كتاب : نثر الدر
المؤلف : الآبي
رحم الله أبا سفيان، لكأنها تسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية فكتب إلى أبي العريان:
ما لبثتك دنانيراً رشيت بها ... أن لونتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان ابنه وأملى عليه إلى معاوية:
من يسد خيراً يجده حيث يطلبه ... أو يسد شراً يجده حيثما كانا
تقدم رجل إلى سوار، وكان سواراً له مبغضاً فألح عليه فقال له سوار في بعض مخاطبته: يا بن اللخناء. فقال: ذاك خصمي. فقال الخصم: أعدني عليه. فقال له الرجل: خذ له بحقه وخذ لي بحقي. ففهم وسأله أن يغفر له.
قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان: إياكم والطمع؛ فإنه دناءة. والله لقد رأيتني على باب خاصة الحجاج، فأردت أن أعلوه بالسيف فقال: يا بن ظبيان هل لقيت يزيد بن أبي مسلم قلت: لا. قال: فألقه فإنا قد أمرناه أن يعطيك عهدك على الري. قال: فطمعت فكففت. فإياكم والطمع فإنه دناءة.
وكأن الحجاج فطن لما أراد عبيد الله فاحتال بهذا الكلام أن يرده عن نفسه، ولم يكن تقدم في بابه وفي توليته بشيء.
قالوا: لما حبس الحلاج عند القشوري مرض ابن له، واشتهى التفاح الشامي، وكان لا يصاب لفوت أوانه، فتلطف الحلاج واحتال حتى سأله القشوري تفاحة شامية. قصد بها ليعرف أمر الحلاج في صدقه وكذبه، وأراد أيضاً بلوغ مراده في ولده. وكان الحلاج قد أعد تفاحة لذلك فحين سأله أومأ بيده هكذا وأعادها بتفاحة. وتناولها القشوري يقبلها ويتعجب منها والحلاج يقول: الساعة قطعتها من شجر الجنة قال القشوري 402: إني أرى في موضع منك عيباً. قال الحلاج غير مطرق ولا مكترث: أما علمت أنها إذا خرجت من دار الفناء، لحقها جزء من البلاء. فكان جوابه أحسن من فعله وحيلته.
أتى مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار، فأمر بضرب عنقه فقال: أيها الأمير؛ ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك وأقول: يا رب؛ سل مصعباً لماذا قتلني؟ فقال: أطلقوه. فقال: أيها الأمير، اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض عيش. قال: أعطوه مائة ألف درهم. قال: بأبي وأمي أشهد الله أني قد جعلت منها لابن قيس الرقيات خمسين ألفاً. قال: ولم؟ قال: لقوله فيك:
إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
فضحك مصعب وقال: فيك موضع للصنيعة وأمره. بملازمته.
خاصم رجل رجلاً إلى إياس بن معاوية وهو قاضي البصرة فطلب منه البينة فلم يأته بمقنع فقيل له: استجر بوكيع بن أبي سود حتى يشهد لك. فإن إياساً لا يجترئ على رد شهادته ففعل فقال وكيع: والله لأشهدن لك، فإن رد شهادتي لأعممنه السيف. فلما طلع وكيع فهم إياس، فأقعده إلى جانبه ثم سأله عن حاجته فقال: جئت شاهداً. فقال له: يا أبا المطرف، أتشهد كما تفعل الموالي والعجم؟ أنت تجل عن هذا. قال: إذاً والله لا أشهد. فقيل لوكيع بعد أيام: إنما خدعك. فقال: أولى لابن اللخناء.
قالوا: كان الوليد بن عقبة أشعر بركاً لأنه كان كثير شعر الصدر، فقال عدي بن حاتم يوماً: ألا تعجبون لهذا؟ أشعر بركاً يولى مثل هذا المصر؟ والله ما يحسن أن يقضى في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلاً سماني أشعر بركاً إلا قام. فقام عدي بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن الذي يقوم فيقول أنا سميتك أشعر بركاً لجريء فقال له: اجلس أبا طريف فقد برأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برأني الله منها.
لما كتب المنصور أمان عبد الله بن علي واستقصى ابن المقفع وكان كاتب أخيه سليمان بن علي - وأكد سليمان وأخوته الإيمان والعهود على المنصور في أمانه. قال لهم المنصور: هذا لازم لي إذا وقعت عيني عليه. فلما أدخل داره تقدم حتى عدل به، ولم يره المنصور فحبس. فكتب من الحبس إلى إخوته: هذه حيلة جرت علي بكم ومنكم فاحتالوا لي فيها.
ولما كتب المنصور إلى عامله بالبصرة بحبس ابن المقفع وقتله جاء عمومته وأحضروا الشهود بأن ابن المقفع دخل إلى دار الوالي ولم يخرج منها وطالبوه بالقود منه. قال المنصور: إن أنا أقدت من عاملي وقتلته ثم خرج عليكم ابن المقفع من هذا الباب، من الذي يرضى بأن أقتله بعاملي قوداً منه؟ فسكت القوم وأهدر دم ابن المقفع.
ولما دخل الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الكوفة قيل له: لم تقتل أهل الأطراف ومعك بالكوفة أصل الإرجاء أبو حنيفة. فأرسل إليه 403 فأحضره فلما رآه قال: اضربوا عنقه. من قبل أن يكلمه. فقال أبو حنيفة: كفرت. قال: ولم؟ قال: تقتل رجلاً لم تسمع كلامه. قال: ما تقول في الإيمان؟ قال: هو قول، قال: قد صح كفرك. اضربوا عنقه. قال: تضرب عنق رجل لم تستتبه. قال: فما تقول؟ قال: أنا تائب. فتركه.
قال الأصمعي: وفد بكر بن وائل وخاله تميم بن مر على ملك من ملوك اليمن، فكان يقدم بكراً فقال تميم: أيها الملك؛ إن هذا ابن أختي فلا تعطه شيئاً إلا أعطيتني مثله. قال: فقال بكر: أيها الملك، خالي هذا أسوأ الناس ظناً فلا تعطني عطية إلا أضعفتها له. فقال: نعم. ففعل فلما رضي تميم قال بكر: أريد أن تقلع إحدى عيني وتقلع عيني تميم. فرجع هذا أعور وذاك أعمى.
قال سعيد بن جبير: لما حج معاوية وقد ذكر بيعة يزيد فقال: قد اجتمع الناس غير أربعة: الحسين بن علي وابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فأرسل إليهم في ذلك، وقال: من يرد علي في ذلك؟ فقالوا: يرد ابن الزبير. فقال معاوية لهم: ما تقول؟ قال: اختر منا ثلاث خصال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة أبو بكر، أو سنة عمر. أما النبي عليه السلام فتوفى ولم يستخلف أحداً، فاجتمع المسلمون على أفضلهم أبي بكر، واختار هو خيرهم عمر، ثم جعلها عمر شورى، وله يومئذ ولد خير من ولدك ممن صحب النبي عليه السلام وهاجر فلم يفعل ذلك. وأنت أخبرتني يا معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأخير منهما.
فلما رأى معاوية ذلك قال: تسمعون لي وتطيعون؟ قالوا: نعم. فخطب فقال: إن هؤلاء القوم قد بايعوني على ما أردت. ثم انحدر فركب رواحله وانطلق فحسب الناس أنهم قد بايعوه.
كتب ابن الزبير إلى معاوية: قد علمت أني صاحب الدار وأني الخليفة بعد عثمان ولأفعلن ولأفعلن. فقال معاوية ليزيد: ما ترى؟ قال: أرى: والله أن لو كنت أنت وابن الزبير على سواء ما كان ينبغي أن ترضى بهذا. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن توجه إليه جيشاً. قال: إن أهل الحجاز لا يسلمونه فكم ترى أن أوجه إليه؟ قال: أربعين ألفاً. قال: لهؤلاء دواب، وكل دابة تحتاج إلى مخلاة. فكم ثمن المخلاة؟ قال: درهم. فقال: هذه أربعون ألف درهم. ثم قال: يا غلام؛ اكتب إلى ابن الزبير: قد وجه إليك أمير المؤمنين ثلاثين ألفاً فاستمتع إلى أن يأتيك رأيه.
فكتب إليه ابن الزبير قد وصل إلينا المال، فوصل أمير المؤمنين رحماً. فقال معاوية ليزيد: قد ربحنا على ابن الزبير في المخالي عشرة آلاف.
استأذن زياد معاوية في الحج فأذن له وبلغ ذلك أبا بكرة وكان أخاه من أمةٍ اسمها سمية وكان حلف ألا يكلم زياداً حيث رجع عن الشهادة على المغيرة وألا يظله وإياه سقف بيت أبداً. فدخل أبو بكرة دار الإمارة على زياد، فأمر زياد بكرسيين فوضعا في صحن القصر ليمينه، فجلس أبو بكرة على أحدهما وزياد على الآخر ومع زياد بني له حيث مشى. فقال أبو بكرة لابنه: تعال يا بن أخي. فجاء الصبي فجلس في حجره فقال له: كيف أنت؟ كيف أهلك؟ اسمع مني يا بن أخي - وإنما يريدان أن يسمع 404 زياداً - إن أباك هذا أحمق، قد فجر في الإسلام ثلاث فجرات ما سمعنا بمثلهن؛ أما أولاهن فجحوده الشهادة على المغيرة، والله يعلم أنه قد رأى ما رأينا فكتم، وقد قال الله: " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " . فحلفت ألا أكلمه أبداً؛ وأما الأخرى فانتفاوه من عبيد، وادعاؤه إلى أبي سفيان، وأقسم لك بالله - يا بن أخي - صدقاً ما رأى أبو سفيان سمية قط في ليل ولا نهار، ولا في جاهلية ولا إسلام؛ وأما الثالثة فأعظمهن. إنه يريد أن يوافي العام الموسم، وأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه السلام تأتي الموسم كل عام، فإن هو أتاها فأذنت له كما تأذن الأخت لأخيها فأعظم بها مصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم! وإن هي حجبته وتسترت منه فأعظم بها حجة عليه ثم نهض. فقام زياد في إثره وأخذ بقميصه وقال: جزاك الله من أخ خيراً، فما تركت النصيحة لأخيك على حال. وترك الحج.
استعمل عمر المغيرة بن شعبة على البحرين ثم عزله، فقال دهقان القرية لأهلها - وكان مطاعاً فيهم: اجمعوا لي مائة ألف درهم آتي بها عمر ففعلوا، فقال عمر: ما هذا؟ قال: هذا أودعناه المغيرة. فقال عمر للمغيرة: ما هذا؟ قال: إنها مائتا ألف درهم. فقال للدهقان: قد تسمع. فقال: والله ما أودعنا شيئاً، إلا أننا خفنا أن ترده إلينا. فقال عمر للمغيرة: ما دعاك إلي ما قلت؟ قال: أحببت أن أخزيه إذ كذب علي.
كان سعد القرظ زنجياً عبداً لعمار بن ياسر، وكان على نخلة يجتبي منها فسمع الزنج يتكلمون فيما بينهم فأذن، فاجتمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: ما حملك على الأذان؟ فقال: خفت عليك فأذنت ليجتمع إليك أصحابك. فأمره بعد ذلك بالأذان فكان مؤذناً.
قال عباس بن سهل الساعدي: لما ولي عثمان بن حيان المري المدينة عرض ذات يوم بذكر الفتنة، فقال له بعض جلسائه: عباس بن سهل كان شيعة لابن الزبير وكان قد وجهه في جيش إلى المدينة. قال: فتغيظ علي، وآلى ليقتلنني. فبلغني ذلك فتواريت عنه حتى طال علي ذلك، فلقيت بعض جلسائه، فشكوت ذلك إليه، وقلت له: قد آمنني أمير المؤمنين عبد الملك. فقال لي: ما يخطر ذكرك إلا تغيظ عليك وأوعدك، وهو ينبسط للحوائج على طعامه، فتنكر وأحضر طعامه ثم كلمه بما تريد.
ففعلت، فأتى بجفنة ضخمة فيها ثردة عليها اللحم. فقلت: لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد وتكاوس الناس على بباحته. ووصفت له باحته فجعل يقول: أرأيته؟ فقلت: لعمري كأني أنظر إليه حين تخرج علينا وعليه مطرف خز يجر هدبه يتعلقه حسك السعدان ما يكفه عنه، ثم يؤتي بجفنة، فكأني أنظر إلى الناس يتكاوسون عليها؛ منهم القائم ومنهم القاعد. قال: ومن أنت رحمك الله قلت: آمني آمنك الله. قال: قد آمنتك، قلت: أنا عباس بن سهل الأنصاري. قال: فمرحباً بك وأهلاً، أهل الشرف والحق.
قال عباس: فرأيتني وما بالمدينة رجل أوجه عنده مني. قال: فقال بعض القوم بعد ذلك: يا عباس؛ أأنت رأيت حيان بن معبد يتكاوس الناس على جفنته. فقلت: والله لقد رأيته ونزلنا باحته فأتانا في رحالنا وعليه عباءة قطوانية، فجعلت أذوده بالسوط عن رحالنا خيفة أن يسرقنا.
الباب الرابع
نكت من كلام الحكماء
قيل لبعضهم: أخرج هذا الغم من قلبك. فقال: ليس بإذني دخل.قال رجل لشبيب من شيبة: أنا والله أحبك يا أبا معبد. قال: أشهد على صدقك. قال: وكيف ذاك، قال: لأنك لست بجار قريب، ولا ابن عم نسيب، ولا مشاكل في صناعة.
قالوا: صاحب السوء قطعة من النار. ولذلك لما قال القائل: ما رأينا في كل خير وشر خيراً من صاحب. قال الآخر: ولا رأينا في كل خير وشر شراً من صاحب.
قال أبو عثمان النهدي: أتت علي مائة وثلاثون سنة، ما من شيء إلا وأنا أجد فيه النقص إلا أملي فإني أجده كما أو يزيد.
قال بعضهم: العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً.
سئل بعضهم عن الغنى فقال: شر محبوب وعن الفقر فقال: ملك ليس فيه محاسبة.
الفرصة ما إذا حاولته فأخطاك نفعه لم يصل إليك ضره.
بلوغ أعلى المنازل بغير استحقاق من أكبر أسباب الهلكة.
كل شيء يعز إذا قل، والعقل كلما كان أكثر كان أعز وأغلى.
قال عامر بن عبد القيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
قالوا: مقتل الرجل بين لحييه.
التثبت نصف العفو.
قال أكثم: الكرم حسن الفطنة. واللؤم سوء التغافل.
قيل: أسوأ الناس حالاً من اتسعت معرفته، وبعدت همته، وضاقت مقدرته.
كان عبد الملك بن الحجاج: يقول: لأنا للعاقل المدبر أرجا مني للأحمق المقبل.
وقالوا: أمران لا ينفكان من الكذب: كثرة المواعيد وشدة الاعتذار.
قال الفضيل بن عياض لسفيان الثوري: دلني على من أجلس إليه. قال: تلك ضالة لا توجد.
قيل لعبد الله بن كرز: هلا أجبت أمير المؤمنين حين سألك عن مالك. قال: إنه إن استكثره حسدني، وإن استقله حقرني.
قال بعضهم: عيادة النوكى الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير وقت.
قال محمد بن واسع:
ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث؛ بلغة من عيش له ليس لأحد فيها منة، ولا لله علي فيها تبعة، وصلاة في جماعة أكفى سهوها ويدخر لي أجرها، وأخ إذا ما أعوججت قومني.
مر عمر بن ذر بابن عياش المنتوف وكان قد سفه عليه ثم أعرض عنه، فتعلق بثوبه وقال: يا هناه؛ إنا لم نجد لك إذا عصيت الله فينا خيراً من أن نطيع الله فيك.
قال بعضهم: ما نصحت لأحد إلا وجدته يفتش عن عيوبي.
قال لبعضهم: أي الناس أحلم؟ قال: سفهاء لقوا أكفاءهم.
قال خليفة بن عبد الله التغلبي: ما خاصمت أحمق ولا كيسا إلا رأيته بصيراً بما يسوءني.
سأل ابن أبي بكرة: أي شيء أدوم إمتاعاً؟ قال: المنى.
وقال عباية ما يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم.
وقال ابن أبي الزناد: المنى والحلم أخوان.
وقال بعضهم: الأماني للنفس مثل الترهات للسان.
قال عمرو بن الحارث: 406 كنا نبغض من الرجال ذا الرياء والنفج ونحن اليوم نتمناهما.
قال صالح المري: تغدو الطير خماصاً، وتروح شباعاً، وائقة بأن لها في كل غدوة رزقاً لا يفوتها. والذي نفسي بيده لو غدوتم إلى أسواقكم على مثل إخلاصه لرجعتكم ودينكم أبطن من بطون الحوامل.
قال خالد بن صفوان: السفر عتبات؛ فأولها: العزم، والثانية: العدة، والثالثة: الرحيل، وأشدهن العزم.
قال أكثم بن صيفي: العافية الملك الخفي.
وقال الفضل بن سهل؛ ليست الفرصة إلا ما إذا أخطأك نفعه لم ينلك ضرره.
قالوا: سوء حمل الغنى يورث مقتاً، وسوء حمل الفاقة يضع شرفاً.
وقال أكثم: من جزع على ما خرج من يده فليجزع على ما لم يصل إليه قال بعضهم: ظفر الكريم عفو، وعفو اللئيم عقوبة.
كان يقال: لا ينبغي لأحد أن يدع الحزم لظفر ناله عاجز، ولا يرغب في التضييع لنكبة دخلت على حازم. وكان يقال: ليس من حسن التوكل أن تقال عثرة ثم يركبها ثانية قيل: لولا الإغضاء والنسيان، ما تعاشر الناس لكثرة الأضغان.
قالوا: ثلاث يرغمن العدو: كثرة العبيد، وأدب الولد، ومحبة الجيران.
يقال: سوء القالة في الإنسان إذا كان كذباً نظير الموت؛ لفساد دنياه، وإذا كان صدقاً أشد من الموت لفساد آخرته.
قالوا: يرضى الكرام الكلام، ويصاد اللئام بالمال: ويسبى النبيل بالإعظام، ويستصلح السفلة بالهوان.
قالوا: أمران أنس بالنهار وحشة بالليل: المال والبستان.
قالوا: لا يزال المرء مستمر ما لم يعثر، فإذا عثر مرة في الخيار لج به العثار ولو كان في جدد قال بعضهم: ما شيبتني السنون، ولكن شكري من أحتاج أن أشكره.
قالوا: المتواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها، والمتكبر كالربوة لا يقر عليها قطرها ولا قطر غيرها.
يقال: إنه لا يصبر ويصدق في اللقاء إلا ثلاثة: مستبصر في دين، أو غيران على حرمة، أو ممتعض من ذل.
قال بعضهم: في مجاوزتك من يكفيك فقر لا منتهى له حتى تنتهي عنه.
وكان يقال: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
اعتذار من منع خير من وعد ممطول.
خير المزاح لا ينال، وشره لا يقال. وإنما سمي مزاحاً لأنه أزيح عن الحق.
اليأس من أعوان الصبر.
قيل لبعض الحكماء: أي الأمور أعجل عقوبة وأسرع لصاحبها صرعة؟ قال: ظلم من لا ناصر له إلا الله عز وجل، ومجاورة النعم بالتقصير واستطالة الغني على الفقير.
يقال: من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره. قالوا: شيئان لا يعرف طعمهما إلا بعد فقدهما: العافية والشباب.
نظر شاب إلى شيخ يقارب خطاه فقال له: من قيدك؟ قال: الذي تركته يفتل قيدك.
قيل لشيخ قد ذهب منه المأكل والمشرب والنكاح: هل تشتهي أن تموت؟ قال: لا. قيل: ولم ذاك؟ قال: أحب أن أعيش وأسمع الأعاجيب.
قيل لبعضهم: ما بال الشيخ أحرص على الدنيا من الشاب؟ 407 قال: لأنه قد ذاق من طعم الدنيا ما لم يذقه الشاب.
قالوا: الدين عقلة الشريف، ما استرق الكريم أفظ من الدين.
اختصم رجلان إلى سعيد بن المسيب في النطق والصمت: أيهما أفضل؟ فقال: بماذا أبين لكما؟ فقالا: بالكلام. فقالا: إذاً الفضل له.
وقيل لبعضهم: السكوت أفضل أم النطق؟ فقال: السكوت حتى يحتاج إلى النطق.
قيل: العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل.
قيل لبعضهم: ما جماع العقل؟ فقال:
ما رأيته مجتمعاً في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملا فلا حد له.
قال الزهري: إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل.
وقيل: عظمت المئونة في عاقل متجاهل، وجاهل متعاقل.
وقيل: إنك تحفظ. الأحمق من كل شيء إلا من نفسه.
قيل لبعضهم: العقل أفضل أم الجد؟ فقال: العقل من الجد.
قال بعضهم: ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره وطاعة نفسه عليه ممتنعة.
قيل لآخر: أتحب أن تهدى إليك عيوبك؟ فقال: أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا.
قيل لآخر: هل شيء أضر من التواني؟ قال: الاجتهاد في غير موضعه.
وقيل: العجز عجزان عجز التقصير. وقد أمكن الأمر، والجد في طلبه وقد فات.
وقيل لآخر: أسأت الظن. فقال: إن الدنيا لما امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذراً.
تأمل حكيم شيبه فقال: مرحباً بزهرة الحنكة، وثمرة الهدى، ومقدمة العفة، ولباس التقوى.
قيل: لا يسود الرجل حتى لا يبالي في أي ثوبيه ظهر.
سمع حكيم رجلاً يدعو لآخر ويقول: لا أراك الله مكروهاً. فقال: دعوت له بالموت فإن من عاش لا بد له في الدنيا من مكروه.
قالوا: من صفات العاقل ألا يتحدث بما يستطاع تكذيبه.
قيل لبعضهم: متى يحمد الكذب؟ فقال: إذا قرب بين المتقاطعين. قيل: فمتى يذم الصدق. قال: إذا كان غيبة.
دنا رجل من آخر فساره فقال: ليس ها هنا أحد، فقال: من حق السرار التداني.
وكان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان قال له: أظهر؛ فلو كان فيه خير لما كان مكتوماً.
قيل: السعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره.
قيل: مما يدل على كرم الرجل سوء أدب غلمانه.
أفحش الظلم ظلم الضعيف.
العبد من لا عهد له.
قيل: إن ذا الهمة وإن حط نفسه يأبي إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً.
قيل: الجد أجدى، والجد أكدى.
وقالوا: الدين غل لله في أرضه فإذا أراد أن يذل عبداً جعله في عنقه وقيل: تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه.
قيل: العاقل إذا تكلم بكلمة أتبعها مثلاً، والأحمق إذا تكلم بكلمة أتبعها حلفاً.
قيل: الحركة نكاح الجد العقيم.
قيل: أربعة لا يستحيى من الختم عليها؛ المال لنفي التهم، والجوهر لنفاسته، والطيب للأبدان، والدواء للاحتياط.
قيل: إذا أيسرت فكل رجل رجلك، وإذا افتقرت أنكرك أهلك.
قالوا: لو جعل المال للعقلاء مات الجهال، فلما صار في أيدي الجهال استنزلهم العقلاء عنه بلطفهم.
قيل: نعم الغريم الجوع. 408 كلما أعطي أخذ.
قال بعضهم: ما رددت أحداً عن حاجة إلا تبينت العز في قفاه والذل في وجهه.
قيل: الابتداء بالصنيعة نافلة، وربها فريضة.
العدو المبطن للعداوة كالنحل يمج الدواء ويحتقب الداء.
سئل ابن القرية: ما الدهاء؟ قال: تجرع الغصة، وتوقع الفرصة.
قيل: الحاسد يرى زوال نعمتك نعمةً عليه.
الحسد داء يأكل الجسد.
التواضع أحد مصايد الشرف. تواضع الرجل في مرتبته ذب للشماتة عند سقطته. كم من صلف أدى إلى تلف.
سوء الخلق يعدي، وذلك لأنه يدعو غيره إلى أن يقابله بغيره.
صحب رجل آخر سيئ الخلق فلما فارقه قال: قد فارقته وخلقه لا يفارقه.
المزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
المروءة التامة مباينة العامة.
أسوأ ما في الكريم أن يمنعك نداه، وأحسن ما في اللئيم أن يكف عنك أذاه.
السفل إذا تعلموا تكبروا، وإذا تمولوا استطالوا، والعلية إذا تعلموا تواضعوا، وإذا افتقروا صالوا.
ثلاث لا يستصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، وركاكة الملوك.
قيل لحكيم: أي شيء من أفعال العباد يشبه لأفعال الله؟ قال: الإحسان إلى الناس.
يقال: السخي شجاع القلب، والبخيل شجاع الوجه.
البخيل يعيش عيش الفقراء، ويحاسب محاسبة الأغنياء، العزلة توفر العرض، وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة.
ما احتنك أحد قط إلا أحب الخلوة.
خير الناس من لم تجربه، كما أن خير الدر ما لم تثقبه.
قال بعضهم: خالطت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلاً غفر لي زله، ولا أقالني عثرة، ولا ستر لي عورة، ولا أمنته إذا غضب.
الكريم لا يلين على قصر، ولا يقسو على يسر.
المرأة إذا أحبتك آذتك، وإذا أبغضتك خانتك، فحبها أذى، وبغضها داء بلا دواء.
المرأة تكتم الحب أربعين سنة، ولا تكتم البغض ساعة واحدة. والرجل على عكس هذا.
شاور رجل حكيماً في التزوج فقال له: إياك والجمال. وأنشد:
ولن تصادف مرعى ممرعاً أبداً ... إلا وجدت به آثار مأكول
قال رجل: ما دخل داري شر قط. فقال حكيم: فمن أين دخلت امرأتك؟ قيل لبعض الحكماء: ما أحسن أن يصبر الإنسان عما يشتهي. فقال: أحسن منه ألا يشتهي إلا ما ينبغي.
قيل: شر أخلاق الرجال الجبن والبخل وهما خير أخلاق النساء.
قيل: الممتحن كالمختنق؛ متى ازداد اضطراباً ازداد اختناقاً.
قيل: إذا رأيت الزاهد يستروح إلى طلب الرخص فاعلم أنه قد بدا له في الزهد.
قيل: أجل ما ينزل من السماء التوفيق، وأجل ما يصعد إلى السماء الإخلاص.
قيل: كل مال لا ينتقل بانتقالك فهو كفيل.
وقيل: ما دار من يشتاق إلى السفر بدار سلامة.
قال حكيم: من الذي بلغ جسيماً فلم يبطر، واتبع الهوى فلم يعطب، وجاور النساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته.
409 - اثنان يهون عليهما كل شيء؛ العالم الذي يعرف العواقب، والجاهل الذي يجهل ما هو فيه.
وقيل: شر من الموت ما إذا نزل تمنيت لنزوله الموت، وخير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت لفقده الحياة.
لتكن النوائب منك ببال؛ فأكثر المكاره فيما لم يحتسب.
قال سفيان: ما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا ذل له وقال أبو حمزة السكوني: قال لي أبو عبيد الله: من أكل من ثريدنا وطئنا رقبته.
قال رجل لمعروف: يا أبا محفوظ، أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك؛ فإنه أصلح لك. فقال: أمثلك يقول هذا يا أبا محفوظ؟ فقال: ما أنا قلته ولا أمرت به، ولكن الله تعالى قاله وأمر به حيث قال لمريم: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا " ولو شاء أن ينزله عليها بلا هز لفعل.
قال بعضهم: رأيت عكرمة بباب بلخ فقلت له: ما جاء بك إلى ههنا؟ فقال: بناتي.
قال وهب: الدراهم خواتيم رب العالمين بمعاش بني آدم؛ لا تؤكل ولا تشرب، وأين ذهبت بخاتم ربك قضيت حاجتك.
قيل لبعضهم: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ قال: هي وإن أدنتني من الدنيا فقد صانتني عنها.
قيل لسفيان بن عيينة: ما أشد حبك للدرهم! فقال: ما أحب أن يكون أحد أشد حباً لما ينفعه مني.
قيل لبعضهم: أين بلغت في العلوم؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها.
قالوا: المرأة كالنعل، يلبسها الرجل إذا شاء هو لا إذا شاءت.
قال ابن السماك: الكمال في خمس؛ ألا يعيب الرجل أحداً بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنه لا يفرغ من إصلاح عيب واحد حتى يهجم على آخر فتشغله عيوبه عن عيب الناس، والثانية ألا يطلق لسانه ويده حتى يعلم أفي طاعة ذاك أو في معصية، والثالثة ألا يلتمس من الناس إلا مثل ما يعطيهم من نفسه، والرابعة أن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم، وتوفيتهم حقوقهم، والخامسة أن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من قوله.
وقال آخر: عجباً لمن عومل فأنصف، إذا عامل كيف يظلم، وأعجب منه من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم.
قالوا: صديق البخيل من لم يجربه.
قالوا: الصبر مر، لا يتجرعه إلا حر.
قرئ من حجر منقور: من الخيط الضعيف يفتل الحبل الحصيف، ومن مقدحة صغيرة تحرق سوق كبيرة، ومن لبنة لينة تبنى مدينة حصينة.
قيل: أبصر الناس بعوار الناس المعوور.
وقال بعضهم: إن الله تعالى تفرد بالكمال، ولم يعر أحداً من خلقه من النقصان.
قيل لبعضهم: متى يحمد الغني؟ قال: إذا اتصل بكرم. قيل: فمتى تذم الفطنة؟ قال: إذا اقترنت بلؤم.
قال آخر: عجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح. عجباً لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب.
ثلاث موبقات: الكبر؛ فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحرص؛ فإنه أخرج آدم من الجنة، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
قال ابن السماك: الفطام عن الحطام شديد.
قالوا: إذا أقبلت الدنيا أقبلت على حمار قطوف مديني، وإذا أدبرت أدبرت على البراق.
التؤدة حسنة 410 في كل شيء إلا في المعروف فإنها تنغصه.
أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد. .
قيل لبعضهم: كيف لا يجتمع المال والحكمة؟ قال: لعزة الكمال.
كان يقال: لكل جديد لذة إلا من الإخوان.
العجز عجزان: التقصير في طلب الأمر وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات.
قال يزيد بن أسيد: أسر السرور قفلة على غفلة.
قيل: ستة لا تخطئهم الكآبة: فقير حديث عهد بالغنى، ومكثر يخاف على ماله، وطالب مرتبة فوق قدرته، والحسود والحقود وخليط. أهل الأدب وهو غير أديب. .
قال خالد بن صفوان: من لم تكن له دابة كثرت ألوان دوابه.
قال عبد الله بن أبي بكر: لو كنت شاعراً لبكيت على المروءة.
وقال بعضهم: طلبت الراحة لنفسي فلم أجد شيئاً أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أشد من قرين سوء، وشهدت الزحوف ولقيت الأقران فلم أر قرناً أغلب للرجل من امرأة سوء، ونظرت إلى كل ما يذل العزيز ويكسره فلم أر شيئاً أذل له ولا أكسر من الفاقة.
قالوا: أول أمر العاقل آخر أمر الجاهل.
قال رجل لعبد الحميد: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقاً.
قالوا: أسوأ من في الكريم أن يكف عنك خيره، وأحسن ما في اللئيم أن يكف عنك شره.
كان الكندي يقول: المسترشد موتي والمحترس ملقي. وكان يقول: العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع.
قيل لمحمد بن الجهم بعد ما أخذ من ماله: أما تفكر في ذهاب نعمتك؟ فقال: لا بد من الزوال؛ فلأن تزول نعمتي وأبقى خير من أن أزول عنها وتبقى.
قال الشافعي: اغتنموا الفرصة فإنها خلس أو غصص.
أغلظ سفيه لحليم فقيل له: لم لم تغضب؟ فقال: إن كان صادقاً فليس ينبغي أن أغضب، وإن كان كاذباً فبالحري ألا أغضب.
قال بعضهم: ما أحسن حسن الظن إلا أن منه العجز، وما أقبح سوء الظن إلا أن فيه الحزم.
قال قيصر: ما الحيلة فيما أعيا إلا الكف عنه، ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه.
قال سهل بن هارون: ما زلت أدخل فيما يرغب بي عنه متى استغنيت عما يرغب لي فيه.
كان يقال: الأحمق إذا حدث ذهل، وإذا تكلم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
قيل: ليس الموسر من ينقص على النفقة ماله، ولكن الموسر من يزكو على الإنفاق ماله.
قال أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل ولكن إقراره بها صعب.
قيل لبعضهم: ما الكلفة؟ قال: طلبك ما لا يواتيك، ونظرك فيما لا يعنيك قال آخر: كما أن أواني الفخار تمتحن بأصواتها فيعرف الصحيح منها من المنكسر، كذلك يمتحن الإنسان بمنطقه فيعرف حاله وأمره.
قال آخر: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذل على أن الرضا بالفقر قناعة والرضا بالذل ضراعة.
سمع بعضهم رجلاً يذكره بسوء فقال: ما علم الله منا أكثر مما تقول.
ابن المقفع: إن مما سخى بنفس العاقل عن الدنيا علمه بأن الأرزاق لم تقسم على قدر الأخطار.
قالوا: الدنيا حمقاء لا تميل إلا إلى أشباهها.
لما قبض ابن عيينة صلة الخليفة قال: يا أصحاب الحديث؛ قد وجدتم مقالاً فقولوا. متى رأيت أبا عيال أفلح؟ وقال: كانت لنا هرة ليس لها جراء فكانت لا تكشف القدور، ولا تعيث في الدور، فصار لها جراء فكشفت عن القدور، وأفسدت في الدور.
قال بعضهم : إذا أنا فعلت ما أمرت به وكان خطأ لم أذمم عليه، وإذا فعلت ما لم أومر به وكان صواباً لم أحمد عليه.
قال آخر ما استنبط الصواب بمثل المشورة، ولا حصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضة بمثل الكبر.
قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصديق؟ قال: هو لفظ بلا معنى. يعني لعوزه.
وقال آخر: السفر ميزان الأخلاق.
قال علي بن عبيدة: العقل ملك والخصال رعيته، فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها.
قالوا: الكذاب يخيف نفسه وهو آمن.
قال بعضهم: لو لم أدع الكذب تأثماً لتركته تكرماً. وقال آخر: لو لم أدع الكذب تعففاً لتركته تظرفاً. وقال آخر: لو لم أدع الكذب تحوباً لتركته تأدباً. وقال آخر: لو لم أدع الكذب تورعاً لتركته تصنعاً.
كان الثوري يقول: الناس عدول إلا العدول.
كان بعضهم يقول: اللهم احفظني من أصدقائي. فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي.
قيل لبعضهم: ما المروءة؟ قال: إظهار الزي. قيل: فما الفتوة؟ قال: طهارة السر. يحكى ذلك عن البوشنجي شيخ خراسان.
سئل بعضهم: أي الرسل أحرى بالنجح؟ قال: الذي له جمال وعقل.
قالوا: الحيلة اعطف المتجني أعسر من نيل التمني.
قال ابن السماك: لولا ثلاث لم يسل سيف ولم يقع حيف: سلك أدق من سلك، ووجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة.
قال بكر بن عبد الله: ما رأيت أحداً إلا رأيت له الفضل علي؛ لأني من نفسي على يقين وأنا من الناس في شك.
قيل لابن هبيرة: ما حد الأحمق؟ قال: لا حد له.
أتي ابن عون بماء يصب على يده قبل الطعام فقال: ما أحسب غسل اليد قبل الطعام إلا من توقير النعمة.
قال بعضهم: تعريف الجاهل أيسر من تقرير المنكر.
كان بعضهم يقول: ما بقي أحد يأنف أن يؤنف منه.
كل شيء إذا كثر رخص؛ غير العقل فإنه إذا كثر غلا.
قال آخر: يحسن الامتنان إذا وقع الكفران، ولولا أن بني إسرائيل كفروا النعمة ما قال الله تعالى لهم: " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " قيل لرجل مستهتر بجمع المال: ما هذا كله؟ قال: إنما أجمعه لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وبخل الإخوان، ودفع الأحزان.
قال خالد بن صفوان: أنا لا أصادق إلا من يغفر لي زللي، ويسد خللي، ويقبل عللي.
قال بعضهم: أول صناعة الكاتب كتمان السر.
قالوا: الخوف على ثلاثة أنحاء: دين يخاف معادا، وحر يخاف عارا، وسفلة يخاف ردعا.
قال علي بن عبيدة: إن أخذت عفو القلوب زكا ريعك، وإن استقصيت أكديت.
قيل: الحسن الخلق قريب عند البعيد، والسيئ الخلق بعيد عند أهله.
قال الثوري: إذا رأيت الرجل محموداً في جيرانه فاعلم أنه يداهنهم.
قيل لحكيم: كيف للإنسان بألا يغضب؟ قال: ليكن ذاكراً في كل وقت أنه ليس يجب أن يطاع قط، بل أن يطيع؛ وأنه ليس يجب أن يحتمل خطؤه فقط، بل أن يحتمل الخطأ عليه؛ وأنه ليس يجب أن يصبر عليه فقط، بل أن يصبر هو 412 أيضاً؛ وأنه بعين الله دائماً، فإنه إذا فعل ذلك لم يغضب، وإن غضب كان غضبه أقل.
قال بعضهم: الإفراط في الزيارة ممل كما أن التفريط فيها مخل.
قال العتبي: إذا تناهى الغم انقطع الدمع.
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجد.
وقال غيره: إذا ولى صديق لك ولاية فأصبته على العشر من صداقته فليس بأخ سوء.
قصد ابن السماك رجلاً في حاجة لرجل فتعسر، فقال له: اعلم أني أتيتك في حاجة، وإن الطالب والمطلوب إليه عزيزان إن قضيت، وذليلان إن لم تقض، فاختر لنفسك عز البذل على ذل المنع، واختر لي عز النجح على ذل الرد. فقضاها له.
وقصد آخر مرة في حاجة فتلوى، فكاد ينكل عن الكلام، ثم سبق إلى معنى فخبره وقال للمسئول: أخبرني حين غدوت إليك في حاجتي، أحسن بك الظن، وأصوغ فيك الثناء، وأتخير لك الشكر، وأمشي إليك بقدم الإجلال، وأكلمك بلسان التواضع، أصبت أم أخطأت؟ قال: فاقتحم الرجل وقال: بل أصبت. وقضى حاجته وسأله المعاودة.
قال أبو العتاهية: قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة.
قيل: سوء حمل الغنى يورث المدح، وسوء حمل الفاقة قد بضع الشرف.
قيل: الهوى شريك العمى.
قيل لصوفي: ما صناعتك؟ قال: حسن الظن بالله وسوء الظن بالناس.
ثلاثة لم يمن بها أحد فسلم: صحبة السلطان، وإفشاء السر إلى النساء وشرب السم للتجربة.
لكل شيء محل، ومحل العقل مجالسة الناس.
أعجب الأشياء بديهة أمن وردت في مقام خوف.
قال ابن المقفع: الحرص محرمة، والجبن مقتلة. فانظر فيمن رأيت أو سمعت: من قتل في الحرب مقبلاً أكثر أم من قتل مدبراً وانظر من يطلب بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له أم من يطلب بالشره والحرص.
قال أبو بكر بن المعتمر: إذا كان العقل تسعة أجزاء أحتاج إلى جزء من جهل ليقدم على الأمور؛ فإن العاقل أبداً متوان متوقف مترقب متخوف.
قيل: ستة لا يخطئهم الكآبة: فقير قريب عهد بغنى، ومكثر يخاف على ماله، وطالب مرتبة فوق قدره، والحسود والحقود وخليط أهل الأدب وهو غير أديب.
قال ابن المقفع: عمل الرجل. بما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف، وتركه للعمل بما يعلم أنه صواب تهاون، والتهاون آفة الدين. وإقدامه على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ لجاج، واللجاج آفة العقل.
قالوا: ما من مصيبة إلا ومعها أعظم منها؛ إن جزع فالوزر، وإن صبر فالثواب.
قيل: ضعف العقل أمان من الغم.
لا ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة حتى تموت، ولا يمدح طعاماً حتى يستمرئه، ولا يثق بخليل حتى يستقرضه.
ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى.
لا يتأدب العبد بالكلام إذا وثق بأنه لا يضرب.
ما السيف الصارم في كف شجاع بأعز له من الصدق.
