفراقْ ، تفعل فِعْلَ الأعْدَاء ، وتنفعُ نَفْعَ الأصدقاء . هي أمْضَى من القَضَاء ، وأنْفَذُ من القَدَر المتَاح ، وأقْطَعُ من ظُبَةِ السيف الحُسام ، وألمع من البَرْقِ في الغَمام . جمعت حُسْن المنظر ، وكَرَمَ المخْبَر ، وتملَكتْ عِنان القلب والبصر ، ولم يُحْوجهَا عتْقُ الْجَوهَر إلى إمهاء الحجر .
الاستدعاء إلى المؤانسة والمنادمة
قال محمد بن أنس للقاسم بن صبيح : ما زِلنا في سَمَرٍ نَصِلُ فصولَه بتشوقك ، فيذهِب ذِكْرُك مَلَلَ السامر ، ونَعْسَة الساهر . فقال القاسم : مثلك ذكر صديقه فأطراه ، واعتذر إليه فأرضاه ، ولو كنتم آذَنُتمُوني كنت أحدكم ، مسروراً بما به سُررتم ، مفيضاً فيما فيه أفَضْتُم .قال بعض الظرفاء : شَرْطُ المنادمة قِلّة الخلاف ، والمعاملةُ بالإنصاف ، والمسامحة في الشراب ، والتغافل عن ردّ الجواب ، وإدمان الرضا ، واطِّرَاح ما مَضَى ، وإسقاط التحيات ، واجتناب اقتراح الأصوات ، وأكل ما حضر ، وإحضار ما تيسر ، وسَتْر العَيْبِ ، وحفظ الغيب .
وقد أحسن أبو عبد الرحمن العطوي في قوله : الوافر :
حقوقُ الكأس والنَّدْمانِ خمس . . . فأوّلُها التزين بالوَقَارِ
وثانيها مسامَحَةُ النَدَامَى . . . فكَمْ حَمَتِ السماحة مِنْ ذِمارِ
وثالثها ، وإن كنتَ ابنَ خَيْرِ الْ . . . برية مَحتْدِاً ، ترْكُ الفَخَارِ
ورابعها وللندْمان حق . . . سوى حقّ القرابة والجوارِ
إذا حدَثته فاكْسُ الحديث ال . . . ذي حدّثته ثَوْبَ اختصارِ
فما حُثَ النبيذُ بمثل حسن الأ . . . غَاني والأحاديثِ القِصار
وخامسةٌ يدكُ بها أخوها . . . على كرم الطبيعةِ والنَجار
حديث الأمس ننساه جميعاً . . . فإنَّ الذنْب فيه لِلْعُقَارِ
ومن حكَمتَ كاسَك فيه فاحْكمْ . . . له بإقالة عِنْدَ العِثار
وقال حسان بن ثابت : الوافر :
نُوَلَيْها الملامةَ إنْ ألَمْنَا . . . إذا ما كان مَغْثٌ أو لِحَاء
وشرب اليزيدي عند المأمون فلما أخذَتْ منه الكأس أقبل يعتز عليه بتعليمه إياه ، وأساء مُخاطبته ، فلما أفاق من سُكْرِه عُرَف ما جرى ، فلبِس أكفانه ، ووقف بين يديَ المأمون فأنشده : الطويل :
أنا المذنبُ الخطَاءُ والعفوُ واسعٌ . . . ولو لم يكن ذنبٌ لما عُرِف العفوُ
ثَمِلْتُ فأبْدَتْ منِّيَ الكاسُ بعضَ ما . . . كَرِهْتَ وما إن يستوي السّكْرُ والصَّحو
ولا سيما إن كنتُ عند خليفةٍ . . . وفي مجلسٍ ما إنْ يجوز به اللَغْوُ
فإن تَعْفُ عني أُلْفِ خَطويَ واسعاً . . . وإلا يكن عَفْوٌ فقد قَصُر الْخَطْوُفقال المأمون : لا تثريبَ عليك ، فالنبيذ بساط يُطوَى بما عليه .
