كتاب : الإمتاع والمؤانسة
المؤلف : أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر إن المطامع فقر والغنى الياس والأمر تحقره وقد ينمى رب كبيرٍ هاجه صغير ذهب القضاء بحيلة الأقوام وقد يستجهل الرجل الحليم وإذا مضى شيءٌ كأن لم يفعل من عرف بالحكمة لاحظته العيون بالهيبة . البطنة تذهب الفطنة ، إن المقدرة تذهب الحفيظة . من ثقل على صديقه خف على عدوه . زيادة لسان على عقلٍ خدعة ، وزيادة عقلٍ على منطق هجنة . وحاجة من عاش لا تنقضي من أطاع هواه ، أعطى عدوه مناه . عند الشدائد تذهب الأحقاد احذر صرعات البغي وفلتات المزاح . ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه المرء يعجز لا المحالة ذل الطالب بقدر حاجته ، إذا ازدحم الجواب خفي الصواب . الكريم للكريم مجل . موتٌ في قوةٍ وعزٍ خيرٌ من حياةٍ في ذلٍ وعجز . عدل السلطان خيرٌ من خصب الزمان . من توقى سلم ، ومن تهور ندم ، من أسرع إلى الناس بما يكرهون ، قالوا فيه ما لا يعلمون . الضر خيرٌ من الفاقة ، عيٌ صامت خيرٌ من عيٍ ناطق . ربما سود المال غير السيد ، وقوي غير الأيد . وهل يدفع ريب المنية الحيل .الموت حتمٌ في رقاب العباد كفى بالإقرار بالذنب عذراً ، وبرجاء العفو شافعاً . قليلٌ يوعى ، خيرٌ من كثير ينسى ، ليس على طول الخدم ندم ، ومن وراء المرء ما لم يعلم . مروءتان ظاهرتان : الرآسة والفصاحة . من أطال الأمل أساء العمل . لا تكلف ما كفيت ، ولا تضيع ما وليت . احتمل من أدل عليك ، وأقبل ممن اعتذر إليك . إن الشجاعة مقرونٌ بها العطب إن الكرام على ما نابهم صبر لو سكت من لا يعلم سقط الاختلاف . لا عذر في غدر . ليس من العدل سرعة العذل . أقبح عمل المقتدرين الانتقام . شرٌ من الموت ، ما يتمنى له الموت . من جاع جشع . المكيدة في الحرب أبلغ من النجدة . لك من دنياك ، ما أصلح مثواك . من أحب أن يطاع ، لا يسأل ما لا يستطاع ، إذا غلبتك نفسك بما تظن ، فاغلبها بما تستيقن . الرد الجميل أحسن من المطل الطويل . القبر خيرٌ من الفقر . شفيع المذنب إقراره ، وتوبته اعتذاره . صحبة الأشرار ، تورث سوء الظن بالأخيار ، لا كثير مع تبذير ، ولا قليل مع تقدير . من صان لسانه نجا من الشر كله . ولربما نفع الفتى كذبه فمن يعدل إذا ظلم الأمير إذا فزع الفؤاد فلا رقاد ما العلم إلا ما وعاه الصدر إن الكريم على الإخوان ذو المال إن الفرار لا يزيد في الأجلإن الشفيق بسوء ظنٍ مولع لا تبل على أكمة ، ولا تفش سرك إلى أمة . إذا أقبلت الدنيا على المرء أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه . في التجارب علمٌ مستأنفٌ . قد خاطر من استغنى برأيه . عليك لأخيك مثل الذي عليه لك . الحق ظلٌ ظليل . المودة قرابةٌ مستفادة . معدمٌ وصول خيرٌ من مكثرٍ جافٍ . من الفراغ تكون الصبوة . من نال استطال . في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال . الشكر عصمةٌ من النقمة . اللب مصباح العلم . من ركب العجلة ، لم يأمن الكبوة . إزالة الرواسي ، أيسر من تأليف القلوب . قارب الناس في عقولهم ، تسلم من غوائلهم ، وترتع في حدائقهم . عاشر أخاك بالحسنى . الحسد أهلك الجسد . خذ على خلائقك ميثاق الصبر . خير ما رمت ما ينال . كل امرىء في شأنه ساعي قد يدرك المتأني بعض حاجته . . . وقد يكون مع المستعجل الزلل غم الفقير لا يكشفه إلا الموت . خفة الظهر أحد اليسارين . أصول الأسقام من فضول الطعام . طلاق الدنيا مهر الجنة . من عز النفس إيثار القناعة . التواضع بالغنى أجمل ، والكبر بالفقير أسمج . من استعان بغير الله لم يزل مخذولاً . من لم يقبل من الدهر ما آتاه طال عتبه على الدهر . عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله . العجز والتواني ينتجان الفاقة . إن صبرت صبر الأحرار ، وإلا سلوت سلو الأغمار . العلم بالعمل ينمو . معاشرة الإخوان تجلو البصر ، وتطرد الفكر . لا توحشك الغربة ما أنست بالكفاية ، فإن الفقر أوحش من الغربة . الغنى أنسٌ في غير الوطن . الغني في الغربة موصول ، والفقير في الأهل مصروم . أوحش قرينك إذا كان في إيحاشه أنسك . إذا أيسرت فكل أهلٍ أهلك ، وإن أعسرت فأنت غريبٌ في قومك . من أخلاق الصبيان ، إلف الأوطان ، والحنين إلى الإخوان . من لم يأنف ، لم يشرف . خير المودة ما لم تكن حذار عادية ، ولا رجاء فائدة . من حمل الأمور على القضاء استراح في الإقبال والإدبار حتى ينتهيا . لو استحسن الناس ما أمر به العقل استقبحوا ما نهى عنه العقل . أقدر الناس على الجواب من لا يغضب . الكلام في وقت السكوت عي ، والسكوت في وقت الكلام خرس . الهم يهدم البدن ، وينغص العيش ،ويقرب الأجل . الموت رقيبٌ غير غافل . المرء نهب الحوادث . إذا تم العقل نقص الكلام . هب ما أنكرت لما عرفت ، واغفر ما أغضبك لما أرضاك . اليأس إحدى الراحتين . المطل أحد العذابين . الكظم مر ، ولا يتجرعه إلا حر . الرأي لا يصلح إلا بالشركة ، والملك لا يصلح إلا بالتفرد . من كبر عنصره ، حسن محضره . ولرب مطمعةٍ تعود رياحا والحمد لا يشترى إلا بأثمان ولكن نكء القرح بالقرح أوجع من أزهر بقول ، حقيقٌ أن يثمر بفعل . السلام أرخى للبال ، وأبقى لنفوس الرجال . حسبك من عقلك ما أوضح غيك من رشدك . التسويف بطاعة الله اغترار ، وحياة المرء كالشيء المعار . من بذل بعض عنايته لك ، فاجعل جميع شكرك له . وللحر من مال الكريم نصيب اليوم فعل ، وغداً ثواب . الخير مختارٌ شهي المطلب . . . والشر محذور كريهٌ مجتنب رب سكوتٍ من كلامٍ أبلغ . . . ورب قول من عمودٍ أدمغ من سلم الناس على لسانه . . . أصبح منصوراً على سلطانه من القليل يجمع الكثير . . . رب صغير قدره كبير من باع ما يفنى بما يبقى غنم . . . وآثر الدنيا على الأخرى ندم قد يحرم الراجي ويعطى القانط . . . ويبعد الأدنى ويدنى الشاحطمن لم ينلك البر في حياته . . . لم تبك عيناك على وفاته المال ما تنفق لا ما تجمعه . . . والزرع ما تحصد لا ما تزرعه يا رب هزلٍ كان منه الجد . . . ورب مزحٍ كان منه الحقد البحر مستغنٍ عن الفرات فقال - أدام الله أيامه - هذا فنٌ موفٍ على الغاية .الليلة السابعة العشرون
وقال - أدام الله أيامه - في ليلة أخرى : كنت أحب أن أسمع كلاماً في كنه الاتفاق وحقيقته ، فإنه مما يحار العقل فيه ، ويزل حزم الحازم معه ، وأحب أيضاً أن أسمع حديثاً غريباً فيه ؛ فكان من الجواب : إن الرواية في هذا الباب أكثر وأفشى من الاطلاع على سره ، والظفر بمكنونه ؛ فقال : هات ما يتعلق بالرواية . قلت : حكى لنا أبو سليمان في هذه الأيام أن ثيودسيوس ملك يونان كتب إلى كنتس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية ؛ فجمع ماله في عيبةٍ ضخمة ، وارتحل قاصداً نحوه ، فلقي في تلك البادية قوماً من قطاع الطريق ، فطمعوا في ماله وهموا بقتله ، فناشدهم الله ألا يقتلوه وأن يأخذوا ماله ويخلوه ، فأبوا ، فتحير ونظر يميناً وشمالاً يلتمس معيناً وناصراً فلم يجد ، فرفع رأسه إلى السماء ، ومد طرفه في الهواء ، فرأى كراكي تطير في الجو محلقة ، فصاح : أيتها الكراكي الطائرة ، قد أعجزني المعين والناصر ، فكوني الطالبة بدمي ؛ والآخذة بثأري . فضحك اللصوص ، وقال بعضهم لبعض : هذا أنقص الناس عقلاً ، ومن لا عقل له لا جناح في قتله ؛ ثم قتلوه وأخذوا ماله واقتسموه وعادوا إلى أماكنهم ؛ فلما اتصل الحديث بأهل مدينته حزنوا وأعظموا ذلك ، وتبعوا أثر قاتله واجتهدوا فلم يغنوا شيئاً ولم يقفوا على شيء ؛ وحضر اليونانيون وأهل مدينته إلى هيكلهم لقراءة التسابيح والمذاكرة بالحكمة والعظة ، وحضرالناس من كل قطر وأوب ، وجاء القتلة واختلطوا بالجمع ، وجلسوا عند بعض أساطين الهيكل ، فهم على ذلك إذ مرت بهم كراكي تتناغى وتصيح ، فرفع اللصوص أعينهم ووجوههم إلى الهواء ينظرون ما فيه فإذا كراكي تصيح وتطير ، وتسد الجو ؛ فتضاحكوا ، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء طالبو دم كنتس الجاهل - على طريق الاستهزاء - فسمع كلامهم بعض من كان قريباً منهم فأخبر السلطان فأخذهم وشدد عليهم ، وطالبهم فأقروا بقتله ، فقتلهم ؛ فكانت الكراكي المطالبة بدمه ، لو كانوا يعقلون أن الطالب لهم بالمرصاد . وقال لنا أبو سليمان : إن كنتس وإن كان خاطب الكراكي فإنه أشار به إلى رب الكراكي وخالقها ، ولم يطل الله دمه ولا سد عنه باب إجابته ؛ فسبحانه كيف يهيىء الأسباب ، ويفتح الأبواب ، ويرفع الحجاب بعد الحجاب . فقال : هذا عجب : قلت : قال لنا أبو سليمان : كل ما جهل سببه من ناحية الحس بالعادة ، ومن ناحية الطبيعة بالإمكان ، ومن ناحية النفس بالتهيئة ، ومن ناحية العقل بالتجويز ، ومن ناحية الإله بالتوفيق - فهو معجوبٌ منه ، معجوزٌ عنه ، مسلمٌ لمن له القدرة المحيطة ، والمشيئة النافذة ، والحكمة البالغة ، والإحسان السابق . ولقد حكى أبو الحسن الفرضي في أمر الاتفاق شيئاً ظريفاً عن بعض إخوانه قال : خرجنا إلى بعض المتنزهات ومعنا جرٌ نصيد به السماني ، وكنا جماعة ، فقال حدثٌ كان معنا - وكان أصغرنا سناً - : أنتم تصديون بجرٍ ، وأنا أصيد بيدي ؛ يقول ذلك على جهة المزح ؛ فرمى بعد قليل فاتفق له أن أثار سماني ، فأسرع إليه ونحن لا نعلم أنه أخذ شيئاً ، فقلنا له على طريق العبث : احذر الخنزير - من غير أن نكون رأينا خنزيراً - فالتفت فزعاً وفر مولياً ، فاتفق له أن رأى خنزيراً منه غير بعيد ، فأقبل إلينا مسرعاً هارباً من الخنزير والسماني بيده وقد صاده . وكنت في البادية في صفر سنة أربع وخمسين منصرفاً من الحج ومعي جماعةٌ من الصوفية ،فلحقنا جهدٌ من عوز القوت وتعذر ما يمسك الروح في حديث طويل - إلا أنا وصلنا من زبالة - بالحيلة اللطيفة منا ، والصنع الجميل من الله تعالى - إلى شيء من الدقيق ؛ فانتشعت أنفسنا به ، وغنمناه ، ورأيناه نفحةً من نفحات الله تعالى الكريم ؛ فجعلناه زادنا ، وسرنا ؛ فلما بلغنا المنزل قعدنا لنمارس ذلك الدقيق ، ولقطنا البعر ودقاق الحطب ، فلما أجمعنا على العجن والملك لم نجد الحراق - وكان عندنا أنه معنا ، وأننا قد استظهرناه - فدخلتنا حيرة شديدة ، وركبنا غمٌ غالب ، وسففنا من ذلك الدقيق شيئاً ، فما ساغ ولا قبلته الطبيعة ، وبتنا ليلتنا طاوين ساهرين ، قد علانا الكمد ، وملكنا الوجوم والأسف ؛ فقال بعضنا : هذا لما وجدنا الدقيق ؟ وأصبحنا وركبنا قد استرخت ، وعيوننا قد غارت ، وأحدنا لا يحدث صاحبه غماً وكرباً ؛ وعدنا إلى ما كنا فيه قبل بزيادة حسرةٍ من النظر إلى الدقيق ؛ وقال صاحبٌ لنا : نرمى بجراب الدقيق حتى نلقي حمله وثقله في طول هذا الطريق ؛ فقلنا : ليس هذا بصواب ، وما يضرنا أن يكون معنا ، فلعلنا أن نرى ركباً أو نلقى حطباً . وكانت البادية خاليةً في ذلك الوقت ، لرعبٍ لحق قوماً من بني كلاب من جهة أعدائهم ، فلم يكن يجتاز بها في ذلك الوقت غريب . وبقينا كذلك إلى اليوم الثالث ، ونحن نلاحق ونجاهد في المشي ؛ فلما كان العصر من ذلك اليوم كنت أسير أمام القوم أجرئهم وأسألهم ، وكنت كالحاطب لهم : إذا عثرنا بحراقٍ وظفرنا بفتيلة ؛ فوجدوا خرقةً ملفوفة فيها حراق ، فهللوا وكبروا ، ورفعوا أصواتهم ؛فقلت كالمتعجب : ما الخبر ؟ قالوا : البشرى ؛ قلت : وما ذاك ؟ قالوا : هذه خرقة ملئت حراقاً ، فلا تسل عما دهانا من الفرح والاستبشار ؛ وثاب إلينا من السرور والارتياح ، وزال عنا من الانخزال والانكسار ، وقعدنا في مكاننا ذلك ، ولقطنا البعر ، وأثرنا الوقود ، وأججنا ناراً عظيمة ، وملكنا الدقيق كله ملكةً واحدةً وكان أربعين رطلاً ، وكان ذلك بلاغنا إلى القادسية ؛ فلما دنونا منها تلقانا بشر من أهلها ، وقالوا لنا : كيف سلمتم في هذه الطريق مع العوز والخوف ؟ فقلنا : لطف الله يقرب كل بعيد ، ويسهل كل شديد ، ويصنع للضعيف حتى يتعجب القوي . وليس أحدٌ من خلق الله يجحد هذا القول ، وينكر هذا الفضل ، ويرجع إلى دينٍ وثيقٍ أو واهٍ ' إن الله لذو فضلٍ على الناس ' . وحدثني أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني القاضي صاحب المذهب قال : اصطحب رجلان في بعض الطرق مسافرين : مجوسيٌ من أهل الري ، والآخر يهوديٌ من أرض جى ؛ وكان المجوسي راكباً بغلة له عليها سفرة من الزاد والنفقة وغير ذلك ، وهو يسير مرفهاً وادعاً ، واليهودي يمشي بلا زادٍ ولا نفقة ؛ فبينا هما يتحادثان إذ قال المجوسي لليهودي : ما مذهبك وعقيدتك يا فلان ؟ قال اليهودي : أعتقد أن في هذه السماء إلهاً هو إله بني إسرائيل ، وأنا أعبده وأقدسه وأضرع إليه ، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل ، مع صحة البدن ، والسلامة من كل آفة ، والنصرة على عدوي ، وأسأله الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي ، فلا أعبأ بمن يخالفني ، بل أعتقد أن من يخالفني دمه لي يحل ، وحرام علي نصرته ونصيحته والرحمة به . ثم قال للمجوسي : قد أخبرتك بمذهبي وعقيدتي وما اشتمل عليه ضميري ، فخبرني أنت أيضاً عن شأنك وعقيدتك وما تدين به ربك ؟ فقال المجوسي : أما عقيدتي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي وأبناء جنسي ، ولا أريد لأحدٍ من عباد الله سوءاً ، ولا أتمنى له ضراً ، لا لموافقي ، ولا لمخالفي . فقال اليهودي : وإن ظلمك وتعدى عليك ؟قال : نعم ، لأني أعلم أن في هذه السماء إلهاً خبيراً عالماً حكيماً لا تخفى عليه خافيةٌ من شيء ، وهو يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . فقال اليهودي : يا فلان ، لست أراك تنصر مذهبك وتحقق رأيك . قال المجوسي : كيف ذاك ؟ قال : لأني من أبناء جنسك ، وبشرٌ مثلك ، وتراني أمشي جائعاً نصباً مجهوداً ، وأنت راكبٌ وادعٌ مرفهٌ شبعان . فقال : صدقت ، وماذا تبغي ؟ قال : أطعمني من زادك ، واحملني ساعةً ، فقد كللت وضعفت . قال : نعم وكرامة . فنزل ومد من سفرته وأطعمه وأشبعه ، ثم أركبه ، ومشى ساعة يحدثه ؛ فلما ملك اليهودي البغلة وعلم أن المجوسي قد أعيا ، حرك البغلة وسبقه ، وجعل المجوسي يمشي ولا يلحقه ، فناداه : يا فلان ، قف لي وانزل ، فقد انحسرت وانبهرت . فقال اليهودي : ألم أخبرك عن مذهبي وخبرتني عن مذهبك ، ونصرته وحققته ؟ فأنا أريد أيضاً أن أحقق مذهبي ، وأنصر رأيي واعتقادي . وجعل يحرك البغلة ، والمجوسي يقفوه على ظلع وينادي : قف يا هذا واحملني ، ولا تتركني في هذا الموضع فيأكلني السبع وأموت ضياعاً ، وارحمني كما رحمتك . واليهودي لا يلوي على ندائه واستغاثته ، حتى غاب عن بصره ؛ فلما يئس المجوسي منه وأشفى على الهلكة ، ذكر اعتقاده وما وصف به ربه ، فرفع طرفه إلى السماء وقال : إلهي قد علمت أني اعتقدت مذهباً ونصرته ، ووصفتك بما أنت أهله ، وقد سمعت وعلمت ، فحقق عند هذا الباغي علي ما مجدتك به ، ليعلم حقيقة ما قلت . فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة ، واندقت عنقه ، وهي واقفةٌ ناحيةً منه تنتظر صاحبها ؛ فلما أدرك المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله ، وترك اليهودي معالجاً لكرب الموت ؛ فناداه اليهودي : يا فلان ، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية أهلك جوعاً وعطشاً ، وانصر مذهبك ، وحقق اعتقادك . قال المجوسي : قد فعلت ذلك مرتين ، ولكنك لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت . فقال اليهودي : وكيف ذلك ؟ قال : لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني في قولي ، حتى حققته بفعلي ، وذاك أني قلت : إن في هذه السماء إلهاً خبيراً عادلاً لا يخفي عليه شيء ، وهو ولي جزاء المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .قال اليهودي : قد فهمت ما قلت ، وعلمت ما وصفت . قال المجوسي : فما الذي منعك من أن تتعظ بما سمعت ؟ قال اليهودي : اعتقادٌ نشأت عليه ، ومذهبٌ تربيت به ، وصار مألوفاً معتاداً كالجبلة بطول الدأب فيه ، واستعمال أبنيته ، اقتداءً بالآباء والأجداد والمعلمين من أهل ديني ومن أهل مذهبي ، وقد صار ذلك كالأس الثابت ، والأصل النابت ؛ ويصعب ما هذا وصفه أن يترك ويرفض ويزال . فرحمه المجوسي ، وحمله معه حتى وافى المدينة ، وسلمه إلى أوليائه محطماً موجعاً ، وحدث الناس بحديثه وقصته ، فكانوا يتعجبون من شأنهما زماناً طويلاً . وقال بعض الناس للمجوسي بعد : كيف رحمته بعد خيانته لك ، وبعد إحسانك إليه ؟ قال المجوسي : اعتذر بحاله التي نشأ فيها ، ودأب عمره في اعتقادها ، وسعى لها واعتادها ؛ وعلمت أن هذا شديد الزوال عنه ، وصدقته ورحمته ، وهذا مني شكرٌ على صنع الله بي حين دعوته عندما ذهاني منه ، وبالرحمة الأولى أعانني ربي ، وبالرحمة الثانية شكرته على ما صنع بي . هذا كله سردناه لسبب الأمر الذي يبدو من غير جنان ، والعارض الذي يبرز من غير توهم . وأبو سليمان يقول : الأمور مقسومةٌ على الحدود الطبيعية والقوى النفسية والبسائط العقلية والغرائب الإلهية ؛ فبالواجب ، ما كان ها هنا مألوفٌ له نسبةٌ إلى الطبيعة ، ونادرٌ له نسبةٌ إلى النفس ، وبديعٌ له نسبةٌ إلى العقل ، وغريبٌ له نسبةٌ إلى الإله ؛ والفلتات في الأحوال من هذا القبيل ، أعني ما يتخلل هذه المراتب . فقال له البخاري : أيقال لما يصدر عن الإله فلتة ؟ قال : بحسب مصيره إلينا ، ووصوله إلى عالمنا ، لا بحسب صدوره عن الباري ، فليس هناك هذا ولا ما يشبهه ، لأن هذه السمات لحقت المركبات ، من الأوائل المزدوجات ، والثواني المكررات ، والثوالث المحققات ، والروابع المتممات ، والخوامس المدبرات ، والسوادس المضاعفات ، والسوابع الظاهرات ، والثوامن المعقبات ، والتواسع العاليات ، والعواشر الكاملات ؛ وما بعد العواشر داخلٌ في المكررات .قال له البخاري مستزيداً : أكان التوفيق من الاتفاق ؟ فقال : هما يتوحدان من وجه ، ويفترقان من وجه ؛ فوجه توحدهما أن الاتفاق وليد التوفيق ، والتوفيق غاية الاتفاق ؛ ووجه افتراقهما أن الاتفاق يبرز إلى الحس ، وأصحابه يشتركون في التعجب منه ، والاستطراف له ؛ والتوفيق يستتر عن الحس ؛ ولهذا لا تسلك مساكله . وأما الوفاق والموافقة والتوفيق والاتفاق فمتلابسة المعاني ؛ ولما لم يكن بين المعنى والمعنى مسافةٌ محصلةٌ حسب هذا في حيز هذا ، وعد هذا في جملة هذا . وقال - أبقاه الله وأدام أيامه - : ما اليمن والبركة ؟ والفأل والطيرة وأضدادها ؟ فكان الجواب : إن اليمن عبارةٌ عن شر يبشر به ويبتغي ويراد ؛ ويقال : فلانٌ ميمون الناصية ، وميسور الناصية ؛ أي هو سببٌ ظاهرٌ في نيل مأمول وإدراك محبوب ؛ واشتقاقه من اليمين ، وهو القوة ؛ ولذلك يقال لليسار : شمالٌ ، لأنها أضعف منها ، وتسمى أيضاً : الشومي . ويقال : يمن فلانٌ عليهم ، وشؤم ، وهو ميمونٌ ومشؤم ؛ جعل الفعل على طريق ما لم يسم فاعله ، لأنه شيءٌ موصولٌ به من غير إرادته واختياره . وإنما نزعوا إلى قولهم : فلان مشؤم ليكون الفعل واقعاً به - أعني المكروه - وإلا فهو شائمٌ في الأصل . ويقال : شأم فلانٌ قومه ، وكذلك يمنهم ؛ وكأنهما قوتان علويتان تصحبان مزاجين مختلفين ، وإذا اعتيد منهما هذان العرضان اللذان يصدران عن هاتين القوتين العلويتين ، قيل : فلان كذا ، وفلانٌ كذا . وأما البركة فهي النماء والزيادة والرفع ، من حيث لا يوجد بالحس ظاهراً مكشوفاً يشار إليه ، فإذا عهد من الشيء هذا المعنى خافياً عن الحس قيل : هذه بركة ، واشتقاقها من البروك ، وهو اللزوم والسعة ؛ ومن ذلك : البركة . والبركة يوصف بها كل شيء ، وليس لضدها اسمٌ مشهور ، لذلك يقال : قليل البركة . وأما الفأل ففسر بأنه جريان الذكر الجميل على اللسان معزولاً عن القصد ، إما منالقائل ، وإما من السامع . وقد سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل المدينة على أبي أيوب الأنصاري أبا أيوب يقول لغلامً له : يا سالم يا غانم . فقال لأبي بكر : ' سلمت لنا الدار في غنم إن شاء الله ' . وهذا مشهورٌ بين الناس . وضده الطيرة والإشعار . ويروى أنه نهي عن الطيرة ، وكان يحب الفأل ( صلى الله عليه وسلم ) ، وليس لهما عللٌ راتبة ، ولا أسباب موجبة ، ولا أوائل معروفة ؛ ولهذا كره الإفراط في التطير والتعويل على الفأل ، لأنهما أمران يصحان ويبطلان ، والأقل منهما لا يميز من الأكثر ؛ وللمزاج من الإنسان فيهما أثرٌ غالب ، والعادة أيضاً تعين ، والولوع يزيد ، والتحفظ مما هذا شأنه شديد . ولقد غلب هذا حتى قيل : فلانٌ مدور الكعب ، وفلانٌ مشئوم ؛ وحتى تعدى هذا إلى الدابة والدار والعبد ؛ وكل هذا ظهر في هذه الدار حتى لا يكون للعبد طمأنينة إلا بالله ، ولا سكونٌ إلا مع الله ، ولا مطلوبٌ إلا من الله ؛ ولهذا - عز وجل - يطلع الخوف من ثنية الأمن ، ويسوق الأمن من ناحية الخوف ، ويبعث النصر وقد وقع اليأس ، ويأتي بالفرج وقد اشتد البأس . وأفعال الله تعالى خفية المطالع ، جلية المواقع ، مطوية المنافع ؛ لأنها تسري بين الغيب الإلهي ؛ والعيان الإنسي ، وكل ذلك ليصح التوكل عليه ، والتسليم له ، واللياذ به ، ويعرج على كنف ملكه ، ويتبوأ معان خلده ، وينال ما عنده بطاعته وعبادته . فقال الوزير - كبت الله أعداه ، وبلغه مناه - : هذا كلامٌ ليس عليه كلام ، أرى النعاس يخطب إلى عيني حاجته ، وإذا شئت فاجمع لي فقراً من هذا الضرب الذي مر من حديث الطيرة والفأل والاتفاق .
