كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي
وخطب رضي الله عنه فقال: إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البريء عند الله، فيدسر كما يدسر الجزور، ويشاط لحمه كما يشاط لحم الجزور، ويقال: عاص وليس بعاص. فقال عليّ عليه السلام: كيف ذاك؟ ولما تشتد البلية، وتظهر الحمية وتسب الذرية وتدقهم الفتن دق الرحا ثفالها.
وقال عمر 1: لا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب.
وروي أن ابن السوادة أخا بني ليث قال له: أربع خصال عاتبتك عليها رعيتك. فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها وقال: هات. قال: ذكروا أنك حرمت العمرة في اشهر الحج. قال عمر رضي الله عنه: أجل. إنكم إذا اعتمرتم في أشهر حجكم ظننتموها مجزية من حجكم فقرع حجكم؛ فكانت قائبة قوب عامها، والحج بهاء من بهاء الله. قال: شكوا منك عنف السياق ونهر الرعية. قال: فقرع الدرة، ثم مسحها حتى أتى على سيورها وقال: أنا زميل محمد في غزوة قرقرة الكدر ثم إني والله لأرتع فأشبع، وأسقى فأروي، وأضرب العروض، وأزجر العجول وأؤدب قدري وأسوق خطوي، وأرد اللفوت. وأضم العنود. وأكثر الزجر، وأقل الضرب، وأشهر العصا، وأدفع باليد، ولولا ذلك لأعذرت.
وخطب رضي الله عنه فقال: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم.
وفي حديثه، أنه انكفأ لونه في عام الرمادة حيث قال: لا آكل سمنا ولا سميناً. وأنه اتخذ أيام كان يطعم الناس قدحاً فيه فرض، فكان يطوف على القصاع، فيغمر القدح، فإن لم تبلغ الثريدة الفرض قال: فانظر ما الذي يفعل بالذي ولي الطعام.
وقال لرجل: ما مالك؟ قال: ألفان مضمونان في بيت المال. فقال: اتخذ مالاً سوى هذا، فيوشك أن يأتي من لا يعطي إلا من يحب.
وخرج ليلة في شهر رمضان، والناس أوزاع، فقال: إني لأظن لو جمعناهم على قارئ كان أفضل، فأمر أبيّ بن كعب فأمهم، ثم خرج ليلة وهم يصلون بصلاته، فقال: نعم البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل، يريد صلاة آخر الليل.
وروي أن رجلاً قرأ عليه حرفاً فأنكره، فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبو موسى الأشعري. فقال: إن أبا موسى لم يكن من أهل البهش - والبهش المقل ما كان رطباً، فإذا يبس فهو الخشل، وإنما أراد أن أبا موسى ليس من أهل الحجاز، والمقل ينبت بالحجاز - يريد أن القرآن نزل بلغة قريش.
ونحو منه قوله رضي الله عنه لابن مسعود حين بلغه أنه يقرئ الناس " حتى حين " يريد " حتى " : إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل؛ فأقرئ الناس بلغة قريش.
وقال: من الناس من يقاتل رياء وسمعة، ومنهم من يقاتل وهو ينوي الدنيا، ومنهم من ألحمه القتال فلم يجد بداً، ومنهم من يقاتل صابراً محتسباً. أولئك هم الشهداء.
وسأله العباس عن الشعراء، فقال: امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر.
وكتب في الصدقة إلى بعض عماله: ولا تحبس الناس أولهم على آخرهم، فإن الرجن للماشية عليها شديد ولها مهلك، وإذا وقف الرجل عليك غنمه فلا تعتم من غنمه، ولا تأخذ من أدناها، وخذ الصدقة من أوسطها. وإذا وجب على الرجل سن، ولم تجده في إبله فلا تأخذ إلا تلك السن من شروى إبله أو قيمة عدل، وانظر ذوات الدر والماخض فنكب عنها؛ فإنها ثمال حاضرتهم.
وقال رضي الله عنه: من حظ المرء نفاق أيمه وموضع حقه. يريد أن يكون حقه عنه من لا يجحده.
وقال في قوله تعالى: " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " . نعم العدلان ونعم العلاوة.
وقال ابن عباس " دعاني عمر وعثمان رضي الله عنهما فإذا صبر من مال فقال: خذا فاقتسما فإن فضل فردا. فأما عثمان فحثا، وأما أنا فقلت: إن كان نقصان رددت علينا. فقال: شنشنة أعرفها من أخزم.
وطلى بعيراً من الصدقة بالقطران، فقال له رجل: لو أمرت عبداً من عبيد الصدقة كفاكه. فضرب بالثملة على صدره، وقال: أعبد أعبد مني؟.
وقال: لو صليتم حتى تكونوا كالحنى ما نلتم رحمة الله إلا بصدق الورع.
وقال: تفقهوا قبل أن تسودوا.
وقال: إن الموت فضح الدنيا، فما ترك لذي لبٍ فرحاً.
وقال: احذر من فلتات السباب كلما أورثك النبز واعلقك اللقب؛ فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد عليه ندمك.
وقال رضي الله عنه: بع الحيوان أحسن ما يكون في عينيك.
وقال: أجود الناس من جاد على من لا يرجو ثوابه، وأحلمهم من عفا بعد القدرة، وأبخلهم من بخل بالسلام، وأعجزهم الذي يعجز في دعائه.
وقال: كل عمل كرهت من أجله الموت فاتركه، ثم لا يضرك متى مت.
وقال رضي الله عنه: إذا توجه أحدكم في الوجه ثلاث مرات، فلم ير خيراً فليدعه.
وخطب رضي الله عنه فقال: أيها الناس، ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سيزول؟ وإنما الشيء من أصله، وقد مضت قبلنا أصول، ونحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد اصله؟ إنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل المنايا فيهم وهم نصب المصائب، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص. لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل معمر من عمر يوماً إلا بهدم آخر من أجله، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، فأين المهرب مما هو كائن؟ وإنما يتقلب الهارب في قدره الطالب، فما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غداً! أو أكثر خيبة الخائب! جعلنا الله وإياكم من المتقين.
قال الجاحظ: روى الزهري أن عمر رضي الله عنه نظر إلى أهل الشورى جلوساً فقال: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي؟ فوجموا، فقال لهم ثانية، فأجابه الزبير فقال: نعم، وما الذي يبعدنا عنها وقد وليتها فقمت بها. ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة، ولا في القرابة؟ فقال عمر رضي الله عنه: ألا أخبركم عن أنفسكم؟ قالوا: بلى، فإنا لو استعفيناك ما أعفيتنا. فقال عمر رضي الله عنه: أما أنت يا زبير فوعقة لقس، مؤمن الرضا، كافر الغضب، يوم إنس، ويوم شيطان، ولعلها إن أفضت إليك لظلت يومك تلاطم في البطحاء على مد من شعير. أفرأيت إن أفضت إليك فمن يكون على الناس يوم تكون شيطاناً، ومن يكون - إذا غضبت - إماماً؟. ما كان الله ليجمع لك أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنت في هذه الصفة.
ثم أقبل على طلحة فقال: أقول أم أسكت؟ قال: قل، فإنك لا تقول لي من الخير شيئاً. قال: ما أعرفك منذ ذهبت إصبعك يوم أحد من البأو الذي أحدثت. ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطاً للذي قلت يوم نزلت آية الحجاب أفأقول أم أسكت؟ قال: بالله اسكت.
ثم أقبل على سعد، فقال: إنما أنت صاحب قنص وقوس واسهم ومقنب من هذه المقانب، وما أنت وزهرة والخلافة وأمور الناس؟.
ثم أقبل على علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: لله أنت لولا دعابة فيك. اما والله لو وليتهم لحملتهم على المحجة البيضاء، والحق الواضح، ولن يفعلوا.
ثم قال: وأنت يا عبد الرحمن لو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجحت، ولكن فيك ضعفاً، ولا يصلح هذا الأمر لم ضعف مثل ضعفك. وما زهرة وهذا الأمر؟.
ثم أقبل على عثمان فقال: هيهاً إليك، كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملت بني أمية وبني معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً. والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن. ثم أخذ بناصيته فناجاه، ثم قال: إذا كان ذاك فاذكر قولي هذا، فإنه كائن.
وقال عمر رضي الله عنه للأحنف: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ ورعه، ومن قل ورعه ذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه.
وكتب إلى أبي موسى: أما بعد؛ فإن للناس نفرة عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متبعة، ودنيا مؤثرة؛ فأقم الحدود ولو ساعة من نهار، فإن عرض لك أمران: أحدهما لله، والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الآخرة، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وكن من خشية الله على وجل، وأخف الفساق، واجعلهم يداً يداً ورجلاً رجلاً.
وإذا كانت بين القبائل نائرة، ودعوا: يا لفلان، فإنما تلك النجوى من الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى الله، وتكون دعواهم إلى الله وإلى الإسلام.
وقد بلغ أمير المؤمنين أن ضبة تدعو: بالضبة، وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيراً قط، ولا منع بها شراً قط. فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم عقوبة، حتى يفرقوا إن لم يفقهوا. والصق بغيلان بن خرشة من بينهم.
وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم؛ وافتح بابك، وباشر أمرهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا.
وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولأهل بلدك هيئة في لباسك، ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة التي حلت بواد خصب، فلم يكن لها هم إلا السمن، واعلم أن للعامل مرداً إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، والسلام.
وكان إذا اشترى رقيقاً يقول: اللهم ارزقني أنصحهم جيباً وأطولهم عمراً. وكان إذا استعمل رجلاً يقول: إن العمل كبر، فانظر كيف تخرج منه.
وقال رضي الله عنه: أقلل من الدين تعش حراً، واقلل من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر في أي نصاب تضع ولدك، فإن العرق دساس.
وقال: إياكم وهذه المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر.
وقال: ما الخمر صرفاً باذهب لعقل الرجل من الطمع.
وقال: عجبت لمن يحسن المعاريض، كيف يكذب؟.
وقال: الناس طالبان، فطالب يطلب الدنيا، فارفضوها في نحره، فإنه ربما أدرك الذي طلب منها فهلك بما أصاب منها. وربما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها، وطالب يطلب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافسوه.
وقال: أيها الناس إنه أتى عليّ حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد الله وما عنده. ألا وقد خيل إليّ أخيراً أن أقواماً يقرؤون القرآن يريدون به ما عند الناس. ألا فأريدوا الله بقرآنكم وأريدواه بأعمالكم، فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل، وإذ النبي عليه السلام بين أظهرنا، فقد رفع الوحي، وذهب النبي عليه السلام، فإنما أعرفكم بما أقول لكم. ألا فمن أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً واثنينا به عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضنا عليه، فزعوا هذه النفوس عن شهواتها، فإنها طلاعة، تنزع إلى شر غاية، وإن الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء، ترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب شهوة ساعة أورثت حزناً دائماً.
وقال: استعبروا العيون بالتذكر.
ومر بقوم يتمنون، فلما رأوه سكتوا، فقال: فيم كنتم؟ قالوا: كنا نتمنى. قال: تمنوا وأنا أتمنى معكم. قالوا: فتمن. قال: أتمنى ملء هذا المسجد مثل أبي عبيدة الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، إن سالماً كان شديد الحي لله، لو لم يخف الله لعصاه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح.
وقال رضي الله عنه: لولا أن أسير في سبيل الله، واضع جبهتي لله، وأجالس أقواماً ينتقون أحسن الحديث كما تنتقى أطايب الثمر لم أبال أن أكون قد متّ.
وقال سعد له - حين شاطره ماله - : لقد هممت... قال عمر: لتدعو الله عليّ؟ قال: نعم: إذاً لا تجدني بدعاء ربي شقياً. وكان سعد يسمى المستجاب الدعوة.
وقال عمر في ولد له صغير: ريحانة أشمها، وعن قريب ولد بار أو عدو حاضر.
وقال رضي الله عنه: لكل شيء شرف، وشرف المعروف تعجيله.
وقال: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة؛ لقوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم " . ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة؛ لقوله جلّ اسمه: " لئن شكرتم لأزيدنكم " . ومن أعطي الاستغفار لم يحرم القبول؛ لقول تعالى: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا " .
وقال رضي الله عنه: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، واسألوا الله رزق يوم بيوم.
وقال رضي الله عنه: الرجال ثلاثة: رجل ينظر في الأمور قبل أن تقع فيصدرها مصدرها، ورجل متوكل لا ينظر، فإذا نزلت به نازلة شاور أهل الرأي وقبل قبولهم، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشداً.
كان شرحبيل بن السمط على جيش لعمر رضي الله عنه فقال: إنكم قد نزلتم أرضاً فيها نساء وشراب، فمن أصاب منكم حداً فليأتنا حتى نطهره، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: لا أم لك، تأمر قوماً ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم.
وقال: من قال لا ادري عندما لا يدري، فقد أحرز نصف العلم؛ لأن الذي له على نفسه هذه القوة؛ فقد دلنا على جودة التثبت، وكثرة الطلب، وقوة المنة.
وأوصى الخليفة بعده فقال: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم.
وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم.
وأوصيك بأهل البادية خيراً، فأنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم.
وأوصيك بأهل الذمة خيراً أن تقاتل من ورائهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون.
وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخش الناس في الله.
وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورهم، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة لقلبك، وحطاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك، حتى تفضى في ذلك إلى من يعرف سريرتك، ويحول بينك وبين قلبك.
وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة، حتى تنتهك منه مثل جرمه. واجعل الناس عندك سواءً، لا تبالي على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك.
وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعفة عما بسط لك اقترفت به إيماناً ورضواناً، وإن غلبك فيه الهوى اقترفت به غضب الله. وأوصيك ألا ترخّص لنفسك ولا لغيرها في ظلم أهل الذمة.
وقد أوصيتك، وخصصتك ونصحتك، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاً عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيباً وافراً وحظاً وافياً؛ وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك، فأوردهم النار وبئس الورد المورود، ولبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله، الداعي إلى معاصيه.
ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم. ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفرقهم، ولا تجمرهم في البعوث فينقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم.
هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام.
وروي عن ابن عباس: دخلت على عمر رضي الله عنه حين طعن. قال: فتنفس تنفساً عالياً، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أخرج هذا منك إلا هم. قال: هم شديد لهذا الأمر الذي لا أدري لمن يكون بعدي. قال: ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها. يعني علياً. قلت: وما يمنعه في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوابقه في الخير، ومناقبه في الإسلام؟ قال: ولكن فيه فكاهة. قلت له: فأين أنت وطلحة؟ قال: الأكنع؟ ما زلت أعرف فيه بأواً منذ أصيبت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: فأين أنت من الزبير؟ قال فوعقة لقس. قلت: فأين أنت من سعد؟ قال: صاحب قوس وفرس. قلت: فأين أنت من عبد الرحمن؟ قال: نعم المرء ذكرت، ولكنه ضعيف ولا يقوم بهذا الأمر إلا القوي في غير عنف، واللين في غير ضعف، والجواد من غير سرف، والممسك في غير بخل. قلت: فأين أنت من عثمان؟ قال: أوه - ووضع يده اليمنى على مقدم رأسه - إذاً والله ليحملن بني معيط على رقاب الناس، فكأني قد نظرت إلى العرب حتى تأتيه فتقتله، والله لئن فعل ليفعلن، والله لئن فعل ليفعلن، ثم قال: أما إن أحراهم - إن وليهم - أن يحملهم على كتاب الله وسنة نبيهم صاحبك - يعني علياً - عليه السلام.
وقال رضي الله عنه: اعتبروا عزمه بحميته وحزمه بمتاع بيته. وسمع رجلاً يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتن. فقال: لقد استعذت مما تسأله، المال والولد فتنة. ولكن قل يا لكع: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
وكان عيينة بن حصن كثيراً ما ينظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إزار ورداء، فيقول: يا أمير المؤمنين إني أراك تلبس إزاراً ورداءً، كأني أنظر إلى سبنتي من العجم قد وجأك في خاصرتك، ففجع بك المسلمين، فيا لها ثلمة لا تسد، ووهياً لا يرقع!! فأخرجهم من عيرك إلى عيرهم. فما مكث إلا أياما، حتى وجأه أبو لؤلؤة - أخزاه الله - فقال عمر رضي الله عنه: لله در رأي بين الرقم والحاجر لو أخذنا به! أما إنه قد خبرني بهذا.
وكان يقول: اللهم اصلح بين نسائنا، وعاد بين إمائنا.
وقال: الطمع فقر، واليأس غنى، وفي العزلة راحة من خليط السوء.
وكتب إلى أبي موسى وهو على البصرة: إنك ببلد جل أهله تميم وهم بخل، وربيعة وهم كدر، وفي الأزد موق. فتأدب بأدبك.
افتقد من بيت المال أيام عمر أربعة آلاف درهم، وكان بيت المال في يد وهب بن منبه. فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنا لا نتهم دينك وأمانتك، ولكن نخاف تفريطك وتضييعك، وهذا المال للمسلمين، وليس لأشحهم عليك إلا يمينك، فإذا صليت العصر من يوم الجمعة، فاستقبل القبلة واحلف بالله أنك ما أخذتها، ولا علمت لها آخذاً، والسلام.
وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.
وقال: لا يطبق أمر الله في عباده إلا رجل لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع، ولا يطبق أمر الله إلا رجل يتكلم بلسانه كله، ولا يحنق في الحق على جرته.
وقال رضي الله عنه: أكره لبستين: لبسة مشهورة، ولبسة محقورة.
وقال رضي الله عنه: ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الإيمان: حلم يرد به جهل الجاهل، وورع يحجزه عن المحارم، وخلق يداري به الناس.
وقال: من ملأ عينه من قاعه بيت قل أن يؤذن له فقد فسق، ومن اطلع على قوم في منازلهم بغير إذنهم فليفقئوا عينه.
وقال: لأن أموت بين شعبتي رحلي أبتغي فضل الله، أحب إلي من أن أموت على فراشي.
وقال لبعضهم: احذر النعمة كحذرك المعصية، وهي أخوفهما عليك عندي.
وقال رضي الله عنه: أحذركم عاقبة الفراغ، فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر.
وقال: أفلح من حفظ من الطمع والغضب والهوى نفسه، ولا خير فيما دون الصدق من الحديث، ومن كذب فجر، ومن فجر هلك.
وقال رضي الله عنه: قلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما بالنا نرق على أولادنا ولا يرقون علينا؟ قال: لأنا ولدناهم، ولم يلدونا.
وقال لرجل أراد طلاق امرأته: لم تطلقها؟ قال: لأني لا أحبها. فقال له: أكل البيوت بنيت على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم والوفاء؟ وقال: تضيق أنصارنا، وتقسو ثقيفنا، ومن ولى من العرب قرا في حوضه، وملأ وعاءه، ولم أر لهذا الأمر مثل رجل من قريش أكل على ناجذه.
وقال رضي الله عنه في خطبة له حين بويع: غني قد علمت أن قد كرهتم قيامي عليكم، ومن كرهه منكم ممن ساءه أخذ بحق، ودفع عن باطل، وضرب عنق من خالف الحق، وتمنى الباطل، ودعا إليه، فليس لأولئك هوادة، ولا مناظرة، ولا مصانعة، فليمت أولئك بغيظهم، ولا يلومن إلا أنفسهم ولا يبقين إلا عليها. والله ما لمن خالف إلى الباطل من عقوبة دون ضرب عنقه، فإن السيف نعم الوزير هو للحق وأهله، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال على الحق، وقاتل عليه، فخذوا مني ما أعطيكم وأعطوني ما أسألكم، إني آخذكم بالحق غير معتد به، وأعطيكم الحق غير قاصر عنه، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بيني وبينكم، لا يسألن أحد غير ذلك، ولا يطمعن فيه عندي.
وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وخطب فقال: يا أيها الناس، لا تأكلوا البيض فإن أحدكم يأكل البيضة أكلة واحدة، فإن حضنها خرجت منها دجاجة فباعها بدرهم.
الباب الثالث:
من كلام عثمان بن عفان
رضي الله عنه:
لما نقم الناس عليه قام رضي الله عنه يتوكأ على مروان، وهو يقول: لكل أمة آفة، ولما نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة عيّابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق. لقد نقموا عليّ ما نقموه على عمر، ولكنه قمعهم ووقمهم. والله إني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً، فمالي لا أفعل في الفضل ما أشاء؟.وروي أنه رضي الله عنه قال يوماً على المنبر: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، وما تركت ذلك تأثماً، ولكن تركته تكرماً.
اشتكى عليّ عليه السلام، فعاده عثمان رضي الله عنه فقال: أراك أصبحت ثقيلاً. قال: أجل. قال: والله ما أدري أموتك أحبذ إليّ أن حياتك؟ إني لأحب حياتك، وأكره أن أعيش بعد موتك، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجاً، إما صديقاً مسالماً، أو عدواً معالناً، فإنك كما قال أخو زياد: لقد جررت لنا حبل الشموس فلا يأساً مبيناً أرى منكم ولا طمعاً.
فقال له عليّ عليه السلام: مالك عندي ما تخاف، وما جوابك إلا ما تكره.
قدم إلى عثمان رضي الله عنه غلام في جنابة، فقال: انظروا هل اخضر إزاره.
قال سعيد بن المسيب: بلغ عثمان رضي الله عنه أن قوماً على فاحشة، فأتاهم وقد تفرقوا، فحمد الله وأعتق رقبة.
روى الزهري قال: اشتكى عثمان رضي الله عنه فدخل عليه عليّ عائداً فقال عثمان لما رآه.
وعائذة تعوذ بغير نصح ... تود لو أن ذا دنف يموت
قيل: لما صعد عثمان المنبر أرتج عليه فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا؛ وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب.
وكتب إلى علي رضي الله عنهما حين أحيط به: أما بعد؛ فإنه قد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر قدره، وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
وقال عثمان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وكان عثمان إذا نظر إلى قبر بكى، فقيل له في ذلك. فقال: هو أول منازل الآخرة، وآخر منازل الدنيا، فمن شدد عليه فما بعده أشد، ومن هون عليه فما بعده أهون.
وكان يقول: ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه.
وقال رضي الله عنه: بلغني أن ناساً منكم يخرجون إلى سوادهم، إما في تجارة، وإما في جباية، وغما في حشر، فيقصرون الصلاة، فلا يفعلوا، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً، أو بحضرة عدو.
وعرض به إنسان فقال: إني لم أفر يوم عينين فقال عثمان: فلم تسيرني بذنب قد عفا الله عنه؟.
وقال: قد اختبأت عند الله خصالا، إني لرابع الإسلام، وزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم ابنته، وبايعته بيدي هذه اليمنى فما مسست بها ذكرى، وما تغنيت، ولا تمنيت، ولا شربت خمراً في الجاهلية والإسلام.
وقال: كل شيء يحب ولده حتى الحبارى. خص الحبارى لأنه يضرب بها المثل في الموق.
وروى أن أم سلمة أرسلت إليه: يا بني، ما لي أرى رعيتك عنك مزورين، وعن جنابك نافرين؟ لا تعفّ سبيلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبها ولا تقدح بزند كان أكباها. توخّ حيث توخى صاحباك، فإنهما ثكما الأمر ثكماً ولم يظلماه.
فقال عثمان رضي الله عنه: إن هؤلاء النفر رعاع غثرة تطأطأت لهن تطأطأ الدلاة، وتلددت تلدد المضطر، أرانيهم الحق إخواناً، وأراهموني الباطل شيطاناً، أجررت المرسون رسنه، وأبلغت الراتع مسقاته، فتفرقوا عليّ فرقاً ثلاثاً، فصامت صمته أنفذ من صول غيره، وساعٍ أعطاني شاهده، ومنعني غائبه: ومرخص له في مدة زينت في قلبه. فأنا منهم بين ألسن لداد، وقلوب شداد، وسيوف حداد، عذيري الله منهم، لا ينهى عالم جاهلاً، ولا يردع أو ينذر حليم سفيهاً، والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
وقال عثمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا حرمه الله على النار " . قال عثمان: هي الكلمة التي ألاص عليها عمه.
وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحد بمكة رجل من قريش عليه نصف عذاب العالم فلن أكون إياه.
وتكلم يوم الشورى فقال: الحمد لله الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً واتخذه رسولاً، صدقه وعده، ووهب له نصره على كل من بعد نسباً، أو قرب رحماً، صلى الله عليه وسلم. جعلنا الله وإياكم له تابعين، ولأمره مهتدين. فهو لنا نور، ونحن بأمره نقول عند تفرق الأهواء ومجازاة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منا، ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه عن القصد، وأحر بها يا ابن عوف أن تكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك؛ فأنا أول مجيب لك وداع إليك، كفيل بما أقول زعيم، واستغفر الله لي ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم.
وخطب حين بويع، فقال بعد حمد الله ايها الناس. اتقوا الله، فإن الدنيا كما أخبر الله عنها: " لعب ولهو وزينة وتفاخر " الآية.
فخير العباد فيها من عصم واعتصم بكتاب الله، وقد وكلت من أمركم بعظيم، لا أرجو العون عليه إلا من الله، ولا يوفق للخير إلا هو. " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " .
وخطب رضي الله عنه، وهو محصور فقال: أيها الناس، إن عمر بن الخطاب صير هذا الأمر شورى في ستة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فاختاروني، وأجمعوا عليّ فأجبتهم ولم آل عن العمل بالحق، وما توفيقي إلا بالله، وما أعلم أن لي ذنباً أكثر من طول ولايتي عليكم، ولعل بعضكم أن يقول: ليس كأبي بكر وعمر. أجل أجل. ليت كهما، والأشياء أشباه قريبة بعضها من بعض، وقد زعمتم أنكم تخلعوني، فأما الخلع فلا، دون أن تعذروني بأمر لا يحل لي إلا خلعها من عنقي. وأما العتبى فلكم ونعمة العين.
وخطب لما كثر الطعن عليه، فقال: إني والله ما أتيت ما أتيت وأنا أجهله، ولكن منتني نفسي، وأضلتني رشدي، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تمادوا في الباطل " . وأنا أول من اتعظ، فاستغفر الله، فأشيروا عليّ، فإنه لا يردني الحق إلى شيء إلا صرت إليه.
وكان يقول: إني لأكره أن يأتي عليّ يوم لا أنظر فيه في عهد الله - يعني المصحف - .
وكان حافظاً، ولا يكاد المصحف يفارق حجره، فقيل له في ذلك فقال: إنه مبارك جاء به مبارك.
قال بعضهم: شهدت عثمان رضي الله عنه وهو محصور في القصر فأشرف على الناس، فسمعته يقول: يا أيها الناس إن أعظمكم عنا غناءً من كف يده وسلاحه، ولأن اقتل قبل الدماء أحب إليّ من أن أقتل بعد الدماء. وإنه والله ما حل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال، والله ما فعلت منهن شيئاً منذ أسلمت: ثيب زان، أو مرتد عن الإسلام، أو نفس بنفس، فيقتص منه.
قال صعصعة بن صوحان: ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب عثمان رضي الله عنه، دخلت عليه فقلت: أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أن قلنا: ربنا الله. قال: نحن الذين أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أن قلنا: ربنا الله. ومنا من مات بالحبشة، ومنا من مات بأرض المدينة.
ولما ورد ابن الزبير على عثمان رضي الله عنه بفتح إفريقية، وأقامه للناس، فتكلم فأحسن. قال عثمان: أيها الناس: انكحوا النساء على آبائهن وإخوتهن، فإني لم أر كابي بكر الصديق ولداً أشبه به من هذا.
وروى عن ابن عباس أنه قال: وقع بين علي وعثمان كلام. فقال عثمان: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب، تشرب آنفهم قبل شفاههم.
ونظر إليه معبد بن سنان وهو يغرس فسيلة، فقال: أتغرس فسيلة، وهذه الساعة قد أظلتك؟ فقال عثمان: لأن يراني الله مصلحاً أحب إلي من أن يراني مفسداً.
وكان يكثر النظر في المصحف، فقيل له: أنت أحفظ أصحابك للقرآن وتكثر النظر، فقال: إني أحتسب بنظري كما أحتسب بحفظي.
الباب الرابع
كلام الصحابة
عبد الله بن مسعود
خطبة له: أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، خير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، شر الأمور محدثاتها، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، خير الغنى غنى النفس، خير ما ألقي في القلب اليقين، الخمر جماع الآثام، النساء حبالة الشيطان، الشباب شعبة من الجنون، حب الكفاية مفتاح المعجزة، من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا هجراً، أعظم الخطايا اللسان الكذوب. سباب المؤمن فسق، قتاله كفر، أكل لحمه معصية، من يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له. مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه.ومن كلامه رضي الله عنه: حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم، ورموك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فأمسك.
وكانت له ثلاث خصال: أولها السرار، وهو سرار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إذنك عليّ أن تسمع سوادي. وكان معه سواك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عصاه.
وقيل له في مرضه: لو نظر إليك الطبيب. فقال: الطبيب أمرضني.
وقال: ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب.
قال بعضهم: اسكتتني كلمة عبد الله بن مسعود عشرين سنة حيث يقول: من كان كلامه لا يوافق فعله، فإنما يوبخ نفسه.
وقال: الدنيا كلها غموم، فما كان منها من سرور فهو ربح.
ودخل عليه عثمان رضي الله عنهما في مرضه، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي.
وقال: القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال: كفى بالرجل دليلاً على سخافة دينه كثرة صديقه.
وقال: كونوا ينابيع العلم مصابيح الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، أحلاس البيوت، تخفون في الأرض، وتعرفون في السماء.
وقال: جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم؛ فإن الشيطان يخرج من البيت تقرأ فيه سورة البقرة.
وقال: إن التمائم والرقى والتولة من الشرك.
وقال: إنكم مجموعون في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.
وقال: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وهو صريع، فقلت: قد أخزاك الله يا عدو الله، ووضعت رجلي على مذمّره. فقال: يا رويعي الغنم، لقد ارتقيت مرتقى صعباً، لمن الدبرة؟ فقلت: لله ولرسوله. فقال: أعمد من سيد قتله قومه. قال: ثم اجنززت رأسه فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: إن طول الصلاة وقصر الخطبة مئنة من فقه الرجل.
وقال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، يتهارجون كما تهارج البهائم، كرجراجة الماء الخبيث التي لا تطعم.
وقال: لأن أزاحم جملاً قد هيئ بالقطران أحب إليّ من أن أزاحم امرأة عطرة.
وقال: ما شبهت ما غبر من الدنيا إلا بثغب ذهب صفوه، وبقي كدره.
وذكر الفتنة فقال: الزم بيتك. فقيل: فإن دخل عليّ بيتي؟ قال: كن مثل الجمل الأورق الثفال الذي لا ينبعث إلا كرهاً، ولا يمشي إلا كرهاً.
وسار سبعاً من المدينة إلى الكوفة في مقتل عمر رضي الله عنه فصعد المنبر وقال: إن أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين عمر. قال: فبكى الناس. قال: ثم إنا أصحاب محمد اجتمعنا فأمّرنا عثمان ولم نأل عن خبرنا ذا فوق.
وقال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر.
وقال: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن.
وقال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته.
وقال: لأن أعض على جمرة حتى تبرد،أحب إلي من أن أقول لأمر قضاه الله عز وجل: ليته لم يكن.
وقال: لا أعرفن أحدكم جيفة ليل، قطرب نهار.
وقال له رجل: إني أردت السفر فأوصني. فقال له: إذا كنت في الوصيلة فأعط راحلتك حظها، فإذا كنت في الجدب فأسرع السير ولا تهود وإياك والمناخ على ظهر الطريق فإنه منزل للوالجة.
وقال: لا تهذوا القرآن كهذّالشعر، ولا تنثروه نثر الدقل - يقول: لاتعجلوا في تلاوته.
وقال لرجل: إنك إن أخرت إلى قريب بقيت في قوم كثير خطباؤهم، قليل علماؤهم، كثير سائلوهم، قليل معطوهم، يحافظون على الحروف ويضيعون الحدود، أعمالهم تبع لأهوائهم.
وقال: لا تعجلوا بحمد الناس ولا بذمهم، إلا عند مضاجعهم، فإن الرجل يعجبك اليوم، ويسوءك غدا، ويسوءك اليوم ويسرك غدا.
وقال: تجوزون الصراط بعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمونها بأعمالكم.
وقال: أد ما افترض الله تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أزهد الناس، واجتنب ما حرم الله عليك تكن أورع الناس.
وقال: من اليقين ألا تطلب رضا أحد من الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدا من الناس في رزق آتاك الله، ولا تلوم أحدا من الناس فيما لم يؤتك الله؛ فإن الله جعل الروح والراحة في اليقين و الرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
وقال: عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده. عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله.
واتبعه قوم، فقال: لو علموا ما أغلق عليه بابي ما اتبعني رجلان.
وقال: ما أبالي أبالفقر بليت أم بالغنى، إن حق الله فيهما لواجب؛ في الغنى البرّ والعطف، وفي الفقر الصبر والرضا.
وقالوا: لا تعادوا نعم الله فإن الحسود عدو النعم.
سلمان الفارسي
قال له عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين: مع من نكتبك؟ قال: مع الذين لا يريدون علوا في الأرض.قالوا: أضاف سلمان الفارسي رجلاً فقدم إليه كسراً وملحاً، فقال: أما من جبن! فرهن سلمان ركوته واشترى له خبزاً وجبناً، فلما أكل وشبع قال: رضيت بما قسم الله لي. فقال سلمان: لو رضيت بما قسم الله لم ترهن الركوة.
وكان سلمان يتعوذ بالله من الشيطان والسلطان والعلج إذا استعرب.
وقال: القصد والدوام وأنت السابق الجواد.
اشترى رجل بالمدائن شيئاً، فمر سلمان وهو أمير بها فلم يعرفه، فقال: احمل هذا معي يا علج. فحمله، فكان من يتلقاه يقول: ادفعه إلي أيها الأمير، والرجل يعتذر، وهو يقول: لا والله ما يحمله إلا العلج، حتى بلغ منزله.
وروي أنه أخذ من بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها عليه السلام من فمه. وقال: إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا.
وقال: الناس أربعة: أسد، وذئب، وثعلب، وضأن، فأما الأسد فالملوك يفرسون ويأكلون، وأما الذئب فالتجار، وأما الثعلب فالقراء المخادعون؛ وأما الضأن فالمؤمن ينهشه من رآه.
ودخل عليه سعد يعوده فجعل يبكي. فقال سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟. قال: والله ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حزناً على الدنيا. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا: " ليكف أحدكم مثل زاد الراكب " وهذه الأساود حولي، وما حوله إلا مطهرة وإجانة وجفنة.
وقال: أحيوا ما بين العشاءين فإنه يحط عن أحدكم من جزئه، وإياكم وملغاة أول الليل، فإن ملغاة أول الليل مهدنة لآخره.
وقال: إن صاحب عمورية قال لي: قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم عليه السلام مهاجره أرض ذات نخل، فقدمت وادي القرى فرأيت بها النخل فطمعت أن تكون، وما حقت لي أن تكون.
وقال سلمان: البر لا يبلى والإثم لا ينسى.
وكتب إلى أبي هريرة: إن نافرت الناس نافروك، وإن تركتهم لم يتركوك، فأقرضهم من عرضك ليوم فقرك، وكفى بك ظالماً ألاّ تزال مخاصماً.
وكتب سلمان أيضاً إلى أبي هريرة: إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولن تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً.
أبو ذر الغفاري
لما بنى معاوية خضراء دمشق أدخلها أبا ذر رحمه الله، فقال له: كيف ترى ما ها هنا؟ قال: إن كنت بنيتها من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيتها من مالك فأنت من المسرفين.وقال: كان الناس زرقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه.
وقال: يخضمون ونقضم، والموعد الله.
وقال: إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث، فإن قدرت ألاّ تكون أخس الشركاء حظاً فافعل.
ولما أمر عثمان بتسييره إلى الربذة قال له: إني سائر إلى ربذتك، فإن مت بها فأنا طريدك، فإذا بعثني ربي حكم بيني وبينك. قال: إذا أحجك، إنك تبغي عليّ وتسعى. قال أبو ذر: إن كنت أنت الحاكم فاحججني، إن الحكم يومئذ لا يقبل الرشوة، ولا بينه وبين أحد قرابة.