وشرب كورَان المغني عند الشريف الرضي ، فافتقد رِداءَه ، وزعم أنه سرق . فقال له الشريف : ويحك مَنْ تتهم منا ؟ أما علمتَ أن النبيذ بِساط يطوى بما عليه ؟ قال : انشروا هذا البساط حتى أخذَ ردائي واطوَوه إلى يوم القيامة .
وكان أبو جعفر أحمد بن جَدَار ، كاتب العباس بن أحمد بن طولون ، ينقل أخبارَ أبي حفص عمر بن أيوب ، كاتب أحمد بن طولون ، على الشراب إلى العباس ، فصار إليه أبو حفص فقال : يا أبا جعفر ، إنما مجلس المدام مجلس حرمة ، وداعية أنس ، ومسرح لبانة ، ومَذَاد هَمّ ، ومَرتع لهو ، ومعهد سرور ، وإنما توسطته عند من لا يتهم غَيبَه ، ولا يخشى عتبه ، وقد أتصل بي ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل أعز الله أمره ، من أخبار مجالستي ، فلا تفعَل ، وأنشده : الخفيف :
ولقد قلت للأخلاّءِ يوماً . . . قولَ ساعٍ بالنصحِ لو سمعوه
إنما مَجلِسُ المدَام بِساطٌ . . . للمودات بينهم وضَعُوهُ
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا . . . من نعيمٍ ولذّةٍ رفعوه
وهمُ أحْرياء ، إنْ كان منهم . . . حافظٌ ، ما أتوه أن يمنعوهُ
فاعتذر ابن جدار وحلف ما فعل ، وقام من مجلسه .
وأنشد أبو حفص : الكامل :
كم من أخٍ أوْجَستُ منه سجيّةً . . . فأنْسِت بعدَ وِدَادِهِ بفراقِهِ
لم أحمد الأيام منه خليقَةَ . . . فتركتُه مستمتعاً بخلاَقهِ
عوّل أبو حفص في أكثر كلامه على نَقْل كلام أبي العباس الناشئ في الشراب ، والأبيات التي أنشد أولاً له . أبو القاسم الصاحب : قدماً حُمِلَتْ أوْزَارُ السُكْرِ ، على ظهور الخمر ، وطوي بساطُ الشراب ، على ما فيه من خطإ أو صواب . متابعة العُقار ، تعذر في خَلْع العِذَار ، وتُغْني عن الاعتذار . متابعة الأرطال ، تبطل سورة الأبطال ، وتَدَعُ الشيوخ كالأطفال .
كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى بعض الجِلَّة يستدعيه : يوْمُنا يوم لَيِّنٌ الحواشي ، وَطِيءُ النواحي ؛ وسماؤنا قد أقبلت ، ورعدت بالخير وبَرَقَتْ ، وأنت قُطْبالسرور ، ونظام الأمور ؛ فلا تفرِدْنا فنقلّ ، ولا تنفرد عنا فنذلّ .
