كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي
كان بالريّ شيخ من العلوية مستهتر بالشراب، لا يفيق منه ساعة واحدة، وكان ضعيف الحال جداً، لا يملك على وجه الأرض شيئاً، وكان يحتال في كل سنة، ويتخذ شيئاً من الشراب يدخره لنفسه، ويضطرب من بعد في طلب قوته، وكان في حجرة بكراء. واتفق أنه دخل عليه لص، فطاف الحجرة، فلم يجد شيئاً، ودخل البيت فوجد فيه حُبّين مملوئين شراباً، وقصعةً كان يشرب فيها صاحب المنزل من الحُبّ، فاغتنم ذلك، وشرب من ذلك الشراب حتى سكر ونام، وانتبه العلويّ من نومه، فرأى الرجل طريحاً من السكر فأخذ منديله وباعه في السوق، واشترى به طعاماً وأكله، وترك للص فضلةً، وشرب حتى سكر ونام، وأفاق اللص فوجد الطعام فقال: هذا رجل فتىً قد زلّ لي من طعامه زلّةً، فأكل وشرب ونام. وأفاق العلويّ في اليوم الثاني، ففعل بجمشك اللص مثل ما فعله بمنديله، ثم بعد ذلك بمئزر كان معه، عساه أراد أن يكوّر فيه، ولم يزل ذلك دأبه في كل يوم ودأب اللص إلى أن انتبه اللص ذات يوم، وهو عريان ليس عليه ما يواري عورته، فصاح بالعلويّ وقال: أين ثيابي؟ فقام وقال: خُذ الحساب: المنديل أكلته اليوم الأول، والقميص أكلته اليوم الثاني، وجعل يعدّد عليه. فصبر اللص إلى أن أظلم الليل، فخرج عرياناً.
ذُكر أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى أبي بحر بن نافنّة: أن ابن لي قصراً بالجرف أنزله إذا قدمت المدينة. فبنى له قصرأ ضيقاً، ودأب في عمله الليل والنهار فرقاً من قدوم سليمان، وعمل فيه أيام الجُمع، وراح إلى الصلاة متخفيّاً، وقد خلت الطريق فلقيه أبو علي الأسود - وكان يقطع الطريق - فقال: يا أبا بحر، ضع ثوبيك. قال: يا أبا علي، رقيقي أحرار لوجه الله إن كنت أخذتهما إلا بخمسة دنانير، وهم أحرار إن لم أردّهما إليك أو خمسة دنانير. قال: فأنغض أبو عليّ رأسه، وقال: يا أبا بحر، أرأيت أحداً قطع قط بنسيئة؟ ضع ثوبيك. فوضعهما ورجع عرياناً. وقد يعقب ذلك سليمان بن عبد الملك، فنظر إلى القصر وإلى ضيقه فقال: عليك لعنة الله، لقد سرّني ما صنع بك أبو علي، يا عاضّ كذا من أمه.
بات رجل في منزله، وليس له فيه شيء، فطرقه لص في الليل وأحسّ الرجل به، فقال: يا غلام، ودعاه ببعض أسماء العبيد، تعال وغمزّني. فقال اللص: الرجل سكران، وهوذا يحسبني بعض غلمانه وإذا غمّزته ساعةً غلبه النوم، وقمت فكوّرت جميع ما في البيت، فجعل يغمّزه، ومد الرجل يده إلى اللص فجذبه إلى نفسه، وناكه، واللص ساكت لا يجسر أن يتكلم، ولا يشك أن الرجل قد غلط، وكلما أراد أن يقوم وقدّر أن الرجل قد نام عاوده وناكه مرةً أخرى، حتى فعل ذلك مراراً، ومضى الليل، وخاف اللص أن يفضحه الصبح فقام ليتسلق الحائط ويهرب. فصاح به الرجل: متى نشطت للعود فعد. فصاح اللص: أما أنا فأجد موضعاً أسرق منه شيئاً ولكن الشأن فيك حين لا تجد نيكاً إلا إذا أتاك لص.
الباب الثاني والعشرون
نوادر الحمقى والمغفلين
كان للمهدي ابن يقال له: يعقوب يُحمّق، وكان إذا خطر بباله الشيء فيشتهيه دعا بدفتر فيه ثبت ما في خزانته فيكتبه هناك. فضجّ خازنه وقال: يا سيدي، تُئبت عليّ ما ليس في الخزانة؟ فكان بعد ذلك يُثبت الشيء ثم يُثبت تحته: ليس عنده ذلك، وإنما أثبتّه ليكون ذكره عنده إلى أن نملكه.ووُصف ذلك للمأمون فكذّب به حتى أحضر دفتراً له فيه ثبت ثياب بخطه، وفيه: ومن الثياب المثّقلة الإسكندرانية لا شيء، أستغفر الله، بل عندنا زر من جبة كان للمهدي رحمه الله، ومن الفصوص الياقوت الأحمر البهرمان الصافية لا شيء، أستغفر الله، بل عندنا درج كان فيه للمهدي خاتم هذه صفته، وأشياء تشبه هذا. فلما قرأ المأمون استفرغ ضحكاً، وقال: ما ظننت أن مثل هذا يُخلق ولا سمعت بمثله فيما مضى.
ويعقوب هذا هو الذي كان يتبخر بمثلثة، وفسا والمجمر تحته، فقال: ليست هذه المثلثة بطيّبة، فقالت دايته: كانت طيبةً وهي مثلّثة فلما ربّعتها أنت فسدت.
قال إسحاق الموصلي: تذاكر قوم من نزار واليمن أصنام الجاهلية فقال رجل من الأزد عندي - والله - الحجر الذي كان قومنا يعبدونه. قالوا: وما ترجو به؟ قال: لا أدري ما يكون! وقال إسحاق: سمعت كيسان يسأل خلفاً يقول له: يا أبا محرز، علقمة بن عبدة جاهلي أو من بني ضبة؟ فقال: يا مجنون، صحّح المسألة حتى يصحّ الجواب.
حضر القطيعي مع قوم جنازة رجل، فنظر إلى أخيه فقال: أهذا هو الميت؟ من أخوه؟ نظر ابن عتّاب إلى وجهه في المرآة، فقهقه، فقيل له: ما يُضحكك؟ قال: كيف لا أضحك من وجه لو كان على غيري لضحكت حتى أخرى؟ قال عدنان التاجر، وكان من وجوه بغداد، لبعض الفقهاء: إني قد عزمت - لما أصبت به من موت ولدي - على قتل نفسي، فهل تخاف عليّ من السلطان شيئاً؟ قال الجاحظ: كان لنا جار مغفل جداً، وكان طويل اللحية، فقالت له امرأته يوماً: من حُمقك طالت لحيتك، فقال: من عيّر عُيّر.
ووُلد له ولد، فقيل له: ما تُسميه؟ فقال: عمر بن عبد العزيز.
وهنئوه به فقال: هو من الله ومنكم.
أكل بعضهم مع أمه بزماورد، فيه رأس، فقال: يا أمي، كلي فإنه للجماع.
قال المأمون لمحمد بن عبد الله الطوسي: ما حال غلّتنا بالأهواز، وما أتاك من خبر سعرها؟ فقال: أما متاع أمير المؤمنين فقائم على سوقه، وأما متاع أم جعفر فمُسترخى. فقال: اغرب لعنك الله.
قيل لجامع الصيدلاني: لا تكثر من أكل الملح؛ فإنه يضر بالبصر، قال لا أزيد على أن أمصه وأرمي بثُفله.
كان شذرة بن الزبرقان بن بدر من الحمقى، فدخل يوم الجمعة المسجد الجامع فقام وأخذ بعضادتي الباب، ثم قال: السلام عليكم، أألج؟ فقالوا: هذا يوم لا يستأذن فيه. فقال: أيلج مثلي على جماعة مثل هؤلاء وهو لا يعرف مكانه؟! كان إسماعيل بن علّية يُصلّي الليل أجمع، وإلى جانبه جارة له تضرب بالطنبور، فلما أصبح قال لوكيله: جارتنا هذه أراها فقيرةً، الليل أجمع كانت تندف، فأعطاها مائة درهم.
عاد رجل مريضاً، وقد كان مات لأهل المريض رجل فلم يُعلموه بموته فقال: يهون عليكم إذا مات هذا ألاّ تعلموني به أيضاً؟.
قال أبو خيثمة اشتريت لعمّار بن محمد فرواً. فقال: أرى شعره قصيراً تراه ينبت؟ قال قبيصة - ورأى جراداً يطير - ، لا يهولنّكم ما ترون، فإن عامتها موتى.
وتغدّى أبو السرايا عند سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ ولي عهد، وقُدّامه جدي. فقال: كل من كليته، فإنها تزيد في الدماغ. فقال: لو كان هذا هكذا كان رأس الأمير رأس البغل.
وكتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب: إنك - والله - ما أنت بصاحب هذا الأمر، صاحب هذا الأمر مغمور موتور، وأنت مشهور غير موتور. فقال له رجل من الأزد يقال له عثمان بن المفضل: قدّم ابنك مخلداً حتى يُقتل فتصير موتوراً.
ولقي رجل رجلاً، ومعه كلبان، فقال له: هب لي أحدهما. قال: أيّهما تريده؟ قال: الأسود. قال: الأسود أحب إليّ من الأبيض. قال: فهب لي الأبيض. قال: الأبيض أحب إليّ من كليهما.
قال الجاحظ: وقع بين جار لنا وجار له يُكنى أبا عيسى كلام، فقال: اللهم خذ مني لأبي عيسى. قالوا: تدعو الله على نفسك؟ قال: فخذ لأبي عيسى مني.
شرد بعير لهبّنقة القيسي، قال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ قال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان، وكنيته أبو نافع، واسمه يزيد بن ثروان.
ولما خلع قتيبة بن مسلم سليمان بن عبد الملك بخراسان وقام خطيباً قال: يا أهل خراسان، أتدرون من وليكم؟ يزيد بن ثروان، كناية عن هبنقة القيسي قال: وذلك أن هبنقة كان يُحسن من إبله إلى السمّان ويدع المهازيل ويقول: إنما أُكرم ما أكرم الله، وأُهين من أهان الله، وكذلك كان سليمان، كان يعطي الأغنياء، ولا يعطي الفقراء ويقول: أُصلح ما أصلح الله، وأفسد ما أفسد الله.
دخل كردم على بلال فدعاه إلى الغداء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرزّ فأكترت منه.
ودخل عكابة دار بلال فرأى ثوراً مجللاً فقال: ما أفرهه من بغل لولا أن حوافره مشقوقة!.
قال الهيثم: خطب قبيصة، وهو خليفة أبيه على خراسان، فأتاه كتابه فقال: هذا كتاب الأمير، وهو - والله - أهل أن أطيعه، وهو أبي، وهو أكبر مني.