الليلة الثامنة والعشرون
وعدت ليلةً أخرى وقرأت عليه أشياء من هذا الفن . منها : عقد هشام بن عبد الملك لسعيد بن عمرو الجرشي أيام الترك ، فقال سعيد : يافتح ، يا نصر ، خذ اللواء . فقال هشام : أعمداً قلت هذا ؟ قال : لا ، ولكنهما غلاماي دعوتهما . قال هشام : هو الفتح والنصر إن شاء الله . وكان ذلك كذاك . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعرض ، فمر به حية بن نكاز ، فقال : لا حاجة لنا في هذا حية وأبوه ينكز . ورمى رجلٌ الجمار ، فأصاب صلعة عمر بحصاةٍ فشجه . فقال رجل : أشعرت يا أمير المؤمنين لا يقوم عمر هذا المقام أبداً . فكان ذلك كذلك . وخرج رجل ينظر الحسن بن علي فلقي رجلاً ، فقال له : ما اسمك ؟ قال : عقال . قال : ابن من ؟ قال ابن عقيل . قال : من بني من ؟ قال : من بني عقيل . قال عقلته عقلك الله . هذا الجزء أيها الشيخ - أبقاك الله ما تمنيت البقاء - هو الجزء الثاني ، والثالث يتلوه ، والظن الجميل بك ، يعدنا بالحسنى منك ، وقد علمت الغرض في جمع هذا كله والتعب فيه ، وأرجو ألا يخيب الأمل ، ولا يبور العمل ، وإن كان ذلك لا يخلو من بعض الخلل والزلل . فإذا أخذت بحكم الفضل الذي هو عادتك وديدنك مع الصغير والكبير ، والقريب والبعيد ، فاز قدحي ، وصدق نوئي ، وصح زجري وفألي . حرس الله نفسك ، وصان نعمتك ، وكبت كل عدوٍ لك .الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم أيها الشيخ وصل الله قولك بالصواب ، وفعلك بالتوفيق ، وجعل أحوالك كلها منظومةً بالصلاح ، راجعةً إلى حميد العاقبة ، متألفةً بشوارد السرور ، ووفر حظك من المدح والثناء ، فإنهما ألذ من الشهد والسلوى ، ومد في عمرك لكسب الخير ، واستدامة النعمة بالشكر ؛ وجعل تلذذك باصطناع المعروف ، وعرفك عواقب الإحسان إلى المستحق وغير المستحق ، حتى تكلف ببث الجميل ، وتشغف بنشر الأيادي ، وحتى تجد طعم الثناء ، وتطرب عليه طرب النشوان على بديع الغناء . لا طرب البرداني على غناء علوة جارية ابن علويه في درب السلق إذا رفعت عقيرتها فغنت بأبيات السروى : بالورد في وجنتيك من لطمك . . . ومن سقاك المدام لم ظلمك ؟ خلاك لا تستفيق من سكرٍ . . . توسع شتماً وجفوة خدمك معقرب الصدغ قد ثملت فما . . . يمنع من لئم عاشقيك فمك ؟ تجر فضل الإزار منحرق النعلين . . . قد لوث الثرى قدمك أظل من حيرةٍ ومن دهشٍ . . . أقول لما رأيت مبتسمك بالله يا أقحوان مضحكه . . . على قضيب العقيق من نظمك ؟ ولا طرب ابن فهم الصوفي على غناء ' نهاية ' جارية ابن المغني إذا اندفعت بشدوها : أستودع الله في بغداد لي قمراً . . . بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ودعته وبودي لو يودعني . . . صفو الحياة وأني لا أودعهفإنه إذا سمع هذا منها ضرب بنفسه الأرض ، وتمرغ في التراب وهاج وأزبد ، وتعفر شعره ؛ وهات من رجالك من يضبطه ويمسكه ، ومن يجسر على الدنو منه ، فإنه يعض بنابه ، ويخمش بظفره ، ويركل برجله ويخرق المرقعة قطعةً ، ويلطم وجهه ألف لطمة في ساعة ، ويخرج في العباءة كأنه عبد الرزاق المجنون صاحب الكيل في جيرانك بباب الطاق . ولا طرب ابن غيلان في البزاز على ترجيعات بلور جارية ابن اليزيدي المؤلف بين الأكباد المحرقة ، والمحسن إلى القلوب المتصدعة والعيون الباكية إذا غنت . أعط الشباب نصيبه . . . مادمت تعذر بالشباب وانعم بأيام الصبى . . . واخلع عذارك في التصابي فإنه إذا سمع هذا منها انقلبت حماليق عينيه ، وسقط مغشياً عليه ، وهات الكافور وماء الورد ، ومن يقرأ في أذنه آية الكرسي والمعوذتين ، ويرقى بهيا شراهيا . ولا طرب أبي الوزير الصوفي القاطن في دار القطن عند جامع المدينة على قلم القضيبية إذا تناوأت في استهلالها ، وتضاجرت على ضجرتها ، وتذكرت شجوها الذي قد أضناها وأنضاها ، وسلبها منها وأنساها إياها . ثم اندفعت وغنت بصوتها المعروف بها .أقول لها والصبح قد لاح نوره . . . كما لاح ضوء البارق المتألق شبيهك قد وافى وحان افتراقنا . . . فهل لك في صوتٍ ورطلٍ مروق فقالت حياتي في الذي قد ذكرته . . . وإن كنت قد نغصته بالتفرق ولا طرب الجراحي أبي الحسن مع قضائه في الكرخ وردائه المحشي ، وكميه المفدرين ووجنتيه المتخلجتين ، وكلامه الفخم ، وإطراقه الدائم ؛ فإنه يغمز بالحاجب إذا رأى مرطاً ، وأمل أن يقبل خداً وقرطاً ؛ على غناء شعلة : لابد للمشتاق من ذكر الوطن . . . واليأس والسلوة من بعد الحزن وقيامته تقوم إذا سمعها ترجع في لحنها لو أن ما تبتليني الحادثات به . . . يلقى على الماء لم يشرب من الكدر فهناك ترى شيبةً قد ابتلت بالدموع ، وفؤاداً قد نزا إلى اللهاة ، مع أسفٍ قد ثقب القلب ، وأوهن الروح ، وجاب الصخر ، وأذاب الحديد ، وهناك ترى والله أحداق الحاضرين باهتة ، ودموعهم متحدرة ، وشهيقهم قد علا رحمةً له ، ورقةً عليه ، ومساعدةً لحاله ، وهذه صورةٌ إذا استولت على أهل مجلس وجدت لها عدوى لا تملك ، وغايةً لا تدرك ، لأنه قلما يخلو إنسانٌ من صبوة أو صبابة ، أو حسرةٍ على فائت ، أو فكرٍ في متمني ، أو خوفٍ من قطيعة ، أو رجاء لمنتظر ، أو حزنٍ على حالٍ ، وهذه أحوالٌ معروفة ، والناسمنها على جديلةٍ معهودة . ولا طرب ابن غسان البصري المتطبب إذا سمع ابن الرفاء يغني : وحياة من أهوى فإني لم أكن . . . أبداً لأحلف كاذباً بحياتها لأحالفن عواذلي في لذتي . . . ولأسعدن أخي على لذاته وابن غسان هذا مليح الأدب ، وهو الذي يقول في ابن نصرٍ العامل - وقد عالجه من علة فلم يتفقده ولم يقض حقه - : هب الشعراء تعطيهم رقاعاً . . . مزورةً كلاماً عن كلام فلم صلة الطبيب تكون زوراً . . . وقد أهدى الشفاء من السقام عجبت لمن نمته أرض لؤم . . . وبخلٍ لم يعد من الكرام نسبت إلى المساجة لا لشيءٍ . . . سوى نقصان لؤمك في اللئام غنى بها أنه من أصبهان ، وكان آخر حديث ابن غسان ما عرفته ، فإن غرق نفسه في كرداب كلواذي ، وذلك لأسباب تجمعت عليه من صفر اليد ، وسوء الحال ، وجربٍ أكل بدنه ، وعشقٍ أحرق كبده على غلام الآمدي الحلاوي بباب الطاق ، وحيرة عزب معها عقله ، وخذله رأيه ، وملكه حينه ، ونسأل الله حسن العقبى بدرك المنى ، وليس للإنسان من أمره شيء ، وما هو آئضٌ إليه فهو مملوكٌ عليه ، يصرفه فيما يصرف فيظن أنه أتى من قبله ، ولعمري من غلط غلط ، ومن غولط غالط ، والكلام في هذا غاشٌ والإغراق فيه موسوس ، والإعراض عنه أجلب للأنس ، وما أحسن ما قال القائل :إذا استعفيت من أسر الليالي . . . تصرفني فأسري في خلاصي ولولا طيش القلم وتسحب الخاطر ، وشرود الرأي ، ما عثرت بهذا الموضع ولا علقت بهذا الحبل ، نعم . ولا طرب ابن نباتة الشاعر على صوت الخاطف إذا غنت . تلتهب الكف من تلهبها . . . وتحسر العين إن تقصاها كأن ناراً بها محرثةً . . . تهابها مرةً وتغشاها نأخذها تارةً وتأخذنا . . . فنحن فرسانها وصرعاها ولا طرب ابن العوذي إذا سمع غناء ترف الصابئة في صوتها ، عند نشاطها ومرحها ، وهواها حاضر ، وطرفها إليه ناظر : لب الهوى كلما دعاكا . . . ولاح في الحب من لحاكا من لام في الحب أو نهاكا . . . فزده في غيك انهماكا إن لم تكن في الهوى كذاكا . . . نال لذاته سواكا ولا طرب المعلم غلام الحصري شيخ الصوفية إذا سمع ابن بهلولٍ يغني في رحبة المسجد بعد الجمعة وقد خف الزحام : وقال لي العذول تسل عنها . . . فقلت له : أتدري ما تقول ؟هي النفس التي لابد منها . . . فكيف أزول عنها أو أحول ؟ ولا طرب ابن الغازي على جارية العمى في مجلسها الغاص بنبلاء الناس بين السورين يلحى ، ولو أرقه ميعاد . . . أو راعه الإعراض والإبعاد أو هرة الأعداء والحساد . . . أو سلقته الألسن الحداد ما لام من ليس له فؤاد ولا طرب ابن صبر القاضي قبل القضاء على غناء درة جارية أبي بكر الجراحي في درب الزعفراني التي لاتقعد في السنة إلا في رجب ، إذا غنت : لست أنسى تلك الزيارة لما . . . طرقتنا وأقبلت تتثنى طرقت ظبية الرصافة ليلاً . . . فهي أحلى من جس عوداً وغنى كم ليالٍ بتنا نلذ ونلهو . . . ونسقي شرابنا ونغنى هجرتنا فما إليها سبيلٌ . . . غير أنا نقول : كانت وكنا وإذا بلغت كانت وكنا رأيت الجيب مشقوقاً ، والذيل مخروقاً ، والدمع منهملا ، والبال منخذلاً ، ومكتوم السر في الهوى بادياً ، ودليل العشق على صاحبه منادياً . ولا طرب ابن حجاج الشاعر على غناء قنوة البصرية ، وهي جارته وعشيقته ، وله معها أحاديث ، ومع زوجها أعاجيب ؛ وهناك مكايدات ، ورميٌ ومعايرات ، وإفشاء نكات ؛ إذا أنشدت : يا ليتنيأحيا بقربهمو . . . فإذا فقدتهم انقضى عمريثم ثنت بصوتها الآخر : هبيني امرأً إما بريئاً ظلمته . . . وإما مسيئاً تاب بعد فأعتبا فكنت كذي داء تبغي لدائه . . . طبيباً فلما لم يجده تطببا ولا طرب ابن معروف قاضي القضاة على غناء علية إذا رجعت لحنها في حلقها الحلو الشجي بشعر ابن أبي ربيعة : أنيري مكان البدر إن أفل البدر . . . وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر ففيك من الشمس المنيرة نورها . . . وليس لها منك المحاجر والثغر ولا طرب ابن إسحاق الطبري على صوت درة البصرية إذا غنت : يا ذا الذي زار وما زارا . . . كأنه مقتبسٌ نارا قام بباب الدار من زهوه . . . ما ضره لو دخل الدارا لو دخل الدار فكلمته . . . بحاجتي ما دخل النارا نفسي فداه اليوم من زائرٍ . . . ما حل حتى قيل قد سارا ولا طرب ابن الأزرق الجرجرائي على غناء سندس جارية ابن يوسف صاحب ديوان السواد إذا تشاجت وتدللت ، وتفتلت وتقتلت ، وتكسرت وتيسرت ، وقالت : أنا والله كسلانة مشغولة القلب بين أحلام أراها رديئةً ، وبختٍ إذا استوى التوى ، وأملٍ إذا ظهر عثر ؛ ثم اندفعت وغنت : مجلس صبين عميدين . . . ليسا من الحب بخلوين قد صيرا روحيهما واحداً . . . واقتسماه بين جسمينتنازعا كأساً على لذةٍ . . . قد مزجاها بين دمعين الكأس لا تحسن إلا إذا . . . أدرتها بين محبين ولا طرب ابن سمعون الصوفي على ابن بهلول إذا أخذ القضيب وأوقع ببنانه الرخص ، ثم زلزل الدنيا بصوته الناعم ، وغنته الرخيمة ، وإشارته الخالبة ، وحركته المدغدغة ، وظرفه البارع ، ودماثته الحلوة ، وغنى : ولو طاب لي غرسٌ لطابت ثماره . . . ولو صح لي غيبي لصحت شهادتي تزهدت في الدنيا وإني لراغبٌ . . . أرى رغبتي ممزوجةً بزهادتي أيا نفس ما الدنيا بأهلٍ لحبها . . . دعيها لأقوامٍ عليها تعادت ولا طرب ابن حيويه على غلام الأمراء إذا غنى : قد أشهد الشارب المعذل لا . . . معروفه منكرٌ ولا حصر في فتيةٍ لينى المآزر لا . . . ينسون أخلاقهم إذا سكروا وغلام الأمراء هو الذي يقول فيه القائل : أبو العباس قد حج . . . وقد عاد وقد غنى وقد علق عنازاً . . . فهذا هم كما كنا وأصحابنا يستملحون قوله هم ها هنا ، ويرونه من العي الفصيح . ولا طرب أبي سليمان المنطقي إذا سمع غناء هذا الصبي الموصلي النابغ الذ قد فتن الناس وملأ الدنياعيارةً وخسارةً ، وافتضح به أصحاب النسك والوقار ، وأصناف الناس من الصغار والكبار ، بوجهه الحسن ، وثغره المبتسم ، وحديثه الساحر ، وطرفه الفاتر ، وقده المديد ، ولفظه الحلو ، ودله الخلوب ، وتمنعه المطمع ، وإطماعه الممنع وتشكيكه في الوصل والهجر ، وخلطه الإباء بالإجابة ، ووقوفه بين لا ونعم . إن صرحت له كنى ، وإن كنيت له صرح ؛ يسرقك منك ، ويردك عليك ، يعرفك منكراً لك ، وينكرك عارفاً بك ؛ فحاله حالات ، وهدايته ضلالات ، وهو فتنة الحاضر والبادي ، ومنية السائق والهادي ؛ في صوته الذي هو من قلائده : عرفت الذي بي فلا تلحني . . . فليس أخو الجهل كالعالم وكنت أخوفه بالدعا . . . وأخشى عليه من الماثم فلو كنت أبصرت مثلاً له . . . إذا لمت نفسي مع اللائم فلما أقام على ظلمه . . . تركت الدعاء على الظالم ولا طرب ابن عبد الله البصري على إيقاع ابن العصبي إذا أوقع بقضيبه وغنى بصوته : أنسيت الوصل إذ بت . . . نا على مرقد ورد واعتنقنا كوشاحٍ . . . وانتظمنا نظم عقد وتعطفنا كغصنين . . . فقداناً كقد وبسبب هذا ونظائره عابه الواسطي ، وقدح في دينه ، وألصق به الريبة ،واستحل في عرضه الغيبة ، ولقبه بالمنفر عن المذهب ، وقاطع الطريق على المسترشد . ولا طرب ابن الوراق على روعة جارة ابن الرضي في الرصافة إذا غنت : وحق محل ذكرك من لساني . . . وقلبي حين أخلو بالأماني لقد أصبحت أغبط كل عينٍ . . . تعانيها فتسعد بالعيان ولا طرب السندواني على ابن الكرخي إذا غنى : هجرتني ثم لا كلمتني أبداً . . . إن كنت خنتك في حال من الحال فلا انتجيت نجيا في خيانتكم . . . ولا جرت خطرةٌ منه على بال فسوغيني المنى كيما أعيش بها . . . ثم احبسي البذل ما أطلقت آمالي أو ابعثي تلفاً إن كنت قاتلتي . . . إلي منك بإحسانٍ وإجمال ولا طرب الحريري الشاهد على حلية جارية أبي عائذ الكرخي إذا أخذت في هزارها ، واشتعلت بنارها وغنت : قالت بثينة لما جئت زائرها . . . سبحان خالقنا ما كان أوفاكا وعدتنا موعداً تأتي لنا عجلاً . . . وقد مضى الحول عنا ما رأيناكا إن كنت ذا غرضٍ أو كنت ذا مرضٍ . . . أو كنت ذا خلةٍ أخرى عذرناكا ولا طرب أبي سعيد الصائغ على جاريته ظلوم إذا قلبت لحنها إلى حلقها واستنزلته من الرأس ، ثم أوقعت فغنت :فيالك نظرةً أودت بعقلي . . . وغادر سهمها مني جريحا فليت مليكتي جادت بأخرى . . . وأعلم أنها تنكا القروحا فإما أن يكن بها شفائي . . . وإما أن أموت فأستريحا ولا طرب الزهري على خلوب جارية أبي أيوب القطان إذا أهلت واستهلت ، ثم اندفعت وغنت : إذا أردت سلواً كان ناصركم . . . قلبي وما أنا من قلبي بمنتصر فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم . . . فكل ذلك محمولٌ على القدر وضعت خدي لأدنى من يطيف بكم . . . حتى احتقرت وما مثلي بمحتقر وأبو عبد الله المرزباني شيخنا إذا سمع هذا جن واستغاث ، وشق الجيب وحولق وقال : يا قوم أما ترون إلى العباس بن الأحنف ، ما يكفيه أن يفجر حتى يكفر ؟ متى كانت القبائح والفضائح والعيوب والذنوب محمولةً على القدر ؟ ومتى قدر الله هذه الأشياء وقد نهى عنها ، ولو قدرها كان قد رضي بها ، ولو رضي بها لما عاقب عليها ، لعن الله الغزل إذا شيب بمجانة ، والمجانة إذا قرنت بما يقدح في الديانة . ورأيت أبا صالح الهاشمي يقول له : هون عليك يا شيخ ، فليس هذا كله على ما تظن ، القدر يأتي على كل شيء ، ويتعلق بكل شيء ، ويجري بكل شيء ، وهو سر الله المكتوم ، كالعلم الذي يحيط بكل شيء ؛ وكل ما جاز أن يحيط به علمٌ جاز أن يجري به قدر ، وإذا جاز هذا جاز أن ينشره خبر ، وما هذا التضايق والتحارج في هذا المكان ، والشاعر يهزل ويجد ؛ ويقرب ويبعد ، ويصيب ويخطىء ، ولا يؤاخذ بما يؤاخذ به الرجل الديان ، والعالم ذو البيان .ولا طرب ابن المهدي على جارية بنت خاقان المشهورة بعلوة إذا غنت : أروع حين يأتيني الرسول . . . وأكمد حين لا يأتي الرسول أؤملكم وقد أيقنت أني . . . إلى تكذيب آمالي أؤول ولا طرب أبي طاهر بن المقنعي المعدل على علوان غلام ابن عرس فإنه إذا حضر وألقى إزاره ، وحل أزراره ، وقال لأهل المجلس : اقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم بل عبدكم لأخدمكم بغنائي ، وأتقرب إليكم بولائي ، وأساعدكم على رخصي وغلائي ؛ من أرادني مرةً أردته مرات ، ومن أحبني رياءً أحببته إخلاصاً ، ومن بلغ بي بلغت به ؛ لم أبخل عليكم بحسني وظرفي ، ولم أنفس بهما عليكم ، وإنما خلقت لكم ، ولم أغاضبكم وأنا آملكم غداً إذا بقل وجهي ، وتدلى سبالي ، وولى جمالي ، وتكسر خدي ، وتعوج قدي ، ما أصنع ؟ حاجتي والله إليكم غداً أشد من حاجتكم إلي اليوم ، لعن الله سوء الخلق ، وعسر الطباع ، وقلة الرعاية ، واستسحان الغدر . فيمر في هذا وما أشبهه كلامٌ كثير ، فلا يبقى من الجماعة أحدٌ إلا وينبض عرقه ، ويهش فؤاده ، ويذكو طعمه ويفكه قلبه ، ويتحرك ساكنه ، ويتدغدغ روحه ، ويومىء إليه بقبلته ، ويغمزه بطرفه ، ويخصه بتحية ، ويعده بعطية ، ويقابله بمدحة ، ويضمن له منحة ، ويعوذه بلسانه ، ويفضله على أقرانه ، ويراه واحد أهل زمانه ؛ فيرى ابن المقنعي وقد طار في الجو ، وحلق فيالسكاك ، ولقط بأنامله النجوم ؛ وأقبل على الجماعة بفرح الهشاشة ، ومرح البشاشة ، فيقول : كيف ترون اختياري وأين فراستي من فراسة غيري ، أبى الله لي إلا ما يزينني ، ولا يشينني ، ويزيد في جمالي ، ولا ينقص من حالي ؛ ويقر عيني ولبي ، ويقصم ظهر عدوي ؛ هات يا غلام ذلك الثوب الدبيقي وذلك البرد الشطوي ، وذلك الفروج الرومي ، وتلك السكة المطيبة ، والبخور المدخر في الحقة ، وهات الدينار الذي فيه مائة مثقالٍ أهداه لنا أمس أبو العلاء الصيرفي فإنه يكفيه لنفقة أسبوع ؛ ما أحسن سكته ، وأحلى نقشه ما رأيت في حسن استدارته شبهاً ، وعجل لنا يا غلام ما أدرك عند الطباخ ، من الدجاج والفراخ ؛ والبوارد والجوزيات وتزايين المائدة ؛ وصل ذلك بشراه أقراطٍ وجبنٍ وزيتون من عند كبل البقال في الكرخ ، وقطائف حبش ،وفالوذج عمر ، وفقاع زريق ، ومخلط خراسان من عند أبي زنبور ، ولو كنا نشرب لقلنا : وشراب صريفين من عند ابن سورين ، ولكن إن إحببتم أن أحضر بسببكم ومن أجلكم فليس في الفتوة أن أمنعكم من أربكم بسبب ثقل روحي وقلة مساعدتي ، لعن الله الشهادة ، فقد حجتني عن كل شهوةٍ وإرادة ؛ وما أعرف في العدالة ، إلا فوت الطلبة والعلالة . وما أحسن ما قال من قال : ما العيش إلا في جنون الصبي . . . فإن تولى فجنون المدام هذا كله يمر وما هو أشجى منه وأرق ، وأعجب وأظرف ، ثم يندفع علوان ويغنى في أبيات بشار : ألا يا قوم خلوني وشاني . . . فلست بتاركٍ حب الغواني نهوني يا عبيدة عن هواكم . . . فلم أقبل مقالة من نهاني فإن لم تسعفي فعدي ومني . . . خداعاً لا أموت على بيان ولا طرب أبي سعيد الرقي على غناء مذكورة إذا اندفعت وغنت : سررت بهجرك لما علمت . . . بأن لقلبك فيه سرورا ولولا سرورك ما سرني . . . ولا كان قلبي عليه صبورا ولكن أرى كل ما ساءني . . . إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا ولا طرب ابن مياس على غناء حبابة جارية أبي تمام إذا غنت : صددنا كأنا لا مودة بيننا . . . على أن طرف العين لابد فاضحومد إلينا الكاشحون عيونهم . . . فلم يبد منا ما حوته الجوانح وصافحت من لاقيت في البيت غيرها . . . وكل الهوى مني لمن لا اصافح وحبابة هذه كانت تنوح أيضاً ، وكانت في النوح واحدةً لا أخت لها ، والناس بالعراق تهالكوا على نوحها ، ولولا أني أكره ذكره لرقعت الحديث به . وقدم من شاش خراسان أبو مسلم - وكان في مرتبة الأمراء - فاشتراها بثلاثين ألف درهم معزية ، وخرج بها إلى المشرق ، فقيل : إنها لم تعش به إلا دون سنةٍ لكمدٍ لحقها ، وهوىً لها ببغداد ماتت منه . ورأيت لها أختاً يقال لها صبابة ، وكانت في الحسن والجمال فوقها ، وفي الصنعة والحذق دونها ، وزلزلت هذه بغداد في وقتها ، ولم يكن للناس غير حديثها ، لنوادرها ، وحاضر جوابها ، وحدة مزاجها ، وسرعة حركتها ، بغير طيش ولا إفراط ، وهذه شمائل إذا اتفقت في الجواري الصانعات المحسنات خلبن العقول ، وخنسن القلوب ، وسعرن الصدور ، وعجلن بعشاقهن إلى القبور . ولا طرب الكناني المقري الشيخ الصالح على غناء هذه في صوتها المعروف بها : عهود الصبى هاجت لي اليوم لوعةً . . . وذكر سليمى حين لا ينفع الذكر بأرضٍ بها كان الهوى غير عازبٍ . . . لدينا وغض العيش مهتصرٌ نضر كأن لم نعش يوماً بأجراع بيشةٍ . . . بأرضٍ بها أنشأ شبيبتنا الدهر بلى إن هذا الدهر فرق بيننا . . . وأي جميعٍ لا يفرقه الدهرولا طرب غلام بابا على جارية أبي طلحة الشاهد في سوق العطش إذا غنت : ليت شعري بك هل تع . . . لم أني لك عاني فلقد أسررته من . . . ك وأطلعت الأماني وتوهمتك في نف . . . سي فناجاك لساني فاجتمعنا وافترقنا . . . بالأماني في مكان ولو ذكرت هذه الأطراب من المستمعين ، والأغاني من الرجال والصبيان والجواري والحرائر - لطال وأمل ، وزاحمت كل من صنف كتاباً في الأغاني والألحان ، وعهدي بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة . وقد أحصينا - ونحن جماعةٌ في الكرخ - أربعمائةٍ وستين جاريةً في الجانبين ، ومائةً وعشرين حرة ، وخمسةً وتسعين من الصبيان البدور ، يجمعون من الحذق والحسن والظرف والعشرة ، هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه ، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت ، أو ثمل في حال ، وخلع العذار في هوىً قد حالفه وأضناه ، وترنم وأوقع ، وهز رأسه ، وصعد أنفاسه ، وأطرب جلاسه ، واستكتمهم حاله ، وكشف عندهم حجابه ، وادعى الثقة بهم ، والاستنامة إلى حفاظهم . ثم إني أرجع إلى منقطع الكلام في الصفحة الأولى من هذا الجزء الثالث وأصله بالدعاء الذي اسأل الله أن يتقبله فيك ، ويحققه لك وبك ، وأقول : وأبقاك لي خاصةً ، فقد تعصبت لي غائباً وشاهداً ، وتعممت بسببي سراً وجهراً ، وبدأت بالتفضل ، وعدتبالإفضال ، وتظاهرت بالفضل ؛ فإن استزدتك فللنهم الذي قلما يخلو منه بشر ، وإن تظلمت فللدالة التي تغلط بها الخدم ، وإن خاشنت فللثقة بحسن الإجاب ، وإن غالطت فلعلمي بغالب الحلم وفرط الاحتمال ، وما افترق الكرم والتغافل قط ، وما افترق المجد والكيس قط ، وليس إلا أن يظلم السيد نفسه لعبده في الحقوق اللازمة وغير اللازمة ، ويعرض عن الحجة وإن كانت له ؛ والناس يقولون : الحق مر ، وأنا أقول : السؤدد مر ، والرئاسة ثقيلة ، والنزول تحت الغبن شديد ؛ لكن ذلك كله منبت العز ، ودليلٌ على صحة الأصل ، وبابٌ إلى اكتساب الحمد ، وإشادة الذكر ، وإبعاد الصيت ؛ ومكرم النفس بإهانة المال وبذل الجاه وإيثار التواضع أربح تجارةً ، وأحمى حريماً ، وأعز ناصراً من مهين النفس بصيانة المال وحبس الجاه واستعمال التكبر ؛ هذا ما لا يشك فيه أحد وإن أباه طباعه ، ولم يساعده اختياره ، وكان في طينه يبس ، وفي منبته شوك ، وفي عرقه خور ، وفي خلقه تيه . وقد رأيت ناساً من عظماء أهل الفضل والمروءة عابوا مذهب الرجل الذي ماكس في شيء تافهٍ يسير اشتراه ، قيل له : أنت تهب أضعاف هذا ، فما هذا المكاس ؟ فقال : هذا عقلي أبخل به ، وتلك مروءتي أجود بها . وأكثر الناس الذين لم يغوروا في التجارب ، ولا أنجدوا في الحقائق ، يرونهذا حكمةً تامة ، وفضيلةً شريفة . فأما الذين ذكرتهم في أول الحديث فإنهم قالوا : لا تتم المروءة وصاحبها ينظر في الدقيق الحقير ، ويعيد القول ويبدئه في الشيء النزر الذي لا مرد له ظاهر ، ولا جدوى حاضرة . وذكروا أيضاً أن العقل أشرف من أن يذال في مثل هذه الحال ، ويستخدم على هذا الوجه ، قالا : هذا وما هو في بابه بالكيس أشبه ، والكيس يحمد في الصبيان ، وهو من مبادىء اللؤم ، وفوائح صدأ الخلق ، وقد قال الأول : وقد يتغابى المرء عن عظم ماله . . . ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو ولذلك يقال للحيوان الذي لا ينطق : هو كيس . هذا والله الصدق ، فإني سمعت بمكة أعرابياً يقول : ما أكيس هذا القط ؟ قالوا : ولذلك لا يقال للشيخ المجرب والحكيم البليغ والأصيل في الشرف والمشهور بالزماتة والسكينة : كيس . والكيس هو حدة الحس في طلب المثالة ودفع الكريهة وبلوغ الشهوة . والحس بعيدٌ من العقل ، والعالي في الحس كأنه يرتقي في وادي الحيوان الذي لا نطق له ، والعالي في العقل كأنه مطمئنٌ في وادي الملك الذي لا حس لنقصه ، ولكن لكماله ، لأنه غني عنه ، كما أن الحمار لم يعدم العقل لكماله ، ولكن لنقصه ولما لم يرد من الحمار أن يكون إنساناً جبل على ما هو له وبه كاملٌ في نقصه ، أي هو كاملٌ بما هو به حمار وناقص بما ليس هو به إنساناً ؛ ولما لم يرد من الإنسان أن يكون حماراً حفظ عليه ما هو به إنسان ، ودرج إلى كمال الملك الذي هو به شبيه ؛ وهذا التدريج طريقه على الاختيار الجيد والتوفيق السابق . وبعدت - جعلني الله فداك - عن منهج القول وسنن الحديث ، وأطعت داعيةالوسواس ، وذهبت مع سانح الوهم ؛ وقد قيل : الحديث ذو شجون . وقد قال الأول : ولما قضينا من منى كل حاجةٍ . . . ومسح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا . . . وسالت بأعناق المطي الأباطح فأرجع وأقول : قد أوصلت إليك الجزاين الأول والثاني على يد غلامك فائق ؛ وهذا الجزء - وهو الثالث - قد والله نفثتقال : فيه كل ما كان في نفسي من جدٍ وهزل ، وغثٍ وسمين ، وشاحبٍ ونضير ، وفكاهةٍ وطيب ، وأدبٍ واحتجاج ، واعتذارٍ واعتلال واستدلال ، وأشياء من طريف الممالحة على ما رسم لي ، وطلب مني ؛ ولأنه آخر الكتاب ختمته برسالة وصلتها بكلامٍ في خاص أمري ستقف عليه ، وتستأنف نظراً في حالي ، يكون - إن شاء الله - كظني بك ، ورجائي فيك ؛ وفيه بعض العربدة لم أخرج منه إلى كفرانٍ لنعمة ، ولا جحدٍ لإحسان ، ولا سترٍ ليدٍ ، ولا إنكارٍ لمعروف ، ولا شكٍ في عناية ؛ وإنما تكلمت على مذهب المدل المقل الذي يبعثه إقلاله على تجاوز قدرة بالدالة ، ويريع به إدلاله عن حسن أدبه بفرط الثقة ؛ ورب واثقٍ خجل ؛ وبالله المعاذ من ذلك ، وفي الحالين صاحب هذا المذهب لا يخلو من ولاء صحيح المعتقب ، وعقيدةٍ كسبيكة الذهب ؛ وأنت بكرم طباعك ، وسعة باعك ، تجبر نقصي ، وتأسو ما غث من جراحي ، وأمات اهتمامي ؛ ومن كان إحسانك إليه مشكوراً ، وتعذيرك عنده مستوراً ، لخليقٌ أن يكون على بالكخاطراً ، وبلسانك مذكوراً ، والسلام . وها أنا آخذ في نشر ما جرى على وجهه إلا ما اقتضى من الزيادة في الإبانة والتقريب ، والشرح والتكشيف . وقد جمع لك جميع ما شاهدته في هذه المدة الطويلة ، ليكون حظك من الكرم والمجد موفوراً ، ونصيبي من اهتمامك بأمري وجذبك بباعي وإنقاذك إياي من أسري تاماً ، فظني واعدٌ بأنك تبلغ بي ما آمله فيك وتتجاوزه وتتطاول إلى ما فوقه ، لأزداد عجباً مما خصك الله به ، وأفردك فيه ؛ وأتحدث على مر الأيام بغريبه ، وأحث كل من أراه بعدك على سلوك طريقك في الخير ، ولزوم منهاجك في الجميل ، والدينونة بمذهبك المستقيم ، وأكايد أصحابنا ببغداد ؛ وأقول لهم : هل كان في حسبانكم أن يطلع عليكم من المشرق من يزيد ظرفه على ظرفكم ، ويبعد بعلمه على علمكم ، ويبرز هذا التبريز في كل شيء تفخرون به على غيركم ، فأناظرهم فيك وبسببك ، لا مناظرة الحنبليين مع الطبريين ؛ وأتعصب لك ، لا تعصب المفضليين والبرغوثيين ؛ وأجادل من أجلك ، لا جدل الزيديين مع الإماميين ؛ وأدعي في فضائلك الظاهرة والباطنة دعوى أقوى من دعوى الشيعيين ؛ وأضرب في ذلك كل مثل ، وأستعين بكل سجع ، وأروي كل خبر ، وأنشد كلبيت ، وأعبر كل رؤيا ، وأقيم كل برهان ، وأستشهد كل حاضرٍ وغائب ، وأتأول كل مشكل وغامض ، وأضيف إليك الآية بعد الآية ، والمعجزة بعد المعجزة ، وأنصلت لكل ضريبة ، وأدعي كل غريبة ؛ هذا ولا أخلط كلامي بالهزل ، ولا أشيه دعواي بالمحال ، ولا أبعد الشاهد ، ولا أتعلق بالمستعجم ، ولا أجنح إلى التلفيق والتلزيق ؛ وكيف لا أفعل هذا ولي في قول الحق فيك مندوحة ، وفي تقديم الصدق على غيره كفاية ، وفي نشر المطوي من فضلك بلاغ ؟ وإنما يميل إلى الكذب من قعد به الصدق ، ويتيمم بالصعيد من فاته الماء ، ويحلم بالمنى من عدم المتمنى في اليقظة ؛ فأما أنت وقد ألبسك الله رداء الفضل ، وأطلعك من منبتٍ كريم ، ودرجك من بيتٍ ضخم ، وآتاك الحكمة ، وفتق لسانك بالبيان ، وأترع صدرك بالعلم ، وخلط أخلاقك بالدماثة ، وشهرك بالكرم ، وخفف عليك النهوض بكل ما يكسبك الشكر من القريب والبعيد ، وبكل ما يدخر لك الأجر عند الصادر والوارد ، حتى صرت كهفاً لأبناء الرجاء ، ومفزعاً لبني الآمال ؛ فبابك مغشيٌ مزور ، وفناؤك منتاب وخوانك محضور ، وعلمك مقتبس ، وجاهك مبذول ، وضيفك محدث ، وكتبك مستعارة ، وغداؤك حاضر ، وعشاؤك معجل ، ووجهك مبسوط ، وعفوك محمود ، وجدك مشكور ، وكل أمرك قائمٌ على النهاية ، وبالغٌ الغاية ، والله يزيدك ويزيدنا بك ، ولا يبتلينا بفقد ما ألفناه منك ، بمنه وجوده .
الليلة التاسعة والعشرون
قال الوزير - أعز الله نصره ، وأطاب ذكره ، وأطار صيته - ليلة : أحب أن أسمع كلاماً في قول الله عز وجل : ' هو الأول والآخر والظاهر والباطن ' ، فإن هذا الإيجاز لم يعهد في كلام البشر .فكان من الجواب : إن الإشارة في ' الأول ' إلى ما بدأ الله به من الإبداع والتصوير ، والإبراز والتكوين ؛ والإشارة في ' الآخر ' إلى المصير إليه في العاقبة على ما يجب في الحكمة من الإنشاء والتصريف ، والإنعام والتعريف ، والهداية والتوقيف . وقد بان بالاعتبار الصحيح أنه عز وجل لما كان محجباً عن الأبصار ، ظهرت آثاره في صفحات العالم وأجزائه ، وحواشيه وأثنائه ، حتى يكون لسان الآثار داعياً إلى معرفته ، ومعرفته طريقاً غلى قصده ، وقصده سبباً للمكانة عنده والحظوة لديه . على أنه في احتجابه بارز ، كما أنه في بروزه محتجب ؛ وبيان هذا أن الحجاب من ناحية الحس ، والبروز من ناحية العقل ، فإذا طلب من جهة الحس وجد محجوباً ، وإذا لحظ من جهة العقل وجد بارزاً ، وهاتان الجهتان ليستا له تعالى ، ولكنهما للإنسان الذي له الحس والعقل ، فصار بهما كالناظر من مكانين ؛ ومن نظر إلى شيءٍ واحدٍ من مكانين نسبته إلى المنظور إليه مفترقة . وإنما شق هذا الأمر على أكثر الناس واختلفوا فيه ، لأنهم راموا تحقيق ما لا يحس بالحس ، ولو راموا ذاك بالعقل المحض بغير شوبٍ من الحس ، لكان المروم يسبق الرائم ، والمطلوب يلوح قبالة الطالب من غير كٍ لابس ، ولا ريبٍ موحش ، لأنه ليس في العقل والمعقول شكٌ ، وإنما الريب والشك والظن والتوهم كلها من علائق الحس وتوابع الخلقة ، ولولا هذه العوارض لما اغبر وجه العقل ، ولا علاه شحوب ، ولبقي على نضرته وجماله وحسنه وبهجته . ولما كان الإنسان مفيض هذه الأعراض في الأول ، صار مفيض هذه الأحوال في الثاني ، فاستعار من العقل نوره في وصف الأشياء الجسمية جهلاً منه وخطأ ، واستعار من ظلام الحس في وصف الأشياء الروحانية عجزاً منه ونقصاً ، ولو وفق لوضع كل شيء موضعه ونسبه إلى شكله ، ولم يرفع الوضيع إلى محل الرفيع ، ولم يضع الرفيع في موضع الوضيع . فلما بلغ الحديث هذا الحد ، عجب الوزير وقال : ما أعذب هذا المورد وما أعجبهذا المشهد وما أبعد هذا المقصد وما رأى لمصنفٍ من الموحدين متصرفاً في هذا النوع إلا لهذه العصابة الكريمة المخصوصة باليقظة . وسأل عن جشم في اسم الرجل ما معناه ؟ فكان من الجواب : إن أبا سعيد السيرافي الإمام ذكر عن ابن الأعرابي أنه يقال : رجلٌ عظيم الجشم . يعني وسطه ، ومنه سمي جشم . وقال : ما الحمحم ؟ وما الخمخم ؟ فقيل أما الحمحم فبقلٌ يهيج في اول الصيف وينبت فيؤكل في ذلك الوقت ؛ وأما الخمخم فبقلٌ آخر خبيثٌ منتن الريح . وقال : فأره المسك ، أتقولها بالهمز ؟ فكان من الجواب : حكاه ابن الأعرابي بالهمز . قال : عارضا الرجل ما يعني بهما ؟ قيل : قال أبو سعيد السيرافي : هما شعر خديه ، ولو قلت لأمرد : امسح عارضيك كان خطأ . وقال : سمعت اليوم في كلام ابن عبيد : لايثه ، وظننت أنه أراد : لاوثه من اللوث لوث العمامة . فقيل : بل يقال : لايثه إذا تشبه بالليث . وقال : ما الشاكد ؟فقيل : المعطي من غير مكافأة . قال : أو تهمز الكلمة ؟ فقيل : إني لو لم أهمز لكان مفاعلةً من كفيت . قال : والثانية ؟ تكون من كفأت الإناء . فما معناه ؟ قيل : قال أبو سعيد : كأنه قلب الحال إليه بالمثل . قال : الذود ، ما قدر عدده من الإبل ؟ قكان من الجواب : أن ابن الأعربي قال : الذور ما بين الثلاثة إلى العشرة . وإذا بلغت العشرين أو قاربت فهي قطعةٌ وصبةٌ وفرقةٌ وصرمةٌ حتى تبلغ الثلاثين والأربعين . ثم هي حدرة وعكرة وعجرمة حتى تبلغ مائة . ثم هنيدة . فإذا بلغت مائتين فهي خطر . وكذلك الثلاثمائة . فإذا بلغت أربعمائة فهي عرجٌ إلى الألف ، والجماعة عروج . فإذا كثرت عن الأربعين والخمسين فبلغت مائةً وزادت فهي جرجرو ، وإنما سميت جرجوراً لجراجرها وأصواتها . وقد تستعير العرب بعض هذا فتجعله في بعض . وقال : ما الفرق بين القبض والقبض ؟ فقيل : القبض لعددٍ ما كان قليلاً ولا كثيراً ؛ قال ابن الأعرابي : وأنشدني العامري لابن ميادة : عطاءكم قبضٌ ويحفن غيركم . . . وللحفن أغنى للفقير من القبض وقال : القبض بأطراف الأصاعب ، والقبض بالكف ، والحفن بالكف والراحة إلى فوق مفتوحةٌ قليلاً . هذا لفظه . وقال : الإل الذي هو العهد هل يجمع ؟ فقيل : حكى ابن الأعرابي في جمعه ، فقال : الإلٌ وألول . وقال : آم الرجل ماذا ؟ فقيل : هذا على وجوه ؛ يقال : آم الرجل يؤوم أواماً من العطش ؛ ويقال آم الرجل يؤوم إياما ، وهو الدخان . وآم الرجل يئيم إذا بقي بغير حليلة ، والأيم مستعملٌ في الرجل والمرأة . قال : هذا نمط مفيد ، ويجب أن يجمع منه جزءٌ أو جزآن ليسهل علىالطرف المجال فيه ، فإن الكتب الطوال مسئمة ، وإذا تداخل اللطيف بالكثيف وما رق بما غلظ نبت النفس ، ودب الملل والإنسان كسله من طينه ، ونشاطه من نفسه ، والطين أغلب من النفس . فكان الجواب : السمع والطاعة للأمر المشرف . قال : هات حديثاً يكون مقطعاً للوداع ، فإن الليل قد عبس وجهه ، وجنح كاهله ، وأهدى إلى العين سنةً تسرق الذهن وتسبي الرأي . فكان من الجواب أنه مر بي اليوم حديثٌ ما جرى منذ ليالٍ في فساد الناس وحؤول الزمان ، وما دهم الخاص والعام في حديث الدين الذي هو العمود والدعامة في عمارة الدارين ، وقد طال تعجبي منه ، وصح عندي أن الداء في هذا قديم ، والوجع فيه أليم . قال : فهات فتشبيبك قد رغب شديداً ، غرامك قد بعث جديداً . فكان من ذلك الحديث أن محمد بن سلام قال فيما حدثنا به أبو السائب القاضي عتبة بن عبيد الله قال : حدثنا السكري أبو سعيد قال : قال محمد بن سلام : سمعت يونس يقول : فكرت في أمرٍ فاسمعوه . قلنا : هاته . قال : كل من أصبح على وجه الأرض من أهل النار إلا أمتنا هذه ؛ والسلطان ومن يطيف به هلكى إلا قليلاً ، فإذا قطعت هذه الطبقة حتى تبلغ الشام فأكلة رباً وباغيةٌ وشربة خمرٍ وباعتها إلا قليلاً ، فإذا خلفت هذا الرمل حتى تأتي رمل يبرين وأعلام الروم فلا غسل من جنابة ، ولا إسباغ وضوء ، ولا إتمام صلاة ، ولا علم بحدود ما أنزل الله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا قليلاً ؛ فإذا صرت إلى الأمصار فأصحاب هذهالكراسي ليس منهم إلا ذئبٌ مشتغرٌ بذنبه ، يختلك عن دينارك ودرهمك ، يكذب ، ويبخس في الميزان ، ويطفف في المكيال ، إلا قليلاً ؛ فإذا صرت إلى أصحاب الغلات الذين كفوا المؤونة وأنعم عليهم وجدتهم يمسي أحدهم سكران ويصبح مخموراً ، إلا قليلاً ؛ ومعي والله منهم قطيعٌ في الدار ، فإذا صرت إلى قومٍ لم ينعم عليهم بما أنعم على هؤلاء ، وهم يشتهون ما يشتهي هؤلاء ، فواحدٌ لص ، وآخر طرار ، وآخر مستقفٍ إلا قليلاً ، فإذا صرت إلى أصحاب هذه السواري ، فهذا يشهد على هذا بالكفر ، وهذا يبرأ من هذا ، والله لئن لم يعمنا الله برحمته إنها للفضيحة . فقال الوزير : لقد شردت النوم عن عيني ، وملأت قلبي عجباً ، فإن الأمر لكما قال ، فإذا كان هذا قوله في عصره ، وشجرة الدين على نضارة أغصانها وخضرة أوراقها ، وينع ثمارها ، فما قوله - ترى - فينا لو لحقنا ، وأدرك زماننا ، إنا لله وإنا إليه راجعون .