وكتب بعض أهل العصر - وهو السَّرِي الموصلي - إلى أخ له يستدعيه إلى مؤانسته : الطويل :
خِلاَلك ، ما اختل الصديق ، سحَائِبُ . . . وبِشرك ما هبَّت رِياح ، مَوَاهِب
وأنت شقيق الرُوحِ تُؤثِر وَصلَها . . . إذا رَاعَها بالهَجْرِ خِل وصاحِبُ
ونحن خلال القَصْفِ ولعَزْفِ نجتَني . . . ثمارَ مَلاَهٍ كلهنَّ أطَايبُ
وعندي لك الرّيحان زِين بِسَاطُهُ . . . بزَهْرٍ كما زانَتْ سماءً كَوَاكِبُ
وجَيْشٌ كما انجرَت ذيولُ غَلائِل . . . مُصنْدَلةً تختالُ فيها الكَوَاعِب
وقد أطلِقَت فيه الشمائِل ، وانثنَتْ . . . مُفَنّدةً عن جانبيها الْجَنائِب
وحافظة ماءَ الحياةِ لفِتيَةٍ . . . حياتهم أن تستلذ المشارِبُ
نُسَرْبِلُها أخفَى اللباس ، وإنما . . . يلَفُ بها أفْوَاهُه والَسبائِبُ
على جَسَدٍ مثل الزّبَرْجَدِ لم تزل . . . تشاكله في لونه وتُناسِبُ
إذا استودعت حُرّ اللُجَيْن سبائكاً . . . تَصوَّبَه في أحشائها وَهْوَ ذَائِبُ
وشوق رؤوس القوم غَيمٌ معلًق . . . من النَّد لا يَجْرِي ولا هو ذاهِب
بوارقُهُ خَمْرُ الكؤوس ورَعْدُهُ . . . أناملُ بيضٌ للطبول تلاَعِب
ولا عائق يثْني عِنانَكَ عَنْ هوًى . . . رَغَى جانب منه وأوْمَضَ جانبُ
فبادِرْ ؛ فإن اليوم صافٍ من القَذَى . . . ويا رُبَّ يومٍ بادَرتْهُ النوَائب
وقال ابن المعتز : المنسرح :
لا شَيْء يسلي همَي سوَى قَدَحٍ . . . تَدمَى عليه أوْدَاج إبرِيقِ
في غيْمِ نَدّ يُزجِي سَحائبَهُ . . . بَرْقُ ابتسامٍ ورَعْدُ تصفيقِ
وقال الحسن بن محمدٍ الكاتب يصف طبلاً : البسيط :
يا حبَّذَا يومنا نَلْهُو بمُلْهِيَةٍ . . . تُلْهى بشيءً له رَأْسان في جَسَدِ
قد شَدَّ هذا إلى هذا كأنهما . . . من شِدَّة الشدِّ مقرونَانِ في صَفَدِ
نَظَل نلطم خَدَّيهِ إذا ضرَبَتْ . . . بكل طاقتها لطماً بلا حَرَد
فتسمعُ الصوتَ منه حين تَضْرِبُه . . . كأنه خارجٌ من ماضِغَيْ أسَدومن ألفاظهم في الاستدعاء
نحن في مجلِسٍ قد أبت رَاحه أن تصفوَ لنا أو تتناولَها يُمْناك ، وأقسم غِنَاؤه لا طاب أو تَعِيَه أذنَاك ، فأمَا خدودُ نارنجه فقد احمرَت خَجَلاً لإبطائك ، وعيون نَرْجِسه قد حدقَت تَأْمِيلاً للقائك ، فبحياتي عليك إلا تعجلت ، وما تمهلت .
نحن بغيبتك كعِقد تغيبَتْ وَاسِطتَه ، وشبابٍ قد أخلَقَت جِدَتُه ، وإذ قد غابت شمس السماء عنَّا ، فلا بد أن تدنُوَ الأرض منّا . أنت من ينتظم به شمْل الطرَب ، وبلقائه يبلغُ كل أرَب . طِر إلينا طَيَرانَ السَّهْمِ ، واطلع علينا طلوعَ النجم . ثِبْ إلينا وثوبَ الغزال ، واطلُعْ علينا طلوعَ الهِلال ، في غرّة شوّال . كنْ إلينا أسرعَ من السهم إلى ممرّه ، والماء إلى مقره . جشمْ إلينا قدمك ، واخلَع علينا كَرمَك ، وإن رأيتَ أن تحضرنا لتتصِل الواسِطة بالعِقد ، ونَحْصل بقُرْبُك في جَنةِ الْخُلْدِ ، وتُسْهم لنا في قربِك الذي هو قوت النفس ، ومادةُ الأنْس .