واستعمل معاوية رجلاً من كلب، فذكر يوماً المجوس وعنده الناس فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أُعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي. فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله، أترونه لو زادوه على مائة ألف فعل؟! وعزله.
وكان معاوية بن مروان محمّقاً، وهو الذي قال لأبي امرأته: ملأتنا بنتك البارحة بالدم. قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن.
وكان عبد الملك بن هلال الهُنائي عنده زبيل حصاً، فكان يُسبّح بواحدة واحدة، فإذا مل شيئاً طرح ثنتين ثنتين، ثم ثلاثاً ثلاثاً، فإذا مل قبض قبضتين وقال: سبحان الله بعدد هذا، وإذا ضجر أخذ بعرى الزبيل وقلبه وقال: الحمد لله وسبحان الله بعدد هذا وإذا بكر لحاجة لحظ الزبيل وقال: سبحان الله عدد ما فيه.
قال أبو شجاع الحمصي لحجّام رآه يختن غلاماً له به عناية: ارفق به - فديتك - فإنه لم يختن قط.
ولد رجل طويل اللحية ابن، فجاء بمنجّم يعمل له مولداً، فقال له: أحب أن تجعل عطارد في طالعه، فإنه بلغني أنه يُعطي الكتبة.
قيل للبكراوي: أبا مرأتك حبل؟ قال: شيء يسير ليس بشيء.
وحكى يوماً عن الفرس شيئاً فقال: ونادى كسرى: الصلاة جامعه.
قال أبو عثمان: إن عمرو بن هدّاب لما ذهب بصره ودخل عليه الناس يُعزّونه دخل عليه إبراهيم بن جامع، وكان كالجمل المحجوم وله صوت جهير فقال له: يا أبا أسيد، لا يسوءنك ذهابهما؛ فإنك لو رأيت ثوابهما في ميزانك تمنّيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق ظهرك وأدمى ضلعك.
كان فزارة على مظالم البصرة - وكان مغفّلاً - فسمع يوماً صياحاً، فقال: ما هذا الصياح؟ قالوا: قوم تكلموا في القرآن. فقال: اللهم أرحنا من القرآن.
واجتاز به صاحب دراج فقال له فزارة: كيف تبيع هذا الدراج؟ قال: واحداً بدرهم. قال: لا، أحسن إلينا. قال: كذا بعت. قال: نأخذ منك اثنين بثلاثة دراهم. قال: خذ. قال: يا غلام، أعطه ثمن اثنين فإنه سهل البيع.
نظر عامر بن كُريز إلى ابنه عبد الله يخطب على منبر البصرة وأعجبه قال: فأشار إلى أيره وقال للناس: أميركم خرج من هذا.
كان عبد الرحمن بن أبي حاتم شيخ أصحاب الحديث بالرّي. وكان ذا سلامة، ذُكر عنده محمد بن الحسن الفقيع فقيل: مات بالرّي. فقال: دخل إلى الري دخلتين لا أدري في أيهما مات.
وذُكر أنه دخل إلى الحمّام وقد بُخّر بالكندر، وظن الدخان غباراً فقال للقيّم: قد قلت لكم غير مرة: إذا دخلت أنا الحمّام فلا تغبّروا.
كتب بعضهم على خاتمه أنا فلان بن فلان. رحم الله من قال آمين.
قيل لبعضهم: حمارك قد سُرق قال: الحمد لله الذي لم أكن فوقه.
نظر بعضهم إلى السماء فقال: يا ربّ، ما أحسن سماءك! زادك الله مزيد كل خير.
قال الجاحظ: قلت يوماً لعبدوس بن محمد - وقد سألته عن سنّه - ، لقد عجّل عليك الشيب. فقال: وكيف لا يعجل علي؟ وأنا محتاج إلى من لو نفذ فيه حكمي لسرّحته مع النعاج، والقطّه مع الدجاج، وجعلته قيم السراج، ووقاية يد الحلاج. هذا أبو ساسان أحمد بن العباس العجلي، له ألف ألف درهم في كل سنة فعطس فقلت له يرحمك الله فقال لي: يعرفكم الله.
قال الجاحظ: قلت لأبي الجسيم: إن رأيت أن ترضى عن فلان فافعل - قال: لا، والله، حتى يبلغني أنه قد قبّل رجلي.
وكان عبدون بن مخلد أخو صاعد إذا قبض يده عن الطعام يقول: الحمد لله الذي لا يُحلف بأعظم منه.
كان أزهر الحمار أحد قواد عمرو بن الليث بين يدي عمرو يوماً يأكل البطيخ. فقال له عمرو: كيف طعمه يا أزهر؟ قال: يا أيها الأمير، أكلت الخراقط؟.
وكان أزهر هذا - قبل بلوغ عمرو بن الليث وأخيه ما بلغا مكاناً بسجستان، كان - أكرى عشرةً من الحمر إلى بعض المواضع، فلما رجع ركب أحدها وعدّ الحمير ولم يعد الذي تحته فكانت تسعةً فاضطرب وقال: كانت حميري عشرة، ثم نزل فعدّها فكانت عشرة، وركب وعدّها فكانت تسعة، ولم يزل هذا دأبه إلى أن قال: أمشي أنا وأربح حماراً، فنزل ومشى على رجليه فسُمّي الحمار لذلك.
قال ابن قريعة: دخل بعض هؤلاء الحمقى الخلاء وأراد أن يحلّ سراويله، فغلط وحلّ إزاره، وخرى في السراويل.
مات لأبي العطوف ابن - وكان يتفلسف - فلما دلّوه في القبر قال للحفار: أضجعه على شقّه الأيسر؛ فإنه أهضم للطعام.
عرض هشام بن عبد الملك الجند فأتاه رجل من حمص بفرس كلما قدّمه نفر، فقال هشام: ما هذا عليه لعنة الله؟ قال الحمصي: يا سيدي، هو فاره، ولكن شبهك ببيطار كان يعالجه، فنفر.
صارت عجوز إلى قوم تعزيهم في ميت، فرأت عندهم عليلاً، فلما أرادت أن تقوم قالت: والحركة تغلظ عليّ في كل وقت، فأعظم الله أجركم في هذا العليل، فلعله يموت.
قُدّمت إلى بنت السلط عصيدة، فلما ذاقت قالت: مساكين، أرادوا أن يسوّوا عصيدة فأفسدوها.
ومن حمقى قريش بكّار بن عبد الملك بن مروان، طار له باز فقال لصاحب الشرطة: أغلق باب المدينة حتى لا يخرج البازي.
قال بعضهم: رأيت بالبصرة رجلين يتنازعان في العنب الرازقي والنيروزي أيهما أحلى؟ فجرى بينهما الافتراء والقذف، ثم تواثبا، وقطع الكوفي إصبع البصري وفقأ البصري عين الكوفي، ثم رأيتهما متصافيين بعد ذلك، متنادمين.
أجريت الخيل مرة فطلع فيها فرس سابق، فجعل رجل من النظارة يكثر الفرح ويثب، فقال له آخر: يا فتى، هذا الفرس لك؟ قال: لا، ولكن اللجام لي.
قيل لرجل من أهل حمص - وقد أملك بنته - كم كان لابنتك من سنة حين زوّجتها؟ قال: لا، والله ما أدري؟ إلا أني زوّجتها حين اسودت شعرتها.
كان رجل يختلف إلى الأعمش فيؤثره، وكان أصحاب الأعمش يسوؤهم ذلك، ففتشوا الرجل فإذا هو حمار، وكان سكوته للعي. فقالوا: سل الأعمش كما نسأله نحن وخاطبه. فقال له: يا أبا محمد، متى يحرم على الصائم الطعام؟ قال: إذا طلع الفجر، قال: فإن طلع الفجر نصف الليل؟ فقال الأعمش: عد إلى ما كنت عليه من الخرس.
كان أبو يوسف ولّى الفضل بن غانم قضار الري، وكان الناس يختلفون إليه، ويقرأون كتب الفقه عليه، فجاؤا يوماً وأخذتهم السماء. فقال: ألم أقل لكم: إذا رأيتم الغيم فتعالوا قبل ذلك بيوم؟.
سئل بعضهم عن أخوين أيهما أسن؟ قال: هما توأمان، وهما على ما أظن من أم واحدة.
نقش رجل على فص خاتمه اللهم أرخص الحنطة، ونقش ابنه آمين.
أُخذ رجل ينكح شاةً، فرُفع إلى الوالي، فقال: يا قوم، أليس الله يقول: " أو ما ملكت أيمانكم " ؟ والله ما ملكت يميني غيرها فخلّى عنه وحدّ الشاة. وقال: الحدود لا تُعطّل، فقيل: إنها بهيمة. فقال: ولو وجب حكم على بهيمة وكانت أمي أو أختي لحددتها.
قال بعضهم: قرأت قصة أهل طوس إلى المأمون يسألونه تحويل مكة إلى طوس.
لقي الطائف رجلاً فغمّض عينيه فأخذه فقال: يا ابن الخبيثة، أنا قد غمضّت عيني فكيف أبصرتموني؟ كان أبو ضمضم على شرطة الكوفة، فلم يحدث في عمله شيء، فأخذ رجلاً من الطريق، وجرّده للسياط، واجتمع الناس، فقال الرجل: ما ذنبي أصلحك الله؟ قال: أحب أن تجملنا بنفسك ساعة.
ومدح بعض الشعراء محمد بن عبدوس صاحب الشرقية فقال له: أما أن أعطيك شيئاً من مالي فلا، ولكن اذهب فاجن جناية حتى لا أحدك فيها.
ورفع رجل فقالوا: إنه قد وجد في الحمام يجلد عميرة، فقال: في حمام الرجال أو في حمام النساء؟ قالوا: في حمام الرجال. قال: قد أحسن، ليته قتلها، مرة في حمام الرجال أيش تصنع؟! كان بعضهم يزرع قراحاً له، ويتعيش فيه، فبينا هو يوماً يسقي أرضه - وقد أعجبه الماء في زرعه وفرح به، وأراد أن يحمد الله عليه - جعل يقول: يا رب كم لك من أجر فيما أسقيتنا من هذا الماء.
قال بعضهم: قد رأيت واحداً قد جلس يبول، فإذا أيره أير حمار. فقلت: ويلك! ما أنت إلا حمّال، كيف تقدر أن تحمل هذا وتمشي به؟ فقال: أسألك الله أهو كبير؟ قلت: نعم، قال: فإن أهل بيتنا يستصغرونه.
قال بعض المؤدبين: كنت أؤدب ابناً لمحمد بن الحجاج فخرج يوماً، وابنه يدرس كتاب الصفات للأصمعي، فسألني عن معناه، فقلت له: أعزّك الله يعرف به صفات الناس والوحوش والسلاح والمطر وغير ذلك، فلما كان بعد أيام نشأت سحابة فخرج إليّ محمد مغضباً فقال: أنت في أضيق الحرج على ما أخذت مني في تأديب ابني، قلت: ولم؟ قال: سألته الساعة عن هذه السحابة أتمطر أم لا؟ فقال: لا أعلم الغيب.
