كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني
البيت الأول كقول البحتري : الكامل :يخفي الزجاجةَ ضوءَها ، فكَأنها . . . في الكفَ قائمةٌ بغيرِ إناء
وللناشئ في هذا المعنى : الكامل :
ومُدامة يخفى النهار لنورها . . . ونَذل أكنافَ الدجا لضيائها
صبت فأحدق نورها بزجاجها . . . فكأنها جعلت إناءَ إنائها
وترىَ إذا صبت بَدَت في كأسها . . . متقاصرَ الأرجَاء عن أرْجائها
وتكادُ إنْ مُزِجَتْ لرقةِ لونِها . . . تَمتَاز عند مِزاجِهَا من مَائها
صفراء تُضْحِي الشمسُ ، إن قِيسَتْ بها . . . في ضوئها ، كاللَيلِ ، في أضْوائها
وإذا تصفحْتَ الهواءَ رأيتهُ . . . كَدِر الأدِيمة عند حُسْن صفائها
تَزدَاد مِن كرمِ الطباعِ بقَدرِ ما . . . تودِي به الأيام مِن أجْزَائها
لا شيء أعجَب من تَوَلُدِ بُرئِها . . . من سقمها ، ودَوَائها مِنْ دَائها
وقال : الكامل :
إن رمتَ وصفَ الراجِ فأتِ بما . . . فيها من الأوْصاف من قُرْبِ
هي ماء ياقوتٍ ، وإن مُزِجَتْ . . . في كَأسِها بالباردِ العَذْبِ
فكأنها وحبَابُها ذهَبٌ . . . كللتَه باللؤلؤ الرَطْبِ
ولأهل العصر : الدنيا معشوقةٌ رِيقُها الراح . أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي في صاعد بن مخلد : الطويل :
فتًى هاجرَ الدنيا وحرَم رِيقَها . . . وهل رِيقُهَا إلاَ الرحيقُ الموَرَدُ ؟
ولو طَمِعت في عَطْفِهِ ووصالِه . . . أبَاحته منها مَرْشَفاً لا يُصَرَّد
الخمرُ أشبهُ شيء بالدنيا ؛ لاجتماع اللذات والمرارة فيها . الخمر مصباحُ السرور ، ولكنها مفتاح الشرور . لكل شيء سر ، وسرُ الراحِ السرور . لا يطيبُ المُدَام الصافي ، إلاّ مع النديم المُصَافي .ومن ألفاظهم في صفات
مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر
مَجْلِس رَاحُه ياقوت ، ونَوْره ورد ، ونَارنْجُه ذَهَبٌ ، ونرجِسه دينار ودرهم ، يحملهما زبرجَد . عندنا أُتْرُج كأنه من خَلْقِك خُلِق ، ومن شَمَائِلك سُرِق ، ونَارَنج ككُرَاتِ من سفَن ذهِّبت ، أو ثدي أبكار خلِّقت . مجلس أَخَذَتْ فيه الأوتار تتجاوب ، والأقداح تتناوب . أعلامُ الأُنْسِ خافقةٌ ، وأَلْسُن الملاهي ناطقة . ونحن بين بدور ، وكاساتٍ تَدور ، وبروقِ رَاح ، وشموس أقْدَاح . قد نشأت غَمامة الندِّ ، على بساط الوَرْدِ . مجلس قد تفتحت فيه عيونُ النرْجِس ، وفاحت مَجامِير الأُترُج ، وفتقت فَارَات النَّارَنج ، ونطقت ألسُنُ العيدان ، وقامَت خطباءُ الأوتار ، وهبت رياحُ الأقداح ، وطلَعَتْ كواكبُ النًدْمان ، وامتدَتْ سماء النَّدّ . مجلس مَنْ رآه حسب الجنَان قد اصْطَفَتْ عيونُهَا ، فجعلت في قدر من الأرض ، وتخيّرت فصوصها ، فنُقِلَت إلى مجلس الأُنْس واللَهْوِ . قد فضّ اللَهْوُ ختامه ، ونشر الأُنْس أعلامه . قد هَبَّت للأنْس ريح بَرْقها الراح ، وسحابها الأقداح ، ورعودها الأوتار ، ورياضها الأقمار . قد فرغنا للهو والدهرُ عنّا في شغل .
جُل هذا من قولِ بعض أهل العصر : الرمل :
كم جوًى مثّله رَسْم مَثَل . . . ودم قد طُل أثناء طَلَلْ
ولآلٍ كلل الخدّ بها . . . لعب البين بربّاتِ الكِلَلْ
حبذا عيشُ الليالي باللِّوى . . . لو تجافَى الدّهْرُ عنا وغَفَلْ
إذ فَرَغْنا فيه للَّهو وقد . . . باتَتِ الأقْدَارُ عنَا في شُغُلْ
وأدَرْنَا ذهباً في لَهبٍ . . . كلِّما أُخْمِدَ بالماء اشتَعَلْ
قد اقتَعدنا غاربَ الأُنْسِ ، وجرينا في مَيْدَانِ اللهو . عمدنا إلى أقْدَاحِ اللهو فأجَلْنَاها ، ولمراكبِ السرور فامتطَيْناها . قد امتطينا غوارِبَ السرور بالأقداح . مُدَامة تُورِد ريحَ الورْدِ ، وتَحْكِي نارَ إبراهيم في اللَون والبَرْدِ ، ولستُ أدري أشقيق أم عقيق ، أم رحيق أم حريق . راحٌ كأن الدُيوكَ صبت أحداقَها فيها . راح كأنما اشتقت من الروح والراحة .
قال ابن الرومي : الكامل :
والله ما نَدْرِي لأيةِ عِلَة . . . يَدْعُونَهَا في الرَاحِ باسْمِ الراحِ
ألِرِيحهَا أمْ روحها تحْتً الحَشَى . . . أمْ لارْتيَاحِ نَديمها المُرْتاحِ ؟راحٌ كالنار والنُورِ والنوْرِ ، أَصفَى من البَلور ، ومن دَمْع المهجور . روح نور لها من الكَأْس جسم ، كأنها شمس في غِلالة سَراب . شراب أكادُ أَقولُ : هو أَصْفَى من مودَتي لك ، ومِنْ نعم اللَهِ عنديً فيك ، وأَطْيَبُ من إسعافِ الزمان بلقائك . مُدَامة قد سبك الدهرُ تِبْرَها فصَفا . كأسٌ كأنها نورٌ ضميرهُ نَارٌ . راح كياقوتة في دُرة ، أَصْفَى من ماء السماء ، ودَمْعِ العاشقة المَرْهاء ، أحسن من الدنيا المُقْبِلة ، والنعم المكملة . أَحْسن من العافية في البَدَن ، وأَطْيَب من الحياة في السرور . أرقّ من نسيمِ الصبا ، وعَهْدِ الصَبا . أرق من دَفع محب ، وشَكْوَى صَبّ . أرقّ من دموع العشاق ، مَرَتها لَوْعَةُ الفراق . مُزِجَ نَارُ الرَاح بنُورِ الماء . راح كأنها معصورة من وَجْنَةِ الشمس ، في كَأسٍ كأنها مخروطة من فِلْقَة البَدْرِ . كأسها مِلْء اليدِ ، وريحها ملء البَلَد ، تصب على الليل ثَوْبَ النهار ، كأنها في الكأس معنى دقيق في ذِهْنٍ لطيف . كأنَّ الراح من خَدِّه معصورة ، وملاحَةُ الصورةِ عليها مقصورة . وهذا من قول الطائي كأنها من خَدِّهِ تُعْصَر وقال عبد السلام بن رَغْبان الملقب بديك الجن الشاعر المشهور : الطويل :
معتّقه مِنْ كَفَ ظَبْي كأنما . . . تَناوَلها من خَدَه فأَدَارَها
تمشَت الصهباءُ في عِظامهم ، وتَرَقَت إلى هامِهِمْ ، وماسَتْ في أعْطافِهم ، ومالَتْ بأَطْرَافهم . سارَتْ فيهم الكُؤُوس ، ونالَتْ عنهم سَوْرَةُ الخَندَريس . شربت عقولَهم ، وملكت قلوبَهم .
وقال أبو نُوَاس ، وهو أستاذ الناس في هذا الشأن : الكامل :
صِفَةُ الطلولِ بَلاَغَةُ الفَدْمِ . . . فاجعلْ صفاتك لابنَةِ الكَرْمِ
تصفُ الطلولَ على السماع بها . . . أَفَذُو العِيان كثابتِ العلْمِ ؟
وإذا وَصَفْتَ الشيءَ متّبعا . . . لم تَخْلُ من غَلَطٍ ومن وَهْمِوقال : الكامل : الكأس أهواها وإن رَزَأت . . . بُلَغَ المعاش وقلَّلَتْ فَضْلي
صفراءُ مَجَّدَها مَرَازِبُها . . . جَلَّتْ عن النظَراء والمِثْلِ
ذُخِرَتْ لآَدَم قبل خِلْقَتِهِ . . . فَتَقَدَّمَتْهُ بخطوةِ القَبْلِ
فاعذِرْ أخاك فإنه رجلٌ . . . مَرنَتْ مَسامِعُه على العَذْلِ
وقال : المديد :
فتسلَيْتُ بشُرْب عُقَارٍ . . . نشأتْ في حِجْرِ أُمّ الزمان
فتناساها الجديدان حتى . . . هي أنصافُ شطورِ الدَنَان
وافترعْنَا مُرة الطعْم بها . . . نزَقُ البِكْر ولينُ العَوَان
واحتسينا من رحيق عتيق . . . وشديد كامل في لِيان
لم يُجفْهَا مِبْزَلُ القوم حتى . . . نجمَتْ مثلَ نجومِ السّنان
أو كعِرْقِ السام تنشقّ منه . . . شُعَبٌ مثلَ انفراج البنان
وقال : الكامل :
وخَدِين لذَاتٍ مُعَلَلِ صاحبٍ . . . يَقْتاتُ منه فكاهةً ومُزَاحا
قال : ابغِني المصباح ، قلتُ له : ائتدْ . . . حَسْبي وحسبُك ضَوْءُها مصباحا
فسكبْتُ منها في الزجاجة شَرْبَةً . . . كانت له حتى الصباح صَبَاحَاوهذا كقوله : الوافر :
وخَمَّارٍ أنَختُ عليه ليلاً . . . قلائصَ قد تَعِبْن من السِّفار
فترجم والكَرَى في مُقْلَتيهِ . . . كمخمورٍ شكا ألم الخُمَارِ
أبِنْ لي كيف صِرْتَ إلى حريمي . . . وجَفْنُ الليلِ مكتحل بقَارِ
فقلت له : تَرفّق بي ، فإني . . . رأيتُ الصبحَ من خَلَلِ الديارِ
فكان جوابُه أنْ قال : كلاّ . . . وما صبح سوى ضوء العُقَار
وقام إلى الدِّنانِ فسدَ فَاها . . . فعاد الليلُ مسدولَ الأزارِ
وقال بعض المحدَثين : الكامل :
ما زال يَشْربُها وتُشْرِبُ عَقْلَهُ . . . خبلا ، وتُؤْذِنُ رُوحه بَرَوَاحِ
حتى انثنَى متوسَداً بيمينهِ . . . سَكَراً ، وأَسْلَمَ رُوحَه للرَاحِ
وقال الصنوبري وذكر شَرْباً : الكامل :
نازعتهمْ كأسا تخالُ نَسِيمَها . . . مِسْكاً تضوَعَ في الإناء عَتِيقَا
شقتْ قِناعَ الفَجْرِ لما غادرَتْ . . . كف النديم قناعَها مَشْقُوقا
صبغت سوادَ دُجَاهُ حمرةُ لونها . . . فكأنه سَبَجٌ أُعِيد عقيقا
وقال أبو الشَيص : الطويل :
وكأس كَسَا الساقي لنا بعد هَجْعةٍ . . . حَواشِيها ما مجَ من ريقة العِنَبْ
كأنَ اطرادَ الماءَ في جَنَباتها . . . تربع ماء الدرّ في سُبُك الذهَبْ
سقاني بها ، واللَيْلُ قد شابَ رَأسُهُ . . . غزالٌ بحنَاء الزجاجةِ مختَضِبْوقال أبو عدي الكاتب : الطويل :
وليس لها حدّ تُحِيطُ بوَصْفِهِ . . . لغاتٌ ، ولا جِسْم يباشره لَمْسُ
ولكنه كالبرقِ أَوْمَضَ ماضياً . . . فلم يَبْقَ منه غيرُ ما تَذكُرُ النفْسُ
وقال ابن المعتز : الطويل :
ألا فاسقِنِيهَا قد مشى الصبح في الدُجَى . . . عُقَاراً كمثل النارِ حمراءَ قَرْقَفا
فناولني كأساً أضاءت بَنَانهُ . . . تَدَفقُ ياقوتاً ودُرًا مُجوَفا
ولمّا أريناها المزاج تسعَرت . . . وخِلْت سَنَاهَا بارقا قد تكَشفا
يطوف بها ظَبْيٌ من الإنس شادِنٌ . . . يقلّب طَرْفاً فاسقَ اللَحْظِ مُدْنَفا
عليم بأسرار المحبين حاذق . . . بتسليم عينيهِ إذا ما تخوفا
فظل يُنَاجيني يُقَلّب طَرْفَهُ . . . بأطيَب من نَجْوَى الأماني وأَلطَفا
وقال : الطويل :
أَلا عُجْ على دار السرور فسلِّمِ . . . وقل : أينَ لذَّاتي وأين تكلمي ؟
وقل : ما حَلَتْ بالعين بعدك لذة . . . سواكِ ، وإنْ لم تعلمي ذاك فاعلمي
وصفراءَ من صبغ المِزَاج برأسها ، . . . إذا مُزِجت ، إكليلُ دُرّ منظم قطعتُ بها عُمْرَ الدُجى وشربْتُها . . . ظلامية الأحشاء نوريّة الدَم
من إنشاء بديع الزمان الهمذاني
كتب أبو الفضل بديع الزمان إلى أبي عدنان بن محمد الضبي يعزيه عن بعض أقاربه : الوافر :
إذا ما الدهرُ جر على أُناسٍ . . . حوادِثَه أناخَ بآخرينا
فقلْ للشامتين بنا أفِيقوا . . . سيَلْقَى الشامتون كما لقينا
أحْسَنُ ما في الدهر عمومُه بالنوائب ، وخصوصه بالرغائب ، فهو يَدْعو الجَفَلى إذا ساء ، ويخصُّ بالنعمة إذا شاء ، فليفكر الشامت ؛ فإن كان أفلت ، فله أنْ يَشْمت ، ولينظر الإنسانُ في الدهر وصُروفِه ، والموتِ وصنوفِه ، من فاتحةِ أمْرِه ، إلى خاتمة عُمْرِه ؛ هل يجدُ لنَفسه ، أثراً في نَفسِه ؟ أم لتدبيره ، عَوْناً على تَصْويره ، أم لعمله ، تقديماً لأمله ، أملِحيله ، تأخيراً لأجَلِه ؟ كلا ، بل هو العَبْدُ لم يكن شيئاً مذكوراً ، خُلق مَقْهوراً ، ورُزِق مقدوراً ، فهو يَحْيَا جَبْراً ، ويهلك صَبْراً ، وليتأمَل المرءُ كيف كان قَبلاً ، فإن كان العَدَمُ أصلاً ، والوجودُ فضلاً ، فليعلم الموت عَدْلاً ؛ فالعاقل من رَقَع من جوانب الدهر ما ساءَ بما سترّ ، ليذهب ما نَفَع بما ضر ؛ فإن أحب ألاَّ يحزن فلينظر يَمنة ، هَلْ يرى إلاّ مِحْنة ، ثم ليعطف يَسْرَة ، هل يرى إلاّ حَسْرَة ؟ ومثلُ الشيخ الرئيس - أطال الله بقاءه - من فَطن لهذه الأشرار ، وعَرف هذه الديار ، فأعدَّ لنعيمها صَدْراً لا يملؤه فرحاً ، ولبؤسها قَلْباً لا يطيره تَرَحاً ، وصحت البريَّة برأي من يعلم أنّ للمتعة حدَّا ، وللعارِية رَدًّا ، ولقد نُعِي إلي أبو قبيصة ، قدّس الله رُوحه ، وبرَّد ضريحه ، فعُرِضت عليَّ آمالي قُعوداً ، وأمانيَ سوداً ، وبكيت ، والسخيُ جودُه بما يملك ؛ وضحكت ، وشرُ الشدائد ما يُضْحِك ، وعضضت الأصبع حتى أدْمَيْتُه ، وذممت الموتَ حتى تمنيته ؛ والموتُ أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خَطْبٌ قد عظُم حتى هان ، وأمر قد خشن حتى لاَنَ ، ونكْرٌ قد عَمَ حتى عادَ عرْفا ؛ والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخفَّ خطوبها ، وقد خبثت حتى صار أقل عيوبِها ، ولعلّ هذا السهم قد صاب آخر ما في كِنَانتها ، وأنكأ ما في خزانتها ، ونحنُ معاشِرَ التبَع نتعلمُ الأدبَ من أخلاقه ، والجميلَ من أفعاله ، فلا نحثّه على الجميل وهو الصبر ، ولا نرغَبه في الجزيل وهو الأجر ؛ فَليَرَ فيهما رأيه إن شاء الله .
وله إلى بعض إخوانه جواباً عن كتاب كتبه يهنِّيه بمرض أبي بكر الخَوارزمي وكانت بينهما مُقارَعة ، ومنازعة ، ومنافَرة ، ومهاتَرة ؛ ولهما مجالس مستظرفة قهره البديعُ فيها وبَهَره ، وبكته حتى أسْكَتَه ، ليس هذا موضعها ، لكني أذْكُر بعد هذه الرسالة بعضَ مكاتبات جرَتْ بينهما ؛ إذ كان ما لهما من الابتداء ، والجواب آخذاً بوَصلِ الحكمة وفَصْلِ الخطاب : الحر أطال الله بقاءك - لا سيما إذا عرف الدهرَ معرفتي ، ووصف أحوالَه صفتي - إذا نظر علم أن نِعَمَ الدَهْرِ ما دامت معدومة فهي أماني ، وإن وُجِدت فهي عَوَاري ، وأن مِحَنَ الأيام وإن طالت فستنفد ، وإن لم تُصب فكأن قَد ، فكيف يشمت بالمِحْنَة مَن لا يأمنها في نَفْسِه ، ولا يَعْدَمها في جنْسِه ، والشامت إن أقلَتَ فليس يَفُوت ، وإن لم يَمُتْ فسيموت ؛ وما أقبَح الشماتة ، بمن أمِن الإماتة ، فكيف بمَنْ يتوقعها بعد كلّ لحظة ، وعَقِبَ كل لفظة ، والدَهرُ غًرثَان طُعمُه الخِيَار ، وظمآن شِرْبُه الأحرار ، فهل يشمت المرءُ بأنياب آكِلِه ، أميُسَرُ العاقل بسلاح قاتله ؟ وهذا الفاضل شفاه اللّه وإن ظاهرْناه بالعداوة قليلاً ، فقد باطَنَّاهُ وُداً جميلاً ، والحرُّ عند الحميةِ لا يصطادُ ، ولكنه عند الكرم يَنْفَادُ ، وعند الشدائد تَذْهَبُ الأحقاد ، فلا تتصور حالتي إلا بصورتها من التوجُّع لعلَته ، والتحزُّن لمرضته ، وقَاهُ واللَهُ المكروه ، ووقاني سماعَ المحذور فيه ، بمَنِّه وحَوْله ، ولُطْفِه وطَوْله .
قال البديع في سياقة أخباره مع أبي بكر الخوارزمي : أولها أنّا وطئنا خُرَاسان ، فما اختَرْنا إلاّ نيسابور داراً ، وإلاّ جوار السادة جَوَارا ، لا جرم أنا حَطَطْنا بها الرَّحْلَ ؛ ومدَدْنا عليها الطُنُبَ ، وقديماً كنّا نسْمَعُ بحديث هذا الفاضل فنتشوَقه ، وبخبرِه على الغَيْبِ فنتعشّقه ، ونقذّر أنا إذا وطئْنا أرْضَه ، وورَدنا بلدَه ، يخرج لنا في العِشرة عن القشْرَة ، وفي المودَّةِ عن الجلدة ، فقد كانت كلمةُ الغُرْبة جَمَعَتْنا ، ولُحْمَةُ الأدب نَظَمتْنَا ، وقد قال شاعر القوم غير مدافع : الطويل :
أجَارَتَنا إنّا غريبانِ ها هُنا . . . وكلُّ غريبٍ للغريبِ نَسِيبُ
فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف ، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف ، وكان قد اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق ، لم يوجبه استحقاق ، من بزّة بَزّوها ، وفِضَّة فضّوها ، وذهب ذهبوا به ، ووردنا نيسابور برَاحَةٍ ، أنْقَى من الراحة ، وكيس أخْلى من جَوْفِ حمار ، وزي أوْحَشَ من طلْعة المعلَم ، بل اطلاعة الرقيب ، فما حَلَلْنَا إلاّ قصبة جواره ، ولا وَطِئْنا إلا عتَبة دَارِه ؛ وهذا بعد رُقْعَةٍ قدَمْنَاها ، وأحوالِ أُنْسٍ نظمناها .
ونسخة الرقعة : أنا بقُرْب الأستاذ أطال اللَّهُ بقاه كما طَرِب النّشْوَان مالَتْ به الخمرُ ، ومن الارتياح للقائه كما انتفض العُصفور بلّله القَطْرُ ، ومن الامتزاج بولائه كما التقَت الصَهباءُ والبارد العَذْبُ ، ومن الإبتهاج لمَزَاره كما اهتزّ تحت البارح الغُصُنُ الرَطْبُ ، فكيف نَشَاطُ الأستاذ سيدي لصديق طرأ إليه ممَا بين قَصبتي العراق وخُرَاسان ، بل عتبتي نيسابور وجرجان ؟ وكيف اهتزازه لضيف : الكامل :
رثّ الشمائل مُخْلَق الأثْوَابِ . . . بَكَرَتْ عليه مُغيرَةُ الأعْرَابِ
وهو - أيّدَه الله - وليُ إنعامه ، بإنفاذ غُلاَمه ، إلى مستقري ، لأُفضي إليه بما عندي - إن شاء الله - .فلمّا أخذتنا عَيْنُه سقانا الدُّرْدِيّ من أوَلِ دَنّه ، وأجْنَانا سوءَ العِشرة من باكورة فنّه ، من طَرْفٍ نَظَر بشَطْرِه ، وقيام دَفَع في صَدْرِه ، وصديق استهان بقَدْرِه ، وضيف استخفّ بأمره ؛ لكنّا أقطعناه جانب أخلاقه ، وولَيناه خُطَة نفاقه ؛ فواصلناه إذ جَانَب ، وقارَبْنَاه إذ جاذب ، وشَرِبنَاه على كُدُورته ، ولَبسْناه على خُشُونته ، ورَدَدْنا الأمر في ذلك إلى زيّ استغثّه ، ولباس استرثّه ، وكاتبناه نستمدُّ وِداده ، ونستلِينُ قيادَه ، ونُقيمُ منْآدَه ، بما هذه نسخته .
الأستاذ أبو بكر ، واللَّهُ يطيل بقاءه ، أزْرَى بضيفه أن وجده يَضْرِب إليه آبَاط القلَّة ، في أطمار الغُرْبة ، فأعمل في رُتْبَتِه أعمالَ المصارفة ، وفي الاهتزاز إليه أصناف المضايقة ، من إيماء بنِصْفِ الطرْف ، وإشارة بشَطْرِ الكفّ ، ودَفْعٍ في صدر القيام عن التمام ، ومَضْغٍ للكلام ، وتكلُفٍ لردِّ السلام ؛ وقد قبلت ترتيبه صَعَراً ، واحتملته وزراً ، واحتضَنْته نكراً ، وتأبطته شرًّا ، ولم آلهُ عُذْراً ؛ فإن المرءَ بالمال وثياب الجمال ، ولستُ مع هذه الحال وفي الأسمال ، أتقزّز من صَفِّ النعال ، فلو صدَقتُه العتَاب ، وناقشته الحساب ، لقلت : إنَّ بوادِينا ثاغية صباح ، ورَاغية رَوَاح ، وناساً يجرّون المَطارِف ، ولا يمنعون المعارف : الطويل :
وفيهمْ مقاماتٌ حِسَان وجوهُهمْ . . . وأنْدِيَة يَنتابُها القَوْلُ والفِعْلُ
فلو طوّحت بأبي بكر - أيدَه اللَّهُ - إليهم مطارحُ الغُرَبة ، لوجد منزلَ البشْرِ رحيباً ، ومحطّ الرَحْل قريباً ، ووَجه المُضِيف خصيباً ؛ فرأي الأُستاذ أبي بكر ، أيّده اللّه ، في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه وُد ، والمرَ الذي يَتْلُوه شَهْد ، موفقٌ إن شاء الله . فأجاب بما نسخته : وصلتْ رُقْعَةُ سيدي ورئيسي أطال الله بقاه إلى آخر السكْبَاج ، وعَرَفت ما تضمّنه من خَشِنِ خطابه ، ومُؤْلم عِتَابه ، وصرفت ذلك منه إلى الضجْرةِ التي لا يخلو منها مَنْ مسَّه عُسر أو نَبَا به دهر ؛ والحمد لله الذي جعلني موضعَ أُنْسِه ، ومظنَّةَ مشتكى ما في نفسه ، أما ما شكاه سيدي ورئيسي مِنْ مضايقتي إياه في القيام ، فقد وفيته حقّه - أيدَه اللَّهُ - سلاماً وقياماً ، على قَدْرِ ما قدَرْت عليه ، ووصلت إليه ، ولم أرْفَعْ عليه إلاّ السيد أبا البركات العلوي أدام الله عزّه ، وما كنتُ لأرفع أحداً على مَنْ أبوه الرسول ، وأمهُ البَتُول ، وشاهداه التوراة والإنجيل ، وناصراه التأويل والتنزيل ، والبشير به جبريلوميكائيل ؛ فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصفَ : حسن عشرة ، وسداد طريقة ، جمال تفصيل وجملة ، ولقد جاوَرْتُهم فأحمدت المَراد ، ونلت المرَاد : الطويل :
فإن كنت قد فارقت نجداً وأهلَه . . . فما عهد نجدٍ عندنا بذميمِ
واللّه يعلم نيّتي للأحرار كافة ، ولسيدي من بينهم خاصة ؛ فإن أعانني الدهرُ على ما في نفسي بلغتُ له ما في النية ، وجاوزْتُ به مسافةَ القَدْر والأمنية ، وإن قطع علي طريقَ عزْمي بالمعارضة ، وسوء المناقضة ، صرفتُ عِنَاني عن طريق الاختيار ، بيد الاضطرار : الطويل :
فما النفسُ إلاّ نطفة بقَرارة . . . إذا لم تكدر كان صفواً غَدِيرُها
وبعد ، فحبذا عتابُ سيدي إذا استوجَبْنَا عَتبا ، واقْتَرفْنَا ذنْبا ؛ فأما أن يسلفنا العَربَدة فنحن نَصُونُهُ عن ذلك ، ونَصُونُ أنفسنا عن احتماله ، ولست أسومه أن يقول : ' أسْتَغْفِرْ لنا ذنُوبَنَا إنا كُنا خاطِئينَ ' ، ولكن أسأله أن يقول : ' لا تَثْرِيبَ عَلَيْكمُ اليومَ يَغْفِرُ اللَهُ لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الراحِمِينَ ' .
فحين وَرَدَ الجواب وعينُ العذْر رَمِدَة تركناه بِعُرَه ، وطوَينَاهُ عَلَى غَره ، وعمدنا إلى ذكره فسحَوْناه ، ومن صحيفتنا مَحَوْناه ، وصِرْنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه ، وتنكبْنَا خطته ، وتجنبنا حِطّته ، فلا طرنا إليه ، ولا صِرنا به ، ومضى على ذلك الأسبوع ، ودبَّت الأيام ، ودرَجت الليالي ، وتطاولَتِ المُدة ، وتصرم الشهرُ ، وصِرْنا لا نُعِيرُ الأسماعَ ذِكْرَهُ ، ولا نودعُ الصدورَ حَديثَه ؛ وجعل هذا الفاضل يستزيد ، ويستعيد ، بألفاظ تقطعها الأسماع من لسانه ، وتؤديها إليٌ ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه ، وتُعِيدها علي ؛ فكاتبناه بما هذه نسخته : أنا أرِدُ من الأستاذ سيدي - أطال اللّه بقاه - شِرعَة وُده وإن لم تَصفُ ، وألبَسُ خلعة بره وإن لم تَضْفُ ، وقَصارَاي أن أكيله صاعاً عن مد ؛ فإني وإنْ كنتُ في الأدب دَعِي النسب ، ضيق المضْطَرب ، سيئ المنقلَب ، أمتُ إلى عشرة أهله بنيِقَة ، وأنزع إلى خدمَة أصحابه بطريقة ، ولكن بقي أن يكون الخليطُ مُنصِفاً في الوداد ، إذا زرْت زَارَ ، وإنْ عُدْت عاد ، وسيدي - أبقاه الله - ناقشني في القبول أولاً ، وصارَمَني في الإقبال آخراً ؛ فأما حديثُ الاستقبال ، وأمرُ الإنزال والأنزال ، فنِطَاقُ الطمع ضيق عنه ، غيرُ متسع لتوقعه منه ،وبعد فكلفة الفَضلِ بينة ، وفروض الودِّ متعيّنة ، وأرْضُ العشرة ليِّنة ، وطرقها هينة ، فلمَ اختار قَعود التعالي مركباً ، وصعودَ التغالي مَذْهَبا ؛ وهلا ذاد الطير عن شجر العِشْرَة ، وذاق الحُلْوَ من ثمرها ؛ فقد علم اللّه أن شوقي إليه قد قدَّ الفؤادَ بَرْحاً إلى برح ، ونكَأَه قَرْحاً إلى قرح ، ولكنها مِرّة مُرة ، ونَفْسٌ حرّه ، لم تُقَد إلا بالإعظام ، ولم تُلْقَ إلاّ بالإجْلاَلِ والإكرام ، وإذا استعفاني من معاتبته ، فأعْفَى نفسه من كُلَفِ الفَضْلِ يتجشَّمها ، فليس إلاَ غصص الشوق أتجَرَعُها ، وحُلل الصبْر أتدرَعها ، ولم أعره من نفسي ، وأنا لو أُعِرْتُ جناحَيْ طائر لما طِرْت إلا إليه ، ولا وقعت إلاّ عليه : الطويل :
أحبك يا شَمْسَ النهار وبَدْرَهُ . . . وإنْ لامني فيك السها والفَرَاقِدُ
وذاك لأنّ الفضلَ عندك باهر . . . وليس لأنّ العيشَ عندك بارِدُ فلمّا وردت عليه الرُّقعة حشَد تلاميذَه وخَدَمه ، وجَشِم للإيجاب قدمه ، وطَلَع علينا مع الفجر طلوعُه ، ونظمتنا حاشيتا دار الأمير أبي الطيب ؛ فقلْنا : الآن تُشْرِق الحشمةُ وتنور ، وننجِدُ في العشرة ونُغَوَر ، وقصدناه شاكرين لمّا أتاه ، وانتظرْنا عادةَ بره ، وتوقعْنا مادَةَ فضله ؛ فكان خُلبا شمْنَاه ، وآلا ورَدْنَاه ، وصرفنا في تأخّره وتأخّرِنا عنه إلى ما قاله ابن المعتز : الرجز :
إنا على البعاد والتفرُقِ . . . لنلْتقِي بالذكْرِ إنْ لم نَلْتَقِ
وأنشدنا قول ابن عصرنا : الوافر :
أُحبك في البتول وفي أبيها . . . ولكني أُحِبّك من بعيدِ
وبقينا نَلْتَقي خيالاً ، ونقنع بالذكر وصالاً ، حتى جعلت عواصفه تهُب ، وعقاربه تَدِب .
والمجلس طويل جداً .
قلت : إن كنتُ خرجتُ لطولِ هذا الكلام عن ضبط الشرط ، فلعلي أسامَح فيه لفضله ، وعدم مثله ، وهو وإن كان في باب الاتصال ، فهو بتقدير الانفصال ، لقيامِ كل رسالةِ بذاتها ، وانفرادها بصفاتها .وكتب إلى رئيس هَرَاةَ عدنانَ بن محمد يصفُ ما جرى بينه وبين الخوارزمي : ما ألوم هذا الفاضل على بساط شَرٍّ طواه ، وموقد حَرْبٍ اجتواه ، ولكني ألُومُه على ما نواه ؛ ثم لم يتبع هواه ، ورامَه ، ثم لم يبلغ آثَامه ، وأقولُ : قد ضرب فأيْنَ الإيجَاع ؟ وأنْذَر فأين الإيقاع ؟ وهذه بَوارِقه ، فأيْنَ صواعقه ؟ وذلك وعيدُه ، فأين عديده ؟ وتلك بنودُه ، فأين جنودُه ؟ وأنشد : الكامل :
هذي معاهده فأين عهودُهُ ؟
وما أهْول رَعْدَه ، لو أمطر بعده اللهمَ لا كُفْرانَ ، ولعن اللَهُ الشيطان ، فإنه أشفق لغريب أن يُظْهِرَ عَوارَه ، وإن طارَ طَوارَه ، وإنْ كان قصد هذا القَصْدَ فقد أساء إلى نفسه من حيث أحْسَنَ إليَّ ، وأَجْحَفَ بفضله من حيث أبْقَى عليَ ، وأَوْهم الناس أنه هاب البَحْر أن يخوضه ، والأسَدَ أن يَرُوضَه ، وشجّعني على لقائه ، بعدما بَرَعني بإيمائه ، فبينما كنت أُنشد : الخفيف :
إنَ جنْبي على الفراش لناب
إذ أنشدت : الخفيف :
طاب لَيْلِي وطاب فيه شَرَابِي
وبينما أنا أقول : الخفيف :
ما لقلبي كأنه ليس مني
إذْ قلت : الخفيف :
أين مَنْ كان موعِداً لي بأني
فلو أن هذا الفاضلَ قضى حقنا بالزيارة عند قدومِنا أو الاستزارة ، لكان في الضرب أحسن ، وفي طريق المعاشرة أذهب ، لا ، ولكنه وعدَ بالمُباراة أولاً ، وهددنا بالمسائل ثانياً ، وأخلف بالتخلف ثالثاً ؛ فأبْلِغْ وَجْدِي إليه ، واعْرِض شوقي عليه ، وقلْ له إن كنت ندمت على النضال ، فلا تندَمْ على الإفضال ، فإن طَوَيتنا حيث الجهاد ، فانشُرْنا حيثُ الوداد ، وإن لم تلْقَنا في باب المكاشرة ، فأْتنا من بابِ المعاشرة .وله إلى الإمام أبي الطيب سهل بن محمد : قد كان الشيخُ يَعِدُني عن هذه الحضرة عِدَاتٍ أشمّ لها الأنف ، لا ذهاباً بتلك الفواضل عنها ، لكن استحالةً من هذا الزمان أن يجودَ بها ؛ فحين أسرفْتُ على الْحَضْرَة ماجَتْ إليّ أمواجُ الشرف منها ، وخلص إليّ نسيمُ الكَرَم عنها ، وأتْحَفني على رسم الإجلال بمركوب شامخ ، ومركب ذهبٍ سابغ ، وجنيبِ شرف زائد ؛ وسرتُ بحمد اللّه محفوفاً بأعيانِ الكتّاب ، وعيونِ الرجال ، حتى شافَهْتُ بِسَاطَ العز ، مستقبَلاَ مَلِكَ الشرق أدام الله عُلُوَه ، فجذب بضَبْعَيّ عن أرْضِ الخدمة ، إلى جوارِ وليّ النعمة ، حرس اللَّهُ مكانه ، فاهتزَّ اهتزازاً فات سِمَة الإكرام ، وتجاوز اسْمَ الإعظامِ إلى القيام ، فقبلتُ من يُمْناه مِفْتَاح الأرزاق ، وفتاح الآفاق ، ولحقت منه بقاب العُقاب ، وخاطبني بمخَاطبات نَشَدْتُ بها ضالَةَ الكِرام ، وهلمّ جرّا إلى ما تبعها من جميل الإنزال ، وسَنيّ الأجْزَال .
وطرأت من الشيخ العميد على شَخْصِ يسَعُه الخاتم ، ولا يَسعُه العالَم ، ويهتز عند المكارم كالغُصن ، ويثبت عند الشدائد كالرُكْن ، وسلطانٍ يحلم حِلْمَ السيفِ مُغْمداً ، ويغضب مجرداً ، فهو عند الكرم لَيِّنٌ كصَفْحَتِه ، وعند السياسةْ خشِنٌ كشَفْرته ، وملك يَأْتي الكرمَ نيّة ، والفضلَ سجيّة ، ويفعل الشرّ كُلْفَة أو خطيَّة ، فهو ضَرُور بآلاته ، نَفُوع بذاته ، عطارد قَلَمُه ودَوَاتُه ، والمرّيخ سَيْفُه وقَنَاتُه ، عيْبُه أنْ لا عَيْبَ فيه ، فيصرف عَيْن الكمال عن معاليه . وصادفت من الشيخ الموفق ، أيده الله ، مَلكاً يُشاهَدُ عِيَاناً ، وجبلاً قد سُمِّي إنساناً ، وحسناً قد مُلِئ إحساناً ، وأسداً قد لقَبَ سلطاناً ، وبَحْراً قد أمسكَ عِنانا ، وحطَطْتُ رَحْلِي بفناء الأمير الفاضل أبي جعفر أدام الله عِزَّه ، فوجدت حكمي في ماله أنْفَذَ من حكمه ، وقَسْمِي من غِنَاه أوْفَر من قَسْمه ، واسْمِي في ذات يده مقدَّماً على اسْمِه ، ويَدِي إلى خزانته أسْرَعَ من يَده ، وإن قصدت أنْ أُفْرِدَ لكل مدحاً ، وأعبر الجملة شرحاً ، أطَلْت ، فهلم جرّا إلى ما افتتحت الكتاب لأجله .
ورد للخوارزمي كتاب يتقلّب فيه على جَنْبِ الحردِ ، ويتقلّى على جَمْر الضجَر ، ويتأوه من خُمار الخجل ، ويتعثرُ في أَذْيالِ الكَلَل ، ويذكر أنَّ الخاصة قد علمت لأينا كانالفَلْج ، فقلت : است البائن أعلم ، والخوارزمي أعْرَف ، والأخبار المتظاهرة أعدل ، والآَثار الظاهرة ، أصْدَقُ ، وحَلْبة السباق أحْكَم ، وما مضى بيننا أشهد ، والعَوْدُ إن نَشِط أحْمَد ، ومتى استزاد زِدْنا ، وإن عادت العقرب عُدْنا ، وله عندي إذا ما شاءَ ، كل مَا شَاء وهي طويلة فيها هَنات صُنْتُ الكتابَ عنها ، وقد أعادَ البديع معنى قوله في صدر حكايته مع الخوارزمي ، فقال في رقعة كتبها إلى سعيد الإسماعيلي ، وقد وقفت به الضرورةُ على تلك الصورة من سلب العرب ماله : كتابي ، بل رُقْعتي ، أطال الله بقاءَ الشيخ ، وقد بكرت عليَ مُغِيرَةُ الأعراب ، كمهلهل ، وربيعة بن مُكدَم ، وعتيبة بن الحارث بن هشام ، وأنا أحمد الله ، إلى الشيخ الفاضل ، وأذمُ الدهر ؛ فما ترك لي من فِضَةٍ إلاَ فضها ، ولا ذهبِ إلا ذَهب به ، ولا عِلْق إلا عَلَقه ، ولا عَقَار إلاّ عَقَرَه ، ولا ضَيْعَة إلاّ أضاعها ، ولا مال إلاّ مال إليه ، ولا سَبَدٍ إلا استبدَّ به ، ولا لَبَد إلا لَبَد فيه ، ولا بِزّة إلاَ بَزَّها ، ولا عارية إلا ارتجعها ، ولا وَدِيعة إلاّ انتزعها ، ولا خِلْعة إلاّ خلعها ، وأنا داخل نيسابور ولا حِلْية إلا الجلدة ، ولا بُرْدَ إلا القشْرَة ، واللّه وليُّ الخلف يعجِّله ، والفرج يسهِّلة ، وهو حَسْبي ونعمْ الوكيل .
وليس البديع بأبي عذرة هذا الخطاب ، وسترى نظير هذا المعنى في هذا الكتاب .
ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح الإسكندري
قال : حدَّثني عيسى بن هشام قال : كنتُ في بعض بلاد بني فَزارة مرتحلاً نَجيبة ، وقائداً جَنِيبَة ، يَسْبحانِ سَبْحا ، وأنا أهيم بالوطن ، فلا الليل يَثْنيني بوعيده ، ولا البُعْد يُدْنيني بِبيدِه ، وظَلِلْتُ أخْبِط ورقَ النَّهار ، بعصا التسيار ، وأخوضُ بَطْنَ الليل ، بحوافر الخيلِ ، فبينما أنا في ليلةٍ يضلُّ بها الغَطَاط ، ولا يُبْصر بها الوَطْوَاط ، أسْبَحُ ولا سانح إلاّ السبع ، ولا بارح إلا الضَّبع ، إذ عنّ لي راكب تامّ الآلات ، يطوي منشور الفَلوات ، فأخذني منه ما يأخذُ الأعْزَلَ من شاكي السلاح ، لكني تجلَدت فقلت : أرضَكَ لا أُمّ لك فدونك شَرْطُ الحِداد ، وخَرْطُ القَتَاد ، وخَصْم ضخم ، وحمية أزْدِية ، وأنا سِلْم إن شئت ، وحَرْبٌ إنأردت ، من أنت ؟ قال : سلماً أصبت ، قلت : خيراً أجبت ، قلت : فمن أنت ؟ قال : نصيح إن شاورت ، فصيح إنْ حاوَرْت ، ودون اسمي لِثام ، لا تُمِيطه الأعلام . قلت : فما الطُعمة ؟ قال : أجُوت جُيوبَ البلاد ، حتى أقع على جَفْنَة جَوَاد ، ولي فؤاد يَخْدُمه لسان ، وبيان يَرْقمه بَنَان ، وقصارَايَ كريمٌ ينفض إليّ حقيبته ، ويخفف لي جَنِيبته ، كابن حُرّة طلع إلي بالأمس ، طُلوع الشمس ، وغرب عني بغُروبها ؛ لكنه غاب ولم يَغِبْ تذكارُه ، وودَّع وشيّعَتْني آثارُه ، ولا ينبئك عَنْها أقرَبُ منها ، وأومأ إلى ما كان يَلْبسه ، فقلت : شحاذ وربَ الكعبة أخاذ ، له في الصَنْعة نَفَاذ ، بل هو فيها أستاذ ، ولا بدّ أن تَرْشَح له وتَسِخَ عليه ، وقلت له : يا فتى ، قد أجليت عبارتك ، فأَين شعرُك من كلامك ؟ فقال : وأين كلامي من شعري ثم استمدّ غريزته ، ورفع عقيرته ، بصوت ملأ الوادي ، وأنشأ يقول : الطويل :
وأرَوَع أهداه ليَ الليلُ والفَلاَ . . . وخَمْسٌ تمسُ الأرْض لكن كلا وَلاَ
عَرَضْتُ على نارِ المكارمِ عُودَهُ . . . فكانَ مُعمًّا في السوابق مُخْولا
وخادَعْتُه عن ماله فخَدَعْتُه . . . وسَاهَلْتُه في بِرّه فتسهَلا ولما تجالينا وأحمدَ مَنْطِقي . . . بَلاَني في نَظْمِ القريضِ بما بَلاَ
فما هَزَ إلا صارماً حين هزَّني . . . ولم يَلْقني إلا إلى السَبْقِ أَوَلا
فلم أَرَه إلاّ أغَرَ محجّباً . . . وما تحتَه إلا أغَرَ محجلاَ
فقلت : على رِسْلك يا فتى ، ولك مما يصحبني حكمك . فقال : الجنيبة ، قلت : إن وما عليها . ثم قبضت بجُمعي عليه ، وقلت : لا والله الذي ألهمها لَمسا ، وشقّها من واحدة خَمْسا ، لا تُزايلنا أو نَعْلَم عِلْمك ، فحدَر لِثامه عن وَجهه ، فإذا واللّه شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، فما لبثت أن قلت : الهزج :
توشحتَ أبا الفتح . . . بهذا السيفِ مُخْتالا
وما تصنعُ بالسيف . . . إذا لم تَكُ قتالا ؟
فصُغْ ما أنت حليت . . . به سيفَك خلخَالا
وعلى ذكر قوله : إنَّ وما عليها ، قال أبو عبيدة : وَفَدَ عبدُ الله بن الزبير الأسديعلى عبد الله بن الزُّبَيْرِ بن العوام فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنَ بيني وبينك رَحِماً من قِبَل فلانة الكاهلية ؛ هي أُختنا ، وقد ولدتكم ، وأن ابنُ فلان ؛ فلانة عمّتي . فقال ابنُ الزبير : هذا كما ذكرت ، وإن فكّرت في هذا أصبت ، الناسُ كلّهم يرجعون إلى أبٍ واحدٍ ، وأم واحدة .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّ نَفَقتي قد ذَهَبَتْ . قال : ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أنْ تَرْجِع إليهم . قال : يا أمير المؤمنين ، إن ناقتي قد نَقِبت ودَبَرتِ . فقال له : أنْجِدْ بها يَبْرُدْ خفّها ، وارقَعْها بسِبْت ، واخْصِفْها بهُلْب ، وسِرْ عليها البريدين . قال : يا أمير المؤمنين ، إنما جئتك مستَحْمِلاً ، ولم آتِك مستوصفاً ، لعن اللَّهُ ناقةً حملتني إليك . قال ابنُ الزبير : إنَ وراكِبَها فخرج وهو يقول : الوافر :
أرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْب . . . نكِدْنَ ، ولا أُمَيةَ في البلادِ
من الأعياص أو مِنْ آل حَرْبٍ . . . أغرّ كغُرَّةِ الفرس الجوادِ
وما لي حين أقْطَع ذاتَ عِرْقٍ . . . إلى ابنِ الكاهلية من مَعاد
وقلت لصحبتي أدْنُوا ركابي . . . أفارِقْ بَطْنَ مكَّةَ في سَوَادِ
فبلغ شعره هذا عبد الله بن الزبير ، فقال : لو علم أنّ لي أُمًّا أخَسَ من عمّته الكاهلية لنسبني إليها ، وكان ابنُ الزبير يكنى أبا بكر وأبا خُبَيْب .
قال الصولي : أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرساً أشهب أحم ، كان عنده مَكِيناً ، وكان به ضَنيناً ، فقال يَرْثيه : الكامل :
قالوا : جزعت ، فقلتُ : إنّ مصيبةٌ . . . جلّت رزيَّتُها ، وضاق المذهبُ
قال أبو بكر : هكذا أنشدنيه ابنُ المعتز على أن إن بمعنى نعم ، وأنشد النحويون : الكامل :
قالوا : كبرتَ ، فقلتُ : إن ، وربما . . . ذَكَرَ الكبيرُ شبابَه فتَطرَّبا
الكامل :كيف العَزاء وقد مضى لسبيله . . . عنا فودّعنا الأحم الأشْهَبْ
دب الوُشاة فباعدوه ، وربما . . . بَعُدَ الفتى وهو الحبيبُ الأقْرَبُ
للّه يومَ غدوت فيه ظاعناً . . . وسُلِبْتُ قرْبَك ، أيَّ عِلْق أُسْلَب ؟
نفسي مقسّمة أقام فَرِيقُها . . . ومضى لطيَّته فريق يُجْنَبُ
الآن إذْ كَمُلَتْ أداتك كلّها . . . ودعا العيونَ إليك حُسْن مُعْجِبُ
وغدوت طَنان اللّجام كأنما . . . في كل عُضْو منك صنْجٌ يُضْرَبُ
وكأنّ سَرْجك ، إذْ عَلاَك ، غَمامةٌ . . . وكأنما تحت الغمامة كَوْكَبُ
أنْساك ؟ لا زَالتْ إذاٌ منسيةً . . . نفسي ، ولا بَرِحَتْ بمثلك تنكب
أضْمَرْتُ منك اليَأْس حين رأيتني . . . وقُوَى حبالي مِنْ حِبَالك تُقْضَب
يا صاحبيَ لمثل ذَا من أمرِه . . . صَحبَ الفتى فْي دَهْرِه من يَصْحَبُ
إنْ تُسْعِدا فصنيعةٌ مشكورةٌ . . . أو تَخْذُلا فصنيعةٌ لا تَذهبُ
عُوَجاَ فقولا : مرحبا ، وتزوَّدا . . . نظراً ، وقلّ لمن تُحِب المرحَبُ
منعَ الرقادَ جَوًى تضمَّنَه الحَشَا . . . ممّا أكابده وهَمٌ مُنْصِب
ما قيل في المزاح
قال الحجاج بن يوسف لابن القرِّية : ما زالت الحكماء تَكْرَه المُزَاح ، وتَنْهى عنه ، فقال : المُزاح من أدْنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب : المُزاح أوله فَرَح ، وآَخره تَرَح . المزاح نقائض السفهاء ، كالشعْرِ نقائض الشعراء . والمزاح يُوغِر صدْرَ الصديق ، وينفَر الرفيق . والمزاح يُبْدي السرائر ؛ لأنه يظهر المَعَاير . والمزاح يُسْقطُ المروءة ، ويُبْدِي الخنى . لم يجُرَ المزح خيراً ، وكثيراً ما جَرَ شرًا . الغالب بالمزاح وَاتِر ، والمغلوب به ثائر . والمزاح يجلب الشتمَ صغيرُه والحربَ كبيرُه ، وليس بعد الحرب إلاّ عفوٌ بعد قدرة .
فقال الحجاج : حسبك ، الموت خيرٌ من عَفْو معه قدرة .
وذُكِر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال : يُنْشِق أحدُكم أخاه مثل الخرْدَل ، ويُفْرغُ عليه مثل المِرْجل ، ويَرْميه بمثل الْجَندل . ثم يقول : إنما كنت أمزح أخذ هذا المعنى محمود بن الحسين الوراق فقال : الكامل :
تَلْقَى الفتى يَلْقَى أخاهُ وخِدْنَهُ . . . في لَحْن مَنْطِقه بما لا يُغْفَرُ
ويقول : كنت مِمازحاً ومُلاعباً . . . هيهات نارُك في الحشا تَتسعَرأو ما علمت وكان جهلك غالباً . . . أنَّ المُزَاحَ هو السبابُ الأصْغَر ؟
فقر في هذا النحو لأهل العصر وغيرهم
المَزَاحة تَذْهَبُ بالمهابة ، وتُورِثُ الضغينة . الإفراط في المُزاح مُجون ، والاقتصاد فيه ظَرْف ، والتقصير عنه نَدامة . أوكد أسباب القطيعة المِرَاء والمُزاح .
ابن المعتز - من كَثُر مُزاحُه لم يَخْلُ من استخفافٍ به أَو حِقْدٍ عليه .
قال أيوب بن القِرِّية : الناس ثلاثة : عاقل ، وأحمق ، وفاجر ؛ فالعاقل الدَينُ شريعته ، والحلم طبيعته ، والرأيُ الحسنُ سجيته ؛ إن سُئل أجاب ، وإن نطق أصاب ، وإن سَمِعَ العلم وَعَى ، وإن حدّث روى . وأمّا الأحمق فإنْ تكلم عجِل ، وإن حدّث وَهِل ، وإن استُنْزِل عن رأيه نزل ، فإن حُمِل على القبيح حَمل . وأمَا الفاجر فإن ائتمنته خانك ، وإن حدثته شَانَك ، وإن وثقتَ به لم يرعَك ، وإن استُكتِم لم يكتُم ، وإن عُلم لم يعلم ، وإن حُدّث لم يفهم ، وإن فقَه لم يَفْقَه .
الطيرة والزّجْر
قال أبو حية النميري : الطويل :
جَرَى يَوْمَ رُحْنا عامدين لأرضنا . . . سَنيح ، فقال القومُ : مَرَّ سَنيحُ
فهابَ رجال منهمُ فتغيفوا . . . فقلت لهم : جاري إلي ربيحُ
عُقَابٌ بأعقابٍ من الدار بعدما . . . نَأت نَأْية بالظاعنين طَرِيحُ
وقالوا : حمامات ، فحُمَّ لِقَاؤها . . . وطَلْح فنِيلَتْ والمطي طَلِيحُ
وقال صحابي : هُدْهُد فوق بَانةٍ ، . . . هُدَى وبيانٌ بالنجاح يَلُوحُ
وقالوا : دمٌ ، دَامَتْ مواثيقُ بيننا . . . ودام لنا حُلوُ الصفاء صَرِيحُ
لَعَيْناك يومَ البين أسْرَعُ واكفاً . . . من الفَنَنِ المَمطُور وهو مَرُوحُ
ونسوةِ شَحْشاح غَيُورٍ يَخَفْنَه . . . أخي ثقة يَلهُونَ وهو مُشيحُيقلْن ، وما يَدْرِين أنِّي سمعتُهُ . . . وهنَ بأبوابِ الخِيام جُنُوح :
أهذا الذي غنَّى بسمراء مَوْهِناً . . . أتاحَ له حُسْنَ الغِناء مُتِيحُ ؟
إذا ما تغنَى أنَ مِنْ بَعْد زَفْرَةٍ . . . كما أن من حَر السلاح جَرِيحُ
وقائلةٍ : يا دَهْمٌ وَيْحَكِ إنهُ . . . على ما به من عُنةٍ لمليحُ
فلو أن قولاً يجرحُ الجلدَ قد بدا . . . بجِلدِيَ من قول الوُشاة قروحُ
وهذا من غريب الزَّجْرِ مليحُ التفاؤل .
قال أبو العباس محمد بن يزيد : أنشدني أعرابيّ في قصيدة ذي الرمة التي أولها : الطويل :
ألا يا اسْلَمى يا دَارَميَّ عَلَى البِلَى . . . ولا زَالَ مُنْهَلاًّ بجَزعائِكِ الْقَطْرُ
بيتين لم يروهما الرواة في ديوانه ، وهما :
رأيتُ غراباً ساقطاً فوف قَضْبةٍ . . . من القَضْبِ لم يَنْبُتْ لها وَرَقٌ خُضْرُ
فقلت : غرابٌ لاغترابٍ ، وقَضْبَةٌ . . . لقضْبِ النوى هذي العيافةُ والزَّجْرُ
وقال آخر : الطويل : دعا صُرَدٌ يوماً على غُصْنِ بانةٍ . . . وصاح بذات البين منها غُرَابُها
فقلت : أتصْرِيدٌ وشَحْطٌ وغُرْبةٌ ؟ . . . فهذا لعمري نَأيُها واغْتِرابُها
وقد أكثرت العرب من ذكر الطَيرَة ، والزَّجْرِ ، وكانت تقتدي بذلك وتجري على حكمه ، حتى ورد النَّهْيُ في سنة رسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : لا عَدْوَى ولا طِيرَة ، وقد قال الأول : الطويل :
لعمرك ما تَدْرِي الضوَارِبُ بالحصى . . . ولا زَاجِراتُ الطيْرِ ما اللَهُ صانعُ
وقال ضابئ بن الحارث البرجمي : الطويل :
وما عاجلات الطير ، تُدْني مِنَ الفتى . . . نجاحاً ولا عن رَيْثهنَ يخيبُ
ولا خيرَ فيمن لا يوطَنُ نفسهُ . . . على نائباتِ الدَهْرِ حين تنوبُ
ورب أمورِ لا تَضِيرك ضَيْرةً . . . وللقلب من مَخْشاتِهنَ وَجِيبُوقال الكميت بن زيد الأسدي : الطويل :
ولا أنا ممن يَزْجُرُ الطيرَ همُّه . . . أصاح غرابٌ أم تَعَرَّضَ ثعلبُ
ولا السانحات البارحات عشية . . . أمرَّ سَليم القَرْن أم مرَ أعْضَبُ
وقال شاعر قديم : مجزوء الكامل :
لا يمنعنَّك من بُغا . . . ء الخير تَعْقادُ التَّمائمْ
ولا التشاؤم بالعُطَا . . . س ولا التَّيامُنُ بالمقاسِمْ
فلقد غَدَوت وكنت لا . . . أغدو على واقٍ وحاتم
فإذا الأشائمُ كالأيا . . . من والأيامنُ كالأشائمْ
وكذاك لا خيرٌ ولا . . . شرّ على أحدٍ بدائمْ
قد خطَّ ذلِكَ في الزَّبُو . . . ر الأوّليات القدائمْ
ولقد أحسن ابن كناسة في رثاء ولده يحيى ، أنشده أبو العباس ثعلب : الطويل :
تيمّمت فيه الفأل حتى رُزِئتهُ . . . ولم أدْرِ أنّ الفال فيه يَفِيلُ
فسمَّيْته يَحيَى ليَحيَا ؛ فلم يَكن . . . إلى ردَ أمرِ اللَهِ فيه سبيلُ
وروى المدائني قال : خرج كثير من الحجاز يريدُ مصر ، فلما قَرُبَ منها نزل بمنزل ، فإذا هو بغُرَاب على شجرة بَانٍ يَنْتِف ريشَه وَيَنْعَبُ ؛ فأسرع الرحيل ، ومضى لوجهه ؛ فلقيه رجلٌ من بني نَهْد ، فقال : يا أخا الحجاز ، ما لي أراكَ كاسِفَ اللون ؟ قال : ما علمت إلاّ خيراً ، قال : فهل رأيت في طريقك شيئاً أنكَرْته ؟ قال : لا والله إلا في منزلي هذا ، فإني رأيتُ غراباً يَنْتِف رِيشَه على بانة وَينْعَبُ . قال : أما إنك تطلب حاجةً لا تدركها .
فقدم مصر والناسُ منصرفون من جنازة عزة ، فقال : الطويل :
رأيتُ غراباً ساقطاً فَوْقَ بانةٍ . . . يُنْتِّفُ أعْلى رِيشه ويطايرُهْ
فقلت ولو أني أشاء زَجَرْتُهُبنفسيَ للنهديّ : هل أنت زاجره ؟
فقال : غراب لاغتراب من النوى . . . وفي البان بَيْنٌ من حبيب تجاورهْ
فما أعيفَ النهديَّ ، لا دَرَّ دَرّهُ . . . وأزجرَه للطير ، لا عَز ناصِرُهثم أتى قبر عزة فأناخ به ساعة ثم رحل ، وهو يقول : الطويل :
أقول ونِضْويَ واقف عند رأسها . . . عَلَيْكِ سلامُ اللَّهِ والعَيْنُ تَسفَحُ
فهذا فراق الحقّ لا أن تُزيرني . . . بلادَك فَتلاءُ الذراعين صَيْدحُ
وقد كنت أبكي من فراقِكِ حية . . . وأنت لعمري اليومَ أَنأَى وأنْزَحُ
وقال جرير : الكامل :
بَانَ الخليطُ برامَتَيْن فوَدَّعُوا . . . أوَ كُلَّما نعبوا لبَيْنٍ تَجْزَعُ
إن السَّوانح بالضُّحَى هَيجْنَني . . . في دارِ زَيْنَبَ والحمامُ الوُقّعُ
وقال عوف الراهب خلاف هذا : الكامل :
غلط الذين رأيتهمْ بجهالةٍ . . . يَلْحَوْنَ كلُهُمُ غراباً يَنْعَقُ
ما الذنبُ إلاَّ للأَباعر ؛ إنها . . . ممّا يُشِتّ جميعَهمْ ويفرّقُ
إنَّ الغرابَ بيُمْنهِ تَدْنُو النَوى . . . وتُشَتَتُ الشملَ الجميعَ الأيْنُق
وقد تبعه في هذا المذهب أبو الشيص فقال : مجزوء الرجز :
ما فرق الأحباب بَع . . . د اللَّهِ إلاّ الإبلُ
والناس يَلْحَوْن غُرا . . . بَ البينِ لَمَّا جهلوا وما على ظَهْر غُرا . . . ب البَيْن تُطوى الرُّحُلُ
ولا إذا صاح غُرا . . . بٌ في الديار احتملوا
وما غرابُ البين إلْ . . . لاَ ناقةٌ أو جَمَلُ
وما أملح ما قال القائل : الكامل :
زعموا بأنَّ مَطيَّهُمْ عَوْنُ النوى . . . والمؤْذِناتُ بفُرْقةِ الأحبابِ
وَلَوَ أنها حَتْفي لما أبْغَضتُها . . . ولها بهم سببٌ من الأسبابِوكان علي بن العباس الرومي مُفْرِطَ الطِّيرَة ، شديدَ الغلوّ فيها . قال علي بن عبد الله بن المسيب : وكان يحتجُ لها ، ويقول : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان يُحِبُّ الفأل ، ويَكْرهْ الطيرَة ؛ أفتراه كان يتفاءلُ بالشيء ، ولا يتطيَّر من ضدِّه ؟ ويقول : إن النبيّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، مرّ برجل وهو يَرْحَل ناقةً ويقول : يا ملعونة ، فقال : لا يَصْحَبُنا ملعون ، وإن علياً ، رضي اللّه عنه ، كان لا يَغْزُو غَزاة والقمرُ في العقرب ، ويزعم أن الطيرة موجودةٌ في الطباع قائمةٌ فيها ، وأن بعضَ الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض ، وأن الأكثرَ في الناس إذا لقي ما يكرهُه ، قال : على وَجْهِ من أصبحت اليوم ؟ فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين وقد أهدي إلي عدةٌ من جواري القيان ، وكانت فيهنّ صبيةٌ حَوْلاَء ، وعجوزٌ في إحدى عينيها نكتة ، فتطير من ذلك ، ولم يُظْهِرْ لي أمره ، وأقام باقي يومه ؛ فلمّا كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح ، وجفاه لقاسم بن عبيد اللّه ، فجعل سَبب ذلك المعنيين المغنيتين ، وكتب إليَّ : الخفيف :
أيها الْمُتْحِفِي بحُولٍ وعُورٍ . . . أين كانت عنك الوجوهُ الحسانُ ؟
قد لَعَمْري ركِبْتَ أمراً مهيناً . . . ساءني فيك أيها الخُلْصَانُ
فَتْحُكَ المهرجان بالحُول والعُو . . . رِ أرانا ما أعْقَب المهرجانُ
كان من ذاك فقدُك ابنتَك الْحُ . . . رة مصبوغةً بها الأكْفانُ
وتَجافي مؤمَّل لي جَليل . . . لج فيه الجفاءُ والهِجْرانُ
وعزيز عليَّ تقريع خل . . . لا يُدانيه عنديَ الخُلاَنُ
غير أني رأيت إذكارَهُ الحز . . . مَ وإشعارهُ شِعاراً يُصَانُ
لا تَهَاوَنْ بطيرة أيّها النظ . . . ار واعْلَمْ بأنها عُنْوانُ
قف إذا طيرة تلقّتك وانْظُرْ . . . واستمع ثمَ ما يقول الزَمانُ
قلما غاب من أمورك عنوا . . . ن مبين وللزَمانِ لِسَانُ
لا تكن بالهوى تكَذب بالأخ . . . بارِ حتى تهين ما لا يُهان
لا يَقُدْكَ الهوى إلى نصرة الأخ . . . بارِ حتى يقدَّم البرهانُ
إن عُقْبى الهوى هُوِيٌ ، وُعقْبى . . . طول تلك المهوَنات هَوان
لا تصدق عن النبيين إلا . . . بحديث يلوحُ فيه البيان
خبَّر اللَه أنَّ مشأمَةً كا . . . نت لقوم وخبَّر القرآن
أفَزُورَ الحديثِ تقبل أم ما . . . قاله ذُو الجلال والفُرْقانُ ؟
أترى من يرى البشيرُ بشيرا . . . يَمْتَري في النذير يا وَسْنانُفدع الهزل والتضاحك بالطي . . . رة والنصح مُثمن مجانُ
وقد فرَّق حُذاق أهل النظر في المقال ، بين الطيرة والفال ، فقالوا : الطيرة كانت العرب ترجعُ إلى ما تمضيها ، وتجري على تقضيها ، وكان الذي يهُمُ بهم إذا ما رأى ما يتطير منه رجع عنه ؛ وفي ذلك ما يصرف عن الإحالة على المقادير الجارية بيد مُمْضيها ، النازلة على حكم قاضيها ، والفَأْل لا يردّ المريد عمّا يريد إنما يُقَوَي مُنته ، ويَسُرُ مهجته ؛ وليس هذا موضع تطويل ، في إيراد الدليل .
وفي جفاء القاسم بن عبيد الله إياه يقول معاتباً : الطويل :
ألم ترني أقرضْتُك الودَ طائعاً . . . ولم تر قبلي مُعسِراً قط أقْرَضا
لعمري لقد صوّرت أبيض مشرقاً . . . فَلِمْ لا تُرِيني وَجْهَ نُعماك أبيضا ؟
فيا ويح مولاك استغاث بمشربٍ . . . فأشرق فاستشفى شفاء فأفرضا ولولا اعتقادي أنك الخيرُ كلهُ . . . لأزْمَعْتُ توديعاً ، قضى اللّه ما قَضَى
وإني وإن دارَتْ علي دوائرٌ . . . لأُعْرِض عمَّنْ صَدَ عني وأعْرَضا
وما زلت عَرَافاً إذا الزاد رانَني . . . بخبثٍ وعيّافاً إذا الماءُ عَرْمَضا
وهذا البيت كقول الآخر : الطويل :
وإنيَ للمَاء المخالط للقَذَى . . . إذا كثرت وُرَادُهُ لَعُيُوفُ
وفي ابنة المسيبي يقول ابن الرومي يعزّيه : الطويل :
أخا ثقتي أعْزِزْ عليَ بنكبةٍ . . . مَنَاك بها صَرْفُ القضاءِ المقدَرُ
صِبْتَ ، وما للمرء من حُكْمِ ربِّه . . . محيدٌ ، وأمرُ اللَهِ أعلى وأقهرُ
وقد مات من لا يخلف الدهر مثلَهُ . . . عليك من الأسلاف والحقُّ يَبْهَرُ
تعزيت عمّن أثمرتك حياتهُ . . . ووَشك التعزي عن ثمارك أجْدَرُ
لأن اختيال الدهر في ابنٍ وفي ابنةٍ . . . يسير وكرُ الدهر شيخيك أعسَرُ
تعذر أن نعتاض من أمهاتنا . . . وآبائنا ، والنسلُ لا يتعذّر
فلا تهلِكَنْ حُزْناً على ابنة جنةٍ . . . مضت وهي عند اللَّهِ تحيا وتُحْبَرُ
لعل الذي أعطاك ستر حياتها . . . كساها من اللحْدِ الذي هو اسْتَرُ
فكم من أخي حرية قد رأيتهُ . . . بنارِ ذوي الأصهار يكوى ويُصْهَرُفلا تتهم للَّه فيها ولايةً . . . ولا نظراً فاللَّه للعبد أنظر
وأنت وإن أبصرت رشدك مرةً . . . فذو النظر الأعلى برشدك أبصَر
ومن مليح تعازيه عن ابنَةٍ قوله لعلي بن يحيى : الكامل :
لا تبعدنَّ كريمة أودعتها . . . صِفراً من الأصهار لا يخزيكا
إني لأرجو أنْ يكونَ صَداقها . . . من جنّة الفردوس ما يرضيكا
لا تيأسنَّ لها فقد زوَّجتها . . . كفؤا وضمَّنتَ الصَّداقَ مليكا
في موت البنت
وقال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر : الطويل :
لكل أبي بنت يرجّي بقاؤها . . . ثلاثة أصهار إذا ذكر الصهر
فبيتٌ يغطيها ، وبَعْلٌ يَصونُها . . . وقبر يُوَارِيها ، وخيرهما القبرُ
وقال عقيل بن علفَةَ وكان أغير الرب : الرجز :
وإني وإن سِيق إليَّ المهرُ . . . ألفٌ وعُبدانٌ وذَود عشرُ
أحَبُ أصهاري إليَّ القبرُ
ومنه أخذ عبيد اللّه ، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد : دخل علينا ابن خلف البهراني فأنشدنا : البسيط :
لولا أُمَيْمَةُ لم أجْزَعْ من العدمِ . . . ولم أجُبْ في الليالي حِنْدِسَ الظلمِ
وزادني رغبةً في العيش معرفتي . . . أنَ اليتيمة يَحفُوها ذوو الرَّحمِ
أُحاذِرُ الفقر يوماً أن يُلمَّ بها . . . فيهتك الستر عن لَحْمٍ على وَضَمِ
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا . . . والموتُ أكرمُ نزَّال على الحُرَمِ
وكانت أميمة بنت أخته ، وكان قد تبنَّاها ، ثم غابت غيبة ، فسألناه عنها ، فأنشد : البسيط :
أمستْ أميمة مغموراً بها الرَّجَمُ . . . لدى صعيدٍ عليه التُربُ مُرْتكمُ
يا شِقّة النفس ، إن النفسَ والهةٌ . . . حرّى عليك ، ودَمْع العين مُنْسَجمقد كنت أخشى عليها أن يؤخّرها . . . عني الحِمام فيُبْدِي وجهَها العُدُم
فالآن نمت فلا همّ يُؤَرِّقُني . . . تَهْدَا العيونُ إذا ما أوْدَت الحُرَمُ
فالآن نمت ، فلا همٌ يُؤَرقُني . . . بعد الهدوء ، ولا وَجْد ولا حُلُم
للموت عندي أيادٍ لست أنكرها . . . أحيا سروراً وبي ممّا أتى ألم
من أخبار ابن الرومي
عادَ ذكر ابن الرومي - وكانَ أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شابّاً مترفاً ، ومليحاً مستظرَفاً ، وكان يعبث به ، فيأتيه بسَحَر ؛ فيقرع الباب ، فيقال له : مَن ؟ فيقول : قولوا لأبي الحسن مُرَّة بن حنظلة ، فيتطيّر لقوله ، ويقيم الأيام لا يخرجُ من داره ، وذلك كان سبب هجائه إياه ، فمن أول ما عاتبه به : المنسرح : قولوا لِنَحْوِيِّنا أبي حسن . . . إن حسامي متى ضَرَبْتُ مَضى
وإنَّ نبلي إذا هممتُ بأنْ . . . أرْمِيَ نَضَلْتُها بجَمْرِ غَضا
لا تحسبنَّ الهجاء يحفل بال . . . رفع ولا خَفْضَ خافضٍ خَفَضا
ولا تَخَل عودتي كباديتي . . . سَأُسْعِطُ السمّ مَن أسبى الحُضَضا
أعرف في الأشقياء بي رجلاً . . . لا يَنتهي أو يصير لي غَرَضا
يُليح لي صَفْحَةَ السلامة وال . . . سلم ويخفي في قلبه مَرَضا
أضحى مغيظاً عليّ أنْ غضب ال . . . لَّه عليه ، ونِلْتُ منه رضا
وليس تجْدِي عليه موعظتي . . . إن قدَّر اللَه حَيْنَهُ وقضى
كأنني بالشقيِّ معتذرا . . . إنّ القوافي أذَقْنَهُ المَضَضا
ينشدني العهد يوم ذلك والْ . . . عهدُ خضاب إذا له قبضا
لا يأمننَ السفيهُ بَادِرَتي . . . فإنني عارِضٌ لِمَنْ عَرَضا
عندي له السوط إن تلوّم في ال . . . سير وعندي اللّجام إن رَكَضا
أسمعتُ إنْبَاضتي أبا حسن . . . والصفحُ لا شكّ نصحُ من محضَاوهو معافى من السهاد فلا . . . يحمل فيمسي فراشه قَضَضَا
أقسمت باللّه لا غفرت لهُ . . . إنْ واحدٌ من عُروقِه نَبضَا
فاعتذر إليه ، وتشفّع عنده بجماعة من أهل بغداد - وكان الأخفش أكثر الناس إخواناً - فقبل عذره ، ومدحه بقصيدته التي يقول فيها : الخفيف :
ذُكِرَ الأخفش القديمُ فقلْنا : . . . إن للأخفش الحديثِ لفَضْلاَ
وإذا ما حكمت والرومُ قومي في كلام مُعرَّب كنتُ عَدْلا
أنا بين الخصوم فيه غريبٌ . . . لا أرى الزّور للمُحاباة أهْلا
ومتى قلت باطلاً لم ألقب . . . فيلسوفاً ولم أسمَ هِرَقلا
الأخفش القديم هو أبو الخطاب ، وكان أستاذ سيبويه ، وهو من المتقدمين في النحو ، ويُعْرَف بالأخفش الكبير ، وكان في عصر سيبويه أيضاً أبو الحسن سعيد بن مسعدة ، وهو الأخْفش الصغير ، وهو الذي قال : كان سيبويه يَعْرِض ما وَضَع من النحو عليَ ، ويَرى أني أعلَمُ منه ، وكان في وقته ذلك أعلم مني .
ثم عاد علي بن سليمان إلى أذاه ، واتصل به أنَّ رجلاً عرض عليه قصيدة من شعره فطعَن عليها ، فقال قصيدته التي يقولُ فيها : المنسرح :
أعتقتُ عبديَ في القريض معا . . . عبدةَ والفَحْل من بني عَبَدهْ
إن أنا لم أرم بالإساءة مَن . . . زَاغَ عن القَصْد أو أبى سددَهْ
قلت لمن قال لي عرضت على الْ . . . أخفش ما قلته فما حَمِدَهْ
قصرت بالشعر حين تعرضه . . . على مبين العمى إذا انتقدهْ
أنشدته مَنْطِقي ليشهدَه . . . فغاب عنه عمًى وما شَهِدَه
ما بلغتْ بي الخطوب رتبة منْ . . . تَفهَمُ عنه الكلابُ والقِرَدَهْ
ولا أنَا المفهم البهائم وال . . . طير سُليمانُ قاهرُ المَرَدهْ
فإن يقل إنني حفظت فكالد . . . فتر جَهْلاً بكلّ ما اعتْقَدَهْ
سأُسمع الناسَ ذَمَّهُ أبداً . . . ما سَمع اللَهُ حَمْدَ مَنْ حَمده
عَبْدة بن الطيب ، وعلقمة بن عبدة الفحل ، وكانا شاعرين مجيدين ، وقال علقمة ابنَ عبَدة لرجل ورأى آخر يعتذرُ إليه وهو معبس في وجهه : إذا اعتذر إليك المعتذر فتلقه بوجهمُشْرِق ، وبِشْر مطلَق ؛ لينبسط المتذلل ، ويؤمّن المتنصّل .
ولابن الرومي في الأخفش إفحاش صُنْتُ الكتابَ عنه .
قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي : كنت بداري جالساً فإذا حجارة سقطَتْ بالقرب مني ، فبادرتُ هارباً ، وأمرتُ الغلام بالصعود إلى السطْح ، والنظر إلى كل ناحية ؛ من أين تأتينا الحجارة ، فقال : امرأةٌ من دارِ ابن الرومي الشاعر قد تشوّفَتْ وقالت : اتّقوا الله فينا ، واسقونا جَرَة من ماء ، وإلاّ هَلَكْنا ، فقد مات مَنْ عندنا عطشاً . فتقدمتُ إلى امرأة عندنا ذات عَقْل ومعرفة أنْ تصعدَ إليها وتخاطبها ، ففعلَتْ وبادرتْ بالجرة ، وأتْبَعَتْها شيئاً من المأكول ؛ ثم عادت إليّ فقالت : ذكرت المرأةُ أنّ الباب عليها مُقْفَل من ثلاث بسببِ طِيَرة ابن الرومي ، وذلك أنه يَلْبَس ثيابَه كلَّ يوم ، ويتعوَّذُ ثم يصيرُ إلى الباب ، والمِفْتَاحُ معه ، فيضعُ عينَه على ثَقْبِ في خشب الباب ، فتقعُ عينه على جارٍ له كان نازلاً بازائه ، وكان أحْدَب يقُعد كل يوم على بابه ، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه ، وقال : لا يفتح أحدٌ البابَ .
فعجبتُ لحديثها ، وبعثتُ بخادم كان يعرفه ، فأمرْتُه بأن يجلس بازائه - وكانت العينُ تَمِيلُ إليه - وتقدّمت إلى بعض أعواني أن يَدْعُوَ الجار الأحدب ؛ فلّما حضر عندي أرسلتُ وراء غلامي ؛ لينهض إلى ابن الرومي ، ويستَدْعيه الحضور ؛ فإني لجالس ومعي الأحدب إذْ وافى أبو حذيفة الطرَسوسي ومعه بِرْذَعة الموسوس صاحبُ المعتضد ، ودخل ابن الرومي ، فلما تخطى عتبة باب الصَحْن عَثَر فانقطع شِسعُ نَعْله ، فدخل مذعوراً ؛ وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغيرِ حالٍ ؛ فدخل وهو لا يَرَى جارَه المتطير منه ، فقلت له : يا أبا الحسن ، أيكون شيءٌ في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ، ونظرك إلى وجهه الجميل ؟ فقال : وقد لحقني ما رَأيت من العَثْرَة ؛ لأني فكرت أنَّ به عاهة وهي قطع انثيَيْه ، قال بِرذَعَة : وشيخُنا يتطير ؟ قلت : نعم وُيفْرط ، قال : ومن هو ؟ قلت : علي بن العباس ، قال : الشاعر ؟ قلت : نعم ، فأقبل عليه وأنشده : الطويل :
ولما رأيت الدهرَ يُؤذنُ صَرفُه . . . بتَفْرِيق ما بيني وبين الحبائب
رجعتُ إلى نفسي فوطَّنتها على . . . ركوبِ جميلِ الصبْرِ عند النوائبِ
ومَنْ صَحِب الدنيا على جَور حُكْمِها . . . فأيامُه مَحفوفة بالمصائبِ
فخُذْ خُلْسَةً من كل يوم تعيشُه . . . وكُن حَذِراً من كامِنَاتِ العواقبودعْ عنك ذِكْرَ الفأل والزّجْرِ واطرح . . . تطيُّرَ جار أو تَفَاؤُل صَاحِبِ
فبقي ابن الرومي باهتاً ينظرُ إليه ولم أدْرِ أنه شَغَلَ قَلْبَه بحفظ ما أنشده ، ثم قام أبو حذيفْة وبرذعة معه ، فحلف ابنُ الرومي لا يتطير أبداً من هذا ولا مِنْ غيره ، وأومأ إلى جاره ، فقلت : وهذا الفكر أيضاً من التطيّر ، فأمسك ، وعجب من جودة الشعر ومعناه ، وحُسن مَأتاهُ ، فقلت له : ليتنا كتَبْنَاه ؟ قال : اكتبه فقد حفظته ، وأملاه علي .
ومن شدة حذره ، وعظيم تطيّره ، قوله لأبي العباس بن ثوابة ، وقد نَدَبَه إلى الخروج إليه وركوب دجلة : الطويل :
حضضْتَ على حَطْبي لِنَاري فَلاَ تَدَعْ . . . لك الْخَيْرُ ، تَحْذِيري شُرُورَ المَحاطِبِ
ومَنْ يَلْقَ ما لاقَيْتُ في كُلِّ مُجْتنى . . . من الشَوْكِ يَزْهَدْ في الثمار الأطَايبِ
أذاقَتْنِي الأسفَارُ مَا كَرَّهَ الغنَى . . . إليَّ ، وأغْرَاني بِرَفْضِ المَطَالِبِ
وَمِنْ نكْبَةٍ لاَقيتها يعد نكْبَةٍ . . . رَهِبْتُ اعتِسافَ الأرْضِ ذاتِ المناكِب
فَصَبْرِي على الإقْتَار أيْسَرُ مَطْلَباً . . . عليَّ من التّغْرِيرِ بعد التَّجَارِبِ
لقِيتُ من البرّ التبَارِيحَ بعدما . . . لَقيت منَ البَحْرِ ابْيضاضَ الذّوائِبِ
سُقيتُ على ري به ألْفَ مطَرةٍ . . . شُغِفْتُ لبغْضيها بحُبِّ المَجَادِبِ
ولم أبْغها ، بل ساقَها لمكيدَتي . . . تلاعُبُ دَهْرِ جَدَ بي كالمُلاعبِ
أبى أنْ يُغيثَ الأرضَ حتى إذا رمَتَ . . . برَحلْي أتاهَا بالغُيوثِ السواكبِ
سَقى الأرضَ من أجْلي فأَضْحَتْ مَزلَة . . . تمايَلَ صاحِيها تمايُلَ شارب
فملتُ إلى خَان مُرِثٍّ بنِاؤُهُ . . . مَمِيلَ غريقِ الثوبِ لَهْفَانَ لاغِبِ
فما زِلْتُ في جوعٍ وخَوْفٍ وَوَحْشَةٍ . . . وفي سهَرٍ يَسْتَغْرِقُ الليلَ وَاصِبِ
يُؤْرِّقني سَقْف كأنيِّ تحته . . . من الوَكْفِ تحْتَ المُدْجنَاتِ الهَوَاضِبِ يظل إذا ما الطيّنُ أثْقَلَ متنَهُ . . . تصرُّ نَواحيهِ صَرِيرَ الجنادِبِ
وكم خَانِ سَفْرِ خَانَ فانْقضَ فوقهمْ . . . كما انْقَضَّ صَقْرُ الدَّجْن فَوْقَ الأرانبِ
وما زالَ ضاحِي الْبَرّ يَضْرِبُ أهْلَهُ . . . بِسَوْطَيْ عذابِ جامِدٍ بعدُ ذائبٍ
فإنْ فاتهُ قَطْر وثلجٌ فإنه . . . رهِينٌ بسَافٍ تارةً وبحاصبِ
فذاكَ بلاءُ البَر عِنديَ شاتياً . . . وكم لِيَ من صَيْفٍ به ذي مَثَالِبِألا ربّ نارٍ بالفَضاء اصْطَليْتُها . . . من الضحَ يُودي لَفْحُها بالحواجِبِ
فَدَعْ عنكَ ذِكْرَ البَرَ إني رأيْتُهُ . . . لِمَنْ خاف هَوْلَ البحرِ شرَ المهارِب
وما زالَ يَبْغِيني الْحُتُوفَ مُوَارِباً . . . يَحُومُ على قَتْلِي وغيرَ مُوَارِبِ
فطَوْراً يُغادِيني بِلص مُصلَّتٍ . . . وطوراً يُمَسِّيني بِوِرْدِ الشَّوارِب
وَأَمَّا بَلاءُ البحرِ عندي فإنهَ . . . طَواني على رَوْعٍ مع الرّوحِ واقِبِ
ولو ثابَ عقلي لم أدَعْ ذِكْرَ بعضِهِ . . . ولكنّه من هَوْله غيرُ ثائِبِ
ولمْ لا ولو أُلقيتُ فيه وصخْرَةً . . . لَوَافَيْتُ منه القَعْرَ أوَلَ راسبِ
ولم أتعلّمْ قَطُ من ذي سِباحَةٍ . . . سِوَى الغوصِ والمضعُوفُ غير مُغالِبِ
وأيْسَرُ إشْفاقي من الماء أنني . . . أمُرُّ به في الكوزِ مَرَ المُجانِبِ
وأخْشَى الرّدَى منهُ على كل شارِبٍ . . . فكيف بأمْنِيهِ على نَفْسِ راكب ؟
أخذه من قول أبي نُواس وقد رأى التمساح بمصرَ أخذَ رجلاً : البسيط :
أضْمَرْتُ للنيل هِجراناً ومَقْلِيَةً . . . مُذْ قيلَ لي إنما التمساحُ في النيلِ
فمن رأى النيل رأي العينِ عن كَثَبٍ . . . فما أرى النيل إلاَّ في البراقيل
رجع
الطويل :
أظل إذا هَزَته ريحٌ وَلألأَتْ . . . لهُ الشمسُ أمْواجاً طوالَ الغَوارِب
كأني أرَى فيهنَّ فُرْسانَ بُهْمَةٍ . . . يُلِيحُونَ نحوي بالسيوفِ القَواضِبِ
فإنْ قلتَ لي قد يُرْكَبُ اليَمُ طامِياً . . . ودِجْلَةُ عند اليَمِّ بعضُ المَذَانِبِ
فلا عُذْرَ فيها لامْرِئً هَابَ مِثْلَها . . . وفي اللجةِ الخضْرَاء عُذْرٌ لِهَائِبِ
لدِجْلَةَ خِب لَيْسَ للَيمِّ ؛ إنهَا . . . تَرَاىء بِحلْيم تَحْتَهُ جَهْلُ وَاثِبِ
تَطَامَنُ حَتّى تَطْمَئِن قلوبُنا . . . وتَغضَبُ من مَزْحِ الرَياحِ اللَوَاعِبِوللْيَمِّ إنْذَارٌ بغَوْصِ مُتُونِه . . . وما فيه من آذيه المتراكِبِ
وهي طويلة ، وفيما مرّ كفاية تنبئ عنه وتدل عليه ، ولو مددت أطناب الاختيار لتَتبع هذا النحو من شعره لخرجتُ عن غَرَضِ الكتاب .