إذا كثرت خزان الأسرار 413 ضياعاً.
ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة.
الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف.
أنكأ لعدوك ألا تريه أنك تتخذه عدوا.
عذابان لا يكترث لهما: السفر البعيد؛ والبناء الكبير.
قالوا: " سوف " جند من جنود إبليس أهلك بها بشراً كثيراً. وقيل لبعض الزهاد: أوصنا. فقال: إياكم " وسوف " .
سئل بعضهم: أي الصدق السكوت عنه أمثل؟ قال: تزكية المرء نفسه.
وكان يقال: ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم: تاجر البحر، والعامل بالأجر، والمرتشي على الحكم.
قالوا: قبح الله الدنيا، فإنها إذا أقبلت على الإنسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
أعجز الناس من قصر في طلب صديقه، وأعجز منه من وجده فضيعه.
قال رجل لأبي عبيد الله: لئن أصبحت الدنيا بك مشغولة لتمسين منك فارغة. فقال: أنفق ما يكون التعب إذا وعد كذاب حريصاً.
اجتمع علماء العرب والعجم على أنه لا يدرك نعم إلا ببؤس، ولا راحة إلا بتعب.
العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئاً في سره وخلواته فضحه في علانيته وعند الملأ.
قيل: المنى تخلق العقل، وتفسد الدين، وتزرى بالقناعة.
قال قتيبة لحصين: ما السرور؟ قال: عقل يقيمك، وعلم يزينك وولد يسرك، ومال يسعك، وأمن يريحك، وعافية تجمع لك المسرات.
أسر رجل إلى صديق له حديثاً فلما استقصاه قال له: أفهمت؟ قال: بل نسيت. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسر؟ فقال: أجحد للخبر وأحلف للمستخبر. والعرب تقول: من ارتاد لسره فقد أذاعه.
ويقال: للقائل على السامع جمع البال، والكتمان، وبسط العذر.
قالوا: كثرة السرار من أسوأ الآداب.
وقالوا: الأخ البار مغيض الأسرار.
قيل لبعضهم: إن فلاناً لا يكتب، وقال: تلك الزمانة الخفية.
قال بعضهم: قديم لبحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة.
قالوا: ركوب الخيل عز، وركوب البراذين ذلة، وركوب البغل مهرمة، وركوب الحمير ذل.
قالوا: أربع يسودن العبد: الصدق والأدب والفقه والأمانة.
قال الزهري: الكريم لا تحكمه التجارب.
قالوا: العقل يظهر بالمعاملة، وشيم الرجال تعرف بالولاية.
قال رجل من قريش لشيخ: علمني الحلم. فقال: هو الذل أفتصبر عليه؟.
ويقال: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا.
قال محمد بن عمران التيمي: ما شيء أشد على الإنسان حملاً من المروءة؟ قيل له: وما المروءة؟ فقال: ألا تعمل في السر شيئاً تستحي منه في العلانية.
قال أكثم: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة لقرناء السوء.
قيل لابن أبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: إنها وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها.
قيل لبعضهم: إن فلاناً أفاد مالاً عظيماً. قال: فهل أفاد معه أياماً ينفقه فيها؟ قيل لرجل: ما لك تنزل في الأطراف؟ فقال: منازل الأشراف في الأطراف؛ يتناولهم من يريدهم بالحاجة.
قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
قال الشعبي: عيادة النوكى أشد على المريض من وجعه 414.
وقال أبو بكر بن عبد الله لقوم عادوه فأطالوا عنده القعود: المريض يعاد والصحيح يزار.
عزى رجل رجلاً فقال: لا أراك الله بعد هذه المصيبة ما ينسيكها.
وعزى رجل الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، كان لك الأجر لا بك وكان العزاء لك لا عنك.
كان يقال: لك ابنك ريحانك سبعاً، وخادمك سبعاً، ثم عدو أو صديق قال المعتمر بن سليمان: أفضل العصمة ألا تجد.
قيل لبعض الحكماء: ما الشيء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقاً؟ فقال: مدح الإنسان نفسه.
جلس بعض الزهاد إلى تاجر ليشتري منه شيئاً، فمر به رجل يعرفه، فقال للتاجر: هذا فلان الزاهد فأرخص ما تبيعه منه. فغضب الزاهد وقام وقال: إنما جئنا لنشتري بدراهمنا لا بمذاهبنا.
قيل لبعضهم: ما الشيء الذي لا يستغني عنه في حال من الأحوال؟ فقال: التوفيق.
قيل لبعض من يطلب الأعمال: ما تصنع؟ قال:
أخدم الرجاء، حتى ينزل القضاء.
قال بعضهم: أوسع ما يكون الكريم مغفرة، إذا ضاقت بالمذنب المعذرة.
قال آخر: أمتع الجلساء الذي إذا عجبته عجب، وإذا فكهته طرب، وإذا أمسكت تحدث، وإذا فكرت لم يلمك.
قيل لبعضهم: متى يحمد الغنى؟ قال: إذا اتصل بكرم. قيل: فمتى تذم الفطنة؟ قال: إذا اقترنت بلؤم.
قال بعضهم: ستر ما عاينته أحسن من إشاعة ما ظننته.
قيل لجميل بن مرة: مذ كم هجرت الناس قال: مذ خمسين سنة. قيل له: لم ذاك؟ قال: صحبتهم أربعين سنة، فلم أر فيهم غافراً لزلة ولا راحماً لعبرة، ولا مقيلاً لعثرة، ولا ساتراً لعورة، ولا حافظاً لخلة، ولا صادقاً في مودة، ولا راعياً لزمام حرمة، ولا صادقاً في خبره، ولا عادلاً في حكومة؛ فرأيت الشغل بهم حمقاً، والانقطاع عنهم رشداً.
كان بعضهم يقول: اللهم احفظني من أصدقائي. فقيل له في ذلك فقال: إني حافظ نفسي من أعدائي.
قال آخر: إساءة المحسن أن يمنعك جدواه، وإحسان المسيء أن يكف عنك أذاه.
قيل لعبد الله بن المبارك: ما التواضع؟ قال: التكبر على المتكبرين.
قيل: من لا ينفذ تدبيرك عليه في إذلاله، فتوفر على توخي إجلاله.
قال الشافعي: ما رفعت أحداً فوق منزلته إلا حط مني بقدر ما رفعت منه.
قال المسيب بن واضح: صحبت ابن المبارك مقدمه من الحج فقال لي: يا مسيب، ما أتى فساد العامة إلا من قبل الخاصة. قلت: وكيف ذاك رحمك الله؟ قال: لأن أمة محمد عليه السلام على طبقات خمس: فالطبقة الأولى هم الزهاد، والثانية العلماء، والثالثة الغزاة، والرابعة التجار والخامسة الولاة. فأما الزهاد فهم ملوك هذه الأمة، وأما العلماء فهم ورثة الأنبياء، وأما الغزاة فهم أسياف الله عز وجل، وأما التجار فهم الأمناء، وأما الولاة فهم الرعاة.
فإذا كان الزاهد طامعاً فالتائب بمن يقتدي؟ وإذا كان العالم راغباً فالجاهل بمن يهتدي؟ وإذا كان الغازي مرائياً فمتى يظفر بالعدو؟ وإذا كان التاجر خائناً فعلام يؤتمن الخونة! وإذا كان الراعي ذئباً فالشاة من يحفظها؟ قال الحكماء: خمسة لا تتم إلا لقرنائها 415: الجمال لا يتم إلا بالحلى، والحسب لا يتم إلا بالأدب، والغنى لا يتم إلا بالجود، والبطش لا يتم إلا بالجرأة، والاجتهاد لا يتم إلا بالتوفيق.
قيل لبعضهم: متى تطيعك الدنيا؟ قال: إذا عصيتها.
قال آخر: رب مغبوط بنعمة هي داؤه، ورب محسود على حال هي بلاؤه، ورب مرحوم من سقم هو شفاؤه.
قالوا: إذا أراد الله أن يسلط على عبده عدواً لا يرحمه سلط عليه حاسداً.
وكان يقال في الدعاء على الرجل: طلبك من لا يقصر دون الظفر، وحسدك من لا ينام دون الشقاء.
قال محمد بن كعب: إذا أراد الله بعبد خيراً زهده في الدنيا وفقهه في الدين، وبصره عيوبه.
قال مالك بن دينار: من طلب العلم لنفسه فالقليل يكفي، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة.
قال رجل لآخر: إني أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا جميعاً كريمين، وإن شئت منعتها وكنا جميعاً لئيمين.
قال بعض النساك: قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لا آكل من رزقه شيئاً.
قيل: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثوب ينقيه ولكن يخلقه.
كان يقال: النظر يحتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقربى إلى المودة، والمعرفة إلى التجارب، والشرف إلى التواضع والنجدة إلى الجد.
قال بعضهم: أعناق الأمور تشابه في الغيوب؛ قرب محبوب في مكروه ومكروه في محبوب. وكم من مغبوط بنعمة هي داؤه، ومرحوم من داء فيه شفاؤه.
وقيل: رب خير في شر، ونفع في ضر.
قال ابن المقفع: الحسد خلق دني، ومن دناءته أنه يوكل بالأقرب فالأقرب.
قال قتادة: لو كان أحد مكتفياً من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام إذ قال: " هل أتبعك على أن تعلمن ومما علمت رشداً " .
قال دغفل بن حنظلة: إن للعلم أربعاً: آفة ونكداً وإضاعة واستجاعة فآفته النسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لا تشبع منه.
قال أبو عثمان الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لأن الرواة شغلوا عقولهما بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه، وتدبر ما قد دونوه.
قال بعضهم: عيادة النوكى الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير وقت.
قال أكثم بن صيفي:
ما أحب أن أكفى كل أمر الدنيا. قالوا: وإن أسمنت وألبنت؟ قال: نعم. أكره عادة العجز.
قال أبو عثمان: كتب شيخ من أهل الري على باب داره: جزى الله من لا يعرفنا ولا نعرفه خيراً، فأما أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهم الله خيراً؛ فإنا لم نؤت قط إلا منهم.
قيل لرجل من أهل البصرة: مالك لا ينمى مالك؟ قال: لأني اتخذت العيال قبل المال، واتخذ الناس المال قبل العيال.
كان خالد بن صفوان يكره المزاح ويقول: يصيب أحدهم أخاه ويصكه بأشد من الحديد، وأصلب من الجندل، ويفرغ عليه أحر من المرجل ثم يقول إنما مازحته.
قال إبراهيم المحلمي: فيك حدة. فقال: أستغفر الله مما أملك وأستصلحه ما لا أملك.
قيل لرجل: إن فلاناً يشتمك. قال: هو في حل. قيل له: تحله وقد شتمك؟ فقال: ما أحب أن أثقل ميزاني بأوزار إخواني.
قال الغاضري: أعطانا الملوك الآخرة طائعين، وأعطيناهم الدنيا كارهين.
قال بعضهم: الصبر عن النساء أيسر من الصبر عليهن.
ذكرت العامة للأوزاعي فقال: هي كالبحر، إذا هاج لم يسكنه إلا الله.
قال بعضهم لصاحب له: إذا كنت لا ترضى مني بالإساءة فلم رضيت من نفسك بالمكافأة؟.
قال بعضهم: كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجربة.
قيل لبعضهم: ما الصدق؟ قال: اسم لا يوجد معناه.
كان يقال: طول اللحية أمان من العقل.
قالوا: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث تكره.
قال بعضهم: شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه.
قيل للعتابي: ما المروءة؟ فقال: ترك اللذة. قيل: فما اللذة؟ قال: ترك المروءة.
قيل لصوفي: كيف أنت؟ قال: طلبت فلم أرزق، وحرمت فلم أصبر.
قال أحمد بن المعذل لأخيه عبد الصمد: أنت كالإصبع الزائدة إن تركت شانت، وإن قطعت آلمت.
قال بعضهم: إن الغنى والعز خرجا يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.
قال بعضهم: أنا بالصديق آنس مني بالأخ. فقال له ابن المقفع: صدقت: الصديق نسيب الروح، والأخ نسيب الجسم.
قال أبو العالية الرياحي: إذا دخلت الهدية صر الباب وضحكت الأسكفة.
قالوا: جزية المؤمن كراء منزله، وعذابه سوء خلق امرأته.
سمع رجل رجلاً يقول لصاحبه: لا أراك الله مكروهاً. فقال: كأنك دعوت على صاحبك بالموت. أما ما صاحب صاحبك الدنيا فلا بد له من أن يرى مكروهاً.
قال معن بن زائدة: ما أتاني رجل قط في حاجة فرددته عنها إلا تبين لي غناه عني إذا أدبر.
قال بعض الصوفية: بالخلق يستفاد الكون، وبالخلق يستفاد الخلد.
أراد ملك سفراً فقال: لا يصحبني ضخم جبان، ولا حسن الوجه لئيم، ولا صغير رغيب.
نظر أعرابي إلى خالد بن صفوان وهو يتكلم فقال: كيف لم يسد هذا مع بيانه؟ فقال خالد: منعتم مالي، وكرهت السيف.
يقال: الوعد وجه والإنجاز محاسنه.
قالوا: الهالك على الدنيا رجلان: رجل نافس في عزها، ورجل أنف من ذلها.
قال ميمون: الطالب في حيلة، والمطلوب في غفلة، والناس منهما في شغل.
كان ابن السماك يقول: دلا أدري أأوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة.
قيل: إن الرمد لا يعاد، والسبب فيه ألا يراه العواد وما في منزله وهو لا يراهم.
قال ابن شهاب: ليس بكذاب من درأ عن نفسه.
قال الحجاج لابن قرية: ما الأرب؟ قال: الصبر على كظم الغيظ حتى تمكن الفرصة.
قالوا: ثلاث لا غربة معهن: مجانبة الريب، وحسن الأدب، وكف الأذى.
وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة ، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما أحسن الحسنات في آثار السيئات، وأقبح السيئات في آثار الحسنات، وأقبح من هذا وأحسن من ذاك السيئات في آثار السيئات، والحسنات في آثار الحسنات.
قال أبو إدريس الخولاني: المساجد مجالس الكرام.
قيل: المنة 417 تهدم الصنيعة.
وكان يقال: كتمان المعروف من المنعم عليه كفر له، وذكره من المنعم تكدير له. كان مالك بن دينار يقول: ما أشد فطام الكبير! كان يقال: أنعم الناس عيشاً من عاش في عيشة غيره.
قال رجل لرجل من قريش: والله ما أمل الحديث. فقال: إنما يمل العتيق. يروى عن أسماء بن خارجة أنه قال:
لا أشاتم رجلا ولا أرد سائلاً، فإنما هو كريم أسد خلته، أو لئيم أشترى عرضي منه.
كان ابن شبرمة إذا نزلت بن نازلة قال: سحابة ثم تتقشع.
كان يقال: أربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الفاقة: وكتمان الوجع.
قيل: ليس للجوج تدبير، ولا لسيىء الخلق عيش، ولا لمتكبر صديق والمنة تفسد الصنيعة.
كان يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحداً من خمسة: القطان والغزال والمعلم وراعي الضأن ولا الرجل الكثير المحادثة للنساء.
وقيل في مثل هذا: لا تدع أم صبيك تضربه؛ فإنه أعقل منها وإن كان طفلاً.
قال رجل لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك؟ قال: ترك لي مالاً كثيراً. فقال: لا أعلمك شيئاً هو خير لك مما ترك أبوك؟ إنه لا مال لعاجز، ولا ضياع على حازم، والرقيق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما يعولك ولا تعوله.
وقيل الخريم الناعم: ما النعمة؟ فقال: الأمن؛ فإنه ليس لخائف عيش؛ والغنى؛ فإنه ليس لفقير عيش. والصحة؛ فإنه لسقيم عيش قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعدها.
قيل: خير الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره.
قيل: النمام سهم قاتل. أراد رجل الحج، فأتى شعبة بن الحجاج فودعه فقال له شعبة: أما إنك إن لم ترى الحلم ذلاً، والسفه أنفاً سلم حجك.
روى عن بعض الأئمة أنه قال: الإنصاف راحة، والإلحاح قحة، والشح شناعة، والتواني إضاعة، والصحة بضاعة، والخيانة وضاعة، والحرص مفقرة، والدناءة محقرة، والبخل غل، والفقر ذل، والسخاء قربة، واللؤم غربة، والذلة استكانة، والعجز مهانة، والأدب رياسة، والحزم كياسة، والعجب هلاك، والصبر ملاك، والعجلة زلل، والإبطاء ملل.
ثلاثة أشياء لا ثبات لها: المال في يد من يبذر، وسحابة الصيف، وغضب العاشق.
قيل للشبلي: ما الفرق بين رق العبودية ورق المحبة؟ فقال: كم بين عبد إذا أعتق صار حراً، وبين عبد كل ما أعتق ازداد رقاً.
قالوا: الزاهد في الدينار والدرهم أعز من الدينار والدرهم. وقيل لمحمد بن واسع: كيف أنت؟ قال: كيف أكون، وأنا إذا كنت في الصلاة فدخل إنسان غني أوسع له بخلاف ما أوسع للفقير.
سئل بعضهم: أيما أحمد في الصبي الحياء أم الخوف؟ فقال: الحياء لأن الحياء يدل على عقل والخوف يدل على جبن.
قالوا: رب حرب جنيت بلفظه، ورب ود غرس بلحظة.
شكا رجل إلى بشر بن الحارث كثرة العيال فقال له: فرغك فلم تشكره، فعاقبك بالشغل. كان يقال: إذا تزوج الرجل فقد ركب البحر، فإن ولد له فقد كسر به.
قال يونس بن عبيد: ما سمعت بكلمات أحسن من كلمات ثلاث قالهن ابن سيرين ومورق العجلي وحسان بن أبي سنان أما ابن سيرين فقال: ما حسدت على شيء قط، وأما مورق فقال: 418 ما قلت في الغضب شيئاً فندمت عليه في الرضا. وأما حسان فقال: ما شيء أهون من الورع؛ إذا رابك شيء فدعه.
قال ابن مسعر: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة فسأله سائل؛ فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى فقلت له: يا أبا محمد؛ ما يبكيك؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه منك.
قال: كفى نصراً لمؤمن أن يرى عدوه يعمل بمعاصي الله.
قيل: ثلاثة تعرض في الأحمق: سرعة الجواب، وكثرة الالتفات، والثقة بكل أحد.
قيل: صلاح كل ذي نعمة في خلاف ما فسد عليه.
قيل لبعضهم: كم آكل؟ قال: فوق الشبع. قال: فكم أضحك قال: حتى يسفر وجهك ولا يسمع صوتك. قال: فكم أبكي قال: لا تمل أن تبكي من خشية الله. قال: فكم أخفي من عملي؟ قال: حتى يرى الناس أنك لا تعمل حسنة. قال: فكم أظهر من عملي؟ قال: حتى يقتدي بك البر ويؤمن عليك قول الناس.
العزلة عن الناس توفر العرض، وتبقي الجلالة، وتستر الفاقة وترفع مؤنة المكافأة. ونعم صومعة الرجل بيته، يكف فيه سمعه وبصره ولسانه ويقل فكره.
أنعم الناس عيشاً من تحلى بالعفاف، ورضى بالكفاف وتجاوز ما يخاف إلى مالا يخاف.
قيل لرجل: ما السيد فيكم؟ قال: الباذل لنداه، الكاف لأذاه، الناصر لمولاه.
قيل: التواضع نعمة لا يفطن لها الحاسد.
قال خالد بن صفوان: ينبغي للعاقل أن يمنع معروفه الجاهل واللئيم والسفيه؛ أم الجاهل فلا يعرف المعروف والشكر، وأما اللئيم فأرض سبخة لا تنبت ولا تصلح، وأما السفيه فإنه يقول:
أعطاني فرقاً من لساني.
خير العيش مالا يطغيك ولا يلهيك.
قال سعيد بن عبد العزيز: ما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.
قال فيروز بن حصين: إذا أراد الله تعالى أن يزيل عن عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله.
قيل لمحمد بن كعب القرظي: ما علامة الخذلان؟ قال: أن يستقبح المرء من الأمر ما كان عنده حسناً ويستحسن ما كان عنده قبيحاً.
قال شيخ من أهل المدينة: المعرض بالناس أتقي صاحبه ولم يتق ربه.
قيل لشيخ هم أي شيء تشتهي؟ قال: أسمع الأعاجيب.
قالوا: عشر خصال في عشرة أصناف أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك والغدر في الأشراف، والكذب في القضاء، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، السفه في الشيوخ والمرض في الأطباء والتهزي في الفقراء، والفخر في القراء.
قال ابن أبي ليلى: لا أماري أخي فأما أن أكذبه أو أغضبه. قال حضين بن المنذر: لوددت أن لي أساطين مسجد الجامع ذهباً وفضة لا أنتفع منه بشيء. قيل له: لما يا أبا ساسان؟ قال: يخدمني والله عليه موقان الرجال.
قال بعضهم: خير الدنيا والآخرة في خصلتين: التقي والغني. وشر الدنيا والآخرة خصلتين: الفجور والفقر.
سئل بعض الحكماء: أي الناس أحق أن يتقى؟ قال: العدو والقوي، والصديق المخادع، والسلطان والغشوم.
قيل لرجل: ما أذهب مالك؟ فقال: شرائي ما لا أحتاج إليه، وبيعي على الضرورة.
عاد قوم أعرابياً 416 وقد بلغ مائة وخمسين سنة. فسألوه عن سنه فأخبرهم فقال بعضهم: عمر والله. فقال الشيخ: لا نقل ذاك، فوالله لو استكملتها لاستقللتها.
قالوا: أصبر الناس الذي لا يفشي سره إلى صديقه مخافة أن يقع بينهما شيء فيفشيه.
قالوا: ثمانية إذا أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الآتي طعاماً لم يدع إليه والمتآمر على رب البيت في بيته، وطالب المعروف من غير أهله، وراجي الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين لم يدخلاه، والمستخف بالسلطان، والجالس مجلساً ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه.
قالوا: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة، وثمرة الصبر الظفر.
قال بعضهم: نحن في دهر الإحسان فيه من الإنسان زلة، والجميل غريب، والخير بدعة، والشفقة ملق، والدعاء صلة، والثناء خداع، والأدب مسألة، والعلم شبكة، والدين تلبيس، والإخلاص رياء، والحكمة سفه، والقول هذر، والإطراق ترهب، والسكوت نفاق، والبذل مكافأة، والمنع حزم، والإنفاق تبذير.
جلس رجل إلى سهل بن هارون فجعل يسمعه كلاماً سخيفاً من صنوف الهزل، فقال له: تنح عني؛ فإنه لا شيء أميل إلى ضده من العقل.
قيل لبعض العلماء: أي علق أنفس؟ فقال: عقل صرف إليه حظ.
قالوا: الاعتبار يفيدك الرشاد؛ وكفاك أدباً لنفسك ما كرهت من غيرك.
الجزع من أعوان الزمان. الجود حارس الأعراض. والعفو زكاة القلب. اللطافة في الحاجة أجدى من الوسيلة. من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم.
احتمال نخوة الشرف أشد من احتمال بطر الغنى وذلة الفقر مانعة من الصبر، كما أن عز الغنى مانع من كرم الإنصاف إلا لمن كان في غريزته فضل قوة أو أعراق تنازعه إلى بعد الهمة.
قيل لبعضهم: من أبعد الناس سفراً؟ قال: من كان في طلب صديق يرضاه.
قال يونس بن عبيد: أعياني شيئان: درهم حلال وأخ في الله.
قال الأصمعي: كل امرئ كان ضره خاصاً فهو نعمة عامة، وكل امرئ كان نفعه خاصاً فهو بلاء عام. استشارة الأعداء من باب الخذلان.
قالوا: إذا أراد الله بعبد هلاكاً أهلكه برأيه، وما استغنى أحد عن المشورة إلا هلك.
قال أكثم بن صيفي: الحر لا يكون صريع بطنه ولا فرجه.
قيل: ست خصال تعرف في الجاهل: الغضب من غير شيء، والكلام من غير نفع، والعطية في غير موضع، ولا يعرف صديقه من عدوه، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد.
قال محمد بن واسع: إني لأغبط الرجل ليس له شيء وهو راض عن الله.
قالوا: سوء العادة كمين لا يؤمن. العادة طبيعة ثانية.
التجني وافد القطيعة.
منك من نهاك، وليس منك من أغراك.
ياعجبا من غفلة الحساد عن سلامة الأجساد.
من سعادة المرء أن يطول عمره ويرى في عدوه ما يسره.
تورث الضغائن كما تورث الأموال.
كم من عزيز أذله خرقه، وعزيز أذله خلقه.
لا يصلح اللئيم لأحد ولا يستقيم إلا من فرق أو حاج؛ فإذا استغنى أو ذهبت الهيئة عاد إلى جوهره.
ثلاثة في المجلس ليسوا فيه: المسيء الظن بأهله 420 والضيق الخف، والحافر.
قيل لبعضهم: ما أبقى الأشياء في أنفس الناس؟ قال: أما في أنفس العلماء فالندامة على الذنوب، وأما في أنفس السفهاء فالحقد.
إذا انقضى ملك القوم جبنوا في آرائهم.
الضعيف المحترس من العدو القوي أقرب إلى السلامة من القوي المغتر بالعدو الضعيف.
الحزن سوء استكانة والغضب لؤم قدرة.
كل ما يؤكل ينتن، وكل ما يوهب يأرج.
لا يصعب على القوى حمل، ولا على اللبيب عمل، ولا على المتواضع أحد.
الطرش في الكرام، والهوج والشجاعة في الطوال، والكيس في القصار والملاحة في الحول، والنبل في الربعة، والذكاء في الخرس، والكبر في العور، والبهت في العميان.
بالكلفة يكتسب الأصدقاء وبكل شيء يمكن اكتساب الأعداء.
أفقر الناس أكثرهم كسباً من حرام؛ لأنه استدان بالظلم ما لا بد له من رده، وأنفد في اكتسابه أيام عمره، ومنعه في حياته من حقه، وكان خازناً لغيره، واحتمل الدين على ظهره، وطولب به في حين فقره.
الأم الناس من سعى بإنسان ضعيف إلى سلطان جائر أعسر الحيل تصوير الباطل في صورة الحق عند العاقل المميز.
الريبة ذل حاضر، والغيبة لؤم باطن.
القلب الفارغ يبحث عن السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الإثم.
لا يصرف القضاء إلا خالق القضاء.
لا كثير مع إسراف، ولا قليل مع احتراف، ولا ذنب مع اعتراف.
من كل شيء يقدر أن يحفظ الجاهل إلا من نفسه.
المتعبد على غير فقه كحمار الرحى يدور ولا يبرح.
المحرم من طال نصبه، وكان لغيره مكسبه.
كيف يحب الدنيا من تغره، وتسوئه أكثر مما تسره.
مع العجلة الخطار، وربما خطئ المخاطر بالقضاء.
شر أخلاق الرجال البخل والجبن وهما خير أخلاق النساء.
إذا جاء زمان الخذلان انعكست العقول.
سعة السمحاء أحد الخصبين، وكثرة المال عند البخلاء أصعب الجدبين.
من سوء الأدب مؤانسة من احتشمك، وكشف خلة من سترها عندك، والنزوع إلى مشورة لم تدع إليها.
قال إبراهيم التيمي: نعم القوم السؤال؛ يدقون أبوابكم ويقولون: هل توجهون إلى الآخرة شيئاً بشيء؟ في الاعتبار غنى عن الاختبار.
غيظ البخيل على الجواد أعجب من بخله.
أذل الناس معتذر إلى لئيم.
أشجع الناس أثبتهم عقلاً في بداهة الخوف.
قال مطرف: المعاذر، والمعاتب مغاضب.
قال بعضهم: المروءة يهدمها اليسير، لا يبنيها إلا الكثير.
قال ابن المقفع: المروءة بلا مال كالأسد الذي يهاب ولم يفرس، وكالسيف الذي يخاف وهو مغمد، والمال بلا مروءة كالكلب الذي يجتنب عقراً ولم يعقر.
وقال: اطلبوا الأدب؛ فإن كنتم ملوكاً برزتم، وإن كنتم وسطاً فقتم وإن أعوزتم المعيشة عشتم بأدبكم.
وقال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، والملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك.
وقال بعضهم: لا ينبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدى منزلتين: إما في الغاية القصوى من مطالب الدنيا، وإما في غاية القصوى من الترك لها.
من أفضل أعمال البر الجود 421 في العسرة، والصدق في الغضب، والعفو عند القدرة.
البخل خير من الفقر، والموت خير من البخل.
قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد بقدر قدرته، وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم.
قال محمد بن حرب الهلالي: وجدت العيش في ثلاث: في صديق لا يتعلم في صداقتك ما يرصد به عداوتك، وفي امرأة تسرك إذا دخلت عليها وتحفظ غيبك إذا غبت عنها، وفي مملوك يأتي على ما في نفسك كأنه قد علم ما تريد.
قالوا: تحتاج القرابة إلى مودة ولا تحتاج المودة إلى قرابة.
مخالطة الأشرار خطر، والصابر على صحبتهم كراكب البحر الذي إن سلم ببدنه من التلف، لم يسلم بقلبه من الحذر.
لا يلعب الهموم إلا مرور الأيام ولقاء الإخوان.
شر الناس من ضايق جليسه وصديقه فيما لا يضره ولا ينفعه.
لأخيك عليك إذا حزبه أمر أن تشير عليه بالرأي ما أطاعك، وتبذل له النصرة إذا عصاك.
سئل خالد بن صفوان عن ابن له فقال: كفاني أمر دنياي، وفرغني لأمر آخرتي.
قالوا الغيبة ربيع اللئام.
أطول الناس نصباً الحريص إذا طمع، والحقود إذا منع.
ثلاثة أشياء ينبغي للمرء أن يدفع شينها بما قدر عليه: فورة الغضب وكلب الحرص، وعلل البخل.
الشريف يقبل دون حقه، ويعطى فوق الحق الذي عليه. من العجيب أن يفشي الإنسان سره ويستكتم غيره.
ينبغي للرجل أن يكون ضنيناً بالكذب، فإن احتاج إليه نفعه.
الحسود غضبان على القدر والقدر لا يعتبه.
الباب الخامس
جنس آخر من الأدب والحكم
وهو ما جاء لفظه على لفظ الأمر والنهي
كان يقال: إذا غضب الكريم فألن له الكلام، وإذا غضب اللئيم فخذ له العصا.وقال بعضهم: غضب العاقل في فعله، وغضب الجاهل في قوله.
قال بعضهم وقد رأى رجلاً يتكلم فيكثر: أنصف أذنيك من فمك؛ فإنما جعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تقول.
قالوا: دع المعاذر فإن أكثرها مفاجر.
وقال إبراهيم النخعي: دع الاعتذار فإنه يخالطه الكذب.
قالوا: مكتوب في الحكمة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك.
قال إبراهيم النخعي: سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس يعني العلم.
قالوا: مروا الأحداث بالمراء، والكهول بالفكر، والشيوخ بالصمت.
وقال: عود نفسك الصبر على جليس السوء؛ فإنه لا يكاد يخطئك.
قال حاتم لعدي ابنه: يا بني إني رأيت الشر يتركك إن تركته، فاتركه.
وكان يقال: لا تطلبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوب، فإنه يقربها وإن كانت بعيدة ويباعدها وهي قريبة، ولا إلى أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك؛ ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة، فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته وقالوا: لا تصرف 422 حاجتك إلى من معيشته من رؤوس المكاييل وألسنة الموازين.
وكان يقال: إياك وصدر المجلس وإن صدرك صاحبه، فإنه مجلس قلعة.
قالوا: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
قال بعضهم: سرك دمك، فلا تجرينه في غير أوداجك.
كان يقال: إياك وعزة الغضب، فإنها تصيرك إلى ذلة الاعتذار.
قال بعضهم: إذا أرسلت لتأتي ببعر فلا تأت بثمر، فيؤكل تمرك، وتعنف على خلافك.
قالوا: إذا وقع في يدك يوم السرور فلا تخله فإنك إذا وقعت في يد يوم الغم لم يخلك.
قال آخر: احفظ سيئك ممن لا تنشده. أي ممن تستحي أن تسأله عنه. ومثله لابن المقفع: احذر من تأمن فإنك ممن تخاف على حذر.
قالوا: إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فانظر من عدوه. وإذا أردت أن تعادي رجلاً فانظر من وليه.
قيل: إذا قلدت أحداً مهماً فعجل له منفعة، وأجمل له في العدة، وابسط له في المنية.
قال بعضهم: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة، والانبساط مجلبة لقرين السوء، فكن بين المنقبض والمسترسل؛ فإن خير الأمور أوساطها.
كان يقال: اجعل عمرك كنفقة دفعت إليك، فأنت لا تحب أن يذهب ما تنفق ضياعاً، فلا تذهب عمرك ضياعاً.
قيل: من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذر أن يكفرك فيما أسديت إليه.
لا تستعن في حاجتك بمن هو للمطلوب أنصح منه لك.
لا يؤمننك من شر جاهل قرابة ولا إلف، فإن أخوف ما تكون لحريق النار أقرب ما تكون منها.
لا ترفع نفسك عن شيء قربك إلى رئيسك.
كن في الحرص على تفقد عيبك كعدوك.
عليك بسوء الظن فإن أصاب فالحزم، وإن أخطأ فالسلامة.
رضا الناس غاية لا تدرك، فتحر الخير بجهدك، ولا تكره سخط من يرضيه الباطل.
إذا رأيت الرجل على باب القاضي من غير حاجة فاتهمه.
رأى رجل ابنه يماكس في ابتياع لحم، فقال: يا بني، ساهل فما تضيعه من عرضك أكثر مما تناله من غرضك.
وقال بعضهم: الدين رق، فلا تبذل رقك لمن لا يعرف حقك.
وقال بعضهم: احذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويورثك الهوينا بالإحالة على القدر، فإن الله أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم للقضاء بعد الإعذار فقال: " خذوا حذركم. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " وقال النبي عليه السلام: " اعقل وتوكل " .
قالوا: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته كعنايتك باكتسابه، ولا تصحب غنياً؛ فإنك إن ساويته في الإنفاق أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك.
إذا سألت كريماً حاجة فدعه يتفكر؛ فإنه لا يفكر إلا في خير. وإذا سألت لئيماً حاجة فغافصه ولا تدعه يتفكر فيتغير. وفي ضد ذلك: إذا سألت لئيماً حاجة فأجله حتى يروض نفسه.
العدو عدوان: عدو ظلمته، وعدو ظلمك.. فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالذي ظلمك؛ فإن الآخر موتور.
لا تستصغرن أمر عدوك إذا حاربته، لأنك إن ظفرت به لم تحمد، وإن ظفر بك لم يعذر، والضعيف المحترس من العدو القوي أقرب إلى السلامة من القوي 423 المغتر بالضعيف.
لا تصحب من تحتاج أن ما يعرفه الله منك.
صن الاسترسال منك حتى تجد له مستحقاً، واجعل أنسك آخر ما تبذله من ودك.
لا تسل غير الله فإنه إن أعطاك أغناك.
الصاحب كالرقعة في الثوب فالتمسه مشاكلاً.
إياك وكثرة الإخوان؛ فإنه لا يؤذيك إلا من يعرفك.
قال بعضهم: لا تسبوا الغوغاء؛ فإنهم يطفئون الحريق، ويخرجون الغريق؛ ويسدون البثوق.
قال ابن السماك: دع اليمين لله إجلالاً، وللناس جمالاً، واعلم أن العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئاً في سره فضحه في علانيته.
قال إسحاق بن إبراهيم بن مصعب: إذا كان لك صديق فلم تحمد إخاءه ومودته فلا تظهر ذلك للناس؛ فإنما هو بمنزلة السيف الكليل في منزل الرجل، ويرهب به عدوه، ولا يعلم العدو أقاطع هو أم كليل.
قالوا: دع الذنوب قبل أن تدعك.
كان معاوية بن الحارث يقول: لا يطمعن الخب في كثرة الصديق، ولا ذو الكبر في حسن الثناء.
قيل: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن بهته لك، ومن أظهر لك شكر ما لم تأت فاحذر أن يكفر نعمتك.
قال عبد الحميد: لا تركب الحمار؛ فإنه إن كان فارهاً أتعب يدك، وإن كان بليداً أتعب رجلك.
كان ابن المقفع يقول: إذا نزل بك مكروه فانظر، فإن كان له حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع.
قال آخر: تصفح طلاب حكمك، كما تتصفح خطاب حرمك.
قال آخر: تعلموا العلم فإنه زين للغني، وعون للفقير. إني لا أقول يطلب به ولكن يدعوه إلى القناعة.
لا ترض قول أحد حتى ترضى فعله، ولا ترض فعل أحد حتى ترضى عقله، ولا ترض عقل أحد حتى ترضى حياءه؛ فإن ابن آدم مطبوع على كرم ولؤم، فإذا قوي الحياء قوي الكرم، وإذا ضعف الحياء قوي اللؤم.
تعلموا العلم وإن لم تنالوا به حظاً؛ فلأن يذم الزمان لكم أحسن من أن يذم بكم.
اجعل سرك إلى واحد ومشورتك إلى ألف.
قال بعضهم: إن الله خلق النساء من عي وعورة؛ فداووا العي بالسكوت واستروا العورة بالبيوت.
قال رجل لابنه: تزي بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك، وتواضع السوقة.
قال الزهري: سمعت رجلاً يقول لهشام بن عبد الملك: لا تعدن يا أمير المؤمنين عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. ولا يغرنك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعراً. واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر.
قال آخر: لا تجاهد الطلب جهاد المغالب، ولا تتكل إتكال المستسلم؛ فإن ابتغاء الفضل من السنة، والإجمال في الطلب من العفة. وليست العفة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلاً.
سمع بعضهم إنساناً يتكلم بما لا يعنيه فقال له: يا هذا إنما تملي على حافظيك، وتكتب إلى ربك؛ فانظر على من تملى، وإلى من تكتب.
قال بعضهم: أقم الرغبة إليك مقام الحرمة بك، وعظم نفسك عن التعظم، وتطول ولا تتطاول.
قال آخر: عاملوا الأحرار بالكرامة المحضة، والأوساط بالرغبة والرهبة والسفل بالهوان.
كن للعدو المكاتم أشد حذراً منك للعدو المبارز.
قال سلم بن قتيبة لأهل بيته: لا تمازحوا فيستخف بكم السوقة، ولا تدخلوا 424 الأسواق فتدق أخلاقكم ولا ترجلوا فيزدريكم أكفاؤكم.
قال آخر: احفظ شيئك ممن تستحيي أن تسأله عن شيء إن ضاع لك .
إذا كنت في مجلس فلم تكن المحدث ولا المحدث فقم.
كان يقال: لا تستصغرن حدثاً من قريش، ولا صغيراً من الكتاب، ولا صعلوكاً من الفرسان، ولا تصادقن ذمياً ولا خصياً ولا مؤنثاً؛ فإنه لا ثبات لموداتهم.
قالوا: لا تدخل في مشورتك بخيلاً فيقصر بعقلك، ولا جباناً فيخوفك ما لا يخاف.
ولا حريصاً فيعدك ما لا يرجى؛ فإن الجبن والبخل والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظن.
قال عون بن عبد الله: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن.
قال رجل لابنه: يا بني؛ اعص هواك والنساء واصنع ما بدا لك.
كان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان في مجلسه يقول: أظهره فلو كان خيراً أو حسناً ما كتمته. وكان يقال: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك.
قال:
كل من الطعام ما تشتهي، والبس من الثياب ما يشتهي الناس.
قالوا في الدار: لتكن أول ما يبتاع وآخر ما يباع.
قال الثوري: من كان في يده شيء فليصلحه، فإنكم في زمان إذا احتاج الرجل فيه إلى الناس كان أول ما يبذله لهم دينه.
قال الحر العقيلي لابنه: إذا قدمت المصر فاستكثر من الصديق، وأما العدو فلا يهمنك.
قال ابن المقفع: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك وللعامة بشرك وتحيتك. ولعدوك عدلك وإنصافك. واضنن بدينك وعرضك عن كل حد.
وقالوا: رو بحزم، فإذا استوضحت فاعزم.
قال صعصعة لابن أخيه: إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت الفاجر فخالفه، ودينك فلا تكلمنه.