قال: وبلغني عن شيخ أن ابنه سأله فقال: يا أبة، ما الرمادية وما مذهبهم؟ قال: قوم يبولون في الرماد، قوم سوء أشر ما يكون. فقال الصبي: قد عرفت القدرية من غير أن تقول لي. قال من هم يا سيدنا؟ قال: الذين يخرون في القدور، فضمّه إليه وقبّله وقال: أحسنت يا أبا العباس، أشهد أنك فرخ جماعي.
قال بعضهم: رأيت ابن خلف الهمذاني في صحراء يطلب شيئاً، فقلت له: ما تبغي هاهنا؟ قال: دفنت شيئاً ولست أهتدي إليه، فقلت: هلاّ علّمت عليه بشيء؟ قال: جعلت علامتي قطعةً من الغيم كانت فوقه وما أراها الساعة.
ونظر مرةً في الحب وهو الزير فرأى في وجهه، فعدا إلى أمّه وقال: يا أمي، في الحب لص، فجاءت الأم وتطلعت فيه وقالت: إي والله ومعه قحبة.
وقال: إنما سمّي السكنجيين بهذا الاسم؛ لأن الإنسان يشتكي جبينه فإذا شربه سكن.
قال بعضهم: سمعته يقول في كلام جرى في ذكر رجل: وهو - والله - ألوط من لوط.
وذكر بين يديه رجل فقال: هو رجل سوء. قيل له: ومن أين علمت؟ قال: قد أفسد بعض أهلنا. قيل: ومن هو؟ قال: أمي صانها الله.
ومات له ابن فقيل: هاتوا فلاناً ليغسله، فقال: لا أريده، فإنه عسوف وأخاف أن يقتله.
وزار يوماً قوماً فأكرموه، وغلّفوه بطيبة وطيبوه، فحكته شفته العليا، وخشي إن حكها أن تأخذ إصبعه الغالية فأدخل إصبعه تحت الشفة العليا وحكّها من داخل.
وقيل له: كم بين همذان وروذراور؟ فقال: سبعة ذاهب، وثلاثة جاي.
ودخل يوماً إلى إصطبله، فرأى فراريج كثيرة فقال: يا فراريج، متى تحّم حتى نأكلكم.
وحكى من رآه يعدو وسط داره عدواً شديداً ويقول شيئاً بصوت عال، قال: فسألته عن قصته فقال: أردت أن أسمع صوتي من بعيد.
واستُعير منه سرج فقال: والله ما نزلت عنه إلا الساعة.
دخل على رجل يعزيه فقال: عظّم الله مصيبتك، وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج، فضحك من حضر، فقال: لم تضحكون؟ إنما أردت هاروت وماروت.
وقال يوماً لصديق له: أريد أن أشرب على عورة وجهك عشرة أرطال نبيذ مريق، يريد غرة وجهك، ونبيذ مروق.
وقال يوماً لمغنية كان يحبّها: أنا - والله - لك مائق، يريد وامق فقالت: ليس لي وحدي أنت مائق، أنت - والله - مائق للخلق.
أخذ الطلق امرأته فدخل فقال للقابلة: أخرجيه بالله ابناً ولك دينار، ولك ما شئت، بالله لا أحتاج إلى وصيتك.
كان منصور بن زياد خال المهدي، ووالي خراسان من جهته يُحمّق، وكان نقش خاتمه يا حنّان يا منّان تحنن تمنن على عبدك الأمين منصور بن زياد.
لما مات المكتنجي حزن المتوكل عليه، وقال: من ينشطني إذا كسلت؟ ويسلّيني إذا حزنت، فقيل له: قد خلّف ابنين مليحين، فأمر بإحضارهما وكلمهما فرضيهما، وجُعلت أرزاق أبيهما للأكبر منهما، وجعل للأصغر أيضاً رزق دون ما لأخيه. فقال الصغير: هذا يا سيدي خلاف ما يجب فينا قال: وما الذي يجب؟ قال: إنما نتقدم نحن، وتقدم أبونا قبل بالحماقة، ومن شأن العقلاء إذا مات الرجل منهم أن يجعل ابنه الكبير مكانه، فأما الحمقى فإنهم يجعلون الصغير مكان أبيه، ومع هذا أنا أحمق من أخي بكثير. قال: وما الدليل على ذلك؟ قال: ههنا أدلة كثيرة، أقربها أن أبي حج في العام الماضي فلما قرب قدومه خرج أخي من سر من رأى إلى الكوفة لتلقيّه، ومضيت أنا إلى حلوان؛ لأني كنت أشد شوقاً منه إليه، فلما قدم وجاءني كتابه من سرّ من رأى إلى حلوان جئت، وإنما فعلت هذا لشدة شوقي إليه، فسرّ أبي بما كان مني سروراً عظيماً. فقال المتوكل: صدقت، أنت أحمق من أخيك بكثير، اجعلوا الرئاسة له، واجعلوا أخاه مكانه.
اعترض أبو الجندب الأرمني دوابّه فأصاب فيها واحداً مهزولاً قال: هاتوا الطباخ فبطحه وضربه خمسين مقرعةً، فقال له: يا سيدي، أنا طبّاخ لا أعرف أمر الدواب. قال: فلم لم تقل لي؟ اذهب الآن فإذا أذنبت ذنباً ضربت السائس ستين مقرعة، زيادة عشرة.
وقال يوماً - وقد ركب إلى العيد - لبعض غلمانه: أرسل إلى المزين حتى يكون حاضراً، وتقدّم إليه ألاّ يمس من شعر رأسي شيئاً حتى أعود من الصلاة؛ فإن الحجّامين كثيرو الفضول.
واجتاز به رجل يبيع الثلج فقال: أرنا ما معك؟ فكسر له قطعة ثلج وناوله، فقال أريد أبرد من هذا. فكسر له من الجانب الآخر فقال: نعم، هذا أبرد، فكيف سعر هذا وسعر ذاك؟ فقال: هذا رطل بدرهم، ومن الأول رطل ونصف بدرهم. فقال: أحسن حتى نأخذ من هذا لنا، ومن ذاك للحاشية.
جاز إبراهيم المصلحي يوماً بطين مبلول في شارع باب الشام فقال لهم: السلطان يريد أن يركب، فإن أنا رجعت ورأيت هذا الطين مكانه ضربته بالنار ولا تنفعكم شفاعة أحد.
وقال الطبيب مرة لأزهر الحمار: خذ رمانتين فاعصرهما بشحمهما واشرب ماءهما، فعمد إلى رمّانتين وقطعة من شحم الغنم فدقهما في موضع واحد وشرب ماءهما.
واشترى بعضهم جاريةً، فغضبت امرأته، فحلف أنه لا يجامعها سنةً ولا يترك غيره يُجامعها بسببه.
ونظر جامع الصيدلاني في المرآة، فضحك، فقالوا: يا أبا محمد، مالك تضحك؟ قال: من وجهي، وهو من بعيد أحسن منه من قريب.
وقيل له يوماً: كم سنةً لك؟ قال: إحدى وسبعون سنة. قيل: فمن تذكر من خلفاء بني العباس؟ قال: إيتاخ.
مضى إلى السوق ليشتري لابنه نعلاً فقالوا: كم سنّه؟ فقال: لا أدري، ولكنه ولد أول ما جاء العنب الرازقي. ومحمد ابني - أستودعه الله - أكبر منه بشهرين ونصف سنة.
وأُتي بصك دار ليشهد فيه فقال: لا أشهد حتى أرى الدار، فلما رأى الدار، رمى بالصك وقال: والله لا شهدت، قيل له: ولم ذاك؟ قال: لأنها سرقة، وأنها أول أمس كانت في ذلك الجانب وهي اليوم هاهنا.
وكان بعضهم يقول في تسبيحه: لا إله إلا الله جملة كافية.
وحلف بعضهم فقال: لا والقبر الذي تضمّن محمداً وجبريل عليهما السلام.
ورث بعضهم نصف دار فقال يوماً: قد عزمت على بيع نصف الدار الذي لي وأشتري به النصف الآخر لتصير كلّها إليّ.
وكتب المنصور إلى زياد بن عبيد الله الحارثي ليقسم مالاً بين القواعد والعميان والأيتام. فدخل عليه أبو زياد التميمي - وكان مغفلاً - فقال: أصلحك الله، اكتبني في القواعد، فقال: عافاك الله، القواعد هن النساء اللاتي قعدن عن أزواجهن. فقال: اكتبي في العميان، قال: اكتبوه؛ فإن الله تعالى يقول: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " قال أبو زياد: واكتب ابني في الأيتام فقال: نعم، من كنت أباه فهو يتيم.
ووجّه بعضهم بلحم إلى بيته فقال الرسول: قل لهم: اطبخوه سكباجاً، فقال: ليس عندهم. فقال له: يا بغيض، فاطبخوه إذا كشكية.
ووقعت لبعضهم ابنة في البئر، فاطلع في البئر فرآها وناداها، فأجابته فقال لها: لا تبرحي من موضعك حتى أذهب أجيء بمن يخرجك.
وكان منهال إذا انكسف القمر يقول: ارحم تُرحم، فإذا انجلى قال: تهنؤك العافية.
قال ابن الماجشون: كان لي صديق من أهل المدينة ففقدته أياماً ثم رأيته فسألته عن حاله، فقال: نزلت بالكوفة فقلت: وكيف صبرت بها وهم يسبون أبا بكر وعمر؟ فقال: يا ابن أمي، قد والله صبرت لهم على ما هو أعظم من هذا، إنهم يُفضّلون الكناسي على معبد في الغناء. فحدّثت المهدي بذلك فضحك حتى استلقى.
قيل لبعضهم: قد جاء الذباب. فقال: ما ذقته بعد.
وسئل بعضهم عن مولده فقال: ولدت رأس الهلال النصف من شهر رمضان بعد العيد بثلاثة أيام، احسبوا الآن كيف شئتم.
قال: وسمعت بعضهم يدعو ويقول: اللهم اغفر لأمي ولأختي ولامرأتي فقلت له: كيف تركت ذكر أبيك؟ قال: لأنه مات وأنا صبي لم أدركه ولم أعرفه.
لقي رجل رجلاً فقال له متى قدمت؟ قال: غدا، فقال: لو قدمت اليوم لسألتك عن صاحب لي، فمتى تخرج؟ فقال: أمس. قال: لو أدركتك لكتبت معك كتاباً.
ونظر بعضهم إلى جرادة في أول ما يجيء الجراد فقبّلها ووضعها على عينه، يريد أنها باكورة.
وانكسرت خشبة في منزل بعضهم، فمضى إلى الخشّابين يشتري بدلها. فقالوا: كم تريد طولها؟ فقال: سبع في ثمان.