في العيافة والزجر
ومن مليح العيافة والزجر ما رواه الصُولي ، قال : كان لأبي نواس إخْوانٌ لا يفارِقُهم ، فاجتمعوا يوماً في موضع أخْفَوْه عنه ، ووجَّهوا إليه برسولٍ معه ظهرُ قرطاس أبيض ، لم يكتبوا فيه شيئاً ، فخزَمُوه بزير ، وختموه بقار ، وتقدموا إلى رسولهم ليرميَ كتاب من وراء الباب ؛ فلما رآه استعلم خبَرَهُم ، وعلم أنه مِنْ فِعْلِهِم ، فتعرَفَ موضِعَهم وآثَارَهم ، فأتاهم فأنشدهم : الوافر :
وجدتُ كتابَكمْ لمّا أتاني . . . يمرُ بسانح الطيرِ الجوَارِي
نظرتُ إليه مخزوماً بزيرٍ . . . على ظَهْرٍ ، ومختوماً بِقَارِ
فقلت : الزير مُلْهية وَلَهْو . . . وخِلْتُ القارَ من دَنَ العُقار
وخِلْت الظهْرَ أهْيَفَ قُرْطَقيًّاً . . . يحيل العقلَ منه باحْوِرَار
فهمْتُ إليكم طَرَباً وشَوْقاً . . . فما أخطأت دَارَكم بدار
فكيف ترونني وترون وَجْدِي . . . ألَسْتُ من الفلاسفة الكبَار ؟
وقال الطائي : الكامل : أتضعضعتْ عبراتُ عَيْنك أنْ دَعَتْ . . . ورْقَاءُ حين تضعضعَ الإظْلاَمُ ؟
لا تنشجنٌ لها ؛ فإن بكاءها . . . ضَحِك ، وإن بكاءَك استغرام
هنَ الْحَمامُ وإنْ كَسَرْتَ عِيَافةَ . . . مِنْ حَائهنَ فإنهنَّ حِمَامُ
وروى يموت ابن المزرع قال : كان أحمدُ بن المدبر إذا مدحه شاعرٌ فلم يَرْضَ شِعْرَه لغلامه : امْض به إلى المَسْجِد الجامع فلا تفارِقْه حتى يُصلي مائةَ ركعة ، ثم خَلَهِ ؛فتحاماه الشعراءُ ، إلاّ الأفرادَ المجيدين ؛ فجاءه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل ، فاستأذنه في النشيد ، فقال : قد عرفت الشَرْط ؟ قال : نعم ، وأنشده : الوافر :
أرَدْنا في أبي حسَن مديحاً . . . كما بالمَدْحِ يُنتجَعُ الوُلاةُ
فقلنا : أكَرمُ الثقَلَيْنِ طُرّاً . . . ومَنْ كفاه دجلةُ والفراتُ
فقالوا : يقبل المدحات لكِن . . . جوائزهُ عليهن الصَّلاةُ
فقلت لهم : وما تُغْني صَلاَتي . . . عيالي إنما الشأْنُ الزَكَاةُ
فأما إذْ أبى إلاّ صَلاَتي . . . وعاقتني الهموم الشاغلاتُ
فيأمر لي بكَسْرِ الصادِ منها . . . فتصبح لي الصَلاةُ هي الصلاتُ
فضحك واستظرفه ، وقال : من أين أخذت هذا ؟ قال : من قول أبي تمام الطائي : الكامل :
هُنَ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيَافةً . . . مِنْ حَائِهِن فإنهنَّ حِمَامُ
فأحسن صلته .
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي لقوم من أهل مَرو انخلعوا عن طاعته : الكامل :
يا راكباً أضْحَى يَخُب بِعَنْسهِ . . . ليؤم مَروَ على الطريق المَهيَع
أبلِغْ بها قَوْماً أثارُوا فِتْنَةً . . . ظلت لها الأكبَادُ رَهْنَ تَقطعِ
إذ أقدموا ظُلْماً على سُلْطانهم . . . بالغَدرِ والخَلعِ الذميم المفظِع
وبحل عقْدِ لوائِهِ وإباحة . . . لجنَابه وحَرِيمِه المتمنع
أبلغهمُ أني اتخذت لفعلهم . . . فَأْلاً ، له في القوم أسوَأ مَوقِع
أما اللّوَاءُ وحلّه فمخبر . . . عن حَل عقدٍ بينهم مُستَجمِع
والخلعُ يخبر أن ستُخلَعُ عنهم ال . . . أرواحُ بالقَتل الأشد الأشْنَعِ
والغدر يُنبئ أن تُغَادَرَ في الوَغى . . . أشلاؤهم لنُسورِه والأضْبُعوالفرقتان فشاهدٌ معناهما . . . بتفرُقٍ لجميعهم وتَصَدُّعِ
فتسمَّعوا لمقالتي وتَأَهَبُوا . . . بذميم بَغيكُم لشرِّ المَصْرَعِ
فاللَهُ ليس بغافل عن أمرِكم . . . حتى تحلَّ بكم عقوبةُ مُوجِع
قال أبو عثمان الجاحظ : سمعت النظام ، وذكر عبد الوهاب الثَّقفي ، قال : هو أحْلى من أمْنٍ بعد خوف ، وبُرءً بعد سَقَم ، ومن خِصْب بعد جَدْب ، وغنًى بعد فَقْر ، ومن طاعة المحبوب ، وفرج المكروب ، ومن الوصال الدائم ، والشبابِ الناعِم .
من أخبار الجاحظ
وكان الجاحظ مائلاً عن ابن أبي دُواد إلى محمد بن عبد الملك الزيات ، فلّما نكِب محمد بن عبد الملك أُدْخِل الجاحظُ على ابنِ أبي دُواد مقيّداً ، فقال له أحمد : واللّه ما عْلَمُك إلاّ مُتناسِياً للنعمة ، كفوراً للصنَّيعة ، معدداً للمساوي ، وما فتني باسْتِصلاحي لك ، ولكنّ الأيام لا تُصْلِحُ منك ؛ لفسادِ طوّيتك ، ورداءة دَخِيلتك ، وسوء اختيارك ، وتَغَالُب طباعك .
فقال الجاحظ : خفّض عليك ، أصلحك اللّه ، فوالله لأنْ يكونَ لك الأمر عليّ خير من أن يكونَ لي عليك ، ولأنْ أُسِيء وتحسن أحسنُ في الأحْدُوثة من أن أحسنَ فتسيء ، ولأن تعفوَ عني على حالِ قدرتِك عليّ أجْمَلُ بك من الانتقام مني ، فعفَا عنه .
من أخبار عتبة بن أْبي سفْيان
قال سعد مولى عُتْبة بن أبي سفيان : خطب عُتْبة الناسَ في الموسم سنة إحدى وأربعين ، والناسُ إذ ذاك حديثو عَهْدٍ بالفتنة ؛ فقال : قد وَلينا هذا المقام الذي يُضاعَفُ فيه للمحسن الأجْرُ ، وللمُسِيء الوِزْر ؛ ونحن على سبيل قَصْد ، فلا تمدُّوا الأعناقَ إلى غيرنا ؛ فإنها تُقْطَع دوننا ؛ فربَّ مُتَمَن أمراً حَتْفُه في أمنيته ؛ فاقبلوا منّا العافية ما قبلْنَاها منكم ؛ وأنا أسأل الله أن يُعين كلا على كل .
فناداه أعرابي من ناحية المسجد : أيها الخليفة ، فقال : لسْتُ به ولم تُبْعِد ، قال : يا أخاه ، قال : سمعتُ فقلْ ، فقال : والله لأنْ تحسنوا وقد أسأْنا خيرٌ من أن تسيئوا وقد أحسنّا ، فإن كان الإحسان منكم فما أوْلاكم بإتمامه ، وإن كان منا فما أوْلاكم بمكافأتناعليه ، وأنا رجلٌ من بني عامر بن صعصعة يمتُّ بالعمومة ويختصُ بالخؤولة ، كَثُرَ عِيَاله ، ووَطِئه زمانُه ، وبه فقر وفيه أجر ، وعنده شُكْر .
فقال له عتبة : أستغفر اللّه منك ، وأستعين به عليك ، وقد أمَرْتُ لك بغناك ، فليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك
عود إلى الجاحظ
قال الجاحظ : تشاغلت مع الحسن بن وَهْب أخي سليمان بن وهب بشُرْبِ النبيذ أياماً ، فطلبني محمدُ بن عبد الملك لمؤانسته ، فأُخْبِر باتصالِ شغْلي مع الحسن ابن وهب ، فتنكَر لي ، وتلوَّن عليّ ؛ فكتبتُ إليه رقعة نسختها : أعاذك اللهّ من سُوء الغَضَب ، وعَصَمَك مِن سَرَفِ الهوى ، وصَرَف ما أعارَك من القوة إلى حث الإنصاف ، ورجح في قلبك إيثار الأناة ، فقد خِفْتُ - أيَّدك اللّه - أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزقِ السفهاء ، ومُجانبة سُبُلِ الحكماء ، وبعدُ ، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت : الطويل :
وإن أمرأً أمسى وأصبح سالماً . . . من الناس إلاَ ما جَنَى لَسَعيدُ
وقال الآخر : السريع :
ومن دعا الناس إلى ذَمَهِ . . . ذموهُ بالحقِّ وبالْباطِل
فإن كنتُ اجترأتُ عليك - أصلحك الله - فلم أجترئْ إلاّ لأنّ دوامَ تغافلك عني شبيه بالإهمال ، الذي يُورِثُ الإغفال ، والعفو المتتابع يؤمنُ مِنَ المكافأة ، ولذلك قال عُيَيْنة بن حِصْن بن حذيفة لعثمان رحمه الله : عمر كان خيراً لي منك ، أرْهَبني فأتْقاني ، وأعطاني فأغناني ، فإن كنت لا تَهَبُ عقابي - أيدّك الله - لخدْمَة فهبْه لأياديك عندي ؛ فإن النعمةَ تشفع في النقمة ، وإلاَّ تفعلْ ذلك لذلك فعُدْ إلى حُسْن العادة ، وإلاّ فافْعَلْ ذلك لحُسْن الأحدوثة ؛ وإلاّ فأتِ ما أنْتَ أهلُه من العفو دون ما أنا أهلُه من استحقاق العقوبة ، فسبحانَ مَن جعلك تَعْفُو عن المتعمِّد ، وتتجافى عن عقاب المُصر ، حتى إذا صرت إلى مَنْ هَفْوَته ذِكْر ، وذَنْبه نسيان ، ومن لا يعرف الشكرَ إلاِّ لك ، والإنعامَ إلاّ منك هجمتَ عليه بالعقوبة . وأعلمْ - أيدك الله - أنَّ شَيْنَ غَضبك علي كَزَيْنِ صَفْحِك عني ، وأنٌ موت ذِكْري مع انقطاع سببي منك كحياةِ ذكرك مع اتصال سببي بك ، واعلمْ أنّ لكَ فطنة عليم ، وغفلة كريم ، والسلام .من حكم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام
قال عليّ بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه : أعْجَبُ ما في الإنسان قَلْبُه ، وله مواد من الحكمة ، وأضْدَاد من خِلاَفها ؛ فإنْ سَنَح له الرجاءُ أذَلَه الطمع ، وإن هاجه الطمَعُ أهلكه الحِرص ، وإنْ مَلَكه اليَأْسُ قتَله الأسَف ، وإن عرض له الغضب اشتدَ به الغَيْظ ، وإنْ أُسعد بالرضا نِسِي التحفظ ، وإن أتاه الخوفُ شغلَه الحذَر ، وإن اتسَع له الأمن استلبته العِزة ، وإن أصابته مصيبة فَضَحه الجَزَع ، وإن استفاد مالاً أطْغاه الغِنَى ، وإن عضتْه فاقة بلغ به البلاء ، وإن جَهد به الجوعُ قعد به الضعْف ، وإن أفرط في الشبع كَظته البِطْنَة ، فكل تقصيرٍ مضِرّ ، وكلّ إفراطٍ له قَاتِل .
البيت الذي أنشده الجاحظ لعبد الرحمن بن حسان في أبيات يقول فيها : الطويل :
متى ما يَرَى الناس الغني وجاره . . . فقيرٌ يقولوا : عاجز وجَلِيدُ
وليس الغِنَى والفَقرُ من حيلة الفتى . . . ولكِن أحاظ قسمَتْ وجُدُودُ
وإن امرأ يمسي ويُصبحُ سالماً . . . من الناسِ إلا ما جَنَى لَسَعيدُ
والبيت الذي أنشده بعده لمحمد بن حازم الباهلي في أبياتٍ يقول فيها : السريع : إنْ كنتَ لا تَرْهَبُ ذَمَي لما . . . تعلم مِنْ صَفْحِي عن الجاهل
فاخْشَ سكوتي آذِناً مُنْصِتا . . . فيك لمسموع خَنَى الْقَائل
فسامعُ الشر شَرِيك له . . . وَمُطْعِم المأكُول كالآكل
مقالة السوء إلى أهلها . . . أسْرَعُ مِن مُنْحَدَرٍ سائل
ومَنْ دعا الناسَ إلى ذَمه . . . ذَمُوه بالحق وبالباطلِ
فلا تهِجْ ، إن كُنْتَ ذا إرْبَةٍ . . . حَربَ أخِي التجربةِ الغَافِل
فإن ذا العقل إذا هِجتَهُ . . . هِجتَ به ذا خبَل خابِل
تُبْصِرُ في عاجلِ شًدَّاتِه . . . عليك غِب الضَرَرِ الآجل
وفي ابن الزيات يقول الجاحظ : المتقارب :
بَدَا حين أثْرى لإخوانه . . . ففللَ منهم شَباةَ العَدَمْ
وأبصر كيف انتقالُ الزمانِ . . . فبادرَ بالعرفِ قبل الندَمْالجاحظ ورجل من البرامكة في مرضه
قال بعضُ البرامكة : كنتُ أتقلّد السندَ ، فاتصل بي أني صُرِفْتُ عنها ، وكنت كسبتُ ثلاثين ألف دينار ، فَخُفْت أن يَفْجأَني الصارف ، ويُسْعَى إليه بالمال ، فصُغْتُه عشرة آلاف إهْليلَجَة في كل إهليلَجَة ثلاثةُ مثاقيل ، وجعلتها في رَحْلي ، ولم أبعد أن جاء الصارف ؛ فركبْتُ البحرَ ، وانْحَدَرْتُ إلى البصرةِ ؛ فخبِّرْتُ أنّ بها الجاحظ ، وأنه عليل ؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته ، فصِرْتُ إليه ، فأفضيتُ إلى بابِ دار لطيف ، فَقَرَعْتُه ، فخرجَتْ إليَ خادمٌ صفراء ، فقالت : مَنْ أنت ؟ فقلت : رجل غريب أحَب أن يدخل إلى الشيخ فيُسَرّ بالنظر إليه ، فأَدت ما قلت ، وكانت المسافة قريبة لصغر الدهليز والحجرة ، فسمعته يقول : قولي له : وما تصنع بشق مائل ، ولعاب سائل ، ولون حائل ؟ فأخيرتني ، فقلت : لا بدَّ من الوصال إليه ، فقال : هذا رجل قد اجتاز بالبَصْرَة ، فسمع بي وبعِلّتي ، فقال : أراه قبل موته ؛ لأقول : قد رأيت الجاحظ .
فدخلت فسلمت فردَ ردًّا جميلاً واستَدْناني ، وقال : مَنْ تكون ؟ أعزك اللّه فانتَسَبتُ له ، فقال : رحم اللّه أباك وقومك الأسخياء الأجواد ، الكرام الأمجاد ، لقد كانت أيامُهم رَوْضَ الأزمنة ، ولقد انجبر بهم خلق ، فسقياً لهم ورعياً ؛ فدعوت له ، وقلت : أنا أسألُ الشيخ أن يُنْشِدَني شيئاً من الشعر أذكره به ، فأنشدني : الطويل :
لئن قُدّمَتْ قبلي رِجال فطالما . . . مَشَيْتُ على رِسْلي فكنت المقدَما
ولكنَ هذا الدهرَ تأتي صروفُه . . . فتُبْرِمُ منقوضاً ، وتنقضُ مُبْرما
ثم نهضتُ ، فلمّا قاربتُ الدهليز صاحَ بي فقال : يا فتى ، أرأيتَ مفلوجاً ينَفْعَه الإهليلج ؟ فقلت : لا ، قال : فأنا ينفعني الإهليلج الذي معك ، فأنْفذْ إليَّ منه ، فقلت : السمع والطاعة ، وخرجت مُفْرط التعجب من وقوعه على خَبَري ، حتى كأن بعضَ أحبابي كاتبَه بخبَرِي حين صُغْتُه ، فأنْفَذْتُ إليه مائة إهليلجة .
المقامة الجاحظية
مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ
قال : حدثنا عيسى بن هشام قال : جمعتني مع رِفْقَة وَليمةٌ ، وأجبْتُ إليها للحديثالمأثور فيها عن رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو دُعيت إلى كُرَاع لأجبْتُ ، ولو أُهْدِيَ إليَّ ذراع لقبلت ' ، فأفْضَى بنا المسيرُ إلى دار قد فُرش بساطُها ، وبُسِطت أنماطها ، ومُدَ سِماطُها ، وقوم قد أخذوا الوقت بين آسٍ مخضود ، ووَرْدٍ منضود ، ودَن مَفْصود ، ونَايَ وعود ؛ محصِرْنا إليهم وصاروا إلينا ، ثم عكفنا على خِوَان قد مُلِئَتْ حياضُه ، ونوَّرَت رِياضُه ، واصطفّت جِفَانُه ، واختلفت ألوانُه ؛ فمن حالِك بازائه نَاصع ، ومن قانٍ في تلقائه فاقعٌ ، معنا على الطعام رَجلٌ تُسَافرُ يَدُه على الخِوَان ، وتَسْفرُ بين الألوان ، وتأخذُ وجوهَ الرُغفان ، وتَفْقَأ عيونَ الجِفَان ، وتَرْعَى أَرْضَ الجيران ؛ يَزْحَم اللقْمَة باللقمة ، ويهزِمُ المَضْغَة بالمضغة ، وهو مع ذلك ساكتٌ لا يَنْبِس ، ونحن في الحديث نجري معه حتى وقف بنا على ذِكْرِ الجاحظ وخَطَابته ، ووَصف ابن المقفَّع وذَرابته ، ووافق أول الحديث آخِرَ الخِوَان ، وزُلنا عن ذَلِك المكان ، فقال الرجلُ : أين أنتم من الحديثِ الذي فيه كنتم ، فأخذنا في وصف الجاحظ ولَسَنِه ، وحُسْنِ سَنَنه في الفصاحة وسُنَنه فيما عرفناه ؛ فقال : يا قومُ ، لكلِّ عمل رجال ، ولكل مقام مَقالٌ ، ولكل دارٍ سُكَّان ، ولكل زمان جاحظ ، ولو انتقدتم ، لبطَلَ ما اعتقدتُمْ ، فكل كشرَ له عن ناب الإنكار ، وشمَ بأنْفِ الإكبار ، وضَحِكْتُ إليه ، لأجلبَ ما لدَيْه ، وقلت : أفِدْنا وزِدْنا ، فقال : إنَّ الجاحظَ في أحدِ شقي البلاغة يقطِف ، وفي الآخر يَقِف ، والبليغُ من لم يُقَصِّر نظمُه عن نثره ، ولم يُزْرِ كلامُه بشعرِه ، فهل تروُونَ للجاحظ شعراً رائعاً ؟ قلنا : لا ، قال : فهلمّوا إلى كلامه ؛ فهو بعيدُ الإشارات ، قريبُ العبارات ، قليل الاستعارات ، منقادٌ لعريان الكلام يستَعْمله ، نَفورٌ من مُعْتاصِهِ يهمله ، فهل سمعتم له بكلمةٍ غير مسموعة ، أو لفظة غير مصنوعة ؟ فقلت : لا ، فقال : هل تحبّ أن تَسْمَع من الكلام ما يخفِّف عن مَنْكَبَيْك ، وَينمُّ على ما في يَدَيك ؟ فقلت : إي والله ، قال : فأطلق لي عن خِنْصَرِك ما يعين على شكرك ، فأنلته ردائي ، فقال : الطويل :
لعَمْر الذي ألْقَى إليَ ثيابهُ . . . لقد كسبتْ تلك الثيابُ به مَجدا
وقد قَمَرَتهُ راحة الجود بِزّةً . . . فما ضربَتْ قِدْحاً ولا نصبتْ نَرْدَا
أعِدْ نظراً يا مَنْ كَسَاني ثِيابَهُ . . . ولا تَدَعِ الأيامَ تَهْدِمُني هَداً
وقل للأُلى إنْ أسْفَرُوا أَسْفَرُوا ضُحًى . . . وإن طلعوا في غُمة طلعوا ورْدَا
صِلُوا رَحِمَ العَلْيَا وبُلوا لهَاتَها . . . فَخَيْرُ الندَى ما سَحَ وابلُه نَقْدَاقال عيسى بن هشام : فارتاحت الجماعة إليه ، وانثالت الصِّلاتُ عليه ، وقلت لما تآنسنا : من أين مطلع هذا البدر ؟ فقال : المجتث :
إسكندريةُ دَارِي . . . لو قرَّ فيها قَرارِي
لَكِن ليلي بنَجْدٍ . . . وبالحجازِ نَهَارِي
ما قالته الملوك
تظلمت رعية أردشير بن بابك إليه في سنة مُجْدبة لعَجْزهم عن الخراجِ ، وسألته أن يخففه عنهم ؛ فكتب لهم ما نسخته : من أردشير المزيد بالبهاء ، ابن الملوك العظماء ، إلى الفقهاء الذين هم حَفَظةُ البيضة ، والكُتاب الذين هم سَاسة المملكة ، وذوي الحرث الذين هم عمرَة البلاد ، أما بَعْدُ ، فإنا نحمدُ الله تعالى حَمْدَ الصالحين ، وقد وضعنا عن رعيّتنا بفَضْل رأفتنا إتاوَتنا الموظَّفة عليهم سنتنا هذه ، ونحن كاتبون مع ذلك نُمليهم بوصية تنفعُ الكل : لا تستشعروا الحِقْدَ لئلاَ يَغْلِبَ عليكم العدوّ ، ولا تحتوا الاحتكار لئلاّ يشملكم القَحْط ، وكونوا للغرباء مُؤْوِين ، لتؤووا غداً في المعاد ، وتزوَجُوا في القرابة فإنه أحْسَنُ للرحم ، وأثبتُ للنَسَبِ ، ولا تعدُوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تُبْقي على أحد ، ولا تَرْفُضُوها مع ذلك ؛ فإن الآخرة لا تُنَالُ إلاَ بها .
وقيل لبزر جمهر : أيُّ الاكتساب أفضل ؟ قال : العلمُ والأدب كنْزَانِ لا يَنْفَدان ، وسِرَاجان لا يُطْفآن ، وحُفَتان لا تَبْلَيان ؛ مَنْ نالهما نَالَ أسبَاب الرشاد وعَرَفَ طريق المَعَاد ، وعاش رفيعاً بين العِبَاد . وقال أنوشروان لبزر جمهر لمّا ظفر به : الحمد لله الذي أظْفَرني بك ، قال له : فكافِئْه بما يحبُّ كما أعطاك ما تحب . قال : وبم أُكافِئه يا فاسق ؟ قال : بالعفو عمَنْ أظفرك به اليوم كما تحبّ أَنْ يعفوَ عنك غداً .
ونظيرُ هذا الكلام قد تقدم لعلي ، رضي الله عنه .
وقيل لكسرى ؛ أيُ الملوك أفضل ؟ قال : الذي إذا جاوَرْته وجَدْتَه عليماً ، وإذا خبرته وجدتَه حكيماً ، وإذا أغضب كان حليماً ، وإذا ظفر كان كريماً ، وإذا استمنح منح جسيماً ، وإذا وعدَ وفى ، وإن كان الوعد عظيماً ، وإذا شُكِي إليه وُجد رحيماً .
من إنشاء الميكالي
كتب الأمير أبو الفضل الميكالي إلى أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيلالثعالبي ؛ كتابي وأنا أشكو إليك شَوْقاً لو عالجه الأعرابي لما صَبَا إلى رَمْل عالج ، أو كابَده الخَليُ لانثنَى على كَبِدٍ ذاتِ حُرَقِ ولَوَاعِج ؛ وأذمُ زماناً يفرَقُ فلا يحسن جمعاً ، ويخْرق فلا ينوي رَقْعاً ، ويُوجِعُ القلب بتفريق شَمْلِ ذوي الْوِداد ، ثم يبخلُ عليهم بما يَشْفِي الصدور والأكْبَاد ؛ قاسِي القلبِ فلا يلينُ لاستعطاف ، جائر الحُكْمِ فلا يميلُ إلى إنصاف ، وكم أسْتَعْدِي على صَرْفِه وأستَنْجِد ، وأتلَظَّى غيظاً عليه وأُنشد : الطويل :
متى وعسى يَثْني الزمانُ عِنَانَه . . . بعَثْرَة حالٍ والزَمانُ عثُورُ
فتُدْرَك آمال وتُقْضَى مآرِبٌ . . . وتحدُث من بعد الأُمور أُمور
وكَلاً ، فما على الدهر عَتْب ، ولا له على أهْلِه ذَنْب ؛ وإنما هي أقدار تَجْري كما شاء مُجْرِيها ، وتَنْفُذ كالسهام إلى مَرَاميها ؛ فهي تدورُ بالمكروه والمحبوب ، على الحُكم المقدور والمكتوب ، لا على شهوات النفوس وإرادات القلوب ؛ وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب البعيد النازح ، وتسهيل الصَّعب الجامح ، فيعود الأُنسُ بلقائِك الإخوان كأتمّ ما لم يزل معهوداً ، ويجدّد للمذاكرة والمؤانسة رسوماً وعهوداً ، إنه الملبي به ، والقادِرُ عليه .
وله إلى أبيه : ولو مَلَكْتُ عِنان اختياري ، وأسعفني ببعض ما أقترحه القَدَرُ الجاري ، لما غِبْتُ عن حضرته - انسها الله - ساعةً من دهري ، كما لا أعد ساعاتِ بُعْدِي عنها وإخلائي لبابها من أيام عمري ؛ ولقنت أبداً ماثِلاً بها في زمرة الخدم والعبيد ، جامعاً بها بين حاشيتي العزّ المديد ، والشرف العتيد ؛ لا سيما في هذا الوقت وقد أشرقت البلاد بنور طلعته التي هي في ظلمة الدَهر صباح ، وعزّ مطالعته التي فيها لصدور ذوي الشَّنإ شجاً ولزَنْدِ الآمال اقتداح ، ومعاودة ظلَهِ التي أضْحَتِ الشمسُ من حساده ، والزمان من عدد ساكنيه وعتاده ، إلاَ أن الحريص - كما علمه مولانا - مُخلى عن أعذب موارده ، وممنوع بالعوائق عن أكرم مطالعه ومقاصده .
وله يستفتح مكاتبة بعض إخوانه : أنا وإن لم تتقدّم بيني وبينه المكاتبة ، وعادة المساجلة والمفاوضة ، من فرط حِرْصي على افتتاحها وتعاطيها ، واعتراض العوائق دون المرادِ والغرض فيها ، فإن قلبي بودِّه مَغْمُور ، وضميري على مُصَافاته مقصور ، فاعتداده لفضائله التي أصبح فيها أوْحَدِي العِنَان ، وزاحم فيها مَنكِب العَنَان ، واستأثر فيها بالغُرَر والأوضاح ، ما أوْفى بها على غُرَةَ الصباح ، حتى تشاهدَتْ بها ضمائرُ القلوب ، وتهادَتْ أنباءَها ألسِنَة البعيد والقريب ، اعتدادَمن يَجْمَعُ بالاعتداد لها بين شهادةِ قلبه ولسانه ، ومَنْ ينظم في إجلالِ قَدْرِها صفقة إسرارِه وإعلانه ، فهو يتنسمُ الريح إذا هبَّتْ من ناحيته شوقاً ونزاعاً ، ويَسْتَمْلي الوارد والصادِرَ خبرَ سلامته انصياعاً بالود إليه وانقطاعاً . شذور من كلامه في أثناء رسائل شتى : أياديه التي غمرتني سِجَالُها ، واتسَع عندي مَجالها ، وأعيَا شكري عَفْوها وانثِيالها ، تناولت فيها المُنَى دانيةَ القطوف ، واجتليت أنوار العيش مأمونة الكسوف ، ليس يكادُ يبرد غليلُ شوقي وحنيني ، أو ترجع نافرة أنسي وسكوني ، أو تَخْلو من الاهتمام والفكرة فيه خواطري وظنوني ، إلاّ بالتقاءً يدنو أمدُه ، ويَقْرُب مَوْعِدُه ، وتعلو على الفراق يَدُه ، فنعاوِد العيشَ طَلْقاً غزيراً ، ونجتني ثمرَ المُنَى غَضًّاً نضيراً ، ونَجْتَلي وجهَ الزمان مُشْرِقاً منيراً . فوائده لها عندي أثرُ الغَمام أو أنفع ، ومحلُّ السِّمَاكِ أو أرفع . حالي في مفارقة حَضْرَته حالُ بنات الماء قد نَضَب عنها الغَدير ، ونبات الأرض أخطأها النَوْءُ المِطيرُ . لهفي على دهر الحداثة إذ غُصْنُ شبابي غض وَرِيق ، ونَقْلُ شرابي عضٌ ورِيق . كلامٌ أحلى من ريق النّحل ، وأصْفى من رَيق الوبل . من تسود قبل وقته وآلته ، فقد تعرَّض لِمَقْتِه وإذالته . نظمُه له : مجزوء الرمل :
إن مَنْ يلتمس الصد . . . رَ بلا وَقْتِ وآلَهْ
لحقيق أنْ يُلَقى . . . كل مَقْتٍ وإذَالهْ
الشكلُ للكِتاب ، كالحلي للكِعاب . لو كان الشبابُ فِضة لكان الشيبُ له خبثاً . النعمة عروسٌ مهرُها الشكر ، وثوبٌ صَوْنُه النشر . الخضاب تذكرة الشباب . لا تقاسُ المَهاوي بالمَرَاقي ، ولا الأقدام بالتَراقي ، ولا البحورُ بالسواقي . كم أبلاني من عُرْفٍ جزيل لا يُبلِي الدهرُ جدةَ رِدائه ، وقضاني من دَيْن تأميل لا يَقْضي الشكرُ حقَ نعمائه . الشكر للنعمة نتاج ، والكُفْران لها رِتاج ، وكلما زدت النعمة شكراً ، زادت طيباً ونَشْراً .
قطعة من شعره في تجنيس القوافي
قال في أبيه : الخفيف :
مبدعاً في شمائل المجدِ خِيماً . . . ما اهتدَيْنَا لأخْذِهِ واقتباسِهْ
فهو فظ بالمال وقت نداه . . . وجواد بالعفو في وقت باسهوقال فيه : الوافر :
إذا ما جادَ بالأموال ثنى . . . ولم تدركه في الجود الندامه
وإن هَجَست خواطِرُه بجمع . . . لريب حوادث قال الندى مه
وقال فيه : المتقارب :
ولما تنازع صَرْفُ الزمان . . . فزِعْنا إلى سيدٍ نابِه
إذا كشَّرَ الدهرُ عنْ نابِهِ . . . كشفْنَا الحوادثَ عَنَّابِه
وقيل فيه : السريع :
إنْ نابنا خَطْبٌ فآراؤه . . . تغني عن الجيش وتَسريبه
وإن دَجَا ليلٌ بَدَا نورهُ . . . للرَّكْبِ نَجْماً فهو يسري بهِ
وقال يفتخر : المتقارب :
وكم حاسد لي انْبَرى فانْثَنَى . . . لِعَضَّة نَفْس شجاها شَجَاها
ومن أينَ يَسْمُو لنَيْلِ العُلاَ . . . وما بَثَّ مالاً ولا رَاشَ جَاها
ومنها قوله : الوافر :
وسائلةٍ تُسَائِلُ عن فعالي . . . وعمّا حازَ في الدنيا جَمَالي
فقلت : إلى المعالي حَن قلبي . . . وفي سُبُل المكارم لجَّ مَالي
وللعلياء نَهْجٌ مستقيمٌ . . . فما لي تاركاً ذَا النَّهْجَ مَا لي
إذا أسرجْتُ في فخرٍ سَما بي . . . فَعالي والنِّجَارُ فألْجَما لي
وقال في نوع من هذا الجنس : الطويل :
ومَنْ يَسْرِ فوقَ الأرض يطلبُ غايةً . . . من المجد يسري فوق جُمْجُمَةِ النَسْرِ
ومن يختلفْ في العالمين نِجارهُ . . . فإنّا من العلياء نَجْرِي على نَجْرِ
ومن يتجِرْ في المال يَكْسِب رُبْحَهُ . . . فبالمال نَشْري رابحَ الحمْدِ والنَّشْر
وعلى نحو هذا الحذو يقول أبو الفتح البستي : الوافر :
أبا العباس ، لا تحسب بأني . . . لشيء من حُلَى الأشْعَار عارولي طَبْع كسَلْسَالِ المجاري . . . زُلاَلٌ من ذُرَا الأحجارِ جَاري
إذا ما أكْبَتِ الأدوار زَنْداً . . . فلي زَنْدٌ على الأدْوَارِ وَارِي
وقال أبو الفتح البستي أيضاً : الوافر :
بسَيْفِ الدولة اتَّسَقَتْ أُمُورٌ . . . رأيناها مُبَدَدةَ النِّظَامِ
سَمَا وحمى بني سامٍ وحام . . . فليس كمثلِه سام وحامِ
ما قيل في الحاجب
قال بعضُ الملوكِ لحاجبه : إنك عيني التي أنْظُرُ بها ، وجُنتي التي أستنيم إليها ؛ وقد وليَّتك بأبي ، فما تراكَ صانعاً برعيَّتي ؟ قال : أنظر إليهم بعينك ، وأحملهم على قَدْرِ منازلهم عندك ، وأضَعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خِدْمتك مواضع استحقاقهم ، وأُرَتبهم حيث جعلهم ترتيبك ، وأُحْسِنُ إبلاغَكَ عنهم ، وإبلاغَهما عنك .
قال : قَد وَفَيْتَ بما عليك قولاً ، إن وَفَيْتَ به فعلاً ؛ واللّه وليّ كفايتك ومعونتك .
قال المهدي للفضل بن الربيع : إني قد وَلَيتُك سَتْرَ وجهي وكَشْفَه ، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصّي سبباً لضغنهم بِقُبْح ردِّكَ ، وعُبُوسِ وَجْهك ، وقدم أبناء الدعوة ، فإنهم أوْلَى بالتقديم ، وثَن بالأولياء ، واجعل للعامة وَقْتاً إذا دَخلوا أعجلَهُم ضِيقُه عن التلبّث ، وصرَفَهم عنِ التمكُّث .
وقال الحسنُ بن سهل : إذا كان الملك محتجِباً عن الرعيّة ، ولم ينزل الوزير نفسه منزلةً تكون وسائلُ الناس إليه أنفسَهم واستحقاقَهم دون الشفاعات والحرمات ، حتى يختصَّ الفاضلَ دون المفضول ، ويرتّب الناسَ على أقدارهم وأوزانهم ومعرفتهم ، امتزج التدبير ، واختلَت الأمور ، ولم يميّز بين الصدور والأعْجَاز ، والنواصي والأذناب ، وكان الناسُ فَوْضَى ، ووَهَتْ أسبابُ المُلْك ، وانتقَضَتْ مَرَائِرُهُ ، وشاعت سرائره ، وإنّ أَقْرَبَ ما أرجو به صلاحَ ما أتولاه استماعي من المتنسِّمين بأنفسهم ، المتوسّلين بأفهامهم ، المتوصّلين بكفايتهم ، وابتذالُ نفسي لهم ، وصبري عليهم ، وتصفحي ما توسلوا به وانتحَلوه من العقول والآَداب ، والحِماية والكفاية . فمَنْ ثبتت له دَعْواه أنزلْتُه تلك المَنْزِلة ، ولم أتَحيَّفْه حقه ، ولا نَقصْتُه حظه ، ومن قصَر عما ادَعى كانت منزلتُه منزلَة المقصّرين ، ولم أخيبِ أمَلَه من مقدار ما يستحِقّه .
وقاد بعضُ البلغاءِ : إذا أَسدَل الوالي على نفسه ستْر الحِجَاب ، وَهي عَمُودُ تدبيره ؛واسترخَت عليه حمائِلُ الْحَزم ، وازدلَفَتْ إليه وفودُ الذمّ ، وتولى عنه رشد الرَّاجِي ، ونال أمورَه خَلَلُ الانتشار ، وآفةُ الإهمال ، وتَسَرَّعَ إليه العائبون بلواذع ألسنتهم ودَبِيب قوارضهم .
وحُجب سعيد بن عبد الملك عن عبيد اللّه بن سليمان فكتب إليه : سِرْتُ إلى بابك - أعزك الله - عندما حدث من أمرك ، فلم يُقْضَ لقاؤك ، وعلمت أن ثِقَتك بما عندي ، قد مَثَّلَثْ لك حالي من السرور بنعمَةِ اللَهِ عندك ، وأرَتْكَ موضعي من الاعتداد بكل ما خَصَك ووصَل إليك ، فوكلت العُذْر إلى ذلك . ثم إنا نأتيك متيمَنين بطَلْعَتك ، مشتاقين إلى رؤيتك ، فيحجبنا عنك مُلاحظ . وهو كما علمت زَنيم الصنيعة ، لَئيم الطبيعة ، يحْجُبُ عنك الكِرام ، ويَأْذَنُ عليك لِلئام ، كلما نجَمتْ له يدٌ بيضاء ، أتْبَعها يداً سوداء ؛ فإن رأيت - أعزك الله - أن تصرِفَه عن باب مكارمك فعلت ، إن شاء الله .
وقال أبو السمط بن أبي حفصة : الطويل :
فتًى لا يُبَالي المدْلِجُونَ بنُورِه . . . إلى بابه أَلا تُضِيءَ الكواكبُ
له حاجب في كل خَيْرٍ يُعِينه . . . وليس له عن طالب العُرفِ حَاجِبُ
أخذْ البيت الأول من قول جده مَرْوان بن أبي حفصة الأكبر : الطويل :
إلى المصطفى المهديَّ خاضت ركابنا . . . دُجَى الليل يخبِطْنَ السَريح المُخدَمَا
يكون لها نور الإمامِ محمد . . . دليلاً به تَسْرِي إذا الليل أظلَما
وقال إدريس بن أبي حفصة ، وذكر إبلاً : البسيط :
لها أمامك نور تَسْتضِيء ُبه . . . ومِنَ رجَائك في أعْنَاقِها حَادي
لها أحاديث من ذِكْراك تَشغَلُها . . . عن الرُتوعِ وتلهيها عن الزَّادِ
وأصله قول عمرو بن شأس الأسدي : الطويل :
إذا نحنُ أدلَجْنا وأَنتَ أمَامنا . . . كفى لمطايَانا بوجهِكَ هَادِيا
أليس يَزيد العِيسَ خِفةَ أَذْرع . . . وإنْ كُن حَسْرَى ، أَن تكُونَ أمامياوقال بعض أهل العصر : الطويل :
وليل وَصَلْنَا بين قُطْرَيه بالسُرى . . . وقد جَدَّ شوق مُطمْعٌ في وصالِكِ
أَرَبَّتْ علينا من دُجَاهُ حَنَادِس . . . أَعَدْن الطريقَ النهْج وَعْرَ المَسالِكِ فناديتُ يا أسماء ، باسمك ، فانْجَلت . . . وأَسْفَر منها كل أسودَ حَالِكِ
بنا أنت من هادِ نَجَوْنا بذكره . . . وقد نَشِبَتْ فينا أكُف المهالكِ
منحتك إخلاصي وأَصْفَيْتك الهوى . . . وإن كنت لمّا تُخْطِريني بِبالِكِ
وقال القطامي : الطويل :
ذكرتُكُمُ لَيْلاً فنوَر ذِكْرُكُم . . . دُجَى الليل حتى انجابَ عَنْه دَياجِرُهْ
فو الله ما أدْرِي أَضَوْءٌ مُسَجَّر . . . لذِكْرَاكم أم يسْجُر الليلَ سَاجِره ؟
وقال القيني : الطويل :
وإني من القومِ الذين هُمُ هُم . . . إذا مات منهم سيدٌ قام صَاحِبُهْ
نجومُ سماءً كلّما انقضَّ كوكب . . . بَدا كَوْكَبٌ تأوي إليه كواكبُهْ
أضَاءَتْ لهمْ أحسابُهمْ ووجوهُهم . . . دُجَى الليل حتى نَظم الجَزْعَ ثَاقِبُهْ
وقال الحطيئة : البسيط :
نمشي على ضَوْءِ أحْسَابٍ أَضَأْنَ لنا . . . كما أَضاءت نجومُ اللَيْلِ للسارِي
وقد ردَده في موضع آخر فقال : الوافر :
هُمُ القومُ الذين إذا ألَمتْ . . . مِنَ الأيامِ مُظْلِمةٌ أضاءُوا
وكلام القاسم بن حنبل المَدَني من هذا ، حيث يقول : الوافر :
من البيض الوجوه بَنِي سِنان . . . لَو أنك تستضيءُ بهمْ أَضَاءُوا
فَلَو أنَّ السماءَ دَنَتْ لمَجْد . . . ومَكْرُمَةٍ دنَتْ لهمُ السماءُ
همُ حازُوا من الشَّرَفِ المعلى . . . ومن كَرَم العشيرة حَيْثُ شاءُوا
وقال بعض المتقدمين : الطويل :
إذا أشرقَتْ في جُنْحِ ليل وجوهُهُم . . . كَفَوْا خَابِطَ الظلماءِ فَقْدَ المَصَابحِ
وإنْ نابَ خَطْب أو ألمَتْ مُلمَة . . . فكم ثمَ مِنْ آسِي جِراح وجَارحوقال أبو بديل الوضاح بن محمد التيمي في المستعين : الطويل :
وقائلة والليلُ قد نَشَر الدُّجَى . . . فغطى بها ما بين سهلِ وقردَد
أرى بارقاً يَبْدُو من الجوْسَقِ الذي . . . بهِ حلّ مِيْرَاثُ النبيِّ محمدِ
أضاءت لهُ الآفاقُ حتى كأنما . . . رأَيْنَا بنصفِ الليلِ نُورَ ضحَى غدِ
فظلَّ عَذَارَى الحيِّ ينظمْنَ تَحته . . . سُلوكاً من الجَزع الذي لم يسَرَد
فقلت : هو البَدْرُ الذي تعرفونه . . . وإلاّ يَكُنْ فالنور من وجهِ أحمدِ
ما قيل في الاشتياق
وقال عُمَر بن عبد الله بن أبي ربيعة في معنى قول عمرو بن شأس في حثً الاشتياق : الطويل :
خليليَّ ، ما بالُ المطايا كأنما . . . تَراها على الأعْقَابِ بالْقَومِ تَنْكُصُ
فقد أتْعَب الحادي سُراهُنَّ ، وانحنىبهنَ فما بَالَوْا عجول مقلّصُ
وقد قُطِّعَت أعناقُهن صَبَابَةَ . . . فأعْيُنُهَا ممّا تكَلَّفُ تَشْخَصُ
يَزِدْنَ بنا قُرباً فيزدادُ شَوْقُنَا . . . إذا ازدادَ قُرْبُ الدارِ والبُعد يَنْقُصُ
وقال بعض الرجاز ، وذكر إبلاً : الرجز :
إن لها لسائقاً خَدَلجا . . . لم يُدْلج الليلةَ فيمَنْ أَدْلَجا
يريد امرأة يحبّها فيحثه ما يجدُه من الشوق على إجهاد مطاياه بالسوق . كما أنشد إسحاق الموصلي : البسيط :
صبّ يحث مطاياهُ بذكْرِكُم . . . وليس يَنْسَاكُمُ إنْ حَل أو سَارَالو يستطيعَ طوَىَ الأيام نحوكُمُ . . . حتى يبيعَ بعُمْرِ القُرْبِ أعمارا
يرجو النجاةَ من البلوىَ بقربكُم . . . والقربُ يُلْهِبُ في أحشائِه نَارَا
هذا البيت يناسب أبيات أبن أبي ربيعة . يقول : كلما دنا ازدادَ حِرْصاً على اللقاء .