الليلة الثلاثون
وقال الوزير - أدام الله أيامة - سراويل يذكر أم يؤنث ، ويصرف أم لا ؟ فكان الجواب : أن علي بن عيسى حدثنا عن شيخه ابن السرج قال : سألت المبرد فقلت : إذا كان الواحد في صيغة الجمع ما يصنع به في الصرف في مثل شعره هراميلوهذه سراويل وما أشبهه ، فقال : ألحقه بالجمع فأمنعه الصرف ، لأنه مثله وشبيهه . قال : وسألت أحمد بن يحيى عن ذلك ، فقال : أخبرنا سلمة عن الفراء قال : ألحقه بأحمد فامنعه الصرف في المعرفة ، واصرفه في النكرة حتى يكون بين الواحد والجمع فرق . وسأل فقال : ما واح المناخيب والمناجيب وما حكمهما ؟ فكان من الجواب : واحد المناخيب منخاب ، يمدح به ويذم ، فإذا كان مدحاً فهو مأخوذ من النخب ، وهو الاختيار ، وإذا كان ذماً فهو مأخوذٌ من النخبة ، وهي الاست . قال : وهكذا المنجاب يكون مدحاً وذماً ، فإذا كان مدحاً فهو مأخوذٌ من الانتجاب ، وهو الاختيار ، وإذا كان ذماً فهو مأخوذٌ من النجب ، وهو قشر الشجر . قال : ما معنى قولهم : امرأةٌ عروبٌ ؟ فكان من الجواب أن محمد بن يزيد قال - على ما حدثنا به أبو سعيد وابن السراج عنه - إنه من الأضداد ، وهي المتحببة إلى زوجها ؛ وهي الفاسدة ، مأخوذٌ من قولهم : عربت معدته إذا فسدت . وقال : الضهياء يمد ويقصر ؟ فكان من الجواب أن ابن الأعرابي قال : الذي حصلته عن الأعراب أن الضهياء الممدودة هي التي لا تحيض ، وأن المقصورة هي الياسمين ، وجمع الأول ضهىٌ وجمع المقصور ضهايا . قال : ما معنى المندلي المطير ؟ فكان من الجواب : أن ابن الأعرابي قال : هو مقلوب المطري . وقال :أنشدني غزلاً ، فأنشدته ما حضر في الوقت لأعرابي : أمر مجنباً عن بيت سلمى . . . ولم ألمم به وبه الغليل أمر مجنباً وهواي فيه . . . وطرفي عنه منكسرٌ كليل وقلبي فيه مقتتلٌ فهل لي . . . إلىقلبي وقاتله سبيل وقال : أتحفظ الأبيات التي فيها : تكفيه فلذة كبدٍ إن ألم بها . . . من الشواء ويكفي شربه الغمر فأنشده ابن نباتة ، وذاك لأني قلت : ما أحفظ إلا هذا البيت شاهداً ، وهو لأعشى باهلة يرثي المنتشر : إني أتتني لسان لا أسر بها . . . من علو لا عجبٌ منها ولا سخر فبت مرتفعاً للنجم أرقبه . . . حيران ذا حذر لو ينفع الحذر وجاشت النفس لما جاء جمعهم . . . وراكبٌ جاء من تثليث معتمر يأتي على الناس لا يلوي على أحدٍ . . . حتى التقينا وكانت دوننا مضرنعيت من لا تغب الحي جفنته . . . إذا الكواكب أخطا نوأها المطر من ليس في خيره شرٌ يكدره . . . على الصديق ولا في صفوه كدر طاوي المصير على العزاء منصلت . . . بالقوم ليلة لا ماءٌ ولا شجر لا تنكر البازل الكوماء ضربته . . . بالمشرفي إذا ما اجلوذ السفر وتفزع الشول منه حين تبصره . . . حتى تقطع في أعناقها الجرر لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه . . . وكل أمرٍ سوى الفحشاء يأتمر يكفيه حزة فلذانٍ ألم بها . . . من الشواء ويكفي شربه الغمر لا يتأرى لما في القدر يرقبه . . . ولا يعض على شرسوفه الصفر لا يغمز الساق من أين ومن وصبٍ . . . ولا يزال أمام القوم يقتفر مهفهفٌ أهضم الكشحين منخرقٌ . . . عنه القميص بسير الليل محتقر عشنا بذلك دهراً ثم فارقنا . . . كذلك الرمح ذو النضلين ينكسر لا تأمن الناس ممساه ومصبحه . . . من كل أوبٍقال : وإن لم يأت ينتظر إما يصبك عدوٌ في مناوأةٍ . . . يوماً فقد كنت تستعلي وتنتصر لو لم تخنه نفيلٌ وهي خائنةٌ . . . ألم بالقوم وردٌ منه أو صدر وراد حربٍ شهابٌ يستضاء به . . . كما يضيء سواد الطخية القمر إما سلكت سبيلاً كنت سالكها . . . فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر من ليس فيه إذا قاولته رهقٌ . . . وليس فيه إذا ياسرته عسرالليلة الواحدة والثلاثون
وجرى ليلةً حديث الرأي في الحرب والحزم والتيقظ وقلة الاستهانة بالخصم ، فقال ابن عبيد الكاتب : أنا أستحسن كلاماً جرى أيام الأمين والمأمون ، وذاك أن علي بن عيسى بن ماهان لما توجه إلى حرب طاهر بن الحسين من بغداد ، سأل قوماً وردوا من الري عن طاهر ، فقالوا : إنه مجدٌ . فقال : وما طاهرٌ ؟ إنما هو شوكةٌ من أغصاني ، وشرارةٌ من ناري ؛ ثم قال لأصحابه : والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصفة إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان ، لأن السخال لا تقوى على النطاح ، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسود ، فإن يقم طاهرٌ بموضعه يكن أول معرض لظبات السيوف وأسنة الرماح . فقال يحيى بن عليٍ لعلي بن عيسى : أيها الأمير ، إن العساكر لا تساس بالتواني ، والحروب لا تدبر بالاغترار ، وإن الشرارة الخفية ربما صارت ضراماً ، والنهلة من السيل ربما صارت بحراً عظيماً . فقال : إنما حجب علي بن عيسى عن وثيق الرأي هذا الاستحقار بالكلام ، والاقتدار على اللفظ ، ومن صدق فكره في طلب الرأي النافع ، قل كلامه بالهذر الضائع . وقال في هذه الليلة : ما رأيت من بقي بإحصاء وجوه فعيل ومواقعها . فكان من الجواب : أن الأخفش قد ذكر عشرة أوجه ، وهي أكثر ما قدر عليه ، والتصفح قد دل على أربعين وجهاً وزيادة . قال : فما أغرب ما مر بك منها ؟ فقيل : فعيلٌ بمعنى فعل . فقال : هذا والله غريب ، فهات له شاهداً . فقيل : يقال مكانٌ دميثٌ ودمثٌ ، ويقينٌ ويقنٌ ، ورصيفٌ ورصفٌ ؛ وللفرس العتيد للعدو : العتد ؛والنقيل من العدو : نقل ؛ والخبيط من الورق : خبط ؛ وللقديم : قدم ؛ والبئر النزيح : نزح ، واللجسم العميم : عمم . وقال ابن الأعرابيك القفيل : الشوك اليابس ، والجمع قفل . وقال أحمد بن يحيى : هو مني بعدٌ أي بعيد ، والبعد يكون للجمع والواحد . فعجب وقال : ينبغي أن يعني بهذه الوجوه كلها . فإن الزيادة على مثل الأخفش ظفرٌ حسن ، وامتيازٌ في الغزارة جميل ، وما تفاضلت درجات العلماء إلا بتصفح الأخير قول الأول واستيلائه على ما فاته . وسأل - أباد الله عداه ، وحقق مناه - وقال : هل يسلم على أهل الذمة ؟ وهل يبدأون ؟ فكان أبو البختري الداودي حاضراً - فحكى أن عمر بن عبد العزيز سئل عن هذا بعينه ، فقال : يرد عليهم السلام ، ولا يأس بأن يبدءوا ، لقول الله عز وجل : ' فاصفح عنهم وقل سلامٌ ' . وحكي في معرض حديث أبي بكر قال : كتب مجنونٌ إلى مجنون : ' بسم الله الرحمن الرحيم ، حفظك الله ، وأبقاك الله ، كتبت إليك ودجلة تطغى ، وسفن الموصل ها هي ، وما يزداد الصبيان إلا شراً ، ولا الحجارة إلا كثرة ، فإياك والمرق فإنه شر طعامٍ في الدنيا ، ولا تبت إلا وعند رأسك حجرٌ أو حجران ، فإن الأخير يقول : ' وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ' . وكتبت إليك لثلاث عشرة واربعين ليلة خلت من عاشوراءسنة الكمأة ' . قال : وكتب مجنونٌ آخر : ' أبقاك الله من النار وسوء الحساب ، وتفديك نفسي موفقاً إن شاء الله ' . قال : وكتب مجنون آخر إلى مجنونٍ مثله : وهب الله لي جميع المكاره فيك ، كتابي إليك من الكوفة حقاً حقاً حقاً ، أقلامي تخط ، والموت عندنا كثير ، إلا أنه سليم والحمد لله ، أحببت ليعرفه إعلامكم ذلك إن شاء الله . فضحك - أضحك الله سنه - حتى استلقى ، وقال : ما الذي يبلغ بنا هذا الاستطراف إذا سمعنا بحديث المجانين ؟ فقال ابن زرعة : لأن المجنون مشاركٌ للعاقل في الجنس ، فغذا كان من العاقل ما يحسب أن يكون من المجنون كره ذلك له ، وإذا كان من المجنون ما يعهد من العاقل تعجب منه ، والعقل بين أصحابه ذور عرضٍ واسع ، وبقدر ذلك يتفاضلون التفاضل الذي لا سبيل إلى حصره ، وكذلك الجنون بين أهله ذو عرضٍ واسع ، وبحسب ذلك يتفاوتون التفاوت الذي لا مطمع في تحصيله ، وكما أنه يبدر من العاقل بعض ما لا يتوقع إلا من المجنون كذلك يبدر من المجنون بعض ما لا يتوقع إلا من العاقل ، ولا يعتد بذلك ولا بهذا ، أعني أن العاقل بذلك المقدار لا يرى مجنوناً ، والمجنون بذلك المقدار لا يسمى عاقلاً ، وإنما اجتمعا في النادر القليل ، لاجتماعهما في الجنس الذي يعمهما ، والنوع الذي يفصلهما ، وفي الجملة الإنسان بما هو به حيوانٌ سبعٌ وحمار ، وبما هو به نفسيٌ إنسان ، وبما هو به عاقلٌ نبيٌ وملك ؛ وهذه الأعراض - وإن تداخلت لانتظامها في طينة واحدة - فإنها تتميز بقوة العقل في الصورة المخلوطة إما مفارقة ، وإما مواصلة . ومر له في هذا الموضع كلامٌ بليغٌ تامٌ مكشوف .
كمل الجزء الثاني من كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي حسب تجزئتنا والحمد لله رب العاليمن والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ويليه الجزء الثالث من هذا الكتبا وأوله : ثم ترامى الحديث إلى أمر المطعمين والطاعمين ، الخ . نسأل الله المعونة وحسن التوفيق .الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم بقية الليلة الحادية والثلاثين في آخر الجزء الثاني ثم ترامى الحديث إلى أمر المطعمين والطاعمين ، والذين يهشون عند المائدة ، والذين يعبسون ويجمون ويطرقون ، والذين يصخبون ويلغطون ، ويضجرون ويغتاظون . فقال : أحب أن أسمع في هذا أكثر ما فيه ، ويمر بي أعجبه ، فإن في معرفة هذا الباب تهذيباً وإيقاظاً كثيراً . فكان في الجواب : إن الناس قديماً وحديثاً قد خاضوا في هذا الفن خوضاً بعيداً ، وما وقفوا منه عند حد ، لأن الحديث عن الأخلاق المختلفة بالأمزجة المتباينة ، والطبائع المتنائية لا يكاد ينتهي إلى غاية يكون فيها شفاءٌ للمستمع المستفيد و لا للرواية المفيد . قال : قبل كل شيء أعلمونا يا أصحابنا : الحث على الأكل أحسن ، أم الإمساك حتى يكون من الأكل ما يكون ؟ فكان من الجواب : أن هذه المسئلة بعينها جرت بالأمس بالري عند ابن عباد فتنوهب الكلام فيها ، وأفضى إلى أن الأولى الحث والتأنيس والبسط والطلاقة وليناللفظ وقلة التحديق وإسجاء الطرف مع اللطف والدماثة ، من غير دلالةٍ على تكلفٍ في ذلك فاضح ولا إمساكٍ عنه قادح . وحكى ابن عباد في هذا الموضع ان بعض السلف قال : الطعام أهون من أن يحث على تناوله . وقال الحسن بن عليك الطعام أجل من أن لا يحث على تناوله ، ومذهب الحسن أحسن . قال : ولقد حضرت مولد ناسٍ لا أظن بهم البخل فلم يحثوني ولم يبسطوني فقبضني ذلك ، وكأن انقباضي كان بمعونتهم ، وإن لم يكن بإرادتهم . قال الوزير : هذه فائدة من هذا الرجل الذي يتهادى قوله ، وتتراوى أخباره . ثم حكيت له أن أسماء بن حارجة قال : ما صنعت طعاماً قط فدعوت عليه نفراً إلا كانوا أمن علي مني عليهم . فقال : زدنا من هذا الضرب ما كان ، قلت : لو أذن لي في جمعه كان أولى ؛ قال : لك ذلك فما يضرنا أن تطرب آذاننا بما تهوى نفوسنا . فكان من الجواب أن الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلا ما شذ عنه مما لم يقع إليه ، فإن العالم - وإن كان بارعاً - ليس يجوز أن يظن به أنه قد أحاط بكل باب ، أو بالباب الواحد إلى آخره ؛ على أنه حدث من عهد الجاحظ إلى وقتنا هذا أمورٌ وأمور ، وهناتٌ وهناتٌ ، وغرائب وعجائب ، لأن الناس يكتسبون على رأس كل مائة سنةٍ عادةً جديدة ، وخليقةً غير معهودةٍ ، وبدء هذه المئين هو الوقت الذي فيه تنعقد شريعة ، وتظهرنبوة ، وتفشو أحكام ، وتستقر سنن ، وتؤلف أحوالٌ بعد فطامٍ شديد ، وتلكؤٍ واقع ؛ ثم على استنان ذلك يكون ما يكون . وقال ميمون بن مهران : من ضاف البخيل صامت دابته ، واستغنى عن الكنيف ، وأمن التخمة . وقال حامد اللفاف المتزهد : المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم ، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم . وقال مالك بن دينار : دخلنا على ابن سيرين فقال : ما أدري ما أطعمكم ؟ ثم قدم إلنيا شهدة . وقال الأعمش : كان خيثمة يصنع الخبيص ثم يقول : كلوا فوالله ما صنع إلا من أجلكم . وقال بكر بن عبد الله المزني : أحق الناس بلطمةٍ من إذا دعي إلى طعامٍ ذهب بآخر معه ، وأحقهم بلطمتين من إذا قيل له : اجلس ها هنا قال : بل ها هنا ؛ وأحق الناس بثلاث لطمات من إذا قيل له : كل ، قال : ما بال صاحب البيت لا يأكل معنا . وقال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن وإن كان أميراً : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته للعالم يتعلم منه ، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه ، وخدمة الضيف بنفسه إكراماً له . وقال حاتم الأصم : كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس ، فإنها من سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إطعام الضيف إذا حل ، وتجهيز الميت إذا مات ، وتزويج البكر إذا أدركت ، وقضاءالدين إذا حل ووجب ، والتوبة من الذنب إذا وقع . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : : ليلة الضيف حقٌ واجبٌ على كل مسلم ، فمن أصبح بفنائه فهو أحق به إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ' . وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح ، فسألت عسلاً وقالت : زوجي مريض ؛ فأمر لها براوية عسل ؛ فقالوا : يا أبا الحرث : إنما تسأل قدحاً . قال : سألت قدرها ونعطيها على قدرنا . خرج ابن المبارك يوماً إلى أصحابه ، فقال لهم : نزل بنا ضيفٌ اليوم فقال : اتخذوا لي فالوذجاً ؛ فسرنا ذلك منه . وقال الحسن في الرجل يدخل بيت أخيه فيرى السلة فيها الفاكهة : لابأس أن يأكل من غير أن يستأذنه . وقال ابن عمر : أهديت لرجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شاةٌ فقال : أخي فلانٌ أحوج إليها ، وبعث بها إليه ، فلم يزل يبعث بها واحدٌ بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات ، ورجعت إلى الأول ، فنزلت الآية : ' ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ ' . قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من كان له ظهرٌ فليعد على من لا ظهر له ؛ ومن كان له زادٌ فليعد على من لا زاد له ، حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في الفضل ' . وسئل ابن عمر . ما حق المسلم على المسلم ؟ قال : ألا يشبع ويجوع ، وألا يلبس ويعرى ، وأن يواسيه ببيضائه وصفرائه . وكان ابن أبي بكرة ينفق على جيرانه أربعين داراً سوى سائر نفقاته ، وكان يبعث إليهمبالأضاحي والكسوة في الأعياد ، وكان يعتق في كل يوم عيدٍ مائة مملوك . وكان حماد بن أبي سليمان يفطر كل ليلةٍ من شهر رمضان خمسين إنساناً ، وإذا كان يوم الفطر كساهم ثوباً ثوباً وأعطاهم مائة مائة . وقال الشاعر : أراك تؤمل حسن الثناء . . . ولم يرزق الله ذاك البخيلا وكيف يسود أخو بطنةٍ . . . يمن كثيراً ويعطي قليلا وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' تجافوا عن ذنب السخي ، فإن الله يأخذ بيده كلما عثر ' . وقال عليه السلام : ' من أدى الزكاة ، وقرة الضيف ، وآوى في النائبة ، فقد وقي شح نفسه ' . وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز : أفٍ للبخل ، ولو كان طريقاً ما سلكته ، ولو كان ثوباً ما لبسته ، ولو كان سراجاً ما استضأت به . وقال الأصمعي : قال بعض العرب : ليست الفتوة الفسق ولا الفجور ، ولا شرب الخمور ، وإنما الفتوة طعامٌ موضوع ، وصنيع مصنوع ، ومكانٌ مرفوع ، ولسانٌ معسول ، ونائل مبذول ، وعفاف معروف ، وأذى مكفوف . وقال أبو حازم المدني : أسعد الناس بالخلق الحسن صاحبه ، نفسه منه في راحة ، ثم زوجته ، ثم ولده ، حتى إن فرسه ليصهل إذا سمع صوته ، وكلبه يشرشر بذنبه إذا رآه وقطه يدخل تحت مائدته ، وإن السيىء الخلق لأشقى الناس ، نفسه منه في بلاء ، ثم زوجته ، ثم ولده ، ثم خدمه ، وإ ، ه ليدخل وهم في سرور فيتفرقون فرقاً منه ، وإن دابته لتحيد عنه إذا رأته ، مما ترى منه ، وكلبه ينزو على الجدار ، وقطه يفر منه . وكان على باب ابن كيسان مكتوب : ادخل وكل . وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : بأبي من لم ينم علىالوثير ، ولم يشبع من خبز الشعير . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الله لم يخلق وعاءً ملىء شراً من بطنٍ ، فإن كان لابد فاجعلوا ثلثاً للطعام ، وثلثاً للشراب ، وثلثاً للريح ' . قال الشاعر : ليسوا يبالون إذا أصبحوا . . . شبعى بطاناً حق من ضيعوا ولا يبالون بمولاهم . . . والكلب في اموالهم يرتع وحكى لنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بجرجان إمام الدنيا قال : رأيت أبا خليفة المفضل بن الحباب ، وقد دعي إلى وليمةٍ فرأى الصحاف توضع وترفع ، فقال : أللحسن والمنظر دعينا ، أم للأكل والمخبر ؟ فقيل : بل للأكل والمخبر ، قال : فاتركوا الصحفة يبلغ قعرها . وكان سليمان بن ثوابة ضخم الخوان ، كثير الطعام ، وافر الرغيف ، وكان معجباً بإجادة الألوان ، واتخاذ البدائع والطرائف والغرائب على مائدته ؛ وكانت له ضروبٌ من الحلوى لا تعرف إلا به ، وكان خبزه الذي يوضع على المائدة الرغيف من مكوك دقيق ، ولذلك قال أبو فرعون العدوي : ما الناس إلا نبطٌ وخوزان . . . ككهمسٍ أو عمر بن عمران ضاق جرابي عن رغيف سلمان . . . أبا حمار في حر أم قحطان وأير بغلٍ في است أم عدنان . . . .وعشق رجلٌ جاريةً رومية كانت لقوم ذوي يسار ، فكتب إليها يوماً : جعلت فداك ، عندي اليوم أصحابي ، وقد اشتهيت سكباجةً بقرية فأحب أن توجهي إلينا بما يعمنا ويكفينا منها ، ودستجةً من نبيذٍ لنتغذى ونشرب على ذكرك ، فلما وصلت الرقعة وجهت إليه بما طلب ؛ ثم كتب إليها يوماً آخر : فدتك نفسي ، إخواني مجتمعون عندي ، وقد اشتهيت قليةً جزورية فوجهي بها إلي وما يكفينا من النبيذ والنقل ، ليعرفوا منزلتي عندك ، فوجهت إليه بكل ما سأل ؛ ثم كتب إليها يوماً آخر : جعلت فداك ، قد اشتهيت أنا وأصحابي رءوساً سماناً ، فأحب أن توجهي إلينا بما يكفينا ، ومن النبيذ بما يروينا ؛ فكتبت الجارية عند ذلك : إني رأيت الحب يكون في القلب ، وحبك هذا ما تجاوز المعدة . وكتبت أسفل الرقعة : عذيري من حبيبٍ جا . . . ءنا في زمن الشده وكان الحب في القلب . . . فصار الحب في المعده وقال جرير : ولا يذبحون الشاة إلا بميسرٍ . . . كثيرٌ تناجيها لئامٌ قدورهاوقالت عادية بنت فرعة الزبيرية في ابنها دوس : تشبه دوس نفراً كراما كانوا الذرى والأنف والسناما كانوا لمن خالطهم إداما كالسمن لما سغبل الطعاما يقال سغبل رأسه بالدهن وسغسغه ورواه وأمرعه . قال الواقدي : قيل لأم أيوب : أي الطعام كان أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فقد عرفتم ذلك بمقامه عندكم ؟ فقالت : ما رأيته أمر بطعامٍ يصنع له بعينه ، ولا رأيناه أتى بطعام فعابه قط . وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلةً من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة فيها طفيشل فرأيته ينهك تلك القصعة ما لم ينهك غيرها ، فرجع إلي فأخبرني ، فكنا نعملها له . وكنا نعمل له الهريسة ، وكانت تعجبه ، وكان يحضر عشاءه من خمسة إلى ستةٍ إلى عشرة كما يكون الطعام في القلة والكثرة . وكان أسعد بن زرارة يعمل له هريسة ليلةً وليلةً لا ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسأل عنها ؛ أجاءت قصعة أسعد أم لا ؟ فيقال : نعم ، فيقول : هلموها ؛ فنعرف بذلك أنها تعجبه . قدم صهيب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقباء ومعه أبو بكرٍ وعمر ، بين أيديهم رطبٌ قد جاءهم به كلثوم بن الهدم أمهات جراذبن وصهيبٌ قدرمد في الطريق ، وأصابته مجاعةٌ شديدة ، فوقع في الرطب ؛ قال صهيب : فجعلت آكل ، فقال عمر : يا رسول الله ، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أتأكل الرطب وأنت رمد ؟ ' فقال صهيب : أنا آكل بشق عيني الصحيحة ، فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال الأعشى : لو أطعموا المن والسلوى مكانهم . . . ما أبصر الناس طعماً فيهم نجعا وقال الكميت : وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا . . . ولا ثفيت إلا بنا حين تنصب يقول إذا جاورنا جارٌ لم نكلفه أن يطبخ من عنده ، ويكون ما يطبخه من عندنا بما نعطيه من اللحم لينصب قدره . ويقال للحيس سويطة . وقال : الرغيغة لبن يطبخ . وقال : هي العصيدة ، ثم الحريرة ثم النجبرة ، ثم الحسو . واللوقة : الرطب بالسمن ، والسليقة : الذرة تدق وتصلح باللبن ، والرصيعة : البر يدق بالفهرويبل ويطبخ بشيء من السمن ، والوجيئة : التمر يوجأ ثم يؤكل باللبن . وقال أعرابي : ليس من الألبان أحلى من لبن الخلفة . والنخبسة والقطبية يخلط لبن إبلٍ بلبن غنم . وقال أعرابي : الحمد لله الذي أغنانا باللبن عما سواه . ويقال أكل خبزاً قفاراً وعفاراً وعفيراً : لا شيء معه وعليه العفار والدمار وسوء الدار ؛ وأكل خبزاً جبيزاً أي فطيراً يابساً . وجاء بتمر فضٍ وفضاً وفذٍ وحثٍ : لا يلزق بعضه ببعض . قال أبو الحسن الطوسي : أخبرني هشام قال : دخل علي فرجٌ الرخجي وقد تغديت واتكأت ، فقال : يا أبا عبد الله : إنما تحسن الأكل والاتكاء . قال : فتركت الأكل عنده أياماً ، وبلغه ذلك ، فبعث إلي : إن كنت لا تأكل طعامنا فليس لنا فيك حاجة . قال : فأكلت شيئاً ثم أتيته فلم يعتذر مما كان . قال أبو الحسن : أخبرني الفراء قال : العرب تسمى السكباجة الصعفصة . وأنشد : أبو مالكٍ يعتادنا في الظهائر . . . يجوء فيلقي رحله عند عامرأبو مالك : الجوع ، هكذا تقول العرب ويجىء ويجوء لغتان . وقال الآخر : رأيت الغواني إذ نزلت جفونني . . . أبا مالكٍ إني أظنك دائبا أبو مالك ها هنا الشيب . قال أبو الحسن : أخبرني الثوري عن أبي عبيدة في الحديث الذي يروى عن عمر بن الخطاب أنه رأى في روث فرسه حبة شعير ، فقال : لأجعلن لك في غرز النقيع ما يشغلك عن شعير المسلمين . قال : والنقيع : موضع بالمدينة أحماه عمر بن الخطاب لخيل المسلمين ، خلاف البقيع بالباء . قال الطوسي : العرب تقول : أيدي الرجال أعناقها ، أي من كان أطول يداً على المائدة تناول فأكل ، الهاء ترجع على الإبل ، أي أيدي الرجال أعناق الإبل ، أي من طال نال . قال الأصمعي : سألت بعض الأكلة فيمن كان يقدم على ميسري الناس كيف تصنع إذا جهدتك الكظة - والعرب تقول : إذا كنت بطناً فعدك زمناً - ؟ قال : آخذ روثاً حاراً وأعصره وأشرب ماءه ، فاختلف عنه مراراً ، فلا ألبث أن يلحق بطني بظهري فأشتهي الطعام . قال ابن الأعرابي : قال الكلابي : هو يندف الطعام إذا أكله بيده ، ويلقم الحسو ،واللقم بالشفة ، والندف : الأكل باليد . وقال الزبيري : يندف . وأنشد ابن الأعرابي : ويظل ضيف بني عبادة فيهم . . . متضمراً وبطونهم كتم أي ممتلئة . والتضمر : الهزال والنحافة ، كالنخل المصمر ، أي الذي قد ذوت جذوعه . قال الشنبوذي في قول الله تعالى : ' قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ' . قال : الذين يثردون ويأكل غيرهم . قال أبو الحسن : كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلعةٌ ، في ذراعٍ كأنها جمارة ، فلا تقع عينها على أكلةٍ نفيسةٍ إلا خصتني بها ، فزوجتها ، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي ، فيبرز لي كفاً كأنها كرنافة ، في ذراعٍ كأنها كربة ، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمةٍ طيبةٍ إلا سبقت يده إليها . وقال أعرابيٌ للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني نذرت إذا بلغتني ناقتي أن أنحرها وآكل من كبدها . قال : ' بئسما جازيتها ' . أضل أعرابيٌ بعيراً له ، فطلبه ، فرأى على باب الأمير بختياً ، فأخذه وقال : هذا بعيري ، فقال : إنك أضللت بعيراً وهذا بختي . فقال : لما أكل علف الأمير تبخت . فضحك منه وتركه يعيد قوله ويعجبه . الكدبة : غلظ اللحم وتراكمه ، ومنه قول هشامٍ لسالم - وقد رآه فأعجبه جسمه - : مارأيت ذا كدنةٍ أحسن منك ، فما طعامك ؟ قال : الخبز والزيت . قال : أما تأجمه ؟ قال : إذا أجمته تركته حتى أشتهيه ، ثم خرج وقد أصاب في جسمه برصاً . فقال لقمني الأحوال بعينه ، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه . وقال عبد الأعلى القاص : الفقير مرقته سلقة ، وغذاؤه علقة ، وخبزته فلقة ، وسمكته شلقة ، أي كثيرة الشوك . قال رجاء بن سلمة : الأكل في السوق حماقة . قيل لذؤيب بن عمرو : إنك مفلسٌ لا تقدر على قرصٍ ولا جمعٍ ولا حفاةل ، وبيتك عامرٌ بالفأر . قال علي بن عيسى : الطلاق الثلاث البتة إن كان يمنعهم من التحول عنه إلا أنهم يسرقون أطعمة الناس يأكلونها في بيته لأمنهم فيه ، لأنه لا هر هناك ولا أحد يأخذ شيئاً ولا يؤذون ، وإن لهم لمسقاةً مملوءةً ماءً كلما جفت سكب لهم فيها ماءٌ . جعل الخبر عن الفأر على التلميح ، كالخبر عن قومٍ عقلاء . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات السموات والأرض ' . وقال آخر :كأن صوت سحبها الممتاح . . . سعال شيخٍ من بني الجلاح يقول من بعد السعا آح قال الأصمعي : الرجيع : الشواء يسخن ثانيةً . والنقيعة ما يحرزه رئيس القوم من الغنيمة قبل أن تقسم والجمع نقائع . وقال : أنشدني عيسى بن عمر لمعاوية بن صعصعة : مثل الذرى لحبت عرائكها . . . لحب الشفار نقائع النهب وقال مهلهل : إنا لنضرب بالسيوف رءوسهم . . . ضرب القدار نقيعة القدام القدار : الجزار والقدار : الملك أيضاً . والقدام : رؤساء الجيوش ، والواحد قادم . وقال معن بن أوس يصف هدير قدرٍ : إذا التطمت أمواجها فكأنها . . . عوائد دهمٌ في المحلة قيل إذا ما انتحاها المرملون رأيتها . . . لوشك قراها وهي بالجزل تشعلسمعت لها لغطاً إذا ما تغطمطت . . . كهدر الجمال رزماً حين تجفل وقال آخر : إذا كان فصد العرق والعرق ناضبٌ . . . وكشط سنام الحي عيشاً ومغنما وكان عتيق القد خير شوائهم . . . وصار غبوق الخود ماءً محمما عقرت لهم دهماً مقاحيد جلةً . . . وعادت بقايا البرك نهباً مقسما قال : وإذا كان القحط فصدوا الإبل وعالجوا ذلك الدم بشيء من العلاج لها كما يصنع الترك ، فإنها تجعله في المصران ، ثم تشويه أو تطبخه ، فيؤكل كما تؤكل النقانق وما أشبه ذلك . وأما قوله : والعرق ناضبٌ ، فإنما يعني قلة الدم لهزال البعير ، وكذلك جميع الحيوان ، وأكثر ما يكون دماً إذا كان بين المهزول والسمين . وقالت أم هشام السلولية : ما ذكر الناس مذكوراً خيراً من الإبل وأجدى على أحدٍ بخيرٍ ؛ هكذا روي . وقال الأندلسي : إن حملت أثقلت ، وإن مشت أبعدت ، وإن حلبت أروت ، وإننحرت أشبعت . قال أبو الحسن الهيثم ، عن عبد العزيز بن يسار قال : قدمت يا جميري بخمس سفائف دقيق ، وذاك في زمن مصعب وهو معسكرٌ بها فلقيني عكرمة بن ربعي الشيباني فقال : بكم أخذتها ؟ قلت : بتسعين ألفاً . قال : فإني أعطيك مائةً وخمسين ألفاً على أن تؤخرني . فدفعتهن إليه ، وما في المعسكر يومئذ دقيق . قال : فجاء بنو تيم الله فأخذوا ذلك الدقيق ، فجعل كل قومٍ يعجنون على حيالهم ، ثم جاءوا إلى رهوةٍ من الأرض فحفروها ، ثم جعلوا فيها الحشيش ، ثم طرحوا ذلك العجين فيها ، ثم أقبلوا فأخذوا فرساً وديقاً . . . فخلوا عنه ، ثم أقبلوا وهو يتبعهم حتى انتهوا إلى الحفيرة ، فدفعوا الفرس الوديق فيها ، وتبعها الفرس ، وتنادى الفريقان : إن فرس حوشب وقع في حفيرة عكرمة فما أخرجوه إلا بالعمد . قال : فغلبه عكرمة . قال شاعر : لا أشتم الضيف إلا أن أقول له : . . . أباتك الله في أبيات عمار أباتك الله في أبيات معتزٍ . . . عن المكارم لا عفٍ ولا قاري جلد الندى زاهدٍ في كل مكرمةٍ . . . كأنما ضيفه في ملة النار وقال آخر : وهو إذا قيل له : ويهاً كل . . . فإنه مواشكٌ مستعجلوهو إذا قيل له : ويهاً فل . . . فإنه أحج به أن ينكل قيل لصوفي : ما حد الشبع ؟ قال : لا حد له ، ولو أراد الله أن يؤكل بحدٍ لبين كما بين جميع الحدود . وكيف يكون للأكل حد ، والأكلة مختلفو الطباع والمزاج والعارض والعادة ، وحكمة الله ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء كما شاء . وقيل لصوفيٍ : ما حد الشبع ؟ فقال : ما نشط على أداء الفرائض ، وثبط عن إقامة النوافل . وقيل لمتكلم : ما حد الشبع ؟ فقال : حده أن يجلب النوم ، ويضجر القوم ، ويبعث على اللوم . وقيل لطفيلي : ما حد الشبع ؟ قال : أن يؤكل على أنه آخر الزاد ، ويؤتى على الجل والدق . وقيل لأعرابي : ما حد الشبع ؟ قال : أما عندكم يا حاضرة فلا أدري ؛ وأما عندنا في البادية فما وجدت العين ، وامتدت إليه اليد ، ودار عليه الضرس وأساغه الحلق ، وانتفخ به البطن ، واستدارت عليه الحوايا ، واستغاثت منه المعدة ، وتقوست منه الأضلاع ، والتوت عليه المصارين ، وخيف منه الموت . وقيل لطبيب : ما حد الشبع ؟ قال : ما عدل الطبيعة ، وحفظ المزاج وأبقى الشهوة لما بعد . وقيل لقصار : ما حد الشبع ؟ قال : أن تثب إلى الجفنة كأنك سرحان وتأكل وأنت غضبان ، وتمضغ كأنك شيطان ، وتبلغ كأنك هيمان ، وتدع وأنت سكران ، وتستلقي كأنك أوان . وقيل لحمال : ما حد الشبع ؟ قال : أن تأكل ما رأيت بعشر يديك غير عائفٍ ولا متقززٍ ، ولا كارهٍ ولا متعزز .وقيل لملاح : ما حد الشبع ؟ قال : حد السكر . قيل : فما حد السكر ؟ قال : ألا تعرف السماء من الأرض ، ولا الطول من العرض ، ولا النافلة من الفرض ، من شدة النهس والكسر والقطع والقرض . قيل له فإن السكر محرم ، فلم جعلت الشبع مثله ؟ قال : صدقتم ، هما سكران : أحد السكرين موصوفٌ بالعيب والخسار ، والآخر معروفٌ بالسكينة والوقار . قيل له : أما تخاف الهيضة ؟ قال : إنما تصيب الهيضة من لا يسمي الله عند أكله ، ولا يشكره على النعمة فيه . فأما من ذكر الله وشكره فإنه يهضم ويستمرىء ويقوم إلى الزيادة . وقيل لبخيل : ما حد الشبع ؟ قال : الشبع حرامٌ كله ، وإنما أحل الله من الأكل ما نفى الخوى ، وسكن الصداع ، وأمسك الرمق ، وحال بين الإنسان وبين المرح ، وهل هلك الناس في الدين والدنيا إلا بالشبع ولاتضلع والبطنة والاحتشاء ، والله لو كان للناس إمامٌ لو كل بكل عشرةٍ منهم من يحفظ عليهم عادة الصحة ، وحالة العدالة ، حتى يزول التعدي ، ويفشو الخير . وقيل لجندي : ما حد الشبع ؟ قال : ما شد العضد ، وأحمى الظهر ، وأدر الوريد ، وزاد في الشجاعة . وقيل لزاهد : ما حد الشبع ؟ قال : ما لم يحل بينك وبين صوم النهار وقيام الليل . وإذا شكا إليك جائعٌ عرفت صدقه لإحساسك به . وقيل لمدني : ما حد الشبع ؟ فقال : لا عهد لي به ، فكيف أصف ما لا أعرف ؟ وقيل ليمني : ما حد الشبع ؟ قال : أن يحشى حتى يخشى . وقيل لتركي : ما حد الشبع ؟ قال : أن تأكل حتى تدنو من الموت . وقيل سمويه القاص : من أفضل الشهداء ؟ قال : من مات بالتخمة ،ودفن على الهيضة . قيل لسمرقندي : ما حد الشبع ؟ قال : إذا جحظت عيناك ، وبكم لسانك ، وثقلت حركتك ، وارجحن بدنك ، وزال عقلك ، فأنت في أوائل الشبع . قيل له : إذا كان هذا أوله ، فما آخره ؟ قال : أن تنشق نصفين . قيل لهندي : ما حد الشبع ؟ قال : المسئلة عن هذا كالمحال ، لأن الشبع من الأرز النقي الأبيض ، الكبار الحب ، المطبوخ باللبن والحليب ، المغروف على الجام البلور ، المدوف بالسكر الفائق ، مخالفٌ للشبع من السمك المملوح وخبز الذرة ، وعلى هذا يختلف الأمر في الشبع . فقيل له : فدع هذا ، إلى متى ينبغي أن يأكل الإنسان ؟ قال : إلى أن يقع له أنه إن أراد لقمة زهقت نفسه إلى النار . قيل لمكارٍ : ما حد الشبع ؟ قال : والله ما أدري ، ولكن أحب أن آكل ما مشى حماري من المنزل إلى المنزل . قيل لجمال : ما حد الشبع ؟ قال : أنا أواصل الأكل فما أعرف الحد ، ولو كنت أنتهي لوصفت الحال فيه ، أعني أني ساعةً ألت الدقيق ، وساعة أمل الملة ، وساعةً أثرد ، وساعةً آكل وساعةً أشرب لبن اللقاح ؛ فليس لي فراغ فأدري أني بلغت من الشبع ، إلا أنني أعلم في الجملة أن الجوع عذابٌ وأن الأكل رحمة ، وأن الرحمة كلما كانت أكثر ، كان العبد إلى الله أقرب ، والله عنه أرضى . قال الوزير : لما بلغت هذا الموضع من الجزء - وكنت أقرأ عليه - : ما أحسن ما اجتمع من هذه الأحاديث هل بقي منها شيء ؟ قلت : بقي منها جزء آخر . قال : دعه لليلةٍ أخرى وهات ملحة الوداع . قلت : قيل لصوفيٍ في جامع المدينة : ما تشتهي ؟ قال : مائدةً روحاء عليها جفنةٌرحاء ، فيها ثريدةٌ صفراء ، وقدرٌ حمراء بيضاء . قال : أبيت الآن ألا تودع إلا بمثل ما تقدم ؟ وانصرفت .