وخلا بعضهم بمناجاة ربه وجعل يدعو ويقول: اللهم ارزقني خمسة آلاف درهم حتى أتصدق منها، وإن لم تُصدقني فادفع إليّ ثلاثة آلاف درهم واحبس الباقي عندك، فإن تصدّقت وإلاّ تصدق بها على ما شئت.
اعتلّ الهبيري والي البصرة، فدخل إليه بعض عوّاده فقال له: ما تشكو؟ قال: حرارة، قال: فما اكلت؟ قال: شويت خوامزكه فمصصت متوضاها يريد خوامزكها وزماكها. وقال بعضهم: سقط ابني في الدكان فوطئ كلب على لسانه فسقطت لهاته فعالجته بدم الأبوين.
وكتب بعضهم إلى أبيه: كتابي إليك من فوق فرسخ بدورقين يوم الجمعة عشية الأربعاء لأربعين ليلة خلت من جمادى الأوسط، وأُعلمك - أعزك الله - أني مرضت مرضةً لو كان غيري لكان قد مات. فكتب إليه أبوه: أمك طالق ثلاثاً بتاتاً لو مت ما كلمتك أبدا.
قيل لبعضهم: دخلت الكتّاب فأي شيء تعلمت؟ قال: الحساب. قال: فأربعة بين ثلاثة أنفس كم يصيب كل واحد منهم؟ قال: لنفسين درهميم درهمين ولا يُصيب الثالث شيئاً.
خرج رجل من منزله ومعه صبي عليه قميص أحمر، فحمله على عاتقه ثم نسيه، فجعل يقول لكل من لقيه: رأيت صبياً عليه قميص أحمر؟ فقال له إنسان: لعله الذي على عاتقك، فرفع رأسه ولطم الصبي وقال: يا ماصّ كذا، ألم أقل لك: إذا كنت معي لا تفارقني ولا تبرح؟.
وكان بعضهم في يده ثلاثة عشر درهماً، وركب زورقاً فرأى على عنق واحد كان بجنبه برغوثاً، فأخذه بالسبابة والإبهام من اليد التي فيها الدراهم ثم توّجه نحو الماء ليرمي البرغوث فرمى بالدراهم وبقي البرغوث في يده، ثم التفت إلى أصحابه فقال: رأيتم مثل هذا البرغوث تقوّم عليّ بثلاثة عشر درهماً.
وقال بعضهم: رأيت خميصاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم هب لها العافية وفرّح قلبها، وافعل بها واصنع، ولم يدع لنفسه ولا لأحد غيرها. فقلت: من هذه التي تخصّها بالدعاء؟ قال: امرأتي. قلت: ما أوجب أن تجعل دعاءك كله لها حتى لا تدعو لنفسك ولا لأبويك؟ فقال: أًخبرك يا أخي، اعلم أني صحبت الخلق، وعاشرت الناس، وطفت البلدان فما وجدت إنساناً أنيكه غيرها. فقلت له: يحق لك إن كان هذا يا شيخ.
وقال رجل لحمصي: إذا كان يوم القيامة يؤتى بالذي فجر بامرأة جاره، فيؤخذ من سيئات الجار إلى حسنات جاره. فقال الحمصي: والله إن كان هذا فما في يوم القيامة أحسن من الكشاخنة بعد المخنثين.
وحمل بعضهم بولاً في طست إلى الطبيب وقال: هذا بول امرأتي. فقال: هلا جئت به في قارورة؟! قال: جُعلت فداك إحليلها أوسع من ذاك.
ونظر حمصي إلى منارة المسجد، فقال لآخر: ما كان أطول أولئك الذين بنوا هذه المنارة! فقال له: اسكت ما أجهلك! ترى أن في الأرض أحداً يطول هذه المنارة؟ وإنما بنوها على الأرض ثم أقاموها، أو حفروا بئراً وقلبوها.
حضر جماعة من أهل زنجان باب السلطان فشكوا ثقل أصولهم، وتضاعف المؤن عليهم، فأجيبوا إلى حطيئة، فقالوا: نحب أن نقتصر منها على الأخماس بدل الأعشار، فصار ذلك رسماً عليهم.
قال بعضهم: رأيت شيخاً طويل اللحية يعدو، فقلت مالك؟ قال: مر بك رجل أخضر عليه كساء أصلع؟.
قال: ورأيت رجلاً طويل اللحية راكباً حماراً، وهو يضربه. فقلت له: يا هذا، ارفق. فقال: إذا لم يقر يمشي فلم صار حماراً؛.
تفاخر أحمقان: مصري ويمني، فقال المصري: هلكت - والله - اليمن؛ إن لم يكن النبي عليه السلام منها لا تدخل الجنة والله أبدا. فقال اليمني: فابن المهلب وأولاده يحاربون عليها أبداً وزيادة حتى يدخلوها بسلام بالسيف،.
ولما دخل الأكراد مدينة السلام مع أبي الهيجاء، واجتازوا بباب الطاق قال بعض المشايخ من التجار: هؤلاء الذين قال الله تعالى في كتابه: الأكراد أشد كفراً ونفاقا. فقال له إنسان: يا هذا، إنما قال الله " الأعراب " . قال الشيخ: يا سبحان الله!! يقطع علينا الأكراد، ونكذب على الأعراب؟.
قال بعضهم: دخلت حمّاماً بهيت، وأهلها عامتهم قلف، فإذا أنا برجل قد دخل، وهو آخذ برأس إحليله، وقد أشاله إلى فوق، ثم تمكن جالساً، وصب من إحليله شيئاً ودلك به رأسه ولحيته، وفعل ذلك مراراً. فقلت له: ويلك! ما هذا؟ قال: دهن يا سيدي، طلبت من عند العطّار قارورةً فلم تكن عنده، فأخذت الدهن في هذا الموضع، وهو ذا استعمله.
قدّم رجل ابناً له إلى القاضي ليحجر عليه. فقال: فيم تحجر عليه؟ قال الأب: أصلحك الله، إن كان يحفظ آيتين من كتاب الله فلا تحجر عليه. فقال له القاضي: اقرأ. فقال:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال الأب: أصلحك الله، إن قرأ أخرى فلا تحجر عليه. فحجر عليهما جميعاً.
قال بعضهم: جالسني رجل فغبر لا يكلمني ساعةً، ثم قال: هل جلست قط على رأس تنور فخريت فيه آمناً مطمئناً؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك لم تعرف شيئاً من النعيم قط.
وقال هشام بن عبد الملك ذات يوم لأصحابه: أي شيء ألذ؟ فقال له الأبرش بن حسان: أصابك جرب قط فحككته؟ قال: مالك؟ أجرب الله جلدك، ولا فرج عنك، وكان آنساً به.
دخل كردم الدارع أرض قوم يذرعها، فلما انتهى إلى زنقة منها لم يحسن أن يذرعها. فقال: هذه ليست لكم. قالوا: هي لنا ميراث، وما نازعنا فيها أحد قط. قال: لا، والله ما هي لكم. قالوا: فحصّل لنا حساب ما لا نشك فيه. فقال: عشرون في عشرين عشرون. قالوا: من أجل هذا الحساب صارت الزنقة ليست لنا.
وقال قاسم النمار: التوى مني عرق حين قعدت منها مقعد الرجل من الغلام.
مات رجل من جند أهل الشام عظيم القدر، فحضر جنازته الحجاج، فصلّى عليه وجلس على شفير قبره وقال: لينزل قبره بعض إخوانه، فنزل أحدهم فقال وهو يسوّي عليه: يرحمك الله أبا قنان، إن كنت - ما علمت - لتجيد الغناء، وتسرع رد الكأس، لقد وقعت في موضع سوء لا تخرج - والله - منه إلى يوم الدكة. فما تمالك الحجاج أن ضحك فاكثر وكان لا يكثر الضحك في جد ولا هزل. فقال له: هذا موضع هذا لا أم لك؟ قال: أصلح الله الأمير، فرسه حبيس في سبيل الله لو سمعته يتغنّى:
يا لُببني أوقدي النارا ...
لانتشر الأمير على سعنة - وكان الميت يلقب سعنة، وكان من أوحش الخلق صورةً وأدّمهم - فلم يبق أحد إلا استفرغ ضحكاً. وقال الحجاج: أخرجوه، إنا لله! يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم!.
خرج رجل من المغفلين فرأى في زرعه فساداً فقال: يا رب أنت تنهى عن الفحشاء، فهذا حسن هو؟ قال بعضهم: رأيت رجلاً محموماً مصدعاً، وهو يأكل التمر، ويتكرّهه. فقلت له: ويحك! لم تأكل هذا في حالك هذه؟ هذا يقتلك. فقال: عندنا شاة تُرضع، وليس لها نوىً، فأنا آكل هذا التمر مع كراهيتي له؛ لأطعمها النوى. قال: فقلت: فأطعمها التمر بالنوى. قال: أو يجوز هذا؟ قلت: نعم. قال: قد - والله - فرّجت عني، لا إله إلا الله، ما أحسن العلم!.
أخرج صبي رأسه من منظرة، فوقعت عليه بردة فأوجعته، فشتم من رمى، فاطّلع أبوه من الكوة لينظر من رمى فلما رأى البردة رفع رأسه إلى السماء وقال: ارم سيدي ما عرفك الصبي.
الباب الثالث والعشرون
نوادر ابن الجصاص
كان ابن الجصاص يتّجر في الجواهر، وكانت له ثروة عظيمة، ومحلّ عند الخلفاء.ونُكب في أيام المقتدر، فبلغت مصادرته التي أداها ثمانية آلاف ألف دينار، وكان مغفّلاً.
وهو الذي كانت في فمه درة وأراد أن يبصق، فبصق على الخليفة ورمى بالدرة في دجلة، وهو يظن أنه قد ناول الخليفة الدرة وبصق في الماء.
وعرض على بعض الخلفاء عقداً مثمّناً فقال: هل رأيت في عرس أمك مثله؟ وكان إذا قنت يقول في دعائه: يا أويس القرني، يا كعب الأحبار بحقّ محمد وجرجيس إلا وسعت أمتك على الدقيق.
وكان يقول أيضاً في دعائه: اللهم اغفر لي من ذنوبي ما تعلم وما لا تعلم.
ودخل يوماً على ابن الفرات فقال: يا سيدي، عندنا في الجزيرة كلاب لا يتركونا ننام من الصياح والقتال. قال: أحسبهم جراءً. قال: لا تظن ذلك أيها الوزير، كل كلب مثلي ومثلك.
ونظر يوماً في المرآة فقال: اللهم سوّد وجوهنا يوم تسودّ الوجوه، وبيّضها يوم تبيض الوجوه.