وشخَصَ إسحاق الموصلي إلى الواثق بسُرَّ من رأى ، وأهُلُهُ ببغداد ، فتصيد الواثق وهو معه إلى نواحي عُكْبَراء ، فلما قرب من بغداد قال : الوافر :
طربتَ إلى الأصَيْبِيَة الصّغار . . . وهاجَكَ منهم قُرْبُ المَزَارِ
وكلّ مسافر يَزْداد شوقاً . . . إذَا دَنَتِ الديارُ من الدَيارِ ولحَّنه وغناه الواثق ، فاستحسنه وأطربه ، فصرفه إلى بغداد على ما أحَبّ وكان إسحاقُ قال أولاً : الوافر :
وكل مسافر يَشْتاقُ يوماً . . . إذا دَنتِ الديارُ من الديارِ
فعابوا قوله يوماً ، وقالوا : هي لفظة قَلِقة في هذا الموضع ، لم تحلّ بمركزها ، ولا لها هنا موقع . قال : فضَعُوا مكانها مِثْلَها لا خيراً منها . فما استطاعوا ذلك ، فغيّرها إلى ما أنشدت أولاً .
وقال أبو نواس : الكامل :
أما الدِّيار فقلما لَبِثُوا بها . . . بين اشتياق العِيسِ والرّكبان
وضعوا سِياطَ الشَوْقِ فوق رِقابها . . . حتى طلَعْنَ بها على الأوْطانِ
وقال مَخْلَد بن بكار الموصلي : الطويل :
أقُولُ لِنِضْوٍ أنْفَدَ السَير نيهَاً . . . ولم يبقِ منها غَيرَ عَظْمٍ مجلّدٍ
خدِي بي ابتلاك الله بالشَوْقِ والهوَى . . . وشَاقَك تَحْنَانُ الحَمامِ المغَردِفمرَت سريعاً خَوْفَ دَعْوَةِ عاشق . . . تَشُقّ بِيَ المَوْماةَ في كلِّ فَدْفَدِ
فلما وَنَتْ في السير ثنَيْتُ دَعْوَتي . . . فكانت لها سَوْطاً إلى ضحْوَةِ الْغَدِ
وكان مخلد حلو الطبع ، وهو القائل يمدحُ رجلاً : الرمل :
يَطْلُعُ النَجْمُ على صعْدَته . . . فإذا واجَه نحراً أفلا
مَعْشرٌ إن ظَمِئَتْ أرماحهُمْ . . . أَوْرَدُهنَّ مُجَاجَاتِ الطلى
تَحْسُنُ الألوانُ منهم في الوَغَى . . . حين تَسْتَنكر للرُّعْبِ الحُلَى
سُخط عبد اللّه يُدْني الأَجلا . . . ورِضَاهُ يَتَعَدى الأَملاَ
يُعشب الصَّلْدَ إذا سالمهُ . . . وإذا حارَب رَوْضاً أَمْحَلاَ
مَلِكٌ لو نُشّرت آلاؤه . . . وأياديه على الليل انجلى
حَل بالبَأْس ابنُ عَمرو منزلاً . . . طال حتى قَصُرَتْ فيه العُلاَ
حطَّ رَحْلي في ذَرَاه جُوده . . . وتَمشَى في ندَاهُ الْخَيْزلَى
في الخط
سئِل بعضُ الكتاب عن الخط : متى يستحق أن يوصفَ بالجودة ؟ فقال : إذا اعتدلَت أقسامُه ، وطالت ألِفُه ولاَمُه ، واستقامت سطورُه ، وضَاهَى صعودَه حُدُورُه ، وتفتَّحَتْ عيونُه ، ولم تشتبه رَاؤه ونونُه ، وأشْرَقَ قِرْطاسه ، وأظلمت أنْفاسه ، ولم تختلف أجْناسه ، وأسرع إلى العيون تصوُرُه ، وإلى العقول تَثَمُرُه ، وقُدِّرت فصوله ، وانْدَمَجَتْ وُصُوله ، وتناسب دقيقُه وجَلِيله ، وخرج من نَمَطِ الورّاقين ، وبَعُدَ عن تصنعِ المحررين ، وقام لصاحبه مقام النسبة والحليَة ، كان حينئذ كما قال صاحب هذا الوصف في صفة خط : المتقارب :
إذا ما تجلّل قِرْطَاسه . . . وساوَرَه القلمُ الأرْقَشُ
تَضمَّنَ منْ خَطِّهِ حُلّةً . . . كنَقْشِ الدنانير ، بَلْ أنْقَشُ
حروف تُعِيدُ لعين الكَليل . . . نشاطاً ويقرؤها الأخْفَش
قال أبو هفان : سألت ورَاقاً عن حاله فقال : عيشي أضيق من مِحْبَرة ، وجسمي أدقّ من مِسْطرة ، وجَاهي أرقُّ من الزجاج ، ووَجْهي عند الناس أشدِّ سواداً من الحبر بالزَّاج ، وحظي أخْفَى من شقّ القلم ، ويَدَاي أضْعَف من قَصَبَة ، وطعامي أمرّ من العَفْص ؛وشَرَابي أحرّ من الحبر ، وسوءُ الحال ألزمُ لي من الصَمْغ ؛ فقلت له : عبرتَ عن بلاء ببلاء .
وقال الحمدوني : البسيط :
ثِنتانِ من أدَوَاتِ العِلْمِ قد ثنتا . . . عِنَانَ شَأْوِي عما رمتُ مِنْ هِمَمي
أما الدَواةُ فأَدْمَى جرْمُها جَسَدي . . . وقلّم الحظّ تحريفٌ مِنَ القَلمِ
وحَبرَتْ لي صحْف الحرف مِحْبَرة . . . تَذودُ عَنِّي سَوَامَ المالِ والنعمِ
والعِلْمُ يَعْلَمُ أني حِينَ آخذُهُ . . . لعصمتي نَافِرٌ خِلْوّ من العِصَمِ
وللحمدوني في الحرفة أشعار مستظرفة ؛ وكان مليح الافتنان ، حلو التصرف ؛ وهو إسماعيل بن إبراهيم بن حَمْدَويه ، وحمدويه جدّه ، وهو صاحب الزنادقة في أيام الرشيد ، والحمدوني القائل : السريع :
مَنْ كان في الدنيا له شَارةٌ . . . فنَحْنُ من نَظّارةِ الدنيا نَرْمُقها مِن كَثَبٍ حسْرَة . . . كأننا لَفْظٌ بلا مَعْنَى
وقال : الكامل :
قد قُلْتُ إذْ خرجوا لكي يستَمْطِروا : . . . لا تَقْنَطوا واستمطِرُوا بثيابي
لو في حَزيرانٍ همَمْتُ بغَسْلِها . . . غَطّى ضياءَ الشمس جو سَحاب
فكأنها العباسُ يَسْتَسْقي به . . . عُمَرٌ فيرويهمْ دُعاءُ مُجَابِ
صنعة الأدب
وقال آخر في المعنى الأول : البسيط :
لما أجدْتُ حروفَ الخط حَرَّفَنِي . . . عن كل حظ وجاءت حِرْفَةُ الأدبِ
أقْوَت منازلُ مالي حين وطّنَها . . . مخيماً سَفَطُ الأقلامِ والكُتُبِ
وقال يعقوب الخريمي : البسيط :
ما ازْدَدْتُ في أدَبي حَرْفاً أُسَرُّ به . . . إلا تزيدْت حَرْفاً تحته شُومُ
كذاك من يَدَّعي حُذقاً بصنعَته . . . أنَّى توجهَ فيها فَهْوَ مَحْرُومُ
ولما قتل المقتدر أبا العباس بن المعتز ، وزعم أنه مات حَتْفَ أنفه ، قال عليّ بن محمد بن بسام : البسيط :
لله دركَ مِنْ مَيْتٍ بمَضْيَعَة . . . ناهيكَ في العلم والآَداب والحسَبِما فيه لَوّ ولا لَيْتٌ فينقصهُ . . . وإنما أدركَته حرفة الأدب
قال ابن الرومي : الكامل :
يا ليت أهل البيتِ إذْ حُرِموا . . . عُصِمُوا من الشهوات والفتن
لكنهم حُرِموا وما عُصِموا . . . فقلوبهم مَرضَى الحزنِ
وهُمُ أطَبُّ على بَلِيّتهمْ . . . من غيرهم بمَضَاضَة الشجَن
وقال جعفر بن محمد : إن الله وسَع أرزاقَ الحَمقَى ليعتبرَ العقلاء ، ويعلموا أن الدنيا لا يُنَالُ ما فيها بعَقْل ولا حيلة ، ألاَ إنَّ كسب المال بالحظّ ، وحِفظَه بالعقل .
قال إبراهيم بن سيّار النظام : الذهبُ لئيم ؛ لأنَ الشكلَ يصير إلى شَكلِه ، وهو عند اللئام أكْثَرُ منه عند الكرام . قال المتنبي - وأخذ هذا المعنى : الوافر :
وشِبْهُ الشيءِ مُنْجَذِب إليهِ . . . وأشبَهنَا بِدنيَانَا الطغَام
وكان النظام له نظر بوجوهِ التصرّف ، وكان السلطان يَصِفه بالكثير ، وكان محظوظاً ؛ فإذا اجتمع له مال حَبَسَ لنفسه بُلْغة ، وفرَّق الباقيَ في أبواب المعروف ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : مِنْ حقِّ المالِ عليَ أن أطلُبَه من مَعْدنه ، وأصيب به للفُرْصَةَ عند أهله ؛ ومن حقِّي عليه أنْ يَقِيني السوء بنفسه ، ويصونَ عِرْضي بابتذاله ، ولا يفعل ذلك إلاَ بأن أسمح به ؛ ألا ترى ذا الغنى ؛ ما أدْوَم نَصبه ، وأقلَّ راحته ، وأخرَّ من ماله حَظّه ، وأشد من الأيام حذَره ، وأغْرى الدهر بثَلْبِه ونَقْصِه ، ثم هو بين سلطان يَرْعاه ، وذوي حقوق يسبُّونه وأكفاء ينافسونه ، وولد يريدون فِرَاقَه ، قد بعث عليه الغِنَى من سلطانه العَناء ، ومن أكفائه الحَسَد ، ومن أعدائهِ البَغْي ، ومن ذوي الحقوقِ الذمّ ، ومن الولدِ المَلاَلَ ، وذو البلغة قِنعَ فدام له السرور ، ورفض الدنيا فسَلِمَ من المحذور ، ورَضِي بالكفاف فتنكّبَته الحقوق .
أدوات الورّاق
قال الصولي : أنشدني محمد بن أحمد بن إسحاق : السريع :
أدْمى البُكا جَفْنَيَّ والمآقي . . . فظَلْتُ ذَا هَمٍّ وذا احتِرَاقِما إن أرى في الأرض والآفاقِ . . . أدْنَى ولا أشقَى من الورَّاقِ
إذا أتى في القُمُصِ الأخْلاقِ . . . رأيته مطيرة العُشَّاقِ
يفرح بالأقلام والأوراق . . . كفرْحَةِ الجندي بالأرزاق
وقال بعض الوراقين : المتقارب :
إذا كنتَ بالليلِ لا أكْتُبُ . . . وطول النهار أنَا ألعبُ
فطوراً يبطّلني مَأكَلٌ . . . وطوراً يبطّلني مَشْرَبُ
فإنْ دامَ هذا على ما أرى . . . فبيتيَ أوَّل ما يَخْرب
وقيل لورّاق : ما تَشتَهي ؟ فقال : قلماً مَشَاقاً ، وحِبْراً بَرَاقاً ، وجلوداً رِقَاقاً . وكل امرئ فأمنيته على ما يطابِقُ غريزته ، ويوافِقُ نَحِيزته .
اللذات
قال عليّ بن جبلة العكوك : قال الأصمعي : سُئِل امرؤ القيس : ما أطيب لذّات الدنيا ؟ قال : بيضاء رغبوبة ، بالحسن مكبوبة ، وبالشَحْم مكروبة ، بالمِسْكِ مَشْبُوبة . وسئل الأعشى عن ذلك ، فقال : صَهْبَاء صافية ، تمزُجُها سَاقية ، من صَوْبِ غادية .
وسئل طرفة عن ذلك ، فقال : مركب وَطيّ ، وثَوْبٌ بَهِي ، ومطعم شهي .
قال العكوك : فحدَثت بهذا أبا دُلَف ، فقال : الخفيف :
أطيبُ الطيّبات قَتْلُ الأعادِي . . . واختيال على مُتُونِ الجِيَادِ
ورَسول يَأْبَى بوَعْد حبيبٍ . . . وحبيبٌ يَأْتي بلا ميعادِ
وحدَثت بذلك حُميداً الطوسي ، فقال : الطويل :
فلولا ثلاثٌ هنَّ مِنْ لَذَّةِ الفَتَى . . . وجدِّك ، لم أحْفلْ متى قام عُوَدِيفمنهن سَبْقُ العَاذلاتِ بِشَرْبةٍ . . . كُميْت ، متى ما تُعْل بالماء تزْبِدِ
وكَرَي إذا نادى المُضَافُ مُحنَباً . . . كَسِيد الغَضا ذي السَوْرة المتوَرَدِ
وتقصيرُ يَوْمِ الدَجْنُ مُعْجِبٌ . . . ببَهْكَنَةٍ تحت الخِبَاء المعَمَّدِ
الشعر لطرفة بن العبد .
وحدثت بذلك يزيد بن عبد الله ، فقال : ما أدري ما قالوا ، ولكني أقول : المنسرح :
فَاقْبَلْ من الدَّهْرِ ما أتاكَ بِهِ . . . مَنْ قَرَ عينا بِعَيْشِه نَفَعَهْ
فكان أسدَهم .
والبيت للأضبط بن قُرَيع ، أنشده أبو العباس ثعلب ، قال : وبلغني أن هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدَهْرٍ طويل : المنسرح :
لكل ضيق من الأُمور سَعَهْ . . . والصبحُ والمُسْيُ لا فلاحَ مَعهْ
ما بالُ مَنْ سره مصابُك لا . . . يَمْلِك شيئاً من أمْرِهِ وَزَعَهْ
أذُود عن حَوْضِه ويَدْفعُني . . . يا قوم ، مَن عاذِري من الخَدَعَهْ ؟
حتى إذا ما انجلتْ عَمايَتهُ . . . أقْبَل يَلْحَى وغَيه فَجَعه
قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلهِ . . . ويأكلُ المالَ غيرُ من جَمَعهْ
ويقطعُ الثوبَ غيرُ لابسهِ . . . ويلبسُ الثوبَ غيرُ مَن قَطَعه
فاقْبَلْ من الدَّهْرِ ما أتَاك بهِ . . . مَنْ قر عيناً بعيشه نَفَعَهْ
وصِلْ حبالَ البعيد إنْ وَصَلَ الْ . . . حَبْلَ ، وأقْصِ القريبَ إنْ قَطَعَهْ
ولا تُعَادِ الفقيرَ عَلكَ أنْ . . . تَرْكَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعهْ
هذا البيت شبيه بما روي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ،كثيراً ما يستنشدني قول اليهودي : الكامل :
ارفعْ ضعيفك لا يَحُرْ بكَ ضعفهُ . . . يوماً فتُدْرِكَه العواقب قد نما
يجْزِيك ، أو يُثْنى عليك ، وإن مَن . . . أثْنَى عليك بما فَعَلْتَ كمَنْ جَزَى
فأنشده ، فيقول : إني فطِن لها .
وكان الأضبط سيد بني سعد ، وكانوا يشتمونه ويؤذونه ، فانتقل إلى حي من العرب فوجدهم يؤذون سادتهم ، فقال : حيثما أوجّه ألق سعداً فذهبت مثلاً . قال الطائي : الطويل :
فلا تَحْسِبَنْ هنداً لها الغَدْرُ وحدها . . . سجيةُ نَفْسٍ ، كل غانِيةٍ هِندُ
وصف المحبرة والقلم
قال بعضُ الكتاب يصف محبرة : الكامل :
ولقد مضَيْتُ إلى المحدِّث آنفاً . . . وإذا بحضْرَته ظِباءٌ رُتَّعُ
وإذا ظِبَاءُ الإنْسِ تكتُبُ كل ما . . . يُمْلَى ، وتحفظ ما يقول وتَسْمَعُ
يتجاذبون الحِبْرَ من ملمومةٍ . . . بيضاءَ تحمِلُها عَلائِقُ أربعُ
من خالص البَلّورِ غُيِّر لَوْنها . . . فكأنها سبَجٌ يَلوحُ ويَلْمَعُ
إنْ نكَّسوها لم تَسِلْ ، ومليكها . . . فيما حوَتْهُ عاجلاً ، لا يَطْمَعُ
ومتى أمالوها لِرَشْفِ رُضابها . . . أداه فُوهَا وهي لا تتمنَعُ
وكأنها قَلْبي يَضِن بسِرَه . . . أبداً ، ويكَتمُ كل ما يُسْتودَعُ
يَمْتَاحُها ماضِي الشبَاة مُذَلق . . . يجري بميْدَانِ الطّرُوس فيُسْرعُ
رِجْلاَهُ رأسٌ عنده لكِنَّه . . . يلقاه برد حَفَاهُ ساعةَ يقطَعُوكأنَّه والحِبْرُ يَخْضِبُ رأسهُ . . . شيخٌ توَصْلِ خريدةٍ يتَصَنَّع
لِمَ لا أُلاحظه بعَيْنِ جلالةٍ . . . وبه إلى اللهِ الصحائفَ ترفع ؟ وقال أبو الفتح كشاجم : المنسرح :
مِحْبَرة جَادَ لي بها قَمَرٌ . . . مستَحسَنُ الخَلْقِ مرتضى الخلقِ
جوهرة خَصني بجوهرةٍ . . . ناطَتْ له المكرمات في عنقي
بيضاء والحِبرُ في قَرَارَاتِها . . . أسْوَدُ كالمِسْك جِد منفَتِقِ
مثل بياضِ العيون زَيّنَهُ . . . مُسْوَدُ ما شَابَه مِنَ الحَدَقِ
كأنما حِبرُهَا إذا نَثَرَتْ . . . أقلامُنَا ظِلَّه على الوَرَقِ
كحْلٌ مَرَته العُيُونُ مِنْ مُقَل . . . نُجْل فأَوْفَت بِهِ على يَقَقِ
خَرْسَاء لكنَّها تكون لنَا . . . عَونَاً على عِلم أفصح النُّطُقِ
وقال عبد الله بن أحمد : القلم أمْرَهُ ، ما لم يَكتَحِل بإثمِد الدَّوَاة .
وكتب إبراهيم بن العباس كتاباً فأراد مَحو حرف فلم يجد منديلاً ، فمحاه بكُمِّه فقيل له في ذلك ، فقال : المالُ فَرْعٌ ، والعلمُ أصل ، وإنما بلَغنَا هذه الحال ، واعتقدنا هذه الأموال بهذا القلم والمداد ، ثم قال : الوافر :
إذا ما الفكرُ أضْمَرَ حُسْنَ لَفظٍ . . . وأدَّاه الضميرُ إلى العِيانِ
ووَشّاهُ ونَمْنَمَه مسَدٍّ . . . فصيحٌ بالمَقَالِ وباللَسان
رأيت حُلَى البيانِ منوّراتٍ . . . تَضَاحَكُ بينها صوَر المعاني
ألفاظ لأهل العصر في أوصاف آلات الكتابة والدويِّ والأقلام .
الدواة من أنفع الأدوات ، وهي للكتابة عتَاد ، وللخاطر زنَاد ، غدير لا يرِدُه غَيْرُ الأفهام ، ولا يمتح بغير أَرشية الأقلام ، دواة أنيقة الصَّنْعَة ، رَشيقة الصبغة ، مسكيّة الجلد ، كافُورِية الحِلْية . غدير تفيض ينابيعُ الحِكْمَة من أقْطَاره ، وتنشأ سُحُبُ البلاغة مِنْقراره . دواة تداوي مرض عفاتك ، وتدوي قلوب عداتك ، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك ، وارتفاع النوائب عن ساحتك ، ومداد كسواد العَيْنِ ، وسُوَيْداءِ القلب ، وجناح الغُرَاب ، ولعابِ الليل ، وألوانِ دهمِ الخيل . وهذا من قول ابن الرومي : الرجز :
حبر أبي حَفصٍ لعَاب الليلِ . . . كأنه ألوانُ دُهْمِ الخيلِ
قال العاصر : مِدادٌ ناسب خافِية الغُرَاب ، واستعار لونَه من شَرْخِ الشباب ، وأقلام جَمَة المحاسن ، بعيدة من المَطَاعِن ، تعاصي الكاسي ، وتمانِع الغامِزَ الْقَاسِي . أنابيب ناسبت رِماح الخطِّ في أجْناسها ، وشاكلت الذهبَ في ألوانها ، وضاهَت الحديدَ في لمعانها ؛ كأنها الأميالُ استواءً ، والآجالُ مَضاءً ، بطيئة الحَفى ، قوية القُوَى ، لا يُشظيها القَطُ ، ولا يتشعَّبُ بها الخطُ . أقلام بحرية مَوْشِيَّةُ اللِّيط ، رائقة التخطيط . قلمٌ معتدل الكُعُوب ، طويل الأنبوب ، باسِقُ الفروع ، رَوِيً اليَنْبُوع ، هو أَوْلَى باليد من البَنَانِ ، وأَخْفَى للسرّ من اللِّسان . هو للأنامل مطيّة ، وعلى الكتابة معونة مَرْضِيّة . نعم العُدَة القلم : يقلم أظافِرَ الدَّهر ، ويملك الأقاليم بالنَّهْي والأمر ، إن أرَدْتَ كان مسجوناً لا يملّ الإسار ، وإن شئتَ كان جواداً جارياً لا يعرفُ العِثار ، لا ينْبُو إذا نَبَتِ الصِّفَاح ، ولا يُحْجِمُ إذا أحجمت الرِّمَاح .
قال أبو الفتح كشاجم ، يصف محبرة ومقلمة وأقلاماً وسكيناً : الرجز :
جسمي من اللَّهْو وآلاتِ الطرَبْ . . . ومن عَتَادٍ وثَرَاءً ونَشَبْ
ومن مُدَام ومَثَانٍ تَصْطَحِبْ . . . وهمّةٍ طمّاحةٍ إلى الرُتَبْ
مَجَالسٌ مَصُونَة مِنَ الرِّيَبْ . . . معمورةٌ من كلِّ عِلْمِ وأدَبْ
تكَادُ مِنْ حَرِّ الحديثِ تَلْتَهِبْ . . . شِعْراً وأخباراً ونحواً يقتضبْ
ولغةً تجمعُ ألْفَاظَ العربْ . . . وفقَراً كالوَعْدِ في قَلْبِ المُحِبْ
أو كتأتِّي الرزق مِنْ غيرِ طلبْ . . . أجَلْ ، وحَسْبِي من دُوِيٍّ تُنتخَبْ
محلَّيات بلُجَيْنٍ وذهَبْ . . . محْبَرَة يُزْهَى بِهَا الحِبْرُ الألَبّمثقوبة آذَانُها ، وفي الثقُب . . . مثل شُنُوفِ الخُرَدِ البيض العُرُب
تضمن قطراً للكَتْب عشُبْ . . . أَسْوَد يَجْري بمعانٍ كالشُهُبْ لا تَنْضُب الحكمةُ إلاَ إنْ نَضَبْ . . . نِيطَتْ إلى يُسْرَى يَدَيَّ بِسَبَبْ
كالقُرْطِ في الجيدِ تَدَلّى فاضْطَرَبْ . . . تصحبها ، والأخَواتُ تُصْطَحَبْ
كأنه يودع نَبْلاً من قَصَبْ . . . لم يَعْلُها رِيشٌ ولم تَحْمِلْ عَقَبْ
لا تَضْحَكُ الأوْرَاقُ حتى يَنتحِبْ . . . تَرْمي بها يمنايَ أعْراضَ الكُتُبْ
رمياً متى أقْصِدْ به السمْتَ أُصِب . . . ومُدْية كالعَضْبِ ما مَسَ القَصَبْ
غَضْبَى على الأقْلاَم من غير سبَبْ . . . تَسْطُو بها في كل حينٍ وتَثِبْ
وإنما ترْضيكَ في ذاك الغَضبْ . . . فتلك آلاتي ، وآلاتي تُحَبّ
والظّرْفُ في الآلاتِ ممّا يُسْتَحَبّ . . . لا سيما ما كان مِنْها للأدَبْ
من أخبار الخليفة المأمون
تظلم رجلٌ إلى المأمون من عامل له ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما ترك لي فِضة إلاَ فضَها ، ولا ذهباً إلاّ ذهب به ، ولا غلَّة إلا غَلّها ، ولا ضَيعَةً إلا أضاعها ، ولا عِلْقاً إلا عَلِقًه ، ولا عَرَضاً إلا عَرض له ، ولا ماشية إلا امْتشَّها ، ولا جليلاً إلاَ أجْلاَه ، ولا دقيقاً إلا أدَقَّه ، فعجب من فصاحته وقضى حاجَتَه .
قال عمرو بن سعد بن سلم : كانت علي نوبة أنوبها في حرس المأمون ، فكنتُ في نوبتي ليلةً فخرج متفقّداً مَنْ حَضَر ، فعرفته ولم يعرفني ، فقال : من أنت ؟ قلت : عَمْرو ، عمرك الله ، ابن سعيد ، أسْعَدك الله ، ابن سلم ، سلمك الله . فقال : تكلَؤُنا منذ الليلة . قلت : الله يَكْلَؤُك قَبْلي ، وهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
فقال المأمون : الرجز :
إن أخاك الحقّ من يَسْعَى مَعَكْ . . . ومَن يَضُرُ نَفسَه لينْفَعًك
ومَنْ إذا صَرفُ زمان صَدَعَك . . . بَدد شَملَ نَفْسِهِ ليجمَعَكْوصف الروض والزهور
وقال علي بن العباس الرومي : الكامل :
خَجِلتْ خُدودُ الوَرْدِ من تَفْضِيله . . . خجلاً تَوَرُدها عليه شَاهِدُ
لم يخجل الوردُ المورَدُ لونه . . . إلا وناحِلُه الفضيلةَ عَانِدُ
للنرجس الفَضْلُ المبين إذا بَدَا . . . بين الرياض طريفه والتَّالدُ
وكان ابنُ الرومي متعصباً للنرجس ، كثير الذمِّ للورد ، وكتب إلى أبي الحسن ابن المسيب : الكامل :
أدْرِك ثِقَاتكَ إنهم وَقعوا . . . في نَرْجِسِ معه ابْنَةُ العِنَبِ
فهُمُ بحالٍ لو بَصُرْتَ بها . . . سبحْتَ من عُجْبٍ ومن عَجَبِ
رَيْحَانُهُمْ ذَهبٌ على دُرَرٍ . . . وشرابُهُمْ دُرٌ على ذهَبِ
في رَوْضَةٍ شَتْوِية رَضعَتْ . . . دَرَ الحيا حَلَباً على حَلَب
واليومُ مَدْجُونٌ فَحُرَتُهُ . . . فيهِ بمُطَّلَعٍ ومُحْتَجب
ظلت تسامرنا وقد بَعَثَت . . . ضوءاً يلاحِظنا بلا لَهَبِ
وكان كِسْرى أنو شروان مُسْتَهْتراً بالنرجس ، وكان يقول : هو ياقوت أصفر ، بين در أبيض ، على زمرد أخضر ، نقله بعض المحدثين فقال : الطويل :
وياقوتة صفراء في رأسِ دُرَة . . . مركَبة في قائمٍ مِن زَبَرْجَدِ
كمثل بهي الدر عقد نظامها . . . نَثيرُ فِرندٍ قد أطاف بِعَسْجدِ
كأن بقايا الطلِّ في جَنَباتِها . . . بقيةُ دَمع فوق خَدً مورَدِ
رجع إلى ابن الرومي : الكامل :
فَضلُ القضيةِ أن هذا قائد . . . زَهَر الربيع وأنَ هذا طاردُ
شتانَ بين اثنين : هذا مُوعدٌ . . . بتَصرُمِ الدنيا ، وهذا وَاعدُ
فإذا احتفظتَ به فأمتَعُ صاحبٍ . . . بحياته ، لو أن حيا خالِدُ
ينهى النديمَ عن القبيح بلَحظِهِ . . . وعلى المُدَامَةِ والسَماعِ يُسَاعِدُاطلب بعَقْلك في الملاح سَميه . . . أبداً ؛ فإنك لا محالة واجِد
والوردُ إن فتَّشت فردٌ في اسمه . . . ما في الملاَح له سمي واحد
هذي النجوم هي التي ربَّينها . . . بحَيَا السحابِ كما يربي الوالد فانْظُرْ إلى الولدين ، مَنْ أدناهما . . . شبَهاً بوالده فذاك الماجد
أين الخدود من العيون نفاسةً . . . ورياسةً ، لولا القياس الفاسد ؟
وقد ناقضه جماعةَ من البغداديين وغيرهم في هذا المذهب ، وذهبوا إلى تفضيل الوردِ ؛ فما دانَوه وما استطاعوه .
قال أحمد بن يونس الكاتب راداً عليه : الكامل :
يا مَنْ يُشَبِّه نَرْجِساً بنواظرٍ . . . دُعِجِ ، تنبه إنَّ فهمَك راقد
إنّ القياسَ لمن يصحُّ قياسهُ ، . . . بين العيون وبينه متَباعد
والوردُ أصدقُ للخدودِ حكايةً . . . فعلامَ تَجحَد فَضلَه يا جاحد ؟
مَلك قصير عُمْرُه مُسْتَأهِل . . . تخليده ، لو أنّ حياً خالد
إنْ قلت إنَّ الوردَ فَرد في اسمه . . . ما في المِلاح له سميَّّ واحِد
فالشمسُ تُفْرَدُ باسمها والمشترَي . . . والبدر يُشرَك في اسمه وعطَارِد
أو قلت إنّ كواكبا ربينها . . . بحَيَا السَحَابِ كما يُربِّي الوالد
قلنا أحقّهما بِطَبْع أبيه في ال . . . جَدْوَى هو الزَّاكِي النجيبُ الرَّاشد
زُهْرُ النجومِ تَرُوقُنا بضِيائها . . . ولها منافعُ جمة وعَوَائِدُ
وكذلك الوَرْدُ الأنِيقُ يَرُوقُنَا . . . وله فضائلُ جَمَّةٌ وفَوَائِدُ
وخليفه إن غاب ناب بنَفْعِه . . . وبنفحه أبداً مقيم راكِدُ
إنْ كنْتَ تُنكِرُ ما ذَكَرْنا بعدما . . . وضَحَت عليه دلائل وشَواهِدُ
انْظُرْ إلى المصْفَرِّ لوناً منهما . . . وافطنْ فما يَصْفَرُ إلاّ الحاسِدَ
نبذ من النظم والنثر في صفات النَّور والزهر
قال عليّ بن الجهم : البسيط :
لم يضحَك الوردُ إلا حين أعْجَبَه . . . حُسنُ الرِّياضِ وصوت الطائرِ الغَرِدِ
بدا فأَبْدَتْ لنا الدنيا محاسِنَها . . . وراحَتِ الرَّاحُ في أثوابها الجُدُدِوقابلَته يد المُشتَاقِ تسْنِدهُ . . . إلى الترائب والأحشاءِ والْكَبدِ
كأن فيه شفاءً من صَبَابتِه . . . أو مانِعاً جَفْنَ عينيه مِنَ السُهُدِ
بين الندِيمين والخلَين مَصْرَعُه . . . وسَيرُه مِن يَدٍ موصولةٍ بِيَدِ
ما قابلت طَلعَة الرَّيحانِ طَلعته . . . إلا تبينتَ فيه ذِلَّة الحسدِ
قامَت بحجته ريح معَطَرَة . . . تَشفي القلوبَ من الأوْصابِ والكَمَدِ
لا عذبَ اللَه إلاّ من يعَذِّبه . . . بمسِمع باردٍ أو صَاحبَ نكِدِّ
وكان أردشير بن بابك يصف الورد ويقول : هو درّ أبيض ، وياقوتٌ أحمر ، على كراسي زَبرجَد أخضر ، توسطه شذورٌ من ذَهبٍ أصفر ، له رِقة الخمر ، ونفحات العِطر ، أخذه محمد بن عبد اللّه بن طاهر فقال : البسيط :
كأنهن يواقيتٌ يُطِيفُ بها . . . زُمُرُّد وسْطَه شَذرٌ مِنَ الذَّهَبِ
فَاشْرَبْ على مَنْظَرٍ مستظْرَفٍ حَسَن . . . من خَمْرَةٍ مَزة كالجَمْرِ في اللَّهَبِ
وقال يزيد المهلبي : أحَب المتوكل أن ينادمَه الحسين بن الضحاك ، الخليع البصري ، وأن يَرَى ما بَقيّ من ظَرْفِه وشهوته لما كان عليه ، فأحضره وقد كبر وضعُفَ ، فسقاه حتى سكر ، وقال لخادمه شفيع : اسْقِه ؛ فسقاه وحيّاه بوَردَة ، وكانت على شفيع أثوابٌ ، فمدّ الحسين يده إلى دِرْع شفيع ، فقال المتوكل : أتخمش غُلاَمي بحضرتي ؟ كيف لو خَلَوْتَ به ما أحوجَكَ يا حسينُ إلى أدب وكان المتوكل غمز شفيعاً على العبث به ، فقال حسين : سيدي ، أريد دواة وقرطاساً ؛ فأمر له بهما ، فكتب : الطويل :
وكالوردة البيضاء حَيا بأَحْمَرٍ . . . من الوَرْد يسعى قي قَرَاطِقَ كالوَرْدِ
له عَبَثَات عند كلِّ تحيةٍ . . . بِكفّيْهِ يستَدعي الخلِيَّ إلى الوَجْدِ
تمنّيت أنْ أُسْقى بكفّيه شَربةً . . . تذكرني ما قد نسيتُ من العَهدِ سَقَى اللَّه عيشاً لم أنَمْ فيه ليلةً . . . من الدهر إلاَّ من حبيب على وَعْدِ
ثم دفع الرقعةَ إلى شفيع ، وقال : ادْفَعْها إلى مولاك ؛ فلمّا قرأها استملحها ، وقال : لو كان شفيع ممن تَجُوز هِبَتُه لوهَبْتُه لك ، ولكن بحياتي يا شفيع إلاّ كنت ساقيهُ بقيَّة يومه وأمر له بمال كثير حمل معه لما انصرف .قال يزيد المهلبي : فصرتُ إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكل بأيام ، فقلت : ويحك أتدري ما صنعت ؟ قال : لا أدَعُ عادتي بشيء ، وقد قلت بعدك : مجزوء الخفيف :
لا رَأى عطفة الأحِبْ . . . بَةِ مَنْ لا يصرحُ
أصْغَرُ الساقيَيْن أَش . . . كَلُ عِنْدي وأمْلَحُ
لو تراه كالظبي يَسْ . . . نح طَوْراً ويَبْرَح
خِلْتَ غُصْناً على كثب . . . بٍ بنَوْرٍ يُوَشحُ
قال الصولي : وكأن الأول من أبيات الحسن من قول العباس بن الأحنف : الكامل :
بيضاء في حُمْرِ الثيابِ كوَرْدَةٍ . . . بيضاء بين شقائقِ النعمانِ
تهتزُّ في غَيَدِ الشباب إذا مَشَتْ . . . مثل اهتزازِ نَوَاعِمِ الأغْصَانِ
قال أبو بكر الصولي : كان عند الخصي الوزير ظبي داجن ربيب في داره ، فعمد إلى نيلوفر فأكله ، فاستملح الغزال وأنسه ، وقال : لو عمل في أُنْس هذا الغزال وفعله بالنيلوفر لاشتمل العمل على معنًى مليح فبلغ الخبر أبا عبد الله إبراهيم ابن محمد بن عرفة نفطويه ، فبادر لئلاّ يُسبق ، وعمل أبياتاً أولها : الطويل :
جرَتْ ظَبْيَة غنَّاء تَرْعَى برَوْضَةٍ . . . تَنُوشُ لدَى أفْنَانِها ورَقاً خُضْرا
في أبيات غير طائلة ، فاستبرد ما أتى ، قال الصولي : فقلت : الطويل :
ونَيلُوفرٍ يحكي لنا المِسْكَ طيبُهُ . . . تراه على اللذّاتِ أفْضَلَ مُسْعِدِ
قد اجتَنَ خوفَ الحادثات بجُنَةٍ . . . تروقُ كثوبِ الراهب المتعبِّدِ
تُرَكَب كالكاسَاتِ في ذَهبيَّةٍ . . . على قُضُبٍ مخضرَّةِ كالزَّبَرْجَدِ
وأُلْبس ثوباً يفضُلُ اللَحْظَ حُسْنُه . . . كما عبِثَتْ عينٌ بِخَد موَرَدِ
غَذتْهُ أهاضيبُ السماء بدَرِّها . . . تروحُ عليه كلَّ يوم وتَغْتَدي
تلبِّس للأنْوارِ ثوْب سمائه . . . ففضَلَ عنه الحسن في كل مَشهَدِ
وفي وسطه منه اصفرارٌ يَزينُه . . . كياقوتةٍ زرقاءَ في رَأسِ عَسْجَدِ
أطاف به أحْوَى المدامع شَادِنٌ . . . حَكى طَرْف من أهْوى وحُسن المُقَلَّدِ
كما أخذ الظمآنُ بالفم كاسه . . . ولم يستَعِنْ في أخذه الكاسَ باليَدِوقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع : الكامل :
يومٌ أتاك بوَجْهِه المتهلل . . . ناهيك من يومٍ أغرَ مُحجلِ
خلع الغمامُ على اخْضِرارِ سمائهِ . . . خِلَعاً فَبَيْنَ مُمَسك ومُصَنْدَلِ
وكسا الرُبى حُلَلا تخالَفَ شكلها . . . بموردٍ ومُعَصْفر ومُكَحل
وتمايلَتْ فيه قدودُ غصُونِهِ . . . من شُرْبِ كاساتِ العيونِ الهطلِ
وعَلا على الأشجار قَطْرُ سمائها . . . فهدَتْ لعينِ الناظر المتأملِ
يَحْكي قِبَاب زُمُردٍ قد كُللَتْ . . . بمنظمٍ من لؤلؤ ومُفَصَّلِ
وأتاك نَوْرُ البَاقِلاءِ كأنما . . . يَرْنو إليكَ بعين أكْحَل أقْبَلِ
الوَرْدُ يُخجلُ كل نورٍ طالع . . . وتراه مُنتقِباً بحُمْرَةِ مُخجلِ
وحكى بياضُ الطَّلْع في كافورهِ . . . وجْهَ الخريدة في الخمارِ الصَّنْدَلي
فكأنما الدنيا عَرُوسٌ أقْبلَتْ . . . في كل أنواع الملابس تجْتَلي
فاشرب مُعَصْفَرَة القميص سُلافةً . . . من صنعة البَردَان أو قُطْرَبلِ
وقال أبو الفتح البستي : الكامل :
يومٌ له فَضْلٌ على الأيام . . . مزَجَ السَحابُ ضياءَهُ بظلامِ
فالْبَرقُ يخفق مِثْلَ قَلْبٍ هائمٍ . . . والْغَيمُ يَبْكي مثل طَرْفٍ هَامِ وكأنَّ وَجْهَ الأرض خَدُ متيمٍ . . . وُصِلت سِجَامُ دموعِه بسِجَامِ
فاطلبْ ليومك أربعاً : هن المُنَى . . . وبهنَ تصفُو لذَّةُ الأيام
وَجْهَ الحبيب ، ومنظراً مستشرقا ، . . . ومغنيا غَرداً ، وكأسَ مُدامِ
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي : الكامل :
سَلَّ الربيعُ على الشَتاء صوارماً . . . تَرَكَتْه مجروحاً بلا إغْمَادِ
وبكَتْ له عَيْنُ السماء بأدمُع . . . ضَحِكَتْ لسَاجمها رُبَى الأنجاد
وَبَدَتْ شقائِقُها خِلال رياضها . . . تُزْهى بثوبَيْ حُمْرَةٍ وسَوادِ
فكأنها بِنْتُ الشتاء توجَعَتْ . . . لمُصَابه كشقيقة الأولادِ
فقَنُوءُ حُفرَتها خِضَابُ نجيعه . . . وسوادُ كُسْوَتِها لِبَاسُ حِدادِوقال : الطويل :
تصوغُ لنا كفُّ الربيعِ حدائقا . . . كعقد عَتِيقٍ بين سِمْطِ لآلي
وفيهن أنْوَار الشقائقِ قد حَكَت . . . خُدودَ عذارَى نقَطت بِغَوَالي
وقال : المتقارب
كأنَّ الشقائقَ إذ أبرَزَت . . . غِلاَلة دادٍ وثَوباً أحَمّ
قطاعٌ من الجَمرِ مشبوبة . . . فأطرافُها لُمَع مِن حَمَم
وقال في حديقة ريحان : الكامل :
أعدَدْت مُحتَفلاً ليوم فَرَاغي . . . روضاً غَدا إنسانَ عَيْنِ الباغي
روض يَرُوضُ هموم قلبي حُسنُهُ . . . فيه لكأس الأنسِ أيّ مَسَاغِ
فإذ بدَتْ قضْبانُ ريحانٍ به . . . حيت بمثلِ سلاسلِ الأصْداغِ
وقال في النرجس : المجتث :
أهْلاً بنرجس رَوْضٍ . . . يُزْهَى بحسْنٍ وطِيبِ
يَرْنُو بعَينَيْ غزال . . . على قَضِيبٍ رَطيبِ
وفيه مَغنًى خفيّ . . . يرِينُه للقلوبِ
تَصحِيفُه إنْ نَسَقْتَ ال . . . حُرُوفَ بِرُّ حَبِيبِ
وقال : الطويل :
وما ضمَ شملَ الأُنس يوماً كنرْجِسٍ . . . يقومُ بعُذْرِ اللَهْوِ عن خالِع العُذْرِ
فأحداقه أحداق تِبْرٍ ، وساقهُ . . . كقامة ساقٍ في غَلاَئلهِ الخُضْرِ
وقال البحتري : الطويل :
سَقَى الغيثُ أكنافَ اللِّوى من محلّةٍ . . . إلى الحِقْف من رَمْل اللوى المتقاودِولا زال مخضر من الروض يانع . . . عليه بِمْحْمَرٍّ من النوْرِ جاسِد
شقائق يَحمِلن الندَى فكأنه . . . دموع التصابي في خدودِ الخرائد
ومن لؤلؤ في الأقحوان منَظمٍ . . . ومن نكَتٍ مُصْفَرَة كالفَرَائِدِ
كأن جَنَى الحوذان في رَونَق الضحى . . . دنانيرُ تِبْرٍ من تُؤام وفارِدِ
إذا راوحتها مُزنَةّ بَكَرَت لها . . . شآبيبُ مجتاز عليها وقاصدِ
رِباع تردَّت بالرياض مَجُوْدَةً . . . بكل جديد الماء عَذْبِ الموارد
كأن يد الفتح بن خاقانَ أقبلتْ . . . تَليها بتلك البارقات الرَّواعِد
قال أبو محمد عبد اللّه بن جعفر بن دَرَسْتَويه : قال لي البحتري وقد اجتمعنا على حلوة عند المبرد وسَلَكْنَا مسلكاً من المذاكرة : أشعرت أني سبقت الناسَ كلّهم إلى قولي : الطويل :
شقائقُ يحمِلْنَ النَّدَى فكأنَّهُ . . . دموعُ التصابي في خُدودِ الخرائدِ
كأن يدَ الفَتْحِ بن خاقان أقبلَتْ . . . تليها بتلك البارقات الرَّواعِدِ
هكذا أنشد ، فاستحسن ذلك المبرد استحساناً أسرف فيه ، وقال : ما سمعت مثل هذه الألفاظ الرّطبة ، والعبارة العَذْبة ، لأحدٍ تقدَّمك ولا تأخَّر عنك . فاعتَرَتْهُ أَرْيَحِيةٌ جربها رِداء العُجب ؛ فكأنه أعجبني ما يُعْجب الناس من مراجعة القول ؛ فقلت : يا أبا عُبَادة ، لم تَسْبِق إلى هذا ، بل سبقك سعيد بن حميد الكاتب إلى البيت الأول بقوله : الكامل :
عَذُبَ الفراقُ لنا قُبَيل وَداعِنا . . . ثم اجترعناهُ كسمٍّ ناقعِ
وكأنما أثرُ الدموع بخدِّها . . . طَلّ تساقطَ فوق وَرْدٍ يانعِ وشركك فيه صديقُنا أبو العباس الناشئ بما أنشدنيه آنفاً : المتقارب :
بكَت للفراق وقد راعَني . . . بكاءُ الحبيب لبُعْدِ الديارْكأنَّ الدموعَ على خدِّها . . . بقية طَلً على جُلَنار
وما أساء علي بن جريج ، بل أحسن في زيادته عليك بقوله : المنسرح :
لو كنتً يوم الوداع شاهِدَنا . . . وهنَ يُطْفينَ غُلّةَ الوَجْدِ
لم تَرَ إلاّ دموعَ باكيةٍ . . . تَسْفَح من مُقْلةٍ على خدِّ
كأن تلك الدموع قَطْرُ نَدًى . . . يقطُر من نَرْجِس على وَردِ
وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معاً بقوله : الكامل :
من كل زاهرةٍ ترقرَق بالنَدَى . . . فكأنها عينٌ إليه تَحَدرُ
تبدو ويَحجبَها الجميمُ كأنها . . . عَذراء تبدو تارة وتخفرُ
خَلقٌ أطل من الربيع كأنهُ . . . خُلُقُ الإمامِ وهَدْيُهُ المتنشّرُ
في الأرض من عَدْلِ الإمام وجُودِهِ . . . ومن الربيع الغَض سَرح في يزهر
يُنسي الربيع وما يروض جودة . . . أبداً على مَرَ الليالي يُذكَر
قال : فشقَّ ذلك عليه ، وحلِّ حَبْوَتَه ونهض ، فكان آخر عهدي بمؤانسته وغَلُظ ذلك على محمد بن يزيد ، وقدح ذلك في حالي عنده .