قالوا: لا تزوجن حرمتك إلا عاقلاً؛ إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها أنصفها.
دخل عبد العزيز بن زرارة الكلابي على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين؛ جالس الألباء أعداء كانوا أو أصدقاء؛ فإن العقل يقع على العقل.
قال أبو السرايا لأبى الشوك غلامه: كن بحيلتك أوثق منك بشدتك وبحذرك أفرح منك بنجدتك؛ فإن الحرب حرب المتهور وغيمة المتحدر.
قال بعضهم: قرأت على قائم بحمص مكتوباً: إذا عز أخوك فهن.
وتحته مكتوباً: قال هامان: - وكان أعلم وأعقل وأحكم: إذا عز أخوك فأهنه.
قالوا: النعم وحشية فقيدوها بالمعروف.
قال الربيع بن زياد: من أراد النجابة فعليه بالمق الطوال، ومن أراد التلذذ فعليه بالقصار؛ فإنهن كنائن الجماع.
قال الشافعي: احذر من تأمنه، فأما من تحذره فقد كفيته. وقال: إذا أخطأتك الصنيعة إلى من يتقي الله فاصنعها إلى من يتقي العار.
قال ابن السماك: لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض.
وقال عون بن عبد الله: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن.
قال ابن المقفع: إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان فلا يعجبنك ذلك؛ فإن زوال الكرامة بزوالهما، ولكن ليعجبك إن أكرموك لأدب أو دين.
كان مطرف يقول: انظروا قوماً إذا ذكروا بالقراءة لا تكونوا منهم، وقوماً إذا ذكروا بالفجور لا تكونوا منهم، ولكن كونوا بين هؤلاء وهؤلاء 425 قال بعضهم: من سألك لم يكرم وجهه عن مسألتك فأكرم وجهك عن رده.
قال ميمون بن ميمون: لا تطلبن إلى بخيل حاجة؛ فإن طلبت إليه فأجله حتى يروض نفسه.
قال ابن المقفع: إياك ومشاورة النساء؛ فإن رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن، وأكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب وليس خروجهن بأشد من دخول من لاتثق به عليهن؛ فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك افعل. ولا تملكن امرأة من الأمر ما جاوز نفسها ، فإن ذلك أنعم لحالها، وأرخى لبالها. وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة؛ فلا تعد بكرامتها نفسها، ولا تعطها أن تشفع لغيرها. ولا تطل الخلوة مع النساء فيمللنك وتملهن، واستبق من نفسك بقية؛ فإن إمساكك عنهن وهن يردنك باقتدار خير من أن يهجمن منك على انكسار. وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم.
قال ابن المقفع: الختم حتم؛ فإذا أردت أن تختم على كتاب فأعد النظر فيه فإنما تختم على عقلك. وقال: الدين رق، فانظر عند من تضع نفسك.
كان يقال: إذا قال أحدكم: والله. فلينظر ما يضيف إليها.
دخل عبد العزيز بن زرارة الكلابي على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين جالس الألباء؛ أعداء كانوا أو أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل.
كان بعضهم يقول: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه.
كان يقال: إذا وجدت الشيء في السوق فلا تطلبه من صديق.
قال العباس بن الحسن العلوي: اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء، ففرغه للمهم من أمورك؛ وأن مالك لا يغني الناس كلهم، فاخصص به أهل الحق؛ وأن كرامتك لا تطبق العامة، فتوخ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حوائجك فأحسن قسمتك بين عملك ودعتك.
وكان يقال: أحيوا المعروف بإماتته.
وقال قيس بن عاصم: يا بني اصحبوا من يذكر إحسانكم إليه: وينسى أياديه لديكم.
وكان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم.
إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم.
من كان في وطن فليوطن غيره وطنه ليرتع في وطن غيره في غربته.
أراد رجل سفراً فقال له بعضهم:
إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد، ويهر دونهم؛ فإن قدرت ألا تكون كلب رفقتك فافعل، وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها فإنك مصليها لا محالة، فصلها وهي تقبل منك.
قال ابن السماك: إن من الناس ناساً غرهم الستر، وفتنهم الثناء. فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك.
قيل: لا تثقن كل الثقة بأخيك؛ فإن صرعة الاسترسال لا تستقال.
من أمثال الترك: اسكت تربح ما عندك، وشاور تربح ما عند غيرك.
قيل: لا تكن مثل من تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستقين.
انتقم من الحرص بالقناعة كما ينتصر من العدو بالقصاص.
أوصى أبو الهذيل أصحابه فقال: لا تدخلوا في الشهادة فتصيروا أسراء 426 الحكام، ولا في القضاء؛ فإن فرحة الولاية لا تفي بترحة العزل، ولا في رواية الحديث فيكذبهم الجهال والصبيان، ولا في وصية فيطعن عليكم بالخيانة، ولا في إمامة الصلاة فمن شاء صلى وراءكم ومن شاء لم يصل. وقال: لا تجالسوا من لا يوثق بدينه وأمانته، ولا تبدءوا المخالفين بالسلام فإنهم إن لم يجيبوا تقاصرت إليكم نفوسكم ولحقتكم خجلة.
قالوا: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
قال بعضهم لمؤدب ولده: فقههم في الحلال والحرام، فإنه حارس من أن يظلموا، ومانع من أن يظلموا.
كن إلى الاستماع أسرع منك إلى القول، ومن خطأ القول أشد حذراً من خطأ السكوت.
قال بكر بن عبد الله المزني: اجتهدوا بالعمل، فإن قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي.
وقال بعضهم: من لم ينشط بحديثك فارفع عنه مئونة الاستماع منك.
قالوا: من ثقل عليك بنفسه، وغمك في سؤاله، فألزمه أذن صماء، وعيناً عمياء.
وقال عبد الله بن شداد: أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا يرجع. ولا تزهدن في معروف؛ فإن الدهر ذو صروف، فكم من راغب قد كان مرغوباً إليه. وطالب أصبح مطلوباً إليه، والزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان ير الهوان وإن غلبت يوماً على المال فلا تغلبن على الحيلة على كل حال. وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مالاً.
وقال آخر: لا يكونن منكم المحدث لا يستمع منه، ولا الداخل في سر اثنين لم يدخلاه فيه، ولا الآتي دعوة لم يدع إليها، ولا جالس في مجلس لا يستحقه، ولا طالب الفضل من أيدي اللئام، ولا المتعرض للخير من عند عدوه، ولا المتحمق في الدالة.
قالوا: اطلبوا المعيشة فإن الفقر أول ما يبدأ بدين الإنسان.
إذا خالطت فخالط حسن الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى خير، ولا تخالط سيء الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى شر.
اطبع الطين ما دام رطباً، واغرس العود ما دام لدنا.
قال ابن السماك: خف الله حتى كأنك لم تطعه، وأرجو الله حتى كأنك لم تعصه.
قال رجل لآخر: كيف أسلم على الإخوان؟ فقال: لا تبلغ بهم النفاق ولا تقصر بهم عن الإستحقاق.
قال بعض العرب: إذا وضعت طعامك فافتح بابك، وإذا وضعت شرابك فأغلقه؛ فإن النبيذ رضاع فانظر من تراضع.
انصح لكل مستشر، ولا تستشر إلا الناصح اللبيب. استشر عدوك تعرف مقدار عداوته. لا تشاور إلا الحازم غير الحسود، واللبيب غير الحقود.
قال زياد بن أبي حسان: لا تطلب من نفسك العام ما عودتك عام أول.
عاشروا النساء بأمور ثلاثة: ألزموهن البيوت، واتهموهن على الأسرار، واطووا عنهن الأحاديث.
صن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، وجهدك بالإجمال في الطلب.
لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم بحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، ولا تطمعها في الشفاعة لغيرها فيميل من شفعت له عليك معها.
427 - عود نفسك السماح، وتخير لها من كل خلق أحسنه؛ فإن الخير عادة، والشر لجاجة، والصدود آية المقت، والعلل آية البخل.
كن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً.
إياك والمرتقى السهل إذا كان المنحدر وعرا. روي ذلك عن محمد بن علي عليه السلام.
احترس من ذكر العلم عند من لا يريده، ومن ذكر القديم عند من لا قديم له؛ فإن ذلك يحدث التعيير، وبالحري أن تتخذه سلماً إلى الضغن عليك.
إذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا أسأت فاندم، وإذا مننت فاكتم، وإذا منعت فأجمل. ومن يسلف المعروف يكن ربحه الحمد.
اطلب الرحمة بالرحمة. اتق العثار بحسن الاعتبار. لا تستأنس بمن لم تبل خلائقه. لا تأمن العدو على حال. لا تغتر بفضل قوتك على الضعيف لتشتد وحشتك من اللطيف الموتور.
أعدد السيئات للتراث.
لا تفرح بالرجاء فإنه غرور، ولا تتعجل الغم بالخوف فإنه شك.
حاسب نفسك تسلم وتسعد.
لن يخلوا أحد من ذم، فاجهد أن تخلوا من ذم الأخيار.
حارب عدوك ما حاربك بشخصه، فإذا أخفى شخصه فاحرس نفسك منه؛ لأن من يعلم أنه لا ينجيه منك إلا الموت لا ينجيك منه إلى مثل ذلك، والمستسلم للموت لا يبالي على ما أقدم.
احذر فلتات المزاحي وصرعات البغى.
لا تجاهد الطلب جهاد المغالب، ولا تتكل على القدر إتكال المستسلم فإن ابتغاء الفضل سنة، وإجمال الطلب عفة، وليست العفة بدافعة رزقاً، ولا الحرص بجالب فضلاً، والرزق مقدور والأجل موقوف، وفي استعجال الحريص اكتساب المآثم.
لا تشبهن رضاك بغضبك؛ فتكون ممن لا يضر غضبه ولا ينفع رضاه.
اغتنم العمل ما دامت نفسك سليمةً، وأجعل كل ساعة بشغلها لآخرتك غنيمة.
لا تكونن لغير الله عبداً ما وجدت من العبودية بداً.
احم نفسك القنوط ، وأتهم الرجاء. لا تغير أخاك وأحمد الذي عافاك.
أنظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه.
احتمل ممن أدل عليك وأقبل ممن أعتذر إليك.
ليكن عملك فيما بينك وبين أعدائك العدل، وفيما بينك وبين أصدقائك الرضا؛ فإن العدو خصم تصرفه بالحجة، وتغلبه بالحكم. والصديق ليس بينك وبينه قاض، وإنما هو رضاه وحكمه.
إذا أردت أن تخدع الناس فتغاب عليهم.
إذا صافاك عدوك رياء منه فتقلق مصافاته إياك بأوكد مودة؛ فإنه إذا ألف ذلك واعتاده خلصت لك مودته.
فكر قبل أن تعزم، وأعرض قبل إن تصرم، وتدبر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تقدم.
اسع في طلب رضا الأحرار فإن رضا اللئام غير موجود.
اقتصد وداوم وأنت الجواد السابق.
لا تألف المسألة فيألفك المنع.
لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك؛ فإن أقواماً غرهم ستر الله وفتنهم حسن الثناء.
قال ابن ضبارة: ليس للأحرار ثمن إلا الكرامة، فأكرموا الأحرار تملكوهم.
اطلب الحاجة إلى إخوانك، قبل تأكد مودتهم لك؛ فإنك 428 إذا طلبتها ممن قد وثق بك اتكل على الدالة، وردك عن حاجتك بالثقة. لا تسأل الحوائج غير أهلها، ولا تسألها في غير حينها، ولا تسأل ما لست له مستحقاً؛ فتكون للحرمان مستوجباً.
إذا غشك صديقك فاجعله مع عدوك.
إذا غلبك عدوك على صديقك فخل عنه.
لا تعدن من إخوانك من آخاك في أيام مقدرتك للمقدرة. واعلم أنه يتثقل عليك في أحوال ثلاث: فيكون صديقاً يوم حاجته إليك، ومعرفة يوم استغنائه عنك، ومتجنياً عدواً يوم حاجتك إليه.
لا تسرن بكثرة الإخوان ما لم يكونوا خياراً؛ فإن الإخوان عند المتخيرين بمنزلة النار، التي قليلها متاع وكثيرها بوار.
ارع حق الإخوان وحق الأخ على الأخ أن يحوطه غائباً، ويعضده شاهداً ويخلف عليه محروباً، ويعوده مريضاً، ويواسيه محتاجاً، ويضحك في وجهه مقبلاً، ويدعو له مدبراً.
ليشتد عطفك على سقطات إخوانك.
ارض بالعفو من إخوانك، وأبذل لهم مجهودك، واستزد من الجميع.
إذا دفعتم عن حقكم فاطلبوا أكثر منه، وإذا بخع لكم به فصيروا إليه.
جالسوا الألباء أصدقاء كانوا أو أعداء، فإن العقول تلقح العقول.
لا يغلبهن عليكم سوء الظن فيدعكم ومالكم من صديق.
الباب السادس
جنس آخر من الحكم والأمثال والآداب
وهو ما كان في أوله " من "
من كثرت نعمة الله عنده كثر عدوه. من يصحب الزمان ير الهوان.من لم يمت لم يفت. من صدق الناس كرهوه. من يطل ذيله ينتطق به.
من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء، فإنه لو غص بغيره أجاز به غصته. من أكثر أسقط. من اتبع غي الناس كان أغوى. من لقي الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون.
من أحب الذكر فليستعمل الصبر. ومن شح على دينه فليستعمل الخوف، ومن ضن بعرضه فليمسك عن المراء.
من صفا قلبه صفا لسانه. من خلط خلط له. من لم يضن بالحق عن أهله فهو عين الجواد.
وقال الصادق رضي الله عنه: من أيقظ فتنة فهو أكلها.
ومن كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه:
من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار كف عن المحارم، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصائب، ومن ارتقب الموت سارع في الخير.
وقالوا: من استغنى كرم عن أهله. من قرب السفلة واطرح ذوي الأحساب والمروءات استحق الخذلان.
من انتقم انتصف، ومن عفا تفضل، ومن شفا غيظه لم يذكر في الناس فضله.
من كظم غيظه فقد حلم، ومن حلم فقد صبر، ومن صبر فقد ظفر.
من طلب الدنيا بعمل الآخرة خسرهما 429، ومن طلب الآخرة بعمل الدنيا ربحهما.
قال بعضهم: من ملك نفسه عند أربع حرمه الله على النار: حين يغضب وحين يرغب، وحين يرهب، وحين يشتهي.
قال بكر بن عبد الله: من كان له من نفسه واعظ عارضه ساعة الغفلة وحين الحمية.
من أمل أحداً هابه، ومن قصر عن شيء عابه.
قيل لحكيم: من أسوأ الناس حالاً؟ قال: من لم يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء أثره.
قيل لبعضهم: من أحب الناس إليك؟ قال: من كثرت أياديه عندي قال: فإن لم يكن؟ قال: من كثرت أيادي عنده.
كان يقال: من طال صمته اجتلب من الهيبة ما ينفعه، ومن الوحشة مالا يضره.
من طلب موضعاً لسره فقد أفشاه.
قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشاً؟ فقال: من كفي أمر دنياه، ولم يهتم بأمر آخرته.
وقيل: من زاد عقله نقص حظه. وما جعل الله لأحد عقلاً وافراً إلا احتسب عليه من رزقه.
قيل لبعضهم: من السيد؟ فقال: من إذا حضر هابوه، وإذا غاب اغتابوه.
من عمل بالعدل فيمن دونه رزق العدل ممن فوقه. من طلب عزاً بذل وظلم وباطل، أورثه الله ذلاً بإنصاف وحق.
من حسد من دونه قل عذره، ومن حسد من فوقه أتعب بدنه.
ومن وطئته الأعين وطئته الأرجل.
من عجز عن تقويم نفسه فلا يلومن من لم يستقم له. من رجى الفرج لديه، صرفت أعناق الرجال إليه.
من قصر في أمره لم يسع له غيره. من رباه الهوان أبطرته الكرامة. من ساسه الإكرام لم يصبر على المذلة.
من انتجعك مؤملاً فقد أسلفك حسن الظن بك. من استكده الجد استراح إلى بعض الهزل.
من أحب أن يطاع، سأل ما يستطاع. من أعذر كمن أنجح. ومن لم يصن نفسه لم يصن أهله.
من أدخل نفسه في عظام الأمور بغير نظر ولا روية أوشك ألا يخرج منها.
من كسل عن عمله طمع في كل غيره. من لم يرب معروفة لم يصنعه ومن لم يضعه في أصله فقد أضاعه.
قال بعضهم: عاتبت غسان بن عباد عن اقتصاده في لبسه وزيه فقال: من عظمت مئونته في نفسه قل فضله على غيره.
من حمل الشيء جملة ألقاه جملة. من كانت الدنيا همه، كثر في القيامة غمه.
من أجمل في الطلب أتاه رزقه من حيث لا يحتسب. من حصن شهوته صان قدره.
من ضاق خلقه مله أهله. من ركب العجلة لم يأمن الكبوه. من لم يثق لم يوثق به.
من أقاده الدهر أقاد منه. من أخطأ موضع قدمه، تعفر خداه بدمه.
من ألحف أدى. من استطال على الأكفاء فلا يثقن منهم بالصفاء.
من أكثر ذكر الضغائن اكتسب العداوة. من لم يحمد صاحبه على حسن النية لم يحمده على حسن الصنيعة.
ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه إلى الظلم، ومن إذا رضى لم يخرجه رضاه عن الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له.
من ضعف عن عمله اتكل على زاد غيره.
من أطال الحديث عرض أصحابه للسآمة وسوء الاستماع.
قيل لبعض السلف: من الكامل؟ فقال: من لم يبطر في الغنى 430 ولم يستكن للفاقة، ولم تهده المصائب، ولم يأمن الدوائر ولم ينس العافية ولم يغتر بالشبيبة.
قالوا: من أطرق في أمله فرط في عمله.
قال ابن المقفع: من أدخل نفسه فيما لا يعنيه ابتلي فيه بما يعنيه.
من استخار ربه، واستشار نصيحه، واجتهد رأيه، فقد أدى ما يجب عليه لنفسه، ويقضي الله في أمره ما أحب.
من أصبح لا يحتاج إلى حضور بين السلطان لحاجة، أو طبيب لضر، أو صديق لمسألة فقد عظمت عنده النعمة.
من كانت له غلة يستغلها فإنما يستغل عمره.
قالوا: من كان فيه واحدة من ثلاث كان محروماً: البغي والمكر والنكث.
قال الله تعالى: " إنما بغيكم على أنفسكم " وقال: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " . وقال: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " .
قال وهب: من لم يسخط نفسه في شهوته لم يرض ربه في طاعته.
قال نصر بن سيار: من لم يحقد لم يشكر. وقال غيره:
من لم يمنع لم يكن له ما يعطي. قال إبراهيم النخعي: من كنى ذمياً فقد هدم شعبة من الإيمان.
قال حكيم: من ذا الذي بلغ جسيماً فلم يبطر، واتبع الهوى فلم يعطب، وجاور النساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته؟ قال أبو حازم: ثلاث من كن فيه كمل عقله: من عرف نفسه وملك لسانه وقنع بما رزقه ربه.
كان شبيب بن شيبة يقول: من سمع كلمة يكرهها فسكت عنها انقطع عنه ما كره، وإن أجاب عنها سمع أكثر مما كره. وكان يتمثل:
وتجزع نفس المرء من وقع شتمة ... ويشتم ألفاً بعدها ثم يصبر
قال الزهاد: من عرف نفسه لم يذمم أحداً، ومن عرف الناس لم يمدح أحداً.
قال عون بن عبد الله: كان يقال: من كان في صورة حسنة ومنصب لا يشينه، ووسع عليه في الرزق كان من خالصة الله.
من أطاع الهوى ندم. من لانت كلمته وجبت محبته من لم يقدمه حزم أخره عجز.
من حبس الدراهم كان لها ومن أنفقها كانت له.
من لم يكن فيه خمس فلا ترجه: من لم يعرف بالوثاقة في أرومته والكرم في طبيعته، والتثبت في بضيرته، والدماثة في خلقه، والنبل في همته.
من لم تؤدبه الكرامة قومته الإهانة. من أنعم على الكفور كثر غيظه.
من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب الدهر.
من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك..
من حذر شمر. من أمن تهاون. من توقى سلم، ومن تهور ندم. من لم يتبع لم يشبع. من شاخ باخ.
من لم ينتفع بتجاربه اغتر بالدهر ونوائبه.
من ادعى كرماً بعده لؤم فلا كرم له، من رضي بلؤم بعده كرم فلا لوم عليه.
من تواضع للعلم نبله، ومن تعزز عليه ذلله.
من قال: لا أدري. وهو يتعلم أفضل ممن يدري وهو يتعظم.
من انتحل من العلم الغاية لم يكن لجهله نهاية. من يدع العلم جله أعقل ممن يدعيه كله.
431 - من جاع باع. ومن أحسن الاستماع استعجل الانتفاع. من حلم ساد. من اعترف بالجريرة فقد استحق الغفيرة. من رغب عن الإخوان جسر على الزمان. من اتبع هواه أضله. من جهل النعم عرف النقم.
من أبصر أقصر. من أكثر أهجر. من دام لفظه كثر سقطه. من تفكر أبصر.
من كانت له فكرة فله من كل شيء عبرة. من انتهز الفرصة أمن الغصة.
من كان في الشدة فهو حقيق بالحدة. من سكت فسلم كان كمن قال فغنم.
من كره النطاح لم ينل النجاح. من كان له في نفسه واعظ كان له من الله حافظ. من نال استطال.
من جاد ساد. من كساه الحياء ثوبه، حجب عن العيون عيبه.
من كرم محتده حسن مشهده. من خبث عنصره ساء محضره. من خان هان. من أدمن قرع الباب ولج.
من استوطأ مركب الصبر فلج. من أخذ من أموره بالاحتياط سلم من الاختلاط. من نشر صبره طوى أمره. من امتن بمعروفه أفسده.
من قل حياؤه كثر ذنبه. من لان عوده كثرت أغصانه. من حسن خلقه كثر إخوانه. من يبرئ بصيرتك من العمى أكمل ممن يصح بصرك من القذى.
من غرس الطعام جنى الأسقام. من بالغ في المزاح أثم. من قصر فيه خصم. من غض عينه حصن دينه. من أثقل عليك فأوله أذناً صماء وعيناً عمياء.
من غره الشباب تقطعت به الأسباب. من ختم البضاعة أمن الإضاعة.
من خلب جلب.. من عز بز.
من نظر بعين الهوى حار، ومن حكم بحكم الهوى جار. من ساء خلقه عذب نفسه. من حب طب. من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك.
من زرع المهل حصد الجذل. من أحسن الاعتذار استوجب الاغتفار.
من طال صبره ضاق صدره. من احتاج إليك ثقل عليك. من زرع شيئاً حصده، ومن قدم خيراً وجده.
من تنزه عن المطامع لم يعتبد. من لم يحتمل بشاعة الدواء دام ألمه. من لم يصلحه الخير أصلحه الشر. من لم يصلحه الطالي أصلحه الكاوي.
من تعلل بالمنى أفلس. من اغتاب خرق، ومن استغفر رقع.
من يرحم يرحم. من يصمت يسلم. من يقل الخير يغنم. من يكره الشر يعصم. من لا يملك لسانه يندم.
من بخل عليك ببشره لم يجد عليك ببره. من كف عنك شره فاصنع به ما سره. من كف ضيره فقد بذل خيره.
من تشاغل بالسلطان لم يتفرغ إلى الإخوان. من حصن سره كان الخيار في يده. من بدا جفا. من تنقل تبقل، ومن سعى رعى، ومن نام رأى الأحلام.
من استغنى برأيه فقد خاطر. من عرف الأيام لم يغفل الاستعداد لها.
من أحب من لا يعرفه فإنما يمازح نفسه. من حصن شهوته صان قدره. من ضاق خلقه مله أهله. من ركب العجلة لم يأمن الكبوة.
من تقدم بحسن النية بصره التوفيق. من قارب الناس في عقولهم 432 سلم من غوائلهم. من ساد عز. من التحف بالقناعة حالفه العز. من كانت له إلى الناس حاجة فقد خذل.
من عالج الشوق لم يستبعد الدار. من يزرع الشوك لا يحصد به العنب. من اطمأن قبل الاختبار ندم. من وصلك وهو معدم خير ممن جفاك وهو مكثر.
من لم يغض على القذى لم يرض أبداً. من تقلبت به الأحوال علم جواهر الرجال. من طمع ذل. من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: الدين والعرض.
من تأدب صغيراً انتفع كبيراً. من سره بنوه ساءته نفسه. من أساء لفظه غبن حظه. من عذل سفيهاً عرض للشتم نفسه.
من اتبع عورة أخيه المسلم فضحه الله في بيته. من قل حياؤه قل ورعه.
من أكثر من المزاح استخف به، ومن أكثر الضحك اجترئ عليه. من أكثر من شيء عرف به.
من طلب العلم بالنجوم تزندق. من طلب المال بالكيميا أفلس. من طلب غرائب الحديث كذب.
من زنى زني به. من عتب على الدهر طالت معتبته. من سأل فوق قدره استحق الحرمان.
من شتم حليماً رجع ذميماً. من كفر النعمة منع الزيادة.
من شاب شيب له. من طلب عظيماً خاطر بعظيمته. من يلق خيراً يحمد الناس أمره. من ملك استأثر. من لم يشاور ندم. من أصبح على الدنيا حزيناً أصبح على الله ساخطاً. من شكا ضراً نزل به فإنما يشكو الله.
من لم يدار عيشه مات قبل أجله. من لاحى الرجال ذهبت كرامته. من اتخذ التقوى صاحباً كانت له ردءاً من الملمات. من كتم الأطباء مرضه فقد غش نفسه. من أحب أن يصرم أخاه فاليقرضه ثم يتقاضاه.
من حقر حرم. من أحبك لشيء زال حبه بزواله. من قال في الناس ما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. من عرف بالصدق جاز كذبه.
من طلب ما عند السلطان بالغلظة لم يزدد منه إلا بعداً. من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فقد حرمت غيبته، وكملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته.
من استحيا من غيره ولم يستح من نفسه فليس لنفسه عنده مقدار.
من أدب ولده صغيراً سر به كبيراً. من كثر خيره كثر زائره. من أدب ولده أرغم حاسده.
من عرف حق أخيه دام إخاؤه، ومن تكبر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غر نفسه.
من بسط بالخير لسانه انبسطت في القلوب محبته.
قالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديق فيوشك أن يكون عدواً فيذيعه.
قال ابن السماك: من فكر في أمره نهج له طريق رشده. من سل سيف البغي قتل به. من أطال الأمل أساء العمل.
من بذل حلو كلامه ومر فعاله فذلك العدو. من قصر عن الفضول نال من دهره كل مأمول. من جمع الحياء والسخاء فقد استجد الإزار والرداء. من لا يبال بالشكاية فقد اعترف بالدناءة. من رجع في هبته فقد استحكم اللؤم.
من جهل قدر نفسه فهو بقدر الناس أجهل. من أنف من عمل نفسه 433 اضطر إلى عمل غيره. من استنكف من أبويه فقد انتفى من الرشدة. من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه. ومن استعمل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. من عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار.
من عرف الأيام لم يغفل الاستعداد. من قاسى الأمور عرف المستور.
من رغب عن الرشا اشتد ظهره عند الخصام. من لزم العفاف لزمه العمل. من أكل قليلاً عمل طويلاً. من تعسف النعمة نفرت عنه.
من أدل على السلطان استثقله، ومن امتن عليه عاداه. من كذب السلطان فقد خانه، ومن أذاع سره فقد خاطر بنفسه. من صحب السلطان لم يزل مرغوباً.
من اجتهد رأيه وشاور صديقه واستخار ربه فقد قضى الذي عليه. ولن يقضي الله إلا ما يحب في أمره.
من قل طمعه صح جسمه. قال أكثم: من جاع صح. من خاف الكذب أقل من المواعيد. من أدلج ولج.
من طلب الحلال خفت مئونته وقل كبرياؤه.
ومن قدر على خير فلم يعمل به لزمته الإساءة. من لم ينتفع به أحد لم يعظمه أحد، ومن لم يعظمه أحد استخف به كل أحد، ومن استخف به لقي الذل عياناً.
من كثر ذامه اضطر إلى مدح نفسه. من كافأ الإحسان تنوفس في الإحسان إليه. من أنفق سرفاً يوشك أن يموت أسفاً. من تأول كلام الناس على السخط كثرت ذنوب الناس إليه.
من رغب في حسن الثناء طاب نفساً عن الثراء.
من أمن الزمان خانه، ومن تعظم عليه أهانه ، ومن تضعضع لريبه قدعه ومن لجأ إليه أسلمه، ومن كابره عطب.
من سبقك إلى الخير فاطلب أثره. ومن ملك نفسه لم تملكه شهواته، ولم يصرعه هواه، ولم يملكه غضبه.
من خاف شيئاً اتقاه. من أحب شيئاً أكثر ذكره. من وثق بعمله اشتاق إلى الجزاء. من خاف غير الله فهو غير واثق بالله. من طلب العز بلا ذل، ذل من حيث يطلب العز.
من أطال الحديث عرض نفسه للملالة وسوء الاستماع. من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذر أن يكفر نعمتك فيما أسديت إليه. من تحدث بحديث قبل أن يتدبره لم يسلم من عيبه.
من نظر في العواقب لم يشف غيظه. من زوج كريمته من سفيه فقد عقها. من منع بره قل أنصاره.
من أطلق لسانه أهدر دمه. من تذكر قدرة الله عليه لم يستعمل قدرته في ظلم عباده. من منع الناس ما يريد منهم مثله ظلم نفسه.
من استوحش في نفسه بالظن أوحش من نفسه باليقين. من استقصى على الناس قل صديقه، ومن أغضى على العوراء سهل طريقه.
من نظر في دينه إلى من هو فوقه يستصغر عمله، ونظر في دنياه إلى من هو دونه ليستكثر ما أعطى فقد وفق لحظه.
من منع المال من الحمد أورثه من لا يحمده. من اقتصر على قدره كان أبقى لحاله. من سعى بالنميمة حذره الغريب، ومقته القريب.
من أطال النظر أدرك الغاية. من أزعجه الخوف أمن. 434 من ضاق قلبه اتسع لسانه.
قال يحيى بن أكثم: من لم يرج إلا ما هو مستوجب كان قمنا أن يدرك حاجته. من عرف ثمار الأعمال فهو جدير ألا يغرس إلا طيباً. من صحب الحكماء ظفر بحسن الثناء.
من اغتر بالعدو الأريب خان نفسه. من عدم ماله أنكره أهله ومعارفه. من جانب هواه صح رأيه. من عاقب بريئاً فنفسه عاقب.
من عرضت له بلية رحم، ومن جناها ذم. من لم يجلس في شبيبته حيث يهوى جلس في كبره حيث لا يهوى.
من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب. من كان أغلب خصاله عليه الإحسان اغتفرت زلته، وأقيلت عثرته. من عتب على الدهر طالت معتبته.
من لم يأس على ما فاته تودع بدنه، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه.
من رد الكرامة نصب شركاً وثيقاً للعداوة. من بخل بدينه عظم ربحه.
من قاهر الحق قهر. من ترك التوقي فقد استسلم لقضاء السوء.
من أكدى فكأنه لم يعمل. من تياسر عن القصد هجم على الضلال. من طلب بالله أدرك.
من لم تؤدبه المواعظ أدبته الحوادث. من تعود الكفاية لم يعرف مقدار الراحة. من أمن الزمان ضيع ثغراً مخوفاً. من استكفى من يتهمه خان نفسه. من أمن مكايد الأعداء لم يعد في العقلاء.
من لم يعرف قدره أوشك أن يذل، ومن لم يدبر ماله أوشك أن يفتقر.
من رق وجهه رق علمه. من لم يتحرز بعقله من عقله هلك من قبل عقله.
من حرم العقل فلا خير له ولا للناس في حياته، ومن حرم الجود فلا خير له ولا للناس في سلطانه، ومن حرم الفهم فلا خير له ولا للناس في قضائه.
من رضي عنه الجميع المختلفون استحق اسم العقل. من احتقر ما أعطى فهو تمام ما أعطى، ومن استكثر ما أتى إليه فقد قضى ما عليه.
من لم يحتمل زلل صديقه عاش بلا صديق. من قاده الزمان إلى صداقة عدوه فليكثر تيقظه. من حاول صديقاً يأمن زلته، ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعاباً إلا ازداد من غايته بعداً.
من رضي بصحبة من لا خير فيه لم يرض بصحبته من فيه خير. من جمع الحرص على الدنيا والبخل بها استمسك بعمودي اللؤم. من استثقل أن يقال له الحق كان العمل به عليه أثقل.
الباب السابع
في سياسة السلطان وأدب الرعية
قال بعض الحكماء: إن قلوب الرعية خزائن واليها فما أودعه وجده فيها.قالوا: صنفان متباينان إن صلح أحدهما صلح الآخر: السلطان والرعية.
قال بعض الحكماء: إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لزوجها؛ فإنها لا تدع التصنع له في كل حال.
قال الأعمش: إذا رأيت العالم يأتي باب السلطان فاعلم أنه لص. 435 قال بعض الحكماء: ليغلق السلطان باب الأنس بينه وبين كفاته الذين تنفذ أمورهم في ملكه؛ فإن مؤانسته إياهم تبعث عليه بهم الجرأة وعلى الرعية الغشم.
قالوا: صنفان لو صلحا صلح جميع الناس الفقهاء والأمراء.
قيل: من داخل السلطان يحتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس.
قيل للعتابي: لم لا تقصد الأمير؟ قال:
لأني أراه يعطي واحداً لغير حسنة ولا يد، ويقتل آخر بلا سيئة ولا ذنب. ولست أدري أي الرجلين أكون أنا، ولست أرجو منه مقدار ما أخاطر به.
قيل: العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان، فإنه إن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط جنى عليه البسط ألسنة العامة.
قال سعيد بن حميد: مجلس السلطان كالحمام؛ من فيه يريد الخروج ومن هو خارج يريد الدخول فيه.
ابن المقفع: إقبال السلطان تعب، وإعراضه مذلة.
وقال آخر: السلطان إن أرضيته أتعبك، وإن أغضبته أعطبك.
قالوا: ينبغي للملك أن يتفقد أمر خاصته في كل يوم، وأمر عامته في كل شهر، وأمر سلطانه في كل ساعة.
قال بعضهم: إذا كنت حافظاً للسلطان في ولايتك، حذراً منه عند تقريبه لك، أميناً له إذا ائتمنك، تشكر له ولا تكلفه الشكر لك، تعلمه وكأنك تتعلم منه، وتؤدبه وكأنه يؤدبك، بصيراً بهواه، مؤثراً لمنفعته، ذليلا إن ضامك، راضياً إن أعطاك، قانعاً إن حرمك، وإلا فابعد منه كل البعد.
قال حكيم: محل الملك من رعيته محل الروح من البدن، ومحل الرعية منه محل البدن من الروح. فالروح تألم لألم كل عضو من أعضاء البدن، وسائره لا يألم لألم غيره، وفي فساد الروح فساد جميع البدن، وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح.
قال سهل بن هارون: ينبغي للنديم أن يكون كأنما خلق من قلب الملك؛ يتصرف بشهواته، ويتقلب بإرادته، إذا جد جد، وإذا تطلق تطلق؛ لا يمل المعاشرة، ولا يسأم المسامرة، إذا انتشى تحفظ، وإذا صحا تيقظ.
ويكون كاتماً لسره، ناشراً لبره، ويكون للملك دون العبد؛ لأن العبد يخدم نائباً والنديم يحضر دائباً.
كان مسروق بن الأجدع ينهي عن عمل السلطان، فدعاه زياد وولاه السلسلة، فقيل له في ذلك، فقال: اجتمع علي زياد وشريح والشيطان، فكانوا ثلاثة وكنت واحداً فغلبوني.
قيل لبعض من يتصرف مع السلطان: لا تصحبهم؛ فإن مثلهم مثل قدر أسود كلما مسه إنسان سوده. فقال: إن كان خارج القدر أسود فإن داخله لحم سمين، وطعام لذيذ.
كان يقال: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل وحسن سياسة.
قال بعض الملوك في خطبة: إنما نملك الأجساد لا النيات، ونحكم بالعدل لا بالرضا، ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر. قيل: أفضل من عوشر به الملوك قلة الخلاف وتخفيف المئونة.
قيل: لا يقدر على صحبة السلطان 436 إلا من يستقل لما حملوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى إذا سلطوه، ولا يبطر إذا أكرموه.
قيل لبعض الملوك وقد زال عنه ملكه: ما الذي سلبك ما كنت فيه؟ قال: دفع عمل اليوم إلى غده، والتماس عدة بتضييع عدد، وبذل أبطر وأضغن.
ابن المقفع: الناس على دين السلطان إلا القليل؛ فليكن للبر والمروءة عنده نفاق فسيكسد بذلك الفجور والدناءة.
وفيما قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك: السلطان سوق؛ فما نفق عنده أتى به.
قالوا: شر الأمراء أبعدهم من القراء، وشر القراء أقربهم من الأمراء.
قيل: إذا جعلك السلطان أخاً فاجعله رباً، وإن زادك فزده.
قال مسلم بن عمرو: ينبغي لمن خدم السلطان ألا يغتر بهم إذا رضوا ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، ولا يستثقل ما حملوه، ولا يلحف في مسألتهم.
قالوا: مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد؛ يهابه الناس وهو لمركبه أهيب.
للكاتب على الملك ثلاث: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، وإفشاء السر إليه.
يجب على الملك أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث، فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة في الطاعة من الرعية، وفي الأناة انفساخ الرأي واتضاح الصواب.
قال رجل لبعض السلاطين: أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من يرى برئي أحب إليه من سقمي وبراءتي أحب إليه من جرمي.
ابن المقفع: لا ينبغي للملك أن يغضب؛ لأن القدرة من وراء حاجته. ولا يكذب؛ فإنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، ولا يبخل فإنه يخاف الفقر، ولا يحقد لأن خطره قد جل عن المجازاة.
قال أبو حازم:
للسلطان كحل يكحل به من يوليه، فلا يبصر حتى يعزل.
حكي عن بعضهم أنه قال: حاجب السلطان نصفه، وكاتبه كله. وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس، ويديم العبوس، ويستخف بالشفاعات.
ابنلي بعض الملوك بصمم فقال: لئن كنت أصبت بسمعي، فلقد متعت ببصري. ثم نادى مناديه: من ظلم فليلبس ثوباً مصبوغاً وليقم حيث أراه فأدعو به وأنظر في أمره.
كان يقال، إن الملوك من الفرس وغيرهم كانوا يهنئون بالعافية، ولا يعادون من العلة؛ لأن عللهم كانت تستر نظراً وإبقاء عليهم، ولا يعلمها إلا خواصهم. وكانت عافيتهم تشتهر؛ لما للناس من الصلاح بها، ودوام الألفة، واستقامة الأمور عنها.
قال بعضهم: إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك مداراة المرأة القبيحة للزوج المبغض لها؛ فإنها لا تدع التصنع له بكل حيلة.
قال فيلسوف: إذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبي، وكلمه بما يشتهي.
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على المنصور فقال له: يا أمير المؤمنين؛ توسع توسعاً قرشياً، ولا تضق 437 ضيقاً حجازياً. وقال: يا أمير المؤمنين، إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرارة جورها، فوالله يا أمير المؤمنين لقد مخضت لك. ثم نهض فنهض معه تسعمائة من قيس، فأتأره المنصور بصره ثم قال: لا يعز ملك فيه مثل هذا.
قالوا: عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان.
كان الفضل بن الربيع يقول: مساءلة الملوك عن أحوالهم من كلام النوكى فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير؟ فقل: صبح الله الأمير بالكرامة. وإن أردت أن تقول كيف يجد الأمير نفسه؟ فقل: وهب الله الأمير العافية ونحو هذه الأشياء فإن المساءلة توجب الجواب فإن لم يجبك اشتد عليك وإن جابك اشتد عليه.
