كتاب : الإمتاع والمؤانسة
المؤلف : أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي
وما أغفل الإنسان عن حق الله الذي له هذا الملك المبسوط ، وهذا الفلك المربوط ؛ وهذه العجائب التي تصعد فوق العقول التامة بالاعتبار والاختبار بعد الاختبار ؛ وإنما بث الله تعالى هذا الخلق في عالمه على هذه الأخلاق المختلفة والخلق المتباينة ، ليكون للإنسان المشرف بالعقل طريقٌ إلى تعرف خالقها ، وبيانٌ لصحة توحيده له بما يشهد من أعاجيبها ، ونيلٌ لرضوانه بما يتزود من عبره التي يجد فيها ، وليكون له موقظٌ منها ، وداعٍ حادٍ إلى طاعة من أبداها وأبرزها ، وخلطها وأفردها . فقال : قد كنت قلت : إنه يجري كلامٌ في النفس منذ ليالٍ ، فهل لك في ذلك ؟ . قلت : أشد الميل وأوحاه ، لكن بشرط أن أحكي ما عندي ، وأروي ما حصلت من هذه العصابة بسماعي وسؤالي . فقال : نستأنف الخوض في ذلك - إن شاء الله - فإن النعسة قد حدثت العين ، فأنا كما قال : قد جعل النعاس يغر نديني . . . أدفعه عني ويسر نديني أنشدني أبياتاً ودعني بها ، ولتكن من سراة نجد ، ليشتم منها ريح الشيخ والقيصوم . فأنشدته لأعرابي قديم : مطرنا فلما أن روينا تهادرت . . . شقاشق منها رائبٌ وحليبورامت رجالٌ من رجالٍ ظلامةً . . . وعادت ذحولٌ بيننا وذنوب ونصت ركابٌ للصبا فتروحت . . . لهن بما هاج الحبيب حبيب وطئن فناء الحي حتى كأنه . . . رجا منهلٍ من كرهن نخيب بنى عمنا لا تعجلوا ينضب الثرى . . . غليلاً ويشفى المسرفين طبيب فلو قد تولى النبت وامتيرت القرى . . . وحثت ركاب الحي حين تؤوب وصار عيوف الخود وهي كريمةٌعلى أهلها ذو جدتين قشيب وصار الذي في أنفه خنزوانةٌ . . . ينادي إلى داعي الردى فيجيب أولئك أيامٌ تبين ما الفتى . . . أكابٍ سكيتٌ أم أشم نجيب فعجب وقال : هذا جنى غرسٍ قد جذ أصله ، ونزيح قليبٍ قد غار مده وجزره ، وانصرفت .الليلة الثالثة عشرةفلما حضرت ليلةً أخرى قال : هات . قلت : إن الكلام في النفس صعب ، والباحثون عن غيبها وشهادتها وأثرها وتأثرها في أطراف متناوحة وللنظر فيهم مجال ، وللوهم عليهم سلطان ، وكل قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه ، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه ، والرأي بعد ذلك إلى العقل الناصح والبرهان الواضح . قال بعض الفلاسفة : إذا تصفحنا أمر النفس لحظناها تفعل بذاتها من غير حاجة إلى البدن ، لأن الإنسان إذا تصور بالعقل شيئاً فإنه لا يتصوره بآلة كما يتصور الألوان بالعين والروائح بالأنف ، فإن الجزء الذي فيه النفس من البدن لا يسخن ولا يبرد ولا يستحيل من جهة إلى أخرى عند تصوره بالعقل ، فيظن الظان منا أن النفس لا تفعل بالبدن ، لأن هذه الأمور ليست بجسم ولا أعراض جسمية . وقد تعرف النفس أيضاً الآن من الزمان والوحدة واليقظة ، وليس لأحد أن يقول : إن النفس تعرف هذه الأشياء بحس من الإحساس ، ففعل النفسي إذن يفارق البدن ، وتأليف البرهان أن يكون على أن يقال : للنفس أفعال تخصها خلوٌ من البدن ، مثل التصور بالعقل ، وكل ما له فعل يخصه دون البدن فإنه لا يفسد بفساد البدن عند المفارقة . وقال أيضاً : وجدنا الناس متفقين على أن النفس لا تموت ، وذلك أنهم يتصدقون عن موتاهم ، فلولا أنهم يتصورون أن النفس لا تموت ، ولكنها تنتقل من حال إلى أخرى إما إلى خير وإما إلى شر ؛ ما كانوا يستغفرون لهم ، وما كانوا يتصدقون على موتاهم ويزورونقبورهم . وقال أيضاً : النفس لا تموت ، لأنها أشبه بالأمر الإلهي من البدن ، إذ كان يدبر البدن ويرأسه . والله جل وعز المدبر لجميع الأشياء ، والرئيس لها . والبدن أشبه شيء بالشيء الميت من النفس إذ كان البدن إنما يحيا بالنفس . وقال أيضاً : النفس قابلة للأضداد ، فهي جوهر ، فالفائدة أن النفس جوهر . وقال : النفس ليست بهيولى ، فلو كانت هيولى لكانت قابلةً للعظم ، فليست النفس إذاً بهيولى . وقال : ليست النفس بجسم ، لأن النفس نافذة في جميع أجزاء الجسم الذي له نفس ، والجسم لا ينفذ في جميع أجزاء الجسم ؛ ولا هيولى ، لأن النفس لو كانت هيولى لكانت قابلة للمقادير والعظم ، وفائدة هذا أن النفس جوهر على طريق الضرورة . وقال آخر : حركة كل متحرك تنقسم قسمين : أحدهما من داخل ، وهو قسمان : قسم كالطبيعة التي لا تسكن البتة ، كحركة النار ما دامت ناراً ، وقسمٌ هو كحركة النفس تهيج أحياناً وتسكن أحياناً ، وكحركة جسد الإنسان التي تسكن إذا خرجت نفسه وصار جيفة . والقسم الآخر من خارج ، وهو قسمان : أحدهما يدفع دفعاً كما يدفع السهم ويطلق عن القوس ، والآخر يجر جراً كما تجر العجلة والجيفة . وقال : فنقول : ليس يخفى أن جسدنا ليس مدفوعاً دفعاً ولا مجروراً جراً ولما كان كل مدفوع أو مجرور متحرك من خارج متحركاً لا محالة من داخل ، فالجسد إذن متحرك من داخل اضطراراً . وقال : إن كان جسدنا متحركاً من داخل ، وكان كل متحرك من داخل إما متحركاً حركةً طبيعية لا تسكن ، وإما نفسية تسكن .فليس يخفى أن حركة جسد الإنسان ليست بدائمة لا تسكن ، بل ساكنة لا تدوم ، وكانت حركة كل ما سكنت حركته فلم تدم ليست حركةً طبيعية لا تسكن ، بل نفسيةً من قبل نفسٍ تحركه وتحسسه . بوقال : إن كانت النفس هي التي تحيي الإنسان وتحركه ، وكان كل محرك يحرك غيره حياً قائماً موجوداً ، فالنفس إذاً حيةٌ قائمة موجودة . وقال أيضاً : النفس جوهر لا عرض ، وحد الجوهر أنه قابل للأضداد من غير تغير ، وهذا لازم للنفس ، لأنها تقبل العلم والجهل ، والبر والفجور ، والشجاعة والجبن ، والعفة وضدها ، وهذه أشياء أضدادٌ ، من غير أن تتغير في ذاتها ، فإذا كانت النفس قابلةً لحد الجوهر ، وكان كل قابل لحد الجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر . وقال : قد استبان أن النفس هي المحيية المحركة للجسد الذي هو الجوهر ولما كان كل محيٍ حركٍ للجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر . وقال : لا سبيل أن يكون المحيا المحرك جوهراً ويكون المحيي المحرك غير جوهر ، فإذا كانت هي المحيية المحركة للجسد ، وكان لا يمكن أن يكون المحيي المحرك للموجود غير موجود ، فالنفس إذاً لا يمكن أن تكون غير موجودة . وقال : إن كانت النفس بها قوى وحياة الجسد ، فيمتنع أن يكون قوامها بالجسد ، بل بذاتها التي قامت بها حياة الجسد . وقال : إن كانت النفس قائمة بذاتها التي قامت بها حياة الجسد ، فما كان قائماً بذاته فهو جوهر ، فالنفس إذا جوهر . وقد أملى علينا أبو سليمان كلاماً في حديث النفس هذا موضعه ، ولا عذر في الإمساك عن ذكره ليكون مضموماً إلى غيره ، وإن كان كل هذا لم يجر على وجهه بحضرة الوزير - أبقاه الله ومد في عمره - لكن الخوض في الشيء بالقلم مخالفٌ للإفاضة باللسان ، لأن القلم أطول عناناً من اللسان ، وإفضاء اللسان أحرج منإفضاء القلم ، والغرض كله الإزادة ، فليس يكثير الطويل . قال : ينبغي أن نعرف باليقظة التامة أن فينا شيئاً ليس بجسم له مدات ثلاث : أعني الطول والعرض والسمك ، ولا يجزأ من جسم ولا عرض من الأعراض ، ولا حاجة به إلى قوة جسمية ، لكنه جوهر مبسوط غير مدرك بحس من الإحساس . ولما وجدنا فينا شيئاً غير الجسم وضد أجزائه بحدته وخاصته ، ورأينا له أحوالاً تباين أحوال الجسم حتى لا تشارك في شيء منها وكذلك وجدنا مباينته للأعراض ، ثم رأينا منه هذه المباينة للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجساماً والأعراض أعراضاً ؛ قضينا أن ها هنا شيئاً ليس بجسم ولا جزء من الجسم ، ولا هو عرض ، ولذلك لا يقبل التغير ولا الحيلولة ، ووجدنا هذا الشيء أيضاً يطلع على جميع الأشياء بالسواء ولا يناله فتور ولا ملال ، ويتضح هذا بشيء أقوله : كل جسم له صورة فإنه لا يقبل صورةً أخرى من جنس صورته الأولى البتة إلا بعد مفارقته الصورة الأولى ، مثال ذلك أن الجسم إذا قبل صورةً أو شكلاً كالتثليث ، فليس يقبل شكلاً آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول . وكذلك إذا قبل نقشاً أو مثالاً فهذا حاله ، وإن بقي فيه من رسم الصورة الأولى شيء لا يقبل الصورة الأخرى على النظم الصحيح ، بل تنقش فيه الصورتان ، ولا تتم واحدة منهما ، وهذا يطرد في الشمع وفي الفضة وغيرها إذا قبل صورة نقشٍ في الخاتم ؛ ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز ، وهذه الخاصة ضدٌ لخاصة الجسم ، ولهذا يزداد الإنسان بصيرةً كلما نظر وبحث وارتأى وكشف . ويتضح أيضاً عن كثب أن النفس ليست بعرض ، لأن العرض لا يوجد إلا في غيره ، فهو محمول لا حامل وليس هو قواماً ، وهذا الجوهر الموصوف بهذه الصفات هو الحامل لما لها أن تحمل ، وليس له شبه من الجسم ولا من العرض .وكان يقول : إذا صدق النظر ، وكان الناظر عارياً من الهوى ، وصح طلبه للحق بالعشق الغالب ، فإنه لا يخفى عليه الفرق بين النفس المحركة للبدن ، وبين البدن المتحرك بالنفس . قال : ولما عرضت الشبهة لقوم قصر نظرهم ، ولم يكن لهم لحظ ولا اطلاع فظنوا أن الرباط الذي بين النفس والبدن إذا انحل فقد بطلا جميعاً . وهذا ظن فيه عسف ، لأنهما لم يكونا في حال الارتباط على شكل واحد وصورةٍ واحدة ، أعني أنهما تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما . ألا ترى أن البدن كان قوامه ونظامه وتمامه بالنفس ؟ هذا ظاهر . وليس هذا حكم النفس في شأنها مع البدن ، لأ ، ها واصلته في الأول عند مسقط النطفة ، فما زالت تربيه وتغذيه وتحييه وتسويه حتى بلغ البدن إلى ما ترى ، ووجد الإنسان بها ، لأن النفس وحدها ليست بإنسان ، والبدن وحده ليس بإنسان ، بل الإنسان بهما إنسان ، فإذاً الإنسان نصيبه من النفس أكثر من نصيبه من البدن . وهذه الكثرة توجد في الأول من ناحية شرف النفس في جوهرها ، وتوجد في الثاني من جهة صاحب النفس الذي هو الإنسان بما يستفيده من المعارف الصحيحة ، ويضمه إلى الأفعال الواجبة الصالحة ، فأمر المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحق باليقين الخالص ، وأمر الأفعال الواجبة الصالحة العبادة له والرضوان عنه . وغاية المعرفة الاتصال بالمعروف ، وغاية الأفعال الواجبة الفوز بالنعيم والخلود في جوار الله ، وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إلى الجواز عليه كل من رجع إلى بصيرة وآوى إلى حسن سيرة . فأما من هو عن هذا كله عمٍ وعما يجب عليه ساهٍ ، فهو في قطيع النعم ، وإن كان متقلباً في أصناف النعم .وكان يقول كثيراً : الناس أصناف في عقولهم : فصنفٌ عقولهم مغمورة بشهواتهم ، فهم لا يبصرون بها إلا حظوظهم المعجلة ، فلذلك يكدون في طلبها ونيلها ، ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر . وصنف عقولهم منتبهة ، لكنها مخلوطة بسبات الجهل ، فهم يحرضون على الخير واكتسابه ، ويخطئون كثيراً ، وذلك أنهم لم يكملوا في جبلتهم الأولى وهذا نعتٌ موجود في العباد الجهلة والعلماء الفجرة ، كما أن النعت الأول موجودٌ في طالبي الدنيا بكل حيلة ومحالة . وصنفٌ عقولهم ذكيةٌ ملتهبة ، لكنها عمية عن الآجلة ، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة والوصايا اللطيفة والسمعة الربانية ، وهذا نعت موجود في العلماء الذين لم تثلج صدورهم بالعلم ، ولا حق عندهم الحق اليقين ؛ وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون في طلبها السيوف الحداد ، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشداد فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذة وفي طلب الراحة . وصنف عقولهم مضيئة بما فاء عليها من عند الله تعالى باللطف الخفي ، والاصطفاء السني ، والاجتنباء الزكي ، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة ؛ فتراهم حضوراً وهم غيب ، واشياعاً وهم متباينون . وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة ، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ . وهذا كما تقول : الملوك ساسةٌ ، ولكل واحد منهم خاصة ؛ وكما يقولون : هؤلاء شعراء ولكل واحد منهم بحر ؛ وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب وكما تقول : علماء ، ولكل واحد منهم مذهب .وعلى هذا أبو سليمان - حفظه الله - إذا أخذ في هذا الطريق أطرب ، لسعة صدره بالحكمة ، وفيض صوابه من المعرفة ، وصحة طبيعته بالفطرة . وقال : إنا بعد هذا المجلس تركنا صنفاً لم نرسمه بالذكر ، ولم نعرض له بالاستيفاء ، وهم الهمج الرعاع الذين إن قلت : لا عقول لهم كنت صادقاً ، وإن قلت : لهم أشياء شبيهة بالعقول كنت صادقاً ؛ إلا أنهم في العدد ، من جهة النسبة العنصرية والجبلة الطينية والفطرة الإنسية ، وفي كونهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها : ولذلك قال بعض الحكماء : لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق ويشهدون السوق . فضحك - أضحك الله ثغره ، وأطال عمره ، وأصلح شأنه وأمره - فقال : قد جرى في حديث النفس أكثر مما كان في النفس ، وفيه بلاغ إلى وقت ، وأظن الليل قد تمطى بصلبه ، وناء بكلكله ؛ وانصرفت .
