كتاب : الإمتاع والمؤانسة
المؤلف : أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي
وصدق - صدق الله قوله - فإنه كان أخس خلق الله ، وأنتن الناس ، وأقذر الناس ، لا منظر ولا مخبر . وكانت أمة مغنيةً من أهل البيضاء ، وأبوه من أسقاط الناس ، ونشأ مع أشكاله ، وكان في مكتب الربضي على أحوالٍ فاحشة ، وورق زماناً ، ثم إن الزمان نوه به ، ونبه عليه ، ومثل هذا يكون ، والأيام ظهورٌ وبطون ؛ وكما يسقط الفاضل إذا عانده الجد ، كذلك يرتفع الساقط إذا ساعده الجد فهذا هذا ؛ فقال : ما كان هذا الحديث عندي ، وإنه لمن الغريب . ثم قال : كيف خبرك في الفتنة التي عرضت وانتشرت ، وتفاقمت وتعاظمت ؟ فكان من الجواب : خبر من شهد أولها ، وغرق في وسطها ، ونجا في آخرها . قال : حدثني فإن في روايته وسماعه تبصرةً وتعجباً ، وزيادةً في التجربة . وقد قيل : تجارب المتقدمين ، مرايا المتأخرين ، كما يبصر فيها ما كان ، يتبصر بها فيما سيكون ، والشاعر قد قال : والدهر آخره شبهٌ بأوله . . . ناسٌ كناسٍ وأيامٌ كأيام وليس من حادثةٍ ماضيةٍ إلا وهي تعرفك الخطأ والصواب منها لتكون على أهبةٍ في أخذك وتركك ، وإقدامك ونكولك ، وقبضك وبسطك ، وهذا وإن كان لا يقي كل الوقاية ، فإنه لا يلقى في التهلكة كل الإلقاء . كان أول هذه الحادثة الفظيعة البشعة التي حيرت العقول وولهت الألباب ، وسافر عنها التوفيق ، واستولى عليها الخذلان ، وعدمت فيه البصائر ، شيءٌ كلا شيء ، وإذا أراد الله تعالى ذكره أن يعظم صغيراً فعل ، وإذا شاء أن يصغر عظيماً قدر ، له الخلق والأمر ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، ولا صارف لقدره ؛ وقدرة الإنسان محدودة ، واستطاعته متناهية ، واختياره قصير ، وطاقته معروفة ؛ وكل ما جاوز هذا الحد وهذاالتناهي فهو الذي يجري على الإنسان شاء أو أبى ، كره أو رضي ، وها هنا يفزع إلى الله من نازل المكروه ، وحادث المحذور . وذاك أن الروم تهايجت على المسلمين ، فسارت إلى نصيبين بجمعٍ عظيم زائدٍ على ما عهد على مر السنين ، وكان هذا في آخر سنة اثنتين وستين ، فخاف الناس بالموصل وما حولها ، وأخذوا في الانحدار على رعبٍ قذف في قلوبهم ، ليكون سبباً لما صار إليه الأمر ؛ وماج الناس بمدينة السلام واضطربوا ، وتقسم هذا الموج والاضطراب بين الخاصة والعامة ؛ وصارت العامة طائفتين ، طائفة ترق للدين ولما دهم المسلمين ، وتستعظم ذلك فرقاً مما ينتهي إليه ، بعد ما يؤتى عليه ؛ وطائفةً وجدت فرصتها في العيث والفساد ، والنهب والغارة بوساطة التعصب للمذهب . وافترقت الخاصة أيضاً فرقتين : فرقةً أحبت أن تكون للناس حميةٌ للإسلام ، ونهوضٌ إلى الغزو ، وانبعاثٌ في نصرة المسلمين ، إذ قد أضرب السلطان عن هذا الحديث ، لانهماكه في القصف والعزف ، وإعراضه عن المصالح الدينية ، والخيرات السياسية ؛ وطائفةً اختارت السكون والإقبال على ما هو أحسم لمادة الوثوب والهيج ، وأقطع لشغب الشاغب ، وأقمع لخلاف المتهم ؛ فإن الاختلاف إذا عرض خفي موضع الاتفاق ، والتبس الأمر على الصغار والكبار ؛ وبمثل هذا فتحت البلاد ، وملكت الحصون ، وأزيلت النعم ، وأريقت الدماء ، وهتكت المحارم ، وأبيدت الأمم ؛ ونعوذ بالله من غضب الله ومما قرب من سخط الله ؛ وإذا أراد الله أمراً كثر بواعثه ، وفرق نوابثه . ولما اشتعلت النائرة ، واشتغلت الثائرة ، صاح الناس : النفير النفير ، وإسلاماه ، وامحمداه ، واصوماه ، واصلاتاه ، واحجاه ، واغزواه ، واأسراه ، في أيدي الروم والطغاة . وكان عز الدول قد خرج في ذلك الأوان إلى الكوفة للصيد ، ولأغراضٍ غير ذلك ؛ فاجتمع الناس عند الشيوخ والأماثل والوجوه والأشراف والعلماء ، وكانت النية بعد حسنة ، وللناس في ظل السلطان مبيتٌ ومقيل ، يستعذبون ورده ، ويستسهلون صدره ، عجوا ، وضجوا ، وقالوا : الله الله ، انظروا في أمر الضعفاء وأحوال الفقراء ؛ واغضبوا لله ولدينه ؛ فإن هذا الأمر إذا تفاقم تعدى ضعفاءنا إلى أقويائنا ، وبطل رأي كبرائنا في تدبير صغرائنا ؛ والتدارك واجب ، وهو الإسلام ، إن لم نذب عنه غلب الكفر ، وهو الأمن والسكون إن لم يحفظا ، فهو الخوف والبلاء وذهاب الحرث والنسل ، وفضيحة الولد والأهل . فسكن المشايخ منهم ،وطيبوا أنفسهم ، وقووا منتهم ووعدوهم أن يرتئوا فيه متفقين ، ويجتمعوا عليه مجتهدين ، ويستخيروا الله ضارعين ؛ وانصرف الناس عنهم ، واجتمع القوم : أبو تمام الزينبي ، ومحمد بن صالح بن شيبان ، وابن معروف القاضي ، وابن غسان القاضي ، وابن مكرم - وكان من كبار الشهود في سوق يحيى - وابن أيوب القطان العدل وأبو بكر الرازي الفقيه ، وعلي بن عيسى والعوامي صاحب الزبيري ، وابن رباطٍ شيخ الكرخ ، ونائب الشيعة ولسان الجماعة ، وابن آدم التاجر ، والسالوسي أبو محمد ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم ؛ وتشاوروا وتفاوضوا ، وقلبوا الأمر ، وشعبوا القول ؛ وصوبوا وصعدوا ، وقربوا وبعدوا والتأم لهم من ذلك أن تخرج طائفةٌ وراء الأمير بختيار إلى الكوفة وتلقاه وتعرفه ما قد شمل مدينة السلام من الاهتمام ؛ وأن الخوف قد غلبهم ، وأن الذعر قد ملكهم ؛ وأنهم يقولون : لو كان لنا خليفةٌ أو أميرٌ أو ناظرٌ سائسٌ لم يفض الأمر إلى هذه الشناعة ؛ وأن أمير المؤمنين المطيع لله إنما ولاه ما وراء بابه ليتيقظ في ليله ، متفكراً في مصالح الرعايا ، وينفذ في نهاره آمراً وناهياً ما يعود بمراشد الدين ، ومنافع الدانين والقاصين وإلا فلا طاعة ؛ وكلاماً على هذا الطابع ، وفي هذا النسج ؛ فاتفق جماعٌ على صريمة الرأي في الحركة إلى الكوفة ، منهم أبو كعب الأنصاري ، وأبو الحسن مدرة القوم ، وعلي بن عيسى ، والعوامي ، وابن حسان القاضي صاحب الوقوف ، وأبو أحمد الجرجاني القاضي البليغ ، وابن سيارٍ القاضي أبو بكر ، وأبو بكر الرازي . وأما جعل ، فإنه ذكر ما به من وجع النقرس ، واستعفى . وأما أبو سعيد السيرافي ، فإنه ذكر ضعفاً وسناً ، وقال : أنا أعين في هذه النائبةبإقامة رجلٍ جلدٍ مزاح العلة بالفرس والسلاح ، وقعد الجم الغفير ، وسارت الجماعة إلى الكوفة ، ولحقت عز الدولة في التصيد ، وانتظرته ؛ فلما عاد قامت في وجهه واستأذنت في الوصول إليه على خلوةٍ وسكون بال وقلة شغل ؛ فلم يلتفت إليهم ، ولا عاج عليهم - وكان وافر الحظ من سوء الأدب ، قليل التحاشي من أهل الفضل والحكمة - ثم قيل له : إن القوم وردوا في مهمٍ لا يجوز التغافل عنه ، والإمساك دونه ، فأذن لهم بين المغرب والعتمة ، فجلسوا بحضرته كما اتفق من غير ترتيب ، فقال : تكلموا . فقال أبو الوفاء المهندس لأبي بكر الرازي : تكلم أيها الشيخ ، فإنك رضا الجماعة ، ومقنع العصابة . فقال أبو بكر : الحمد لله الذي لا موهبة إلا منه ، ولا بلوى إلا بقضائه ، لا مفزع إلا إليه ، ولا يسر إلا فيما يسره ، ولا مصلحة إلا فيما قدره ؛ له الحكم وإليه المصير ، وصلى الله على سيدنا محمد رسوله المبعوث ، إلى الوارث والموروث ؛ أما بعد ، فإن الله تعالى قد حض على الجهاد ، وأمر بإعزاز الدين ، والذب عن الحريم والإسلام والمسلمين في الدهر الصالح ، والزمان المطمئن ؛ فكيف إذا اضطرب الحبل وانتكثت مريرته ، وأبرز مصونه ، وعري حريمه بالاستباحة ؛ وينل جانبه بالضيم ، وضعضع مناره بالرغم ، وقصد ركنه بالهدم ، وأنت أيها المولى من وراء سدة أمير المؤمنين المطيع لله ، والحامل لأعباء مهماته ، والناهض بأثقال نوائبه وأحداثه ؛ والمفزع إليك ، والمعول عليك ، فإن كان منك جدٌ وتشميرٌ فما أقرب الفرج مما قد أظل وأزعج ، وإن كان منك توانٍ وتقصيرٍ فما أصعبه من خطب ؟ وما أبعده من شعب وقد جئناك نحقق عندك ما بلغك من توسط هذه الطاغية أطراف الموصل وما والاها ، وأن الناس قد جلوا عن أوطانهم ، وفتنوا فيأديانهم وضعفوا عن حقيقة إيمانهم ؛ للرعب الذي أذهلهم ، والخوف الذي وهلهم ؛ وإنما هم بين أطفالٍ صغار ، ونساء ضعاف ، وشيوخٍ قد أخذ الزمان منهم ، فهم أرضٌ لكل واطىء ، ونهبٌ لكل يد ؛ وشباب لا يقفون لعدوهم لقلة سلاحهم ، وسوء تأتيهم في القراع والدفاع ؛ ونحن نسئلك أن تتوخى في أمة محمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) ما يزلفك عنده ، ويكون لك في ذلك ذخرٌ من شفاعته وبحتيار مطرق . ثم اندفع علي بن عيسى فقال : أيها الأمير ، إن الصغير يتدارك قبل أن يكبر ، فكيف يجوز ألا يستقبل بالجد والاجتهاد وهو قد عسا وكبر . والله إن بنا إلا أن يظن أهل الجبل وأذربيجان وخراسان أنه ليس لنا ذابٌ عن حريمنا ، ولا ناصرٌ لديننا ، ولا حافظٌ لبيضتنا ، ولا مفرجٌ لكربتنا ، ولا من يهمه شيءٌ من أمورنا ، فالله الله ، لا تجرن علينا شماتتهم بنا ، وخذ بأيدينا بقوتك ، وحسن نيتك ، وحميد طويتك ، وعزك وسلطانك ، وأوليائك وأعوانك ، واكتب قبل هذا إلى عدة الدولة بما يبعثه على حفظ أطرافه ، وحراسة أكنافه ، مع استطلاع الرأي من جهتك ، ومطالعة أمير المؤمنين برأيك ومشورتك . ثم رفع الأنصاري رأسه وقال : ليس في تكرير الكلام - أطال الله بقاء الأمير - فائدةٌ كبيرة ، ولئن كان الإيجاز في هاذ الباب لا يكفي ، فالإطناب فيه أيضاً لا يغني ، والله لو نهضت بنا ونحن أحراضٌ كما ترى لا نقلب مخصرة بكف ، ولا نرمي دحروجةً بيد ، ولا نعرف سلاحاً إلا بالاسم ، لنهضنا وسرنا تحت رايتك ، وتصرفنا بين أمرك ونهيك ، وفديناك بأرواحنا ضناً بك ، وبعثنا على مثل ذلك أحداثنا وأولادنا اللذين ربيناهم بنعمتك ، وخرجناهم في أيامك ، وادخرناهم للنوازل إذا قامت ، والحوادث إذا ترامت ، فإن كان في المال قلةٌ فخذ من موسرنا وممن له فضل في حاله ، فإنه يفرج عنه طاعةً لك ، وطمعاً فيما عند الله من الثواب .وقال العوامي : والله ما سميت للدولة عزاً ، إلا لأن الله تعالى قد ذخرك للمسلمين كنزاً ، وجعل لهم على يديك وبتدبيرك راحةً وفوزاً ، ولم يعرضك لهذه الفادحة إلا ليخصك بانفراجها على يدك ويبقي لك بها ذكراً يطبق الأرض ويبلغ أمراء خراسان ومصر والحجاز واليمن فيصيبهم الحسد على ما هيأ الله لك منها . ونظر بختيار إلى ابن حسان القاضي - وكان منبسطاً معه لقديم خدمته - فقال : أيها القاضي ، أنت لا تقول شيئاً ؟ قال : أيها الأمير ، وما القول وعندك هؤلاء العلماء ، والمصاقع الألباء ؛ وإن سراجي لا يزدهر في شمسهم ، وإن سحابتي لا تبل على بلالهم : وقد قالوا فأنعموا ، وجروا فأمعنوا ، وليس قدامهم إمام ، ولا وراءهم إمام ؛ لكني أقول : ما جشمنا إليك هذه الكلف إلا لتنظر على ضعف أركاننا ، وعلو أسناننا وقلة أعواننا ، لأنا رأيناك أهلاً للنظر في أمرنا ، والاهتمام بحالنا ، وبما يعود نفعه على صغيرنا وكبيرنا . فقال عز الدولة : ما زوى عني ما طرق هذه البلاد ، ولقد أشرفت عليه ، وفكرت فيه ، وما أحببت تجشم هذه الطائفة على هذا الوجه . وما أعجبني هذا التقريع من الصغير والكبير ، وما كان يجوز لي أن أنعس على هذه الكارثة ، وأنعم بالعيش معها ، ولعمري إن الغفلة علينا أغلب ، والسهو فينا أعمل ، ولكن فيما ركبتموه مني تهجينٌ شديد ، وتوبيخٌ فاحشٌ ، وإن هذا المجلس لمما يتهادى حديثه بالزائد والناقص ، والحسن والقبيح ، وإنكم لتظنون أنكم مظلومون بسلطاني عليكم ، وولايتي لأموركم ؛ كلا ، ولكن كما تكونون يولىعلكيم ؛ هكذا قول صاحب الشريعة فينا وفيكم ؛ والله لو لم تكونوا أشباهي لما وليتكم ، ولولا أني كواحدٍ منكم ، لما جعلت قيماً عليكم ؛ ولو خلا كل واحد منا بعيب نفسه لعلم أنه لا يسعه وعظ غيره ، وتهجين سلطنه ؛ أيظن هذا الشيخ أبو بكر الرازي أنني غير عالمٍ بنفاقه ، ولا عارفٍ بما يشتمل عليه من خيره وشره ؛ يلقاني بوجهٍ صلب ، ولسانٍ هدار يرى من نفسه أنه الحسن البصري يعظ الحجاج بن يوسف ، أو واصل بن عطاء يأمر بالمعروف ، أو ابن السماك يرهب الفجار ؛ هذا قبيح ، ولو سكت عن هذا لكان عياً وعجزاً ؛ جزى الله أبا عبد الله شيخنا خيراً حين جلس ، وكذلك أحسن الله عنا مكافأة أبي سعيدٍ السيرافي ، فإنه لو علم أن فيم مساعدتك رشداً لما توقف ؛ وأما أنت يا أبا الحسن - يريد علي بن عيسى - فوحق أبي إني لأحب لقاءك ، وأوثر قربك ، ولولا ما يبلغني من ملازمتك لمجلسك ، وتدريسك لمختلفتك ، وإكبابك على كتابك في القرآن ، لغلبتك على زمانك ، ولاستكثرت مما قل حظي منه في هذه الحال التي أنا مدفوعٌ إليها ، فإنها وازعةٌ على هو النفس ، وطاعة الشيطان ، ومنازعة الأكفاء ، وجمع المال ، وأخذه من حيث يجب أو لا يجب ، وتفرقته فيمن يستحق ومن لا يستحق ، وإلى الله أفزع في قليل أمري وكثيره ، إذا شئتم . قال لي أبو الوفاء - وهو الذي شرح لي المجلس من أوله إلى آخره - : لقد شاهدت من عز الدولة في ذلك المجلس المنصور في جده وشهامته ، وثبات قلبه وقوة لسانه ، مع بححٍ لذيذٍ ولثغةٍ حلوة . قال : ولقد قلت له بعد ذلك : أيها الأمير ، ما ظننت أنك إذا خلعت رداءك ونزعت حذاءك تقول ذلك المقال ، وتجول ذلك المجال ، وتنال ذلك المنال ، لقد انصرف ذلك الرهط على هيبةٍ لك شديدة ، وتعظيمٍ بالغ ، ولقد تداولوا لفظك ، وتتبعوا معانيك ، وتشاحوا على نظمك ، وقالوا : ما ينبغي لأحدٍ أن يسيء ظنه بأحدٍ إلا بعد الخبرة والعيان ، وإلا بعد الشهادة والبيان ؛ أهذا يقال له متخلف أو ناقص ؟ لله دره من شخص ولله أبوهمن فتىً مدره ولما بلغ هذا المجلس الذين قعدوا عن المسير إليه - أعني عز الدولة - حمدوا الله تعالى ، وعلموا أن الخيرة كانت قرينة اختيارهم . قال الوزير : قرأت ما دونه الصابي أبو إسحاق في التاجي فما وجدت هذا الحديث فيه . قلت : لعله لم يقع إليه ، أو لعله لم ير التطويل به ، أو لعله لم يستخف ذكر عز الدولة على هذا الوجه . قال : هذا ممكن ؛ فهل سمعت في أيام الفتنة بغريبة ؟ قلت : كل ما كنا فيه كان غريباً بديعاً ، عجيباً شنيعاً ، حصل لنا من العيارين قواد ، وأشهرهم ابن كبرويه ، وأبو الدود ، وأبو الذباب ، وأسود الزبد ، وأبو الأرضة ، وأبو النوابح ، وشنت الغارة ، واتصل النهب ، وتوالى الحريق حتى لم يصل إلينا الماء من دجلة ، أعني الكرخ . فمن غريب ما جرى أن أسود الزبد كان عبداً يأوي إلى قنطرة الزبد ويلتقط النوى ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهوٍ ولعب ، وهو عريان لا يتوارى إلا بخرقة ، ولا يؤبه له ، ولا يبالي به ، ومضى على هذا دهر ، فلما حلت النفرة أعني لما وقعت الفتنة ، وفشا الهرج والمرج ، ورأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد أخذ السيف وأعمله ، طلب سيفاً وشحذه ، ونهب وأغار وسلب ، وظهر منه شيطانٌ في مسك إنسان ، وصبح وجهه ، وعذب لفظه ، وحسن جسمه ، وعشق وعشق ، والأيام تأتي بالغرائب والعجائب ، وكان الحسن البصري يقول في مواعظه : المعتبر كثير ، والمعتبر قليل . فلما دعي قائداً وأطاعه رجالٌ وأعطاهم وفرق فيهم ، وطلب الرآسة عليهم ، صار جانبه لا يرام ، وحماه لا يضام .فمما ظهر من حسن خلقه - مع شره ولعنته ، وسفكه للدم ، وهتكه للحرمة ، وركوبه للفاحشة ، وتمرده على ربه القادر ، ومالكه القاهر - أنه اشترى جاريةً كانت في النخاسين عند الموصلي بألف دينار ، وكانت حسناء جميلة ، فلما حصلت عنده حاول منها حاجته ، فامتنعت عليه ، فقال لها : ما تكرهين مني ؟ قالت : أكرهك كما أنت . فقال لها : فما تحبين ؟ قالت : أن تبيعني ، قال لها : أو خيرٌ من ذلك أعتقك وأهب لك ألف دينار ؟ قالت : نعم ، فأعتقها وأعطاها ألف دينار بحضرة القاضي ابن الدقاق عند مسجد ابن رغبان فعجب الناس من نفسه وهمته وسماحته ، ومن صبره على كلامها ، وترك مكافأتها على كراهتها ، فلو قتلها ما كان أتى ما ليس من فعله في مثلها . قال الوزير : هذا والله طريف ، فما كان آخر أمره ؟ قلت : ومتى سلمت ؟ جاءت النهابة إلى بين السورين وشنوا الغارة واكتسحوا ما وجدوا في منزلي من ذهب وثيابٍ وأثاث ، وما كنت ذخرته من تراث العمر ؛ وجردوا السكاكين على الجارية في الدار يطالبونها بالمال ، فانشقت مرارتها ، ودفنت في يومها ، وأمسيت وما أملك مع الشيطان فجرة ، ولا مع الغراب نقرة . أيها الشيخ - وفقك الله في جميع أحوالك ، وكان لك في كل مقالك وفعالك - إنما نثرت بالقلم ما لاق به ؛ فأما الحديث الذي كان يجري بيني وبين الوزير فكان على قدر الحال والوقت والواجب ؛ والاتساع يتبع القلم ما لا يتبع اللسان ، والروية تتبع الخط ما لا تتبع العبارة ، ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك ، وألقيه إليك ، أن يبقى الحديث بعدي وبعدك ، لم أجد بداً من تنميقٍ يزدان به الحديث ، وإصلاحٍ يحسن معه المغزى ، وتكلفٍيبلغ بالمراد الغاية ، فليقم العذر عندك على هذا الوصف ، حتى يزول العتب ، ويستحق الحمد والشكر .الليلة التاسعة والثلاثون
وقال الوزير ليلة : يعجبني الجواب الحاضر ، واللفظ النادر ، والإشارة الحلوة ، والحركة الرضية ، والنغمة المتوسطة ، لا نازلةً إلى قعر الحلق ، ولا طافحةً على الشفة . فكان من الجواب : اقتراح الشيء على الكمال سهل ، ولكن وجدانه على ذلك صعب ، لأن التمني صفو النفس الحسية ، ونيل المتمني في الفرصة المحشوة بالحيلولة . وقد قال المدائني : أحسن الجواب ما كان حاضراً مع إصابة المعنى وإيجاز اللفظ وبلوغ الحجة . وقال أبو سليمان شارحاً لهذا : أما حضور الجواب فليكون الظفر عند الحاجة ، وأما إيجاز اللفظ فيكون صافياً من الحشو ، وأما بلوغ الحجة فليكون حسماً للمعاوضة . قال : ما أحسن ما وشح هذه الفقرة بهذه الشذرة وحكى المدائني قال : قال مسلمة بن عبد المكل : ما من شيء يؤتاه العبد بعد الإيمان بالله أحب إلي من جوابٍ حاضر ، فإن الجواب إذا تعقب لم يكن له وقع . وحكى المدائني بإسناده عن عبد الرحمن بن حوشب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمرو بن الأهتم التيمي : أخبرني عن الزبرقان بن بدر ، فقال : مطاعٌ في أدنيه ، شديد العارضة ، مانعٌ لما وراء ظهره . فقال الزبرقان : يا رسول الله ، إنه ليعلم مني أكثر من هذا ، ولكنه حسدني ، فقال عمرو : أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ، ضيق العطن ، لئيم الخال ، أحمق الوالد ، وما كذبت في الأولى ، ولقد صدقت في الأخرى ، ولقد رضيت فقلت أحسن ماعلمت ، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً ' . وقال أبو سليمان : السحر بالقول الأعم والرسم المفيد على أربعة أضرب : سحرٌ عقلي ، وهو ما بدر من الكلام المشتمل على غريب المعنى في أي فن كان ؛ وسحرٌ طبيعي ، وهو ما يظهر من آثار الطبيعة في العناصر المتهيئة والمواد المستجيبة ، وسحرٌ صناعي ، وهو ما يوجد بخفة الحركات المباشرة ، وتصريفها في الوجوه الخفية عن الأبصار المحدقة ، وسحرٌ إلهي وهو ما يبدو من الأنفس الكريمة الطاهرة باللفظ مرة ، وبالفعل مرة . وعرض كل واحدٍ من هذه الضروب واسع ، وكل حذقٍ ومهارةٍ وبلوغ قاصيةٍ في كل أمر هو سحرٌ ، وصاحبه ساحرٌ . وقال المدائني : نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام فشتمهم ، فقال له سعيد بن عثمان بن عفان ، أتشتمهم لأنهم قتلوا أباك ؟ فقال : صدقت ، ولكن المهاجرين والأنصار قتلوا أباك . وقال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد الله بن الزبير : أبوك كان أعلم بك حين شتمك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتدري لم كان يشتمني ؟ إني نهيته أن يقاتل بأهل مكة وأهل المدينة ، فإن الله لا ينصره بهما ، وقلت له ، أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخافوه ، ثم جاؤا إلى المدينة فأخرجهم منها وشردهم . فعرض بالحكم بن أبي العاص - وهو جد عبد الملك - وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفاه . وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قتل بينهم ، لم يروا أن يدفعوا عنه . فقال له عبد الملك : لحاك الله . وقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لمعاوية : أما والله لو كنت بمكة لعلمت ، فقال معاوية : كنت أكون ابن أبي سفيان ينشق عني الأبطح ، وكنت أنت ابن خالد منزلك أجياد ، أعلاه مدرة ، وأسفله عذرة .وقال المدائني : قال ابن الضحاك بن قيس الفهري لهشام بن عبد الملك قبل أن يملك - وهو يومئذ غلامٌ شابٌ - يابن الخلائف ، لم تطيل شعرك وقميصك ؟ قال أكره أن أكون كما قال الشاعر : قصير القميص فاحشٌ عند بيته . . . وشر غراسٍ في قريشٍ مركبا قال : وهذا الشعر لأبي خالدٍ مروان بن الحكم ، هجا به الضحاك ابن قيس . وحكى أيضاً ، قال : مر عطاء بن أبي صيفي بعبد الرحمن بن حسان ابن ثابتٍ وعطاءٌ على فرسٍ له ؛ فقال له عبد الرحمن : يا عطاء ، لو وجدت زمام زق الخمر خالياً ما كنت تصنع به ؟ قال : كنت آتي به دور بني النجار فأعرفه فإنه ضالةٌ من ضوالهم ، فإن عرفوه وإلا فهو لك لم يعدك ، ولكن أخبرني أي جديك أكبر ، أفريعة أم ثابت ؟ قال : لا أدري . قال : فلم يعنيك ما كان في كنائن الرجال وأنت لا تدري أي جديك أكبر ؟ بل فريعة أكبر من ثابت ، وقد تزوجها قبله أربعةٌ كلهم يلقاها بمثل ذراع البكر ، ثم يطلقها عن قلى ؟ فقال لها نسوةٌ من قومها : والله يا فريعة إنك لجميلة ، فما بال أزواجك يطلقونك ؟ قالت : يريدون الضيق ضيق الله عليهم . وحكى أيضاً قال : قال أبو السفر : بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير إذ رفع بين مكة والمدينة قبر أبي سعيد بن العاص ، فقال أبو بكر : لعن الله صاحب هذا القبر ، فإنه كان يكذب الله ورسوله ، فقال خالد بن أسيد - وهو في القوم - : لا بل لعن الله أبا قحافة فإنه كان لا يقري الضيف ، ولا يمنع الضيم ، ولا يقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إذا سبنيالمشركون فعموهم بالسب ، ولا تسبوا الأموات فإن سب الأموات يغضب الأحياء ؟ ' . قال محمد بن عمارة : فذاكرت بهذا الحديث رجلاً من أصحاب الحديث من ولد سعيد بن العاص ، فعرفه ، فقال : فيه زيادة ليست عندكم ، قلت : وما هي ؟ فقال : قال خالد بن أسيد : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ما يسرني أنه في أعلى عليين وأن أبا قحافة ولده . فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بدت نواجذه ، وقال : ' لا تسبوا الأموات فإن سبهم يغضب الأحياء ' . وحكى قال : رمى عمر بن هبيرة الفزاري إلى عرام بن شتير بخاتمٍ له فضة - وقد زوج - فعقد عليه عرام سيراً ورده إلى ابن هبيرة . أراد ابن هبيرة قول الشاعر : لقد زرقت عيناك يابن ملعنٍ . . . كما كل ضبيٍ من اللؤم أزرق وعرض له عرام بقول ابن دارة : لا تأمنن فزارياً خلوت به . . . على قلوصك واكتبها بأسيار وقال المدائني : وكان ابن هبيرة يساير هلال بن مكمل النميري ، فتقدمت بغلة النميري بغلة ابن هبيرة . فقال : غض من بغلتك . فالتفت إليه النميري فقال : أصلح الله الأمير ، إنها مكتوبة ، وإنما أراد ابن هبيرة : فغض الطرف فغض الطرف إنك من نمير . . . فلا كعباً بلغة ولا كلابا وأراد النميري قول سالم بن دارة : لا تأمنن فزارياً خلوت به . . . على قلوصك واكتبها بأسيار وقال الوليد العنبري : مرت امرأةٌ من بني نمير على مجلسٍ لهم ، فقال رجلمنهم : أيتها الرسحاء . فقالت المرأة : يا بني نمير ، والله ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر ، قال الله عز وجل : ' قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ' . وقال الشاعر : فغض الطرف إنك من نميرٍ . . . فلا كعباً بلغت ولا كلابا وقال : مر الفرزدق بخالد بن صفوان بن الأهتم ، فقال له خالد : يا أبا فراس ، ما أنت الذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ، فقال له الفرزدق : ولا أنت الذي قالت الفتاة لأبيها فيه : ' يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ' . قال : ودخل يزيد بن مسلم على سليمان بن عبد الملك ، وكان مصفراً نحيفاً ، فقال سليمان : على رجلٍ أجرك رسنك وسلطك على المسلمين لعنة الله . فقال : يا أمير المؤمنين إنك رأيتني والأمر عني مدبرٌ ، فلو رأيتني وهو علي مقبلٌ لا ستعظمت مني يومئذٍ ما استصغرت اليوم . قال : فأين الحجاج ؟ قال : يجيء يوم القيامة بين أبيك وأخيك ، فضعه حيث شئت . وقال عباد بن زياد : كنت عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه أبو يوسف حاجبه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه بثينة . قال : أبثينة جميل ؟ قال : نعم ، قال أدخلها ، فدخلت امرأةٌ أدماء طويلةٌ يعلم أنها كانت جميلة ، فقال له يا أبا يوسف ألق لها كرسياً ، فألقاه لها ، فقال لها عبد الملك ، ويحك ما رجا منك جميل ، قالت : الذي رجت منك الأمة حين ولتك أمرها . وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان : إن رهطاً من الأنصار دخلوا على معاوية ، فقال : يا معشر الأنصار ، قريشٌ خيرٌ لكم منكم لهم ، فإن يكن ذلك لقتلى أحد ، فقد قتلتم يوم بدرٍ مثلهم ؛ وإن يكن لإمرةٍ فوالله ما جعلتم لي إلى صلتكم سبيلاً ؛ خذلتم عثمان يوم الدار ، وقتلتم أنصاره يوم الجمل ، وصليتم بالأمر يوم صفين . فتكلم رجلٌ منهم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما قولك إن يكون لقتلى أحد فإن قتيلنا شهيد وحيناتائق ، وأما ذكرك الإمرة ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بالصبر عليه . وأما قولك إنا خذلنا عثمان ، فإن الأمر في عثمان إلى قتلته ؛ وأما قولك إنا قتلنا أنصاره يوم الجمل فذلك ما لا نعتذر منه ، وأما قولك إنا صلينا بالأمر يوم صفين ، فإنما كنا مع رجل لم نأله خبراً ، فإن لمتنا فرب ملومٍ لا ذنب له . ثم قام هو وأصحابه يجر ثوبه مغضباً ، فقال معاوية : ردوهم ، فردوا فترضاهم حتى رضوا ، ثم انصرفوا . وأقبل معاوية على رهطٍ من قريشٍ ، فقال : والله ما فرغ من منطقه حتى ضاق بي مجلسي . قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان : دخل قيس بن سعد بن عبادة مع قومٍ من الأنصار على معاوية . فقال معاوية : يا معشر الأنصار ، لم تطلبون ما قبلي ، فوالله لقد كنتم قليلاً معي ، كثيراً علي ، ولقد قتلتم جندي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظى في أسنتكم ، وهجوتموني بأشد من وخز الأشافي حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله ، قلتم : ارع فينا وصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ هيهات ، أبى الحقين العذرة ، فقال قيس : نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به الله لا سواه ، لا بما تمت به إليك الأحزاب ، وأما عداؤنا لك فلو شئت كففنا عنك ؛ وأما هجاؤنا إياك فقولٌ يزول باطله ، ويثبت حقه ، وأما قتلنا جندك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى أن طاعته طاعة الله ؛ وأما استقامة الأمر لك فعلى كرهٍ منا كان منا ، وأما وصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فينا ، فمن آمن به رعاها ؛ وأما قولك أبي الحقين العذرة ، فليس دون الله يدٌ تحجزك ؛ فشأنك . فقام معاوية فدخل ، وخرج قيسٌومن كان معه . وقال محمد بن خالد القرشي : دخل زفر بن الحارث الكلابي على عبد الملك بن مروان وعنده خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله بن خالد ، فقال زفر : لو كان لعبد الله سخاء مصعب وكان لمصعب عبادة عبد الله لكانا ما شاء المتمني . فقال عبد الملك : ما كان سخاء مصعب إلا لعباً ، ولا كانت عبادة عبد الله إلا عبثاً ، ولكن لو كان للضحاك ابن قيسٍ مثل رجال مروان لكانت قيس أرباباً بالشام ، فقال زفر : لو كانت لمروان صحبة الضحاك لكان ؛ فقال عبد الملك ، والله ما أحب له مثل صحبته ومصرعه ، فقال خالد : لولا أن أمير المؤمنين لايبصر مرعىً لما تركناك والكلام . فقال زفر : اربعا على أنفسكما ودعانا وخليفتنا واسحبا ذيولكما على خيانة خراسان وسجستان والبصرة . وقال المدائني : غاب مولىً للزبير عن المدينة حيناً ، فقال له رجل من قريش لما رجع : أما والله لقد أتيت قوماً يبغضون طلعتك ، وفارقت قوماً لا يحبون رجعتك . قال المولى : فلا أنعم الله ممن قدمت عليه عيناً ، ولا أخلف الله على من فارقت بخير . قال المدائني : كان مرثد بن حوشب عند سليمان بن عبد الملك ، فجرى بينه وبين أبيه كلامٌ حتى تسابا ، فقال له أبوه : والله ما أنت بابني ، قال : والله لأنا أشبه منك بأبيك ، ولأنت كنت أغير على أمي من أبيك على أمك . فقال له سليمان : قاتلك الله ، إنك لابنه . وساب مرثد أخاه ثمامة ، فقال له ثمامة : يا حلقي ، فقال له مرثد : يا خبيث ، أتسابني مسابة الصبيان ، فوالله إنك لابني ، ولقد غلبني حوشب على أمك ، وقد ألقحتهابك . وقال ابن عياش المنتوف لأبي شاكر بن هشام بن عبد الملك : لو قصرت قميصك ، قال له : ما يضرك من طوله . قال : تدوسه في الطين ، قال وما ينفعك من دوسه . وقال : كان على تبالة رجل من قريش ؛ فقال لرجل من باهلة ، من الذي يقول : إن كنت ترجو أن تنال غنيمةً . . . في دور باهلة بن يعفر فارحل قومٌ قتيبة أمهم وأبوهم . . . لولا قتيبة أصبحوا في مجهل فقال الباهلي : ما أدري غير أني أظنه الذي يقول : يا شدةً ما شددنا غير كاذبةٍ . . . على سخينة لولا الليل والحرم قال : وتكلم ابن ظبيان التيمي يوماً فأكثر ، فقال له مالك بن مسمع ، إيهاً أبا مطر ، فإن للقوم في الكلام نصيباً ، فقال : والله ما إليك جئت ، ولو أن بكر بن وائل اجتمعت في بيت بقالٍ لأتيتهم . فقال له مالك ، إنما أ ، ت سهمٌ من سهام كنانتي . فقال ابن ظبيان : أنا سهمٌ من سهام كنانتك ؟ فوالله لو قمت فيها لطلتها ، ولو قعدت فيها لخرقتها ، وايم الله ما أراك تنتهي حتى أرميك بسهمٍ لم يرش ، تذبل به شفتاك ، ويجف له ريقك . وقال رجلٌ للأحنف : بأي شيء سدت تميماً ؟ فوالله ما أنت بأجودهم ولا أشجعهم ولا أجملهم ولا أشرفهم ، قال : بخلاف ما أنت فيه . قال : وما خلاف ما أنا فيه ؟ قال : تركي ما لا يعنيني من أمور الناس كما عناك من أمري ما لا يعنيك .ووفد عليم بن خالد الهجيمي على هشامٍ وعنده الأبرش الكلبي ، فقال له الأبرش الكلبي : يا أخا بني الهجيم ، من القائل . لو يسمعون بأكلةٍ أو شربةٍ . . . بعمان أصبح جمعهم بعمان ألكم يقوله ؟ قال : نعم ، لنا يقوله ، ولكنكم يا معشر كلبٍ تعبرون النساء وتجزون الشاء ، وتكدرون العطاء ، وتؤخرون العشاء ، وتبيعون الماء . فضحك هشام ، فلما خرجا قال الأبرش : يا أخا بني الهجيم ، أما كانت عندك بقية ؟ قال : بلى ، لو كان عندك بقية . قدمت امرأةٌ زوجها إلى زياد تنازعه ، وقد كانت سنه أعلى من سنها فجعلت تعيب زوجها وتقع فيه ، فقال زوجها : أيها الأمير ، إن شر شطري المرأة آخرها ، وخير شطري الرجل آخره . المرأة إذا كبرت عقمت رحمها ، وحد لسانها ، وساء خلقها ، وإن الرجل إذا كبرت سنه استحكم رأيه ، وكثر حلمه وقل جهله . وقال أعشى همدان لامرأته : إنك لسلسة الثقبة ، سريعة الوثبة ، حديدة الركبة ، فقالت : والله إنك لسريع الإراقة ، بطيء الإفاقة ، قليل الطاقة ، فطلقها ، وقال : تقادم عهدك أم الجلال . . . وطاشت نبالك عند النضال وقد بت حبلك فاستيقني . . . بأني طرحتك ذات الشمال وأن لا رجوع فلا تكذبي . . . ن ماحنت النيب إثر الفصال قال الغلابي عن غيره : قال رجل لامرأته : أما إنك ما علمت لسئولٌ منعة ، جزوعٌ هلعة ، تمشين الدفقى وتقعدين الهبنقعة ، فقالت : أما والله إن كان زادي منكلهدية ، وإن كانت حظتي منك لحذية ، فإنك لابن خبيثة يهودية . وقال المدائني : قبض كسرى أرضاً لرجل من الدهاقين ، وأقطعها البحرجان ، فقدم صاحب الأرض متظلماً ، فأقام بباب كسرى ، فركب كسرى يوماً ، فقعد له الرجل على طريقه يكلمه ، فلما حاذاه شد عليه حتى صك بصدره ركبته ، ووضع يده على فخذه ؛ فوقف له كسرى وكلمه ، فقال له : أرضٌ كانت لأجدادي ورثتها من آبائي قبضتها فأقطعتها البحرجان ؟ ارددها علي ، فقال له كسرى : مذ كم هذه الأرض في أيدي أجدادك وآبائك ؟ فذكر دهراً طويلاً ، فقال له كسرى : والله لقد أكلتموها دهراً طويلاً ، فما عليك في أن تدعها في يد البحرجان عاريةً سنياتٍ يستمتع بها ثم يردها عليك ، فقال : أيها الملك ، قد علمت حسن بلاء بهرام جور في طاعتكم ، أهل البيت ، وما كفاكم من حد عدوكم ، ودفعه عنكم كيد الترك وحسن بلاء آبائه قبل ذلك في طاعة آبائك ، فما كان عليك لو أعرته ملكك سنياتٍ يستمتع به ثم يرده إليك ؟ فقال كسرى : يا بحرجان ، أنت رميتني بهذا السهم ، اردد عليه أرضه فردها . قال رجل من القحاطنة لرجل من أبناء الأعاجم : ما يقول الشعر منكم إلا من كانت أمه زنى بها رجلٌ منا فنزع إلينا . فقال له الثنوي : وكذلك كل من لم يقل الشعر منكم ، فإنما زنى بأمه رجلٌ منا فحملت به ، فنزع إلينا ، فمن ثم لم يقل الشعر . وقال رجلٌ من العرب لرجلٍ من أبناء العجم : رأيت في النوم كأني دخلت الجنة فلم أر فيها ثنوياً . فقال له الثنوي : أصعدت الغرف ؟ قال : لا . قال : فمن ثم لم ترهم ، هم في الغرف . قال ابن عياش : ما قطعني إلا رجلٌ من قريشٍ من آل أبي معيط ، وكان ماجناً شارب خمرٍ ، وذاك أني وقفت على بيان التبان الذيأتى به ابن هبيرة الفزاري فأمر بصلبه ، فقال لي : ما وقوفك ها هنا يا أبا الجراح ؟ قلت : أنظر إلى هذا الشقي الذي يقول : إنه نبي ؛ قال : وما أتى به في نبوته ؟ قلت : بتحليل الخمر والزنا - وأنا أعرض به - فقال : لا ، والله لا يقبل ذلك منه حتى يبرىء الأكمه والأبرص . قال المدائني : ابن عياش أبرص . وقال : دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زيادٍ ، فقال له ابن زياد - وهو يهزأ به - أمسيت يا أبا الأسود العشية جميلاً فلو علقت تميمةً تنفي بها عنك العين ؟ فعرف أنه يهزأ به فقال : أصلح الله الأمير - أفنى الشباب الذي فارقت بهجته . . . مر الجديدين من آتٍ ومنطلق لم يتركا لي في طول اختلافهما . . . شيئاً تخاف عليه لدغة الحدق وقال المدائني : وقع بين العريان بن الهيثم النخعي وبين بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري كلامٌ بين يدي خالد بن عبد الله القصري وخالدٌ يومئذٍ على العراق - وكان متحاملاً على بلال ، وكان العريان على شرطة خالد - فقال العريان لبلال : إني والله ما أنا بأبيض الراحتين ، ولا منتشر المنخرين ، ولا أروح القدمين ، ولا محدد الأسنان ، ولا جعدٍ قطط ، فقال بلال : يا عريان أتعنيني بهذا ؟ قال : لا والله ، ولكن كلامٌ يتلو بعضه بعضاً . فقال بلال : يا عريان ، أتريد أن تشتم أبا بردة وأشتم أباك ، وتشتم أباموسى وأشتم جدك ، هذا والله ما لا يكون ، فقال العريان : إني والله ما أجعل أبا موسى فداء الأسود ، ولا أبا بردة فداء الهيثم ، فمثلي ومثلك في ذلك كما قال مسكينٌ الدارمي : أنا مسكينٌ لمن أنكرني . . . ولمن يعرفني جد نطق لا أبيع الناس عرضي إنني . . . لو أبيع الناس عرضي لنفق قال المدائني : جرى بين وكيع بن الجراح وبين رجل من أصحابه كلامٌ في معاوية واختلفا ، فقال الرجل لوكيع : ألم يبلغك أن رسول الل ( صلى الله عليه وسلم ) لعن أبا سفيان ومعاوية وعتبة فقال : ' لعن الله الراكب والقائد والسائق ' ، فقال وكيع : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' أيما عبدٍ دعوت عليه فاجعل ذلك له أو عليه رحمةً ' ؛ فقال الرجل : أفيسرك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعن والديك فكان ذلك لهما رحمةً . فلم يحر له جواباً . تكلم صعصعة عند معاوية فعرق ، فقال : وبهرك القول يا صعصعة ؟ فقال : إن الجياد نضاحةٌ بالماء . هكذا قال لنا السيرافي ، وقد قرأت عليه هذه الفقر كلها ، وإنما جمعتها للوزير بعد إحكامها وروايتها . قال علي بن عبد الله : شهدت الحجاج خارجاً من عند عبد الملك بن مروان ، فقال له خالد بن يزيد بن معاوية : إلى متى تقتل أهل العراق يا أبا محمد فقال : إلى أن يكفوا عن قولهم في أبيك : إنه كان يشرب الخمر . قال المدائني : أسرت مزينة حسان بن ثابتٍ - وكان قد هجاهم - فقال : مزينة لا يرى فيها خطيب . . . ولا فلجٌ يطاف به خضيب أناسٌ تهلك الأحساب فيهم . . . يرون التيس يعدله الحبيب فأتتهم الخزرج يفتدونه ؛ فقالوا : نفاديه بتيس ؛ فغضبوا وقاموا ؛ فقال لهم حسان :يا إخوتي خذوا أخاكم وادفعوا إليهم أخاهم . وقال المدائني : فرق عمر بن الخطاب بين منظور بن أبان وبين امرأته - وكان خلف عليها بعد أبيه - فتزوجها طلحة بن عبد الله ، فلقيه منظور ، فقال له : كيف وجدت سورى ؟ فقال : كما وجدت سور أبيك . فأفحمه . وقال حاطب بن أبي بلتعة : بعثني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المقوقس ملك الإسكندرية ، فأتيته بكتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وابلغته رسالته ؛ فضحك ثم قال : كتب إلي صاحبك أن أتبعه على دينه ، فما يمنعه إن كان نبياً أن يدعو الله أن يسلط علي البحر فيغرقني فيكتفي مؤونتي ويأخذ ملكي ؟ قلت : فما صنع عيسى إذ أخذته اليهود فربطوه في حبل وحلقوا وسط رأسه ، وجعلوا عليه إكليل شوك ، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه ، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة ، ثم طعنوه حياً بحربة حتى مات ؛ هذا على زعمكم ، فما منعه أن يأسل الله فينجيه ويهلكهم فيكفى مؤونتهم ويظهر هو وأصحابه عليهم ؟ وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله فقتله ، وبعث برأسه إليها حتى وضع بين يديها ، أن يسأل الله تعالى أن ينجيه ويهلك الناس ؟ فأقبل على جلسائه وقال : إنه والله لحكيمٌ إلا من عند الحكماء . قال المدائني : أبطأ علي رجلٍ من أصحاب الجنيد بن عبد الرحمن ما قبله - وهو على خراسان - وكان يقال للرجل : زامل بن عمرٍو من بني أسد بن خزيمة ، فدخل على الجنيد يوماً فقال : أصلح الله الأمير ، قد طال انتظاري ، فإن رأى الأمير أن يضرب لي موعداً أصير إليه فعل . فقال : موعدك الحشر ؛ فخرج زاملٌ متوجهاً إلى أهله ؛ ودخل على الجنيد بعد ذلك رجلٌ من أصحابه فقال : أصلح الله الأمير . أرحني بخير منك إن كنت فاعلاً . . . وإلا فميعادٌ كميعاد زامل قال : وما فعل زامل ؟ قال : لحق بأهله . فأبرد الجنيد في أثره بريداً وبعث يعهده إلىالكورة التي يدرك بها ، فأدرك بنيسابور ، فنزلها . وامتدح رجلٌ الحسن بن علي بشعرٍ ، فأمر له بشيء ؛ فقيل : أتعطي على كلام الشيطان ؟ فقال : أبتغي الخير لنفي الشر . قال المدائني : أتى العبداني حماد بن أبي حنيفة وقد ملأ عينه كحلاً قد ظهر من محاجر عينه ، وعند حمادٍ جماعةٌ . فقال له حماد : كأنك امرأة نفساء . قال : لا ، ولكني ثكلى . قال : على من ؟ قال : على أبي حنيفة . وقال مروان بن الحكم ليحيى : إن ابنتك تشكو تزويجك وتزعم أنه يبول في دثاره . قال : فهو يبول منها فيما هو أعظم من دثاره . وقال معاوية : هذا عقيلٌ عمه أبو لهب . فقال عقيل : هذا معاوية عمته حمالة الحطب . قال : ودخل معن بن زائدة على أبي جعفرٍ فقارب في خطوه ، فقال أبو جعفر : كبرت سنك يا معن . قال : في طاعتك . قال : وإنك لجلد . قال : على أعدائك . قال : إن فيك لبقية . قال : هي لك يا أمير المؤمنين . قال المنصور لسفيان بن معاوية المهلبي ، ما أسرع الناس إلى قومك ؟ قال سفيان : إن العرانين تلقاه محسدةً . . . ولن ترى للئام الناس حسادا فقال : صدقت . قال المدائني : حضر قومٌ من قريش مجلس معاوية وفيهم عمرو بن العاص وعبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ؛ فقال عمرو : احمدوا الله يا معشر قريش إذ جعل والي أموركم من يغضي علىالقذى ، ويتصامم عن العوراء ، ويجر ذيله على الخدائع . قال عبد الله بن صفوان : لو لم يكن هذا لمشينا إليه الضراء ، ودببنا له الخمر ، وقلبنا له ظهر المجن ، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال مصر . وقال معاوية : يا معشر قريش ، حتى متى لا تنصفون من أنفسكم ؟ فقال عبد الرحمن بن الحارث : إن عمراً وذوي عمرٍو أفسدوك علينا وأفسدونا عليك ، ما كان لو أغضيت على هذه ؟ فقال : إن عمراً لي ناصح ، قال أطعمنا مما أطعمته ، ثم خذنا بمثل نصيحته ، إنك يا معاوية تضرب عوام قريشٍ بأياديك في خواصها كأنك ترى أن كرامها جاروك دون لئامها ، وايم الله : إنك لتفرغ من إناء فعم في إناء ضخم ، ولكأنك بالحرب قد حل عقالها ثم لا تنظرك . فقال معاوية : يابن أخي ما أحوج أهلك إليك . ثم أنشد معاوية : أغر رجالاً من قريشٍ تشايعوا . . . على سفهٍ ، منا الحيا والتكرم ؟ وقال المدائني : كان عروة بن الزبير عند عبد الملك بن مروان يحدثه - وعند الحجاج بن يوسف - فقال له عروة في بعض حديثه : قال أبو بكر - يعني عبد الله بن الزبير - فقال الحجاج : أعند أمير المؤمنين تكنى ذلك الفاسق ؟ لا أم لك . فقال عروة : ألي تقول هذا لا أم لك وأنا ابن عجائز الجنة خديجة وصفية وأسماء وعائشة ، بل لا أم لك أنت يابن المستفرمة بعجم زبيب الطائف .وقال : لما صنع هشام بن عبد الملك بغيلان الواعظ ما صنع ، قال له رجلٌ : ما ظلمك الله ولا سلط عليك أمير المؤمنين إلا وأنت مستحق ؛ فقال غيلان : قاتلك الله ، إنك جاهلٌ بأصحاب الأخدود . قال عمرو بن العاص : أعجبتني كلمةٌ من أمةٍ ؛ قلت لها ومعها طبق : ما عليه يا جارية ؟ قالت : فلم غطيناه إذاً ؟ وقع ابن الزبير في معاوية ، ثم دخل عليه فأخبره معاوية ببعضه ، فقال : أنى علمت ذلك ؟ فقال معاوية : أما علمت أن ظن الحكيم كهانة . وقيل لعمر بن عبد العزيز : ما تقول في عليٍ وعثمان وفي حرب الجمل وصفين ؟ قال : تلك دماءٌ كف الله يدي عنها ، فأنا أكره أن أغمس لساني فيها . وقال : طلق أبو الخندف امرأته أم الخندف ، فقالت له : يا أبا الخندف طلقتني بعد خمسين سنة ، فقال : مالك عندي ذنبٌ غيره . وقال : لقي جريرٌ الأخطل فقال : يا مالك ، ما فعلت خنازيرك قال : كثيرةٌ في مرجٍ أفيح ، فإن شئت قريناك منها ، ثم قال الأخطل : يا أبا حزرة ما فعلت أعنازك ؟ قال كثيرةٌ في وادٍ أروح ، فإن شئت أنزيناك على بعضها . وقال الشعبي : ذكر عمرو بن العاص علياً فقال : فيه دعابةً ، فبلغ ذلك علياً فقال : زعم أن النابغة أنى تلعابةٌ تمراحةٌ ذو دعابةٍ أعافس وأمارس ؛ هيهات ، يمنع من العفاس والمراس ذكر الموت وخوف البعث والحساب ومن كان له قلبٌ ففي هذا عن هذا له واعظ وزاجر ، أما وشر القول الكذب - إنه ليعد فيحلف ، ويحدث فيكذب ، فإذا كان يوم البأس فإنه زاجرٌ وآمرٌ ما لم تأخذ السيوف بهام الرجال ، فإذا كان ذاك فأعظم مكيدته في نفسه أن يمنح القوم استه . قال المدائني : بعث المفضل الضبي إلى رجل بأضحية ، ثم لقيه فقال : كيف كانت أضحيتك ؟ فقال : قليلة الدم . وأراد قول الشاعر :ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد . . . من اللؤم للضبي لحماً ولا دما وقال المدائني : مر عقيل بن أبي طالب على أخيه علي بن أبي طالب ومعه تيسٌ ، فقال له علي : إن أحد ثلاثتنا أحمق . فقال عقيل : أما أنا وتيسي فلا . وكلم عامر بن عبد قيسٍ حمران يوماً في المسجد . فقال له حمران : لا أكثر الله فينا مثلك . فقال عامر : لكن : أكثر الله فينا مثلك ، فقال له القوم : يا عامر ، يقول لك حمران ما لا تقول مثله ؟ فقال : نعم يكسحون طرقنا ، ويحوكون ثيابنا ، ويخرزون خفافنا . فقيل له : ما كنا نرى أنك تعرف مثل هذا ، قال : ما أكثر ما نعرف مما لا تظنون بنا . وقال : مر جرير بن عطية على الأحوص وهو على بغلٍ ، فأدلى البغل فقال الأحوص : بغلك يا أبا حزرة على خمس قوائم . قال جرير : والخامسة أحب إليك . ومر جريرٌ بالأحوص وهو يفسق بامرأة وينشد : يقر بعيني ما يقر بعينها . . . وأحسن شيء ما به العين قرت فقال له جرير : فإنه يقر بعينها أن تقعد على مثل ذراع البكر ، أفتراك تفعل ذلك ؟ فقال الوزير : من رأيت من الكبار كان يحفظ هذا الفن وله فيه غزارةٌ وانبعاثٌ وجسارةٌ على الإيراد . قلت : ابن عباد على هذا ، ويبلغ من قوته أنه يفتعل أشياء شبيهةً بهذا الضرب على من حضر ، فقال : الكذب لا خير فيه ، ولا حلاوة لراويه ، ولا قبول عند سامعيه . وقال : أرسل بلال بن أبي بردة إلى أبي علقمة فأتاه ، فقال : أتدري لأي شيء أرسلت إليك ؟ قال : نعم ، لتصنع بي خيراً . قال : أخطأت ولكن لأسىء بك . فقال : أما إذ قلت ذاك لقد حكم المسلمون حكمين ، فسخر أحدهما بالآخر . فقال الوزير : أيقال سخر به فكان الجواب أن أبا زيد حكاه ، وصاحب التصنيف قد رواه ؛ وسخر منه أيضاً كلامٌ ، وإنما يقال هو أفصح ، لأنه في كتاب الله عز وجل ، وإلا فكلاهما جائز . وقال حمزة بن بيض الحنفي للفرزدق : يا أبا فراس ، أيما أحب إليك أن تسبق الخيرأم يسبقك قال : ما أريد أن أسبقه ولا أن يسبقني ، بل نكون معاً . ولكن حدثني أيما أحب إليك : أن تدخل منزلك فتجد رجلاً على حرامك ، أو تجدها قابضةً على قمد الرجل . فأفحمه . فلما قرأت الجزء في ضروب الجواب المفحم . قال : ما أفتح هذا النوع من الكلام لأبواب البديهة وأبعثه لرواقد الذهن وما يتفاضل الناس عندي بشيء أحسن من هذه الكلمات الفوائق الروائق ، ما أحسن ما جمعت وأتيت به .
الليلة الأربعون
وقال مرة أخرى : حدثني عن اعتقادك في أبي تمامٍ والبحتري ، فكان الجواب : إن هذا الباب مختلفٌ فيه ، ولا سبيل إلى رفعه ، وقد سبق هذا من الناس في الفرزدق وجريرٍ ومن قبلهما في زهير والنابغة حتى تكلم على ذلك الصدر الأول ، مع علو مراتبهم في الدين والعقل والبيان ، لكن حدثنا أبو محمد العروضي عن أبي العباس المبرد قال : سألني عبيد الله بن سليمان عن أبي تمام والبحتري ؛ فقلت : أبو تمام يعلو علواً رفيعاً ، ويسقط سقوطاً قبيحاً ، والبحتري أحسن الرجلين نمطاً ، وأعذب لفظاً ؛ فقال عبيد الله : قد كان ذلك ظني . . . فعاد ظني يقينا فقلت : وهذا أيضاً شعر . فقال : ما علمت . ققال : هذه حكايةٌ مفيدةٌ من هذا العالم المتقدم ، وحكمٌ يلوح منه الإنصاف ، وقد أغنى هذا القول عن خوضٍ كثير . ودع ذا ؛ من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب حتى افترقوا هذا الافتراق ، وتباينوا هذا التباين ، وخرجوا إلى التكفير والتفسيق وإباحة الدم والمال ورد الشهادة وإطلاق اللسان بالجرح وبالقذع والتهاجر والتقاطعفكان الجواب : إن المذاهب فروح الأديان ، والأديان أصول المذاهب ، فإذا ساغ الاختلاف في الأديان - وهي الأصول - فلم لا يسوغ في المذاهب وهي الفروع . فقال : ولا سواء ، الأديان اختلفت بالأنبياء ، وهم أرباب الصدق والوحي الموثوق به ، والآيات الدالة على الصدق ؛ وليس كذلك المذاهب . فقيل : هذا صحيح ، ولا دافع له ، ولكن لما كانت المذاهب نتائج الآراء ، والآراء ثمرات العقول ، والعقول منائح الله للعباد ، وهذه النتائج مختلفةٌ بالصفاء والكدر ، وبالكمال والنقص ، وبالقلة والكثرة ، وبالخفاء والوضوح ؛ وجب أن يجري الأمر فيها على مناهج الأديان في الاختلاف والافتراق وإن كانت تلك منوطةً بالنوبة ؛ وبعد ، فما دام الناس على فطرٍ كثيرةٍ ، وعاداتٍ حسنةٍ وقبيحة ، ومناشىء محمودةٍ ومذمومة ، وملاحظاتٍ قريبةٍ وبعيدة ، فلابد من الاختلاف في كل ما يختار ويجتنب ، ولا يجوز في الحكمة أن يقع الاتفاق فيما جرى مجرى المذاهب والأديان ؛ ألا ترى أن الاتفاق لم يحصل في تفضيل أمة على أمة ، ولا في تفضيل بلدٍ على بلد ، ولا في تقديم رجلٍ على رجل ، ولو لم يكن في هذا الأمر إلا التعصب واللجاج والهوى والمحك والذهاب مع السابق إلى النفس ، والموافق للمزاج ، والخفيف على الطباع ، والمالك للقلب ، لكان كافياً بالغاً بالإنسان كل مبلغ . وشيخنا أبو سليمان يقول كثيراً : إن الدين موضوعٌ على القبول والتسليم ، والمبالغة في التعظيم ، وليس فيه ' لم ' و ' لا ' و ' كيف ' إلا بقدر ما يؤكد أصله ويشد أزره ، وينفي عارض السوء عنه ، لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشك ، ويقدح في الفرع بالتهمة . قال : وهذا لا يخص ديناً دون دين ، ولا مقالةً دون مقالة ، ولا نحلةً دون نحلة ، بل هو سارٍ في كل شيء في كل حالٍ في كل زمان ، وكل من حاول رفع هذا فقد حاول رفع الفطرة ونفي الطباع وقلب الأصل ، وعكس الأمر ؛ وهذا غير مستطاع ولا ممكن ؛ وقد قيل : ' إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ' .وقال لنا القاضي أبو حامد المروروذي : أنا منذ أربعين سنةً أجتهد مع أصحابنا البصريين في أن أصحح عندهم أن بغداد أطيب من البصرة ، وأنا اليوم في كلامي معهم كما كنت في أول كلامي لهم ، وكذلك حالهم معي ، فهذا هذا . أنظر إلى فضل ومرعوش - وهما من سقط الناس وسفلنهم - كيف لهج الناس بهما وبالتعصب لهما حتى صار جميع من ببغداد إما مرعوشياً وإما فضلياً . ولقد اجتاز ابن معروف وهو على قضاء القضاة بباب الطاق فتعلق بعض هؤلاء المجان بلجام بغلته ، وقال : أيها القاضي ، عرفنا ، أنت مرعوشي أم فضلي ، فتحير وعرف ما تحت هذه الكلمة من السفه والفتنة ، وأن التخلص بالجواب الرفيق أجدى عليه من العنف والخرق وإظهار السطوة ؛ فالتفت إلى الحراني - وكان معه وهو من الشهود - فقال : يا أبا القاسم ، نحن في محلة من ؟ قال : في محلة مرعوش ؛ فقال ابن معروف : كذلك نحن - عافاك الله - من أصحاب محلتنا لا نختار على اختيارهم ؛ ولا نتميز فيهم . فقال العيار : امش أيها القاضي في ستر الله ؛ مثلك من تعصب للجيران . فقال الوزير - أحسن الله توفيقه - هذا كله تعصبٌ وهوى وتماحك وتكلفٌ . قيل : هذا وإن كان هكذا فهو داخلٌ فيما عداه من حديث الدين والمذهب والصناعة والبلد . قال أبو سليمان : ولمصلحةٍ عامةٍ نهي عن المراء والجدال في الدين على عادة المتكلمين ، الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين ، وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين ، وأبعد الناس من الطمأنينة واليقين . ثم حدث فقال : اجتمع رجلان : أحدهما يقول بقول هشام ، والآخر يقول بقول الجواليقي ؛ فقال صاحب الجواليقي لصاحب هشام : صف لي ربك الذي تعبده ، فوصفه بأنه لا يد له ولا جارحة ولا آلة ولا لسان ، فقال الجواليقي : أيسرك أن يكون لك ولدٌ بهذا الوصف قال : لا ، قال : أما تستحي أن تصف ربك بصفةٍ لا ترضاها لولدك فقال صاحب هشام : إنكقد سمعت ما نقول ، صف لي أنت ربك ؛ فقال : إنه جعدٌ قطط في أتم القامات وأحسن الصور والقوام . فقال صاحب هشام : أيسرك أن تكون لك جاريةٌ بهذه الصفة تطؤها ؟ قال : نعم ، قال : أفما تستحي من عبادة من تحب مباضعة مثله وذلك لأن من أحب مباضعته فقد أوقع الشهوة عليه . فقال : هذا من شؤم الكلام ونكد الجدل ، فلو كان هناك دين لكان لا يدور هذا في وهم ولا ينطق به لسان . وحكى أيضاً قال : ابتلي غلامٌ أعجميٌ بوجع شديد ، فجعل يتأوه ويتلوى ويصيح . فقال له أبوه : يا بني اصبر واحمد الله تعالى . فقال : ولماذا أحمده قال لأنه ابتلاك بهذا ؛ فاشتد وجع الغلام ورفع صوته بالتأوه أشد مما كان ، فقال له أبوه : ولم اشتد جزعك فقال : كنت أظن أن غير الله ابتلاني بهذا فكنت أرجوه أن يعافيني من هذا البلاء ويصرفه عني ، فأما إذ كان هو الذي ابتلاني به فمن أرجو أن يعافيني فالآن اشتد جزعي ، وعظمت مصيبتي . قال : ولو علم أن الذي ابتلاه هو الذي استصلحه بالبلاء ليكون إذا وهب له العافية شاكراً له عليها بحسٍ صحيحٍ وعلمٍ تامٍ لكان لا يرى ما قاله وتوهمه لازماً . وحكى أيضاً أن رجلاً من العجم حج وتعلق بأستار الكعبة فطفق يدعو ويقول : يا من خلق السباع الضارية ، والهوام العادية ، وسلطها على الناس ، وضربهم بالزمامة والعمى والفقر والحاجة ؛ فوثب الناس عليه وسبوه وزجروه وقالوا : ادعو الله بأسمائه الحسنى . فأظهر لهم الندامة ، والتقارف فخلوا عنه بعد ما أرادوا الوقيعة به ، فرجع وتعلق بأستار الكعبة ، وجعل ينادي : يا من لم يخلق السباع الضارية ولا الهوام ، ولا سلطها على الناس ، ولم يضرب الناس بالأوجاع والأسقام . فوثبوا عليه أيضاً وقالوا له : لا تقل هذا فإن الله خالق كل شيءٍ ؛ فقال : ما أدري كيف أعمل ؟ إن قلت : إن الله خالق هذه الأشياء وثبتم علي ؛ وإن قلت : إن الله لم يخلقها وثبتم علي . فقالوا : هذا ينبغي أن تعلمه بقلبك ولا تدع الله به . قال أبو سليمان : وهذا أيضاً من شؤم الكلام وشبه المتكلمين الذين يقولون : لايجوز أن يعتقد شيء بالتقليد ، ولابد من دليل ، ثم يدللون ويختلفون ، ثم يرجعون إلى القول بأن الأدلة متكافئة . وكان ابن البقال يجهر بهذا القول ، فقلت له مرة : لم ملت إلى هذا المذهب ؟ فقال : لأني وجدت الأدلة متدافعةً في أنفسها ، ورأيت أصحابها يزخرفونها ويموهونها لتقبل منهم ، وكانوا كأصحاب الزيوف الذين يغشون النقد لينفق عندهم ، وتدور المغالطة بينهم . فقلت له : أما تعرف بأن الحق حق والباطل باطل ؟ قال : بلى ، ولكن لا يتبين أحدهما من الآخر . قلت : أفلأنه لا يتبين لك الحق من الباطل تعتقد أن الحق باطل وأن الباطل حق ؟ قال : لا أجيء إلى حق أعرفه بعينه فأعتقد أنه باطل ، ولا أجيء أيضاً إلى باطل أعرفه بعينه فأعتقد أنه حق ، ولكن لما التبس الحق بالباطل والباطل بالحق قلت : إن الأدلة عليهما ولهما متكافئة ، وإنها موقوفةٌ على حذق الحاذق في نصرته ، وضعف الضعيف في الذب عنه . قلت فكأنك قد رجعت عن اعترافك بالحق أنه حق ، وبالباطل أنه باطل . قال : ما رجعت . قلت : فكأنك تدعي الحق حقاً جملةً والباطل باطلاً جملةً من غير أن تميز بالتفصيل . قال : كذا هو . قلت : فما نفعك بالاعتراف بالحق وأنه متميزٌ عن الباطل في الأصل ، وأنت لا تميز بينهما في التفصيل ؟ قال : والله ما أدري ما نفعي منه . قلت : فم لا تقول : الرأي أن أقف فلا أحكم على الأدلة بالتكافؤ ، لأن الباطل لا يقاوم الحق ، والحق لا يتشبه بالباطل ، إلى أن يفتح الله بصري فأرى الحق حقاً في التفصيل ، والباطل باطلاً على التحصيل ، كما رأيتهما في الجملة ، وأن الذي فتح بصري على ذلك في الأول هو الذي غض بصري عنه في الثاني ؟ قال : ينبغي أن أنظر فيما قلت . فقلت : انظر إن كان لك نظر ، ولا تتكلف النظر ما دام بك عمىً أو عشاً أو رمد . وحكى لنا أبو سليمان قال : وصف لنا بعض النصارى الجنة فقال : ليس فيها أكلٌ ولا شربٌ ولا نكاح . فسمع ذلك بعض المتكلمين فقال : ما تصف إلا الحزن والأسف والبلاء . وقال أبو عيسى الوراق - وكان من حذاق المتكلمين - إن الآمر بما يعلم أن المأمور لا يفعله سفيه ، وقد علم الله من الكفار أنهم لا يؤمنون ، فليس لأمرهم بالإيمان وجهٌ فيالحكمة . قال أبو سليمان : انظر كيف ذهب عليه السر في هذه الحال ، من أين أتوا ، وكيف لزمتهم الحجة . وقال أبو عيسى أيضاً : المعاقب الذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه ، ولا يستصلح به غيره ، ولا يشفي غيظه بعقوبته جائر ، لأنه قد وضع العقوبة في غير موضعها . قال : لأن الله تعالى لا يستصلح أهل النار ولا غيرهم ، ولا يشفي غيظه بعقوبتهم ، فليس للعقوبة وجهٌ في الحكمة . هذا غرض كتابه الذي نسبه إلى الغريب المشرقي . وقال أبو سعيد الحضرمي - وكان من حذاق المتكلمين ببغداد ، وهو الذي تظاهر بالقول بتكافؤ الأدلة - إن كان الله عدلاً كريماً جواداً عليماً رءوفاً رحيماً فإنه سيصير جميع خلقه إلى جنته ، وذلك أنهم جميعاً على اختلافهم يجتهدون في طلب مرضاته ، فيهربون من وقع سخطه بقدر علمهم ومبلغ عقولهم ، وإنما تركوا اتباع أمره لأنهم خدعوا ، وزين لهم الباطل باسم الحق ؛ ومثلهم في ذلك مثل رجل حمل هديةً إلى ملك ، فعرض له في الطريق قومٌ شأنهم الخداع والمكر والاستلال ، فنصبوا له رجلاً ، وسموه باسم الملك الذي كان قصده ، فسلم الهدية إليهم ؛ فالملك الذي قصده إن كان كريمأً فإنه يعذره ويرحمه ويزيد في كرامته وبره حين يقف على قصته ، وهذا أولى به من أن يغضب عليه ويعاقبه . وقال أبو سليمان : ذكروا أن رجلاً رأى قوماً يتناظرون ، فجلس إليهم فرآهم مختلفين ، فأقبل على رجل منهم فقال : أتلزمني أن أقول بقولك وأنا لا أعلم أنك محقٌ فإن قلت لك : إن بعض جلسائك يدعوني إلى مخالفتك واتباعه ، وليس عندي علمٌ بالمحق منكم ؛ وإن ألزمتني أن أتبع كلكم فهذا محال ، وإن قلت : لا يلزمك أن تتبعني ولا غيري إلا بعد العلم بالمحق منكم ، لم يخل العلم بذلك من أن يكون فعلي أو فعل غيري ، فإن كان العلم فعلاً لغيري فقد صرت مضطراً ، ولا أستوجب عليه حمداً ولا ذماً وإن كان الفعل لي فمن أعظم جهالةً ممن يفعل ما يلزمه الأمر والنهي به ، وإن قصر صيره ذلك إلى العطب والهلاك ، مع أن هذا القول يؤدي إلى أن أكون أنا المعترض على نفسي ، لأنه إنما يلزمني ذلك إذا علمت أني أقدر أن أعلم وألا أعلم . وحكى لنا أيضاً قال : سئل عندنا رجلٌ من المتحيرين بسجستان فقيل له : ما دليلكعلى صحة مقالتك ؟ فقال لا دليل ولا حجة . فقيل له وما الذي أحوجك إلى هذا ؟ قال : لأني رأيت الدليل لا يكون إلا من وجوه ثلاثة : إما من طريق النبوة والآيات ، فإن كان إنما يثبت من هذه الجهة فلم أشاهد شيئاً من ذلك ثبتت عندي مقالته . وإما أن يكون ينبت بالكلام والقياس فإن كان إنما يثبت بذلك فقد رأيتني مرةً أخصم ومرةً أخصم ، ورأيتني أعجز عن الحجة فأجدها عند غيري ، وأتنبه إليها من تلقاء نفسي بعد ذلك ، فيصح عندي ما كان باطلاً ، ويفسد عندي ما كان صحيحاً ؛ فلما كان هذا الوصف على ما وصفت لم يكن لي أن أقضي لشيء بيصحةٍ من هذه الجهة ، ولا أقضي على شيء بفسادٍ لعدم الحجة . وإما أن تكون ثبتت بالأخبار عن الكتب فلم أجد أهل ملةٍ أولى بذلك من غيرهم ، ولم أجد إلى تصديق كلهم سبيلاً . وكان تصديق الفرقة الواحدة دون ما سواها جوراً ، لأن الفرق متساويةٌ في الدعوى والحجة والذب والنصرة . فقيل له : فلم تدين بدينك هذا الذي أنت على شعاره وحليته ، وهديه وهيئته ؟ فقال : لأن له حرمةً ليست لغيره ، وذاك أني ولدت فيه ، ونشأت عليه ، وتشربت حلاوته ، وألفت عادة أهله ، فكان مثلي كمثل رجلٍ دخل خاناً يستظل فيه ساعةً من نهار والسماء مصحيةٌ ، فأدخله صاحب الخان بيتاً من البيوت من غير تخبرٍ ولا معرفةٍ بصلاحه ، فبينا هو كذلك إذ نشأت سحابةٌ فمطرت جوداً ، ووكف البيت ، فنظر إلى البيوت التي في الفندق فرآها أيضاً تكف ، ورأى في صحن الدار ردغة ، ففكر أن يقيم مكانه ولا ينتقل إلى بيتٍ آخر ويربح الراحة ، ولا يلطخ رجليه بالردغة والوحل اللذين في الصحن ؛ ومال إلى الصبر في بيته ، والمقام على ما هو عليه ، وكان هذا مثلي ، ولدت ولا عقل لي ، ثم أدخلني أبواي في هذا الدين من غير خبرةٍ مني ، فلما فتشت عنه رأيت سبيله سبيل غيره ، ورأيتني في صبري عليه أعز مني في تركه ، إذ كنت لا أدعه وأميل إلى غيره إلا باختيار مني لذلك ، وأثرةٍ له عليه ؛ ولست أجد له حجةً إلا وأجد لغيره عليه مثلها . وحكى لنا ابن البقال - وكان من دهاة الناس - قال : قال ابن الهيثم : جمع بيني وبين عثمان بن خالد ، فقال لي : أحب أن أناظرك في الإمامة ؛ فقلت : إنك لا تناظرني ، وإنماتشير علي ؛ فقال : ما أفعل ذلك ، ولا هذا موضع مشورة ، وإنما اجتمعنا للمناظرة ؛ فقلت له : فإنا قد أجمعنا على أن أولى الناس بالإمامة أفضلهم ، وقد سبقنا القوم الذين يتنازع في فضلهم ، وإنما يعرف فضلهم بالنقل والخبر ؛ فإن أحببت سلمت لك ما ترويه أنت وأهل مذهبك في صاحبك ، وتسلم لي ما أرويه أنا وفرقتي في صاحبي ، ثم أناظرك في أي الفضائل أعلى وأشرف ؛ قال : لا أريد هذا ، وذاك أني أروي مع أصحابي أن صاحبي رجلٌ من المسلمين يصيب ويخطىء ، ويعلم ويجهل ؛ وأنت تقول في صاحبك : إنه معصومٌ من الخطأ ، عالمٌ بما يحتاج إليه . فكيف أرضى هذه الجملة ؟ قلت : فأقبل كل شيء ترويه أنت وأصحابك في صاحبي من حمدٍ أو ذم ، وتقبل أنت كل شيء أرويه أنا وأصحابي في صاحبك من حمدٍ أو ذم ؛ قال : هذا أقبح من الأول ، وذلك أني وأصحابي نروي أن صاحبك مؤمنٌ خيرٌ فاضل ، وأنت وأصحابك ترون أن صاحبي كافرٌ منافق ؛ فكيف أقبل هذا منك وأناظرك عليه ؟ قال ابن الهيثم : فلم يبق إلا أن أقول : دع قولك وقول أصحابك ، واقبل قولي وقول أصحابي ؛ قال : ما هو إلا ذاك ؛ قلت : هذه مشورة ، وليست مناظرة . قال : صدقت . وحكى لنا الزهيري قال : سال رجلٌ آخر فقال : أتقول إن الله نهانا أن نعبد إلهين ؟ قال : نعم ؛ قال : وأمرنا أن نعبد إلهاً واحداً ؟ قال : نعم ؛ قال : فالاثنان اللذان نهانا عن عبادتهما معقولان هكذا ؟ وأشار بإصبعيه ، قال : نعم ؛ قال : فالواحد الذي أمرنا بعبادته معقولٌ هكذا ؟ وأشار بإصبع واحدة ؛ قال : لا ؛ قال : فقد نهانا عما يعقل وأمرنا بما لا يعقل ، وهذا يعلم ما فيه فانظر حسناً . وحكى لنا الزهيري قال : حدثنا ابن الأخشاد قال : تناظر رجلان في وصف الباري سبحانه ، واشتد بينهما الجدال ، فتراضيا بأول من يطلع عليهما ويحكم بينهما ، فطلع أعرابيٌ ، فأجلساه وقصا قصتهما ، ووصفا له مذهبيهما ؛ فقال الأعرابي لأحدهما - وكان مشبهاً - : أما أنت فتصف صنماً ، وقال للثاني : وأما أنت فتصف عدماً ، وكلاكما تقولان على الله ما لم تعلما . وقال لنا الأنصاري أبو كعب : قال ابن الطحان الضرير البصري - وكان يقول بقول جهم - : إذا كان يوم القيامة بدل الله سيئات المؤمنين حسنات ، فيندمون على ما قصروا فيه من تناول اللذات ، وقضاء الأوطار بالشهوات ؛ لأنهم كانوا يتوقعون العقاب ، فنالواالثواب ؛ وكان يتلو عند هذا الحديث قول الله عز وجل : ' فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ ' . وحكى لنا ابن الثلاج قال ، قال أبو عثمان الآدمي : إن الجنة لا ساتر فيها ، وذلك لأن كل ساترٍ مانع ، وكل مانعٍ آفة ، وليست في الجنة آفة ، ولهذا روي في الحديث : إن الحور يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلةً سوى ما تحت ذلك من اللحم والعظم ، كالسلك في الياقوت ؛ فقال له قائل : الجنة إذاً أولى من الحمام ، إذ قيل : بئس البيت الحمام ، يذهب الحياء ، ويبدي العورة . وحكى لنا ابن رباطٍ الكوفي - وكان رئيس الشيعة ببغداد ، ولم أر أنطق منه - قال : قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من أين جاء اختلاف الناس في الحديث ؟ فقال : الناس أربعة : رجلٌ منافقٌ كذب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متعمداً ، فلو علم أنه منافقٌ ما صدق ولا أخذ عنه . ورجلٌ سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول قولاً أو رآه يفعل فعلاً ثم غاب ونسخ ذلك من قوله أو فعله ، فلو علم أنه نسخ ما حدث ولا عمل به ولو علم الناس أنه نسخ ما قبلوا منه ولا أخذوا عنه ورجلٌ سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول قولاً فوهم فيه ، فلو علم أنه وهم ما حدث ولا عمل به . ورجلٌ لم يكذب ولم يهم ، وشهد ولم يغب . قال : وإنما دل بهذا على نفسه ، ولهذا قال : كنت إذا سئلت أجبت ، وإذا سكت ابتدئت . وحكى لنا ابن زرعة النصراني قال : قيل للمسيح : ما بال الرجلين يسمعان الحق فيقبله أحدهما ولا يقبله الآخر ؟ فقال : مثل ذلك مثل الراعي الذي يصوت بغنمه فتأتيه هذه الشاة بندائه ، ولا تأتيه هذه . قال أبو سليمان : هذا جوابٌ مبتور ، وليس له سنن ، ولعل الترجمة قد حافت عليه ، والمعنى انحرف عن الغاية ؛ وليس يجوز أن يكون حال الإنسان كيف كان ، حال الشاة في إجابة الداعي وإبائها ، فإن له دواعي وموانع عقليةً وحسية . فقال الوزير : هذا أيضاً بابٌ قد مضى مستوفىً ، ما الذي سمعت اليوم ؟ فقلت : رأيت ابن برمويه في دعوة ، وترامى الحديث فقال : رأيت اليوم الوزير شديد العبوس ، أهو هكذاأبداً ، أم عرض له هذا على بختي ؟ فقال ابن جبلة : لعله كان ذاك لسبب ، وإلا فالبشر غالبٌ على وجهه ، والبشاشة مألوفةٌ منه . فقال ابن برمويه : ما أحسن ما قال الشاعر : أخو البشر محمودٌ على حسن بشره . . . ولن يعدم البغضاء من كان عابسا فقال علي بن محمد - رسول سجستان - : ما أدري ما أنتما فيه ، ولكن يقال : ما أرضى الغضبان ، ولا استعطف السلطان ، ولا ملك الإخوان ؛ ولا استلت الشحناء ، ولا رفعت البغضاء ؛ ولا توقي المحذور ، ولا اجتلب السرور ؛ بمثل البشر والبر ، والهدية والعطية . وقال الوزير : هات ملحة المجلس . فكان الجواب : قال أبو همام ذات يوم : لو كان النخل لا يحمل بعضه إلا الرطب ، وبعضه إلا البسر ، وبعضه إلا الخلال ، وكنا متى تناولنا من الشمراخ بسرةً خلق الله مكانها بسرتين ، ما كان بذلك بأس . ثم قال : أستغفر الله ، لو كنت تمنيت بدل نواة التمر زبدةً كان أصوب . وسأل الوزير : هل يقال في النساء رجلة ؟ فكان الجواب : حدثنا أبو سعيد السيرافي قال : كان يقال في عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما : ' كانت رجلة العرب ' ، وإنما ضاعت هذه الصفة على مر الأيام بغلبة العجمان ؛ فقال : إنها والله لكذلك ، ولقد سمعت من يقول : كان يقال : لو كان لأبيها ذكرٌ مثلها لما خرج الأمر منه . قال : هل تحفظ من كلامها شيئاً ؟ فقلت : لها كلامٌ كثيرٌ في الشريعة ، والرواية عنها شائعةٌ في الأحكام ، ولقد نطقت بعد موت أبيها بما حفظ وأذيع ، لكني أحفظ لها ما قالته لما قتل عثمان : خرجت والناس مجتمعون ، وعليٌ فيهم ، فقالت : أقتل أمير المؤمنين عثمان ؟قالوا : نعم ، قالت : أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحق وتأكيده أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه ، من طاعة من خالف عليه ؛ ولكن كلما زادكم الله صحةً في دينه ، ازددتم تثاقلاً عن نصرته طمعاً في دنياكم ، أما والله لهدم النعمة أيسر من بنيانها ، وما الزيادة إليكم بالشكر ، بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر ؛ أما لئن كان فني أكله ، واخترم أجله ، إنه لصهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مرتين ، وما علمنا خلقاً تزوج ابنتي نبي غيره ؛ ولو غير أيديكم قرعت صفاتته لوجد عند تلغلي الحرب متجرداً ، ولسيوف النصر متقلداً ، ولكنها فتنةٌ قدحت بأيدي الظلمة ؛ أما والله لقد حاط الإسلام وأكده ، وعضد الدين وأيده ؛ ولقد هدم الله به صياصي أهل الشرك ، ووقم أركان الكفر ؛ لله المصيبة به ، ما أفجعها والفجيعة به ما أوجعها صدع والله مقتله صفاة الدين ، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام ، تباً لقاتله ، أعاذنا الله وإياكم من التلبس بدمه ، والرضا بقتله . فقال الوزير : ما أفصح لسانها ، وأشجع جنانها ، في ذلك المحفل الذي يتبلبل فيه كل قلقل ورويت أيضاً أنها قالت : مكارم الأخلاق عشر : صدق الحديث ، وصدق البأس ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وبذل المعروف ، والتذمم للجار ، والتذمم للصاحب ، والمكافأة بالصنائع ، وقري الضيف ، ورأسهن الحياء . فقال : والله لكأنها نغمات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ما كان أشهمها ، وأعلى نظرها ، وأبين جوابها وحدثني أن امرأةً تظلمت إلى مسلم بن قتيبة بخراسان ، فزبرها ، ولم ينظر في قصتها ؛ فقالت له : إن أمير المؤمنين بعثك إلى خراسان لتنظر هل تثبت خراسان بلا عاملٍ أم لا ؛ فقال لها مسلم : اسكتي ويلك ، فظلامتك مسموعة ، وحاجتك مقضية .وقال مسلم : ما وخز قلبي قط شيءٌ مثل قول هذه المرأة ، ولقد آليت ألا أستهين بأحدٍ من ذكرٍ أو أنثى . وشبيهٌ بهذا قول المعلى بن أيوب : رأيت في دار المأمون إنساناً فازدريته ، فقلت : لأي شيء تصلح أنت ؟ على غيظٍ مني وتغضب ؛ فقال : أنا أصلح لأن يقال لي : هل يصلح مثلك لما أنت فيه أو لا . قال : فوالله ما وقرت كلمته في أذني حتى أظلم علي الجو ونكرت نفسي . وكان عبد الملك بن مروان إذا كان له خصيٌ وضيءٌ أمر أن يحجب عن نسائه ، وقال : هو رجلٌ وإن قطع منه ما قطع ، وربما اجتزأت امرأةٌ بمثلها ، وللعين حظها . قال عبد الرحمن بن سعيد القرشي : كان لهشام بن عبد الملك خصيٌ يقال له خالد ، وكان وضيئاً تأخذه العين ، مديد القامة ، فخماً أبيض ، فأمر هشامٌ مسلمة بالغدو عليه ، فغدا ، فقيل : استأذن لأخي أمير المؤمنين عليه ، فاستخف وقال كلمةً سمعها مسلمة ، فحقدها عليه ، فلما دخل مسلمة إلى هشام لم يزل يذاكره شيئاً ، ويشير عليه حتى حط عن فرشه وجلسا على البساط ومسلمة في ذلك يرمق الخصي متى يمر به ، فلم يلبث أن مر معمماً بعمامة وشي ؛ فقال مسلمة : يا أمير المؤمنين ، أي فتياننا هذا ؟ قال : غفر الله لك يا أبا سعد ، هذا خالد الخصي ؛ قال ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لضمةٌ من هذا خيرٌ من مجامعة رجل ، فقلق هشامٌ وجعل يتضور حتى قام مسلمة ، ثم أمر بالخادم فأخرج من الرصافة ، فاتصل ببعض بنيه ، فكتب إليه هشام ، إني نحيته لما بلغك ، فجفاه ، فلحق الخادم بالثغر . وجرى حديث النفس وأنها كيف تعلم الأشياء ، فقيل : النفس في الأصل علامة ، والعلم صورتها ؛ لكنها لما لابست البدن ، وصار البدن بها إنساناً ، اعترضت حجبٌ بينها وبين صورتها كثيفةٌ ولطيفة ، فصارت تخرق الحجب بكل ما استطاعت لتصل إلى ما لها من غيبها ، فصارت تعلم الماضي بالاستخبار والتعرف والبحث والمسئلة والتنقير ، وتعلم الآتي بالتلقي والتوكف والتبشير والإنذار ، وتعلم الحاضر بالتعارف والمشاهدة ومجالالحس ؛ وهذه المعلومات كلها زمانية ، ولهذا انقسم بين الماضي والآتي والحاضر . فأما ما هو فوق الزمان فإنها تعلمه بالمصادفة الخارجة من الزمان ، العالية على حصر الدهر ، وهذه عبارةٌ عن وجدانها ، لما لها في غيبها بالحركة اللائقة بها ، أعني الحركة التي هي في نوع السكون ، وأعني بهذا السكون الذي هو في نوع الحركة ؛ ولما فقد الاسم الخاص بهذا المعنى ، ولم يعرف في الإخبار والاستخبار إلا ما كان مألوفاً بالزمان ، التبست العبارة عنه باعتماد السكون فيما يلحظ منه الحركة ، واعتماد الحركة فيما يلحظ منه السكون ، فصار هذا الجزء كأنه ناقضٌ ومنقوض ، وهذا لجذب محل الحس من نبت العقل ، وخصب مراد العقل بكل ما علق بالموجود الحق . فقال الوزير : ما أعلى نجد هذا الكلام وما أعمق غوره وإني لأعذر كل من قابل هذا المسموع بالرد ، واعترض على قائله بالتكبر ؛ ولعمري إذا تعايت الأشياء بالأسماء والصفات ، وعرض العجز عن إبانتها بحقائق الألقاب ، حار العقل الإنساني ، وحير الفهم الحسي ، واستحال المزاج البشري وتهافت التركيب الطيني ، وقدر الناظر في هذا الفن ، والباحث عن هذا المستكن ، أنه حالم ، وأن الحلم لا ثمرة له ، ولا جدوى منه . وهذا كله مادام مقيساً إلى الأمور القائمة بشهادة الإحساس ؛ فأما إذا صفا الناظر ، أعني ناظر العقل من قذى الحس ، فإن المطلوب يكون حاضراً أكثر مما يكون غيره ظاهراً مستباناً ؛ وليست شهادة العبد كشهادة المولى ، ولا نور السهى كنور القمر . قال : أنشدني أبياتاً غريبةً جزلة ، فأنشدت لهدبة العذري : سآوي إلى خيرٍ فقد فاتني الصبا . . . وصيح بريعان الشباب فنفرا أمورٌ وألوانٌ وحالٌ تقلبت . . . بنا وزمانٌ عرفه قد تنكرا أصبنا بما لو أن سلمى أصابه . . . تسهل من أركانه ما توعراوإن ننج من أهوال ما خاف قومنا . . . علينا فإن الله ما شاء يسرا وإن غالنا دهرٌ فقد غال قبلنا . . . ملوك بني نصرٍ وكسرى وقيصرا وذي نيربٍ قد عابني لينالني . . . فأعيا مداه عن مداي فأقصرا فإن يك دهر نالني فأصابني . . . بريبٍ فما تشوي الحوادث معشرا فلست إذا الضراء نابت بجبأ . . . ولا جزعٍ إن كان دهرٌ تغيرا فقيل : ما الجبأ ؟ فقال : الجبان . قال أبو سعيد : حكى العلماء أن فلاناً جبأٌ ، إذا نكل . فقال : ما أمتن هذا الكلام ، وألطف هذا الجدد وما أبعده من تلفيق الضرورة ، وهجنة التكلف ، ولولا أن سامعه ربما تطير به ، وانكسر عليه . فكان الجواب : قد مر في الفأل والزجر والطيرة والاعتياف ما إذا تحقق لم يعج على مثل هذا الاستشعار ؛ ولعمري إن المذكور والمسموع إذا كان حسناً وجميلاً ومحبوباً ومتمنىً ، كان أخف على القلب ، وأخلط بالنفس ، وأعبث بالروح ؛ وكذلك إذا كان ذلك على الضد ، فإنه يكون أزوى للوجه ، وأكرب للنفس ؛ ولكن الأمور في الخيرات والشرور ليست فاشية من الطيرة والعيافة ، ولا جارية على هذه الحدود المعروفة ، وهي على مقاصدها التي هي غاياتها ، ومتوجهاتها التي هي نهاياتها ؛ وإنما هذه الأخلاق عارضةٌ للنساء وأشباه النساء ، ومن بنينه ضعيفة ، ومادته من العقل طفيفة ، وعادته الجارية سخيفة ؛ وإلا فبأي برهانٍ صح أن الكلام الطيب يجلب المحبوب ويكون علةً له ؟ وأن اللفظ الخبيث يجلب المكروه ويكون علةً له ؟ هذا خورٌ في طباع قائله ، وتأنثٌ في عنصر مستشعره ؛ ولو سلك العلماء والبصراء هذا الطريق في كل حالٍ وفي كل أمرٍ لأدى ذلك إلى فسادٍ عام ؛ وآثر ما في هذه القصة أن الإنسان إن أعجبه شيءٌ من هذا لا يعول عليه ، وإن شاء منهشيءٌ لا يحط إليه ، بل يكون توكله على ربه في مسرته ومساءته ، أكثر من تفرده بحوله وقوته ، في اختياره وتكرهه ، وهذا يحتاج إلى عقلٍ رصين ، وهمةٍ صاعدة ، وشكيمةٍ شديدة ، وليس يوجد هذا عند كل أحد ، ولا يصاب مع كل إنسان . فقال الوزير : قد أخذت المسئلة بحقها ، والمستزيد منها ظالم ، والزائد عليها متكلف . وقال أيضاً : أريد أن أسألك عن ابن فارسٍ أبي الفتح - فقد كنت عنده بقرميسين أياماً - وما وضح لك من تقدمه وتأخره في صناعته وبضاعته ؟ فكان من الجواب : إنه شيخٌ فيه محاسن ومساوىء ، إلا أن الرجحان لما يذم به لا لما يحمد عليه ، فمن ذلك أن له خبرة بالتصرف ، وهناك أيضاً قسطٌ من العلم بأوائل الهندسة ، وتشبه بأصحاب البلاغة ، ومذاكرةٌ في المحافل صالحة ؛ إلا أن هذا كله مردودٌ بالرعونة والمكر والإيهام والخسة والكذب والغيبة ؛ وقد كان قرينه بقرميسين يظن به خيراً ، ويلحظه بعينٍ ما ؛ فلما سبره ذمه وكره أن يعاجله بالصرف لئلا يحكم على اختياره بالخطأ ، وعلى تصرفه بالهوى . وللكبراء وذوي القدرة زلاتٌ فاحشة ، وفعلاتٌ موحشة ، ولكن ليس لهم عليها معير للخوف منهم ؛ فلما تمادى قليلاً وجه ابن وصيفٍ حتى صرفه ، ولا يلتفت إليه بلحظة ، ومع ذلك يظن أن فقر الدولة إلى نظره كفقر المدنف إلى عافيته . وله مع طاهر بن محمد بن إبراهيم شرار وقبقبة ، وتنديد وشنعة .وحدثني ابن أحمد أمس أن ابن فارس شارعٌ في أمور خبيثة ، وعازمٌ على أشياء قبيحةٍ ، ومضربٌ بين أقوامٍ ضمتهم الألفة ، واستحكمت بينهم الثقة ، وخلصوا حفظةً للدولة ، وحرساً للنعمة ، وعلموا أن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وما أخوفني على إخواننا الذين بهم عذب شربنا ، وأمن سربنا كفانا الله فيهم وكفاهم فينا كل مكروه . فقال : هو أضيق مبعراً ، وأقمأ منظرا ، وأذل ناصراً من ذاك ؛ والله لو نفخت عليه لطار ، ولو هممت به لبار . وأما ما قلت لي أيها الشيخ إنه ينبغي أن تكتب رسائلك إلى الوزير ، حتى أقف على مقاصدك فيها ، وأستبين براعتك وترتيبك بها ؛ فأنا أفعل ذلك في هذه الورقات ، ولم أكتب في طول هذه المدة مع هذه الأحوال العجيبة إلا رقعتين ورسالتين ؛ فأما الرقعة الواحدة فإنها تضمنت حديث الخادم وما عزم عليه ، وقد شافهتك به ؛ وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرصافة ، وقد شافهتك به ؛ وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرصافة ، وقد سمعته مني .