قيل لابن عباس: إن الناس قد فسدوا ولا يصلحهم إلا الشر. قال: بالله الذي لا إله إلا هو للجور أشب للشر، والعدل أطفأ للجور. وفي العدل كفاية، وإليه انتهت السياسة. وقد يصيب الوالي في رعيته بأربع من نفسه وأربع من أنفسهم؛ فأما الأربع اللواتي منهم فالرغبة والرهبة والأمانة والنصيحة. وأما الأربع اللواتي من نفسه فإعطاء من نصحه، والجزاء لمن أبلاه، وعقوبة ذي الذنب بقدر ذنبه، والتنكيل بمن تعدى أمره. فإن هو لم يفعل ذلك وتراخى ابتلى منهم بأربع: بالغش والخذلان والخيانة والنكد.
قيل: ليعلم من نال شرف المنزلة من السلطان وهو دني الأصل أنه ثأر الأشراف، وأنه لا نجاة له منهم إلا أن يعمرهم بالإحسان إليهم.
إذا كان الملك ضعيفاً، والوزير شرها، والقاضي كذوباً فرقوا الملك شعاعاً.
ملك عسوف أجدى على الرعية من ملك مقتصد السيرة ضعيف؛ لأن العسوف القوي قد يدفع عن البيضة بقوته، ومعه أنفة يحمي بها حوزته، والضعيف لا يستقصي حقة، ولا يأخذ حقوق رعيته، ولا قوة به على دفع عدوه وعدوهم.
إذا قنع الملك بإفساد دينه لم تقنع رعيته إلا بإزالة ملكه.
ظلم الرعية استجلاب البلية.
أحزم الملوك من ملك جده هزله، وقهر رأيه هواه، وعبر عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظه، ولا غضبه عن كيده.
قالوا: أربعة أشياء تقبح بأهلها: ضيق ذرع الملك، وسرعة غضب العالم، وبذاء النساء، وكذب القضاة.
خير الملوك من حمل نفسه على خير الآداب، ثم حمل رعيته على الإقتداء به. أعجز الملوك أضعفهم عن إصلاح بطانته.
إذا اضطر الملك إلى الكذب فليهرب من ملكه.
العجب ممن استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم.
إذا رغب الملك عن العدل رغبت رعيته عن طاعته.
إذا لم يرجع الملك إلا إلى رأى وزيره، فالوزير هو الملك، والملك سوقة مسخر.
من لم يصلح نفسه من الملوك عسر عليه إصلاح رعيته، وكيف يعرف رشد غيره من يعمى عن ذات نفسه؟ لا تخف صولة الأمراء مع صداقة الوزراء.
طال حزن من غضب على الملوك وهو لا يقدر على الانتقام منهم.
صحبة السلطان بلا أدب كركوب البرية بغير ماء.
اثنان ينبغي للملك أن يحذرهما: الزمان 438 والأشرار.
إذا امتهنت خاصة الملك فالملك هو الممتهن.
ينبغي لصاحب السلطان أن يستعد لعذر ما لم يجنه، وأن يكون آنس ما يكون به أوحش ما يكون منه. فإذا سلمت الحال عنده فلا ينبغي له أن يأمن ملالته.
أقوى الملوك في الدنيا أعلمهم بضعفه في الآخرة.
لا أحد أمر عيشاً وأكثر نصباً وأطول فكرة من الملك العارف بالعواقب، الموقن بالمعاد.
موت الملك الجائر خصب شامل، لأنه لا قحط أشد من جور السلطان.
إذا تفرغ الملك للهوه تفرغت رعيته لإفساد ملكه.
إذا وقفت الرعية على سرائر الملوك هان عليها أمرها.
ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون في رعيته من هو أفضل ديناً منه، كما يأنف أن يكون فيهم من هو أنفذ أمراً منه.
أعجب الأشياء ملك يطلب نصيحة رعيته مع ظلمهم.
ليعلم الملك أن الذي له عند رعيته مثل الذي لرعيته عنده.
وضع الشدة في موضع اللين سوء بصر بالتدبير، والاستسلام لرأي الوزراء هو العزل الخفي.
إذا لم يشرف الملك على أموره فليعلم أن أغش الناس له وزيره.
من استكفى الأمناء ربح التهمة.
قضاء حق المحسن أدب للمسيء، وعقوبة المسيء حسن جزاء المحسن.
لن تجد الحرب الغشوم أسرع في اجتياح الملك من تضييع المراتب، حتى يصيبها أهل النذالة والفسولة، ويزهد فيها أولو الفضل، ويطمع فيها الأراذل.
قالوا: إذا أراد الله إزالة ملك عن قوم جبنهم في آرائهم.
العجب من سلطان يبتدئ على رعيته والسيف والسوط بيده.
لا شيء أذهب بالدول من تولية الأشرار.
الملك لا تصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل.
دخل أبو مجلز على قتيبة بخراسان وهو يضرب رجلاً بالعصا فقال: أيها الأمير؛ إن الله جعل لكل شيء قدراً، ووقت له وقتاً؛ فالعصا للأنعام والهوام والبهائم العظام، والسوط للحدود والتعزير، والدرة للأدب، والسيف لقتال العدو والقود.
قالوا: عمل السلطان حديث فكن حديثاً حسناً.
إذا ضيعت الملوك سنن أديانها أنها تهدم أساس ملكها.
لا ينبغي للملك أن يكون سفيها ومنه يلتمس الحلم، ولا جائراً ومنه يلتمس العدل.
إذا لم يثب الملك على النصيحة غشته الرعية.
وفد على معاوية عبيد بن كعب النميري فسأله عن زياد وسياسته فقال: يستعمل على الجد والأمانة دون الهوى، ويعاقب فلا يعدو بالذنب قدره ويسمر ليستجم بحديث الليل تدبير النهار قال: أحسن. إن التثقيل على القلب مضرة بالرأي. فكيف رأيه في حقوق الناس فيما عليه وله؟ قال: يأخذ ماله عفواً ويعطي ما عليه عفواً. قال: فكيف عطاياه؟ قال: يعطي حتى يقال جواد، ويمنع حتى يقال بخيل.
قالوا: التذلل للملوك داعية العز والتعزز عليهم ذل الأبد.
كثرة أعوان السوء مضرة للأعمال.
الدالة على الملوك تعرض للسقوط. خير الملوك من ملك جهله بحلمه، وخرقه برفقه، وعجلته باناته، وعقوبته 439 بعفوه، وعاجله بمراقبة آجله، وأمن رعيته بعدله، وسد ثغورهم بهيبته، وجبر فاقتهم بجوده. يعلم وكأنه لا يعلم، ويحسم الداء من حيث استبهم.
بغض الملوك كي لا يبرأ، وحسدهم عر يتفشى.
السلطان في تنقله وتنقل الناس معه كالظل الذي تأوي إليه السابلة.
شدة الانقباض من السلطان تورث التهمة، وسهولة الانبساط تورث الملالة.
من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط مدبراً للسلطان.
من سكرات السلطان أن يرضى عمن استوجب السخط، ويسخط على من استوجب الرضا من غير سبب معلوم.
بلغ بعض الملوك حسن سياسة ملك فكتب إليه: قد بلغت من حسن السياسة مبلغاً لم يبلغه ملك في زمانك، فأفدني الذي بلغكه. فكتب إليه: " لم أهزل في أمر ولا نهي، ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية، وأثبت على الغناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، ووداً لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الفضول " .
أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد به، ولا يصلح الآخر إلا بالتعاون عليه: وهما الملك والرأى؛ فإن استقام الملك بالشركاء استقام الرأي بالتفرد به.
لا شيء أهلك للسلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل.
اصحب السلطان بإعمال الحذر، ورفض الدالة، والاجتهاد في النصح واصحبه بثلاث: بالرضا والصبر والصدق.
اعلم أن لكل شيء حداً، فما جاوزه كان سرفاً، وما قصر عنه كان عجزاً. فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي حاشيته من أهله وخاصته؛ فإن ذلك ليس من حقه عليك. ولكن أقضى لحقه عنك، وأدعى للسلامة إليك أن تستصلح أولئك جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته، وأمنت حجته، وفللت عدوك عنده.
إذا جاريت عند السلطان كفئاً من أكفائك فلتكن مجاراتك إياه بالحجة، وإن عضهك، وبالرفق وإن خرق بك؛ واحذر أن يستلجك فتحمى، فإن الغضب يعمي عن الفرصة، ويقطع عن الحجة، ويظهر عليك الخصم.
احترس أن يعرفك السلطان باثنين: بكثرة الإطراء للناس عنده، وبكثرة ذمهم؛ فيعد ذلك غلاً منك فإنه إذا رأى كثرة إطرائك للناس وذمهم ضر ذلك صديقك وإن كان محقاً، وأمن عدوك كيدك وإن كان معوراً. وعليك بالقصد والتحرز؛ فإنه إن يعرفك به كنت لعدوك أضر ولصديقك أنفع.
لاتتورد على السلطان بالدالة وإن كان أخاك، ولا بالحجة وإن وثقت أنها لك، ولا بالنصيحة وإن كانت له دونك فإن السلطان تعرض له ثلاث: القدرة دون الكرم، والحمية دون النصفة، واللجاج دون الحظ.
سئل بعضهم: أي شيء أرفع بذكر الملوك؟ قال: تدبيرهم أمر البلاد بعدل، ومنعهم إياها بعز.
قيل: فما الذي على الملوك لرعيتهم، وما الذي على الرعية لملوكهم؟ قال: على الملوك لرعيتهم 440 ما تأمن عليه أنفسهم ويرغد عليه عيشهم. وللملوك على رعيتهم الشكر والنصيحة.
اعلم أن الملوك تحتاج إلى الوزير، وأشجع الرجال يحتاج إلى السلاح وأجود الخيل يحتاج إلى السوط، وأحد الشفار يحتاج إلى المسن.
صلاح الدنيا بصلاح الملوك، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء، ولا يصلح الملك إلا لأهله ولا تصلح الوزارة إلى لمستحقها.
أفضل عدد الملوك صلاح الوزراء الكفاة؛ لأن في صلاحهم صلاح قلوب عوامهم لهم.
خير الوزراء أصلحهم للرعية، وأصدقهم نية في النصيحة، وأشدهم ذباً عن المملكة، وأشدهم بصيرة في الطاعة، وآخذهم لحقوق الرعية من نفسه وسلطانه.
ليس شيء للملوك أولى بالفرح والسرور به في ملكها من سيرة حسنة يسيرونها، وسنة صالحة يجرونها، ووزير صالح يؤيدون به.
الوزير الخير لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحاً حتى يتصل بصلاح الملك ورعيته، وتكون عنايته فيما عطف الملك على عامته، وفيما استعطف قلوب العامة على الطاعة لملكه، وفيما قوم أمر الملك والمملكة من تدبيره، حتى يجمع إلى أخذ الحق وتقديمه عموم الأمن والسلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه. وإذا طرقت الحوادث، ودهمت المظائم، كان للملك عدة وعتاداً، وللرعية كافياً محتاطاً، ومن ورائها ذاباً ناصراً، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها.
مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسداً مثل الماء الصافي العذب الذي فيه التماسيح؛ لا يستطيع الإنسان وإن كان سابحاً، وإلى الماء ظامئاً، دخوله حذراً على نفسه.
لا ينبغي للوالي أن يسرع إلى حبس من يكتفي له بالجفاء والوعيد.
ينبغي للوالي أن يكون عالماً بأمور عماله فإن المسيء يخاف خبرته قبل أن تنزل به عقوبته، والمحسن يستبشر بعمله قبل أن يأتيه معروفه.
ينبغي للوالي أن تعرفه رعيته بالأناة، وألا يعجل بالعقاب ولا بالثواب؛ فإن ذلك أدوم لخوف الخائف، ورجاء الراجي.
ينبغي للوالي أن تعلم رعيته أنه لا يصاب خيره إلا بالمعونة له على الخير، فإن الناس إذا علموا ذلك تصنعوا، والمتصنع لا يلبث أن يلحق بأهل الفضل.
من طلب ما عند السلطان والنساء بالشدة بعد عنه ما يطلب، وفاته ما يلتمس.
ودخل محمد بن كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز حين استخلف فقال له: إني مستعين بك على عملي. قال: لا. ولكني سأرشدك: أسرع الاستماع، وأبطئ في التصديق، حتى يأتيك واضح البرهان، ولا تعملن سجنك فيما يكتفى به بلسانك، ولا تعملن سوطك فيما يكتفى فيه بسجنك ولا تعملن سيفك فيما يكتفى فيه بسوطك.
كان بعضهم يوصي عماله فيقول: سوسوا الناس بالمعدلة، واحملوهم على النصفة، واحذروا أن تلبسونا جلودهم، أو تطعمونا لحومهم، أو تسقونا دماءهم.
بالولاية يعرف الرجل الحازم.
إذا أردت أن يقبل الوالي مشورتك فلا تشبه بشيء من الهوى؛ فإن الرأي يقبل، والهوى يرد.
لا يخطرن للملك أنه إن استشار الملك الرجال ظهرت منه الحاجة 441 إلى رأي غيره؛ فإنه ليس يريد الرأي للافتخار به، وإنما يريد للانتفاع به.
قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن، فإن أبواب الأمراء، يدخل الداخل على الأمير فيقول له الباطل ليرضيه.
قال ابن المقفع: لتكن حاجتك في الولاية ثلاث خصال: رضا ربك ورضا سلطانك، ورضا صالح من تلي عليه. ولا عليك أن تلهو عن المال والذكر. فسيأتيك منهما ما تكتفي به.
إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيته فاعلم أنك خيرت بين خلتين ليس فيهما خيار، إما الميل على الرعية فهو هلاك الدين، وإما الميل على الوالي مع الرعية فهو هلاك الدنيا.
تبصر ما في الدنيا من الأخلاق التي تحب أو تكره، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره؛ فإن هذه رياضة صعبة تحمل على الإباء والقلى. قلما يقدر على نقل رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة، ولكن تقدر أن تعينه على أحسن مذاهبه؛ فإنك إذا قويت له المحاسن كانت هي التي تبصره المساوي بألطف من تبصيرك في نفسه.
إن كان سلطانك على جدة دولة فرأيت أمراً استقام بغير رأي، وعملاً استتب بغير حزم، وأعواناً أجيزوا بغير نيل، فلا يغرنك ذلك ولا تستنيمن إليه؛ فإن الأمور تصير إلى حقائقها وأصولها. وما بني منها على غير أصل وثيق، ودعائم محكمة، أوشك أن يتداعى وينصدع.
لا تطلبن من قبل السلطان بالمسألة، ولكن اطلبه بالاستحقاق، واستأن به ولا تستبطئه، فإنك إذا استحققت ما عنده أتاك عن غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له.
اعلم أن السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول، وأن أرحامه مقطوعة، وحباله مصرومة إلا عمن رضي عنه.
إياك أن يقع في قلبك التعنت على الوالي، والاستزادة له؛ فإن ذلك إذا وقع في قلبك بدا في وجهك إن كنت حليماً، وعلى لسانك إن كنت سفيها؛ وإذا ظهر ذلك للولي كان قلبه أسرع إلى التغير والتعتب من قلبك.
إذا أصبت الجاه والخاصة عند السلطان فلا تتغير لأحد من أهله وأعوانه؛ فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم، وفي ذلك من العار ما فيه.
لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقى عنه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ. ويرفق بالناس إلا كاد يخلص إلى حاجته عند السلطان.
الباب الثامن
نوادر النساء المواجن والجواري
قال رجل: قلت لجارية أردت شراءها: لا يريبنك شيبي فإن عندي قوة 442 فقال: أيسرك أن عندك عجوزاً معتلمة.قال آخر: كانت لي جارية، فأردتها على بعض الأمر فقالت: إن الأعور الدجال لا يدخل المدينة ولكن يلم بأعراضها.
كانت جارية الجمهوري في غاية المجون، ولها إليه رسائل كثير معروفة قالت له يوماً: إن فلاناً اليهودي بذل لي عشرين دينارا على أن أعطيه فرداً فلم أفعل. قال مولاها: كذبت والله أنت حينئذ في القيان ويقع في يدك عشرون ديناراً بفرد فلا تجيبين إليه؟ فقالت: محوت الصحف إن كنت فعلت ذلك عفافاً، ولكن لم أشته أن أنام تحت أقلف: قال: أسخن الله عينك! اليهود لا يكونون قلفاً. فقالت: يا مولاي؛ عزمك أن تخرج إلى البستان، فإني لم أعلم، وقد ندمت، واليهودي بعد مقيم على العهد.
وكتب إليها يوماً: يا ست مولاها؛ ما دمت فارغة خدي من ذلك اللوز المقشر وبخريه بخوراً طيباً فإن المحلب عندنا قد نفذ، ومحلب السوق ليس بطيب. فكتبت إليه: سخنت عينك يا مطر؛ مذ لم أر من خبزه شعير وضراطه حواري غيرك.
وكتبت إليه مرة: قد صرت لوطيا صاحب مردان. أعوذ بالله من البطر، ولكن الحائك إذا بطر سمي ابنته سمانة.
استعرض رجل جارية فقال: في يديك عمل؟ قال: لا ولكن في رجلي وأدخل على المنصور جاريتان فأعجبتاه.. فقالت التي دخلت أولاً: يا أمير المؤمنين، إن الله قد فضلني على هذه بقوله: " والسابقون الأولون " فقالت الأخرى: لا بل قد فضلني بقوله: " وللآخرة خير لك من الأولى " استعرض واحد جارية فاستقبح قدميها فقالت: لا تبال؛ فإني أجعلها وراء ظهرك.
طلبت جارية محمود الوراق للمعتصم بسبعة آلاف دينار، فامتنع من بيعها، واشتريت له بعد ذلك من ميراثه بسبعمائة دينار، فذكر المعتصم لها ذات يوم فقالت: إذا كان اللخليفة ينتظر بشهواته المواريث فسبعون ديناراً في ثمني كثير. فكيف سبعمائة؟ اقترح بعضهم على جارية أن تغني له:
سري وسرك لم يعلم به أحد ... إلا الإله وإلا أنت ثم أنا
فقالت: يا سيدي والقواد فلا تنسه.
قال بعضهم: نظرت إلى جارية مليحة في دهليز، فقالت: يا سيدي؛ تريد الني.؟ قلت: أي والله. قالت: فاقعد حتى يجئ مولاي الساعة فيني.. كما نا .. ...ني البارحة.
كان بعض المجان يعشق جارية أمجن منه، فأضاق يوماً فكتب إليها:
قد طال عهدي بك يا سيدتي، وأقلقني الشوق إليك، فإن رأيت أن تستدركي رمقي بمضغة علك تمضغينه وتجعلينه بين دينارين وتنقذينه لأستشفى به فعلت إن شاء الله. ففعلت ذلك وكتبت إليه: قد سارعت إلى أمرك يا سيدي، فتفضل برد الطبق والمكبة واستعمل خبر النبي عليه السلام: " استدروا الهدايا برد الظروف " .
وطلب آخر من عشيقته خاتماً كان معها فقالت: يا سيدي هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن هذا العود حتى تعود.
وقال بعضهم لأخرى: أرى شفتك مشققة فقالت: التين إذا احلولى تشقق.
جاءت واحدة إلى مناد في السوق فقالت: خذ هذه المخلاة وناد عليها. وأشارت إلى حرها فقال: أنا الساعة مشغول ولكن علقيه في هذا الوتد إلى أن أفرغ. وأشار إلى متاعه.
قال الأصمعي 443: مرت بي أعرابيتان تتحدثان، فأصغيت إليهما فإذا إحداهما تقول للأخرى: ما علمت أن الزب من لحم حتى قدمت العراق.
قال الجاحظ: ابتاع فتى صلف بذاخ جارية بخارية حسناء ظريفة بزيعة فلما وقع عليها قال لها مراراً: ما أوسع حرك. فلما أكثر عليها قالت له: أنت الفداء لمن كان يملؤه.
ومثل ذلك حديث أبرويز مع كردية أخت بهرام شوبين، وكانت تحت أخيها. فلما قتل عنها تزوجها أبرويز وحظيت عنده وكانت في غاية الجمال فقال لها يوماً: ما يشينك شيء غير سعة حرك. فقالت: إنه ثقب بأير الرجال.
قال بعضهم: كانت لإنسان جارية ظريفة يقال لها عطارد، وقد كانت قومت الكواكب بعدة زيجات قال: فحدثني بعض الحساب الذين كانوا يطارحونها أنه قال لها يوماً وهو يعلمها استخراج التواريخ بعضها من بعض: إذا أردت ذلك فخذي عدد السنين التامة إلى العام الذي أنت فيه. ثم خذي ما مضى من الشهور إلى الشهر الذي أنت فيه، وخذي من أيام الشهر إلى اليوم الذي أنت فيه. قال: فلما كثر عليها قولي: أنت فيه ما تمالكت أن استلقت ضحكاً، وبقيت خجلاً لا أدري مم تضحك. قال: ثم قالت لي: كم تقول أنتفيه، أنتفيه هو مثل الراحة، فإن هممت بشيء فدونك. قال: فوقفت على الأمر الذي أضحكها وخرجت فلم أعد إليها من الحياء.
قال الرشيد لغضيض جاريته: إنك لدقيقة الساقين. قالت: أحوج ما تكون إلي لا تراهما.
اشترى المكتفي جارية ماجنة من دار مؤنس. وكان مؤنس مبخلاً فسألها المكتفي عن مروءته، فقالت: طبخ لنا يوماً عدسية ودعانا عليها، فكانت العدسة تلقي العدسة فتقول: يا أختي؛ ما خبرك؟ وما حالك؟ وكانت القطعة من اللحم تعدو خلف القطعة فلا تلحقها فتصيح خلفها وتقول: والله لئن لحقتك لأضعفنك. فضحك المكتفي حتى غشي عليه.
خاصم رجل إمرأته فشتمته فقال لها: والله لئن قمت إليك لأشقن حرك. فقالت: لا والله ولا كل أير ببغداد.
قيل لمدينية: أيما أحب إليك التمر أو الني؟ قالت: التمر ما أحببته قط.
اجتازت امرأتان بشيخ فجمش إحداهما فقالت لها الأخرى: اقدحي له. أي اضرطي عليه. فقالت: يا أختي الحراق رطب.
أدخل رجل في قحبة في شهر رمضان، فلما دفع فيها أراد أن يقبلها فحولت وجهها وقالت: بلغني أن القبلة تفطر الصائم.
قال شبيب بن شيبة: اشتريت جارية فأصبت منها ما يصيب الشيخ من الشابة، ثم خرجت لحاجتي فرجعت وقد تدثرت وعصبت رأسها. وقالت: مالك لا جزاك الله خيراً! والله ما زدت علي أن هيجته علي وتركته يتقطع في أوصالي.
كتب رجل إلى عشيقته: مري خيالك أن يلم بي. فكتبت إليه: ابعث إلي بدينارين حتى أجيئك بنفسي.
قدم بعضهم عجوزاً دلالة إلى القاضي فقال: أصلح الله القاضي؛ زوجتني هذه امرأة فلما دخلت بها وجدتها عرجاء فقالت: أعز الله القاضي: زوجته امرأة يجامعها ولم أزوجه حمارة يحج عليها.
كتب تاجر من قطيعة الربيع إلى مغنية كان يهواها رقعة قال في أولها: عصمنا الله وإياك بالتقوى. فكتبت إليه في الجواب: يا غليظ الطبع، إن أجاب الله 444 دعائك لم نلتق أبداً. وقطعته.
كتب الجماز إلى مغنية رقعة وحشاها بالشعر، فكتبت على ظهرها لا تجتمع شعرتان بشعر.
قال بعضهم: سمعت امرأة بباب الطاق وهي تقول لصاحبتها في عشية يوم عيد: إيش رأيت يا أختي في هذا الزحام؟ قالت: يا أختي، رأيت العجب، رأيت أيوراً تتمطى، وأرحاماً تتثاءب.
لسع زنبور عروساً في هنها ليلة زفافها، فقالت الماشطة: من؟ ولمن وفي أي مكان؟ وأية ليلة.
دخل صبي مع أبيه الحمام فعاد إلى أمه فقال: ما رأيت أصغر زباً من أبي. فقالت: وفي أي شيء كان لأمك بخت حتى يكون لها في هذا؟ لما خست العقارات ببغداد حضرت مغنية بعض المجالس وهي مختضبة فقال لها إنسان: ما اسم هذا الخضاب؟ قالت: ضراط السكان على أصحاب العقار.
قال رجل واسع الفم أهدل الشفتين لمغنية: أشتهي أن أدخل لساني في فمك قالت: ولم؟ قد قامت القيامة حتى يلج الجمل في سم الخياط؟ زحمت مدينية رجلاً فقال: المستعان الله منكن. ما أكثركن! قالت: نحن على هذه الكثرة وأنتم تلوطون وتتبادلون. فلو كانت فينا قلة ن..تم الحمير.
عرضت على المعتز جارية فقال لها: ما أنت من شرطي قالت: ولكنك من شرطي والله. فاشتراها وحظيت عنده.
قال أحمد بن يوسف كنت أعزل عن جارية لي فقالت لي يوماً: يا مولاي؛ ما أقل حاجة الدرداء إلى السواك! عرضت على المتوكل جارية فقال لها: إيش تحسنين؟ قالت: عشرين لوناً رهزا. فأعجبته فاشتراها.
قال أبو العيناء: اشتريت جارية مليحة ماجنة فلما قمت إليها لم يقم أيري، فأخذته بيدها وقالت: يا مولاي؛ هذا يصلح للمضيرة قلت: وكيف ذاك؟ قالت: أليس هو البقلة الحمقاء.
استعرض ابن المدبر طباخة فقال لها: أتحسنين الحشو؟ قالت: الحشو إليك.
عرضت جارية على فتى للبيع فكشفت عن حرها وقالت: انظر كم مساحة هذا القراح. فخجل الفتى. فقالت له: لو كنت ظريفاً لقلت: حتى أخرج قصبة المساحة.
قال أبو النواس يوما لقينة وأشار إلى أيره في أي سورة هو: " فاستغلظ فاستوى على سوقه " فاستلقت وتكشفت وقالت: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " .
وكان يوما عند بغض إخوانه إذ خرجت عليه جارية بيضاء عليها ثياب خضر فلما رآها مسح عينيه وقال: خيراً رأيت إن شاء الله فقالت: وما رأيت ؟ قال: رأيت كأني راكب دابة أشهب عليه جل أخضر قالت: إن صدقت رؤياك استدخلت فجلة.
قال أبو زيد عمر بن شبه وكان عظيم الأنف: اشتريت جارية بريعة، فلما أهويت - إليها لأقبلها قالت: يا مولاي، نح عن وجهي ركبتيك، ولك فيما دون ذلك متسع.
مرت امرأة حبلى برجل، فتعجب من عظم بطنها فقال: ما كان أحذق هذا الحشو! فقالت المرأة: إذا شئت فابعث بأمك حتى آمر زوجي بأن يحشوها خيراً من هذا.
اعترض المتوكل جاريتين بكراً وثيباً، فقالت الشيب: ما بيننا إلا يوم واحد. فقالت البكر: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " .
وقالت واحدة منهن: الني.. في الاست وتد العشق.
قال رجل لابنة له: أريد أن أزوجك من فلان. قالت: يا أبه. الله الله. فإني 445 لا أصبر عنك ولا أحتاج إلى زوج. قال: فإني أتركه لعل الله يسهل خيراً منه، فإنه بلغني عنه خصلة لا أرضاها لك. قالت: وما هو؟ قال: بلغني أن أيره مثل أير الحمار. قالت: يا أبه؛ زوجني في حياة منك؛ فإن الحوادث لا تؤمن.
اشترى رجل جارية نصرانية فواقعها وكان له متاع وافر، فلما أدخله عليها قالت: بأبي النبي الأمي. فقال الرجل: هذا أول حر أسلم على يد أير.
وكان مع عبد الملك جارية له لما واقع مصعب بن الزبير فنظرت إلى مقتول قد انقلب وانتفخ أيره. فقالت: يا أمير المؤمنين؛ ما أعظم أيور المنافقين! فلطمها وقال: اسكتي لعنك الله.
وكان رجل دل بآلته وعظمها فقال يوماً لامرأة وقد واقعها وأعجبه ما معه: ألم يخرج من حلقك بعد؟ قالت: أوقد أدخلته بعد؟ سألت واحدة أخرى: ما تقولين في ابن عشرين؟ قالت: ريحان تشمين. قالت: فابن ثلاثين؟ قالت: أبو بنات وبنين. قالت: فابن الأربعين؟ قالت: شديد الطعن متين. قالت: فابن الخمسين؟ قالت: يجوز في الخاطبين. قالت: فابن الستين؟ قالت: صاحب سعال وأنين. قالت: فابن سبعين؟ قالت: اكتبيه في الضراطين. قالت: فابن ثمانين؟ قالت: أنت في حرج إن لم تسكتين.
قال بعضهم: خرجت إلى بعض القرى في أمانة، وكنت مولعاً بالباه، فلما غبت أياماً لم أصبر، فخرجت يوماً إلى الصحراء فرأيت عجوزاً عليها كساء ومعها جرة فأخذتها فقالت لي: من أنت؟ قلت: أنا سبع آكلك فن..تها ومضت ورجعت إلى السدر، وأنا قاعد ذات يوم فإذا بالعجوز قد عرفتني، فأقبلت نحوي وقالت: سبع، قم كلني.
وحكى بعضهم: أنه كان جالساً مع امرأته في منظرة فجاز غلام حسن الوجه فقالت المرأة: أعيذه بالله ما أحسن وجهه! فقال الزوج: نعم؛ لولا أنه خصي، فقالت: لعن الله من خصاه.
لما زفت عائشة بنت طلحة إلى مصعب قال: والله لأقتلنها جماعاً. فواقعها مرة ونام، فلم ينتبه إلى السحر، فحركته وقالت: انتبه يا قتال! قال بعضهم، وكان دميماً: كنت ذات يوم واقفاً عند الجسر أحدث صديقاً لي، فوقفت امرأة بحذائي وقوفاً طويلاً، وأدامت النظر إلي، فقلت لغلامي: انظر ما تريد هذه المرأة. فدنا منها وسألها فقالت: كانت عيني أذنبت ذنباً، فأحببت أن أعاقبها بالنظر إلى هذا الشيخ.
فال رجل لجاريته: أعطيني خلالة أو شيئًا. فأتته ببعرة، وقالت: لم تحضر الخلالة وهذا شيء.
غاضبت امرأة زوجها فأحال عليها يجامعها فقالت: لعنك الله كلما وقع بيني وبينك شر جئتني بشفيع لا أقدر على رده.
قال جعفر بن سليمان: أتتني امرأة من أهل البادية فقالت: يا أبا سليمان، لا يعجبني الشاب يمعج معجان المهر طلقاً أو طلقتين ثم يضطجع بناحية الميدان، ولكن أين أنت من كهل يضع قب استه على الأرض، ثم سحباً وجراً.
قال أبو النجم: إني لما كبرت عرض لي البول فوضعت عند رجلي شيئاً أبول فيه فقمت من الليل لأبول فضرطت وتشددت ثم عدت فخرج أيضاً صوت فأويت إلى فراشي وقلت: يا أم الخيار 446 هل سمعت شيئاً؟ قالت: لا والله، ولا واحدة منهما.
قيل لامرأة ظريفة: أبكر أنت؟ قالت: أعوذ بالله من الكساد.
وسمعت امرأة من عائشة بنت طلحة - وعمر بن عبيد الله زوجها يجامعها - نخيراً وغطيطاً لم تسمع بمثله، فقالت لها في ذلك، فقالت إن الخيل لا يجيد الشرب إلا على الصفير. ورووا أنها قالت: إن الفحولة لم تستهب لم تهب.
قيل لامرأة: ما تقولين في السحاق؟ فقالت: هو التيمم لا يجوز إلا عند عدم الماء.
قالت امرأة لزوجها وكان أصلع، لست أحسد إلا شعرك حيث فارقك فاستراح منك.
خطب رجل امرأة فاشتطت عليه في المهر وغيره فقال: نعم إن احتملت عيوبي. قالت: وما ذاك؟ قال: أيري كبير، وأنا مستهتر بالجماع لا أريحك، وأبطيء الفراغ. فقالت: يا جارية، أحضري شيوخ المحلة تشهد على بركة الله، فالرجل ساذج لا يعرف الخير من الشر.
قال أبو العيناء: خطبت امرأة فاستقبحتني فكتبت إليها:
فإن تنفري من قبح وجهي فإنني ... أديب أريب لا عيي ولا فدم
فأجابت: ليس لديوان الرسائل أريدك.
قال بعضهم: ن...ت جارية في استها فقالت: اذكر سيدي أنك هوذا تني... وحدك. قال رجل لجاريته وقد رأى على ثوبه عذرة فمصه: يا جارية خراء والله. ثم شك فمصه أيضاً وقال: خراء والله، ثم شك فمصه ثم قال: يا قوم خراء والله. ثم قال: يا جارية؛ هاتي ماء واغسليه فقالت: يا مولاي ما تصنع بالماء وقد أكلته كله.
قال شاب لجارية: أيري يقرأ على حرك السلام. فقالت: حري لا يقبل السلام إلا مشافهة.
خرجت حبى المدينية ليلة في جوف الليل فلقيها إنسان فقال لها: تخرجين في هذا الوقت؟ قالت: ولم أبالي؟ إن لقيني شيطان فأنا في طاعته، وإن لقيني رجل فأنا في طلبه.
غاب رجل عن امرأته، فبلغها أنه اشترى جارية، فاشترت غلامين، فاتصل لخبر بزوجها فجاء مبادراً وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أن الرحى إلى بغلين أحوج من البغل إلى الرحا. بع الجارية حتى أبيع الغلامين ففعل ذلك.
لاعب الأمين جارية بالنرد على إمرة مطاعة فغلبته فقال: احتكمي. فقالت: قم. فقام وفعل، وعاود اللعب معها فغلبته، فاحتكمت عليه مثل ذلك ثم لاعبها الثالثة فغلبته وقالت: قم أيضاً. فقال: لا أقدر. قالت: فأكتب عليك به كتاباً. قال: نعم. فتناولت الدواة والقرطاس وكتبت، ذكر حق فلانة على أمير المؤمنين، أن لها عليه فرداً تأخذه به متى شاءت من ليل أو نهار. وكان على رأسها وصيفة بمذبة في يدها. فقالت: يا ستي؛ اكتبي في الكتاب: ومتى قام بالمطالبة بما في هذا الكتاب أحد فهو ولي قبض ما فيه. فضحك الأمين وأمر لها بجائزة.
دخل الجماز على صاحب قيان وعنده عشيقته. فقال له الرجل: أتأكل شيئاً؟ قال: قد أكلت. فسقاه نبيذ عسل فلما كظه جعل يأكل الورد كأنه يتنقل به، ففطنت الجارية فقالت لمولاها:
يا مولاي أطعم هذا الرجل رغيفاً، وإلا والله خرج خراه جلنجبين معسل.
قال بعضهم: رأيت أم جعفر في إيوان كسرى بيدها مدرى وعليها قباء خز طاروني وهي تكتب على الحائط:
447 - فلا تأسفن على ناسك ... وإن مات ذو طرب فابكه
ون.. من لقيت من العالمين ... فإن الندامة في تركه
قال: فقلت لها: يا سيدة عبد مناف، ما هذا الشعر؟ فقالت: اسكت، هذا الذي بلغنا عن آدم أنه لما جامع حواء قالت له: يا أبا محمد ما هذا؟ قال: هذا يقال له الني فقالت: زدني منه فإنه طيب.
كان لرجل عنين امرأة فرآها يوماً تساحق أخرى فقال: ويلك، خرق على خرق؟ قالت: نعم حتى يرزق الله برقعة.
كتبت سحاقة إلى حبة لها تزوجت: يا أختي، ما أقبح الصاد مع اللام، وأحسن الصاد مع الصاد! فأجابتها: ما أحسن اللحم على اللحم، وأقبح الخبز على الخبز.! وكتبت أخرى إلى صديقة لها تغايظ بزوجها: لو تطعمت بأيره ما تلذذت بغيره.
وعوتبت أخرى وكانت قد تزوجت وتركت السحاق وزهدت فيه فقالت: يا أخواتي، رأيتن قفلاً يفتح بقفل؟ قلن: لا. قالت: قد وجدت لقلي مفتاحاً لا يتعاظمه ألف قفل، فمن احتاج إليه منكن لم أبخل به عليها.
قالت سحاقة لأخرى: ليس شيء أطيب من الموز - تكني عن الجماع - قالت: صدقت، ولكنه ينفخ البطن - تكنى عن الحبل.
دخلت ديباجة المدينية على امرأة تنظر إليها فقيل لها: كيف رأيتها؟ فقالت: لعنها الله كأن بطنها قربة، وكأن ثديها دبة، وكأن وجهها وجه ديك قد نقش عفريته يقاتل ديكاً.
خطب ثمامة العوفي امرأة فسألت عن حرفته فكتب إليها.
وسائلة ما حرفتي؟ قلت: حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل مأزق
وضربي طلى الأبطال بالسيف معلماً ... إذا زحف الصفان تحت الخوافق
فلما قرأت الشعر قالت للرسول: قل له: فديتك أنت أسد فاطلب لنفسك لبؤة؛ فإني ظبية أحتاج إلى غزال.
قال رجل لجارية اعترضها - وكان دميماً فكرهته وأعرضت عنه: إنما أريدك لنفسي. قالت: فمن نفسك أفر.
وذكر بعضهم قال: مرت بي امرأة وأنا أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتقيتها بيدي، فوقعت على فرجها فقالت: يا فتى، ما أتيت أشد مما اتقيت.
قال ابن داحة: رأيت عثيمة بنت الفضل الضمرية تريد أن تعطس فتضع أصبعها على أنفها، كأنها تريد أن ترد عطاسها وتقول: لعن الله كثيراً، فإني ما أردت العطاس إلا ذكرت قوله:
إذا ضمرية عطست فن...ها ... فإن عطاسها حب السفاد
دخلت عزة على عاتكة بنت يزيد فقالت: أخبريني عن قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها.
ما هذا الدين الذي كنت وعدته؟ قالت: كنت وعدته قبلة، فلم أف له بها. فقالت: هلا أنجزتها له وعلي إثمها.
وقال عقيل بن بلال: سمعتني أعرابية أنشد:
وكم ليلة بتها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريانة القلب
448 - فقالت لي: هلا أثمت أخزاك الله.
جاءت حبى المدينية إلى شيخ يبيع اللبن ففتحت وطباً فذاقته ودفعته إليه وقالت له: لا تعجل الشدة، ثم فتحت آخر فذاقته ودفعته إليه، فلما شغلت يديه جميعاً كشفت ثوبه من خلفه وجعلت تصفق بظاهر قدمها استه وهي تقول: يا ثارات ذات النحيين! دونكم الشيخ. والشيخ يصيح وهي تصفق إسته فما تخلص منها إلا بعد جهد.
قال بعضهم: رأيت على خاتم جارية: إنا نفي إن لم أف. قال: فقلت: ممن؟ قالت: من الزنى.
وذكر أن الأحنف اعتم ونظر في المرآة، فقالت امرأته: كأنك قد هممت أن تخطب امرأة. قال: قد كان ذلك. قالت: فإذا فعلت فاعلم أن المرأة إلى رجلين أحوج من الرجل إلى امرأتين. فنقض عمته وترك ما كان هم به.
وصفت مدينية رجلاً فقالت:: نا... ني ني..اً كأنه يطلب في حري كنزاً من كنوز الجاهلية.
ودخلت مدينية على فاطمة بنت الحسين فرأت عندها ابنيها عبد الله بن الحسين ومحمد بن عبد الله فقالت: من هذا؟ قالت: هذا ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقبلت رأسه وقالت: هذا من العترة الطيبة المباركة. فمن الآخر؟ قالت: هذا محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان. قالت: هذا نصفه في الجنة ونصفه في النار.
قال بعضهم:
اشتريت جملاً صعباً فأردنا إدخاله الدار فلم يدخل، فضربناه وأشرفت علينا امرأة كأنها البدر فقالت: ما شأنه؟ قلنا: ليس يدخل. قالت: بلوا رأسه حتى يدخل.
قال بعضهم: عرضت علي طباخة فقلت: ما تطبخين؟ فقالت: أطبخ ما يشتهيه المحموم والمخمور. فاشتريتها فكانت على الزيادة مما وصفت.
أدخل علوي على امرأة فلما طالبها قالت له: هات شيئاً. قال: أما ترضين أن يلج فيك بضعة مني. قالت: هذا جذر ينفق بقم.