الليلة الثانية والثلاثون
ثم حضرت فقرأت ما بقي من هذا الفن . قال رجلٌ من فزارة : تنبح أحياناً وأحياناً تهر . . . وتتمطى ساعةً وتقدحر تعدو على الضيف بعودٍ منكسر . . . يسقط عنها ثوبها وتأتزر لو نحرت في بيتها عشر جزر . . . لأصبحت من لحمهن تعتذر بحلفٍ سحٍ ودمعٍ منهمر . . . يفر من قاتلها ولا تفر المقدحر : المتهيىء للسباب . وقال أبو دلامة الأسدي :قد يشبع الضيف الذي لا يشبع . . . من الهبيد والحراد تسع ثم يقول ارضوا بهذا أو دعوا وقال آخر : حتى إذا أضحى تدري واكتحل . . . لجارتيه ثم ولى فنشل ذرق الأنوقين . . . القرنبي والجعل وقال آخر : إذا أتوه بطعامٍ وأكل . . . بات يعشى وحده ألفي جعل وقال أبو النجم : تدني من الجدول مثل الجدول . . . أجوف في غلصمةٍ كالمرجل تسمع للماء كصوت المسحل . . . بين وريديها وبين الجحفل يلقيه من طرقٍ أتتها من عل . . . قذف لها جوفٍ وشدقٍ أهدلكأن صوت جرعها المستعجل . . . جندلةٌ دهدهتها في جندل وقال آخر : يقول للطاهي المطري في العمل . . . ضهب لنا إن الشواء لا يمل بالشحم إما قد أجمناه بخل . . . عجل لنا من ذا وألحق بالبدل وأنشد ابن الأعرابي : أعددت للضيف وللرفيق . . . والجار والصاحب والصديق وللعيال الدردق اللصوق . . . حمراء من معز أبي مرزوق تلحس خد الحالب الرفيق . . . بلين المس قليل الريق كأن صوت شخبها الفتيق . . . فحيح ضبٍ حربٍ حنيق في جحرٍ ضاق أشد الضيق وأنشد أيضاً : هل لك في مقراة قيلٍ نىء . . . وشكوةٍ باردة النسىء تخرج لحم الرجل الضوي . . . حتى تراه ناهد الثديوأنشد ابن حبيب : نعم لقوح الصبية الأصاغر . . . شروبهم من حلبٍ وحازر حتى يروحوا سقط المآزر . . . وضع الفقاح نشز الخواصر وأنشد الآمدي : كأن في فيه حراباً شرعا . . . زرقاً تقض البدن المدرعا لو عض ركناً وصفاً تصدعا وقال محمد بن بشير : لقل عاراً إذا ضيفٌ تضيفني . . . ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي فضل المقل إذ أعطاه مصطبراً . . . ومكثرٍ في الغنى سيان في الجود لا يعدم السائلون الخير أفعله . . . إما نوالي وإما حسن مردودي قال الأعرابي : نعم الغداء السويق ، إن أكلته على الجوع عصم ، وإن أكلته على الشبع هضم . وقال العوامي - وكان زواراً لإخوانه في منازلهم - : العبوس بوس ، والبشر بشرى ، والحاجة تفتق الحيلة ، والحيلة تشحذ الطبيعة . ورأيت الحنبلوني ينشد ابن آدم - وكان موسراً بخيلاً - :وما لامرىء طول الخلود وإنما . . . يخلده حسن الثناء فيخلد فلا تدخر زاداً فتصحب ملجأً . . . إليه وكله اليوم يخلفه الغد وحكى لنا ابن أسادة قال : كان عندنا - يعني بأصفهان - رجلٌ أعمى يطوف ويسأل ، فأعطاه مرةً إنسانٌ رغيفاً ، فدعا له وقال : أحسن الله إليك ، وبارك عليك ، وجزاك خيراً ، ورد غربتك . فقال له الرجل : ولم ذكرت الغربة في دعائك ، وما علمك بالغربة ؟ فقال : الآن لي ها هنا عشرون سنة ما ناولني أحدٌ رغيفاً صحيحاً . وقال آخر : يرى جارهم فيهم نحيفاً وضيفهم . . . يجوع وقد باتوا ملاء المذاخر وقال الكروسي : ولا يستوي الاثنان للضيف : آنسٌ . . . كريمٌ ، وزاوٍ بين عينيه قاطب وأنشد : طعامهم فوضى فضى في رحالهم . . . ولا يحسنون السر إلا تناديا وأنشد آخر : يمان ولا يمون وكان شيخاً . . . شديد اللقم هلقاماً بطينا العرب تقول : إذا شبعت الدقيقة لحست الجليلة . قال ابن سلام : كان يخبز في مطبخ سليمان - عليه السلام - في كل يومٍ ستمائة كرٍحنطة ، ويذبح له في كل غداةٍ ستة آلاف ثور وعشرون شاةً ، وكان يطعم الناس ويجلس على مائدته بجانبه اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، ويقول لنفسه : مسكينٌ بين مساكين . ولما ورد تهامة وافى الحرم وذبح للبيت طول مقامه بمكة كل يومٍ خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة . وقال لمن حضر : إن هذا المكان سيخرج منه نبيٌ صفته كذا وكذا . وقال أعرابي : وإذا خشيت من الفؤاد لجاجةً . . . فاضرب عليه بجرعةٍ من رائب وروى هشيم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من كرم المرء أن يطيب زاده في السفر . وقال ابن الأعرابي : يقال : جاء فلانٌ ولقد لغط رباطه من الجوع والعطش . وأنشد : ربا الجوع في أونيه حتى كأنه . . . جنيبٌ به إن الجنيب جنيب أي جاع حتى كأنه يمشي في جانب متعقفاً . وقال أيضاً : إن من شؤم الضيف أن يغيب عن عشاء الحي ، أي لا يدركه ، فيريد إذا جاءهم أن يتكلفوا له عشاءً على حدة . وأنشد : حياك ربك واصطبحت ثريدةً . . . وإدامها رزٌ وأنت تدبل واللقمة واللقمة إذا جمعتا من الثريد والعصائد يقال لهما دبلة ، ومنه سميت الدبيلة ،وهي الورم الذي يخرج بالناس . وأنشد : أقول لما ابتركوا جنوحا . . . بقصعةٍ قد طفحت تطفيحا دبل أبا الجوزاء أو تطيحا وقال الفرزدق : فدبلت أمثال الأثافي كأنها . . . رءوس أعادٍ قطعت يوم مجمع وقال سعيد بن المسيب : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أطيبوا الطعام فإنه أنفى للسخط ، وأجلب للشكر ، وأرضى للصاحب ' . قال بشار : يغص إذا نال الطعام بذكركم . . . ويشرق من وجدٍ بكم حين يشرب المسعور : الجائع . قال هميان بن قحافة : لاقى صحافاً بطناً مسعورا وقال شاعر : يمشي من البطنة مشي الأبزخ البزخ : دخول البطن وخروج الثنة أسفل السرة . وقال آخر : أغر كمصباح الدجنة يتقي . . . شذى الزاد حتى تستفاد أطايبه شداه : طيبه . وقال أعرابي : بنو فلان لا يبزرون ولا يقدرون .وقال الثوري : بطنوا غداءكم بشربة . وقال الشاعر : لا يستوي الصوتان حين تجاوبا . . . صوت الكريب وصوت ذئبٍ مقفر الكريب : الشوبق وهو المحور والمسطح . وقال الشاعر : إذا جاء باغي الخير قلنا بشاشةً . . . له بوجوهٍ كالدنانير : مرحبا وأهلا فلا ممنوع خير تريده . . . ولا أنت تخشى عندنا أن نؤوبا قال الشعبي : استسقيت على خوان قتيبة ، فقال : ما أسقيك ؟ فقلت : الهين الوجد ، العزيز الفقد ، فقال : يا غلام ، اسقه الماء . مر مسكينٌ بأبي الأسود ليلاً وهو ينادي : أنا جائع فأدخله وأطعمه حتى شبع ، ثم قال له : انصرف إلى أهلك ، وأتبعه غلاماً وقال له : إن سمعته يسأل فاردده إلي . فلما جاوزه المسكين سأل كعادته ، فتشبث به الغلام ورده إلى أبي الأسود . فقال : ألم تشبع ؟ فقال : بلى . قال : فما سؤالك ؟ ثم أمر به فحبس في بيتٍ وأغلق عليه الباب ، وقال : لا تروع مسلماً سائر الليلة ولا تكذب . فلما أصبح خلى سبيله ، وقال : لو أطعنا السؤال صرنا مثلهم . وسمع دابةً له تعتلف في جوف الليل ، فقال : إني لأراك تسهرين في مالي والناس نيام ، والله لا تصبحين عندي . وباعها . وأبو الأسود يعد في الشعراء والتابعين والمحدثين والبخلاء والمفاليج والنحويين والقضاة والعرج والمعلمين . وقال الشاعر :أنفق أبا عمرٍو ولا تعذرا . . . وكل من المال وأطعم من عرا لا ينفع الدرهم إلا مدبرا كان مسلم بن قتيبة لا يجلس لحوائج الناس حتى يشبع من الطعام الطيب ، ويروي من الماء البارد ، ويقول : إن الجائع ضيق الصدر ، فقير النفس ، والشبعان واسع الصدر ، غني النفس . وقال أعرابي : هلكت هريئةً وهلكت جوعاً . . . وخرق معدتي شوك القتاد وحبة حنظل ولباب قطنٍ . . . وتنومٌ ينظم بطن وادي وقال الفرزدق : وإن أبا الكرشاء ليس بسارقٍ . . . ولكنه ما يسرق القوم يأكل ولديك الجن : إذا لم يكن في البيت ملحٌ مطيبٌ . . . وخلٌ وزيتٌ حول حب دقيق فرأس ابن أمي في حرام ابن خالتي . . . ورأس عدوي في حر أم صديقي وقال آخر : وما جيرةٌ إلا كليب بن وائلٍ . . . ليالي تحمى عزةً منبت البقل وقال مسعر بن مكدم لرقبة بن مصلة : أراك طفيلياً . قال : يا أبا محمد ، كل من ترى طفيليٌ إلا أنهم يتكاتمون . وقال شاعر : قومٌ إذا آنسوا ضيفاً فلم يجدوا . . . إلا دم الرأس صبوه على البابقال المفجع : الرأس الرئيس . اشتد بأبي فرعون الشاشي الحال فكتب إلى بعض القضاة بالبصرة : يا قاضي البصرة ذا الوجه الأغر . . . إليك أشكو ما مضى وما غبر عفا زمانٌ وشتاءٌ قد حضر . . . إن أبا عمرة في بيتي انجحر يضرب بالدف وإن شاء زمر . . . فاطرده عني بدقيق ينتظر فأجابه إلى ما سأل . ويقال : وقف أعرابيٌ على حلقة الحسن البصري رحمة الله عليه ، فقال : رحم الله من أعطى من سعة ، وواسى من كفاف ، وآثر من قلة . فقال الحسن : ما أبقى أحداً إلا سأله . وقال ابن حبيب : يقال أحمق من الضبع ، وذلك أنها وجدت تودية في غدير ، فجعلت تشرب الماء وتقول : يا حبذا طعم اللبن حتى انشق بطنها فماتت . والتودية : العود يشد على رأس الخلف لئلا يرضع الفصيل أمه . دعا رجل آخر فقال له : هذه تكسب الزيارة وإن لم تسعد ، ولعل تقصيراً أنفع فيما أحب بلوغه من برك . فقال صاحبه : حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلف لي . قيل لأعرابي : لو كنت خليفةً كيف كنت تصنع ؟ قال : كنت أستكفي شريف كل قومٍ ناحيته ، ثم أخلو بالمطبخ فآمر الطهاة فيعظمون الثريدة ويكثرون العراق ، فابدأ فآكل لقماً ، ثم آذن للناس ، فأي ضياعٍ يكون بعد هذا ؟وقال أعرابي لابن عم له : والله ما جفانكم بعظام ، ولا أجسامكم بوسام ، ولا بدت لكم نار ، ولا طولبتم بثار . وقيل لأعرابي : لم قالت الحاضرة للعبد : باعك الله في الأعراب ؟ قال : لأنا نعري جلده ، ونطيل كده ، ونجيع كبده . وقال طفيلي : إذا حدثت على المائدة فلا تزد في الجواب على نعم ، فإنك تكون بها مؤانساً لصاحبك ، ومسيغاً للقمتك ، ومقبلاً على شأنك . وقيل لأعرابي : أي شيء أحد ؟ قال : كبدٌ جائعة ، تلقى إلى أمعاء ضالعة . وقيل لآخر : أي شيء أحد ؟ قال ضرس جائع ، يلقى إلى معي ضالع . وقال آخر : أحب أن أصطاد ضباً سحبلا . . . وورلاً يرتاد رملاً أرملا قالت سليمى لا أحب الجوز لا . . . ولا أحب السمكات مأكلا الجوزل : فرخ الحمام . والورل : دابة . أرمل : صفةٌ للورل . وإذا كان كذلك كان أسمن له ، وهو يسفد فيهزل . ويقال : أقبح هزيلين : المرأة والفرس ، وأطيب غثٍ أكل غث الإبل ، وأطيب الإبل لحماً ما أكل السعدان ، وأطيب الغنم لبناً ما أكل الحربث . ويقال : أهون مظلومٍ سقاءٌ مروب ، وهو الذي يسقى منه قبل أن يمخض وتخرج زبدته .ويقال : سقانا ظليمة وطبه ، وقد ظلمت أوطب القوم . وقال الشاعر : وصاحب صدقٍ لم تنلني شكاته . . . ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجر يعني وطب لبن . وكان الحسن البصري إذا طبخ اللحم قال : هلموا إلى طعام الأحرار . قال سفيان الثوري : إني لألقى الرجل فيقول لي مرحباً فيلين له قلبي ، فكيف بمن أطأ بساطه ، وآكل ثريده ، وأزدرد عصيده ؟ . حكى أبو زيد : قد هجا غرثى : إذا ذهب ، وقد أهجأ طعامكم غرثى : إذا قطعه . قال الشاعر : فأخزاهم ربي ودل عليهم . . . وأطعمهم من مطعمٍ غير مهجي قال : ويقال بأرت بؤرةً فأنا أبارها ، إذا حفرت حفيرةً يطبخ فيها وهي الإرة . ويقال : أرت إرةً فأنا أثرها وأراً . وقال حسان : تخال قدور الصاد حول بيوتنا . . . قنابل دهماً في المباءة صيماقال أبو عبيدة : كان الأصمعي بخيلاً ، وكان يجمع أحاديث البخلاء ويوصي بها ولده ويتحدث بها . وكان أبو عبيدة إذا ذكر الأصمعي أنشد : عظم الطعام بعينه فكأنه . . . هو نفسه للآكلين طعام ويقال : أسأرت ، إذا أبقيت من الطعام والشراب أو غيرهما ، والاسم السؤر وجماعته الأسآر . ويقال : فأدت الخبزة في الملة أفادها إذا خبزتها فيها . والمفأد : الحديدة التي يخبز بها ويشوى . ويقال : تملأت من الأكل والشراب تملوا ، إذا شبعت منهما وامتلأت . ويقال : لفأت اللحم عن العظم لفأً إذا جلفت اللحم عن العظم . واللفيئة هي البضعة التي لا عظم فيها نحو النحضة والهبرة والوذرة . وأنشد يعقوب : سقى الله الغضا وخبوت قومٍ . . . متى كانت تكون لهم ديارا أناسٌ لا ينادي الضيف فيهم . . . ولا يقرون آنيةً صغارا قال الأصمعي : قال ابن هبيرة : تعجيل الغداء يزيد في المروءة ، ويطيب النكهة ، ويعين على قضاء الحاجة . قال بعض العرب : أطيب مضغة أكلها الناس صيحانيةٌ مصلبة . ويقال : آكلالدواب ، برذونةٌ رغوث وهي التي يرضعها ولدها . قال أبو الحارث حميد : ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من قدرٍ سقيت اللبن كثيرة السكر . وقال الشاعر : وإني لأستحيي رفيقي أن يرى . . . مكان يدي من جانب الزاد أقرعا ضم عثمان بن رواح السفر ورفيقاً له ، فقال له الرفيق : امض إلى السوق فاشتر لنا لحماً . قال : والله ما أقدر . قال : فمضى الرفيق واشترى اللحم ثم قال لعثمان : قم الآن فاطبخ القدر . قال : والله ما أقدر . فطبخها الرقيق . ثم قال : قم الآن فاثرد . قال : والله إني لأعجز عن ذلك . فثرد الرفيق . ثم قال : قم الآن فكل . فقال : والله لقد استحييت من كثرة خلافي عليك ، ولولا ذلك ما فعلت . قال يونس : أتيت ابن سيرين فدعوت الجارية ، فسمعته يقول : قولي إنه نائم . فقلت : معي خبيص . فقال : مكانك حتى أخرج إليك . قال أردشير : احذروا صولة الكريم إذا جاع ، واللئيم إذا شبع . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه جابر بن عبد الله : هلاك الرجل أن يحتقر ما في بيته أن يقدمه إلى ضيفه ، وهلاك الضيف أن يحتقر ما قدم إليه . وقال الشاعر : يا ذاهباً في داره جاثياً . . . بغير معنىً وبلا فائدهقد جن أضيافك من جوعهم . . . فاقرأ عليهم سورة المائده وقال ابن بدر : ونحن نبذل عند القحط ما أكلوا . . . من السديف إذا لم يؤنس القزع وننحر الكوم عبطاً في أرومتنا . . . للنازلين إذا ما استنزلوا شبعوا وقال آخر : أطعمني بيضةً وناولني . . . من بعد ما ذقت فقده قدحا وقال أي الأصوات تسئلني ؟ . . . يزيد ، إني أراك مقترحا فقلت صوت المقلي وجردقةً . . . إن خاب ذا الاقتراح أو صلحا فقطب الوجه وانثنى غضباً . . . وكان سكران طافحاً فصحا فقلت : إني مزحت ، قال : كذا . . . رأيت حراً بمثل ذا مزحا ؟ قال ابن حبيب : كان الرجل إذا اشتد عليه الشتاء تنحى ونزل وحده لئلا ينزل به ضيفٌ فيكون صقعاً مستحباً . وهذا ضد قول زهير : بسط البيوت لكي تكون مطيةً . . . من حيث توضع جفنة استرفد فإذا كان الشتاء انحاز الناس من الجدب والجهد ، وإذا أخصبوا أغاروا للثأر لا للسؤال . وقال الشاعر في عبيد الله بن عباس : ففي السنة الجدباء أطعمت حامضاً . . . وحلواً وشحماً تامكاً وسناماوقال مجاهدٌ في قول الله عز وجل : ' وأعتدت لهن متكئاً ' ، أي طعاماً ، يقال : اتكأنا عند فلانٍ ، أي طعمنا . ذكر الأصمعي أن أعرابياً خرج في سفر ومعه جماعة ، فأرمل بعضهم من الزاد ، وحضر وقت الغذاء وجعل بعضهم ينتظر بعضاً بالغداء ، فلما أبطأ ذلك عليهم عمد بعضهم إلى زاده فألقاه بين يدي القوم ، فأقبلوا يأكلون ، وجلس صاحب الزاد بعيداً للتوفير عليهم ، فصاح به أعرابي : يا سؤدداه وهل شرفٌ أفضل من إطعام الطعام والإيثار به في وقت الحاجة إليه ؟ لقد آثرت في مخمصةٍ ويوم مسغبة ، وتفردت بمكرمة قعد عنها من أرى من نظرائك ، فلا زالت نعم الله عليك غاديةً ورائحة . وفي مثله يقول حاتمٌ الطائي : أكلف يدي من أن تنال أكفهم . . . إذا ما مددناها وحاجاتنا معا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى . . . مكان يدي من جانب الزاد أقرعا قال : المخمصة : المجاعة . والخمص : الجوع . قال شاعرٌ يذم رجلاً : يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعةً . . . يبت قلبه من قلة الهم مبهما وقال المرقش الأكبر : إن يخصبوا يغنوا بخصبهم . . . أو يجدبوا فجدوبهم ألم وكتب بعضهم إلى أخٍ له : إن رأيت أن تروي ظمأ أخيك بقربك ، وتبرد غليله بطلعتك ، وتؤنس وحشته بأنسك ، وتجلو غشاء ناظره بوجهك ، وتزين مجلسهبجمال حضورك ، وتجعل غداءك عنده في منزلك الذي هو فيه ساكن ، وتممت له السرور بك باقي يومك ، مؤثراً له على شغلك ، فعلت - إن شاء الله - . وقال الشاعر : وكأن هدر دمائهم في دورهم . . . لغط القبيل على خوان زياد قال بعض الخطباء : العجب من ذي جدةٍ منعمٍ عليه يطوي جاره جوعاً وقراً ، وأفرخه شعثٌ جردٌ من الريش ، وهو مبطانٌ محتشٍ من حلوه وحامضه ، مكتنٌ في كنه ودفئه ، مزينٌ له شهوةٌ عن أداء الذي عليه لجاره وقريبه وذي حلةٍ بطرٍ رفةٍ كيف يأمن سلباً مفاجئاً ؟ أما لو وجه بعض فضله إلى ذي حاجةٍ إليه كان مستديماً لما أولى ، مستزيداً مما أوتي . قال الشاعر : وإذا تأمل شخص ضيفٍ مقبلٍ . . . متسربلٍ سربال محلٍ أغبر أوما إلى الكوماء هذا طارقٌ . . . نحرتني الأعداء إن لم تنحري وفي هذه الأبيات ما يستحسن : كم قد ولدتم من كريمٍ ماجدٍ . . . دامي الأظافر أو غمامٍ ممطر سدكت أنامله ققائم مرهفٍ . . . وبنشر عائدةٍ وذروة منبر يلقي السيوف بوجهه وبنحره . . . ويقيم هامته مقام المغفرويقول للطرف : اصطبر لشبا القنا . . . فعقرت ركن المجد إن لم تعقر وقال آخر : وقال وقدم كشكية . . . فكل شبعاً إنها في النهايه تطفي المرار وتنفي الخمار . . . وما بعدها في النهايات غايه ولا تتوقع أخيراً بحبك . . . ففي أول المستطاب الكفايه وقال آخر : كأنما فوه إذا تمددا . . . للقم أخلاق جرابٍ أسودا كأنه مخترصٌ بد جودا . . . جاني جرادٍ في وعاء مقلدا وصاحبٍ صاحبت غير أبعدا . . . تراه بين الحربتين مسندا الحربة : الغرارة . وقال جابر بن قبيصة : ما رأيت أحلم جليساً ، ولا أفضل رفيقاً ، ولا أشبه سريرةً بعلانية ، من زياد . وقال جابر أيضاً : شهدت قوماً ورأيتهم بعيني ، فما رأيت أقرأ لكتاب الله ، ولا أفقه في دين الله ، من عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وما رأيت رجلاً أعطى من صلب ماله في غير ولائه ، من طلحة بن عبيد الله . وما رأيت رجلاً أسود من معاوية . وما رأيت رجلاً أنصع ظرفاً ، ولا أحضر جواباً ، ولا أكثر صواباً ، من عمرو بن العاص . وما رأيت رجلاً المعرفة عنده أنفع منها عند غيره ، من المغيرة بن شعبة .ويقال : ما كان الطعام مريئاً ولقد مرأ ، وما كان الرجل مريئاً وقد مرؤ . وقال لنا القطان أبو منصور رئيس أهل قزوين : الرجل من أرض أردبيل إذا دخل بلداً يسأل فيقول : كيف الخبز والمبرز ، ولا يسأل عن غيرهما . فقيل له : لم ذلك ؟ فقال : يأخذ الخبز والمبرز ويأكل ويسلح إلى الصباح . قال الشاعر : وما تنسنا الأيام لا ننس جوعنا . . . بدار بني بدر وطول التلدد ظللنا كأنا بينهم أهل مأتمٍ . . . على ميتٍ مستودعٍ بطن ملحد يحدث بعضٌ بعضنا عن مصابه . . . ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد وقال آخر : دعوني فإني قد تغديت آنفاً . . . فإن مس كفي خبزكم فاقطعوا يدي وقال آخر يصف دار قوم : الجوع داخلها واللوح خارجها . . . وليس يقربها خبزٌ ولا ماء قال الهلالي : أتى رجلٌ أبا هريرة فقال : إني كنت صائماً فدخلت بيت أبي فوجدت طعاماً ، فنسيت فأكلت . قال : الله أطعمك . قال : ثم دخلت بيتاً آخر فوجدت أهله قد حلبوا لقحتهم فسقوني ، فنسيت فشربت . فقال : يا بني هون عليك فإنك قلما اعتدت الصيام . وقال الشاعر : وجدت وعدك زوراً في مزورةٍ . . . ذكرت مبتدئاً إحكام طاهيها فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها . . . ولا علت كف ملق كفه فيهافاحبس رسولك عني أن يجىء بها . . . فقد حبست رسولي عن تقاضيها قال مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه : قدمنا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقلنا : يا رسول الله ، أنت سيدنا ، وأنت أطولنا علينا طولاً ، وأنت الجفنة الغراء . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله ' . وقال آخر : وأحمر مبيض الزجاج كأنه . . . رداء عروسٍ مشربٌ بخلوق له في الحشا برد الوصال وطعمه . . . وإن كان يلقاه بلون حريق كأن بياض اللوز في جنباته . . . كواكب درٍ في سماء عقيق قال يونس : أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام ، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً . حكى يونس : أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام ، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً . حكى يونس : التنافيط ، أن ينزع شعر الجلد ثم يلقى في النار ثم يؤكل ، وذلك في الجدب . وقال الشاعر : جاورت شيبان فاحلولي جوارهم . . . إن الكرام خيار الناس للجار وكتب ابن دينار إلى صديق له : وكتبت تفضلاً منك تعتذر من تأخرك عن قضاء حق زيارتي بقصور يديك عن برٍ يشبهني ويشبهك ؛ فأما ما يشبهني في هذا الوقت فرغيفٌ وسكرجة كامخٍ حريف يثقب اللسان بحرافته . وكان ابن أبي البغل إذا أنشد :أروني من يقوم لكم مقامي يقول : لو شهدت قائله لقلت : كلب الحارس يقوم مقامك . هذه قصةٌ في حضور ما يشبهني ، فأما ما يشبهك فمتعذر كما قيل : ومطلب مثلي إن أردت عسير وقال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان : ما أعددت في كنانتي سهماً غيرك . فقال : لا تعدني في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها ، ولو جلست فيها لخرقتها . ولئن انتظرت بي ما يشبهك طال الانتظار ، والعامة تتمثل - على خساسة لفظها - : ' إذا أردت ألا تزوج ابنتك فغال بمهرها ' . وأملي فيك على الأحوال بعيد ، وظني فيك جميل ، ولست أخشى فيما لي عندك الفوت فأعجله ، وهل يلقم الكلب إلا الحجر . العرب تقول : لئيمٌ جبان . وقال أعرابي : لا يكن بطن أحدكم عليه مغرماً ، ليكسره بالتميرة والكسيرة والبقيلة والعليكة . قال ابن الأعرابي : الفرزدق ، الرغيف الواسع . قيل لابن القرية : تكلم . فقال : لا أحب الخبز إلا يابساً . أراد لا أحب أن أتكلم إلا بعد الارتثاء . وروى أبو عبيدة في تفسير بيت الأعشى في ديوانه : إذا ما هم جلسوا بالعشي . . . فأحلام عادٍ وأيدي هضمقال : شبههم بأنسال عاد ، وهم ثمانية ذوو أحلامٍ وسؤدد : مالك - وهو سيد الثمانية - وعمار وطفيل ، وشمر ، وقرزعة ، وحممة ، ونئض ، ودفيف ؛ وهم الذين بعث لقمان بن عادٍ جاريةً بعسٍ من لبن ، فقال لها : ايتي الحي فادفعيه إلى سيدهم لا تسألي عنه . فأتت الجارية الحي ، فرأتهم مختلفين بين عاملٍ ولاعب ، وثمانيةً على رءوسهم الطير وقاراً ؛ ورأت جاريةً من الحي ، فأخبرتها بما قال لقمان ؛ قالت : هؤلاء سادة الحي ، وسأصف لك كل واحدٍ منهم ، فادفعي العس إلى من شئت . أما هذا فعمار ، أخاذٌ ودار ، لا تخمد له نار ، المعشبات عقار ' المعشبة : التي تسمن على شحمٍ قديم ' ، وأما هذا فحممة ، غداؤه كل يوم ناقةٌ سنمة ، وبقرةٌ شحمة ، ورشاةٌ كدمة . وأما هذا فقرزعة ، إذا لقي جائعاً أشبعه ، وإذا لقي قرناً جعجعه وقد خاب جيشٌ لا يغزو معه . وأما هذا فطفيل ، غضبه حين يغضب ويل ، ورضاه حين يرضى سيل ، ولم تحمل مثله على ظهرها إبلٌ ولا خيل ، وأما هذا فشمر ، ليس في أهله بالشحيح للقتر ، ولا المسرف البطر ، ولا يخدع الحي إذا اؤتمر . وأما هذا فدفيف ، قاري الضيف ، ومغمد السيف ، ومعيل الشتاء والصيف وأما هذا فنئضٌ ، أسنت الحي فمرض ، فعدل مرضه عندهم إسناتهم ، أي قحطهم ، فقاموا عليه فأوسعهم دقيقاً ولحماً غريضاً ، ومسكاً رميضاً ، وكساهم ثياباً بيضاً ؛ وأماهذا فما لك ، حاميتنا إذا غزونا ، ولطعم ولداننا إذا شتونا ، ودافع كل كريهةٍ إذا عدت علينا . فدفعت العس إلى مالكٍ ، فكان سيدهم . بشرت امرأةٌ زوجها بأن ابنها منه قد اتغر ، فقال : أتبشرينني بعدو الخبز ؛ اذهبي إلى أهلك . قال الشاعر : من يشتري مني أبا زين . . . بكر بن نطاحٍ بفلسين كأنما الآكل من خبزه . . . يقلع منه شحمة العين وأنشد غليم من بني دبير : يابن الكرام حسباً ونائلا . . . حقاً أقول لا أقول باطلا إليك أشكو الدهر والزلازلا . . . وكل عامٍ نقح الحمائلا التنقيح : القشر ، أي قشروا حمائل سيوفهم فباعوها لشدة زمانهم . وأنشد : سلا أم عبادٍ إذا الريح أعصفت . . . وجلل أطراف الرعان قتامها وجفت بقايا الطرق إلا نضيةً . . . يصد الأشافي والمواسي سنامها وضم إلي الليل منزل رفقةٍ . . . ترامت بهم طخياء داجٍ ظلامهاتكاد الصبا تهتزهم من ثيابهم . . . شديداً بأرياط الرجال اعتصامها لقد علمت أني مفيدٌ ومتلفٌ . . . ومطعم أيامٍ يحب طعامها وقال آخر : إن بني غاضرة الكراما . . . إن يقم الضيف بهم أعواما يكن قراه اللحم والسناما . . . أو يصبح الدهر لهم غلاما يكن ظريفاً وجهه كراما وقال سماعة بن أشول : رأت إبلاً لابني عبيدٍ تمنعت . . . من الحق لم تورك بحقٍ إيالها فقالت ألاببألا تغدو لقاحك هكذا . . . فقلت أبت ضيفانها وعيالها فما حلبت إلا الثلاثة والثنى . . . ولا قيلت إلا قريباً مقالها وأنشد أبو الجراح : أرى الخلان قد صرموا وصالي . . . وأضحوا لا سلام ولا كلام وما أذنبت من ذنبٍ إليهم . . . سوى خف المنائح والسوام وقال آخر : خرقٌ إذا وقع المطي من الوجا . . . لم يطو دون دقيقه ذو المزود حتى تؤوب به قليلا . . . . . . . حمد الرفيق نداك أو لم يحمدوقال آخر : تزودت إذ أقبلت نحوك غادياً . . . إليك ونحو الناس لا أتزود أراني إذا ما جئت أطلب نائلاً . . . نظرت إلى وجهي كأنك أرمد ويقال : أزواد الركب من قريشٍ أبو أمية بن المغيرة ، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، ومسافر بن أبي عمرو بن أيمة عم عقبة كانوا إذا سافروا خرج معهم الناس فلم يتخذوا زاداً ، ولم يوقدوا ناراً كانو يكفونهم . وقال الشاعر : وبالبدو جودٌ لا يزال كأنه . . . ركامٌ بأطراف الإكام يمور وقال آخر : والناس إن شبعت بطونهم . . . فغيرهم من ذاك لا يشبع وقال آخر : دورٌ تحاكي الجنان حسناً . . . لكن سكانها خساس متى أرى الجند ساكنيها . . . وفي دهاليزها يداس وقال آخر : لولا مخافة ضعفي عن ذوي رحمي . . . وحال معتصمٍ بي من ذوي عدموحاجة الأخ تبدو لي فأنجحها . . . لم أثن في عملٍ كفي على قلمي وقال آخر : وأوثر ضيفي حين لا يوجد القرى . . . بقوتي أحبوه وأرقد طاويا وما استكثرت نفسي لباذل وجهه . . . نوالاً وإن كان النوال حياتيا وقال المبرد : البطن : الذي لا يهمه إلا بطنه . والرغيب : الشديد الأكل . والمنهوم : الذي تمتلىء بطنه ولا تنتهي نفسه . وأنشد ابن الأعرابي : وإن قرى أهل النباج أرانبٌ . . . وإن جاء بعد الريث فهو قليل إذا صد مثغورٌ وأعرض معرضٌ . . . فيومٌ على أهل النباج طويل وقال آخر : يمينك فيها الخصب والناس جوعٌ . . . وقد شملتهم حرجفٌ ودبور وقال آخر : ألقت قوائمها خساً وترنمت . . . طرباً كما يترنم السكران يعني قدراً . وقوائمها ، يعني الأثافي . وخسا : فرد . وأنشد : بئس عذاب العزب المرموع . . . حوأبةٌ تنقض بالضلوعالرماع : داء . وحوأبة : دلوٌ كبيرة . والحوب والحوب : الإثم . والحيبة : الحال . والحوباء : النفس . العرب تقول : ماءٌ لا تبن معه ولا غيره . خبزٌ قفار : لا أدم معه . وسويقٌ جافٌ هو الذي لم يلت بسمنٍ ولا زيتٍ . وحنظلٌ مبسل ، وهو أن يؤكل وحده . قال الراجز : بئس الطعام الحنظل المبسل . . . ياجع منه كبدي وأكسل ويبجع أيضاً . وقال أبو الجراح : المبسل يحرق الكبد . والمبكل : أن يؤكل بتمرٍ أو غيره ، يقال بكلوه لنا ، أي اخلطوه . قال : وعندنا طعامٌ يقال له : الخولع وهو أن يؤخذ الحنظل فينقع مراتٍ حتى تخرج مرارته ، ثم يخلط معه تمرٌ ودقيق فيكون طعاماً طيباً . وقال : الخليطة والنخيسة والقطيبة : أن يحلب ابن الضأن على لبن المعزى ، والمعزى على لبن الضأن ، أو حلب النوق على لبن الغنم . قال : اسقني وابرد غليلي ملىء الرجل : سمن بعد هزال . قيل لطفيل العرائس : كم اثنين في اثنين ؟ قال : أربعة أرغفة . وقيل له : حكي أن العرب تقول نحن العرب أقرى الناس للضيف ، فقال : إنهذا النصب على المدح . وقال العماني : من كل جلفٍ لم يكن مرما . . . جعدٍ يرى منه التصنع ريثما لم يتجشأ من طعامٍ بشما . . . . . . . . . . ولم يبت من قترةٍ موصماً . . . يغمز صدغيه ويشكو الأعظما إذا جاع بطنه تحزما . . . لم يشرب الماء ولم يخش الظما يكفيه من قارضةٍ ما يمما وخلةٍ منه إذا ما أعيما . . . أصاب منه مشرباً ومطعما لا يعقر الشارف إلا محرما . . . ولا يعاف بصلاً وسلجما يوماً ولم يفغر لبطيخٍ فما . . . فهو صحيحٌ لا يخاف سقما أسود كالمحراث يدعي شجعما . . . صمحمحٌ من طول ما تأثمالم يبل يوماً سورةً من العمى . . . ولم يحج المسجد المكرما ولم يزر حطيمه وزمزما . . . ولا تراه يطلب التفهما لو لم يرب مسلماً ما أسلما . . . ما عبد اثنان جميعاً صنما عاتٍ يرى ضرب الرجال مغنما . . . إذا رأى مصدقاً تجهما وهز في الكف وأبدى المعصما . . . هراوتين نبعةً وسلما يترك ما رام رفاتاً رمما . . . وإن رأى إمرةً تزعما لم يعطه شيئاً وإن تزعما . . . وإن قرا عهداً له منمنما هان عليه شق ما قد رقما . . . وأن يدق طينه المختما صمصامه ماضٍ إذا ما صمما . . . إذا اعترته عزةٌ ثم انتمى في ثروة الحي إذا ما يمما . . . ظل يرى حكماً عليه مبرما أن يظلم الناس وألا يظلما وقال آخر : ما كان ينكر في ندى مجاشعٍ . . . أكل الخزير ولا ارتضاع الفيشل وقال آخر :بلادٌ كأن الجوع يطلب أهلها . . . بذحلٍ إذا ما الضيف صرت جنادبه وقال آخر : كرية لا يطعم الكريا . . . بالليل إلا جرجراً مقليا محترقاً نصفاً ونصفاً نيا وقال الأصمعي : قال الهيثم بن جراد - وذم قوماً - : والله ما أنتم آل فلاةٍ فتعصمكم ، ولا أنتم آل ريفٍ فتأكلون . فقيل : لو زدت ؟ فقال : ما بعد هذا شيء . قال : وما أشبه هذا الجواب بقول عقيل بن علفة حين قيل له : لم لا تطيل الهجاء ؟ قال : يكفيك من القلادة ما أحاط العنق . وقيل لابن عمر : لو دعوت الله بدعوات ؟ فقال : اللهم عافنا وارحمنا وارزقنا . فقيل له : لو زدتنا ؟ فقال : نعوذ باله من الإسهاب . قال شاعر : إذا أغلق الباب الكريم من القرى . . . فليس على باب الفرزدق حاجب فتىً يشتري حسن الثناء بماله . . . إذا اغبر من برد الشتاء الكواكب قال : وكل لحمٍ وخبزٍ أنضج دفيناً فهو مليل ، وما كان في تنور فهو شواء ؛ وما كان في قدرٍ فهو حميل .قال الأحنف لعمر بن الخطاب : إن إخواننا من أهل الكوفة والشام نزلوا في مقلة الجمل وحولاء الناقة من أنهارٍ متفجرة ، وثمارٍ متدلية ، ونزلنا بسبخةٍ نشاشة يأتينا ماءنا في مثل حلقوم النعامة أو مرىء الحمل ، فإما أن تشق لنا نهراً ، وإما أن ترفعنا إليك . قال جابر : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم ، والفقراء باتخاذ الدجاج . والعرب تقول : أكرموا الإبل إلا في بيتٍ يبنى ، أو دمٍ يفدى ، أو عزبٍ يتزوج ، أو حمل حمالة . وقال معاوية لأعرابي : ما تجارتك ؟ قال : أبيع الإبل ، قال : أما علمت أن أفواهها حرب ، وجلودها جرب ، وبعرها حطب ، وتأكل الذهب . وقال خالد بن صفوان : الإبل للبعد ، والبغال للثقل ، والبراذين للجمال والدعة ، والحمير للحوائج ، والخيل للكر والفر . وقال آخر : يقذفن في الأعناق والغلاصم . . . قذف الجلاميد بكف الراجم يريد بالأعناق الحلوق .وقال آخر : نغار إذا ما الروع أبدى عن البرى . . . ونقرى عبيط اللحم والماء جامس وقال آخر : تلك المكارم لا ناقٌ مصرمةٌ . . . ترعى الفلاة ولا قعبٌ من اللبن وقال أبو الصلت : تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ . . . شيباً بماءٍ فعادا بعد أبوالا ووصف بعض البلغاء التجار فقال : لا يوجد الأدب إلا عند الخاصة والسلطان ومدبريه ، وأما أصحاب الأسواق فإنا لا نعدم من أحدهم خلقاً دقيقاً وديناً رقيقاً ، وحرصاً مسرفاً ، وأدباً مختلفاً ، ودناءة معلومة ، ومروءة معدومة وإلغاء اللفيف ، ومجاذبةً على الطفيف ، يبلغ أحدهم غاية المدح والذم في علقٍ واحد في يوم واحد مع رجل واحد ، إذا اشتراه منه أو باعه إياه ، إن بايعك مرابحةً وخبر بالأثمان ، قوي الأيمان على البهتان ، وإن قلدته الوزن أعنت لسان الميزان ، ليأخذ برجحانٍ أو يعطى بنقصان ؛ وإن كان لك قبله حقٌ لواه محتجاً في ذلك بسنة السوفيين ، يرضى لك ما لا يرضى لنفسه ، ويأخذ منك بنقدٍ ويعطيك بغيره ، ولا يرى أن عليه من الحق في المبايعة مثل ما له ؛ إن استنصحته غشك ، وإنسألته كذبك ، وإن صدقته حربك متمردهم صاعقةٌ على المعاملين ، وصاحب سمتهم نقمةٌ على المسترسلين ؛ قد تعاطوا المنكر حتى عرف ، وتناكروا المعروف حتى نسي ، يتمسكون من الملة بما أصلح البضائع ، وينهون عنها كلما عادت بالوضائع ؛ يسر أحدهم بحيلةٍ يرزقها لسلعةٍ ينفقها ، وغيلةٍ لمسلمٍ يحميه الإسلام ، فإذا أحكم حيلته وغيلته غدا قادراً على حرده ، فغر وضر ، وآب إلى منزله بحطام قد جمعه مغتبطاً بما أباح من دينه وانتهك من حرمة أخيه ، يعد الذي كان منه حذقاً بالتكسب ، ورفقاً بالمطلب ، وعلماً بالتجارة وتقدماً في الصناعة . فلما بلغت قراءتي هذا الموضع قال الوزير : إن كان هذا الواصف عنى العامة بهذا القول فقد دخل في وصفه الخاصة أيضاً ، فوالله ما أسمع ولا أرى هذه الأخلاق إلا شائعة في أصناف الناس من الجند والكتاب والتناء والصالحين وأهل العلم ؛ لقد حال الزمان إلى أمرٍ لا يأتي عليه النعت ، ولا تستوعبه الأخبار ، وما عجبي إلا من الزيادة على مر الساعات ، ولو وقف لعله كان يرجى بعض ما قد وقع اليأس منه ؛ واعترض القنوط دونه . فقال ابن زرعة وكان حاضراً : هذا لأن الزمان من قبل كان ذا لبوس من الدين رائع ، وذا يدٍ من السياسة بسيطة ، فأخلق اللبوس وبلي ، بل تمزق وفني ، وضعفت اليد بل شلت وقطعت ، ولا سبيل إلى سياسة دينية لأسبابٍ لا تتفق إلا بعلل فلكية ، وأمور سماوية ، فحينئذ يكون انقياد الأمور الجانحة لها ، في مقابلة حران الأمور الجامحة عنها ، وذلك منتظر في وقته ، وتمنى ذلك قبل إبانه وسواس النفس ، وخور الطباع ، والناس أهدافٌ لأغراض الزمان ومقلبون بحوادث الدهور ، ولا فكاك لهم من المكاره ، ولا اعتلاق لهم بالمحاب إلا بالدواعي والصوارف التي لا سبيل لهم إلى تحويل هذه إلى هذه ، ولا إلى تبديل هذه بهذه ، واختيارهم للتوجه إلى محبوبهم أو الإعراض عن مكروههم ضعيفٌ طفيف ، ولولاذلك لكانت الحسرات تزول في وقت ما يراد ، والغبطة تملك بإدراك ما يتمنى ، وهذا شأوٌ محكومٌ به بقوة النفس ، غير مستيقظٍ إليه بقوة الحس . فقال الوزير : أحسنت يا أبا عليٍ في هذا الوصف ، وإن نفثك ليدل على أكثر من ذلك ، ولو كان البال ظافراً بنعمة ، والصدر فارغاً من كربة ، لكنا نبلغ من هذا الحديث مبلغاً نشفي به غليلنا قائلين ونشفي به مستمعين ، ولكني قاعدٌ معكم وكأني غائب ، بل أنا غائبٌ من غير كاف التشبيه ، والله ما أملك تصرفي ولا فكري في أمري ، أرى واحداً في فتل حبل ، وآخر في حفر بئر ، وآخر في نصب فخ ، وآخر في تمزيق عرض ، وآخر في اختلاق كذب ، وآخر في صدع ملتئم ، وآخر في عقد ، وآخر في نفث سحر ، وناري مع صاحبي رماد ، وريحه على عاصفة ، ونسيمي بيني وبينه سموم ، ونصيبي منه هموم وغموم ، وإني أحدثكم بشيء تعلمون به صدقي في شكواي ، وتقفون منه على تفسخي تحت بلواي ، ولولا أني أطفىء بالحديث لهباً قد تضرم صدري به ناراً ، واحتشى فؤادي منه أواراً ؛ لما تحدثت به ، ولو استطعت طيه لما نبست بحرفٍ منه ، ولكن كتماني للحديث أنقب لحجاب القلب من العتلة لسور القصر . دخلت منذ أيام فوصلت إلى المجلس ، فقال لي قد أعدت الخلعة فالبسها على الطائر الأسعد ، فقلت أفعل ، وفي تذكرتي أشياء لابد من ذكرها وعرضها . فقال : هات ، فقلت : يتقدم بكذا وكذا ، ويفعل كذا وكذا . فقال : عندي جميعذلك ، أمض هذا كله ، واصنع فيه ما ترى ، وما فوق يدك يد ، ولا عليك لأحدٍ اعتراض ؛ فانقلبت عن المجلس إلى زاويةٍ في الحجرة ، وفيها تحدرت دموعي ، وعلا شهيقي ، وتوالى نشيجي ، حتى كدت أفتضح فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي ، فقال : ما هذا ؟ الناس وقوفٌ ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون ، وأنت في نوحٍ وندم ؟ فقلت : تنح عني ساعةً حتى أطفىء نار صدري ، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة ، فأمضاها كلها ، ولم يناظرني في شيء منها ، ولا زادني شيئاً فيها ، ولا ناظرني عليها ، ولعلي قد بلوته بها ، وأخفيت مغزاي في ضمنها ، فخيل إلي بهذه الحال أن غيري يقف موقفي ، فيقول في قولاً مزخرفاً ، وينسب إلي أمراً مؤلفاً ، فيمضي ذلك أيضاً له كما أمضاه لي ، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء ، أو كقابضٍ في جوٍ على قطعةٍ من هواء ؛ أو كمن ينفخ في غير فحم ، أو يلعب في قيد ، ولقد صدق الأول حيث قال : وإن امرأً دنياه اكبر همه . . . لمستمسكٌ منها بحبل غرور غير أني أذكر لكم ما عن لي من هذا الأمر . اعلموا أني ظننت أن مانظمه الماضي - رحمه الله - وأصلحه ، وبناه وقومه ، ونسجه ونوقه لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة ؛ وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج ، وتستمر على ذلك السياج ، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة ، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة فنجمع بين علو المرتبة ، وشرف الرياسة ، ونيل اللذة ، وإدراك السرور ، واصطناع العرف ، وكسب الثناء ، ونشر الذكر ، وبعد الصيت ، فعادذلك كله بالضد ، وحال إلى الخلاف ، ووقف على الفكر المضني ، والخوف المقلق ، واليأس الحي ، والرجاء الميت ؛ وما أحسن ما قال القائل : أظمتني الدنيا فلما جئتها . . . مستسقياً مطرت علي مصائبا فقال له ابن زرعة : إن الأمور كلها بيد الله ، ولا يستنجز الخير إلا منه ، ولا يستدفع الشر إلا به ، فسله جميل الصنع وحسن النية وانو الخير ، وبث الإحسان ، وكل أعداءك إلى ربك الذي إذا عرف صدقك وتوكلك عليه فلل حدهم ، وغفر خدهم ، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها ، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها ، وشغلهم بأنفسهم ، وخالف بين كلمتهم ، وصدع شمل جميعهم ، وردهم إليك صاغرين ضارعين ، وعرضهم عليك خاضعين ، وما ذلك على الله بعزيز ، وإن الله مع المحسنين على المسيئين . قال : والله لقد وجدت روحاً كثيراً بما قلت لكم وما سمعت منكم ، وأرجو أن الله يعين المظلوم ، ويهين الظالم . قد تمطى الليل ، وتغورت النجوم ، وحن البدن إلى الترفه ؛ فإذا شئتم . فانصرفنا متعجبين .