وقال بعضهم: اطلعت عليه وهو يقرأ في المصحف ويبكي وينتحب ويشهق، فقلت له: مالك؟ قال: أكلت اليوم مع الجواري المخيض بالبصل فآذاني، فلما رأيته في المصحف " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض " قلت: ما أعظم قدرة الله! قد بيّن كل شيء حتى أكل اللبن مع الجواري.
وأراد مرة أن يدنو من بعض جواريه فمنعته وتشاجت عليه، فقال: قد - والله - أغضبتني، أُعطى الله عهداً إن قربتك سنة، ولا قربك أحد بسببي.
وقرأ مرةً في المصحف، فجعل يقول: رخيص، فقيل له في ذلك. فقال: ويحك! أما ترى تفضّل الله جلّ وعزّ، يقول: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " أما هذا رخيص؟ وعزّاه إنسان عن ميّت له وقال: لا تجزع واصبر. فقال: نحن قوم لم نتعوّد الموت.
وقال يوماً: أنا أشتهي بغلة مثل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسميها دلدل.
وقال يوماً: قد خريت على يدي، لو غسلتها ألف مرة لم تتنظف حتى أغسلها مرتين.
ونظر في المرآة ثم قال لإنسان عنده: ترى لحيتي قد طالت؟ فقال له ذلك الحاضر: المرآة في يدك. فقال: صدقت، ولكن يرى الشاهد ما لا يرى الغائب.
ودخل عليه بعضهم، ومعه ابن له، فقال له: هذا ابنك؟ قال: نعم. قال: وليس لأمه غيرك؟ قال: ويصلح في دينكم لامرأة زوجين؟! قال: لا، ولكني اردت صحة أمرها منك، وكيف جاء هذا الولد الذي لا يشبهك.
وسمع رجلاً ينشد شعراً في هند. فقال: لا تذكروا حماة النبي إلا بخير.
وقال بعضهم: كنت عند أبي إسحاق الزجاج النحوي أعزيه بأمه وعنده الرؤساء إذ أقبل ابن الجصاص ودخل ضاحكاً، وهو يقول: الحمد لله يا أبا إسحاق. قد - والله - سرّني. فدهش الزجاج ومن حضر، فقال بعضهم: يا هذا، كيف سرّك ما غمّه وغمنا له؟ قال: ويحك! إنه بلغني أنه هو الذي، فلما صح عندي أنها هي التي، سرني. فضحك الناس.
وقرأ يوماً في المصحف: " أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله " فقال: فديت جنبك يا سيدي، أيش أصاب جنبك يا مولاي؟ عز عليّ، ليت بي ما بك يا سيدي.
كان يكسر مرة بين يديه لوز، فطفرت لوزة، وأُبعدت، فقال: لا إله إلا الله! تعجباً من كل شيء هرب من الموت حتى في البهائم.
ومن دعائه: اللهم أرخص السوق على الدقيق، اللهم إنك تجد من تغفر له غيري، ولا أجد من يعذبني سواك، حسبي الله! اللهم امسخني حورية وزوجني من عمر بن الخطاب. فقالت زوجته له: سل أن يزوجك من النبي عليه السلام، إن كان ولا بد فقال: لا أحب أن أصير ضرة عائشة.
وصلّى خلف الإمام، فلما قال: " ولا الضالين " قال ابن الجصاص: أي لعمري أراد آمين.
وقرأ يوماً في المصحف " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ثم قال: يحق له أن يخري - والله - من أدخل النار، يخرى ثم يخرى.
وقال لابن الفرات يوماً: أعز الله الوزير، امنع هؤلاء الزنادقة من الاجتماع؛ فإنه بلغني أنهم يتكلمون بالكبائر. قال: وما الذي يقولون؟ قال: بلغني أنهم يقولون: إن الصور ليس هو من قرن.
وأتاه غلامه يوماً بفرخ وقال: انظر هذا الفرخ، ما أشبهه بأمه! قال: أمه ذكر أم أنثى؟.
وقال يوماً أتبّرك بكتب أحمد بن حنبل، وما أعمل كل يوم شيئاً حتى أمرّها على وجهي. قيل له: فأين أنت من القرآن؟ قال: أما هذا فقد جربته.
وسمع آية من القرآن في بعض المجالس، فقال: حسن والله، هاتوا دواةً وقرطاساً اكتب هذا. قالوا له: هذا من القرآن، وفي دارك خمسون مصحفاً. فكتبها وقال: لكل جديد لذة، وبعث بها إلى معلّم ولده وأمره أن يحفّظهم ذلك.
وبنى ابنه دارا، فأدخل أباه إليها ليبصرها، وقال: انظر يا أبة، هل ترى عيباً؟ فطافها حتى دخل المستراح، فاستحسنه، وقال: فيه عيب واحد، وهو ضيق بابه فإن المائدة لا تدخله.
وكتب إلى وكيل له بأن يحمل إليه مائة مناً قطناً، فحملها فلما حُلجت استقل الحليج وكتب إلى وكيله: إنه لم يحصل من هذا القطن إلا ربعه، فلا تزرع بعدها قطناً بحبه، وازرع الحليج، ويكون معه أيضاً شيء من الصوف.
وقال مرة لمغنية غنّي:
خليليّ هُبّا نصطبح بسماد
يريد: بسواد. فقالت له: إذا عزمت على هذا فاصطبح وحدك.
وقال يوماً: ينبغي للإنسان أن يصير إلى المقابر ليغتاظ. يريد: ليتعظ.
وقال يوماً لصديق له: وحياتك الذي لا إله إلا هو.
واستأذن يوماً على بعض الوزراء، وعرض عليه شيئاً من الجوهر وقال: وقع هذا في السيق. فضحك الوزير. فقال: أعز الله الوزير، إن في تحفض ما بعدها.
وتردد إلى بعض النحوين ليصلح لسانه، فقال له بعد مدة: الفرس بالسين أو بالصين؟ وقال يوماً: قمت البارحة إلى المستراح، وقد طُفئ القنديل، فما زلت أتلمّظ المقعدة حتى وجدتها.
وقال يوماً لعبيد الله بن سليمان: أيها الوزير، أنت سيف الله في أرضه، فلا تقع على شيء إلا هرّيته، ولا يقع عليك شيء إلا هرّاك، فأنت مثل الشوك لا يمشي عليه إنسان إلا دخل في رجله، ولا يدخل في رجل إنسان إلا أوجعه.
وانبثق له كنيف، فقال لغلامه:بادر وأحضر من يُصلحه حتى نتغدّى به قبل أن يتعشّى بنا.
وأهدى إلى العباس بن الحسن الوزير نبقاً وكتب إليه:
تفيّلت بأن تبقى ... فأهديت لك النبقا
فكتب في جوابه: لم تتفيل يا أبا عبد الله، ولكنك تبقّرت.
الباب الرابع والعشرون
نوادر أصحاب المذاهب والجُهال من المتعصبينكان بعض ولد روح بن حاتم يتشيّع، وكان لا يشتم من الصحابة إلا طلحة، فقيل له يوماً: كيف وقعت على طلحة؟ أتعرفه وتعرف قدمه في الإسلام؟ فقال: وكيف لا أعرفه؟ طلحة امرأة الزبير.
قال رجل من أهل الكوفة لهشام بن الحكم: أترى الله - جلّ ثناؤه - في فضله وعدله وكرمه كلّفنا ما لا نطيق ثم يعذّبنا عليه؟ قال: فعل ولكن لا نستطيع أن نتكلم.
قال الأخفش: سمعت أبا حية النميري يقول: أتدري ما يقول القدريون؟ قلت: ما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله لم يكلّف العباد ما لا يطيقون، وصدق - والله - القدريون، ولكنا لا نقول كما يقولون.
قال بعضهم: مررت بجماعة قد أخذوا رجلاً وضربوه ضرب التلف، وهم يجرّونه إلى السلطان. فقلت لبعضهم: ما تريدون منه؟ قال واحد: هو زنديق، لا يؤمن بالقيسيّ.
دخل بعض العامة على جعفر بن سليمان، يشهد على رجل، فقال: أصلح الله الأمير هو رافضيّ قدري جهمي مرجيّ، يشتم الحجاج بن الزبير الذي هدم الكعبة على عليّ بن أبي سفيان. قال له جعفر: ما أدري علام أحسدك!! على علمك بالأنساب، أو معرفتك بالمقالات؟ قال: والله ما خرجت من الكتّاب حتى تعلمت هذا كله.
قال الجاحظ: كان عند الرستمي قوم من التجار، فحضرت الصلاة فنهض الرستمي ليصلّي، فنهضوا معه. فقال: مالكم ولهذا؟ إنما فرض الله عز وجلّ هذا ليذلّ به المتكبرين مثلي ومثل فرعون وهامان ونمروذ وكسرى.
حج خراساني من أهل السنّة، فلما حضر الموسم أخذ دليلاً يدلّه على المناسك، فلما فرغ أعطاه شيءاً يسيراً لا يرضيه، فأخذه منه، ثم جاء إلى بعض الأركان فنطح الركن برأسه. فقال الخراساني: ما هذا؟ قال: كان معاوية يأتي هذا الركن فينطحه برأسه، وكلما كانت النطحة أشدّ كان الأجر أعظم. فشد الخراساني على الركن ونطحه نطحة سالت الدماء منها على وجهه وسقط مغشياً عليه فتركه الرجل ومر.
قيل لبعضهم: ما تقول في معاوية؟ قال: رحمه الله ورضي عنه. قيل: فما تقول في يزيد؟ قال: لعنه الله ولعن أبويه.
قال بعضهم لأبيه: يا أبة، قد علمت أن الرمادية هم الذين يبولون في الرماد، فما القدرية؟ قال: الذين يخرؤون في القدور.
قال بعض بني هاشم، وقد ذكرت الصحابة عنده، قال: أنا لا أعرف إلا الشيخين الله والنبي.
تشاجر نفسان من العوام: أحدهما يتشيّع والآخر ناصبي، فقال المتشيع: إن مولاي علياً عليه السلام يوم القيامة على الحوض يسقيني ولا يسقيك. قال الآخر: إن لم يسقني سقاني أبو بكر شربةً، وعمر شربةً، وعثمان، وطلحة، والزبير، حتى عدّ التسعة، فقال له صاحبه: يا ماص بظر أمه، أكلت كربج حتى تشرب هذا الماء كله؟.
كان بعض الشيعة من أهل قزوين له ضيعة تسمى " شيذكين " فلحقه جور السلطان وأجحف به ثقل الخراج حتى خربت الضيعة، وحج الرجل، فبينا هو في الموقف إذ قام إنسان عمريّ فجعل يقول: أنا ابن الذي خرّج الخراج، ودوّن الدواوين، وفعل وصنع. فقال القزويني، وقال له: اسكت يا مشئوم فإن بشؤم جدّك خربت " شيذكين " .