نظر عثمان إلى عير مقبلة، فقال لأبي ذر: ما كنت تحب أن تكون هذه العير؟ قال: رجالاً مثل عمر.
وكان يقول: إنما مالك لك، أو للجائحة، أو للوارث، فلا تكن أعجز الثلاثة.
وقيل له: أتحب أن تحشر في مسلاخ أبي بكر؟ قال: لا. قيل: ولم؟ قال: لأني على ثقة من نفسي وشك من غيري.
وشتمه رجل، فقال له أبو ذر: ياهذا لا تغرق في سبنا ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وقال أبو ذر: ما تقدر قريش أن تفعل بي؟ والله للذل أحب إليّ من العز. ولبطن الأرض أحب إليّ من ظهرها.
وقال: أيها الناس، إن آل محمد صلى الله عليه وسلم هم الأسرة من نوح، والآل من إبراهيم، والصفوة والسلالة من إسماعيل، والعترة الطيبة الهادية من محمد صلى الله عليه وسلم فأنزلوا آل محمد بمنزلة الرأس من الجسد، بل بمنزلة العينين من الرأس، فإنهم فيكم كالسماء المرفوعة، وكالجبال المنصوبة، وكالشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة أضاء زيتها وبورك زندها.
وقيل له: ما تقول في النبيذ؟ قال: شربه حلال، وتركة مروءة.
وقال لغلامه: لم أرسلت الشاة على علف الفرس. قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجراً، أنت حر لوجه الله.
وقال: نرعى الخطائط ونرد المطائط، وتأكلون خضماً ونأكل قضماً والموعد الله.
وقال: إنكم في زمان الناس فيه كالشجرة المخضودة لا شوك لها، إن دنوت منهم لاطفوك، وإن أمرتهم بمعروف أطاعوك، وإن نهيتهم عن منكر لم يعادوك، وسيأتي زمن الناس فيه كالشوك، إن دنوت منهم آذوك، وإن أمرتهم بمعروف عصوك، وإن نهيتهم عن منكر عادوك، فرحم الله رجلاً تصدق من عرضه ليوم فاقته.
وقال للقوم الذين حضروا وفاته: أنشدكم الله والإسلام أن يكفنني منكم رجل كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً.
وجاءت إليه ابنته عليها محش من صوف، فقالت: يا أبه زعم الزاعمون أن أفلسك بهرجة. قال: ضعي ثقتك واحمدي الله، إن أباك ما أمسى يملك حمراء ولا صفراء إلا أفلسك هذه.
وقال أبو ذر: فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوتي من الجمعة إلى الجمعة مد، لا والله لا أزداد عليه حتى ألقاه.
وكان يقول: اللهم أمتعنا بخيارنا، وأعنا على شرارنا.
وقال: الحمد لله الذي جعلنا من أمة تغفر لهم السيئات، ولا تقبل من غيرهم الحسنات.
وروى في حديث إسلامه قال: قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة بمكة، فانطلق، فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: ساحر شاعر كاهن. قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء. فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلا يلتئم على لسان أحد. ولقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال أبو ذر: فقلت: اكفني حتى أنظر. قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا.
فانطلقت فتضعفت رجلاً من أهل مكة، فقلت: أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم وحجر، فخررت مغشياً عليّ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فغسلت عني الدم، وشربت من مائها، ثم دخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت بها ثلاثين من بين يوم وليلة، ومالي بها طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: فبينما أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، قد ضرب الله على أصمختهم، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتيا عليّ وهما يدعوان إسافاً ونائلة فقلت: أنكحوا أحدهما الأخرى. قال: فما ثناها ذلك، فقلت: وذكر كلاماً فاحشاً لم يكن عنه، فانطلقتا وهما تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا. فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بالليل وهما هابطان من الجبل. فقال لهما: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قال: فما قال لكما؟ قالتا: كلمة تملأ الفم. ثم ذكر أنه خرج إليه، وسلم عليه، وأنه أول من حياه بتحية الإسلام، قال: وذهبت لأقبل بين عينيه فقدعني صاحبه.
المغيرة بن شعبة
ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كان أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع، وما رأيت مخاطباً له قط إلا رحمته كائناً من كان.وقال: من أخر حاجة الرجل فقد ضمنها.
وقال له عمر رضي الله عنه: ما أدري كيف أعامل أهل الكوفة؟ إن أرسلت إليهم مؤمناً ضعفوه، وإن أرسلت إليهم قوياً فجروه. فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين، الضعيف إيمانه له وعليك ضعفه، والفاجر قوته لك وعليه فجوره. فولاه الكوفة.
وقال: ملكت النساء على ثلاث طبقات: كنت أرضيهن في شبيبتي بالباه، فلما شبت أرضيتهن بالمداعبة والمفاكهة، فلما كبرت أرضيتهن بالمال.
وقيل له: إن بوابك يأذن لأصحابه قبل أصحابك. فقال: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور، والجمل الصئول، فكيف بالرجل الكريم؟.
ورأى عروة بن مسعود يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتناول لحيته يمسها، فقال: أمسك يدك عن لحية النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك. فقال عروة: يا غدر، وهل غسلت رأسك من غدرتك إلا بالأمس؟ وحديث غدرته أنه خرج مع سبعة نفر من بني مالك إلى مضر، فعدا عليهم فقتلهم جميعاً وهم نيام، واستاق العير ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب.
وقال: السفلة من لا يبالي ما قال وما قيل له، ولا ما فعل ولا ما فعل به.
وقال: ما صنعت لرجل حاجة إلا كنت أضن بها منه حتى أربها.
عمرو بن العاص
قال: ثلاث لا أملهن: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملت رحلي.وقال لعبد الله بن عباس يوم صفين: إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر بنا وبكم ما ترى، وما أبقت لنا هذه الحرب حياة ولا صبراً، ولسنا نقول: ليت الحرب عادت، لكنا نقول: ليتها لم تكن فانظر فيما بقي بعين ما مضى، فإنك رأس هذا الأمر بعد علي، وإنما هو أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو.
نصب معاوية قميس عثمان على المنبر، فبكى أهل الشام. فقال: هممت أن أدعه على المنبر. فقال له عمرو: إنه ليس بقميص يوسف، وإنه إن طال نظرهم إليه وبحثوا عن السبب وقفوا على ما لا تحب، ولكن لذعهم بالنظر إليه في الأوقات.
وقال لابنه وقد ولي ولاية: انظر حاجبك فإنه لحمك ودمك، فلقد رأينا بصفين وقد اشرع قوم رماحهم في وجوهنا، ما لنا ذنب إليهم إلا الحجاب.
وقال: ما وضعت سري عند أحد قط فأفشاه فلمته، لأني أحق باللوم أن كنت أضيق صدراً منه.
وكان بين طلحة بن عبيد الله والزبير مداراة في واد بالمدينة، فقالا: نجعل بيننا عمرو بن العاص، فأتياه فقال لهما: أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان، وقد سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما سمعت، وحضرتما من قوله مثل الذي حصرت، فيمن اقتطع شبراً م، أرض أخيه بغير حق أنه يطوقه من سبع أرضين. والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه، وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ في دينه، والمحكوم عليه إذا جير عليه رزئ عرض الدنيا. إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فاصطلحا، وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا.
وقال: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين.
قال المدائني: جعل لرجل جعل على أن يسأل عمرو بن العاص وهو على المنبر عن أمه، فلما قام على المنبر، قال له: يا عمرو، من أمك؟ قال: سلمى بنت خزيمة، تلقب بالنابغة، من بني جلان من عنزة، أصابتها رماح العرب فصارت للفاكه بن المغيرة، ثم صارت إلى عبد الله بن جدعان، ثم صارت للعاص بن وائل فولدت فأنجبت؛ اذهب فخذ جعلك الذي جعل لك.
وقال عمر رضي الله عنه يوماً لجلسائه - وفيهم عمرو بن العاص - : ما أحسن كل شيء؟ فقال كل رجل برأيه وعمرو ساكت، فقال عمر: ما تقول؟ قال: الغمرات ثم ينجلين.
وكان يقول: عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة. أي عليكم بجسام الأمور.
ونظر إليه على بغلة؟ قد شمط وجهها هرماً، فقيل له: أتركب هذه وأنت على أكرم ناخرة بمصر؟ فقال: لا ملل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، إن الملل من كواذب الأخلاق.
وقال لعائشة: لوددت أنك قتلت يوم الجمل. فقالت: ولم؟ لا أبالك! قال: كنت تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر تشنيع على عليّ.
وروي عن ابن عباس قال: دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر. فقلت: يا أبا عبد الله إنك كنت تقول: أشتهي أن أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف يجد، فكيف تجدك؟ فقال: أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما، وأراني كأني أتنفس من خرت إبرة. ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى، ثم رفع يده فقال: اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فركبنا، فلا برئ فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله. - ثلاثاً - ثم فاز.
وقال: إذا أنا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل. فقيل له: وكيف؟ قال: أنا كنت أحق بصيانته.
وقال لبنيه: اطلبوا العلم، فإن استغنيتم كان جمالاً، وإن افتقرتم كان مالاً.
وقدم على عمر من مصر، وكان واليه عليها، فقال: كم سرت؟. قال: عشرين. فقال عمر: لقد سرت سير عاشق. فقال عمرو: إني والله ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرّات المآلي. فقال عمر: والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه، وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل، والبيضة منسوبة إلى طرفها. فقام عمرو متربد الوجه.
قال عمرو: يا بني، إمام عادل خير من مطر وابل، واسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم، ولأن تمازح وأنت مجنون خير من أن يمازحك مجنون، وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقي ولا تذر، واستراح من لا عقل له.
وكتب إلى عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود، بين غرق وبرق. فقال عمر: لا يسألني الله عن أحد حملته فيه.
وقال: إن ابن حنتمة بعجت له الدنيا معاها، وأطعمته شحمتها، وأمطرت له جوداً سال منها شعابها، ودفقت في محافلها فمصّ منها مصّا، وقمص منها قمصاً، وجانب غمرتها ومشى ضحضاحها وما ابتلت قدماه، ألا كذاك أيها الناس؟ قالوا: نعم رحمه الله.
وقال لعثمان وهو على المنبر: يا عثمان؟ إنك قد ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمر، وزغت وزاغوا فاعتدل أو اعتزل.
وكان في سفر، فرفع عقيرته بالغناء، فاجتمع الناس، فقرأ فتفرقوا. فعل ذلك وفعلوه غير مرة. فقال: يا بني المتكاء، إذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم!
وقيل له في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا اثوب، أجدني نجوي أكثر من رزئي.
وكتب إلى معاوية: إنه ليس أخو الحرب من يضع خور الحشايا عن يمينه وشماله، ويعاظم الأكلاء اللقم، ولكنه من حسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور آلاتها، وللفرسان أقرانها.
وقال له عثمان رضي الله عنه: قم فاعذرني عند الناس فقد كثر طعنهم علي، فقام فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكرمه الله به، ثم قال: إني قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيته، وقد سبق منكم من سبق فرأى ما لم أر، فرأيت السعة تكون فيعمها الناس دون نفسه، وتكون الخصاصة فيخصها نفسه وأهل بيته دون الناس.
ثم ولى الناس أبو بكر، فسلك سبيله، حتى خرج من الدنيا في ثوب ليس له رداء.
ثم وليها ابن حنتمة فانبعجت له الدنيا فقمص منها قمصا، ومصها مصا، وجانب غمرتها، ومشى في ضحضاحها حتى خرج مشمراً، ما ابتلت عقبه. أكذاك أيها الناس؟ قالوا: اللهم نعم.
ثم ولى عثمان فقلتم تلومونه، وقال يعذر نفسه، فعلى رسلكم، فرب أمر تأخيره خير من تعجيله، وإن الحسير يبلغ، والهزيل يبقى ثم جلس، فقال عثمان رضي الله عنه: ما زلت منذ اليوم فيما لا ينفع أهلك. قال: فإني قلت بما أعلم.
وقال يوم صفين: يا أهل الشام، أقيموا صفوفكم مثل قص الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعة من نهار، فقد بلغ الحق مقطعه، وإنما هو ظالم أو مظلوم.
وقال له سلامة بن روح الجذامي: إنه كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نخرج الحق من حفير الباطل.
ولما أخرج عمر إليه - وهو بمصر والياً لها من جهته - محمد بن مسلمة الأنصاري، فشاطره ماله. قال عمرو بن العاص: لعن الله زماناً كنت فيه والياً لعمر، والله لقد رأيته في الجاهلية وأباه، وعلى رأس كل واحد منهما حزمة من حطب، وعلى كل واحد منهما عباءة قطوانية ما تواري مآبض ركبتيه، وما كان العاص بن وائل يلبس في الجاهلية إلا الديباج مزرراً بالذهب. فقال محمد بن مسلمة: عمر - والله - خير منك، فأما أبوك وأبوه ففي النار، وأيم الله لولا الذي سنيت لألفيت معتقلاً شاة يسرك غزرها، ويسوؤك جمادها. قال: صدقت، ولكني غضبت فقلت ما قلت، وهي أمانة عندك لن تذكرها لعمر.
وقال عمرو لمعاوية: لا يكن شيء آثر عندك في أمر رعيتك، وتكون له اشد تفقداً منك كخصاصة الكريم، أن تعمل في سدها، وكطغيان اللئيم أن تقمعه، واستوحش من الكريم الجائع، ومن اللئيم الشبعان. فإن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع.
وقال: جمع العجز إلى التواني، فنتج بينهما الندامة، وجمع الحزم إلى الكسل، فخرج بينهما الحرمان.
وقال: من طلب لسره موضعاً فقد أشاد به.
طلحة
قال لعمر رضي الله عنه حين استشارهم في جموح الأعاجم: قد حنكتك الأمور، وجرستك الدهور، وعجمتك البلايا، فأنت ولي ما وليت، لا ينبو في يديك، ولا يحول عليك.لما حصر عثمان رضي الله عنه جاء علي عليه السلام إلى طلحة، وهو مسند ظهره إلى وسادة في بيته فقال: أنشدك الله لما رددت الناس عن عثمان. فقال طلحة: لا والله حتى تعطي بنو أمية من أنفسها.
قال ابن عباس: بعثني علي رضي الله عنه بالبصرة إلى طلحة والزبير فأتيتهما فقلت لهما: أخوكما يقرئكما السلام، ويقول لكما: ما الذي نقمتما عليّ؟ استشار بفيء أو جور في حكم؟ قال: فأما الزبير فسكت، وأما طلحة فقال: لا واحدة من ثنتين.
أبو موسى الأشعري
قال: من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط.وقيل له زمن علي عليه السلام ومعاوية: أهي؟ فقال: إنما هذه الفتنة، حيصة من حيصات الفتن، وبقيت الرداح المظلمة، التي من أشرف لها أشرفت له.
كتب معاوية إلى أبي موسى بعد الحكومة - وهو يومئذ بمكة عائذ بها من علي عليه السلام، وإنما أراد بكتابته أن يضمه إلى الشام - : " أما بعد؛ فإنه لو كانت النية تدفع خطأ لنجا المجتهد، وأعذر الطالب، ولكن الحق لمن قصد له فأصابه، ليس لمن عارضه فأخطأه. وقد كان الحكمان إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما. وقد اختار القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، فأقبل إلى الشام فهي أوسع لك.
فكتب أبو موسى إليه: أما بعد؛ فإني لم اقل في علي إلا بما قال صاحبك فيك. إلا أني أردت ما عند الله، وأراد عمرو ما عندك، وقد كانت بيننا شروط، والشورى عن تراض، فلما رجع رجعت، فأما الحكمان وأنه ليس للمحكوم عليه الخيار، فإنما ذلك في الشاة والبعير، فأما في أمر هذه الأمة فليس أحد آخذاً لها بزمام ما كرهوا، وليس يذهب الحق لعجز عاجز ولا مكيدة كائد. وأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليست بي رغبة عن حرم إبراهيم عليه السلام.
فلما بلغ علياً عليه السلام قوله رق له، وأحب أن يضمه إليه، فكتب إليه: أما بعد: فإنك رجل أمالك الهوى، واستدرجك الغرور.
ولما هجن أبو موسى فرس حجل بن نضلة قال له حجل: أنت بالبقر أبصر. قال أبو موسى: أما إنك إذا أصبتها صغيرة الرأس لطيفة الأذن دقيقة القرن، سابغة الغبب، واسعة الجفرة، رقيقة الذنب فإنها مما تكون كريمة.
ابن عمر
كتب إليه رجل يسأله عن العلم؛ فأجابه: إنك كتبت تسأل عن العلم. والعلم أكثر من أن أكتب به إليك، ولكن إن استطعت أن تلقى الله عز وجل كافّ اللسان عن أعراض المسلمين، خفيف الظهر من دمائهم، خميص البطن من أموالهم، لازماً لجماعتهم فافعل.وقال ابن عمر: كان الرجل إذا أراد أن يعيب جاره طلب الحاجة إلى غيره.
استأذن على الحجاج ليلاً، فقال الحجاج: إحدى حماقات أبي عبد الرحمن. فدخل، فلما وصل قال له الحجاج: ما جاء بك؟ قال: ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية " فمد إليه رجله، فقال: خذ فبايع. أراد بذلك الغض منه.
سئل ابن عمر: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة؟ فقال: لا، ولا في غير الصلاة.
وكان إذا حدثه محدث فقال: زعموا. قال له ابن عمر: " زعموا " من زوامل الكذب.
وجاء إليه رجل فقال: الزنا يقدر؟ قال: نعم. قال: يقدر عليّ ثم يعذبني! قال: نعم يابن اللخناء.
وقيل له: إن المختار يزعم أنه أوحي إليه. قال: صدق، أما سمعت قول الله تعالى: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " .
قال بعضهم: أتيته، فقلت: أتجب الجنة لعامل بكل الخيرات وهو مشرك؟ فقال: لا. قلت له: أتجب النار لعامل بالشر كله وهو موحد؟ فقال ابن عمر: عش ولا تفتر. فأتيت ابن عباس فسألته، فأجابني بمثل جوابه سواء قال: عش ولا تفتر.
ورأى رجلاً محرماً قد استظل، فقال: اضح لمن أحرمت له.
وروي أنه شهد فتح مكة وهو ابن عشرين سنة، ومعه فرس حرون، وجمل جرور وبردة فلوت، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يختلي لفرسه فقال: إن عبد الله إن عبد الله. وقال: لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما لهدته.
وذكرت عنده الفتنة، فقال: لأكونن فيها مثل الجمل الرداح، الذي يحمل عليه الحمل الثقيل، فيهرج فيبرك، ولا ينبعث حتى ينحر.
جاء إليه رجل قد حج بأمة على ظهره. فقال: أتراني قضيتها؟ قال ابن عمر: لا، ولا طلقة واحدة.
وقال: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه، وكان معاوية أسود من عمر.
وبلغه أن معاوية قتل حجراً واصحابه، فقال: إن معاوية كان جملاً طباً نباطياً، وإن ابن سمية تركه حماراً مصرياً.
وقف عبد الله بن عامر بن كريز بعرفات يوم عرفة، ومعه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين، فقال: كيف ترون وقفي هذا؟. يريد: العين والحياض التي وقفها على الحاج. فكل أثنى وقرّظ، وقال: هذا وقف شريف في يوم عظيم، وابن عمر ساكت لا يتكلم، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما لك لا تتكلم؟ فقال: إذا طابت المكسبة زكت النفقة، وسترد فتعلم.
أتى رجل الحسن بن علي عليهما السلام فسأله، فقال له الحسن: إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح، أو فقر مدقع، أو حمالة مفظعة. فقال الرجل: ما جئت إلا في إحداهن، فأمر له بمائة دينار.
ثم أتى الحسين عليه السلام فسأله، فقال له مثل مقالة أخيه، فرد عليه مثل ما رد على أخيه، قال: كم أعطاك؟ فأخبره، فنقصه ديناراً عن مائة وأعطاه، وكره أن يساوي أخاه.
ثم أتى الرجل عبد الله بن عمر. فسأله، فأعطاه سبعة دنانير ولم يسأله عن شيء، فقال: إني أتيت الحسن والحسين رضي الله عنهما واقتص كلامهما وما أعطياه. فقال عبد الله: ويحك. وأين تجعلني منهما؟ إنهما غرا العلم غرا.
وقال: إنا معشر قريش نعد الحلم والجود سؤدداً، ونعد العفاف والصلاح مروءة.
ورأى جارية صغيرة تغنى فقال: لو ترك الشيطان أحداً لترك هذه.
أبو الدرداء
كان يقول: أبغض الناس إليّ أن أظلمه، من لا يستعين عليّ بأحد إلا الله. وقال: من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.وقال: نعم صومعة المرء منزله، يكف فيه بصره ونفسه وفرجه، وإياكم والجلوس في الأسواق فإنها تلغي وتلهي.
وقال: لولا ثلاث لصلح الناس: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه.
وقال: بئس العون على الدين قلب نخيب، وبطن رغيب، ونفط شديد.
وقال: لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل، هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبراً، ولا يستمعون القول إلا هجراً، ولا يعتق محررهم.
وقال: خير نسائكم التي تدخل قيسا، وتخرج ميساً، وتملأ بيتها أقطاً وحيساً، وشر نسائكم السلفعة البلقعة، التي تسمع لأضراسها قعقعة، ولا تزال جاريتها مفزعة.
وقال: معروف زماننا منكر رمان قد فات، ومنكره معروف زمان لم يأت.
سئل عن قوله تعالى: " كل يوم هو في شأن " . فقال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من شأنه أن يغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويرفع أقواماً ويضع آخرين.
وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل، ليكون أقوى لها على الحق.
وأتى باب معاوية فلم يؤذن له، فقال: من يأت سدد السلطان يقم ويقعد، ومن يجد باباً مغلقاً يجد إلى جنبه فتحاً رحباً، إن دعا أجيب، وإن سأل أعطي.
وقال: من يتفقد يفقد، ومن لا يعد الصبر لفواجع الأمور يعجز.
وقال: إن قارضت الناس قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك. قال الرجل: فكيف أصنع؟ قال: أقرض من عرضك ليوم فقرك.
وقال: سلوني، فلئن فقدتموني لتفقدن زملاً عظيماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أراض عليه ربه أم غضبان. وابكاني هول المطلع، وانقطاع الأمل، وموقفي بين يدي الله عز وجل، لا أدري أيؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار.
وقال: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون!؟.
وقيل له: فلان يقرئك السلام. قال: هدية حسنة ومحمل خفيف.
وأشرف على معاوية وعمرو بن العاص وهما جالسان، فجاء فجلس بينهما، ثم قال: هل تدريان لم قعدت بينكما؟ قالا: لا. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين فافرقوا بينهما، فإنهما لن يجتمعا على خير.
وقال: مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها.
وقال: أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: قد علمت، فماذا عملت فيما قد علمت.
عبد الله بن عمرو بن العاص
قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي ويبعث يوم القيامة على غير ملتي " . قال: وكنت تركت أبي يتوضأ ودعا بثيابه ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فكنت كضابط البول مخافة أن يكون أبي؛ إذ طلع معاوية، فقال عليه السلام: هذا هو.وسأله أبوه عن السؤدد، فقال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة. وعن الشرف، فقال: كف الأذى، وبذل الندى. وعن المروءة، فقال: عرفان الحق، وتعهد الصنيعة. وعن السناء، فقال: استعمال الأدب، ورعاية الحسب. وعن المجد، فقال: حمل المغارم، وابتناء المكارم. وعن الحلم، قال: كظم الغيظ، وملك الغضب. وعن الحزم، فقال: تنتظر فريستك، ولا تعاجل حتى يمكنك. وعن الرفق. فقال: أن تكون ذا أناة، دون مخاشنة الولاة. وعن السماحة، قال: حب السائل، وبذل النائل. وعن الجود، قال: أن ترى نعماك زائدة، والعطية فائدة. وعن الغنى، قال: قلة تمنيك، والرضا بما يكفيك. وعن الفقر، قال: شره النفس، وشدة القنوط. وعن الرقة، قال: اتباع اليسير، ومنع الحقير. وعن الجبن، قال: طاعة الوهل، وشدة الوجل. وعن الجهل، قال: سرعة الوثاب، والعيّ بالجواب.
حسان
قال لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام - وعنده المهاجرون والأنصار - : والله يا أمير المؤمنين ما نقول: إنك قتلت عثمان، ولكنك خذلته، وما نقول: إنك أمرت بقتله، ولكنك لم تنه. والخذل أخو القتل، والسكوت أخو الرضا، وإن صاحبه لغيرك.وكان إذا دعي إلى طعام قال: أفي عرس أو خرس أو إعذار؟ فإن كان في واحد من ذلك أجاب، وإلا لم يجب.
وروي أنه أخرج لسانه فضرب به روثة أنفه، ثم أدلعه فضرب به نحره. وقال: يا رسول الله. ادع لي بالنصر.
واستأذن النبي عليه السلام في هجاء المشركين، فقال: كيف بنسبي فيهم؟ قال: لأسألنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
وقيل له: لم لم ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أجلّ من ذلك.
وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه أرنبته، وقال: إني والله لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه، وما يسرني به مقول من معد.
وروى عبد الرحمن بن حسان عن أبيه قال: بدت لنا معشر الأنصار إلى الوالي حاجة، وكان الذي طلبنا أمراً صعباً، فمشينا إليه برجال من قريش فكلموه، وذكروا له وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، فذكر صعوبة الأمر فعذره القوم وخرجوا، وألح عليه ابن عباس فوالله ما وجد بداً من قضاء حاجتنا.
فخرجنا حتى دخلنا المسجد، فإذا الناس فيه أندية. قال حسان: فصحت: إنه والله كان أولاكم بها. إنه والله صبابة النبوة، ووراثة أحمد. وتهذيب أعراقه، وانتزاع شبه طباعه. فقال القوم: أجمل يا حسان. وقال ابن عباس: صدقوا، فأجمل.
فأنشأ حسان يقول مادحاً لابن عباس أبياتاً يقول فيها: خلقت حليفاً للمروءة والندة مليحاً، ولم تخلق كهاماً ولا جبلاً فقال الوالي: ما أراد بالكهام ولا الجبل غيري، فالله بيني وبينه، وكان الوالي عمر أو عثمان رضي الله عنهما.
بلال
سأله رجل، وقد أقبل من الحلبة، فقال له: من سبق؟ قال: المقربون. قال: إنما أسألك عن الخيل. قال: وأنا أجيبك عن الخير.أبو هريرة
قال: إذا نزلت برجل فلم يقرك فقاتله.ونظر إلى عائشة بنت طلحة فقال: سبحان الله، ما أحسن ما غذاها أهلها! ما رأيت أحسن منها إلا معاوية.
وكان يحمل حزمة حطب وهو أمير، ويقول: وسعوا للأمير. وكان يجئ على حماره ويقول: الطريق الطريق قد جاء الأمير.
أتاه رجل فقال: كنت صائماً فدخلت داراً فأطعموني، ولم أدر. قال: الله أطعمك. فقال: ثم دخلت داراً أخرى، فسقوني ولم أدر. قال: أطعمك الله وسقاك. فقال: ثم دخلت داري فجامعت ولم أدر. فقال أبو هريرة: يا هذا، ليس ذا فعل من تعوذ الصيام.
وأردف غلامه خلفه فقيل له: لو أنزلته يسعى خلفك. فقال: لأن يسير معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا. أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي.
وقال: إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق.
وسئل عن القبلة للصائم، فقال: إني لأرف شفتيها وأنا صائم.
ومر بمروان، وهو يبني بنياناً له، فقال: ابنوا شديداً وأملوا بعيداً، واخضموا فسنقضم.
وقال: مثل المؤمن الضعيف، كمثل خافت الزرع يميل مرة ويعتدل أخرى.
وقال: لما افتتحنا خيبر إذا ناس من يهود مجتمعون على خبزة يملونها، فطردناهم عنها فأخذناها فاقتسمناها فأصابني كسرة، وقد كان بلغني أنه من أكل الخبز سمن، فلما أكلتها جعلت أنظر في عطفيّ، هل سمنت؟.
وقال: لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الوديّ، ولا صفقُ بالأسواق.
وقال: الصوم في الشتاء غنيمة باردة.
وقال: إن فرس المجاهد يستن في طوله، فتكتب له حسنات.
ووصف أصحاب الدجال، فقال: عليهم السيجان. شواربهم كالصياصي، وخفافهم مخرطمة.
وقال: تعس عبد الدينار والدرهم، الذي إن أعطي مدح وضبح، وإن منع قبح وكلح، تعس فلا انتعش، وشيك فلا انتقش.
قال بعضهم: كنت مع الحسن عليه السلام، فلقيه أبو هريرة فقال: هات أقبل منك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل. فوضع فاه على سرته فقبلها.
وقال: المروءة تقوى الله، وإصلاح الضيقة، والغداء والعشاء بالأفنية.
وقال له رجل: أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه قال: كفى بترك العلم إضاعة.
كتب يزيد بن معاوية إلى أبي هريرة يأمره أن يخطب عليه هند بنت سهيل ابن عمرو أخي بني عامر بن لؤي. فجاءها أبو هريرة فخطبها على يزيد، فقالت له: فإن حسن بن عليّ خطبني، وإني أستشيرك فأشر عليّ. فقال: إني أشير عليك أن تضعي فاك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاه، فتزوجت الحسن عليه السلام.
وقال له فتى: إنا نسابق بالحمام. فقال له أبو هريرة: هذا من عمل الصبيان، إذا كبرتم تركتموه.
عمار
قال بعضهم: كنا عند عمار يوم صفين، فقال: من الراجز؟ ارجز بالعجوزين. فقال له رجل: تقولون ذا يا أصحاب محمد! فقال: إن المشركين لما هجونا اشتد ذلك علينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لهم كما يقولون لكم. إما أن تجلس، وإما أن تقوم.لم يشهد بدراً أحد أبواه مؤمنان إلا عمار بن ياسر. وكان لدة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحمي له الأرض يرعى فيها غنمه.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما لكم ولابن سمية؟ يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار.
وكان عمار يقول: الجنة تحت البارقة: يريد السيوف.
ووشى به رجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمار: اللهم إن كان كذب عليّ فاجعله موطأ العقب. كأنه دعا عليه بأن يكون سلطاناً يطأ الناس عقبه.
وقال يوم صفين: لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر علمت أنّا على الحق، وأنهم على الباطل.
وقال له رجل: أيها العبد الأجدع. وكانت أذنه أصيبت في سبيل الله، فقال: عيرتموني بأحب أذنيّ إليّ.
وقال لقوم: جروا الخطير ما انجرّ لكم. الخطير: زمام الناقة، يريد: امضوا على أمركم ما أمكنكم.
ولما بايع أبو موسى قال عمار لعلي: والله لينقضنّ عهده، وليخلفنّ وعده، وليفرّنّ جهده، وليسلمنّ جنده.
وقال: ثلاث من جمعهن جمع خصال الإيمان: الإنفاق في الإقتار، والإنصاف من النفس، وإفشاء السلام.
الزبير
لما كان يوم الجمل صاح عليّ بالزبير فخرج إليه، فقال له: يا أبا عبد الله: لئن كان حل لك خذلاننا إنه لحرام عليك قتالنا. قال: أفتحبّ أن أنصرف عنك؟ قال: ومالي لا أحب ذلك؟ وأنت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وابن عمته، فعارضه ابنه عبد الله، فقال له: يا أبه، ما الذي دهاك؟ فأخبره خبره. فقال: قد أنبأك ابن أبي طالب مع علمك بذلك، إنك بزمام الأمر أولى منك بعنان فرسك، ولئن أخطأك أن يقول الناس جبّنه عليّ ليقولنّ خدعه. فقال الزبير: ليقل من شاء ما شاء، فوالله لا أشري عملي بشيء، ومع ذلك للدنيا أهون علي من ضبحة سحماء. وانصرف راجعاً.ومن كلام الزبير: يكفيني من خضمهم القضم، ومن نصهم العنق.
ضرب الزبير يوم الخندق رجلاً فقطعت ضربته الدرع ومؤخر الجوشن حتى خلصت إلى عجز الفرس، فلما رأى أبو بكر رضي الله عنه ما صنعت ضربه الزبير، قال: يا أبا عبد الله، ما أجود سيفك! فغضب الزبير وقال: أما والله لو كان إلى السيف ما قطع، ولكني أكرهته بقلب مجتمع وقوة ساعد فقطع. فقال أبو بكر: ما أردنا غضبك يا أبا عبد الله.
قالوا: أدرك عثمان رضي الله عنه الزبير، وعثمان في موكبه يريد مكة بذات الجيش، ولموكب عثمان حس، قد ظهرت فيه الدواب والنجائب، والزبير على راحلة له، ومعه غلمان له وزوامل. فقال له عثمان: سر يا أبا عبد الله، فقال: سيكفيني القضم من خضمكم، والعنق من نصكم.
قال يوم الشورى لما تكلم عبد الرحمن بن عوف، وأخرج نفسه من الشورى ليقلد من يرضاه: " أما بعد، فإن داعي الله لا يجهل عند تفاقم الأهواء وليّ الأعناق، ولن يقصر عما قلت إلا غويّ، ولن يترك ما قلت إلا شقيّ، لولا حدود الله فرضت، وفرائض له حدت، تراح على أهلها، وتحيا لا تموت، لكان الفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدعوة، وإظهار السنة لئلا نموت ميتة عمية، ولا نعمى عمى جاهلية، والأمر لك يا ابن عوف.
ذكر أن أول من سل سيفاً الزبير، سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، فخرج بيده السيف، فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفة كفة، فدعا له بخير.
أرسل عليّ عليه السلام عبد الله بن عباس، فقال: إيت الزبير ولا تأت طلحة، فإن الزبير ألين؛ وإنك تجد طلحة كالثور عاقصاً قرنه. يركب الصعوبة ويقول: هي أسهل. فأقره السلام، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا ما بدا؟. قال: فأتيته فقال: مرحباً بابن لبابة. أزائراً جئت أم سفيراً؟ قلت: كل ذلك. وابلغته الرسالة فقال: ابلغه السلام وقل له: بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد، وأم مبرورة ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف فنحل ما أحلت، ونحرم ما حرمت. فلما كان الغد حرش بين الناس غوغاؤهم، فقال الزبير: ما كنت أرى أن ما جئنا فيه يكون فيه قتال.
عبد الرحمن بن عوف
قال عبد الرحمن يوم الشورى: يا هؤلاء، إن عندي رأياً، وإن لكم نظراً، إن حابياً خير من زاهق، وإن جرعة شروب أنفع من عذب موب. إن الحيلة بالمنطق أبلغ من السيوب في الكلم. فلا تطيعوا الأعداء وإن قربوا، ولا تفلوا المدى بالاختلاف بينكم، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم فتوتروا ثأركم، وتؤلتوا أعمالكم. لكل أجل كتاب، ولكل بيت إمام بأمره يقومون، وبنهيه يرعون. قلدوا أمركم رحب أمركم رحب الذراع فيما نزل، مأمون الغيب على ما استكنّ. يقترع منكم، وكلكم منتهى، ويرتضى منكم وكلكم رضا.
حذيفة بن اليمان
قال لرجل: أيسرك أنك غلبت شر الناس؟ قال: نعم. قال: فإنك لن تغلبه حتى تكون شراً منه.وقال: إن الله لم يخلق شيئاً إلا صغيراً ثم يكبر، إلا المصيبة، فإنه خلقها كبيرة ثم تصغر.
ومن كلامه: الحسد أهلك الجسد.
وقال: كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب.
وقال له رجل: أخشى أن أكون منافقاً. فقال: لو كنت منافقاً لم تخش.
وقال: تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وقلب أسود مربد كالكور محجباً - وأمال كفه - لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
وقال: إن من أقرإ الناس للقرآن منافقاً، لا يدع منه واواً ولا ألفاً، يلفته بلسانه، كما تلفت البقرة الخلى بلسانها.
وذكر الفتنة فقال: أتتكم الدهيماء ترمى بالنشف، ثم التي تليها ترمي بالرضف.
وذكر خروج عائشة فقال: تقاتل معها مضر مضرها الله في النار، وأزد عمان سلت الله أقدامها، وإن قيساً لن تنفك تبغي دين الله شراً، حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة.