رسالتان كتب بهما المؤلف إلى الوزير
أما الرسالة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم : اللهم حلني بالتوفيق ، وأيدني بالنصرة ، واقرن منطقي بالسداد ، واجعل لي من الوزير وزير الممالك عقبي فارجةً من الغمم ، وخاتمةً موصولةً بالنجاح ، فإنك على ذلك قدير ، وبالإجابة جدير . كنت وصلت إلى مجلس الوزير ، وفزت بالشرف منه ، وخدمت دولته ، وعلاه من صدري بخبيثه ، ومن فؤادي بمحيضته ، وتصرفت من الحديث بإذنه في شجونه وفنونه ، كل ذلك آملاً في جدوى آخذها ، وحظوةٍ أحظى بها ، وزلفى أميس معها ،ومثالةٍ أحسد عليها ؛ فتقبل ذلك كله ، ووعد عليه خيراً ولم يزل أهله ، وانقلبت إلى أهلي مسروراً بوجهٍ مسفر ، ومحيا طلق ، وطرفٍ عازم ، وأملٍ قد سد ما بين أفق العراق إلى صنعاء اليمن ، حتى إذا قلت للنفس : هذا معان الوزير ومعمره ، وجنابه ومحضره ، فانشرحي مستفتحة ، وتيمني مقترحة ، واطمئني راضيةً مرضية ، لا كدرة الشرب ، ولا مذعورة السرب ، حصلت من ذلك الوعد والضمان ، على بعض فعلات الزمان ؛ ولا عجب في ذلك من الزمان فهو بمثله مليء ، وله فعول . وبقيت محمولاً بيني وبين إذكاره - قرن الله ساعاته بسعاداته ، ووصل عز يومه بسعادة غده ؛ وغده بامتداد يده - حيران لا أريش ولا أبرى ، ثم رفعت ناظري ، وسددت خاطري ، وفصلت الحساب لي وعلي ؛ فوضح العذر المبين ، المانع من استزادة المستزيدين ، وذلك أني رأيت أعباء الوزارة تؤود سره ، وتتعب باله ، والمملكة تفزع ولهي عليه ، وتلقي بجرانها له بين يديه ، والدولة تستمده التدبير الثاقب ، والرأي الصائب ، سوى أمورٍ في خلاف ذلك لا يحررها رسم راسم ، ولا يقررها قسم قاسم ، ولا يحويها وهم واهم ، ولا يفوز بها سهم مساهم ، وهو يخطر في حواشي هذه الأحوال ، متأبطاً بواهظ الأثقال ، مفتتحاً عويص الأقفا ، سامي الطرف ، فسيح الصدر ، بساماً على العلات ، غير مكترثٍ بهاك وهات ، يتلقى ما أعيا من ذلك باللي ، وما أشكل بالإيضاح ، وما عسر بالتدبير ، وما فسد بالإصلاح ، وما أرق بالعتق ، وما خرق بالرتق ، وما خفي بالتكشيف ، وما بدا بالتصريف ، وما أود بالتثقيف ، وما لبس بالتعريف ، حتى أجمع على هواه قاصيها ودانيها ، وجرى على مراده خافيها وباديها ، واستجاب لأمره أبيها ومنقادها ، وأتلف بلفظه نادرها ومعتادها ؛ فلما تيقنتذلك كله وقتلته خبراً ، أمسكت عن إذكاره - نفس الله مدته - سالف عهده ، ومتقدم وعده ، عالماً بأن أسرهما مرعيٌ عنده في صدر الكرم ، ومكتوبٌ لديه في صحيفة المجد ، وثابتٌ قبله في ديوان الحسنى . ولكن كان ذلك الامتنان على رغمٍ مني ، لأني قتلت في أثنائه بين جنبي قلباً مغرور الرجاء ، ومنزور العزاء ، على عوارض لم تسنح في خلدي ، ولم أعقد على شيء منها يدي . فالحمد لله الذي جعل معاذي إلى الوزير الكريم ، البر الرحيم ، والمنة لله الذي جعلني من عفاة جوده ، وناشئة عرفه ، ووارد عده ، وقادحي زنده ، ومقتبسي نوره ، ومصطلي ناره ، وحاملي نعمته ، وطالبي خدمته ، وجعل خاصتي وخالصتي من بينهم رواية مناقبه باللسان الأبين ، ونشر فضائله بالثناء الأحسن ، وذكر آلائه باللفظ الأفصح ، والاحتجاج لسداد آرائه بالمعنى الأوضح ؛ فلا زال الوزير - وزير الممالك - ممدوحاً في أطوار الأرض على ألسنة الأدباء والحكماء ، وفي نوادي الرؤساء والعظماء ، ما آب آئب ، وغاب غائب ، بمنه ولطفه . قد ناديت الوزير حياً سامعاً ، وخيراً جامعاً ، وهززت منه صارماً قاطعاً ، وشهاباً ساطعاً ، واستسقيت من كرمه سحاباً هاطلاً ، ونقاخاً سائلاً ، وأسأله أن يجنبني مرارة الخيبة ، وحسرة الإخفاق ، وعذاب التسويف ، فقد تلطفت بالسحر الحلال ، والعذب الزلال ، جهد المقل المحتال ، وهو أولى بمجده ، في تدبير عبده ، إن شاء الله تعالى . هذا آخر الرسالة الأولى . وحضر وصولها إليه بهرام - لعنه الله - وتكلم بما يشبه نذاالته وخشيته ونتن نيته ، فما كنت آمنه ؛ وما أشد إشفاقي على هذا الوزير الخطير من شؤم ناصية بهرام ، وغلصدره ، وقلة نصيحته ، ولؤم طبعه ، وخبث أصله ، وسقوط فرعه ، ودمامة منظره ، ولآمة مخبره ؛ حرس الله العباد من شره ، وطهر البلاد من عره وضره . وأما الرسالة الثانية فهي التي كانت في هذه الأيام بعد استئذاني إياه في المخاطبة بالكاف ، حتى يجري الكلام على سنن الاسترسال ، ولا يعثر في طريق الكتابة بما يزاحم عليه من اللفظ واللفظ ، وهي : بسم الله الرحمن الرحيم . أيها الوزير ، جعل الله أقدار دهرك جاريةً على تحكم آمالك ، ووصل توفيقه بمبالغ مرادك في أقوالك وأفعالك ، ومكنك من نواصي أعدائك ، وثبت أواخي دولتك على ما في نفوس أوليائك . يجب على كل من آتاه الله رأياً ثاقباً ، ونصحاً حاضراً ، وتنبهاً نافعاً ، أن يخدمك متحرياً لرسوخ دعائم المملكة بسياستك وريادتك ، قاضياً بذلك حق الله عليه في تقويتك وحياطتك . وإني أرى على بابك جماعةً ليست بالكثيرة - ولعلها دون العشرة - يؤثرون لقاءك والوصول إليك لما تجن صدورهم من النصائح النافعة ، والبلاغات المجدية ، والدلالات المفيدة ، ويرون أنهم إذا أهلوا لذلك فقد قضوا حقك ، وأدوا ما وجب عليهم من حرمتك ، وبلغوا بذلك مرادهم من تفضلك واصطناعك ، وتقديمك وتكريمك ؛ والحجاب قد حال بينهم وبينك ، ولكلٍ منهم وسيلةٌ شافعةٌ ، وخدمةٌ للخيرات جامعةٌ ؛ منهم - وهو أهل الوفاء - ذوو كفايةٍ وأمانةٍ ، ونباهةٍ ولباقة ؛ ومنهم من يصلح للعمل الجليل ، ولرتق الفتق العظيم ؛ ومنهم من يمتع إذا نادم ، ويشكر إذا اصطنع ، ويبذل المجهود إذا رفع ؛ ومنهم من ينظم الدار إذا مدح ، ويضحك الثغر إذا مزح ؛ ومنهم من قعد به الدهر لسنه العالية ، وجلابيبه البالية ، فهو موضع الأجر المذخور ، وناطقٌ بالشكر المنظوم والمنثور ؛ ومنهم طائفةٌ أخرى قد عكفوا في بيوتهم على ما يعينهم من أحوال أنفسهم ، في تزجية عيشهم ، وعمارة آخرتهم ، وهم مع ذلك من وراء خصاصةٍ مرة ، ومؤنٍ غليظة ، وحاجاتٍ متوالية ؛ ولهم العلم والحكمة والبيان والتجربة ، ولو وثقوا بأنهم إذا عرضوا أنفسهم عليك ، وجهزوا ما معهم من الأدبوالفضل إليك حظوا منك ، واعتزوا بك ، لحضروا بابك ، وجشموا المشقة إليك ؛ لكن اليأس قد غلب عليهم ، وضعفت منتهم ، وعكس أملهم ، ورأوا أن سف التراب ، أخف من الوقوف على الأبواب ، إذا دنوا منها دفعوا عنها ؛ فلو لحظت هؤلاء كلهم بفضلك ، وأدنيتهم بسعة ذرعك وكرم خيمك ، وأصغيت إلى مقالتهم بسمعك ، وقابلتهم بملء عينك ، كان في ذلك بقاءٌ للنعمة عليك ، وصيتٌ فاشٍ بذكرك ، وثوابٌ مؤجلٌ في صحيفتك ، وثناءٌ معجلٌ عند قريبك وبعيدك ؛ والأيام معروفةٌ بالتقلب ، والليالي ماخضةٌ بما يتعجب منه ذو اللب ، والمجدود من جد في جده ، أعني من كان جده في الدنيا موصولاً بحظه من الآخرة ، ولأن يوكل العاقل بالاعتبار بغيره ، خيرٌ من أن يوكل غيره بالاعتبار به . أيها الوزير ، اصطناع الرجال صناعةٌ قائمةٌ برأسها ، قل من يفي بربها ، أو يتأتى لها ، أو يعرف حلاوتها ، وهي غير الكتابة التي تتعلق بالبلاغة والحساب . وسمعت ابن سورين يقولك آخر من شاهدنا ممن عرف الاصطناع ، واستحلى الصنائع ، وارتاح للذكر الطيب ، واهتز للمديح ، وطرب على نغمة السائل ، واغتنم خلة المحتاج ، وانتهب الكرم انتهاباً ، والتهب في عشق الثناء التهاباً ، أبو محمد المهلبي ، فإنه قدم قوماً ونوه بهم ، ونبه على فضلهم وأحوج الناظرين في أمر الملك إليهم ، وإلى كفايتهم ، منهم أبو الفضل العباس بن الحسين ، ومنهم ابن معروف القاضي ، ومنهم أبو عبد الله اليفرني ، ومنهم أبو إسحاق الصابىء ، وابو الخطاب الصابىء ، ومنهم أحمد الطويل ، ومنهم أبو العلاء صاعد ، ومنهم أبو أحمد ابن الهيثم ، وابن حفصٍ صاحب الديوان ، وفلان وفلان ، هؤلاء إلى غير هؤلاء ، كأبي تمام الزينبي ، وأبي بكر الزهري ، وابن قريعة ، وأبي حامد المروروذي ، وأبي عبد الله البصري ، وأبي سعيد السيرافي ، وأبي محمد الفارسي ، وابن درستويه ، وابن البقال ، والسري ، ومن لا يحصى كثرةً من التجار والعدول . وقال لي ابن سورين : كان أبو محمد يطرب على اصطناع الرجال كما يطرب سامع الغناء على الشبابير ، ويرتاح كما يرتاح مدير الكأس على العشائر .وقال عنه : إنه قال : والله لأكونن في دولة الديلم ، أول من يذكر ، إن فاتني أن كنت في دولة بني العباس آخر من يذكر . فلولا أنك - أدام الله دولتك - أذنت لي أن أكتب إليك كل ما هجس في النفس ، وطلع به الرأي مما فيه مردٌ على ما أنت فيه من هذا الثقل الباهظ ، وتنبيهٌ على ما تباشره بكاهلك الضخم ، ولم يكن خطري يبلغ مواجهتك بلفظٍ يثقل ، وإشارةٍ تغلظ ، وكنايةٍ تخدش ، لكنك والله يأخذ بيدك ، ويقرن الصنع الجميل بظاهرك وباطنك - قد رخصت لي في ذلك ، وخصصتني به من بين غاشية بابك ، وخدم دولتك ، فلذلك أقول ما أقول معتمداً على حسن تقبلك ، وجميل تكلفك ، ومنتظر تفضلك ؛ وليس في أبواب السياسة شيءٌ أجدى وأنفع ، وأنفى للفساد وأقمع ، من الاعتبار الموقظ للنفس ، الباعث على أخذ الحزم ، وتجريد العزم ؛ فإن الوكال والهوينا قلما يفضيان بصاحبهما إلى درك مأمول ، ونيل مراد ، وغصابة متمني . وقد قال رجلٌ كبير الحكمة ، معروف الحنكة : المعتبر كثير ، والمعتبر قليل . وصدق هذا الرجل الصالح ، وهو الحسن البصري : لو اعتبر من تأخر بمن تقدم ، لم يكن من يتحسر في الناس ويندم ، ولكن الله بنى هذه الدار على أن يكون أهلها بين يقظةٍ ونوم ، وبين فرحٍ وترح ، وبين حيطةٍ وورطة ، وبين حزمٍ وغفلة ، وبين نزاعٍ وسلوة ، لكن الآخذ بالحزم - وإن جرى عليه مكروه - أعذر عند نفسه وعند كل من كان في مسكه ، من الملقي بيده ، والمتدلي بغروره ، والساعي في ثبوره ؛ وما وهب الله العقل لأحدٍ إلا وقد عرضه للنجاة ، ولا حلاه بالعلم إلا وقد دعاه إلى العمل بشرائطه ، ولا هداه الطريقين أعني الغي والرشد إلا ليزحف إلى أحدهما بحسن الاختيار .هذا بالأمس أبو الفضل العباس بن الحسين الوزير - وهو في وزارته وبسطه أمره ونهيه - قيل له ذات يوم : هذا التركي ساسنكر تفيأ بظله ، واعتصم بحبله ، واستسق بسجله ، وارتو من سؤره ، ولا يبلغه عنك ، ما يوحشه منك ، ويجفيه عليك . وقد قيل : اسجد لقرد السوء في زمانه وإذا لم تقدر على قطع يدٍ جائرةٍ ، فقبلها متهمةً منجدةً غائرة . فلم يفعل ، حتى وجد أعداؤه طريقاً إليه ، فسلكوه وأوفعوه . ثم قيل له في الوزارة الثانية : قد ذقت مرارة النكبة ، وتحرقت بنار الشماتة ، وتأرقت على فرطات العجز والفسالة ، وقد كان من ذلك كله ما كان ، ودار لك بما تمنيت الزمان ؛ فانظر إلى أين تضع الآن قدمك ، وبأي شيء تدير لسانك وقلمك ، فإن مخلصك من ورطتك بالمرصاد ، وقد وعدت من نفسك إن أعاد الله يدك إلى البسطة ، ورد حالك إلى السرور والغبطة ، أنك تجمل المعاملة ، وتنسى المقابلة ، وتلقى وليك وعدوك بالإحسان إلى هذا ، والكف عن هذا ، حتى يتساويا بنظرك ، ويتعبدا لك بتفضلك . فكان من جوابه ما دل على عتوه وثباته ، لأنه قال : أما سمعتم الله تعالى حيث يقول : ' ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ' ؟ وقال لي لاقومسي - ولم يعلم ما في فحوى هذا الكلام - : ما ذاك ؟ قلت : فحواه ولو عادوا إلى ما نهوا عنه لعدنا إلى مقابلتهم بما استحقوا عليه . وصدق ما قال الله عز وجل ، ما لبث ذلك الإنسان بعد هذا الكلام إلا قليلاً حتىأورده ولم يصدره ، وأعثره ولم ينعشه ، وسلم إلى عدوه حتى استل روحه من بين جنبيه ، شافياً به ومشتفياً منه ، وكان عاقبة أمره خسراً ، ولو اتقى الله لكان آخر أمره يسراً . والله المستعان . وهذا بعده محمد بن بقية طغى وبغى ، واقتحم ظلمات والعسف ، وطار بجناح اللهو والعزف ، والشرب والقصف ، ومل نعمة الله عليه ، وضل بين إمهال الله وإملائه ، فحاق به ما ذهبت عليه نفسه وماله ، وخرب بيته ، وافتضح أهله ، وكيف كان يسلم أم كيف كان ينجو وقد قتل ابن السراج بلا ذنب ، والجرجرائث بلا حجة ، وضرب ابن معروفٍ بالسياط وأبا القاسم - أخاً لأبي محمد القاضي - وشهره على جملٍ في الجانب الشرقي ؟ والتشفي حلو العلانية ، ولكنه مر العاقبة ، وكأن الحفيظة إنما خلقت لتعتقد ، والحقد إنما وجد ليبلغ به ما يسر الشيطان . وكأن العفو حرام ، والكظم محظور ، والمكافأة مأمورٌ بها . وهذا بالأمس علي بن محمد ذو الكفايتين ، اغتر بشبابه ، ولها عن الحزم والأخذ به فيما كان أولى به ، وظن أن كفايته تحفظه ، ونسبه من أبيه يكنفه ، وبراءته تحتج له ، وذنوبه الصغيرة تغتفر ؛ لبلائه المذكور ، وغنائه المشهور ؛ ومشى فعثر ، وراب فخثر ، والأول يقول : من سابق الدهر كبا كبوةً . . . لم يستقلها آخر الدهر فاخط مع الدهر إذا ما خطا . . . واجر مع الدهر كما يجري وقال لي الخليل - وكان لطيف المحل عنده ، لما كان يرى من اختصاص أبيه له ، ولما يظهر من فضله عنده - : قلت له يوماً : يا هذا ، في أي شيء أنت ؟ وبأي شيء تعلل ؟ وقد شحذت المواسي ، وحددت الأنياب ، وفتلت المرائر ، ونصبت الفخاخ ، والعيونمحدقةٌ نحو القطيعة ، والأعناق صورٌ إلى الفظيعة ، وأنت لاهٍ ساهٍ عما يراد بك بعد ؛ يسبيك هذا المزرفن وهذا المرخي وهذا المعرض ، وهذا الحليق ، وهذا النتيف ، وهذا المعقرب الصدغ ، وهذا المصفوف الطرة ، وبالكاس والطاس ، والغناء والقصف ، والناي والعود ، والصبوح والغبوق ، والشراب المروق العتيق ؛ والله ما أدري ما أصنع ، إن سكت عنك كمدت ، وإن نصحتك خفت منك ؛ ونعوذ بالله من اشتباه الرأي ، واشتباك الأمر ، وقلة الاحتراس ، والإعراض عما يجري من أفواه الناس . يا هذا ، سوء الاستمساك خيرٌ من حسن الصرعة ، وتلقي الأمر بالحزم والشهامة أولى من استدباره بالحسرة والندامة ، ومن لا تجربة له يقتبس ممن له تجربة ، فإذا نقب الخف دمي الأظل . فقال : قد فرغ الله مما هو كائن ، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون . قال : قلت له : ما أطلعك الله على كائنات الأمور ، ولا أعلمك بعواقب الأحوال ، وإنما عرفك حظك بعد أن وفر عقلك ، وأحضرك استطاعتك ؛ وأوضح لقلبك ما عليك ولك ، حتى يستشف ويستكشف ، وملكك النواصي حتى تمن وترسل ، وما طالبك إلا بعد أن أزاح علتك ، ولا عاقبك إلا بعد أن أنذرك وأنظرك ، وبمثل هذا تطالب أنت من هو دونك من خدمك وحشمك ، وأوليائك وأعدائك ، وهذا الذي أعذلك عليه هو الذي به تعذل غيرك وتراه ضالاً في مسلكه ، متعرضاً لمهلكه . فقال : أيظلمني ولي نعمتي صراحاً بلا ذنب ، ويجتاحني بلا جريمة ؛ ويثلم دولتهبلا حجة ؟ قلت : الله يقيك ويكفيك ، نراك بلا ذنب ، ونجدك بريئاً من كل عيب ، وغيرك لا يراك بهذه العين ، ولا يحكم لك بهذا الحكم ؛ فإن كنت ترى فرصةً فانتهزها ، وإن كنت تحلم بغصةٍ فاحترز منها ؛ فأبواب النجاة مفتحة ، وطرق الأمان متوجهة ، والأخذ بالاحتياط واجب ، قد قرب الشاخص من هذا المكان ، والقيامة قد قامت بالإرجاف ، والطيرة قشعريرة النفس ، كما أن القشعريرة طيرة البدن ، والاسترسال كلال الحس ، والفأل لسان الزمان ، وعنوان الحدثان ، ولا يقع في الأفواه إلا ما يوجب الحذر ، ويبعث على الرأي والنظر ، واستقراء الأثر والخبر . قال : أما أنا بعد التوكل على الله فقد استظهرت بمحمد بن إبراهيم صاحب نيسابور ، وبفخر الدولة وهو بهمذان على ثلاثة أيام ، وبعز الدولة وهو بمدينة السلام ؛ ومتى حرب حارب ، وراب رائب ، أويت إلى واحدٍ من هؤلاء . قال : قلت : ها هنا ما هو أسهل من هذا وإن كان أهول ، وأنجى وإن كان أشجى ، وأقرب وإن كان أعزب . قال : ما هو ؟ فرج عني واهدني . قلت : لما يدخل هذا الوارد الدار ، ويدنو من طرف البساط ، تندر رأسه عن كاهله ، وتلقي شلوه في مزبلة ، فإن الهيبة تقع ، والنائرة تخبو ، والعجب يغمر ، والظنة تزول ، والصدر يشتفي ، والاعتذار ينتفي ؛ ويكتب إلى موفده بأن الرأي أوجب هذا الفعل ، لأنه غلب على الظن باليقين ، ودفعت الشبهة بالجلاء ، واستخلصت النور من الظلام ؛ ولأن تبعد ساقطاً من خدمك ، يسوء ظني به من جهتك ، ويقدح في طاعتي لك ، ويضرم في نار التهمة بيني وبينك ؛ خيرٌ لي في نصيحتي لدولتك ، وخيرٌ لك في بقائي على أمرك ونهيك ، من أن يلتاث ضميري في سياسة دولتك ، وتحول نيتي عما عهدت من القيام بحق جندك ورعيتك ، وحفظ قاصيتك ودانيتك .فقال : هذا أعظم والله المستعان . وليتني أصبت بهذا الرأي امرأً علا عقله ، فيقبلهه ببيان ، أو يرده ببرهان ، فكان يقوى أو يضعف ، ويقدم عليه أو يحجم عنه ، فإن المبرم أقوى من السحيل ، والسمين أحمد من النحيل ؛ ثم كان ما كان . وكان مشايخ العراق والجبل يرون ما حديث بذلك الفتى أمراً فرياً ، وظلماً عبقرياً . وحدثني القومسي أنه لم يتقدم بذلك أمر ، ولا سبق به إذن ، ولكن لما حدث ما حدث ، وقع عنه إمساك ، وسترت الكراهية والإنكار . وللأمور أيها الوزير ظهورٌ وبطون ، وهوادٍ وأعجاز ، وأوائل وأواخر ؛ وليس على الإنسان أن يدرك النجاح في العواقب ، وإنما عليه أن يتحرز في المبادىء ؛ ولهذا قال القائل : لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره . . . وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال سليمان بن عبد الملك أو غيره من أهل بيته : ما لمت نفسي على فوت أمرٍ بدأته بحزم ، ولا حمدتها على درك أمرٍ بدأته بعجز . ها هنا ناسٌ إذا تلاقوا ينفث بعضهم إلى بعض بما هو صريح وكناية ، ويحتاج الأمر إلى ابن يوسف ، ويستملي الخبيث من الجالس فوق مشرعة مكان الروايا . وليس يصح كل ما يقال فيروى على وجهه ، وليس يخفى أيضاً كل ما يجري فيمسك عنه ؛ والأمور مرجة ، والصدور حرجة ، والاحتراس واجب ، والنصح مقبول ، والرأي مشترك ، والثقة بالله من اللوازم على من عرفه وآمن به ، وليس من الله عز وجل بدٌ على كل حال . والله أسأل الدفاع عنك ، والوقاية لك ، في مصبحك وممساك ، وفي مبيتك ومقيلك ، وشهادتك وغيبتك ، ولذوي مليحاً في هذا الباب نفخٌ وإيقاد ، وتناقلٌوائتمار ، ومسألةٌ وجواب . وعند الشيخ أبي الوفاء من هذا الحديث ومن غيره مما يتصل به من ناحية ابن اليزيدي ما يجب أن يصاخ له بالأذن الواعية ، ويقابل بالنفس الراعية ، ويداوى بالدواء الناجع ، وتحسم مادته من الأصل ، فإن الفساد إذا زال حصل مكانه الصلاح . وليس بعد المرض إلا الإفراق ، ولا بعد النزاع إلا الإغراق . إلى ها هنا انتهى نفسي بالنصح وإن كانت شفقتي تتجاوزه ، وحرصي يستعلي عليه ، لكني خادم ، وكما يجب علي أن أخدم بنيات الصدر ، فينبغي أن ألزم الحد بحسن الأدب . والله إني لوادٌ مخلصٌ ، وعبدٌ طائع ، ورجائي اليوم أقوى من رجائي أمس ، وأملي غداً أبسط من أملي اليوم ؛ أشكو إليك الأرق بالليل فكرا فيما يقال ، وتحفظا مما ينال ، وتوهما لما لا يكون إن كان ، وشر العدا ، الذين يتمنون لأولي نعمتهم الردى ، ويبيتون النكائث ، ويكسرون الأجفان ، ويتخازرون بالأعين ، ويتجاهرون بالأذى إذا تلاقوا ، ويتهامسون بالألسن إذا تدانوا ، والله يصرع جدودهم ، ويضرع خدودهم بين يديك ؛ وهذه الرقة مني والحفاوة ، وهذه الرعشة والقلق ، وهذا التقبع والتفزع كله ، لأني ما رأيت مثلك ، ولا شاهدت شبهك ، كرم خيم ، ولين عريكة ، وجود بنان ، وحضور بشر ، وتهلل وجه ، وحسن وعد ، وقرب إنجاز ، وبذل مال ، وحب حكمةٍ . قد شاهدت ناساً في السفر والحضر ، صغاراً وكباراً وأوساطاً ، فما شاهدت من يدين بالمجد ، ويتحلى بالجود ، ويرتدي بالعفو ، ويتأزر بالحلم ؛ ويعطي بالجزاف ،ويفرح بالأضياف ، ويصل الإسعاف بالإسعاف ، والإتحاف بالإتحاف ، غيرك . والله إنك لتهب الدرهم والدينار وكأنك غضبان عليهما ، وتطعم الصادر والوارد كأن الله قد استخلفك على رزقهما ؛ ثم تتجاوز الذهب والفضة إلى الثياب العزيزة ، والخلع النفيسة ، والخيل العتاق ، والمراكب الثقال ، والغلمان والجواري ، حتى الكتب والدفاتر وما يضن به كل جودا ؛ وما هذا من سجايا البشر إلا أن يكون فاعل هذا نبياً صادقاً ، وولياً لله مجتبنى ، فإن الله قد أمن هذا الصنف من الفقر ، ورفع من قلوبهم عز المال ، وهون عليهم الإفراج عن كل منفس ، ياقوتاً كان أو دراً ، ذهباً كان أو فضة ؛ كفاك الله عين الحاسدين ، ووقاك كيد المفسدين ، الذين أنعمت عليهم بالأمس على رءوس الأشهاد ، وكانوا كحصى فجعلتهم كالأطواد ؛ وهم يكفرون أياديك ، ويوالون أعاديك ، ويتمنون لك ما أرجو أن الله يعصبه برءوسهم ، وينزله على أرواحهم ، ويذيقهم وبال أمرهم ، ويجعلهم عبرةً لكل من يراهم ويسمع بهم ، كان الله لك ومعك ، وحافظك وناصرك . أطلت الحديث تلذذاَ بمواجهتك ، ووصلته خدمةً لدولتك ، وكررته توقعاً لحسن موقعه عندك ، وأعدته وأبديته طلباً للمكانة في نفسك . وأرجو إن شاء الله ألا أحرم هبة من ريحك ، ونسيماً من سحرك ، وخيرةً بنظرك . لم أوفق في هذه الكلمة الأخيرة ، والله ما يمر بي يأسٌ من إنعامك فأقويه بالرجاء ، ولا يعتريني وهمٌ في الخيبة لديك فأتلافاه بالأمل . إنما قصارى أمنيتي إذا حكمت أن أعطى فيك سؤلي بالبقاء المديد ، والأمر الرشيد ، والعدو الصريع ، والولي الرفيع ، والدولة المستتبة ، والأحوال المستحبة ، والآمال المبلوغة ، والأماني المدركة ، مع الأمر والنهي النافذين ، بين أهل الخافقين ؛ والله يبلغني ذلك بطوله ومنه . وآخر ما أقول : أيها الوزير : مر بالصدقات ، فإنها مجلبة السلامات والكرامات ، مدفعةٌ للمكاره والآفات ، واهجر الشراب ، وأدم النظر في المصحف ، وافزع إلى الله في الاستخارة ، وإلى الثقات بالاستشارة ؛ ولا تبخل على نفسك برأي غيرك ، وإن كان خاملاً في نفسك ، قليلاً في عينك ، فإن الرأي كالدرة التي ربما وجدت في الطريق وفيالمزبلة ، وقل من فزع إلى الله بالتوكل عليه ، وإلى الصديق بالإسعاد منه ، إلا أراه الله النجاح في مسئلته ، والقضاء لحاجته ؛ والسلام . فقال لي الوزير بعد ما قرأ الرسالة : يا أبا مزيد ، بيضتها ، وعجبت من تشقيق القول فيها ، ومن لطف إيرادك لها ، ومن بلة ريقك بها . والله يحقق ما نأمله له ، ونرجوه لأنفسنا ، وينحسر عنا هذا الضباب الذي ركد علينا ، ويزول الغيم الذي استعرض في أمرنا ، وعلى الله توكلنا ، ' ومن يتوكل على الله فهو حسبه ' . رسالة في شكوى البؤس ورجاء المعونة وجه بها المؤلف إلى الشيخ أبي الوفاء المهندس الذي كتب له المؤلف هذا الكتاب . وختم كتابه بها : أيها الشيخ ، سلمك الله بالصنع الجميل ، وحقق لك وفيك وبك غاية المأمول . هذا آخر الحديث ، وختمته بالرسالتين ، ويتقرر جميع ما جرى ودار على وجهه ، إلا ما لممت به شعثاً ، وزينت به لفظاً ، وزيدت منقوصاً ، ولم أظلم معنىً بالتحريف ، ولا ملت فيه إلى التحوير ؛ وأرجو أن يبيض وجهي عندك بالرضا عني ، فقد كاد وعدك في عنايتك يأتي علي ، وأنا أسال الله أن يحفظ عنايتك علي ، كسابق اهتمامك بأمري ، حتى أملك بهما ما وعدتنيه من تكرمة هذا الوزير الذي قد أشبع كل جائع ، وكسا كل عارٍ ، وتألف كل شاردٍ ، وأحسن إلى كل مسيء ، ونوه بكل خامل ، ونفق كل هزيل ، وأعز كل ذليل ؛ ولم يبق في هذه الجماعة على فقره وبؤسه ، ومره ويأسه ، غيري ؛ مع خدمتي السالفة والآنفة ، وبذلي كل مجهودٍ ، ونسخي كل عويص ، وقيامي بكل صعب ؛ والأمور مقدرة ، والحظوظ أقسام ، والكدح لا يأتي بغير ما في اللوح .فصل
خلصني أيها الرجل من التكفف ، أنقذني من لبس الفقر ، أطلقني من قيد الضر ، اشترني بالإحسان ، اعتبدني بالشكر ، استعمل لساني بفنون المدح ، اكفني مؤونة الغداء والعشاء . إلى متى الكسيرة اليابسة ، والبقيلة الذاوية ، والقميص المرقع ، وباقلي درب الحاجب ، وسذاب درب الرواسين ؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون ؟ قد والله بح الحلق ، وتغير الخلق ؛ الله الله في أمري ؛ اجبرني فإنني مكسور ، اسقني فإنني صدٍ ، أغثني فإنني ملهوف ، شهرني فإنني غفل ، حلني فإنني عاطل . قد أذلني السفر من بلدٍ إلى بلد ، وخذلني الوقوف على بابٍ باب ، ونكرني العارف بي ، وتباعد عني القريب مني . أغرك مسكويه حين قال لك : قد لقيت أبا حيان ، وقد أخرجته مع صاحب البريد إلى قرميسين ؟ والله ثم وحياتك التي هي حياتي ، ما انقلبت من ذلك بنفقة شهر ، والله نظر لي بالعود ، فإن الأراجيف اتصلت ، والأرض اقشعرت ، والنفوس استوحشت ، وتشبه كل ثعلبٍ بأسد ، وفتل كل إنسانٍ لعدوه حبلاً من مسد . أيها الكريم ، ارحم ؛ والله ما يكفيني ما يصل إلي في كل شهرٍ من هذا الرز المقتر الذي يرجع بعد التقتير والتيسير إلى أربعين درهماً مع هذه المئونة الغليظة ، والسفر الشاق ، والأبواب المحجبة ، والوجوه المقطبة ، والأيدي المسمرة ، والنفوس الضيقة ، والأخلاق الدنيئة .أيها السيد ، أقصر تأميلي ، ارع ذمام الملح بيني وبينك ، وتذكر العهد في صحبتي ، طالب نفسك بما يقطع حجتي ، دعني من التعليل الذي لا مرد له ، والتسويف الذي لا آخر معه . ذكر الوزير أمري ، وكرر على أذنه ذكري ، وأمل عليه سورةً من شكري ، وابعثه على الإحسان إلي . افتح عليه باباً يغري الراغب في اصطناع المعروف لا يستغني عن المرغب ، والفاعل للخير لا يستوحش من الباعث عليه . أنفق جاهك فإنه بحمد الله عريض ، وإذا جدت بالمال فجد أيضاً بالجاه ، فإنهما أخوان . سرحني رسولاً إلى صاحب البطائح أو إلى أبي السؤل الكردي أو إلى غيره ممن هو في الجبال ، هذا إن لم تؤهلني برسالةٍ إلى سعدٍ المعالمي بأطراف الشام ، وإلى البصرة ، فإني أبلغ في تحمل ما أحمل ، وأداء ما أؤدي ؛ وتزيين ما أزين ، حداً أملك به الحمد ، وأعرف فيه بالنصيحة وأستوفي فيه على الغاية . دع هذا ، ودع لي ألف درهم ، فإني اتخذ رأس مال ، وأشارك بقال المحلة في درب الحاجب ، ولا أقل من ذا ، تقدم إلى كسج البقال حتى يستعين بي لأبيع الدفاتر . قلت : الوزير مشغول . فما أصنع به إذا فرغ ، فالشاعر يقول : تناط بك الآمال ما اتصل الشغل قد والله نسيت صدر هذا البيت ، وما بال غيري ينوله ويموله مع شغله وأحرم أنا ؟ أنا كما قال الشاعر :وبرقٌ أضاء الأرض شرقاً ومغرباً . . . وموضع رجلي منه أسود مظلم والله إن الوزير مع أشغاله المتصلة ، وأثقاله الباهظة ، وفكره المفضوض ورأيه المشترك ، لكريمٌ ماجد ، ومفضلٌ محسن ، يرعى القليل من الحرمة ، ويعطي الجزيل من النعمة ، ويحافظ على اليسير من الذمام ، ويتقبل مذاهب الكرام ، ويتلذذ بالثناء إذا سمع ، ويتعرض للشكر من كل منتجع ، ويزرع الخير ، ويحصد الأجر ، ويواظب على كسب المجد ، ويثابر على اجتلاب الحمد ، وينخدع للسائل ، ويتهلل في وجه الآمل ، ولا يتبوأ من الفضائل إلا في ذراها ، رحيم بكل غادٍ ورائح ، ولكل صالحٍ وطالح . وأنا الجار القديم ، والعبد الشاكر ، والصاحب المخبور ، ولكنك مقبلٌ كالمعرض ، ومقدمٌ كالمؤخر ، وموقدٌ كالمخمد ، تدنيني إلى حظي بشمالك ، وتجذبني عن نيله بيمينك ، وتغذيني بوعدٍ كالعسل ، وتعشيني بيأس كالحنظل ، ومن عتبه علي مظنة عيبك ، فليس ينبغي أن يكون تقصيره على تيقنه بنصرك . نعم ؛ عتبت فأوجعت ، وعرفت البراءة فهلا نفعت ؟ والله ما أدري ما أقول ، إن شكرتك على ظاهرك الصحيح لذعتك لباطنك السقيم ، وإن حمدتك على أولك الجميل ، أفسدت لآخرك الذي ليس بجميل . قد أطلت ، ولكن ما شفيت ، ونهلت وعللت ، ولكن ما رويت . وآخر ما أقول : افعل ما ترى ، واصنع ما تستحسن ، وابلغ ما تهوى ، فليس والله منك بد ، ولا عنك غنىً . والصبر عليك أهون من الصبر عنك ، لأن الصبر عنك مقرونٌ باليأس ، والصبر عليك ربما يؤدي إلى رفع هذا الوسواس ، والسلام لأهل السلام .