الليلة الرابعة عشرة
ومر بعد ذلك في عرض السمر : ما تقلد امرؤ قلادةً أفضل من سكينة . فقال : ذكرتني شيئاً كنت مهتماً به قديماً ، والآن قرعت إلى بابه ؛ ما السكينة ؟ فإني أرى أصحابنا يرددون هذا الاسم ولا يبسطون القول فيه . فكان من الجواب : سألت أبا سليمان عن السكينة ما هي ؟ فقال : السكائن كثيرة : طبيعية ، ونفسية وعقلية ، وإلهية . ومجموعة من هذه بأنصباء مختلفة ، ومقادير متفاوتة ومتباعدة . والسكينة الطبيعية اعتدال المزاج بتصالح الأسطقسات ، تحدث به لصاحبه شارةٌ تسمى الوقار ، ويكون للعقل فيها أثر باد ، وهو زينةالرواء المقبول . والسكينة النفسية مماثلة الروية للبديهة ، ومواطأة البديهة للروية ، وقصد الغاية بالهيئة المتناسبة ، يحدث بها لصاحبها سمتٌ ظاهر ورنو دائم وإطراقق لا وجوم معه ، وغيبة لا غفلة معها ، وشهامة لا طيش فيها . والسكينة العقلية حسن قبول الاستفاضة بنسبة تامة إلى الإفاضة ؛ ومعنى هذا أن القابل مستغرق بقوة المقبول منه ، وبهذه الحال يحدث لصاحبها هدى يشتمل على وزن الفكر في طلب الحق مع سكون الأطراف في أنواع الحركات . والسكينة الإلهية لا عبارة عنها على التحديد ، لأنها كالحلم في الانتباه وكالإشارة في الحلم ، وليست حلماً ولا انتباهاً في الحقيقة ، لأن هذين نعتان محمودان في عالم السيلان والتبدل ، جاريان على التخيل والتجوز بزوائد لا ثبات لها ونواقص لا مبالاة بها ، روحانية في روحانية ، كما يقال : هذا صفو هذا ؛ وهذا صفو الصفو ومن لحظ هذه الكيفية وبوشر صدره بهذه الحقيقة استغنى عن رسوم محددة بألفٍ ولام ، وحقائق مكنونة في عرض الكلام ؛ وإذا جهلنا أشياء هي لأهل الأنس بلغات قد فطروا عليها ، وعبارات أنسوا بها ، كيف نجد السبيل إلى الإفصاح والإشارة إليها . فهذا باب واضح ، والطمع في نيله نازح ؛ وإذا كان المنال صعباً في الموضع الذي عمدنا إليه ، فكيف يكون حالنا في البحث عما في حيز الألوهية وبحبوحة الربوبية ، ولا كون هناك ولا ما نسبته للكون ؛ وأقوى ما في أيدينا أن نتعلل بالوجود ، فالموجود والوجدان والجود ، وهذه كلها غليظة بالإضافة إلينا وفوق الدقيقة بالإضافة إلى أعيانها .فعلى هذا ، الصمت أوجد للمراد من النطق ، والتسليم أظفر بالبغية من البحث . قال البخاري : فشيء كهذا بدقيقه وإشكاله ، وغموضه وخفائه ، كيف يظهر على جبلة بشري وبنية طينية وكمية مادية وكيفية عنصرية ؟ . فقال : يا هذا ، إنما يشع من هذه السكينة على قدر ما استودع صاحبها من نور العقل ، وقبس النفس ، وهبة الطبيعة ، وصحة المزاج ، وحسن الاختيار واعتدال الأفعال ، وصلاح العادة ، وصحة الفكرة ، وصواب القول ، وطهارة السر ومساواته للعلانية ، وغلبته بالتوحد ، وانتظام كل صادر منه ووارد عليه . وها هنا تمحى الجبلة البشرية ، وتتبدد الجبلة الطينية ، وتبيد الكمية المادية وتعفو الكيفية العنصرية ، ويكون السلطان والولاية والتصريف والسياسة كلها لتلك السكينة التي قدمنا وصفنا لها ، واشتد وجدنا بها ، وطال شوقنا إليها ودام حديقنا نحوها ، واتصل رنونا إليها ، وتناهت نجوانا بذكرها . وهذا هو الخلع الذي سمعت بذكره ، واللباس الذي سألت عنه ، أعني خلع ما أنت منه إنسان ، ولبس ما أنت به ملك . الله المستغاث منكم ، ما أشد بلواي بكم ، لم تتحركون إلا إلى ما لا سكون لكم فيه ؟ ولم تسألون عما لا اطلاع لكم عليه ؟ سلوا ربكم أعيناً بصيرة ، وآذاناً واعية ، وصدوراً طاهرة ، وقوة متتابعة ، فإنكم إذا منحتموها هديتم لها ، وإذا حرمتموها قطعتم دونها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال البخاري : وقد تركنا يا سيدنا حديث السكينة المجموعة من هذه الجملة بأنصباء مختلفة . فقال : لا عجب أن ينشأ العالم بكل ما فيه في هذه الحوة التي لذنا بها وحاولناالوصول إليها ؛ وأي شيء أعجب في هذا المقام ، رسم أو قوام ، أو ثبات أو دوام ، إلا له نصيب من عناية الله تعالى الكريم . نعم ، والسكينة المجموعة من كل ما سلف القول فيه تقاسمها نوع الإنسان بالزيادة والنقصان ، والغموض والبيان ، والقلة والكثرة ، والضعف والقوة ، وهذا يتبين بأن تقسم الطيش والحدة والعجلة والخفة على أصحابها ، فتجد التفاوت ظاهراً . وكذلك إذا قسمت الهدوء والقرار والسكون والوقار على أهلها ، فإنك تجد التباين مكشوفاً والاختلاف ظاهراً . ثم قال : أما السكينة التي هي في أعلى المراتب فهي لأشخاص فوق البشر ، وليس لهم نسبة من الخلق إلا الخلقة الحسية والعشرة البشرية ، وإلا فهم في ذروة عالية ، ومحلة إلهية . قال : وأما السكينة التي تلي هذه فهي للأنبياء على اختلاف حظوظهم منها لأنها مرتبات تنقسم بين المنام واليقظة انقساماً متفاوتاً بالعرض الحامل للصدق وللشبيه بالصدق ، وللحق وللقرب من الحق ، وللصحيح والتالي للصحيح ، ثم يختلف بيانهم عن ذلك بالتعريض والإيضاح ، والكناية والإفصاح ، والتشبيه والاستعارة . قال : فأما السكينة التي تتلو هذه فهي التي تظهر على طائفة تخلف الأنبياء ، وذلك أن بقايا قواهم يرثها الذين صحبوهم ، واستضاءوا بنورهم ، وفهموا عنهم ، ولقنوا منهم ، ودخلوا في زمرتهم ، وحاكوهم في الشمائل والأخلاق ، وسلكوا منهاجهم في القيادة والسياق ، وصلحوا سفراء بين الأبعدين ، كما كانوا سجراء للأقربين ، وهم الذين يفسرون الغامض ، ويوضحون المشكل ، ويبسطون المطوي ، ويشرحون المكنى ، ويبرزونالمراد والمعنى ، ويوطدون الأساس ، ويرفعون الالتباس ، وينفون الوحشة ويحدثون الإيناس . وأما السكينة الباقية فهي مفضوضة على اتباع هؤلاء بالسهام العلوية ، والمقادير العدلية ، والمناسيب العقلية ، من غير جور ولا حيف ، ولا انحراف ولا ميل . فقال البخاري : أهي - أعني السكينة - في معنى فاعلة أو مفعولة ؟ فقال : الفضاء أعرض مما تظن ، وإن كان في غاية العرض ؛ والذروة أعلى من أن ترام وإن كان الإنسان يطلبها بالبسط والقبض . هي بوجه في معنى فاعلة إذا شعرت بتأثيرها ، وبوجه آخر في معنى مفعولة إذا شعرت بتأثرها . وبوجه آخر ، ليست من هذين القبيلين في شيء إذا لحظتها في معانيها قبل تأثيرها وتأثرها ، وأنت تعتبر حد الفاعل والمفعول من شكل اللفظ ووزن الترتيب ، بشائع العادة وقائم العرف ، والسكينة وراء هذا كله بالحق والواجب والصحة والتمام فإنها صراط الله للمخصوصين بالاستقامة عليه ، فإذا شهدت المخصوص بها كانت عبارتك عن الملحوظ منها مشاكلةً لعبارتك عن أخلاق رضية وأحوال مرضية ، وإذا شهدت ذلك المعنى من معاني الحق كانت عبارتك متلجلجةً لا نظام لها ولا تعادل ولا اتساق على العادة الجارية والحال الطارئة ؛ فأحق ما ينبغي لطالب الحكمة واللائذ بهذه الحومة أن يبحث وينظر ، ويكشف وينقر ، ويستقصى ويسبر ويسأل ويستبصر ؛ حتى إذا بلغ هذه الآفاق ، وشهد هذه الأعلام ، ووجد الصواب الذي لا شوب فيه ، وصادف اليقين الذي لا ريب معه ، وعرف الاستبانة التي تغني عن البيان ، وذاق المعنى الذي هو فوق العيان ، أمسك وانتهى ، ووقف واستغنى لا لعرض ظلام غشيه ، ولكن لسطان شعاعٍ ملكه ؛ لأن ذلك النور محيط بكلشيء دونه ، ومستولٍ على كل شيء تحته . وكان يقول في هذا الفن إذا جد به الكلام وبدا منه المكتوم وشرد عنه الخاطر ما لا يوعى بحفظ ، ولا يروى بلفظ . وإنما كان أصحابنا ينتظرون منثوره بهذه الحروف لفظاً لينظموا منه شذراً وعقداً ، وكانوا إذا تلاقوا اشتركوا في تقويم ذلك كله ، وتعاونوا على تحبيره ، وتصادقوا على مفهومهم منه ، وتجنبوا المنازعة والشغب عليه ، وأخذوا بالعفو والممكن منه ، لئلا يفوتهم المعنى ، ولا يتحيرون في المنتهى . وسأله الأندلسي في هذا المجلس عن الأمم وأحوالها ، ونقصها وكمالها فقال : اشتركت الأمم في جميع الخيرات والشرور ، وفي جميع المعاني والأمور : اشتراكاً أتى على أول التفاوت ووسطة وآخره ، ثم استبدت كل أمة بقوالب ليست لأختها ، واشتراكهم فيها كالأصول واستبدادهم كالفروع ، وفيما اشتركوا فيه المحمود والمذموم . ولم يجز في الحكمة الإلهية غير هذه القسمة ، لأن الاشتراك لو سبق بلا تفاوت لم يكن اشتراكاً ، والتقاسم لو عري من الاتفاق لم يكن تقاسماً ، فصار ما من أجله يفترقون ، به يجتمعون ، وما من أجله ينتظمون ، به ينتثرون . فعلى هذا اشتركوا في الأخلاق واللغات ، والعقائد والصناعات ، وجر المنافع ودفع المضار ، مع اختلافهم فيها بنوع ونوع . ألا ترى أن لغة الهند غير لغة الروم ، وكذلك الصناعة والعقيدة وما يجري مجراهما ، إلا أنهم مع هذه الأصول والقواعد تقاسموا أشياء بين الفطرة والتنبيه ، وبين الاختيار والتقدمة ، فصار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر ليونان والوهم والحدس والظن والحيلة والتحيل والشعبذة للهند والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتساع والتصريف والسحر باللسان للعرب ؛ والروية والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبودية والربوبية للفرس .فأما الترك فلها الشجاعة . والعرب تشاركها إما بالزيادة وإما بالمساواة ؛ وليس للترك بعد هذا حظ ولا دراية إلابقسط من الظل من الشخص . والعرب مع منطقها البارع لها المزية المعروفة على الترك بعد في السياسة وإن كانت قاصرةً ؛ وأما الزيج والسودان فغلبت عليها الفسولة وشاكلت البهائم الضعيفة ، كما شاكلت الترك السباع القوية . قيل له : إن أبا زيد قد عمل كتاباً في أخلاق الأمم . قال : قد رأيته وقرأته وقد أفاد ، وكل من تكلم على طريقة الحكماء الذين يتوخون من الأمور لبابها ، ويصرفون عنها قشورها ، فله السابقة والتقدم على من يخبط كفلان وفلان . ومن جحد بلاغة العرب في الخطابة وجولانها كل مجال وتميزها باللسان فقد كابر ، ومن أنكر تقدم يونان في إثارة المعاني من أماكنها وإقامة الصناعات بأسرها ، وبحثها عن العالم الأعلى والأوسط والأسفل فقد بهت . ومن دفع مزية الفرس في سياستها وتدبيراتها وترتيب الخاصة والعامة بحق ما لها وعليها فقد عاند . وهكذا من دفع ما للهند ، فليس من شخص وإن كان زرياً قميئاً إلا وفيه سر كامنٌ لا يشركه فيه أحد ، وإذا كان هذا في شخص على ما قلنا ، فكيف إذا نظرت إلى ما يحويه النوع . وهكذا إذا ارتقيت إلى الجنس ، وهذا لأن عرض الجنس أوسع من عرض النوع ، كما أن عرض النوع أوسع من عرض الشخص ، وليس دون الشخص تحت ، كما أنه ليس فوق الجنس فوق . وأما انقسام هذه الثلاثة على هذا فليكون فضاء العالم غاصاً بالطرف والوسط والأفق وليكون سحاً بالغاً من المصدر إلى المورد .وعلى هذا لولا الجنس لم يوجد نوعٌ ، ولولا النوع لم يوجد شخص . وكذلك العكس . قال أبو سعيد الطبيب : أللعالم العلوي أجناس وأنواع وأشخاص ؟ قال : كيف يخلو العالم العلوي من هذا التقسيم ، وإنما هذا الذي لحقنا في العالم السفلي حكاية ذلك العالم العلوي حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة . فقال له مستزيداً : فهل في البسائط الإلهية أجناس وأنواع وأشخاص ؟ فقال : لا ، إلا أن يتخذ شيء من هنالك قراره في معارض العالم السفلي بقوة العالم العلوي ، وذلك كالبرق إذا خطف ، والنسيم إذا لطف . قال : فهل ينال البسائط نقصٌ بالإخبار بالأجزء المركبة عنها كما ينال المركبات كمالٌ بالأجزاء البسيطة عنها ؟ فقال : لا ، لأن ما علا يؤثر ولا يقبل التأثير ؛ وما سفل يتأثر . ألا ترى أن ما علا من الكواكب لا يتصل بشيء دونه ، وما سفل منها يتصل بما علا عنه . وقال له أيضاً : إذا قلنا : الروحانيات ، فماذا ينبغي أن يلحظ منها ؟ فقال : الروحانيات على أقسام ؛ فقسم منها متبدد في المركبات من الحيوان والجماد ، وقسم منها مكتنفٌ للحيوان والجماد ، وبحسب هذا الاكتناف هو أبسط وألطف من القسم الأول المتبدد ؛ وقسمٌ منها فوق القسم المكتنف ، وهو الذي منه مادة المحيط ؛ وقسم آخر فوق هذا الممتد ، ثم فوق هذا ما لا يملكه وهم ، ولا يدركه فهم ؛ وذلك أنه في جناب القدس وحيث لا مرام لشيء من قوى الجن والإنس . وسألت أبا سليمان فقلت : إن علي بن عيسى الرماني ذكر أن التمكين من القبيح قبيح ، لأن التمكين من الحسن حسن . فلو كان التمكين من القبيح قبيحاً مع كونه من الحسن حسناً كان حسناً قبيحاً ؛ وهذا تناقض ؛ كيف صحة هذا الذي أومأ إليه ؟ فقال : أخطأت ، لأن التمكين وحده اسمٌ مجرد لشيء محدد ، والأسماء المحددة دلالتها على الأعيان لا على صفات الأعيان أو ما يكون من الأعيان أو ما يكون في الأعيان . والتمكين معتبر بما يضاف إليه ويناط به ، فإن كان من القبيح فهو قبيح لأنه علةالقبيح ، وإن كان من الحسن فهو حسن لأنه سبب الحسن . وهذا كما تقول : هذا الدرهم نافع أو ضار ؟ فيقال : إن صرفته فيما ينبغي فهو نافع ، وإن أنفقته فيما لا ينبغي فهو ضار ، وكذلك السيف في الآلات ، وكذلك اللفظ في الكلمات ، والإضافة قوة إليهة سرت في الأشياء سرياناً غريزياً قاهراً متملكاً قاسراً ، فلا جرم لا ترى حسياً أو عقلياً أو وهمياً أو ظنياً أو علمياً أو عرفياً أو عملياً أو حلمياً أو يقظياً إلا والتصاريف سارية فيها ، والإضافة حاكمة عليها . وهذا لأن الأشياء بأسرها مصيرها إلى الله الحق ، لأن مصدرها من الله الحق ، فالإضافة لازمة ، والنسبة قائمة ، والمشابهة موجودة . ولولا إضافة بعضنا إلى بعض ما اجتمعنا ولا افترقنا ، ولولا الإضافة بيننا الغالبة علينا ما تفاهمنا ولا تعاوناً . قال : إذا كنا بالتضايف نتوالى ، فبأي شيء بعده نتعادى ؟ قال : هذا أيضاً بالإضافة ، لأن الإضافة ظل ، والشخص بالظل يأتلف ، وبالظل يختلف . وقال : ويزيدك بياناً أن العدم والوجود شاملان لنا ، سائران فينا فبالوجود نتصادق ، وبالعدم نتفارق . وسأل مرة عن الطرب على الغناء والضرب وما أشبههما . فكان من الجواب : قيل لسقراط فيما ترجمه أبو عثمان الدمشقي . لم طرب الإنسان على الغناء والضر ؟ فقال : لأن نفسه مشغولةٌ بتدبير الزمان من داخل ومن خارج ، وبهذا الشغل هي محجوبة عن خاص مآلها . فإذا سمعت الغناء انكشف عنها بعض ذلك الحجاب ، فحنت إلى خاص ما لها من المثالات الشريفة والسعادات الروحانية من بعد ذلك العالم ، لأن ذلك وطنها بالحق . فأما هذا العالم فإنها غريبة فيه ، والإنسان تابع لنفسه ، وليست النفس تابعة للإنسان ، لأن الإنسان بالنفس إنسان ، وليست النفس نفساً بالإنسان ، فإذا طربت النفس - أعني حنت ولحظت الروح الذي لها - تحركت وخفت فارتاحت واهتزت . ولهذا يطرح الإنسان ثوبه عنه ، وربما مزقه كأنه يريد أنينسل من إهابه الذي لصق به ، أو يفلت من حصاره الذي حبس فيه ، ويهرول إلى حبيبه الذي قد تجلى له وبرز إليه . إلا أن هذا المعنى على هذا التنضيد إنما هو للفلاسفة الذين لهم عناية بالنفس والإنسان وأحوالهما . وأما غيرهم فطربهم شبيهٌ بما يعتري الطير وغيرها ، وانصرفت .