وقال لجندب: كيف تصنع إذا أتاك مثل الوتد أو مثل الذونون، قد أوتي القرآن من قبل أن يؤتى الإيمان ينثره نثر الدقل، فيقول: اتبعني ولا أتبعك.
قال: إنما تهلكون إذا لم يعرف لذي الشيب شيبه، وإذا صرتم تمشون الركبات كأنكم يعاقيب حجل، لا تعرفون معروفاً ولا تنكرون منكراً.
خالد بن الوليد
لما ولاه أبو بكر وعزله عمر قال: إن أبا بكر ولدنا فرق لنا رقة الوالد، وإن عمر ولدناه فعقنا عقوق الولد.وقال في مرضه: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء! وخطب الناس فقال: إن عمر استعملني على الشام وهو له مهم، فلما ألقى الشام بوانيه وصار بثنية وعسلاً عزلني، واستعمل غيري. فقال رجل: هذا والله هو الفتنة. قال خالد: أما وابن الخطاب حي فلا، ولكن ذاك إذا كان الناس بذي بلّيّ وذي بلّي.
وانصرف عمرو بن العاص من الحبشة يريد سول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه خالد وهو مقبل من مكة، فقال: أين يا أبا سليمان؟ فقال: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبي. أذهب فأسلم.
وكان بينه وبين عبد الرحمن كلام، فقال خالد: أتستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟.
وقال: كان بيني وبين عمار بعض ما يكون بين الناس، فعدمته، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يبغض عماراً يبغضه الله.
ولما بويع أبو بكر قام خالد بن الوليد خطيباً، فقال: إنا رمينا في بدء هذا الأمر بأمر ثقل علينا حمله، وصعب علينا مرتقاه، ثم ما لبثنا أن خفّ علينا محمله، وذل لنا مصعبه، وعجبنا ممن شك فيه، بعد أن عجبنا ممن آمن به، وما سبقنا إليه بالعقول ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أكمل، ولم يذهب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أعذر، فلسنا ننتظر بعد النبي نبياً، ولا بعد الوحي وحياً ونحن اليوم أكثر منا أمس، ونحن أمس خير منا اليوم. من دخل هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله، ومن تركه رددناه إليه. إنه والله ما صاحب هذا الأمر بالمسؤول عنه، ولا متخلف فيه، ولا الخفي الشخص ولا المغموز القناة.
وكان خالد يقول: ما ليلة أسر إليّ من ليلة تهدى إليّ فيها عروس إلا ليلة أغدو في صبيحتها إلى قتال عدو.
قام أبو بكر خطيباً يحض على الجهاد فتثاقل الناس عنه، فقام عمر فقال: " لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك " فقام خالد، ويقال: بل كان خالد بن سعيد، وهو أشبه، فقال: ألنا تضرب أمثال المنافقين يا عمر؟ والله لقد أسلمت وإن لبني عدي صنماً من تمر إذا جاعوا أكلوه، وإذا شبعوا استأنفوه. وكان خالد بن سعيد قديم الإسلام والصحبة.
غزا منظور بن زبان، مع خالد بن الوليد ايام الردة، فقتل منظور رجلاً وقال: بؤ بورد بن حذيفة، فقال له خالد: اغضب لله يا منظور، فقال: حتى أقضى حزابة في نفسي.
سعد بن أبي وقاص
خطب يوم الشورى، فقال: الحمد لله بديئاً كان وآخراً يعود. أحمده كما أنجاني من الضلالة وبصرني من العماية، فبرحمة الله فاز من نجا، وبهدي الله افلح من وعى، وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم استقامت الطرق، واستنارت السبل، فظهر كل حق ومات كل باطل. وإياكم أيها النفر وقول أهل الزور، وأمنية الغرور، فقد سلبت الأماني قبلكم قوماً ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذهم الله أعداء ولعنهم لعناً كثيراً. قال الله عز وجل: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " . وإني نكبت قرني، فأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله في غيبته ما ارتضيت لنفسي في حضوري، فأنا به زعيم، وبما أعطيت عنه كفيل، والأمر إليك يا ابن عوف بصدق النفس وجهد النصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه المصير.وقال لعمر ابنه حين نطق مع القوم فبذهم، وكانوا كلموه في الرضا عنه قال: هذا الذي أغضبني عليه، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس البقر الأرض بألسنتها " .
وكان بينه وبين خالد بن الوليد كلام، فذهب رجل ليقع في خالد عند سعد، فقال: مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا.
وسئل عن المتعة، فقال: فعلناها ومعاوية كافر بالعرش. العرش: موضع بمكة.
وقال له رجل: كيف أسنانكم معشر المهاجرين؟ قال: كنا من أعذار عام واحد.
ونظر يوم القادسية إلى أبي محجن، وكان قد حبسه، فلما اشتد القتال أطلقت عنه امرأة سعد، وأعطته فرسه البلقاء، فخرج يقاتل عليها، ونظر إليه سعد فقال: الضبر ضبر البلقاء، والكر كر أبي محجن.
وكان سعد يسمى المستجاب الدعوة، وبلغه شيء فعله المهلب في العدو، والمهلب يومئذ فتى، فقال سعد: اللهم لا تره ذلاً، فيرون أن الذي ناله المهلب بتلك الدعوة.
وقال سعد: ثلاثة سعادة، وثلاثة شقاوة، فأما الشقاوة فامرأة سيئة الخلق، ودابة سوء، إن أردت أن تلحق بأصحابك أتعبتك، وإن تركتها خلفتك عن أصحابك، ومسكن ضيق قليل المرافق. وأما السعادة فامرأة صالحة موافقة، ودابة تضعك من أصحابك حيث أحببت، ومسكن واسع كثير المرافق.
عتبة بن غزوان السلمي
خطب بعد فتح الأبلّة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الدنيا قد تولت بحذافيرها مدبرة، وقد آذنت أهلها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء يصبها صاحبها. ألا وإنكم مفارقوها لا محالة، ففارقوها بأحسن ما بحضرتكم. ألا إن من العجب أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحجر الضخم ليرمى به من شفير جهنم فيهوي في النار سبعين خريفاً، ولجهنم سبعة أبواب ما بين البابين منها مسيرة خمسمائة عام. ولتأتينّ عليه ساعة وهو كظيظ من الزحام. ولقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، ما لنا طعام إلا ورق البشام حتى قرحت أشداقنا، فوجدت أنا وسعد ثمرة فشققتها بيني وبينه نصفين، وما منا اليوم أحد إلا وهو على مصر أمير، وإنه لم تكن نبوة قط إلا تناسختها جبرية، وأنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وفي أعين الناس صغيراً، وستجربون الأمر بعدي فتعرفون وتنكرون.الباب الخامس:
كلام عمر بن عبد العزيز
كتب إليه أبو بكر بن حزم - وهو والي المدينة من جهته؛ إن الأمير يقطع لي من الشمع والقراطيس ما كان يقطع لعمال المدينة، فكتب إليه: جاءني كتابك وإن عهدي بك تخرج من بيتك في الليلة الظلماء بغير سراج. وأما القراطيس فأدق القلم، وأوجز الإملاء، واجمع الحوائج في صحيفة.وذكر له سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم بالعفة عن الدرهم والدينار، وهم بأن يستكفيه مهماً من أمره. فقال له عمر: أفلا أدلك على من هو أزهد في الدرهم والدينار منه وهو شر الخلق؟ قال: بلى. قال: إبليس لعنه الله. وكان يقول: أيها الناس إنما خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار.
وخطب فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض. واعلموا أن الأمان غداً لمن خاف، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين؟ وسيخلفها من بعدكم الباقون، حتى تردوا إلى خير الوارثين.
ثم أنتم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، ثم تغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، ووجه إلى الحساب، غنياً عما ترك، وفقيراً إلى ما قدم.
وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي. وأستغفر الله لي ولكم، وما بلغت حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده معي ومع لحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وايم الله لو أردت غير هذا من عيش لكان اللسان مني ناطقاً ذلولاً عالماً بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دل فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته.
وسأله رجل عن الجمل وصفين، فقال عمر: تلك دماء كف الله يدي عنها، فأنا أحب ألا أغمس لساني فيها.
وكان يقول: اللهم إني أسألك رضوانك، وإلا أكن له أهلاً فعفوك.
وقال لأصحابه: إذا كتبتم إليّ فلا تكتبوا الأمير، فليست الإمارة أفضل من أبي.
كتب إليه عدي بن أرطأة يستأذنه في عذاب العمال، فكتب إليه عمر: العجب لك يا ابن أم عدي، حين تستأذنني في عذاب العمال كأني لك جنة، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله. من قامت عليه بينة وأقر بما لم يكن مضطهداً فيه فخذه، فإن كان يقدر على أدائه فاستأده، وإن أبى فاحبسه، وإن لم يقدر على شيء فخل سبيله بعد أن تخلفه على أنه لا يقدر على شيء، فلأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إليّ من أن ألقاه بدمائهم.
وقال: من أحب الأمور إلى الله عز وجل الاقتصاد في الجدة، والعفو في القدرة، والرفق في الولاية.
خرج يوم الجمعة إلى الصلاة وقد أبطأ، فقال: أيها الناس؛ إنما بطأني عنكم أن قميصي هذا كان يرقع - أو كان يغسل - ولا والله ما أملك غيره.
وعرضت عليه جارية وأراد شراءها ولم يحضر تمام الثمن، فقال له الرجل: أنا أؤخرك إلى العطاء؛ فقال: لا أريد لذة عاجلة بذلة آجلة.
وقال عمر يوماً وقد قام من عنده علي بن الحسين رضي الله عنهما: من أشرف الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: أنتم. فقال: كلا! أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً، من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد.
وقال: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لزدنا عليهم.
قيل: أول من اتخذ المنابر في المساجد للأذان عمر بن عبد العزيز، وإن أول من دعي له على المنابر عبد الملك.
وكان عمر يقول: إن أقواماً لزموا سلطانهم بغير ما يحق الله عليهم، فأكلوا بخلاقهم، وعاشوا بألسنتهم، وخلفوا الأمة بالمكر والخديعة والخيانة، وكل ذلك في النار. ألا فلا يصحبنا من أولئك أحد ولا سيما خالد بن عبد الله.
وعبد الله بن الأهتم فإنهما رجلان لسنان، وإن بعض البيان يشبه السحر، فمن صحبنا بخمس خصال، فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ودلنا على ما لا نهتدي إليه من العدل، وأعاننا على الخير، وسكت عما لا يعنيه، وأدى الأمانة التي حملها منا ومن عامة المسلمين فحيّهلا، ومن كان على غير ذلك ففي غير حلّ من صحبتنا والدخول علينا.
وأتي بقوم أخذوا على شراب وفيهم شيخ، فظنه شاهداً، فقال له: بم تشهد؟ فقال: لست شاهداً ولكني مبتلى، فرق له عمر، وقال: يا شيخ؛ لو كنتم حين اجتمعتم على شرابكم قلتم: اللهم تولنا ولا تولنا غيرك لم يعلم بكم أحد.
ودخل على عبد الملك وهو صبي، فقال له: كيف نفقتك في عيالك؟ فقال عمر: حسنة بين سيئتنين. فقال لمن حوله: أخذه من قول الله تعالى: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " .
وكتب عمر إلى عدي بن أرطأة في شيء بلغه عنه: إنما يعجل بالعقوبة من يخاف الفوت.
وقال: لو كنت في قتلة الحسين وأمرت بدخول الجنة ما فعلت؛ حياء أن تقع عليّ عين محمد صلى الله عليه وسلم.
وشتمه رجل فقال: لولا يوم القيامة لأجبتك.
وأهدي إليه تفاح لبناني، وكان قد اشتهاه، فرده. فقيل له: قد بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية، فقال: يا عمرو بن المهاجر: إن الهدية كانت لرسول الله هدية، ولنا رشوة.
وقال لجارية في صباه بحضرة مؤدبه: أعضّك الله بكذا؟. فقال له المؤدب: قل أعضّك عبد العزيز. فقال: إن الأمير أجلّ من ذلك. قال: فليكن الله أجلّ في صدرك. فما عاود بعدها كلمة حياء.
وقال: ما أطاعني الناس فيما أردت من الحق حتى بسطت لهم طرفاً من الدنيا.
ودخل عليه ميمون بن مهران فقال له - وقد قعد في أخريات الناس - : عظني. فقال ميمون: إنك لمن خير أهلك إن وقيت ثلاثة. قال: ما هنّ؟ قال: إن وقيت السلطان وقدرته، والشباب وغرته، والمال وفتنته. قال: أنت أولى بمكاني مني. ارتفع إليّ، فأجلسه معه على سريره.
قال بعضهم: كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة، حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز، وهو أمير؛ من كثرة الطيب والمسك فيها.
ولما نزل بعمر الموت قال: يا رجاء، هذا والله السلطان، لا ما كنا فيه.
وقيل له: لم لا تنام؟ قال: إن نمت بالليل ضيعت نفسي، وإن نمت بالنهار ضيعت الرعية.
أمر عمر بعقوبة رجل قد كان نذر لئن أمكنه الله منه ليفعلن وليفعلن، فقال له رجاء بن حيوة: قد فعل الله ما تحب من الظفر، فافعل ما يحب الله من العفو.
وعزل عمر بعض قضاته، فقال له: لم عزلتني؟ فقال: بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك.
وأتي برجل كان واجداً عليه، فقال له: لولا أني غضبان لضربتك.
وأسمعه رجل كلاماً، فقال له: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، انصرف رحمك الله.
وكتب أن امنعوا الناس من المزاح، فإنه يذهب المروءة، ويوغر الصدر.
وكتب إلى بعض عماله: لا تجاوزنّ بظالم فوق حده فتكون أظلم الظالمين.
وقال: لو تخابثت الأمم فجئنا بالحجاج لغلبناهم. ما كان يصلح لدنيا ولا آخرة، لقد ولي العراق فأخربه حتى لم يؤد إلا أربعون ألف ألف درهم، وقد أدي إليّ في عامي هذا ثمانون ألف ألف درهم، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدى إليّ ما أدي إلى عمر بن الخطاب: مائة ألف ألف وعشرون ألف ألف درهم.
وأتي بخصيٍ ليشتريه فرده وقال: أكره أن يكون له بشرائه معونة على الخصاء.
وكان إذا قدم عليه بريد قال: هل رأيت في الناس غرسات؟ يريد الخصب.
وكان يقول: التقى ملجم.
وعزّي عن ابنه عبد الملك، فقال: إن هذا أمر لم نزل نتوقعه، فلما وقع لم ننكر.
وكلم رجلاً من بني أمية قد ولدته نساء مرة، فعاب عليه جفاء رآه منه، فقال: قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة، فبلغ ذلك عقيل بن علّفة المرّي وهو بجنفاء من المدينة على أميال في ولد بني مرة، فركب حتى قدم على عمر وهو بدير سمعان، فقال: هيها يا أمير المؤمنين، بلغني أنك غضبت على فتى من بني أبيك، فقلت: قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مره، وإني أقول: قبح الله ألأم طرفيه، فقال عمر: ويحك! دع هذا وهات حاجتك. فقال: لا والله ما لي حاجة غير هذا، ثم ولى راجعاً من حيث جاء. فقال عمر: يا سبحان الله، من رأى مثل هذا الشيخ؟ جاء من جنفاء، ليس إلا ليشتمنا؟ فقال له رجل من بني مرة: إنه والله يا أمير المؤمنين ما شتمك، وما شتم إلا نفسه. نحن والله ألأم طرفيه.
ولما استخلف عمر بعث بأهل بيت الحجاج إلى الحارث بن عمرو الطائي، وكان على البلقاء، وكتب إليه: أما بعد، فإني بعثت إليك بآل أبي عقيل، وبئس والله أهل البيت في دين الله وأخلاق المسلمين، فأنزلهم بقدر هوانهم على الله وعلى أمير المؤمنين.
ولما هرب يزيد بن المهلب من سجنه، وكتب إليه: لو علمت أنك تبقى ما فعلت، ولكنك مسموم، ولم أكن لأضع يدي في يدي ابن عاتكة فقال عمر: اللهم قد هاضني فهضه.
وقال: كفى بالمرء غيا أن تكون فيه خلة من ثلاث: أن يعيب شيئاً ثم يأتي مثله، أو يبدو له من الحية ما يخفى عليه من نفسه، أو يؤذي جليسه فيما لا يعنيه.
وقيل له: أي الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك هواك.
وقال: ثلاث من كن فيه كمل: من لم يخرجه غضبه عن طاعة الله، ولم يستنزله رضاه إلى معصية الله، وإذا قدر عفا وكف.
حكى عن عدي بن الفضيل قال: خرجت إلى عمر أستحفره بئراً بالعذبة، فقال له: وأين العذبة؟ فقلت: على ليلتين من البصرة، فتأسف ألا يكون بمثل هذا الموضع ماء، فأحفرني واشترط عليّ أنه أول شارب يأتي السبيل. قال: فحضرته في جمعة وهو يخطب فسمعته يقول: أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري: لئن كنتم صادقين لقصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم، أيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب.
قال: فأقمت عنده شهراً ما بي إلا استماع كلامه.
قيل: أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، فقال له: أما تقولت في الحجاج؟ قال: ما عسيت أن أقول في الحجاج؟ وهل الحجاج إلا خطيئة من خطاياك؟ وشررة من نارك؟ فلعنك الله، ولعن الحجاج معك. وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: ما تقول في هذا؟ قال عمر: وما أقول فيه؟ هذا رجل يشتمكم، فإما أن تشتموه كما شتمكم أو تعفو عنه. فغضب الوليد وقال لعمر: ما أظنك إلا خارجياً. فغضب عمر وقال: ما أظنك إلا مجنوناً. وقام وخرج مغضباً. ولحقه خالد بن الريان، فقال له: ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين؟ والله لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظره متى يأمرني بضرب عنقك. فقال له عمر: وكنت فاعلاً لو أمرك! قال: نعم. فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان، فقام على رأسه كما كان يقوم على رأس من كان قبله من الخلفاء. قال: وكان رجل من الكتاب يضر وينفع بقلمه، فجاء حتى جلس مجلسه الذي كان يجلس فيه الخلفاء. قال: فنظر عمر إلى خالد بن الريان، وقال: يا خالد ضع سيفك؛ فإنك تطيعنا في كل أمر نأمرك به، وضع أنت يا هذا قلمك، فقد كنت تضر به وتنفع. ثم قال: اللهم إني قد وضعتهما لك فلا ترفعهما. قال: فوالله ما زالا وضيعين مهينين بشر حتى ماتا.
وقال: ما كلمني رجل من بني أسد إلا تمنيت له أن يمد له في حجته، حتى يكثر كلامه فأسمعه. ولذلك قال يونس: ليس في أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو راجز أو كاهن أو فارس.
يروى أن عمر بن عبد العزيز كان يدخل عليه سالم مولى بني مخزوم، وقالوا: بل زياد، وكان عمر أراد شراءه وعتقه، فأعتقه مواليه، وكان عمر يسميه أخي في الله، فكان إذا دخل وعمر في صدر بيته تنحى عن القبلة، فيقال له في ذلك، فيقول: إذا دخل عليك من لا يهولك فلا تأخذ عليه شرف المجلس.
وهمّ السراج ليلة أن يخمد، فوثب رجاء بن حيوة ليصلحه، فأقسم عليه عمر فجلس، ثم قام عمر فأصلحه، فقال له رجاء بن حيوة: أتقوم يا أمير المؤمنين! قال: قمت وأنا عمر، وتعللت وأنا عمر.
وقال: قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب.
وقال لمؤديه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني؟ فقال: أحسن طاعة.
قال: فأطعني الآن كما كنت أطيعك إذ ذاك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك ومن ثوبك حتى يبدو عقباك.
ويروى أن عمر خرج يوماً فقال: الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وقرة بن شريك بمصر، وعثمان بن حيان بالحجاز، ومحمد بن يوسف باليمن. امتلأت الأرض والله جوراً.
وقال عبد الملك ابنه له يوماً: يا أبت إنك تنام نوم القائلة، وذو الحاجة على بابك غير نائم. فقال: يا بني إن نفسي مطيتي، وإن حملت عليها في التعب خسرتها.
وذكر عمر زياداً، فقال: قاتل الله زياداً. جمع لهم كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، واصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام في شامهم، وجبى من العراق مائة ألف ألف، وثمانية عشر ألف ألف درهم.
وخطب الناس لما مات ابنه عبد الملك، فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم، ورفيعهم ودينهم، فقال تبارك وتعالى: " كل نفس ذائقة الموت " . فليعلم ذوو النهى منهم أنهم صائرون إلى قبورهم، مقرون بأعمالهم، واعلموا أن لله مسألة فاحصة، قال تبارك وتعالى: " فوربك لنسئلنهم أجمعين. عما كانوا يعملون " وقال: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه.
وقال في خطبة له: أيها الناس، إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منفض، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج. فرحم الله امرءاً فكر في أمره، ونصح نفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه. أيها الناس، قد علمتم أن أباكم أخرج من الجنة بذنب واحد، وأن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل.
وقال: لا يتزوج من الموالي في العرب إلا الأشر البطر، ولا يتزوج من العرب في الموالي إلا الطمع الطبع. ألأا وقال لابنه عبد الله: يا بني، التمس الرفعة بالتواضع، والشرف بالدين، والعفو من الله بالعفو عن الناس، ولا تحقرن أحداً؛ فإنك لا تدري لعل بعض من تزدريه عينك أقرب إلى الله منك وسيلة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ولا تنس نصيب الناس منك.
وكتب إليه عدي بن أرطأة لما حفر نهر عدي بالبصرة: إني حفرت لأهل البصرة نهراً، أعذبت به مشربهم، وجادت عليه أموالهم، فلم أر لهم على ذلك شكراً، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقته عليه.
فكتب إليه عمر: إني لا أحسب أهل البصرة عند حفرك لهم هذا النهر خلوا من رجل قال: الحمد لله. وقد رضي الله بها شكراً من جنته، فارض بها شكراً من نهرك.
وخطب بعرفات فقال: إنكم قد أنضيتم الظهر وأرملتم؛ وليس السابق اليوم من سبق بعيره ولا فرسه، ولكن السابق اليوم من غفر له.
وخطب فقال: أيها الناس؛ لا تستكثروا شيئاً من الخير أتيتموه، ولا تستقلوا شيئاً منه أن تفعلوه، ولا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف من ذنوبكم بالتوبة، والعمل الصالح فيما غبر من آجالكم، فإن الحسنات يذهبن السيئات. وقد ذكر الله عز وجل قوماً، فقال: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " وإياكم والإصرار على الذنوب؛ فإن الله ذكر قوماً بذنوبهم فقال: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم. ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون " نار لا تطفأ، ونفس لا تموت، فهي كما وصف الله عز وجل: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " . و " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " فهل لأحد بهذا طاقة؟ من استطاع منكم ألا يحجبه الله فليفعل.
وخطب فقال: أما بعد؛ فإنك ناشئ فتنة، وقائد ضلالة قد طال جثومها، واشتدت غمومها، وتلونت مصايد عدو الله فيها، وما نصب لأهل الغفلة من الشرك عما في عواقبها، فلن يهد عمودها، ولن ينزع أوتادها إلا الذي بيده ملك الأشياء، وهو الرحمن الرحيم. ألا وإن لله بقايا من عباده، لم يتحيروا في ظلمتها، ولم يشايعوا أهلها على شبهها، مصابيح النور في قلوبهم تزهر، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق، ركبوا نهج السبيل، وقاموا على اللقم الأكبر الأعظم. وهم خصماء الشيطان الرجيم. وبهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد، فطوبى لهم وللمستصبحين بنورهم، أسأل الله أن يجعلنا منهم.
وخطب فقال: ما أنعم الله على عبد نعمة، فانتزعها منه فغاضه من ذلك الصبر، إلا كان ما عاضه الله من ذلك أفضل مما انتزعه منه، ثم قرأ: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " .
ومر برجل يسبح بالحصى، فقال له: ألق الحصى، وأخلص الدعاء.
وكتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: إن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزاً بينك وبين ما حرم الله عليك فافعل، فإنه من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام.
وسمع وقع الصواعق، ودوي الريح، وصوت المطر، ورأى فزع الناس، فقال: هذه رحمته، فكيف نقمته؟.
وقال له خالد بن عبد الله القسري: من كانت الخلافة زينته فقد زينتها. ومن كانت شرفته فقد شرفتها، فأنت كما قال الشاعر:
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر: إن صاحبكم أعطى مقولاً وحرم معقولاً.
وقال: ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، وقال رهم مولى عمر بن عبد العزيز: ولاني عمر ثم قال: يا رهم إذا دعتك نفسك إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عز وجل عليك، وانتقامه منك، وفناء ما يكون منك إليه عنه، وبقاء ما يكون منك إليه عليك.
أتى عمر منزله فقال: هل من طعام؟ فأصاب تمراً وشرب ماء، فقال: من أدخله بطنه النار؛ فأبعده الله.
وقال: أحسن الظن بأخيك حتى يغلبك.
وقال: القلوب أوعية السرائر، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ منكم مفتاح سره.
وقال لابنه: بت على بيان من أمرك، وليكن لك مطوي من سرك.
ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في مرضه الذي توفي فيه فقال: يا أمير المؤمنين، أفقرت أفواه ولدك من هذا المال، وتركتهم عالة لا أحد لهم ولا مال لهم، فلو أنك أوصيت بهم إليّ أو إلى أشباهي من قومك ممن يكفيك مئونتهم. فقال: أقعدوني، ثم قال: يا مسلم؛ أما ما ذكرت من إيصائي بولدي إليك أو إلى أشباهك من قومي ليكفوني مئونتهم، فإن وصيي فيهم ووليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وأما ما ذكرت من إفقاري إياهم من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حق غيرهم. وما ولد عمر إلا أحد رجلين: رجل اتقى الله فسيرزقه، ورجل غدر أو فجر، فلن يكون عمر أول من قواه بالمال على المعصية.
ثم قال: عليّ بهم. فأدخلوا عليه وهم يومئذ اثنا عشر، فلما نظر إليهم اغرورقت عيناه بالدموع وقال: بنفسي فتية تركتهم، ولا أحد لهم. بلى يا بني، إني قد تركتكم بخير من الله، لا تمرون بمسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق. يا بني، إني ميلت بين رأيين: بين أن تفتقروا، أو يدخل أبوكم النار، فرأيت أن تفتقروا إلى آخر يوم من الأبد أحب إلى أبيكم من أن يدخل النار.
وكتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي، وهو على خراسان: أما بعد؛ فإن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزاً بينك وبين ما حرم الله فافعل؛ فإن من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام.
وكتب إلى ابن حزم: أما بعد؛ فإن الطالبين الذين نجحوا، والتجار الذين ربحوا، الذين اشتروا الباقي الذي يدوم بالفاني المذموم، فاغتبطوا ببيعهم، وحمدوا عاقبة أمرهم، فالله الله، وبدنك صحيح، وأنت مريح، قبل أن تنقضي أيامك، وينزل بك حمامك، فإن اليسير الذي أنت فيه يقلص ظله، ويفارقه أهله، فالسعيد الموفق من أكل في عاجلته قصداً، وقدم ليوم فقره غدا، وخرج محموداً من الدنيا قد انقطع عنه علاج أمورها، وصار إلى نعيم الجنة.
وكتب إلى بعض عماله: أما بعد؛ فلتخفّ يدك عن دماء المسلمين، وبطنك عن أموالهم، ولسانك عن أعراضهم، فإذا فعلت ذلك فلا سبيل عليك " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم " .
وكان من دعائه: اللهم أعطني من الدنيا ما تكفني به عن شهواتها، وتعصمني به من فتنتها، وتغنيني به عن جميع أهلها.
الباب السادس:
مزح الأشراف والأفاضل والعلماء
قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.وفي حديثه عليه الصلاة والسلام أن ابناً لأم سليم يقال له عمير، وكان له نفر وهو طائر صغير أحمر المنقار، فقالوا: يا رسول الله، مات نفر. فجعل عليه السلام يقول: " يا أبا عمير. ما فعل النفير؟ " . وذكر أنه كان يمازح بلالاً، فرآه يوماً وقد خرج بطنه فقال: أم حبين.
ومما يحفظ من مزحه عليه السلام أنه كان يقول لأحد ابني ابنته، وقد وضع رجليه على رجليه وأخذ بيديه: " ترقّ عبن بقة. وهذا شيء كان النساء يقلنه في ترقيص الصبيان:
حزقةً حزقه ... ترق، عين بقه
ترق: أي ارق من رقيت الدرجة، والحزقة الذي يقارب خطوه، وشبهه في صغره بعين البقة.
وقال عليه السلام لعجوز: إن الجنة لا يدخلها عجوز يريد: أنهن يعدن شواب، ثم يدخلن الجنة.
واستدبر عليه السلام رجلاً من ورائه وأخذ بعينيه، وقال: من يشتري مني العبد؟ يريد أنه كان حراً فهو عبد الله.
وقال لامرأة: " زوجك الذي في عينه بياض " فقالت: لا. أراد البياض الذي حول الحدقة، وظنت المرأة أنه أراد البياض الذي يغشى الحدقة فيذهب البصر. وخرج إلى طعام دعي له فإذا حسين يلعب مع صبوة في السكة، فاستنتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم فبسط يديه، فطفق الغلام يفر، هاهنا وهاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى في فأس رأسه، ثم أقنعه فقبله.
استنتل: يريد: تقدم أمام القوم، وأقنعه: رفعه.
وقالت عائشة: كنت ألعب مع الجواري بالبنات فإذا رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم انقمعن. قالت: فيسربهن إليّ.
وقالت: قدم وفد الحبشة فجعلوا يزفنون ويلعبون، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم ينظر إليهم، فقمت، وأنا مستترة خلفه حتى أعييت، ثم قعدت ثم قمت، فنظرت حتى أعييت، ثم قعدت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم ينظر. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن المشتهية للنظر.
وروي أنه عليه السلام مر على أصحاب الدركلة فقال: خذوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءك عمر، فلما رأوه ابذعرّوا.
وروي أنه عليه السلام سابق عائشة في سفر فسبقته، وفي سفر آخر فسبقها. وقال صلى الله عليه وسلم: " هذه بتلك " .
وروي: أنه لما قتل النضر بن الحارث بن كلدة، وأتته ابنته فأنشدته الأبيات المعروفة، ترثي أباها. قال عليه الصلاة والسلام: " لولا قتلي أباها لتزوجتها " . قالوا: يا رسول الله؛ ليست بتلك. قال: فأين الخيلان الثلاثة بخدها كأنهن رأس الجوزاء؟ " .
ومن مزحه عليه السلام قوله لخوّات بن جبير الأنصاري صاحب ذات النحيين: " ما فعل جملك الشرود؟ " فقال: عقله الإسلام.
وذلك أن خوّاتاً أتى امرأة كانت تبيع السمن في الجاهلية، فقال لها: هل عندك سمن طيب تبيعينه؟ قالت: نعم. وحلت زقاً فذاقه، وقال: أريد أطيب من هذا فأمسكيه، فأمسكيه وحل آخر فذاقه وقال: أمسكيه فقد شرد جملي، فقالت: ويحك، حتى أوثق هذا! قال: لا. خذيه وإلا تركته. فإن بعيري قد أفلت، فأخذته بيدها الأخرى، فوثب عليها وهي مشغولة اليدين لا تقدر على الامتناع، فقضى وطره منها. فلما فرغ قالت: لا هناك.
ومن ذلك ما جاء عنه أنه كان يسير في بعض غزواته فسمع حداءً قدامه، فقال: " حثوا السير نلحق الحادي " . فلحقه وسار معه يسمع حداءه.
وخرج على بلال وهو نائم، فضرب بيده على فخذه وقال: أنائمة أم عمرو؟ فأنتبه بلال فضرب بيده على مذاكيره. فقال له: ما لك؟ قال: ظننت أني تحولت امرأة.
وسأل جابر بن عبد الله: ما نكحت؟ فقال ثيباً. قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك.
وقال لرجل استحمله: نحن حاملوك على ولد النوق. قال: لا تحملني. قال: أو ليس الإبل من ولد النوق؟ وقال لسائقه، وهو يسوق بأزواجه: رفقاً بالقوارير.
وروى عن أبي الدرداء، أنه كان لا يحدث إلا وهو يتبسم، فقالت له امرأته أم الدرداء: إني أخاف أن يرى الناس أنك أحمق. فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث حديثاً إلا وهو يتبسم في حديثه.
وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ما متغير الوجه، فقال بعض أصحابه: لأضحكنه. فقال: بأبي أنت وأمي. بلغني أن الدجال يخرج والناس جياع، فيدعوهم إلى طعام، أفترى - إن أدركته - أن أضرب في ثريدته، حتى إذا تضلعت آمنت بالله وكفرت به؟. أم أتنزه عن طعامه؟ فضحك صلى الله عليه وسلم - وكان ضحكه التبسم - وقال: " بل يغنيك الله يومئذ بما يغني به المؤمنين " .
وقال عليه الصلاة والسلام: " بعثت بالحنيفية السهلة " .
وقال: " ينال العبد بحسن الخلق أجر الصائم القائم " .
وقال علي كرم الله وجهه: لا بأس بالفكاهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس.
ولما بلغه قول عمر: إن فيه دعابة. قال: ويحه أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن دعب لعب، والكافر خب ضب " .
وأتاه رجل برجل فقال: إن هذا زعم أنه احتلم على أمي، فقال: أقمه في الشمس واضرب ظله " .
وقال الشعبي: جاءت امرأة من همدان إليه، فقالت: إن ابنتي زوجت وهي خمسة أشبار. فقال: خمسة أشبار تكفي شبراً.
وقال عقبة الجهني: رأيته يرمي جواريه ويرامينه بقشور البطيخ.
ومر بقوم من الأنصار فقالوا: يا أمير المؤمنين، انزل عندنا للغداء. فقال: إما حلفتم وإما انصرفنا.
قال بعضهم: سمعته وهو يرقى المنبر بالكوفة ويقول:
حزقة حزقه ... ترق عين بقه
وحدثت زبراء مولاته قالت: كنت أوضئ أمير المؤمنين، فخرج من المستحم واتكأ علي، وقال: استمسكي يا زبراء، واتقي لا تضرطي.
وقال عبد الرحمن بن عوف: أتيت عمر بن الخطاب فسمعته ينشد بالركبانية:
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطراً منها جميل بن معمر
فلما استأذنت قال: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم. قال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
وقال عمر: كل امرئ في بيته صبي.
وذكر عنده النساء فقال: إذا تم البياض مع كبر العجز في حسن القوام فقد كمل.
وخرج أبو بكر إلى بصرى، ومعه نعيمان وسويبط، وكلاهما بدري، وكان سويبط على الزاد، فجاء نعيمان، فقال: أطعمني، فقال: لا، حتى يأتي أبو بكر. وكان نعيمان رجلاً مضحاكاً، فقال: والله لأغيظنك. فذهب إلى ناس جلبوا ظهراً، وقال: ابتاعوا مني غلاماً عربياً فارهاً، وهو دعاء له لسان، لعله يقول: أنا حر. فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوا عليّ غلامي. قالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال للقوم: دونكم هو هذا. فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك. فقال سويبط: هو كاذب. أنا رجل حر. قالوا: قد أخبرنا خبرك. فوضعوا الحبل في عنقه وذهبوا به، فجاء أبو بكر فأخبره بذلك، فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فضحك منه حولاً.
وأهدى نعيمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرة عسل اشتراها من أعرابي بدينار، وأتى بالأعرابي باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: خذ الثمن من هاهنا. فلما قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، نادى الأعرابي: ألا أعطى ثمن عسلي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إحدى هنات نعيمان. وسأله: لم فعلت هذا؟ فقال: أردت برك، ولم يكن معي شيء. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابي حقه.
ومما روي من مزح علي رضي الله عنه أنه كان يقول:
أفلح من كانت له مزخّة ... يزخها ثم ينام الفخّة
وذكر أبو رافع الصائغ أنه كان يقول: كان عمر رضي الله عنه يمازحني ويقول: أكذب الناس الصياغ، يقولون: اليوم، وغداً.