كانت بذل الكبيرة ماجنة فنقشت على خاتمها: " فالتقى الماء على أمر قد قدر " .
نظر المتوكل إلى جارية منكبة فلم يرض عجيزتها فقال: إنك لرسحاء فقالت: يا سيدي ما نقصناه من الطست زيادة في التنور.
قال المتوكل لجارية استعرضها: أنت بكر أم إيش؟ قالت: أنا إيش يا سيدي.
قال بعض النخاسين: اشتريت جارية سندية فكنت إذا خرجت أقفل عليها الباب، فجئت يوماً وفتحت الباب فلم أجدها في الدار، فصحت بها فلم تجدني، فصعدت السطح فإذا هي مطلعة على اصطبل وقد أنزى حمار على أتان، وهي تنظر إليه قال: فأنعظت وجئت إليها وهي منكبة على الحائط فأولجت فيها فالتفتت إلي وقالت: يا مولاي، فحرك ذنبك واضرط.
دعا رجل قوماً، وأمر جاريته أن تبخرهم؛ فأدخلت يدها في ثوب بعضهم فوجدت إيره قائماً، فجعلت تمرسه وتلعب به وأطالت فقال لها مولاها: فإيش آخر هذا العود؟ أما احترق بعد؟ قالت: يا مولاي هو عقدة.
449 - هذه فصول من كتب زاد مهر جارية ابن جمهور إلى مولاها تليق بهذا الباب.
كتبت إليك وحياة أنفك القاطولي، لا كان فعالك بي إلا شراً عليك، ولكنك الساعة العامل في فسا، وليس تذكر مثلي في قحاب فسا، الذين يدخلون الرجال والنساء حمام واحد، أنا أعلم أنك لو أخرجتني إليك لوجدت في بيتك أربع قحاب كلهم حبالى من ذلك البزر الذي لا يخلف الحلاوة، كنه البطيخ العبدلائي، والله إن بزر الدفلى خير من بزرك. قطع ظهرك ونسلك! أشتهي والله أعلم البغاءات إيش يرون في وجهك؟ الذي، والله، وإلا فأنا جاحدة مشركة إن أخطئ أقبح من عصفور مقلي بزيت، ولكنهم إذا أبصروا الشوابير قالوا: ذا من ولد العباس.
يا هذا، للنساء مؤن لا يقف عليها الرجال. أهونها الدبق. فعسى تريد أن أطول طعنه في كبدك وآكله على حال لا بد من تنظيفه. إن لم نزن ساحقنا. واعلم علم يقين أن النفقة والكسوة إن تأخرت عني خرجت والله وغنيت وقمت بطني وعشرة معي، وأنفقت على روحي كما أشتهي، وإن فضل من الجذر شيء لم أظلمك وأبعث به إليك تنفقه أنت.
واعلم أن الجارية إذا خرجت للغناء دخل سراويلها الزنى.
فأنت أبصر ولا تطمع أن أخرج إليك. لا وحياتك. طمعويه بنى غرفة فانويه قعد فيها.
عليك يا بن جمهور بقحاب فسا وشيراز الذين يشتهونك مائة بصفعة، الذين إذا قمت على الواحدة قمت وفي كمك عشرين ضرطة يا مداذية.
ولولا أبوك الشيخ - أبقاه الله - كنت قد خريت كبدك على لبدك. ولكن إيش بعد قليل تنفق كل ما جمعت فتكون مثل ذلك الذي تبخر وفسا، خرج لا له ولا عليه بالسواء، هوذا أنصحك. ابعث إلي بنفقة وإلا وحياتك خرجت وغنيت، فقد قال القائل: من لم يكن يدك في قصعته لا يهولك بريق صلعته.
ومن كتاب آخر لها: إن عزمت على حملي إلى عندك ابعث إلي رقعة بخطك تحلف فيها بالطلاق أنك لا تضربني ولا تخاصمني ولا تعذبني، ولو قلعت لك كل يوم حدقة، وإلا فبارك الله لك وبارك الله لنا قواد ابن أبي الساج هو ذا يدخلون البصرة ومن كان جذرها عشرين سوف يصير أربعين. وأنا ست من خرجت وغنت.
فأما قولك في كتابك أن اخرجي إلى دارانجرد على البحر، فإنه أقرب، فأشير إليك إذا أردت أن ترجع إلى البصرة أن تأخذ على طريق البحر، فإنك رجل ومعك صناديق وثقل، وأنا جارية ضعيفة القلب، وسقوطي من الحمار كل يوم عشر مرات أحب إلي من أن يأكلني السمك. هتك سترك يا بن جمهور! فقد بان لي هواني عليك، وليس ما كنت تختم القرآن على حري كل يوم سبعين مرة من الشفقة، وبينما تقول لي:
اركبي البحر. هي لك في قلبي حتى أموت. أنا أعلم وأنا أجيء إليك، وقد فني ماء صلبك، فكل في كل يوم لحم كباب وبصلية 450 ومدققة واشرب ولا تزن حتى أجيء إليك، وهو ذا أنتف إذا سلم الله وبلغت جويم ثم أتبخر وأتطيب وأدخل إليك وليس - وعزة الله - يقع عينك على باب الدار شهراً. فانبذ لي نبيذاً كثيراً ولا تحوجني إلى أن أشتري كل يوم نبيذاً وأرهن من بيتك علقاً ويقع بيننا الخصومات.
وفي كتاب آخر: سخنت عينك، قد صرت لوطياً صاحب مردان، أعوذ بالله من البطر. ولكن الحائك إذا بطر سمى بنته نخلة، وأخذ خبزه من الزنجبيل وجعله في سلة، وحياة رأسك يا أبا علي لأغيظنك بما أنت فيه من هذه الأيام فما أخطأ القائل:
لا تغبطن مقامراً بقماره ... يوم سمين دهره مهزول
واعلم أني لست على سلال لالك فمرة أنت صاحب غلمان، ومرة صاحب نساء وقحاب. والله لأنصفنك: إذا أخذت أنت في القحاب أخذنا في الربطاء وإذا أخذت أنت في الغلمان أخذنا في الحبائب، وإذا زنيت قحبنا، وإذا لطت ساحقنا؛ حتى ننظر التراب من سبع مزابل على شق است من يكون منا، والندامة والعيب على من يرجع. في است المعبون عود. لمه لا أخرج خرجة ولا أقلع خفي فيها إلا بثلاثة دنانير، وإذا خرجت بالغداة قلت: اصبحوا بخير، ثم أجئ به لك شهزوري مقمط مكحول، أغمس يده في الزعفران وأبعث به إليك فإذا رأيت تمنيت أن الذي برزه كان برزه لك، من حين لم تعمل معي بالجنون وتأكل بالصحة إما جئت إلى البصرة وإلا وعزة الله خرجت إلى بغداد. بارك الله لك في قلمك، ولنا في دواتنا، والسلام، وأطال الله بقاء القاضي وجعلني فداه.
وفي كتاب آخر: وليس عجبي إلا من غضبك ودلالك علي، ويمينك في كتابك بالطالب الغالب أني إن لم أخرج إليك يوم الثالث من مجيء غلامك أنت لا تكتب إلي ولا تتعرف بي. آخ! بحياتي عليك لا تفعل! قد احترق كمخت خفي من هذا الحديث! بالله لا تظن في قلبك أني منقطعتك، أو قعيدتك، أو بنت دايتك، أو زنجية بين يديك. إذا أردت أن تغضب فنكب حدتك واشرب ماء الباذنجان. حتى يسكن مرارتك. ليس أنا - فديتك سقوطرية ولا خلدية. فإذا أردت أن تكلمني فاغسل فمك بمسك وماء ورد وانظر كيف تكلمني. هتك الله ستري إن كنت أرضى أن تكون كاتبي، فكيف مولاي؟ ولكن الشأن في البخت.
وتهددك لي بقطع النفقة عني أشد من كل شيء في الدنيا، وقد صار وجهي إصبعين من الغم. فالله الله يا مولاي اتق الله ولا تضيعني! لا يحل لك سبحان الله، ذهبت الرحمة من قلبك. أحسب أني بعض قراباتك الذين تجري عليهم، فإني من الغم ما يدخل لساني في أنفي ولا يجيء النوم في عيني.
وقد قرأت في كتابك إلى أختك إن نشطت مختارة أن تخرج معي إليك يخرجونها، وأن يضمنوا لها عنك النفقة الواسعة، والكسوة. وحديثك حديث الذي قال: أخبروني أنك تكسو العراة، اكس استك بادئاً أنت ليس يمكنك أن تقوم بنفقتي وحدي ومئونتي. كيف تقوم بمئونة غيري. ولكن يا بن جمهور قلبك لا يصبر عن فؤادك. ذكر الفيل بلاده 451 وبالجملة هو خصلتين إما أن يكون في قلبك منها شيء وإما أن يكون تريد أن تقين علينا جميعاً في فارس. عسى قد ضاق عليك المعاش وهو ذا نجي جميعاً، فاطلب لنا رقباء، وازرع بستان سذاب، وافتح دكان واقعد لبان. فعلينا أن نجيب لك كل يوم زقين دوغ واقعد واشرب كأنك ابن سنين، أو ابن أبي نبيه. أخير لك يا ميشوم من الحرام وعمل السلطان، تأخذ دراهم الناس بلا طيبة قلوبهم وليس يعطينا إنسان درهماً إلا بطيبة قلب، وبعد ما يقبل الأرض، ونحن نجيب إليك الهدايا، وأنت غافل في بيتك تن.. بالليل بأيرك كله وإذا حبلت الواحدة منا ادعته على واحد من السلاطين والكتبة، تنتقي لكل ولد لك كل كاتب أنبل من الآخر. ولو شئت جئت إلى الأهواز، فإن هذا العمل ليس يجوز لنا في فارس مع الأمير نجح - أعزه الله - فقد قال لي غلامك إنه ما ترك في شيراز مغنية ولا مخنث ولا قواداً ولا نباذاً فكيف تعمل بنا تحتي يا سخين العين إذا جئتنا؟ والله إني أرجو أن تقعد وتعنى وتقع الكبسة. ويحملونا كلنا إليه ويحلف أنه يحملني على عنقك ويطوف بي شيراز كلها. فإني والله قد كنت أشتهي أراها وأطوف أسواقها راكبةً، فلم يقض ذلك.
وقد اشتريت وصيفة قوالة بسبعة وثمانين ديناراً حلوة الوجه، مليحة الأطراف لها طبع، وقد طارحتها ثقيل الأول، وتعلمت ستة أصوات، وبدأ كفها يستوي، وقد جاب لي فيها ابن سخيب النخاس ربح خمسة عشر ديناراً ولم أفعل. وسوف، وحياة شوابيرك، وملاحة كحلك، أخرج منها جارية بخمسة آلاف درهم، وأخرجها تعنى. وذلك الوقت لا أحتاج إلى كسوتك ونفقتك، ولا يكون لأحد على أحد فضل، ولا يقدر إنسان يني... إنساناً إلا بحقه وصدقه؛ من رضي فرداً بعشرة دنانير، وإلا يأخذ بيد نفسه وينصرف وإن كلمني إنسان أدخلته في صدغ أمه معرقف بطاقين وهو ذا أجيء، وتطير ناريتك، ويسود سطحك، ويطلبون لك الجن، وليس، وعزة الله، وحياة من أحب، وإلا حشرني الله حدباء على بقرة، وبيدي مغرفة، وعلي لبادة في حزيران وتموز، وتطمع تطرح يدك إلا بعد أن تبلغ خمسين روزنامجه يمين، ثم تحلف بالطلاق أنك لا تمد عينك إلى حلال ولا حرام غيري، وتبيع كل مملوك لك أمرد، وإلا تساهلنا حتى نساهلك، وتغافل حتى تتغافل. إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم.
وقد احتبست علي علتي، والسحاق لا يجيء منه ولد، وأسأل الله السلامة. وقالوا: إنك تخضب؛ فليس والله تصلح لي الساعة، ولا بد من ربيط شاب، فطيب نفسك بحب الرمان.
فصل آخر: يصلح لك مثل الحمارة التي في بيتك، تقير رأسها ولا تقدر تكلمك، تظن بك أنك ابن الموبذ وابن طومار، مثل زادمهر التي تدقك دق الكشك، وتهينك هوان الكتان، لا تصلح لك والله. ما كنت أشبه دارك إلا بدير هرقل وأنا مريم وأنت المجنون، فخلصني ربي من ذنوبي كما خلصني منك. حسبك ما بك، لأني أعلم أنك وإن كنت في عمل أن الله لا يضيع لك.
الباب التاسع
نوادر القصاص
قيل لأبي القطوف وكان يفتي ويحدث ويقص وهو قاضي حران: ما ترى في السماع؟ فقال: أما على الخسف فلا. وقيل له: ما تقول في نبيذ العسل؟ قال: لا تشربه. قيل: ولم؟ أحرام هو؟ قال: بل هو نعمة لا تقوم بشكرها.وقيل لطربال: ما تقول في الإبط يمس، أيتوضأ منه؟ قال: يا بن أخ، كما يكون الإبط يغتسل منه.
وكان أبو سنان السدوسي يقول: فلان عندي أكفر من رامهر مز وبكى حوله ولده وهو يريد مكة فقال: لا تبكوا، بأبي أنتم، فأني أريد أن أضحي عندكم.
وقال: تزوجت امرأة مخزومية عمها الحجاج بن الزبير الذي هدم الكعبة.
قال أبو عثمان: وكان عندنا قاص يقال له: أبو موسى كوش فأخذ يوماً في ذكر قصر أيام الدنيا وطول أيام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: هذا الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئاً وعليه فضل سنتين! قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرون سنة ليل هو نائم فيها، لا يعقل قليلا ولا كثيراً، وخمس سنين قائلة، وعشرون سنة إما أن يكون صبياً، وإما أن يكون معه سكر الشباب وهو لا يعقل؛ ولا بد من صبحة بالغداة، ونعسة بين المغرب والعشاء، ويناله فيها كالغشي الذي يصيب الإنسان مراراً في دهره؛ فإذا حصلنا ذلك فقد صح أن الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئاً وعليه فضل سنتين.
قرأ سيفويه القاص: " ثم في سلسلة ذراعها تسعون ذراعاً، فقيل له: فإن الله يقول: " سبعون ذراعاً " ، وقد زدت أنت عشرين ذراعاً فقال: نعم هذه عملت لبغاً ووصيف، فأما أنتم فيكفيكم شريط بدانق ونصف.
قال جاحظ: كان عبد الأعلى القاص لغلبة السلامة عليه يتوهم عليه الغفلة، وهو الذي ذكر الفقير في قصصه مرة فقال: الفقير مرقته سلقة، ورداؤه علقة، وسمكته شلقة. قال ثم ذكر الخصي فقال: إذا قطعت خصيته قويت شهوته، وسخنت معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته. واتسعت فقحته، وكثرت دمعته.
قال أبو أحمد التمار في قصصه: ولقد عظم رسول الله صلى الله عليه حق الجار، وقال فيه قولاً أستحي من ذكره! قال أبو علقمة: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا. قالوا له: فإن يوسف لم يأكله الذئب، وإنما كذبوا على الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
وقرأ في حلقة سيفويه: " كأنهن الياقوت والمرجان " . فقال سيفويه: هؤلاء خلاف نسائكم القحاب.
وقرأ آخر: " كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً " . فقال سيفويه: فإذا القوم من أجل صلاتهم بالليل كذا.
استفتي بعضهم في إتيان النساء في أدبارهن فقال: مالك يبيحه وغيره من الفقهاء يقول:
إنه إذا استكرهت 453 المرأة عليه وجب على الزوج أن يزيد في صداقها عشرة دراهم، وإن كان برضاً منها نقص منه عشرة.
والتفت إلى ابن له حاضر وأشار إليه فقال: تزوجت أم هذا على اثنى عشر ألف درهم عقدت على نفسي بها وقد حصل الآن لي عليها أربعمائة وخمسون درهماً.
كان أبو سالم القاص البصري ينادي: اللهم، اجعلنا صعيداً زلقاً فيقول الغوغاء: آمين آمين.
وقص بعضهم فلما ابتدأ يسأل أقيمت الصلاة، وخاف أن يتفرق الناس. فقال: يا فتيان، العجائب بعد الصلاة.
سأل واحد سيفويه عن حفظه القرآن فقال: أحفظه آية آية، قيل له: فما أول الدخان؟ قال: الحطب الرطب.
وكان أبو كعب القاص يقول في دعائه: اللهم صل على جبريل واغفر لأمنا عائشة، وعافني من وجع البطن.
استفتي واحد منهم في الخنثى وقيل: له ما للرجل وما للمرأة؟ فقال: تزوج من حلقي يني...ها وتني..ه كان أبو عقيل القاص يقول: الرعد ملك أصغر من نحلة وأعظم من زنبور. فقالوا: لعلك تريد أصغر من زنبور وأعظم من نحلة. فقال: لو كان كذا لم يكن يعجب. وسأله رجل وهو في الجامع عن مسألة في الحيض لم يعرفها فقال: ويلك. خرج هذه القاذورات من المسجد حتى نخرج.
وكان بالري رجل منهم يفتي، فجاءته امرأة وسألته عن مسألة في الحيض فأخرج لها دفتراً وجعل يتصفحه ورقة ورقة لا يهتدي منه إلى شيء، إلى أن بلغ إلى ورقة مخرمة فقال للمرأة - وعرض عليها الخرق: أيش يمكنني أن أفعل؟ وموضع حيضك مخرق.
وكان بعضهم يقول: اللهم اغفر لنا كل نعمة وحسنة، واحشرني في جملة سيدي أبي عبد الله بن حنبل، ولا تغفر للرافضة.
كان بعضهم يقول: يا معشر الناس؛ إن الشيطان إذا سمى الإنسان على الطعام والشراب لم يأكل معه. وإذا لم يسم أكل معه؛ فكلوا خبز الأرز والمالح ولا تسموا ليأكل معكم، ثم اشربوا وسموا ليموت عطشاً.
حلق بعضهم لحيته وقال: إنها نبتت على المعصية. وكان بعضهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن حج، ويضحى عن أبي بكر وعمر يقول أخطأ السنة في ترك الأضحية.
وقيد آخر إحدى عينيه وقال: النظر بهما إسراف.
وكان بعض القصاص يتشدد في خلق القرآن، فسئل عن معاوية: هل كان مخلوقاً؟ فقال: كان إذا كتب الوحي غير مخلوق، وإذا لم يكتب كان مخلوقاً.
قال بعض القصاص يوماً: يا قوم، هل علمتم أن الله قد ذكر الهريسة في القرآن لفضلها؟ فقالوا: أين ذكرها؟ فقال: اذبحوا بقرة " واضربوه ببعضها " ، " وفار التنور " : " ولتركبن طبقاً على طبق " .
سأل رجل سيفويه القاص: ما الغسلين؟ فقال: على الخبير سقطت. سألت عنه شيخاً من فقهاء الحجاز منذ أكثر من ستين سنة فقال: لا أدري.
وجاءت امرأة إلى واحد منهم فقالت: يا جعفر؛ مريم بنت عمران كانت نبية؟ قال: لا يا فاعلة. قالت له: فإيش كانت؟ قال: كانت ملائكة.
وكان بالكوفة قاص يقول: إن أبانا آدم أخرجنا من الجنة، فادعوا الله أن يدخلنا من حيث أخرجنا.
وكان بالشام قاص يقول: اللهم أهلك أبا حسان الدقاق 454 فإنه يتربص بالمسلمين ويغلي أسعارهم، ومنزله أول باب في الدرب على يسارك هو.
قال أبو سالم القاص: لو كنت هند بنت عتبة حين لاكت كبد حمزة أجازتها إلى جوفها ما مستها النار. فقال النهرتيري: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
جاء رجل إلى سيفويه فقال: قد عزمت على أن أتوب فكيف أعمل؟ فقال: إما أن تحلق لحيتك أو تشتري سلماً أو تنحدر إلى واسط.
كان بعضهم يقول: أول ما يدخل الجنة من البهائم الطنبور؛ قيل له: وكيف ذاك؟ قال: لأنه يضرب بطنه، ويعصر حلقه، وتعرك أذنه.
وقف رجل على القتاد الصوفي وسأله عن المحبة. فقال القتاد: قد جاءني برأس كأنه دبة ولحية كأنها مذبه، وقلب عليه مكبة، يسألني عن طريق المحبة، وهو قيمته حبة.
دخل أبو يونس وكان فقيه مصر على بعض الخلفاء فقال له: ما تقول في رجل اشترى شاة فضرطت، فخرجت من استها بعرة، فقأت عين رجل. على من الدية؟ قال: على البائع: قال: ولم؟ قال: لأنه باع شاة في استها منجنيق، ولم يبرأ من العهدة.
غزا قاص فقيل له: أتحب الشهادة؟ فقال: إي والذي أسأله أن يردني سالماً إليكم.
كان أبو توبة القاص يقول:
احمدوا ربكم عز وجل؛ تشترون شاة سوداء فتحلبون منها لبناً أبيض، وتبخرون فتعبق ثيابكم، وتفسون فيها فلا تعبق.
كان ابن قريعة القاضي في مجلس المهلبي جالساً، فوردت عليه رقعة فيها: ما يقول القاضي أعزه الله في رجل الحمام، ودخل في الأبزن لعله كانت به فخرجت منه ريح وتحول الماء زيتاً، فتخاصم الحمامي والضارط، وادعى كل واحد منهما أنه يستحق الزيت جميعاً بحقه فيه.
فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الطريفة، في هذه القصة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عنتاً باطلاً، وكذباً ماحلاً. وإن كان ذلك كذلك، وهو من أعاجيب الزمان، وبدائع الحدثان فالجواب وبالله التوفيق: أن للصاقع نصف الزيت بحق رجعائه وللحمامي نصف الزيت بقسط مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع منهما عن خبث أصله، وقبح فصله، حتى يستعمله في مسرجته، ولا يدخله في أغذيته.
قرأ رجل في مجلي سيفويه: " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " فقال سيفويه: قد أخذنا في أحاديث القحاب وسمع رجلاً يقرأ: " فبهت الذي كفر " فقال: أتلومه! وقرأ قارئ: " وحملناه على ذات ألواح ودسر " فقال سيفويه: عز علي حملانهم. يتوهم أنها جنازة..
وكان أبو أسيد يقول في قصصه: كان ابن عمر يحف شاربه حتى يرى بياض إبطه.
كان عبد الأعلى قاصاً: فقال يوماً: تزعمون أني مراءٍ، وكنت والله أمس صائماً، وقد صمت اليوم وما أخبرت بذلك أحداً.
ومر عبد الأعلى بقوم وهو يتمايل سكراً فقال إنسان: هذا عبد الأعلى القاص. فقال: ما أكثر من يشبهني بذلك الرجل الصالح! قال قاص بالمدينة في قصصه: ود إبليس أن لكل رجل منكم خمسين ألف درهم يطغى بها. فقال رجل من القوم: اللهم أعط إبليس سؤله فينا.
حكي عن شيخ منهم ببغداد كان يعرف بختن حمامة أنه كان يقول: خلفاء الله في الأرض ثلاثة: آدم لقوله: إني جاعلك في الأرض خليفة وداود: " إنا جعلناك خليفة في الأرض وأبو بكر، لقول الأمة: أيا خليفة رسول الله. والأمناء ثلاثة: جبريل لأنه تحمل عن الله، ومحمد لأنه بلغ الأمة، ومعاوية 455 لأنه كتب الوحي.
وبلغ من عقله أنه رأى عقرباً في داره فقال لها: يا مشئومة؛ اخرجي لا تقتلك أمي. وكان مولعاً بإطعام الكلاب ويقول إذا أطعمها: هؤلاء أولى من الرافضة.
قال الأصمعي: اختصمت الطفاوة وبنو راسب في صبي يدعيه كل واحد من الفريقين إلى ابن عرباض، فقال: الحكم في هذا بين. قالوا: وما هو؟ قال: يلقى الصبي في الماء فإن طفا فهو طفاوي، وإن رسب فهو راسبي.
كانت أم عياش تحسن إلى سيفويه وتتعهده، فكان إذا اجتمع إليه الناس قال: يا معاشر المسلمين، ادعوا الله لأم عياش؛ فإنها صديقتي. فبلغ عياشاً فبعث إليه وقال: قد فضحتني بهذا القول فأمسك عنه. فقال: سبحان الله! لو أنها معي في إزار واحد ما كنت تخاف علي.
قال أبو العيناء: كان عندنا قاص جيد اللفظ من العبارة، وكان لوطياً، فكان إذا رأى في حلقته غلاماً يعجبه رفع يده ثم قال للجماعة: قولوا عند دعائي: آمين. ثم يقول: هذا العدو قد أقبل يريدكم: اللهم امنحنا أكتافهم. اللهم كبهم على مناخرهم ووجوههم، اللهم ولنا أدبارهم اللهم اكشف لنا عوراتهم، وسلط أرماحنا على أجوافهم والقوم يبكون ويقولون آمين.
سئل أبو قابوس الصوفي عن النبيذ فقال: حلال على السراة حرام على السفل.
انحدر بعض أصحاب الحديث من سر من رأى في سفينة، ومعه فيها نصراني فتغديا جميعاً ثم أخرج زكرة كانت معه فيها شراب، فصب في مشربة كانت معه، وشرب، ثم صب فيها وعرضها على المحدث فتناولها من غير امتناع ولا مكاس وشرب. فقال النصراني: جعلت فداك. إنما عرضت عليك كما يعرض الناس، وإنما هي خمر. قال: ومن أين علمت أنها خمر؟ قال: غلامي اشتراها من إنسان يهودي وذكر أنها خمر، فشربها بالعجلة وقال: لو لم يكن إلا لضعف الإسناد لشربتها. ثم قال للنصراني: أنت أحمق. نحن أصحاب الحديث نضعف حديث سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون، أفنصدق نصرانياً عن غلامه عن يهودي. هذا محال.
سئل الشيرجي عن أربعين رأساً من الغنم نصفها ضأن ونصفها ماعز، ما الذي يجب فيها؟ فقال: يجب فيها شاة نصفها ضأن ونصفها ماعز.
كسر جامع الصيدلاني يوماً كوزاً، فخرج من جوفه لوزتان فقال:
سبحان الله من يصور في الأرحام ما يشاء. وجاءته يوماً فقالت: لم يبق البزر. فقال: وكيف يبقى وأنتم تقعدون حوله عشرة عشرة. ودخل يوماً ليشتري نعلاً لابنته فقالوا: كم سنها. فقال: لا أدري والله غير أنها في حم السجدة. وولد له ابن فقيل له: ما سميته؟ فقال: سميته علي بن عاصم المحدث.
قال بعضهم: رأيت سيفويه متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: ارحم ترحم. ارحم ترحم.
واجتاز بباب شوكي فوطئ الشوك، ودخلت في رجله شوكة، فقال للشوكي: اجعلني في حل من هذه الشوكة. فإني لست أقدر على إخراجها في هذه الساعة. فكنت أردها عليك.
واشترى ديكاً هندياً وشد في رجله فرد نعل سندي لئلا يخرج، فانقطع الخيط وخرج الديك، فخرج سيفويه في طلبه، وجعل يسأل جيرانه ويقول: أرأيتم ديكاً هندياً في رجله نعل سندي.
ألقي إلى أبي سالم القاص خاتم بلا فص. فقال أبو سالم: إن صاحب هذا الخاتم يعطى 456 يوم القيامة في الجنة غرفة بلا سقف.
وقال بعضهم في حلقته: من صلى ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة كذا وكذا بنى الله له في الجنة بيتاً، فقام إليه رجل نبطي فقال: يا فديت وجهك: إن صليت أنا فعل بي هذا؟ قال: لا يا عاض بظر أمه. ذاك لبني هاشم والعرب وأهل خراسان، وأما أنت فيبني لك كوخ بعكبرا.
قال الجاحظ: وقفت على قاص وقد اجتمع عليه خلق كثير وفيهم جماعة من الخصيان، فوقفت إلى جانبه وجعلت أشير إلى الناس أنه هو ذا يجود قال: وهو يفرح بذلك. فلم يعطه أحد شيئاً فالتفت إلي خفياً وقال: الساعة إن شاء الله أعمل الحيلة. ثم صاح: حدث فلان عن فلان عن النبي عليه السلام قال: قال رب العالمين عز وجل: ما أخذت كريمتي عبد من عبيدي إلا عوضته الجنة " أتدرون ما الكريمتان في هذا الموضع؟ قال الناس: ما هما؟ فبكى، وقال: هما الخصيتان: وهو يتباكى ويكرر فجعل كل واحد من الخصيان يحل منديله حتى اجتمعت له دراهم كثيرة.
وقال آخر في قصصه: يا بن آدم، يا بن الزانية، أما استحييت من الملك الجليل والملك الكريم، يصعد إليه عنك بالعمل القبيح، فقيل: تزني الناس؟ قال: نعم؛ قد كان الحسن يكثر من قول: يا لكع قال بعضهم في قصصه: رأيتم أجهل من إخوة يونس؟ يريد يوسف، أخذوا أخاهم. وطرحوه في الجب وكذبوا على الدب.
قال أبو العنبس: سمعت قاصاً بالكوفة يقول في قصصه: تحت رأس ولي الله في الجنة سبعون ألف مخدة، والمخدة سبعون ألف حجاب، ما بين الحجاب والحجاب سبعون ألف عام. قال: فقلت: فإن سقط من فوق تلك الفرش كيف يعمل؟ فقال: إلى النار يا صفعان.
قال بعضهم في قصصه: كان أبو جهل خوزياً، فقيل له: بل هو قرشي مخزومي ولكنه كافر. فقال: يتكلم أحدكم بما لا يعلم، كل كافر خوزي.
قال آخر في مجلسه: زعم قوم أني لا أحسن القرآن. وهل في القرآن أشرف من: " قل هو الله أحد " . وأنا أقروه مثل الماء، وابتدأ وقرأ فلما بلغ قوله: " ولم يكن له " أرتج عليه فقال: من أراد أن يحضر ختمة السورة فليحضر يوم الجمعة.
دفع واحد قطعة إلى قاص وقال: ادع لي ولأبوي بالمغفرة، فرفع القاص رأسه وقال: ثلاثة أنفس بقيراط؟! وارخصاه! قيل لبعضهم: في لحيتك هريسة فقال: هذه من تلك الجمعة.
قال بعضهم: سمعت قاصاً بعبادان وهو يقول: اللهم ارزق الموتى الشهادة، ويا إخوتي ادعوا ليأجوج ومأجوج بالتوبة. وسقط عن أنفه ذبابة فقال: أكثر الله القبور بكم.
جاء أبو العالية القاص يشهد على رجل رآه مع غلام له، فقال له الوالي: بم تشهد؟ قال: أصلحك الله! رأيته وقد بطحه فقلت: ينومه، ثم كشف ثيابه فقلت: يروحه، ثم جلس عليه فقلت يغمزه، ثم بصق فقلت: يعوذه، ثم أخرج شيئاً فلا إله إلا الله.
شهد أبو يحيى المحدث عند قاص أنه يعرف الحائط الفلاني لفلان. فقال له: مذ كم تعرف هذا الحائط له؟ فقال: أعرفه وهو صغير لفلان.
ونظر إلى الهلال فقال: ربي وربك الله، سبحان الله من خلقك من عود يابس. ذهب إلى قوله تعالى " حتى عاد كالعرجون القديم " .
ووقف على أبي سالم القاص رجل راكب 1456 حماراً يتطلع في حلقته . ويسمع قصصه، فناداه: يا صاحب الحمار؛ امض لسبيلك لا يدل حمارك، فإن عندنا نساء.
وقيل له: كم ولداً لإبليس؟ فقال: أربعة؛ ثلاثة ذكورة وبنت. قالوا: فمن أمهم؟ قال:
شاة كانت لآدم فأهداها له.
وقيل: ادع لفلان أن يرده على أبيه وأعطى درهمين. فقال: وأين هو؟ قيل: بالصين. قال: يرده من الصين بدرهمين؟ بلى؛ لو كان بسيراف أو بجنابة أو تستر.
سرق لبعضهم منديل فقال لغلامه: أين المنديل؟ قال: يا مولاي. لا أدري فقال: يا بن الزانية والله ما سرقه - بعد الله - غيرك.
ومات عيسى بن حماد الطلحي وقد أوصى بأكثر من ثلث ماله، فأجاز ذلك ولده وامرأته، فأتوا أبا أسيد ليكتب بذلك كتاباً، فقال لهم: يا فتيان أمكم قد بلغت مبلغ النساء أم لا؟ وكان أبو أسيد هذا يقول: كان ابن عمر يحف شاربه حتى يرى بياض إبطيه. وقال يوماً: ما بقي من حمامي نافخ نار، ومر بقوم يصيدون السمك، فقال: يا فتيان؛ مالح أو طري.
ودخل يوماً في الماء إلى كعبه فصاح: الغريق، الغريق. فقيل له: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: أخذت بالوثيقة.
قيل لبعضهم: أيسرك أن الله أدخلك الجنة وأنت شاة؟ قال: نعم بشرط ألا يذهبوا بي إلى التياس.
جاء رجل إلى واحد منهم فقال: ما تقول في شرب النبيذ؟ قال: لا يجوز قال: فإن كان الرجل قد أكل المالح؟ قال: قد رجعت مسألتك إلى الطب.
صلى سيفويه بقوم وسلم عن يمينه ولم يسلم عن يساره، فقيل له في ذلك فقال: كان في ذلك الجانب إنسان لا أكلمه.
قال بعضهم: رأيت بالشام قاصاً روى في مجلسه أن أبا هريرة رأى على ابنته خاتم ذهب فقال لابنته: لا تختمي بالذهب. فإنه لهب. فبينما هو يحدثهم ويقص عليهم إذ بدت يده وفي إصبعه خاتم ذهب، فقالوا: يا عدو الله؛ تنهى عن شيء وتلبسه أنت؟ ووثبوا عليه. فقال: يا قوم لست أنا ابنة أبى هريرة. إنما حرم ذلك على تلك المشئومة.
قال آخر: رأيت قصاصاً يقص حديث موسى وهارون ويقول: لما صار فرعون في وسط البحر وقال الله للبحر: انطبق. وعلاه الماء جعل فرعون يضرط مثل الجاموس؛ نعوذ بالله من ذلك الضراط! قال سيفويه يوماً في قصصه أتدرون من هؤلاء القدرية؟ قالوا: من هم أكرمك الله؟ قال: هم الذين يجلسون على الشط فيقدرون أستاه الغلمان. قال آخر: رأيت قاصاً يقص غداة يوم، ثم رأيته عشياً في بيت نباذ، والقدح في يده فقلت: ما هذا؟ قال: أنا بالغداة قاص، وبالعشي ماص.
كان ابن كعب يقص في مسجد عتاب بالبصرة في كل يوم أربعاً، فاحتبس عليهم في بعض الأيام، وطال انتظارهم، فبينما هم إذ جاء رسوله فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا راشدين فقد أصبحت اليوم مخموراً.
جلس أبو ضمضم ينسب قبائل العرب فقال له بعضهم: يا أبا ضمضم: آدم من أبوه؟ فحمله استقباح الجهل عنده بشيء من الأنساب على أن قال: آدم بن المضاء بن الخليج وأمه ضباعة بن قرزام. فتضاحك القوم وثاب إليه عقله فقال: إنما نسبت أخا لآدم من أمه.
رأى بعض أهل نيسابور جنازة فقال: ربي وربك الله لا إله إلا الله. فسمعه آخر فقال: أخطأت. قل: اللهم ألبسنا العافية، وتشاجرا 457 فتحاكما إلى قاضٍ لهم فقال: لم يصب واحد منكما. إذا رأيتم جنازة فقولوا: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.
كان عبد الأعلى القاص يتكلف لكل شيء اشتقاقاً فقال: الكافر إنما سمي كافراً لأنه اكتفى وفر. قيل له: بماذا اكتفى ومن أي شيء فر؟ قال: اكتفى بالشيطان وفر من الله. وقال: سمي الزنديق زنديقاً لأنه وزن فدقق. وسمي البلغم بلغماً لأنه بلاء وغم. وسمي الدرهم درهما لأنه داء وهم. وسمي الدينار دينارأ لأنه دين ونار. وسمي العصفور عصفوراً لأنه عصا وفر. وسمي الطفبشل طفبشلاً لأنه طفا وشال. وسمي نوحاً لأنه كان ينوح على قومه. وسمي المسيح مسيحاً لأنه مسح الأرض.
جاء رجل إلى بعضهم فقال: أفطرت يوماً من شهر رمضان ساهياً، فما علي؟ قال: تصوم يوماً مكانه. قال: فصمت. فأتيت أهلي وقد عملوا حيساً، فسبقتني يدي إليه فأكلت منه. قال: تقضي يوماً آخر. قال: فقضيت يوماً مكانه، وأتيت أهلي وقد عملوا هريساً فسبقتني يدي إليه فأكلت منه فما ترى؟ قال: أرى ألا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك.
ماتت أم عياش فأتاه سيفويه معزياً فقال: يا أبا محمد، عظم الله مصيبتك. فتبسم ابن عياش وقال: قد فعل. فقال: يا أبا محمد؛ هل كان لأمك ولد؟ فقام ابن عياش عن مجلسه وضحك حتى استلقى على قفاه.
قال الجاحظ:
كان عبد العزيز الغزال يقول في قصصه: ليت أن الله لم يكن خلقني وأني الساعة مقطوع اليدين والرجلين. وذكر أن أبا سعيد الرفاعي سئل عن الدنيا والدائسة. فقال: أما الدنيا فهذه التي أنتم فيها وأما الدائسة فهي دار نائية من هذه الدار، لم يسمع أهلها بهذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن نسمع بذكر تلك الدار؛ إلا أنه قد صح عندنا أن بيوتهم من قثاء، وسقوفهم من قثاء، وأنعامهم من قثاء، وأنفسهم من قثاء، وقثائهم أيضاً من قثاء. قالوا: يا أبا سعيد؛ زعمت أن أهل تلك الدار لم يسمعوا بأهل هذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن لهم، وأراك تخبرنا عنهم بأخبار كثيرة: قال: فمن ثم أنا أعجب أيضاً.
قال الجاحظ: كان عندنا بالبصرة قاص لا يحفظ شيئاً سوى حديث جرجيس، فقص يوماً فبكى رجل من النظارة، فقال القاص: أنتم لأي شيء تبكون؟ إنما البلاء علينا معاشر العلماء.
وقص بعض العلوية بالري فسأله وهو على كرسيه والعامة حواليه رجل منهم عن معاوية فقال: أما معاوية فلحيته في إستي.
قص أبو سالم يوماً وفي حلقته رجل أعور، فجعل الأعور يهزأ به ويضحك منه، ففطن أبو سالم فقال لأصحابه: إذا دعوت فقولوا: آمين. قالوا: نعم. فقال: اللهم من كان يسخر منا فافقأ عينه الأخرى.
لقي رجل سيفويه فسأله عن حاله وعياله فقال: هو ذا نقطع الدنيا يوماً بيوم، فيوم لا يرزقنا الله ويوم يرزقنا الله. ولقي صاحباً له فقال له: يا أخي؛ أين تكون؟ قد طلبتك عشرين دفعة وهذه الثانية.
دعا أبو سالم على المتربصين فقال: اللهم امسخهم كلاباً وامسخنا ذئاباً حتى نقطع لحومهم.
قال بعضهم: سمعت قصاصاً يقول: إني لأقص عليكم، ووالله إني لأعلم أنه لا خبر عندي 1457 ولا عندكم. ولكن تبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني.
قص واحد ومعه تعاويذ يبيعها فجعلوا يسمعون قصصه ولا يشترون التعاويذ، فأخذ محبرته وقال: من يشتري مني كل تعويذة بدرهم، حتى أقوم وأغوص في هذه المحبرة باسم الله الأعظم الذي كتبته في هذه التعاويذ. فاشتريت منه التعاويذ في ساعة وجمع دراهم كثيرة. وقالوا له: قم فادخل الآن في المحبرة. فنزع ثيابه وتهيأ لذلك والجهال يظنون أنه يغوص فيها. فبدرت امرأة من خلف الناس وتعلقت به، وقالت: أنا امرأته، من يضمن لي نفقتي حتى أتركه يدخل، فإنه دخلها عام أول، وبقيت ستة أشهر بلا نفقة.