حدّث أن ثلاثة من المشايخ حضروا الجامع. فقال واحد لآخر: جُعلت فداك، أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عيسى بن مريم؟ فقال: لا والله ما أدري. فقال الثالث: يا كشخان، تقيس كاتب الوحي إلى نبيّ النصارى؟.
قال بعضهم: رأيت بالقادسية أيام الحجاج إنساناً يصيح ويقول: ما يبغض العيون إلا عين، فقلت له: ما معنى قولك: العيون؟ قال: أبو بكر، اسمه عبد الله، وعمر، وعثمان، وعلي، لا يبغضهم إلا عين معناه: إلا عاضّ بظر أمه.
وعظ واحد منهم آخر فقال له: الزم السُنّة، فإنك إن لزمت السُنّة دخلت الجنة. فقال له الآخر: وما السنّة؟ قال: حب أبي بكر بن أبي طالب وعمر بن أبي قحافة، وعثمان بن سفيان؟ وأستاذهم كلهم معاوية بن أبي سفيان. قال: ومن معاوية هذا؟ قال: ويلك ألا تعرفه؟ هذا كان من حملة العرش، فزوّجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته عائشة.
قال أبو العيناء: مر بنا واحد ينادي على جرّيّ، فاستقذرناه. فقال هل شيخ كان إلى جنبي: علمت يا أبا عبد الله أني لا آكله إلا مرةً واحدةً في السنة من أجل السُنّة لا غير؟ قلت: وأي سنّة في أكل الجرى؟ قال: سبحان الله! كان علي بن أبي طالب يكرهه.
الباب الخامس والعشرون
نوادر الأطباء
قالوا: مر ماسروجيه الطبيب ببعضهم، فقال: ويلك يا ماسروجيه! إني أجد في حلقي بححاً. قال: هذا من عمل بلغم. فلما جاوزه قال: أنا أحسن أن أقول: بلغم، ولكن كلّمنا بالعربية، فكلمته بالعربية.قال الصولي: عدت بعض الرؤساء من علّة وسمعته يقول للطبيب: أكلت فراريج. فقال له: كان يكفيك فروج واحد. فقال: إن الفراريج لا تضر. فقال الطبيب: يا سيدي: إذا لبس الإنسان عشر غلائل قصب فقد لبس لُبّادةً.
قال ابن ماسويه لرجل شكا إليه قصوره عن الباءة: عليك بالكباب والشراب، وشعر أبي الخطاب، يعني عمر بن أبي ربيعة؛ لغزله.
قال أبو علقمة للطبيب: إني أجد في بطني قرقرةً ومعمعةً. فقال: أمّا القرقرة فضراط لم ينضج. وأما المعمعة فلا أدري ما هي.
قال المتوكل لبختيشوع: ما أخفّ النُّقل على الشراب؟ قال: نقل أبي نواس. قال: وما هو؟ قال:
مالي في الناس كلّهم مثل ... مائي خمر، ونقلي القُبل
قيل لطبيب: ما يذهب بشهوة الطين؟ قال: زاجر من عقل.
قال بعضهم: اعلم أنك تأكل ما تستمرئه، ومالا تستمرئه، فهو يأكلك.
قال جالينوس: صاحب الجماع مقتبس من نار الحياة، فإن شاء فليقلل، وإن شاء فليكثر.
قيل لابن ماسويه: الباقلّي بقشره أصحّ في الجوف؟ قال: هذا من طب الجياع.
يقال: إن أردشير ومن تقدّمه من ملوك الفرس كانوا لا يثبتون في ديوانهم الطبيب إلا بعد أن يُلسعوه أفعى، ثم يقال له: إن شفيت نفسك فأنت طبيب حقّاً، وإن مت كانت التجربة عليك لا علينا.
وكان ملوك الروم إذا اعتلّ طبيب أسقطوه من ديوانهم، وقالوا له: أنت مثلنا.
وكان بعض ملوك العرب إذا جاءه طبيب قدّم إليه مائدةً، وأمره أن يُركّب منها غذاءً لتقوية أبدان المجاهدين، وعلاجاً للمرضى، وتدبيراً للناقهين، وتفكّهاً للمترفين، وسبباً ممرضاً، وسمّاً قاتلاً للأعداء، فإذا فعل ذلك أثبته، وإلا صرفه.
حكي عن بعض الأطباء أنه قال لإنسان شكا إليه علّة، فقال: خذ من البنفسج المربّى قدر روثة، وصبّ عليه ماء حاراً قدر محجمة ثم دوفه حتى يصير كأنه مخاط، ثم اشربه. فقال المريض: أمّا دون أن أُضرب بالسياط فلا.
قال ابن ماسويه: قال لي أخ لعبيد الله بن يحيى: أخبرني عن الطبائع الأربع، هي من عقاقير الجبل؟ فضحكت. فقال: مم تضحك؟ قلت: أخو وزير لا يعرف الطبائع؟ فقال لي: ما أنا طبيب.
قال رجل لطبيب: يا سيدي، إن أمي تجد في حلقها ضيقاً ويبساً وحرارة. قال الطبيب: ليت الذي في حلق أمك في حر امرأتك، وأن على حلق أمك السكين.
وجاء ماجن إلى طبيب فقال: أجد في أطراف شعري شبه المغص، وفي بطني ظلمة، وإذا أكلت الطعام تغيّر في جوفي. قال الطبيب: أما ما تجده من المغص في أطراف شعرك فاحلق رأسك ولحيتك، فإنك لا تجد منه شيئاً، وأما الظلمة التي في بطنك فعلّق على باب استك قنديلاً حتى لا تجدها، وأما تغيّر الطعام في بطنك فكل خرا واربح النفقة.
دخل رجل حماماً فسرقت ثيابه، فخرج وهو عريان، وعلى باب الحمّام طبيب. فقال له: ما قصتك؟ قال: سرقوا ثيابي. قال: بادر ونفسّ الدم، حتى يخف عنك الغم.
قيل لبعض الأطباء: أي وقت للطعام أصلح؟ فقال: أمّا لمن قدر فإذا جاع، ولمن لم يقدر فإذا وجد.
مر طبيب بابن عبد الواسع المازني، فشكا إليه ريحاً في بطنه. فقال: خذ كف صعتر. قال: يا غلام، الدواة والقرطاس، ثم قال: أصلحك الله، ما كنت قلت؟ قال: قلت: خذ كف صعتر، ومكوك شعير. قال: لم لم تذكر الشعير أولاً؟ قال: ولا علمت أنك حمار إلا الساعة.
مرض أحمق، فدخل إليه الطبيب، فساءله عن حاله. فقال: أنا اليوم صالح، وقد قرمت إلى الثلج. فقال الطبيب: الثلج رديء يزيد في رطوبتك، وينقص من قوتك. فقال: أنا إنما أمصه وأرمي بثفله.
ذكر زرقان المتكلم قال: أقمت عند ابن ماسويه يوماً، فقدّمت المائدة وجيء عليها بسمك ولبن، فامتنعت من أحدهما. فقال لي: لم امتنعت؟ فقلت: خوفاً من أن أجمع بينهما. فقال لي: أنت رجل من أهل النظر وتقول هذا القول! ليس يخلو أن يكون كل واحد منهما ضدّاً لصاحبه، أو موافقاً له؛ فإن كان ضداً له فقد أدخلنا على الشيء ضده، وإن كان موافقاً فاعمل على أنّا وددنا سمكاً أكلناه.
جاء رجل إلى بعض الأطباء، فشكا إليه وجع بطنه. فقال له: ما أكلت؟ قال: خبزاً محترقاً. فدعا الطبيب بذرور ليكحله. فقال الرجل: إنما أشكو بطني. قال: قد علمت، ولكني أكحلك لتبصر الخبز المحترق فلا تأكله بعد هذا.
قال شيخ من الأطباء: الحمد لله، فلان يزاحمنا في الطب ولم يختلف إلى البيمارستان تمام خمسين سنةً.
قال بعضهم لطبيب ناوله دواءً: قدر كم آخذ منه؟ قال: تأخذ منه قدر بعرة وتدوفه بقدر محجمة ماء وتضربه.
قال بعضهم: قال لي طبيب: إياك ومجالسة الثقلاء؛ فإنا نجد فيما تقدم من كتب الطب أن في مجالستهم تُخم الأرواح.
قيل: دخل بعض الهاشميين على أبي جعفر، فسلّم عليه. فقال له أبو جعفر: كيف المولود؟ قال: في عافية. قال: كم له؟ قال: سبعة أيام. قال: فقال متطبب أبي جعفر: كيف عقله؟ قال: أما سمعتني قلت لأمير المؤمنين: إنما له سبعة أيام؟ قال الطبيب إن المولود إذا كان حادّ النظر قليل البكاء كان عاقلاً.
ترك لافس التصوير وتطبب، فقيل له في ذلك. فقال: الخطأ في التصوير تدركه العيون، وخطأ الطب تواريه القبور.
سئل طبيب عن دواء المشي. فقال: سهم ترمي به في جوفك أخطأ أم أصاب.
وسئل آخر فقال: هو كالصابون في الثوب يُنقّيه، ولكن يخلقه ويبليه.
شكا رجل إلى طبيب سوء انهضام طعامه، فقال: كلّه مهضوماً.
قال طبيب لمريض: لا تأكل السمك واللحم. فقال: لو كان عندي ما اعتللت.
أصاب بعضهم صداع، فضمّد رأسه بدار صيني، وفلفل. فقال له الطبيب: عزمت على أن تضعه في التنور؟.
الباب السادس والعشرون
اتفاقات عجيبة في الجد والهزل
قال حمّاد بن الزبرقان: حفظت ما لم يحفظ أحد، ونسيت ما لم ينس أحد. كنت لا أحفظ القرآن، فأنفت أن أجيء بمن يعلّمني، فحفظته من المصحف في شهر واحد. ثم قبضت يوماً على لحيتي لأقص ما فضل عن قبضتي فنسيت أني أحتاج أن أقصّ ما دون القبضة فقصصت أعلاها، فاحتجت أن أجلس في البيت سنةً إلى أن استوت.حدّث أبو عاصم النبيل بحديث فقال: حدثني أبو بكر ابني عني. وكان الابن كتبه عنه ونسيه الأب فذكّره.
وفي ضد ذلك، ما حكاه الصاحب رحمه الله عن بعضهم، قال: كان يقول: حدثني ابني عني كأنه أعلم به مني، على معنى قولهم: " كمعلمة أمّها البضاع " .
قال بعضهم: من طرائف المحبان أني بت ليلة عند قوم، وحركتني الطبيعة في بعض الليل، ولم أعرف موضع الخلاء، فوقعت على بيت فيه مهد، وفيه صبي نائم وليس عنده أحد، فعمدت إلى الصبي فأخرجته من المهد، وجعلته في حجري، وجمعت عليه ذيلي، وحوّلت استي على المهد وخريت فيه، وقمت أرد الصبي، فإذا به قد وضع في حجري أضعاف ما خريت في مهده، فبقيت متحيّراً في محنة، ما أعلم أن أحداً دُفع إلى مثلها.