وقال البحتري يمدح الهيثم بن عثمان الغنوي : الطويل :
ألست ترى مَدَّ الفُراتِ كأنهُ . . . جبال شَرَوْرَىَ جِئن في البحر عُوَما
وما ذاك من عاداته غير أنهُ . . . رَأَى شِيمَةً من جارِه فتعلمَاوقد نبه النَوْرُوزُ في غَبَش الدُّجى . . . أوائلَ وَرْد كُنَ بالأمس نُوَمَا
يُفَتحها بَرْدُ الندى فكأنهُ . . . يبث حديثاً بينهنَ مُكَتَّمَا
ومن شجرٍ رَدَّ الربيع لِبَاسهُ . . . عليه كما نَشَرْتَ بُرْداً مُنَمْنَمَا
أحَلَّ فأَبدى للعيونِ بَشَاشَةً . . . وكان قذًى للعين مذ كان محْرمَا
فما يمنع الراح التي أنت خِلُّها . . . وما يَمْنَعُ الأوتار أن تترنَّماَ
وما زلت خِلاً للندَامى إذا اغْتَدَوا . . . وراحُوا بُدوراً يستحِثّون أنْجُمَا
تكرّمْتَ مِنْ قَبْلِ الكؤوس عليهِمُ . . . فما اسْطَعْنَ أن يُحْدِثْنَ فيك تكرما
وقال آخر : البسيط :
حيَّتْك عنا شمال طافَ طائِفُهَا . . . بجنَّةٍ فجرتْ راحاً ورَيْحَانَا
هبتْ سُحَيراً فناجَى الغُصْنُ صاحبَه . . . سِرًّا بها وتداعَى الطيرُ إعلانا
وُرْقٌ تَغنّى على خُضرٍ مُهَدَّلةٍ . . . تَسْمُو بها وتَمسُ الأرضَ أحيانا
تخالُ طائرَها نَشوانَ من طَرَبٍ . . . والغُصْنَ من هزِّةِ عِطْفَيْهِ نَشْوانَا
ولابن المعتز في أرجوزته البستانية التي ذم فيها الصبّوح صفة جامعة ، إذا قال رجز :
أمَا ترى البُسْتان كيف نَوَّرا . . . ونَشَّر المنثور بُرْداً أصْفَرا
وضحَكَ الوردَ إلى الشقائق . . . واعتنَقَ الورد اعتناق الوامقِ
في رَوْضَةٍ كحلية العروسِ . . . وخُدَم كهامةِ الطاووسِ
وياسمين في ذُرَى الأغصان . . . منظم كقِطَع العِقْيَانِ
والسرْو مثل قَصبِ الزَّبَرْجد . . . قد استمد الماءَ من تُربٍ نَدِ
على رياضٍ وثرًى نَدِيَ . . . وجَدْوَلٍ كالبَرَد الحليَ
وفَرَّج الخشْخَاش جَيْبْاً وفَتَقْ . . . كأنَه مصاحِفٌ بيضُ الوَرَقْ
أو مثل أقداح مِن البلّورِ . . . تخَالها تجسمت مِن نورِوبَعْضه عُريانُ من أثوابه . . . قد خَجل اليابس من أصحابِه
تُبْصِره عند انتشار الوردِ . . . مثل الدبابيس بأيدي الجند
والسَّوْسَن الآزار مَنشور الحُلَل . . . كقطنٍ قد مسه بعض بَلل
نوَرَ في حاشيتي بُسَتانه . . . ودَخل الميدان في ضَمانه وقد بدت فيه ثمار الكنكرِ . . . كأنها جَماجِم من عنَبر
وحلَّق البهارُ بيْنَ الآسِ . . . جمجمَة كهامَةِ الشّمَّاسِ
خلال شيح مثل شيب النَّصفِ . . . وجوهرٍ مِن زهَرٍ مختَلفِ
وجُلَنار كاحْمِرارِ الوردِ . . . أو مثل أعراف ديوك الهند
والأقحوان كالثنايا الغُرِّ . . . قد صُقَلَت أنواره بالقطر
وقال أبو الفتح كشاجم : الوافر :
ورَوْضٍ عن صَنِيع الغيثِ رَاضٍ . . . كما رَضِيَ الصَّدِيقُ عن الصديقِ
إذا ما القَطْرُ أسْعَدَه صبُوحاً . . . أتمّ نه الصنيعةَ في الغَبوق
يُعِير الرِّيحَ بالنَفَحاتِ رِيحاً . . . كأنَّ ثَرَاه مِن مِسك فتِيقِ
كأنَّ الطَّلَّ مُنتشِراً عليه . . . بقايا الدَمع في خدّ مَشوق
كأنَّ غصونَه سُقيتْ رَحِيقا . . . فمالَت مِثْلً شُرَّاب الرَّحِيق
كأنَّ شقائقَ النعمانِ فيه . . . مُحَضَرة شقَائقُ مِن عَقِيق
يُذَكّرُني بَنَفْسَجُه بَقَايا . . . صنيعِ اللَّطمِ في الخدَ الرَقيقِ
وقال : الرجز :
غَيْثٌ أتَانا مُؤْذِناً بالْخَفْضِ . . . متصِل الوَبلِ سَرِيعَ الرَكضِ
دَنا فخِلْنَاه دُوَين الأرضِ . . . مُتَصِلاً بطوله والعَرْض
إلفاً إلى إلْف بِسِرٍّ يُفْضِي . . . ثم سَما كاللؤلؤ المرْفَضِ
فالأرضُ تُجْلَى بالنباتِ الغَضِّ . . . في حَلْيِهَا المُحْمَرِّ والمبيَضَ
مِنْ سَوْسَنٍ أحوَى وورَد غَض . . . مِثْلَ الخدودِ نُقِّشَت بالعَضِّ
وأقْحوانٍ كاللّجَيْنِ الْمَحْضِ . . . ونرَجِس ذاكي النسيمِ بض
مثل العيون رَنَّقَتْ للغَمْضِ . . . ترنُو فَيَغْشَاها الكَرَى فتُغضيجملة من هذا النوع لأهل العصر
قال أبو فراس الحمداني : مجزوء الرجز أو مجزوء السريع :
وجُلَّنارٍ مُشْرق . . . عَلَى أعالي شَجرهْ
كأنّ في رؤُوسِه . . . أحمَرَهُ وأصفَرهْ
قُرَاضة من ذَهب . . . في خرْقَةٍ مُعَصْفَرهْ
وقال : الطويل :
ويوم جلاَ فيه الربيعُ رياضَهُ . . . بأَنْواع حَلي فوق أثْوَابِه الْخُضْرِ
كأن ذُيولَ الجُلّنار مُطِلَةً . . . فضول ذيولِ الغانياتِ من الأُزْرِ
وقال أبو القاسم بن هانئ ، يصف زهرة رمان قطفت قبل عَقْدِها : الرجز :
وبنت أيْكٍ كالشباب النَّضْرِ . . . كأنها بين الغصُونِ الخُضْرِ
جَنانُ بازٍ أو جَنَان صَقْرِ . . . قد خفَّفَتْه لقْوة بوَكْر
كأنما سحَّت دَماً منْ نَحْرِ . . . أو نَبَتَتْ في ترْبةٍ من جمرِ
أو سُقيَتْ بجَذوَلٍ من خَمْر . . . لو كف عنها الدهرُ صرْفَ الدَّهْرِ
جاءت كمثل النَهد فوق الصدْرِ . . . تَفْتَرُّ عن مِثْلِ اللثاث الْحُمْرِ
في مثل طعْمِ الوصْلِ بعد الهَجْرِ
ولهم في هذا المعنى
روضة رفَتْ حَوَاشيها ، وتأنق واشيها . روضة كالعقود المنظّمة ، على البرود المنَمنَمَة . روضة قد رَاضتها كف المطر ، ودبجَتْهَا أيدي الندى . أخرجتِ الأرضُأسرارَها ، وأظهرَتْ يدُ الغيثِ آثارها ، وأبدت الرياضُ أزهارها . الرياض كالعرائس في حَليها وزَخَارِفها ، والقيان في وَشْيهِا ومَطَارِفها ، باسطة زَرابتها وأنماطها ، ناشرة حِبَراتها ورِيَاطَها ، زَاهية بحَمْرَائها وصفرائها ، تائهة بعيدانها وغُدْرانها ، كأنما احتفلت لوَفْد ، أو هي من حبيب على وَعْد . روضة قد تَضوَعَت بالأَرَج الطيبِ أرجاؤها ، وتبًرجَت في ظلَلِ الغمام صحراؤها ، وتنافَجَتْ بنوافَجِ المِسكِ أنوارُها ، وتعارضت بغرائب النطْقِ أطيارُها . بستان رقَّ نورُه النضيد ، وراق عودُه النضير . بستان عودُه خضر ، ونوره نَضِر ، ويُنْعه خَضِك ، وماؤه خَصِر . بستْانٌ أرْضُه للبقل والريحان ، وسماؤه للنخل والرمان . بستان أنهارُه مفروزة بالأزهار ، وأشجارُه مُوقَرَةٌ بالثمار . أشجارٌ كأن الحورَ أعارَتْها قُدُودَها ، وكسَتْها بُرودَها ، وحلّتها عقودها . الربيعُ شبابُ الزمانِ ، ومقدمة الورد والريحان . زمَنُ الوردِ مَرْموق ، كأنه من الجنَةِ مسروق . قد ورد كتاب الورد ، بإقباله إلى أهل الوُدّ ، إذا وَرَدَ الوَرْد ، صدَرَ البرد . مرحباً بإشراف الزهر ، في أطراف الدهر ، وأنشد : الطويل :
سقى اللَهُ وَرْداً صَار خَدَّ رَبِيعنا . . . فقد كان قبل اليوم ليس له خَدُ
كأن عَيْنَ النرجس عيْن ، ووَرَقه وَرِق ، النرجس نزهَة الطَرْف ، وظَرْفُ الظَّرف ، وغذاء الروح ، شقائقُ كتيجان العقيق على رؤوسِ الزنوج ، كأنها أصْداغُ المسك على الوجَنَاتِ المورّدة . شقائق كالزنوج تجارحت وسالت دِماؤُهَا ، وضَعُفَت فسال دَماؤُها . كأن الشقيقَ جامٌ من عقيق أحمر ، مُلِئَتْ قرارَتُه بمسك أذْفَر . الأرض زمردة ، والأشجار وشْي ، والماء سيوف ، والطيور قيَمانٌ . قد غردت خطباءُ الأطيار ، على منابر الأنوار والأزهار . إذا صدح الْحَمامُ ، صدع الحِمام قَلْبَ المسْتَهام . انظر إلى طَرَبِ الأشجارِ لغِنَاءِ الأطيار . ليس للبلابِل كغناء البلابل ، وَخَمْر بابل .
ولهم فيما يتعلّق بهذا النحو في وصف أيام الربيع
يوم سماؤُه فَاختيّة ، وأرضه طاوُسيّة . يومٌ جَلاَبِيبُ غيومِه رواق ، وأردِيَة نسيمهرِقَاق . يوم مُمَسكُ السماء ، مُعَصفَرُ الهواء ، مُعَنْبَر الرَّوْضِ ، مُصَنْدَل الماء . يوم زرَّ عليه جَيب الضَبَاب ، وانسحب فيه ذَيلُ السحاب . يوم سماؤه كالخز الأَدْكَن ، وأَرْضُه كالديباج الأَخْضَرِ : الخفيف :
شادنٌ يَرْتَعي القلوب ببغدا . . . دَ ولا يرْتَعي الكلا بالنباجِ
أقبَلت والربيعُ يختالُ في الرَّوْ . . . ض وفي المزن ذِي الحيَا الثًجَّاجِ
ذو سماءً كأدْكَنِ الخزِّ قد غي . . . مَتْ وأرضٍ كأخْضَرِ الديباجِ
فتجلَّى عن كلّ ما يتمنّى . . . موعد الكَدخداةِ والهيلاجِ
فظللنا في نُزهَتين وفي حُسْ . . . نين بين الأرْمَالِ والأهْزاج
بفَتَاةٍ تسرُّنا في المَثَاني . . . وعَجُوزٍ تَسُرُّنا في الزُجاج
أخذَت من رؤوسِ قومٍ كرامٍ . . . ثارَها عند أَرْجُل الأعلاج
يوم حَسَن الشمائل ، مُمتِع المخايل ، سَجسَجُ الهواء ، مونق الأرجاءِ . يوم تَبَسم عنه الربيعُ ، وتبرَّجَ عنه الروض المريع . يوم كأنَّ سماءَه مأتم تتباكى ، وأَرضه عَرُوس تتجلَّى . يوم مشهّر الأوْصاف ، أغرّ الأطراف . يوم يُغْفِي فيه النَّوْر ويَنتبِه ، وتُسفِر فيه الشمس وتَنْتَقِب ، وتَعْتَنِقُ الغصون وتَفْترق ، ويوشي الغيم وينسكب . يوم غاب نَحسُه وهَوَى ، وطلع سَعدُه واعتلى ، والزمان ساقطة جماره ، مُفْعَمَةٌ أنهاره ، مُونِقَة أشجارُه ، مغرّدة أطيارُه . نحن في غبِّ سماءً ، قد أقلعت بعد الارتِوَاء ، وأقشعت عند الاستغناء ، فالنبتُ خَضِلٌ ممطور ، والنَّقعُ ساكن محصور . يوم جوُه طَاروِنيّ ، وأَرْضه طاوسِيَ . يوم دَجْنُه عاكف ، وقَطْرُهُ وَاكِف . يومٌ من أعياد العُمر ، وأَعْيانِ الدَهْرِ .
ولهم في تشبيه محاسن الربيع بمحاسن الإخوان والسادة : غَيْث مشبِّه بكَفِّك ، واعتدالُه مُضَاهٍ لخُلقك ، وزَهْرُه مُوازٍ لنَشرِك ، كأنما استعار حلَله من شيمتك ، وحَلْيَه من سجيَّتِك ، واقتبس أنوارَه من محاسن أيامك ، وأمطارَه من جُودك وإنعامِك . قدم الربيع مُنتسِباً إلى خلقك ، مُكْتَسِياً محاسِنَه من طَبْعك ، متوشّحاً بأنوار لَفْظِك ، متوضَحاً بآثار لسانِك ويَدِك . أنا في بُستان أذْكَرَني وَرْدُه المفتح بخلقك ،وجَذوَله السابح بطَبعك ، وزَهرُه الجَنِيُ بقربك . أنا في بستان كأنَّه من شمائلك سرق ، ومن خُلُقك خلِق ، وقد قابلتني أشجارّ تَتَمايل فتذكرني تَبريح الأحباب ، إذا تداولتهم أيدِيَ الشراب ، وأنهار كأنَّها من يدك تَسيل ، ومن راحتيك تَفِيض . أنا على حافةِ حَوض أزرق كصفاء مودَتي لك ، ورِقَّة قولي في عَتَبِك .
وقال ابن عون الكاتب : الخفيف :
جاءنا الصومُ في الربيع فهَلا اخ . . . تار ربعا من سائر الأرباعِ
وكأن الربيعَ في الصوم عِقد . . . فوق نخر غطاه فَضل قناَع
وكتب أبو الفتح كشاجم إلى بعض إخوانه يستدعيه إلى زيارته في يوم شك : مجزوء الكامل :
هو يوم شَك يا عل . . . ي وبِشرة مذ كان يحذَر
والجوُّ خَلّته ممس . . . كة ومطرَفه معنبر
والماء فضَيّ القَمِي . . . يص وطَيلَسانُ الأرضِ أخضر
نَبتٌ يصَعد زَهرُة . . . في الروضِ قَطرَ ندى تَحَدَّر
ولنا فضَيلات تكو . . . ن ليومنا قوتاً مُقَدّر
ومدامةٌ صفراء أَد . . . ركَ عُمرَها كِسْرَى وقيصر
فانشَط لنا لِنَحث مِن . . . كاسَاتِنا ما كان أكبَرْ
أو لاَ فإنكَ جاهلٌ . . . إن قلت إنّك سوف تعْذَر
وكتب بديع الزمان إلى بعض أهل هَمَذان : كتابي - أطال اللّه بقاك - عن شهر رمضان ، عرَفنا اللَهُ بركةَ مَقْدَمِه ، ويمْنَ مُختَتَمِه ، وخصك بتقصير أيامِه ، وإتمامِ صيامِه وقيامِه ؛ فهو - وإن عَظمَتْ بركَتُه - ثقيلٌ حركته ، وإن جل قَدْرُه بعيد قَعره ، وإن عمت رأفته ، طويل مسافته ، وإن حسنت قّربته ، شديد صحبتُه ، وإن كبرت حرمته كثير حشمته . وإن سرّنا مُبْتداه فلن يسوءنا منتهاه فإن حَسن وجْهُه فليس يَقبَح قَفَاه ، وما أحْسَنَه في القَذَال ، وأشبَه إدبَارَه بالإقبال ، جعل اللَهُ قدومَه سببَ ترْحاله ، وبَدْرَه فِداءَ هلاله ، وأمدَّ فَلكه تحريكاً ، بتقضي مُدَّتِه وَشِيكاً ، وأظْهَر هلالَه نحيفاً ، ليزِفَ إلى اللذاتِ زفيفاً ، وعفا اللَهُ عن مَزح يكرهه ، ومُجونٍ يُسْخِطُه .عوّل البديع في هذا الكلام على قول أبي الفضل بن العميد في رسالة له في مثل ذلك : أسأَل الله أن يعَرِّفَني بركته ، ويلقيني الخيرَ في باقي أيامه وخاتمته ؛ وأًرغب إليه في أن يقربَ على الفَلَكِ دوره ، ويقصَره سَيرَه ، ويخَفَف حَرَكته ، ويعجل نَهضَته ، ويَنقص مسافةَ فلكَه ودَائِرتِه ، ويزيل بركةَ الطولِ عن ساعاته ، ويردً عليّ غُرًةَ شوال ، فهي أسنَى الغرَرِ عندي ، وأقرُها لعَيني ؛ ويطلِعَ بَدرَه ، ويريني الأيدِي متطلبة هِلاله ببشر ، ويسمعني النعيَ لشهر رمضان ، ويعرض عليّ هلاله أَخفَى من السحرِ ، وأَظلَم من الكُفر ، وأَنحَف من مجنونِ بني عامر ، وأَبلَى من أسير الهَجرِ ، وأستغفر الله جل وجهه مما قلت إن كَرِهه ، وأستَعفيه من توفيقي لما يذمُه ، وأسأله صفحاً يُفِيضه ، وعَفواً يوسِعه ، إنه يعلم خَائِنَةَ الأعين وما تخفِي الصدور .
من أخبار المأمون والأمين
قال المأمون لطاهر بن الحسين : صِف لي أخلاقَ المخلوع . قال : كان واسَع الصدرِ ، ضَيق الأدَب ، يبيح من نفسه ما تَأنَفه هِمم الأحرار ، ولا يُصْغِي إلى نصيحة ، ولا يقبل مَشورة ، يستبدُ برأيه ، ويبَصَر سوءَ عاقبتِه ، فلا يَردَعُه ذلك عما يَهمُ به . قال : فكيف كانت حروبُه ؟ قال : كان يجمعُ الكتائب بالتبذير ، ويفرَقُها بسوء التدبير . فقال المأمون : لذلك حلّ ما حل به ؛ أمَا والله لو ذاق لذاتِ النصائح ، واختار مَشُوراتِ الرجال ، وملَك نَفسَه عن شهواتها ، لما ظفرَ به .
ولما عقد الرشيدُ البيعةَ للأمين وهو أصغرُ من المأمون لأجل أمَه زُبَيْدة ، وكلامِ أخيها عيسى بن جعفر ، وقدمه على المأمون ، جعل يرى فَضلَ عقله فيندَم على ذلك ، فقال : الطويل : لقد بان وجهُ الرَّأي لي غَيْرَ أنَّني . . . غُلِبْتُ على الأَمْرِ الذي كان أحزَما
فكيف يُرَدّ الدرَ في الضَرعِ بعدما . . . تَوزَع حتى صار نَهْباً مقَسما
أخافُ الْتِوَاءَ الأمرِ بعد استوائهِ . . . وأنْ يُنْقَضَ الحبْلُ الذي كان أُبرِما
قال أسد بن يزيد بن مزيد : بعث إليَّ الفضلُ بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن الأنباري ، قال : فأتيتُه وهو في صَحْن داره ، وفي يده رُقْعة قد غضِب لما نظر فيها ، وهو يقول : ينامُ نَوْمَ الظَّرِبَان ، وينتبه انتباهَ الذئب ، هِمَتُه بَطنُه ، ولذته فَرْجُه ، لا يفكر فيزوال نعمة ، ولا يتروى في إمضاء رأي ولا مكيدة ، قد شمر له عبدُ اللَه عن ساقِه ، وفوَّق له أسد سهامِه ، يرميه على بعدِ الدار بالحَتفِ النافذ والموت القاصد ، قد عبى له المنايا على متونِ الخيل ، وناطَ له البَلاَءَ في أسِنة الرماح وشِفار السيوف ، ثم تمثّل بشعر البَعيث : الطويل :
يقَارع أتراك ابن خاقانَ ليله . . . إلى أن يرى الإصبَاح لا يتلعثمَ
فيصبح في طول الطراد وجِسمه . . . نحيل ، وأضحِي في النعيم أصمم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد . . . أمية في الرزق الذي الله يقسم
ثم قال : يا أبا الحارث ، أنا وأنت نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذمِمنا ، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا ، وإنما نحن شعبة من أصلِ ، إن قَوِي قوينا ، وإن ضَعُفَ ضعفنا ؛ إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاءَ الأمة الوَكفَاء : يشاور النساء ، ويعتمد على الرؤيا ، وقد أمكَن أهل اللهو والخسَارة مِن سَمعِه ؛ فهم يُمَنُّونه الظَّفَر ، ويَعِدُونَه عواقب الأيام ؛ والهلاك إليه أسرع من السيل إلى قِيعانِ الرملِ ؛ وقد خشِيتُ أن نَهْلِكَ بهلاكه ، ونعطَب بعَطَبِه ، وأنت فارس العرب وابنَ فارسها ، وقد فزع إليك في لقاءِ طاهر لأمرين ؛ أحددهما صِدْقُ طاعتك ، وفَضل نصيحتك ؛ والثاني يُمْن نَقِيبتك ، وشِدَة بأسك ؛ وقد أمرني أن أبسطَ يدك ، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ، ومفتاح البركة ؛ فبادِر ما تريد ، وعَجل النهضة ، فإني أرجو أن يولّيك اللَه شَرف هذا الفَتح ، ويلم بك شَعثَ الخلافة .
فقلت له : أنا لطاعتك وطاعة أمير المؤمنين مقدِم ، ولما وَهَن عدو كما مُؤثر ؛ غير أن المحارِب لا يفتَتِح أمره بتقصير ، وإنما مِلاَكُ أمرِه الجنود ، والجنود لا تكون بلا مال ، وقد رفع أمير المؤمنين الرغائبَ إلى قوم لم يجْدُوا عليه ، ومتى سمت مَن أقدر به الانتفاع له بالرضا بدون ما أخذ غيرُه ممن لم يكن عنده غناء ولا مَعونة ، لم ينتظم بذلك التدبير ، وأحتاج لأصحابي رِزق سنة قَبضاً ، وحملا إلى ألفِ فرس لحمل من لا أرتَضِي فرسه ، وإلى مال أستظهر به ، لا أُلاَم على وَضعِه حيث رَأَيت . فقال : شاوِر أمير المؤمنين ؛ فأدخلني عليه ، فلم تَدرْ بيني وبينه كلمتان حتى أمر بحبسِي .
ويروى أن الأمين لما أَعيَتْه مكايدُ طاهر قال : الوافر :
بُليت بأَشْجَعِ الثقلين نَفْساً . . . تَزُول الراسياتُ وما يزولُ
له مع كل ذي بدن رقيبٌ . . . يشاهده ويَعْلَمُ ما يقول
فليس بمغفِل أمراً عَنَاهُ . . . إذا ما الأمْرُ ضيًعَه الجهولُوفي الفضل بن الربيع يقول بعض الشعراء : البسيط :
كم مِن مقيمٍ ببغداد على طَمَعٍ . . . لولا رجاءَ أبي العباس لم يقم
البدر إن نفروا ، والبحر إن رَغِبوا . . . والحِصن إن رهبوا ، والسيف ذو النقم
وقال عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع : ما مدحنا شاعر بشعر أحب إلينا من قول أبي نواس : الكامل :
ساد الملوكَ ثلاثة ما منهمُ . . . إن حصَلوا إلا أعز قرِيع
ساد الربيع وسادَ فَضل بعده . . . وعلت بعبّاس الكريم فروع
عباس عباسٌ إذا احتدم الوَغَى . . . والفَضْل فضلٌ والربيع ربيع
وقيل للعتابي : أمدحت أحداً ؟ قال : لا ، وليس لي على ذلك قدرة ، فقيل له : فقد مدحتَ الربيع ، فقال : ذلك ليوم يستحقّ فيه المدح ، فقلت : الطويل :
ومعضلةٍ قام الربيع إزاءَها . . . ليَعْمِد ركن الدين لما تَهدَّما
بمكَة والمنصور رهن كما أتى . . . أخا الوحي داعي رَبّه فتقدَمَا غداةَ عداةُ الدين شاحذةُ المدى . . . إليه وغُولُ الحربِ فاغرةٌ فَمَا
مبايعة المهدي
وكان المنصور قد توفَي بمكة وهو حاجٌ في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة ، فأخذ الربيع للمهدي البيعة على الناس ، وأخذ بتجديدها عن المنصور على أنه حي ، وأدخل إليه قوماً فرأوْه من بعيد وقد جلّله بثوب ، وأقعد إلى جنبه من يحرك يده وكأنه يومئ بها إليهم ، فلم يشكوا في حياته ؛ فما خالف أحد ؛ فشكره المهدي لذلك ، وفي ذلك يقول أبو نواس في مدحه الفضل بن الربيع : مجزوء الرجز :
أبوك جلى عَن مضَر . . . يوم الرواقِ المحتضرْ
والحرب تَفرِي وتَذَر . . . لمّا رأى الأمر اقمَطَر
قامَ كريما فانتَصرْ . . . كَهِزةِ العَضْب الذكَرْما مس من شيء هَبَر . . . وأنت تَقتاف الأثر
من ذي خجولٍ وغرر
وقال أيضاً : مجزوء الكامل :
آلَ الربيع فَضلتم . . . فضل الخميس على العشرِ
من قاس غيركم بكمْ . . . قاس الثًماد إلى البحور
أين القليل بنو القلي . . . ل من الكثير بني الكَثير
أين النجوم التاليا . . . ت من الأهلَةِ والبدورِ
قوم كَفَوا أيام مك . . . ة نازلَ الخَطبِ الكبير
وتدارَكُوا نَصر الخلاَ . . . فة وهيَ شاسعه النّصير
لولا مقامهم بها . . . هوَتِ الرواسي من ثبِيرِ
ومن قول أبي نواس : من قاصر غيركم بكم . . . البيت ، أخذ أبو الطيب المتنبي : الطويل :
قواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غيرهِ . . . ومَن قَصَدَ البحرَ استقل السواقِيَا
فتَى ما سَرَينَا في ظهورِ خدودِنَا . . . إلى عَصْرِه إلا نُرَجِّي التَّلاقيَا
أفضل الأوقات لمخاطبة الملوك
وقال الفضل بن الربيع : من كلَمَ الملوكَ في الحاجاتَ فيِ غير وَقتِ الكلام لم يَظفر بحاجته ، وضاع كلامُه ، وما أشبههم في ذلك إلا بأوقات الصلوات لا تُقبَل الصلاة إلاّ فيها ، ومن أراد خطابَ الملوك في شيء فلْيَرْصد الوقت الذي يصلح في مثله ذِكرُ ما أراد ، ويسبّب له شيئاً من الأحاديث يحسن ذِكْرُه بعَقِبه .
وقال المأمون للفضل بن الربيع لما ظَفِر به : يا فضل ، أكان في حقي عليك ، وحقآبائي ونعمهم عند أبيك وعندك ، أن تَثلِبَني وتسبني ، وتحَرَضَ على دمي ؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلتَه بي ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن عذرِي يحقِدك إذا كان واضحاً جميلاً ، فكيف إذا حفَته العيوب ، وقبَّحَته الذنوب ؛ فلا يَضِيق عني من عَفوِك ما وسع غيري منك ، فأنت كما قال الشاعر فيك : الطويل :
صفوح عن الأجرام حتى كأنه . . . من العافر لم يعرِف من الناس مجرِما
وليس يَبالي أن يكَون به الأذَى . . . إذا ما الأذى لم يَغْش بالكُرهِ مُسلِمَا
والشعر للحسن بن رجاء بن أبي الضحاك .
من أخبار المنصور
قال سعيد بن مسلم بن قتيبة : دعا المنصور بالربيع ، فقال : سلني ما ترِيد ، فقد سكَتَ حتى نطقت ، وخفّفت حتى ثقلت ، وأقلَلتَ حتى أكْثَرْت .
فقال : والله - أمير المؤمنين ما أرهب بخلَكَ ؛ ولا أَسْتَقصِر عُمرك ، ولا أستصغر فضلك ، ولا أَغتَنِم مالك ؛ وإن يومي بفضلك عَلَيَ أحْسن من أمسي ، وغَدك في تأميلي أحسن من يومي ؛ ولو جاز أن يَشْكرَك مثلي بغير الخِدْمَةِ والمُنَاصَحَة لما سَبَقَني لذلك أحَد .
قال : صدقت ، عِلمي بهذا منك أحَلَّكَ هذا المحلّ ؛ فَسْلني ما شِئت ، قال : أسألُك أن تقرِّب عبدك الفَضل ، وتُؤثره وتحبّه .
قال : يا ربيع ، إنَّ الحب ليس بمال يُوهَب ، ولا رُتْبَة تُبْذَل ، وإنما تؤكّدُه الأسباب .
فال : فاجعل لي طريقاً إليه ، بالتفضل عليه .
قال : صدقت ، وقد وصَلْتُه بألف ألف درهم ، ولم أصل بها أحَداً غير عمومتي ، لتعلم مَالَه عنديَ ، فيكون منه ما يَسْتَدْعِي به محبتي ، ثم قال : فبكيف سألت له المحبة يا ربيع ؟ قال : لأنها مفتاحُ كل خير ، ومِغْلاَق كلّ شرّ ، تُسْتَر بها عندك عيوبُهُ ، وتَصِير حَسناتٍ ذنوبه .قال : صدقت وأتيت بما أردت في بابه .
أخذ قوله : خففت حتى ثقلت أبو تمام فقال لمحمد بن عبد الملك الزيات : الطويل : على أن إفراطَ الحياء استمالني . . . إليكَ ، ولم أعْدِل بعرضيَ مَعْدِلا
فثقّلت بالتخفيف عنك ، وبعضهم . . . يخففُ في الحاجات حتى يُثَقِّلاَ
من أخبار الرشيد
ودخل سهل بن هارون على الرشيد ، وهو يُضَاحِكُ المأمون ، فقال : اللهمّ زِدْهُ من الخيرات ، وابسُط له من البركاتِ ، حتى يكونَ في كل يوم من أيامه مُرْبِيا على أمْسِه ، مقَصَراً عن غده .
فقال له الرشيد : يا سَهْلُ ، من رَوَى من الشعر أحسَنه وأرصنه ، ومن الحديث أفصحَه وأوضَحه ، إذا رام آن يقولَ لم يُعْجزه القول .
فقال سهل بن هارون : يا أمير المؤمنين ، ما ظننت أن أحداً تقدّمني إلى هذا المعنى .
قال : بل أعْشى هَمْدَانَ حيث يقول : الوافر :
رأيتك أمْسِ خَيْرَ بني لؤيّ . . . وأنْتَ اليوم خيرٌ منك أمسِ
وأنْتَ غداً تزيد الخَيْرَ ضعْفاً . . . كذاك تزيد سادة عَبْدِ شمسِ
من نظم الفضل بن الربيع
ومن شعر الفضل بن الربيع ما أنشده الصولي : مجزوء الكامل :
إنّي امرؤٌ من هاشمٍ . . . بفنَاءً معْمُور النَوَاحِي
أهل الهدى وذَوِي التقَى . . . وأولي البَسَالة والسَّماحِ
أهل المعالم والمكا . . . رِم في المَسَاء وفي الصَّبَاحِ
أهل النبوةِ والخِلاَ . . . فَة والكمالِ برَغْم لاحِي
يتألّمُون من الصدُو . . . دِ ويَصْبِرُون على الجِرَاحمن أخبار أبي العيناء
حَمَلَ محمد بن عبيد الله بن خاقان أبا العيناء على دَابة زَعم أنها غَيْرُ فَارِه ، فكتب إليه : أعلم الوزير ، أعزه اللّه ، أن أبا علي محمداً أراد أن يَبَرَنِي فعقني ، وأن يُرْكِبني فأَرْجَلَني ، أمر لي بدابَّة تَقِفُ للنَّبْرَة ، وتَعْثُر بالبَعْرَة ، كالقضيب اليابس عَجَفاً ؛ وكالعاشق المهجور دَنَفاً ، قد أَذْكَرَتِ الرواة عذرة العذريِّ ، والمجنون العامري ، مساعد أعلاه لأسفله ، حُباقه مقرون بسُعَاله ، فلو أَمسَك لترجيت ، ولو أَفْرد لتعزَّيْت ، ولكنه يَجْمَعُهما في الطريق المعمور ، والمَجْلِس المشهور ، كأنه خطيبٌ مُرْشِد ، أو شاعر مُنشِد ، تَضْحَكُ من فِعْلِه النسوَان ، وتتناغى من أجله الصِّبيان ؛ فمن صائح يَصيحُ : دَاوِه بالطباشير ، ومن قائل يقول : نوّلْه الشعير ، قد حفِظَ الأشعار ، ورَوَى الأخبار ، ولحق العلماءَ في الأمْصار ، فلو أعِينَ بنطق ؛ لروى بحقّ وصدق ، عن جابر الجُعْفيّ ، وعامر الشّعبي ؛ وإنما أتيت من كاتبه الأعور ، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر ، وإن اختار لغيره أخْبَث وأنزر ؛ فإن رأى الوزير أن يُبدلَني به ، ويُرِيحني منه بمركوب يُضْحِكني كما ضحَّك مني ، يَمْحُو بحُسْنه وفَرَاهته ، ما سطَرَه العَيْبُ بقُبحه ودمامته ؛ ولست أذكرُ أمْرَ سَرْجِهِ ولجامه ؛ فإن الوزير أكرمُ من أن يَسْلب ما يهديه ، أو يَنْقُضَ ما يُمْضِيه .
فوجّه عبيد اللّه إليه برذونا من براذينه بِسَرْجه ولجامه ، ثم اجتمع مع محمد ابن عبيد الله عند أبيه ، فقال عبيد الله : شكوت دابة محمد ، وقد أخبرني الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار ، وما هذا ثمنه لا يُشتكى .
فقال : أعز الله الوزير ، لو لم كذب مستزيداً ، لم انصرف مستفيداً ، وإني وإيّاه لكما قالت امرأة العزيز . ' الآن حَصحَصَ الحق ، أنَا رَاوَدْتُه عن نَفْسِهِ وإنه لَمِنَ الصادقين ' . فضحك عبيدُ الله ، وقال : حجتك الداحضة بمَلاَحتك وظَرفك أبلغُ من حجة غيرك البالغة .قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابي عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صَبرة عن رقعة وردت منه في صفة حًمَل أهْدَاه
وصلت رُقْعَتك ، فَفَضَضْتها عن خَط مُشْرق ، ولفظ مُونق ، وعبارةٍ مُصيبة ، ومعاني غريبة ، واتساع في البلاغة يَعْجِزُ عنه عبدُ الحميد في كتابته ، وقُس وسَحْبَان في خطابته ؛ وتصرف بين جد أمْضى من القَدر ، وهَزْلٍ أرق من نسيم السحَر ، وتقلب في وجوه الخِطاب ، الجامع للصَّواب ؛ إلاَ أن الفعل قَصًرَ عن القول ، لأنك ذكرت حَملاً ، جعلته بصفتك جَمَلاً ، فكانَ المُعَيدِيَّ الذي تسمعُ به ولا أنْ تراه . وحضر فرأيت كَبْشاً مُتَقَادِمَ الميلاد ، من نِتَاج قَوْمِ عاد ، قد أَفْنتهُ الدهور ، وتَعاقَبَتْ عليه العصور ، فظننته أحَد الزَّوْجين اللذين جعلهما نوع في سفينته ، وحفظَ بهما جِنْسَ الغنم لذرِّيته ؛ صَغر عن الكبر ، ولَطُف عن القدم ، فبانَتْ دَمامتُه ، وتقاصرت قَامَتُه ، وعاد ناحلاً ضئيلاً ، بالياً هزيلاً ، باديَ السقام ، عاري العِظام ، جامعاً للمعايب ، مشتملاً على المثَالِب ، يَعْجَبُ العاقلُ من حلول الحياةِ به ، وتأتي الحركةِ فيه ؛ لأنه عَظْم مجلد ، وصوف مُلبد ، لا تجد فوق عظامه سلَبا ، ولا تَلْقَى يدك منه إلا خَشَبا ، لو ألقِيَ إلى السَّبع لأَباه ، ولو طرح للذئب لعافَه وقَلاه ، قد طال للكلإ فَقْدُه ، وبَعُدَ بالمَرعَى عَهْدُه ، لم ير الْقَت إلاَ نائماً ، ولا عرف الشعيرَ إلا حالماً ، وقد خيّرتني بين أن أَقْتَنيه فيكون فيه غِنَى الدهر ، أو أَذبحه فيكون فيه خصْب الرَحل ؛ فمِلتُ إلى استبقائه لما تعرف من محبتي من التوفير ، ورغبتي للتَّثْمير ، وجَمْعي للولد ، وادٌخاري لغًد ، فلم أجِد فيه مستمتعاً للبقاء ، ولا مَدْفعاً للفناء ؛ لأنه ليس بأنثى فتًحْمِل ، ولا بفتى فَينْسُل ، ولا بصحيح فَيرَعى ، ولا بسليم فيَبْقَى ؛ فملتُ إلى الثاني من رأييك ، وعولت على الآخر من قَوْلَيك ، وقلت : أذبحه فيكون وظيفة للعيال ، وأقيمه رطباً مقام قَديدِ الغَزال ، فأنشدني وقد أضرِمت النار ، وحُدت الشفار ، وشمَّر الجزّار : البسيط :
أعيذهَا نظراتِ مِنك صادِقَةً . . . أنْ تحْسِب الشحم فيمَن شَحمُه وَرَمُوقال : ما الفائدة لك في ذبحي ؟ وأنا لم يَبْقَ مني إلا نَفَس خافِتٌ ، ومُقْلةِّ إنسانها باهت : لستُ بذي لَحْم ، فأَصلح للأكل ؛ لأن الدهرَ قد أكل لحمي ، ولا جِلدي يصلح للدّباغ ، لأن الأيام قد مزقَتْ أديمي ، ولا لي صوف يصلُح للغزل ؛ لأن الحوادث قد حَصَّت وبَرِي ، فإن أردتني للوَقُود فكفُّ بعْرٍ أبقى من ناري ، ولن تَفي حرارةُ جمري بريح قتاري ، فلم يبق إلا أن تطلبني بذَحْل أو بيني وبينك دَم ، فوجدته صادقاً في مقالته ، ناصحاً في مَشُورته ، ولم أعلم من أي أمْرَيه أعجب ؛ أمِن مماطَلَته للدهر بالبقاء ، أم من صبره على الضّرِّ واللأواء ، أم من قدرتك عليه جمع إعواز مثله ، أم من تأهيلك الصديق به مع خَسَاسة قَدْره ؟ ويا ليت شعري إذ كنت - وإليك سوق الغنم ، وأمْرك يَنْفُذ في الضأن والمَعز ، وكلُّ كبش سمين وحَمل بطين مجلوب إليك ، مقصورٌ عليك - تقول فيه قولاً فله تُرَدّ ، وتريده فلا تُصد ، وكانت هديتك هذا الذي كأنه نَاشر من القبور ، أو قائم عند النفخ في الصور ، فما كنتً مُهْدِياً لو أنك رجل من عُرْض الكُتَّاب ، كأبي وأبي الخطّاب ، ما كنت تهدي إلاَّ كلْباً أجرب ، أو قرداً أحدَب .