وروي: أن أبا قتادة الأنصاري كان في عرس وجارية تضرب بالدف، وهو يقول لها: ارعفي. أي تقدمي. وقيل: مازح معاوية الأحنف فما رئي مازحان أوقر منهما. قال: يا أحنف ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال: هو السخينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز، أو بتمر، أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
يريد: وطب اللبن، والبجاد: مساء يلفف فيه ذلك، وأراد الأحنف بقوله: السخينة؛ أن قريشاً يأكلونها ويعيرون بها، وهي أغلظ من الحساء، وأرق من العصيدة. وإنما تؤكل في كلب الزمان، وشدة الدهر، وقد سموا قريشاً سخينة تعييراً بذلك. قال خداش بن زهير:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم
وقال كعب:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
مازح ابن عباس أبا الأسود فقال: لو كنت بعيراً لكنت ثفالاً. فقال أبو السود: لو كنت راعي ذلك البعير، ما أشبعته من الكلإ، ولا أرويته من الماء، ولا أحسنت مهنته.
ذكر ابن أبي ليلى: أن رجلاً تزوج امرأة، وأبركها على أربع، فلما دفع وقعت على وجهها فاندقت ثنيتها، فرفع ذلك إلى علي كرم الله وجهه، فقال: مطيته يركبها كيف شاء.
وذكر أن رجلاً تزوج امرأة شابة، فوقع عليها، فضمته إلى نفسها فكسرت صلبه، فرفعت إلى علي فقال: إنها لشبقة. ثم جعل الدية على العاقلة.
روي عن عجوز من الأنصار قالت: زوجنا امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فنحن نتغنى:
وأهدى لنا أكبشنا ... تبحبح في المربد
وزوجك في النادي ... ويعلم ما في غد
فقال عليه السلام: " لا يعلم ما في غد إلا الله عز وجل " .
زوجت عائشة امرأة كانت عندها فهدوها إلى زوجها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أرسلتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا، وحياكم
فإن الأنصار قوم فيهم غزل " .
قال بعضهم: دخلت على ابن مسعود وقرظة وثابت بن زيد، فإن عندهم جوار يغنين، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رخص لنا في اللهو.
وروي: أنه صلى الله عليه وسلم أتى يوماً أطم حسان بن ثابت، فكانت سيرين جاريته تضرب بالعود وتغني:
هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج
فقال عليه السلام: " لا إن شاء الله " .
وسيرين هذه أخت مارية أم إبراهيم رضي الله عنه، وكان المقوقس أهداهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوهب سيرين لحسان بن ثابت.
حكى بعضهم أنه سمع أبا سفيان يمازح رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنته أم حبيبة، ويقول: والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب. فما انتطحت جماء ولا ذات قرن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: أأنت تقول ذاك يا أبا حنظلة!.
وروي أن رجلاً عدا على امرأة فقبلها، فأتت النبي عليه السلام فشكت ذلك إليه، فقال: ما تقول هذه؟ قال: صدقت، فأقصها يا رسول الله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أو لا تعود؟ قال: أو لا أعود.
وروي أن جارية كانت عند ميمونة زج النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: اشتكت عيناها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استرقوا لها فإنه أعجبني عييناها.
وقال خوات بن جبير: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الظهران، فخرجت من خبائي، فإذا نسوة جوالس يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت حلة لي من عيبة لي. فلبستها، ثم أتيتهن فجلست إليهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته. فقال: يا أبا عبد الله، ما أجلسك إليهن؟ قال: فهبته حين رأيته، وقلت: يا رسول الله، جمل لي شرود، وأنا ابتغي له قيداً. فمضى عليه السلام وتبعته، ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟ فتعجلت إلى المدينة فاجتنبت المسجد ومجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك عليّ تحينت ساعة خلوة المسجد، فدخلت وجعلت اصلي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس، وطولت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال: طول أبا عبد الله ما شئت، فلست قائماً حتى تنصرف، فقلت في نفسي: لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأبرئن صدره، فانصرفت، فقال: السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟ قال: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت. فقال: رحمك الله. ثم لم يعد لي في شيء مما كان يقول.
وروي: أنه صلى الله عليه وسلم رجع من بعض غزواته، فاستقبلته جارية، من جواري المدينة، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن ردك الله صالحاً أن اضرب بين يديك بالدف. فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا. قال: فضربت، ثم جاء أبو بكر وهي تضرب، وجاء عليّ كرم الله وجهه وهي تضرب، ثم جاء عمر رضي الله عنه فألقته وقعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر.
شكا عيينة بن حصن إلى نعيمان صعوبة الصيام عليه، فقال له: صم بالليل فروي أنه دخل عيينة على عثمان رضي الله عنه وهو يفطر في شهر رمضان. فقال: العشاء. فقال: أنا صائم. قال عثمان رضي الله عنه: الصوم بالليل؟! قال: هو أخف عليّ. فيقال: إن عثمان قال: إحدى هنات نعيمان.
وروى بعضهم: أنه رأى عمرو بن العاص في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً إحدى يديه على الأخرى يتغنى بالشعر.
كان رجل يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم العكة من السمن أو العسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبتسم، ويأمر فيعطى.
دخل صهيب على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وعينه تشتكي، فقال: يا صهيب، أتأكل التمر على علة عينك؟ فقال: يا رسول الله، إنما آكله على الشق الصحيح، فضحك عليه السلام حتى بدت نواجذه.
وقيل لسفيان الثوري: المزح هجنة؟ قال: بل سنة.
حكى عن أسلم مولى عمر أنه قال: كنت أنا وعاصم بن عمر وعبد الله بن عمر في سفر، فغنينا بين يديه، فقال ابن عمر: كلاكما غير محسن، مثلكما مثل حماري العبادي حين قيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا، ثم هذا.
كان نعيمان من الصحابة وممن شهد بدراً، وكان كثير العبث، فمر يوماً بمخرمة بن نوفل الزهري - وهو ضرير - فقال له: قدني حتى أبول. فأخذ بيده حتى إذا كان في مؤخر المسجد قال: اجلس. فجلس يبول، وصاح به الناس: يا أبا المسور إنك في المسجد. فقال: من قادني؟ قالوا: نعيمان. قال: لله عليّ أن أضربه ضربة بعصاي إن وجدته. فبلغ ذلك نعيمان. فجاء يوماً فقال: يا أبا المسور، هل لك في نعيمان؟ قال: نعم. قال: هو ذا يصلي، وأخذ بيده فجاء به إلى عثمان رضي الله عنه وهو يصلي، وقال: هذا نعيمان. فعلاه بعصاه. وصاح الناس: ضربت أمير المؤمنين. فقال: من قادني؟ قالوا: نعيمان. قال: لا جرم. لا عرضت له بشر أبداً.
وكان نعيمان يصيب الشراب، وكان يؤتى به النبي عليه السلام فيضربه بنعليه، ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم، ويحقون عليه التراب، فلما كثر ذلك قال له رجل: لعنك الله. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تفعل؛ فإنه يحب الله ورسوله.
نظر أبو حازم المديني - وكان من اعبد الناس وأزهدهم - إلى امرأة تطوف بالبيت مسفرة، أحسن من خلق الله وجهاً، فقال: أيتها المرأة اتق الله، فقد شغلت الناس عن الطواف. فقالت: أو ما تعرفني؟ قال: من أنت؟ فقالت:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال: فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه الحسن بالنار، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فقال رحمه الله: أما والله لو كان بعض بغضاء عباد العراق لقال: أعزبي يا عدوة الله، ولكنه ظرف أهل الحجاز.
حج الأعمش، فلما أحرم لاحاه الجمال في شيء، فرفع عكازه فشجه به، فقيل له: يا أبا محمد؛ وأنت محرم؟ فقال: إن من تمام الإحرام شج الجمال.
قال بعضهم: شيعت عبد العزيز بن المطلب المخزومي، وهو قاضي مكة إلى منزله، وبباب المسجد مجنونة تقول: أرّق عيني ضراط القاضي. فقال أتراها تعني قاضي مكة؟.
خرج الأعمش يوماً وهو يضحك، فقال لأصحابه: أتدرون مم أضحك؟ قالوا: لا. قال: إني كنت قاعداً في بيتي، فجعلت ابنتي تنظر في وجهي، فقلت: يا بنية، ما تنظرين في وجهي؟ قالت: أتعجّب من رضا أمي بك!!.
قال بعضهم: كنا عند الشعبي جلوساً، فمر حمال على ظهره دن خل، فلما رأى الشعبي وضع الدن، وقال للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاح ما شهدناه.
وسأله آخر عن أكل الذبان، فقال: إن اشتهيت فكل.
وسئل عن لحم الشيطان؟ فقال: نحن نرضى عنه بالكفاف.
قال ابن عمر لجاريته وأراد مزاحها: خالقي خالق الكرام، وخالقك خالق اللئام.
وسأل رجل الشعبي عن المسح على اللحية، فقال: خللها بأصابعك. فقال: أخاف ألا تبلها. قال الشعبي: إن خفت فانقعها من أول الليل.
وسأله آخر: هل يجوز للمحرم أن يحك جسده؟ قال: نعم. قال: مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم.
وروى في مجلسه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " تسحروا ولو أن يضع أحدكم إصبعه على التراب ثم يضعه في فيه " فقال رجل: أي الأصابع؟ فتناول الشعبي إبهام رجله وقال: هذه.
وسأله رجل فقال: هل أسلم على القوم وهم يأكلون؟ فقال: إن أردت أن تأكل معهم فسلم.
جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال له: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر لأغتسل فإلى القبلة أفضل أن أتوجه أو إلى غير القبلة؟ فقال له: الأفضل أن يكون وجهك إلى ثيابك التي تنوعها لئلا تسرق.
ودخل رجل على الشعبي وهو في المسجد ومعه امرأة فقال: أيكما الشعبي؟ فقال: هذه. وأشار إلى المرأة.
خرج الأعمش يوماً إلى جماعة حضروا مجلسه ليحدثهم وهو يضحك، فسألوه عن ضحكه فقال: طلبت مني ابنتي قطعة، فقلت لها: ليس معي. فقالت لأمها: أنت ما وجدت أحداً تتزوجين به غير هذا؟.
وجاء إليه رجل فقال: يا أبا محمد اكتريت حماراً بنصف درهم، وجئتك لتحدثني. فقال له: اكتر بالنصف الآخر وارجع، فما أريد أن أحدثك.
سئل ابن سيرين عن إنشاد الشعر: هل ينقض الشعر الوضوء أم لا؟. وكان قائماً يصلي فقال:
ألا أصبحت عرس الفرزدق جامحاً ... ولو رضيت رشح استه لاستقرت
ثم كبر.
قال الشعبي: رأيت ابن عمر واضعاً إحدى رجليه على الأخرى وهو ينشد:
يحب الشرب من مال الندامى ... ويكره أن تفارقه الفلوس
قال بشر المريسي لعبادة - وقد قال له: كيف أنت يا أبا عبد الرحمن، وكيف أنفك؟ وكان أنف بشر كبيراً - : ويحك يا عبادة، ما تدع ضلالتك. عنايتك موكلة بكل ناتئ في البدن.
جاء رجل إلى ابن سيرين، فقال: إذا خلوت بأهلي تكلمت بكلام أستحي منه، فقال: أفحشه ألذه.
قال ابن عياش: رأيت على الأعمش فروة مقلوبة، صوفها خارج، فأصابنا مطر، فمررنا بكلب، فتنحى الأعمش وقال: لا يحسبنا شاة.
وكان يلبس قميصه مقلوباً قد جعل دروزه خارجه ويقول: الناس مجانين، يجعلون الخشن إلى داخل، مما يلي جلودهم.
وكان يقول: إذا رأيتم الشيخ لا يحسن شيئاً فاصفعوه.
قال عيسى بن موسى، وهو يلي الكوفة، لابن أبي ليلى: اجمع الفقهاء واحضروني. فجاء الأعمش في جبة فرو وقد ربط وسطه بشريط. فابطئوا، فقام الأعمش فقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً، وإلا فخلوا سبيلنا، فقال عيسى لابن أبي ليلى: قلت لك تأتيني بالفقهاء فجئتني بهذا! قال: هذا سيدنا الأعمش.
قال عثمان الصيدلاني: شهدت إبراهيم الحربي، وقد أتاه حائك في يوم عيد، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول في رجل صلى صلاة العيد، ولم يشتر ناطقاً، ما الذي يجب عليه؟ فتبسم إبراهيم، ثم قال: يتصدق بدرهمين خبزاً. فلما مضى قال: ما علينا أن يفرح المساكين من مال هذا الأحمق.
قال داود الحائك للأعمش: ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟ قال: لا بأس بها على غير وضوء. قال: فما تقول في شهادة الحائك؟ قال: تقبل شهادته مع شاهدين عدلين، فالتفت الحائك وقال: هذا ولا شيء واحد.
قال بعضهم: صرنا إلى باب الأعمش، فرأيناه واقفاً ببابه، فلما رآنا أسرع الدخول، ثم أسرع الخروج، فقلنا له في ذلك، فقال: رأيتكم فأبغضتكم، فدخلت إلى من هو ابغض منكم فخرجت إليكم.
كان المتوكل يلعب بالنرد مع الفتح بن خاقان، فقيل له: يحيى بن أكثم يستأذن. فأمر برفع النرد، ودخل يحيى، فلما جلس قال له: يا يحيى، إن فتحاً احتشمك وأمر برفع النرد، فقال: يا أمير المؤمنين، لم يكن به احتشامي، ولكنه خاف أن أعلم عليه.
كان للأعمش ابن يتنسك، فكان أبوه يتوقر بحضرته، وكان فيه دعابة، فقال يوماً: اشهدوا على ابني هذا أنه ابني لا يدعى غداً أنه أبى.
دخل أبو حنيفة - رحمة الله عليه - على الأعمش يعوده فقال: يا أبا محمد، لولا أنه يثقل عليك لعدتك في كل يوم. قال: أنت تثقل عليّ وأنت في بيتك، فكيف في بيتي؟.
كان أبو يوسف يكتب كتاباً، وعن يمينه رجل يلاحظ ما يكتب، وفطن به أبو يوسف، فلما فرغ من الكتاب التفت إلى الرجل، فقال: هل رأيت سقطاً؟ قال: لا. قال أبو يوسف: جزيت عن الغباوة خيراً.
قال المنصور يوماً لعبد الله بن عياش المنتوف: قد بغضت إليّ صورتك عشرتك، وحلفت بالله لئن نتفت شعرة من لحيتك لأقطعن يدك. فأعفاها حتى اتصلت، فكان عنده يوماً وحدثه بأحاديث استحسنها، فقال له: سل حاجتك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تقطعني لحيتي أعمل بها ما أريد. فضحك المنصور وقال له: قد فعلت.
خطب باقلاني إلى قوم وذكر أن الشعبي يعرفه؛ فسألوه عنه فقال: إنه لعظيم الرماد كثير الغاشية.
حكى أن أبا عمر القاضي كان يسير مع بعض العدول في صحراء، فسمعا صوت الرباب من يد حاذق، فقال العدل: ما أحسن هذا الضرب! فقال أبو عمر: الضرب، الضرب، - كأنه ينكر - هذا هو السحر، فقال العدل: القاضي أعزه الله أحذق مني بالصناعة.
قيل: إنه لم يعرف لعلي بن عيسى الوزير مزح قط، ولا سقطة في اللفظ إلا اليسير، فمن ذلك أنه قطع أرزاق الصفاعنة، فاجتمعوا ووقفوا على طريقه، فلما قرب منهم وضعوا عمائمهم، وصفع بعضهم بعضاً صفعاً عظيماً. فقال: نطلق لهم أرزاقهم؛ فإن عملهم صعب.
ومن ذلك أن غلاماً من أولاد الحجرية توفي أبوه، فأسقط رزقه، فاستعان على الوزير بأبي بكر بن مجاهد، وكان قريباً من قلبه وسأله مسألة الوزير فيه، فكتب له أبو بكر رقعة، فيها أنه من أولاد الحجرية، وأن من حاله كيت وكيت وأنه يصلح، فلما قرأها علي بن عيسى كتب بعد " يصلح " : لحمل السلاح، ثم وقع فيها برد أرزاق أبيه عليه.
جاز الأعمش يوماً بابن له صغير وهو عريان، يلعب في الطين مع الصبيان فلم يثبته، فقال لبعض من كانوا معه: انظر إلى هذا، ما أقذره من صبي وأطفسه! ويجوز أن يكون أبوه أقذر منه. فقال له صاحبه: هذا ابنك محمد. ففتح عينيه ومسحهما، ونظر إليه وتأمله، ثم قال: انظروا إليه بحق الله عليكم، كيف يتقلب في الطين كأنه شبل؟ عين الله عليه.
قيل للأعمش: ما تصنع عند مظهر أخي يقطين؟ قال: آتيه كما آتي الحش! إذا كانت بي إليه حاجة.
ومرض فعاده رجل، وأطال الجلوس ثم قال له: يا أبا محمد، ما أشد ما مر بك في علتك هذه؟ قال: دخولك إليّ. وعاده آخر فقال: كيف تجدك؟ قال: في جهد من رؤيتك، قال: ألبسك الله العافية. قال: نعم، منك.
حضر يحيى بن أكثم مجلس المتوكل، وتغدى، ثم حضر الشراب والغناء، فقال له المتوكل: يا يحيى، قد كثر التخليط، وليس هذا وقتك. فقال يحيى بن أكثم: ما كنتم إلى قاض قط أحوج منكم إليه إذا كثر التخليط. فضحك وأمر له بمال.
أقر رجل عند شريح بشيء، ثم ذهب لينكر، فقال شريح: قد شهد عليك ابن أخت خالتك. يعني: أنك أقررت على نفسك.
اشترى رجل من رجل شاة فإذا هي تأكل الذبان، فخاصمه إلى شريح فقال: لبن طيب وعلف مجان.
مر شريح بمجلس لهمدان فسلم، فردوا عليه وقاموا له فرحبوا. فقال: يا معشر همدان، إني لأعرف أهل بيت منكم لا يحل لهم الكذب. قالوا: من هم يا أبا أمية؟ قال: ما أنا بالذي أخبركم بهم. قال: فجعلوا يسألونه وتبعوه ميلاً أو قرابة ميل، ويقولون: يا أبا أمية من هم؟ وهو يقول: لا أخبركم، فانصرفوا عنه وهم يتلهفون ويقولون: ليته أخبرنا بهم.
قال ابن أبي ليلى: انصرفت مرة مع الشعبي من مجلس القضاء أنا وجرير بن يزيد - وهو يمشي بيننا - فمررنا بخادمة سوداء تغسل ثوباً في إجّان على باب دار، وهي تقول:
فتن الشعبي لما ... فتن الشعبي لما
وتكرره، فلما رأته سكتت فقال الشعبي:
رفع الطرف إليها
وقال: أردت أن يخرج اسمي من فمها.
دخل الشعبي وليمة فقال: ما بالكم كأنكم اجتمعتم على جنازة؟ أين الغناء والدف؟ قال الأعمش لجليس له: تشتهي سمكاً زرق العيون بيض البطون، سود الظهور، وأرغفة باردة لينة، وخلاً حاذقاً؟ قال: نعم. قال: فانهض بنا. قال الرجل: فنهضت معه ودخل ودخلت معه.
فقال: جر تلك السلة. قال: فكشفتها فإذا فيها رغيفان يابسان وسكرجة وكامخ وشبث، فجعل يأكل وقال: تعال وكل. قلت: فأين السمك؟ قال: ما قلت لك إن عندي سمكاً، إنما قلت لك: أتشتهيه؟.
واشترى جارية فقال له أصحابه: كيف رأيتها؟ قال: فيها من صفة الجنة خصلتان: برد وسعة.
وحدّث سليمان مولى الشعبي، أن الشعبي كان إذا اختضب فغرض لاعب ابنته بالنرد حتى يعلق الخضاب.
قال حفص بن غياث: أتيت باب الأعمش فسألته عن حديث، فألجأني إلى الحائط، وعصر حلقي وأفلتني، فعدوت وقلت: والله لأشكونك إلى أبي. فقال: ردوه، لا يقعد لنا في طريق الخير. وكان غياث أبوه يجرى على الأعمش ذكر أن ميسرة المكي قال: لما نفى المتوكل يحيى بن أكثم إلى مكة كنا ندخل إليه، فذكرت له فأراد مداعبتي ليتسقطني فقال: كم سنك؟ قلت: أعزك الله، أنا أذكر موت الرشيد، وأنا قابض على لحيتي. وقبض على لحيته. قال: فاشتغل يحيى بالحساب، وبقي الناس ينظرون، ثم فطن فتبسم وقال: نعم أنا أذكر موت آدم وأنا قابض على لحيتي. قال: ولم يعد إلى شيء من مداعبتي.
وسأل يحيى عن أخبار الناس فقيل له: ولّي بغا الكبير حرب دمشق، وجعل له أنه أمير كل موضع دخله. فقال يحيى: وإن دخل من حيث خرج!؟ وذكر عنده البراق يوماً، فقال: قد رووا أنه دون البغل وفوق الحمار، وأن خطوه منتهى بصره. فإن كان على ذلك فهو شبكور. فكان الناس يطعنون في دينه لهذا الكلام وأمثاله؟ وقال لرجل من أمنائه يكنى أبا عوف: نصف كنيتك يطفئ السراج.
وكان يغشاه رجل يدعى الحارث، ويكنى أبا الأسد، فقال له: أنت الأسد أبو الحارث؟ فقال: أصلحك الله أنا الحارث أبو الأسد. قال: أنت في الرجال أم أنتها في النساء؟.
وكان إسماعيل بن إسحاق يصحب يحيى بن أكثم، فركب يحيى يوماً يريد العبور على الجسر على حمار، وإسماعيل معه على حمار له مع أصحابه، فامتنع حمار يحيى من العبور، فتقدم إسماعيل وعبر حماره، وتبعه حمار يحيى وحمير من كانوا معه من أصحابه. فقال إسماعيل: حماري يتقدم حميركم، كذا صاحبه يتقدمكم. فقال يحيى بالحمارية! وروى عن أبي رشدين قال: رأيت أبا هريرة يلعب بالسدر.
وقال أنس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وللأنصار يومان يلعبون فيهما، فقال: " قد أبدلكما الله خيراً منهما: الفطر والنحر " .
وأمر عليه السلام علياً في أيام التشريق أن ينادي: إنها أيام أكل وشرب وبعال.
وكان أبو حازم من المشهورين في الزهد والنسك، وكان يجلس في المسجد الحرام، وكان النساء يمررن على النوق في الهوادج، فكان إذا مرت الحسناء البارعة قال من حضر من القرشيين: بارقة! وإذا مرت قبيحة سكتوا، فمرت بهم يوماً قبيحة وسكتوا، فقال أبو حازم: صاعقة! فتعجبوا من ذلك مع زهده.
ويقال: إنه لم يمزح عمر بن عبد العزيز بعد الخلافة إلا مرتين: إحداهما أن عديّ بن أرطأة كتب إليه يستأذنه في أن يتزوج ابنة أسماء بن خارجة، فكتب إليه: أما بعد، فقد أتاني كتابك تستأذن في هند، فإن يكن بك قوة فأهلك الأولون أحق بك وبها. وإن يكن بك ضعف فأهلك الأولون أعذر لك، ولكن الفزاريّ، والسلام. يريد بذلك قول الشاعر:
إن الفزاري لا ينفك مغتلماً ... من النواكه دهداراً بدهدار
وأما الثانية، فإن رجلاً من أهل أمج يقال له: حميد، هجاه ابن عم له فقال:
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر والشيبة الأصلع
فقد مر حميد بعد ذلك على عمر، ولم يعرفه فقال له: من أنت؟ قال: أنا حميد. فقال عمر: الذي أمج داره؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها منذ عشرين سنة. فقال: صدقت، وإنما أردت أن أبسطك. وجعل يعتذر إليه.
كان الشعبي كاتباً لبشر بن مروان، فدخل عليه يوماً وعنده جارية تغنيه، فاحتشم منه بشر، فقال الشعبي: إن الرجل لا يستحي من كاتبه وخادمه، فأمرها بشر فغنت، وقال له: كيف تسمع؟ فقال: الصغير أكيسها. يعني الزير.
الباب السابع:
الجوابات المسكتة الحاضرة
قدم حماد بن جميل من فارس، فنظر إليه يزيد بن المنجاب وعليه جباب وشي، فقال: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " . فقال حماد: " كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم " .جاء رجل إلى عمر فقال: أعطني فقال: والله لا أعطيك. قال: والله لتعطيني. قال: ولم لا أبالك؟ قال: لأنه مال الله، وأنا من عيال الله. قال: صدقت.
قال الربيع يوماً بين يدي المهدي لشريك " بلغني أنك خنت أمير المؤمنين. فقال له شريك: مه، لا تقولن ذاك، لو فعلنا لأتاك نصيبك.
خطب رجل إلى عبد الله بن عباس يتيمة كانت في حجره، فقال له: لا أرضاها لك. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنها تشرف وتنظر، وهي مع ذلك برية، فقال: إني لا أكره ذلك، فقال ابن عباس: أما الآن فإني لا أرضاك لها.
قال معاوية لعمرو بن سعيد: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إن أبي أوصى إليّ ولم يوص بي.
وقال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس: اسمع يا ابن أخي. فقال: كنت ابن أخيك. وأنا اليوم أخوك.
قال رجل من أهل الحجاز لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم. قال: ثم لم يعد إليكم.
قال بلال بن أبي بردة للهيثم بن الأسود: أنا ابن أحذ الحكمين. فقال: أما أحدهما ففاسق، وأما الآخر فمائق فابن أيهما أنت؟.
وقال رجل من ولد أبي موسى لشريك: هل كان علي رضي الله عنه يقنت في الفجر؟ فقال: نعم، ويلعن فيه أباك.
دخلت وفود على عمر بن عبد العزيز، فأراد فتى منهم الكلام، فقال عمر: ليتكلم أسنكم. فقال الفتى: يا أمير المؤمنين إن قريشاً لترى فيها من هو أسن منك. فقال: تكلم يا فتى.
لقي محمد بن أسباط عبد الله بن طاهر في جبة خز، فقال: يا أبا جعفر، ما خلفت للشتاء؟ قال: خلع الأمير.
قال ابن الزيات لبعض أولاد البرامكة: من أنت، ومن أبوك؟ قال: أبي الذي تعرفه، ومات وهو لا يعرفك.
كان لشيطان الطاق ابن محمق، فقال أبو حنيفة له: أنت من ابنك هذا في بستان. قال: هذا لو كان إليك.
دخل بعضهم على عبد الملك، فقال: الحمد لله الذي ردك على عقبيك. فقال: ومن رد إليك فقد رد على عقبيه، فسكت.
لما قال مسكين الدارمي:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
قالت امرأته: صدق؛ لأنها نار الجار وقدره.
قال الرشيد لإسماعيل بن صبيح: وددت أن لي حسن خطك. فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان حسن الحظ مكرمة، لكان أولى الناس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا. قال: لو كنت سيدهم ما قلت.
وقال معاوية لعقيل ليلة الهرير: أنت معنا يا أبا يزيد؟ قال: ويوم بدر كنت معكم.
دخل شاب من بني هاشم على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مرض رضي الله عنه يوم كذا، ومات رحمه الله يوم كذا، وترك رضي الله عنه من المال كذا؛ فانتهره الربيع وقال: بين يدي أمير المؤمنين توالى الدعاء لأبيك! فقال الشاب له: لا ألومك؛ لأنك لم تعرف حلاوة الآباء. قال: فما علمنا أن المنصور ضحك في مجلسه قط ضحكاً افترّ عن نواجذه إلا يومئذ.
قال بعضهم وقد باع ضيعة من آخر له: أما والله لقد أخذتها ثقيلة المئونة، قليلة المعونة. فقال: وأنت والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع، سريعة التفرق.
قال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرّغنّ لك. فقال: هناك والله وقعت في الشغل.
قيل لأبي الأسود الدؤلي: أشهد معاوية بدراً؟ قال: نعم، من الجانب الآخر.
قال الحجاج لصالح بن عبد الرحمن الكاتب: إني فكرت فيك فوجدت مالك ودمك لي حراماً. قال: أشد ما في هذا أيها الأمير واحدة. قال: وما هي؟ قال: أن هذا بعد الفكرة. يريد: أن هذا مبلغ عقلك.
نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام فشتمهم، فقال له سعيد بن خالد بن عثمان بن عفان: إنما تنتقصهم لأنهم قتلوا أباك. قال: صدقت لقد قتلوا أبي، ولكن المهاجرين والأنصار قتلوا أباك.
خطب أبو الهندي - وهو خالد بن عبد القدوس بن شيث بن ربعي - ، إلى رجل من بني تميم؛ فقال له: لو كنت مثل أبيك لزوجتك، فقال: أبو الهندي: لكن لو كنت مثل أبيك ما خطبت إليك.
ووقف عليه نصر بن سيار وهو سكران، فسبه، وقال له: ضيعت شرفك. فقال: لولا أني ضيعت شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
جلس محمد بن عبد الملك يوماً للمظالم، وحضر في جملة الناس رجل زيه زي الكتاب، فجلس بإزائه، ومحمد ينفذ الكلام، وهو لا يتكلم. ومحمد يتأمله، فلما خف مجلسه قال له: ما حاجتك؟ قال: الساعة أذكرها. فلما خلا المجلس تقدم وقال: جئتك أصلحك الله متظلماً. قال: ممن؟ قال: منك. قال: مني؟ قال: نعم. ضيعة لي في يد وكيلك يحمل إليك غلتها ويحول بيني وبينها. قال: فما تريد؟ قال: تكتب بتسليمها إليّ. قال: هذا نحتاج فيه إلى شهود وبينة وأشياء كثيرة. قال الرجل: الشهود هم البينة و " أشياء كثيرة " عيّ منك. فخجل محمد وهاب الرجل، وكتب له بما أرضاه.
قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص: أخبرني عبد الله بن هلال صديق إبليس أنك تشبه إبليس. قال: وما ينكر الأمير أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن.
لما هرب ابن هبيرة من خالد بن عبد الله القسري قال له: أبقت إباق العبد. فقال له: نعم حين نمت نومة الأمة عن عجينها.
دخل رجل من ولد قتيبة بن مسلم الحمام، وبشار بن برد في الحمام، فقال: يا أبا معاذ وددت أنك مفتوح العين. قال: ولم؟ قال: لترى استي فتعرف أنك قد كذت في شعرك حيث تقول:
على أستاه سادتهم كتاب ... " موالي عامر " وسم بنار
قال: غلطت يا ابن أخي. إنما قلت: على أستاه سادتهم، وليست منهم.
دخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام، فقدم خصماً له - وكان شيخاً كبيراً - إلى قاضي عبد الملك، فقال له القاضي: أتقدم شيخاً كبيراً؟ قال: الحق أكبر منه. قال: اسكت. قال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: لا أظنك تقول حقاً حتى تقوم. قال: لا إله إلا الله. فقام القاضي فدخل على عبد الملك من ساعته فأخبره بالخبر. فقال: اقض حاجنه الساعة، وأخرجه من الشام، لئلا يفسد علينا الناس.
ودخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان - وكان أفتك الناس وأخطب الناس - على عبد الملك، فأراد أن يقعد معه على السرير، فقال له عبد الملك: ما بال الناس يزعمون أنك لا تشبه أباك؟ قال: والله لأنا أشبه بأبي من الليل بالليل، والغراب بالغراب، والماء بالماء، وإن شئت أنبأتك عمن لا يشبه أباه. قال: ومن ذلك؟ قال: من لم يولد لتمام، ولم تنضجه الأرحام، ومن لم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك؟ قال: ابن عمي سويد بن منجوف. قال: أو كذلك أنت يا سويد؟ قال: نعم.
ولما خرجا من عنده أقبل سويد وقال: وريت بك زنادي. والله ما يسرني أنك كنت نقصته حرفاً وأن لي حمر النعم. قال: والله وأنا ما يسرني بحلمك اليوم عني سود النعم. وإنما أراد عبيد الله بذلك عبد الملك؟ فإنه كان ولد سبعة أشهر.
وعبيد الله هو الذي أتى باب مالك بن مسمع، ومعه نار ليحرق عليه داره، وقد كان نابه أمر فلم يرسل إليه قبل الناس، فأشرف عليه مالك، فقال: مهلاً يا أبا مطر. والله إن في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك. قال: وإنك لعدّني في كنانتك، فوالله أو لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها. قال: مهلا، أكثر الله في العشيرة مثلك. قال: لقد سألت ربك شططاً.
قال رجل لرقبة بن مصقلة: ما أكثرك في كل طريق!. فقال له: لم تستكثر مني ما تستقله من نفسك؟ هل لقيتني في طريق إلا وأنت فيه؟ ولما دخل إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة البصرة قال: هممت أن أؤدب من خالف أبا حنيفة في مسألة. قال له قائل: هل كان أبو حنيفة يؤدب من خالفه؟ قال: لا. قيل له، فأدّب نفسك فقد خالفته.
حدث بعضهم قال: خرجت في حاجة فلما كنت بالسيالة وقفت على باب ابن هرمة فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته قالت: خرج آنفاً. قال: فقلت: هل من قرىً، فإني مقو من الزاد. قالت: لا والله. قلت: فأين قول أبيك:
لا أمتع العود بالفصال، ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
قالت: فذاك أفناها.
قال المهدي يوماً لشريك، وعيسى بن موسى عنده: لو شهد عندك عيسى كنت تقبله؟ وأراد أن يغرى بينهما. فقال شريك: من شهد عندي سألت عنه، ولا يسأل عن عيسى غير أمير المؤمنين، فإن زكيته قبلته. فقبلها عليه.
قيل لسعيد بن المسيب وقد كف: ألا تقدح عينك. قال: حتى أفتحها على من؟ قال مروان يوم الزاب لحاجبه وقد ولى منهزماً: كر عليهم بالسيف. فقال: لا طاقة لي بهم. فقال: والله لئن لم تفعل بهم لأسوءنك. قال: وددت أنك تقدر على ذلك.
ركب الرشيد وجعفر بن يحيى يسايره، وقد بعث عليّ بن عيسى بهدايا خراسان بعد ولاية الفضل بن يحيى، فقال الرشيد لجعفر: أين كان هذا في أيام أخيك؟ قال: في منازل أهله.
قال بحيرا الراهب لأبي طالب: احذر على ابن أخيك، فإنه سيصير إلى كذا وكذا. قال: إن كان الأمر كما وصفت فإنه في حصن من الله.
قال رجل مطعون النسب لأبي عبيدة لما عمل كتاب المثالب: سببت العرب جميعاً. قال: وما يضرك؟ أنت خارج من ذلك.
قيل لإياس بن معاوية: إنك لتعجب برأيك. قال: لو لم أعجب به لم أقض به.
قال رجل لعامر بن الطفيل: استأسر. قال: بيت أمك لا يسعني.
قال الرشيد ليزيد بن مزيد في لعب الصوالجة: كن مع عيسى بن جعفر. فأبى، فغضب الرشيد وقال: أتأنف أن تكون معه؟ قال: قد حلفت لأمير المؤمنين ألا أكون عليه في جد ولا هزل.
دخل الحجاج دار عبد الملك، فقال له خالد بن يزيد: ما هذا السيف، وإلى متى هذا القتل؟ قال: ما دام بالعراق رجل يشهد أن أباك كان يشرب الخمر.
قيل لأبي عبيدة: " الأصمعي دعيّ " . قال: ليس في الدنيا أحد يدعي إلى أصمع.
وقع في بعض الثغور نفير؛ فخرج رجل، ومعه قوس بلا نشاب، فقيل له: أين الشباب؟ قال: يجئ الساعة إلينا جزاءً من عند العدو. قالوا: فإن لم يجئ؟ قال: إن لم يجئ لم تكن بيننا وبينهم حرب.
قال رجل لهشام بن الحكم أليس اختصم العباس وعليّ إلى عمر؟ قال: بلى. قال: فأيهما كان الظالم؟ قال: ليس فيهما ظالم. قال: يا سبحان الله، كيف يتخاصم اثنان وليس فيهما ظالم؟ قال: كما تخاصم الملكان إلى داود عليه السلام وليس فيهما ظالم.