كان بعض القصاص يدعو فيقول: اللهم أهلك أولاد الزنى الذين أسماؤهم الكنى، وأنسابهم القرى، وشعورهم شعور النسا، وههنا منهم جماعة فيما أرى.
وسمع قاص كان يحض على الجهاد قارئاً يقرأ سورة يوسف. فقال: دعنا من آيات القحاب وخذ في آيات طرسوس.
الباب العاشر
نوادر القضاة لمن تقدم إليهم
اختصم رجل وامرأة إلى سوار، فقال الزوج لسوار: أصلح الله القاضي، لو عرفتها لبصقت في استها. فقال سوار: اغرب، عليك لعنة الله.قال بعضهم: سمعت رجلاً جيء به إلى التيمي القاضي، فقال: يا معشر القاضي: كم يجرونك إلي بحال أنهم واحد وأنا ستة،، لا يجدون أحداً يظلمونك إلا غيرري.
خاصم رجل رجلاً إلى الشعبي فقال: إن هذا باعني غلاماً نصيحاً صبيحاً. قال: هذا محمد بن عمير بن عطارد.
قدمت جارية مولى لها إلى بعض القضاة وادعت عليه الحبل، فأنكر المولى وادعى أنه كان يستعمل العزل وقت إتيانها، فاستثبته القاضي، وتعرف منه صورة أمره معها فقال: أصلح الله القاضي، كنت آتيها في قبلها؛ فإذا أردت الفراغ عزلت فأنزلت في دبرها. فقال القاضي: اسكت يا فاسق فإنك هو ذا تسمي ولاية العراقين عزلاً.
اختصم رجلان إلى قاض، فدنا أحدهما منه وقال سراً: قد وجهت للدار فراريج كسكرية، وحنطة بلدية كذا وكذا. فقال القاضي بصوت عال: إذا كانت لك بينة غائبة انتظرناها، ليس هذا مما يسار به.
قال محمد بن رباح القاضي: تقدم إلى قثم مع ابن أخيه، فادعى عليه خمسة آلاف دينار فقال قثم: نعم له علي ذلك من أي وجه. فقلت: قد أقررت له بالمال، فإن شاء فسر الوجه، وإن شاء لم يفسر. فقال ابن أخيه: أشهد أنه بريء منها إن لم أثبتها. فقلت: وأما أنت فقد أبرأته إلى أن تثبت ذلك، فما رأيت أضعف منهما في الحكم.
ادعى رجل على آخر طنبوراً وأحضره عند القاضي فأنكر، فقال: حلفه فقال القاضي:
إن كان عندك هذا الطنبور فأيري في حر أمك. فقال الرجل: أي يمين هذا؟ فقال القاضي: 458 يمين الطنبور.
وادعى رجل على امرأة عند القاضي شيئاً فأنكرت فقال لها: إن كنت كاذبة فأير القاضي في حرك. فتوقفت المرأة، فقال القاضي: قولي وإلا فاخرجي من حقه.
قال بعض القضاة الحمقى: قد عزمت على أن أخصي عدلين للشهادة على النساء.
لما خرج المأمون إلى فم الصلح لينقل بوران بنت الحسن، إذا جماعة على الشط وفيهم رجل ينادي بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين؛ نعم القاضي قاضي جبل جزاه الله عنا أفضل ما جزى أحداً من القضاة؛ فهو العفيف النظيف، الناصح الجيب المأمون الغيب. وكان يحيى بن أكثم يعرف قاضي جبل وهو ولاه وأشار به. وإذا هو القاضي نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين: إن هذا الذي ينادي ويثني على القاضي هو القاضي نفسه. فاستضحك المأمون واستطرفه وأقره على القضاء.
وقد كان أهل جبل رفعوا عليه وذكروا أنه سفيه حديد يعض رءوس الخصوم فوقع المأمون: يشنق إن شاء الله.
قال بعضهم: رأيت امرأة قدمت زوجها إلى أبي جعفر الأبهري المالكي وكان قضاء المحول فقالت له: أعزك الله، هذا زوجي ليس يمسكني كما يجب، حسبك أنه ما أطعمني لحماً منذ أنا معه. قال القاضي: ما تقول؟ قال: أعز الله القاضي البارحة أكلنا مضيرةً. قالت المرأة: ويلي أليس كان ماست؟ قال: وتناي...نا ستة. قال القاضي: هذه مضيرة بعصبان.
جلس أبو ضمضم القاضي للحكم فلمح في مجلسه رجلاً معه ألواح يعلق نوادره فرماه بالدواة وشجه ثم أمر به إلى الحبس. فقال كاتبه: ما أكتب قصته في الديوان. قال: اكتب: استرق السمع فأتبعه شهاب ثاقب.
اختصم إلى أبي ضمضم رجلان فأقر أحدهما لصاحبه بما ادعاه عليه وقال: أعز الله القاضي. إني كلما طلبته لأوفيه حقه لا أجده فإنه رجل شريب منهمك في الشرب أبداً عند أصحابه وأصدقائه، وأنا رجل معيل أحتاج أن أكسب قوت عيالي، ولا يتهيأ لي أن أتعطل عن كسبي وأدور في طلبه. فأمر أبو ضمضم بحبس صاحب الحق. وقال لغريمه: اذهب فاشتغل بطلب معاشك ومكسبك، فإذا حضرك ما ترده عليه فاحمله إلى الحبس حتى لا تحتاج أن تدور في طلبه. فبقي الرجل في الحبس ثمانين يوماً وصاحبه يحمل إليه الشيء بعد الشيء إلى أن بقي له عشرة دراهم فأرسل إلى القاضي وقال: إن رأيت أن تفرج عني فلم يبق لي على غريمي إلا عشرة دراهم فقال: لا والله لا تبرح حتى تأخذ حقك! تقدم رجلان إلى بعض القضاة فقال أحدهما: أصلحك الله أخو ختن غلام أكار هذا سرق كساء أخي ختن أكار خال ولد ختي. فقال القاضي: ما تقول؟! قال: أعز الله القاضي. غير كساء غيري سرق غير ختن كساء هذا. أنت القاضي. أيش تشير علي؟ قال القاضي: أشير عليك أن تأخذ أي طريق شئت فمن كلمك فاصفعه.
ارتفع رجلات إلى قاض أحدهما يدعي على الآخر حقاً له من ميراث فقال القاضي للمدعي: ما تكون من هذا الرجل الذي تدعي ميراثه؟ قال: أعز الله القاضي أنا أحد قراباته: كانت أم أم أمه جدها لأمها أخا خال عم أخي ختني. أعني ابن بنت زينب خالتي فقال القاضي: يا سفله، هذه صفة أخلاط الخبث. ارفعها إلى الصيادلة حتى يميزوها خلطاً خلطاً ثم ردوها.
سمع بعض القضاة امرأة تقول لأخرى 459 في جيرته في كلام بينهما: وإلا فأير القاضي في حرك. فقال القاضي: إن القاضي والله أشقى بختاً من ذاك.
تشاجر رجل وامرأته في الأير إذا قام وانتفخ كم رطلاً فيه. فقال الرجل: يكون فيه خمسون رطلاً، وقالت المرأة: لا يكون. فحلف بطلاقها أنه إذا انتفخ يكون فيه أكثر من ألف رطل. فارتفعا إلى الحاكم ورشوه على الحكم لئلا يفرق بينهما فقال: اذهبوا، فإنه إذا قام فهو مثل شراع السفينة إذا وقع فيه الريح يكون أكثر من خمسة آلاف رطل.
قدم رجل امرأته إلى القاضي فقال: أعز الله القاضي أنا رجل من دورق وهذه امرأة من درب عون، وفي قلبي حب وهي تغار علي وأريدها صاغرة. فقال القاضي: اذهب عافاك الله إلى دار بانوكة حتى يعمل لك قاض من دن يحكم بينكما.
غاب رجل في بعض أسفاره، وطالت غيبته فأرجف به وبموته، وأتى على ذلك مدة، وبلغ قاضي البلد جمال امرأته فخطبها وتزوجها فصار إليه أهل بيت زوجها وبنو أعمامه وقالوا:
أعز الله القاضي. لم يصح عندنا موت هذا الرجل ونحن في شك منه، فكيف تتزوج بامرأته؟ فغضب القاضي وقال: أنتم تسخرون بالنساء. والله ما يغيب أحدكم إلا تزوجت بامرأته.
تقدم رجلان إلى قاض وادعى أحدهما على صاحبه درهماً من ثمن ريحان اشتراه ف أنكر واستحلفه فقال القاضي: قل: والله الذي لا إله إلا هو. فقال الرجل: أصلحك الله ليست هذه يمين أصحاب الرياحين. قال القاضي: وما يمينهم؟ قال: أن يقول أمه فاعلة إن كان لهذا عليه شيء. قال القاضي: ما أشك في صدقك، وغرم الدرهم من عنده.
تقدم رجلان إلى الشعبي، فقال أحدهما: لي عليه - أعز الله القاضي - كذا وكذا من المال. فقال: ما تقول؟ قال: يسخر بك أعزك الله.
تقدم إلى قاضي حمص رجل وامرأته فقال الرجل: أصلح الله القاضي إنها لا تطيعني. قالت: أصلح الله القاضي. إني لا أقوى بما معه قال: يا هذا لا تحملها ما لا تطيق. قال: أصلحك الله إنها كانت عند رجل قبلي فكانت تكرمه وتطيعه. فضرط القاضي من فمه ثم قال: يا جاهل، الأيور كلها تستوي؟ هوذا أنا معي مثل أير البغل ومن في البيت أستودعهم الله يستصغرونه.
ارتفعت امرأة مع رجل إلى قاضي حمص. فقالت: أعز الله القاضي. هذا قبلني قال القاضي: قومي إليه فقبليه كما قبلك. قالت: قد عفوت عنه إن كان كذا. قال القاضي: فإيش قعودي ههنا؟ حيث أردت أن تهبي جرمه لم جئت إلى هذا المجلس؟ والله لا برحت حتى تقتصي منه حقك وبعد هذا لو نا...ك رجل بحذائي لم أتكلم.
رفع أبو الجود الشامي امرأته إلى أبي شيبة القاضي وقالت: أصلحك الله اخلعني منه وإلا طرحت نفسي في دجلة. فقال زوجها: أصلحك الله إنها تدل بسباحة. فقال القاضي: ما أدري أيكما أرقع قال الشامي: إن كنت لا بد فاعلاً فارقعني ودعها.
أرسل المأمون رجلاً معه كتاب إلى قاضي حمص. قال الرجل: فدخلت حمص فمررت على جماعة من المشايخ في مسجد، فاسترشدتهم فقالوا: أمامك. وحركت البغلة فضرطت فقال شيخ منهم كان أحسنهم هيئة وأسنهم: على أيري. فتعجبت من قوله، وصرت إلى القاضي فقرأ كتابي ثم تحدث 460 فانبسطت معه فقلت: ألا أطرفك أيها القاضي بشيء. وقصصت عليه القصة. فقال: يا حبيبي قد فسد الناس وذهبت نصفتهم كانوا فيما مضى إذا سمعوا ضرطة قالوا على أير القاضي فصار الآن كل إنسان يجر النار إلى قرصه.
ذكر أن أعرابياً من بني العنبر صار إلى سوار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخاً لي وخط خطين ثم قال: وهجيناً. وخط خطاً ناحية فكيف يقسم المال؟ فقال: أههنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: المال بينكم أثلاثاً. قال: لا أحسبك فهمت. إنه تركني وأخي وهجيناً لنا، فقال سوار مثل مقالته الأولى. فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما أخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل. فغضب الأعرابي ثم أقبل على سوار فقال: تعلم والله إنك قليل الخالات بالدهناء، فقال سوار: إذاً لا يضرني ذلك عند الله شيئاً.
تقدم رجل إلى شريك ومعه غريم له فقال: أصلحك الله لي عليه خمسمائة درهم. فقال للغريم: ما تقول؟ قال: أصلحك الله يسخر بك فقال: قم يا ماص بظر أمه.
قال الأصمعي: لقيت قاضي سبدان فقلت: على من تقضي؟ فقال: على الضعيف.
كان أبو السكينة قاضياً للحجاج بن يوسف وكان طويلاً فقال يوماً: بلغني أن الطويل يكون فيه ثلاث خلال لا بد منها قال: قلت: ما هي؟ قال: يفرق من الكلاب ولا والله ما خلق الله دابة أنالها أشد فرقاً من الكلاب، أو تكون في رجله قرحة لا والله ما فارقت رجلي قرحة قط أو يكون أحمق وأنتم أعلم بقاضيكم.
ولي عكابة النميري قضاء البحرين فالتاث أهلها عليه فركب فرسه وأخذ رمحه وقال: والله لا أقضي إلا هكذا من خالفني طعنته برمحي.
كان بالبصرة قاض، فاحتكم إليه حائك في حمامة فأخذها ومسح عينها ثم أرسلها. فقال الحائك: ما فعلت أيها القاضي؟ قال: يذهب إلى بيت صاحبها.
وتقدم إليه رجلان ومعهما امرأة فقال أحدهما: أصلحك الله. هذه امرأتي تزوجتها على ستين درهماً وهذا يدعي أنه يتزوجها على سبعين فقال القاضي: علي بثمانين. فقالا: أصلحك الله جئناك لتقضي بيننا لم نجئك لتزايدنا. قال القاضي: فإنما في شرىً وبيع، قوماً في لعنة الله.
تقدم إلى قاض اثنان فادعى أحدهما على صاحبه ثلاثة أرباع دينار. فقال القاضي: ما تقول؟ قال له: علي دينار غير ربع، ففكر ساعة ثم قال: أما تستحيان في هذا القدر. إنما بينكما ثلث دينار! قوما فاصطلحا فالصلح خير.
واختصم إليه رجلان في ديك ذبحه أحدهما فقال: ارتفعوا إلى الأمير، فإنا لا نحكم في الدماء.
وعزل يحيى بن أكثم قاضياً كان له على حمص من أهلها فلما قدم إليه رأى شيخاً وسيماً فقال له: من جالست يا شيخ؟ فقال: أبي. فظن أن أباه من أهل العلم. قال: فمن جالس أبوك: قال: مكحولاً قال: فمن جالس مكحول؟ قال: سفيان الثوري. قال: ما كان يقول أباك في عذاب القبر؟ قال: كان يكرهه.
تزوج بعض الخصيان في زمن شريح بامرأة فأتت بولد فتبرأ منه وترافعا إلى شريح. فألحق الولد به وألزمه أن يحمله على عاتقه فخرج على تلك الصورة واستقبله خصي آخر. فقال له: انج بنفسك فإن شريحاً يريد أن يفرق الزنى على الخصيان.
461 - سمع العنبري القاضي صبياً يقول لآخر وإلا فأير القاضي في حر أم الكاذب، فقال القاضي: ولم يا صبي؟ قال: لأن عليه أيراً مردوداً في حر أمه مثل سارية المسجد. فقال القاضي: الاستقصاء شؤم.
قدم رجل جماعة إلى قاضي حمص يشهدون له على شيء ادعاه فقال لهم القاضي: بم تشهدون؟ فقالوا: تريد منا أن نكون نمامين؟ قدمت امرأة زوجها إلى القاضي ومعها طفل ادعت أنه ولده وأنكر الرجل فقال القاضي: الولد للفراش وقد أقررت بالزوجية فقال: أيها القاضي والله ما تناي..نا إلا في الإست، فقالت المرأة وأنت أيها القاضي ما رأيت غرفة تكف. قال القاضي: صدقت. خذ بيدها وبيد ولدك.
دخل على بعض الولاة قاض وعنده مضحك عيار فوثب فانكشف إسته وتلقى بها القاضي، فحل القاضي سراويله وأخرج أيره وتلقى به أسته. وقال: إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها.
يقال: إن غلامين من أهل سنجار تقدما إلى قاضيها فقالا له: أيها القاضي قد جئناك في شيء وإن لم يكن شيء. مات أبونا، وخلف لنا داراً لا تساوي شيء، فاقتسمناها فما أصابنا منها شيء، وعرضناها فما أعطونا بها شيء، ونحن فقراء لا نملك شيء، وجياع ما في بطوننا شيء، وحفاة ليس في أرجلنا شيء، وقد جئنا إلى القاضي حتى يعطينا شيء فنضم شيء إلى شيء ونشتري به شيء. قال القاضي: قد وليت سنجار وما معي شيء وأنزلوني في دار ليس فيها شيء، فأقمت بينهم شهرين ما أطعموني شيء، وحلفتهم فما أقروا إلي بشيء، والقوم جياع ليس عندهم شيء، ولو كانت داركم تسوى شيء كنا قد بعناها لكم بشيء، أعطيناكم شيء وأخذنا شيء، فكان يكون عندكم شيء وعندنا شيء! ولكن هو ذا أفطنكم بشيء! من ليس معه شيء لا يسوى شيء.
الباب الحادي عشر
نوادر لأصحاب النساء والزناة والزواني
كان رجل يتعشق امرأة، ويتبعها في الطرقات دهراً، إلى أن أمكنته من نفسها. فلما أفضى إليها لم ينتشر عليه فقالت له: أيرك هذا أير لئيم. قال: بل هو من الذين قال فيهم الشاعر:وأفضل الناس أحلاماً إذا قدروا
نظر مغيرة المهلب يوماُ إلى أخيه يزيد وهو يطالع امرأته ويقول لها: اكشفي ساقك ولك خمسون ألف درهم فقال: ويلك يا فاسق؛ هات نصفها وهي طالق.
قال بعضهم لأعرابي: هل يطأ أحدكم عشيقته؟ فقال: بأبي أنت وأمي. ذاك طالب ولد ليس ذاك بعاشق.
سمع إسماعيل بن غزوان قول الله تبارك وتعالى " قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " . فقال : لا والله إن سمعت بأغزل من هذه الفاسقه. ولما سمع بكثرة مراودتها 462 ليوسف واستعصامه بالله قال: أما والله لو بي محكت.
قال الأصمعي: راودت أعرابة شيخاً عن نفسه، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أبطأ عليه الانتشار فأقبلت تستعجله وتوبخه فقال لها: يا هذه إنك تفتحين بيتأ وأنا أنشر ميتاً.
أشار ضيف لقوم إلى بنت لهم بقبلة وهي خلف الخباء، فلما سمع الشيخ قول الجارية: إني إذاً الطويلة العنق قال: وبيت الله لقد أشار إليها بقبلة.
أتى نوفل بابن أخيه وقد أحبل جارية لغيره فقال: يا عدو الله؛ هلا إذا ابتليت بالفاحشة عزلت. قال: بلغني أن العزل مكروه. قال: أفما بلغك أن الزنى حرام.
جاء رجل إلى عابد فسأله عن القبلة للصايم، فقال: تكره للحدث، ولا بأس بها للمسن، وفي الليل لك فسحة. فقال: إن زوجها يعود إلى منزله ليلاً فقال: يا بن أخ؛ هذا يكره في شوال أيضاً.
قال الجاحظ: تعشق المكي جارية ثم تزوجها نهارية، فخبرني أنها كانت ذات صبيان وأنه كان معجباً بذلك منها، وأنها كانت تعالجه بالمرتك، وأنه نهاها مراراً حتى غضب في ذلك. قال: فلما عرفت شهوتي كانت إذا سألتني حاجة ولم أقضها قالت: والله لأمرتكن ثلاثاً. فلا أجد بداً من أن أقضي حاجتها. قال: فلم أسمع قط بأطرف من قوله: فلا أجد بداً من أن أقضي حاجتها.
قال بعضهم: إذا جمشت فلا تبهت مثل المجنون، ولكن السع وطر.
أخذ رجل مع زنجية وكان قد أعطاها نصف درهم، فلما أتى به إلى الوالي أمر بتجريده وجعل يضربه ويقول: يا عدو الله؛ تزني بزنجية! فلما أكثر قال: أصلحك الله، فبنصف درهم إيش أجد، ومن يعطيني؟ فضحك وخلاه.
وجد شيخ مع زنجية في ليلة الجمعة في مسجد، وقد نومها على الجنازة فقيل له: قبحك الله يا شيخ. فقال: إذا كنت أشتهي وأنا شيخ لا ينفعني شبابكم، قالوا: فزنجية. قال: من يزوجني منكم بعربية؟ قالوا: ففي المسجد! قال: من يفرغ لي بيته منكم ساعة؟ قالوا: فعلى جنازة! قال: إن شئتم جئتكم ليلة السبت، فضحكوا منه وخلوه.
قال بعضهم لقينة كانت إلى جانبه في مجلس: أشتهي أن أضع يدي عليه. قالت: إذا كان العتمة. قال: يا ستي؛ إذا كان العتمة وأطفئ السراج يكون الزحام عليه أكثر من الزحام على الحجر الأسود.
وكان بعضهم في مجلس شرب فيه مغنيات فقامت واحدة منهن فكانت مليحة، فوضعت الطبل وقعدت عليه، فقال: يا إخوتي. ما كنت أحسب أني أحب يوماً ما أن أكون طبلاً حتى الساعة! وحدث بعضهم قال: كنت في دعوة وبت، وكانت هناك مغنية قد باتت، فدب إليها بعضهم فسمعتها في الليل تقول: اعزل اعزل!. وهو يقول لها: يا قحبه تولين أنت وأعزل أنا.
قال بعضهم: بينا أني.. قحبة في شهر رمضان، وذهبت أقبلها فحولت وجهها عني. فقلت: لم تمنعينني القبلة؟ قالت: بلغني أن القبلة تفطر الصائم.
أدخل رجل قحبة إلى خربة، فبينا هو فوقها إذ أحس بوقع قدم، فأراد أن يقوم. فقالت له: شأنك فإنه 462 إن كانوا أقل من أربعة ضربوا الحد.
كان في جوار ابن المعذل قحبة تزني نهاراً وتصلي بالليل وتدعو وتقول: اللهم اختم لي بخير. فلما طال ذلك على ابن المعذل قال لها: يا فاجرة، ما ينفعك هذا الدعاء؟ وهو يختم لك بالليل وتكسرين الختم بالنهار.
كان الحمدوني في مجلس فقالت له قينة: ناولني ذلك الكوز. فقال: يا قحبة تريدين أن تستأكليني.
أخذ شيخ مع جارية سوداء فقيل له: ويحك تزني بسوداء؟! قال: أنا اليوم شيخ، إيش أبالي ما أني...
نزل سبعة أنفس في خان، وبعثوا إلى قوادة وقالوا لها: أحضري لكل واحد منا امرأة - وكان أحدهم يصلي - فقالت: كم أنتم؟ قالوا: نحن ستة. فقال المصلي: سبحان الله سبحان الله. وأخرج يده وقد عقد على سبعة. - أي نحن سبعة.
كان بشيراز رجل وله زوجة فاسدة، فنزل به ضيف فأعطاها دراهم وقال لها: اشتري لنا رءوساً نتغدى بها، فخرجت المرأة ولقيها حريف فأدخلها إلى منزله وأحس بها الجيران، فرفعوهما إلى السلطان. وضربت المرأة وأركبت ثوراً ليطاف بها في البلد، فلما أبطأت على الرجل خرج في طلبها، فرآها على تلك الحال فقال لها: ما هذا ويلك؟ قالت: لا شيء انصرف أنت إلى البيت فإنما بقي صفان: صف العطارين وصف الصيادلة ثم أشتري الرءوس وأجيئك.
قالت امرأة أبي إسماعيل القاص لزوجها: إن الجيران يرمونني بالفاحشة قال: لا يحل لهم حتى يروه فيك كالميل في المكحلة.
قيل لرجل: إن فلاناً وفلاناً حملا السلم البارحة ونصباه إلى حائط دارك؛ يريدان امرأتك. قال: على كل حال إذا حملوه بين اثنين هو أولى من أن يكلفوني حمله وحدي.
كان على بعض أبواب الدور خياط. وكانت لهم جارية تخرج لحوائجهم فقال الخياط لها يوماً - وقد خرجت: أخبري ستك أن لي أيرين. فدخلت الجارية وهي تدمدم، قالت لها ستها: مالك؟ قالت: خير. قالت: لا بد من أن تخبريني، فأخبرتها بقول الخياط. فقالت: أحضريه حتى يقطع لنا أثواباً. فدعته وطرحت إليه ثوباً فلما قطعه قالت له:
بلغني أن لك أيرين. قال: نعم واحد صغير أني.. به الأغنياء، وآخر كبير أني... به الفقراء قالت المرأة: لا يغرنك شأننا الذي تراه؛ فإن أكثره عارية.
كان عند بعضهم امرأة يبغضها، وكانت كل ليلة تستعجله وتقول: قم حتى تنام. وكان لا ينشط، ويدافع بالوقت إلى أن قالت له ذات ليلة ذاك فقال: لا تقولي حتى تنام، ولكن قولي حتى تموت. فإن الموت خير من النوم معك.
تزوج رجل بامرأتين عجوز وشابة، فجعلت الشابة كلما رأت في لحيته طاقة بيضاء تنتفها، والعجوز كلما رأت طاقة سوداء تنتفها، فما زالا كذلك حتى أعاداه عن قريب أمرد أصلع.
حكى عن ابن أبي طاهر قال: كنت مع علي بن عبيدة في مجلس ومعه عشيقة له فجلسنا حتى فانتنا صلاة العصر. فقلت له: قم حتى نصلي. فقال: حتى تزول الشمس - يعني عشيقته.
قيل لرجل رئي وهو يكلم امرأة في شهر رمضان: أتكلمها في مثل 461 هذا الشهر؟ قال: أدرجها لشوال.
اعترض رجل من أهل خراسان جارية لبعض النخاسين فازدراه، فوضع يده على هميان في وسطه فيه دنانير كثيرة، ثم أنزل يده إلى ذكره وقد أنعظ وقال: أترى سلعتك تكسد بين هذين السوقين.
نظر رجل إلى مغن يطارح جارية للغناء وقد غمزها فقال له: ما هذه الغمزة؟ قال: غمزة في الغناء. قال: أتراني لا أعرف غمزة الغناء من غمزة الزنى.
عشق أبو جعفر القارئ جارية بالمدينة فقيل له: ما بلغ من عشقك إياها؟ قال: كنت أرى القمر في دارهم أحسن منه في دارنا.
قال بعضهم: مررت ذات يوم بشارع السري بسر من رأى فرأيت امرأتي تمشي فظننتها من البادية، فتعرضت لها وقلت: إلى أين يقصد الغزال؟ فقالت لي: إلى مغزلها يا قليل المعرفة بأصحابه.
كان فلان مفلساً فقال لامرأة: أنا أحبك. قالت: وما الدليل على ذلك؟ قال: تعطيني قفيز دقيق حتى أعجنه بدموع عيني. قالت: على أن تجيء بخبزه إلينا. قال: يا سيدتي، فأنت تريدين خبازاً لا تريدين عاشقاً.
تزوج رجل بشيراز امرأة فلما كان في اليوم الخامس من زفافها ولدت ابناً، فقام الرجل وصار إلى السوق واشترى لوحاً ودواة فقالوا له: ما هذا؟ قال: من يولد في خمسة أيام يذهب إلى الكتاب في ثلاثة أيام.
ذكر أن رجلاً لزم آخر بحق له عليه فقال له الملزوم: انطلق معي إلى منزلي لعلي أحتال لك. فانطلق معه فدخل وغريمه معه فجلس بين يدي الحجلة والمرأة ممسكة بسجفها ومعه فيها صديق لها، فكلم الرجل امرأته فقال لها: إن لهذا علي ديناً، ولا أقدر على قضائه، فأعينيني بحليك، علي أن أخلفه عليك. فأقبلت المرأة على الغريم فقالت له: يا هذا؛ عليك عهد الله وميثاقه إن رأيت شيئاً لتكتمنه ولا تخبر أحداً، فحلف لها فخرجت من الحجلة، فأكبت على زوجها وأخذت رأسه فقبلته، وقالت: أفديك بكل شيء أملكه، وخرج الرجل من الحجلة فمضى وخلت عن رأس الزوج.
وجد رجل مع أمه رجلاً، فقتل أمه وخلى عن الرجل، فقيل له: ألا قتلت الرجل وخليت أمك؟ قال: إذا كنت أحتاج أن أقتل كل يوم رجلاً.
وصلى الله على محمد وآله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم بحمد الله وعونه وتوفيقه الجزء الرابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس /الفصل الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
اللهم أنت الراعي لا يُراع سوامهُ، والحافظ لا يُضاع ذمامُه، والصادق لا يخلف وَعْده، والغني لا ينفّدُ مَا عندَه. نحمدُك ونستعينُك، ونستعصمك ونستخيرُك، ونؤمن بك ونتوكلُ عَلَيْكَ، ونخضعُ لَكَ، ونفزع إليْك. اللهم فوفقنا لكل مَا ترضاه، وجنبنا بعض مَا نهواه، وبلغنا من الخير مُنتهاه واهدنا فِي الدنيا إلى مَا نحمدُ فِي الآخرة عُقباه، وأسِبغْ علينا لباسَ الكرام واعصمْنا مما نتعقبه بالندامة، وتغمدنا فِي الدُّنيا بنعمة تضفُوا مدَارعُها وَفِي الآخرة برحُمة تصفُو مشارعُها، وابسُط أيْدَينا إلى خلقك بالأفضال والإسْعاف، واقْبِض أيْديَنا عنهم بالقناعة والكَفاف، واجْعلنا عصمةً للخائف منهم إذا استجار، والحائر إذا استشار، والسائل إذا استمَار. لَكَ الحمْدُ والمنةُ، ومنك الإحْسانُ والنِّعمةُ وَعَلَى رسولك محمدٍ وأهلِ بيته الصلاةُ والرحمة.هذا هو الفصلُ الخامسُ من كتاب نثر الدُّر وهو اثنان وعشرون باباً.
الباب الأول
كلام زياد وولده
قال: إن تأخير جزاء المحسن لؤمٌ، وتعجيل عقوبة المُسيء دناءةٌ. ثواب المحسن والتثبٌّت في العُقوبة ربُّما أدى إلى سَلامة منها، وتأْخير الإحسانِ رْبِّما أدَّى إلى ندمٍ لم يُمكن صاحبه أن يتلافاهُ.
كتب إلى معاويةُ: اعزل حُرَيثَ بن جابر، فإني ما أذكُرُ قُبتَّه بصفِّين إلا كانت حَرارةً، في جلدي.
فكتب إليه زيادٌ: خفِّض عليك أميرَ المؤمنين، فقد بسَق حُريثٌ بُسُوقاً لا يرفُعه عملٌ، ولا يضعهُ عَزْلٌ.
وقال زيادُ لو أن لي ألف ألْف درهم، ولي بعيرٌ أجربُ لقمتُ عليه قيامَ. رجل لا يملكُ غيرَهُ. ولو أن لي عشرة دراهمَ لا أمْلك غيرَها، ولزمني حقٌّ لوضعْتُها فيه.
وقال لابنه: عليْك بالحجاب، فإنما تَجَّرأتِ الرُّعاةُ على السباح بكثرة نظرها إليها وخطب فقال: الأُمورُ جاريةٌ بأقدار الله، والناسُ متصَرِّفون بمشيئة الله، وهمْ بين متسخِّط وراض، وكل يجري في أجل وكتاب. ويصيرُ إلى ثواب أو عقاب. ألا رُب مسرور بنا لا نسرُّه، وخائف ضدنا لا نضُرُّه.
وكان مجْلسه الذي يأْذن فيه للناس أربعةُ أسْطْر في نواحيه، أولُها: الشِّدةُ في غير عُنف، واللينُ في غير ضعْف. والثاني: المُحسنُ يُجازى بإحسانه، والمسيءُ يكافأُ بإساءته. والثالث العَطيَّاتُ والأرزاقُ في إبانها وأوقاتها. والرابعُ: لا احتجاب عن صاحب ثغر ولا طارق ليل.
وقال: أحْسنوا إلى أهل الخراج، فإنكم لا تزالون سماناً ما سَمنْوا.
قدم رجلٌ خصْماً إلى زياد في حَقٍّ له عَليْه، فقال: إن هذا يُدلُّ بخاصة ذكرَ أنها له منك. فقال زيادٌ: صدّق. وسأُخبُرك بما ينفعُه عندي منْ مودته إن يكُن الحقُّ له آخذُك به أخْذاً عنيفاً، وإن يكُنِ الحقُّ لك عليه أقْضِي عليه ثم أقْضي عنه.
وقال: ليس العاقلُ الذي يحتالُ للأمْر إذا وقع، ولكن العَاقل الذي يحتالُ للأمر ألا يقع فيه.
قالوا: قدم زيادٌ البصْرة والياً لمعاوية والفسْقُ بالبصْرة ظاهرٌ فاشٍ فخطب خطبةً بَتْرَاءَ لم يحمدِ الله فيها. ويُقالُ: بل قال: الحمد لله على أفْضاله، ونسْأَلُه المزيدَ منْ نعمه وإكرامه. اللهُم كما زدْتنا نعَماً فأَلهِمنْا شكْراً. أما بعدُ: فإن الجاهلية الجهُلاء، والضلالة العمْياء والغَيَّ المُوفدَ لأهله على النار، ما فيه سفهاؤُكمْ، ويشتعلُ عليه حُلماؤكم، منه الأمور العظام، ينبتُ فيها الصغيرُ، ولا يتحَاشى منْها الكبيرُ. كأنكم لم تقْرءُوا كتاب الله، ولم تسمعُوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معْصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزُولُ.
أتكونون كمنْ طرفتْ عينه الدُّنيا، وسَدتْ مَسامعَه الشهواتُ، واختارَ الفانية على الباقية ولا تذْكُرونَ أنكم أحْدثتُم في الإسلام الحدَثَ الذي لم تُسْبقُوا إليْه: منْ تَرْككُمْ الضعيفَ يُقْهرُ، ويُؤخَذُ مالُه، والضعيفةَ المسلوبةَ في النهارِ المُبصِرِ، والعددُ غيرُ قليل.
ألم يكنُ منكم نُهاةٌ تمنعُ الغُواةَ عنْ دَلَج الليلِ، وغارةِ النهارِ؟ قرَّبْتُم القرابة، وباعْدتُمُ الدِّين. تعتذرُون بغير العُذْر وتُغُضون على المُخْتلسِ، كلُّ امرئ منكم يذُبُّ عن شَفِيهِه ضنيع مَنْ لا يخافُ عاقبة، ولا يرجوُ مَعاداً. ما أنتُم بالحُلماء، ولقد اتَّبعُتم السُّفهاءَ، فلم يزَلْ بهم ما ترَوْن من قيامِكم دونَهُم، حتى انتهكٌوا حُرَم الإسلام، ثم أطْرَقُوا وراءَكم كُنُوساً في مكانِس الرِّيبَ حَرُم على الطعامُ والشرابُ حتى أسَوِّيَها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني رأيتُ آخر هذا الأمر لا يصلحُ إلا بما صلح به أوَّلُه: لينٌ في غير ضعف، وشدةٌ في غير عنف. إني أقسمُ بالله لآخُذنَّ الولي بالمولىَ، والمقيمَ بالظاعن، والمقبل بالمُدبر، والصحيحَ منكم في نفسه بالسقيم حتى يَلْقى الرجلُ منكم أخاه فيقول: انْجُ سعدٌ فقد هلك سُعَيد أو تستقيمَ لي قناتُكُم.
إن كذبَة المنبر. بلقاءُ مشهورةٌ، فإذا تعلقتم على بكذبة فقد حل لكم معصيَتي. من نُقِبَ عليه منكم فأنا ضامنٌ لمَا ذهب منه، فإيايَ ودلج الليل، فإنِّي لا أوتَى بمُدلِج إلا سفكْتُ دمه وقد أجَّلتكُمْ في ذلك بقدر ما يأتي الخبرُ إلى الكوفة، ويرجعُ إليكم. وإياي ودعَوى الجاهلية، فإنِّي لا أجد أحداً دَعَا بها إلا قطعتُ لسانَهُ. وقد أحدثْتُم أحداثاً لمْ تكن، وقد أحْدثْنا لكلِّ ذنبٍ عقوبةً، فمَنْ غرَّق قوما غرَّقْناه، ومن أحْرق على قومٍ أحْرَقناه ومَنْ نقَب على قوم بيتاً نقَبْنا عنْ قلبه، ومن نَبش قبرً دفنَّاه فيه حَيَّاً كُفُّوا عني أيْديكُم، وألْسنتكُم أكُفَّ عنكم يدي ولساني. ولا يظْهُر مْن أحدكم خلافُ ما عليه عامكم إلا ضربْتُ عُنقَهُ. وقد كانت بيني وبيْن أقوام إحنٌ فجعلُتُ ذلك دبْرَ أذُني، وتحت قدمي، فمنْ كان منكم مُحْسناً فليزدَدْ إحساناً، ومَنْ كان مُسيئاً فليرْتدعُ عن إساءته. إني لو علمتُ أن أحدَكُم قد قتلهُ السُّل منْ بُغْضي لم أكشف عنه قناعاً، ولم أهُتكْ له ستراً حتى يُبْدي لي صَفحتهُ، فإذا فعَل لمْ أناظرهُ فاسْتأنفُوا أمُوركُم، وأعينُوا على أنْفُسكم، فُرب مُبْتئس بقُدُومنا سَيُسَرُّ، ومسرور لقُدومنا سَيبْتئسُ.
أيُّها الناس: إنا أصْبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادةً، نُسوسُكم بُسلْطان الله الذي أعْطاناهُ، ونذُودُ عنكم بفيءٍ الله الذي خَولَنا. فلنا عليكم السمْعُ والطاعةٌ فيما أحْببْنا، ولكن علْينا العَدْلُ فيما ولِينا. فاستوجبُوا عَدْلنا وفيْئنا بِمُناصحَتِكُمْ لنا.
واعلموا أني مُهَما قصَّرتُ عنه فلن أقصِّرَ عن ثلاث: لستُ مُحْتجباً عن طالب حاجةٍ منكم، ولن أتاني طارقاً بليل، ولا حابساً عطاءً ولا رزُقا عن إبانه، ولا مُجمِّراً لكم بعْثاً، فادْعوا اللهب الصلاح لأئمتِّكم، فإنهم ساستُكُم المؤُدِّبون، وكهفُكمُ الذي إليه تأوُون. ومتى صلحُوا تصَلْحُوا، ولا تْسْرِبوا قلوبكم بعْضَهُم فيشتد لذلك غيظكُمُ، ويطول لذلك خُزْنكمُ، ولا تُدْركُوا حاجَتكم مع أنه لو اسْتُجيب لكم فيهم كان شراً لكم. أسْأَلُ الله أنْ يُعين كُلاً على كُلٍّ.
وإذا رأيتْمُوني أنفذُ فيكم الأمرَ فأنفذُه على أذْلاله، وأيْمُ الله إن لي فيكم لصَرْعى كثيرةً. فليَحْذرْ كل امرئ أنْ يكون من صَرْعاي.
قال: فقام عبدُ الله بنُ الأهتم، فقال: أشهدُ أيها الأميرُ لقد أوتيت الحكمة وفصْل الخطاب. فقال له: كذبْت. ذاك نبي الله داود صلى الله عليه وسلم.
فقامَ إليه الأحْنفُ ابنُ قيْس، فقال: إنما الثناءُ بعْدَ البلاء، الحمدُ بعد العطاءِ، وإنا لا نُثْنِي حتى نبْتلي، ولا نُحمدُ حتى نُعْطَى.
فقال زياد: صدّقْتُ.
قال: فقام أبو بلال يهمسُ وهو يقولُ: أنْبأَنا اللهُ - جل وعز - بغير ما قُلت. قال اللهُ تباركَ وتعالى: وَإبْراهيمَ الذي وَفى. ألا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخْرَى. وأن لَّيْسَ للإنسانِ إلا ما سَعَى. وأنَّ سعُيَهُ سوف يُرَى. ثُم يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفىَ وأنت تزْعُم أنك تأْخُذُ الصحيحَ بالسقيم، والطيع بالعاصي، والمُقْبِلَ بالمُدْبرِ.
فسمعها زيادٌ، فقال: إنَّا لا نبلُغُ ما نُريدُ بأصْحابك حتى نَخُوضَ إليكمُ الباطل خَوضاً.
وقال يوم على المنْبر: إن الرجلَ ليتكلَّم بالكلمة لا يقطع بها ذنبَ عنز مَصُور لو بَلغتْ إمامه سَفكَت دمَهُ.
وقال. ما قرأت كتابَ رجل قطُّ إلا عرفتُ عَقْلَهَ فيه.