من نظم الحمدوني
وقال الحمدوني في شاة سعيد بن أحمد بن خوسنداذ : الكامل :
أسعيدُ ، قد أعطيتني أُضحيةً . . . مكثَتْ زماناً عندكمْ ما تطعَم
نِضْواً تعاقرت الكِلابُ بها وقد . . . شدوا عليها كي تموت فيؤلمُوا
فإذا الملا ضَحِكوا بها قالت لهم : . . . لا تهزؤوا بي وارحموني ترْحَموا
مرت على عَلَف فقامت لم تَرِمْ . . . عنه ، وغنت والمدامعُ تسجم
وقف الهوى بي حيث أنْتِ فليس لي . . . متأخَّر عنه ولا مُتقَدموقال أيضاً : البسيط :
أبا سعيدٍ ، لنا في شاتِكَ العِبَرُ . . . جاءت وما إن لها بَوْل ولا بَعَرُ
وكيف تَبْعَرُ شاة عندكم مكَثَتْ . . . طَعامُها الأبيضانِ الشمسُ والقَمَر
لو أنها أبْصَرَتْ في نومها عَلَفاً . . . غَنَت له ودموعُ العين تَنْحَدرُ :
يا مَانعي لذةَ الدنيا بأجمعها . . . إني ليفتنني من وَجْهِك النظرُ
وقال أيضاً : المنسرح : شاةُ سعيدٍ في أمْرِها عِبَرُ . . . لمّا أتتنا قد مسًها الضررُ
وَهْيَ تغني من سوء حالتها . . . حَسْبي بما قد لقيت يا عمَرُ
مرت بقطف خضر ينشرها . . . قومٌ فظنَّتْ بأنها خُضُر
فأقبلَتْ نحوها لتأكْلها . . . حتى إذا ما تبينَ الخَبَرُ
وأبدلتها الظنونُ من طَمَعِ . . . يَأْسا تغنَّت والدَمْعُ مُنْحَدِرُ
كانوا بعيداً وكنت آمُلُهم . . . حتى إذا ما تقربوا هجروا
وقال : مجزوء الخفيف :
لسعيدٍ شُوَيْهَةٌ . . . سَلها الضُّر والعَجَفْ
قد تغنَتْ وأبصرتْ . . . رجلاً حاملاً عَلَفْ :
بأبي مَنْ بكَفِّه . . . بُرْءُ ما بي من الدَنَفْ
فأَتاها مطمِّعاً . . . وأتتْه لتَعْتَلِفْ
فتولَى فأقبلتْ . . . تتغنى من الأسَفْ :
ليتَه لم يكن وَقَفْ . . . عذب القلب وانْصَرفْ
قال : وإذ قد جَرَتْ بعضُ تضمينات الحمدوني في هذا الموضع فأَنا أَذكر هنا قطعةً من شعره في الطيلسان ، وأَنْعطف في غير هذا المرضع إليها وأكرٌ عليها ؛ وكان أحمد بنحَرْب المهلّبي من المُنْعِمين عليه ، والمحسنين إليه ، وله فيه مدائح كثيرة ، فوهب له طيلساناً أخْضَر لم يَرْضَه ، قال أبو العباس المبرد : فأنشدنا فيه عشر مقطعات ، فاستَحْلَينا مَذْهَبه فيها ، فجعلها فوق الخمسين ؛ فطارت كل مَطَار ، وسارت كل مَسَار ، فمنها : الخفيف :
يا ابْنَ حرب كَسَوْتَني طَيْلَساناً . . . مَلَّ من صُحبَة الزمان وصَدَا
فحسْبنا نَسْج العناكب قد حَا . . . لَ إلى ضعف طَيْلَسانِك سدَا
طال تَرْدادُه إلى الرَفْوِ حتى . . . لو بَعَثْنَاه وَحْدَه لَتَهَدَّى
وقال فيه أيضاً : البسيط :
يا طيلسانَ ابن حربٍ قد هَمَمْتَ بأنْ . . . تُودي بجسمي كما أَوْلَى بِكَ الزَّمَنُ
ما فيك مِنْ ملبس يغني ولا ثمن . . . قد أوْهَنَت حيلتي أركانُكَ الوُهنُ
فلو تَرَاني لَدَى الرَفَّاء مُرْتَبِطاً . . . كأنني في يَدَيْهِ الدهرَ مُرْتَهنُ
أقولُ حين رآني الناسُ أَلْزَمُهُ . . . كأنما ليَ في حانوته وَطَنُ
مَنْ كان يسأل عنّا أيْنَ منزلُنا . . . فالأقحوانة مِنَا منْزِلٌ قَمِنُ
وقال : مجزوء الكامل :
قل لابْنِ حَرْبٍ طيلسا . . . نُكَ قومُ نوع منه أحْدَثْ
أفْنَى القرونَ ولم يَزَلْ . . . عمَنْ مضى من قبلُ يُورَثْ
وإذا العيونُ لَحَظْنَهَ . . . فكأنه باللحْظِ يُحرَثْ
يُودِي إذا لم أرْفُهُ . . . فإذا رَفَوْتُ فليس يَلبَثْ
كالكلبِ إن تَحْمِل علي . . . ه الدَهْرَ أو تترُكْه يَلْهَثْوقال : الكامل :
قل لابن حرب طيلسانُكَ قد . . . أرْهَى قِوَايَ بكثرةِ الغُرمِ
مُتبين فيه لمُبصِرِه . . . آثارُ رَفْوِ أوائل الأُمم
وكأنه الخمرُ التي وصفَتْ . . . في يا شقيق الروح مِن حَكَمِ
فإذا رَمَمْناه فقيل لنا : . . . قد صَح ، قال له البلى : انْهَدِم
مثل السّقيم بَرَا فراجَعهُ . . . نكس فأسلَمه إلى سَقَم
أنشدت حين طَغى فأَعْجَزني . . . ومن العناء رِياضةُ الهرم
الخمر التي وُصفت من قول أبي نواس : المديد :
يا شقيقَ النفسِ من حَكَمِ . . . نِمْتَ عن لَيْلى ولم أَنم
فاسْقني البِحرَ التي اعْتَجَرت . . . بِخِمار الشيْبِ فيْ الرَّحمِ
ثُمَّتَ انْصَاتَ الشباب لها . . . بعد أن جازتْ مدى الهَرَمِ
فَهْي لليوم الذي بُزِلَتْ . . . وهي تِلْو الدَّهْر في القِدَم
عُتِّقَتْ حتى لو اتّصلتْ . . . بسلانٍ ناطق وفَم
لاحْتبتْ في القوم مًاثلةَ . . . ثم قصتْ قِصَةَ الأمَمِ فَرَعَتْها بالمزاج يَد . . . خُلِقت للكاس والقَلَمِ
وقال الحمدوني : الرمل :
طيلْسان لابن حرب جاءني . . . خلْعَةً في يوم نَحس مستمرفإذا ما صِحْتُ فيه صَيْحَةً . . . تركته كهشيم المحتظر
وإذا ما الريح هبتْ نحوهُ . . . طيَرَتْه كالجرادِ المنتشِرْ
مُهْطِعُ الدَاعي إلى الرّافي إذا . . . ما رآه قال : ذا شيء نكرْ
وإذا رفَاؤه حاوَلَ أن . . . يتلافاه تَعَاطى فعَقَرْ
وقال : المتقارب :
أيا طيلسانيَ أعْيَيْتَ طبّي . . . أسُل بجسْمِكَ أم داءُ حبِّ ؟
ويا ريحُ صَيرْتني أتقيكِ . . . وقد كنتُ لا أتقي أن تَهبّي
ومستخبرٍ خَبَر الطيلسان . . . فقلت له الروح من أمْرِ ربي
وقال فيه : الرمل :
طَيْلَسانٌ لابن حربٍ جاءني . . . قد قَضَى التمزيقُ منه وَطَرَهْ
أنا من خوفٍ عليه أبداً . . . سامِري ليس يَأْلُوه حَذَرَهْ
يا ابنَ حرب خذه أو فابعَث بما . . . نشتري عِجْلاً بصفرٍ عشرَهْ
فلعل اللهَ يُحْييه لنا . . . إن ضربناه ببعض البَقَرَهْ
فهو قد أدرك نوحاً ، فعسى . . . عنده من عِلم نوح خَبَرَهْ
أبداً يَقْرَأ من أَبصَرَهُ . . . أإذا كنا عِظاماً نَخِرَه
وقال فيه : الخفيف :
يا ابنَ حرب أطَلتَ فَقرِي برَفوي . . . طيلساناً قد كنتُ عنه غَنِيّا
فَهوَ في الرفو آل فرْعَوْنَ في العَر . . . ضِ على النار غُدْرةً وعَشِيا
زُرْت فيه معاشراً فازدَرَوني . . . فتغنيتُ إذا رأوني زَرِيا :
جِئتُ في زِي سائل كي أراكم . . . وعلى الباب قد وَقَفْتُ مَلِيِّاوقال فيه : الوافر :
وهبتَ لنا ابنَ حربِ طَيْلساناً . . . يَزيدُ المرءَ ذا الضعَةِ اتِّضَاعَا
يُسَلمُ صاحبي فيعيد شَتْمِي . . . لأن الروحَ يَكْسِبُه انصداعا
أُجِيل الطَرْفَ في طَرَفَيْهِ طُولاً . . . وعَرضاً ما أَرى إلا رِقَاعا
فلستُ أشكّ أَنْ قد كان قِدْماً . . . لنُوح في سفينته شِرَاعا
فقد غنَيتُ إذ أبصرْتُ منهُ . . . جوانبه على بَدني تَدَاعَى :
قِفي قَبلَ التفَرُّقِ يا ضُبَاعَا . . . ولا يَكُ مَوقِف مِنكِ الوَداعَا
من أخبار المأمون
دخل المأمون بعضَ الدواوين ، فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم ، فقال : من أنت يا غلام ؟ فقال : أنا يا أمير المؤمنين الناشئُ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمل لخدمتك ، خادِمكَ وابنُ خادمِك الحسنُ بن رجاء . فقال : أحسنت يا غلام ، وبالإحسان في البديهة تَفَاضَلت العقُول . فأمر أن يرفع عن مرتبة الديوان .
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج : قال لي أبو العباس المبرد : ما رأيتُ في أصحاب السلطان مثل إسماعيل والحسن ؛ كنت إذا رأيته رأيت رجلاً كأنما خُلق لذروَة مِنُبر ، أو صَدرٍ مجلس ، يتكلم وكأنه يتنفس ، يُسهِبُ ويُطْنِب ، ويعرِبُ ويغرِب ، ولا يعجب ويعجِب .
أراد القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد ، والحسن ابن رجاء بن أبي الضحاك .
من أخبار المبرد
وكان أبو العباس يُعَد في البلغاء ، وقال : لما دخلت على المتوكل اختار لي الفَتحُ بن خاقان وقْتَ شربه ، وكافي الشراب قد أخذ منه ، فسألني وقال : يا بصري ، أرأيت أحسنَوجهاً مني ؟ فقلت : لا والله ولا أسْمَح راحةَ ، ثم تجاسرت فقلت : الوافر :
جَهَرْتُ بحَلْفَة لا أتَّقيها . . . بشكٍ في اليمين ولا ارتياب
بأنك أحسنُ الخلفاء وَجْهاً . . . وأَسْمَحُ راحتين ، ولا أحابي
وأنَ مُطِيعك الأعلى مَحَلاَ . . . ومَنْ عاصاك يهوى في تبَابِ
فقال : أحسنت وأجملت في حُسن طبعك وبديهتك ، فقلت : ما ظننتُني أبلغُ هذا الشرف ، ولا أنال هذه الرتبة ؛ فلا زال أميرُ المؤمنين يسمو بخَدمه إلى أعْلى المراتب ، ويُصَرفهم في المذاهب . وكان ابنُ المعتز قد غضبَ على بعض وكلائه ، فصار إلى أبي العباس المبرد يسأله أن يكلمه له ؛ فكتب إليه المبرد : أَنْتَ والله كما قال مسلم بن الوليد في جدك الرشيد : الكامل :
بأبي وأُمي أنْتَ ما أنْدَى يَداً . . . وأبر ميثاقاً ، وما أَزْكاكا
يَغْدُو عدوُك خائفاً ، فإذا رأى . . . أن قد قدرت على العِقَاب رَجَاكا
وهذا معنًى كثير .
في المدح
أنشد أحمد بن يحيى ثعلب الأعرابي : الطويل :
كريم يغض الطرْفَ فَضلَ حَيائه . . . ويدْنُو وأطرافُ الرماحِ دَوَاني
وكالسيفِ إن لم يَنْته لاَنَ متْنه . . . وحَدَّاه إنْ خاشَنتهُ خَشِنَان
وهذا يناسب قول ابن المعتز في بعض جهاته :
وَيجْرَحُ أحشائي بعَيْنٍ مريضة . . . كما لان مَتن السيفِ والحدُّ قاطِعُ
وقال الأخطل في بني مروان : البسيط :
صُمٌ عن الجَهل ، عن قيل الخنا أنف . . . إذا ألمَّتْ بهم مكروهة صَبَرُواشُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتَقَادَ لهمْ . . . وأعْظَمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا
وفال إبراهيم بن عليّ بن هَرْمَة يمدح أبا جعفر المنصور : الطويل :
كريم له وَجْهَان ، وَجْهٌ لدى الرضا . . . طليقٌ ، وَوَجْهٌ في الكريهة باسِل
وليس بمُعْطي الحقّ من غَيْرِ قدرَةٍ . . . ويَعْفو إذا ما أمْكَنتهُ المَقَاتِلُ
له لحظات من حِفافي سريره . . . إذا كرَها فيها عِقَاب ونَائِلُ
فأمّ الذي أمنْتَ آمِنَةُ الرَدى . . . وأم الذي حاولت بالثكْل ثَاكِلُ
وقال الطائي في أبي سعيد محمد بن يوسف : الطويل :
هو السيلُ إن واجَهْتَه انْقَدْتَ طَوْعَهُ . . . وتقتادُهُ من جَانِبَيْهِ فيتبعُ
وكان عصابة الجرجاني ، واسمه إسماعيل بن محمد ، منقطعاً إلى الحسن بن رجاء متصلاً به ، وهو القائل فيه : الكامل :
ومحجَّبٍ بالنور ليس بمدرَكٍ . . . إلا بما تَأتِي به الأنْبَاءُ
ملك يُحِب الله فهو يحِبُّهُ . . . ويُطيعُه فتطيعُه الأشْيَاءُ
يمشي الهُوَيْنَا للصلاةِ يُقِيمُها . . . وإذا مشى للحَرْب فالُخَيلاءُ
لله درك أيما ابنِ عزيمةٍ . . . يشوي الزمان وما لَهُ إشْوَاءُ
ثم عتب عليه في بَغضِ الأمر ، فهجاه هجاءً قبيحاً ؛ فهرب إلى عمان ، ثم اعتذر إليه بقصيدته التي أولها : الكامل :
لا تخضبَن عَوَالي المُرانِ . . . إلا من العَلَق النجِيع الآنِ
وهي أجود شعر قيل في معناه ، وهي التي يقول فيها :
اِقْرِ السلام على الأمير ، وقل له : . . . إنّ المنادمةَ الرضاعُ الثَّاني
ما إنْ أتى حَشَمِي بأنك سَاخط . . . حتى استخف بمَوضِعي غِلمَاني
وغَدت علي مطاعمي ومَشَاربي . . . وملابسي من أعوَنِ الأعْوَانِفكتب إليه الحسن : الكامل :
أبْلغْ أبا إسحاقَ أنّ محلّه . . . مني بحيث الرأسُ والعينانِ
لا تبعدن بك الديارُ لِنَزْغةٍ . . . ولتبْعِدَنَ نَوازغَ الشيطانِ
فَلْيَفرخ الرَّوْع الذي رُوِّعْتَه . . . إن المحل محلُّ كلِّ أمانِ
بين جميل وعمر بن أبي ربيعة
اجتمع جميل بن معمر العذري بعُمَر بن أبي ربيعة المخزومي ، فأنشده جميل قصيدته التي أولها : الطويل :
لَقَدْ فَرِحَ الوَاشُونَ أنْ صَرَمَتْ حَبْلي . . . بُثَيْنَةُ أو أبْدَتْ لنا جانِبَ البُخْل
يَقُولونَ : مَهْلاً يا جميلُ ، وإنَّني . . . لأُقْسِم ما لي عن بُثَيْنَة مِنْ مَهْلِ
خَلِيليَّ فيما عِشْتُما هَلْ رأيتُما . . . قَتيلاً بَكَى مِنْ حُب قَاتِلِهِ قَبْلي ؟
نقله أبو العتاهية ، فقال : السريع :
يا مَنْ رأى قبلي قتيلاً . . . بكى من شِدَة الوَجْدِ على القاتلِ
فلمّا أتمها قال لعمر : يا أبا الخطاب ، هل قلت في هذا الرويّ شيئاً ؟ قال : نعم ، ثم أنشده : الطويل :
جرى ناصح بالودَ بيني وبينها . . . فعرضني يومَ الحِصَابِ إلى قتلي فما أنْسَ م الأْشياء لا أنْسَ قولَها . . . ومَوْقِفها يوماً بقارِعة النخل
فلمّا تواقَفْنَا عَرَفْتُ الذي بها . . . كمثل الذي بي حَذوَك النَّعْلَ بالنعلِ
فسلَمْتُ واستأنستُ خِيفَة أنْ يَرَى . . . عدو مكاني أو يرى حاسد فِعلي
وأقبلَ أمثالُ الدُمى يكتنِفْنَها . . . وكل يُفدي بالمودَةِ والأهل
فقالت وأرْخَتْ جانب الستْرِ : إنما . . . معي فتكلم غَيْرَ ذِي رِقْبَة أهليفقلتُ لها : ما بي لهم من ترقُبٍ . . . ولكنّ سرِّي ليس يحمِلُه مِثْلي
فاستخذى ، جميل وصاح : هذا والله الذي طلبَت الشعراء فأخطأته ، فتعلَلُوا بوصف الديار ، ونعت الأطلال .
ولما مات عمر بن أبي ربيعة نُعي لامرأة من مولدات مكة ، وكانت بالشام ، فبكت وقالت : مَنْ لأباطح مكة ؟ ومن يَمْدحُ نساءَها ، ويصفُ محاسنهن ، ويبكي طاعتهن ؟ فقيل لها : قد نشأ فتًى من ولد عثمان بن عفان على طريقته ، فقالت : أنشدوني له ، فأنشدوها : الطويل :
وقد أرسلَت في السر لَيْلَى بأَنْ أقِم . . . ولا تَقْرَبَنَا فالتجنُّبُ أجْمَلُ
لعلّ العيون الرامقات لوَصْلِنا . . . تكذب عَنَّا أو تَنَامُ فتغفلُ
أُناس أمنّاهمْ فبثّوا حَديثنا . . . فلما كتَمنَا السرَّ عنهمْ تقوَلُوا
فما حفظوا العَهْدَ الذي كان بيننا . . . ولا حين هَمُوا بالقطيعة أَجْمَلُوا
فتسلَّت وقالت : هذا أجل عِوَضٍ ، وأفضل خَلَف ، فالحمدُ لله الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا .
وقال عروة بن أذينة : أنشدت ابن أبي عتيق للعَرْجي : الطويل :
فما ليلةٌ عندي وإنْ قيلَ لَيلةٌ . . . ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفِطر
بعادلةِ الاثنين ، عندي وبالحَرَا . . . يكونُ سواء مثلها ليلة القَدر
وما أَنْسَ م الأَشياء لا أنس قولَها . . . لجارتها : قُومِي سَلِي لي عن الوِتْرِ
فجاءت تقول الناس في ست عشرة . . . ولا تَعْجَلي عنه فإنك في أجْرِ
فقال ابن أبي عتيق : هذه أفْقَه من ابنِ أبي شهاب ؛ أشهدكم أنها حرَة من مالي إن أجاز أهلها ذلك .
والعَرْجِيُ هو عبد الله بن عمرَ بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وكان ينزل بعَرْج الطائف فنسِب إليه ، وهو القائل : المنسرح :
هل في ادكاري الحبيبَ مِنْ حَرَجِ . . . أمْ هل لِهَم الفؤادِ من فَرجٍأمْ كيف أنْسَى مسيرنا حرما . . . يوْم حَلَلْنا بالنَّخْل مِنْ أمَج
يوم يقولُ الرسولُ قد أذنت . . . فأْتِ على غير رِقْبةٍ فَلِج
أقْبَلْتُ أهْوي إلى رِحالِهمُ . . . أُهْدَى إليها بريحها الأَرجِ
وكان محمد بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم والياً على مكة - وهو خال هشام بن عبد الملك - بلغه أن العرجيِّ هجاه ، فضربه ضرباً مبرحاً ، وأقامه على أعين الناس ، فجعل يقول : الوافر :
سيغضب لي الخليفة بعد رقّي . . . ويَسْأل أهل مكةَ عن مَساقي
علي عباءَةٌ بَرْقاء ليست . . . من البَلْوى تُجَاوزُ نِصْفَ ساقي
وتَغْضَب لي بأُسْرَتِها قُصَيٌ . . . ولاةُ الشعبِ والطُرُقِ العماقِ
فحلف محمد بن هشام ألا يخرجه ما دامت له ولاية ؛ فأقام في السجن سبع سنين حتى مات ، وهو القائل في سجنه : الوافر :
أضاعوني وأي فتًى أضاعوا . . . ليوم كريهة وسِدَادِ ثَغْرِ
وخَلَوني ومعترك المنايا . . . وقد شُرِعتْ أسنَتهم لنَحْرِي
كأني لم أكن فيهم وَسِيطاً . . . ولم تك نسبتي في آل عَمْرو
أُجَرَرُ في الْجَوامِع كل يوم . . . ألاَ لله مَظْلِمَتي وهَصْرِي
عسى المِلكُ المجيبُ لمن دعاهُ . . . سيُنْجِيني فيعلم كَيْف شُكْرِي
فَأَنجزِي بالكرامة أهْلَ وُدي . . . وأنجزِي بالضغائن أفلَ ضُرَي
جملة من الفصول القصار لابن المعتز
البشر دال على السخاء كما يدلُ النَور على الثمر . إذا اضطررت إلى الكذاب فلا تصدقه ، ولا تُعلِمْه أنك تكذبُه ، فينتقل عن وُدهِ ، ولا ينتقل عن طَبْعِه . كما أن الشمس لا يَخْفَى ضوءُها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبيُ لا تخفى غريزة عَقْلِه وإن كان مغموراً بأَخْلاَقِ الحداثة . كَرَمُ الله ، عزّ وجل ، لا يَنْقُضُ حِكمته ، ولذلك لا يجعل الإجابة في كل دعوة . كما أن جلاءَ السيف أهوَنُ من صُنْعه ، كذلك استصلاح الصديق أهونُ من اكتساب غَيْرِه . إذا استرجع الله مواهبَ الدنيا كانت مواهب الآَخرة . لولا ظلمةُ الخطا ماأشرق نورُ الصواب . الحوادث المُمِضة مُكْسِبةٌ لحظوظ جزيلة ؛ من صوابٍ مدَّخر ، وتطهيرٍ من ذَنْبٍ ، وتَنبيه من غَفْلة ، وتعريفٍ بقَدْرِ النعمة ، ومُرُوان على مُقَارَعَةِ الدهر . ومثل هذا الفصل محفوظ عن ذي الرياستين ، قاله بعقب عِلَّةٍ فأغار عليه ابن المعتز .
وكتب إلى أحمد بن محمد جواباً عن كتاب استزاده فيه ، : قَيِّدْ نِعْمَتي عندك بما كنت استَدْعيتها به ، وذُلت عنها أسْبَاب سوءَ الظن ، واسْتَدِمْ ما تُحبُ مني بما أُحِب منك .
وكتب إليه : واللَّهِ لا قَابَلَ إحسانَكَ مني كفرٌ ، ولا تَبعَ إحساني إليك مَنّ ، ولك عندي يدٌ لا أَقْبِضُها عن نفعك ، وأُخْرَى لا أَبْسطُها إلى ظُلْمِكَ ، فتجنبْ ما يُسْخِطني ، فإني أصون وجهك عن ذُلّ الاعَتذر .
وكان أحمد بن سعيد يؤدبه فتحمل البلاذري على قبيحَةَ أم ابن المعتز بقوم سألوا أن تأذن له أن يدخلَ إلى ابن المعتز وقتاً من النهار ، فأجابت أو كادَتْ تجيب ، قال ابنُ سعيد : فلما اتصل الخبرُ بي جلستُ في منزلي غَضْبَانَ لما بلغني عنها ، فكتب إليَ ابن المعتز وله ثَلاثَ عشرة سنة : البسيط :
أَصبحتَ يا ابن سعيد خِدْنَ مَكْرُمَة . . . عنها يقصّر مَنْ يَخْفَى ويَنتعِلُ
سَرْبَلْتني حِكْمةً قد هدِّبَتْ شِيَمي . . . وأَججَتْ نارَ ذِهْنِي فهي تَشْتَعِلُ
أكونُ إنْ شِئْتَ قُسًّا في خَطَابته . . . أو حارثاً وهو يوم الْحَفْلِ مُرْتجلُ
وإنْ أشَأْ فِكْرَ زَيْدٍ في فرائِضِهِ . . . أو مِثْلَ نعمانَ لما ضاقَتِ الحِيَلُ
أو الخليل عَرُوضيّاً أخَا فِطَن . . . أو الكِسائي نَحْويًّا لَه عِلَلُ
تَعْلُو بَدَاهةُ ذِهْنِي في مراكبها . . . كمِثْلِ ما عَرَفَتْ آبائيَ الأوَلُ
وفي فمي صارم ما سلَّهُ أحد . . . من غِمْدِه فدرى ما العيشُ والْجَذَلُ
عُقباكَ شُكْر طويل لا نفادَ له . . . يَبْقَى بجِدّتِهِ ما أَطتِ الإبِلُ
وقس الذي ذكر : هو قس بن ساعدة الإيادي ، وقد سَمع النبيُ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، شِعْرَه ، وعجب منه .
وحارث : هو الحارث بن حِلزة اليشكري ، وصف ارتجاله يوم فَخْرِه بقصيدته التي أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أولها : الخفيف :
آذَنتنَا ببينها أسْماءُ . . . رُب ثاوِ يمَل منه الثَّوَاءُوزيد : هو زيد بن ثابت الأنصاري ، وإليه انتهى علم الفرائض . ونعمان : هو أبو حنيفة النعمان - رضي الله عنه - بن ثابت ، سبق أهْلَ العراق في الفقْه . والخليل بن أحمد الفُرْهُودي ، ويقال : الفَرَاهِيدي ، منسوب إلى حيّ في الأزد ، اليحمري . والكسائي : علي بن حمزة الكوفي .
من إنشاء ابن العميد
وكتب أبو الفضل محمد بن العميد إلى بعض إخوانِه : أنا أشكُو إليك - جعلني اللَّهُ فِداك - دهراً خؤوناً غَدُوراً ، وزماناً خَدُوعاً غَرُوراً ، لا يمنحُ ما يمنح إلاّ رَيْثَ ما ينتزع ، ولا يبقى فيما يهب إلاَّ رَيْث ما يَرْتَجع ، يبدو خَيْرُه لُمَعاً ثم ينقطع ، ويحلُو ماؤه جُرعاً ثم يَمتَنِعُ . وكانت منه شيمَةٌ مألوفة ، وسجيَّةٌ معروفة ، أن يشفع ما يُبْرِمُه بقُرْبِ انتقاض ، ويهْدي لما يبسطه وَشْكَ انقباض ، وكنّا نَلْبَسُه على ما شرط ، وإن خان وقَسَط ؛ ونَرْضى على الرغم بحكمه ، ونَسْتَئِمّ بقَصْدِه وظلمه ، ونعتدّ من أسباب المسرّة ألاَّ يجيء محذورُه مصمتاً بلا انفِراج ، ولا يَأْتي مكروهُه صِرْفاً بلا مِزَاجٍ ، ونتعلّل بما نختلِسه من غَفَلاته ، ونستَرِقُه من ساعاته . وقد استحدث غيرَ ما عرفناه سُنِّة مبتدعة ، وشريعةً متَّبعة ، وأعدَّ لكل صالحةٍ من الفساد حالاً ، وقَرَن بكلّ خَلَّة من المكروه خِلاَلا . وبيان ذلك - جعلني اللّه فِدَاكَ - أنه كان يَقْنَعُ من معارضته الإلفين ، بتفريق ذاتِ البَيْن ، فقد أثني مَمْنُوًّا فيك بجميع ما أوغَرَه ، وما أطْويه من البَلْوَى منك أكَثْرُ مما أنشُرُه ، وأحسبني قد ظَلَمْتُ الدهرَ بسوء الثناء عليه ، وألزمته جُرماً لم يكن قدره بما يحيط به ، وقدرته تَرْتَقِي إليه ، ولو أنك أعَنته وظاهَرْتَه ، وقصدت صرفه وآَزَرْتَه ، وبِعْتَني بيع الخَلقِ وليس فيمن زَادَ ولكن فيمن نقص ، ثم أعرضت عني إعراضَ غير مراجع ، واطَّرحتني اطّراح غير مُجامل ؛ فهلاَّ وجدت نفسك أهلاً للجميل حين لم تجِدْني هناك ، وأنْفَذْتَ من جلّ ما عقدت من غير جريمة ، ونكثت ما عهدت من غير جريرة ، فأجِبْني عن واحدة منهما ؛ ما هذا التغَالي بنفسك ، والتّعالي على صديقك ؟ ولمَ نَبَذْتَني نَبْذَ النواة ، وطرَحْتَني طَرْحَ القَذَاة ؟ ولم تَلْفظني من فِيك ، وتمجُّني من حلقكِ ؟ وأنا الحلال الحُلْو ، والبارد العذب ، كيف لا تُخْطرني ببالك خَطْرة ، وتُصيرني من أشغالك مرة ؛ فترسل سلاماً إن لم تتجشّم مكَاتبة ، وتذكرني فيمَنْ تَذْكُر إن لم تكن مخاطبة ؟ وأحسب كتابي سيَرِدُ عليك فتنكره حتى تتثبّت ، ولا تجمع بين اسم كاتبه وتَصَوّر شخصه حتى تتذكّر ؛ فقد صرت عندك ممن مَحَا النسيانُصورتَه من صدرك ، واسمَه من صحيفةِ حِفْظك ، ولعلّك أيضاً تتعجب من طمعي فيك وقد توليت ، واستمالتي لك وقد أبيت ، ولا عجب فقد يتفجر الصَخْرُ بالماء الزلال ، ويَلين مَنْ هو أقسى منك قلباً فيعود إلى الوصال ، وآخر ما أقوله أن ودي وقْف عليك ، وحَبْسٌ في سبيلك ، ومتى عدت إليه وجدته غضاً طرياً ، فجرِّبه في المعاودة فإنه في العود أَحْمَدُ .
اجتليت هذا الكلام على اختيار الاختصار .
حلّ قوله فقد يتفجر الصخْرُ بالماء الزلال من قول ابن الرومي : مجزوء الرمل :
يا شبيه البدر في الحس . . . ن وفي بُعْدِ المَنَالِ
جُدْ فقد تتفجر الصَّخ . . . رة بالماء الزُلالِ
وفي هذه الرسالة في ذكر فَتْح وإن لم يستبق منه المعنى : وقد خصّنا اللَهُ تعالى معاشرَ عُبُدِ الأمير عضد الدولة بنعمة يَعْلُو مراتبَ النعم مَوْقعُها ، ويفوتُ مقدار المواهب موضعها ، فباسْمِه - أبقاه اللّه - فُتح الفَتْح ، وبشعاره استُنزل النجْع ، وبيُمْن نقيبته فُرج الكَرْب ، وبسعادة جدّه كُشِف الخَطْب ، وباهتزازه للدولة وحمايته عاد إليها ماؤها ، وراجعها بهاؤُها ، فعز الملك ونُصِر ، وذلّ العدو وقُهر ، وحُمِيت أطرافُ الدولة ، وحُفِظت أكنافُ الملةِ ، واستجد نظام النعمة ، وسُدِلَتْ ستورُ الصيانة دون الحرمة ؛ ولو جعل المولى - تقدس اسمه - لنعمته إذا تناهت على عبيده جزاءً غَيْرَ الإخلاص في شكره ، وقَبل ما في مقابلة المَوْهبة التي يستجدها عند خَلقه غيرَ الإغراق في حَمْده ، لرأيت ألا أقتصر في قضاء حقّه على بعض الملك دون بعض ، ولجعلت في صَدْرِ ما أبذل عن هذه النعمة الأعزيْن ؛ الأهل والولد ، والأنصَرين ؛ الساعد والعَضُد ، بل العميدين ؛ القلب والكبد ؛ بل النفس كلها ، والمُهجَة بأسرها .
ما قيل في العتاب
وقال سعيد بن حميد يعاتِبُ بعض إخوانه : الكامل :
أقللْ عتابك فالبقاءُ قليل . . . والدهر يَعدِلُ تارةً ويميلُ
لم أبْكِ من زمن ذَمَمتُ صُروفه . . . إلا بكَيتُ عليه حين يَزُولُ ولكُلّ نائبةٍ ألمت مُدة . . . ولكل حالٍ أقبَلت تَخويلُ
والمنتمون إلى الإخاء جماعة . . . إنْ حُصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحدَاثَ المنيةِ والردى . . . يوماً ستَصدعُ بيننا وتَحول
فلئن سبَقتُ لتبكين بحسرة . . . وليكثرن علي منك عَوِيلولتفجَعَنَّ بمُخْلِصٍ لك وامق . . . حَبْلُ الوفاء بحَبْلِه موصول
ولئن سَبَقْتَ ولا سبقت ليمضيَنْمَنْ لا يُشَكاِلُه لديَ خليل
وليذهبنَّ بهاءُ كل مروءةٍ . . . وليُفْقَدنَّ جمالُها المَأْهول
وأراك تكْلَفُ بالعتاب ووُدُنا . . . ضافٍ عليه من الوفاء دليل
ودّ بدا لذَوِي الإخاء جمالُه . . . وبَدَتْ عليه بَهْجَة وقَبول
ولعلّ أيامَ الحياة قليلةٌ . . . فعَلامَ يكثر عَتْبُنَا ويَطُولُ ؟
وقال أيضاً : الطويل :
لقد ساءني أنْ ليس لي عنك مَذْهَبُ . . . ولا لك عن سوء الخليقة مَرْغَبُ
أفكر في ود تقادم بيننا . . . وفي دونه قُرْبَى لمن يتقرَبُ
وأنت سقيمُ الودَ رَثّ حِبالُه . . . وخيرٌ من الودَ السقيمِ التجنبُ
تُسِيءُ وتَأبَى أنْ تعقَب بَعْدَهُ . . . بحسُنْي ، وتَلقاني كأني مُذْنِبُ
وأَحْذَرُ إن جازيت بالسوء والقِلَى . . . مقالةَ أقوام هُمُ منك أنْجَبُ
أساء اختياراً أو عَرَتْه مَلاَلةٌ . . . فعاد يُسيء الظنَ أو يتعتَبُ
فخِبْتُ من الود الذي كان بيننا . . . كما خاب رَاجي البرق والبَرْقُ خُلَبُ
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : الطويل :
إلى كم يكونُ الصدُ في كلّ ساعةٍ . . . وَلمْ لا تملَنَ القطيعةَ والهجْرَا ؟
رويدك إنَ الدهرَ فيه بقيَّةٌ . . . لتفريقِ ذاتِ البين فانتظر الدَهْرَا
آخر : الكامل :
ولقد علمْت فلا تكن متجنباً . . . أن الصدُودَ هو الفِرَاقُ الأوَلُ
حَسْب الأحِبَّة أن يفرَقَ بينهم . . . صَرْف الزمان ، فما لنا نَسْتَعْجِلُ ؟
آخر : الطويل :
ذَرِ النفسَ تأخذ وُسْعَها قبل بينها . . . فمفترق جَاران دارهما العمرُ
ويقرب من المعنى قول المتنبي أيضاً : الخفيف :
زَوَدِينا من حُسْن وجهِك ما دَا . . . مَ فحسْنُ الوجوه حالٌ يَحُولُوَصِلِينَا نَصِلْكِ في هذه الدّن . . . يا فإنَّ المُقَامَ فيها قَلِيلُ
ما يتعلق بالأعراب
وقف أعرابي يسألُ ، فعَبِث به فتى ، فقال : ممن أنت ؟ فقال : من بني عامر ابن صعصعة ، فقال : من أيّهم ؟ فقال : إن كنت أردت عاطفة القرابة فليكفك هذا المقدار من المعرفة ، فليس مقامي بمقام مُجادَلة ولا مفاخرة ، وأنا أقولُ : فإن لم أكن من هاماتهم فلستُ من أعجازهم . فقال الفتى : ما رويتَ عن فضيلتك إلاّ النقص في حسبك ، فامتعض الأعرابي لذلك ؛ فجعل الفتى يَعْتَذِر ، ويخلط الهَزْل والدعابة باعتذاره ، وأطَال الكلام ، فقال له الأعرابي : يا هذا ، إنك منذ اليوم آذيتني بمَزْحِك ، وقطعتني عن مسألتي بكلامك واعتذارك ، وإنك لتكشف عن جَهلِك بكلامك ما كان السكوت يَسْتُره من أمرك ، وَيْحك إنَّ الجاهل إن مَزَح أسْخَط ، وإن اعتذر أفرط ، وإن حدث أسقط ، وإن قدَر تسلّط ، وإن عزم على أمرٍ تورَّط ، وإن جلس مجلس الوقار تبسط ، أعوذُ منك ومن حالٍ اضطرتنيِ إلى احتمال مثلك وقال إسحاق الموصلي : قال أعرابي لرجل كان يعتمده بالعطية : اسأل الذي رحمني بك أن يرحمَك بي .
وسأل أعرابي رجلاً ، فأعطاه ، فقال : الحمد للّه الذي ساقني إلى الرزق وساقَك إلى الأجر .