ولهم في استدعاء الشراب
قد تألّف لي شَمل إخوانٍ كان يفترق لعَوَز المشروب ، واعتدنا فضلَك المعهود ، وورَدْنا بَحْرَك المورود ، وأنا ومَن سامحني الدهرُ بزيارته من إخواني وأوليائك وقوفُ بحيث يقفُ بنا اختيارُك من النشاط والفتور ، ويَرتَضِيه لنا إيثارك من الهم والسرور ، والأمرُ في ذلك إليك ، والاعتمادُ في جَمْعِ شمْلِ السمرَةِ عليك ، فإن رأيتَ أن تكِلَني إلى أولى الظنيْن بك فعلت . ألطف المنَن مَوقعاً ، وأجَلُها في النفوس موضعاً ، ما عَمَرَ أوْطانَ المسرًةِ ، وطرد عوارض الهمَ والفكرة ، وجمع شَمْلَ المودةِ والأُلفة . قد انتظمتُ في رُفقَةٍ لي في سِمْط الثريا ، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المُدَام عُذنا كبنات نَعْش ، والسلام . فرأيك في إرواء غلَّتنا بما ينقعها ، والطَول على جماعتنا بما يجمعها .
ولهم في الكتابة عن الشراب
قد نَشِطَ لتناول ما يستمد البِشر ، ويشرح الَصدْر ، قد استمطر سحابةَ الأنس ، واستدرّ حلُوبة السرور ، وقَدَح زَندَ اللهو ، فهو يَمْرِي دِماءَ العناقيد ، ويَفْصِد عروقَ الدَنان ، ويَنْظم عقْدَ النَدْمَان .
كتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم دجْنٍ لم يمطر :أما ترى تكافؤ هذا الطمع واليَأس في يومنا هذا بقرْب المطر وبعده ، كأنه قول كثير : الطويل :
وإني وَتَهْيامي بعزة بعدما . . . تَخَليتُ مما بيننا وتَخَلّتِ
لكالمرتَجِي ظل الغمامةِ ، كلّما . . . تَبَوَأ منها للمَقيل اضمحلتِ
وما أصبحَتْ أمنيتي إلاَ في لقائك ، فليت حِجاب النأي هتك بيني وبينك رقعَتي هذه وقد دارت زجاجاتٌ أوقعَتْ بعقلي ولم تَتَحيّفه ، وبعثَت نشاطاً حركني للكتاب ؛ فرأيك في إمطاري سروراً بسار خَبرك ؛ إذ حُرِمت السرور بمَطَر هذا اليوم ، موفّقاً إن شاء الله .
وكتب الحسنُ بن وهب : وصل كتاب الأمير أيَّده اللّه وفَمِي طاعِم ويدي عامِلة ، ولذلك تأخرّ الجواب قليلاً ، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته ، وما استوجب ذنباً استحقّ به دماً ؛ لأنه إذا أشمس حكى حُسنَكَ وضياءك ، وإن أمطر حكى جودك وسخاءك ، وإن غام أشبه ظِلَك وفِناءَك ، وسؤالُ الأمير عني نعمة من نعم اللّه ، عز وجل ، أُعفَي بها آثارَ الزمان السيئ عندي وأنا كما يحِب الأمير صرف اللهُ الحوادث عنه ، وعَن حَظي منه .
وذم رجل رجلاً فقال : دعواته ولائم ، وأقْدَاحه مَحَاجم ، وكؤوسُه محابر ، ونوادره بوادر .