وخطب فقال: استوصُوا بثلاثة منكم خيراً: الشريف، والعالم، والشيخ، فوالله لا يأتيني شَريفٌ يستخفُّ به إلا انْتقمتُ منه، ولا يأتيني شيخٌ بشاب استخف به إلا أوجعتُه، ولا يأتيني عالمٌ بجاهل استخف به إلا نكلتُ به.
قيل لزياد: ما الحظُّ؟ قال: منْ طالَ من عُمُرهُ، ورأى في عَدوِّه ما يَسُرهُ فهو ذُو حظٍّ.
وكان يقول: هُما طريقان للعَامة: الطاعةُ، والسيفُ.
وكان المغيرةُ بن شُعبة يقول: لا والله حتى يُحمَلْوا على سبعون طريقاً قبلَ السيف.
قال رجلٌ للحسن بن أبي الحسن: ألا أحَدِّثُك بخطبة زياد حين دخَل العراقَ، وخطبة الحجاج حين قدمَ البصرةَ.
أما زيادٌ فحمد الله - عز وجل - وأثْنَى عليه، ثم قال: إن معاوية غيرُ مخوف على قومه، ولم يكُنْ ليْلْحِق. بِنَسبه مَنْ ليس منهُ. وقد شَهدتِ الشُّهودُ بما قَد بَلغَكُم، والحقُّ أحَقُّ أن يُتَّبعَ. واللهُ حيثُ وضعَ البيِّنات كان أعلمَ. وقد رَحلتُ عنكم وأنا أعرفُ صديقي من عدوي وَقَدْ قدمت عليكم وَقَدْ صار العدو صديقاً مناصحاً والصديق عدُوا مُكاشحاً، فاشتمل كلُّ امرئ على ما في صدرِه، ولا يكونَنَّ لسانُه شفْرةً تجري على ودَجِه وليعلم أحدُكم إذا خلا بنفْسه أني قد حملتُ سيفي بيده، فإنْ شَهرهُ لم أغُمدْهُ، وإنْ أغُمَدهُ لم أشْهره. ثم نزل.
وأما الحجاجُ فقال: مَن أعياه داؤهُ فعلينا دوَاؤه، ومن استَعجَل إلى أجله فعلينَا أنْ نُعجلَه. ألا إن الحزْمَ والجِد استلَبا مني سَوطِيَ، وجعلا سوطي سيفي، فنجادُهُ في عنقي وقائِمُه بيدي، وذُبَابُه قِلادةٌ لمن اغترني.
فقال الحَسنُ: البؤسُ لهما. ما أغرهما بربِّهما!!؟ اللهم اجعلنا مِمِّنْ يعُتبُر بهما.
قال بعضهُم: ما رأيتُ زياداً كاسِراً إحدى عينْيِه، واضعاً إحْدى زِجْليه على الأخرى، يخاطِبُ رجلاً إلا رحِمْتُ المخاطبَ.
قال عُبْيدُ الله بنُ زياد: نِعم الشيءْ الإمارةُ لولا قَعْقَعةُ البَريد، وتَشرفُ المنبرِ.
تَذَاكُروا عِنْد يزيدَ البصرة والكوفَة، فقال زيادٌ: لو ضلِّت البصرةُ جعلتُ الكوفة لمن دَلِّني عليها.
سمع زيادٌ رجلا يُسبُّ الزمان: فقال: لو كان يدْري: ما الزمانُ. لضربتُ عُنقَه. إن الزمان هو السُّلطانُ.
قالب زيادٌ لحاجبه: يا عجلانُ، إني ولُيتُك هذا الباب، وعزلْتُكَ عن أربعة: عزلتُك عن هذا المنادي إذا دَعَا للصلاة، وفلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل، فشر ما جاء به. ولو جاء بخير ما كنتَ من حَاجبه. وعن رسول صاحب الثغر، فإن إبطاء ساعة يُفسد تدبيرَ سنة فأدخله على وإن كنتُ في لِحَافي. وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه فإنه إذا أعيد عليه التسخينُ فَسدَ.
وقال يُعجُبني من الرجل إذا سيمَ خُطة الضيم أن يقول: لا يملئ فيه وإذا أتى نادي قومٍ عَلمَ أين ينبغي لمثله أن يجلسَ، فجلسَ. وإذا ركب دابةً حمَلها على ما يُحب، ولم يَتبعْها إلى ما يكرَهُ.
وكان حارثةٌ بنُ بدر الغُدَاني قد غلبَ على زياد - وكان الشراب قد غلب عَليه - فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو مُستهترٌ بالشراب فقال زياد: كيف بأطراح رجل هو يُسايُرني؟ قد دخلت عليه العراق، فلم يصك ركابي ركاباه وما راكبني قط فسمت ركبتي ركبتُه ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخًّر عني فلويتُ عُنقي إليه، ولا أخذ علي الشمسَ في شتاءٍ قط، ولا الرَّوْح في صيف قط، ولا سألْتُه عن علْمٍ إلا ظنتُه لم يُحسن غيرَه.
فلما مات زياد جفاهُ عبيد الله، فقال له حارثةُ: أيها الأميرُ. ما هذا الجَفاءُ. مع معرفتك بإحلال عند أبي المُغيرة؟ فقال له عُبيدُ الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بُروعاً لا يلحقُه معَهُ وأنا حَدَثٌ، وإنما أُنَسبُ إلى مَن تغلَّب علىَّ، وأنت رجلٌ تُديم الشراب، فمتى قرَّبتُك، فظهرت رائحةُ الشراب منك لم آمَن أن يُظن بي. فدع النبيذ، وكُن أول داخل، وآخر خارج.
فقال له حارثةُ: أنا لا أدَعُه لمن يملكُ ضري ونفعي. أفأدعُه للحال عندك؟ قال: فاختر من عملي ما شئت. قال: تُولِّيني رامهرمز فإنها أرضٌ عَذِيَة وسُرَّق وإنَّ بها شراباً وصف لي عنه فولاه إياهُ. وفيه قيل: أحُارِ بن بدر قد وَليت ولايةً فكُن جُرذاً فيها تَخُونُ وتَسْرِقُ.
وقال زياد: كفى بالبخيل عاراً أن أسمه لم يقع في حَمد قطٌّ، وكفى بالجواد مجداً أن اسمَه لم يقع في ذم قط.
وكان عبيدُ الله بن زياد قد لج في طلب الخوارج، وحَبْسهم، وقتلهم، فكُلِّم في بعضهم فأبى وقال: أقمَعُ النفاق قبْل أن يُنجِمَ الكلامُ هولاً أسْرع إلى القلوب من النار إلى اليراع.
وقال زيادٌ: المْحظُوظُ المغبوطُ. مَن طال عمرُه، ورأي في عدوه ما يُسرهُّ.
وقال: مِلاكُ السلطان الشدةُ عل المُريب واللين للمُحْسن، والوفاءُ بالعهد، وصدقُ الحديث.
وقال عبيدُ الله بنُ زياد: نعم الشيء الإمارةُ لولا قعْقعَةُ البريد، والتشرُّفُ للخُطب.
وخطب بالبصرة بعدَ موْت يزيد فقال: يا أهل البصرة. انُسبوني، والله ما مُهاجَرُ أبي إلا إليكم، وما مَوْلدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجلٌ منكم. والله لقد وَليَكُم أبي ومَا مُقاتِلتُكم إلا أربعون ألفاً. ولقد بَلغ بها ثمانين ألفاً. وما ذُرِّيتُكُم إلا ثمانون ألفاً. وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف. وأنتم أوسعُ الناس جِلادا، وأبعدُه مَقاداً، وأكثره جنوداً، وأغنى الناس عن الناس. انظروا رجُلاً تُولُّونه أمركمُ، يكُفُّ سُفهاءَكم، ويَجبْي فيْئكم، ويقسمُهُ بينكم، فإنما أنا رجلٌ منكم. فلما أبَوْا عليه قال: إني أخافُ أن يكون الذي يَدْعوكُم إلى تأميري حداثةُ عهدٍ بأمْري.
وقال زياد: ما أتيْتُ قطُّ مجلساً إلا تركتُ مَا لو أخذتُه لكان لي. وترْكُ مالي أحَبُّ إلي من أخذ ما ليْس لي.
وقال: ما قرأتُ مثل كُتُب الربيع بن زياد الحارثي؟ ما كتب إلى كتاباً إلا في احتواء منفعة، أو دَفع مضرة، ولا كان في موْكب قطُّ فتقدم عنانُ من دابته عنانَ دابتي، ولا مست رُكبتُهُ رُكبتي، ولا شاورتُ إنساناً قد. في أمر إلا سبقهُ إلي بالرأي.
لما بنى عُبيدُ الله بنُ زياد البَيْضاءَ كتب رجلٌ على بابها: شيء ونصفُ شي، ولا شيء: الشيءُ: مجهدان، ونصفُ شيءٍ: هد شيء أشما، ولا شيءً: عبيْد الله بن زياد فقال عُبيدُ الله: اكتُبوا إلى جنبه: لولا الذي زعمْت أنه لا شيء، لما كان ذلك الشيءُ شيئاً ولا ذاك النِّصفُ نصفاً.
ولما وردَ الحارثُ بنُ قيس الجَهضمي بعبيد الله بن زياد مَنزل مسْعود بن عَمْرو العَتكي من غير إذن، وأراد مسعودٌ إخراجه عن منزله - قال عبيدُ الله. قد أجَارتني ابنةُ عمِّك عليك، وعقدُها العقدُ الذي لا يُحَلّ، ويلزُمك وهذا ثوبها علي، وطعامُها في مَدَاخري وقد ألْتَفَّ علي منزلُها. وشهد لهُ الحارثُ بذلك.
وأشارُوا مَرةً على عبيد الله بالحقنّة فتفحشها، فقالوا: إنما يتولاها الطبيبُ. قال: أنا بالصاحب آنس.
وقال زياد: لا يغُرنك من الجاهل كثرةُ الالتفاف، وسرعةُ الجواب.
قدم رجلٌ إلى زياد، فأمرَ بضرْبه بالسياط، فقال: أسأَلُك بحق عُبَيد قال: دَعوه إلا يكُن والداً فقد كان أباً.
قدم زياد فخطب خُطبةً أعجبت مَن حضرهُ، فقال عَمْرُو بنُ العاص: للهِ أبو هذا!! لو كان قُرشيا لساق العرب بعصَاه.
قال أبو سُفيان: أمَا والله إني لأعرفُ أباه، والذي وضعَهُ في رحم أمِّه. فقال له علي - عليه السلام - : مَه يا أبا سفيان، فإنك تعلم أن عمَر إليك بالمساءَة سريعٌ. فلما كان زمنُ علي عليه السلام، وولي زيادٌ فارسَ تأوي إليها بالليل كما تأوي الطير إلا وُكُورها، وأيْمُ الله، إنه لولا انتظاري بك ما الله أعلم به، ولقلت كما قال العبد الصالح: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بجنودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بها ولنُخرْجَنَّهم منها أذلةً وهُمْ صاغرون.
وكتب في أسْفل كتابه شعراً يقول فيه:
تَنْسَى أباك وقد خفَّتْ نعامتُه ... إذا تخطبُ الناسَ والوَالي لنا عُمَرُ
فقام زياد فخطب، ثم قال: والعَجَبُ كُل العَجب أن ابن آكلة الأكباد، ورأس النِّفاق يُهددني وبيني وبينه ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوجُ سيِّدة نساءِ العالمين، وأبو السِّبْطين، وصاحبُ الوَلاء والمنزلة والإخاء: أمَا والله لو يَأذنُ لي فيه لوجَدني أحُمرَ مِحَشًّا ضَرْوباً بالسيف قال: وكتب إلى علي عليه السلام بما كتب إلى معاويةُ، فكتب إليه علي عليه السلام.
أما بعد فإني وَليتك ما وليتُك، وأنا أراك لذلك أهْلاً. وإنه قد كانت من أبي سُفيان فلتةٌ لزمان عُمر من أماني التيه. وكذب اليقين لم تستوجبْ بها ميراثاً، ولم يستحق بها نسباً. وإن معاوية يأتي الرجل منْ بين يديه من خَلفه، وعن يمينه وعن شماله كالشيطان الرجيم. فاحذَرْه ثم احذرْه. والسلامُ.
فلما كان زمنُ معاوية، وقدم عليه زيادٌ جمعَ مُعاوية الناس، وصعد المنبر، وأصعدَ زياداً معه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناسُ، إني قد عرفتُ شَبَهنا أهْلَ البيت في زياد. فمَن كانت عنده شهادةٌ فليَقُمْ بها. فقام الناسُ، فشهدُوا أنه ابنُ أبي سُفيان، وأقر به قبل موته.
ثم قام أبو مريم السلُولي - وكان خَماراً في الجاهلية - فقال: أشْهدُ - يا أمير المؤمنين - أن أبا سفيان قدم علينا الطائفَ، فأناني فاشتريتُ له لحماً، وخمراً، وطعاماً. فلما أكل قال: يا أبا مريم، أصبْ لنا بغياً. فخرجتُ أتيتُ سُمية فقلتُ لها: إن أبا سفيان مَنْ قد عرفت شرفَه وحاله. وقد أمرني أنْ أصيب له بغياً، فقالت لي: نعم يجيءُ الآن عُبيدٌ من قبَلِ غنمه - وكان راعياً - فإذا تعشى، ووضع رأسَه أتيتُه فرجعتُ إلى أبي سفيان فأعلمتُه.
فلم تلبثُ أن جاءت تجُرُّ ذيلَهَا، فدخلت معه، فلم تزلْ عنده حتى أصبحتْ فقلتُ لما انصرفتْ: كيفَ رأيتَ صَاحبتَك؟ فقال: خَيْر صَاحب لولا دَفرٌ في إبطَيْها. فقال زياد منْ فوق المنبر: مَهُ يا أباَ مريْمَ: لا تشتمْ أمهات الرجالِ فتُشتَمَ أمكَ.
ثم قام زياد، وأنْصت الناسُ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناسُ: إن معاوية والشهودَ قد قالوا ما سمعتُم، ولستُ أدري حق هذا منْ باطله، وهو والشهودُ أعلمُ بما قالوا: وإنما عبيدٌ أبٌ مبْرورٌ أو والدٌ مشكور. ثم نزل.
وقال الشعبي: قَدم زيادٌ الكوفةَ فدنوْتُ من المنبر لأسمعَ كلامَه فلم أرَ أحداً يتكلمُ فيُحسن إلا تمنيت أنْ يسكتَ مخافةَ أن يُسيءَ غيرَ زياد، فإنَّه كان لا يزدَادُ إكثاراً إلا ازدادَ إحساناً. فقال بعد أن حمدَ الله: إن هذا الأمرَ أتاني وأنا بالبصرة، فأردتُ أن أخُرجَ إليكم في ألفين مِنْ شُرطِها. ثم ذكرتُ أنكم أهلُ حقٍّ، وأن الحقّ طالما دَفعَ الباطلَ. فخرجتْ إليكم أهل بيتي.
فالحمد لله الذي رفع منَّا ما وضع الناسُ، وحفظ منا ما ضيعوا.
أيها الناس: إنا سُسنا وساسَنا السائسون، وجَرَّبْنا، وجربَنا المجَرِّبون، فوجدنا هذا الأمرَ لا يُصلحُنه إلى شدّة من غير عُنف، ولينٌ في غير ضعف، فلا أعلمَنَّ أنَّا أغلقْنا باباً ففتحتُموه، ولا حللْنا عَقْدا فشدَدتُموه. وإني لا أعدُكم خيراً ولا شراً إلا وفيتُ به، فإذا تعلقتُم على بكذبة فلا ولاية لي عليكم.
وإني آمُرُكم بما آمُرُ به نفسي وأهلي فمَنْ حال دون أمري ضربتُ عنقه.
ألا وأني لا أهْتكُ لأحد منكم سِتْراً، ولا أطلع منْ وراء باب، ولا أقيلُ أحداً منكم عَثْرةً.
قال: فحَصبْوه من كل جانب فجلَس على المنبر حتى سكتُوا وأمسكوا ثُم نادى الشرط، فأخذوا بأبواب المسجد، وألقى كُرسياً على بعض الأبواب ثم عَرضَ الناسَ أربعةً أربعةً يستحلفهُم، فمن حلف أنه لم يحصبه تركه، ومن أبى حبَسَه.
قال: فقطع يومئذ أيدي ثمانين إنساناً ممنْ لم يحلف.
فقال الحسن البصري: أوعدَ عمرُ بنُ الخطاب فُعوفي وأوعدَ زيادٌ فابتُلي وقال أيضاً: تشبه زيادٌ بعمرَ فأفْرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهْلك الناسَ.
قال زيادٌ لابنه: إذا دخلْتَ على السُّلْطان فادعُ له، ثم اصفح عنه صفْحاً جميلاً. ولا يَرينَّ فيك تهالُكاً عليه ولا انقباضاً منه.
وسمع رجلاً يدعو عليه وهو يقول: اللهمَّ اعزلْ عنا زيادا. فقال له: قل، وأبْدلْنا به خيراً منه.
وقال لابنه عبيد الله عند موته: لا تدنِّس عرضْك، ولا تَبْذُلَّن وجهك، ولا تُخْلقن جدتك بالطلب إلى مَنْ ردك كان ردُّه عليْكَ، وإنْ قضَى، حاجتَك جعلَها عليْك مَنًّا. فاحتمل الفقرَ بالتنزُّه عما في يد غيرك، والزم القناعةَ بما قُسم لك، فإن سُوء حمل الفقر يَضعُ الشريف، ويُخْملُ الذِّكْر، ويُوجبُ الحرمانَ.
قال زياد: يُعجُبني من الرجل إذا أتى مجلساً أنْ يعلمَ أيْنَ مكانُهُ منْه فلا يتعداه إلى غيره، وإذا سيمَ خُطةَ خسف أنْ يقول: لا، بملء فيه.
الباب الثاني
كلام الحجاج
خطب فقال: أيها الناسُ. من أعْياه داؤه فعنْدي دَواؤه، ومن اسْتبط أجله، فعلى أنْ أعجِّله. ومَنْ ثَقْلَ عليه رأسُه وضَعْتُ عنه ثِقلَه، ومن استطال ماضي عمره قصرْتُ عليه باقيَهُ: إنّ للشيطانِ طيفاً، وللسُّلطان سَيْفاً، فمن سَقمتُ سريرَتُه صحت عقوبتُه، ومَن وضعَه ذنُبه رفعهُ صَلُبه، ومَن لم تسَعْهُ العافيةُ لم تضق عنه الهلكةُ. ومن سبقتهُ بادرةُ فمه سَبقَ بدنَهُ بسفك دَمه.إني أنذرُ ثم لا أنظرُ، وأحذِّر ثم لا أعْذِر، وأتوعَّد ثم لا أغْفِر. إنما أفْسدكُم تَرْنيقُ ولانكمُ. ومَنْ استرخى لببُه ساء أدبُه.
إن الحزم والعزم سلباً مني سوطي، وأبدلاني به سيفي، فقائمهُ في يدي ونِجَادُه في عنقي، وذُبابُه قلادةٌ لمَنْ عصاني. والله لا آمُر أحَدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخْرجَ من الباب الذي يليه إلاّ ضربتُ عنقه.
وخبط لما أراد الحج، فقال: أيها الناسُ. إني أريدُ الحجَّ، وقد استخْلفتُ عليكم ابني. وأوصيتُه بخلافِ وصية النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنَّه أمرَ أن يُقبلَ منْ مُحسنهم، ويُتجَاوز عن مُسيئهم: ألا وإني أوصيتُه ألا يقبل من مُحسنكم، ولا يتجاوز عن مُسيئكم. ألا وإنكُم سَتقولُون بعّدي: لا أحْسن الله له الصِّحابة. ألا وإني مُعجِّلٌ لكم: لا أحْسنَ الله عليكُم الخلافةَ.
وقال الحجاجُ لأنس بن مالك حين دخل إليه في شأْن ابنه عُبيد الله وكان خرج مع ابْن الأشَعث - لا مرحباً ولا أهْلاً. لعنه الله عليك منْ شيخ جَوَّالٍ في الفتن، مرةً مع أبي تُراب، ومرةً مع ابن الأشعث. والله لأقْلعنك قلْع الصمغة ولأعصبنّك عَصب السَّلَمة، ولأجردنَك جردَ الضبِّ. قال أنسُ: مَنْ يَعْنِي الأميرُ؟ قال: إياك أعْني. أحمَّ اللهُ مَدَاك.
فكتب أنس بذلك إلى عبد الملك، فكتب عبدُ الملك إلى الحجاج يَا بن المستفرمة بعَجم الزبيب. لقد هممتُ بأن أرْكُلك ركْلةً تهوى منها إلى نار جَهنَّم. قاتلك الله أخْيفش العينين، أصَكَ الرجلين أسود الجاعرَتين.
وخطب الحجاج يوماً فقال في خطبته: والله ما بقي من الدنيا إلا مثلُ ما مَضى، ولهو أشبهُ به من الماء بالماء. والله ما أحبُّ أنَّ ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه.
وقال على المنبر يوماً: والله لألحونكم لحوَ العصَا، ولأعصبنَّكُم عصب السَّلمة، ولأضْربنكم ضرب غرائب الإبل. يأهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوي الأخلاق. إني سمعتُ لكم تكبيراً ليس بالتكبير الذي يُراد به اللهُ في الترغيب، ولكنه التكبيرُ الذي يُراد به الترهيبُ. وقد عرفْنا أنها عجَاجةٌ تحتها قصْفٌ. أي بَني اللكيعة، وعبيدَ العصا، وأبناءَ الإماء. إنما مَثلى ومثلكم ما قال ابنُ براقة الهمدَاني:
وكنت إذا قومٌ غزوْني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يَالَ همدان ظالمُ؟
متى تجمع القلب الذكي وصارماً ... وأنْفاً حميا تجتنْبك المظالمُ
أما والله لا تقْرعُ عَصاً عصاً إلا جعلتُها كأمس الذَّاهب.
قال مالكُ بن دينار: رُبَّما سمعت الحجاج يذكُر ما صنع به أهلُ العراق، وما صنَع بهم، فيقعُ في نفسي أنه يظْلمُونه لبيانه، وحسن تخلُّصه للحُجَج.
وخطبَ الحجاج مرةً فقال: اللهم أرني الغي غياً فأجتنبَه، وأرني الهُدي هدى فأتبعه، ولا تكلْني إلى نفْسي فأضل ضلالاً بعيداً. والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشْبهُ بما مضى من الماء بالماء وخطب بعد دَير الجَماجم فقال: يا أهل العراق. إن الشيطان قد استبطنكم فخالط. اللحمَ والدمَ والعصب والمسامع، والأطراف، والأعضاء، والشغاف، ثم أفْضى إلى الأمخاخ والأصْماخ، ثم ارتفع فعَشش، ثم باض ففرخ، فحشاكم نفاقاً وشقاقاً، وأشعركم خلافه. اتخذتموهُ دليلاً تتبعُونه، وقائداً تُطيعونه، ومؤآمِراً تستشيرونه. فكيف تنفعكُم تجربةٌ، أو تعظكم وقعةٌ، أو يحجزُكم إسلامٌ، أو ينفعكم بيان؟ ألستُم أصحابي بالأهواز حيث رُمتم المكَر، وسعيتُم بالغدر، واستجمعتُم للكُفْر. وظننْتُم أن الله يخذُلُ دينه وخلافته، وأنا أرمْيكُم بطرْفي، وأنتم تتسللُون لوَاذاً، وتنهزمون سِرَاعاً؟ ثم يوم الزاوية، وما يومُ الزّاوية!! بها كان فشَلكم وتنازعكُمُ وتخاذُلكم وتجادُلكم، وبراءةُ الله منكم، ونكوص وليكم عنكم، إذْ وليتُم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها. لا يسألُ المرءُ عن أخيه، ولا يلوي الشيخُ على بَنيه، حين عضكم السلاحُ، ووقصتْكم الرِّماحُ.
ثم دَير الجماجم، وما ديُر الجمَاجم!! بها كانت المعارك والملاحمُ، بضرب يُزيلُ الهام عن مَقيله، ويْذْهل الخيل عن خليله.
يا أهل العراق. الكَفَرات بعد الفَجرات، والغَدرات بعد الخَتَرات، والنزْوة بعد النزوات!! إنْ بعثتكُم إلى ثُغوركم غلْلُتم وجَبْنتم، وإن أمنْتُم أرْجفْتم، وإنْ خفتم نافقْتُم لا تتذكرون حسنةً، ولا تشكرون نعمة. هل استخفّكُم ناكثٌ أو استغواكم غاو؟ أو استفزكم عاص، أو استَنْصركم ظالم، أو استعْضَدَ بكم خالع إلا تبعتُموه، وآويتموه ونصرتموه وزكّيتموه؟ يا أهلَ العراق، هل شغَبَ شاغب، أو نعب ناعبٌ، أو زفر كاذبٌ إلا كنتُم أتباعَه وأنْصَاره؟ يا أهل العراقِ، أو لم تنهكُم المواعظُ، ولم تزْجركم الوقائعُ؟ ثم التفت إلى أهلِ الشام فقال: يا أهل الشام: إنما أنا لكم كالظَّليم الرامح عن فِراخه ينْفي عنها القَذَرَ، ويباعد عنها الحجرَ، ويَكنُّها من المطر ويحميها من الضِّباب، ويحرسُها من الذِّئاب.
يا أهل الشام، أنتُم الجُنة والرِّداء، وأنتم العُدّة والحذاءُ.
هذه خطبة أخرى قال مالكُ بنُ دينار: غدَوتُ إلى الجمعة، فجلست قريباً من المنبر، فصَعد الحجاجُ ثم قال: امرؤ زوَّر عملهُ، وامُرؤ حاسب نفْسَه، امرؤ فكر فيما يقرؤه غدا في صَحيفته، ويراه في ميزانه. امُرؤُ كان عند قلبه زاجرٌ، وعند همه أمرٌ، أخذٌ بعنان قلبه كما يأْخُذُ الرجل بخِطام. جَمَله، فإن قادهُ إلى طاعة الله تبعه، وإن قادَهُ إلى معصية الله كفه.
وكان يقول: إنا والله ما خُلقنا للفناء، وإنما خُلقنا للبقاء، ولكن نُنقل من دار إلى دار.
وخطب يوماً فقال إن الله أمَرنا بطلب الآخرة. وكفانا مئُونة الدنيا، فليتنا كُفينا مُونة الآخرة، وأمِرْنا بطلب الدنيا.
فقال حسن: ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق.
وأهدي إلى عبد الملك فرساً وبغلةً وكتب إليه: وجهتُ إلى أمير المؤمنين فرساً سهل الخدِّ، حسن القدِّ، يسبقُ الطرف، ويستغرقُ الوصف وبغلةً هواها زمامُها وسوطُها.
وكان يقول: العفو عن المُقرِّ لا عن المُصر.
وقال: الكوفةُ امرأة حسناءُ عَاطل، والبصرةُ عجوزٌ درداء، قد أوتيت من كل شيء.
وقال بعضهم، سمعتُ الحجاج يقول - وقد أذن فلم تجتمع إليه الناس - : يُدعى: حي على الصلاة، فلا تُجيبون. أمَا والله لو دُعي: حي على أربعة دراهمَ لغص المسجد بأهله.
وقال ابنُ الكلْبيِّ عن أبيه: قاتِل الحُسَين - عليه السلام - قد دخل إلى الحجاج فقال: أنت قتلت حُسيناً؟ فقال: نعم قال: وكيف قتلتهُ؟ قال: دَسَرْتُه بالرمح دَسْراً، وهبَرتُه بالسيف هبراً، ووكلتُ رأسَه إلى امرئٍ غير وكد.
فقال الحجاجُ: والله لا تجتمعان في الجَنة أبداً. فخرجَ أهلُ العراق يقولُون: صدَق الأميرُ. لا يجتمعُ - والله - ابن رسول وقاتله في الجنة أبداً.
وخرج أهلُ الشام يقولون: صدَق الأمير. ولا يجتمع مَن شق عصا المسلمين، وخالف أميرَ المؤمنين، وقاتلهُ في طاعة الله - في الجنة أبَداً.
وقال يوما على المنبر: يقول سليمانُ: ربّ اغفرْ لي وَهبْ لي مُلكاً لا ينبَغي لأحد من بعدي إن كان لَحَوداً.
وكتب إلى عبد الملك كتاباً يقول فيه: كنتُ أقرأ في الصُحف، فانتهيتُ إلى قوله الله عزّم وجل: فأولئك مَعَ الذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشُّهدَاء والصالحين فأردتُ أن أزيدَ فيها: والخلفاء قال. فجعل عبد الملك يقول: ما للحجاج!! قاتلهُ اللهُ.
وقال له بعضُ ولاة الحجاز: إن رأي أميرُ المؤمنين أن يستهديني ما شاءَ فليَفعل.
قال: أستهديك بغلةً على شَرْطي. قال: وما شَرْطُك؟ قال: بغلةٌ قصير شعْرُها، طويلٌ عِنانُها، همُّها أمامَها، وسوطُها لجامُها، تستبينُ فيها العلفة، ولا تهزلها الركبة.
وقال يوما لجلسائه: ما يُذهبُ الإعياءَ؟ فقال بعضهم: التمرُ. وقال آخر: التمزح وقال آخر: النومُ. قال: لا، ولكن قضاءُ الحاجة التي أعْيَا بسببها.
أتى بدواب لابن الأشعث، فإذا سماتُها عدةٌ، فَوسَم تحت ذلك للفرار.
كتب الحجاجُ إلى قتيبة: لا تهجنن بلاءَ أحد من جُندك وإن قل، فإنك إذا فعلت ذلك لم يرغب أحدٌ منهم في حُسْن البلاءِ. وأعْط الذي يَأتيك بما تكره صادقاً مثل الذي يأْتيك بما تحبُّ كاذباً، فإنك إن لم تفعل غرُّوك ولم يأْتوك بالأمر على وَجهه. واعلمْ أنه ليس لمكذوبٍ رأيٌ، ولا في حسود، حيلة.
وقال لكاتبه: لا تجعلن مالي عند من لا أستطيع أخذه منه. قال: ومَنْ لا يستطيع الأميرُ أن يأخذه منه؟ قال: المُفلس.
وكتب الوليد بن عبد الملك إليه يأْمُره أن يكتب إليه بسيرته. فكتب إليه: إني قد أيقظت رأيي، وأنمت هواي، فأدنيت السيِّدَ المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازمَ في أمره، وقلدت الخراج الموفِّر لأمانته، وقسمت لكل خصْم من نفسي قسْماً أعطيه حظاً منْ نظري، ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النِطف. المسيء والثواب إلى المُحسن البريء، فخاف المُريب صولة العقاب. وتمسك المحسن بحظِّه من الثواب.
وقال: لأطلبن الدنْيا طلب من لا يموت أبداً ولأنفقَنَّها كمَنْ لا يعيش أبداً.
وخطب فقال: يا أهل العراق: إن الفتْنة تلْقح بالنجْوى، وتنبَح بالشكْوى، وتحْصدُ بالسيف. أمَا والله لقد أبغضتموني فما تضرُّونني، ولئن أحبَبْتموني ما تنفعونني. وما أنا بالمُسْتوحش لعدَاوتكم، ولا المُسْتريح إلى مودتكم. زعمتم أني ساحرٌ، وقد قال الله تعالى: ولا يفلح الساحرُ حيث أتى. وزعمتم أني أحسن الاسْمَ الأكبرَ. فلمَ تقاتلون من يعلم مَا لا تعْلمون؟ ثم التفت إلى أهل الشام، فقال: لأرواحُكم أطْيبُ منْ المسكِ، ولدنوُّكُم أنُس من الولد. وما مثلكُم إلا كما قال أخُو ذُبيان.
إذا حاولتَ في أسد فُجورا ... فإني لستُ منك ولست منِّي
هُمُ درعي التي استلاهتُ فيها ... إلى يوم النِّار وهمْ مِجَنِّي
ثم قال: يا أهل الشام، بل أنتُم كما قال الله عز وجل: ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادِنا المُرْسلين. إنَّهمْ لهم المنصورون.
قال بعضُهمْ: رأيتُ الحجاج وعنبسة بنَ سعيد واقفَيْن على دجْلة. فأقبل الحجاجُ، وقال عنبسةُ، إذا كنتَ في بلد يضعُفُ سلطانُه، فاخرجْ عنه، فإن ضعْف السلطان أضرُّ على الرعية منْ جُوده.
وكان يقُول: خيرُ المعْروف ما نعشتَ به عثرات الكرام.
ومما كفَّره به الفقهاءُ قولهُ: والناسُ يطُوفونُ بقبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنبره إنما يطُوفُون بأعْوادٍ ورِمَّة.
وقال يوماً: والله إن طاعتي أوجبُ من طاعة الله، لأن الله تعالى يقول: " فتقُوا الله ما استطعتُم فجعل فيه مثنويةً، وطاعتي لا مثنوية فيها.
وضرب رجلاً فقال: اعتديت أيُّها الأميرُ. فقال: فلا عُدْوان إلا على الظالمين.
وقف رجل له فقال: أصْلحَ اللهُ الأميرَ، جنى جَانٍ في الحي، فأُخذتُ بجريرته، وأسْقط عطائي. فقال: أمَا سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تُعْدى الصِّحاحَ مباركُ الجرب
ولُرب مأْخوذ بذنب صديقه ... ونجا المُقارِفُ صاحبُ الذنبِ
فقال الرجل: كتابُ الله أولى ما اتّبع. قال الله تعالى: مَعاذَ الله أن نأْخُذَ إلا مَنْ وَجَدْنا متاعَنا عنده. فقال الحجاجُ: صدقت. وأمَر بردِّ عطائه.
وقيل له - وقد احتُضر - : ألا تَتُوبُ؟ فقال: إن كانت مُسيئاً فليسَت هذه ساعةَ التَّوبة، وإن كنتُ مُحْسناً فليستْ ساعة الفزع.
لما نصبَ المنجنيق على الكَعْبةِ جاءت نارٌ فأحرقتِ المنجنيقَ، وامتنعَ أصحابه مِن الري، فقال الحجاجُ: إن ذلك نار القربان دلتْ على أن فعلكم مُتقبَّل.
وقال على المنبر: اقطَعوا هذه الأنْفسَ فإنها اسأل شيءٍ إذا أعطيتْ، وأعصي شيءٍ إذا سئلت. فرحمَ الله امرأً جعل لنفسه خطاماً وزماماً، فقادَها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن مَعصية الله، فإني رأيت الصبرَ عن محارمه أيسر من الصبر على عذابه.
وكان يقول: إنّ امرأً أتتْ عليه ساعةٌ من عُمُره لم يذكر ربه، ولم يستغْفر من ذنبه، أو يفكر في معَاده. لجديرٌ أنْ تطول حَسرته يومَ القيامة.
لما قتل الحجاج عبدَ الله بن الزُّبير ارتجتْ مَكة بالبكاء، فأمرَ الحجاج بالناس، فجمعُوا إلى المسجد، ثم صَعدّ المنبرَ، فحمد الله وأثْنى عليه، ثم قال: يا أهل مكة. بلغني إكْباركم واستفْظاعُكم قتل ابن الزُّبير. ألا وإن ابن الزبير، كان منْ أخُيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهْلها، فخلع طاعة الله، واستكنَّ بحرَم الله.
ولو كان شيءٌ مانعاً للعُصاة لمنعتْ آدمَ حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجَدَ له ملائكته، وأباحه جنته، فلما أخطأ أخرجَه من الجنة بخطيئته. وآدم على الله تعالى أكُرمُ من ابْن الزبير، والجنة أعظُم حرمةً من الكعبة. فاذكُروا الله يذْكرْكم.
وصعد المنبر بعد قتله ابن الزّبير مُتلثِّماً، فحطَّ. اللِّثامَ عنه، ثم قال:
مَوْجُ ليلٍ الْتَطَمْ ... فانجلي بضوء صبحه
يا أهل الحجاز. كيف رأيتموني؟ ألم أكشف ظلْمة الجور، وطخية الباطل بنور الحق. والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مُشْفق، عطفتْه رحمٌ، ووصْل قرابة.
فإياكم أنْ تنزلُّوا عنْ سَنن ما أقمناكم عليه، فأقطعَ عليكم ما وصَلْتُه لكم بالصارم البتَّات وأقيمَ من أوَدكم ما يقيم المُثقِّف من أوَد القنا بالنار. ها إليكم. ثم نزل وهو يقول:
أخو الحرب إن عضَّتْ به الحربُ عَضَّها ... وإنْ شمَّرتْ عن ساقها الحربُ شمرا.
وخطب ذات يوم فقال: إنه والله ما لكم عندي بُلهنيةٌ ولا رُفَهْنيةٌ، ولا رَبَغٌ عن التحلية. ولا أقول لمن عثر منكم: دعْ. دعْ. ولكن تعساً لليدين وللفمِ.
قال الحجاج لرجل من أهل الشام. وقد أتِىَ برجل: قم فاضربْ عُنقه فقال: أصلح الله الأميرَ، ولي نصْف أجرِه؟ فقال الحجاجُ: ما أهمُّ بأمر أرجو فيه القُربة والزُّلفة إلا نازعنيه شاميٌّ. اضرب عنقهُ، ولك ثلثُ أجره.
كان الحجاجُ إذا استغْرب ضحِكاً وإلى بين الاستغفارِ. وكان إذا صعد المنبر تلفَّعَ بمِطرَفه، ثم تكلَّم رويداً فلا يكادُ يُسمعُ منه، ثم يتزيَّدُ في الكلام حتى يُخرج يده مِن مطْرَفة يزجرُ الزْجرة فيقرعُ بها أقْصَى مَنْ في المسجد. وكان يُطْعُم في كلِّ يوم على ألف مائدة، على كل مائدة ثريدٌ وجَنب من شوَاء، وسمكةٌ طريةٌ. ويطافُ به في مِحَفَةٍ على تلك الموائد ليفتقدَ أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرةٌ. ثم يقول: يا أهل الشام. كسرْوا الخُبز لئلا يُعادَ عليكُم.
وكان له ساقيان: أحدُهما يسقي الماء والعسلَ، والآخر يسقي اللبن.
يروي عن محمد بن المُنتشر الهمداني، قال: دفع إلى الحجاج أزادْ مُرْد بن الهربذ وأمرني أن أستخرج منه، وأُغلِظَ له. فلما انطلقت به قال لي: يا محمدُ. إن لك شرفاً وديناً، وإني لا أُعْطى على القسْر شيئاً، فاستأْذِني، وارفُق بي. قال: ففعلت. قال: فأدّى إلي في أسبوع خمْسَمائة ألف. قال: فبلغ ذلك الحجاج، فأغضبَه، انتزعَه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب، فدق يديه برجليه، ولم يعطهم شيئاً.
قال محمد بن المُنتشر: فإني لأُمرُّ يوماً في السوق إذا صائح بي: يا محمدُ. فالتفتُّ فإذا به معُروضاً على حمار، مَوْثوقَ اليدين والرجلين فخِفْتُ الحجاج إن أتيتُه، وتذممت منه. فملت إليه فقال لي: إنك وليت منِّي ما ولي هؤلاء. فَرَفَقْت بي فأحسنت إلي، وإنهم صنعُوا بي ما ترى، ولم أعْطهم شيئاً. وها هنا خمسمائة ألف عند فلان. فخذها، فهي لك.
قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفٌ أجْراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً.
قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدِّثك: حدثني بعض أهل دينك عن نبِّيك صلى الله عليه وسلم، قال: إذا رضى الله عن قوم أمْطرهم المطرَ في وَقته، وجعل المال في سُمحَائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سَخِط الله على قوم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطرَ المطرَ في غير حينه.
قال: فانصرفت، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج يأْمرني بالمسير إليه. فألفيته جالساً على فرْشه. والسيف مُنْتضي في يده. فقال لي: ادْن. فدنوت شيئاً، ثم قال: ادْن. فدنوت شيئاً. ثم صاح الثالثة: ادْن. لا أبالك!! فقلت: ما بي إلى الدُّنوِّ من حاجة. وفي يد الأمير ما أرى. فأضحك الله سنه، وأغمد عني سيْفه. فقال لي: اجلسْ. ما كان من حديث الخبيث؟.