الليلة الخامسة عشرة
وجرى مرة كلامٌ من الممكن ، فحكيت عن ابن يعيش الرقي فصلاً سمعته يقوله ، لابأس برسمه في هذا الموضع ، فإن التشاور في هذا الحرف دائم متصل وينبغي لنا أن نبحث عنه بكل زحف وحبو ، وبكل كد وعفو . قال : الممكن شبيهٌ بالرؤيا لا بدن له يستقل به ، ولا طبيعة يتحيز فيها . ألا ترى أن الرؤيا تنقسم على الأكثر والأقل والتساوي ، وكما أن الرؤيا ظل من ظلال اليقظة ، والظل ينقص ويزيد إذا قيس إلى الشخص ؛ كذلك الممكن ظل من ظلال الواجب ، فطوراً يزيد تشابهاً للواجب ، وطوراً ينقص تشاكها للمتنع ، وطوراً يتساوى بالوسط . قال : والواجب لا عرض له ، لأنه حد واحد ، وله نصيب من الوحدة بدليل أنه لا تغير له ولا حيلولة لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالحدثان ولا بالطبيعة ولا بالوهم ولا بالعقل ، بل العقل ينقاد له ، والطبيعة تسلم إليه ، والوهم يفرق منه وصورة الواجب لا يحدسها الظن ، ولا يتحكم فيها تجويز ، ولا يتسلط عليها دامغ ولا ناسخ ، وهذا الحكم يطرد على الممتنع ، لأنه في مقابلته على الضد ، أعني أنه لا بدن له ، فيكون له عرض ، والعرض كله للمكن بالنعت الذي سلف من الكثرة والقلة والمساواة . ولهذا تعلقت التكاليف به في ظاهر الحال وبادىء الأمر وعارض الشان ، واستولى الوجود عليه بباطن الحال وخفي الأمر وراتب الشان ، لكن هذا الفصل الذي اشتمل علىالظاهر والباطن ليس ينكشف للحس كما ينكشف للعقل . ولما كنا بالحس أكثر - وإن كنا لا نخلو في هذه الكثرة من آثار العقل - لزمنا الاعتراف بعوائد الممكن وعلائقه ، والعمل عليه ، والرجوع إليه إذا أمرنا أو نهينا أو ائتمرنا أو انتهينا . ولما ظهر لنا بإزاء هذا الذي كنا به أكثر أن لنا شبحاً آخر نحن به أقل وهو العقل يشهد لنا بأن صورة الوجوب استولت من مبدأ الأمر إلى منقطعه الذي هو في عرض الواجب إلى الآخر الممتنع . وكما لزمنا الاعتراف الأول لكون به عاملين ومستعملين ، ورافعين وواضعين ، ولائمين وملومين ، ونادمين ومندمين ؛ كذلك لزمنا الاعتراف بسلطان الواجب الذي لا سبيل إلى عزله ، ولا محيص عن الإقرار به ، ولا فكاك من اطراده بغير دافع أو مانع . واتصل كلام ابن يعيش على تقطعٍ في عبارته التي ما كانت أداته تواتيه فيها ، مع تدفق خواطره عليها ؛ فقال : الرؤيا ظل اليقظة ، وهي واسطةٌ بين اليقظة والنوم ، أعني بين ظهور الحس بالحركة ، وبين خفائه بالسكون . قال : والنوم واسطة بين الحياة والموت ، والموت واسطةٌ بين البقاء الذي يتصل بالشهود وبين البقاء الذي يتصل بالخلود . قال : وهذا نعتٌ على تسهيل اللفظ وتقريب المراد والتصور ؛ والثقة شوك القتاد ، وازدراد العلقم والصاب ، للحواجز القائمة والموانع المعترضة من الإلف والمنشأ وغير ذلك مما يطول تعديده ويشق استقصاؤه . فقال : هذا كلامٌ ظريف ، وما خلت أن ابن يعيش مع فدامته ، ووخامته يسحبذيله في هذا المكان ، ويجري جواده بهذا العنان . قلت له : إن له مع هذه الحال مرامي بعيدة ، ومقاصد عالية ، وأطرافاً من المعاني إذا اعتلقها دل عليها ، إما بالبيان الشافي ، وإما بما يكون طريقاً إلى الوهم الصافي . وقلت : لقد مر له اليوم شيءٌ جرى بينه وبين أبي الخير اليهودي أستفيد منه . قال : وما ذاك ؟ أنثر علينا درر هذه الطائفة التي نميل إليها بالاعتقاد وإن كنا نقع دونها بالاجتهاد ؛ ونسأل الله أن يرحم ضعفنا الذي منه بدئنا ويبدلنا قوةً بها نجد قربنا في آخرنا . قلت : ذكر أن العقل لا غناء له في الأشياء التي تغلب عليها الحيلولة والسيلان والتطول ، كما أن الحس لا ينفذ في الأمور التي لا تطور لها بالحيلولة والتطول ، ولذلك عرفت الحكمة في الكائنات الفاشيات ، وخفيت العلل والأسباب في بدوها وخفيتها وتبددها وتآلفها ، لكن هذا الفرق والخفاء مسلمان للقدرة المستعلية والمشيئة النافذة . قال : ولهذا التريتب سر به حسن هذا النعت ، وإليه انتهى هذا البحث وذلك أن خفاء ما خفي بحق الأول ألحق ، وبدو ما بدا من نصيبٍ أطلق للذي لا يحتمل غير هذا الثقل ، ولو خفف عنه هذا الحق ، وبدو ما بدا من نصيبٍ أطلق للذي لا يحتمل غير هذا الثقل ، ولو خفف عنه هذا للحق الإنسان البهائم ، ولو ثقل عليه هذا للحق الملائكة ، فكان حينئذ لا يكون إنساناً ، وقد وجب في الأصل أن يكون إنساناً كاملاً بالنصب والدأب ، ويمتعض من أن تكون صورة الإنسان عنده معارة ، لأنه في الحقيقة حيوان غير ناطق ، بل يجتهد بسعيه وكدحه أن يصير إنساناً فاضلاً ، ويكون في فضله وكماله ملكاً ، أعني بالمشاكهة الإرادية لا بالمشاكهة النوعية . قال : وغاية الحكمة منها للمباشرين لها أن المعرفة تقف على حيلولتها ولسيلانها فقط ، لا على تصفح أجزائها ، لأن الترتيب فيها يستحيل مع الزمان . ألا ترى أن الرقم على الماء لا صورة له ، لأن صفحة الماء لا ثبات لها ، وكذلك الخط في الهواء ، وكذلك الكائنات البائدات لا صورة لها ، لأنها لا ثبات لها ، وأنت إذا وجدتشيئاً لا ثبات له لم تضم إليه شيئاً آخر لا ثبات له طمعاً في وقوع الثبات بينهما ، هذا ما لا يدين به وهم ، ولا ينقاد له ظن ؛ ولو ساغ هذا لساغ أن يجمع بين ما له ثبات ، وبين ما له أيضاً ثبات ، فيحدث هناك سيلانٌ واستحالة . وقال : وصف العقل بشهادة الحس ، كما يكون وصف الحسن بشهادة العقل إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى ، وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد ؛ على أن هاتين الشهادتين لا يطردان ولا يستمران ، لأن لكل واحد من الحس والعقل تفرداً بخاص ماله ، ولذلك ما وجد حيوانٌ لا عقل له البتة ، ووجد في مقابلته حي لا حس له . ثم قال : بل العقل يحكم في الأشياء الروحانية البسيطة الشريفة من جهة الصور الرفيعة ، والعلائق التي بين المعقولات والمحسوسات ما نعت العقل ، والعاقل من خلص الباقيات الخالدات الدائمات القائمات الثابتات من حومة الكائنات الفاسدات البائنات الذاهبات الحائلات الزائلات المائلات البائدات . ودخل في هذا التلخيص ضربٌ من الشك والتماري والخصومة والتعادي والتعنت إلى اختلاف عظيم ، ووقفت عن الحكم بعد اليقين . وقال - أدام الله سعادته - ماالسجية ؟ قلت : سمعت الأندلسي يقول : فلان يمشي على سجيته ، أي طبعه . قال : هل يقال : ظفرت عليه ؟ قلت : قد قال شاعرهم : وكانت قريش لو ظفرنا عليهم . . . شفاءً لما في الصدر والنقص ظاهر قال : هذا حسن . قلت : الحروف التي تتعدى إلى الأفعال ، والأفعال التي تتعدى بالحروف ؛ يراعى فيها السماع فقط لا القياس . هذا كان مذهب إمامنا أبي سعيد ؛ وقد جاء أيضاً ظفر به ؛ وجاء سخرت به ومنه . ومن لا اتساع له في مذهب العرب يظن أن سخرت به لا يجوز وهو صحيح . حكاه أبو زيد .قال : كيف يقال في جمل به غدة ؟ فكان من الجواب : جملق مغد . قال : فكيف يجمع ؟ فكان الجواب بأنه في القياس ظاهر ، ولكن السماع قد كفى . قال الشاعر - وهو خراش بن زهير : فقدتكمو ولحظكمو إلينا . . . ببطن عكاظ كالإبل الغداد ضربناهم ببطن عكاظ حتى . . . تولوا طالعين من النجاد وقال - حرس الله نفسه - من لقبه الخرسي إلى أي شيء ينسب ؟ فكان من الجواب : يقال : رجل خراساني وخرسي وخراسي ، فنسبت إلى رجل نزلها فاشتهرت به . فقال : القذال كيف يجمع ؟ فكان من الجواب أن فعالاً وفعالاً وفعالاً وفعيلاً وفعولاً أخوات تجمع في الأقل على أفعلة ، يقال : حمار وأحمرة ، وغراب وأغربة ، وقذال وأقذلة ، وعمود وأعمدة . قال : نسيت أسألك عن المسألة الأولى - أعني الخرسي - من أين لك تلك الفتيا ؟ فكان من الجواب : قرأته على أبي سعيد الإمام في شرحه كتاب سيبويه . قال : بردت غليلي ، فإن الحجة في مثل هذا متى لم تكن بأهلها كانت متلجلجة . قال : أنشدني شيئاً نختم به المجلس ، فقد مرت طرائف . فأنشدته لعمارة بن عقيل في بنت له :حبك يا ذات الأنيف الأكشم . . . حب تساقاه مشاس أعظمي ودب بين كبدي ومحزمي . . . وساطه الله بلحمي ودمي فليس بالمذق ولا المكتم . . . ولا الذي إن يتقادم يسأم لقد نزلت من فؤادي فاعلمي منزلة الشيء المحب المكرم وانصرفت .