الليلة الثالثة والثلاثون
عدنا إلى ما كنا فيه من حديث الممالحة - وكان قد استزادني - فكتبت له هذه الورقات وقرأتها بين يديه ، فقال كلاماً كثيراً عند كل ما مر مما يكون صلة لذلك الحديث ، خزلته طلباً للتخفيف . قال حماد الراوية : عن قتادة قال زيادٌ لغيلان بن خرشة : أحب أن تحدثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها لنحمد الله على النعمة التي أصبحنا بها . فقال غيلان : حدثني عمي قال : توالت على العرب سنون سبعٌ في الجاهلية حصت كل شيء ، فخرجت علىبكرٍ لي في العرب ، فمكثت سبعاً لا أذوق فيهن شيئاً غلا ما ينال بعيري من حشرات الأرض حتى دنوت إلى حواء عظيم ، فإذا ببيتٍ جحيشٍ عن الحي ، فملت إليه ، فخرجت إلي امرأةٌ طوالة حسانة ، فقالت : من ؟ قلت : طارق ليلٍ يلتمس القرى . فقالت : لو كان عندنا شيءٌ آثرناك به ، والدال على الخير كفاعله ، جس هذه البيوت فانظر إلى أعظمها ، فإن يك في شيء منها خيرٌ ففيه . ففعلت حتى دنوت إليه ، فرحب بي صاحبه وقال : من ؟ قلت : طارق ليلٍ يلتمس القرى . فقال : يا فلان ، فأجابه ، فقال : هل عندك من طعام ؟ قال : لا ، قال : فوالله ما وقر في أذني شيءٌ كان أشد علي منه . فقال : هل عندك من شراب ؟ قال : لا ، ثم تأوه وقال : قد أبقينا في ضرع فلانة شيئاً لطارقٍ إن طرق ، قال : فأت به ، فأتى العطن فابتعثها ، فحدثني عمي أنه شهد فتح أصفهان وتستر ومهرجان قذق وكور الأهواز وفارس ، وجاهد عند السلطان وكثر ماله وولده ، قال : فما سمعت شيئاً قط كان ألذ إلي من شخب تلك الناقة في تلك العلبة ، حتى إذا ملأها ففاضت من جوانبها وارتفعت عليها رغوةٌ كجمة الشيخ أقبل بها نحوي فعثر بعودٍ أو حجر ، فسقطت العلبة من يده ، فحدثني أنه أصيب بأبيه وأمه وولده وأهل بيته ، فما أصيب بمصيبة أعظم عليه من ذهاب العلبة ؛ فلما رآني كذلك رب البيت خرج شاهراً سيفه ، فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناماً ، على ظهرها مثل رأس الرجل الصعل ، فكشف عن فوهته ثم أوقد ناراً ، واجتب سنامها ، ودفع إلي مدية وقال : يا عبد الله ،اصطل واجتمل فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار ، فإذا بلغت إناها أكلتها ، ثم مسحت ما في يدي من إهالتها على جلدي ، وكان قد قحل على عظمي حتى كأنه شنٌ ، ثم شربت ماءً وخررت مغشياً علي ، فما أفقت إلى السحر . فقطع زيادٌ الحديث وقال : لا عليك أن تخبرنا بأكثر من هذا ، فمن المنزول به . قلت : عامر بن الطفيل . قال : أبو علي ؟ قلت : أبو علي . واستعادني الوزير أداه الله علوه هذا الحديث مرتين وأكثر المتعجب ، وقال : صدق القائل في العرب : منعوا الطعام وأعطوا الكلام . تغدى أبو العيناء عند ابن مكرم ، فقدم إليه عرافاً ، فلما جسه قال : قدركم هذه قد طبخت بشطرنج ؟ . وقدم إليه يوماً قدراً فوجدها كثيرة العظام ، فقال : هذه قدرٌ أم قبر ؟ وأكل عنده أبو العيناء يوماً ، فسقي ثلاث شربات باردة ، ثم طلب الرابعة فسقي شربةً حارة ، فقال : لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع . قال سلمة : بقي أبو المقام ببغداد وكنا نأتيه ونسمع منه ، فجاءنا بجفنة فيها جواذب فجعل أصحابنا يأكلون ، ثم أتاهم بسفودٍ فيه يرابيع فسلتها في الجفنة ، فعلم القوم أنهم قد دهوا ، فجعلوا يستقيئون ما أكلوا .وقالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله ، لي جارتان بأيتهما أبدأ ؟ قال : ' بأدناهما باباً منك ' . وقال حكيم : ينبغي ألا يعطى البخيل أكثر من قوته ، ليحكم عليه بمثل ما حكم به على نفسه . وقال الشاعر : أفلح من كانت له قوصرة . . . يأكل منها كل يومٍ مره أفلح من كانت له مزخه . . . يزخها ثم ينام الفخه أفلح من كانت له دوخله . . . يأكل منها كل يومٍ مله أفلح من كانت له هرشفه . . . ونشفةٌ يملأ منها كفه أفلح من كانت له كرديده . . . يأكل منها وهو ثانٍ جيده وقال أبو فرعون الشاشي يخاطب الحجاج : يا خير ركبٍ سلكوا طريقا . . . ويمموا مكة والعقيقا وأطعموا ذا الكعك والسويقا . . . والخشكنان اليابس الرقيقا وقال آخر : رأيت الجوع يطرده رغيفٌ . . . وملء الكف من ماء الفرات وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ' . قبل مزبدٌ جاريةًبخراء ، فقال لها : أظنك تعشيت بكرش ، أو احتشيت صحناً ؛ فقالت : ما أكلت إلا خردلاً . قال : قد ذهب النصف الثاني وبقي ما قبله . قال شاعر : وباتوا يعشون القطيعاء ضيفهم . . . وعندهم البرني في جللٍ دسمٍ وقال آخر : وما أطعمونا الأوتكي من سماحةٍ . . . ولا منعوا البرني إلا من البخل سمعت الحجاجي يقول : كل الخبز أو السمك ، فإن أكل أحدهما كان مطيعاً ؛ فإذا نفيت فقلت : لا تأكل الخبز والسمك ؛ فإن أكل أحدهما لم يعصك ؛ وإذا قلت : لا تأكل الخبز أو السمك ، لم يكن له أن يأكل أحدهما لأن التقدير في النفي لا تأكل أحدهما ، والتقدير في الإيجاب ائت أيهما شئت ؛ فهذه خاصية أو . السويق : الجشيش ، لأنه رض وكسر . المجشة : رحى صغيرةٌ يجش بها . وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى الشبرم عند أسماء بنت عميس فقال : حارٌ حارٌ ، وأمر بالسنا . ويقال : أكل البطيخ مجفرة ، أي يقطع ماء النكاح . ويقال : فلانٌ عظيم المجرأش أي الوسط ، فرسٌ مجرئش الجنبين واجرأشت الإبل ،إذا بطنت ، وإبلق مجرئشة أي بطان ؛ ويقال : كثأة قدركم ، وهي ما ارتفع منها عند الغلي . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه ابن عباس قال : سمعته يقول : ' ليس بمؤمنٍ من بات شبعان ريان وجاره جائعٌ طاوٍ ' . قال عمر : مدمن اللحم كمدمن الخمر . وقال لقيط بن زرارة يذم أصحابه يوم جبلة : إن الشواء والنشيل والرغف . . . والقينة الحسناء والكأس الأنف للضاربين الهام . . . والخيل قطف قيل لدبٍ : لم تفقر رجلاً في ليلةٍ من كثرة ما تأكل من عنبه ؟ فقال : لا تلمني ، فإن بين يدي أربعة أشهرٍ أنجحر فيها فلا أتلمظ إلا بالهواء . قال ابن الأعرابي : إذا أقدح الرجل مرةً بعد مرةٍ فأطعم لحمه المساكين سمي متمماً ، وبه سمي ابن نويرة ، ومن ذلك قول النابغة : إني أتمم أيساري وأمنحهم . . . مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما الثرتم من فتات الطعام ، ويقال الترتم أيضاً ما فضل من الطعام في الإناء ، ويقال : طعامٌ ذو نزل . والمليح والملح : السمن ، يقال : تملحت الجارية وتجملت إذا سمنت .وقال أبو الطمحان القيني : وإني لأرجو ملحها في بطونكم . . . وما كشطت من جلد اشعث اغبرا هكذا سمعت . ويقال : سمن حتى كأنه خرس ، والخرس : الدن بعينه . وفي المثل : إن آخر الخرس لدردى أي آخر الدن دردى . وأنشد : حبذا الصيف حبذا من أوان . . . وزمانٍ يفوق كل زمان زمن الخمر والمساور والجش . . . ن وورد الخلاف والريحان زمنٌ كانت المضائر فيه . . . بلحوم الجداء والحملان وصدور الدجاج بالخل والمرى . . . ونثر السذاب والأنجذان وسمانٌ من الفراريج تغلي . . . بعصير الأعناب والرمان وشوا الوزة اللذيذة والقا . . . رص بين الحليب والألبان ونقي السويق بالسكر المن . . . خول في الثلج في الزجاج اليماني وقلالٌ تحط من بكراتٍ . . . مروياتٌ غلائل العطشان واعترض حديث العلم ، فأنشد ابن عبيدٍ الكاتب لسابقٍ الزبيري قوله : العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه . . . كما يجلى سواد الظلمة القمر وقال أيضاً :إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ . . . أسأت إجابةً وأسأت فهما آخر : العلم ينعش أقواماً فينقعهم . . . كالغيث يدرك عيداناً فيحييها فقال الوزير : عندي في صحيفة حفظ الصبا : العلم سراجٌ يجلي الظلمة ، وضياءٌ يكشف العمى . التذلل مكروهٌ إلا في استفادته ، والحرص مذمومٌ إلا في طلبه ، والحسد منهيٌ عنه إلا عليه . ثم عاد الحديث إلى الممالحة : حدثني مطهر بن أحمد الكاتب عن ابن قرارة العطار قال : اجتمع ذات يومٍ عندي على المائدة أبو علي بن مقلة وأبو عبد الله اليزيدي ، وكان ابن مقلة يفضل الهريسة ، وكان اليزيدي يفضل الجوذابة ، وكان كل واحد منهما يصف النوع الذي يقول به ويؤثره ، فقال اليزيدي : الهريسة طعام السوقيين والسفلة ، وليست الجوذابة بهذه الصفة ؛ فقال لي ابن مقلة : ما اسم الجوذابة بالفارسية ؟ فقلت جوزاب ، فقال : ضم الكاف . وفهمت ما أراد ، فقلت : نسأل الله العافية ، والله لقد عافتها نفسي ، وسكت اليزيدي . قال يزيد بن ربيع : الكبا بطعام الصعاليك ، والماء والملح طعام الأعراب ، والهرائس والرءوس طعام السلاطين ، والشواء طعام الدعار ، والخل والزيت طعام أمثالنا . وحدثني ابن ضبعون الصوفي قال : قال لي أبو عمر الشاري صاحب الخليفة : انهض بنا حتى نتغدى ، فإن عندي مصوصاً وهلاماً وبقية مطجنة ، وشيئاً من الباذنجان البوراني البائت المخر . قلت : هذه كلها تزايين المائدة ، فأين الأدم ؟ كان عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بكثر أكل الجوذاب ولا يؤثر عليه شيئاً ،وكان يقول : يشد العضدين ، ويقوي الساعدين ، ويجلو الناظرين ، ويزيد في سمع الأذنين ، ويحمر الوجنتين ، ويزيد في المني ، وهو طعام شهي ، فأي شيء بقي ؟ وبلغ المنصور وصفه هذا ، فقال : بحقٍ ما وصفه ، ولا نقبل أكله . وقال وكيع بن الجراح : التمتين على المائدة خيرٌ من زيادة لونين ، وكمال المائدة كثرة الخبز ، والسميذ الأبيض أحلى من الأصفر . وكان يحيى بن أكثر يحب الجوذاب ، فبلغه أن رجلاً ممن يحضر عنده يعيب الجوذاب ، فقال يحيى : إن ثبت عندي هذا توقفت عن شهادته ، وحكمت عليه بضعف الحس وقلة التمييز ، فبلغ الرجل ذلك ، فاحترس ، فقال له يحيى يوماً : ما قولك في الجوذاب ؟ فقال : أشرف مأكلٍ وأطيبه ، سهل المدخل ، لذيذ المطعم ، جيد الغذا ، قليل الأذى . قال : أصبت ، هكذا أريدك . أبو صالحٍ عن ابن عباس قال : ما من داخلٍ إلا وله حيرةٌ ، فابدءوه بالسلام ، وما من مدعو إلا وله حشمة ، فابدءوه باليمين . قال حمدان : قلت لجاريةٍ اردت شراءها - وكانت ناعمة البدن رطبةً شطبة غضة بضة - : ما كان غذاؤك عند مولاك ؟ قالت : المبطن . قلت : وما المبطن ؟ قالت : الأرز الريان من اللبن ، بالفالوذج الريان من العسل ، والخبيصة الريانة من الدهن والسكر والزعفران . قلت : حق لك . وقال ابن الجصاص الصوفي : دخلت على أحمد بن روحٍ الاهوازي فقال : ما تقول في صحفة أرزٍ مطبوخ ، فيها نهرٌ من سمن ، على حافاتها كثبانٌ من السكر المنخول ، فدمعت عيني . فقال : مالك ؟ قلت : أبكي شوقاً إليه ، جعلنا الله وإياك من الواردين عليه بالغواصةوالردادتين . فقال لي : ما الغواصة والردادتان ؟ قلت : الغواصة الإبهام ، والردادتان : السبابة والوسطى . فقال : أحسنت ، بارك الله عليك . شكا رجلٌ إلى عمر الجوع فقال : أكذك وأنت تنث نث الحميت ؟ أي ترشح كما يرشح الزق . وقال ابن سكرة : أطمعني في خروفكم خرفي . . . فجئت مستعجلاً ولم أقف وجئت أرجو أطرافه فغدت . . . في طرفٍ والسماك في طرف وحذروني من ذكر رزته . . . يا حر صدري لها ويا لهفي عاينته والذي يفصله . . . والقلب مني على شفا جرف ما حل بي منك عند منصرفي . . . ما كنت إلا فريسة التلف ويقال : القانع غنيٌ وإن جاع وعري ، والحريص فقير وإن ملك الدنيا . قيل لإبراهيم الخليل - عليه السلام - : بأي شيء اتخذك الله خليلاً ؟ قال : بأني ما خيرت بين أمرين إلا اخترت الذي لله ، وما اهتممت لما تكفل لي به ، وما تغديت وما تعشيت إلا مع ضيف . واعترض حديثٌ فقال : أنشدني بيتي ابن غسان البصري في حديث بختيار ، يعني عز الدولة ، فأنشدته : أقام على الأهواز ستين ليلةً . . . يدبر أمر الملك حتى تدمرا يدبر أمراً كان أوله عمىً . . . وأوسطه ثكلاً وآخره خرا فقال : ما أعجب الأمور التي تأتي بها لدهور عد إلى قراءتك ، فعدت وقرأت . روي في الحديث : لا تأكلوا ذروة الثربد ، فإن البركة فيها . وقال أعرابي : اللبن أحد اللحمين ، وملك العجين أحدالريعين ، والمرقة أحد اللحمين ، والبلاغة أحد السبفين والتمني أحد السكرين . أراد مزبد أضحيةً فلم يجدها ، فأخذ ديكاً ليضحي به ، فوجه إليه جيرانه شاةً شاةً حتى اجتمع عنده سبع شياه ، فقال ديكي أفضل عند الله من إسحاق لأنه فدي بكبش ، وديكي بسبعة . الكتل : اللحم ، والعيمة : شهوة اللبن ، والقرم : شهوة اللحم . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من أحب أن يرق قلبه فليكثر من أكل البلس ' . قيل : هو التين . وقال أعرابي : يمن علي بالتزويج شيخي . . . وفي التزويج لي همٌ وشغل وكنت من الهموم رخي بال . . . فحل من الهموم علي ثقل فقلت له : مننت بغير منٍ . . . ومالك بالذي اسديت فضل أعزاب العشيرة لو علمتم . . . بحالي حين لي بيتٌ وأهل علمتم أنكم في حال عيشٍ . . . رخيٍ ماله يا قوم عدل قال إسحاق الموصلي : أملي بعض الفقهاء بالكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كره السمر إلا في الفقه ، يريد كثرة السمر إلا في الفقه . قيل لميسرة الرأس : ما أكثر ما أكلت ؟ قال : مائة رغيفٍ بكيلجة ملح ؛ فقيل هذا أكلك في بيتك ؟ قال : آكل في بيتي رغيفين ، وأحتشي إلى الليل فشل الخيل . تناول الفضل بن العباس تفاحةً فأكلها ، فقيل : ويحك ، تأكل التحيات ؟ فقال : والصلوات والطيبات . يقال : الطعمة : الكسب . ويقال : جئت بالطعمة . والطعم : الطعام : والطعم : الذوق .وهذه الأرض طعمةٌ لك وطعمة . قال إسحاق : كنت يوماً عند أحمد بن يوسف الكاتب ، فدخل أحمد بن أبي خالد الكاتب ونحن في الغناء ، فقال : والله ما أجد شيئاً مما أنتم فيه . قال إسحاق : فهان علي وخف في عيني ، فقلت له كالمستهزىء به ، جعلت فداك ، قصدت إلى أرق شيء خلقه الله وألينه على الأذن والقلب ، وأظهره للسرور والفرح ، وأنفاه للهم والحزن ، وما ليس للجوارح منه مؤونةٌ غليظة ، وإنما يقرع السمع وهو منه على مسافة ، فتطرب له النفس ، فذممته ؟ ولكنه كان يقال : لا يجتمع في رجل شهوة كل لذة ، وبعد ، فإن شهوة كل رجلٍ على قدر تركيبه ومزاجه . قال : أجل ، أما أنا فالطعام الرقيق أعجب إلي من الغناء . فقلت : إي والله ولحم البقر والجواميس والتيوس الجبلية بالبازنجان المبزر أيضاً تقدمه ؟ فقال : الغناء مختلفٌ فيه ، وقد كرهه قوم . قلت فالمختلف فيه أطلقه لنا حتى تجمعوا على تحريمه ، أعلمت - جعلت فداك - أن الأوائل كانت تقول : من سمع الغناء على حقيقته مات . فقال : اللهم لا تسمعناه على الحقيقة إذاً فنموت . فاستظرفته في هذه اللفظة ، وقدموا إليه الطعام فشغل عن ذم الغناء . قال سعيد بن أبي عروة : نزل الحجاج في طريق مكة ، فقال لحاجبه : انظر أعرابياً يتغدى معي ، وأسأله عن بعض الأمر ، فنظر الحاجب إلى أعرابيٍ بين شملتين ، فقال : أجب الأمير ، فأتاه ، فقال له الحجاج : إذن فتغد معي . فقال : إنه دعاني من هو أولى منك فأجبته . قال : ومن هو ؟ قال : الله عز وجل دعاني إلى الصوم فصمت ، قال : أفي هذا اليوم الحار ؟ قال : نعم ، صمته ليومٍ هو أشد منه حراً . قال : فأفطر وصم غداً . قال : إن ضمنت لي البقاء إلى غد . قال : ليس ذلك إلي . قال : فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه ؟ قال : إنه طعام طيب . قال : إنك لم تطيبه ولا الخباز ؛ ولكن العافية طيبته ، ولم يفطر ، وخرج من عنده . قال أعرابي : هذا الطعام مطيبةٌ للنفس ، محسنةٌ للجسم .قال أبو حاتم : حدثنا الأصمعي قال : قال أبو طفيلة الحرمازي : قال أعرابيٌ : ضفت رجلاً فأتاني بخبزٍ من برٍ كأنه مناقير النغران ، وأتانا بتمرٍ كأعناق الورلان ، يوحل فيه الضرس . وقال آخر : ونظر إلى رجلٍ يأكل بالعين والفم واليد والرأس والرجل : لو سألته عن اسمه لما ذكره ، ولو طلع ولده الغائب عليه ما عرفه : يلعب بالخمسة في قصعةٍ . . . لعب أخي الشطرنج بالشاه قال ابن الأعرابي : كان المحسن الضبي شرهاً على الطعام ، وكان دميماً ، فقال له زياد ذات يوم : كم عيالك ؟ قال : تسع بنات . . قال : فأين هن منك . فقال : أنا أحسن منهن وهن آكل مني ؛ فضحك . وقال : جاز ما سألت لهن . وأمر له بأربعة آلاف درهم فقال : إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم . . . فناد زياداً أو أخاً لزياد يجبك امرؤٌ يعطي على الحمد ماله . . . إذا ضن بالمعروف كل جواد وقال سنان بن أبي حارثة : ثمة أطعم زادي غير مدخرٍ . . . أهل المحلة من جارٍ ومن جادي قد يعلم القوم إذ طال اغترابهم . . . وأرملوا الزاد أني منفدٌ زادي وقال السفاح بن بكر : والمالىء الشيزي لأضيافه . . . كأنها أعضاد حوضٍ بقاعلا يخرج الأضياف من بيته . . . إلا وهم منه رواءٌ شباع أورد أعرابيٌ إبله ، فأبى أهل الماء أن يجيزوه ، وقالوا : إبلك كثيرة ، فإن أوردت فشرطٌ أن تقف بعيداً عن الماء وتسقي ما جاءك منها ، ولا تحاجز بها ؛ قال : أفعل ، وأنشأ يقول : رب طبيخ مرجلٍ ملهوج . . . يسلته القوم ولما ينضج حش بشيء من ضرام العرفج فانقضت الإبل كلها على الماء فشربت . قال الشاعر : شرب النبيذ على الطعام قليلة . . . فيه الشفاء وصحة الأبدان وإذا شربت كثيره فكثيره . . . مزج عليك ركائب الشيطان فتكون بين الضاحكين كبومةٍ . . . عمياء بين جماعة الغربان فاحذر بجهدك أن ترى كجنيبةٍ . . . بعد العشاء تقاد بالأرسان قال حمزة المصنف في بعض كتبه : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لسلمان الفارسي : أن اتخذ لنا سوراً ، أي طعاماً كطعام الوليمة ، وهي فارسية . قال شيخنا أبو سعيد السيرافي : أخطأ هذا المتأول ، وإنما أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أن سلمان اتخذ لنا خندقاً يوم الأحزاب ، لأنه حض على ذلك ، وليس ذا من ذاك إلا باللفظ . وقال جعيفر ان الموسوس في وصف عصيدة : وماء عصيدة حمراء تحكي . . . إذا أبصرتها ماء الخلوق تزل عن اللهاة تمر سهلاً . . . وتجري في العظام وفي العروق قال الحسن بن سهل : أشياء تذهب هباء ، دينٌ بلا عقل ، ومالٌ بلا بذل وعشقٌ بلاوصل . فقال حميد : بقي عليه مائدةٌ بلا نقل ، ولحسةٌ بلا فضل . قيل لصوفي : ما حد الشبع ؟ قال : الموت . وقيل لآخر : ما حد الشبع ؟ قال آكل حتى يقع علي السبات فأنام على وجهي ، وتتجافى أطرافي عن الأرض . وقيل لآخر : ما حد الشبع ؟ قال : أن أدخل إصبعي في حلقي فيصل إلى الطعام . قال يعقوب : أصبحت خالفاً : لا أشتهي الطعام . وخلوف البطن تغيره . ويقال : مغسني بطني ، وهو المغس ، ورجل ممغوس . ويقال : غمزني بطني وملكني . والعامة تقول : كل ما في القدر تخرجه المغرفة ، ورجل مقرضبٌ وقراضب وقرضاب إذا كان أكولاً ، وكذلك السيف واللص ، قال الشاعر : وليس يرد النفس عن شهواتها . . . من القوم إلا كل ماضي العزائم ومر ابن عامرٍ على عامر بن عبد القيس وهو يأكل بقلاً بملح ، فقال : لقد رضيت باليسير . فقال : أرضي مني باليسير من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة . قال عبد الملك بن مروان : لا تستاكن إلا عرضاً ، ولا تأكلن إلا عضاً ولا تشربن إلا مصاً ، ولا تركبن إلا نصاً ، ولا تعقدن إلا وصاً . ويقال : ماءٌ قراح ؛ وخبزٌ قفار : لا أدم معه ، وسويقٌ جافٌ ، ولبنٌ صريح : لم يخالطه شيء . وقال سعيد بن سلمة : شيئان لا تشبع منهما ببغداد : السمك والرطب . قال أعرابي : أكلت فرسكة وعلى خوخة ، فجاء غلام حزورٌ فنظر حرني .الفرسكة : الخوخة المقددة . والخوخة : القميص الأخضر بطن بفروٍ . والحرة : الأذن . قيل لحاتم الأصم : بم رزقت الحكمة ؟ قال : بخلاوة البطن ، وسخاوة النفس ، ومكابدة الليل . وقال شقيق البلخي : العبادة حرفة ، وحانوتها الخلوة ، وآلتها الجوع . قال لقمان : إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقعدت الأعضاء عن العبادة . وقال عمر : لولا القيامة لشاركناكم في لين عشيكم . وقال بعض العرب : أقلل طعامك تحمد منامك . قال يحيى بن معاد : الشبع يكنى بالكفر . وقال غيره : الجوع يكنى بالرحمة . وقال أعرابي : تحيز مني خيفةً أن أضيفها . . . كما انحازت الأفعى مخافة ضارب وذكر المهلب اللحم فقال إذا التقى الوارد والغابر فتوقع الفساد .