وحكي أنه فعل مثل ذلك إنسان آخر ببستوقة فيها صحناة، في دار رجل كان قد أضافه، وأنه قدّم إليه ذلك في طعامه من غد.
قال عبد الملك بن عمر الليثي: دخلت على عبد الملك بن مروان وهو جالس في بهو على سرير، وقد وضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير. قلما رأيته قلت متعجباً: لا إله إلا الله!! لقد رأيت اليوم عجباً تذكرت به عجائب. قال: وما ذاك؟ قلت: رأيت عبيد الله بن زياد في هذا البهو جالساً على هذا السرير، وبين يديه رأس الحسين بن علي، عليه السلام. ثم دخلت بعد ذلك على المختار في هذا البهو جالساً على هذا السرير، وبين يديه رأس عبيد الله بن زياد. ثم دخلت على مصعب في هذا البهو على هذا السرير، وبين يديه رأس المختار. وقد دخلت عليك يا أمير المؤمنين في هذا البهو على هذا السرير، وبين يديك رأس مصعب. فبادر عبد الملك ونزل عن السرير، وخرج من البهو، وأمر بهدمه.
قُرئ في أخبار البرامكة: أنه وجد في بعض الأوارجات السلطانية في أولها: وما حُمل إلى الأمير أبي الفضل جعفر بن يحيى أعزه الله لهدية النيروز من العين الطرز مائة ألف دينار. وفي آخر الحساب: وما أُخرج لثمن النفط والبواري والحطب لإحراق جثة جعفر بن يحيى بضعة عشر درهماً.
ركب يزيد بن نهشل النهشلي بعيراً له، فلما استوى في غرزه قال: اللهم إنك قلت: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " . اللهم إني أشهدك أني له مقرن. فنفر البعير، وتعلّقت رجله في الغرز، والبعير يجمز به حتى مات.
قال ثعلب: قال السدّيّ: أتيت كربلاء أبيع البزبها، فعمل لنا شيخ من طيّ طعاماً فتعشينا عنده، فذكرنا قتل الحسين، رضي الله عنه، فقلت: ما شرك في قتله أحد إلا مات بأسوأ ميتة. فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق! فأنا فيمن شرك في ذلك. فلم نبرح حتى دنا من المصباح وهو يتّقد بنفط، فذهب يُخرج الفتيلة بإصبعه، فأخذت النار فيها، فجعل يطفئها بريقه، فأخذت النار في لحيته، فعدا فألقى نفسه في الماء، فرأيته كأنه حممة.
قالوا: كان بمدينة السلام رجل ذو يسار، فبينا هو ذات يوم في منزله - وقد جلس ليأكل مع امرأته، وبين يديه سكباجة قد فاحت رائحتها - إذ دنا سائل من الباب، وكان ممن امتحن بنكبة بعد نعمة، فقال: أطعموني من فضل ما رزقكم الله. فقامت المرأة وغرفت له من القدر، وأخذت رغيفين لتناوله. فلما رأى الزوج ذلك حلف عليها ألاّ تدفع إليه شيئاً، ومضى السائل خائباً حزيناً، واستوفى الرجل طعامه، وصعد السطح لبعض حوائجه فعثر بشيء وانتكس، فسقط في الأرض، ووقص ومات.
وحازت المرأة ميراثه وتصرفت فيه، وفرقّت شيئاً من أسبابه الرثّة في المساكين، فكان في جملتها مضرّبة خلقة وقعت إلى هذا الرجل السائل ففتّها ليغسلها ويجعلها قميصاً يلبسه، فوجد فيها ألف دينار، فأخذها وغيّر بها حاله. وضرب الدهر، وأتت على ذلك الأيام، فطلب امرأة يتزوجها. فقالت له بعض الدلاّلات: هاهنا امرأة صالحة قد ورثت، فما تقول في مواصلنها؟ فأنعم لها. فسعت الدلالة بينهما حتى اتفقا واجتمعا، فلما دخل بها تحدثا ذات يوم فقالت المرأة: فاعلم أن هذه الدار التي وقفت عليها، وأنا تلك المرأة، وأن زوجي صعد في ذلك اليوم السطح فسقط ومات. وقد أورثك الله ماله ومسكنه وزوجته، فسجد الرجل شكراً، وحدّث إخوانه تعجّباً.
قال بعض تجار البحر: حملنا مرةً متاعاً إلى الصين من الأبلة - وكان قد اجتمع ركب فيه عشر سفن، قال: ومن رسمنا إذا توجهنا في مثل هذا الوجه أن نأخذ قوماً ضعفاء، ونأخذ بضائع قوم - فبينا أنا قد أصلحت ما أريد إذ وقف عليّ شيخ، فسلّم، فرددت، فقال: لي حاجة قد سألتها غيرك من التجار فلم يقضها. قلت: فما هي؟ قال: اضمن لي قضاءها حتى أقول. فضمنت، فأحضرني رصاصةً فيها نحو من مائة منّا، وقال لي: تأمر بحمل هذه الرصاصة معك، فإذا صرتم في لجّة كذا فاطرحها في البحر. فقلت: يا هذا، ليس هذا مما أفعله. قال: فقد ضمنت لي. وما زال بي حتى قبلته، وكتبته في رزنامجي. فلما صرنا في ذلك الموضع عصفت علينا ريح فنسينا أنفسنا وما معنا، ونسيت الرصاصة، ثم خرجنا من اللجة وسرنا حتى بلغنا موضعاً، فبعت ما صحبني. وحضر بي رجل فقال لي: أمعك رصاص؟ فقلت ليس معي رصاص، فقال لي غلام: معنا رصاص. قلت: لم أحمل رصاصاً معي. قال: بلى، الشيخ سلّم إليك، فذكرت فقلت: خالفناه وبلغنا هاهنا وما عليّ أن أبيعه، فإن ذلك فيه ما أراد. فقلت للغلام: أحضرها، وساومني الرجل بها، فبعتها بمائة وثلاثين دينارا. وابتعت بها للشيخ من طرائف الصين. وخرجنا فوافينا المدينة، وبعت تلك الطرائف فبلغت سبعمائة دينار، وصرت إلى البصرة إلى الموضع الذي وصفه الشيخ، ودققت باب داره، وسألت عنه، فقيل: قد توفي قلت: فهل خلّف أحداً يرثه؟ قالوا: لا نعلم إلا ابن أخ له في بعض نواحي البحر. قال: فتحيّرت، وقيل لي: إن داره موقوفة في يد أمين القاضي، فرجعت إلى الأُبُلّة والمال معي. فبينا أنا ذات يوم جالس إذ وقف على رأسي رجل فقال: أنت فلان؟ قلت: نعم. قال: أكنت خرجت إلى الصين؟ قلت: نعم. قال: وبعت رجلاً هناك رصاصا؟ قلت: نعم. قال: أفتعرف الرجل وتأملته؟ قلت: أنت هو. قال: نعم. إني قطعت من تلك الرصاصة شيئاً لاستعمله، فوجدتها مجوفة، ووجدت فيها اثني عشر ألف دينار، وقد جئت بالمال، فخذ، عافاك الله. فقلت له: ويحك!! والله ما المال لي، ولكنه كان من خبره كذا وكذا، وحدثته. قال: فتبسم الرجل، ثم قال: أتعرف الشيخ؟ قلت: لا. قال: هو عمي، وأنا ابن أخيه، وليس له وارث غيري، وأراد أن يزوي هذا المال عني، وهو هرّ بني من البصرة سبع عشرة سنةً، فأبى الله إلا ما ترى على رغمه. قال: فأعطيته الدنانير كلّها ومضى إلى البصرة وأقام بها.
قال بعضهم: جلس رجل إلى قوم، فصاح به إنسان من خلفه، فالتفت إليه فمات. فقيل لابنه: كيف مات أبوك؟ فحكى لهم كيف مات أبوه والتفت ومات هو أيضاً.
قال يحيى بن اليمان: رأيت رجلاً بات أسود الرأس واللحية شابّاً ملء العين، نام ليلةً فرأى في منامه كأن الناس قد حُشروا، وإذا بنهر من لهب النار، وإذا بجسر يجوز الناس عليه، يُدعون بأسمائهم. فإذا نودي الرجل أجاب، فنجا أو هلك. قال: فدُعي باسمي، فدخلت الجسر، فإذا هو كحدّ السيف يمور بي يميناً وشمالاً. قال: فأصبحت أبيض الرأس واللحية.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: حدثنب أبو محمد الرباطي - رباط خاوة من عمل جرجان - قال: كنت قباراً، فبينا أنا في منزلي إذ طرقني ليلاً ركب مستعجلين فركبت، فإذا أنا بشموع وخدم، فأمروني بالحفر، فحفرت قبراً، وأدعوه تابوتاً، وعفيت عليه بالتراب، وأجالوا خيلهم عليه، تغويراً للموضع فانصرفوا. فظننت أنه كنز، فأسرعن فانتشته، وكشفت عن التابوت فإذا فيه رجل فوضعت يدي على أنفه، فإذا هو قريب من التلف، فاستخرجته وأعدت التراب إلى ما كان عليه، واحتملته إلى منزلي. وعاد القوم حذراً أن يكون قد تُنُبّه على ما في التابوت، ونفضوا الصحراء التي كان فيها، فلم يجدوا أثراً ولا حسّاً لأحد، وأنا مشرف من منزلي أرى ما يصنعون. فلما أمنوا مما توهمّوا انصرفوا. وترادّت نفس الرجل، فسألته عن حاله. فقال: أنا محمد ابن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ، رضي الله عنهم، فأقام عندي إلى أن قويت نفسه وتراجعت، ثم شخص إلى العراق، ثم إلى الحجاز، وظهر باليمن، وبويع له بأمير المؤمنين، ودخل مكة، ثم خرج على عهدهم وبايع المؤمنون لابن أخيه عليّ بن موسى بالعهد، فخرج محمد إلى المأمون بخراسان. وأدركته منيته بجرجان، فاحتفرت له ودفنته، فكان بين الدفنين عشر سنين.
قالوا: كانت في عبد الصمد بن عليّ عجائب: منها أنه مات بأسنانه التي ولد بها ولم يثّغر وكانت أسنانه قطعةً واحدةً.
ومنها أنه كان في قعدد يزيد بن معاوية، هما في النسب إلى عبد مناف سواء.
وقام على منبر قام عليه يزيد وبينهما مائة سنة.
وحج بالناس في سنة مائة وسبعين وحجّ يزيد بالناس في سنة خمسين وبينهما مائة وعشرون سنةً.
ومنها أنه دخل سربا فيه ريش فطارت ريشتان فلصقتا بعينيه فذهب بصره.