وقال أبو الفتح كشاجم : كان عندي بعض المجَّانِ من النبيذيين ، فسمعني وأنا أحمدُ الله جلَّ ذِكرُه في وسط الطعامِ لشيءٍ خطر ببالي من نِعَم الله التي لا تُحْصَى ، فنهض وقال : أُعْطِي اللّه عهداً إن عاودْتُ وما معنى التحميد هنا ؟ كأنك تُعْلِمُنا أنا قد شبعنا . ثم مال إلى الدواة والقرطاس ، وكتب ارتجالاً : الوافر :
وحَمْدُ الله يَحْسُنُ كلَّ وقتٍ . . . ولَكِنْ ليس في أولَى الطعام
لأنك تُحْشِمُ الأضيافَ فيهِ . . . وتأمرُهم بإسراع القِيَام
وتؤذِنهم ، وما شَبِعُوا بشَبْعٍ . . . وذلك ليس من خُلُقِ الكِرَامِ
وكتب المَرِيمي إلى بعض إخوانه وقد ترك النبيذ : البسيط :
إنْ كُنتَ تُبْتَ عن الصهباءِ تَشْرَبُها . . . نُسْكاً فما تُبْتَ عَنْ بِرٍّ وإحسانِ
تُب راشداً ، واسقِنا منها ، وإن عَذَلوا . . . فيما فعلت فقلْ ما تاب إخواني
وقال بعض النبيذيين ، وقد ترك الشرب : الوافر :
تحامَوْني لتَرْكِي شُرْب راح . . . أقَمْتُ مكانَها الماءَ القَرَاحاوما انفَرَدوا بها دُوني لِفَضلٍ . . . إذَا ما كُنتُ أكثَرَهم مِرَاحَا
وأرفعهم على وتر وصَنجٍ . . . وأطرفهُم وأظرَفهم ، مزاحا
إذا شقُّوا الجيوبَ شَققت جَيبِي . . . وإن صاحَوا عَلَوتهم صِيَاحا
فِقر للنبيذيين
ما جمِشَت الدنيا بأَطرَفَ من النبيذ ، ما للعقَارِ والوَقَارِ . إنما العيش في الطيش ، الراح ترياق سمَ الهَمّ . النبيذ ستر فانظر مع مَن تهتكه . اشرب النبيذ ما استبشعته ، فإذا استطَبتَه فدَعه . لولا أنَّ المخمور يعلم قصَته لقدم وصيته . الصاحِي بين السكارى كالحي بين الموتى ؛ يضحك من عَقلِهم ، ويَأكل من نَقلهم . أحمق ما يكون السكرَان إذا تعاقل . التبذل على النبيذ ظَرف ، والوقار عليه سخف ، حد السكران أن تَغرب الهموم ، ويظهر السرَّ المكتوم .
وقال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب : ما أنصَفتها ، تَضحك في وجهك ، وتَعبس في وَجهها .
وقال الطائي : الطويل :
إذا ذاقها ، وَهيَ الحياة ، رأيتَه . . . يُعَبِّس تعبيسَ المقدَّمِ للِقَتل
وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال : البسيط :
وأن أُقَطَب وَجْهي حينَ تَبْسِمُ لي . . . فعند بَسْطِ المَوالي يحفظ الأدب
وترك رجلٌ النبيذَ ، فقيل له : لم تركتَه ، وهو رسولُ السرورِ إلى القلب ؟ قال : ولكنه رسولُ بأسٍ يُبعَثُ إلى الْجَوفِ فيذهب إلى الرأس .
وقيل لبعضهم : ما أصبّك بالخمر فقال : إنها تُسْرج في يَدِي بنورها ، وفي قلبي بسرورها ، كأنَّ الناشئ نظر إلى هذا الكلام فقال : الكامل :
راحٌ إذا عَلتِ الأكفَّ كؤُوسُها . . . فكأنها من دونها في الرَّاحِ
وكأنما الكَاسَاتُ ممّا حولها . . . من نورِها يَسْبَحنَ في ضَحْضَاحِ
لو بُثَّ في غَسَق الظلام ضِياؤُها . . . طَلع المساءُ بغُرَّةِ الإصباحِ
نفضَتْ على الأجسام ناصعَ لَوْنَها . . . وسَرَتْ بلذتها إلى الأرواح