فقالت لَهُ: أيُّها الأميرُ. والله ما غششتُك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ اسْتخبرْتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. ثم حّدثتُه الحديث.
فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعْرض عنِّي بوجهه، وأوْمأ إلي بيده. وقال: لا تسمِّه. ثم قال: إنّ للخبيث نفساً، وقد سمع الأحاديث!!
روى عن عبد الملك بن عُمير اللَّيْثي قال: بيْنا أنا جالس في المسجد الجامع بالكوفة إذا أتاني آتٍ، فقال: هذا الحجّاج قد قدم أميراً على العراق، فإذا به قدْ دخل المسجد مُعُتماً بعمامة قد غطى بها أكثر وَجْهه، مُتقلِّداً سيّفاً، متنكباً قوساً، ويؤم المنبر. فقام الناسُ نحوه، حتى صَعد المنبرَ فمكث ساعة لا يتكلم. فقال الناسُ بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث يستعملون مثل هذا على العَراق. حتى قال عميْر بن ضابئ البُرجُمي: ألا أحصبُه لكم؟ قالوا: أمْهل حتى ننظرَ. فلما رأى عيون الناس إليه حَسَر اللثامَ عن فمه، ونهض فقال.
أنا ابنُ جَلا وطلاعُ الثنايا ... متى أضعِ العِمامَةَ تَعرفوني؟
والله يا أهل الكوفة، إني أرى رؤساً قد أينْعت، وحان قطافها، وإني لصاحُبها كأني أنظرُ إلى الدِّماء بيْن العَمائم واللِّحىَ:
هذا أوَانُ الشدِّ فاشتدِّي زِيَمْ ... قد لفها الليل بسَوِّاقٍ حُطمْ
ليس براعِي إبلٍ ولا غنمْ ... ولا بجَزَّارٍ على ظهْرِ وَضَمْ
قد لفها الليل بعصلبِيٍّ ... أروعَ خّرَّاجٍ من الدَّوى
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشّدوا ... وجدَّتِ الحربُ بكمْ فجِدُّوا
والقوسُ فيها وتَرٌ عَرُدُّ ... مثل ذراع البكر أو أشدُّ
إني - والله - يا أهل العراق، ما يقعْقع لي بالشِّنان، ولا يغمز جانبي كغمزْ التِّين، ولقد فُرِرتُ عن ذكاء، وفتِّشت عَن تجْربة. وإن أميرَ المؤمنين نثر كنانته، فعجمَ عيدانها عوداً عُوداً، فوجدني أمَرَّها عُوداً وأصلبها مكسراً، فرماكم بي، لأنكم طالما أوْضعتم في الفتنة واضطجعتم في الضلالة. والله لأحْزمنكم حزم السلمة، ولأضربنّكم ضرْب غرائب الإبل، فأنتم لكلٍّ أهلٌ. إنما أنتم أهلُ قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رِزُقُها رغداً من كلِّ مكانٍ فكفرتْ بأَنُعمِ اللهِ فأذاقَها الله لباسَ الجُوعِ والخَوْف بما كانوا يصنعُون وإني - والله - ما أقول إلا وفَّيْتُ، ولا أهُم إلا أمْضيت، ولا اخلق إلا فَرَيْتُ.
وإن أميرَ المؤمنين أمرني بإعطائكم، وأن أوَجِّهكم لمحاربة عدوِّكم مع المُلهب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد إعطائه ثلاثةً إلا ضربت عنقه. يا غلام: اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين.
فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: من عَبْدِ الملك بن مرْوان أمير المؤمنين إلى مَن بالكوفةِ من المسلمين. حتى قال إلي سلامٌ عليكمْ فلم يقلْ أحدٌ شيْئاً.
فقال الحجاج: أكْفف يا غلام. ثم أقبل على الناس، فقال: أيسلِّم عليكُم أميرُ المؤمنين فلا تَردُونَّ عليه السلام؟ هذا أدّبُ ابن أدّية.
أما. والله لأؤَدِّبنكُم غير هذا الأدب، أوْ تسْتقيمُن.
اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فقرأ. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم لم يبق في المسجد أحدٌ إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل.
فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأْخذون، حتى أتاه شيخٌ يرعَش - كبَراً، فقال: أيُّها الأمير: إني في الضعف على ما ترى، ولي ابنٌ هو أقوى مني على الأسفار. أفتقبله منِّي بديلاً؟ قال: نفعل أيُّها الشيخ. فلما ولي قال له قائلٌ: هذا ابن ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه: هَمَمْتُ ولم أفعلْ وكِدْتُ وَليْتَنِي تركت على عثمان تبكي حَلائله.
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولاً، فوطئ بطنه، وكسَر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردُّوه. فلما: رُدَّ. قال أيُّها الشيخ: هلا بَعثْتَ يوم الدار فيرتحل، ويأْمر وليه أن يلحَق به. ففي ذلك يقول ابن الزَّبير الأسدي: تجهزْ فإما أن تزور ابن ضابئ عميراً وإما أن تزور المهلبا.
وكتب إلى الوليد بعد وفاة أخيه محمد بن يوسف: أخبر أميرَ المؤمنين - أكرمَه الله - أنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن يكن أصابها من حلِّها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمة الله.
فكتب إليه الوليد: أما بعد. فقد قرأ أميرُ المؤمنين كتابك فيما خلف محمدُ بن يوسف، وإنما أصاب ذلك من تجارة أحللناها له فترحم عليه، رحمه الله.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: بلغني أن أمير المؤمنين عطسَ عطسة فشمته قومٌ. فقال: يغفُر الله لنا ولكم. فيا ليتني كنت معهم. فأفوز فوزاً عظيماً.
ووفدَ مرة على الوليد، فقال له الوليدُ - وقد أكلا - : هل لك في الشراب؟ قال: يا أميرَ المؤمنين: ليس بحرام ما أحللته، وَلكنني أمنع أهل عَمَلي منه، وأكره أن أخالف قول العبد الصّالح: وما أريدُ أن أخالِفكم إلى ما أنهاكم عنه فإعفاء.
جلس الحجاج لقتل أصحاب ابن الأشعث، فقام إليه رجلٌ منهم، فقال: أصلحَ الله الأميرَ. إن لي عليك حقاً. قال: وما حقُّك؟ قال: سَبَّك عبدُ الرحمن يوم فرددت عليه. فقال: من يعلُم ذلك؟ قال: أنْشُدُ الله رجلاً سّمع ذلك إلا شهد به.
فقام رجل من الأُسراء، فقال: قد كان ذلك أيُّها الأمير. قال: خلُّوا عنه. ثم قال: للِشَّاهدِ: فما مَنعك أن تنكرَ كما أنكرَ؟ فقال: لقديم بغضي إياك. قال: ولْيُخلَّ أيضاً عنه لصدقه.
وكان يقول: البُخل على الطعام أقبحُ من البرص على الجسد.
ولما أتَى الحجاج البصرة، وندب الناس إلى محاربة الخوارج، واللَّحاق بالمهلب كان عليهم أشد إلحافاً، وقد كان أتاهم خبرهُ بالكوفة، فتحمَّل الناسُ قبل قدومه. فُيرى عن بعضهم أنه قال: إنّا لنتغدى معه إذا جاءه رجلٌ من بني سليم برجل يقودُه، فقال: أصلح الله الأمير. إن هذا عاصٍ. فقال له الرجل. أنْشُدُك الله أيها الأميرُ في دَمى، فوالله ما قبضتُ ديواناً قطٌّ، ولا شهدت عسكراً، وإني لحائكٌ أخِذت من تحت الحُفٍ.
فقال: اضربوا عنقه.
فلما أحس بالسيف سَجَد، فلحقه السيف - وهو ساجد - فأمسكنا - عن الأكل فأقبل علينا الحجاج، فقال: مالي أراكم صَفرت أيديكم واصفرَّت وجوهكم، وحَدَّ نظرُكم من قتلِ رجُل واحد؟ إن العاصي يجمع خلالا تُخِلُّ بمركزه، ويعصي أميره، ويَغُرُّ المسلمين، وهو أجِيرٌ لكم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مُخَّير فيه إن شاء قتله وإن شاء عفا.
ثم كتب الحجاج إلى المهلب. أما بعدُ، فإن بشراً رحمه الله استكرهَ نفسَه عليك، وأراك غناءَه عنك. وأنا أريك حاجتي إلْيك فأربي الجد في قتال عدوِّك. ومَن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله، فإني قاتل مَن قبَلي. ومَن كان عندي من وَلي مَن هرب عنك فأعلمني مكانه، فإني أرى أن أخُذ السمِي بالسمي والولي بالوليِّ.
فكتب إليه المهلبُ ليس قبلي إلا مطيعٌ، وإنَّ الناسَ إذا خافُوا العقوبة كبَّرْوا الذَّنب، وإذا أمنُوا العقوبة صغَّرُوا. الذَّنب، وإذا يئسوا من العَفْو أكُفرَهُم ذاك. فهبْ لي هؤلاء الذين سمَّيتهم عصاةً فإنهْمُ فريقان: أبطالٌ أرجُو أنْ يقْتل الله - عز وجل - بهم العدوَّ، ونادمٌ على ذنْبه.
وصعد المنبر بعد موتِ أخيه أو ابنه. فقال: يقولون: مات ويموتُ الحجاج. فمذ كان مَاذا؟ واللهِ ما أرجُو الخيرَ كله إلا بعد الموتِ.
واللهُ مَا رضي الله البقاءَ إلا لأهونِ خلقه عليه: إبليسَ، إذ قال: رب فأنْظِرْني إلى يومِ يُبْعثون. قال فإنك مِن المنظرِين.
وقال لمعلِّم ولده: علِّم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنه يجدُون من يكتُب عنهُمْ ولا يجدون من يسْبَحُ عنهم.
وسأل غلاماً فقال له: غُلام مَن أنت؟ قال: غُلامُ سيِّد قيْس. قال: ومَن ذلك؟ قال: زُرارةُ بن أوْفى قال: كيف يكونُ سيِّداً وفي داره التي ينزلها سُكانٌ؟ قطع ناسٌ من بني عمْرو بن تميم وحَنظلة الطريق على قوم زمن الحجاج. فكتب إليهم: أما بعدُ: فإنكم استبحتُمْ الفِتنة، فلا عن حقٍّ تقاتِلُون، ولا عن مُنكر تَنْهون. وأيمُ الله إني لأهمُّ أن تكُونُوا أول من يرد عليه مِن قبلي مَن ينسفُه الطارِفَ والتالِدَ، ويُخلِّي النساءَ أيَامي، والصِّبيان يتامى فأيما رُفقه مرّت بأهل ماءٍ، فأهلُ ذلك الماء ضامنُون لها حتى تصيرَ إلى الماء الذي يليه. تقدمةً مني إليكم. والسعيد مَن وُعظ بغيره.
وقال بعضهم: ارجُ نفسَك، واحقن دمَك، فإن الذي بين قتلك وبينك أقصر منْ إبهام الحباري.
قالوا: قدم الحجاجُ المدينة، ففرق فيهم عشرة آلاف دينار، ثم صعدَ المنبر فقال: يا أهل المدينة: أنتم أوْلى مَنْ عذر، فو الله ما قدمُنا إلا على قلائصَ حَراجيجَ شُنَّربٍ، ما تُتابَع، ما تلْحقُ أرْجلُها أيدَيها، وأنتُم أوْلى مَن عذر.
فقام عبد الله بن عمار الديلي فقال: لا عذر اللهُ مَنْ يعذرُك، وأنْت ابنُ عظيم القريتين. وأمير العراقين. إلى متى؟ وحتى متى؟ فنزل الحجاج فعين مالا كثيراً بالمدينة، وفرقه في الناس.
خطب ذات يوم بالكوفة فقال: يا أهل العراق. وأتيتكُم وأنا أرْفُل في لِمتي، فما زال شقاقُكُم حتى اخضر شعري. ثم كشف عن رأس له أقرع، وقال:
مَنْ يكُ ذا لمة تكشّفها ... فإنني غير ضمائري ذُعْري
لا يمنعُ المرءَ أنْ يسودَ وأنْ ... يضربَ بالسيف قلة الشعر
قال الشعبيُّ: سمعتُ الحجاج يقولُ: أما بعد، فإن الله. جل وعلا كتب على الدُّنيا الفناءَ، وعلى الآخرة البقاءَ، فلا فناءً لما كتب عليه البقاءَ، ولا بقاء لمَنْ كتب عليه الفناءَ، فلا يغرنكُم ساعد الدنيا عن غائب الآخرة، واقْهروا طول الأمل بقصر الأجل.
وقال ابن عياش عن أبيه، قال: إن أول يوم عُرِفَ فيه الحجاج - وكان في الشُّرط مع عبد الملك - أن عبدَ الملك بعث إلى زُفَر بن الحارث عشرة نفر، أنا فيهم، ومعنا الحجاجُ وغيره من الشُّرط. قال: فكلمناه، وأبلغُناه رسالة عبد الملك، فقال: لا سبيل إلى ما تُريدون. قال: فقلت له: يا هذا، أراهُ والله سيأُتيكَ مالاً قبل لك به، ثم لا يُغْني عنك فُسَّاقُك هؤلاء شيئاً، فأطِعْني واخرُجْ.
قال: وحضرت الصلاةُ فقال: نُصلي، ثم نتكلم. فأقام الصلاة ونحن في بيِته، فتقدم وصلى بنا وتأخَّر الحجاجُ، فلم يصلِّ. فقلت له: أبا محمد. ما منعك مِن الصلاة!؟ قال: أنا لا أصلي خلف مخالف للجماعةِ، مُشاقٍّ للخلافة. لا. واللهِ لا يكونُ ذلك أبداً.
قال: فبلغتْ عبدَ الملك. فقال: إن شُرطيكم هذا لجَلْدٌ.
وخطب يوم فقال: أيها الناس، إن الصبْرَ من محارم الله أيسرُ من الصبر على عذاب الله.
فقام إليه رجلٌ فقال: مَا أصفق وجُهك، وأقَل حياءَك أيها الحجاجُ؟ فقال له الحجاجُ: اجترأْت علي. فقال له: أتجترئُ على الله ولا نُنْكِرُهُ. وأجْترئُ عليك فتُنكره فحلُم عنه، وخلَّى سبيله.
قال عبدُ الملك بن عُمَيْر: سمعتُ الحجَاج يقول في خطبته: أيها الناسُ لا يَملَّنَّ أحدُكم من المعروفِ، فإن صاحبَه يعْرِضُ خيراً، إما شكرٌ في الدنيا وإما ثوابٌ في الآخرة.
وقال الحجاجُ لعبد الملك: ما فيَّ عيبٌ إلا أني حسود، حقودٌ، لجوجُ فقال: ما في الشَّيطان شيءٌ شرٌّ مِمَّا ذكرتَ.
الباب الثالث
كلام الأحنف
رأى مع رجل درهماً، فقال: تحِبُّه؟ قال: نعم. أما إنه لا ينفعكُ حتى تفارقه.قال: ما عرضتُ الإنصاف على رجل فقبِله إلا هبْتُه، ولا أباهُ إلا طمعتُ فيه.
وقال: الأذى تحكك في ناحية بيتي أحب إلي من أيِّم رددت عنها كُفواً.
وقيل له: من السيد؟: قال: الذليلُ في نفسه، الأحمقُ في مالهِ، المعْنيُّ بأمر قومه، الناظر للعامّة.
وقال: رُب رجل لا تُملُّ فوائده وإنْ غاب، وأخر لا يسلمَ جليُسه وإن احُترس.
وقال: كلُّ ملك غدار وكلّ دابة شرود وكل امرأة خئُوفٌ.
وقال: سهرت ليلةً في كلمة أرضى بها سُلطاني، ولا أسخطُ بِها ربيِّ فما وجدتُها.
وقيل له: ما الحلم؟ قال: الرِّضاءُ بالذُّل.
وقيل لرجل: ليت طول حلمنا عنك لا يدعُو جهل غيرنا إليك.
وقال: أكرموا سفهاءَكم فإنهم يكفونكُم العار والنار.
وقال: وإياكم والكسل والضجر، فإنك إن كسلت لم تؤردِّ حقاً، وإن ضَجِرت لم تصبر على حقِّ.
وذكرَ رجلاً فقال: لا يحقر ضعيفاً، ولا يحسد شريفاً.
وقال: الشرفُ مَن عُدَّت سقطاتُه.
وقيل له: ما اللؤُّم؟ قال: الاستعصاءُ على الملهوف. قيل: فما الجود؟ قال: الاحتيالُ للمعروف.
وسمع رجلا يقول: ما بتُّ البارحةً من وجع ضرس. وجعل يُكثر، فقال له الأحنف: كم تكثر!! فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة، فما قلتُ لأحد.
وقيل له: ما الحلم؟ قال: الذُّل.
وقال: لستُ بحليم ولكني أتحالم.
وقال يومَ قُتل مصعب: انظروا إلى المصعب، على أي دَابَّة يخرج؟ فإن خرج على برْذَوْن فهو يريد الموت، وإن خرج على فرس فهو يريد الهرب.
قال: فخرج على برذونٍ يجر بطنه.
وقال الأحنف: استميلُوا النِّساء بحسن الأخلاق وفُحْشِ النكّاح.
وقال: وجدتُ الحلمَ أنصر لي من الرِّجال.
جلس معاويةُ يوماً - وعنده وجُوه الناس، وفيهم الأحنفُ، إذا دخل رجلٌ من أهل الشام، فقام خطيباً، وكان آخر كلامه: أن لعَن علياً عليه السلام. فأطرق الناس، وتكلم الأحنفْ فقال:
يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل آنفاً ما قال، لو علم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله، ودع علياً، فقد لقي الله، وافرد في حفرته، وخلا بعمله. وكان - والله - ما علمنا المبرِّز بسيفه، الطاهر في خُلُقه، الميمون النقيبة، العظيم المصيبة.
فقال معاوية، يا أحنفُ لقد أغضيتَ العينَ عن القذى، وقُلت بغير ما نرى، وأيْم الله لتصعدنَّ المنبر، فلتلعننه طائعاً أو كارها.
قال الأحنف: إن تُعفني فهو خيرٌ، وإن تجبرني على ذلك، فو الله لا تجري به شفتاي.
قال: قُم، فاصعد. قال: أمَا والله لأُنصفنك في القول والفعل. قال معاوية وما أنت قائلٌ إن أنصفتني؟ قال: أصعد فأحمد الله بما هو أهلُه، وأصلي على نبيه. ثم أقولُ: أيُّها الناس. إن معاوية أمَرني أن ألعن علياً. ألا وإن علياً ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادعى كلُّ واحد منهما أنه مَبْغِيٌّ عليه، وعلى فئته، فإذا دعوتُ فأمِّنوا - يرحمكم الله. ثم أقولُ: اللهم ألعن أنت وملائكتُك، وأنبياؤُك، ورسلك، وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية على الفئة المبغى عليها. آمين رب العالمين.
فقال معاوية: إذن نُعفيك يا أبا بحر.
وقال له رجل: بِمَ سُدْتَ؟ قال: بَتْركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وقال: من حقِّ الصديق أن تُحتمل له ثلاثٌ: ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة.
خطب معاوية مرة، فقال: إن الله يقول في كتابه: وإن مِّن شَيء إلا عندنا خزائنهُ فعلامَ تلومونني إذا قصرتُ في أعطياتكم؟ فقال الأحنفُ: فجعلته أنت في خزائنك، وحُلْت بيننا وبينه ولم تُنزله إلا بقدر معلوم.
قال: فكأنما ألُقمه حَجَراً.
وقال: ما نازعني أحد قطُّ إلا أخذتُ عليه بأُمور ثلاثة: إن كان فوقي عرفتُ له قدرهُ.
وإن كان دوني أكرمتُ نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضلتُ عليه.
وقام بصفِّين، فاشتد، فقيل له: أين الحلم يا أبا بحر؟. قال: ذاك عند عُقْر الحي.
وقال: لم تزل العربُ تستخفُّ بأبناءِ الإمَاءِ حتى لحق هؤلاء الثلاثةُ: عليُّ بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله. فاستقل بنو الإماء ولحقُوا.
وقال: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يَرْوى، ولا الأسيرَ حتى يُطلق، ولا المضلَّ حتى يجد، ولا الراغب حتى ينجح.
وأتى مصعبَ بنَ الزبير يكلِّمه في قوم حبسهم، فقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حُبُسوا في باطل فالحقُّ يُخرِجُهم، وإن كانُوا حُبسوا في حقٍّ فالعفو يسعُهم. فخلاهُم.
وقال: السُّودَد، مع السواد. يريد أن السيد مَن أتتهُ السِّيادةُ في حداثته وسَواد رأسه ولحيته.
وجلس على باب زياد، فمرت به ساقيةٌ، فوضعت قربتها، وقالت: يا شيخُ. احفظ قربتي حتى أعودَ، ومضت، وأتاهُ الأذنُ فقال: انهض. قال: لا، فإن معي وديعة. وأقامَ حتى جاءَت.
وشتمه يوماً رجلٌ وألح عليه فقال لهُ: يَا بن أمي. هل لك في الغداء؟ فإنك منذُ اليوم تَحْدْو بجَمل ثَفال.
وقال: كُنا نختلفُ إلى قيس بن عاصم في الحلم، كمَا يُختلفُ إلى الفُقهاءِ في الفقه.
وشتمه رجلٌ، فسَكت عنهُ، فأعادَ، فسكت، فقال الرجلُ: والهفاهُ وما يمنعهُ أن يرد عليَّ إلا هَوانِي عَليه.
وقال الأحنفُ: مَن لم يصبر على كملة سمع كلمات، ورُبَّ غيظ قد تجرعتُه مخافةَ مَا هُواَ أشدُّ منه.
وكان إذا أتاهُ إنسانٌ أوسع لهُ، فإن لم يجد موضعاً تحرك ليريه أنه يَوسعُ له.
وقال: ما جلستُ قط. مجلساً. فخفتُ أن أقامَ عنهُ لغيري.
وكان يقولُ: إياك وصدر المجلس فإنه مجلس قُلعةٌ.
وقال: خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك في المودة وإن احتْجتَ إليه لم يَنقصك منها، وإن كُوثرت عَضَّدك، وإن احتجت إلى معونته رفدك.
وقال: العتابُ مفتاحُ التِّقالِي، والعتابُ خيرٌ من الحقد.
ومر بعكرَاش بن ذُؤيب - وكان ممن شهد الجمل مع عائشة - فقُطعت يداه جميعاً. فصاح به عكراش: يا مخِّذلُ. فقال الأحنفُ إنك لو كنت أطعتني لأكلت بيمينك وامتسحت بشمالك.
ويقال: إنه لم يُرَ قطُّ ضجرا إلا مرةً واحدة، فإنه أعطي خياطاً قميصاً بخيطُهُ، فحَبسه حولين. فأخذ الأحنفُ بيَد ابنه بحر، فأتى به الخياط، وقال: إذا متُّ فادفع القميص إلى هذا.
وكان يقول: لا صديقِ لملَول، ولا وَفاءَ لكّذوب، ولا راحة لحسود، ولا مروءة لبخيل، ولا سودَد لسيِّئ الخلْق.
وقال: كاد العلماءُ يلونُون أرباباً، وكل عزٍّ لم يوطِّد بعلمٍ فإلى ذلٍّ ما يصير.
قال رجلٌ للأحنف: تسمعُ بالمعيديِّ خير من أن تراه. قال: وما ذممت منِّي يا أخي؟ قال: الدمامة، وقِصَرَ القامة. قال: لقد عبت ما لم أؤامَر فيه.
وأسمعه رجلٌ، فأكثر. فلما سكت، قال الأحنفُ: يا هذا، ما ستر اللهُ أكثر.
وقال: كثرةُ الضحك تُذهبُ الهيبة، وكثرةُ المَزح تُذهبُ المروءة، ومَن لزمَ شيئاً عُرف به.
لما نَصَّب معاويةُ ابنه يزيدَ لولاية العهد أقعدهُ قبةً حمراء، فجعل الناس يُسلِّمون على معاوية، ثم يميلُون إلى يزيدَ حتى جاءهُ رجلٌ ففعل ذلك.
ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تُولِّ هذا أمور المسلمين لأضعتها - والأحنفُ جالسٌ - فقال له معاويةُ: ما بالُك لا تقولُ يا أبا بحر!! فقال: أخافُ الله إن كذبتُ، وأخافكم إن صدقتُ. فقال جزاك اللهُ عن الطاعَة خيراً. وأمرَ له بأُلُوف.
فلما خرج الأحنفُ لقيَهُ الرجلُ بالباب، فقال: يا أبا بحر: إني لأعلم أن شر ما خلق الله هذا وابنُه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمعُ في استخدامها إلا بما سمعت.
فقال له الأحنفُ: يا هذا أمُسِك، فإن ذات الوَجهين خليقٌ ألا يكون عند الله وَجيهاً.
وقال الأحنف: ألا أدلكُم على المحمَدة بلا مرزئة: الخلقُ السجيح والكفُّ عن القبيح.
وقال الأحنف: ألا أخبركُم بأدوأ الداءِ؟ الخلقُ الدنيءُ، واللسان البذيء وقال: ثلاثٌ فيَّ ما أقولُهن إلا ليعتبرَ معتبرٌ: ما دَخلتُ بين اثنين حتى يُدخلاني بينهُما، ولا أتيتُ باب أحد من هؤلاء ما لم أدع إليه - يعني: السُّلطان - ولا حَللتُ حَبَوتي إلى ما يقومُ إليه الناس.
وقيل له: أي المجالس أطيبُ؟ قال: ما سَلم فيه البصر، واتَّدع فيه البدَنُ.
وكان يقول: ما تزالُ العربُ بخير ما ليست العمائمَ، وتقلدتِ السيوف ولم تَعُدَّ الحلم ذُلاً ولا النواهب بينها ضعةً.
قوله: لبست العمائم، يريد ما حافظت على زيِّها.
وقال: ما شاتمتُ أحداً منذُ كنت رجلاً، ولا زحَمتْ رُكبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مُجنديَّ حتى يُنتح جبينه - كما تنتح الحميتُ فو الله ما وصلتُه.
وقال: إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي.
وقال له معاويةُ: بلَّغني عنك الثقّةُ. فقال: إن الثقة لا يبلِّغُ.
وعُدَّت على الأحنف سَقطةٌ، وهو أن عَمرو بن الأهتم دس إليه رجلاً ليسفِّههُ. فقال: يا أبا برح: مَن كان أبوك في قومه؟ قال: كان من أوْسطهم، لم يسدُهم ولم يتخلف عنهم. فرجع إليه ثانيةً، ففطِن الأحنفُ أنه من قِبل عمرو.
فقال: ما كان مالُ أبيك؟ قال: كانت له صِرمةٌ يمنح منها، ويقرى ولم يكُن أهتَم سَلاَّحاً.
وسمع رجلاً يقول: التعُّلم في الصِّغر، كالنقش على الحجر. فقال الأحنف.
الكبيرُ أكبرُ عَقْلاً، ولكنه أشْغلُ قلْباً.
ولما قدَم على عمرَ في وفْد أهْل البصرة وأهل الكوفة فقضى حَوائجهُم قال الأحْنفُ: إن أهل هذه الأمصار نزلُوا على مثل حدّقة البعير، من العيون العذاب، تأْتيهم فواكهُهم لم تتغير. وإنا نزلنا بأرض سبخة نشاشة، طرَفٌ لها بالفلاة. وطرف بالبحر الأُجاج. يأْتينا ما يأْتينا في مثل مَرئ النعامة، فإن لم ترفع خسيستنا. بعطاءٍ تُفضِّلُنا به على سائر الأمصار نهلك.
قيل: لما أجمَع مُعاويةُ على البيعة ليزيدَ جمع الخطباءَ فتكلموا - والأحنفُ ساكتٌ - فقال: يا أبا بحر. ما منعَك من الكلام؟ قال: أنت أعلُمنا بيزيدَ ليله ونهاره، وسره، وعَلانيته، فإن كنت تعلُم أن الخلافة خيرٌ لهُ فاستخلفْه وإن كنت تعلُم أنها شرُّ له فلا تُوَلِّه الدُّنَيا وأنت تذهبُ إلى الآخرة، فإنما لك ما طاب، وعلينا أن نقُول: سمعنا وأطعنا: وقال الأحنفُ: المروءةُ كلُّها إصلاحُ المال، وبذلُه للحقوق.
وكتب إليه الحسينُ عليه السلام: فقال للرسول: قد بلونا أبا حسن، وآل أبي حسن، فلم نجد عندَهُم إيالةً للمُلك، ولا مكيدةً في الحرب.
وقال لعلّي عليه السلام: إني قد عجمتُ الرجل، وحلبتُ أشطرَهُ فوجدتُه قريب العقْر، كليل المُدْية. يعني أبا موسى الأشعري.
وكان يقول: ما بعدَ الصواب إلا الخطأُ، وما بعد مَنْعِهِنَّ الأَكْفاءَ بذلُهن للسلفة والغوغاء.
وكان يقول: لا تطلُبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوبٍ فإنه يُقرِّبها عليك وهي بعيدةٌ، ويباعدُها وهي قريبةٌ، ولا أحمق فإنه يريد أن ينفعَك فيضرك، ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجةٌ، فإنه يجعلُ حاجتك وقاية لحاجته.
وقال: ما كشفتُ أحداً قطُّ عن حال عنده إلا وجَدتُها دون ما كنتُ أظنُّ.
وقال: رُب ملوم لا ذنْب له.
وقدم وفد العراق على معاوية: وفيهم الأحنف - فخرج الآذن، فقال: إن أمير المؤمنين يعزمُ عليك ألا يتكلم أحدٌ إلا لنفسه. فلما وصلوا إليه قال الأحنفُ: لولا عزمةُ. أمير المؤمنين لأخبرتُه أن دفةً دفت، ونازلةً نزلت، ونائبة نابت ونابتةً نبتت، كلُّهم به حاجةٌ إلى معروف أمير المؤمنين، وبرِّه.
قال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الغائب والساعد.
وجرى ذكُر رجل عنده فاعتابوه. فقال الأحنفُ: ما لكُم ولهُ؟ يأكل لَذَّته، ويكفي قِرنه، وتحملُ الأرض ثقله.
وقال لمعاوية - وقد ذكَّره مقامهُ بصفين - : والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحِنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتِقنا. ولئن مددت بشبر من غدر لنمدن بباع مِن مَحْتد، ولئن شئت لتستصِفيَن كدر قُلوبنا بصفو حِلمك. قال: فإني أفعلُ.
ولما خطب زيادٌ بالبصرة قام الأحنفُ فقال: أيها الأميرُ، قد قلت فأَسمعتَ ووعظت فأَبلغت أيُّها الأميرُ، إنما السيف بحدِّه، والفرُس بشدِّه، والرجلُ بجِده، وإنما الثناءُ بعد البلاءِ، والحمدُ بعد العطاءِ، ولن نُثني حتى نبتلي.
وقال الأحنفُ: لا تَعْدَّنَّ شتم الوالي شتماً، ولا إغلاظهُ إغلاظاً، فإن ريحَ العزة تبسط اللِّسان بالغِلظةِ في غير بأْس ولا سَخط.
وقال: لا تنقبضُوا عن السُّلطان، ولا تتهالكُوا عليهِ، فإنه من أشرف للسلطان ازدراه، ومَنْ تفرغَ له تخطاه.
وقال: ما جَلستُ مذ كنت مَجِلِسَ قُلْعَةٍ ولا ردَدتُ على كُفو مقالةً تُسوءُه ولا خاصمتُ في أمرِ كريهةٍ لي، لأن ما بذلُتُ لصاحِبها أكثرُ مما أخاصِمُه فيه من أجْلِها.
وقال كفى بالرجلِ حَزْماً إذا اجتمع عليه أمْران، فلم يدرِ أيُّهما الصًّوابُ أن ينظْرَ أغلبهما عليه فيحذرهُ.
ولما حُكِّم أبو موسى أتاهُ الأحنفُ فقال: يا أبا موسى. إن هذا مسيرٌ له ما بَعْدَه من عزِّ الدُّنيا أو ذُلِّها آخرَ الدهر. ادعُ القوْم إلى طاعة علي، فإن أبَوْا فادْعهُم إلى أن يختار أهلُ الشام من قريش العراق مَن أحبُّوا، ويختار أهلُ العراق من قريش الشامِ من أحبُّوا. وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحَه بنية أو أن يُقعِدَك على صَدْر المجلس، فإنها خديعةٌ، أو أن يَضُمَّكَ وإياه بيتٌ يكمنُ لك فيه الرجالُ، ودَعْهُ فليتكلمْ لتكون عليه بالخيار، فإن البادئ مُستغلقٌ، والمجيب ناطقٌ.
فما عمل أبو موسى إلا بخلاف ما أشار به. فقال لَهُ الأحنفُ - والتقيا بعد ذلك - : أدْخِلْ - واللهِ - قدميْك في خُفٍّ وَاحِد.
وقال بخُراسان: يا بني تَميم، تحابُّوا وتباذَلَوا تعْتدل أمورُكم، وابدءُوا بجهادِ بطونكم، وفروجِكم يصلُح دينكم، ولا تَغُلُّوا يسلم لكم جهادكم.
وقال لأهل الكوفة: نحن أبعدُ منكم سرَّيةً، وأعظَمُ منكم تجربةً، وأكثر منكم دُرِّيةً، وأعْدى منكم برِّية.
ولما قدمت الوفودُ على عُمَر قام هلالُ بنُ بِشر، فقال: يا أميرَ المؤمنين إنا غُرَّةُ من خَلْفنا مِن قومنا، وشادةُ من وراءنا من أهلِ مِصْرِنَا، وإنك إن تصرِفنا بالزيادة في أعطِياتنا، والفرائض لعيالاتنا - يزددُ بذلك الشريفُ تأميلاً، وتكُن لهم أباً وَصُولا، وإن تكُنْ - مع ما نَمُتُّ به من فضائِلكُ ونُدْلي بأسبابك - كالجُدِّ لا يُحلُّ ولا يرْحلُ نرجع بآنُفٍ مَصْلوَمة، وجُدود عاثرةٍ، فِمحنا وأهالينا بَسْجلٍ مُتْرَع من سِجالك المُترعة.
وقام زيدُ بن جبلة، فقال: يا أميرَ المؤمنين، سوِّدِ الشريف، وأكرم الحسيبَ، وأزْرعْ عِندنا من أيَاديِك ما تسدُّ به الخصاصة ونطرد به الفاقة. فإنا بقُف من الأرض يابس الأكناف، مٌقشعرِّ الذروَة، لا شجر ولا زرع، وإنا من العرب اليوم إذا أتيناك بمرأى ومسمع.
فقام الأحنفُ فقال: يا أمير المؤمنين، إن مفاتيحَ الخير بيد الله، والحرصَ قائدُ الحرمان، فاتق الله فيما لا يُغني عنك يومَ القيامة قيلا، ولا قالاً واجعل بينك وبين رعيتك من العدل والإنصاف، شيئاً يكفيك وفادة الوُفوِد، واستماحةَ المُمْتاح، فإن كُل امرئ إنما يجمع في وعائه إلا القُل ممن عسى أن تقتحمهُ الأعينُ وتخونهم الألسن، فلا يفد إليك.
الباب الرابع
كلام المهلب وولده
قيل للمهلِّب: ما النبلُ؟ قال أن يخرج الرجلُ من منزله وحده ويعودَ في جماعة.وقال: ما رأيتُ الرجل يضيقُ قلوبُها عند شيء كما تضيق عند السرِّ.
خطب يزيدُ بنُ المهلب بواسطٍ فقال: إني قد أسمعُ قول الرِّعاع: قد جاء مسلمةُ وقد جاءَ العباسُ، وقد جاء أهلُ الشام. وما أهل الشام إلا تسعةُ أسياف: سبعةٌ منها معي، واثنان علي. وأما مسلمة فجرادة صَفراء، وأما العباسُ فنسطوسُ بنُ نسطوس، أتاكم في بَرابَرة وصقالية، وجَرَامقة، وأقباط، وأنباط، وأخلاط. إنما أقبل إليكم الفلاحُون وأوباشٌ كأشْلاء اللحم. والله ما لقوا قط كحدكم، وحَديدكم، وعَديدكم. وأعيُروني سَواعدكم ساعةً من نهار تصِفقُون بها خراطيمهُم. وإنما هي غَدوة أو روحةٌ حتى يحكُمَ الله بيننا وبين القوم الظالمين.
قال المهلبُ: يا بني، تباذلُوا تحابوا، فإن بني الأم يختلفُون، فكيف ببني العلات؟ إن البر ينسأ في الأجَل، ويزيدُ في العَدَد، وإن القطيعة تُورث القلة، وتُعقب النار بعد الذلة. واتقوا زلة اللِّسان، فإن الرجل تزلُّ رجلُه، فينتقشُ، ويزل لسانُه فيهلكُ، وعليكُم في الحرب بالمكيدة، فإنها أبلغُ من النجدة، فإن القتال إذا وقع دَفع القضاءَ، فإن ظفر فقد سَعد، وإن ظُفر به لم يقولُوا فَّرط.
قال الجاحظُ: قال المهلبُ: ليس أنمَى مِن سيف. فوجدَ الناسُ تصديق قوله فيما قال ولده من السيف، فصار فيهم النَّماءُ.
وقال علي عليه السلام: بقيةُ السيف أنمى عَدَداً، وأكرمُ ولداً. ووجد الناسُ ذلك بالبيان الذي صار إليه ولُده مِن نهكِ السيفِ، وكثرة الذرية وكرم النجل.
ومن كلام المهلب: عجبتُ لمن يشتري الممالِيك بمالِه، ولا يشتري الأحرار بمعُرُوفه.
وقال يزيدُ بن المهلب لابنه مخلد - حين ولاه جُرجَان: استظرفْ كاتِبك، واستعِقلْ حاجِبَك.
قال حبيب بن المهلب: ما رأيت رجلاً مُستلئماً في الحرب إلا كان عندي رجُلين، ولا رأيت حاسرين إلا كنا عند واحداً.
فسمع بعض أهل المعرفة هذا الكلام، فقال: صَدق: إن للسلاح فضيلةً. أمَا تراهم ينادون عند الصريخ: السلاحَ السلاح، ولا ينادُون: الرجال، الرجال.
قيل يزيدَ بن المهلب: ألا تبني داراً؟ فقال: مَنزلي دار الإمَارة أو الحبس. أغلظ. رجلٌ للمهلب، فحلم عنه، فقيل له: جَهل عليك وتحلُمُ عنه؟ فقال: لم أعرف مَساوَيه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
قال يزيدُ بن المهلب: ما رأيت عاقلاً ينوبه أمرٌ إلا كان مقوله على لَحْييه. وقيل له: إنك لتُلْقي نفسَك في المهالك. قال: إني إن لم آت الموت مُسترسلاً أتاني مُستعجلاً. إني لست أتي الموت من حُبِّه، وإنما أتيه من بغضه، ثم تمثل: تأَخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدمَا.
كتب المهلب إلى الحجاج لما ظفر بالأزارقة: الحمدُ لله الذي كفى بالإسلام فقدُ ما سواه، وجعل الحمد متصلاً بنعَمه، وقضى ألا ينقطع المزيدُ من فضله، حتى ينقطع الشكر من عبَاده ثم إنا وعَدوَّنا كنا على حالين مُختلفتين، نرى فيهم ما يسرُّنا أكثر مما يسوؤُنا، ويروَن فينا ما يُسوءُهم أكثر ممَا يسرُّهم. فلم يزل الله يكثرُنا ويمحقهم، وينصرنا ويخذلهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كان عَلن أمُرهم حتى ارتاعَت له الفتاة، ونوِّم به الرضيعِ، فْانتهزْتُ منهم الفرصة في وقت إمكانها، وأدنَيْتُ السوادَ، مِن السواد حتى تعارفَتِ الوُجوه. فلم نزل كذلك حتى بلغ بنا وبهم الكتاب أجَله. فقطِعَ دَابُر القومِ الذين ظَلَمْوا والحمدُ لله ربِّ العالمين.
وقال المهلب لبنيه: يا بني، إذا غدا عليكم الرجل، ولاحَ مُسلِّما، فكفى بذلك تقاضيا.
وقيل له: أيُّ المجالس خيرٌ؟ قال: ما بَعُدَ فيه مَدَى الطرْف، وكثر فيه فائدة الجليس.
قال المهلب: العيش كلُّه في الجليس المُمتع.