ومنها أنه كان يوماً عند الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين، وعمّه، وعم عمّه وعم عم عمه يعني سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد عم جده. ويقال: إن أم عبد الصمد هي كثيرة التي يقول فيها ابن قيس الرقيات:
عاد له من كثيرة الطرب ...
ومن الاتفاقات العجيبة، ما كان من المعتصم وإبراهيم بن المهدي. قال الصولي: لا نعرف خليفة قبل يد خليفة ثم قبل ذلك الخليفة بعينه يده، إلا ما كان من فعل المعتصم بإبراهيم ثم فعل إبراهيم بالمعتصم. وحدّث قال: كان المعتصم في فتنة الأمين يمضي مع علي بن الجنيد إلى إسكاف فيقيم عنده، ولا يقصر علي في خدمته وإكرامه والنفقة عليه. وكان علي أكثر الناس مزاحاً، واحسنهم كلاماً. فآذاه المعتصم في شيء فقال علي: والله لا تفلح أبداً - على المزح - فحفظها المعتصم، فلما دخل بغداد خليفةً، أمر وصيفاً بإحضار عليّ، فأحضروه، وكان عدوّاً للفضل بن مروان فقال له: يا عليّ، زعمت أني لا أفلح أبدا، هل بعد هذا الفلاح شيء من أمر الدنيا؟ فقال له: الذي أفلح عندي الفضل بن مروان، فضحك المعتصم - وكان يقول: من ذلك اليوم اعتقدت أن أنكب الفضل - ثم قال: يا عليّ، أتذكر حيث وقفت لإبراهيم بن المهدي بمرّبعة الخرسيّ فنزلت فقبّلت يده، ثم أدنيت ابني هارون فقبّل يده، وقلت: عبدك هارون ابني، فأمر له بعشرة آلاف درهم؟ قال عليّ: أذكر لك. قال: فإنه ترجّل لي اليوم وقبّل يدي في ذلك الموضع بعينه، ثم قال لي: عبدك هبة الله ابني، وأدناه وقبّل يدي، فأمرت له بعشرة آلاف درهم، ولم تطب له نفسي بغيرها. فقال: بئس والله ما فعل أمير المؤمنين. قال: وكيف؟ ويلك! قال: إبراهيم أمر لهارون بعشرة آلاف درهم وليس في يده إلا بغداد وحدها. وفي يد أمير المؤمنين الشرق والغرب. قال: صدقت، أعطوه عشرة آلاف دينار. وفرّق المعتصم في أهله ثلاثين ألف درهم.
دخل إيتاخ إلى الواثق وهو بآخر رمق لينظر هل مات أم لا، فلما دنا منه نظر إليه الواثق بمؤخر عينه ففزع إيتاخ ورجع القهقري إلى أن وقع سيفه في ملبن الباب فاندق، وسقط إيتاخ على قفاه هيبةً لنظرة الواثق. قيل: فلم تمض ساعةً حتى مات الواثق فعُزل في بيت ليُغسل، واشتغلوا عنه، فجاءت هرّة فأكلت عينه التي نظر بها إلى إيتاخ فتراجع وسقط واندق سيفه هيبةً منها، فعجب الناس من ذلك. وكان إيتاخ زعيماً لسبعين ألف غلام تركيّ.
ومثله لسان مروان بن محمد، فإنه لمّا قُتل، وأخذ رأسه وأرادوا إنفاذه إلى أبي العباس أمروا بتنظيفه، فجاء كلب فأخذ لسانه وجعل يمضغه. فقال عبد الله بن عليّ: " لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم كلب لكفانا ذلك " .
قيل: إنه كان سبب موت المنتصر، أنه وجد حرارةً، فقصد بمبضع مسموم فمات. وأن الطبيب الذي فعل به ذلك احتاج إلى الفصد بعد ايام، فأخرج لتلميذه دست مباضع ليفصده، وفيها ذلك المبضع، وقد أُنسيه، فقصده به تلميذه فمات الطبيب.
وحُكي عن المستعين أنه قال: كان المنتصر قد جعلني في ناحية أخيه موسى الأحدب - وكان لأبيه وأمه - وأحسن إليّ، فلما ثقل اغتممت، ورأيت موسى مسروراً طامعاً في الخلافة، فانصرفت إلى بيتي مغموماً فطرقني رسول أتامش ففزعت لذلك، وودّعت أمي وخرجت مع جماعة من الموالي حتى أُدخلت حجرةً، وجاءني كاتب فسكّن مني، وجعل يؤنسني ويحدثني ويخدمني، فأصبحت يومي صائماً. وأخرجوني في عشيّة ذلك اليوم، فبايعوني.
قال أحمد بن أبي الأصبغ: لما ولى المستعين الخلافة، دعاني أحمد بن الخصيب - وقد استوزره - فقال لي: أكتب الساعة في إشخاص أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، من فارس بأسرع من عندك وأفرههم. فورد أبو صالح بعد شهر، فمكث جمعة ودب في أمر أحمد بن الخصيب حتى ولّي مكانه ونفي أحمد بن الخصيب إلى أقريطش. قال: فدعاني أبو صالح حين ولّي فقال: اكتب الساعة إلى همذان في إشخاص شجاع بن القاسم إلى الحضرة، ووجّه إليه بالذي جاء بي من فارس، قال: ففعلت ذلك، فوافى شجاع، فتقلد كتبة أوتامش، فلما تمكن نكب أبا صالح وقام مكانه.
خرج أبو العيناء - وهو ضرير له نيّف وتسعون سنة - إلى البصرة في سفينة فيها ثمانون نفساً، فغرقت فلم يسلم غيره، فلما صار إلى البصرة توفي بها وذلك في سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
كان الواقدي شيخاً سمحاً، وأظله شهر رمضان، ولم تكن عنده نفقة، فاستشار امرأته بمن ينزل خلّته من إخوانه؟ فقالت: بفلان الهاشمي. فأتاه فذكر له خلته فأخرج له صرة فيها ثلاثمائة دينار فقال: والله ما أملك غيرها. فأخذها الواقدي. فساعة دخل منزله جاءه بعض أخولته وشكا إليه، خلته فدفع إليه الصرة بختمها، وعاد صاحب الصرة إلى منزله. فجاءه الهاشمي فشكا خلته فناوله الصرة فعرفها الهاشمي، فقال له: من أين لك هذه؟ فحدثه بقصته، فقال: قم بنا إلى الواقدي، فأتوه. فقال له الهاشمي: حدثني عنك وعن إخراج الصرة فحدثه الحديث على وجهه فقال الهاشمي: فأحق ما يعمل في هذه الصرة أن نقتسمها ونجعل فيها نصيباً للمرأة التي وقع اختيارها عليه، ففعلوا.
جاء وفد من اليمن فقالوا: يا رسول الله، لقد أحيانا الله تعالى ببيتين من شعر امرئ القيس.قال: وما ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا بموضع كذا وكذا أخطأنا الماء، فمكثنا ثلاثاً لا نقدر عليه، فانتهينا إلى موضع طلح وسمر، فانطلق كل رجل منا إلى أصل شجرة ليموت في ظلها. فبينا نحن في آخر رمق، إذا راكب قد أقبل معتم، فلما رآه بعضنا تمثل:
لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عندها ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال الراكب: من يقول هذا الشعر، فقال بعضنا: امرؤ القيس. قال: هذه والله ضارج عنكم - وقد رأى ما بنا من الجهد - فزحفنا إليها فإذا بيننا وبينه نحواً من خمسين ذراعاً؛ وإذا هي كما وصف امرؤ القيس يفيء عليها الظل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مشهور في الدنيا خامل في الآخرة، مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار " .
قالوا: بينا حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي يتذاكران عجائب الزمان وتغير الأيام - وهما في عرصة إيوان كسرى، وكان أعرابي من غامد يرعى شويهات له نهاراً، فإذا كان الليل صيرهن إلى داخل العرصة، وفي العرصة سرير رخام كان ربما عليه جلس كسرى، فصعدت شويهات الغامدي إلى ذلك السرير - فقال سلمان: " ومن أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامدي إلى سرير كسرى " .
قال بعضهم: دخلت على صابح مولى منارة في يوم شات وهو في قبة طارمة مغشاة بالسمو، مفروشة بالسمور، وبين يديه كانون من فضة، وهو يوقد عليه بعود. ثم مرت سنيات فرأيت صابحاً على حمار بإكاف يقف على الناس على الجسر فيقول: أنا صابح مولى منارة، تصدقوا علي رحمكم الله، فلا يطيعه كثير من الناس، وإن أعطاه إنسان، أعطاه درهماً واحداً فما دونه.
قال الجاحظ: نصب ابن لمحمد بن إبراهيم - كاتب ابن أبي داود - فخاً على ظهر الطريق إلى جانب حائط. فجاء بعض الأتراك فبال في موضعه، فلما أراد أن يتمسح، نظر إلى نبكة مرتفعة فتمسح بها، فوقع الفخ في ذكره وخصييه وظن التركي أنه أفعى، فمر يعدو، وابن محمد يعدو خلفه ويصيح: فخي، فخي. والتركي يقول: فخ إيش؟ ويلك! فاجتمع الناس فخلصوا خصيي تركي من الفخ. وكتب بذلك صاحب البريد إلى المعتصم، فلما دخل ابن أبي داود، قال له: من كاتبك هذا الذي يصيد ابنه خصى الأتراك بالفخاخ؟ فقال: والله ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فلما انصرف سأل عن الخبر، وأخرج الغلام من داره.
قال بعض الأعراب: أضللت بعيراً لي فخرجت في طلبه، فبينا أنا أسير إذ رأيت خباء فإذا فيه جارية جميلة. فاستضفتها فأضافتني، وقدمت إلي طعاماً، فلما مددت يدي إليه، طلع بعلها فقال: ما هذا؟ قالت: ضيف استقرانا فقريناه. فقال: وإنما تزوجت لتقرين الضيف؟ اخرج عافاك الله، فخرجت من الخباء وركبت بعيري وتركته يذهب حيث شاء، قال: فأضاء لي الفجر عن فتى كأن وجهه فلقة قمر، قلت: هل من مضافة، قال: انزل فقدم إلي طعاماً، فلما شرعت في الأكل إذا زوجته قد طلعت فقالت: ما هذا؟ قال: ضيف استضافنا فأنزلناه. فقالت: إنما تزوجتك على أن تقري الأضياف؟ قم عافاك الله واخرج. قال: فضحكت. فقال لي: مم ضحكت؛ قلت: نزلت في أول الليل على جارية كان من قصتها كيت وكيت، ثم نزلت عليك فكان من قصتك ما رأيت. قال: أفلا أخبرك بأعجب من ذلك؟ قال: بلى. قال: تلك والله أختي لأبي وأمي، وهذه أخت الرجل لأبيه وأمه.
وصلى الله على محمد وآله.