قال رجل لشريك: أخبرني عن قول عليّ رضي الله عنه لابنه الحسن: ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة. أقاله وهو شاكّ في أمره؟ قال: له شريك: أخبرني عن قول مريم: " يا ليتني مت قبل هذا " . أقالته وهي شاكة في عفتها؟ فسكت الرجل.
استأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنه فحجبه، فقيل له: حجبك أمير المؤمنين. فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.
دخل الوليد بن يزيد على هشام، وعلى الوليد عمامة وشي، فقال هشام: بكم أخذت عمامتك؟ قال: بألف درهم. فقال هشام: عمامة بألف؟ - يستكثر ذلك - فقال الوليد: يا أمير المؤمنين إنها لأكرم أطرافي. وقد اشتريت أنت جارية بعشرة آلاف درهم لأخس أطرافك.
بات المفضل الضبي عند المهدي. فلم يزل يحدثه وينشده حتى جرى ذكر حماد الراوية، فقال له المهدي: ما فعل عياله؟ ومن أين يعيشون؟ قال: من ليلة مثل هذه كانت له مع الوليد بن يزيد.
لما قال أبو العتاهية:
فاضرب بطرفك حيث شئ ... ت، فلن ترى إلا بخيلا
قيل له: بخلت الناس كلهم. قال: فأكذبوني بواحد.
دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة إلى القضاء. فأبى، فحبسه، ثم دعا به، فقال له: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لا أصلح للقضاء. فقال: كذبت. فقال أبو حنيفة: قد حكم عليّ أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء، لأنه نسبني إلى الكذب، فإن كنت كاذباً فأنا لا أصلح، وإن كنت صادقاً، فإني قد صدقت عن نفسي أني لا أصلح. فرده إلى الحبس.
قال الحسن بن سهل: ما نكأ قلبي كقول خاطبني به أعرابي يحج يوماً بالعرب، فقلت له: رأيت منازلكم وخيامكم تلك الصغار، فقال لي بالعجلة: فهل رأيت فيها من ينكح أمه أو أخته؟ قال رجل لآخر: ألا تستحيي من إعطاء القليل؟ فقال: الحرمان أقل منه.
شكا يزيد بن أسيد إلى المنصور ما ناله من العباس بن محمد أخيه، فقال المنصور: اجمع إحساني إليك وإساءة أخي، فإنهما يعتدلان. قال: إذا كان إحسانكم إلينا لإساءتكم. كانت الطاعة منا تفضلا.
كتب ملك الروم إلى ملك فارس: كل شيء تقوله كذب. فكتب إليه: صدقت. أي أني في تصديقك كاذب.
قال بعضهم: التقى رجلان في بعض بلاد الهند، فقال أحدهما للآخر - وكان غريباً - : ما أقدمك بلادنا؟ فقال: قدمت أطلب علم الوهم. قال: فتوهم أنك قد أصبته، وانصرف. فأفحمه.
قال رجل لسليمان الشاذكوني: أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان. فقال له سليمان: إن كان ولا بد فعلى خراجها، فإن أخذ مال الأغنياء أسهل من أخذ أموال اليتامى.
قال رجل من ولد عيسى بن موسى لشريك بن عبد الله حين عزل عن القضاء: يا أبا عبد الله، هل رأيت قاضياً عزل؟ قال: نعم، وولى عهد خلع.
قال مصعب بن الزبير لسكينة بنت الحسين: أنت مثل البغلة لا تلدين. قالت: لا والله، ولكن أبي كرمي أن يقبل لؤمك.
قال رجل لآخر: إن قلت كلمة سمعت عشراً. فقال له: لو قلت عشراً. ما سمعت كلمة.
قال محمد بن مسعر: كنت أنا ويحيى بن أكثم عند سفيان، فبكى سفيان. فقال له يحيى: ما يبكيك يا أبا محمد؟ فقال له: بعد مجالستي أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بليت بمجالستكم. فقال يحيى - وكان حدثاً - : فمصيبة أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجالستك إياهم بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مصيبتك. فقال: يا غلام، أظن السلطان سيحتاج إليك.
دعا الحجاج رجلاً ليوجهه إلى محاربة عدو، فقال له: أعندك خير؟ قال: لا، ولكن عندي شر. قال: هذا هو الذي أريدك له، امض لوجهك.
أكل أعرابي من بني عذرة مع معاوية، فجرف ما بين يدي معاوية، ثم مد يده هاهنا وهاهنا، ورأى بين يدي معاوية ثريدة كثيرة السمن فجرها، فقال معاوية: " أخرقتها لتغرق أهلها " . فقال الأعرابي: لا، ولكن " سقناه إلى بلد ميت " .
لما بنى محمد بن عمران قصراً حيال قصر المأمون، قيل له: يا أمير المؤمنين، باراك وباهاك. فدعاه وقال: لم بنيت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أحببت أن ترى أثر نعمتك عليّ، فجعلته نصب عينيك. فاستحسن جوابه، وأجزل عطيته.
قال رجل لأبي عبيدة: أحب أن تخرج لي أيام عشيرتي - وكان دعيّا - فقال أبو عبيدة: مثلك مثل رجل قال لآخر: اقرأ لي من: " قل هو الله أحد " عشرين آية. قال: لا، ولكنك تبغض العرب. قال: وما عليك من ذاك؟.
قال رجل لابنه، وكانت أمه سرية: يا ابن الأمة. قال: هي عندي أحمد منك. قال: ولم؟ قال: لأنها ولدتني من حر، وولدتني من أمة.
قالت عجوز: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي. فقال زوجها: إذاً لا تموتين أبدا.
شاتم أعرابي ابنه فنفاه وقال: لست بابني. فقال: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك، ولأنت كنت على أمي أغير من أبيك على أمك.
كان بعضهم يتقلد أعمال السلطان، فجاء أبوه يوماً فسأله في أمر إنسان، فاشتد ذلك عليه وضجر منه، فقال لأبيه: أحب أن أسألك، إذا جاءك إنسان وقال: كلم ابنك. تسبني وتقول: ليس ذلك بابني؟ فقال له: أنا أقول هذا منذ ثلاثين سنة فلا يقبل مني.
بعث معن بن زائدة إلى ابن عياش المنتوف ألف دينار، وكتب إليه: قد بعثت إليك ألف دينار، واشتريت بها دينك. فكتب إليه: وصل ما أنفذت وقد بعتك بها ديني ما خلا التوحيد، لعلمي بقلة رغبتك فيه.
لما قدم معاوية حاجاً في خمس وأربعين تلقته قريش بوادي القرى، وتلقته الأنصار بأجزاع المدينة، فقال: يا معشر الأنصار، ما منعكم أن تتلقوني حيث تلقتني قريش؟ قالوا: لم يكن لنا دوابّ. قال: فأين النواضح؟ قالوا: أنضيناها يوم بدر في طلب أبي سفيان.
قال بعضهم لشيطان الطاق: أتحل المتعة؟ قال: نعم. قال: فزوجني أمك متعة. قال: يا أحمق إذا زوجتك لم تكن متعة، أما المتعة إذا زجتك نفسها.
وكان أبو حنيفة وشيطان الطاق يمشيان ذات يوم إذ سمعا رجلاً يقول: من يدلنا على صبي ذال؟ فقال شيطان الطاق: أما الصبي فلا أدري، ولكن إن أردت أن أدلك على شيخ ضال فها هو. وأومأ إلى أبي حنيفة.
لما أخذ محمد بن سليمان صالح بن عبد القدوس ليوجه به إلى المهدي، قال: أطلقني حتى أفكر لك فيولد لك ذكر. قال: بل اصنع ما هو أنفع لك من أن يولد لي، فكر حتى تفلت من يدي.
قال مروان بن الحكم لحبيش بن دلجة: أظنك أحمق. فقال: أحمق ما يكون الشيخ إذا عمل بظنه.
قال بعضهم لأبي تمام: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: لم لا تفهمون ما يقال.
قال معاوية: لو ولد أبو سفيان الناس كلهم كانوا حلماء. فقال له أبو جهم بن حذيفة: قد ولدهم من هو خير من أبي سفيان، آدم عليه السلام، فمنهم: الحليم والسفيه، والعاقل والأحمق، والصالح والطالح.
قال الأشعث بن قيس الكندي لشريح القاضي: يا أبا أمية، عهدي بك وإن شأنك لشؤين. فقال: يا أبا محمد أنت تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك.
دخل رجل على داود الطائي وهو يأكل خبزاً قد بله بالماء مع ملح جريش. فقال له: كيف تشتهي هذا؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
قال الرشيد: ما رأيت أزهد من الفضيل، فقال الفضيل لما بلغه ذلك: هو أزهد مني؛ لأني أزهد في فان، وهو يزهد في باق.
ومر عبد الله بن عامر بعامر بن عبد قيس وهو يأكل بقلاً بملح، فقال له: لقد رضيت بالقليل. فقال: أرضى مني بالقليل من رضي بالدنيا.
نظر الفرزدق إلى شيخ من اليمن فقال: كأنه عجوز سبأ. فقال له: عجوز سبأ خير من عجوز مضر، تلك. قالت: " رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " . وهذه: " حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد " .
قال ابن ملجم - لعنه الله - لعلي رضي الله عنه لما ضربه بالسيف: إني اشتريت سيفي هذا بألف وسممته بألف، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال علي كرم الله وجهه: قد أجاب الله دعوتك. يا حسن، إذا مت فاقتله بسيفه.
قدم مرزبان من مرازبة فارس باب السلطان في أيام المهدي يشكو عاملهم، فقال لأبي عبيد الله الوزير: أصلحك الله. إنك وليت علينا رجلاً، إن كنت وليته وأنت تعرفه، فما خلق الله رعية أهون عليك منا، وإن كنت لم تعرفه، فما هذا جزاء الملك الذي ولاك أمره، وأقامك مقامه. فدخل أبو عبيد الله على المهدي وأخبره، وخرج فقال: إن هذا رجل كان له علينا حق فكافأناه. فقال له: أصلحك الله، إنه كان على باب كسرى ساجة منقوشة بالذهب مكتوب عليها: العمل للكفاءة، وقضاء الحقوق على بيوت الأموال، فأمر المهدي بعزل العامل.
وتظلم أهل الكوفة إلى المأمون من عامل ولاه عليهم، فقال: ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية، وأعود بالرفق عليهم منه. فقام رجل من القوم، فقال: يا أمير المؤمنين: ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك. فإذا كان عاملنا بهذه الصفة فينبغي أن يعدل بولايته بين أهل البلدان، ويساوي به بين أهل الأمصار، حتى يلحق كل بلد وأهله من عدله وإنصافه مثل الذي لحقنا. وإذا فعل ذلك أمير المؤمنين فلا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك المأمون، وعزل العامل عنهم.
قال أحمد بن أبي خالد يوماً لثمامة: أنا أعرف لكل واحد ممن في هذه الدار معنى غيرك، فإني لا أعرف لك معنى، ولا أدري لماذا تصلح. فقال ثمامة: أنا أصلح أن أشاور في مثلك، هل تصلح لموضعك. فأفحمه.
حمل بعض الصوفية طعاماً إلى طحان ليطحنه، فقال: أنا مشغول. فقال: اطحنه وإلا دعوت عليك وعلى حمارك ورحاك. قال: وأنت مجاب الدعوة؟ قال: نعم. قال: فادع الله أن يصير حنطتك دقيقاً، فهو أنفع لك، واسلم لدينك.
هجا أبو الهول الحميري الفضل بن يحيى، ثم أتاه راغباً، فقال له الفضل: ويحك، بأي وجه تلقاني؟ قال: بالوجه الذي ألقى به ربي جل جلاله، وذنوبي إليه أكثر. فضحك ووصله.
قال الحجاج لسعيد بن جبير: اختر لنفسك أي قتلة شئت. قال: بل اختر أنت؛ فإن القصاص أمامك.
جاء شيخ من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمتّ بقرابته، وسأله، فلم يعطه شيئاً. فعاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيلي الذي سألك منذ أيام. قال عمر: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام. فقال معذرة إلى الله، إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي، فقال: ذاك ألأم لك، وأهون بك علي، نشأ في قومك مثلي ولم تعلم به، ومات مثل يزيد ولا تعلم به. يا حرسي اسفع يده.
قال عمر بن الوليد للوليد بن يزيد: إنك لتعجب بالإماء. قال: وكيف لا أعجب بهن، وهن يأتين بمثلك.
سئل بعض من كان أبوه متقدماً في العلم عن مسألة، فقال: لا أدري و " لا أدري " نصف العلم. فقال له بعض من حضر: ولكن أباك بالنصف الآخر تقدم.
وقال رجل لرجل قال: " لا أدري، ولا أدري، نصف العلم " : نعم، ولكنه أخس النصفين.
وقيل لآخر: ما تقول في كذا؟ فقال: " لا أدري، ولا أدري، نصف العلم " . فقيل له: قل ذلك دفعتين وهو العلم كله.
بعث الأفشين إلى ابن أبي دؤاد: ما أحب أن تجيئني، فلا تأتني. فأجابه: ما أتيتك متعززاً بك من ذلة، ولا متكثراً بك من قلة، ولكنك رجل رفعتك دولة، فإن جئتك فلها، وإن قعدت عنها فلك.
أتي معاوية بسارق فأمر بقطعه، فخرجت إليه أمه وقالت: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي. فقال: يا أمة الله، هذا حد من حدود الله. قالت: اجعله مع صفين ونظائرها. فعفا عنه.
مشت قريش إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد، فقالوا: ادفع إلينا محمداً نقتله، وأمسك عمارة فاتخذه ولداً مكانه. فقال: ما أنصفتموني يا معشر قريش. أدفع إليكم ابني تقتلونه، وأمسك ابنكم أغذوه لكم! كان ربيعة الرأي لا يكاد يسكت، وتكلم يوماً وأكثر وأعجب بالذي كان منه؛ فالتفت إلى أعرابي كان عنده وسأل الأعرابي: ما تعدون العي فيكم؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم.
دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على أبيه وهو يجود بنفسه، فقال له: ألا أوصي بك الأمير زياداً؟ قال: لا. قال: ولم ذاك؟ قال: إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت.
كتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له، كثير المال، يستسلف منه نفقة، فكتب إليه: العيال كثير، والدخل قليل، والدين ثقيل، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه إبراهيم: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت محجوجاً فجعلك الله معذوراً.
أدخل زفر بن الحارث على عبد الملك بعد الصلح، فقال: ما بقي من حبك للضحاك؟. قال: ما لا ينفعني ولا يضرك. قال: شد ما أحببتموه معاشر قيس! قال: أحببناه، ولم نواسه، ولو كنا واسيناه لقد كنا أدركنا ما فاتنا منه. قال: فما منعك من مواساته يوم المرج؟ قال: الذي منع اباك من مواساة عثمان يوم الدار.
دخل الشعبي الحمام وفيه رجل متكشف، فغمض عينيه، فقال له الرجل: يا شيخ، متى ذهبت عينك؟ فقال: منذ هتك الله سترك.
كتب عمرو بن عبد العزيز إلى أبي مجاز، فقدم إليه من خراسان، ودخل مع الناس فلم يعرفه عمر، وخرج فسأل عنه بعد ذلك فقيل له: قد كان دخل عليك، فدعا به وقال له: لم أعرفك. فقال: يا أمير المؤمنين. إذا لم تعرفني، فهلا أنكرتني.
حلف رجل بالطلاق أن الحجاج في النار. فقيل له: سل عن يمينك. فأتى أيوب السختياني فأخبره، فقال: لست أفتي في هذا بشيء، يغفر الله لمن يشاء. فأتى عمرو بن عبيد فأخبره، فقال: تمسك بأهلك، فإن الحجاج إن لم يكن من أهل النار فليس يضرك أن تزني.
كان الوليد بن عبد الملك يلعب بالحمام؛ فخلا لذلك يوماً، واستؤذن لنوفل بن مساحق، فأذن له، فلما دخل قال: خصصتك بالإذن دون الناس.
فقال: ما خصصتني ولكن خسستني، وكشفت لي عن عورة من عوراتك.
قال موسى بن سعيد بن سلم: قال أبو الهذيل لأبي يوماً: إني لا أجد في الغناء ما يجد الناس من الطرب! فقال له: فما أعرف إذاً في الغناء ذنباً.
أتي ضرار المتكلم بمجوسي ليكلمه، فقال: أبو من؟ فقال المجوسي: نحن أجل من أن نسب إلى أبنائنا، إنما ننسب إلى آبائنا، فأطرق ضرار ثم قال: أبناؤنا أفعالنا، وآباؤنا أفعال غيرنا، ولأن ننسب إلى أفعالنا، أولى من أن ننسب إلى أفعال غيرنا.
كان يناظر رجل يحيى بن أكثم، وكان يقول له في أثناء كلامه: يا أبا زكريا. وكان يحيى يكنى بأبي محمد. فقال يحيى: لست بأبي زكريا. فقال الرجل: كل يحيى كنيته أبو زكريا. فقال: العجب أنك تناظرني في إبطال القياس، وتكنيني بالقياس.
لما عزل عثمان عمرو بن العاص، وولى عبد الله بن أبي السرح مكانه، دخل عليه عمرو، فقال: أشعرت أن اللقاح بعدك درت ألبانها بمصر؟ فقال: نعم، ولكنكم أعجفتم أولادها.
عرض على رجل ليشتريه، فقال: ما عندي ثمنه. فقال البائع: أنا أؤخرك. فقال: بل أنا أؤخر نفسي.
سار الفضل بن الربيع إلى أبي عباد في نكبته يسأله حاجة، فأرتج عليه، فقال له: يا أبا العباس، بهذا البيان خدمت خليفتين؟! فقال: إنا تعودنا أن نسأل ولا نسأل.
دخل أشعري على الرشيد وسأله فقال: احتكم. قال: يحكّم بعد أبي موسى؟ فضحك وأعطاه.
دخل قيس بن عاصم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني وأدت اثنتي عشرة بنتاً في الجاهلية، فما اصنع؟ قال: اعتق عن كل موءودة نسمة. فقال أبو بكر: ما الذي حملك على ذلك وأنت أكبر العرب؟ قال: مخافة أن ينكحهن مثلك. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: " هذا سيد أهل الوبر " .
سئل الشعبي عن شيء، فقال: لا أدري. فقيل له: أما تستحي أن تقول: لا أدري وأنت فقيه العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستح إذ قالت: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " .
خطب أبو الهندي إلى رجل، فقال له: لو كنت مثل أبيك زوجتك. فقال أبو الهندي: لو كنت مثل أبي ما خطبت إليك.
قال محمد بن عبد الملك لبعض الكتاب: كلمت أمير المؤمنين في عمر بن فرج فعزله من الديوان. فقال له: فرغته لطلب عيوبك.
جاور إبراهيم بن سيابة قوماً فأزعجوه من جوارهم، فقال: لم تخرجونني من جواركم؟ فقالوا: لأنك مريب. فقال: ويحكم. ومن أذل من مريب، أو أحسن جواراً؟.
قيل لبعض الصوفية: أتبيع جبتك الصوف؟ قال: إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد؟.
قالوا: لما ضرب سعيد بن المسيب أقيم للناس، فمرت به أمة لبعض المدينيين، فقالت: لقد أقمت مقام الخزي يا شيخ. فقال سعيد: من مقام الخزي فررت.
سمعت الصاحب رحمه الله يقول: إن بعض ولد أبي موسى الأشعري عير بأنه كان حجاماً، فقال: ما حجم قط غير النبي صلى الله عليه وسلم. فقيل له: كان ذلك الشيخ أتقى لله من أن يتعلم الحجامة في عنق النبي صلى الله عليه وسلم. قال الصاحب: وأنا أقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحزم من أن يمكن من حجامته من لم يحجم قط أحداً.
أخذت الخوارج رجلاً فقالت له: ابرأ من عثمان وعلي. فقال: أنا من علي، ومن عثمان برئ.
قال معاوية لرجل: أنت سيد قومك. قال: الدهر ألجأهم إليّ.
قال ذو الرياستين لثمامة: ما أدري ما اصنع في كثرة طلاب الحوائج وغاشية الباب!. فقال: زل عن مكانك وموضعك من السلطان، وعلى ألا يلقاك أحد منهم. قال: صدقت. وقعد لهم، ونظر في أمورهم.
وقال بعضهم لسعيد بن العاص: عرضت لي إليك حويجة. فقال: اطلب لها رجيلاً.
وبضد ذلك ما قاله ابن عباس، فإنه قال: هاتها؛ فإن الحر لا يكبر عن صغير حاجة أخيه، ولا يصغر عن كبيرها.
دخل الرقاشي على المعتصم في يوم مطير، فقرب مجلسه ورحب به. وقال له: أقم عندنا يومك نشرب ونطرب. فقال: يا أمير المؤمنين، إني وجدت في الكتب السالفة: أن الله جل ذكره لما خلق العقل قال له: أقبل. فأقبل، ثم قال له: أدبر. فأدبر، ثم قال له: وعزتي، ما خلقت خلقاً أكرم منك عليّ، بك أعطي، وبك أمنع، وبك آخذ. فلو وجدت عقلاً يباع لاشتريته، واضفته إلى عقلي. فكيف أشرب ما يزيل ما معي من العقل؟ قال المعتصم: عقلك أوردك هذا المكان.
قيل لسعيد بن سلم: لم لا تشرب النبيذ؟ قال: تركت كثيره لله وقليله للناس.
وقيل للعباس بن مرداس: لم تركت الشرب وهو يزيد في جرأتك وسماحك؟ قال: أكره أن أصبح سيد قوم، وأمسي سفيههم.
خاصم رجل من ولد أبي لهب آخر من ولد عمرو بن العاص، فعيره وعيره الآخر بسورة: تبّت. فقال اللهبي: لو علمت ما لولد أبي لهب في هذه السورة لم تعبهم؛ لأن الله صحح نسبهم بقوله: " وامرأته حمالة الحطب " ؛ فبين أنهم من نكاح لا من سفاح، ونفى بني العاص بقوله: " زنيم " والزنيم: المنتسب إلى غير أبيه.
قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في تحليل المتعة؟ فقال: بعمر بن الخطاب، فإنه قال: إن الله ورسوله أحلا لكم متعتين، وأنا أحرمهما عليكم وأعاقب. فقبلنا شهادته، ولم نقبل تحريمه.
أتى رجل أعور في زمان عمر، فشهد أنه رأى الهلال. فقال عمر: بأي عينيك رأيت؟ قال: بشرهما، وهي الباقية؛ لأن الأخرى ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته. فأجاز شهادته.
رأى مجوسي في مجلس الصاحب رحمه الله لهيب نار، فقال: ما أشرفه! فقال الصاحب: ما أشرفه وقوداً، وأخسه معبوداً!.
صح عند بعض القضاة إعدام رجل فأركبه حماراً ونودي عليه: هذا معدم، فلا يعاملنه أحد إلا بالنقد، فلما كان آخر النهار نزل عن الحمار، فقال له المكاري: هات أجرتي. فقال: فيم كنا نحن منذ الغداة؟ تقدم سقاء إلى فقيه على باب سلطان، فسأله عن مسألة، فقال: أهذا موضع المسألة؟ فقال له: وهذا موضع الفقهاء؟ قال الأصمعي: ضرب أبو المخش الأعرابي غلماناً للمهدي. فاستعدوا عليه، فأحضره وقال: اجترأت على غلماني فضربتهم. فقال: كلنا يا أمير المؤمنين غلمانك ضرب بعضنا بعضاً. فخلى عنه.
اعترض رجل المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل من العرب. فقال: ما ذاك بعجب. قال: إني أريد الحج. قال: الطريق أمامك نهج. قال: وليست لي نفقة. قال: قد سقط الفرض. قال: إني جئتك مستجدياً لا مستفتياً. فضحك وأمر له بصلة.
قال بعضهم: ما قطعني إلا غلام قال لي: ما تقول في معاوية؟ قلت: إني أقف فيه. قال: فما تقول في يزيد؟ قلت: ألعنه لعنه الله. قال: فما تقول فيمن يحبه؟ قلت: ألعنه. قال: أفترى معاوية لا يحب يزيد ابنه!؟ قال الحجاج لرجل: أنا أطول أم أنت؟ فقال: الأمير أطول عقلاً، وأنا أبسط قامة.
قدم رجل من اليمامة فقيل له: ما أحسن ما رأيت بها؟ قال: خروجي منها أحسن ما رأيت بها.
مدح رجل هشاماً فقال له: يا هذا، إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه فقال له: ما مدحتك، وإنما أذكرتك نعمة الله، لتجدد له شكراً.
عاتب الفضل بن سهل الحسين بن مصعب في أمر ابنه طاهر، والتوائه وتلونه، فقال له الحسين: أنا أيها الأمير شيخ في أيديكم، لا تذمون إخلاصي وتلونه، فقال له الحسين: أنا أيها الأمير شيخ في أيديكم، لا تذمون إخلاصي ولا تنكرون نصيحتي، فأما طاهر فلي في أمره جواب مختصر وفيه بعض الغلط، فإن أذنت ذكرته. قال: قل. قال: أيها الأمير، أخذت رجلاً من عرض الأولياء فشققت صدره، وأخرجت قلبه، ثم جعلت فيه قلباً قتل به خليفة، وأعطيته آلة ذلك من الرجال والأموال والعبيد، ثم تسومه بعد ذلك أن يذل لك، ويكون كما كان. لا يتهيأ هذا إلا أن ترده إلى ما كان، ولا تقدر على ذلك. فسكت الفضل.
قال عبد الملك لابن الحارث: بلغني أنكم من كندة. فقال: يا أمير المؤمنين، وأي خير فيمن لا يدعى رغبة أو ينفى حسداً.
احتضر ابن أخ لأبي الأسود الدؤلي فقال: يا عم، أموت والناس يحيون! قال: يابن أخي، كما حييت والناس يموتون.
قال عمرو بن مسعدة لابن سماعة المعيطي: صف لي أصحابك. قال: ولا تغضب؟ قال: لا. قال: كانوا يغارون على الإخوان، كما تغارون على القيان.
أمر يحيى بن أكثم برجل إلى الحبس، فقال: إني معسر. فلم يلتفت إليه، فقال: من لعيالي؟ قال: الله لهم. فقال الرجل: أراني الله عيالك وليس لهم أحد غير الله.
قال بعضهم لمجوسي: ما لك لا تسلم؟ قال: حتى يشاء الله. قال: قد شاء، ولكن الشيطان لا يدعك. قال: فأنا مع أقواهما.
ساير ابن لشبيب بن شيبة عليّ بن هشام، وعليّ على برذون له فاره، فقال له: سر. فقال: وكيف أسير وأنت على برذون إن ضربته طار وإن تركته سار، وأنا على برذون إن ضربته قطف، وإن تركته وقف. فدعا له ببرذزن وحمله عليه.
قال عبيد الله بن زياد لمسلم بن عقيل: لأقتلنك قتلة تتحدث بها العرب. فقال: أشهد أنك لا تدع سوء القتلة ولؤم المقدرة لأحد أولى بها منك.
قال مالك بن طوق للعتابي: سألت فلاناً حاجة، فرأيتك قليلاً في كلامك. فقال: كيف لا اقل في كلامي، ومعي حيرة الطلب وذل المسألة، وخوف الرد.؟ جلس معن بن زائدة يوماً يقسم سلاحاً في جيشه، فدفع إلى رجل سيفاً رديئاً، فقال: اصلح الله الأمير، أعطني غيره. قال: خذه فإنه مأمور. فقال: فإنه مما أمر به ألا يقطع شيئاً أبداً! فضحك معن وأعطاه غيره.
قال بنو تميم لسلامة بن جندل: مجدنا بشعرك. قال: افعلوا حتى أقول.
أتى هشام برجل رمي بجناية، فأقبل يحتج عن نفسه، فقال هشام: أو تتكلم أيضاً؟ فقال الرجل: إن الله تعالى يقول: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " أفتجادل الله جدالاً ولا نكلمك كلاماً؟ قال: تكلم بما أحببت.
قال المأمون لابن الأكشف - وكان كثير الركوب للبحر - ما أعجب ما رأيت في البحر؟ قال: سلامتي منه.
قيل لسعيد بن المسيب لما نزل الماء في عينيه: اقدحهما حتى تبصر. فقال: إلى من؟.
قال المنصور لرجل: ما مالك؟ قال: ما يكف وجهي، ويعجز عن الصديق. قال له: لطفت في المسألة.
قال المدائني: ورد على المنصور كتاب من مولى له بالبصرة أن سالماً ضربه بالسياط، فاستشاط غضباً وقال: أعليّ يجترئ سالم؟ والله لأجعلنه نكالاً يتعظ به غيره. فأطرق جلساؤه جميعاً، فرفع ابن عياش رأسه، وكان أجرأهم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأينا من غضبك على سالم ما شغل قلوبنا، وإن سالماً لم يضرب مولاك بقوته ولا قوة أبيه، ولكنك فقلدته سيفك، وأصعدته منبرك، فأراد مولاك أن يطامن منه ما رفعت، ويفسد ما صنعت، فلم يحتمل له ذلك. يا أمير المؤمنين، إن غضب العربي في رأسه، فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسان أو يد، وإن غضب النبطي في استه، فإذا خري ذهب عنه غضبه. فضحك المنصور، وكف عن سالم.
رأى رجل رجلاً من ولد معاوية على بعير له، فقال: هذا ما كنتم فيه من الدنيا. فقال: رحمك الله، ما فقدنا إلا الفضول.
دخل أبو بكر الهجري على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نفض فمي وأنت أهل بيت بركة، فلو أذنت لي فقبلت رأسك لعل الله يشدد لي منه. فقال أبو جعفر المنصور: اخترمنها ومن الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين، أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألا يبقى في فمي حاكة.
قيل للشعبي: أكان الحجاج مؤمناً؟ قال: نعم بالطاغوت.
كتب الحسن بن زيد إلى صاحب الزنج بالبصرة: عرفني نسبك. فأجابه: ليغنك من شأني ما عناني من أمرك.
كتب صاحب البصرة إلى يعقوب بن الليث الصفار يستدعيه إلى مبايعته، فقال لكاتبه: أجب عن كتابه. فقال: بماذا؟ قال: اكتب " قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون.. " السورة.
قيل لأبي الهذيل: إن قوماً يلعنونك. قال: أرأيت إن أنا تبعتهم هل يلعنني قوم آخرون؟ قال: نعم. قال: فأراني لا أتخلص من لعن طائفة، فدعني مع الحق وأهله.
قال سعيد بن المسيب لعبد الملك - وقد خطب الناس فأبكاهم - يا أمير المؤمنين، لئن أبكاهم قولك لما أرضاهم فعلك.
وقيل للأعمش: أنت تكثر الشك. قال: تلك محاماة عن اليقين.
لما ولى أبو جعفر المنصور سليمان بن راشد الموصل، ضم إليه ألف رجل من أهل خراسان وقال: قد ضممت إليك ألف شيطان. فلما دخل الموصل عاثوا، وبلغ الخبر المنصور فكتب إليه: يا سليمان، كفرت بالنعمة. فكتب في جوابه: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " .
قال معاوية لعمرو بن العاص: ما بلغ من دهائك؟ قال: لم أدخل في أمر قط إلا خرجت منه. قال معاوية: لكنني لم أدخل قط في أمر أردت الخروج منه.
قال الواثق لابن أبي دؤاد: كان عندي الساعة الزيات، فذكرك بكل قبيح. فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب عليّ، ونزّهني عن قول الحق فيه.
قال المتوكل للفتح بن خاقان، وقد خرج وصيف الخادم المعروف بالصغير في أحسن زي: أتحبه؟ قال: إني لأحب من تحب، وأحب من يحبك، لا سيما مثل هذا.
قال المأمون لثمامة: ارتفع. قال: يا أمير المؤمنين، لم يف شكري بموضعي هذا، وأنا أبعد عنك بالإعظام لك، وأقرب منك شحاً عليك.
خلع الرشيد على يزيد بن مزيد - وكان في مجلسه رجل من أهل اليمن - فقال ليزيد: اجرر ما لم يعرق فيه جبينك. قال: صدقت. عليكم نسجه، وعلينا سحبه.
قال سهل بن هارون: أدخل على الفضل بن سهل، ملك التبت وهو أسير، فقال: أما ترى الله قد أمكن منك بغير عهد ولا عقد، فما شكرك إن صفحت عنك، ووهبت لك نفسك؟ قال: أجعل النفس التي أبقيتها بذلة لك متى أردتها. قال الفضل: شكر والله. وكلم المأمون فيه فصفح عنه.
لما أخذ عبد الحميد الربعي، وأتي به إلى المنصور، ومثل بين يديه قال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال المنصور: إني لست أقتل أحداً من آل قحطبة، أهب سيئهم لمحسنهم. قال: يا أمير المؤمنين: إن لم يكن فيّ مصطنع فلا حاجة بي إلى الحياة، ولست أرضى أن أكون طليق شفيع وعتيق ابن عم.
قال الرشيد للجهجاه: أزنديق أنت؟ قال: وكيف أكون زنديقاً وقد قرأت القرآن، وفرضت الفرائض، وفرقت بين الحجة والشبهة؟ قال: تالله لأضربنك حتى تقر. قال: هذا خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أمرنا أن نضرب الناس حتى يقروا بالإيمان، وأنت تضربني حتى أقر بالكفر.
قال عمر لعمرو بن معد يكرب: أخبرني عن السلاح. فقال: سل عما شئت منه. قال: الرمح. قال: أخوك وربما خانك. قال: النبل. قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: الترس. قال: ذاك المجنّ، وعليه تدور الدوائر. قال: الدرع. قال: مشغلة للراجل متعبة للفارس، وإنها لحصن حصين. قال: السيف. قال: ثم قارعتك أمك عن الهبل. قال: بل أمك. قال: الحمّى أضرعتني لك.
قال عمر بن عبد العزيز لعبد الله بن مخزوم: إني أخاف الله فيما تقلدت. قال: لست أخاف عليك أن تخاف، إنما أخاف ألا تخاف. قيل لرجل من بني هاشم: من سيدكم؟ قال: كلنا سيد غيرنا، ومكان سيدنا لا يجهل.
شاور المنصور سلم بن قتيبة في أمر أبي مسلم، فقال: إني مطلعك على أمر لم افض به إلى غيرك، ولا أفضي به، فصحح رأيك، واجمع لفظك، وأظهر نصحك، واستره حتى أظهره أنا قد عزمت على قتل عبد الرحمن، فما ترى؟ قال سلم: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ونهض.
ويروى عنه الأصمعي أنه قال: هجم عليّ شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم بها هرباً من حر مكة. فلقيني أعرابي فقلت: أين تريد؟ قال: أريد هذا البلد المبارك؛ لأصوم فيه هذا الشهر المبارك. قلت: أما تخاف من الحر؟! قال: من الحر أفر.
وقال رجل للربيع بن خثيم وقد صلى ليلة حتى أصبح: أتعبت نفسك. فقال: راحتها أطلب؛ إن أفره العبيد أكيسهم.
نظر رجل إلى روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب واقفاً بباب المنصور في الشمس، فقال: قد طال وقوفك في الشمس. فقال روح: ليطول وقوفي في الظل.
هاجى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عبد الرحمن بن الحكم بن العاص، وتقاذفا. فكتب معاوية إلى مروان أن يؤدبهما، فضرب عبد الرحمن بن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لعبد الرحمن قد أمكنك في مروان ما تريد،فأشد بذكره وارفعه إلى معاوية. فقال: إذاً والله لا أفعل، وقد حدني كما يحد الرجل الحر، وجعل أخاه كنصف عبد! فأوجعه بهذا القول.
قال رجل لرجل سبه فلم يلتفت إليه: إياك أعني. فقال: وعنك أعرض.
قال عمر لزياد لما عزله: كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. قال: فاحمل عنها من نفسك، فأنت أعقل.
قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي: أفرطت في وفائك لبني أمية. فقال: من وفى لمن لا يرجى، كان لمن يرجى أوفى. قال: صدقت.
مازح عبيد الله بن زياد حارثة بن بدر، فقال له: أنت شريف لو كانت أمهاتك مثل آبائك. فقال: إن أحق الناس بألا يذكر الأمهات هو الأمير. فقال عبيد الله: استرها عليّ، ولك عشرة آلاف درهم.
يقال: إن المكي دخل على المأمون، وكان مفرط القبح والدمامة، فضحك المعتصم، فقال المكي: مم يضحك هذا؟ فوالله ما اصطفي يوسف لجماله، وإنما اصطفي لبيانه. وقد نص الله على ذلك بقوله: " فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " وبياني أحسن من وجه هذا.