الليلة الرابعة والثلاثون
وقال الوزير في بعض الليالي : قد والله ضاق صدري بالغيظ لما يبلغني عن العامة من خوضها في حديثنا ، وذكرها أمورنا ، وتتبعها لأسرارنا ، وتنقيرها عن مكنون أحوالنا ، ومكتوم شأننا ، وما أدري ما أصنع بها ، وإني لأهم في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنةٍ وأيدٍ وأرجلٍ وتنكيلٍ شديدٍ ، لعل ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادة ، ويقطع هذه العادة ، لحاهمالله ، ما لهم لا يقبلون على شؤونهم المهمة ، ومعايشهم النافعة ، وفرائضهم الواجبة ؟ ولم ينقبون عما ليس لهم ، ويرجفون بما لا يجدي عليهم ، ولو حققوا ما يقولون ما كان لهم فيه عائدةٌ ولا فائدة ؛ وإني لأعجب من لهجهم وشغفهم بهذا الخلق حتى كأنه من الفرائض المحتومة ، والوظائف الملزومة ؛ وقد تكرر منا الزجر ، وشاع الوعيد ، وفشا الإنكار بين الصغار والكبار ، ولقد تعايى علي هذا الأمر وأغلق دوني بابه ، وتكاثف علي حجابه ، والله المستعان . فقلت : أيها الوزير ، عندي في هذا جوابان : أحدهما ما سمعت من شيخنا أبي سليمان ، وهو من تفوق في الفضل والحكمة والتجربة ومحبة هذه الدولة والشفقة عليها من كل هبة ودبة ؛ والآخر مما سمعته من شيخ صوفيٍ ، والجوابين فائدتان عظيمتان ، ولكن الجملة خشناء ، وفيها بعض الغلظة ، والحق مر ، ومن توخى الحق احتمل مرارته . قال : فاذكر الجوابين وإن كانا غليظين ، فليس ينتفع بالدواء إلا بالصبر على بشاعته ، وصدود الطبع عن كراهته . قلت : أما أبو سليمان ، فإنه قال في هذه الأيام : ليس ينبغي لمن كان الله عز وجل جعله سائس الناس : عامتهم وخاصتهم ، وعالمهم وجاهلهم ، وضعيفهم وقويهم ، وراجحهم وشائلهم ، أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة ، منها : أن عقله فوق عقولهم ، وحلمه أفضل من حلومهم ، وصبره أتم من صبرهم ؛ ومنها أنهم إنما جعلوا تحت قدرته ، ونيطوا بتدبيره ، واختبروا بتصريفهم على أمره ونهيه ، ليقوم بحق الله تعالى فيهم ، ويصبر على جهل جاهلهم ، ويكون عماد حاله معهم الرفق بهم ، والقيام بمصالحهم ، ومنها أن العلاقة التي بين السلطان وبين الرعية قوية ، لأنها إلهيةٌ ، وهي أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد ، والملك والدٌ كبير ، كما أن الوالد ملكٌ صغير ، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرفق به ، والحنو عليه ، والرقة له ، واجتلاب المنفعة إليه ، أكثر مما يجب على الولد في طاعة والده ، وذلك أن الولد غرٌ ، وقريب العهد بالكون ، وجاهلٌبالحال ، وعارٍ من التجربة ، كذلك الرعية الشبيهة بالولد ، وكذلك الملك الشبيه بالوالد ؛ ومما يزيد هذا المعنى كشفاً ، ويكسبه لطفاً ، أن الملك لا يكون ملكاً إلا بالرعية ، كما أن الرعية لا تكون رعيةً إلا بالملك ، وهذا من الأحوال المتضايفة ، والأسماء المتناصفة ؛ وبسبب هذه العلاقة المحكمة والوصلة الوشيجة ، ما لهجت العامة بتعرف حال سائسها ، والناظر في أمرها ، والمالك لزمامها ، حتى تكون على بيانٍ من رفاهة عيشها ، وطيب حياتها ، ودرور مواردها ، بالأمن الفاشي بينها ، والعدل الفائض عليها ، والخير المجلوب إليها ، وهذا أمرٌ جارٍ على نظام الطبيعة ، ومندوبٌ إليه أيضاً في أحكام الشريعة . قال : ولو قالت الرعية لسلطانها : لم لا نخوض في حديثك ، ولا نبحث عن غيب أمرك ، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك ؟ ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك ، ومصالحنا متعلقةٌ بك ، وخيراتنا متوقعةٌ من جهتك ، ومسرتنا ملحوظةٌ بتدبيرك ، ومساءتنا مصروفة باهتماك ، وتظلمنا مرفوعٌ بعزك ، ورفاهيتنا حاصلةٌ بحسن نظرك وجميل اعتقادك ، وشائع رحمتك ، وبليغ اجتهادك ، ما كان جواب سلطانها وسائسها ؟ أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبةٌ في دعواها التي بها استطالت ، بلى والله ، الحق معترفٌ به وإن شغب الشاغب ، وأعنت المعنت . قال : ولو قالت الرعية أيضاً : ولم لا تبحث عن أمرك ؟ ولم لا تسمع كل غثٍ وسمين منا وقد ملكت نواصينا ، وسكنت ديارنا ، وصادرتنا على أموالنا ، وحلت بيننا وبين ضياعنا ، وقاسمتنا مواريثنا ، وأنسيتنا رفاغة العيش ، وطيب الحياة ، وطمأنينة القلب ، فطرقنا مخوفة ، ومساكننا منزولة ، وضياعنا مقطعة ، ونعمنا مسلوبة ، وحريمنا مستباح ، ونقدنا زائف ، وخراجنا مضاعف ، ومعاملتنا سيئة ، وجندينا متغطرس ، وشرطينا منحرف ، ومساجدنا خربة ، ووفوفها منتهبة ، ومارستاناتنا خاوية ، وأعداؤنا مستكلبة ، وعيوننا سخينة ، وصدورنا مغيظة ، وبليتنا متصلة ، وفرحنا معدوم ؛ ما كان الجواب أيضاً عما قالت وعما لم تقل ، هيبةً لك ، وخوفاً على أنفسها من سطوتك وصولتك ؟وحكى لنا في عرض هذا الكلام أنه رفع إلى الخليفة المعتضد أن طائفةً من الناس يجتمعون بباب الطاق ويجلسون في دكان شيخ تبان ، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنونٍ من الأحاديث ، وفيهم قومٌ سراة وتناء وأهل بيوتاتٍ سوى من يسترق السمع منهم من خاصة الناس ، وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم ، فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعاً ، وحرج صدراً ، وامتلأ غيظاً ، ودعا بعبيد الله بن سليمان ، ورمى بالرفيعة إليه ، وقال : انظر فيها وتفهمها . ففعل ، وشاهد من تربد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره ، وشرد آلف صبره ، وقال : قد فهمت يا أمير المؤمنين . قال : فما الدواء ؟ قال : تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم ، فإن العقوبة إذا اختلفت ، كان الهول أشد ، والهيبة أفشا ، والزجر أنجع ، والعامة أخوف . فقال المعتضد - وكان أعقل من الوزير - : والله لقد بردت لهيب غضبي بفورتك هذه ، ونقلتني إلى اللين بعد الغلظة ، وحططت علي الرفق ، من حيث أشرت بالخرق ، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك ، ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكف عن الجهل ، وتبعثني على الحلم ، وتحبب إلى الصفح وترغبني في فضلٍ الإغضاء على هذه الأشياء . وقد ساءني جهلك بحدود العقاب وبما تقابل به هذه الجرائر ، وبما يكون كفأً للذنوب ، ولقد عصيت الله بهذا الرأي ودللت على قسوة القلب وقلة الرحمة ويبس الطينة ورقة الديانة ، أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها ؟ وأن الله يسائله عنها كيف سستها ؟ ولعله لا يسألها عنه ، وإن سألها فليؤكد الحجة عليه منها ؛ ألا تدري أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلمٍ لحقه أو لحق جاره ، وداهيةٍ نالته أو نالت صاحباً له ؟ وكيف نقول لهم : كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم ، غير خائضين في حديثنا ، ولا سائلين عن أمرنا ، والعرب تقول في كلامها : غلبنا السلطان فلبس فروتنا ، وأكلخضرتنا ، وحنق المملوك على المالك معروف ، وإنما يحتمل السيد على صروف تكاليفه ، ومكاره تصاريفه ، إذا كان العيش في كنفه رافعاً ، والأمل فيه قوياً ، والصدر عليه بارداً ، والقلب معه ساكناً ، أتظن أن العمل بالجهل ينفع ، والعذر به يسع ، لا والله ما الرأي ما رأيت ، ولا الصواب ما ذكرت ، وجه صاحبك وليكن ذا خبرةٍ ورفق ، ومعروفاً بخيرٍ وصدقٍ ، حتى يعرف حال هذه الطائفة ، ويقف على شأن كل واحدٍ منها في معاشه ، وقدر ما هو متقلبٌ فيه ومنقلبٌ إليه ، فمن كان منهم يصلح للعمل فعلقه به ، ومن كان سيىء الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله ، ويفيده طمأنينة باله ؛ ومن لم يكن من هذا الرهط ، وهو غنيٌ مكفيٌ ، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبان البطر والزهو ، فادع به ، وانصحه ، ولاطفه ، وقل له : إن لفظك مسموع ، وكلامك مرفوع ؛ ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلا في عرضة المقابر ، فاستأنف لنفسك سيرةً تسلم بها من سلطانك ، وتحمد عليها عند إخوانك ، وإياك أن تجعل نفسك عظةً لغيرك بعدما كان غيرك عظةً لك ؛ ولولا أن الأخذ بالجزيرة الأولى مخالفٌ للسيرة المثلى ، لكان هذا الذي تسمعه ما تراه ، وما تراه تود أنك لو سمعته قبل أن تراه . فإنك يا عبيد الله إذا فعلت ذلك فقد بالغت في العقوبة ، وملكت طرفي المصلحة ، وقمت على سواء السياسة ، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة . قال : وفارق الوزير حضرة الخليفة ، وعمل بما أمر به على الوجه اللطيف ، فعادت الحال ترف بالسلامة العامة ، والعافية التامة ؛ فتقدم إلى الشيخ التبان برفع حال من يقعد عنده حتى يواسي إن كان محتاجاً ، ويصرف إن كان متعطلاً ، وينصح إن كان متعقلاً . فقال الوزير : ما سمعت مثل هذا قط ، وما ظننت أن الخطب في مثل هذا يبلغ هذا القدر ؛ فهات الجواب الآخر الذي حفظته عن الصوفي . فقلت : إن كان هذا كافياً فإن ذلك فضل . فقال : هكذا هو ، وإن فيما مر لكفاية ، وما يزيد على الكفاية ، ولكن الزيادة من العلمداعيةٌ إلى الزيادة من العمل ، والزيادة من العمل جالبة الانتفاع بالعلم ، والانتفاع بالعلم دليلٌ على سعادة الإنسان ، وسعادة الإنسان مقسومةٌ على اقتباس العلم والتماس العمل ، حتى يكون بأحدهما زارعاً ، وبالآخر حاصداً ، وبأحدهما تاجراً ، وبالآخر رابحاً . فوصلت الحديث وقلت : حدثني شيخ من الصوفية في هذه الأيام قال : كنت بنيسابور سنة سبعين وثلثمائة ، وقد اشتعلت خراسان بالفتنة ، وتبلبلت دولة آل سامان بالجور وطول المدة ، فلجأ محمد بن إبراهيم صاحب الجيش إلى قايين ، وهي حصنه ومعقله ، وورد أبو العباس صاحب جيش آل سامان نيسابور بعدةٍ عظيمة ، وعدةٍ عميمة ، وزينةٍ فاخرة ، وهيئةٍ باهرة ، وغلا السعر ، وأخيفت السبل ، وكثر الإرجاف ، وساءت الظنون ، وضجت العامة ، والتمس الرأي ، وانقطع الأمل ، ونبح كلبٌ كلبٌ من كل زاوية ، وزأر كل أسد من كل أجمة ، وضج كل ثعلبٍ من كل تلعة . قال : وكنا جماعةً غرباء نأوي إلى دويرة الصوفية لا نبرحها ، فتارةً نقرأ ، وتارةً نصلي ، وتارةً ننام ، وتارةً نهذي ، والجوع يعمل عمله ، ويخوض في حديث آل سامان ، والوارد من جهتهم إلى هذا المكان ، ولا قدرة لنا على السياحة لانسداد الطرق ، وتخطف الناس للناس ، وشمول الخوف ، وغلبة الرعب ، وكان البلد يتقد ناراً بالسؤال والتعرف والإرجاف بالصدق والكذب ، وما يقال بالهوى والعصبية ؛ فضاقت صدورنا ، وخبثت سرائرنا واستولى علينا الوسواس ، وقلنا ليلةً : ما ترون يا صحابنا ما دفعنا إليه من هذه الأحوال الكريهة ، كأنا والله أصحاب نعمٍ وأرباب ضياعٍ نخاف عليها الغارة والنهب ، وما علينا من ولاية زيدٍ وعزل عمرو ، وهلاك بكر ، ونجاة بشر ، نحن قوم قد رضينا في هذه الدنيا العسيرة ، ولهذه الحياة القصيرة ، بكسرةٍ يابسة ، وخرقةٍ بالية ، وزاويةٍ من المسجد مع العافية من بلايا طلاب الدنيا . فما هذا الذي يعترينا من هذه الأحاديث التي ليس لنا فيها ناقةٌ ولا جمل ، ولا حظٌ ولا أمل ، قوموا بنا غداً حتى نزور أبا زكرياء الزاهد ، ونظل نهارناعنده لاهين عما نحن فيه ، ساكنين معه ، مقتدين به ؛ فاتفق رأينا على ذلك ، فغدونا وصرنا إلى أبي زكرياء الزاهد ، فلما دخلنا رحب بنا ، وفرح بزيارتنا ، وقال : ما أشوقني إليكم ، وما ألهفني عليكم الحمد لله الذي جمعني وإياكم في مقامٍ واحد ، حدثوني ما الذي سمعتم ، وماذا بلغكم من حديث الناس ، وأمر هؤلاءؤ السلاطين ؟ فرجوا عني ؛ وقولوا لي ما عندكم ، فلا تكتموني شيئاً فمالي والله مرعىً في هذه الأيام إلا ما اتصل بحديثهم ، واقترن بخبرهم ، فلما ورد علينا من هذا الزاهد العابد ما ورد ، دهشنا واستوحشنا ، وقلنا في أنفسنا انظروا من أي شيء هربنا ، وبأي شيء علقنا ، وبأي داهيةٍ دهينا . قال : فخففنا الحديث وانسللنا ، فلما خرجنا قلنا : أرأيتم ما بلينا به ، وما وقعنا عليه ؟ ' إن هذا لهو البلاء المبين ' . ميلوا بنا إلى أبي عمرو الزاهد فله فضلٌ وعبادة وعلمٌ وتفردٌ في صومعته حتى نقيم عنده إلى آخر النهار ، فقد نبا بنا المكان الأول ، وبطل قصدنا فيما عزمنا عليه من العمل ، فمشينا إلى أبي عمرو الزاهد واستأذنا ، فأذن لنا ، ووصلنا إليه فسر بحضورنا ، وهش لرؤيتنا ، وابتهج بقصدنا ، وأعظم زيارتنا ، ثم قال : يا أصحابنا ما عندكم من حديث الناس ؟ فقد والله طال عطشي إلى شيء أسمعه ، ولم يدخل علي اليوم أحدٌ فأستخبره ، وإن أذني لدى الباب لأسمع قرعة أو أعرف حادثة ، فهاتوا ما معكم وما عندكم ، وقصوا علي القصة بفصها ونصها ، ودعوا التورية والكناية ، واذكروا الغث والثمين ، فإن الحديث هكذا يطيب ، ولولا العظم ما طاب اللحم ، ولولا النوى ما حلا التمر ، ولولا القشر لم يوجد اللب ، فعجبنا من هذا الزاهد الثاني أكثر من عجبنا من الزاهد الأول ، وخاطفناه الحديث ، وودعناه ، وخرجنا ، وأقبل بعضنا على بعضٍ يقول : أرأيتم أظرف من أمرنا وأغرب من شأننا ؟ انظروا من أي شيء كان تعريجنا ' إن هذا لشيءٌ عجاب ' وتلددنا وتبلدنا وقلنا يا أصحابنا : انطلقوا إلى أبي الحسن الضرير ، وإن كان مضربه بعيداًفإنا لا نجد سكوننا إلا معه ، ولا نظفر بضالتنا إلا عنده ، لزهده وعبادته وتوحده وشغله بنفسه مع زمانته في بصره ، وورعه ، وقلة فكره في الدنيا وأهلها ؛ وطوينا الأرض إليه ، ودخلنا عليه ، وجلسنا حواليه في مسجده ، ولما سمع بنا أقبل على كل واحد منا يلمسه بيده ويرحب به ، ويدعو له ويقرب ، فلما انتهى أقبل علينا وقال : أمن السماء نزلتم علي ؟ والله لكأني قد وجدت بكم مأمولي ، وأحرزت غاية سولي ، قولوا لي غير محتشمين : ما عندكم من أحاديث الناس ؟ وما عزم عليه هذا الوارد ؟ وما يقال في أمر ذلك الهارب إلى قايين ، وما الشائع من الأخبار ؟ وما الذي يتهامس به ناس دون ناس ؟ وما يقع في هواجسكم ويستبق إلى نفوسكم ؟ فإنكم برد الآفاق ، وجوالة الأرض ، ولقاطة الكلام ، ويتساقط إليكم من الأقطار ما يتعذر على عظماء الملوك وكبراء الناس : فورد علينا من هذا الإنسان ما أنسى الأول والثاني ، ومما زاد في عجبنا أنا كنا نعده في طبقةٍ فوق طبقات جميع الناس فخففنا الحديث معه ، وودعناه ، وخنسنا من عنده ، وطفقنا نتلاوم على زيارتنا لهؤلاء القوم لما رأينا منهم ، وظهر لنا من حالهم ، وازدريناهم ، وانقلبنا متوجهين إلى دويرتنا التي غدونا منها مستطرقين كالين ، فلقينا في الطريق شيخاً من الحكماء يقال له أبو الحسن العامري ، وله كتابٌ في التصوف قد شحنه بعلمنا وإشارتنا ، وكان من الجوالين الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد ؛ فقال لنا : من أين درجتم ؛ ومن قصدتم . فأجلسناه في مسجد ، وعصبنا حوله ، وفصصنا عليه قصتنا من أولها إلى آخرها ، ولم نحذف منها حرفاً . فقال لنا : في طي هذه الحال الطارئة غيبٌ لا تقفون عليه ، وسرٌ لا تهتدون إليه ، وإنما غركم ظنكم بالزهاد ، وقلتم لا ينبغي أن يكون الخبر عنهم كالخبر عن العامة ، لأنهم الخاصة ، ومن الخاصة خاصة الخاصة ، لأنهم بالله يلوذون ، وإياه يعبدون ، وعليه يتوكلون ، وإليه يرجعون ، ومن أجله يتهالكون ، وبه يتمالكون . العامري ، وله كتابٌ في التصوف قد شحنه بعلمنا وإشارتنا ، وكان من الجوالين الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد ؛ فقال لنا : من أين درجتم ؛ ومن قصدتم . فأجلسناه في مسجد ، وعصبنا حوله ، وفصصنا عليه قصتنا من أولها إلى آخرها ، ولم نحذف منها حرفاً . فقال لنا : في طي هذه الحال الطارئة غيبٌ لا تقفون عليه ، وسرٌ لا تهتدون إليه ، وإنما غركم ظنكم بالزهاد ، وقلتم لا ينبغي أن يكون الخبر عنهم كالخبر عن العامة ، لأنهم الخاصة ، ومن الخاصة خاصة الخاصة ، لأنهم بالله يلوذون ، وإياه يعبدون ، وعليه يتوكلون ، وإليه يرجعون ، ومن أجله يتهالكون ، وبه يتمالكون . قلنا له : فإن رأيت يا معلم الخير أن تكشف عها هذا الغطاء ، وترفع هذا الستر ، وتعرفنا منه ما وهب الله لك من هذا الغيب ، لنكون شاكرين ، نكون من المشكورين . فقال : نعم ، أما العامة فإنها تلهج بحديث كبرائها ساستها لما ترجو من رخاء العيش وطيبالحياة وسعة المال ودرور المنافع واتصال لجلب ونفاق السوق وتضاعف الربح ؛ فأما هذه الطائفة العارفة بالله ، العاملة لله ، فإنها مولعةٌ أيضاً بحديث الأمراء ، والجبابرة العظماء ، لتقف على تصاريف قدرة الله فيهم ، وجريان أحكامه عليهم ، ونفوذ مشيئته في محابهم ومكارههم في حال النغمة عليهم ، والانتقام منهم ، ألا ترونه قال جل ثناؤه : ' حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون ' ، وبهذا الاعتبار يستنبطون خوافي حكمته ، ويطلعون على تتابع نعمته وغرائب نقمته ، وها هنا يعلمون أن كل ملكٍ سوى ملك الله زائل ، وكل نعيمٍ غير نعيم الجنة حائل ، ويصير هذا كله سبباً قوياً لهم في الضرع إلى الله ، واللياذ بالله ، والخشوع له ، والتوكل على الله ، وينبعثون به من حران الإباء ، إلى انقياد الإجابة ، ويتنبهون من رقدة الغفلة ، ويكتحلون باليقظة من سنة السهو والبطالة ، ويجدون في أخذ العتاد ، واكتساب الزاد إلى المعاد ، ويعملون في الخلاص من هذا المكان الحرج بالمكاره ، المحفوف بالزايا ، الذي لم يفلح فيه أحدٌ إلا بعد أن هدمه وثلمه ، وهرب منه ، ورحل عنه إلى محلٍ لا داء فيه ولا غائلة ؛ ساكنه خالد ، ومقيمه مطمئن ، والفائز به منعم ، والواصل إليه مكرم ، وبين الخاصة والعامة في هذه الحال وفي غيرها فرق يضح لمن رفع الله طرفه إليه ، وفتح باب السر فيه عليه ، وقد يتشابه الرجلان في فعل ، وأحدهما مذموم ، والآخر محمود ، وقد رأينا مصلياً إلى القبلة وقلبه معلق بإخلاص العبادة ، وآخر إلى جانبه أيضاً يصلي إلى القبلة وقلبه في طر ما في كم الآخر ، فلا تنظروا من كل شيء إلى ظاهره إلا بعد أن تصلوا بنظركم إلى باطنه ، فإن الباطن إذا واطأ الظاهر كان توحداً ، وإذا خالفه إلى الحق كان وحدةً ، وإذا خالفه إلى الباطل كان ضلالةً ، وهذه المقامات مرتبةٌ لأصحابها ، وموقوفةٌ على أربابها ؛ ليس لغير أهلها فيها نفسٌ ، ولا لغير مستحقها منها قبس . قال الشيخ الصوفي : فوالله ما زال ذلك الحكيم يحشو آذاننا بهذه وما اشبهها ، ويملأ صدورنا بما عنده حتى سررنا وانصرفنا إلى متعشانا وقد استفدنا على يأسٍ منا فائدةً عظيمة لو تمنيناها بالغرم الثقيل والسعي الطويل لكان الربح معنا ، والزيادة في أيدينا . فلما سمع الوزير هذا عجب وقال : لا أدري : أكلام أبي سليمان في ذلك الاحتجاجأبلغ ، أم الحكاية عن المعتضد أشفى ، أم رواية الشيخ الصوفي أطرف ، وما علمت أن في البحث عن سر الإرجاف هذه اللطيفة الخفية ، وهذه الحجة الجلية ، وكنت أرى أن الصوفية لا يرجعون إلى ركنٍ من العلم ، ونصيبٍ من الحكمة ، وأنهم إنما يهذون بما لا يعلمون ، وأن بناء أمرهم على اللعب واللهو والمجون . فقلت : لو جمع كلام أئمتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة عمن نقف عليه في هذه البقاع المتقاربة ، سوى ما عند قومٍ آخرين لا نسمع بهم ، ولا يبلغنا خبرهم . قال : فاذكر لي جماعةً منهم . قلت : الجنيد بن محمد الصوفي البغدادي العالم ، والحارث بن أسد المحاسبي ، ورويم ، وأبو سعيد الخراز ، وعمرو بن عثمان المكي ، وأبو يزيد البسطامي ، والفتح الموصلي ، وهو الذي سمع وهو يقول : إلى متى ترددني في سكك الموصل ، أما آن للحبيب أن يلقى حبيبه ؟ فمات بعد جمعة . فقال : هذا عجب . ولقد مر في هذا الفن ما كان فوق حسباني وأكثر مما كان في ظني ، وكم من شيء حقيرٍ يطلع منه على أمرٍ كبير . وقال : أنشدني شيئاً ؛ فأنشدته قول الشاعر : رجعت على السفيه بفضل حلمي . . . وكان تحلمي عنه لجاما وظن بي السفاه فلم يجدني . . . أسافهه وقلت له : سلاما فقام يجر رجليه ذليلاً . . . وقد كسب المذلة والملاما وفضل الحلم أبلغ في سفيهٍ . . . وأحرى أن ينال به انتقاما فقال : ما أعجب أمر العرب ، تأمر بالحلم مرةً ، والصبر والكظم مرة ، وتحث بعد ذلك على الانتصاف وأخذ الثأر ، وتذم السفه وقمع العدو وهكذا شأنها في جميع الأخلاق ؛ أعني أنها ربما حضت على القناعة والصبر والرضا بالميسور ، وربما خالفت هذا ، فأخذت تذكر أن ذلك فسالةٌ ونقصان همةٍ ولين عريكةٍ ومهانة نفس ؛ وكذلك أيضاًتحث على البسالة والإقدام والانتصار والحمية والجسارة ؛ وربما عدلت إلى أضداد هذه الأخلاق والسجايا والضرائب والأحوال ؛ في أوقاتٍ يحسن فيها بعضها ، ويقبح بعضها ، ويعذر صاحبها في بعضها ، ويلام في بعضها ؛ وذلك لأن الطبائع مختلفة ، والغرائز متعادية ، فهذا يمدح البخل في عرض الحزم ، وهذا يحمد الاقتصاد في جملة الاحتياط ، وهذا يذم الشجاعة في عرض طلب السلامة ؛ وليس في جميع الأخلاق شيءٌ يحسن في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ ، ومع كل إنسان ، بل لكل ذلك وقتٌ وحينٌ وأوان . قال : ولعمري إن القيام بحقائق هذه الأشياء وحدودها صعبٌ ، لأنها لا توجد إلا متلابسةً ومتداخلةً ، وتخليص كل واحدٍ منها بحده وحقيقته ووزنه مما يفوت ذرع الإنسان الضعيف المنة ، المنتثر الطينة . قال : ومنه أن الحكيم قال للإسكندر : أيها الملك أرد حياتك لرجالك ، ولا ترد رجالك لحياتك ؛ ولو قلب عليه قالبٌ فقال : لا ، ولكن أرد رجالك لحياتك ، ولا ترد حياتك لرجالك ، لكان الفضل واقعاً ، والدعوى قائمة . وكان يحكى عن أعرابي حديثٌ مضحكٌ : قيل لأعرابي : أتريد أن تصلب في مصلحة الأمة ؟ فقال : لا ، ولكني أحب أن تصلب الأمة في مصلحتي . قال : وليس يجوز أن يكون الناس مختلفين في ظاهرهم بالصور والحلي حتى يعرف بها زيدٌ من عمرو ، وبكرٌ من خالد ، ولا يختلفون في باطنهم حتى يكون هذا مطبوعاً على الشح وإن مدح الجود ، وهذا مجبولاً على الجبن وإن تشيع للشجاعة ؛ وليس يجوز في الحكمة أن يكثروا ولا يختلفوا ، وليس يجوز أيضاً أن يضم الجنس والنوع ولا يأتفلوا ؛ وكل ما أساغته الحكمة أبرزته القدرة ، وكل ما جادت به القدرة شهدت له الحكمة ؛ فسبحان من له هذا التدبير اللطيف ، وهذا العز الغالب ، وهذا السر الخافي ، وهذه العلانية البادية ، وهذا الفعل المحكم ، وهذا النعت المستعظم .وحكيت أيضاً في شيء جرى ، قال حكماء فارس : قد جربنا الملوك ، فإذا ملكنا السمح الجواد جادت علينا السماء والأرض ، وإذا ملكنا البخيل بخلت علينا السماء والأرض . قال أبو سليمان : هذا إذا صح فهو شاهد الفيض الإلهي المتصل بالملك السمح ، ونضوبه عن الملك البخيل ، لأن الملك إلهٌ بشري . وقال مرةً : ما التمني ؟ - وقد كان جرى ما اقتضى السؤال عنه - . فقلت : أحفظ نصاً لبعض الحكماء : إن التمني فضل حركة النفس . فقال : جوابٌ رشيق وإن كان فقيراً إلى البسط . فقال : هات من حديث يونان شيئاً آخر ، فقلت : أرسطوطاليس : لو كنا نطل العلم لنبلغ غايته كنا قد بدأنا العلم بنقيضه ، ولكنا نطلبه لننقص كل يومٍ من الجهل ، ونزداد كل يومٍ من العلم . قال : حدثني بشيء فيه جوابٌ حاضر ، وللبديهة فيه توقدٌ ظاهر . فحدثت أن رجلاً أتى الزهري فسأله أن يحدثه ويروي له ؛ فأبى عليه ، فقال له الرجل : إن الله لم يأخذ الميثاق على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ الميثاق على العلماء أن يعلموا ؛ فقال : صدقت ، وحدثه . وحدثنا القاضي أبو حامد المروروذي ؛ قال : وقف سائلٌ من هؤلاء الأنكاد علينا في جامع البصرة وفي المجلس ابن عبدلٍ المنصوري ، وابن معروف ، وأبو تمام الزينبي ، فسأل وألح ؛ فقلت له من بين الجماعة - وقد ضجرت من إلحاحه وصفاقة وجهه - : يا هذا : نزلت بوادٍ غير ذي زرع . قال : صدقت ، ولكن يجبى إليه ثمرات كل شيء . فضحكت الجماعة ، ووهبنا له دراهم . ومن الجواب الحاضر المسكت الذي حز الكبد ونقب الفؤاد ما جرى لأبي الحسينالبتي مع الشريف محمد بن عمر ، فإن ابن عمر قال للبتي : أنت والله شمامةٌ ولكنها مسمومة . فقال البتي على النفس : لكنك أيها الشريف شمامةٌ مشمومةٌ ، عطرت الأرض بها ، وسارت البرد بذكرها . وقال نصر بن سيارٍ بخراسان لأعرابي : هل أتخمت قط . قال : أما من طعامك وطعام أبيك فلا . فيقال : إن نصراً حم من هذا الجواب أياماً ؛ وقال : ليتني خرست ولم أفه بسؤال هذا الشيطان . وجرى حديث الذكور والإناث ، فقال الوزير ، قد شرف الله الإناث بتقديم ذكرهن في قوله عز وجل : ' يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ' . فقلت : في هذا نظر ؛ فقال : ما هو : قلت قدم الإناث - كما قلت - ولكن نكر ، وأخر الذكور ولكن عرف ، والتعريف بالتأخير أشرف من النكرة بالتقديم . ثم قال : هذا حسن . قلت : ولم يترك هذا أيضاً حتى قال : ' أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ' فجمع الجنسين بالتنكير مع تقديم الذكران ، فقال : هذا مستوفى . وقال : ما معنى كأسٌ أنف ؟ فكان من الجواب أن يعقوب قال : يقال كأسٌ أنف ، أي لم يشرب منها قبل ذلك ؛ وكذلك يقال : روضةٌ أنف ، إذا لم يكن رعاها أحد . وقال لقيط : إن الشواء والنشيل والرغف . . . والقينة الحسناء والكأس الأنف للطاعنين الخيل . . . والخيل قطف قال : ما النشيل ؟ فإن الشواء والرغف معروفان . قلت : ما ضمته القدر من اللحم وغيره ، لأنه ينشل ويغرف ؛ فقال : هذا بابٌ إن ألححنا عليه جوع . قال : ما تحفظ في حديث الأكل ؟ قلت : الأكل والذم . ومن مليحه ما حضرني . قيل لجميز : ما تشتهي ؟ قال :بسيسٌ مقليٌ بين غليان قدور ، على رائحة شواء ، بجنب خبيص . فضحك - أضحك الله سنه بالفرح والسرور . وانتظام الأحوال واتساق الأمور - . وقال : هات حديثاً نخرج به مما كنا فيه . فقلت : كتب سعد بن أبي وقاص إلى رستم صاحب الأعاجم : إسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ؛ وقتالكم أحب إلينا من صلحكم . فبعث إليه رستم : أنتم كالذباب إذ نظر إلى العسل فقال : من يوصلني إليه بدرهمين ، فإذا نشب فيه قال : من يخرجني منه بأربعة ، وأنت طامع ، والطمع سيرديك . فأجابه سعد : أنتم قومٌ تحادون الله وتعاندون أنفسكم ، لأنكم قد علمتم أن الله يريد أن يحول الملك عنكم إلى غيركم ، وقد أخبركم بذلك حكماؤكم وعلماؤكم ، وتقرر ذلك عندكم ، وأنت دائماً تدفعون القضاء بنحوركم ، وتتلقون عقابه بصدوركم ، هذه جرأةٌ منكم وجهلٌ فيكم ، ولو نظرتم لأبصرتم ، ولو أبصرتم لسلمتم ، فإن الله غالبٌ على أمره ، ولما كان الله معكم كانت علينا ريحكم ، والآن لما صار الله معنا صارت ريحنا عليكم ، فانجوا بأنفسكم ، واغتنموا أرواحكم ، وإلا فاصبروا لحر السلاح وألم الجراح ، وخزي الافتضاح ، والسلام . كتب حذيفة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب قد تغيرت ألوانها ولحومها . فكتب عمر إلى سعد : ارتد للعرب منزلاً مراحاً . فارتاد لهم الكوفة ، وهي بقعةٌ حصباء ، ورملةٌ حمراء ، فقال سعد : اللهم رب السماء وما أظلت ، والأرض وما أقلت ، والريح وما ذرت ، بارك لنا في هذه الكوفة . وسمع عمر منشداً ينشد : ما ساسنا مثلك يابن الخطاب . . . أبر بالأقصى وبالأصحاب بعد النبي صاحب الكتاب فنخسه عمرو وقال : أين أبو بكر ويلك .قال عمر وهو بمكة : لقد كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف ، وكان فظاً يتعبني إذا عملت ، ويضربني إذا قصرت ، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحدٌ ، ثم تمثل : لا شيء مما ترى تبقي بشاشته . . . يبقى الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه . . . والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا ولا سليمان إذ تسري الرياح به . . . والإنس والجن فيما كلفوا عبد أين الملوك التي كانت نوافلها . . . من كل أوبٍ إليها راكبٌ يفد حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كذبٍ . . . لابد من وردنا يوماً كما وردوا وقال عمر : خير الدواب الحديد الفؤاد ، الصحيح الأوتاد . وقال عمر : كانت العرب أسداً في جزيرتها يأكل بعضها بعضاً ، فلما جمعهم الله بمحمد لم يقم لهم شيء . رأى رستم في النوم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ سلاح فارس وختم عليه ودفعه إلى عمر ، فارتاع رستم من ذلك وأيقن أنه هالك . وقال : أنشدني شيئاً ، فأنشدته لبعض آل أبي طالب : ولست بمذعنٍ يوماً مطيعاً . . . إلى من لست آمن أن يجورا ولكني متى ما أخش منه . . . أحالف صارماً عضباً ثؤورا وأنزل كل رابيةٍ براحٍ . . . أكون على الأمير بها أميرا وأنشدني لعبد الله بن الزبير ، ولقد تمثل به : إني لمن نبعةٍ صمٍ مكاسرها . . . إذا تقادحت القصباء والعشرولا ألين لغير الحق أتبعه . . . حتى يلين لضرس الماضغ الحجر وحدثته أن المأمون قال : قليل السفه يمحو كثير الحلم ، وأدنى الانتصار يخرج من فضل الاغتفار ، وعلى طالب المعروف المعذرة عند الامتناع ، والشكر عند الاصطناع ، وعلى المطلوب إليه تعجيل الموعود ، والإسعاف بالموجود . فقال : من أفضل هؤلاء ؟ يعني بني العباس . فكان الجواب أن المنصور أنقدهم ، والمأمون أمجدهم ، والمعتصم أنجدهم ، والمعتضد أقصدهم . فقال : كذلك هو . وقال : فالباقون ؟ قلت ليس فيهم بعد هؤلاء من يوحد بالذكر ، لأنه في نقصه وزيادته مشاكلٌ لغيره . فقال : لله درك .