من إنشاء بديع الزمان الهمذاني
ومن إنشاء البديع من مقامات الإسكندري : قال : حدّثنا عيسى بن هشام قال : أفْضَتْ بي إلى بَلْخ تجارة البَزّ ، فوردتها وأنا بِفَرْوَةِ الشباب وبَالِ الفراغ ، وحِلْية الثروة ، لا يهمني إلاّ نزهة فكر أستفيدها ، وشَريدة من الكلام أصيدها ، فما استأذن على سَمْعِي مسافةَ مُقامي ، أفصحُ من كلامي . ولمَا حنى التفرقُ بنا قوْسَه أو كاد ، دخل إليً شابّ في زي مِلْء العَيْن ، ولحية تَشُوكُ الأخْدَعَيْنِ ، وطَرْف قد شرب بماء الرَّافدين ، ولَقِيَني من البرِّ في السناء ، بما زِدْتُه من الشكر والثناء ؛ ثم قال : أظَعْنا تُرِيد ؟ قلت : إي واللّه ، فقال : أخصَبَ الله رَائِدَك ، ولا أضلّ قائِدَك ،فمتى عزَمْتَ ؟ فقلت : غداةَ غد ، فقال : الوافر :
صباح الله لا صبْحُ انطلاقِ . . . وطَيْر الوَصْلِ لا طَيْرُ الفِراقِ
قال : أين تريد ؟ قلت : الوطن ، قال : بُلِّغْتَ الوَطن ، وقضَيْتَ الوَطَر ، فمتى العَود ؟ قلت : القابل ؟ قال : طَوَيْتَ الرَّيط ، وثنَيْتَ الخيط ، فأين أنت من الكرم ؟ قلت : بحيث أردت ؟ قال : إذا رجعك الله من هذه الطريق ، فاستَصحِب لي عدُواً في بُردَةِ صديق ، من نِجَار الصُّفر ، يدعو إلى الكفر ، ويرقُص على الظفْر ، كدَارة العين ، يحطُ ثِقَلَ الذين ، وينافِقُ بوَجهين فعلمت أنه يلتمس ديناراً ، قلت : لك ذلك نقداً ، ومثله وَغداً ، فأنشأ يقول : مخلع البسيط :
رَأْيُك مِمَّا خَطَبتُ أعلى . . . لا زلت للمَكرُمات أهْلا
صَلُبْتَ عُوداً وفُقْتَ جُوداً . . . وطِئتَ فرعاً وطِبْتَ أصلا
لا أستطيع العَطاء حَمْلا . . . ولا أطيق السؤال ثِقْلاَ
قصُرْتُ عَنْ مُنتهاك ظَنّا . . . وطُلْتُ عما ظَنَنْتَ فِعلاً
يا رحمة اللَّه والمعالي . . . لا لَقَيَ الدَّهْرُ مِنْكَ ثُكْلاَ
قال عيسى بن هشام : فُنُلتُه الدينار ، وقلت : من أين نبتَ هذا الفَضل ؟ قال : نَمَتني قريش ، ومُهِّد لي الشرفُ في بَطْحائها . فقال بعض من حضر : ألَسْت أبا الفتح السكندري ؟ ألم أرك بالعِراق ، تطوف بالأسواق ، مُكَدِّياً بالأوراق ؟ فأنشأ يقول : مجزوء الرمل :
إنَّ للَهِ عبيداً . . . أخذوا العُمْرَ خَلِيطا
فهمُ يُمْسُون أعرا . . . با ويُضْحُون نَبيطا
وله إلى أبي نصر الميكالي يشكو إليه خليفته بهَرَاة : كتابي ، أطال اللَهُ بقاءَ الشيخ الجليل ، والماءُ إذا طال مُكْثُه ، ظَهَرَ خُبْثه ، وإذا سكن مَتْنُه ، تحرَك نتنُه ، كذلك الضيفُ يَسْمُج لقاؤه ، إذا طال ثَوَاؤه ، ويثقل ظِلّه ، إذا انتهى مَحَلّه ، وقد حلَبْت أشطر خمسة أشهر بهَرَاة وإن لم تكن دار مثلي لولا مُقامهُ ، وما كانتتسعني لولا ذِمَامُه ، ولي في بَيْتيْ قيسٍ مَثَلُ صدق ، وإن صَدَرَا مَصْدَر عِشْق : الطويل :
وأَدْنَيْتني حتى إذا ما سبَيْتني . . . بقول يُحِل العُصمَ سَهلَ الأباطحِ
تجافَيْتِ عني حيث لا ليَ حيلةّ . . . وخلَفْتِ ما خلًفْتِ بين الجوانِحِ
نعم . قنصتني نِعَمُ الشيخ الجليل ، فلما عَلِقَ الجناح ، وقَلِقَ البَرَاح ، طرت مطارَ الريح ، بل مطارَ الرّوح ، وتركتني بين قوم ينقض مَسُّهم الطهارَة ، وتُوهِن أكفّهم الحجارة ، وحدثت عن هذا الخليفة ، بل الجِيفة ، أنه قال : قضيت لفلان خمسين حاجةَ منذ ورد هذا البلد ، وليس يَقْنع ، فما أصنع ؟ فقلت : يا أحمق ، إن استطعت أن تراني محتاجاً ، فاستطع أن أراك محتاجاً إليك . أفً لقولك ولفعلك ، ولدهر أحْوَج إلى مثلك وأنا أسأل الشيخ الجليل أن يبيضَ وجهي بكتاب يُسَوِّد وجهه ، ويعرّفه قَدْره ، ويملأ رعباً صدره ، إلى أن تَبِين على صفحات جَنْبِه ، آثارُ ذنبه .
وله إليه يعاتبه : قد عرف الشيخ الجليل اتّسامي بعبوديته ، ولو عرفْتُ وراءَ العبودية مكاناً لبلغته معه ، وأراني كلما قدمت صُحْبة ، رجعت رُتْبة ، وكلّما طالت خِدْمة ، قصُرت حِشمة ، ولست ممن يذهب عليه أن للسلطان أنْ يرفع عَبْداً حبشياً ، ويَضَع قُرَشِياً ، ولكن أحب أن أقف من مكاني على رُتْبةِ كوكبها لا يغور ، ومنزلةٍ لَوْلَبُها لا يَدُور ، فإذا عرفت قَدْري وخطه ، لم أتخطَه ، ثم إن رأيت محلي وحده ، لم أتعدَه ، إن قدَّمني يوماً عليها علمت أن عنايةً قدمتني ، وإن أخرني عنها علمت أن جناية أخرتني . رُفع عليّ اليوم فلانٌ ولستُ أنكِر سِنه وفَضْلَه ، ولا أجحد بيته وأصله ، ولكن لم تجْرِ العادة بتقدّمه ، لا في الأيام الخالية ، ولا في هذه الأيام العالية ؛ وشديدٌ على الإنسان ما لم يُعود ؛ فإن كان حاسدٌ قد هم ، أو كاشح قد نمَ ، أو خَطْبٌ قد ألمّ ، أو أمرٌ قد رقع وتم ، فالشيخُ الجليلُ أولى من يعرفه ويعرّفنيه ، وإلا فما الرأي الذي أوْجَب اصطناعي ، ثم ضياعي ، والسبب الذي اقتضى بَيْعِي بعد ابتياعي ؟
عود إلى المأمون
ولما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي أمر به فأدْخِل عليه ، فلما وقف بين يديه قال : وَليُ الثأر محكّم في القصاص ، ومَنْ تَناوَله الاغترار بما مُدَ له من أسباب الرجاء أمِن عادية الدهر من نفسه ، وقد جعلك اللَّهُ تعالى فوق كل ذي ذنب ، كما جعل كل ذي ذَنْب دونك ، فإن أخذتَ فبحقَك ، وإن عفوت فبفضلك . ثم قال : المجتث :
ذَنْبي إليك عظيم . . . وأنت أعظم منهُفخُذْ بحقِّك ، أوْ لا . . . فاصفحْ بفَضلِك عنه
إن لم أكن في فعالي . . . مِنَ الكرام فكنْهُ
فقال لي : إني شاورت أبا إسحاقَ والعباس في قَتْلك ، فأشارا به ، قال : فما قلتَ لهما يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت لهما : بدأناه بإحسان ، ونحن نستَأمِره فيه ، فإن غير فالله يغير ما به ، قال : أما أن يكونا قد نصحا في عظيم ما جَرَت عليه السياسة فقد فعلا وبلغا ما يبلغك ، وهو الرأيُ السديد ، ولكنك أبيت ألا تستجلب النصر إلاَ من حيث عوَّدك الله . ثم استَعْبَر باكياً ، فقال له المأمون : ما يبكيك ؟ قال : جَذَلا إذ كان ذَنْبي إلى مَن هذه صفته في الإنعام ، ثم قال : إنه وإن كان قد بلغ جُرْميَ استحلال دمي ، فعِلْمُ أمير المؤمنين وفَضلُه بلغاني عفوه ، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب ، وحق الأبوّة بعد الأب . فقال : يا إبراهيم ، لقد حُبِّب إليّ العفو حتى خِفْتُ ألاَ أُوجَر عليه ، أما لو علم الناسُ ما لنا في العفو من اللذّة لتقرّبوا إلينا بالجنايات ، لا تَثْرِيب عليك يغفر الله لك ، ولو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلَغك ما أملت حسنُ تنصّلك ولطف توصلك ، ثم أمر برد ضياعه وأمواله ، فقال : البسيط :
رددت مالي ولم تَبْخَل عليّ به . . . وقبل رَدِّك مالي قد حَقَنْتَ دمي
وقام علمُك بي فاحتجّ عندك لي . . . مقام شاهدِ عدل غَيْرِ متهَمِ
فلو بذلتُ دمي أبغي رضاكَ به . . . والمال حتى أسلّ النَّعْلَ من قَدَمي
ما كان ذاك سِوَى عاريّة سَلَفَتْ . . . لو لم تهبْها لكنت اليوم لم تُلَم
أخذ معنى قول المأمون : لقد حُبّب إليّ العفو حتى خفت ألاّ أوجَرَ عليه أبو تمام الطائي فقال : الكامل :
لو يعلمُ العافون كم لكَ في الندى . . . من لذة وقريحةٍ لم تَخْمُدِ
فكان أبو تمام في هذا كما قال أبو العباس المعتز في القاسم بن عبيد اللّه :
إذا ما مدحناه استعنَا بفِعْله . . . فنأخذ معنى قَوْلنا مِنْ فعالِه
وكان تصويبُ إبراهيم لرأي أبي إسحاق المعتصم والعباس بن المأمون ألطفَ في طلب الرضا ودَفْع المكروه واستمالتهما إلى العاطفة عليه من الإزراء عليهما في رأيهما ،وكان إبراهيم يقول : والله ما عفا عني لرَحمٍ ولا لمحبةٍ ؛ ولكن قامت له سوقٌ في العفو كَرِه أن يفسدها بي .
وكان المأمون شاور في قتل إبراهيم أحمدَ بن أبي خالد الأحول ، فقال : إن قتلتَه فلك نظير ؛ وإن عفوتَ عنه فلا نَظير لك ؛ َ فأختار لك العفو .
بين المأمون وإسحاق بن العباس
وقال المأمون لإسحاق بن العباس : لا تحسبني أغفلت أمر ابن المهدي وتأييدك له ، وإيقادَك لِناره . قال : واللّه يا أمير المؤمنين لأَجرام قريش إلى رسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعظمُ من جُرْمي إليك ؛ ولرَحمي أمسّ بك من أرحامهم ؛ وقد قال لهم كما قال يوسف ؛ على نبّينا وعليه الصلاة والسلام لأخْوته : ' لا تَثرِيبَ عليكم اليومَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أرْحَمُ الراحِمِينَ ' . وأنت يا أمير المؤمنين ، أحَقُّ وارثٍ لهذه الأمة في الطَّوْل ، وممتثل لخلال العَفْو والفَضل .
قال : هيهات تلك أجرامَّ جاهلية عَفَا عنها الإسلام ، وجُرْمُك جُرمٌ في إسلامك ، وفي دار خلافتك .
قال : يا أمير المؤمنين ، فواللّه للمسلم أحق بإقالة العَثْرَة وغُفْرَان الذنب من الكافر . وهذا كتاب الله بيني وبينك إذ يقول : ' وسارِعُوا إلى مَغْفرةِ من ربِّكُمْ وجَنةٍ عَرْضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للُمتَّقِين ، الذين يُنْفقُونَ في السَرّاء والضرَّاء والكاظِمينَ الغَيْظَ والعافِينَ عن الناسِ واللَّهُ يُحِب المُحْسِنينَ ' . والناسُ يا أميرَ المؤمنين ، نسبةٌ دخل فيها المسلم والكافر ، والشريف والمشروف .
قال : صدقت ، وَرِيَتْ بك زنادي ، ولا بَرِحْتُ أرى من أهلك أمثالك .
في الاستعطاف
وقال رجل لبعض الملوك وقد وقف بين يديه : أسألك بالذي أنت بين يديه غداً أذَل مني بين يديك اليوم ، وهو على عقابك أقْدَرُ منك على عقابي ، إلاَ ما نظرتَ في أمري نَظَرَ من بُرْئي أحبُّ إليه من سُقْمِي ، وبراءتي أحبُّ إليه من بليّتي .
وأراد معاوية عقوبة روح بن زنباع فقال : يا أمير المؤمنين ، أنشدك اللّه تعالى ألاَتضع مني خَسيسة أنتَ رفعتها ، أو تنقض مني مَرِيرة أنتَ أبرمتها ، أو تشمت بي عدوًّاً أنت كبته ، وحاسداً بك وقَمْتُه ؛ وأَسألك باللّه إلاَّ أرْبى حِلْمُك على خطئي وصفحك على جهلي .
فقال معاوية رضي اللّه عنه : إذا اللّه ثنى عقد شيء تيسرا .
أشار إلى هذا أبو الطيب المتنبي إذ قال : الطويل :
أزِلْ حَسَدَ الحُسَّادِ عني بكَبْتِهِمْ . . . فأنتَ الذي صَيرْتَهُمْ لي حُسدا
إذا شَدَّ زَندي حُسْنُ رَأيِك في يَدي . . . ضَرَبْتُ بسَيْفٍ يَقْطَعُ الْهَامَ مُغْمَدَا
عفو الملوك
وعَتَب المأمون على بعض خاصّته ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قديم الحرمة وحديث التوبة يَمْحُوَان ما بينهما من الإساءة . قال : صدقت ، وعفا عنه .
وكان في ملوك فارس ملك عظيم المملكة ، شديدُ النقمة ، فقرب له صاحب المطبخ طعامه ، فنقطت نُقْطةٌ من الطعام على المائدة ، فَزَوى له الملك وَجْهَه ، وعلم صاحبُ المطبخ أنّه قاتله ، فعمد إلى الصَّحْفَة فكفأَها على المائدة ثم ولّى ، فقال له الملك : ما حَملك على ما فعلت ، وقد علمتُ أن سقوطَ النقطة أخطأَتْ بها يدك ولم يَجْرِ بها تعمُّدك ، فما عندك في الثانية ؟ قال : استحيتُ للملك أنْ يُوجب قتلي ، ويُبيح دَمَ مثلي ، في سنَي وحُرْمتي ، وقديم اختصاصي وخِدْمتي ، في نُقْطة أَخْطأَتْ بها يَدي ، فأَرَدْتُ أن يَعْظُم ذَنبي ليَحسُنَ بالملك قَتْلي .
قال : لئن كان اعتذارك يُنجِيك من القتل ، فليس يُنْجِيك من التأديب ، اجِلدوه مائةَ جَلدة ، واخلعوا عليه خلع الرضَا .
وخرج بهرام جور متصيّداً فعنّ له حمار وَحْشٍ ، فأتبعه حتى صَرعه ، وقد انقطع عن أصحابه ، فنزل عن فَرسه يريدُ ذَبْحه ، وبَصُرَ براعٍ فقال : أمْسك عليّ فَرسي ، وتشاغل بذبح الحمار ، وحانَتْ منه التفاتة ، فنظر إلى الراعي يقطع جَوْهَر عِذار فرسه ، فحوَل بهرام جوروَجْهَهُ وقال : تأمُلُ العيبِ عَيْب ، وعقوبةُ من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سَفَه ، والعفوُ من أفعال الملوك ، وسُرْعَة العقوبة من أفعال العامة .
ثم قال : يا غلام ، ما بال شِرْيَانِك يضطربُ لعقك آذاك تكسيرُنا أرْضك بحوافر خَيْلنا ، فقال : نعم ، وقد عزمتُ على أن أنقلع مائةَ فرسخ ، فقال بهرام : لا تُرَع ؛ فهذا الموضع وما فيه لك ، وكان الراعي خبيثاً ، فقال : إن الملوك إذا قالت قولاً تَمَتْ على قولها ، فرجع بهرام إلى عسكره وقال : اتبعني لأُوثَقَ لك من هذه الأرض ، فاتَّبعه ، فلما بَصُر به الوزير قال : أيها الملك السعيد ، إني لأرى جَوْهَر عِذار فرسك مُقَلّعاً ، فتبسّم وقال : أخذه من لا يردّه ، ورآه من لا ينمّ به ، فمَنْ أخذه صاحبُنا ولا نُطالبه به .
نقل ابن الرومي قول بهرام : تأمل العيب عَيْبٌ كما اتّفق موزوناً فقال : المجتث : تأمُلُ الْعَيْبِ عَيْبُ . . . مَا في الذي قُلتُ رَيْبُ
وكلُّ خَيْرٍ وشَر . . . دُونَ العَوَاقِبِ غَيْبُ
وربّ جلْبَابِ هَم . . . فيه مِنَ الصنْعِ جَيْبُ
لا تحْقِرنَّ سُيَيْباً . . . كم قاد خيراً سيَيبُ
أخذ البيت الأخير من قول الطائي : مخلع البسيط :
رب قَليل غدا كثيراً . . . كَمْ مَطَرٍ بَدْؤُهُ مُطَيْرُ
وقوله : الخفيف :
لا تَزِيلَنْ صَغِيرَ هَمّكَ وانْظُر . . . كم بذي الأثْلِ دوحةً مِنْ قضيبِ
وقد أعاد ابن الرومي قوله : المجتث :
وكلُّ خَيْرٍ وَشَر . . . دُون الْعَواقِبِ غَيْبُ
في قصيدته التي مدح بها أحمد بن محمد بن ثوابة حين ساوره ، وقال : لو أتى لبيد لتعجب منه ، فاستجزله وقال : الطويل :
ولما دَعَاني للَمُثوبَةِ سَيد . . . يَرَى الْمَدْحَ عَاراً قَبْلَ بَذْلِ المَثَاوِبِ
تَنَازَعني رَغْبٌ ورَهبٌ كِلاهُما . . . قَوِي ، وَأعْياني طُلُوع الْمَعايِبِفقدَمتُ رِجْلاً رَغْبَةً في رَغِيبَة . . . وأخرتُ رِجْلاً رَهْبَةً لِلْمَعاطِبِ
أخاف عَلَى نَفْسِي وأَرْجُو مفازَهَا . . . وأَسْتَارُ غَيْبِ اللَّهِ دُونَ الْعَواقِبِ
ألاَ مَنْ يُريني غَايَتي قبل مَذهبي . . . وَمِنْ أَيْنَ وَالغايَاتُ بَعْدَ المَذَاهِبِ
رجع إلى إنشاء بديع الزمان
نسخْة رقعة كتبها بديع الزمان إلى أبي علي إسماعيل يعتذرُ إليه : سوءُ الأدب من سكر النَّدْب ، وسكر الغضب من الكبائر التي تنالُها المَغْفِرة ، وتَسَعُها المَعْذِرة ، وقد جرى بحَضْرةِ الشيخ ما جَرَى ، وقد أفْنَيْت يدي عضًّاً ، وأسناني رَضاً ، وإن لم أوف ما جَرَى فالعُذْرَ أمُدّ خطاً ، فإنْ كان بِساطاً يطوى ، وحديثاً لا يُرْوَى ، فأوْلى مَن عذَرَ اللاعب ، وأحْرَى من غَفَر الصاحب ؛ وإن كان ميتاً يُنْشَر ، وسبباً يُذْكَر ، فلْيَكن العقابُ ما كان ، إن لم يكن الهجران ، على أني قد أخذت قِسْطِي من العقاب ، واستَفَدْت من ردَ الجواب ، ما كفى وأَوْجَعَ القَفَا ؛ فكان من مُوجب أدب الخِدْمَة ، إبقاءُ الحِشمة لولي النعمة ، باحتمال الشَتْم ، والإغضاء عن الخصْم ، لكني أحْدَقَتْ بي ثلاثة أحوال لا يَسْلَمُ صاحبها ؛ اللعب وسكره ، والخصم وهُجره ، والإدلال والثقة ، وهُنَ اللواتي حملنني على ماء الوَجْهِ فهَرَقْتُه ، وحجابِ الحشمة فخَرَقتُه ، وقد منعني الآَن فَرْطُ الحياء من وَشْكِ اللقاء ، وعَهْدِي بوجهي وهو أصْفَقُ من العُدم الذي حملني على جَهْلِه ، وأَوْقَحُ من الدهر الذي أحوجني إلى أهله ؛ لكن النعم إذا توالَتْ على وَجْهٍ رفَقت قِشْرَته ، وألاَنت بَشَرته ؛ وأنا منتظر من الجواب ما يريش جَنَاحي إلى خِدْمَته ، فإنْ رأى أن يكتب فَعل ، إن شاء الله .
وله رقعة إلى أبي علي بن مشكويه أولها : الطويل :
ويا عزّ إن وَاشٍ وَشى بي عندكم . . . فلا تُمْهِليهِ أن تَقُولي له : مَهْلا
كما لو وَشَى واشٍ بعزةَ عندنا . . . لقلنا : تَزَحْزَح لا قريباً ولا أهلا بلغني ، أطال اللهُ بقاءَ الشيخ أن قيضة كلب وافَتْه بأحاديث لم يُعِرْها الحقُّ نورَه ، ولا الصدقُ ظهورَه ، وأنه - أدام الله عزه - أذن لها على مَجال أذنه ، وفسح لها فِناء ظنه ، ومعاذ الله أن أقولها ، وأستجيز معقولها ؛ بل قد كان بيني وبين الشيخ عِتَابٌ لا ينزل كنَفه ولا يجدف ، وحديث لا يتعدَى النفسَ وضميرها ، ولا يعرف الشفة وسَميرها ، وعَرْبَدة كَعَربدَة أهل الفضل ، لا تتجاوزُ الذلال والإدلال ، ووحشة لا يكشفها عتابُ لحظة ، كعتابجَحْظة ، فسبحان مَنْ ربّي هذا الأمرَ حتى صار أمراً ، وتأبط شراً ، وأوْجَب عُذْراً ، وأوحش حُراً . وسبحان مَنْ جعلني في حَيّزِ العدو أشِيم بَارِقَته ، وأتخوّف صَاعِقَته ، وأنَا المسَاء إليه ، والمجنيُّ عليه ، ولكن من بُلي من الأعداء بمثل ما بُليت ، ورُمي من الحسد بما رُمِيت ، ووقف من التوحّد والوحدة حيث وقَفْت ، واجتمع عليه من المكارِهِ ما وصَفْت ، اعتذر مظلوماً ، وضَحك مشتوماً ، ولو علم الشيخُ عددَ أولاد الجدد ، وأبناء العدد ، بهذا البلد ، ممن ليس له همّ إلاَّ في سعاية أو شكاية أو حكاية أو نكاية ، لضنَّ ، بعِشْرَة غريب إذا بدر ، وبعيد إذا حضر ، ولصانَ مجلسه عمن لا يَصُونُه عما رقى إليه ، وهَبْني قد قلت ما حكى ، أليس الشَّاتِمُ مَنْ أسْمع ، والجاني منْ أبلغ ؟ فقد بلغ مِنْ كيد هؤلاء القوم أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفساً لا تُستفز ، وجبلاً لا يهزّ ، وشَوْا إلى خدمه بما أرّثوا نارهم ، وورد عليّ ما قالوه فما لبثت أن قلت : الطويل :
فإن تَكُ حرب بين قومي وقومها . . . فإني لها في كلِّ نائبة سلمُ
وليعلم الأستاذ أنَ في كبد الأعْداء مني جَمْرة ، وأنَّ في أولاد الزنا عندنا كَثْرة ، وقُصاراه نارٌ يَشُبونها ، وعقرب يُدَبِّبُونها ، ومَكِيدة يَطْلُبونها ، ولولا أن العذْرَ إقرار بما قيل ، وأكره أن أستقيل ، لبسطتُ في الاعتذار شَاذَرْواناً ، ودخلت في الاستقالة مَيْداناً ، لكنه أمرٌ لم أضعْ أوله ، فلم أتَدارَكْ آَخره .
وقد أبى الشيخ أبو محمد - أيّده اللّه - إلاّ أن يوصَلَ هذا النثر الفاتر بنظم مثله فهاكه يَلْعَنُ بعضه بعضاً : السريع :
مولاي إن عدتُ ولم ترضَ لي . . . أنْ أشرب البارد لم أشْرَبِ
اِمْتَطِ خدي وانتعِل ناظري . . . وصِدْ بكفِّي حُمةَ العَقْربِ
تاللّه ما أنْطِقُ عن كاذبٍ . . . فيك ، ولا أُبْرِقُ عن خُلَبِ
فالصفوُ بعد الكذب المفترَى . . . كالصّحو عقْب المَطَرِ الصَّيَبِ
إن أجْتَنِ الغلظة من سيدي . . . فالشوكُ عِند الثمر الطيب
أو يفسد الزورُ على نَاقد . . . فالخمر قد يعصب بالثيّب
ولعلّ الشيخ أبا محمد - أيده الله - يقوم من الاعتذار بما قعد عنه القلمُ واللسان ؛ فنعم رائد الفضل هو ، والسلام .فِقَرٌ من كلام سهل بن هرون للمأمون
كان المأمون استَثقل سَهْل بن هرون ، فدخل عليه يوماً ، والناسُ على مَراتبهم ، فتكلّم المأمون بكلام ذَهَب فيه كل مذهب ؛ فلما فرغ من كلامه أقبل سهلُ بن هرون على الجَمع فقال : ما لكم تسمعون ولا تعون ، وتشاهدون ولا تَفْقَهُون ، وتفهمون ولا تتعجَّبون ، وتتعجّبون ولا تُنصفون ؟ واللّه إنه ليقول ويفعلُ في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل ، عَرَبُكم كعجمكم ، وعَجَمُكم كعبيدكم ، ولكن كيف يَعْرِف الدواء من لا يشعر بالداء ؟ فرجع المأمونُ فيه إلى الرأي الأول .
من ترجمة سهل بن هرون ، وأخباره
وكان أبو عمرو سهل بن هرون من أهل مَيسان ، نزل البصرة فنُسِب إليها ، وهو القائل : الكامل :
يا أهل مَيْسان السلام عليكم . . . الطيبون الفرعُ والْجِذْمُ
أمّا الوجوهُ ففِضَّة مُزِجت . . . ذهباً وأيدٍ سَحَةٌ هُضْمُ
أتُريدُ كلْب أن أُناسبها . . . قد قلّ من كلْب بيَ العِلْمُ
أجعلت بيتاً فوق رابية . . . فرعُ النجوم كأنه نَجْمُ
كَبَيَتِ شَعير وسط مجهلة . . . بفنائه الْجِعْلاَنُ والبهْمُ
وكان سهل شعوبياً ، والشعوبية فِرْقَةٌ تتعصّب على العرب وتنتقصُها ، وكان أبو عبيدة يُرمى بذلك . وسهل ظريفٌ عالم حسَنُ البيان ، وله كتب ظريفة صنَفها معارضاً للأوائل في كتبهم بما لا يستَصْوبه منهم ، حتى قيل له : بزر جمهر الإسلام وقال يمدح رجلاً : الطويل :
عدوُّ تِلادِ المال فيما يَنُوبُهُ . . . مَنُوعٌ إذا ما مَنْعُه كان أحْزَما
مذلّل نفس قد أبتْ غير أنْ تَرَى . . . مكارِهَ ما تأْتي من العيش مَغْنَما
وهذا نظير قوله في كتاب ثَعْلَة وعُفرة الذي عارض به كليلة ودمنة : اجعلوا أداءَ ما يَجِبُ عليكم من الحقوق مقدماً قبل الذي تجودون به من تفضلكم ؛ فإن تَقْديم النافلة مع الإبطاء عن الفريضة مُظاهر على وَهَنِ العقيدة ، وتقصير الروية ، ومُضِرٌ بالتدبير ، مخلبالاختيار ، وليس في نفع محمدتِه عِوَض من فساد المروءة ولروم النقيصة . وكتابه هذا مملوء حكماً وعلماً . وسهل القائلُ : الطويل :
تقسمني هَمَانِ قد كَسَفا بالي . . . وقد تركا قَلْبي محلَةَ بَلْبَالِ
هما أذرَيا دَمْعي ، ولم تذر عَبْرتي . . . رهينةُ خِدْر ذات سِمْطٍ وخلخَالِ
ولا قهوة لم يَبْقَ منها على المدى . . . سوى أن تحاكي النور في رَأس ذيال
تحللَ منها جِرمها وتماسكت . . . لها نَفْسُ معدوم على الزمن الخالي
ولكما أبكي بعَيْنِ سخينة . . . على حَدَث تبكي له عَينُ أمثالي
فراق خليل لا يقوم به الأسى . . . وخَفَة حُرً لا يَقُوم لها مالي
فواحسرتي حَتّى متى القلب مُوجَع . . . لفَقْد خليل أو تَعَذرِ إفضال ؟
وما الفَضْلُ إلاّ أنْ تجودَ بنائل . . . وإلاّ لقاء الخل ذي الخُلُقِ العالي
وهو القائل : البسيط :
إذا امرؤ ضاق عني لم يَضِق خُلُقي . . . من أنْ يراني غنيًّا عنه بالْيَاس
لا أطلبُ المال كي أغْنَى بفضلته . . . ما كان مَطْلَبُه فَقْراً إلى الناس
وأنشد له الجاحظُ يهجو رجلاً : البسيط :
من كان يَعْمُرُ ما شادَتْ أوائلهُ . . . فأنتَ تَعْمُرُ ما شادُوا وما سَمَكُوا
ما كان في الحق أن تحوي فعالهمُ . . . وأنت تَحْوي من الميراث ما تركوا
وقال محمد بن زياد الزيادي : وجَدْتُ على سهل بن هرون في بعض الأمر ، فهجوته ، فكتب إلي ؛ أما بعد ، فالسلامُ على عهدك وداعَ ذي ضَنّ بك ، في غير مَقْلِيَة لك ، ولا سَلْوَة عنك ، بل استسلام للبَلْوى في أمرك ، وإقْرَار بالمعجزة في استعطافك ، إلى أوان فيئك ، أو يجعل اللّه لنا دَولة من رجعتك ، والسلام .
وكتب في أسفل الكتاب : المنسرح :
إن تَعْفُ عن عبدك المسيء ففي . . . عفوك مَأْوًى للفضل والمِنَنِ
أتيتُ ما استحقّ من خَطإ . . . فجُد بما تستحق من حسنِمن عِظات الحسن البصري
وقال الحسن البصري ، رحمه اللّه في يوم فطر وقد رأى الناسَ وهيآتِهم : إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضماراً لخلْقِه ، يستَبِقُون فيه بطاعته إلى مَرْضاته ، فسبَقَ قوم ففازوا ، وتخلف آخرون فخابُوا ، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ، ويخَسْرَ فيه المبطلون ، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومُسِيء بإساءته .
ونظر إلى قوم منصرفين من صلاة الفِطْر يتدافعون ويتضاحكون ، فقال : الله المستعان إن كان هؤلاء قد تقرر عندهم أنّ صومهم قد تُقُبل فما هذا محل الشاكرين ، وإن علموا أنه لم يتقبّل فما هذا محل الخائبين .
وكان الحسن من الخطباء النّساك الفقهاء الأجواد ، ويقال : إنه لم يكن تابعيّ أفضل منه .
هذا قول أهل العراق جميعاً ، وأهل الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه ، وكان سعيدٌ أحْسَنَ من الحسن وَرَعاً ، وأشدّ الناس حَذَراً ، وأقلّهم كلاماً . وكان الحسن لا يدع أن يتكلّم بما هَجَس في نفسه ، وجَاش في صدره .
وعلى ذكر الحسن شهرَ رمضان نقول :
ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بإقبال شهر رمضان مع ما يتّصل بها من الأدعية
ساق اللَّهُ تعالى إليكَ سعادةَ إهلاله ، وعَرَّفك بركة كماله . قسم اللَّهُ لك من فَضْلِه ، ووفَّقك لفَرْضِه وَنَقلِه . لقّاك اللّه ما ترجو ، ورقاك إلى ما تحته فيما تَتْلوه . جعل اللَهُ ما أظَلك من هذا الصوم مقروناً بأفضَلِ القبول ، مُؤْذِناً بدَرْكِ البُغْيَة ونُجْحِ المأمول ، ولا أخْلاَك من برِّ مرفوع ، ودعاءً مسموع . قابَلَ اللّه تعالى بالقبول صيامَك ، وبعظيم المَثُوبة تهجدك وقيامك . عرَفك الله من بركاته ما يُرْبي على عدد الصائمين والقائمين ، ووفقك اللَهُ لتحصيل أجْرِ المتهجدين . أَسأل الْلّه تعالى أن يضاعِفَه بمنه لك ، ويجعله وسيلة بقبوله إلى مَرضاته عنك . أعاد اللَهُ إلى مولاي أمثاله ، وتقبل فيه أعماله ، وأصلح في الدين والدنيا أحواله ، وبلّغه منها آماله . أسعده اللّه بهذا الشهر ، ووفاه فيه أجزل المَثُوبة والأجر ، ووفر حظه من كل ما يرتفع من دُعاء الدَاعِين ، وينزل من ثواب العاملين ، وقبل مساعيه وزَكاها ، ورفع درجاته وأعلاها ، وبلَغَه من الآمال مُنْتهاها ، وظَفِر بأبعدها وأقصاها .وقال الحسن : من أخلاق المؤمن قوةٌ في دين ، وحَزمٌ في لين ، وحِرص على العلم ، وقناعة في فَقْر ، ورحمة للمَجهود ، وإعطاء في حق ، وبرٌ في استقامة ، وفقه في يقين ، وكسب في حلال .
وقال محمد بن سليمان لأبي السماك : بلغني عنك شيء ، قال : لا أُباليه ، قال : ولمَ ؟ قال : لأنه إن كان حقًّاً غفرته ، وإن كان باطلاً كذبته .
وقال محمد بن صُبَيْح المعروف بابن السماك ، خيْرُ الإخوان أقلّهم مصانعة في النصيحة ، وخيرُ الأعمال أحلاها عاقبة ، وخيرُ الثناء ما كان على أفواه الأخيار ، وأشرف السلطان ما لم يخالطه البَطَر ، وأَغْنى الأغنياء من لم يكن للحِرْص أسيراً ، وخير الإخوان من لم يخاصم ، وخيرُ الأخلاق أعونها على الورع ، وإنما يختبر وُدُّ الرجال عند الفاقة والحاجة .
ووصف بعضُ البلغاء رجلاً فقال : إنه بسيط الكف ، رَحْب الصدْرِ ، موطَّأ الأكناف ، سَهْل الخلق ، كريم الطِباع ، غَيْثٌ مُغِيثٌ ، وبَحْرٌ زَخُور ، ضَحُوك السنّ ، بشير الوَجْهِ ، بادي القبول ، غير عَبُوس ، يستقبلك بطَلاَقةٍ ، ويحييِّك ببشْر ، ويَسْتَدْبِرُكَ بكرمِ غَيْب ، وجميل سر ، تبهجك طَلاَقتهُ ، ويرضيك بِشْرُه ، ضَحَّاكٌ على مائدته ، عَبْدٌ لضِيفانه ، غير ملاحظ لأكِيله ، بَطِينٌ من العقل ، خَميص من الجهل ، راجح الْحِلْم ، ثاقب الرَّأي ، طيِّب الخلق ، محصّن الضريبة ، مِعْطاء غير سائل ، كاسٍ من كل مَكْرُمة ، عارٍ من كلِّ ملامة ، إن سُئِلَ بَذَل ، وإن قال فَعلَ .
قال أبو الفتح كشاجم : الطويل :
مزاجك لِلْمَثْنى من العودِ والصَّبا . . . من الرِّيح والصافي الرقيق من الخَمْرِ
فلو كنت وَرْداً كنت وَرْداً مُضاعَفا . . . ولو كنت طِيباً كنت من عَنْبَر الشَحْر
ولو كنت لَحْناً كنت تأْليف مَعْبَدٍ . . . ولو كنت عوداً ما افتقَرتَ إلى زَمْرٍ
وقال أعرابي : الطويل :
ألا حَبذا البُرْدُ الذي تَلْبَسِينهُ . . . ويا حَبّذا مَنْ باعكِ البُرْدَ من تَجْرِ
فلو كنت ماءً كنت ماءَ غمامةٍ . . . ولو كنت درًّا كنت من دُرَّةٍ بِكْرِ
ولو كنت لَهْواً كنت تَعْلِيلَ ساعةٍ . . . ولو كنت نَوْماً كنت إغفاءةَ الفَجْرِ
ولو كنت لَيْلاً كنت قَمْرَاء جُنبت . . . نُحُوس لَيَالي الشَهْرِ أو ليلةَ القَدْرِ
الجزء الثانيالجزء الثانىبِسم اللهِ الرحَمّنِ لرَّحيم
نبذ من ألفاظ بلغاء أهل العصر
تجري في المدح مجرى الأمثال ، لحسن استعارتها ، وبراعة تشبيهاتها : فلان مسترضَعٌ ثَدْيَ المجد ، مُفْتَرِشٌ حِجْرَ الفضل ، له صَدْر تَضِيق به الدَهْنَاء ، وتَفْزَع إليه الدَهْمَاء ، له في كل مكرمة غُزَه الإصباح ، وفي كل فضيلة قادِمَةُ الْجَنَاح ، له صورة تستنطق الأَفْوَاهَ بالتسبيح ، ويتَرقْرَقُ فيها ماءُ الكرم ، وتقرأُ فيها صحيفةَ حُسْن البشر ، تحيا القلوب بلقائه ، قبل أن يُمِيتَ الفَقْرَ بعطائه ، له خُلقٌ لو مُزِج به البحرُ لنفى مُلُوحَتَه ، وكفى كدورته . هو غذاءُ الحياة ، ونسيم العشق ، ومادَّة الفَضْل ، آراؤُه سكاكين في مفاصل الْخُطوب ، له هِمَةٌ تعزل السماكَ الأعْزَل ، وتجرّ ذَيْلها على المجرَّةِ ، هو راجحٌ في موازين العَقْل ، سابقٌ في ميادين الفَضْلِ ، يَفْتَرع أبكارَ المكارم ، ويَرْفَع مَنَارَ المحاسن ، ينابيع الجود تتفجر من أنامله ، وربيعُ السماء يَضْحَك من فَوَاضلِه . هو بيتُ القصيدة ، وأول الْجَرِيدة ، وعَيْن الكتيبة ، وواسطة القِلاَدة ، وإنسانُ الحدَقة ، ودُرَّة التاج ، ونقش الفصّ وهو مِلح الأرض ، ودِرْع المِلّة ، ولسان الشريعة ، وحِصْنُ الأمة . هو غُرّة الدّهر والزمان ، وناظر الإيمان . له أخلاقٌ خُلِقْنَ من الفَضْلِ ، وشِيَمٌ تُشَام منها بَوَارِقُ المَجْد ، أرج الزمانُ بفَضْلِه ، وعَقمَ النساءُ عن الإتيان بمثلِه . الجميلُ لديه مُعْتَاد ، والفضْلُ منه مبدوءٌ ومُعَاد ، مَالُهُ للعُفَاة ، مُبَاح ، وفعالُه في ظلمة الدهر مِصْبَاح ، كأنَ قلبَه عَيْن ، وكأنَ جسمهسَمْع ، يرى بأول رَأْيه آخر الأمر ، جوهر من جواهر الشرف لا من جواهر الصَّدَف ، وياقوتة من يواقيت الأحرار ، لا يواقيت الأحجار ، طلعتُه للبشاشة عليها ديباجة خُسْرَوَانيّة ، وفيها للطلاقة روضة رَبيعية . وَجْهٌ كأنَّ بَشَرته نشر البِشْر ، ومواجهته أمانٌ من الدَّهر . يصل ببشره ، قبل أنْ يَصِل ببرّه ، قد لحظت من وجهه الأنوار ، ومن بَنَانِه النوّار . أنا من كرم عشرته ، وطلاقَة أسِرَّته ، في روضة وغدير ، وجنةٍ وحرير ، وهو بَحْرٌ من العلم ممدود بسبعة أبحر ، ويومُه من يوم الأدب كعمر سبعة أنْسُر . العلم حَشْوُ ثيابه ، والأدب مِلْء إهَابه . هو شَخْصُ الأدب مائلاً ، ولسانُ العلم قائلاً . شَجَرة فَضل عودها أدب ، وأغصانها عِلْم ، وثمرتها عَقْل ، وعروقها سَرْوٌ ، تسقيها سماءُ الحريَّةِ ، وتغذِّيها أرضُ المروءة . هم ملح الأرض إذا فسدت ، وعمارةُ الأرض إذا خَرِبت ، ومعرض الأيام إذا احتشدَتْ ؛ وهم جمالُ الأيام ، وخواصُّ الأنام ، وفرسان الكلام ، وفلاسفة الإسلام . فلان غُصْنُ طَبْعِهِ نَضير ، ليس له في مَجْدِه نظير ، قد جمع الْحِفظَ الغزير ، والفَهْمَ الصحيح ، والأدب القويّ القويم ، وما يُؤْنِسُه من الوَحْشَةِ إلا الدفاتر ، ولا يَصْحَبه في الوَحْدَةِ إلا المحابر . فلان يحل دقائقَ الأشكال ، ويُزِيل معترض الإشكال . له خلْق كنسيم الأسْحَار ، على صفحات الأنوار . كالماء صَفَاءً ، والمسك ذكاءً . أخلاق قد جمعت المروءةُ أطرافَهَا ، وحرست الحرية أكْنافَها . أخلاق تجمع الأهواءَ المتفرقة على محبته ، وتؤلّف الآراء المتشتّتة على مودتِه . أخلاق أعذبُ من ماء الغَمام ، وأحلى من رِيق النّحل ، وأطيب من زمان الوَرْد . أخلاق أحسن من الدرّ والعِقْيَان ، في نحور الْحِسَان ، وأَذْكى من حركات الروحِ والرَيحان . فلانٌ يستحطّ القمر بطَرْفِه ، ويستنزل النّجم بلُطْفه . هو حُلْوُ المَذَاق ، سهل المَسَاغ . أجمل الناس في جدّ ، وأَحلاهم في هَزْل . يتصرَفُ مع القلوب ، كتصرُفِ السحاب مع الجَنُوب . ذو جِذ كعُلوّ الجَدّ ، وهَزْل كحديقة الوَرْدِ . له عِشْرَة ماؤها يقطر ، وصَحْوُها من الغَضَارة يمطر . هو رَيْحَانة على القَدَح ، وذريعة إلى الفَرَح . عشرته ألطَفُ من نسيم الشمال ، على أديم الزلال ، وألصقُ بالقلب ، من علائق الحب . إذا أردت فهو سُبْحَة ناسك ، أو أحببت فهو تُفَاحة فاتك ، أو اقترحتَ فهو مدرعة راهب ، أو آثرت فهو نخبة شارب . أخباره زكية ، وآثاره ذَكية . أخباره تأتينا كما وَشَى بالمسك رَيَّاه ، ونَمَّ على الصباح مُحَيَّاه . قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفَتِيق ، وأَوْفَى على الزَّهْر الأنِيق . مناقب تَشْدَخ في جبينها غُزَة الصباح ، وتتهادى أنباءها وُفُودُ الرياح . فلان أخبارُه آثاره ، وعينه فراره ، قد حصلله من حَميد الذكر ، وجميل النَّشْرِ ، ما لا تزال الرواةُ تدرسه ، والتواريخ تحرسه . سألت عن أخباره فكأني حرّكت المسك فتيقاً ، أو صبّحت الروض أنيقاً . أخباره متضوعة كتضوّع المسك الأذقر ، ومُشرقة إشراقَ الفجر الأنور . أحبَبْتُه بالخَبَر ، قبل الأثر ، وبالوصف قبل الكَشْف . هو ممن يثقل ميزانُ ودّه ، ويُحْصف ميثاق عَهْدِه . هو كريم العهد ، صحيح العَقْد ، سليم الصَّدر في الود ، حميد الورد فيه والصَدَر . هو لإخوانه عُدَّة تشدّهم وتقويهم ، ونورٌ يسعى بين أيديهم . هو ركن الإخاء ، صَافي شِرْب الوَفاء ، حافظٌ على الغيب ما يحفظه على اللقاء . هو ممن لا تدومُ المُدَاهنة في عَرَصاتِ قَلْبه ، ولا تحوم المُوَاربة على جنبات صدره . هو يَسْري إلى كرم العهد ، في ضياء من الرّشد . عهده نَقْش في صخْر ، وودّه نَسَب ملآن من فخر . يقبلُ من إخوانه العَفْوَ ، كما يوليهم من إحسانه الصَّفْو . في وُدِّه غِنى للطالب ، وكفاية للراغب ، ومَرَادٌ للصَحْب ، وَزَادٌ للركب . هو في حَيلِ الوفاء حَاطِب ، وعلى فرض الإخاء مواظب . النجْحُ معقودٌ في نواصي آرائه ، واليُمْنُ معتاد في مذاهب أنحائه . له الرَّأْيُ الثاقب الذي تَخْفَى مَكايده ، وتَظْهَر عوائده ، والتدبيرُ النافذ الذي تَنْجَعُ مَبَاديه ، وتبهج تَوَاليه . رَأْيٌ كالسَّهْم أصاب غِرَّة الهَدَفِ ، ودهاء كالبحر في بُعْد الغَوْر وقرْب المغترف ، لا يضعُ رَأيه إلا مواضع الأصالة ، ولا يصرف تدبيره إلا على مواقع السداد والإصابة . يعرفُ من مبادئ الأقوالِ خواتِمَ الأفعال ، ومن صدور الأمور أعجاز ما في الصدور . رُؤْيته رَأْي صَلِيت ، وبديهته قدرٌ مصيب . يسافرُ رَأْيه وهو دَانٍ لم يبرح ، ويسير تدبيره وهو ثَاوٍ لم ينزح . له رأيٌ لا يخطئ شاكِلَةَ الصوابِ ، ولا يخشى بادرة العِثَار . فلان يخمّر الرأْيَ ويُحيله ، ويجيد الفكر ويجيله ، حتى يحصل على لب الصواب ، ومحض الرأي . إذا أذكى سراج الفكر ، أضاء ظلامَ الأمر ، هو قطب صَواب تَدورُ به الأمور ، ومستنبط صلاح يردُ إليه التدبير . يرى العواقبَ في مِرْآة عقله ، وبصيرةِ ذكائه وفَضْله . وله رَأْيٌ يردُ الْخَطْبَ مُصَلّماً ، والرمح مُقَلَّماً . آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب ، كأنه ينظرُ إلى الغيب من وراء سِتْرٍ رقيق ، ويطالعه بعَيْن السَّداد والتوفيق . يستنبطُ حقائقَ القلوب ، ويستخرج ودائع الغيوب . قد سَرَيْنَا من مشورته في ضياءٍ ساطع ، ومن رأيه الصائب في حُكم قاطع . مسك فتيقاً ، أو صبّحت الروض أنيقاً . أخباره متضوعة كتضوّع المسك الأذقر ، ومُشرقة إشراقَ الفجر الأنور . أحبَبْتُه بالخَبَر ، قبل الأثر ، وبالوصف قبل الكَشْف . هو ممن يثقل ميزانُ ودّه ، ويُحْصف ميثاق عَهْدِه . هو كريم العهد ، صحيح العَقْد ، سليم الصَّدر في الود ، حميد الورد فيه والصَدَر . هو لإخوانه عُدَّة تشدّهم وتقويهم ، ونورٌ يسعى بين أيديهم . هو ركن الإخاء ، صَافي شِرْب الوَفاء ، حافظٌ على الغيب ما يحفظه على اللقاء . هو ممن لا تدومُ المُدَاهنة في عَرَصاتِ قَلْبه ، ولا تحوم المُوَاربة على جنبات صدره . هو يَسْري إلى كرم العهد ، في ضياء من الرّشد . عهده نَقْش في صخْر ، وودّه نَسَب ملآن من فخر . يقبلُ من إخوانه العَفْوَ ، كما يوليهم من إحسانه الصَّفْو . في وُدِّه غِنى للطالب ، وكفاية للراغب ، ومَرَادٌ للصَحْب ، وَزَادٌ للركب . هو في حَيلِ الوفاء حَاطِب ، وعلى فرض الإخاء مواظب . النجْحُ معقودٌ في نواصي آرائه ، واليُمْنُ معتاد في مذاهب أنحائه . له الرَّأْيُ الثاقب الذي تَخْفَى مَكايده ، وتَظْهَر عوائده ، والتدبيرُ النافذ الذي تَنْجَعُ مَبَاديه ، وتبهج تَوَاليه . رَأْيٌ كالسَّهْم أصاب غِرَّة الهَدَفِ ، ودهاء كالبحر في بُعْد الغَوْر وقرْب المغترف ، لا يضعُ رَأيه إلا مواضع الأصالة ، ولا يصرف تدبيره إلا على مواقع السداد والإصابة . يعرفُ من مبادئ الأقوالِ خواتِمَ الأفعال ، ومن صدور الأمور أعجاز ما في الصدور . رُؤْيته رَأْي صَلِيت ، وبديهته قدرٌ مصيب . يسافرُ رَأْيه وهو دَانٍ لم يبرح ، ويسير تدبيره وهو ثَاوٍ لم ينزح . له رأيٌ لا يخطئ شاكِلَةَ الصوابِ ، ولا يخشى بادرة العِثَار . فلان يخمّر الرأْيَ ويُحيله ، ويجيد الفكر ويجيله ، حتى يحصل على لب الصواب ، ومحض الرأي . إذا أذكى سراج الفكر ، أضاء ظلامَ الأمر ، هو قطب صَواب تَدورُ به الأمور ، ومستنبط صلاح يردُ إليه التدبير . يرى العواقبَ في مِرْآة عقله ، وبصيرةِ ذكائه وفَضْله . وله رَأْيٌ يردُ الْخَطْبَ مُصَلّماً ، والرمح مُقَلَّماً . آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب ، كأنه ينظرُ إلى الغيب من وراء سِتْرٍ رقيق ، ويطالعه بعَيْن السَّداد والتوفيق . يستنبطُ حقائقَ القلوب ، ويستخرج ودائع الغيوب . قد سَرَيْنَا من مشورته في ضياءٍ ساطع ، ومن رأيه الصائب في حُكم قاطع .