قال معاوية لرجل من السمن: ما كان أبين حمق قومك حين ملّكوا امرأة. فقال: كان قومك أشد حماقة إذ قالوا: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " هلاّ قالوا: فاهدنا له وبه! قال زياد لأبي الأسود: لو أدركناك وفيك بقية. قال: أيها الأمير، إن كنت تريد رأيي وعزمي فذاك عندي، وإن كنت تريدني للصراع فلا أصلح لذلك.
قال الأصمعي: دخل درست بن رباط الفقيمي على بلال بن أبي بردة في الحبس، فعلم بلال أنه شامت، فقال: ما يسرني بنصيبي من الكره حمر النعم. فقال درست: فقد أكثر الله لك منه.
أدخل مالك بن أسماء سجن الكوفة، فجلس إلى رجل من بني مرة، فاتكأ على المرّيّ يحدثه، وأكثر من ذكر نعمه، ثم قال: أتدري كم قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: أما في الجاهلية فلا، ولكن أعرف من قتلتم منا في الإسلام. قال: من؟ قال: أنا. قتلتني غمّاً.
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، فلما رآه - وكان دميماً - قال: على رجل أجرّك رسنه وسلطك على المسلمين لعنه الله. قال: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل لا استعظمت من أمري ما استصغرت.
قال له سليمان: أترى الحجاج بلغ قعر جهنم؟ قال: يا أمير المؤمنين، يجئ الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك، قابضاً على يمين أبيك وشمال أخيك، فضعه من النار حيث شئت.
طاف رجل من بني تغلب بالبيت، وكان وسيماً طويلاً جميلاً، فبصر به رجل من قريش كان حسوداً، فسأل عنه، فأخبر أنه رجل من بني تغلب، فلما حاذاه، قال القرشي يسمعه: إنهما لرجلان قلما وطئتا البطحاء، فالتفت إليه التغلبي فقال: يا هذا البطحاوات ثلاث؛ فبطحاء الجزيرة إلى التغلبي دونك، وبطحاء ذي قار أنا أحق بها منك، وهذه البطحاء، سواء العاكف فيه والباد. قال: فتحير الرجل، فما أفاض بكلمة.
حدث أن أبا الجهم العدوي وفد على معاوية، فبينا هو يوماً من الأيام يأكل معه إذ قال له معاوية: اينا أسن يا أبا الجهم، أنا أو أنت؟ قال: كيف تسألني في هذا، وقد أكلت في عرس لأمك قبل تزويجها بأبيك أبي سفيان؟ قال: أيهم هو؟ فإنها كانت تستكرم الأزواج. قال: حفص ابن المغيرة. قال: ذاك سلالة قريش، ولكن احذر السلطان يا أبا الجهم، يغضب غضب الصبي، ويثب وثوب الأسد. قال: فقال أبو الجهم: إيهاً أراحنا الله منك يا معاوية. قال: فإلى من! إلى زهرة؟ فوالله ما عندهم فصل ولا فضل، أم إلى بني هاشم؟ فوالله ما يرونكم إلا عبيداً لهم. ثم أمر له بمائة ألف درهم. قال: فأخذها متسخطاً، وقال: رجل يأتي غير بلاده، ويعمل بغير رأي قومه فماذا يصنع؟ ثم وفد على يزيد وشكا إليه ديناً كان عليه، فقال له يزيد: تلزمنا، مع قرابتك قربة، ومع حقك حقوق، فاعذرنا. وأمر له بخمسين ألف درهم. قال: فقال ابن كليبة فماذا؟ ثم دعاه عبد الله بن الزبير إلى نفسه، فوفد إليه أبو الجهم وشكا إليه ديناً، ووصف له كثرة مئونته، فأمر له بألف درهم. فقال أبو الجهم: أحسن الله إمتاع قريش بك، وأحسن عنّي جزاءك. ودعا له دعاء كثيراً.
فقال له عبد الله: يا أبا الجهم؛ أعطاك معاوية مائة ألف درهم فسببته، وأعطاك يزيد خمسين ألفاً فشتمته، وأعطيتك ألف درهم فدعوت لي وشكرت. قال: نعم فديتك، إذا كانت قريش تنقص هذا النقصان فليس يجئ بعدك إلا خنزيراً.
قال بعضهم: دخلت دار المعتصم فرأيت إبراهيم بن المهدي جالساً في بعض نواحي الدار، وإلى جانبه العباس بن المأمون. قال: فالتفت العباس إلى إبراهيم وقد رأى في يده خاتماً فصه ياقوت أحمر عجيب. فقال له: يا عن، خاتمك هذا؟ قال: نعم، هذا الخاتم الذي رهنته في خلافة أبيك، وافتككته في خلافة أمير المؤمنين أعزه الله. فقال العباس: أنت إن لم تشكر أبي على حقنه دمك، لم تشكر عمي على افتكاك خاتمك.
قالت ابنة النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع: كيف تسود أنت من جذام، وأنت جبان، وأنت غيور؟ قال: أما جذام فإني في أرومتها، وحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه. وأما الجبن فإنما لي نفس واحدة وأنا أحوطها، وأما الغيرة فأمر لا أحب أن أشارك فيه، وإن الحر لحقيق بالغيرة إذا كانت في بيته ورهاء مثلك.
قال الحجاج لرجل من ولد عبد الله بن مسعود: لم قرأ أبوك " تسع وتسعون نعجة. أنثى " ألا يعلم الناس أن النعجة أنثى؟ قال: فقد قرأت أنت مثله " ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة " . ألا يعلم الناس أن ثلاثة وسبعة عشرة؟ فما أحار الحجاج جواباً.
قال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: يا عدي، متى ذهبت عينك؟ قال: يوم قتل أبوك وضربت على قفاك مولّياً، وأنا يومئذ على الحق، وأنت على الباطل.
وجّه معاوية رجلاً إلى ملك الروم ومعه كتاب، تصديره: إلى طاغية الروم. فقال ملك الروم للرجل: مالذي الفخر بالرسالة، والمتسمى بخلافه النبوة والسفه ما أظنكم وليتم هذا الأمر إلا بعد إعذار، ولو شئت كتبت: من ملك الروم إلى غاصب أهل بيت نبيه، والعامل بما يكفره عليه كتابه، ولكني أتجالل عن ذلك.
قال معاوية يوماً: الأرض لله، وأنا خليفته. ما أخذت فلي حلال، وما تركت للناس فلي عليهم فيه منة. فقال صعصعة: ما أنت وأقصى الأمة فيه إلا سواء، ولكن من ملك استأثر، فغضب معاوية وقال: لقد هممت... قال صعصعة: ما كل من هم فعل. قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.
طلب الحسن بن سهل رجلاً من أهل الأدب يؤدب ولده. فجاءوه بمعاوية بن القاسم الأعمى، فقال له: ما اسمك؟ قال: أكنى أبا القاسم، ولضرورة تكنيت؛ فقيل له : اسمه معاوية؛ فاستظرفه وأمره بلزوم داره.
فرض عبد الله بن عامر لجماعة من بني وائل في شرف العطاء، وأمر لهم بجوائز، فقام رجل منهم، فقال: أيها الأمير، أرأيت ما أمرت لنا به، أخصصتنا به أم تعم به أهل مصرنا؟ قال: لا، بل خصصتكم به. قال: ولم؟ قال: لما بلغني من فضلكم. قال: إذاً لا نأخذ ثوابه منك.
قال بعضهم: رأيت يحيى بن عبد الله بن الحسن قد أقبل على عمران بن فروة الجعفري، فقال: يا أبا شهاب، ما تفعلون بالمولى فيكم؟ قال: ثلاثاً. قال: ما هن؟ قال: لا يمسح لحيته، ولا يكتني بأبي فلان، ولا يشد حبوته وسط القوم، فقال له نعيم بن عثمان: هذا لجفائكم وبعدكم من الله. فقال له: لو كنت والله يا أبا معاوية هناك ما ساروا فيك إلا بسيرتهم في أخيك.
خاصم رجل رجلاً إلى سوار، فجعل أحدهما يدخل في حجة صاحبه، وينهاه سوّار فلا ينتهي. فقال له: ألا تسكت عن خصمك يا ابن اللخناء. فقال له الرجل: لا والله، ما لك أن تسبني وتذكر أمي. فقال له: ليس هذا بشيء. اللخن قد يكون في السقاء. قال الرجل: فإن لم يكن فيه شيء فأشهدك أن خصمي ابن اللخناء.
أرسل أبو جعفر المنصور إلى أصحابه: لا جزاكم الله خيراً، أبق غلامي فلم تطلبوه، ولم تعلموني بهربه. ولا أعلمتموني قبل هربه أنكم تخافون ذلك منه. وأراد أن يستنطقهم، فقال لهم ابن عياش المنتوف: وكلوني بجوابه. فقالوا له: أنت وذاك. فقال للرسول: أتبلغه كما أبلغتنا؟ قال: نعم. قال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وقل له: إنك اخترتنا من عشائرنا وبلداننا، فظننا أنك أردتنا لأن نكون جلساءك، والمجيبين للوفد إذا قدموا عليك، والخارجين لرتق الفتق إذا انفتق عليك، فأما إذ أردتنا لمن يأبق من غلمانك فيربع غلامك يريد أن يأبق فاستوثق منه.
حج عبد الملك، ثم شخص إلى الطائف فدخلها، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يسايره، فاعترض له رجل من ولد أم الحكم من ثقيف، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة وحقاً، وجواراً وخلقاً، ونحن من إحدى القريتين اللتين ذكرهما الله في كتابه، والله لقد جاء الإسلام وإن في ثقيف من قريش تسعين امرأة. قال: فتكاثر 1لك عبد الملك وقال: أكذلك يا أبا بكر؟ فقال: صدق يا أمير المؤمنين، ولكن والله لا تجد فيهم امرأة من ولد المغيرة. فقال الثقفي: صدق يا أمير المؤمنين، إنا والله نعرف قومنا، ونعتام في مناكحنا، ونأتي الأودية من صدورها ولا نأتيها من أذنابها. والله ما أعطيتنا شيئاً إلا أخذنا مثله، ولا مشينا حزناً إلا أسهلنا الهويني، فقال عبد الملك: قاتله الله ما أسبه!.
شكا رجل إلى الشبلي كثرة العيال، فقال: ارجع إلى بيتك ومن لم يكن منهم رزقه على الله فأخرجه من دارك.
باب آخر من الجوابات المسكتة
ما يجري مجرى الهزل
تعرّت الحضرمية يوماُ وزوجها ينظر إليها، فقالت: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فأشار إلى ركبها وقال: أرى هاهنا شيئاً من فطور.ضرط ابن لعبد الملك صغير في حجره فقال له: قم إلى الكنيف. قال له: أنا فيه يا أبانا.
قال معاوية لعقيل: إن فيكم شبقاً يا بني هاشم. قال: هو منا في الرجال ومنكم في النساء.
قال بعضهم لآخر: يا خائن. فقال: تقول لي ذلك وقد ائتمنك الله على مقدار درهم من جسدك فلم تؤد الأمانة فيه.
دخل إبراهيم الحراني الحمام، فرأى رجلاً عظيم الذكر، فقال: يا فتى، متاع البغل! قال: لا، بل نحملك عليه. فلما خرج أرسل إليه بصلة وكسوة وقال لرسوله: قل له اكتم هذا الحديث فإنه كان مزاحاً، فرده وقال: لو قبلت حملاننا لقبلنا صلتك.
قيل لرجل قدم من الحج: كيف خلفت سعر النعال بمكة. تعريضاً له بالهدية، فقال: الفلعة بحمل ونبيجة فاكهة.
شتم عيسى بن فرخانشاه رجلاً نصرانياً، فقال: يا ابن الزانية. فقال له: أنت مسلم ولا اقدر على شتمك، ولكن أخوك يحيى بن فرخانشاه هو ابن الزانية.
قال الفرزدق لزياد الأعجم: يا أقلف. فقال زياد: يا ابن النمامة أمك أخبرتك بهذا.
قال رجل لأبي الأسود: كأن وجهك فقاح مجتمعة. قال: فهل ترى فقحة أمك فيها؟.
قال العطوي: قلت لجارية: اشتهي أن أقبلك. قالت: ولم؟ قلت: لأنك زانية. قالت: وكل زانية تقبلها؟ قلت: نعم. قالت: فابدأ بمن تعول.
قال غلام ثمامة لثمامة: قم صل واسترح. قال: أنا مستريح إن تركتني.
اشترى علي بن الجعد جارية بثلاثمائة دينار، فقال له ابن قادم النحوي: أي شيء تصنع بهذه الجارية؟ فقال: لو كان هذا شيئاً يجرب على الإخوان لجربناه عليك.
أشرف رجل على أبي الأسود وهو مختضب عريان بين رجليه خرقة، فقال: يا أبا السود، ليت أيري في سرتك. قال: أفتدري أين تكون فقحتك؟ فخجل الرجل وانصرف.
قال بعض الرؤساء لبعض الخلفاء: أنا اشتهي أن أرى النساء كيف يتساحقن. قال: ادخل دارك قليلاً قليلاً.
وقال آخر لبعض المجان: ما الدنيا إلا المجوس، يدخل الأب ف...ك، ويدخل الإبن ف...ك، فقال له: اسكت، لا يسمع ذاك أهل دارك فيرتدوا.
سمع بعضهم رجلاً يقول: أبي كان لا يدخل سكة إلا قام الناس له. فقال: نعم، صدقت، لأنه كان يتقدمه حمل شوك.
نظر أبو الشمقمق إلى رجل يمازح غلاماً قد التحى، فقال: ما هذا؟ قال: نأكل التمر لأنه كان رطباً. قال: فكل الخرى لأنه كان جوذاباً.
كان حماد الراوية يتهم بالزندقة وكان يصحب ابن بيض، فدخلا يوماً على والي الكوفة، فقال لابن بيض: قد صالحت حماداً؟ قال: نعم أيها الأمير، على ألا آمره بالصلاة، ولا ينهاني عنها.
وكان من حمقاء قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك، وكان وضيئاً. قال يوماً لعن الله الوليد أخي، فإنه كان فاجراً، والله لقد راودني عن نفسي. فقال له قائل: اسكت. فوالله إن كان همّ لقد فعل.
أنشد حضري أعرابياً شعراً لنفسه، وقال: تراني مطبوعا؟ قال: نعم على قلبك.
قال أبو عثمان: رأيت رجلاً من المنافقين كان أراد أن يكون على جبهته سجادة فوضع عليها ثوماً وشده، فلما نام انقلبت السجادة، وصارت على الجانب الأيمن، فسألته عن ذلك، فقال: ومن الناس من يعبد الله على حرف.
اعترض عمرو بن الليث فارساً من جيشه، فكانت دابته بغاية الهزال. فقال له: يا هذا، تأخذ مالي تنفقه على امرأتك وتسمنها، وتهزل دابتك التي عليها تحارب، وبها تأخذ الرزق، امض لشأنك فليس لك عندي شيء. فقال الجندي: أيها الأمير، لو استعرضت امرأتي لاستسمنت دابتي. فضحك عمرو، وأمر بإعطائه رزقه.
قيل للنتيف الأصبهاني: لم تنتف لحيتك؟ فقال: وأنت فلم لا تنتفها؟ رأى ابن مكرم منجماً عند أبي العيناء، فقال: ما يصنع هذا؟ قال: يعمل مولد ابني. قال فسله أولاً هل هو ابنك أم لا؟.
سأل رجل آخر عن درب الحمير، قال: ادخل أي درب شئت.
قال أبو بكر المقرئ: رأيت امرأة منكشفة بباب المسجد، فقلت لها: أما تستحيين؟ قالت: ممن؟ استعار رجل من آخر حماراً فأخرج إليه إكافاً وقال: اجعله على من شئت.
تزوج رجل بامرأة قد مات عنها خمسة أزواج، فمرض السادس، فقالت: إلى من تكلني؟ فقال: إلى السابع الشقي.
ومات زوج امرأة فراسلها في ذلك اليوم رجل يخطبها، فقالت: لو لم يسبقك غيرك لفعلت. فقال الرجل: قد قلت لك إذا مات الثاني فلا تفوتيني.
كان ليهودي غلام فبعثه يوماً ليحمل ناراً يطبخ بها قدراً، فأبطأ عليه ثم عاد بعد مدة وليس معه نار، فقال: أين النار؟ قال: يا سيدي. قد جئتك بأحر من النار، هذا صاحب الجوالي بالباب يطالب بالجزية.
غنّت قينة عند بعض الرؤساء فطرب وشق ثوبه، وقال لغلامه: شق ثوبك. فقال: كيف أعمل وليس لي غيره؟ قال: أنا أكسوك غداً. فقال: وأنا أشقه غداً.
أدخل رجل بغلة إلى سوق الدواب يبيعها فلقيه رجل فقال: بكم البغلة؟. قال بخمسمائة درهم. قال: لا بأربعمائة. قال صاحبها: زدني شيئاً آخر. قال: أزيدك أ..ر حمار، فقال: اقعد أنت على سومك، فإن زادنا غيرك وإلا أنت أحق به.
كان عفان بن مسلم يروي الحديث، فقال بعض من حضره: إن رأيت أن تزيد في صوتك فإن في سمعي ثقلاً. قال: الثقل في كل شيء منك.
قال زيادي لرجل: يا ابن الزانية. قال: أتسبني بشيء شرفت به؟.
قال أبو موسى ابن المتوكل لرجل: لم انقطعت عنا؟. فقال: بيتك حر، ما خرج منه أحد فعاد إليه.
قال النخعي: ما رأيت أسرع جواباً من نصراني رأيته بالرقة. فإني دخلت عليه في الحمام، وهو يصب عليه ماء فأطال ومنعني الدنو من الحوض، فقلت وقد دخلني الغيظ: تنح ويلك فإنك بغيض. فترك ما كان فيه وقال لي: قد فعلت، ولكن لا تفارقني حتى تقول لي من أين حكمت عليّ بأني بغيض! قال فقلت: لأنك جعلت مع الله عز وجل شريكاً. فقال لي: أسرع من اللحظ: لا والله ما جعلت معه شريكاً، فإن كنت فعلت، فخذ كتابي إليه بالانصراف الساعة. فأخجلني.
قيل لبعضهم: زوجت أمك؟ فقال: نعم، حلالاً طيباً. فقال: أما حلال فنعم، وأما طيب فلا.
قالت امرأة لرائض دواب: بئس الكسب كسبك، إنما كسبك باستك. فقال: ليس بين ما أكتسب به وبين ما تكتسبين به إلا إصبعان.
قالت امرأة لزوجها: يا مفلس يا قرنان. قال: إن كنت صادقة فواحدة منك وواحدة من الله.
قيل لبعض الظرفاء من أهل العلم: أتكره السماع؟ قال: نعم، إذا لم يكن معه شرب.
كتب العباس بن المأمون، في رقعة: أي دواة لم يلقها قلمه؟ وألقاها بين يدي يحيى بن أكثم، فقرأها ووقع فيها: دواتك ودواة أبيك. فأقرأها العباس أباه المأمون، فقال: صدق يا بني، ولو قال غير هذا لكانت الفضيحة.
كان ليعضهم ابن دميم فخطب له إلى قوم، فقال الابن لأبيه يوماً: بلغني أن العروس عوراء، فقال الأب: يا بني، بودي أنها عمياء حتى لا ترى سماجة وجهك.
سمع رجل به وجع الضرس آخر ينشد:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
فقال: والله لو ابتلاك بوجع الضرس لم تفزع لهذا.
اعتلت امرأة ابن مضاء الرازي، فجعلت تقول له: ويلك، كيف تعمل أنت إن مت أنا؟ وابن مضاء الرازي يقول: ويلك، أنا إن لم تموتي كيف أعمل؟.
قال عبادة يوماً لأبي حرملة المزين: خذ ذقني. قال: يا مخنث، أضع يدي على وجهك وأنا أضعها على وجه أمير المؤمنين! فقال له: يا حجام أنت تضعها على باب أستك كل يوم خمس مرات لا يجوز أن تضعها على وجهي؟!.
قيل لبعضهم: غلامك ساحر. قال: قولوا له يسحر لنفسه قباء وسراويل.
قال ابن مكرم لأبي العيناء: بلغني أنك مأبون. قال: مكذوب عليّ وعليك.
نظر رئيس إلى أبي هفان وهو يسارّ آخر، فقال: فيم تكذبان؟ قال: في مدحك.
وقيل لبعض ولد أبي لهب: العن معاوية. فقال: ما أشغلني: " تبت " .
كان لخازم بن خزيمة كاتب ظريف أديب وكان يتنادر عليه، فقام يوماً من بين يديه، فقال له ابن خزيمة: إلى أين يا هامان؟ فقال: أبني لك صرحاً.
قيل لرجل كانت امرأته تشارّه: أما أحد يصلح بينكما؟ قال: لا، قد مات الذي كان يصلح بيننا. يعني ذكره.
قال بعضهم لصاحب له: متى عهدك بالن..ك؟ قال: سل أمك فقد نسيت.
كان رجل يكثر الحلف بالطلاق، فعوتي في ذلك، فقال: أحضروها فإن كانت تصلح لغير الطلاق فاقتلوني.
قيل لبعضهم وهو مقنع: إن لقمان قال: إن القناع مذلة بالنهار معجزة بالليل. فقال: إن لقمان لم يكن عليه دين.
حمل إلى معاوية مال من العراق، وعلى رأسه خصيّ يذب عنه، فقال: يا سيدي، من لي بكف منه؟ فقال: ويحك، وما تصنع به؟ إنك إن مت وتركته كويت به يوم القيامة. فقال: يا مولاي إن كان هذا حقاً فإن جلدك لا يشترى يوم القيامة بفلس.
وقف رجل مفرط الطول على بعض العيارين وهو يبيه الرمان، فقال: هذا رمان صغير. فقال له صاحب الرمان: لو نظرت أنا إليه حيث تنظر إليه أنت ما كان في عيني إلا عفصاً.
قالت امرأة عقيل له: والله لا يجمع رأسي ورأسك وساد أبداً. فقال عقيل: لكن أستاهنا تجتمع.
قال بعضهم: كنت نائماً على سطح لي، فسمعت في بعض الليل كلام امرأة من وراء الحائط تقول لزوجها: أنا عريانة بجنبك، وأنت تجلد عميرة! فقال لها: يا ويلك، إذا كان عميرة أفره منك كيف أعمل؟ قال الوليد بن يزيد لبديح: خذ بنا في التمني فوالله لأغلبنك. قال: والله لا تغلبني أبدا! قال: بلى والله ما تتمنى شيئاً إلا تمنيت ضعفيه. قال بديح: فإني أتمنى كفلين من العذاب، وأن الله يلعنني لعناً كبيراً، فخذ ضعفي ذلك. قال: غلبتني لعنك الله.
كانت رقية بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان، وأمها فاطمة بنت الحسين عند هشام، وكان يحبها وتبغضه، فاعتلت فجلس عند رأسها، فقال: ما تشتكين؟ قالت: بغضك. فسكت عنها ساعة، ثم قال لها: ما تشتهين؟ قالت: فقدك.
كان بالبصرة رجل طبيب يقال له: حوصلة، وكان له جار يعشق ابناً له، فوجّه حوصلة بابنه إلى بغداد في حاجة له، ولم يعلم جاره بذلك، فجاء ليلة يطلبه، فصاح بالباب: أعطونا ناراً. فقال حوصلة: المقدحة ببغداد.
شكا رجل جاريته إلى إبراهيم الحراني - وكان قبيحاً دميماً - فقال له إبراهيم: هل رأيت وجهك في المرآة؟ قال: نعم. قال: أفرضيته لنفسك؟ قال: لا. قال: فكيف تلومها على كراهية ما تكرهه لنفسك.
كان رجل دميم قبيح الخلقة قد رزق ابنين مليحين، فدخل يوماً إلى بعض الأمراء وهما معه، فقال له: يا أبا فلان والدتهما حرة أم أمة؟ فقال: أيها الأمير أفي الدنيا حرة تمكن نفسها من مثلي؟!.
سمع رجل بعض الحمقى يقول: اللهم لا تأخذنا على غفلة، فقال: إذاً لا يأخذك أبدا.
قال غلام لأبيه: يا أبه. أخبرني مستملي أبي خيثمة: أن أبا خيثمة يستثقلني، فقال: يا بني، فأنت ثقيل بإسناد.
كتب رجل إلى صديق له: وجه غليّ بدستيجة نبيذ، وغط رأسك من الحر، وسر إلينا، فقال في الجواب: ولم لا أكشف رأسي في بيتي، واشرب الدستيجة وحدي؟.
قال بعض البصريين: كنا عند رجل ومعنا رجل من آل أبي معيط، وأبو صفوان حاضر، فأتيا بفالوذجة حارة، فكاع القوم عنها لحرارتها، وأهوى إليها المعيطي، وجعل يأكل، فقال أبو صفوان: انظروا إلى صبر آل أبي معيط على النار.
اتخذ ابن أخ لإبراهيم بن العباس منجماً وطبيباً، فقال له إبراهيم: والله ما أعرف لك في السماء نجماً ولا في الأرض طبعاً، فما تصنع بالطبيب والمنجم.
دخل بعض الولاة والمتغلبين إلى بلد واستتر منه الوالي قبله، فطلبه، وأخذ أصحابه وطالبهم بالدلالة عليه إلى أن أخذ وكيلاً له، فألح عليه إلحاحاً شديداً، فلما علم ذلك ووقف عليه لم يلبث أن خرج الأول من الاستتار، ووجد أعواناً فقبض على الآخر وحبسه، وانتقل هو إلى دار الإمارة، فجاء هذا الوكيل إلى الحبس، ودخل على المحبوس، وقال: كنت قد حلفتني أن أدلك على موضع الأمير إذا عرفته، وقد عرفت ذلك، وهو في دار الإمارة في الإيوان، فخذه إن أردت أخذه.
مدح رجل رجلاً عند الفضل بن الربيع، فقال له الفضل: يا عدو الله؛ ألم تذكره عندي بكل قبيح؟! قال: ذاك في السر. جعلت فداك.
تزوج أعمى امرأة قبيحة، فقالت: رزقت أحسن الناس وأنت لا تدري! فقال: يا بظراء، فأين كان البصراء عنك؟!.
قال رجل لآخر أصلع: إن صلعتك هذه لمن نتن دماغك، فقال: لو كان كذلك ما كان على حرأمك طاقة شعر.
دخل أبو العيناء إلى ابن مكرم، فقال له: كيف أنت؟ قال أبو العيناء: كما تحب؟ قال: فلم أنت مطلق؟.
أهدى رجل إلى إسماعيل الأعرج فالوذجة زنخة، وكتب معها: إني اخترت لعملها جيّد السكر السوسي، والعسل الماذي، والزعفران الأصبهاني، فأجابه: برئت من الله إن لم تكن عملت هذه الفالوذجة قبل أن تمصر أصبهان، وقبل أن تفتح سوس، وقبل أن أوحى الله إلى النحل.
قيل للنتيف الأصبهاني: ما بقي معك من آلة الجماع؟ قال: البزاق.
قيل للجاحظ: لم هربت في نكبة ابن الزيات؟ قال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور.
رمى المتوكل عصفوراً بالبندق فلم يصبه، فقال ابن حمدون: أحسنت يا سيدي، فقال: هو ذا تهزأ بي، كيف أحسنت؟ قال: إلى العصفور.
كان بعض الكتاب يكتب كتاباً وإلى جنبه رجل يتطلع في كتابه، فلما شق عليه ذلك كتب في كتابه: ولولا ابن زانية أخو قحبة كان يتطلع في كتابي لأطلته وشرحت فيه جميع ما في نفسي، فقال الرجل: يا سيدي والله ما كنت أتطلع في كتابك، فقال: يا بغيض، فمن أين قرأت هذا الذي كتبته؟ قيل لأبي عروة الزبيري: أيسرك أنك قائد؟ فقال: إي والله، ولو قائد عميان.
تجارى قوم في مجلس لهم حديث الكمال في الرجال، ودخول النقصان عليهم للآفات، فقال بعضهم: من كان أعور فهو نصف رجل، ومن لن يحسن السباحة فهو نصف رجل، ومن لم يكن متزوجاً فهو نصف رجل. وكان فيهم أعور، ولم يكن يحسن السباحة ولا متزوجاً، فالتفت إلى ذلك الإنسان وقال له: إن كان عليّ ما تقول فأنا أحتاج إلى نصف رجل حتى أكون لا شيء.
قال بعضهم: مررت بمنجم قد صلب، فقلت له: هل رأيت في نجمك وحكمك هذا؟ قال: كنت رأيت رفعة، ولكن لم اعلم أنها فوق خشبة.
قال بعضهم: نزلت بعض القرى، وخرجت في الليل لحاجة فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرة وفي يده سراج، فلم يزل يمشي حتى أتى النهر، وملأ الجرة وانصرف راجعاً، فقلت له: يا هذا، أنت أعمى، والليل والنهار عليك سواء، فما معنى هذا السراج؟ قال: يا فضولي، حملته معي لأعمى القلب مثلك يستضئ به، فلا يعثر بي في الظلمة فيقع عليّ ويكسر جرتي.
صدم اعور في بعض الأسواق امرأة، فالتفتت إليه وقالت: أعمى الله بصرك، فقال: يا ستي، قد استجاب الله نصف دعائك.
دخل إلى بعض العور رجل من جيرانه - ومعه حمار - فقال: أيها الأستاذ اشتريت هذا الحمار فأحببت أن أتبرك بنظرك إليه فكم يساوي عندك؟ فتأمله، ثم قال: يساوي خمسين درهماً. وكان الرجل قد اشتراه بمائة درهم، فقال: لا إله إلا الله ما أخطأت بفلس، فإني اشتريته بمائة، وأنت رأيت نصفه.
غنت مغنية بصوت فيه " الله يعلم.. " فكررته مراراً، فقال ابن مكرم: أنك بغيضة.
سئل رجل عن سن امرأته - وكانت قديمة الصحبة له - فقال: خذوا عيار رأسها من لحيتي.
قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك - يعني جعفر الصادق عليه السلام - فقال له: لكن إمامك لا يموت إلى يوم الدين. يعني، إبليس.
وناظره مرة في الطلاق، فقال له أبو حنيفة: أنتم معاشر الشيعة لا تقدرون على أن تطلقوا نساءكم، فقال شيطان الطاق: نحن نقدر على أن نطلق على جميع من خالفنا نساءهم. فكيف لا نقدر على ذلك في نسائنا؟ وإن شئت طلقت عليك امرأتك. قال أبو حنيفة: افعل. قال: قد طلقتها بأمرك، فقد قلت لي: افعل.
قال بعض العلوية لأبي العيناء: أتبغضني ولا تصح صلاتك إلا بالصلاة عليّ، إذا قلت: اللهم صل على محمد وآله؟ فقال أبو العيناء: إذا قلت " الطيبين " خرجت منهم.
أتى قوم بعضهم وقالوا: نحب أن تسلف فلاناً ألف درهم، وتؤخره سنة. فقال: هذه حاجتان ولكني سأقضي لكم إحداهما، أما الألف فلا يسهل عليّ، ولكني أؤخره ما شاء الله.
وسأل بعض الخلفاء من لا يستحق الولاية، فقال: ولني يا أمير المؤمنين أرمينية، فقال: يبطئ على أمير المؤمنين خبرك.
كان لبعضهم ابن متحنف، فقال له يوماً: ما أطيب الثكل! فقال الابن: أطيب منه والله يا أبي اليتم.
قال بعض القصاص - وهو يعظ: آه..آه!! فقال بعض المجان: من تحتي؟ فقال القاص: ومعي ثلاثة. يريد: لحمل نعشه.
قال رجل لحميد الطوسي - وكان عاتياً - رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن الله قد دعا بك، وغفر لك، وأدخلك الجنة. فقال: إن كانت رؤياك حقاً فالجور ثم أكثر من هاهنا.
مر الفرزدق وهو راكب بغلة فضربها فضرطت، فضحكت منه امرأة فالتفت إليها وقال: ما يضحكك؟ فوالله ما حملتني أنثى قط إلا ضرطت، فقالت له المرأة: فقد حملتك أمك تسعة أشهر يا ابن الضراطة.
قيل لمفلس: يا مربي. قال: فأل حسن.
الباب الثامن:
من نوادر المتنبئين
ادّعى رجل في زمن المهدي النبوة، فأدخل إليه، فقال له المهدي: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: فإلى من بعثت؟ قال: وتركتموني أذهب إلى من بعثت؟ بعثت بالغداة وحبستموني بالعشي، فضحك المهدي حتى فحص برجله، وأمر له بجائزة وخلى سبيله.
وتنبأ آخر وادعى أنه موسى بن عمران، فأحضره وقال له: من أنت؟ قال: أنا كليم الله موسى. قال: وهذه عصاك التي صارت ثعباناً؟ قال: نعم. قال: فألقها من يدك ومرها أن تصير ثعباناً. قال: قل أنت " أنا ربكم الأعلى " : كما قال فرعون، حتى أصيرها ثعباناً كما فعل موسى. فضحك منه واستظرفه.
وأحضرت المائدة فقيل له: هل أكلت شيئاً؟ فقال: ما أحسن العقل! لو كان لي ما آكله، أي شيء كنت أعمل عندكم؟ فأعجب به الخليفة وأحسن إليه.
وتنبأت امرأة أيام المأمون؛ فأوصلت إليه. فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا فاطمة النبية. فقال المأمون: أتؤمنين بما قال محمد رسول الله؟ قالت: هو نبي حقاً، وقوله حق مقبول. قال: فإن محمداً عليه السلام قال: لا نبي بعدي. قالت: صدق صلوات الله عليه؛ فهل قال: لا نبية بعدي؟ فقال المأمون لمن حضر: أما أنا فقد انقطعت، فمن كانت عنده حجته فليأت بها، وضحك حتى غطى وجهه.
وتنبأ آخر في أيام المأمون فقال: أنا أحمد النبي. فحمل إليه فقال له: أمظلوم أنت فتنصف؟ قال: ظلمت في ضيعتي، فتقدم بإنصافه، ثم قال له: ما تقول في دعواك؟ قال: أنا أحمد النبي فهل تذمه أنت؟.
ادعى رجل النبوة فقيل له: ما علامتك؟ قال أنبئكم بما في أنفسكم. قالوا: فما في أنفسنا؟ قال: أني كذاب، لست بنبي!!.
تنبأ حائك بالكوفة فقيل له: ما رأينا نبياً حائكاً، فقال: هل رأيتم نبياً صيرفياً؟ تنبأ رجل بالبصرة في أيام محمد بن سليمان فأدخل عليه وهو مقيد. فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فمقيد. قال: ويلك، من غرك؟ قال: هكذا يخاطب الأنبياء؟ أما والله لولا أني موثق لأمرت جبريل بأن يدمدمها عليكم. قال: والموثق لا تجاب دعوته؟ قال: الأنبياء إذا قيدت خاصة لا ترتفع دعوتهم؛ فضحك محمد وقال: متى قيدت الأنبياء؟ قال: هو ذا بين يديك واحد. قال: فنحن نطلقك وتأمر جبريل، فإن أطاعك آمنا بك. قال: صدق الله تبارك وتعالى: " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " إن شئت فافعل فأمر بإطلاقه فلما وجد الراحة قال: يت جبريل - ومذ بها صوته - ابعثوا من شئتم، فليس بيني وبينكم عمل، هذا محمد بن سليمان في عشرين ألف مدجج، وله غلة مائة ألف في كل يوم وأنا وحدي، ما أملك درهماً واحداً، ما يذهب لكم في حاجة إلا كشخان فضحك منه وخلاه.
تنبأ رجل في أيام المأمون، فقال له: من أنت؟ قال: نبي. قال: فما معجزتك؟ قال: ما شئت. قال: فأخرج لي من الأرض بطيخة. قال: أمهلني ثلاثة أيام. قال المأمون: الساعة أريدها. قال: يا أمير المؤمنين، أنصفني. أنت تعلم أن الله ينبتها في ثلاثة أشهر، فلا تقبلها مني في ثلاثة أيام؟! فضحك المأمون وعلم أنه محتال واستتابه ووصله.