الليلة الخامسة والثلاثون
وقال ليلةً : ما الفرق بين الإرادة والاختيار ؟ فكان من الجواب أن كل مرادٍ مختار ، وليس كل مختارٍ مراداً ، لأن الإنسان يختار شرب الدواء الكريه وضرب الولد النجيب وهو لا يريد ، ويختار طرح متاعه في البحر إذا ألجىء وهو لا يريد ، وهما وإن كانا انفعالين فأحدهما - وهو الاختيار - لا يحدث إلا عن جولان وتنقيرٍ وتمييز ، والآخر - وهو الإرادة - يفجأ ويبغت وربما حمل على طلب المراد بالكره الشديد ؛ وفي عرض الاختيار سعةٌ للتمكن ، وليس ذلك في عرض الإرادة . والعرب تستعمل الإراغة في موضع الإرادة ، والأول من راغ يروغ ، والثاني من راد يرود ، والهمزة مجتلبةٌ للتعدي . قال : فما الفرق بين المحبة والشهوة ؟ فكان الجواب أن الشهوة ألصق بالطبيعة ، والمحبة أصدر عن النفس الفاضلة ، وهما انفعالان ، إلا أن أحد الانفعالين أشد تأثراً ،وهو انفعال الشهوة ، وأنه يقال : شهي وأشهى ، ويقال في الآخر : حب وأحب ، ويتداخلان كثيراً بالاستعمال ، لأن اللغة جاريةٌ على التوسع ، كما هي جاريةٌ على التضيق ، ومن ناحية التضيق فزع إلى التحديد والتشديد ، ومن ناحية التوسع جري على الاقتدار والاختيار ، وفي عرض هذين بلاءٌ آخر ، لأنه بين الإيجاز والإطناب ، وبين الكناية والتصريح ، وبين الإنجاز والإبطاء . فقال : هذا باب . ثم ناولني رقعةً بخطه فيها مطالب نفيسةٌ تأتي على علمٍ عظيم ، وقال : باحث عنها أبا سليمان وأبا الخير ومن تعلم أن مجاراته فائدةً من عالمٍ كبير ، ومتعلمٍ صغير ، فقد يوجد عند الفقير بعض ما لا يوجد عند الغني ، ولا تحقر أحداً فاه بكلمةٍ من العلم ، أو أطاف بجانبٍ م الحكمة ، أو حكم بحالٍ من الفضل ؛ فالنفوس معادن ، وحصل ذلك كله وحرره في شيء وجئني به ، وكان في الرقعة : ما النفس ؟ وما كمالها ؟ وما الذي استفادت في هذا المكان ؟ وبأي شيء باينت الروح ؟ وما الروح ؟ وما صفته ؟ وما منفعته ؟ وما المانع من أن تكون النفس جسماً أو عرضاً أو هماً ؟ وهل تبقى ؟ وإن كانت تبقى فهل تعلم ما كان الإنسان فيه ها هنا ؟ وما الإنسان ؟ وما حده ؟ وهل الحد هو الحقيقة ، أم بينهما بون ؟ وما الطبيعة ؛ وهلا أغنى الروح عن النفس ، أو هلا أغنت النفس عن الروح ؟ وهلا كفت الطبيعة ؟ وما العقل ؟ وما أنحاؤه ؟ وما صنيعه ؟ وهل يعقل العقل ؟ وهل تتنفس النفس وما مرتبته أعني العقل عند الإله ؟ وهل ينفعل ؟ وهل يفعل ؟ وإن كان ينفعل ويفعل فقسط الفعل فيه أكثر من قسط الانفعال ؟ وما المعاد المشار إليه ؟ أهو للإنسان ؟ أم لنفسه ؟ أم لهما ؟ وما الفرق بين الأنفس ، أعني نفس عمرو وزيدٍ وبكرٍ وخالد ؟ ثم ما الفرق بين أنفس أصناف الحيوان ؟ وهل الملك حيوان ؟فقد علمت أنه يقال له : حيٌ ، وهل فيه حياة ؟ وعلى أي وجهٍ يقال : إن الله عز وجل حيٌ والملك حي والإنسان حي والفرس حي ؟ وهل يقال : الطبيعة حية ، والنفس حية ، العقل حي ؟ فإن هذا وما أشبهه شاغلٌ لقلبي ، وجاثمٌ في صدري ، ومعترضٌ بين نفسي وفكري ؛ وما أحب أن أبوح به لكل أحدٍ ، وقد بينته في هذه الرقعة ، فإن أحببت أن تعرضها على أبي سليمان فافعل ، ولكن لا تدع خطي عنده ، بل انسخه له ، وحصل ما يجيبك به ، ويصدع لك بحقيقته ، ولخصه ، ورنه بلفظك السهل ، وإفصاحك البين ، وإن وجب أن تباحث غيره فافعل ؛ فهذا هذا ؛ وإن كان الرجوع فيه إلى الكتب الموضوعة من أجله كافياً ، فليس ذلك مثل البحث عنه باللسان ، وأخذ الجواب عنه بالبيان ، والكتاب موات ، ونصيب الناظر فيه منزور ، وليس كذلك المذاكرة والمناظرة والمواتاة ، فإن ما ينال من هذه أغض وأطرأ ، وأهنأ وأمرأ ، واجعل هذه الخدمة مقدمةً على كل مهمٍ لك ، فإني ناظرك ، طامعاً في الجواب المقنع الشافي . فعرضتها كما رسم على أبي سليمان وقرأتها عليه ، وتمهلت في إيرادها بحضرته ، فلما فهمها ووقف عليه عجب وقال : هذه مسائل المتحكمين ، وطلبات المدلين ، واقتراحات المقتدرين ، ومنية الأولين والآخرين . قلت : هو كما قلت أيها الشيخ ، ولابد من جوابٍ يعرض عليه يأتي على بعض مآرب النفس ، وإن لم يأت على قاصية ما في المطلوب ، فقال كلاماً كثيراً واسعاً أنا أحكيه على وجهه من طريق المعنى ، وإن انحرفت عن أعيان لفظه ، وأسباب نظمه ، فإن ذلك لم يكن إملاءً ولا نسخاً ، وأجتهد أن ألزم متن المراد ، وسمت المقصود - إن شاء الله - عز وجل . قال : أما قوله : ما النفس ، فإن التحديد يعوز ، والرسم لا يشفي ، والوصف مقصرٌ عن الغاية ، لأنها لايس لها جنسٌ ولا فصل فينشأ الحد بهما ومنهما ؛ والاسم الشائع - أعنيالنفس - أخلص إلى المطلوب ، وأحضر للمقصود من التحديد ، ولهذا ما اختلف الناس قديماً وحديثاً في حدها ؛ فقال قائل : النفس مزاج الأركان . وقال قائل : النفس تألف الأسطقسات ؛ وقال قائل : النفس عرضٌ محركٌ بذاته . وقال قائل : النفس هوائية . وقال قائل : النفس روح حارة . وقال قائل : النفس طبيعةٌ دائمة الحركة . وقال قائل : النفس تمامٌ لجسمٍ طبيعيٍ ذي حياة . وقال قائل : النفس جوهرٌ ليس بجسمٍ محركٌ للبدن . وعلى هذا ؛ ولعل آخرين يقولون في تحديدها ونعتها أقوالاً أخر ، لأن الملحوظ بسيط ، والمدروك بعيد ، والناظرين كثيرون ، والباحثين مختلفون ، والكثرة فاتحة الاختلاف ، والاختلاف جالبٌ للحيرة ، والحيرة خانقةٌ للإنسان ، والإنسان ضعيف الأسر ، محدود الجملة ، محصور التفصيل ، مقصور السعي ، مملوك الأول والآخر ، غشاؤه كثيف ، وباعه قصير ، وفائته أكثر من مدركه ، ودعواه أحضر من برهانه ، وخطؤه أكثر من صوابه ، وسؤاله أظهر من جوابه ، فعلى هذا كله الاعتراف بها - أعني بالنفس وبوجدانها - أسهل من الفحص عن كنهها وبرهانها . قال : وإنما صعب هذا لأن الإنسان يريد أن يرعف النفس وهو لا يعرف النفس إلا بالنفس ، وهو محجوبٌ عن نفسه بنفسه ؛ وإذا كان الأمر على هذا فالأمر أن كل من كانت نفسه أصفى ، ونوره أشع ، ونظره أعلى ، وفكره أثقب ، ولحظه أبعد ، كان من الشك أنجى ، وعن الشبهة أنأى ، وإلى اليقين أقرب ؛ والإنسان ذو أشياء كثيرةٍ ، من جملتها نفسه ، فلكثرة ما هو به كثيرٌ يعجز عن إدراك ما هو به واحدٌ ، أي إنسان ، وكيف لا يكون هذا النعت حقاً ، وهذا المقول صدقاً ، وهو مركبٌ في مربك ، والنفس مبسوطة ، وإنما فيه جزءٌ يسير ونصيبٌ قليل من ذلك البسيط ، فكيف يدرك بجزء منها كلها وبقليل منها جميعها ؛هذا متعذرٌ إن لم يكن محالاً ، وبعيدٌ إن لم يكن معدوماً ؛ ويكفي أن تعلم أن النفس قوةٌ إلهية واسطة بين الطبيعة المصرفة للأسطقسات والعناصر المتهيئة ، وبين العقل المنير لها ، الطالع عليها ، الشائع فيها ، المحيط بها ؛ وكما أن الإنسان ذو طبيعة لآثارهما الظاهرة في بدنه كذلك هو ذو نفس ، لآثارها الظاهرة في آرائه وأبحاثه ، ومطالبه ومآربه ؛ وكذلك هو ذو عقلٍ لتمييزه وتصفحه ، واختباره وفحصه واستنباطه ، ويقينه وشكه ، وعلمه وظنه ، وفهمه ورويته وبديهته وذكره ، وذهنه وحفظه وفكره ، وحكمته وثقته وطمأنينته ؛ وكذلك هو ذو اعترافٍ بالأحد الذي لا سبيل إلى جحده ، والبراء من هويته ، وكيف يجد أثر الجحد ، أو يحس بلمسةٍ من الشك ؟ وسنخه ينبو عن ذلك ، وفطرته تأباه ، ولهذا النبو والإباء يفزع إليه ، ويتوكل عليه ، ويطلب الفرج من عنده ، ويلتمس الخير من لدنه ، فانظر إلى هذه السلسلة الوثيقة التي لا يفصمها شيءٌ لا في زمانٍ ولا في مكانٍ ، ولا في يقظةٍ ولا في منامٍ ؛ فهذا هذا ؟ وفيه مقنع . وأما فعل النفس ، فقد وضح أنه إثارة العلم من مظانه ؛ واستخلاصه من العقل بشهادته ، مع إفاضاتٍ لها أخر ، وإنالاتٍ منها جليلة عند الإنسان ، بها ينال ما يكمل به ، وبكماله يجد السعادة ، وبسعادته ينجو من شقوته . وأما قوله : ما الذي استفادت في هذا المكان ، فإنها أفادت وما استفادت ، إلا أن تجعل إفادتها للقابل منها استفادةً لها ؛ وفي هذا تجوزٌ ظاهر ، ولا يقال للشمس إذا طلعت على بسيط الأرض والعالم : ما الذي استفادت . ولكن يقال : ما الذي أفادت : فيعلم حينئذٍ بالعيان أنها أفادت أشياء كثيرة ، صوراً مختلفة ، ومنافع جمةً بالقصد الأول ؛ وأما القصد الثاني فأضداد هذه ، وهذا القصد مفروضٌ باللفظ ليكون معيناً على تبليغ الحكمة إلى أهلها . وأما قوله : بأي شيء باينت النفس الروح فهو ظاهر ، وذلك أن الروح جسمٌ يضعف ويقوى ، ويصلح ويفسد ، وهو واسطةٌ من البدن والنفس ، وبه تفيض النفس قواها علىالبدن ، وقد يحس ويتحرك ، ويلذ ويتألم ؛ والنفس شيءٌ بسيطٌ عالي الرتبة ، بعيدٌ عن الفساد ، منزه عن الاستحالة . وأما المانع أن تكون النفس جسماً فللبساطة التي وجدت للنفس ولم توجد للجسم ، وبيان هذا أن كل نعت أطلق على الجسم نزهت عنه النفس ، وكل نعت أطلق على النفس نبا عنه الجسم ؛ فذاك كان المانع من ذلك ، وقد أتت مذاكرةٌ في النفس منذ ليالٍ بشرحٍ مغنٍ ، وبيانٍ تام ، إلا أن هذا المكان أحوج إلى الإلمام ، ولم يأت على ما في النفس . وإذا بطل أن تكون النفس جسماً فهي بألا تكون عرضاً أقمن وأخلق ، لأنه لا قوام للعرض بنفسه . وأما قوله : وهل تبقى ؟ فكيف لا تبقى وهي مبسوطةٌ لا يدخل عليها ضد ، ولا يدب إليها فساد ، ولا يصل إلى شيء منها بلى ، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويخلق ويبطل ويموت ويفقد ، لأنه يفارق النفس ، والنفس تفارق ماذا حتى تكون في حكم الإنسان بشكله ؟ ولو كانت كذلك كانت لعمري تموت وتبلى ، فأما والإنسان بها كان حياً وجب ألا يكون حكمها حكم الإنسان . وأما قوله : أو هما ، فقد بان أن النفس متى لم تكن جسماً ، ولا عرضاً على حدةٍ أنها لا تكون أيضاً بهما نفساً ، لأن البينونة التي منعت في الأول هي التي تمنع في الثاني ، وليست النفس والعرض كالخل والسكر حتى إذا جمع بينهما كان كل منهما شيء آخر ، لأن الجسم والجسم إذا اختلطا كان منهما شيءٌ ما ، له قوامٌ ما ، وإن ذلك القوام مستلٌ منهما ، وليس كذلك البسيط وغير البسيط ، فهذا هذا . وأما قوله : وهل تفنى ، فقد بان أنها تبقى ولا تفنى ، وليس يطرأ عليها ما يفنيها ، لبساطتها وبعدها من التركيب العجيب المعرض للتحلل . وأما قوله : وهل تعلم ما كان فيه الإنسان ها هنا ، فإن هذا بعيد من الحق لأنها قد وصلت إلى معدن الكرامة وجنة الخلد ، فلا حاجة بها إلى علم العالم السفلي الذي لا ثبات له ولا صورة ، لغلبة الحيلولة عليه ، وتذكر الحيلولة حيلولة ، وذلك دليل النقص ، واعتراض الألم ، ولو أن إنساناً نقل من كرب حبسٍ ضيقٍ إلى روض بستان ناضر بهيج مونق ، ثم تذكر ما كان فيه في حال ما هو عليه لكان ذلك مؤذياً لنفسه ، وكارباً لقلبه ، وقادحاً فيروحه ، وآخذاً من حبوره وغبطته ، ومدخلاً للتنغيص عليه في نشوته . وأما قوله : وما الإنسان ، فالإنسان هو الشيء المنظوم بتدبير الطبيعة للمادة المخصوصة بالصور البشرية ، المؤيد بنور العقل من قبل الإله ؛ وهذا وصفٌ يأتي على القول الشائع عن الأولين إنه حيٌ ناطقٌ مائتٌ أي حيٌ من قبل الحس والحركة ، ناطقٌ من قبل الفكر والتمييز ، مائتٌ من قبل السيلان والاستحالة ، فمن حيث هو حيٌ شريك الحيوان الذي هو جنسه ، ومن حيث هو مائتٌ هو شريك ما يتبدل ويتحلل ، ومن حيث هو ناطقٌ هو إنسانٌ عاقلٌ حصيف ، ومن حيث يبلغ إلى مشاكهة الملك بقوة الاختيار البشري ، والنور الإلهي ، أعني ينعت في حياته هذه التي وهبت له بدءاً ، بصحة العقيدة وصلاح العمل وصدق القول - هو ملك ، فإن لم يكن ملكاً فهو جامع لصفاته ، ومالكٌ لحليته ، ولما كان جنسه مشتملاً على التفاوت الطويل العريض ، كان نوعه مشتملاً على التفاوت الطويل العريض ؛ ومن كان نوعه كذك كانت آحاده كذلك ، وكما أن الجنس يرتقي إلى نوعٍ كامل ، كذلك النوع يرتقي إلى شخص كامل . وأما قوله : هل الحد هو الحقيقة أو بينهما بون ، فإن الحد راجعٌ إلى واضعه ومتقصيه بدلالة أنه يضعه ويفصله ، ويخلصه ويسويه ويصلحه . فأما الحقيقة فهي الشيء وبها هو ما هو ، حده صاحبه أم لم يحده ، رسمه قاصده أم لم يرسمه ، فملحوظ الحقيقة عين الشيء وموضوع الحد ليس هو عين الشيء . وأما قوله : وما الطبيعة فهي أيضاً قوةٌ نفسية ، فإن قلت عقليةٌ لم تبعد ، وإن قلت إلهيةٌ لم تبعد ، وهي التي تسري في أثناء هذا العالم محركةً ومسكنة ، ومجددةً ومبلية ، ومنشئةً ومبيدة ، ومحييةً ومميتة ، وتصاريفها ظاهرةٌ للحسائس ، وهي آخر الخلفاء في هذا العالم ، وهي بالمواد أعلق ، والمواد لها أعشق ؛ وليس لها ترقي النفس في الثاني إلى عالم الروح ، لأنه لا كون هناك ولا فساد ، فلو رقيت إلى هنالك لبقيت عاطلة ، وليس كذلك النفس ، فإن لها في عالمها البهجة والغبطة ، والحبور والسرور ، والدوام والخلود والخلافة الإلهية ،وهذا هناك في مقابلة ما كان لها ها هنا من الفضائل التي لا يأتي عليها إحصاء ، ولا يحصلها استقصاء . وأما قوله : وهلا أغنى الروح عن النفس ، فهو يغني عنها ، ولكن في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنساناً . فأما في الإنسان فلا ، لأن الإنسان بالنفس هو إنسانٌ لا بالروح ، وإنما هو بالروح حيٌ فحسب . وأما قوله : وهلا أغنت النفس عن الروح ، فإن الروح كالآلة للنفس حتى ينفذ تدبيرها بوساطته في صاحب الروح ، وليس ذلك لعجز النفس ، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير ، وإذا حقق هذا الرمز لم يكن هناك عجز لأنه نظامٌ موجودٌ على هذه الصورة ، وصورةٌ قائمةٌ على هذا النظام ، فليس لأحد أن يعلل ذلك بلم ولا بكيف إلا من طريق الإقناع . وأما قوله : هلا كفت الطبيعة . فقد كفت في مواضعها التي لها الولاية عليها من قبل النفس ، كما كفت النفس في الأشياء التي لها عليها الولاية من قبل العقل ، كما كفي العقل في الأمور التي له الولاية عليها من قبل الإله ؛ وإن كان مجموع هذا راجعاً إلى الإله ، فإنه في التفصيل محفوظ الحدود على أربابها ؛ وهذا كالملك الذي له في بلاده جماعةٌ فيصدرون عن رأيه ، وينتهون إلى أمره ، ويتوخون في كل ما يعقدونه ويحلونه ، وينقضونه ويبرمونه ، ما يرجع إلى وفاقه ، وكل ذلك منه وله وبأمره ، وقد كفاه أولئك القوم ذلك كله . فإن قال قائلٌ : فكيف مثلت سياسةً إلهيةً بسياسةٍ بشرية ، وأني هذه من تلك ؟ فالجواب أن البشر المسكين لم يجد هذه السياسة من تلقاء نفسه ، ولا بما هو به مهينٌ ضعيف عاجزٌ مسكين ؛ بل بما فاض عليه من تلك القوى وتلك الصور ، فهو إذا أبرز شيئاً أبرز على مثال تلك ، لأنه قد أعطى القالب ، فقد سهل عليه أن يفرغ فيه ، ووهب له الطابع ، فهو يختم به ؛ وهيىء على ذلك فهو يجري عليه ، وهذا سوقٌ إلهي وإن كان الانسياق بشرياً ، ونظمٌ ربويٌ وإن كان الانتظام إنسياً ؛ وفي الجملة إحدى السياستين ، أعني البشرية هي ظلٌ للأخرى ، أعني الإلهية ، والسفليات منقادةٌ منفعلةٌ للعلويات ، والعلويات مستولياتٌ على السفليات ، بحق العدل وما هو مقتضاها ، ولأن هذه فواعل ، أعني العلويات ، وتلك قوابل ، أعني المنفعلات ، ووجب ذلك لأن الصورة في الفاعل أغلب ،والهيولى في القابل أغلب ، والعالمان متواصلان ، والسياستان متماثلتان ، والسيرتان متعادلتان ، والتدبيران متقابلان ، ولكن التبدير إذا نفذ في السفلي يسمى بشرياً ، وإذا نفذ في العلوي يسمى إلهياً ، وإن كان في التحقيق إلهيين ، وإنما اختلفا بحسب الصدور والورود ، والفصول والوصول ، والشخوص والبلوغ ؛ والعادة جارية بأن يشبه الإنسان شيئاً من الأشثياء بالشمس والقمر ، ولا يشبه الشمس والقمر بشيء آخر ، لأن للأعلى النعت الأول ، وللأسفل النعت الأرذل ؛ فهذا كما ترى . وأما قوله : وما العقل ، وما أنحاؤه ، وما صنيعه ؟ فإن الجواب عن هذا لو وقع في خلد كثير ، لكان محمولاً على التقصير ، وكذلك فيما تقدم ؛ ولكن هذا مكان قد اقترح فيه الإيجاز والتقريب ، وهذان لا يكونان إلا بحذف الزوائد المفيدة ، وإلا بتفريق العلائق الموضحة . وبعد ، فالعقل أيضاً قوةٌ إلهية أبسط من الطبيعة ، كما أن الطبيعة قوة إلهية ابسط من الأسطقسات ، وكما أن الأسطقسات أبسط من المركبات ؛ وعلى هذا حتى تنتهي المركبات إلى مركب في الغاية ، كما بلغت المبسوطات إلى مبسوطٍ في النهاية ؛ فالتقى الطرفان على ما يقال له : كل ، فلم يكن بعد ذلك مطلبٌ لا في هذا الطرف ولا في هذا الطرف ؛ والعقل هو خليفة الله ، وهو القابل للفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى ؛ وإن قيل : هو نورٌ في الغاية لم يكن ببعيد ، وإن قيل بأن اسمه مغنٍ عن نعته لم يكن بمنكر ؛ وإنما عجزنا عن تحديد هذه البسائط لأنا حاولنا عند علمها أن تكون في صورة المركبات أو قريبة منها ، وأن تصير لنا أصناماً نتمثلها ونوكل بها ؛ وهذا منا تعجرفٌ مردودٌ علينا ، وخطأٌ يلزمنا الاعتذار منه إلى كل من أحس به منا ؛ وينبغي أن نتوب إلى الله في كل وقتٍ من وصفه بما لا يليق به ، ومن طرح الوهم على شيء قد حجبه عن معارفنا ، ورفعه عن عقولنا ، وقصرنا على حدودنا اللازمة لنا ، وأشكالنا المشتملة علينا ؛ هذا حديث العقل إذا لحظ في ذروته .فأما إذا فحص عن آثاره في حضيضه فإنه تمييزٌ وتحصيلٌ وتصفحٌ وحكم وتصويبٌ وتخطئة ، وإجازةٌ وإيجابٌ وإباحة ؛ وإياك أيها السامع أن يكون مفهومك من هذه الأسماء والأفعال والحروف أشياء متمايزة فتجعل شيئاً واحداً أشياء ، ومن كثر الواحد فهو أشد خطأً ممن وحد الكثير ، لأن تكثير الواحد انحطاطٌ إلى المركز ؛ وتوحيد الكثير استعلاءٌ إلى المحيط ، بل يجب أن يكون محصولك منها شيئاً واحداً لم تصل إليه إلا بترادف هذه الكلمات ، وتصاحب هذه الصفات . وأما أنحاؤه ، فعلى قدر ما يقال : فلان عاقل وفلانٌ أعقل من فلان ، وفلانٌ في عقله لوثة ، وفلانٌ ليس بعاقل ؛ وأصحاب العقل أنصباؤهم منه مختلفة بالقلة والكثرة ، والصفاء والكدر ، والإنارة والظلمة ، واللطافة والكثافة ، والخفة والحصافة ، كما تجدهم مختلفين في الصور والألوان والخلق بالطول والقصر ، والحسن والقبح ، والاعتدال والانحراف ، والرد والقبول ، إلا أن هذا القبيل يدرك بالحس ، ويشهد بالعيان ، ويعاين بالحضور ، وذلك القبيل محجوبٌ عن هذا كله ، فلم يجز أن تكون الإحاطة بتفاوت ما غاب عنا في وزن الإحاطة بتفاوت ما حضر ، فإنهما ما تباينا ليأتلفا ، بل ليختلفا ، وهذا التفاوت معترفٌ به إذا اعتبر من خارج ، وذلك أنك تجد أصحاب المال أيضاً يتباينون في مقادير ما يملكون من المال ، ولا يتفقون على مقدارٍ واحدٍ منه عند جماعتهم ، ولا يتفقون على نوعٍ واحدٍ أيضاً من أعيان المال ، لأن هذا يملك الصامت ، وذاك يملك الناطق ، وهذا يمارس القز ، وهذا يمارس الصوف ، وهذا ينظر في الصرف ، وهذا يبيع الحيوان ، وكلٌ منهم صاحب مالٍ ومباشرٌ له ؛ وعلى هذا المثال احتذى أهل العقل في مطالبهم ، فصار هذا يملك بعقله غير ما يملك الآخر ، أعني أن هذا ينظر في الهندسة ، وهذا في الطب ، وهذا في النحو ، وهذا في الفقه ؛ والعبارة تمنع من إشباع هذا المعنى ، وحصر هذا الفن ، فعلى هذا أنحاؤه ، وإنها لكثيرة إن لم تكن بلا نهاية . وأما صنيعه ، فهو الحكم بقبول الشيء ورده ، وتحسينه وتقبيحه ، إذا كان المعروضعليه على جهته غير مموه ولا مغشوش ، ولا مشتبه فيه ولا ملبوس ، فإن كان مموهاً اختلف حكمه ، لأن العقل يرى الباطل حقاً في وقت ، ويرى الحق باطلاً في وقت ، معاذ الله من هذا ، ذلك للحس المنقوص ، والذهن الملبوس ، لأن العارض موه معروضه على العقل ، فحكم له بما يستحقه ، إلا أن يكون العارض لم يشعر بذلك التمويه ، ولم يفطن لذلك الغش ، فحينئذ يهديه العقل ويرشده ، ويفتح عليه ، وينصح له . وأما قوله : وهل يعقل العقل ، فإن الأولى أن يقال : العاقل يقعل بالعقل معقوله ، ألا ترى أنه يقال : السراج أضاء البيت ، ويبعد أن يقال : أضاء نفسه ، لأنه مضيىءٌ بنفسه ، فليس به فقرٌ إلى أن يضيء نفسه ، وإنما أضاء غيره . . . ولو عقل العقل لعقل بالعقل ، وهذا إذا استمر كان مردوداً ، ونحن إذا قلنا : عقل العاقل معقوله ، فإنما نصفه بأنه انفعل انفعال كمالٍ ، والعقل يرى من هذا الانفعال ألا يتوخى أنه يعقل الإله الذي هو به ما هو ، فإنه يجوز أن يضر به انفعالٌ لائقٌ به يكون عبارةً عن شوقه إليه ، وكماله به ، واقتباسه منه ، وهذا صراطٌ حديد ، والواطىء عليه على خطر شديد ، والوقوف دونه أصدع بالحجة ، وأوضح للعذر ، لأن الإنسان خوارٌ بالطبع ، وإن كان جسوراً بالنفس . وأما قوله : وهل تتنفس النفس ، فإن أريد بذلك النفس النامية والحيوانية فهو قريب ، وأما الناطقة فإن ذلك يبعد منها لأن ذلك التنفس استمداد شيء به يكون الشيء حياً أو كالحي ؛ والناطقة غنيةٌ عن ذلك . فإن قيل : فهل تقتبس من العقل وتستمد ؟ قيل : هذا لا يسمى تنفساً ، وليس اللفظ يبعده عن الحقيقة تأويلٌ في الوضع ؛ ولا وجهٌ في الاعتمال وإدخال العويص في المكانالذي يحتاج فيه إلى رفع اللبس وزوال الإشكال ، مداجاةً في العلم وخيانةً للحكمة وجنايةً على المستنصح . وأما مرتبته عند الإله فقد وضح بأنه كالشمس تطلع فتحيي ، وتضيء فتنفع . فإن قيل : فالعقل أيضاً هكذا ، قيل : العقل أيضاً شمسٌ أخرى ، ولكنها تطلع على النفس التي ليست حاويةً لجدارٍ وسطح ، وبرٍ وبحر ، وجبلٍ وسهل ، لأنه لما كان العقل أشرق من النفس - لأنه مستخلفٌ للنفس ، والنفس خليفته - كان إشراقه ألطف ، ومنافعه في إشراقه أشرف ، وأيضاً فإن الشمس تجدها بالحس لها غروبٌ وطلوع ، وتجلٍ وكسوفٌ ، وليس كذلك العقل ، لأن إشراقه دائم ، ونوره منتشر ، وطلوعه سرمد ، وكسوفه معدوم ، وتجليه غير متوقف . فإن قيل : نرى العقل يعزب عن الإنسان في وقتٍ ويثوب إليه في وقت . فالجواب أن الوصف الذي كنا ننعت به ونصدع ببيانه لم يكن لعقل زيد وعمرو ، وبكرٍ وخالد ، لأن ذلك ينعت بالطلوع والغروب ، وبالحضور والغيوب ، لأنه ها هنا مضافٌ ومنحازٌ ، أو كالمنحاز ، وليس كذلك هو ، فإنه هناك على بهجته التامة ، وسلطانه القاهر ، وملكوته الأفيح ، وبسيطه الفائق ، وفضائه العريض . وأما قوله : وهل ينفعل ، فقد مر الكلام عليه في طي ما مر ، وليس للتكرار وجه ، ولا في التطويل عذر . وأما قوله : فقسط الفعل أكثر ، أم قسط الانفعال ، فإن هذا يلحظ من وجهين ، إذا لحظ قبوله من فيض الإله فقسط الانفعال أظهر ، وإذا لحظ فيضه على النفس فقسط الفعل فيه أكثر ، لأنه بجوده على غيره يشاركه من جاد عليه بجوده ، وهذا لطيفٌ جداً .وأما قوله : وما المعاد ، فما أسهل مطالبة السائل بهذا الأمر الصعب الهائل الذي كل أمرٍ متعلقٌ به ، وكل رجاء حائمٌ حوله ، وكل طمعٍ متوجهٌ إليه ، وكل شيء مقصورٌ عليه ، وكل إنسانٍ به يهيم ، وكل مصرحٍ عنه يصرح ، وكل كانٍ عنه يكني ، وكل مترنم به يحدو ، وكل لحنٍ إليه يشير ، وكل سامعٍ إليه يطرب ، ونرجع فنقول - على العي والبيان ، وعلى الزحف والعدوان : - إن عود النفس إنما هو تخليتها للبدن إذا حان وقت التخلية ، إما لأن البدن غير محتملٍ لمادة الحياة ، وإما لأن النفس قد أزمعت أمراً آخر ، ولا يتم لها ذلك إلا بتخلية هذا ؛ وإما لهما . فإن قال قائل : فما نصيب الإنسان من عود النفس الذي هو تخليتها للبدن وخروجها عنه ، وترك استعمالها له . فالجواب من طريق التمثيل ، والرضا بالرأي الأصوب ، والحكم الأجلى أن يقال : لو قيل لرجلٍ من عرض الناس وافرٍ أو ناقص : إنك إذا فارقت هذا العالم بقيت عينك الباصرة ، وأذنك السامعة ، هل ترى ذلك نعمةً عليك ، وإحساناً إليك ، فإن عينك إذا بقيت أبصرت العالم بعدك كما كنت تبصره وهي معك ، بل تبصر أحسن من ذاك الإبصار ، لأنها كانت معك ترمد بسببك ، وتعشى من أجلك ، وربما عرض لها سوءٌ بسوء تدبيرك ، أو باتفاق رديء عليك ، ومن عشىً أو عمىً وخفش وعمش وعورٍ وآفاتٍ كثيرة ، وهي آمنةٌ بعدك من هذه الأعراض المكروهة ، والأحوال الداهية ، فإنا نعلم حقاً وعياناً أنه يقول : قد رضيت بل أتمنى هذا ، ومن لي به ، أي إن إعطيت هذا فمن مني أسمع وأبصر ، وإذا كنت أكره الدنيا في حياتي إذا فقدتهما فكيف لا أحب الدنيا إذا وجدتهما ، فإن كان هذا التمثيل واقعاً ، وهذا التقريب نافعاً ، والحق في تضاعيفه واضحاً ، فليكن ذلك مطرداً في بقاء نفس الإنسان التي بها كان إنساناً ، وبها كان ينعم في هذا العالم ، وبها كان يعلم ويعرف ويحكم ويصيب ، ويجد لذة اللذيذ من ناحية العقل والحس ، وبها كان يتمنى البقاء والدوام والخلود ، وإنما استحال ذلك التمني من أجل كونه وفساده اللذين لميكن بدٌ من انتهائهما إلى الفناء الذي هو مفارقة النفس الجسد وتخليتها للبدن ، ونسبة نفس الإنسان إلى الإنسان أوكد وألصق من نسبة العين إليه ، ألا ترى أنه بالنفس إنسانٌ ، وبالبدن حافظٌ لشكل الإنسان ؛ فإذا كان للإنسان في هذا التمثيل فائدةٌ متمناة ، وحالةٌ محبوبةٌ هنيئة ، أعني في بقاء العين والأذن حتى يبصر بإحداهما هذا العالم المحشو بالآفات ، ويسمع بالأخرى ما يجري فيه من ضروب الاستحالات ، فبالحري أن يكون رضاه ببقاء النفس في محل الروح والأمن ، ومقام الكرامة والسكينة على حال الخلود والطمأنينة ، إن هذا لعجيب ؛ وأعجب من هذا العجيب عقلٌ لا يعلق به ، وروحٌ لا يهش لسماعه ، ونفسٌ لا تجد حلاوته ، وصدرٌ لا يتصدع طرباً عليه ، والتياحاً إليه ، فإن من لم يشعر بهذه الفائدة ، ولم يحمد الله على هذه النعمة ، لعازب الرأي ، ضعيف العقل ، خفيف المثقال ، رديء الاختيار ، قليل الحصافة ، سيء النظر ؛ حيوانٌ خسيس ، في مسك إنسان رئيس ؛ فقد بان - على مذهب التقريب - ما المعاد المشار إليه ، وما الإنسان منه ، وما لنفسه به . وأما قوله : وما الفرق بين الأنفس ، أي نفس زيدٍ وعمرو وبكرٍ وخالد ، وما الفرق أيضاً بين أنفس أصناف الحيوان ، فإنما الفرق بين هذه الأنفس بقدر قسط كل واحدٍ منهم منها ، وهذه الأقساط إذا اجتمعت تفاوتت ، وإذا تفاوتت كانت منها نفسٌ باقيةٌ حيةٌ ، ونفسٌ فانيةٌ ميتةٌ ، ألا ترى الشمس كيف تطلع على هذه المواضع المختلفة بالعلو والسفل ، وبالتعريج والاستقامة ، والأشكال الكثيرة ، فيقول كل إنسان : مشرقتي أطيب من مشرقة فلان ، وما أشبه هذا الكلام ، وطلوع الشمس على جميعها طلوعٌ واحد ، ولكن حظوظ البقاع منها مختلفة ؛ فليس بمنكر أن تكون نفس زيدٍ أنجى من الكدر ، وأخلص من الآفة ، وأوصل إلى السعادة ؛ ونفس بكرٍ على خلاف ذلك ، ومراتب هذه الأنفس موقوفة على الإضافات الحاصلة لها بأصحابها ، والأنصباء المذخورة لها باكتسابها . فأما أنفس أصناف الحيوان كالفرس والحمار فإنها أنفسٌ ناقصةٌ غير كاملة ، وهي ضعيفة ، لأنها لم تجد إلا الإحساس والحركات ، لم يشع فيها نور النفس الشريفة ، ولم ينبث فيها شعاع العقل الكريم ؛ فوجب من هذا الوجه أن تكون تابعةً لأبدانها ، جاريةً على فسادها وبطلانها ، لأن الحكمة انتهت إلى ذلك الحد في كونها حشواً لهذا العالم وزينةًومنافع ومبالغ إلى غاياتٍ وأغراض . وأما قوله : وهل الملك حيوان ، فقد علمت أنه يقال له حي ، وهذا وقفٌ على الأسماء الجارية ، والعادات القائمة ، وكأن الحيوان إنما شاع في غير الملك لما فيه من الحس والحركة والاهتداء والتصرف على ما لاق بجنسه ونوعه وشخصه ؛ فأما ما يعلو وينزه عن الصفات فلم يطلق عليه حيوانٌ ، ولكن يقال : حيٌ لأنه أقرب الأسماء إلى المعنى المشار إليه ، وبهذا التقريب قيل أيضاً لله : إنه حيٌ ، وأنت إذا حددت الحي أو الحياة لم تقدر على أن تصف الله جل وعلا بشيءٍ من ذلك . . وفي الجملة ما كان أدخل في البساطة كان أخرج من التركيب ، وكل ما كان أخرج من البساطة كان أدخل في التركيب . فأما المركب الذي ليس له من البسيط إلا النصيب النزر ، وإلا طيف الخيال ، فاسمه واضح والإشارة إليه سهلة ، والعيان له مدرك ، لأنه محاطٌ بحدوده في طوله وعرضه وعمقه . وأما المركب البسيط الذي ليس له من التركيب إلا النصيب اليسير ، فاسمه غامض ، والإشارة إليه عسرة ، والعيان عنه مكفوف ؛ وهذا بابٌ إذا حفظ فهم منه شيءٌ كثيرٌ مما يقع فيه الغلط من الإنسان بفكره الردىء ؛ وينفع أيضاً نفعاً بيناً في التغالط العارض بين المتناظرين على جهة التنافس والتناصف . قال أبو سليمان : من حرس هذا الثغر أمن من جميع الأعداء ، ومن أهمله كانت جنايته على نفسه بيده أعظم من جناية عدوه الثائر من ثغره . وأما قوله : على أي وجهٍ يقال لله حيٌ والملك حيٌ والفرس حيٌ ، فقد دخل الجواب عنه في ضمن ما تشقق القول به ، وتحقق المعنى عليه في حديث المركب والبسيط ؛ ونزيدها هنا حرفاً يكون رديفاً لما تقدم ، فنقول : أما الإنسان فإنه يقال له : حيٌ بسبب الحس والحركة وما يتبعهما مما هو كمال الحي ، وكذلك الفرس وما أشبهه . وأما الملك فلما كان ما يستحقه ببساطته معدوماً عندنا ، لم نقدر على شيء نصفه به إلا ما نصف به أنفسنا بيننا ، ولو كنا في عالم الملك لعلنا كنا ندري بأي شيء ينبغي أن ينعت ويسمى ويذكر ويحكى ، فإن من كان منا في بلاد الصين فإنه يسمى الإنسان والفرس والحمار والبقر بها بتعالمٍ أهلها بينهم ، وإن كان هو معوزاً على ما ترى في الملك ، أعني تسميته الحي ، ونعته بالحياة ، فالله الذي لا سبيل للعقل أن يدركه أو يحيط به أو يجده وجداناً أولى وأحرى أن يمسك عنه عجزاً واستخذءً ، وتضاؤلاً واستعفاءً ، إلا بما وقع الإذن به من جهة صاحب الدين الذي هومالك أزمة العقول ومرشدها إلى السعادات ، وواقفها عند الحدود ، وزاجرها عن التخطي إلى ما لا يجوز . فعلى هذا قد وضح أن الصمت في هذا المكان أعود على صاحبه من النطق ، لأن الصمت عن المجهول أنفع من الجهل بالمعلوم ، والتظاهر بالعجز في موضعه كالاستطالة بالقدرة في موضعها ، وليس للخلق من هذا الواحد الأحد إلا الإنية والهوية ، فأما كيف ولم وما هو فإنها طائرةٌ في الرياح كما تسمع وترى . ولما حررت هذه الجملة وحملتها إلى الوزير وقرأتها عليه قال لي : هذا والله جهد المقل ، وفي غليلي بقيةٌ من اللهب . قلت : أيها الوزير ، قال أبو سليمان : سنقول لك كلاماً لا يكون فيه كل الرضا ، فقل له عند ذلك : إنك سألت عن العالم بأسره ، فلا طاقة لأحدٍ أن يعرض عليك العالم بأسره ، ولولا عجلة رسولك في المطالبة ، وإدلاله بالإلحاح ، وقوله : المراد التقريب والإيجاز ، لا التطويل والإسهاب ، لكان النسج على غير هذا المنول ، والعمل على غير هذا الوشي . قال : ومن المعالم التي ليس لها ناظر ، ولا بها خابر ، أن السائل يحض على التلخيص المفهوم ، ولعل ذلك يزيد الشيء إغلاقاً ، فإذا امتثل ما يرسم قال : ما شفاني القول ؛ وإن زيد على ذلك قال : غرق المراد في حواشي التكثير ؛ فليس للعالم تخلصٌ من استزادة المتعلم ، ولا عند المتعلم شكرٌ على مبذول جهد العالم ، وهذا أمرٌ قد تقدمت الاستغاثة منه على مر الدهور ، والأولى فيما لا حيلة فيه الرضا بالميسور منه . ثم قال : وإن أطال الله أيام هذه الدولة ، وحرس على هذه الجماعة القليلة النعمة ، استأنفنا نظراً أبلغ من هذا النظر ، ببيانٍ أشفى من هذا البيان ، وطريق أوضح من هذا الطريق - إن شاء الله . قال الوزير : والله ما قلت قولي ذاك ، لأن هذا الكلام سهلٌ ، وهذا المتناول قريب ، وهذا المرمى كثب ، كلا ، وإني لأظن بل أحق أنه ليس في بضائع أصحابنا الذين حولي من يدرك هذه المعاني على هذه الصفة إذا قرئت عليه ، فكيف منيفزع في شرحها وتهذيبها إليه . ثم تمطى وقال : وانعاساه ، واضعف منتاه ؛ ثم فارقت المجلس .