نبذ من مفردات الأبيات في فرائد المدح
أبو نواس : البسيط :وكَلْتَ بالدهر عيناً غَيْرَ نائمةِ . . . من جُودِ كفيك تَأْسُو كلَّما جَرَحَا
الطائي : الوافر :
فلو صوَّرتَ نَفْسَكَ لم تَزِدْها . . . على ما فيك من كَرَمِ الطباعِ
البحتري : الطويل :
ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسهِ . . . لَجادَ بها فَلْيَتقِ اللهَ سائلُهْ
وله : الطويل :
ولم أَرَ أمثالَ الرجالِ تفاوتوا . . . لدى المجد حتى عُدَ أَلْفٌ بواحدِ
كشاجم : الخفيف :
عرف الفاضلون فضلك بالعل . . . م وقال الجُهَّال بالتقليدِ
المتنبي : الكامل :
شَخَصَ الأنامُ إلى كمالك فاستَعِذ . . . من شرِّ أعينهمْ بعَيْبٍ واحدِ
وله : الطويل :
ولمَّا رأيتُ الناسَ دون مَحَلَّهِ . . . تَيَقنْتُ أَنّ الدهرَ للناسِ ناقِدُ
وله أيضاً : البسيط :
إن خوطبوا أَو لُقُوا أو كوتبوا وُجِدُوا . . . في اللفظ والخط والهيجاءِ فُرْسانا
وله أيضاً : الكامل :
ذُكِرَ الأنامُ لنا فكان قصيدةً . . . كنتَ البديعَ الفَرْدَ في أبياتِهاأبو العباس الناشئ : الوافر :
خلِقْت كما أرادَتْك المعالي . . . فأنتَ لِمَنْ رجاك كما يُريدُ
المأموني : الكامل :
وخلائقٌ كالخمر دُونَ فعالِه . . . حَبَبٌ لهنَّ وما لهنّ خُمارُ
مجالس أهل الحكم
وقال إبراهيم الموصلي لموسَى الهادي ، وهو نديمُه ، وقد غنَّاه صوتاً فأعجبه : إنَّ مَنْ كان محلّه من أمير المؤمنين مَحَلّي في الانبساط وتَقَدُم النِّدَام جرأه البسطُ على الطلب ، وبعثَتْه المنادمةُ على الرجاء ، وقد نصَب لي أميرُ المؤمنين بقُرْبي منه مَشَارعَ الرغبة إليه ، وحثني محلّي عنده على الكُرُوع في المَنْهَلِ بين يديه . فقال : سَلْ شِفَاها ، فإني جاعِل فِعْلي عن إجابتك إليه حاضراً ؛ فسأله ما قيمته خمسون ألف درهم ؛ فأمر له بمائة ألف درهم .
ولما ظَفِر الإسكندرُ بدارا بن دارا قال له : بمَ اجترأ عليك صاحبُ شُرطتك ؟ قال : بتَرْكِي ترهيبَهُ وَقْتَ إساءتِه وتفريطِه ، وإعطائه وَقْتَ الإحسانِ اليسيرِ من فعله نهايةَ رغبته . فقال الإسكندر : نِعْمَ العون على استصلاح القلوب الموغَرَةِ الترغيبُ بالأموال ، وأصلح منه عاجلاً الترهيبُ وقت الحاجة إليه .
وقال الحسنُ بن سهل : خرج بعضُ ملوكِ الفرس متنزهاً ، فلقي بعضَ الحكماء ، فسأله عن أَحزم الملوك ، فقال : من ملك جدُّه هَزْله ، وقهر لبه هَوَاه ، وأَعرب لسانُه عن ضميره ، ولم يَخْدَعْه رِضاه عن سخطه ، ولا غضبُه عن صدقه . فقال الملك : لا ، بل أَحزمُ الملوكِ من إذا جاع أكل ، وإذا عطش شرِب ، وإذا تعب استراح . فقال الحكيم : أَيها الملك ، قد أَجَدْتَ الفطْنَة . هذا العلم مستفاد أَم غريزي ؟ قال : كان عندنا معلِّم من حكماء الهند ، وكان هذا نقشَ خاتمه . قال : فهل علَمك غير هذا ؟ قال : ومِنْ أين يؤخَذُ مثل هذا عند رجل واحدٍ ؟ ثم قال له الملكُ : علّمني من حكمتك أيها الحكيم . قال : نعم ، اِحفَظْ عني ثلاثَ كلمات . قال : ما هن ؟ قال : صَقلُك السيفَ ليس له جوهرٌ من سِنْخِه خَطأ ، وصبّك الحَبَّ في الأرضِ السَبِخَة ترخو نباته جَهْلٌ ، وحَمْلك المسِن على الرياضة عناء .
قال أبو تمّام الطائي : الكامل :والسيفَ ما لم يلفَ فيهِ صَيْقل . . . مِنْ سِنْخه لم ينتفعْ بصِقالِ
وقيل لبعض الحكماء : ما الدليل الناصح ؟ قال : غريزة الطبع . قيل : ما القائدُ المشفق ؟ قال : حسن المنطق . قيل : فما العناء المُعَنِّى ؟ قال : تطبيعك ما لا طبعَ له .
وكان أنوشروان يقول : الناس ثلاث طبقات تسوسهم ثلاث سياسات : طبقة من خاصة الأحرارِ تسوسهم بالعَطفِ واللّين والإحسان ، وطبقة من خاصة الأشرار تسوسُهم بالغِلظَة والعُنْف والشدة ، وطبقة من العامة تسوسهم باللين والشّدة ، لئلاّ تُحْرِجهم الشدّة ، ولا يبطِرَهم اللّين .
وقال واصل بن عَطاء : ألا قاتلَ الله هذه السفلة تُوَادُّ مَنْ حَادَّ الله ونبيَّه ، وتحاذُّ من وَادَّ الله ونبيه ؟ وتذمّ من مدحه الله ، وتمدح من ذمّه الله ؛ على أنه بهم عُلم الفضلُ لأهل الطبقة العالية ، وبهم أعطِيت الأوساط حظَّاً من النّبل . وقيل لبعض الملوك ، وقد بلغ في القدر ما لم يبلغه أحد من ملوكِ زمانه : ما الذي بلغ بكَ هذه المنزلة ؟ قال : عَفْوي عند قدرتي ، وليني عند شِدَتي ، وبَذْلي الإنصاف ولو من نفسي ، وإبقائي في الحب والبغض مكاناً لموضع الاستبدال .
وقال الإسكندر لأحد الحكماء ، وأراد سفراً : أَرشِدْنِي لأَحزم أَمري . قال : لا تملأنَّ قلبك من محبَّةِ الشيء ، ولا يَسْتَوْلينَ عليك بغضه ، واجعلهما قَصْداً ؛ فإن القلبَ كاسْمِه ينزع ويرجع ، واجعل وزِيرَك التثبت ، وسَمِيرَك التيقّظ ، ولا تُقْدِم إلا بعد المشورة ؛ فإنها نِعْمَ الدليل ، فإذا فعلتَ ذلك ملكت قلوب رعيتِك .
وقيل لبعض الحكماء : ما الحزم ؟ قال : سوء الظن . قيل : فما الصواب ؟ قال : المشورة . قيل : فما الرأْيُ الذي يجمعُ القلوبَ على المودّة ؟ قال : كفٌ بَذُول ، وبشر جميل . قيل : فما الاحتياط ؟ قال : الاقتصاد في الحبّ والبغض .
وسُئل بزرجمهر : ما المروءةُ ؟ قال : تَرْكُ ما لا يعني . قيل : فما الحَزْم ؟ قال : انتهازُ الفُرْصَة . قيل : فما الحلمُ ؟ قال : العفوُ عند المقدرة . قيل : فما الشدة ؟ قال : ملك الغضب . قيل : فما الخُرْق ؟ قال : حب مُغْرِق ؛ وبغض مُفْرِط .
قال معاوية ، رضي الله عنه ، لزياد حين ولاّه العراق : يا زياد ، ليكن حبُّك وبغضك قَصْداً ؛ فإن العَثْرة فيهما كامنة ، واجعل للنزوع والرجوع بقيّة من قلبك ، واحذَرْ صَوْلَةالانهماك ، فإنها تؤدي إلى الهلاك .
ومن كلام بلغاء أهل العصر في ذكر السلطان
أبو القاسم الصاحب : مَرْضاة السلطان ، لا تغلو بشيء من الأثمان ، ولا بِبَذْلِ الروح والجَنَان . تهب السلطانِ فَرضٌ وَكِيد ، وحَتْمٌ على منْ ألقَى السمعَ وهو شهيد .
أبو إسحاق الصابِي : المَلِك أحقّ باصطفاءِ رجاله منه باصطفاء أمواله ؛ لأنه مع اتساع الأمر وجَلالة القَدر لا يكتَفِي بالوَحْدَة ، ولا يستغني عن الكَثْرَة ؛ ومثله في ذلك مثل المسافرِ في الطريق البعيد الذي يجب أن تكونَ عنايته بفرسه المَجْنُوبِ ، كعنايته بفرسِه المركوب .
فصل للصابي : الملك بمن غلط من أتْبَاعِه فاتَّعظ أشدّ انتفاعاً منه بمن لم يغلط ولم يتّعظ ؛ فالأول كالقارح الذي أدَّبَتْه الغُرَّة ، وأصلحَتْه الفَدَامَة ، والثاني كالجَذَع المُتَهَوّكِ الذي هو راكب للغِرَّة وراكن إلى السلامة .
وقيل : إن العظم إذا جبر من كَسره عاد صاحبُه أشدّ بطشاً وأقوى أيداً .
أبو بكر الخوارزمي : لا صغيرَ مع الولاية والعِمالة ، كما لا كبيرَ مع العُطلة والبَطَالة ؛ وإنما الولايةُ أنثى تصغر وتكبر بواليها ، ومطيَّة تحسن وتقبح بمُمْتَطيها ، والصَّدْر لمن يليه ، والدَّست لمن جلس فيه ، والأعمال بالعمّال ، كما أنّ النساء بالرجال .
فصل له : إنّ ولايةَ المرء ثوبُه ؛ فإن قصُر عَرِي منه ، وإنْ طَالَ عثَرَ فيه . قليلُ السلطان كثير ، ومُدَارَاتُه حَزْمٌ وتدبير ، ومكاشفته غُرور وتَغْرير .
أبو الفتح البستي : أجهلُ الناس مَنْ كان على السلطان مُدِلاًّ ، وللأخوان مُذِلاًّ .
أبو الفضل ابن العميد : الإبقاءُ على حَشَم السلطان وعُمّاله عَدْلُ الإبقاء على ماله ، والإشفاقُ على حاشيته وحشمه مثل الإشفاق على ديناره ودرهمه .
وله من رسالة طويلة ، جواب لأبي شجاع عضد الدولة عن كتاب اقتضاه فيه صدْرَ كتاب الله أبو الحسن الصوفي في نوع من علوم الهيئة :أنا أقدم الإجابة بحمد الله تعالى جَدُّه ، على ما وهب لنا معاشرَ عبيدِه وخدمه خاصة ، بل لرعاياه عامّة ، بل لأهل الأرض كافة ، من عظيم النعمة بمكانِه ، وجسيم الموهبة بإنفاق أعمارِنا في زمانه ، حتى شاركْنَاهُ في أَسباب السعادة التي لم تَزلْ مَذْخُورة عليه ، حتى صارت إليه ، وساهمناه في مواد الفضيلةِ التي لم تَزَلْ محفوظةً له حتى اتَصَلَت به ؛ فإنّ المرءَ أَشْبَه شيءٍ بزمانه ، وصفات كل زمانٍ منتَسخة من سجايا سُلْطَانه ؛ فإن فَضَلَ شاعَ الفضلُ في الزمان وأهله ، وتحلَى الدَهرُ بأفضلِ حِلْيته ، وتجلى للعيونِ والقلوبِ بأحسن زينته ، وكسا بَنِيه والناشئين فيه بشرفِ جَوْهرَهِ ، وأَورثهم نَيْلَ فضله ، وعزَ العِلم وأهله ، وعرف لمقتبسه قَدْرَه ، وتوجَّهت الأذهانُ نحوه ، وتعلَقت الخواطرُ به ، وصرفت الفكر فيه ، ونشدت ضَوَالّه ، ونظم أَشْتَاته ، وجمعت أَفْرَادهُ ، ووثِقَتْ نفوسُ الساعين في استفادته بحُسْنِ عائدته ، فحرصت عليه ، وصرفَتْ نظرَها إليه ، وأيقنت في بضاعتها بالنَفاق ، وفي تجارتها بالإِرْفَاق ، فصار ذلك إلى نَمَاء العلوم وزيادتها داعية ، ولتكثير قليلها وإيضاح مجهولها سبباً وعلَّةً ، وإلى انخراط جواهرها المتفرقة في سلوك التصنيف سبيلاً ، وإلى تقييد شواردِها بعُقُل التأليف طريقاً . وإن رَذل السلطان اتُّبِعَت الرذيلةُ اتباعاً ، وذَهبتِ الفضائلُ ضَيَاعاً ، وبطلت الأقدارُ والقيم ، وسلِبَت الأخطار والهِمم ، وزال العلم والتعلم ، ودَرَس الفهْمُ والتفهم ، وضرَبَ الجهلُ بِجِرَانِه ، ووطئ بمنسمه ، واستَعْلَى الخمولُ على النباهة ، واستولى الباطلُ على الحقّ ، وصارَ الأدبُ وبالاً على صاحبه ، والعلمُ نكَالاً على حامله . وبحسب عظيم المحنة بمن هذه صِفَتُه ، والبلوى معَ مَنْ هذه صورتُه ، تَعْظُمُ النعمة بمُلْكِ سلطانٍ عالمٍ ، كالأمير الجليل عضد الدولة ، أَطال اللهُ تعالى بقاءه ، وأدام قُدْرَته ، الذي أَحله الله عزَ وجل من الفضائل بملتقى طُرُقها ومجتَمَع فرقها ، فهي نَوَادُ ممن لاقت حتى تَصيرَ إليه ، وشوارِدُ نوازعُ حيث حلَت حتى تقعَ عليه ، تتلفت تلفتَ الرامِقِ ، وتتشوَّفُ إليه تشوفَ الصب العاشقِ ، قد ملكها أنَّى توجهت وحشة المضاع وحَيرة المرتاع : الطويل :
فإن تَغشَ قوماً غيره أَوْ تَزُرْهُمُ . . . فكالوحش يُدْنِيها من الأَنَسِ المَحلُ
حتى إذا قابلته أسرعت إليه إسراعَ السيل ينصَب في الحدور ، والطير يَنْقَضُ إلى الوكور .وقال أبو الطيب المتنبي : المنسرح :
أَحَقُّ عافٍ بدَمْعكَ الهِمَمُ . . . أَحْدَثُ شيءٍ عَهْداً بها القدَمُ
وإنما الناسُ بالملوكِ ، وَما . . . تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُهَا عَجَمُ
لا أدبٌ عندهُمْ ولا حَسَبٌ . . . ولا عُهُودٌ لَهُم ولا ذِمَم
بكل أرضٍ وطِئْتُها أُمَمٌ . . . تُرْعَى بعَبْدٍ كأنها غَنَمُ
يستَخْشِنُ الخَزَ حين يَلْمُسُهُ . . . وكان يُبْرَى بظُفْرِه القَلَمُ
وقال الزبير بن بكار : قَدِم ابنُ ميادة ، واسمه الرََّمَّاحُ بن أبرد ، زائراً لعبد الواحد بن سليمان ، وهو أميرُ المدينة ، فكان عنده ليلةً في سُماره ؛ فقال عبدُ الواحد لأصحابه : إني لأهم أن أتزوج فابْغُوني أيماً ، قال ابن ميادة : أنا - أصلحك الله - أدلُك ، قال : على مَن ، يا أبا بشر ، نَميل ؟ قال : قدمت عليك أيها الأمير ، فلما قدمت ألفيتُ المسجد وإذا أشبه شيءٍ به وبمن فيه الجنة ومَنْ فيها ، فبينا أنا أمشي إذ قادتني رائحةُ رجلٍ عطِرٍ حتى وقفت عليه ، فلما وقع بصري عليه استَلهَى حُسْنه ناظري ، فما أقلعت ناظري حتى تكلَم فما زال يتكلَم كأنما يَنثر دُرًا ، ويتلو زَبوراً ، ويدرس إنجيلاً ، ويقرأ فُرْقاناً ، حتى سكت ، فلولا معرفتي بالأمير ما شككت أنه هو ، ثم خرج من مُصَلاَّه إلى داره ، فسألت عنه ، فأُخْبِرْتُ أنه من الحسن بمكانةٍ ، وأنه للخليفتين ، وأنه قد نالَتْه ولادَةٌ من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لها ساطع من غُرَّتِه ؛ فإن اجتمعتَ أنْتَ وهو على ولدٍ ساد العبادَ ، وجابَ ذِكْرُه البلاد .
فلما قضى ابنُ ميادة كلامه قال عبد الواحد ومَن حضر : ذلك محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، رضي الله تعالى عنه ، لفاطمة بنت الحسين بن علي ، رضي الله عنهم .
وقال ابن ميادة : الطويل : لهم سيرة لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم . . . وكل قضاء اللهِ فهو مُقَسَمُ
هذا في تقابل نسبه ، وكمال منصبه ، كقول عُوَيْفِ القوافي في طلحة بن عبد الله الزهري : الطويل :
يُصَمُ رِجالٌ حين يُدعَون للندى . . . ويُدعى ابن عوفٍ للندى فيجيبُ
وذاك امرؤ من أي عِطفَيه يَلتفِتْ . . . إلى المجد يحْوي المجدَ وَهوَ قَرِيبُ
وعبد الواحد بن سليمان هذا هو الذي يقول فيه القطامي : البسيط :أقولَ للحَرْفِ لَمَّا أنْ شكَتْ أصلاً . . . طولَ السِّفار وأفْنَى نِيَّها الرّحلُ
إن ترجعي من أبي عثمان منجِحَةً . . . فقد يَهُونُ على المستنجح العملُ
أهل المدينة لا يحزنك شأنهمُ . . . إذا تخطأ عَبْدَ الواحد الأجَل
ومن قول القطامي : إن ترجعي من أبي عثمان منجحة أخذ الآخر قوله : الطويل :
إذا ما تَعَنَّى المرءُ في إثر حاجةٍ . . . فأنجح لم يثقلْ عليه عناؤهُ
وهو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان ، قال الكلبي : هو عبد الواحد ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، والأول قول ابن السكيت .
والقصيدة التي منها هذه الأبيات من أجْوَدِ قوله ، وفيها يقول ممّا يتمثّل به : البسيط :
والعيشُ لا عَيْشَ إلا ما تَقَرُّ به . . . عَيْنٌ ولا حال إلا سوف يَنتقلُ
والناسُ مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون لهُ . . . ما يَشْتَهِي ولأُمِّ المخطئ الهَبَلُ
قد يُدْرِكُ المتأني بعضَ حاجتِه . . . وقد يكونُ مع المستعجل الزَّلَلُ
قوله : والناس مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون له مأخوذٌ من قول المرقش : الطويل :
ومَنْ يَلْقَ خيراً يحمدُ الناسُ أمْرَهُ . . . ومَنْ يَغْوَ لا يعدَمْ على الغيِّ لائما
وقال عمرو بن سعيد للأخطل : أيسرُكَ أن لك بشعرك شعراً ؟ قال : لا ، ما يسرُني أن لي بقولي مقوَلاً من مَقَاوِيل العرب ، غير أنّ رجلاً من قومي قال أبياتاً حسَدْتُه عليها ، وايم الله ، إنه لمُغْدِف القناع ، ضيِّق الذراع ، قليل السماع ، قال : ومَنْ هُو ؟ قال : القُطامي ، قال : وما هذه الأبيات ؟ فأنشد له يَصِفُ إبلاً من هذه القصيدة : البسيط :
يمشين رَهْواً فلا الأعْجَازُ خاذِلة . . . ولا الصدورُ عَلَى الأَعْجَازِ تثكِلُ
فهن معترِضات وَالْحَصا رَمِضٌ . . . وَالرّيحُ سَاكِنَة والظلُّ معتدلُ
يتبعن سَاميةَ العَيْنَيْنِ تحسبها . . . مجنُونة أو تَرَى ما لا تَرَى الإبلُ
بين اللفظ واللحن
قال أبو العتاهية لمخارق : أنت بنغمِ ألفاظك دون نَغَمِ ألحانك ، تُطْرِبُ إذا تكلمت ، فكيف إذا ترنّمت .وقال له يوماً : يا حكيم هذه الأقاليم ، اصبُبْ في هذه الآذان من جيدِ تلك الألحان ، فأُقْسِمُ لو كانَ الكلامُ طعاماً ، لكان غناؤك له إداما .
قال إسحاقُ بن إبراهيم الموصلي : دخلتُ على المعتصم يوماً وقد خلاَ ، وعنده جاريةٌ تُغَنِّيه ، وكان معجَباً بها ، فلما جلست قال لي : يا أبا إسحاق ، كيف تَراها ؟ فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، أراها تقهره بحِذْق ، وتختله برِفق ، ولا تخرج من حَسَن إلا إلى أحسن منه ، وفي حلقها شذورُ نَغَم أحسنُ من دوام النعم ، قال : يا إسحاق ، هي غاياتُ الأمل ، ومُنْسِيات الأجل ، والسقم الداخل ، والشغْل الشاغل ، وإن صِفَتَك هذه لو سمعها مَنْ لم يَرَها لفقد لُبَّه ، وقَضَى نَحْبَه .
وسُئِل إسحاق عن المُجِيد من المغنين ، فقال : مَنْ لَطُفَ في اختلاسه ، وتمكَّن من أنفاسه ، وتفرَّع في أجناسه ، يكادُ يَعْرِفُ ضمائرَ مُجَالِسِيه ، وشهواتِ مُعَاشِرِيه ، يَقْرَعُ مسمع كلِّ واحد منهم بالنحو الذي يُوافِقُ هواه ، ويُطَابِقُ معناه .
وكان إسحاقُ بن إبراهيم قد جمع إلى حِذْقِه بصناعَتِه حُسْنَ التصرف في العلوم ، وجَوْدَةَ الصنعة للشعر ، وحَدَّث عن نفسه فقال : كنت أيام الرشيد أُبكِّر إلى هُشَيم ووكيع فأسمعُ منهما ، ثم أنصرف إلى عاتكة بنت شُهَيد ؛ فتُطَارِحُني صوتين ، ثم أَصِير إلى زلزل الضارب فآخذُ منه طريقين ، ثم أسير إلى منزلي فأبعث إلى أبي عبيدة والأصمعي ، فلا يَزَالانِ عندي إلى الظهر ، ثم أذهبُ إلى الخليفة . ونزل أبوه بالموصل وليس من أهلها فنُسِب إليها ، وهو مولى خزيمة بن خازم التميمي ، وفي ذلك يقول إسحاق : الطويل :
إذا مضرُ الحمراء كانت أَرُومَتِي . . . وقام بِنَصْرِي خَازِمٌ وابنُ خَازِمِ
عَطَسْتُ بأَنْفِي شامخاً وتَنَاوَلَتْ . . . بَنَانِي الثريّا قاعداً غَيْرَ قَائِمِ
وفيه يقول محمد بن عامر الجرجاني يرثيه : الطويل :
على الجدَثِ الشرقيَّ عُوجَا فسلما . . . ببغدادَ لما صدّ عَنْه عوائدُهْ
أإسحاق ، لا تبعد ، وإن كان قَدْ رَمَى . . . بكَ الموتُ مرمًى ليس يصدر وارِدُهْ
متى تأتِهِ يوماً تحاولُ مُنْفساً . . . مِن الدين والدنيا فإنك وَاجِدُهْ
إذا هزل اخضرَّتْ فروعُ حَدِيثه . . . ورفَّتْ حَوَاشِيه وطابَتْ مشاهِدُه
وإنْ جَدَّ كان القولُ جِداً وأقسمت . . . مخارجه ألاَّ تلينَ شَدائِدُه
ومن جيد شعر إسحاق قصيدته في إسحاق بن إبراهيم المصعَبيّ بعد إيقاعه بالخرميّة : الطويل :تَقَضَّتْ لباناتٌ وَجَدَّ رَحِيل . . . ولم يُشْفَ مِنْ أَهْلٍ الصفاء غليلَ
ومُدَّت أكفٌّ للوداع فصافَحَتْ . . . وفاضت عيونٌ للفراقِ تَسِيلُ
ولا بدّ للأُلاَّف مِن فَيْضِ عَبْرَةٍ . . . إذا ما خَلِيلٌ بَانَ عنه خَلِيلُ
فكم مِن دمٍ طُل يوم تحمّلَت . . . أوَانِسُ لا يُودَى لهن قَتيلُ
غداة جَعَلْتُ الصبرَ شيئاً نسيْتُهُ . . . وأعولْتُ لو أَجْدَى عَلَي عَوِيلُ
ولم أنسَ مِنْهَا نظرةً هَاجَ لي بها . . . هَوًى مِنْهُ بادٍ ظاهرٌ ودَخِيل
كما نظَرَتْ حَوْرَاءُ في ظلِّ سِدرةٍ . . . دَعَاهَا إلى ظلِّ الكِنَاس مَقِيلُ
فلا وَصْلَ إلا أن تلافاه أَينُقٌ . . . عِتَاق نَمَاهَا شدقَمٌ وجَدِيلُ
إذا قلبت أجفانها بتَنُوفةٍ . . . طوى البعدَ منها هزةٌ وذَمِيلُ
تفرَد إسحاقٌ بنُصْح أميرِه . . . فليس له عند الإمام عَدِيلُ
يفرج عنه الشك صدْقُ عَزِيمةٍ . . . وَلُبٌ به يَعْلُو الرجالَ أَصِيلُ
أغرّ نجيبُ الوالدين كأنهُ . . . حسامٌ جَلَتْ عنه العيون صقيلُ
بني مُصْعَبٍ ، للمَجْدِ فيكم إذا بدتْ . . . وجوهكُم للناظرين دَلِيلُ
كرُمتم فما فيكم جَبَانٌ لَدى الوغى . . . ولا منكُم عند العطاءِ بَخيلُ
غَلبتم على حُسْنِ الثناء فَرَاقكم . . . ثناءٌ بأَفواهِ الرجالِ جَمِيلُ
إذا استكثر الأعداء ما قلتُ فيكُم . . . فإن الذي يستكثرون قَلِيلُ
وهذا نمط الحذاق الفحول ، وقال : الطويل :
ومَدرَجةٍ للريح غَبْرَاء لم يكن . . . لِيَجْشَمها زمَّيْلةٌ غَير صَارِمِ
يَضِلُّ بها الساري وإنْ كان هادياً . . . وتقطَعُ أنفاسَ الرياحِ النَّواسِمتعسَفْتُ أبْرِي جَوْزَها بشَمِلّةٍ . . . بعيدةِ ما بين العرى والمَحازِم
كأن شَرَار المَرْوِ من نَبْذِها بِهِ . . . نجومٌ هوَتْ إحدى الليالي العواتِم
إذا ضَمّها والسفْرَ ليلٌ فغيبتْ . . . دياجِيره عنهم رؤوس المعالمِ
تنادَوْا فصاروا تحت أكنافِ رَحْلِها . . . ليهديَهم قَدْحُ الحَصَى بالمَناسِمِ
وقال : الطويل :
ولما رأَيْنَ البَيْنَ قد جدّ جِدّهُ . . . ولم يبقَ إلا أنْ تَبِين الركائبُ
دنَوْنَا فسلمنا سلاماً مُخالساً . . . فردَّتْ علينا أعينٌ وحواجبُ
تصدُّ بلا بُغْضٍ ونخلس لمحةً . . . إذا غفلت عنا العيونُ الرواقبُ
نذَاد إذا حُمنا لنشفيَ غلةً . . . كما ذِيدَ عن وِردِ الحِياض الغَرَائبُ
وما أحسن ما قال أبو العباس الناشئ في هذا المعنى : الطويل : ولما رأين البين زُمَّت رِكابهُ . . . وأيقَنَّ منّا بانقطاع المطالبِ
طلبن على الرَّكبِ المجدين عِلَةَ . . . فعُجْنَ علينا من صدور الركائبٍ
فلما تلاقَيْنا كتبْنَ بأَعْيُنٍ . . . لنا كتُباٌ أعْجَمْنَها بالحواجبِ
فلمّا قرأناهُنَّ سِرًّا طويْنَها . . . حِذار الأعادي بازْوِرَارِ المناكبِ
وقال إسحاق : الطويل :
ألا مَنْ لقلبٍ لا يزالُ رَمِيّةً . . . لِلَمْحَةِ طَرْفٍ أو لِكسرَةِ حَاجِب
وللخُمُر اللاتي تساقط لوثها . . . فتُور الخطا عن وَارِدَات الذوَائبِ
وصف الذوائب
وعلى ذكر الذوائب قال ابن المعتز : الطويل :
سقَتْنِيَ في ليل شبيه بشعرها . . . شَبيهَةَ خدَّيْهَا بغيرِ رقيبِ
فأمسيت في ليلين بالشَعْرِ والدّجَى . . . وَخَمْرَيْنِ من راحٍ وخَدّ ِحبيبِ
وقال بكر بن النطاح : الكامل :
بيضاءُ تسحب من قيام شعرَها . . . وتغيبُ فيه وَهْوَ جَثْلٌ أَسْحَمُ
فكأنها فيه نهارٌ مبصرٌ . . . وكأنه ليلٌ عليها مظلِمُوقال المتنبي : الكامل :
نَشَرَتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعْرِها . . . في ليلةً فَأَرَتْ لياليَ أَرْبَعا
واستقبلَتْ قَمَرَ السماءِ بوجهها . . . فأَرَتْنِيَ القَمَرَيْنِ في وقتٍ مَعَا
وقال ابن الرومي : المنسرح :
وفاحمٍ واردٍ يُقَبّل مَمْ . . . شاه إذا اختال مُسْبلاً غُدُرَهْ
أقْبَلَ كالليلِ في مفارقهِ . . . منحَدِراً لا يُرَام مُنْحَدَرَهْ
حتى تناهَى إلى مواطئِه . . . يَلْثَم من كلِّ مَوْطئ عَفَرَهْ
كأنهُ عاشِقٌ دَنَا شغفاً . . . حتى قضى مِنْ حبيبه وَطَرَهْ
يُغْشي غَوَاشِي قرونهِ قَدَماً . . . بيضاءَ للناظرين مُقْتَدِرَهْ
مثل الثريّا إذا بَدَتْ سحَراً . . . بعد غَمَام وحاسرٍ حَسَرَهْ
أخذه بعض أهل العصر - وهو محمد بن مطران - فقال : الطويل :
ظِبَاءٌ أَعارتها الظّبَا حُسنَ مَشيها . . . كما قد أعارَتهَا العيونَ الجآذِرُ
فمِنْ حُسْنِ ذاك المشي قامت فقبَّلت . . . مواطئ من أقدامهن الغدائرُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
أجدّكِ هل تدرينَ أنْ رُبَّ ليلةٍ . . . كأنَّ دُجَاهَا من قرونك يُنْشَرُ
نَصَبْت لها حتى تجلَتْ بِغُرَّةٍ . . . كغُرَّةِ يَحيى حين يُذْكر جَعْفَر
القصيدة والإنسان
قال الحاتمي : مثلُ القصيدةِ مثلُ الإنسان في اتِّصَالِ بعضِ أعضائه ببعض ؛ فمتى أنفصلَ واحدٌ عن الآخر وبَايَنَهُ في صحَّة التركيب ، غادر الجسمَ ذا عاهَةٍ تتخوَّنُ محاسنَه ، وتُعَفي معالِمَه ؟ وقد وجدت حُذَّاقَ المتقدّمين وأربابَ الصناعةِ من المحدَثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراساً يجنّبهم شوائبَ النقصان ، ويقفُ بهم على محَجَّةِ الإحسان ، حتى يقعَ الاتّصَالُ ، ويُؤْمَن الانفصال ، وتأْتِي القصيدةُ في تَنَاسُب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة ، والخُطْبَة الموجَزَة ، لا ينفصلُ جزءٌ منها عن جزء ، وهذا مذهبٌ اختصَّ به المحدَثون ؛ لتوقّدِ خواطرهم ، ولُطْفِ أفكارِهم ،واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم ، وكأنه مذهبٌ سهّلَوا حَزْنَهُ ، ونهجوا رَسْمَهُ ؛ فأمَّا الفحول الأوائل ، ومَنْ تَلاَهُمْ منَ المخضرمين والإسلاميين فمذهبُهم المتَعالم عدذ عن كذا إلى كذا وقُصَارَه كلِّ واحدٍ منهم وَصْفُ ناقتِه بالعِتق ، والنَّجَابة والنجاء ، وأنه امتَطاها ؛ فادّرع عليها جِلْبَابَ اللّيل ؛ وربما اتَّفق لأحدِهم معنى لطيف يتخلّص به إلى غرضٍ لم يتعمّده إلا أن طبعه السليم ، وصِراطه في الشعر المستقيم ، نصبا مَنَارَه وأوقدا باليفاع نارَه ؛ فمن أحسن تخلّص شاعر إلى معتمده قولُ النابغة الذبياني : الطويل :
فكَفْكَفْتُ منّي عَبرَةً فَرَدَدْتُها . . . على النَّحْرِ ، منها مستهلّ ودامعُ
على حينَ عاتبْتُ المشيبَ على الصِّبَا . . . وقلتُ : أَلمَّا أَصْحُ والشيبُ وَازعُ وقد حالَ هَم ، دونَ ذلِكَ ، شاغِلٌ . . . مكان الشِّغافِ ، تَبْتَغِيه الأَصابعُ
وعيدُ أبي قابوسَ في غير كُنْهِه . . . أتاني ودوني راكِسٌ فالضَّواجعُ
وهذا كلام متناسخ ، تقضي أوائلُه أَواخره ، ولا يتميّز منه شيء عن شيء : الطويل :
أتاني ، أبيتَ اللعن ، أنك لُمْتَني . . . وتِلك التي تَسْتَكُّ منها المسامِع
مقالة أن قد قلتَ سوف أناله . . . وذلك من تِلْقَاءِ مثلك رائعُ
ولو توصَل إلى ذلك بعضُ الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني ، وفتحوا أبواب البديع ، واجتنوْا ثمرَ الآداب ، وفتَحُوا زَهْرَ الكلام لكان معجزاً عجباً ، فكيف بجاهلٍ بَدَوِي إنما يغترفُ من قليب قَلْبِه ، ويستمدُّ عفوَ هاجسه .
وقال عليّ بن هارون المنجم عن أبيه : لم يتوصل أحدٌ إلى مدح بمثل قول ابن وهيب : الكامل :
ما زال يُلْثِمُنِي مراشفهُ . . . ويُعِلُني الإبريقُ والقَدَحُحتى استرد الليل خلعَتَهُ . . . وبَدَا خِلاَلَ سوادِهِ وَضَحُ
وبَدا الصباحُ كأن غُرَّتهُ . . . وَجهُ الخليفة حينَ يُمْتَدحُ
وقال علي بن الجهم : البسيط :
وليلةٍ كحّلتْ بالنِّقْس مُقلتَها . . . ألقَتْ قِنَاعَ الدُجى في كلّ أُخدودِ
قد كاد يُغْرِقُني أمواجُ ظُلْمَتها . . . لولا اقتباس سَنَا وَجْهِ ابنِ دَاوُد
قوله : كحلَتْ بالنفْس مقلتها مأخوذ من قول أعرابي : والليل . قد صَبَغ الحصَى بمِدَادِ .
وقد أخذ هذا أبو نواس فقال : الوافر :
أَبِنْ لي كيف صِرْتَ إلى حَرِيمي . . . وجَفْنُ الليلِ مُكْتَحِلٌ بقَارِ
وقد أخذ هذا أبو تمام فقال : الطويل :
إليك هَتَكنَا جُنْحَ ليل كأنهُ . . . قد اكتحلَتْ منهُ البلادُ بإثِمِدِِ
وقد أَخذ لفظَ الأَعرابي المتقدم أبو نواس فقال : الرجز :
وقد أَغتدي والليلُ كالمِدَادِ . . . والصُبْحُ ينفيه عن البلادِ
طرد المشيبِ حالِكَ السَّوادِ
وإنما نظرَ في هذا إلى قول الأعرابي : البسيط :
أقول والليلُ قد مالَتْ أواخِرُه . . . إلى الغروب : تأمَل نظرةً حارِ
ألمحه من سنَا بَرْقٍ رأَى بصري . . . أم وجْه نُعْمِ بَدا لي أم سَنا نَارِ ؟
بل وجْهُ نُعْمٍ بَدا والليلُ مُعْتَكِر . . . فلاحَ ما بين حُجَّابٍ وأَسْتَارِ
ومن بديع الخروج قول علي بن الجهم وذكر سحابةَ : الطويل :
وساريةٍ تَزْدَارُ أرضاً بِجَوْدِها . . . شغَلْت بها عيناً طويلاً هجوهُا
أتتْنا بها ريحُ الصَّبَا فكأنها . . . فتاةٌ تُرجِّيها عجوزٌ تقودها
فما بَرِحَتْ بغدادَ حتى تفجرتْ . . . بأودية ما تستفيق مُدُودُها