وتنبأ آخر في أيامه، فطالبوه بمعجزته، فقال: أطرح لكم حصاة في الماء فأذيبها حتى تصير مع الماء شيئاً واحداً. قالوا: قد رضينا، فأخرج حصاة كانت معه وطرحها في الماء فذابت، فقالوا: هذه حيلة، ولكن أذب حصاة نعطيك نحن. قال لهم: لا تتعصبوا. فلستم أنتم أجل من فرعون، ولا أنا أعظم من موسى، لم يقل فرعون لموسى: لا أرضى بما تفعله بعصاك حتى أعطيك من عندي عصاً تجعلها ثعباناً. فضحك المأمون وأجازه.
وتنبأ آخر في أيام المعتصم، فلما أحضر بين يديه قال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: إلى من بعثت؟ قال: إليك. قال: أشهد أنك لسفيه أحمق. قال: إنما يبعث إلى كل قوم مثلهم. فضحك المعتصم وأمر له بشيء.
وتنبأ آخر فقيل له: ما معجزتك؟ قال: يقول الله تعالى: " ذو مرة فاستوى " ، ورجلي قد تشقق كله من المرار.
وتنبأ آخر فرئي في بيت خمار، فقيل له: ما رأينا نبياً في بيت خمار!! قال: إنما جئت أعرف هذا حتى لا أقصده مرة أخرى.
وتنبأ رجل في خلاعة المأمون، فقال لعلي بن صالح صاحب المصلى: ناظره. فقال له علي: ما أنت؟ قال: نبي. قال: فأين آياتك والنذر؟ قال: ألستم تزعمون أن محمداً كان لا يخبر بشيء إلا كان؟ قالوا: نعم. قال: فأنا لا أخبر بشيء أنه يكون فيكون.
تنبأ رجل في أيام المأمون، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا نبي. قال: فما معجزتك؟ قال: سل ما شئت. وكان بين يديه قفل، قال: خذ هذا القفل فافتحه، فقال: أصلحك الله، لم أقل إني حداد، قلت: أنا نبي!! فضحك المأمون واستتابه وأجازه.
وتنبأ آخر فطلب، فلما أحضر دعا له بالنطع والسيف، فقال: لم تقتلوني؟ قالوا: لأنك ادعيت النبوة. قال: فلست أدعيها. قالوا: فأي شيء أنت؟ قال: أنا صدّيق. فدعي له بالسياط، قال: لم تضربوني؟ قالوا: لادعائك أنك صديق. قال: لا أدعي. قالوا: فمن أنت؟ قال: من التابعين بإحسان. فدعي له بالدّرة. قال: ولم؟ قالوا: نؤدبك لادعائك ما ليس فيك. قال: ويحكم. الساعة كنت نبياً، أتريدون أن تحطوني في ساعة واحدة من النبوة إلى مرتبة العوامّ؟ أمهلوني إلى غد حتى أصير لكم إلى ما شئتم.
وأتي المتوكل بواحد قد تنبأ، فقال له: ما حجتك؟ قال: ما أعطوني حجة وقلت لجبريل: إن القوم ثقال الأرواح غلاظ الطباع لابد لي معهم من آية. قال لي: اذهب، فإن أهل بغداد قد اختلفوا في القاضي، وأنه بغّاء أو لوطيّ، فاذهب فعرفهم ذلك فإنهم إذا عرفتهم آمنوا بك. قال المتوكل: فما الذي قال لك جبريل من أمر القاضي. قال: قال هو بغّاء. فضحك وأمر له بجائزة.
وتنبأ آخر في زمن المهدي، فقال له: إلى من بعثت؟ فقال: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه؟ بعثت بالغداة ووضعتموني في السجن بالعشي، فضحك المهدي حتى ضرب برجليه. وقال: صدقت يا هذا. عاجلناك، فإن نحن خليناك تذهب إليهم؟ قال: لا والله، قد بدا لي، أخاف أن يصنعوا بي كما صنعتم. قال: فما تقول لجبريل؟ قال: أقول له: ابعثوا من شئتم فإني أحتاج أن أقتل الحبال. فضحك المهدي، واستتابه وخلاه.
وتنبأ آخر في زمن المهدي فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: ومتى بعثت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي موضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا. والله ليس هذا من مناظرات الأنبياء، إن كان عزمك أن تصدقني فكل ما قلت لك اعمل به، وإن عزمت أن تكذبني فدعني رأساً برأس. قال المهدي: هذا لا يجوز فإن فيه فساد الدين. فغضب وقال: واعجباه! تغضب أنت لفساد دينك ولا أغضب أنا لفساد ديني؟ فوالله ما قويت إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة ومن أشبههما، فضحك المهدي وقال لشريك القاضي: ما تقول فيه؟ قال المتنبئ: تشاور ذاك في أمري ولا تشاورني؟ قال: هات ما عندك. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن؟: قال: كافر. قال: فإن الله يقول: " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله " . فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين، فإنهم أتباع الأنبياء، وأترك الملوك والجبابرة فإنهم حصب جهنم، فضحك وخلاه.
وتنبأ آخر في أيام المتوكل فأحضره وقال له: ما صناعتك؟ قال: أنا روّاس. قال المتوكل: صناعة قذرة، فقام المتنبئ ينفض ثيابه ليمضي، فقال: إلى أين؟ قال: أذهب أقول لهم إن القوم متقززون، يريدون نبياً عطاراً.
وتنبأ آخر في أيام المأمون فأحضر وقال له: ما آيتك؟ وما الدليل على نبوتك؟ قال: القرآن؛ يقول الله عز وجل: " إذا جاء نصر الله والفتح " . واسمي الفتح. فقال المأمون: فهذا لك خاصة أو لكل من اسمه الفتح؟ قال: وحين قال الله في كتابه العزيز: " محمد رسول الله " كان لمحمد خاصة أو لكل من اسمه محمد؟ فضحك واستتابه وخلاه.
وتنبأ آخر فقيل له: ما معجزتك؟ قال: وما معجزة نبيكم؟ قالوا: حلب الحائل. قال: فأنا أحلب العاقر.
تنبأ آخر، وسمى نفسه نوحاً، ونهاه صديق له عن ذلك، فلم ينته، فأخذه السلطان وصلبه، فمر به صديقه الذي كان ينهاه، فقال له: يا نوح؛ ما حصلت من السفينة إلا على الدقل.
جاء رجل إلى المتوكل، وادعى النبوة، فقال له بعض من حضر: صف لنا جبيل، فوصفه ولم يذكر جناحه، فقال له: ويحك، لم تعلمنا خبر جناحه، ولسنا نشك في أن له جناحاً. فقال: أظنه أتاني وهو في القرفصة.
أتي المأمون بآخر قد تنبأ، فقال له: ما تقول؟ قال: قال ربي لا تكلم المأمون بشيء، واذهب إلى الهند. فضحك وخلاه.
الباب التاسع
نوادر المدينيين
قال رجل من أهل الشام لبعض أهل المدينة - وهو الغاضري - : كيف يباع النبيذ عندكم؟ قال: مدّان وثمانية وسبعون سوطاً بدرهم!!.وقيل لمديني: ما أعددت لشدة البرد؟ قال: شدة الرعدة.
وقال آخر منهم لغلامه ونزل به ضيف: افرش لضيفنا. فقال: ما أفرش له، وسراويلك عليك، والجل على الحمار؟.
وقيل لآخر: كيف أنت في دينك؟ قال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار.
سرق آخر نافجة مسك، فقيل له: إن كل من غل يأتي بما غل يوم القيامة يحمل على عنقه. فقال: إذاً والله أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل.
ومر آخر بقاص وهو يقول: وإسرافيل ملتقم الصور ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه. فقال المديني - وضرب بيده على جبهته - : إنا لله، إن عطس عطسة افتضحنا.
وقال آخر: لو قسم البلاء بين الناس لم يصبنا أكثر مما أصابنا. قالوا: ما الذي أصابك؟. قال: بعثنا بشاتنا إلى التيّاس مع الجارية، فجاءت الشاة حائلاً والجارية حاملاً.
وصحب مديني بعض ولاة المدينة، فلما رجع إلى المدينة قالوا: هل ولاّك شيئاً؟ قال: نعم، ولاّني قفاه.
قيل لآخر - وقد ذم عيشه - : أحمد الله الذي رفع السماء بغير عمد، فإنه قادر على أن يوسع رزقك. قال: وددت أنه وسع عليّ وجعل بين كل ذراعين اسطوانة.
وسمع آخر سائلاً يقول: لا ينقص مال من صدقة. قال: بيني وبينك الميزان يا كشخان.
قيل لآخر: كيف طابت أصوات أهل المدينة؟ قال: لخلاء أجوافهم، كالعود لما خلا جوفه طاب صوته.
لقي مديني آخر فقال له: ما فعل ابنك فلان؟ قال: باليمن. قال: فابنك فلان؟ قال: بخراسان. قال: لا أسألك عن الثالث فإني أعلم أنه في السحاب.
وقال مديني لآخر: زوجت أمك؟ قال: نعم، حلالاً طيباً. قال: حلال نعم، فأما الطيب فالزوج أعلم به.
واشترى آخر رطباً، فأخرج صاحبه كيلجة صغيرة ليكيل بها، فقال المديني: والله لو كلت لي بها حسنات ما قبلتها.
وقيل لآخر: حمارك مهزول. فقال: يده مع يدي.
واشترى آخر جارية فسئل عنها، فقال: فيها خلتان من خلال الجنة: برد وسعة.
وقال مديني لابن أبي مريم: تعشقت فلانة وأريد شراءها. قال: يا ابن الفاعلة، فبأي شيء تشتريها؟ قال: أبيع قطيعة جدي وأشتريها. قال: امرأته طالق إن كان ملك جدك قطيعة إلا قطيعة الرحم.
كان مديني يجلس على باب مسجد، فيرى الناس إذا اذن المؤذن يدخلون أرسالاً. فقال: والله لو قال هذا المؤذن يوماً: حيّ على الزكاة، ما جاء منكم أحد.
وسرق آخر جرة فأخذوها منه وأرادوا ضربه، وقالوا: يا عدو الله تسرق جرتنا؟ فقال: ما هذه جرتكم، هذه والله عندنا مذ هي كوز! فضحكوا منه وتركوها له.
قال مديني لآخر: أيسرك أن هذه الدار لك؟ قال: نعم. قال: وليس إلا نعم؟ قال: وكيف أقول؟ قال: تقول نعم، وأحمّ سنة. قال: نعم وأنا أعور.
وقال واحد منهم لآخر: أيسرك أن تعيش حتى تجئ حليمة من إفريقية مشياً إليك؟ قال: وأنت يسرك ذلك؟ قال: أخاف والله أن يقول إنسان هي بمخيض فيغشى عليّ. ومخيض على بريد من المدينة.
وقال آخر لامرأته: لا جزاك الله خيراً فإنك غير مرعية ولا مبقية. قالت: لأنا والله أرعى وأبقى من التي كانت قبلي. قال: فأنت طالق إن لم أكن آتيها بجرادة فتطبخ منها أربعة ألوان وتشوى جنبيها. فرفعته إلى القاضي، فجعل القاضي يطلب له المخرج، فقال للقاضي: أصلحك الله، أشكلت عليك؟ هي طالق عشرين.
شتم مديني أبا هريرة، فقيل له: أتشتم رجلاً من أصحاب النبي عليه السلام؟ فقال: ظننته أنس بن مالك.
مطر أهل المدينة ست ليال متواليات، حتى كاد أهلها يغرقون، فقال بعضهم: إن مطرنا السابعة أصبح أهل السماء في مفازة لا يجدون حسوة ماء.
نزل على مديني أضياف فتسترت امرأته منهم وتخفرت. فقال لها زوجها: لوددت أن في الدنيا عيناً تشتهيك، وأنك أثقلت في كل يوم بتوأمين.
نظر مديني إلى قوم يستسقون ومعهم الصبيان، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: نرجو بهم الإجابة. قال: لو كان دعاؤهم مجاباً لما بقي في الأرض معلم.
قيل لبعضهم: ما عندك من آلة الحج؟ قال: التلبية.
وقيل لآخر: يمكنك أن تحج. قال: ليت أمكنني المقام!.
وقف آخر على قاص وهو يذكر ضغطة القبر، فقال: يا قوم، كم في الصلب من الفرج العظيم ونحن لا ندري! فقال صاحبه: فإنا نستصلب الله.
أخذ الطائف بعضهم وهو سكران، فقال: احبسوا الخبيث. فقال: أصلحك الله؛ عليّ يمين بالطلاق ألا أبيت بعيداً عن منزلي، فضحك وخلاه.
اجتازت جارية مدينية برجل منهم يبول، فرأت معه شيئاً وافراً، فقالت له: هذا معك ولا تجلس في الصيارفة؟ فقال: أخزاك الله، وهل أقامني من الصيارفة غيره؟.
وصف مديني امرأة بالقبح، فقال: كأن وجهها وجه إنسان قد رأى شيئاً يتعجب منه.
قيل لمديني: ما طعامك؟ قال: الخل والزيت. قيل: أفتصبر عليهما؟ قال: ليتهما يصبران عليّ.
خاصمت مدينية زوجها، وكان في خلق لا يواريه، فقالت له: غير الله ما بك من نعمة. قال: استجاب الله دعاءك، لعلي أصبح في ثوبين جديدين.
ومرت امرأة جملية بمديني، فقالت له: يا شيخ؛ أين درب الحلاوة؟ قال: بين رجليك يا ستي.
وصف مديني مغنية بحسن الغناء، فقال: والله لو سمعتها ما أدركت ذكاتك.
عرض آخر جارية على البيع، فقيل له: هي دقيقة الساقين، فقال: تريدون تبنون على رأسها غرفة؟ كان أبو خزيمة المديني يقول: اللهم ارزقني، فإن كنت لا ترزقني لكرامتي عليك، فقد رزقت من هو خير مني، سليمان بن داود، وإن كنت لا ترزقني لهواني عليك، فقد رزقت من هو شر مني، فرعون ذا الأوتاد.
وشكا مرة نكبات الدهر، فقال له رجل: هون عليك فإن الله يدخر لك ثوابها للآخرة. فقال له أبو خزيمة: الآخرة خير أم الدنيا؟ قال: بل الآخرة. قال: فإنه ليس يعطيني من ابغضهما إليه، أيعطيني من أكرمهما عليه؟ قالت امرأة الغاضري - وقد قطع لها قميصاً - : ما أحسن هذا القميص! قال: الطلاق أحسن منه.
قال رجل لناجية المديني لما مات أبوه: آجرك الله. فقال: رزقني الله مكافأتك.
قال أبو العيناء: قلت لمديني شكا إليّ سوء الحال: ابشر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية. قال: أجل، ولكن بينهما جوع يقلقل الكبد.
وقف سائل بباب مديني، وقال: أطعمونا من فضل غشائكم. فقال: والله ما لعشائنا أصل حتى يكون له فضل.
ساوم مديني بدجاجة، فقال صاحبها: لا أنقص من عشرة دراهم. فقال: والله لو كانت في حسن يوسف، وفي عظم كبش إبراهيم، وكانت تبيض في كل يوم وليّ عهد للمسلمين، ما ساوت أكثر من درهمين.
قيل لمديني: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاء الله للجائع والمفلس والعزب، أما الجائع فيأكل من خبز الأرز والمالح بفلس حتى يشبع. وأما العزب فيتزوج بمن شاء بدانقين وأما المفلس فيخرى ويبيع، فهل رأيتم بلدة مثلها؟.
قيل لمديني: ما عندك من آلة العصيدة؟ قال: الماء.
انقطع مديني إلى رجل من الأشراف، فغنى له مغن يوماً صوتاً حزيناً، فمزق ثيابه وقال للمديني: مزق قميصك أيضاً. قال: ليس عندي غيره. قال: أنا أكسوك غداً قميصاً. قال: وأنا أيضاً أمزقه غداً.
قيل لبعضهم: ما عندك من آلة القريس قال: البرد.
قيل لخوات المديني: كيف تقول: تعشيت أو تعشأت؟ قال: إذا أكلت اللحم فقل تعشأت، وإذا لم تأكل اللحم، فقل: تعشيت.
قال بعضهم: مررت بآخر وهو يشكو الفقر، فقلت له: أبشر، فإنه يأتيك الفرج. قال: أخشى أن يجيئني الفرج فلا يجدني.
قال مديني لآخر: حاصرت الله في سلم من زبد كلما صعدت ذراعاً نزلت باعا، حتى أبلغ بنات نعش فآخذها كوكباً كوكباً.
لو أن لمولاك مائة بيدر من إبر خوارزمية، ثم جاءه يوسف النبي عليه السلام وقد قدّ قميصه من دبر، ومع جبريل وميكائيل يشفعان له ما أعطاه منها إبرة يخيط بها قميصه.
قيل لشيخ منهم: كم مقدار شربك للنبيذ؟ قال: مقدار ما أقوى به على ترك الصلاة.
سرق لآخر دراهم، فقيل له: لا تغتمّ فإنها في ميزانك. فقال: مع الميزان سرقت.
وقال آخر لصاحب منزله: أصلح خشب هذا البيت فإنه يتفرقع. فقال: لا تخف، فإنه يسبح، فقال: إني أخاف أن تدركه الرقة فيسجد.
كانت بالمدينة امرأة لا تلد إلا البنات، فقال لها زوجها وقد بشر بابنة: يا فلانة، إني لأظن لو احتلمت بالشام وأنت بالمدينة لحملت ببنت.
خرج أبو جواليق المديني يشتري حماراً، فلقيه صديق له، فقال: أين تريد؟ قال: أريد السوق أشتري حماراً. قال: قل إن شاء الله. قال: ليس هذا موضع " إن شاء الله " الدراهم في كمى والحمار في السوق؛ فبينا هو يطلب الحمار إذ طرّت دراهمه فرجع حزيناً، فلقيه صاحبه، فقال: ما صنعت؟ قال: سرقت دراهمي إن شاء الله.
وأراد المهدي أن يتنزه بالمدائن، فخرج أشراف أهل المدائن، فأوقدوا النيران والشموع، فقال أبو جواليق: قد أذن الله في خراب المدائن. قالوا: لم؟ قال: أوقدتم النيران. الآن تنفر حراقات المهدي منها فيأمر بخراب المدائن.
دخل بعضهم على المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، الموت بالمدينة فاش إلا أنه سليم.
جاء رجل إلى مديني فقال: هل تدلني على من يشتري حماري، وكان أجرب أجرد، فقال: والله ما أعرف من يشتري هذا إلا أن يجئ من يطلب من الحمير نسمة للعتق.
غنت قينة ومديني حاضر، فقال: يا سيدتي أجدت، وما يحضرني ما أعطيك، ولكن قد وهبت لك كل حسنة لي، وحملت عنك كل سيئة لك. فقام آخر فقال: يا سيدتي، ما أعطاك شيئاً، وذلك أنه مالك سيئة يحملها عنك، ولا له حسنة فيعطيكها.
سئل أحدهم عن جارية اشتراها، فقال: مفازة مكة عندها ثقب عفصة. وبلح كركان عندها بينون الداخل.
قالت امرأة مدينية لزوجها: احفظ صحبة ثلاثين سنة. قال: ما دهاك عندي غير ذلك.
كان بالمدينة واحد يقود قد أفسد أحداثها، فاجتمع المشايخ وشكوا ذلك إلى والي المدينة، فنفاه إلى قباء، فبعدت المسافة، فكانوا يركبون حمير المكاريين ويصيرون إلى عنده، وكثر ذلك حتى كان الواحد يركب حماراً، فيسير حتى يقف على بابه؛ فاجتمع الناس إلى واليهم وقالوا: قد أفسد أحداثنا وأتلف أموالنا، حتى إن الحمر قد عرفت باب داره، فتقف عنده. فأمر الوالي بإحضاره وأمر بتجريده، وقال: ليس أريد شاهداً عليك سوى أن الحمير تعرف باب دارك. قال: فبكى، فقيل له: مم تبكي؟ قال: من شماتة أهل العراق بنا، يقولون: إن أهل المدينة يقبلون شهادة الحمير، فضحك الوالي ومن حضره، وخلوه.
اجتمع في بيت مديني رجل مع صديقة له، فأحصى المديني عليهما ثمانية، فلما أصبحوا قالت وهي تعاتبه: لست عنك راضية، وسمع المديني قولها فقال: يا هذه ليس في الدنيا أقل حياء منك، تعاتبينه بعد ثمانية؟ امرأته طالق أنه لو أنا.. أمه ثمانية، لكان قضى حق الله فيها.
التقى قنديل الجصاص، وأبو الحديد المدينيان، فقال قنديل: من أين وإلى أين؟ فقال: مررت برقطاء رائحة تترنم برمل ابن سريج في شعر ابن عمارة.
سقى مأزمي فج إلى بئر خالد
فزففت خلفها زفيف النعام، فما انجلت غشاوتي إلا وأنا بالمشاش حسيراً، فأودعتها قلبي وخلفته لديها، واقبلت أهوي هويّ الرحمة بغير قلب. فقال له قنديل: ما رفع من المزدلفة أسعد منك، سمعت شعر ابن عمارة في لحن ابن سريج من رقطاء الحبطية، لقد أوتيت جزءاً من النبوة.
وكانت رقطاء هذه أضرب الناس، فدخل رجل من أهل المدينة منزلها فغنته صوتاً، فقال له بعض من حضرها: هل رأيت وتراً قط أفصح من وترها؟ فطرب المديني وقال: عليه العهد إن لم يكن وترها قد عمل من معي بشكست النحوى، فكيف لا يكون فصيحاً؟. وكان بشكست هذا نحوياً فصيحاً، يقال له: عبد العزيز، أخذ أهل المدينة النحو عنه.
نظر واحد منهم وهو المريمي إلى مصلوب بباب الرقة فقال: " هذا ما وعدنا الله ورسوله " .
وقيل له يوماً: كيف مات أبوك؟ فقال: سراً. يعني فجأة.
ورأى جنازة بعضهم فقال: الآن خلا بعمله ومساءلة هاروت وماروت.
وقيل له يوماً: تقدم فصلّ بنا. فقال: أنا والدتي، يريد: أنا أميّ.
وقال بعضهم لمديني: قد حضرني وجه سن، امض إلى صديقنا فلان حتى يجئ فيرى. قال: فمن ينظر عني حتى أرجع؟.
واشترى مديني عرصة، وأحضر من يبنيها، فذرعها وقال: ابن هاهنا صفّة وهاهنا حترياً، وهاهنا خزانة. ثم ضرط، وقال بالعجلة: وهاهنا كنيفاً فقد اختاره الثقة العالم به؛ فضحك هو ومن حضره فزال خجله.
قال بعض الأطباء، حضرت عند عليل، ووصف لي سبب علته، وكانت العلة حمّى حادة، فدخل رجل من أهل المدينة والمحموم يقول لي: أكلت أفراخاً وعسلاً، وشربت عليه أقداحاً ونمت في الشمس. فقال المديني: امرأته طالق لو كانت الحمى من حملة العرش لتركت حمله وأتتك.
قيل لمديني: كيف حالك؟ فقال: وكيف يكون حال من ذهب ماله، وبقيت عادته؟!
بعث مديني غلامه إلى جاريته لتحمل إليه الكيس، فالتمست منه علامة، فقال المديني: فل لها العلامة أني خريت البارحة في الفراش. فقالت: ارجع إليه وقل له: أي علامة هذه؟ وأنت تخرى كل ليلة في الفراش، إنما أردت علامة غير مشهورة. فرد الغلام وقال: قل لها إنك طبخت البارحة سكباجة ولم أرضها، وحردت وقمت فخريت في الغضارة، فقالت المرأة، إي والله، وعلى كل رغيف على المائدة وأعطته الكيس.
خطب خطيب بالمدينة، فقال في خطبته: " وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ " . فقال بعض المدينيين: ما أحسن كلام ابن الزانية.
قيل لمديني: ما عمل بك الشيب؟ قال: ما عملت به أعظم، ما وقرته ولا تركت له محرّماً.
قيل لمديني: بم تتسحر؟ قال: باليأس من فطور القابلة.
تزوج رجل امرأة بالمدينة ذكروا له أنها شابة طرية - وكانت عجوزاً - ، فلما دخل بها ورآها نزع نعليه، وهم يظنون أنه يضربها فقلدها إياهما وقال: لبيك اللهم لبيك. فقالوا له: اسكت، اسكت. فقال: لا تصلح هذه إلا أن تكون بدنة، فافتدوا منه.
قيل لمديني: كيف ترى الدنيا؟ قال: قحبة، يوماً في دار عطار، ويوماً في دار بيطار.
تمنى آخر في منزله فقال: ليت أنا لحماً فنطبخ سكباجاً. فما لبث أن جاء جار له بصحفة، وقال: اغرفوا لنا فيها قليل مرق. فقال: جيراننا يشمون رائحة الأماني.
دخل الغاضري على الحسن بن علي عليه السلام، فقال: إني عصيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بئس ما عملت! كيف؟ فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يصلح قوم ملكت عليهم امرأة، وقد ملكت عليّ امرأتي، أمرتني أن أشتري عبداً فاشتريته فأبق. فقال رضي الله عنه: اختر إحدى ثلاث، إن شئت فثمن عبد، فقال: قف هنا ولا تتجاوز، قد اخترت ذلك، فأعطاه.
قيل لمديني: أيسرك أن يكون أ..ك كبيراً؟ قال: لا. قيل: ولم ذلك؟ قال: يثقلني ويلتذّ غيري.
وقع واحد منهم فوثئت رجله، فجعل الناس يدخلون عليه فيسألونه: كيف وقع؟، فأكثروا، فضجر وكتب قصته، فكان إذا دخل عليه عائد وسأله دفع إليه القصة.
كان سعيد بن مسلم إذا استقبل السنة التي يستأنف فيها عدد سنة أعتق نسمة، وتصدق بعشرة آلاف درهم، فقيل لمديني: إن سعيد بن مسلم يشتري نفسه من ربه بعشرة آلاف درهم. فقال المديني: لا يبيعه.
قيل لمديني: إن عثمان بن عفان إذا كان يوم القيامة يحكم بين القاتل والخاذل. قال: فبكى المديني، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف والله أن يعفو.
مر مديني على آخر، ومعه عنز وحمل، فقال له: هذا الحمل هو ابن هذه العنزة. قال المديني: لا، ولكنه يتيم في حجرها.
اشترى مديني برذوناً من رجل، فقال له: بالله هل فيه عيب؟ قال: لا والله، إلا مشش كأنه سفرجلة، وقليل عرن كأنه قثاءة، وقليل دبر كأنه بطيخة. قال: يا ابن الفاعلة؛ بعتني برذوناً أو بعتني دار البطيخ.
التقى مدينيان، فقال أحدهما لصاحبه: علمت أن امرأتي حامل. قال: ممن؟ قال: مني. قال: سررتني والله.
عوتب مديني على كثرة الحلف بالطلاق، فقال: لي امرأة لا تصلح إلا للحنث.
كان بعض المدينيين قد أنزله بعض الأشراف غرفة على مطبخ له، فأخذه بطنه، فسلح في الغرفة، ووكف على قدور المطبخ فأفسدها، وكان المديني يتعشى عنده، فقال له: جعلت فداك أين عشاؤك؟ فقد أبطأ علينا. قال: أفسده علينا غداؤك.
رأى الدارمي المديني الأوقص - قاضي مكة - في المسجد يدعو ويقول: يا رب أعتق رقبتي من النار. فقال الدارمي: لا والله ما جعل الله لك من عنق ولا رقبة فكيف يعتقها؟ فقال: ويلك. من أنت؟ قال: أنا الدارمي قتلتني وحبستني، وكان أتاه في حاجة فأخرها، فقال: لا تقل ذاك وأتني أقض حاجتك.
الباب العاشر:
نوادر الطفيليين والأكلة
قال بنان الطفيلي: الجوذاب صاروج المعدة. اشرب عليه ما شئت.وقيل له: كم كان عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر رغيفاً.
وقال: عصعص عنز خير من قدر باقلي.
وقال آخر: من احتمى فهو على يقين من مكروه الجوع، وفي شك من العافية.
وقال بعضهم: ليس شيء أضر على الضيف من أن يكون صاحب البيت شبعان.
قيل لآخر: ما معنى قول الله تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها " ؟ قال: أراد أهل القرية، كما تقول: أكلنا سفرة فلان؛ أي ما في سفرة فلان.
قال الأصمعي: كان في البصرة أعرابي من بني تميم يطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا وضع الطعام إلا ليؤكل، وما قدمت هدية فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقلاً ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً، أتعمم عليه مستأنساً، وأضحك إن رأيته عابساً، فآكل برغمه، وأدعه بغمه، وما اخترق اللهوات طعام أطيب من طعام لم تنفق فيه درهماً، ولم تعنّ إليه خادماً.
قال بعضهم: من جلس على مائدة، وأكثر كلامه غش بطنه.
أولم طفيلي على ابنته، فأتاه كل طفيلي، فلما رآهم عرفهم، فرحب بهم ثم أدخلهم، فرقاهم إلى غرفة بسلم، وأخذ السلم حتى فرغ من إطعام الناس، فلما لم يبق أحد أنزلهم وأخرجهم.
طفّل رجل على بعض الناس، ووقع بينه وبين رجل في المجلس كلام، فقال الطفيلي للرجل: والله لئن قمت إليك لأدخلنك من حيث خرجت، فقال صاحب المنزل: لكني والله أخرجك من حيث دخلت.
قيل لبعضهم: لم تأكل بخمس أصابع؟ قال: ولي أكثر منها؟!.
نظر طفيلي على مائدة إلى ملبّقة بيضاء وملبّقة صفراء، فجعل يأكل البيضاء، فصفعه شيخ طفيلي كان معه على المائدة وقال: لا أم لك، إذا كنت في صناعة فتحذّق فيها. أما عرفت أن الفرق بينهما الزعفران؟.
وحكي عن بعضهم أنه قال: أحفظ من القرآن آية واحدة، ومن الحديث خبراً واحداً، ومن الشعر بيتاً واحداً. أما الآية فقوله تعالى: " آتنا غداءنا " وأما الحديث فما رواه الثقات: " إن التمكن على المائدة خير من زيادة لونين " . وأما الشعر فقوله:
نزوركم لا نكافئكم بجفوتكم ... إن المحب إذا لم يستزر زارا
قيل لطفيلي: كم بين منزل فلان وفلان؟ قال: قدر ما يصلي الرجل رغيفين.
أدخل طفيلي على سالم بن عقال، فجعل يشرب معه، وكان شرابه مطبوخاً يحتاج إلى مزاج كثير، وكان الطفيلي يسقي ويقل المزاج، فثقل ذلك على سالم. ونبين الطفيلي ذلك فأراد أن يتقرب إليه فأنشأ يقول:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة ما بين العين والأنف سالم
فقال سالم: لو أخذت " الما " من هذا البيت، وجعلته في أقداحنا لصلح شعرك ونبيذنا.
قيل لشيخ: ما أحسن أكلك! قال: عملي منذ ستين سنة.
سأل عبد الملك أبا الزعيزعة: هل أتخمت قط؟ قال: لا. قال: كيف؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظ المعدة ولا نخليها.
قعد أعرابي على مائدة المغيرة، وكان الرجل منهوماً فجعل ينهش ويتعرق، فقال المغيرة: يا غلام ناوله سكيناً. قال الرجل: كل امرئ سكينه في رأسه.
أكل هلال بن أسعر جملاً، وامرأته أكلت فصيلاً، فلما ضاجعها لم يصل إليها، فقالت: كيف تصل إليّ وبيننا بعيران.
وذكر أن الواثق اشتهى يوماً بزماورداً، فأمر باتخاذه والاستكثار منه وأن يفرش في صحن واسع على أنطاع، فلما فرغ منه وقعد لأكله أكل مساحة قفيزين.
كان سعيد بن أسعد إمام المسجد الجامع بالبصرة طفيلياً، فإذا كانت وليمة سبق إليها، فربما بسط معهم البسط وخدم، فقيل له في ذلك، فقال: إني أبادر برد الماء، وصفر القدور، ونشاط الخباز، وخلاء المكان، وغفلة الذباب.
دعا بعضهم واحداً فأقعده إلى نصف النهار، وهو يتوقع المائدة ويتلظى جوعاً، فأخذ صاحب المنزل العود وقال: بحياتي أي صوت تشتهي؟ قال: صوت المقلى.
كان نقش بنان الطفيلي: ما لكم لا تأكلون؟ وكان يقول لأصحابه: إذا دخلتم فلا تلتفتوا يميناً ولا شمالاً، وانظروا في وجوه أهل المرأة، وأهل الرجل حتى يقدر هؤلاء أنكم من هؤلاء، وكلموا البواب برفق، فإن الرفق يمن، والخرق شؤم، وعليكم مع البواب بكلام بين كلامين: الإدلال، والنصيحة.
سمع بعضهم رجلاً يقول: روي في الأخبار أن الدجال يخرج في سنة قحط مع جرادق أصفهانية، وملح ذرآني وأنجذانيّ سرخسيّ، فقال الطفيلي: عافاك الله، والله إن رجلاً يجئ بهذا يستحق أن يسمع له ويطاع.
صحب طفيلي جماعة في سفر، ففرضوا على أن يخرج كل واحد منهم شيئاً للنفقة، فقال كل واحد منهم: عليّ كذا. فلما بلغوا إلى الطفيلي قال: أنا عليّ.. وسكت. قالوا له: لم سكت؟ وإيش عليك؟ فقال: لعنة الله. فضحكوا وأعفوه من النفقة.
قيل لطفيلي: لم قطعت فلاناً صديقك؟ قال: لأنه يسبقني إلى بيضة البقيلة، وقفا السمكة، وخاصرة الجدي.
نظر بعضهم إلى قوم ذاهبين في وجه، فعلم أنهم يذهبون إلى وليمة، فقام وتبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا باب السلطان بمدائح لهم، فلما أنشد كل واحد منهم شعره وأخذ جائزته، ولم يبق إلا الطفيلي، وهو جالس لا ينطق، قيل له: أنشد، فقال: لست بشاعر. قالوا: فمن أنت؟ قال: أنا من الغاوين الذين قال الله جل ذكره فيهم: " والشعراء يتبعهم الغاوون " فضحك الخليفة وأمر له بمثل جائزة الشعراء.
قال بعضهم: أفضل البقاع وخيرها ثلاثة. قيل: وما هي؟ قال: دكان الرواس، ودرجة الخباز، ومطبخ الجواد. وأفضل الخشب وخيره ثلاثة: سفينة نوح، وعصا موسى، ومائدة يؤكل عليها.
مر طفيلي إلى باب عرس، فمنع من الدخول، فذهب إلى أصحاب الزجاج ورهن رهناً، وأخذ عشرة أقداح، وجاء وقال للبواب: افتح حتى أدخل هذه الأقداح التي طلبوها. ففتح له، ودخل وأكل وشرب مع القوم، ثم حمل الأقداح، وردها إلى صاحبها، وقال: لم يرضوها، وأخذ رهنه.
ودخل آخر إلى قوم فقالوا: ما دعوناك، فما الذي جاء بك؟ قال: إذا لم تدعوني ولم أجئ وقعت وحشى، فضحكوا منه وقربوه.
جاء آخر إلى قوم ودق الباب عليهم، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا الذي رفعت مئونة الإرسال عنكم.
قال بعضهم: كنت مع بنان في دعوة، ومعنا على المائدة جماعة من الكتاب وغيرهم، وكان بين يدي رجل منهم دجاجة سمنة، فضرب بنان بيده إليها فتناولها من بين يديه، فقلت له: يا بنان لم تفعل كذا؟ فقال: إنه - أصلحك الله - مشاع غير مقسوم.
قيل لبعضهم، وقد أسرف في أكل شيء: إن هذا يستحيل في المعدة مرة صفراء. فقال: لو ظهرت لي المرة الصفراء لأكلتها.
قدم إلى بعضهم، وهو يأكل مع جماعة، بقيلة، فمد يده إلى البيضة، فقال: يقال إنه لا يأكلها إلا شره، ولا يتركها إلا عاجز، ولأن أكون شرها أحب إلي من أن أكون عاجزاً.
قيل لبعضهم، وقد أكل رءوساً وأكثر منها: أما تخاف التخمة؟ قال: لا. إن لي بطناً ما دخله شيء إلا جعل الله حده الأسفل.