الليلة السادسة والثلاثون
وقال - دامت أيامه - كيف تقول عند مهل الشهر شيئاً آخر من لفظه ؟ فكان من الجواب : حكى العالم : عند هلول الشهر ومستهله وهله وإهلاله واستهلاله . قال : ورأيت الحاتمي يقول : عشر كلماتٍ جاءت وعينها عينٌ ولامها واوٌ ، ولم أوثر شرحه لها لثقل روحه ، ومغالاته بنفسه ، وكأنه لا علم إلا عنده ، ولا فائدة إلا هي معه ، فهل في حفظك هذه الكلمات ؟ قلت : لا إله إلا الله ، اليوم ذكر الأندلسي هذه الكلمات وعدها ، وقد حفظتها ، فقال : هات يا مبارك ؛ فكان الجواب : منها البعو ، وهو الجناية ، والجعو ، وهو الطين ، والدعو ، مصدر دعا دعواً ، والسعو : الشمع ، والشعو : هو انتفاش الشعر ، والصعو : الرجل الضعيف ، وهو أيضاً طائرٌ أصغر من العصفور ، والقعو : من البكرة ، واللعو : الحريص . والذئب في بعض اللغات ، والمعو : الجني من الرطب ، والنعو : الشق في مشفر البعير . قال : هذا حسن ، لو أتى به الحاتمي للوى شدقه ، وقال : تنح فقد جاء الأسد وغلب الطوفان وخرج الدجال وطلعت الشمس من المغرب ، ما بال أصحابنا تعتريهم هذه الخيلاء ، ويغلب عليهم النقص ، ويستمكن منهم الشيطان . قلت : قال أبو سليمان : كل من غلب عليه حفظ اللفظ وتصريفه وأمثلته وأشكاله بعد من معاني اللفظ ؛ والمعاني صوغ العقل ، واللفظ صوغ اللسان ، ومن بعد من المعاني قل نصيبه من العقل ، ومن قل نصيبه من العقل كثر نصيبه من الحمق ، ومن كثر نصيبه من الحمق خفي عليه قبح الذكر .الليلة السابعة والثلاثون
وقال الوزير ليلةً : ما أحوج الجبان إلى أن يسمع أحاديث الشجعان وما أشد انتفاع الضيق النفس باستماع أخبار الكرام ، لأن الأخلاق في الخلق أعراض ، والأعراض منها لازمٌ ومنها لاصق . قال : وكان عيسى بن زرعة سرد على سنة سبعين ، ليالي كانت الأشغال خفيفة ، والسياسة بالماضي - نور الله قبره وضريحه - عامة ، والنظر بالحسنى شاملاً - أشياء في الخلق أتى بها على عمود ما كان في نفسي ، وذلك أنه ذكر العقل والحمق ، والعلم والجهل ، والحلم والسخف ، والقناعة والشره ، والحياء والقحة ، والرحمة والقسوة ، والأمانة والخيانة ، والتيقظ والغفلة ، والتقى والفجور ، والجرأة والجبن ، والتواضع والكبر ، والوفاء والغدر ، والنصيحة والغش ، والصدق والكذب ، والسخاء والبخل ، والأناة والبطش ، والعدل والجور ، والنشاط والكسل ، والنسك والفتك ، والحقد والصفح ، وينبغي أن تزور عيسى وتذكر له هذه الجملة ، وتبعثه على إعادة حدودها ، وإشباع القول فيها ، مع إيجازٍ لا يكون به مدخلٌ للخلل ، ولا تقصيرٌ عن إيصال الآخر بالأول . فلقيت عيسى وعرفته الحديث ، وأملي ما رسمته في هذا الجزء ، وعرضته على أبي سليمان ، فرضيه بعض الرضا ، ولم يسخط كل السخط ، وقال : تحديد الأخلاق لا يصح إلا بضربٍ من التجوز والتسمح ، وذلك أنها متلابسة تلابساً ، ومتداخلةٌ تداخلاً ، والشيء لا يتميز عن غيره إلا ببينونةٍ واقعةٍ تظهر للحس اللطيف ، أو تتضح للعقل الشريف . ثم قال : ألا ترى أن الفكر مشوبٌ بالروية ، والظن مخلوطٌ بالوهم ، والذكر معنيٌ بالتخيل ، والبديهة جانحةٌ إلى الحس ، والاستنباط موصوفٌ بالغوص ، وما هذا المعنى الذي ميز التواضع من شوب الضعة ، أو خلص علو الهمة من شوب الكبر ، أوفرز عزة النفس من نقص العجب ، أو أبان الحلم عن بعض الضعف ؟ هذا بالقول ربما سهل وانقاد ، ولكن بالعقل ربما عز واعتاص ، والأخلاق والخلق مختلطة ، فمنها ما اختلاطه قويٌ شديد ، ومنها ما اختلاطه ضعيفٌ سهلٌ ، ومنها ما اختلاطه نصفٌ بين اللين والشدة ، وهذه ينفع العلاج في بعضها ، وينبو العلاج عن بعضها ؛ والحزم يقضي بألا يتهاون بما يقبل العلاج لأجل ما لا يقبل العلاج . قال : وهذا أيضاً يختلف بحسب المزاج والمزاج ، والإنسان والإنسان ، ألا ترى أنك لو رمت تحويل البخيل من العرب إلى الجود كان أسهل عليك من تحويل البخيل من الروم إلى الجود ، والطمع في جبان الترك أن يتحول شجاعاً أقوى من الطمع في جبان الكرد أن يصير بطلاً . قال : ومع هذا فوصف الأخلاق بالحدود - وإن كان على ما قدمناه - نافعٌ جداً ، وإضمارها في النفس مثمرٌ أبداً ، فهذا هذا . وأما ما قال أبو عليٍ فإنه هذا . قيل : ما الحلم ؟ قال ضبط الفكر بكف الغضب . وقال شيخنا أبو سعيد السيرافي : اعتباره من ناحية الاسم تعطيلٌ لطبعه وذلك أن الحلم شريك التحلم ، فكان الحليم الذي يعد فيمن يحلم في عرض الحليم الذي لا يعاج عليه ولا يكترث له . قال : والتحلم نافعٌ أيضاً وهو أحمد من التحالم ، لأن الثاني أقرب إلى التأني ، كما أن الأول أقرب إلى الحقيقة . وقيل لعيسى : ما العدل ؟ فقال : القسط القائم على التساوي . وحكى جالينوس قال : إن الناس لشدة حبههم لأنفسهم يظنون أن لهم ما يحبون ، فمن أجل ذلك وقعوا في العجب ؛ فينبغي أن تكون محبتك لنفسك حقيقية ، ويتم ذلك لك إذا أنت صيرت نفسك على الحال التي يرى من يرى أنك عليها . وقال : المعجب يحب نفسه أكثر مما يحق لها ؛ وما أحسن بالإنسان أن يحبنفسه ، ولكن بالعدل ، فإن أراد أن يحبها جداً فيجب أن يجعلها من أهل المحبة ، ثم يحبها من بعد . قيل : فما الحسد ؟ قال : شدة الأسى على شيء يكون لغيره . قيل : فما الكآبة ؟ قال : إفراط الحزن . قال أبو سليمان : الحزن والغم والهم والأسى والجزع والخور من شجرة واحدة ومن تعاطى وصف أغصان شجرة طال عليه ، ولم يحظ بطائل ، ويكفي أن نعرف شجرة التفاح من شجرة المشمش ، وشجرة الكمثرى من شجرة السفرجل ؛ فإن عواقب المعارف نكرات ، كما أن فواتح المعارف جهالات . قيل : فما الشجاعة ؟ قال : الإقدام في موضع الفرصة من جميع الأمور . قال أبو سليمان : الشجاعة إذا كانت نطقية كانت فرصتها تعاطي الحكمة والدءوب في بلوغ الغاية ، وبذل القوة في نيل البغية ؛ وإذا كانت غضبيةً كانت فرصتها شفاء الغيظ إما من مستحق ، وإما من غير مستحق ، وإذا كانت شهويةً كانت فرصتها التحلي بالعفة التامة ، أعني في الخلوة والحفل . قال لنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني الشيخ الصالح : العفة واسطة بين المقارفة والعصمة ، والعصمة واسطةٌ بين البشرية والملكية . وحكى عيسى بن زرعة في هذا الموضع - عند تدافع الحديث - أن موريس قال : إني لأعجب من ناسٍ يقولون : كان ينبغي أن يكون الناس على رأي واحد ، ومنهاج واحد ، وهذا ما لا يستقيم ولا يقع به نظام . قال : وهب أن يكون الناس وكل واحدٍ منهم ملكاً يأمر وينهى ويستمع له ويطاع ، فمن كان المأمور المؤتمر ، والمنهى المنتهى ؛ والعاقل الحصيف يعلم أنه لابد من التفاوت الذي به يكون التصالح ، كالعالم والمتعلم ، والآمر والمأمور والصانع والمصنوع له . ثم قال عيسى : من توابع الأخلاق المذمومة الغضب والكذب والجهل والجور والدناءة . قال أبو سليمان : أما الغضب فلا يكون مذموماً إلا إذا أعمل في غير أوانه ، وعلى غير ما يأذن الناموس الحق به ؛ وأما الكذب ففيه أيضاً مصالح ، كما أن الصدق ربما أفضى إلىكثير من المفاسد - وإن كان الصدق قد فاز بالوصف الأحسن ، والكذب قد وصف بالنعت الأقبح - فكم كذبٍ نجى من شر ، وكم صدقٍ أوقع في هوة ، وبقي الآن أن نعرف الصدق مع أوانه ومكانه ، فيؤتى به أو ينهى عنه ، وكذلك الكذب على حذوه ومثاله . قال : وأما الجهل والجور والدناءة فإنها أثافي الرذائل ، فينبغي أن ينتفي منها جملةً وتفصيلاً ، ولا يسلك أحدٌ إلى شيء منها سبيلاً فإنها أعدام ؛ - هكذا قال - ؛ والعدم كريه ومهروبٌ منه ، والوجود على أنقص النعوت وأتم وأشرف من العدم على أزيد الصفات ، وإن كان لا زيادة في العدم إلا من طريق الوهم العارض ما يصح وما لا يصح . قيل : فما العجب ؟ قال وزن النفس بأكثر من مثقالها . وقال أيضاً : العجب هو النظر في النفس بعين ترى القبيح جميلاً . ويقال : المعجب يدعي أن ما ينبغي أن يعجب منه قد حصل له من غير أن يكون كذلك ؛ فأما إذا كان ذلك حاصلاً فالعجب ليس بعجبٍ إلا من طريق الاسم ، وإلا فهو في الحقيقة إحساسٌ بالفضل المعشوق ، وشعورٌ بالكمال الموموق ، واستدعاءٌ للزيادة مما صار به هكذا ، واستعدادٌ لقبول الفيض من معدنه بالاختيار الثاني والاعتياد الأول . قيل : فما الوفاء ؟ قلا قضاء حقٍ واجب ، وإيجاب حقٍ غير واجب ، مع رقةٍ أنسية ، وحفيظةٍ مرعية . قيل : فما الرغبة ؟ قال : حركةٌ تكون من شهوةٍ يرجى بها منفعة . قال أبو سليمان : الرغبة إذا كانت نطقية كانت مبعثةً على التحلي بالفضائل ، وإذا كانت سبعيةً أو بهيميةً كانت ملهجةً بمواقعة أضدادها من الرذائل . وقيل : ما المهنة ؟ فقال : حركةٌ يتعاطاها الإنسان بلا حفزٍ ولا استكراه . قال علي بن عيسى : المهنة صناعة ، ولكنها إلى الذل أقرب ، وفي الضعة أدخل ، والصناعة مهنة ، ولكنها ترتفع عن توابع المهنة ، وفي الصناعات ما يتصل به الذل أيضاً ، ولكن ذلٌ ليس من جهة حقيقة الصناعة ؛ ولكن من جهة العرض الذي بين الصناعةوالصناعة ، والمرتبة والمرتبة . قيل : فما العادة ؟ قال : حالٌ يأخذ بها المرء نفسه من غير أن تكون مسنونةً يجري عليها مجرى ماهو مألوفٌ طبيعي . قال أبو سليمان : كأن هذا الاسم ليس يخلص إلا لمن أتى شيئاً مراراً ، فأما في أول ذلك فليس له هذا النعت ، وإنما يصير مألوفاً بالتكرار ، ولهذا ما صيغت الكلمة من عاد يعود واعتاد يعتاد . وأما قوله : طبيعي ، فعلى وجه التشبيه ، لأن الطبيعي أشد رسوخاً وأثبت عرقاً ، وأبعد من الانتقاض ؛ فأما العادة فكل ذلك جائزٌ عليها ، وغير مأمون من الوقوع فيه . قيل : كم الحركات ؟ قال : ستة أضعاف ، أولها حركة الانتقال ، وهي ضربان : إما حركة الجسم بكله من مكان إلى مكان ، وإما حركته بأجزائه كالفلك والرحى ، والثاني حركة الكون ، والثاث حركة الفساد ، والرابع حركة الربو ، والخامس حركة النقض والبلى ، والسادس حركة الاستحالة ، وهي ضربان : أما في الجسم فمثل اللون ، وأما في النفس فمثل الغضب والرضا ، والعلم والجهل . والنقلة مكانية ، والكون والفساد جوهريان ، والاستحالة هيئية ، والنمو والاضمحلال مكانيان . قال الكندي : وها هنا حركةٌ أخرى ، وهي حركة الإبداع ، إلا أن بينها وبين حركة الكون فرقاً ، لأن هذه لا من موضوع ، وحركة الكون من فساد جوهرٍ قبله بحدوثه ، ولذلك قيل : إن الكون خروجٌ من حالٍ خسيسةٍ إلى حال نفيسة . قال أبو سليمان : حركة الإبداع عبارةٌ بسيطة لا يجب أن يفهم منها معنىً مركب . قال : وإنما قلت هذا لأن اللفظ نظير اللفظ في أغلب الأمر وليس المعنى نظير المعنى في أغلب الأمر ، واللفظ كله من وادٍ واحد في التركب بلغة كل أمة ، والمعاني تختلف في البساطة على قدر العقل والعقل ، والعاقل والعاقل ، وإنما حركة الإبداع مشارٌبها إلى مقوم الأشياء بلا كلفة فاعل ، ولا معاناة صانع ، وإنها بدت بالمبدع من المبدع للمبدع لا على أن الباء ألصقت به شيئاً ، ولا على أن من فصلت منه شيئاً ، ولا على أن اللام أضافت إليه شيئاً ، فإن هذه العلامات والأمارات كلها موجودةٌ في الأشياء التي تعلقت بالإبداع ، فلم يجز أن ينعت بها المبدع ، ولو جاز هذا لكان داخلاً فيها ، وموجوداً بها ، وهذا بعيدٌ جداً . فلما جل عن هذه الصفات بالتحقيق في الاختيار وصف بها بالاستعارة على الاضطرار ، لأنه لابد لنا من أن نذكره ونصفه وندعوه ونعبده ونقصده ونرجوه ونخافه ونعرفه وننحوه ونطلب ما عنده ونواجهه ونكافحه ؛ وهذه نعمةٌ منه علينا ، ولطفٌ منه بنا ، وحكمةٌ بينه وبيننا وإلا كانت العصمة تنبتر ، والطمع ينقطع ، والأمل يضعف ، والرجاء يخيب ، والأركان تتخلخل ، والجود والكرم والحكمة والقدرة والجبروت والملكوت تأبى ذلك ؛ فصارت هذه الأسماء والصفات سلالم لنا إليه ، لا حقائق يجوز أن يظن به شيءٌ منها ، على سبيل السياج الممدود ، والمنهاج المحدود . سقت كلام عيسى في تصنيف الحركات من أجل هذه الفقرة التي كانت محفوظةً في حركة الإبداع ، فإني قد وجدت للقوم في هذا الباب حيرةً عارضة أو راكدةً ، لا يستطيعون التقصي عنها ، ولا يقدرون على البراءة منها ، للضلال الذي قد لزمهم ، والأصنام التي قد تربعت في نفوسهم ، والأمثلة التي قد خالطت عقولهم ، والأفياء التي استصحبوها من إحساسهم ؛ والقائل هذا ينبغي أن يتحرى ويتلبث حتى يعرى من هذه الأشياء ويتريث ؛ فحينئذ أضمن له أن يصح توحيده ، ويتم تجريده ، وإلى التوحيد تنتهي الفلسفة بأجزائها الكثيرة ، وأبوابها المختلفة ، وطرقها المتشعبة . وأنا أعوذ بالله من صناعةٍ لا تحقق التوحيد ولا تدل على الواحد ولا تدعو إلى عبادته ، والاعتراف بوحدانيته ، والقيام بحقوقه ، والمصير إلى كنفه ، والصبر على قضائه ، والتسليم لأمره ؛ ووجدت أرباب هذه الصناعات ، أعني الهندسة والطب والحساب والموسيقى والمنطق والتنجيم معرضين عن تجشم هذه الغايات ، بل وجدتهم تاركين الإلمام بهذهالحافات ، وهذه آفةٌ نسأل الله السلامة منها ، والعافية من عواقبها ؛ والسلام . قيل : ما التمام ؟ قال : بلوغ الشيء الحد الذي ما فوقه إفراط ، وما دونه تقصير . قال أبو سليمان : التمام أليق بالمحسوسات ، والكمال أليق بالأشياء المعقولة . قال : وليست هذه الفتيا مني جازمة ، ولا عن العرب العاربة مروية ، ولكن إذا لحظنا المعاني مختلفة ، طلبنا لها أسماءً مختلفة ، ليكون ذلك معونةً لنا في تحديد الأشياء أو في وصف الأشياء من طريق الإقناع الكاف للجدل والتهمة ، أو من طريق البرهان الساطع بالحجة ، الرافع للشبهة ، أو من طريق التقليد الجاري على السنن والعادة . قال : ولهذا إذا قيل : ما أتم قامته كان أحسن ، وإذا قيل : ما أكمل نفسه كان أجمل . قيل له : هل يتساوى الكون والفساد فيبقى الشيء على ما هو به ؟ فقال : أما على الحقيقة فلا ؛ ولكن على السعة ، لأن الكون متصل بالفساد ، إلا أنهما يخفيان في مبادئهما حتى إذا امتد الآنان فصار آناً واحداً فحينئذٍ بان الكون من الفساد ، وبان الفساد من الكون ، وهذا بالاعتبار الحسي ؛ فأما العقل فيرتفع عن هذا ، لأنه يعلم حقيقة الشيء على ما هو عليه ، ولا يقبل من الحس حكماً ، ولا يحتكم إليه أبداً . وإنما الحس عاملٌ من عمال العقل . والعامل يجور مرةً ويعدل مرة ، فأما الذي هذا هو عامله فهو الذي يتعقبه ، فإن وجده جائراً أبطل قضاءه ، وإن وجد عادلاً أمضى حكمه ، ومتى استشير الحس في قضايا العقل فقد وضع الشيء في غير موضعه ، ومتى استشير العقل في أحكام الحس فقد وضع الشيء في موضعه . قيل : فما الصورة ؟ قال : التي بها يخرج الجوهر إلى الظهور عند اعتقاب الصور إياه .قال أبو سليمان : هذه الفتيا جزافية ، الصور أصناف : إلهيةٌ وعقلية ، وفلكيةٌ وطبيعيةٌ ، وأسطقسية وصناعية ، ونفسيةٌ ولفظية ، وبسيطةٌ ومركبةٌ ، وممزوجةٌ وصافيةٌ ، ويقظيةٌ ونوميةٌ ، وغائبيةٌ وشاهدية . ثم اندفع فقال : أما الصورة الإلهية - وهي أعلاها في الرتبة والحقيقة . وهي أبعد منا في التحصيل إلا بمعونة الله تعالى - فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التقريب ، وذلك أن البساطة تغلب عليها ، إلا أنها مع ذلك ترسم بأن يقال : هي التي تجلت بالوحدة ، وثبتت بالدوام ، ودامت بالوجود . وأما الصورة العقلية فهي شقيقة تلك ، إلا أنها دونها لا بالانحطاط الحسي ، ولكن بالمرتبة اللفظية ، وليس بين الصورتين فصلٌ إلا من ناحية النعت ، وإلا فالوحدة شائعةٌ وغالبةٌ وشاملة ، لكن الصورة الإلهية تلحظ لحظاً ، ولا يلفظ بوصفها لفظاً ، لمشاكهتها الصورة النفسية ، فإذا كان كذلك أمكن أن ترسم فيقال : هي التي تهدي إلى العاقل ثلجاً في الحكم ، وثقةً بالقضاء ، وطمأنينة للعاقبة ، وجزماً بالأمر ، ودحوضاً للباطل ، وبهجةً للحق ونوراً للصدق . والفرق بين الصورة الإلهية والصورة العقلية أن الصورة الإلهية ترد عليك وتأخذ منك ، والصورة العقلية تصل إليك فتعطيك ، فالأولى بقهرٍ وقدرة ، والثانية برفقٍ ولطافة ؛ وتلك تحجبك عن لم وكيف ، وهذه تفتح عليك لم وكيف ، وتلك لا تنحي ولا تطلب ، وهذه يسعى إليها ، ويسأل عنها وتوجد ، وأنوار الصورة الإلهية بروقٌ تمر ، وأنوار الصورة العقلية شموسٌ تستنير ؛ وتلك إذا حصلت لك بالخصوصية لا نصيب لأحدٍ منها ، وهذه إذا حصلت لك فأنت وغيرك شرعٌ فيها ؛ وتلك للصون والحفظ ، وهذه للبذل والإفاضة . وأما الصورة الفلكية فداخلةٌ تحت الرسم بالعرض ، وللوهم فيها أثرٌ كثير ، ولأنها مأخوذةٌ من الجسم الأعظم صارت مشاكهتها مقسومةً بين البسيط الذي لا تركيب فيه البتة ، وبين المركب الذي لا يخلو من التركيب البتة ؛ ولهذا صار تأثير الفلك في المتحركات عنه أشد من تأثر الفلك عن المحرك له ، وكأنه أول محركٍ متحرك ؛ وليس هكذا ما علا عنه .والفلك بما هو جسمٌ منقوص الصورة ، وبما هو دائم الحركة شريف الجوهر . وأما الصورة الطبيعية فتعلقها بالمادة القابلة لآثارها بحسب استعدادها لها ، فلذلك ما هي مزحزحة عن الدرجة العليا ، وعشقها للقابل منها أشد من عشقها للمفيض عليها ، ولهذا أيضاً كانت منافعها ممزوجة ، ومضارها بحتة ، وهي تجمع بين الحكمة والبله ، وبين الجيد والرديء ، ولو سألنها لم أنت ضارةٌ نافعة ؟ لقالت : بعدت ، فلما بعدت صوبت وصعدت . وسمعت أبا النفيس يقول في وصف الطبيعة كلاماً له رونقٌ في النفس وأنا أصل هذه الجملة به . قال : أيتها الطبيعة ، ما الذي أقول لك ، وبأي شيء أؤاخذك ، وكيف أوجه العتب عليك ؟ فإنك قد جمعت أموراً منكرة ، وأحوالاً عسرة ، لا يفي نظامك فيها بانتثارك عليها ، ولك بوادر ضارة ، وغوائل خفيةٌ تبدو منك ، وتغور فيك ، وترجع إليك ، حتى إذا قلنا في بعضها : إنك حكيمة ، قلنا في بعضها : إنك سفيهة ، فالبله منك مخلوطٌ باليقظة ، والاستقامة فيك عائدةٌ بالاعوجاج ، وفيك فظائع ونزائع ، وقوارع وبدائع ، لأن حركاتك تستن مرةً استناناً تعشقين عليه ، وتحبين من أجله ، وتزيغ أخرى زيغاً تمقتين عليه ، وتبغضين بسببه ، وربما كانت حركتك نقصاً للبناء المحكم والصورة الرائعة ، والنظام البهي ، وربما كانت بناءً للمنتقض ، وتجديداً للبالي وإصلاحاً للفاسد ، حتى كأنك عابثةٌ بلا قصد ، عائثةٌ على عمد ، وعلى جميع صفاتك من الواصفين لك لم يعلم من ظن ، ولا رأى من تخيل ، ولا بعد لفظٌ من تأويل ، ولا حال معنىً عن توهم ، ولا أسفر حقٌ عن باطل ، ولا تميز بيانٌ عن تمويه ، ولا وضح نصحٌ من غش ، ولا سلم ظاهرٌ من تناقض ، ولا خلت دعوىمن معارض ، فلهذا وأشباهه واجهتك بخطابي ، وعرضت عليك ما في نفسي ، فبالذي أنت به قائمة ، وبالذي أنت به موجودة ، وبالذي أنت له منقلبة ، وإليه منساقة ، إلا خبرتني عنك ، وشفيت غليلي منك ، ونعت لي غيب شأنك ، وجعلت الخبر عنك كعيانك ، وإنما ضرعت إليك هذا الضرع ، وعرضت عليك هذا الوجع ، لأنك جارتي وصاحبتي ، وليس بيني وبين حجاب إلا ما هو عدوٌ منك أو مني ، أعني بما هو منك لطف سحرك ، وخفاء سرك ، وأعني بما هو مني ما أعجز عن استبانته واستيضاحه إلا بقوة الإله الذي هو سببٌ لحركتك في أفانين تصرفك ، وأعاجيب عدلك وتحيفك . وكان إذا بلغ هذا الحد وما شاكله أخذ في كلامٍ كالجواب على طريق التأنيس والتسلية والاستراحة ، وهذا بالواجب ، لأن الإنسان بسبب أغراضه المجهولة ، وعوارضه الفاجئة الباغتة من الغيب والشهادة يفتقر افتقاراً شديداً إلى هذه النعوت التي تقدم ذكرها ؛ وهذا كالداء والدواء وليس لأحد أن يتهكم فيقول : هلا ارتفع الداء أصلاً فيستغني عن الدواء جملة ، وهلا وقع الدواء أبداً على الداء ونفاه وصرفه . فإن هذا كلامٌ مدخول ، من عقل كليل ، ولعمري إن من جهل القسمة الإلهية في الأزل بحسب شهادة العقل لعب به الوسواس في هذه المواضع ، وظن أن الأمر لو كان بخلاف ما هو عليه كان أولى وأتم وأوثق وأحكم . يا ويحه من أين يوجب هذا الحكم ؟ وبأي شيء يثبت هذا القضاء ؟ وكيف يثق بهذا الوهم ؟ وكان يقول أيضاً إن الطبيعة تقول : أنا قوةٌ من قوى البارىء ، موكلةٌ بهذه الأجسام المسخرة حتى أتصرف فيها بغاية ما عندي من النقش والتصوير والإصلاح والإفساد الذين لولاهما لم يكن لي أثرٌ في شيء ، ولا لشيء أثرٌ مني ، وكان وجودي وعدمي سواءً ، وحضوري وغيابي واحداً ، ولو بطلت بطل ببطلاني ما أنا به ؛ وهذا زائفٌ من القول ، وخطلٌ من الرأي ، وتحكمٌ من الظان ؛ ولو احتمل إيراد كل ما كان يتنفس به هذا الشيخ في حال نشاطه وانقباضه ، لكان ذلك مراداً فسيحاً ، ومشرعاً واسعاً ، ولكن ذلك متعذرٌ لعجزي عن الوفاء به ، ولأن هذه الرسالة تتقلص عنه ، وإنما أجول في هذه الأكناف لكلفي بالحكمة كيف دارت العبارة بها ، وأمكنت الإشارة إليها ، لا على التقصي لها وبلوغ الغايةمنها ، ومن يقدر على ذلك ؟ ومن يحدث نفسه بذلك ؟ العالم أبعد غوراً وأعلى قلةً وأثقل وزناً وأحد غرباً وألطف أعراضاً وأكثف أجراماً وأعجب تركيباً وأغرب بساطةً من أن يأتي عليه إنسانٌ واحد ، وكل من كان في مسكه ، وإن بلغ الغاية في دقة الذهن وحسن البيان وبلاغة اللفظ ، واستنباط الغامض في حاضره وغائبه ؛ هذا ما لا يتوهمه العقل . وأنا أعوذ بالله من هذه الدعوى ، وأسأله أن يلهمنمي الشكر على ما فتح وشرح ، وهدى إليه ومنح ، وأطلع عليه وندح ، فإن الشكر قرعٌ لباب المزيد ، والمزيد باعثٌ على الشكر الجديد ، والشكر - وإن خلص بالعرفان ، وجرى بضروب البيان على اللسان - فإنه يقصر عن تواتر النعمة بعد النعمة ، وتظاهر الفائدة بعد الفائدة . وأما الصورة الأسطقسية ، فهي لائحةٌ لكل ذي حسٍ بالتناظم الموجود فيها ، والتباين الآخذ بنصيبه منها ، ولها انقسامٌ إلى آحادها ، أعني أن صورة الماء مباينةٌ لصورة الهواء ، وكذلك صورة الأرض مخالفةٌ لصورة النار ، فتحديديها بما يقررها مع غوصها في كل أسطقسٍ شديد ، واللفظ لا يصفو ، والمراد لا ينماز . وأما الصورة الصناعية فهي أبين من ذلك ، لأنها مع غوصها في مادتها بارزةٌ للبصر والسمع ولجميع الإحساس ، كصورة السرير والكرسي والباب والخاتم وما أشبه ذلك . وأما الصورة النفسية فهي راجعةٌ إلى العلم والمعرفة وتوابعهما فيما يحققهما أو يخدمهما وهي شقيقةٌ للصورة العقلية بالحق . وأما الصورة البسيطة فلاختلاف مرانب البسيط ما يعز رسمها إلا بالإيماء إليها ، فإن الحق هذا الإيماء سامعه فذاك ، وإلا فلا طمع في عبارةٍ شافيةٍ عنها .وأما الصورة المركبة فهي باديةٌ للحس بآثار الطبيعة في مادتها ، وباديةٌ أيضاً للنفس بآثار العقل في سيحه عليها ، وكما أن بين البسيط والبسيط فرقاً يكاد البسيط يكون به مركباً ، كذلك بين المركب والمركب فرقٌ يكاد المركب يكون به بسيطاً ؛ وهذه جملةٌ تفسيرها معوز . وأما الصورة الممزوجة فهي أخت الصورة المركبة ، وكذلك الصورة الصافية أخت الصورة البسيطة ، وليس هذا تمايزاً في اللفظ واللفظ ، إذ كانتا متصاحبتين ولم تكونا متعاندتين . وأما الصورة اليقظية فهي مجموعةٌ من الإحساس ، لجريانها على وجدان المشاعر كلها ، وما لها وبها . وأما الصورة النومية فهي أيضاً متميزةٌ عن أختها ، أعني اليقظية ، لأنها إغضاء عينٍ وفتح عينٍ ، أعني أن النائم قد حيل بينه وبين مثالات الإحساس وعوارض الكون والفساد ، وفتح عليه بابٌ إلى وجدان شيء آخر يجري كظل الشخص من الشخص ، فإن كان ذلك من وادي الطبيعة أومأ إلى آثار الأخلاط ، وإن كان من وادي النفس أومأ إلى نصب التماثيل ، وإن كان من وادي العقل صرح بحقائق الغيب في عالم الشهادة إما بالتقريب وإما بالتهذيب أعني إما بوقوعه عقيب ذلك ، وإما بعد مهلة . وأما الصورة الغائبية والشاهدية فقد اتصل الكلام في شرحها بما تقدم من حديث الصورة اليقظية والنومية ، والعبارة عن الشاهد مقصورةٌ على وجدان المشاعر ، والعبارة عن الغائب مقصورةٌ على ما تغلق على المشاعر ، وفي الغائب شاهدٌ هو الملحوظ من الغائب ، وفي الشاهد غائبٌ هو المبحوث عنه في الشاهد ، فالشاهد غائبٌ بوجه ، والغائب شاهدٌ بوجه ، حتى إذا استجمعا لك كنت بهما في شعارهما . والإلهيون من الفلاسفة هم الذين جمعوا بين هذين النعتين ، وعلوا هاتين الذروتين ، فتوحدوا عند ذلك بخصائصهم ، وانسلخوا عن نقائصهم ، فلو قلت : ما هؤلاء بشرٌ كنت صادقاً .ولقد أحسن الذي قال في وصف العصابة حيث وصف فقال : فينا وفيك طبيعةٌ أرضيةٌ . . . تهوي بنا أبداً لشر قرار لكنها مقسورةٌ مأسورةٌ . . . مغلوبة السلطان في الأحرار فجسومهم من أجلها تهوي بهم . . . ونفوسهم تسمو سمو النار لولا منازعة الجسوم نفوسهم . . . نفذت بسورتها من الأقطار عرفوا لروح الله فيه فضل ما . . . قد آثروا من صالح الآثار فتنزهوا وتكرموا وتعظموا . . . عن لؤم طبع الطين والأحجار نزعوا إلى البحر الذي منه أتت . . . أرواحهم وسموا عن الأغوار وهذا وصفٌ بليغٌ بالإضافة إلى القوم . فأما ما وراء هذا فهناك خبر ثقةٍ بما قرر وقال : وأما الصورة اللفظية فهي مسموعةٌ بالآلة التي هي الأذن ، فإن كانت عجماء فلها حكم ، وإن كانت ناطقةً فلها حكم ، وعلى الحالين فهي بين مراتب ثلاث : إما أن يكون المراد بها تحسين الإفهام ، وإما أن يكون المراد بها تحقيق الإفهام ، وعلى الجميع فهي موقوفةٌ على خاص ما لها في بروزها من نفس القائل ، ووصولها إلى نفس السامع ؛ ولهذه الصورة بعد هذا كله مرتبةٌ أخرى إذا مازجها اللحن والإيقاع بصناعة الموسيقار ، فإنها حينئذ تعطي أموراً ظريفة ، أعني أنها تلذ الإحساس ، وتلهب الأنفاس ، وتستدعي الكاس والطاس ، وتروح الطبع ، وتنعم البال ، وتذكر بالعالم المشوق إليه ، المتلهف عليه . هذا منتهى كلامه على ما علقه الحفظ ، ولقنه الذهن ؛ ولو كان مأخوذاً عنه بالإملاء لكان أقوم وأحكم ، ولكن السرد باللسان ، لا يأتي على جميع الإمكان في كل مكان ، فهذا هذا .قال الوزير : هذا بابٌ في غاية الإيفاء والاستيفاء ، ومن يتحكك بالاعتراض عليه فقد صغى ، وأبدى صفحته بالبهت ، ودل من عقله على الدخل ، ومن أخلاقه على الخلل ؛ لقد وهب الله لهذا الرجل مقاماً عالياً ، ولا عجب فإنه معوض بهذا عما فاته . وقال : أنشدني في الخمر شيئاً غريباً ، فأنشدته : ومورد الوجنات يخ . . . طر حين يخطر في مورد يسقيك من جفن اللجين . . . إذا سقاك دموع عسجد حتى تظن الشمس تن . . . زل أو تظن الأرض تصعد فإذا سقاك بعينه . . . وبفيه ثم سقاك باليد حياك بالياقوت تح . . . ت الدر من فوق الزبرجد قال : أحسنت والله ؛ هات زيادةً : فقلت : وعذراء ترغو حين يضربها الفحل . . . كذا البكر تنزو حين يفتضها البعل تدير عيوناً في جفونٍ كأنما . . . حماليقها بيضٌ وأحداقها نجل كأن حباب الماء حول إنائها . . . شذورٌ ودرٌ ليس بينهما فصل توهمتها في كأسها فكأنما . . . توهمت شيئاً ليس يدركه العقل إذا اشتبكت رجلاي من سورة الكرى . . . درجت إليها مثل ما يدرج الطفلوأنشدت لآخر : وكم عائبٍ للخمر لو أن أمه . . . تبول مداماً لم يزل يستبيلها ولآخر : خليلي لومان على الخمر أو دعا . . . فلن تجدا عندي على اللوم مطمعا وشبا سنا نارٍ لعل نديمنا . . . بنجران أن يلقي سناها فيتبعا فما راعنا إذ أوقدت فوق ربوةٍ . . . من الأرض إلا راكبان قد أوضعا فهشا إلينا ثم قالا : ألا انعما . . . مساءً فقلنا : دام ذاك لنا معا وأنشدت لآخر : سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا . . . جبال شمامٍ ما سقوني لغنت وأنشدت أيضاً : الكأس لا تدري ولا الخمر . . . من أي شيء عجل السكر أسكرني من قبل شربي لها . . . من دأبه الإعراض والهجر قلت له والخمر في كأسه . . . كأنها في كفه بدر أنت لعمري الخمر يا سيدي . . . ليس الذي سقيتني الخمر آخر : تركت النبيذ لأهل النبيذ . . . فخار لي الله في تركه وقد كنت قدماً به معجباً . . . أروح وأغدو إلى سفكه فقال : قد جرى هذا أيضاً على التمام . اختم مجلسنا بدعاء الصوفية . فقلت : سمعت ابن سمعون يدعو في الجامع في آخر مجلسه ويقول : اللهم اجعلقولنا موصولاً بالعمل ، وعملنا محققاً للأمل ، ولا تضايقنا فيما نتحول به ، ونتقلب لك فيه ، وكنف علينا بسترك ، وسوغنا برك ، وألهمنا شكرك ، وخفف على أفواهنا ذكرك ، واخصصنا بعد ذلك بما هو أليق بذلك ؛ اللهم اسمع واستجب وقرب . وانصرفت .
الليلة الثامنة والثلاثون
وجرى ليلةً بحضرة الوزير - أعلى الله كلمته ، وأدام غبطته ، ووالى نعمته - أحق من دعي له ، وأشرف من بوهي به ، وأكمل من شوهد في عصره - حديث ابن يوسف وما هو عليه من غثاثته ورثاثته ، وعيارته وخساسته . فقلت له : عندي حديثٌ ، ولاشك أن الوزير مطلعٌ عليه ، عارفٌ به . قال : ماذاك ؟ قلت : حدثني أبو علي الحسن بن عليٍ القاضي التنوخي قال : كنت في الصحبة إلى همذان سنة تسعٍ وستين ، وكنا جماعةً وفينا ابن حرنبار أبو محمد ، وكان في جنبه ابن يوسف ، فاتفق أن عضد الدولة - برد الله مضجعه - قال لابن شاهويه : سر إلى ابن حرنبار وقل له : ينبغي أن تسير إلى البصرة ، وإنا نجعل لك فيها معونة ، فقد طال مقامك عندنا ، وتوالى تبرمنا بك ، وتبرمك بنا ، وليس لك بحضرتنا ما تحبه وتقترحه ، والسلامة لك في بعدك عنا قبل أن يفضي ذلك إلى تغيرنا . وكلاماً في هذا النوع . قال : ونفذ أبو بكر ومعه آخر من المجلس يشهد التبليغ والأداء ، ويسمع الجواب والابتداء - على رسمٍ كان معهوداً في مثل هذا الباب - فلقي ابن حرنبار وشافهه بالرسالة على التمام ؛ فقال أبو محمد لما سمع : الأمر للملك ، ولا خلاف عليه ؛ ولعمري إن الناس بجدودهم ينالون حظوظهم ، وبحظوظهم يستديمون جدودهم ؛ ولو وفقت ما كان عجيباً ، فقد نال من هو أنقص مني ، وبلغ المنى من أنا أشرف منه ، ولكن المقاديرغالبة ، وليس للإنسان عنها مرتحل ؛ وقد قيل : من ساور الدهر غلب ، ولكن أيها الشيخ لي حاجة : أحب أن تبلغ الملك كلمةً عني . قال : هاتها ؛ قال : تقول له : أنا صائرٌ إلى ما رسمت ، وممتثلٌ ما أمرت ، بعد أن تقضي لي وطراً في نفسي ، قد تقطع عليه نفسي ، وذاك أن تتقدم فيقام عبد العزيز بن يوسف بين اثنين فيصفعانه مائتين ، ويقولان له : إذا لم تبذل جاهك لمتلهف ، ولا عندك فرجٌ لمكروب ، ولا برٌ لضعيف ، ولا عطاءٌ لسائل ، ولا جائزةٌ لشاعر ، ولا مرعىً لمنتجع ، ولا مأوىً لضيف ، فلم تخاطب بسيدنا ، وتقبل لك اليد ، ويقام لك إذا طلعت ؟ ؟ قال ابن شاهويه : فقبل أن لقيت الملك أفصح له الذي كان معي مشرفاً علي . فلما دخلت الدار عرف ، فقال : علي به ، فحضرته وابن يوسف قاعدٌ بين يديه على رسمه . فقال لي : هات الجواب عما نفذت فيه ؛ فقلت : الجواب عندك ، فقال : ما أعجب هذا أنت حملت الرسالة وأطالب غيرك بالجواب ؟ قال : فتلويت حياءً من ابن يوسف ، فقال : هات يا هذا الحديث بفصه ، فوالله لا أقنع إلا به ، ما هذا التواني والتكاسل ، فكرهت اللجاج ، فسردته على وجهه ، ولم أغادر منه حرفاً ، وابن يوسف يتقدد في إهابه ، ويتغير وجهه عند كل لفظةٍ تمر به ، فأقبل عليه الملك وقال : كيف ترى يا أبا القاسم الكيس ؟ فقال : يا مولانا ، إنما أنا أقضي الحاجة بك ، فإذا لم تقضها كيف أكون ؟ فإن الحوائج كلها إليك . قال : صدقت ، أنا لا أقضي حاجةً لك ، لأنك لا تقصد بها وجه الله ، ولا تبغي بها مكرمة ، ولا تحفظ بها مروءة ، وإنما ترتشي عليها ، وتصانع بها ، وتجعلني باباً من أبواب تجارتك وأرباحك ، ولو كنت أعلم أنك تقضي حاجةً لله أو لمكرمةٍ أو لرحمة ورقةٍ لكان ذلك سهلاً علي ، وخفيفاً عندي ، لكنك معروف المذهب في الطمع والحيلة ، وجر النار إلى قرصك ، وشرهك في جيع أحوالك ؛ وليس الذنب لك ، ولكن لمن رآك إنساناً وأنت كلبٌ .