قال بعضهم: أتاني رجل عشياً، فطلب تمراً، وأمرت بإحضار شيء كثير منه جداً. فابتدأ يأكل ونمت، فلما أصبحت وخرجت فإذا هو يأكل، فقلت: باكرت التمر. قال: لم أنم بعد - فديتك أنا آكل منذ رأيتني.
وكان بعضهم يباكر الأكل، فقيل له: اصبر حتى تطلع الشمس، فقال: أنا لا أنتظر بغدائي من يقدم من أقصى خراسان.
قيل لبعضهم: أي الطعام آثر في نفسك؟ قال: ما لم أنفق عليه.
قيل لبعضهم: كل من قدامك. فقال: أترى من خلفي هو ذا آكل؟ سمع ابن المغنى مغنياً يغني:
أشارت بمدراها، وقالت لتربها ... أهذا المغيري الذي كان يذكر؟
فقال: سذابة في رأس جدي قد عمل سلافة أحسن من مدراها.
كان بعضهم إذا دعي فقدم الخوان كان أول من يتقدم، ثم يقول: " وعجلت إليك رب لترضى " .
قيل لبعضهم: التمر يسبح في البطن. فقال: إن كان التمر يسبح فاللوز ينج يصلي في البطن تراويح.
قيل لآخر: كيف أكلك؟ قال: كما لا يحبه البخيل.
سمع آخر خشخشة الخلال فأمسك، فقيل له: كل. قال: حتى يسكن هذا الإرجاف.
قيل لواحد: لم أنت حائل اللون؟. فقال: للفترة بين القصعتين، مخافة أن يكون الطعام قد فني.
قال بعضهم: كنت أمر في بعض أزقة بغداد إذ صيح: الطريق الطريق فالتفتّ فإذا بإنسان محمول على محفة، فقلت: ما أصابه؟ قيل: أكل الهريسة فأعجزته عن المشي والحركة، ونحن نحمله إلى منزله.
دخل العبدي على قوم يأكلون، فقالوا له: هلم. فقال: قد أكلت، ثم جلس يعظم اللقمة ويبادر بالمضغ، فقيل له: ألست قد أكلت؟. فقال: الكذب يمرئ، ونعم الشيء الحموضة للخمار.
زعموا أن الطفيليين يقولون: إن الصليّة تبشّر بما بعدها من كثرة الطعام، كما أن البقيلة تخبر بفنائه، فهم يحمدون تلك ويسمونها المبشرة، ويذمون هذه ويسمونها الناعية، حتى صار المخنثون إذا شتموا إنساناً قالوا: يا وجه البقيلة.
قال البعفوري: اشتهي أن آكل من العنب الرازقيّ حتى ينشق بطني. فقيل له: أو تشبع؟ قال: هذا ما لا يكون.
أضاف الأعمش أعرابياً وجاءه برطب وجعل ينتقي أطايبه، فقال الأعرابي: لا تنتق منه شيئاً، فلست أترك منه واحدة.
قال أبو العيناء: كان بالريّ مجوسي موسر فأسلم، وحضر شهر رمضان فلم يطق الصوم، فنزل إلى سرداب له وقعد يأكل، فسمع حساً من السرداب، فاطلع فيه وقال: من هذا؟ فقال الشيخ: أبوك الشقيّ يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس.
قال كشاجم: أخبرت عن قاضيين ظريفين كانا متجاورين، أن أحدهما وجه إلى الآخر في غداة باردة يدعوه إلى الهريسة، ويقول: إنها قد أحكمت من الليل، فرد الرسول، وقال: قل له قد عققتني، ولم ترد برّي، لأن حكم الهريسة أن يدعى إليها من الليل فرجع الرسول فقال: ارجع فقل له: ذهب عنك الصواب ليس كل الهرائس تسلم وتجئ طيبة، فلم أدعك إلا بعد أن تبينت طيبها وصلاحها، فنهض إليه.
قالوا: أطول الليالي ليلة العقرب، وليلة المزدلفة، وليلة الهريسة. قالوا: قال أظرف الناس، الباقلاء بقشوره أطيب من طب الجياع، وليس في الرزق حيلة. وهذا من حجج الطفيليين.
قدم إلى عبد الرحمن بن محمد بن الشعث دجاجة مسمنة مشوية، فقال: يا غلام: أنّى لك هذا؟ إعجاباً بسمنها، فقال: بعث بها الحريش بن هلال القريعيّ وهو معه على المائدة، فقال: يا غلام، أخرج إليّ كتاباً من ثنى الفراش، فإذا هو كتاب الحجاج إليه يأمر أن يقتل الحريش، ويبعث برأسه إليه؛ فلما رآه الحريش قطع به وتغير لونه، فقال ابن الأشعث: أقبل على طعامك. أترانا نأكل دجاجتك ونبعث برأسك إليه؟ والله لا يوصل إليك حتى يوصل إليّ. فقال الحريش:
وابنفسي دجاجة لم تخني ... وضعت لي نفسي مكان الأنوق
فرّجت كربة المنية عني ... بعد ما كدت أن أغص بريقي
في أبيات يمدح بها الأشعث.
قال عثمان الدقيق - وكان صوفياً - : رأيت أبا العباس بن مسروق وهو أحد شيوخ الصوفية في يوم مطير على الجسر مشدود الوسط، فقلت له: يا عمّ إلى أين في هذا اليوم المطير؟ فقال: إليك عني؛ فقد بلغني أن بالمأمونية رجلاً يقول: ليس الباذنجان طيباً، أريد أن أمضي إليه وأقول له: كذبت وأرجع.
قال أعرابي: رأي ورلاً يحارب حية، فغلبته وأكلته، وهو يحاربها بذنبه، ثم جاء قنفذ، فاجتمع بعد أن أخذ ذنبها بفيه، ثم جعل يأكلها حتى أفناها، فأخذت القنفذ وشويته وأكلته، فكنت قد أكلت القنفذ والورل والحية.
كان أحمد بن أبي خالد وزير المأمون شرها، فيقال: إنه حين انصرف دينار بن عبد الله من الجبل والمأمون واجد عليه، فأقام بالمدائن حتى رحني عنه ووجه إليه أحمد بن أبي خالد، وقال: قل له فعلت كذا، وأخذت كذا، فمضى أحمد ومعه ياسر رجله، أرسله معه المأمون، وقال له: إن تغذى عنده عمل ما يريد، وإن لم يتغد بلغ ما أريد، فلما علم دينار بمجيئه، قال لو كيله: قل له حين يخرج من الحراقة: قد فرغنا من الطعام فهل تختار شيئاً؟ فقال له ذلك، فقال له: نعم، فراريج كسكرية بماء الرمان ففعل ذلك وخبز له خبز الماء، ثم أعلمه بفراغه، فقال: هات طعامك فإني أجوع من كلب، فأتى به فأكل عشرين فروجاً، ووضع يده في كل شيء، ثم جئ بخمس سمكات بعد أن شبع، فأكل منها أكل من لم يذق شيئاً قبلها وكان أدى رسالة المأمون قبل أكله، فقال دينار: ما لكم عندي إلا سبعة آلاف ألف درهم، ما أعرف غيرها، فلما تغدى قال لدينار: احمل ما ضمنت لي. فقال: قد أعددت الستة آلاف درهم. قال له ياسر رجله: إنها سبعة آلاف ألف، وكذا قلت: وسمع أبو العباس ذلك وسمعناه، فقال أحمد: ما أحفظ ما كان، ولكن قل الآن نسمع. قال دينار: ما قلت إلا ستة آلاف ألف.
فانصرف أحمد، سوبقه ياسر فأخبر المأمون الخبر، فلما دخل أحمد إليه أخبره بأنه أقرّ بخمسة آلاف ألف، فقال له ياسر: إنها سبعة آلاف ألف، وكذا قال دينار، فضحك المأمون، وقال: ألف ألف للغداء، فما قصة هذه؟ وأخذ من دينار ستة آلاف ألف، وقال: ما قام غداء على أحد أغلى مما قام على غذاء أحمد بألف ألف درهم.
وكان قد عرف المأمون شرهه، فكان إذا وجهه في حاجة أمره بأن يتغدى ويمضي، ويقول له: اطمئن بالمكان الذي تذهب إليه واسترح واكتب إلى بما تفعل.
ورفع إلى المأمون في المظالم: إن رأى أمير المؤمنين أن بجرى على ابن أبي خالد نزلاً فإن فيه كلبية؛ لأن الكلب يحرس المنزل بالكسرة، وابن أبي خالد يقتل المظلوم ويعين الظالم بأكلة، فأجرى عليه المأمون في كل يوم ألف درهم لمائدته، وكان مع ذلك يشره إلى طعام الناس.
قالوا: إن معاوية بن أبي سفيان دعا بالطعام يوماً، وقد أصلح له عجل مشوي، فأكل معه دستاً من الخبز السميذ وأربع فراني وجديا حاراً، وجدياً بارداً سوى الألوان، ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلي الرطب فأتى عليه.
وذكروا أن أبا القماقم بن بحر السقاء عشق مدينية، فبعث إليها أن إخوانا لي زاروني، فابعثي إليّ برءوس، حتى نتغدى ونصطبح على ذكرك. ففعلت، فلما كان في اليوم الثاني بعث إليها: إنا لم نفترق فابعثي إليّ سنبوسكا حتى نصطبح اليوم على ذكرك، فلما كان في اليوم الثالث بعث إليها: إن أصحابي مقيمون فابعثي إلى بقلية جزورية شهية، حتى نأكلها ونصطبح على ذكرك، فقالت لرسوله: إني رأيت الحب يحل في القلب، ويفيض على الأحشاء والكبد، وإن حب صاحبي هذا ليس يجاوز المعدة.
خرج طفيلي من منزل قوم مشجوجاً، فقيل له: من شجك؟ قال: ضرسي.
قال المدائني في كتاب الأكلة: كان معاوية يأكل أربع أكلات آخرهن أعضلهن واشدهن، يتعشى فيأكل ثريدة عظيمة عليها بصل كثير، وكان فاحش الأكل يلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ، وكان يأكل حتى يتسطح، ثم يقول: يا غلام ارفع، فوالله ماشبعت، ولكن مللت.
قال: وكان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات آخرهم جبنة بعسل، ويوضع بين يديه بعد ما يفرغ من الطعام عناق أو جدى فيأتي عليه وحده.
قال: وقال الحسن: وقدم علينا عبيد الله بن زياد، فقدم شاباً مترافاً سفاكاً للدماء له في كل يوم خمس أكلات، فإن فاتته أكلة ظل لها صريعاً وجلا، يتكئ على شماله ويأكل بيمينه، حتى إذا أخذته الكظة قال: أبغوني حاطوما. ثكلتك أمك إنما تحطم دينك.
وقال: أكل عمرو بن معد يكرب عنزاً رباعية، وفرقاً من ذرة، والفرق ثلاثة أصوع. وقال لامرأته أم ثور: عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع. قال: فجعلت توقد، وتأخذ عضواً عضواً فتأكله، فاطلعت، فإذا ليس في القدر إلا المرق، فقامت إلى كبش آخر فبطحته، ثم أقبل عمرو فثردت له في الجفنة التي يعجن فيها، ثم كفأت القدر، فقال: يا أم ثور أدنى للغداء. قالت: قد أكلت، فأكل واضطجع ودعاها إلى الفراش، فقالت: يا أبا ثور بيني وبينك - والله - كبشان.
حج سليمان بن عبد الملك، فقال لقيمّه على طعامه: أطعمني من خرفان المدينة بخبز ماء. ودخل الحمام فأطال المكث فيه. قال: قيّمه، فخرج وقد شويت له أربعة وثمانين خروفاً، فجلس وقال لي: ما صنعت؟ قلت: قد فرغت. قال: هات. فجعلت أجيئه بواحد واحد، فيتناول رغيفاً وشحم كلية فأكل أربعة وثمانين خروفاً، كل خروف قد أخذ نصف بطنه، ثم قال لي: ادع عمر بن عبد العزيز، فدعوته له، ثم أذن للناس، ودعا بالغداء فأكل معهم كما أكلوا كأنه لم يطعم شيئاً قبل ذلك.
وحكى عن رجل قال: دخلت مطبخ سليمان، فوجدت مطبخ سليمان، فوجدت فيه اثنين وثمانين فخارة فيها نواهض، قالوا يأكلها أمير المؤمنين كلها. وخرج يوماً من منزله يريد منزل يزيد بن المهلب، فتلقاه فدخل منزله فقال له: أتريد الغداء يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فأكل أربعين دجاجة كردناك سوى ما أكل من الطعام.
قال بعضهم: رأيت هلال بن الأسعر المازني أكل ثلاث جفان ثريد، واستسقى، فجاءوا بقربة مملوءة نبيذاً فوضعوا فمها في شدقة، وصبوا القربة حتى أفرغوها فشربها. وهلال هذا هو الذي أكل بعيراً وأكلت امرأته وبينك بعيران؟ وكان بلال بن أبي بردة أكولاً، يحكى عن قصاب أنه: قال جاءني رسول بلال سحراً فأتيته وبين يديه كانون عليه جمر، وفي داره تيس ضخم، فقال: دونك هذا التيس فاذبحه، فذبحته وسلخته، فقال: أخرج هذا الكانون إلى الرواق، فأخرجته، فقال: دونك اللحم فكببه. ودعا بخوان، فجعلت أشرح اللحم وألقيه على الجمر، فإذا استوى قدمته إليه فيأكل، حتى لم يبق من التيس إلا العظام، ثم دعا بنبيذ فشرب خمسة أقداح، وقد بقيت قطعة من اللحم على الجمر، فقال: كلها فأكلتها، وقال: اسقوه. فناولوني قدحاً من النبيذ فشربته. وجاءت جارية ببرمة عليها قصعة فيها ناهضان، ودجاجتان وأرغفة، فأكل ذلك كله، ثم جاءت جارية أخرى معها قصعة مغطاة لا أدري ما فيها، فضحك إلى الجارية وقال: ويحك. ليس في بطني موضع لهذا الذي جئتني به، ولكن ضعي القصعة على رأسي، فضحكت الجارية ورجعت، فقال لي: الحق بأهلك. فرجعت وقد طلع الفجر، وأنا أجد دبيباً في رأسي من القدح الذي شربته.
قال سلم بن قتيبة: كنت في دار الحجاج مع ولده وأنا غلام، فقالوا: قد جاء الأمير، فدخل الحجاج فأمر بتنور فنصب، وقعد في الدار، وأمر رجلاً يخبز خبز الماء، ودعا بسمك، فجعلوا يأتونه بالسمك، فيأكله حتى أكل ثمانين جاماً من سمك بثمانين رغيفاً من خبز الماء.
قال رجل من قحيف: كتب إليّ عبد الله الأحمر يدعوني إلى طعام، فقلت لعنبسة - وكان أكولاً - : هل لك يازنجة؟ - وكان يلقب بذلك - في أخيك عبد الله نأتيه؟ قال: نعم. فمضينا، فلما رآه عبد الله رحب به وقال للخباز: انظر هذا فضع بين يديه مثل ما تضع بين يدي أهل المائدة كلهم، فجعل يأتيه بقصعة فيأكلها ويأتي القوم بقصعة، ثم أتاه بجدي، وأتى القوم بجدي، ثم نهض القوم فأكل ما بقي على المائدة، وخرجنا فلقيه خلف بن القطامي، فقال له عنبسة: يا خلف أما تغديني يوماً؟؟ فقلت لخلف: ويحك. لا تجده على مثل هذه الحال، فغده، فقال له: ما تشتهي؟ فقال: تمراً وسمناً.
فانطلق به إلى منزله وأتاه بخمس جلال تمر وجرة سمن، فأكل التمر والسمن، ثم خرج فمر برجل يبني داره وفيها مائة عامل، وقد أتوهم بتمر كثير، فقال: يا عنبسة؛ هل لك؟ فجعل يأكل معهم حتى ضجر العملة وشكوه إلى صاحب الدار، ثم خرج فمر برجل، بين يديه زنبيل فيه خبز أرز يابس بسمسم يبيعه، فجعل يساومه ويأكل حتى أتى على الزنبيل، فأعطيت صاحب الزنبيل ثمن خبزه.
وكان ميسرة التراس يأكل الكبش العظيم ومائة رغيف، فذكر أكله للمهدي، فقال: ادعوا الفيل، فألقوا له رغيفاً فأكل تسعة وتسعين رغيفاً، فألقوا له تمام المائة فلم يأكله، وأكل ميسرة بعد المائة.
وممن قرب عهده من الأكلة أبو الحسن بن العلاف، وهو ابن أبي بكر العلاف الشاعر. ودخل إلى الوزير المهلبي يوماً ببغداد، فأنفذا الوزير من أخذ حماره الذي كان يركبه من غلامه، وأدخل المطبخ وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدم إليه وهو يظن أنه لحم بقر فأكله كله، فلما خرج وطلب الحمار قيل له: قد أكلته، وعوضه الوزير عنه ووصله.
وسمعت من الصاحب - رحمه الله - حكايات عجيبة من أكل هذا الرجل ونهمه، فإنه ذكر أنه اقترح عليه وهو ببغداد ألواناً من الجواذابات، قال: فتقدمت باتخاذها والاستكثار منها، وأنفذت إليه بالغداة من يمنعه من الأكل غلا أن يحضر عندي، فحضر فأكل معي على المائدة مع القوم، حتى استوفى. ثم تفرد بأكل الجوذاب الذي اتخذ له، فأكل ثمانية ألوان منها، حتى مسح الأطباق التي كانت عليها، فتعجبنا من ذلك! فقال الرسول الذي كنت أنفذته إليه: إنه شكا في الطريق الجوع، وامتنع عن المجيء إلى أن صعد إلى دكان هراس، فاشترى هريسة كثيرة فأكلها.
وحملت امرأة فحلفت: إن ولدت غلاماً لأشبعن أبا العالية خبيصاً. فولدت غلاماً فأطعمته، فأكل سبع جفان، فقيل له: إنها حلفت أن تشبعك خبيصاً، فقال: والله لو علمت ما شبعت إلى الليل.
قال بنان الطفيلي: إذا دعاك صديق لك فاقعد من يمنة البيت، فإنك ترى كل ما تحب، وتسودهم في كل شيء، وتسبقهم إلى كل خير، وأنت أول من يغسل يده، والمنديل جاف والماء واسع، والخوان بين يديك يوضع، والنبيذ أول القنينة، ورأسها تشربه، والبقل منتخب يوضع بين يديك، وتكون أول من يتبخر، وإذا أردت أن تقوم لحاجة لم تحتج أن تتخطاهم، وأنت في كل سرور إلى أن تنصرف.
وقال بنان: إذا قعدت على مائدة وكان موضعك ضيقاً، فقل للذي بجنبك: لعلّي ضيقت عليك، فإنه يتأخر إلى خلف، ويقول: سبحان الله، لا والله يا أخي موضعي واسع، فيتسع عليك موضع رجل.
وقال له رجل من الطفيليين: أوصني. فقال: لا تصادفن من الطعام شيئاً فترفع يدك عنه وتقول: لعلي أصادف ما هو أطيب منه، فإن هذا عجز ووهن. قال: زدني. قال: إذا وجدت خبزاً فيه قلة فكل الحروف، فإن كان كبيراً فكل الأوساط. قال: زدني. قال: لا تكثرن شرب الماء وأنت تأكل فإنه يصدك عن الأكل ويمنعك أن تستوفى. قال: زدني. قال: إذا وجدت الطعام فكل منه أكل من لم يره قط، وتزود منه زاد من لا يراه أبداً. قال: زدني. قال: إذا وجدت الطعام، فاجعله زادك إلى الله.
وقال بنان: ما في الدنيا صناعة أخس من صناعتي! قالوا: وكيف ذاك يا أبا الحسن؟ قال: أنا أطفّل منذ ثلاثين سنة ما اسلموا إلى صبياً يتعلم.
وقال: دخلت يوماً على بعض بني هاشم، فقعدت عنده حتى تغديت معه، فلما أردت الانصراف قال: هل لك في شيء من الحلواء؟ قلت: يا سيدي ما أقضي على غائب! فدعا بجام مخروط محكوك قوائمه منه، فوقه لو زينج من نشا ستج الفالوذج، وبياض البيض، وحشوة اللوز المقشر مع سكر الطبرزد ملزقاً بألحام العسل الأبيض مندى بالماورد الجوري، إذا قلعته سمعت له وقعاً كوقع المطرقة على السندان، وإذا أدخلته الفم سمعت له نشيشاً كنشيش الحديد إذا أخرجته من النار وغمسته في الماء، فلم يزل يأكل ولا يطعمني، فقلت: يا سيدي: " إن إلهكم لواحد " فأعطاني واحدة، فقلت: " إذ أرسلنا إليهم اثنين " فأعطاني ثانية، فقلت: " فعززنا بثالث " فأعطاني ثالثة، فقلت: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك " ، فأعطاني رابعة، فقلت: " خمسة سادسهم كلبهم " ، فأعطاني خامسة، فقلت: " خلق السماوات والأرض في ستة أيام " ، فأعطاني سادسة، فقلت: " سبع سماوات طباقا " فأعطاني سابعة، فقلت: " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " فأعطاني ثامنة، فقلت: " تسعة رهط يفسدون في الأرض " فأعطاني تاسعة، فقلت: " تلك عشرة كاملة " ، فأعطاني عاشرة، فقلت: " يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً " ، فأعطاني الحادي عشر، فقلت: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله " فأعطاني الثاني عشر. فقلت: " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين " فحلق بالجام إليّ وقال: كل يا ابن البغيضة، فقلت: والله لئن لم تعطنيه لقلت: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " قال: فضحك من قولي وأمر لي بثلاثة آلاف درهم.
وقيل لبنان: من دخل إلى طعام لم يدع إليه دخل لصاً، وخرج معيراً؛ فقال: أما أنا فلا آكله إلا حلالاً. قيل له: وكيف ذاك؟ قال: أليس صاحب الوليمة يقول للخباز أبداً: زد في كل شيء فإنه يجيئنا من نريد ومن لا نريد؟ فأنتم ممن يريد وأنا ممن لا يريد.
وقال بعضهم: قدم أعرابي من البادية عليّ فقدمت إليه دجاجة مشوية، ولي امرأتان وابنان وابنتان، فقلت للأعرابي: اقسم الدجاجة بيننا نريد بذلك أن نضحك منه، قال: فأخذ رأس الدجاجة فقطعه، ثم ناولنيه، فقال: الرأس للرئيس، ثم قطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين، ثم قطع الساقين وقال: اسلاقان للابنتين، ثم قطع الزمكي وقال: العجز للعجوز، ثم ضم الباقي إليه وقال: الزور للزائر، فأخذ الدجاجة بأسرها، فتحيرنا وسخر بنا.
قال: فلما كان بعد ذلك أحضرت خمس دجاجات، وقلت: اقسمها بيننا، فقال: كيف تحب القسمة شفعاً أو وتراً؟ فقلت: لا، بل وتراً. فقال: أنت وامرأتك ودجاجة وتر، وابناك ودجاجة وتر، وابنتاك ودجاجة وتر، وأنا ودجاجتان وتر. فضحكنا، فقال: لعلك لم ترض بها، إن شئتم قسمتها شفعاً، قلت: افعل، فقال: أنت وابناك ودجاجة شفع، وامرأتك وابنتاك ودجاجة شفع، وأنا وثلاث دجاجات شفع. قال الجمّاز: الحمية إحدى العلتين.
وقيل لمتفرس من أصبهان: لا تأكل الكشكشية مع وجع رجلك فقال: سواء عليّ أن توجعني رجلي أو توجعني الكشكية.
قال بعضهم: إذا تقدمت الدعوة من الليل انتعش الإنسان في فراشه.
جاء طفيلي إلى باب دار فيها عرس، فمنع من الدخول فمضى، ثم عاد وقد حمل إحدى نعليه في كمه، وعلق الأخرى بيده، وأخذ خلالاً يتخلل به، وجاء فدق الباب، فقال له البواب: ما لك؟ قال: الساعة خرجت ونسيت نعلي هناك. قال: فادخل. فدخل وأكل مع القوم ثم خرج.
دخل طفيلي على قوم، وجلس يأكل مع الأضياف، فاستحيا صاحب المنزل من القوم، وكره أن يتوهموا أنه قد دعاه، وعاشرهم بمثله، فقال: لا أدري لمن أشكر؟ لكم إذ أجبتم دعوتي، أم لهذا الذي جاء من غير أن أدعوه؟ فعلم القوم أن الرجل طفيليّ.
قالوا: الطفيلي منسوب إلى رجل كان بالكوفة يسمى طفيلاً، كان يأتي الولائم من غير أن يدعى، فقيل له: طفيل العرائس، وقيل: إنه مأخوذ من الطفل وهو الظلمة؛ لأن الفقير من العرب كان يحضر الطعام الذي لم يدع إليه مستتراً بالظلمة لئلا يعرف. وقيل: سمي بذلك لإظلام أمره على الناس لا يدرون من دعاه. وقيل: بل هو من الطفل لهجومه على الناي كهجوم الليل على النهار، ولذلك قيل: أطفل من ليل على نهار.
دخل طفيلي على رجل قد دعا قوماً، فقال له صاحب المنزل: يا هذا متى قلت لك تجئ؟ قال: ومتى قلت لي: لا تجئ؟.
كان بالبصرة طفيلي يقال له: أبو سلمة، وكان إذا سمع بذكر وليمة بادر إليها، يقدمه ابنان له في زي العدول، وبين أيديهم غلام، فإذا أتوا الباب تقدم العبد فقال: افتح هذا أبو سلمة قد جاء، ثم يتلوه أحد ابنيه فيقول: افتح ويلك هذا أبو سلمة، ويتلوه الآخر ويقول: ماذا تنتظر؟ ثكلتك أمك! قد جاء أبو سلمة، ثم يأتي أبو سلمة فيقول: افتح يا بني، فإن كان جاهلاً به فتح، وإن كان قد عرف أمره وحذر منه قال: يا أبا سلمة أنا مأمور، فيجلس وينتظر أن يجئ بعض من دعي، فإذا فتح له شق الباب تقدم ابناه والعبد، وفي كم كل واحد منهم فهر مدور ململم يسمونه كيسان، فيلقونه في دوارة الباب فلا ينصفق الباب، فيدخلون ويأكلون.
ألقاب الأطعمة وغيرها على مذهب الطفيليين
الطشت والإبريق: بشر وبشير. الخوان: أبو جامع. السفرة: أبو رجاء. الخبز: أبو جابر. اللحم: أبو عاصم. الملح: أبو عون. القدر: ميمون الزنجي. الغضارة: أم الفرج. الحواري: نجوم الفكة. البقل: زحام بلا منفعة. الجوز والجبن: معاوية وعمرو بن العاص. الرواصل: يأجوج ومأجوج. البيض: بنات نعش. الثريد: جبير بن مطعم. الجبم: راشد الخناق. الجوز: أبو القعقاع. الزيتون: خنافس الخوان. الصحناءة: أم البلايا. الباذنجان: قباب ياسر. الكامخ: عرق الشيطان. البوارد: برائد الخير. البزماورد: أبو كامل الطيالسي. السنبوسك: جامع سفيان. الماء: أبو غياث. الخردل: أبو كلثوم: الجلاد. الدجاجة: سمانة القوادة. البطة: بهادة السوسية. الحمل: شهيد بن شهيد. الجدي: أبو العريان. الرقاق: أبو الطيالس. التير: وضاح اليمن. الرغيف السميد: أبو بدر. السكباج: أم عاصم. المضيرة: أم الفضل. الكشكية: أم حفص. الهريسة: أم الخير. الرأس: قيم الحمام. ماء البلاقلاء: أبو حاضر. السمك: أبو سابح. الأكارع: أبو الخرق. الخل: أبو العباس. الفتيت: أبو نافج. القنّبيطية: دويرة الرومية. المغمومة: المقنع الكندي. المرئ: أبو مهارش. الزبيبة: أبو الأسود الدؤلي. القشمشية: أم الحمال. الملبقة: أم سهل. الطباهجة: زلزل المغنى. البقيلة: المشئومة. القلية: الناعية. المصلية: أم بشير. الأرز: أبو الأشهب. النرجسية: أم الثريا. الجوذاب: أم الحسن. الفالوذج: أبو مضاء. السكر: أبو الطيب. الطبرزد: أبو شيبة الخوري. اللحم المشوي: الروح الأمين. العسل: أم المؤمنين. الخبيص: أبو نعيم. الحلواء: خاتم النبيين. الكفدوس: موطأ مالك. اللوزينج: بكير الطرائفي. القطائف: قبور الشهداء. الفراريج: بنات المؤذن. السويق: أم حبيب. الخلال: أبو البأس. الأشنان والمخلب: منكر ونكير. النبيذ: أبو غالب. الغرابة: أم رزين. النقل: أبو تمام. النرجس: أبو العيناء. السايكسي: أم فرعون. القدح: أبو قريب. النبيقة: أم الفتيان. الصراحيّة: أم القاسم. القطارمير: أبو مزاحم. المغنى: أبو الأنس. الزامر: حميد الكوسج. المواخر: أبو صابر. القحبة: أم ياسر. المخنث: أبو عطية. الثقيل: أبو ثهلان. القوّاد: أبو مغيث. المسخرة: الضحاك بن قيس. العربدة: ضرار بن مخرق. الطفيلي: أبو الصقر الليثي. الذي يتبع الطفيلي: زائدة بن مزيد. القفل: أبو منيع. المفتاح: أبو الفرج. الدينار: أصفر سليم. الدرهم: أبو واضح.أكثر هذه الألقاب والكنى سمعتها من شيخ من الصوفية يعرف بأبي الخير من ساكني الدينور، كان الصاحب - رحمه الله - يأنس به ويحسن إليه، وكان شيخاً خفيف الروح، كثير النودار، مع ورع وسداد، يرجع إليهما، وكان حافظاً للقرآن، فكان قد جمع كل آية فيها ذكر الأكل، فكان إذا ذكر الطعام وحضر وقته قف بين يدي الصاحب، وقرأ كل آية يتصل بها " كلوا " ويقف عليه، فإذا دخل شهر رمضان وصام الناس وقف على " لا تأكلوا " . فكان يقول إذا أبطأ عنه الطعام، وحضر وقت الغداء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
" اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا " ، و " وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا " . " وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا " . " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا " . " كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار. يا أيها الناس كلوا " . " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون. يا ايها الذين آمنوا كلوا " . " أحل لكم ليلى الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا " . " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه " . " أحل لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا " . " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا " .
" إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. فكلوا " . " وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا " . " وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا " . " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا " . " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا " . " وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا " . " وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا " .
" لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا " .
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي " .
" ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون. فكلوا " .
" وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكلي " .
" وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى. كلوا " .
" قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى. كلوا " .
" ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا " . " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين. يا أيها الرسل كلوا " .
" والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا " .
" لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال فكلوا " .
" إن المتقين في جنات ونعيم. فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم. كلوا " .
" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا " .
" إن المتقين في ظلال وعيون. وفواكه مما يشتهون. كلوا " .
" إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين. كلوا " .
" فهو في عيشة راضية. في جنة عالية. قطوفها دانية. كلوا " .
" إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب. ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون " . " فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين يأكلون " .
" وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون " .
" ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل " .
" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون " .
" ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا " .
" هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نريد أن نأكل " .
" فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. وما لكم ألا تأكلوا " .
" يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون " .
" ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. ذرهم يأكلوا " .
" ليس عليكم جناح أن تأكلوا " .
" وما أرسلنا قبلك من المرسلين ألا إنهم ليأكلون " .
" وما جعلناهم إلا جسداً لا يأكلون " .
" وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون " .
" وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " .
" إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون " .
" وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون " .
" فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون " .
" فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال ألا تأكلون " .
" هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا " .
وكان يقرأ في شهر رمضان: " تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون. ولا تأكلوا " .
" ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم. يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا " .
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا " .
" فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم بأموالهم ولا تأكلوها " .
" يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً. يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا " .
" إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون. ولا تأكلوا " .
//بسم الله الرحمن الرحيم بذكر الله نستأنف البركة ونستجدها ، وبحمد الله نستديم الموهبة ونستمدها ، وبالتعويل على الله نستقرب النازح ، وبالتفويض إلى الله نستلين الجامح ، وبشكر الله نرتهن النعمة حتى لا تزول . ونستثبتها حتى لا تزل ونعتقلها حتى لا تشرد ، ونستدنيها حتى لا تبعد ، ونستديمها حتى لا تنفد ، ونستمهلها حتى لا تزحل ، ونستوثقها حتى لا ترحل ، ونحسن مجاورتها حتى تخزن عندنا فلا تجمح ، وتقر لدينا فلا تبرح ، وتشتمل في مواردنا فلا تنزح . نحمده حمد من عرف قدرته فأذعن لها ، وعلم حكمته فآمن بها ، ونسأله أن يصلى على محمد وآله ، سؤال طاعة لا سؤال شفاعة ، فإنه صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته ، يجل عن أن يشفع له ، وتقل عن أن يشفع فيه ولكنا أمرنا بالصلاة عليه ، والتسليم إشادة لمعاليه . قال الله تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم أنت واري الخفية ، وبارىء البرية ، وداحي الأرض ورافع السماء ، وجاعل كل حي من الماء أنت الواحد الفرد فلا تضاد ، والفاعل لما تشاء فلا تراد ، والغالب لكل شيء فلا تدافع ، والقاهر فوق عبادك فلا تمانع ، ) تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير ) . اللهم فأعنا على الاخرة بالطاعة ، وعلى الدنيا بالقناعة وأغننا بفضلك عن فضول خليقك ، وصنا عن الحسد على ما فضلت به بعضنا من لدنك ، ووسع حولنا في العيش والمعاش ، وأسبغ علينا سلامة النفس وحسن الرياش ، وارزقنا كفاء ما يكف الوجه عن المسألة ، ويصون العرض عن المذلة . ويسد الجوعة فلا نشرى ، ويستر العورة فلا نعري ، ويعين على المروءة فلا نفتن ، ويلم الشعث فلا تزرينا الأعين ، وينوء بنا إلى صلة الرحم وبذل الماعون الإيثار على النفس ، والجود بما يفضل عن القوت ، وجبر الكسر ، وإطعام الفقير ، وإقناع القانع ، وإرضاء المعتر ، وإغاثة المهتضم ، وإعانة المستضعف . إنك نعم المدعو ، ونعم المؤمل والمرجو ، وأنت كل شيء قدير .
هذا هو الفصل الثالث من كتاب نثر الدر ، قد افتتحته بكلام الخلفاء من بني أمية وبني هاشم ، وربما خلطت به نبذا يسيرا من من نوادر أخبارهم ، ونكث آثارهم ، لا يخرج به الكتاب عن الغرض الذي رميناه ، والقصد الذي تحريناه ، وذكرت من جملة خلفاء بني العباس إبراهيم بن المهدي ، وعبد الله بن المعتز ، فقد بويع لهما بالخلافة ، ولهما كلام شريف ، لا يقصر عن كلام الكافة ، وأتبعت ذلك بأبواب سأذكرها ، وختمته بنوادر وملح وشحت الفضل بها .
ولعل قائلا يقول : هلا أفرد للهزل كتابا أو أخره ، ليجعل له عند انقضاء الجد بابا .
ولا يعلم أني جعلت ذلك مصيدة للجاهل تفقه على العلم ، وحيالة للهازل ، توقعه في الجد . ولعلى لو أفردت له فصلا ، ولم أخلط الكتاب جدا وهزلا ، لعدل أكثر أبناء زماننا إلى ذلك الباب المفرد ، ولصار الجد عندهم في حيز المستثقل المستبرد ، بل المهجور المتروك ، وإن كان كالنير المسبوك أو الدر المسلوك .
الفصل الثالث
(232) وأبواب هذا الفصل ثلاثة عشر بابا .الباب الأول : كلام معاوية بن أبي سفيان وولده الباب الثاني : كلام مروان بن الحكم وولده الباب الثالث : كلام خلفاء بني العباس الباب الرابع : كلام جماعة من بني أمية الباب الخامس : نكت من كلام الزبيرين الباب السادس : نوادر أبي العيناء ومخاطباته الباب السابع : نوادر مزبد الباب الثامن : نوادر أبي الحارث جمين الباب التاسع : نوادر الجماز الباب العاشر : نوادر المجانين