الليلة السادسة عشرة
ثم عدت وقتاً آخر فقال : كنت حكيت لي أن العامري صنف كتاباً عنونه بإنقاذ البشر من الجبر والقدر ، فكيف هذا الكتاب ؟ فقلت : هذا الكتاب رأيته بخطه عند صديقه وتلميذه أبي القاسم الكاتب ولم أقرأه على العامري ، ولكن سمعت أبا حاتم الرازي يقرؤه عليه ، وهو كتاب نفيس ، وطريقة الرجل قوية ، ولكنه ما أنقذ البشر من الجبر والقدر ، لأن الجبر والقدر اقتسما جميع الباحثين عنهما والناظرين فيهما . قال : لم قيل الجبر والقدر ولم يقل الإجبار . فكان الجواب : أن الإجبار لغة قوم ، والجبر لغة تميم ، يقال : جبر الله الخلق وأجبر الخلق ، وجبر بمعنى جبل ؛ واللام تعاقب الراء كثيراً . قال : فتكلم في هذا الباب بشيء يكون غير ما قاله العامري ، وانقد له إن كان الحق فيما ذهب غليه ودل عليه . فكان من الجواب : أن من لحظ الحوادث والكوائن والصوادر والأواتي من معدنالإلهيات أقر بالجبر وعرى نفسه من العقل والاختيار والتصرف والتصريف ، لأن هذه وإن كانت ناشئةً من ناحية البشر ، فإن منشأها الأول إنما هو من الدواعي والبواعث والصوارف والموانع التي تنسب إلى الله الحق ؛ فهذا هذا . فأما من نظر إلى هذه الأحداث والكائنات والاختيارات والإرادات من ناحية المباشرين الكاسبين الفاعلين المحدثين اللائمين الملومين المكلفين ، فإنه يعلقها بهم ويلصقها برقابهم ، ويرى أن أحداً ما أتي إلا من قبل نفسه وبسوء اختياره وبشدة تقصيره وإيثار شقائه ؛ والملحوظان صحيحان واللاحظان مصيبان ، لكن الاختلاف لا يرتفع بهذا القول والوصف ، لأنه ليس لكل أحد الوصول إلى هذه الغاية ، ولا لكل إنسان اطلاع إلى هذه النهاية . فلما وقعت البينونة بين الناظرين بالطبع والنسبة لم يرتفع القال والقيل من ناحية القول والصفة ، فهذا هذا . قال - أطال الله بقاءه - فما الفرق بين القضاء والقدر ؟ فكان من الجواب : أن أبا سليمان قال : إن القضاء مصدره من العلم السابق ، والقدر مورده بالأجزاء الحادثة . فقال : لم ورد في الأثر : لا تخوضوا في القدر فإنه سر الله الأكبر . فكان من الجواب : أن أبا سليمان قال لنا في هذه الأيام . إن الناموس ينطق بما هو استصلاح عام ، ليكون النفع به شائعاً في سكون النفس وطيب القلب وروح الصدور . فإن كان هذا هكذا فقد وضح أن حكمة هذا السر طيه ، لأن عجز الناظرين يفضي بهم إلى الحيرة ، والحيرة مضلة ، والمضلة هلكة . وإذا كانت الراحة في الجهل بالشيء ، كان التعب في العلم بالشيء ، وكم علمٍ لو بدا لنا لكان فيه شقاء عيشنا ، وكم جهل لو ارتفع منا لكان فيه هلاكنا ؛ والعلم والجهل مقسومان بيننا ومفضوضان علينا على قدر احتمال كل واحد منا للذي سبق إليه وعلق به ، ألا ترى أن علمنا لو أحاط بموتنا متى يكون ؟ وعلى أي حال تحدث العلة أو المحنة أو البلاء ؟ لكان ذلك مفسدةً لنا ، ومحنةً شديدةً علينا .فانظر كيف زوى الله الحكيم هذا العلم عنا ، وجعل الخيرة فيه لنا . ألا ترى أيضاً أن جهلنا لو غلب علينا في جميع أمورنا لكان فساد ذلك في عظم الفساد الأول ، والبلاء منه في معرض البلاء المتقدم ، فمن هذا الذي أشرف على هذا الغيب المكنون والسر المخزون فيغفل عن الشكر الخالص ، والاستسلام الحسن ، والبراءة من كل حول وقوة . فالاستمداد ممن له الخلق والأمر ، أعني الإبداء والتكليف ، والإظهار والتشريف ، والتقدير والتصريف . قال : هذا فن حسن ، وأظنك لو تصديت للقصص والكلام على الجميع لكان لك حظ وافر من السامعين العاملين ، والخاضعين والمحافظين . فكان من الجواب : أن التصدي للعامة خلوقة ، وطلب الرفعة بينهم ضعة ، والتشبه بهم نقيصة ؛ وما تعرض لهم أحد إلا أعطاهم من نفسه وعلمه وعقله ولوثته ونفاقه وريائه أكثر مما يأخذ منهم من إجلالهم وقبولهم وعطائهم وبذلهم . وليس يقف على القاص إلا أحد ثلاثة . إما رجل أبله ، فهو لا يدري ما يخرج من أم دماغه . وإما رجل عاقلٌ فهو يزدريه لتعرضه لجهل الجهال ، وإما له نسبة إلى الخاصة من وجه ، وإلى العامة من وجه ، فهو بتذبذب عليه من الإنكار الجانب للهجر ، والاعتراف الجالب للوصل ، فالقاص حينئذ ينظر إلى تفريغ الزمان لمداراة هذه الطوائف ، وحينئذ ينسلخ من مهماته النفسية ، ولذاته العقلية ، وينقطع عن الازدياد من الحكمة بمجالسة أهل الحكمة ، إما مقتبساً منهم ، وإما قابساً لهم ؛ وعلى ذلك فما رأيت من انتصب للناس قد ملك إلا درهماً وإلا ديناراً أو ثوباً ؛ ومناصبةً شديدةً لمماثليه وعداته .قال : إن الليل قد دنا من فجره ، هات ملحة الوداع . قلت : قال يعقوب صاحب إصلاح المنطق : دخل أعرابي الحمام فزلق فانشج ، فأنشأ يقول : وقالوا تطهر إنه يوم جمعةٍ . . . فرحت من الحمام غير مطهر ترديت منه شارياً شج مفرقي . . . بفلسين إني بئس ما كان متجري وما يحسن الأعراب في السوق مشيةً . . . فكيف ببيتٍ من رخامٍ ومرمر يقول لي الأنباط إذ أنا نازل . . . به لا بظبيٍ بالصريمة أعفر وقال - حرس الله نفسه - كنت أروي قافية هذا البيت أعفرا ، وهذه فائدة كنت عنها في ناحية ؛ وانصرفت . قد رأيت أيها الشيخ - حاطك الله - عند بلوغي هذا الفصل أن أختم الجزء الأول بما أنتهي غليه ، وأشفعه بالجزء الثاني على سياج ما سلف نظمه ونثره ، غير عائج على ترتيبٍ يحفظ صورة التصنيف على العادة الجارية لأهله ، وعذري في هذا واضح لمن طلبه ، لأن الحديث كان يجري على عواهنه بحسب السانح والداعي . وهذا الفن لا ينتظم أبداً ، لأن الإنسان لا يملك ما هو به وفيه ، وإنما يملك ما هو له وإليه . وهذا فصل يحتاج إلى نفسٍ مديد ، ورأيٍ يصدر عن تأييد وتسديد ؛ والسلام ، والحمد لله وحده ، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين ، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .الجزء الثاني بسم الله الرحمن الرحيم أيها الشيخ - أطال الله يدك في الخيرات ، وزاد في همتك رغبةً في اصطناع المكرمات ، وأجراك على أحسن العادات في تقديم طلاب العلم وأهل البيوتات - قد فرغت في الجزء الأول على ما رسمت في القيام به ، وشرفتني بالخوض فيه ، وسردت في حواشيه أعيان الأحاديث التي خدمت بها مجلس الوزير ، ولم آل جهداً في روايتها وتقويمها ولم أحتج إلى تعمية شيءٍ منها ، بل زبرجت كثيراً منها بناصع اللفظ ، مع شرح الغامض وصلة المحذوف وإتمام المنقوص ، وحملته إليك على يد فائقٍ العلام ، وأنا حريصٌ على أن أتبعه بالجزء الثاني ، وهو يصل إليك في الأسبوع إن شاء الله تعالى . وأنا أسألك ثانيةً على طريق التوكيد ، كما سألتك أولاً على طريق الاقتراح ، أن تكون هذه الرسالة مصونةً عن عيون الحاسدين العيابين ، بعيدةً عن تناول أيدي المفسدين المنافسين ؛ فليس كل قائل يسلم ، ولا كل سامعٍ ينصف ، ولا كل متوسطٍ يصلح ، ولا كل قادمٍ يفسح له في المجلس عند القدوم . والبلية مضاعفةٌ من جهة النظراء في الصناعة ، وللحسد ثورانٌ في نفوس هذه الجماعة ؛ وقل من يجهد جهده في التقرب إلى رئيسٍ أو وزير ، إلا جد في إبعاده من مرامه كل صغير وكبير ؛ وهذا لأن الزمان قد استحال عن المعهود ، وجفا عن القيام بوظائف الديانات وعادات أهل المروءات ؛ لأمورٍ شرحها يطول ؛ وقد كان الناس يتقلبون في بسيط الشمس ؛ أعني الدين فغربت عنهم ، فعاشوا بنور القمر ، أعني المروءة فأفلدونهم ، فبقوا في ظلمات البر والبحر ، أعني الجهل وقلة الحياء فلا جرم أعضل الداء ، وأشكل الدواء ، وغلبت الحيرة ، وفقد المرشد ، وقل المسترشد ؛ والله المستعان . وأرجع إلى ما هو الغرض من نسخ ما تقدم في الجزء الأول .
الليلة السابعة عشرة
فلما عدت إلى المجلس قال : ما تحفظ في تفعال وتفعال ، فقد اشتبها ؟ وفزعت إلى ابن عبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنع ، وألقيت على مسكويه فلم يكن له فيها مطلع ؛ وهذا دليلٌ على دثور الأدب وبوار العلم والإعراض عن الكدح في طلبه . فقلت : قال شيخنا أبو سعيد السيرافي الإمام - نضر الله وجهه - : المصادر كلها على تفعالٍ بفتح التاء ، وإنما تجيىء تفعالٌ في الأسماء ، وليس بالكثير . قال : وذكر بعض أهل اللغة منها ستة عشر اسماً لا يوجد غيرها . قال : هاتها . قلت : منها التبيان والتلقاء ، ومر تهواءٌ من الليل ؛ وتبراك ، وتعشار ، وترباع ، وهي مواضع ؛ وتمساح للدابة المعروفة ؛ والتمساح الرجل الكذاب أيضاً . وتجفاف وتمثال وتمراد بيت الحمام ، وتلفاق ، وهو ثوبان يلفقان . وتلقام : سريع اللقم . ويقال : أتت الناقة على تضرابها ، أي على الوقت الذي ضربها الفحل فيه ، وتضراب كثير الضرب وتقصار ، وهي المخنقة ؛ وتنبال ، وهو القصير . قال : هذا حسنٌ ، فما تقول في تذكار ؟ فإن الخوض في هذا المثال إنما كان من أجل هذا الحرف ، فإن أصحابنا كانوا في مجلس الشراب ، فاختلفوا فيه ؟ فقلت : هذا مصدرٌ ، وهو مفتوح .ثم قال : اجمع لي حروفاً نظائر لهذا من اللغة ، واشرح ما ندر منها ، وعرض الشك لكثير من الناس فيها . فقلت : السمع والطاعة مع الشرف بالخدمة . وقال أيضاً : حدثني عن شيء هو أهم من هذا لي وأخطر على بالي ، إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً ومذهباً لا عهد لي به وكنايةً عما لا أحقه ، وإشارةً إلى ما لا يتوضح شيءٌ منه ، يذكر الحروف ويذكر النقط ، ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدةً إلا بسبب ، والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لعلة ، والألف لم تعر إلا لغرض . وأشباه هذا ؛ وأشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفج بذكرها ؛ فما حديثه ؟ وما شأنه ؟ وما دخلته ؟ وما خبره ؟ فقد بلغني أنك تغشاه وتجلس إليه ، وتكثر عنده ، وتورق له ، ولك معه نوادر مضحكة ، وبوادر معجبة . ومن طالت عشرته لإنسانٍ صدقت خبرته به ، وانكشف أمره له ، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه وعويص طريقته . فقلت : أيها الوزير ، هو الذي تعرفه قبلي قديماً وحديثاً بالتربية والاختبار والاستخدام ، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة . قال : دع هذا وصفه لي . قلت : هناك ذكاءٌ غالبٌ ، وذهنٌ وقادٌ ، ويقظةٌ حاضرة ، وسوانح متناصرة ، ومتسعٌ في فنون النظم والنثر ، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة ، وحفظ أيام الناس ، وسماعٍ للمقالات ، وتبصرٍ في الآراء والديانات ، وتصرفٍ في كل فنٍ : إما بالشدو الموهم ، وإما بالتبصر المفهم ، وإما بالتناهي المفحم . فقال : فعلى هذا ما مذهبه ؟ قلت : لا ينسب إلى شيء ، ولا يعرف برهط ، لجيشانهبكل شيء ، وغليانه في كل باب . ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه ، وسطوته بلسانه ، وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً ، وصادف بها جماعةً لأصناف العلم وأنواع الصناعة ؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي ، ويعرف بالمقدسي ، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني ، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم ، فصحبهم وخدمهم ؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة ، وتصافت بالصداقة ، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة ، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته ، وذلك أنهم قالوا : الشريعة قد دنست بالجهالات ، واختلطت بالضلالات ؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفلة ، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية ، والمصلحة الاجتهادية . وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال ؛ وصنفوا خمسين رسالةً في جميع أجزاء الفلسفة : علميها وعمليها ، وأفردوا لها فهرستاً وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، وكتموا أسماءهم ، وبثوها في الوراقين ، ولقنوها للناس ، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه ليخلصوا الناس من الآراء الفاسدة التي تضر النفوس ، والعقائد الخبيثة التي تضر أصحابها ، والأفعال المذمومة التي يشقى بها أهلها ؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلم الدينية والأمثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق الموهمة . فقال : هل رأيت هذه الرسائل ؟ قلت : قد رأيت جملةً منها ، وهي مبثبوتةٌ من كل فنٍ نتفاً بلا إشباعٍ ولا كفاية ، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات ؛ وقد غرقالصواب فيها لغلبة الخطأ عليها ؛ وحملت عدةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه ونظر فيها أياماً واختبرها طويلاً ؛ ثم ردها علي وقال : تعبوا وما أغنوا ، ونصبوا وما أجدوا ، وحاموا وما وردوا ، وغنوا وما أطربوا ، ونسجوا فهلهلوا ، ومشطوا ففلفلوا ؛ ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع ؛ ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة ، والموسيقى التي هي معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان ، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات - في الشريعة ، وأن يضموا الشريعة للفلسفة . وهذا مرامٌ دونه حدد ؛ وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنياباً ، وأحضر أسباباً ، وأعظم أقداراً ، وأرفع أخطاراً ، وأوسع قوىً ، وأوثق عراً ، فلم يتم لهم ما أرادوه ، ولا بلغوا منه ما أملوه ؛ وحصلوا على لوثاتٍ قبيحة ، ولطخاتٍ فاضحة ، وألقابٍ موحشة ، وعواقب مخزية ، وأوزارٍ مثقلة . فقال له البخاري أبو العباس : ولم ذلك أيها الشيخ ؟ قال : إن الشريعة مأخوذةٌ عن الله - عز وجل - بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي ، وباب المناجاة ، وشهادة الآيات ، وظهور المعجزات ، إلى ما يوجبه العقل تارةً ، ويجوزه تارةً ، لمصالح عامةٍ متقنة ، ومراشد تامةٍ مبينة ؛ وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه ، والغوص فيه ؛ ولابد من التسليم للداعي إليه ، والمنبه عليه ؛ وهناك يسقط ' لم 'ويبطل ' كيف ' ، ويزول ' هلا ' ويذهب ' لو ' و ' ليت ' في الريح ، لأن هذه المواد عنها محسومة ، واعتراضات المعترضين عليها مردودةٌ ، وارتياب المرتابين فيها ضار ، وسكون الساكنين إليها نافع ؛ وجملتها مشتملةٌ على الخير ، وتفصيلها موصولٌ بها على حسن التقبل ، وهي متداولة بين متعلق بظاهرٍ مكشوف ، ومحتجٍ بتأويلٍ معروفٍ ؛ وناصر باللغة الشائعة ، وحامٍ بالجدل المبين ، وذابٍ بالعمل الصالح ، وضاربٍ للمثل السائر ، وراجعٍ إلى البرهان الواضح ، ومتفقهٍ في الحلال والحرام ، ومستندٍ إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملة ، وراجع إلى اتفاق الأمة . وأساسها على الورع والتقوى ، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزلفى . ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك ومقادير الأجرام ومطالع الطوالع ومغارب الغوارب . ولا حديث تشاؤمها وتيامنها ، وهبوطها وصعودها ، ونحسها وسعدها ، وظهورها واستسرارها ، ورجوعها واستقامتها ، وتربيعها وتثليثها ، وتسديسها ومقارنتها . ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها ، وأشكال الأسطقسات ، بثبوتها وافتراقها ، وتصريفها في الأقاليم والمعادن والأبدان ، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ؛ وما الفاعل وما المنفعل منها ؛ وكيف تمازجها وتزاوجها ، وكيف تنافرها وتسايرها ؛ وإلى أين تسري قواها ، وعلى أي شيء يقف منتهاها . ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومقاطعها ، وما الكرة ؟ وما الدائرة ؟ وما المستقيم ؟ وما المنحنى ؟ ولا فيها حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ، ومناسب الأسماء والحروف والأفعال ؛ وكيف ارتباط بعضها ببعض على موضوع رجل من يونان حتى يصح بزعمه الصدق ، وينبذ الكذب . وصاحب المنطق يرى أن الطبيب والمنجم والمهندس وكل من فاه بلفظٍ وأم غرضاً فقراء إليه ، محتاجون إلى ما في يديه .قال : فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوةً تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة ؟ على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضاً لهم مآخذ من هذه الأغراض ، كصاحب العزيمة وصاحب الطلسم وعابر الرؤيا ومدعي السحر وصاحب الكيمياء ومستعمل الوهم . قال : ولو كانت هذه جائزةً وممكنةً لكان الله تعالى نبه عليها ، وكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ، ويكملها باستعمالها ، ويتلافى نقصها بهذه الزيادة التي يجدها في غيرها ، أو يخص المتفلسفين على إيضاحها بها ويتقدم إليهم بإتمامها ، ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب به عنها حسب طاقتهم فيها ، ولم يفعل ذلك بنفسه ، ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه ؛ بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء ، وكره إلى الناس ذكرها ، وتوعدهم عليها ، وقال : من أتى عرافاً أو طارقاً أو حازياً أو كاهناً أو منجماً يطلب غيب الله منه فقد حارب الله ، ومن حارب الله حرب ، ومن غالبه غلب ، حتى قال : لو أن الله حبس عن الناس القطر سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفةٌ به كافرين . ويقولون : مطرنا بنوء المجدح ، فهذا كما ترى ، والمجدح : الدبران . ثم قال : ولقد اختلفت الأمة ضروباً من الاختلاف في الأصول والفروع ، وتنازعوا فيها فنوناً من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام ، والحلال والحرام ، والتفسير والتأويل ، والعيان والخبر ، والعادة والاصطلاح ؛ فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجمٍ ولا طبيب ولا منطقيٍ ولامهندسٍ ولا موسيقي ولا صاحب عزيمةٍ وشعبذة وسحرٍ وكيمياء ، لأن الله تعالى تمم الدين بنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيانٍ موضوعٍ بالرأي . قال : وكما لم نجد في هذه الأمة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من دينها ، فكذلك أمة عيسى عليه السلام وهي النصارى ، وكذلك المجوس .قال : ومما يزيدك وضوحاً ويريك عجباً أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافاً فيها وفرقاً ؛ كالمرجئة والمعتزلة والشيعة والسنية والخوارج ، فما فزعت طائفةٌ من هذه الطوائف إلى الفلاسفة ، ولا حققت مقالتها بشواهدهم وشهادتهم ، ولا اشتغلت بطريقتهم ، ولا وجدت عندهم ما لم يكن عندها بكتاب ربها وأثر نبيها . وهكذا الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة فاستنصروهم ، ولا قالوا لهم : أعينونا بما عندكم ؛ واشهدوا لنا أو علينا بما قبلكم . قال : فأين الدين من الفلسفة ؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل ، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل ؟ فإذ أدلوا بالعقل فالعقل موهبةٌ من الله جل وعز لكل عبد ، ولكن بقدر ما يدرك به ما يعلوه ، كما لا يخفى به عليه ما يتلوه ، وليس كذلك الوحي ، فإنه على نوره المنتشر ، وبيانه الميسر . قال : وبالجملة ، النبي فوق الفيلسوف ، والفيلسوف دون النبي ؛ وعلى الفيلسوف أن يتبع النبي ، وليس على النبي أن يتبع الفيلسوف ، لأن النبي مبعوث ، والفيلسوف مبعوثٌ إليه . قال : ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحي فائدةٌ ولا غناءٌ ، على أن منازل الناس متفاوتةٌ في العقل ، وأنصباؤهم مختلفةٌ فيه ؛ فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل كيف كنا نصنع ، وليس العقل بأسره لواحدٍ منا ، وإنما هو لجميع الناس ، فإن قال قائل بالعبث والجهل : كل عاقل موكولٌ إلى قدر عقله ، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره ، لأنه مكفي به ، وغير مطالبٍ بما زاد عليه . قيل له : كفاك تمادياً في هذا الرأي أنه ليس لك فيه موافق ، ولا عليه مطابق ؛ ولو استقل إنسانٌ واحدٌ بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقل أيضاً بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه ، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف ، وكان لا يحتاج إلى أحدٍ من نوعه وجنسه ؛ وهذا قولٌ مزدول ورأيٌ مخذول . قال البخاري : وقد اختلفت أيضاً درجات النبوة بالوحي ، وإذا ساغ هذا الاختلاف في الوحي ولم يكن ذلك ثالماً له ، ساغ أيضاً في العقل ولم يكن مؤثراً فيه .فقال : يا هذا ، اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي ، وخصهم بالمناجاة ، واجتباهم للرسالة ، وأكملهم بما ألبسهم من شعار النبوة ؛ وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة ، لأنهم على بعدٍ من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل والنزر اليسير ؛ وعوار هذا الكلام ظاهر ، وخطل هذا المتكلم بين . قال الوزير : أفما سمع شيئاً من هذا المقدسي ؟ قلت : بلى قد ألقيت هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان ، والتقديم والتأخير ، في أوقات كثيرة بحضرة حمزة الوراق في الوراقين ، فسكت ، وما رآني أهلاً للجواب ؛ لكن الحريري غلام ابن طرارة هيجه يوماً في الوراقين بمثل هذا الكلام ، فاندف فقال : الشريعة طب المرضى ، والفلسفة طب الأصحاء ، والأنبياء يطبون للمضرى حتى لا يتزايد مرضهم ، وحتى يزول المرض بالعافية فقط . فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرضٌ أصلاً ، فبين مدبر المريض ومدبر الصحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف ، لأن غاية مدبر المريض أن ينتقل به إلى الصحة ، هذا إذا كان الدواء ناجعاً ، والطبع قابلاً ، والطبيب ناصحاً . وغاية مدبر الصحيح أن يحفظ الصحة ، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل ، وفرغه لها ، وعرضه لاقتنائها ؛ وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسعادة العظمى ، ومتبوىءٌ الدرجة العليا ؛ وقد صار مستحقاً للحياة الإليهة ؛ والحياة الإلهية من الخلود والديمومة والسرمدية . فإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضاً ؛ فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل ، لأن إحداهما تقليدية ، والأخرى برهانية ؛ وهذه مظنونةٌ ، وهذه مستيقنة ، وهذه روحانية ، وهذه جسمية ، وهذه دهرية ، وهذه زمانية . وقال أيضاً : إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة ، وإن كانت الشريعة جاحدةً لها ؛ وإنما جمعنا أيضاً بينهما لأن الشريعة عامة ، والفلسفة خاصة ، والعامة قوامها بالخاصة ، كما أن الخاصة تمامها بالعامية ؛ وهما متطبقتان إحداهما على الأخرى ، لأنها كالظهارة التي لا بد لها من البطانة ، وكالبطانة التي لابد لها من الظهارة .فقال له الحريري : أما قولك طب المرضى وطب الأصحاء وما نسقت عليه كلامك فمثلٌ لا يعبر به غيرك ومن كان في مشكل ، لأن الطبيب عندنا الحاذق في طبه هو الذي يجمع بين الأمرين ، أعني أنه يبرىء المريض من مرضه ، ويحفظ الصحيح على صحته ؛ فأما أن يكون ها هنا طبيبان يعالج أحدهما الصحيح ، والآخر يعالج المريض ، فهذا ما لم نعهده نحن ولا أنت ؛ وهو شيءٌ خارجٌ عن العادة ، فمثلك مردودٌ عليك ، وتشنيعك فاضحٌ لك ، وكل أحد يعلم أن التدبير في حفظ الصحة ودفع المرض - وإن كان بينهما فرق - واحد ، فالطب يجمعهما ، والطبيب الواحد يقوم بهما وبشرائطهما . وأما قولك في الفصل الثاني : إن أحدى الفضيلتين تقليدية ، والأخرى برهانية ، فكلامٌ مدخول ، لأنك غلطت على نفسك ؛ ألا تعلم ان البرهانية هي الواردة بالوحي ، الناظمة للرشد ، الداعية إلى الخير ، الواعدة بحسن المآب ؛ وأن التقليدية هي المأخوذة من المقدمة والنتيجة ، والدعوى التي يرجع فيها إلى من ليس بحجة ، وإنما هو رجلٌ قال شيئاً فوافقه آخر وخالفه آخر ، فلا الموافق له يرجع إلى الوحي ، ولا المخالف له يستند إلى حق ؛ والعجب أنك جعلت الشريعة من باب الظن ، وهي بالوحي ، وجعلت الفلسفة من باب اليقين ، وهي من الرأي . وأما قولك : هذه روحانية - تعني الفلسفة - وهذه جسمية - تعني الشريعة - فزخرفة لا تستحق الجواب ، ولمثل هذا فليعمل المزخرفون ؛ على أنا لو قلنا : بل الشريعة هي الروحانية ، لأنها صوت الوحي ، والوحي من الله عز وجل ، والفلسفة هي الجسمية ، لأنها برزت من جهة رجل باعتبار الأجسام والأعراض ، وما هذا شأنه فهو بالجسم أشبه ، وعن لطف الروح أبعد لما أبعدنا . وأما قولك : الفلسفة خاصةٌ والشريعة عامة ، فكلام ساقط لا نور عليه ، لأنك تشير به إلى أن الشريعة يعتقدها قوم - وهم العامة - والفلسفة ينتحلها قوم - وهم الخاصة - فلم جمعتم رسائل إخوان الصفاء ودعوتم الناس إلى الشريعة وهي لا تلزم إلا للعامة ، ولم تقولوا للناس : من أحب أن يكون من العامة فليتحل بالشريعة ، فقد ناقضتم ، لأنكم حشوتم مقالتكم بآياتٍ من كتاب الله تزعمون بها أن الفلسفة مدلولٌ عليها بالشريعة ، ثم الشريعة مدلولٌ عليها بالمعرفة ، ثم هأنت تذكر أن هذه للخاصة ؛ وتلك للعامة ؛ فلم جمعتم بينمفترقين ، ومزقتم بين مجتمعين ؛ هذا والله الجهل المبين ، والخرق المشين . وأما قولك : إنا جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة ، وإن كانت الشريعة جاحدةً للفلسفة ، فهذه مناقضة أخرى ، وإني أظن أن حسك كليل ، وعقلك عليل ، لأنك قد أوضحت عذر أصحاب الشريعة ، إذ جحدوا الفلسفة ، وذلك أن الشريعة لا تذكرها ، ولا تخص على الدينونة بها ؛ ومع ذلك فليس لهم علمٌ بأن الفلسفة قد حثت على قبول الشريعة ، ونهت عن مخالفتها ، وسمتها بالناموس الحافظ لصلاح العالم . ثم قال الحريري : حدثني أيها الشيخ : على أي شريعةٍ دلت الفلسفة ؟ أعلى اليهودية ، أم على النصرانية ، أم على المجوسية ، أم على الإسلام ، أم ما عليه الصابئون ؟ فإن ها هنا من يتفلسف وهو نصراني كابن زرعة وابن الخمار وأمثالهما ، وها هنا من يتفلسف وهو يهودي ، كأبي الخير بن يعيش ، وها هنا من يتفلسف وهو مسلم ، كأبي سليمان والنوشجاني وغيرهما ؛ أفتقول إن الفلسفة أباحت لكل طائفة من هذه الطوائف أن تدين بذلك الدين الذي نشأت عليه ؟ ودع هذا ليخاطب غيرك ، فإنك من أهل الإسلام بالهدى والجبلة والمنشأ والوراثة ؛ فما بالنا لا نرى واحداً منكم يقوم بأركان الدين ، ويتقيد بالكتاب والسنة يراعي معالم الفريضة ووظائف النافلة ؟ وأين كان الصدر الأول من الفلسفة ؟ أعني الصحابة ، وأين كان التابعون منها ؟ ولم خفي هذا الأمر العظيم - مع ما فيه من الفوز والنعيم - على الجماعة الأولى والثانية والثالثة إلى يومنا هذا وفيهم الفقهاء والزهاد والعباد وأصحاب الورع والتقى ، والناظرون في الدقيق ودقيق الدقيق وكل ما عاد بخيرٍ عاجل وثوابٍ آجل ،هيهات لقد أسررتم الحشو في الارتغاء واستقيتم بلا دلو ولا رشاء ، ودللتم على فسولتكم وضعف منتكم وأردتم أن تقيموا ما وضعه الله ، وتضعوا ما رفعة الله ، والله لا يغالب ؛ بل هو غالبٌ على أمره ، فعال لما يريد . قد حاول هذا الكيد خلقٌ في القديم والحديث ، فنكصوا على أعقابهم خائبين ، وكبوا لوجوههم خاسرين ؛ منهم أبو زيد البلخي ؛ فإنه ادعى أن الفلسفة مقاودة للشريعة ، والشريعة مشاكلة للفلسفة ، وأن إحداهما أم والأخرى ظئر ، وأظهر مذهب الزيدية ، وانقاد لأمير خراسان الذي كتب له أن يعمل في نشر الفلسفة بشفاعة الشريعة ، ويدعو الناس إليها باللطف والشفقة والرغبة ، فشتت الله كلمته ، وقوض دعامته ، وحال بينه وبين إرادته ، ووكله إلى حوله وقوته ، فلم يتم له من ذلك شيء . وكذلك رام أبو تمام النيسابوري ، وخدم الطائفة المعروفة بالشيعية ولجأ إلى مطرف بن محمد وزير مرداويج الجيلي ليكون له به قوة ، وينطق بما في نفسه من هذه الجملة ، فما زادته إلا صغراً في قدره ، ومهانةً في نفسه ، وتوارياً في بيته ؛ وهذا بعينه قصد العامري فما زال مطروداً من صقع إلى صقع ينذر دمه ويرتصد قتله ، فمرةً يتحصن بفناء ابن العميد ، ومرةً يلجأ إلى صاحب الجيش بنيسابور ، ومرةً يتقرب إلى العامة بكتبٍ يصنفها في نصرة الإسلام ، وهو على ذلك يتهم ويقرف بالإلحاد ؛ وبقدم العالم واللاكم في الهيولى والصورة والزمان والمكان ، وما أشبه هذا من ضروب الهذيان التي ما أنزل اللهبها كتابه ، ولا دعا إليها رسوله ، ولا أفاضت فيها أمته . ومع ذلك يناغي صاحب كل بدعة ؛ ويجلس إليه كلٌ منهم ؛ ويلقي كلامه إلى كل من ادعى باطناً للظاهر وظاهراً للباطن . وما عندي أن الأئمة الذين يأخذ عنهم ويقتبس منهم ، كأرسطوطاليس وسقراط وأفلاطون ، رهط الكفر ذكروا في كتبهم حديث الظاهر والباطن ، وإنما هذا من نسج القداحين في الإسلام ، الساترين على أنفسهم ما هم فيه من التهم ؛ وهذا بعينه دبره الهجريون بالأمس ، وبهذا دندن الناجمون بقزوين وبثوا الدعاة في أطراف الأرض ، وبذلوا الرغائب وفتنوا النفوس . وقد سمعنا تأويلات هذه الطوائف لآيات القرآن في قوله عز وجل : ' انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعبٍ ' وفي قوله تعالى : ' عليها تسعة عشر ' وفي قوله تعالى : ' سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ' إلى غير ذلك مما يطول ويعول فدعونا من التورية والحيلة والإيهام والكناية عن شيء لا يتصل بالإرادة ، والإرادة لشيء لا يتصل بالتصريح ، فالناس ألقد لأديانهم وأحرص على الظفر ببغيتهم من الصيارفة لدنانيرهم ودراهمهم . فلما انبهر المقدسي بما سمع وكاد يتفرى إهابه من الغيظ والعجز وقلة الحيلة قال : الناس أعداء ما جهلوا ، ونشر الحكمة في غير أهلها يورث العداوة ويطرح الشحناء ويقدح زند الفتنة .ثم كر الحريري كر المدل وعطف عطفة الواثق بالظفر ، فقال : يا أبا سليمان ، من هذا الذي يقر منكم أن عصا موسى انقلبت حية ، وأن البحر انفلق ، وأن يداً خرجت بيضاء من غير سوء ، وأن بشراً خلق من تراب ، وأن آخرته ولدته أنثى من غير ذكر ، وأن ناراً مؤججةً طرح فيها إنسانٌ فصارت له برداً وسلاماً ، وأن رجلاً مات مائة عامٍ ثم بعث فنظر إلى طعامه وشرابه على حاليهما لم يتغيرا ، وأن قبراً تفقأ عن ميتٍ حيى ، وأ طيناً دبر فنفخ فيه فطار ، وأن قمراً انشق ، وأن جذعاً حن ، وأن ذئباً تكلم ، وأن ماءً نبع من أصابع فروى منه جيشٌ عظيم ، وأن جماعةً شبعت من ثريدةٍ في قدر جسم قطاة ؟ وعلى هذا ، إن كنتم تدعون إلى شريعة من الشرائع التي فيها هذه الخوارق والبدائع فاعترفوا بأن هذه كلها صحيحة ثابتة كائنة لا ريب فيها ولا مرية ، من غير تأويل ولا تدليس ، ولا تعليل ولا تلبيس ، وأعطونا خطكم بأن الطبائع تفعل هذا كله ، والمواد تواتى له ، والله تعالى يقدر عليه ؛ ودعوا التورية والحيلة والغيلة والظاهر والباطن ، فإن الفلسفة ليست من جنس الشريعة ، ولا الشريعة من فن الفلسفة ، وبينهما يرمي الرامي ويهمي الهامي ؛ على أنا ما وجدنا الديانين من المتألهين من جميع الأديان يذكرون أن أصحاب شرائعهم قد دعوا إلى الفلسفة وأمروا بطلبها واقتباسها من اليونانيين هذا موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان وزكريا ويحيى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم نحق من يعزو إليهم شيئاً من هذا الباب ، ويعلق عليهم هذا الحديث . قال الوزير : ما عجبي من جميع هذا الكلام إلا من أبي سليمان في هذا الاستحقار والتغضب ، والاحتشاد والتعصب ؛ وهو رجل يعرف بالمنطقي ، وهو من غلمان يحيى بن عدي النصراني ، ويقرأ عليه كتب يونان ، وتفسير دقائق كتبهم بغاية البيان . فقلت : إن أبا سليمان يقول : إن الفلسفة حقٌ لكنها ليست من الشريعة في شيء ، والشريعة حقٌ لكنها ليست من الفلسفة في شيء ، وصاحب الشريعة مبعوث ، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه ، وأحدهما مخصوص بالوحي ، والآخر مخصوص ببحثه ، والأول مكفي ،والثاني كادح ، وهذا يقول : أمرت وعلمت ، وقيل لي ، وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ؛ وهذا يقول : رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت ؛ وهذا يقول : نور العقل أهتدي به ؛ وهذا يقول : معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه ؛ وهذا يقول : قال الله تعالى ، وقال الملك ؛ وهذا يقول : قال أفلاطن وسقراط ؛ ويسمع من هذا ظاهر تنزيل ، وسائغ تأويل ، وتحقيق سنة ، واتفاق أمة ؛ ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والأسطقس والذاتي والعرضي والأيسي والليسي ، وما شاكل هذا مما لا يسمع من مسلمٍ ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانوي . ويقول أيضاً : من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات ، ومن اختار التدين فيجب عليه أن يعرد بعنايته عن الفلسفة ويتحلى بهما مفترقين في مكانين على حالين مختلفين ، ويكون بالدين متقرباً إلى الله تعالى ، على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى ، ويكون بالحكمة متصفحاً لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين ، المحيرة لكل عقل ، ولا يهدم أحدهما بالآخر . أعني لا يجحد ما ألقي إليه صاحب الشريعة مجملاً ومفصلاً ، ولا يغفل عما استخزن الله تعالى هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته ، واشتمل بحكمته ، واستقام بمشيئته ، وانتظم بإرادته واستتم بعلمه ؛ ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشريعة ، وبدائع آيات النبوة بأحكام الفلسفة ، فإن الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية ، والديانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة . قال : ولعمري إن هذا صعب ، ولكنه جماع الكلام ، وأخذ المستطاع ، وغاية ما عرض له الإنسان المؤيد باللطائف ، المزاح بالعلل وبضروب التكاليف . قال : ومن فضل نعمة الله تعالى على هذا الخلق أنه نهج لهم سبيلين ونصب لهم علمين ، وأبان لهم نجدين ليصلوا إلى دار رضوانه إما بسلوكهما وإما بسلوك أحدهما .فقال له البخاري : فهلا دل الله على الطريقين اللذين رسمتهما في هذا المكان ؟ قال : ودل وبين ، ولكنك عمٍ ، أما قال : ' وما يعقلها إلا العالمون ' ؟ وفي فحوى هذا وما يعلمها إلا العالمون ؟ فقد وصل العقل بالعلم ، كما وصل العلم بالعقل ، لأن كمال الإنسان بهما ، ألا ترى أن العاقل متى عري من العلم قل انتفاعه بعقله ؟ كذلك العالم متى خلي من العقل بطل انتفاعه بعلمه ، أما قال : ' وما يتذكر إلا أولوا الألباب ' ؟ أما قال : ' فاعتبروا يا أولي الأبصار ' ؟ أما قال : ' أفلا يتدبرون القرآن ' ؟ أما ذم قوماً حين قال : ' يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ' ؟ أفما قال : ' أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها ' أما قال : ' وكأين من آيةٍ في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ' ؟ أما قال : ' إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ ' ؟ وكتاب الله عز وجل محيطٌ بهذا كله ، وإنما تقاد إلى طاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذا فيما لا يناله عقلك ، ولا يبلغه ذهنك ، ولا يعلو إليه فكرك ، فأمرك باتباعه والتسليم له ، وإنما دخلت الآفة من قومٍ دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل ، ومالوا إلى الشغب بالتعصب ، وقابلوا الأمور بتحسينهم وتقبيحهم وتهجينهم ، وجهلوا أن وراء ذلك ما يفوت ذرعهم ، ويتخلف عن لحاقه رأيهم ونظرهم ، ويعمي دون كنه ذلك بصرهم ؛ وهذه الطائفة معروفة ، منهم صالح بن عبد القدوس ، وابن أبي العوجاء ، ومطر بن أبي الغيث ، وابن الراوندي ، والحصري ، فإن هؤلاء طاحوا في أودية الضلالة ، واستجروا إلى جهلهم أصحاب الخلاعة والمجانة . فقال البخاري : فما الذي تركت بهذا الوصف للذين جمعوا بين الفلسفة والديانة ؛ ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن ، والخفي والجلي ، والبادي والمكتوم ؟ قال : تركت لهم الطويل العريض ، القوم زعموا أن الفلسفة مواطئةٌ للشريعة ، والشريعة موافقةٌ للفلسفة ؛ ولا فرق بين قول القائل : قال النبي ، وقال الحكيم ، وأن أفلاطونما وضع كتاب النواميس إلا لنعلم كيف نقول ؟ وبأي شيء نبحث ، وما الذي نقدم ونؤخر ، وأن النبوة فرعٌ من فروع الفلسفة ، وأن الفلسفة أصل علم العالم ، وأن النبي محتاجٌ إلى تتميم ما يأتي به من جهة الحكيم ، والحكيم غنيٌ عنه ؛ هذا وما أشبهه ؛ وأن صاحب الدين له أن يعين ويوري ويشير ويكني حتى تتم المصلحة ، وتنتظم الكلمة ، وتتفق الجماعة ، وتثبت السنة ، وتحلو المعيشة ، وحتى قال قائل منهم : أوائل الشريعة أمورٌ مبتدعة ، ووسائطها سننٌ متبعة ، وأواخرها حقوقٌ منتزعة ، وإن هذا النعت من قولي : إن الشريعة إلهية ، والفلسفة بشرية ، أعني أن تلك بالوحي ، وهذه بالعقل ، وأن تلك موثوقٌ بها ومطمأنٌ إليها ، وهذه مشكوكٌ فيها مضطربٌ عليها . قال له البخاري : فلم لم ينهج صاحب الشريعة هذه الطريق ، وكان يزول هذا الخصام ، وينتفي هذا الظن ، وتكسد هذه السوق ؟ فقال : إن صاحب الشريعة مستغرقٌ بالنور الإلهي ، فهو محبوس على ما يراه ويبصره ، ويجده وينظره ، لأنه مأخوذ بما شهده بالعيان وأدركه بالحس وناله بوديعة الصدر عن كل ما عداه ، فلهذا يدعو إلى اقتباس كماله الذي حصل له ، ولا يسعد بدعوته إلا من وفق لإجابته ، وأذعن لطاعته ، واهتدى بكلمته ، والفلسفة كمال بشري ، والدين كمالٌ إلهي ، والكمال الإلهي غنيٌ عن الكمال البشري ، والكمال البشري فقيرٌ إلى الكمال الإلهي ، فهذا هذا ، وما أمر الله عز وجل بالاعتبار ، ولا حث على التدبير ، ولا حرك القلوب إلى الاستنباط ، ولا حبب إلى القلوب البحث في طلب المكنونات ، إلا ليكون عباده حكماء ألباء أتقياء أذكياء ، ولا أمر بالتسليم ولا حظر الغلو والإفراط في التعمق إلا ليكون عباده لاجئين إليه متوكلين عليه ، معتصمين به ، خائفين منه ، راجين له ، يدعونه خوفاً وطمعاً ، ويعبدونه رغباً ورهباً ، فبين ما بين حرصاً على معرفته وعبادته ، وطاعته وخدمته ، وأخفى ما أخفى لتدوم حاجتهم إليه ، ولا يقع الغنى عنه ، وبالحاجة يقع الخضوع والتجرد ، وبالاستغناء يعرض التجبر والتمرد ؛ وهذه أمورٌ جاريةٌ بالعادة ، وثابتة بالسيرة الجائرة والعادلة ؛ ولا سبيل إلى دفعها ورفعها وإنكارها وجحدها ، فلهذا لزم كل من أدرك بعقله شيئاً أن يتمم نقصه بما يجده عند من أدرك ما أدرك بوحيٍ من ربه . وقال أيضاً : مما يؤكد هذه الجملة أن الشريعة قد أتت على معقولٍ كثير ، بنور الوحيالمنير ، ولم تأتي الفلسفة على شيء من الوحي لا كثيرٍ ولا قليل : قال : وليس ليونان نبيٌ يعرف ، ولا رسولق من قبل الله صادق ، وإنما كانوا يفزعون إلى حكمائهم في وضع ناموسٍ يجمع مصالح حياتهم ونظام عيشهم ومنافع أحوالهم في عاجلتهم ، وكانت ملوكهم تحب الحكمة وتؤثر أهلها ، وتقدم من تحلى بجزء من أجزائها ، وكان ذلك الناموس يعمل به ويرجع إليه ، حتى إذا أبلاه الزمان ، وأخلقه الليل والنهار ، عادوا فوضعوا ناموساً آخر جديداً بزيادة شيء على ما تقدم أو نقصانٍ ، على حسب الأحوال الغالبة على الناس ، والمغلوبة بين الناس ، ولهذا لا يقال : إن الإسكندر في أيام ملكه حين سار من المغرب إلى المشرق كانت شريعته كذا وكذا ، وكان يذكر نبياً يقال له : فلان ، أو قال : أنا نبي ، ولقد واقع داراً وغيره من الملوك على طريق الغلبة في طريق الغلبة في طلب الملك ، وحيازة الديار وجباية الأموال والسبي والغارة ، ولو كان للنبوة ذكرٌ وللنبي حديثٌ لكان ذلك مشهوراً مذكوراً ، ومؤرخاً معروفاً . قال الوزير : هذا كلامٌ عجيبٌ ما سمعت مثله على هذا الشرح والتفصيل ، قلت : إن شيخنا أبا سليمان غزير البحر ، واسع الصدر ، لا يغلق عليه في الأمور الروحانية والأنباء الإلهية والأسرار الغيبية ، وهو طويل الفكرة ، كثير الوحدة ، وقد أوتي مزاجاً حسن الاعتدال ، وخاطراً بعيد المنال ، ولساناً فسيح المجال ، وطريقته هذه التي اجتباها مكتنفةٌ بمعارضاتٍ واسعة ، وعليها مداخل لخصمائه ، وليس يفي كل أحدٍ بتلخيصه لها ، لأنه قد أفرز الشريعة من الفلسفة ، ثم حث على انتحالهما معاً ، وهذا شبيهٌ بالمناقضة . وقد رأيت صاحباً لمحمد بن زكرياء ي هذه الأيام ورد من الري يقال له : أبو غانم الطبيب يشاده في هذا الموضع ويضايقه ، ويلزمه القول بما ينكره على الخصم ، وإذا أذنت رسمت كلامهما في ورقات . فقال الوزير : قد بان الغرض الذي رمي إليه ، وتقليبه بالجدل لا يزيده إلا إغلاقاً ، والقصد معروف ، والوقوف عليه كافٍ ، ومع هذا فليت حظنا منه كان يتوفر بالتلاقي والاجتماع ، لا بالرواية والسماع ، هات فائدة الوداع ، فقد بلغت في المؤانسة غاية الإمتاع . قلت : أكره أن أختم مثل هذه الفقرة الشريفة بما يشبه الهزل وينافي الجد ، فإن أذنت رويت ما يكون أساساً ودعامة لما تقدم .قال : هات ما أحببت ، فما عهدنا من روايتك إلا ما يشوقنا إلى رؤيتك . قلت : قال ابن المقفع : عمل الرجل بما يعلم أنه خطأٌ هوىً ، والهوى آفة العفاف ، وتركه العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاون ، والتهاون آفة الدين ، وإقدامه على ما لا يعلم أصوابٌ هو أم خطأٌ لجاج ، واللجاج آفة الرأي . فقال - حرس الله نفسه - : ما أكثر رونق هذا الكلام وما أعلى رتبته في كنه العقل اكتبه لنا ، بل اجمع لي جزءاً لطيفاً من هذه الفقر ، فإنها تروح العقل في الفينة بعد الفينة ، فإن نور العقل ليس يشع في كل وقت ؛ بل يشع مرةً ويبرق مرةً ، فإذا شع عم نفعه ، وإذا برق خص نفعه وإذا خفي بطل نفعه . قلت : أفعل . فقال : إن كان معك شيءٌ آخر فاذكره ، فإن الحديث الحسن لا يمل ، وما أحسن ما قال خالد بن صفوان ، فإنه قيل له : أتمل الحديث ؟ قال : إنما يمل العتيق . قال : صدق خالد : إن الحديث لا يمل من الزمان إلا فيما يليه ، وإلا يمل في أول زمانه وفاتحة أوانه ، وإنما الملل يعرض بتكرر الزمان وضجر الحس ونزاع الطبع إلى الجديد ، ولهذا قيل : لكل جديدٍ لذة . فحكيت أنه لما تقلد كسرى أنوشروان مملكته عكف على الصبوح والغبوق ، فكتب إليه وزيره رقعةً يقول فيها : إن في إدمان الملك ضرراً على الرعية ، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمور المملكة . فوقع على ظهر الرقعة بالفارسية بما ترجمته : يا هذا ، إذا كانت سبلنا آمنة ، وسيرتنا عادلة ، والدنيا باستقامنا عامرة ، وعمالنا بالحق عاملة ، فلم نمنع فرحةً عاجلة ؟ . قال : من حدثك بهذا ؟ قلت : أبو سليمان شيخنا ، قال : فكيف كان رضاه عن هذا الملك في هذا القول ؟ فقلت : اعترض فقال : أخطأ من وجوه ، أحدها أن الإدمان إفراط ، والإفراط مذموم ؛ والآخر أنه جهل أن أمن السبيل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحقمتى لم يوكل بها الطرف الساهر ولم تحط بالعناية التامة ، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام ، دب إليها النقص والنقص بابٌ للانتقاض ، مزعزعٌ للدعامة ، والآخر أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب والتلذذ والتمتع ، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها وإبعاد الغي عنها ما يستوعب أضعاف العمر ، فكيف إذا كان العمر قصيراً ، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيراً ؟ والآخر أنه ذهب عليه أن الخاصة والعامة إذا وقفت على استهتار الملك باللذات ، وانهماكه في طلب الشهوات ، ازدرته واستهانت به ، وحدثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير واستهانة الخاصة والعامة بالناظر في أمرها والقيم بشأنها متى تكررت على القلوب تطرقت إلى اللسان ، وانتشرت في المحافل ، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرةٌ للهيبة ، وقلة الهيبة رافعةٌ للحشمة ، وارتفاع الحشمة باعثٌ على الوثبة ، والوثبة غير مأمونةٍ من الهلكة ؛ وما خلا الملك من طامعٍ راصدٍ قط وليس ينبغي للملك الحازم أن يظن أنه لا ضد له ولا منازع ، وقد ينجم الضد والمنازع من حيث لا يحتسب ، وما أكثر خجل الواثق وما أقل حزم الوامق وما أقل يقظة المائق . ثم قال : وعلى الضد متى كان السائس ذا تحفظٍ وبحثٍ ، وتتبعٍ وحزمٍ وإكبابٍ على لم الشعث وتقويم الأود وسد الخلل وتعرف المجهول وتحقق المعلوم ورفع المنكر وبث المعروف ، احترست منه العامة والخاصة ، واستشعرت الهيبة ، والتزمت بينها النصفة ، وكفيت كثيراً من معاناتها ومراعاتها ، وإن كان للدولة راصدٌ للغرة يئس من نفوذ الحيلة فيها ، لأن اللص إذا رأى مكاناً حصيناً وعهد عليه حراساً لم يحدث نفسه بالتعرض له ، وإنما يقصد قصرا فيه ثلمة ، وباباً إليه طريق ، والأعراض بالأسباب ، وإذا ضعف السبب ضعف العرض ، وإذا انقطع السبب انقطع العرض . فقال - أدام الله أيامه - : هذا كلامٌ كافٍ شافٍ . وقال بعد ذلك : حدثني عما تسمع من العامة في حديثنا . قلت : سمعت بباب الطاق قوماً يقولون : اجتمع الناس اليوم على الشط فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسبوغلبة الفقر وتهتك صاحب العيال ، وأنه أجابهم بجوابٍ مرٍ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم بالاستغاثة : بعد لم تأكلوا النخالة . فقال : والله ما قلت هذا ، ولا خطر لي على بال ، ولم أقابل عامةً جاهلةً ضعيفةً جائعةً بمثل هذه الكلمة الخشناء ، وهذا يقوله من طرح الشر وأحب الفساد وقصد التشنيع علي والإيحاش مني ، وهو هذا العدو الكلب ، يعني ابن يوسف كفاني الله شره ، وشغله بنفسه ، ونكس كيده على رأسه ؛ والله لأنظرن لها وللفقراء بمالٍ أطلقه من الخزانة ، وأرسم ببيع الخبز ثمانية بدرهم ، ويصل ذلك إلى الفقراء في كل محلةٍ على ما يذكر شيخها ، ويبيع الباقون على السعر الذي يقوم لهم ، ويشتريه الغني الواجد ؛ ففعل ذلك - أحسن الله جزاءه - على ما عرفت وشاهدت ، وأبلغته بنشر الدعاء له في الجوامع والمجامع بطول البقاء ودوام العلاء وكبت الأعداء ونصر الأولياء . ثم كتبت جزءاً من الفقر على ما رسم من قبل ، فلما أوصلته إليه قال لي : اقرأ ، فقرأته عليه ، فقال : صل هذا الجزء بجزء آخر من حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة وبجزء من الشعر ، وبشيء من معاني القرآن ، فإنه مقدمٌ على كل شيء بحسب ما رفع الله من خطره ، وأحوج إلى فهمه ، وندب إلى العمل به ، وأثاب على التفكر فيه والتعجب منه . وعظ رجلٌ من ' جهينة ' ' عمرو بن العاص ' في قصة الحكومة ، فقال عمرو له : ما أنت وذاك يا تيس جهينة ؟ فوالله ما ينفعك الحق ، ولا يضرك الباطل ، فاسكت فإن الظلف لا يجري مع الخف . وقال بعض الحكماء : إن المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة . وقال الشاعر : لاح سهيلٌ في الظلام الدامس . . . كأنه نارٌ بكف القابسقال ربيعة بن عامر بن مالك في عمرو بن الإطنابة - حين دفع أخته وأخذ أخاه وكان أسيراً في قومه ، وجعل دفع أخيه إليه صداق أخته ، وهو الذي تسميه العرب المساهاة - : فقد حزمى الذي هديت له ، وعزمى الذي أرشدت إليه . وقال الشاعر : وساهى بها عمرٌو وراعى إفاله . . . فزبدٌ وتمرٌ بعد ذاك كثير وكانت دية العربي مائة وسقٍ ، ودية الهجين خمسين وسقاً ، ودية المولى عشرة أوسق ؛ وكانت العرب تجعل دية المعم المخول مائة بعيرٍ ، ودية المولى خمسةً وعشرين بعيراً . وقال جرير : رأيت بني نبهان أذناب طيىءٍ . . . وللناس أذنابٌ ترى وصدور ترى شرط المعزى مهور نسائهم . . . وفي شرط المعزى لهن مهور وقال خالد بن جعفر بن كلاب : بل كيف تكفرني هوازن بعدما . . . أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربهم زهيراً بعدما . . . جدع الأنوف وأكثر الأوتارا وجعلت مهر نسائهم ودياتهم . . . عقل الملوك هجائناً وبكارا وقال جندل بن صخرٍ ، وكان عبداً : وما فك رقى ذات دلٍ خدلجٌ . . . ولا ساق مالي صدقةٌ وعقولولكن نماني كل أبيض خضرمٍ . . . فأصبحت أدري اليوم كيف أقول وقتل الكلبي عبد الله بن الجوشن الغعطفاني بقتله ابنه الجراح بن عبد الله رواد ، وكانوا عرضوا عليه الدية ، فقال : شفيت بروادٍ غليلاً وجدته . . . على القلب منه مستسرٌ وظاهر ألا ليت قبراً بين أدمي ومطرقٍ . . . يحدثه عني الأحاديث خابر وقالوا نديه من أبيه ونفتدي . . . فقلت : كريمٌ ما تديه الأباعر ألم تر أن المال يذهب دثره . . . وتغبر أقوالٌ وتبقى المعاير أدمى ومطرق غديران بين فدك وبلاد طىء . سئلت ابنة اخس هل يلقح البازل ؟ قالت : نعم وهو رازم ، أي وإن كان لا يقدر على القيام من الضعف والهزال . يقال : جملٌ بازلٌ وناقةٌ بازلٌ ، ويقال : ضربه فبركعه إذا أبركه ، وتبركع ، ويقال : شم لي هذه الإبل ، أي انظر لي خبرها . ويقال لولد كل بهيمةٍ إذا ساء غذاؤه : جحنٌ ومحثلٌ وجذعٌ ، وكل ما غذي بغير أمه يقال له : عجيٌ ، وكذلك الجحن والوغل والسغل كله السيء الغذاء . سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ضالة الإبل ، فقال : ما لك ولها ؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل من الشجر حتى يأتيها ربها . سئل - عليه السلام - عن ضالة الغنم ، فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب . قيل له عليه السلام : فاللقطة ؟ قال : تعرفها سنة وتحصي وكاءها ووعاءهاوعفاصها وعددها ؛ فإن جاء صاحبها فأدها إليه . وقال أبي بن كعبٍ : أصبت مائة دينارٍ على عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ' احفظ عفاصها ووكاءها وعددها فإن جاء صاحبها فأخبرك بعددها وعفاصها ووكائها فأدها إليه وإلا فعرفها سنة ، ثم استمتع بها ' . قال علي بن الحسن : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إذا كان يقف النخلتين قال له الأنصار : يا رسول الله ، هل لك في السباق ؟ قال : نعم وهو يومئذ على النواضح - وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في أخريات الناس ، وأسامة بن زيدٍ على العضباء ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو في أول الناس - فقال : أين أسامة ؟ فتنادى الناس حتى بلغ أسامة الصوت ، فوضع السوط في الناقة فأقبلت ، فلما دنت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن إخواننا من الأنصار قد أرادوا السباق فأنخ ناقتك حتى ترعو ، ثم علق الخطام ثم سابقهم ؛ ففعل واستبقوا ، فسبقت ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجعل أسامة يكبر ويقول : سبق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورسول الله يقول : سبق أسامة ، فلما أكثر من ذلك قال له : أقصر يا أسامة ، فإن إخواننا من الأنصار فيهم حياءٌ وحفيظة . قال : وليس لشيء من الحيوان سنامٌ إلا البعير ، ولبعض البخاتي سنامان ، ولبعض البقر شيء صغيرٌ على موضع الكاهل . والجمل يبول إلى خلفٍ ، وكذلك الأسد . وقضيب الجمل من عصبٍ ، وقضيب الإنسان من لحمٍ وغضروفٍ ، وقضيب الذئب والثعلب من عظمٍ ، وقضيب ذكر الأرانب من عظمٍ على صورة الثقب كأنه نصف أنبوبةٍ مشقوقة . وفي قلب الثور عظم ، وربما وجد في قلب الجمل . والمرأة تلد من قبل ، والناقة من خلف . وزمان نزو الجمال في شباط . والإناث من الإبل تحمل اثني عشر شهراً وتضع واحداً وتلقح إذا بلغت ثلاث سنين ، وكذلك الذكر ، ثم تقيم الأنثى سنةً ثم ينزى عليها . وزعم صاحب المنطق أن الجمل لا ينزو على أمه ، وإن اضطر كرهه . قال : وقد كان رجلٌ في الدهر السالف ستر الأم بثوبٍ ثم أرسل بكراً عليها ، فلماعرف ذلك لم يتم وقطع ، وحقد على الجمال فقتله . قال : وقد كان لملكٍ فرسٌ أنثى ، وكان لها أفلاءٌ ، فأراد أن تحمل من أكرمها ، فصد عنها وكرهها ، فلما سترت وثب فركبها ، فلما رفع الثوب ورآها هرب ومر حضراً حتى ألقى نفسه في بعض الأودية فهلك . . . . . هذا كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه . قال حذيفة : كن في الفتنة كابن البون ، لا ظهر فيركب ، ولا لبن فيحلب . قال ديوجانس : إن المرأة تلقن الشر من المرأة ، كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة . وقال فيثاغورس : إن كثيراً من الناس يرون العمى الذي يعرض لعين البدن فتأباه أنفسهم ، فأما عمى عين النفس فإنهم لا يرونه ولا تأباه أنفسهم ، فلذلك لا يستحيون . وقال أيضاً : كما أن الذي يسلك طريقاً لا يعرفه لا يدري إلى أي موضعٍ يؤديه ، كذلك الذي يسمع كلاماً لا يعرف الغرض فيه لا يربح منه إلا التعب . قيل لديوجانس : أيهما أولى ، طلب الغنى ، أم طلب الحكمة ؟ فقال : للدنيا الغنى ، وللآخرة الحكمة . وقيل له : متى تطيب الدنيا ؟ قال : إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها . فقال الوزير - أسعده الله - عندي أن هذا الكلام مدخول ، لأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وفرغ نفسه للدار الآخرة ، فكيف يكون الملك رافضاً للدنيا وقالياً لها ، وهو محتاجٌ إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها ، وله أولياء يحتاج إلى تدبيرهم وإقامة أبنيتهم والتوسعة عليهم ومواكلتهم ومشاربتهم ومداراتهم والإشراف على سرهم وعلانيتهم ، والملك أتعب من الطبيب الذي يجمع معالجةً كثيرةً بضروب الأدوية المختلفة والأغذية المتباينة ؛ هذا والطبيب فقيرٌ إلى تقديم النظر في نفسه وبدنه ، ونفي الأمراض والأغراض عن ظاهره وباطنه ، ومن كان هكذا ومن هو أكثر منهوأشد حاجةً وعلاقةً كيف يستطيع أن يكون ملكاً وحكيماً ؟ ولعل قائلاً يظن هذا ممكناً ، ويكون الملك واعياً في الحكمة بالدعوى ، وقائماً بالملك على طريق الأولى ، وهذا إلى التياث الأمر واختلاله واختلاطه في الملك والفلسفة أقرب منه إلى إحكام الأصل وإثبات الفرع . قال : ولهذا لم نجد نحن في الإسلام من نظر في أمر الأمة على الزهد والتقى وإيثار البر والهدى إلا عداداً قليلاً ، والمجوس تزعم أن الشريعة معرجةٌ عن الملك ، أي الذي يأتي بها ليس له أن يعرج على الملك ، بل له أن يكل الملك إلى من يقوم به على أحكام الدين ، ولهذا قال ملكنا الفاضل : الدين والملك أخوان ، فالدين أسٌ ، والملك حارس ، فما لا أس له فهو مهدوم ، وما لا حارس له فهو ضائع . فقلت له : هذا باب إن توزع القول فيه طال ، وإن رمي بالقصد جاز ، واللائمة كلامٌ كثيرٌ في الإمامة والخلافة وما يجري مجرى النيابة عن صاحب الديانة على فنونٍ مختلفة ، وجمل متعددة ، إلا أن الناظر في أحوال الناس ينبغي أن يكون قائماً بأحكام الشريعة ، حاملاً للصغير والكبير ، على طرائقها المعروفة ، لأن الريعة سياسة الله في الخلق ، والملك سياسة الناس للناس ، على أن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة ، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة ، والملك مبعوث ، كما أن صاحب الدين مبعوث ، إلا أن أحد البعثين أخفى من الآخر ، والثاني أشهر من الأول . قال - أطال الله بقاءه - كنت أحب أن أعلم من أين قلت : إن الملك مبعوث أيضاً ؟ فإن هذه الكلمة ما ثبتت في أذني قط ، ولا خطرت لي على بال ؛ قلت : قال الله عز وجل في تنزيله : ' إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ' . فعجب وقال : كأني لم أسمع بهذا قط . وذكر للإسكندر سوء أحوال رؤساء مذهبه لما كان أبوه احتاز أموالهم وسلب أحوالهم . فقال : يجب للآباء على الأبناء إزالة الذم عنهم ، ومحو الإثم ، واستعطاف القلوب عليهم ، ونشر المحامد عنهم ؛ وأمر برد أموالهم عليهم ، وزاد في الإحسان إليهم . وقال : قد بلغ من فرط شفقة الآباء على الأبناء أن يسيئوا إلى أنفسهم لتكون الإساءة سبباً للإحسان إلى أولادهم ، لأنهم يرون أولادهم كأنفسهم لأنهم من أنفسهم .فقلت : أيها الوزير ، إني لأعجب من الإسكندر في الفعل الرشيد والقول السديد ، فهذا المنصور أبو جعفر صاحب الشهامة والصرامة أخذ من وجوه العراق أموالاً بخواتيم أصحابها وأفقرهم ، وجعلها في خزائنه بعد أن كتب على تلك الخرائط والظروف أسماء أهلها ، ثم وصى المهدي بردها على أصحابها بعد موته ، ووكد ذلك عليه ، وقال : يا بني ، إنما أريد بهذا أن أحببك إلى الناس ، ففعل المهدي ذلك ؛ فانتشر له الصيت وكثر الدعاء وعجت الأصوات ، وقال الناس : هذا هو المهدي الذي ورد في الأثر . فقال : هذا عجب . وقال سقراط : ينبغي لمن علم أن البدن هو شيء جعل نافعاً للنفس مثل الآلة للصانع أن يطلب كل ما يصير البدن به أنفع وأوفق لأفعال النفس التي هي فيه ، وأن يهرب من كل ما يصير البدن غير نافعٍ ولا موافق لاستعمال النفس له . قال أوميروس : لا ينبغي لك أن تؤثر علم شيء إذا عيرت به غضبت ، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك . وقال ديوجانس : من القبيح أن تتحرى في أغذية البدن ما يصلح له ولا يكون ضاراً ، ولا تتحرى في غذاء النفس الذي هو العلم لئلا يكون ضاراً . وقال أيضاً : من القبيح أن يكون الملاح لا يطلق سفينته في كل ريح ، ونحن نطلق أنفسنا في غير بحث ولا اختبار . ذكر لنا أبو سليمان أن فيلسوفاً ورد مدينةً فيها فيلسوف ، فوجه إليه المدني كأساً ملآى ، يشير بها إلى أن الاستغناء عنه واقعٌ عنده ، فطرح القادم في الكأس إبرةً ، يعلمه أن معرفته تنفذ في معرفته . وقال فيلسوفٌ يوناني : التقلب في الأمصار ، والتوسط في المجامع ، والتصرف في الصناعات ، واستماع فنون الأقوال ، مما يزيد الإنسان بصيرةً وحكمةً وتجربةً ويقظةً ومعرفةً وعلماً . قال الوزير : ما البصيرة ؟ قلت : لحظ النفس الأمور . قال : فما الحكمة ؟ قلت : بلوغ القاصية من ذلك اللحظ . قال : فما التجربة ؟ قلت : كمال النفس بلحاظ مالها . قال : هذاحسن . قال أنكساغورس : كما أن الإناء إذا امتلأ بما يسعه من الماء ثم تجعل فيه زيادة على ذلك فاض وانصب ، ولعله أن يخرج معه شيءٌ آخر ؛ كذلك الذهن ما أمكنه أن يضبطه فإنه يضبطه ، وإن طلب منه ضبط شيء آخر أكثر من وسعه تحير ، ولعل ذلك يضيع عليه شيئاً مما كان الذهن ضابطاً له ، وهذا كلام صحيح ، وإني لأتعجب من أصحابنا إذا ظنوا وقالوا : إن الإنسان يستطيع حفظ جميع فنون العلم والقيام بها والإبقاء عليها ، ولو كان هذا مقدوراً عليه لوجد ، ولو وجد لعرف ، ولو عرف لذكر ، وكيف يجوز هذا وقلب الإنسان مضغة ، وقوته مقصورةٌ ، وانبساطه متناهٍ ، واقتباسه وحفظه وتصوره وذكره محدودٌ ؟ ولقد حدثني علي بن المهدي الطبري قال : قلت ببغداد لأبي بشر : لو نظرت في شيء من الفقه مع هذه البراعة التي لك في الكلام ، ومع هذا اللسان الذي تحير فيه كل خصم . قال : أفعل ، قال : فكنت أقرأ عليه بالنهار مع المختلفة الكلام ، وكان يقرأ علي بالليل شيئاً من الفقه ، فلما كان بعد قليل أقصر عن ذلك ، فقلت له : ما السبب ؟ قال : والله ما أحفظ مسئلةً جليلةً في الفقه إلا وأنسي مسئلةً دقيقةً في الكلام ، ولا حاجة لي في زيادة شيء يكون سبباً لنقصان شيء آخر مني . وسأل رجلٌ آخر أن يقرضه مالاً ، فوعده ثم غدر به ، فلامه الناس ، فقال : لأن يحمر وجهي مرةً أحب إلي من أن يصفر مراراً كثيرة . وولي أريوس ولايةً فقال أصدقاؤه : الآن يظهر فضلك . فقال : ليست الولاية تظهر الرجل ، بل الرجل يظهر الولاية . وقال ديوجانس . الدنيا سوق المسافر ، فليس ينبغي للعاقل أن يشتري منها شيئاً فوق الكفاف . وقيل لاسطفانس : من صديقك ؟ قال : الذي إذا صرت إليه في حاجةٍ وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها . وقال أفلاطون : إن للنفس لذتين : لذةً لها مجردةً عن الجسد ، ولذةً مشاركة للجسد ، فأما التي تنفرد بها النفس فهي العلم والحكمة ، وأما التي تشارك فيها البدن فالطعام والشرابوغير ذلك . وقيل لسقراط : كيف ينبغي أن تكون الدنيا عندنا ؟ قال : لا تستقبلوها بتمنٍ لها ، ولا تتبعوها بتأسف عليها ؛ فلا ذلك مجدٍ عليكم ، ولا هذا راجعٌ إليكم . وقال سقراط : القنية مخدومة ، ومن خدم غير نفسه فليس بحر . وقال بعض ندماء الإسكندر له : إن فلاناً يسيء الثناء عليك ، فقال : أنا أعلم أن فلاناً ليس بشرير ، فينبغي أن ينظر هل ناله من ناحيتنا أمرٌ دعاه إلى ذلك ، فبحث عن حاله فوجدها رثةً ، فأمر له بصلةٍ سنية ، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط لسانه بالثناء عليه في المحافل ؛ فقال : أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيرٌ أو شر . قيل لطيماثاوس : لم صرت تسيء القول في الناس ؟ قال : لأنه يمكنني أن أسيء إليهم بالفعل . وكان مرة في صحراء ، فقال له إنسان : ما أحسن هذه الصحراء قال : لو لم تحضرها أنت . وقال غالوس : ما وجه الاهتمام بما إن لم يكن أجزىء فوته ، وإن كان فالمنفعة به وبحضوره قليلة منقطعة . وقال سقراط : ينبغي إذا وعظت ألا تتشكل بشكل منتقمٍ من عدو ، ولكن بشكل من يسعط أو يكوى بعلاجه داءً بصديق له ، وإذا وعظت أيضاً بشيء فيه صلاحك ، فينبغي أن تتشكل بشكل المريض للطبيب . ركب مقاريوس في حاجة ، فمر بزيموس وقد تعلق به رجل يطالبه بمال اختدعه عنه وعليهما جماعةٌ من الناس ، وهو يسأله تنجيم ذلك المال عليه نجوماً ليؤديه ، ويتضرع أشد التضرع . فقال منقاروس : ما طلبتك عند هذا الرجل . فقال : أتاني فخدعني بالزهد والنسك عن مالي ، ووعدني أن يملأ بيتي ذهباً من صنعته ، فلم أزل في الاسترسال إلى ظاهره السليم حتى أفقرني باطنه السقيم . فقال له مقاريوس : إن كل من بذل شيئاً إنما يبذله على قدر وسعه ؛ وكان زيموس أتاك على حاله التي هو عليها ، ولم يكن ليتسع لأكثر من ذلك القول ؛ وعمل الذهب فبين ظاهر ، لأن فقره يدل على عجزه وضعفه عنه ، ومن أمل الغني عندالفقير فغاية ما يمكن أن يبلغه أن يصير مثله ؛ وآخر ما يؤمل عند الفقير نيل الفقر . فقد أصبت ما كنت تحب أن تجده عند زيموس ؛ وهو حظٌ إن تمسكت به لم يغل بما تلف من مالك ، ولئن كان وعدك أن يفيدك مالاً باطلاً فلقد أفادك معدناً حقاً ، من غير قصدٍ إلى نفعك . ثم أقبل على زيموس وقال له : ما أبعد شبه معدنك من المعادن الطبيعية إن المعادن تلفظ الذهب ، ومعدنك هذا يبتلع الذهب ؛ ومن جاور معدناً منها أغناه ، ومن جاور معدنك أفقره ؛ والمعادن الطبيعية تثمر من غير قول ، ومعدنك يقول من غير إثمار . فقال زيموس : أجل ، ولا آخرهم ولا أوسطهم ، لكنك من الجهال الذين لقي الناس منهم الأذى . فقال - أعلى الله قوله - : فهل لهذا الأمر - أعني الكيمياء - مرجوع ؟ وهل له حقيقة ؟ وما تحفظ عن هذه الطائفة ؟ فكان الجواب ، أما يحيى بن عدي - وهو أستاذ هذه الجماعة - فكان في إصبعه خاتمٌ من فضةٍ يزعم أن فضته عملت بين يديه ، وأنه شاهد عملها عياناً ، وأنه لا يشك في ذلك . وأما أصحابه كابن زرعة وابن الخمار ، فذكروا أن ذلك تم عليه من فعلٍ لم يفطن له من بعض من اغتره من هؤلاء المحتالين الخداعين . وأما شيخنا أبو سليمان فحصلت من جوابه على أنه ممكن ، ولم يذكر سبب إمكانه ولا دليل حقيقته . وأما أبو زيد البلخي - وهو سيد أهل المشرق في أنواع الحكمة - فذكر أنه محالٌ ولا أصل له ، وأن حكمة الله تعالى لا توجب صحة هذا الأمر ، وأن صحته مفسدةٌ عامة ، ' والله لا يحب الفساد ' . وأما مسكويه - وها هو بين يديك - فيزعم أن الأمر حقٌ وصحيح ، والطبيعة لا تمنع من إعطائه ، ولكن الصناعة شاقة ، والطريق إلى إصابة المقدار عسرة ، وجمع الأسرار صعبٌ وبعيد ، ولكنه غير ممتنع ؛ فقد مضى عمره في الإكباب على هذا بالري أيام كان بناحية أبي الفضل وأبي الفتح ابنه مع رجل يعرف بأبي الطيب ، شاهدته ولم أحمد عقله ، فإنه كانصاحب وسواسٍ وكذبٍ وسقط ، وكان مخدوعاً في أول أمره ، خادعاً في آخر عمره . وأبين ما سمعته في هذا الحديث أن الطبيعة فوق الصناعة ، وأن الصناعة دون الطبيعة ، وأن الصناعة تتشبه بالطبيعة ولا تكمل ، والطبيعة لا تتشبه بالصناعة وتكمل ، وأن الطبيعة قوة إلهية ساريةٌ في الأشياء واصلةٌ إليها ، عاملةٌ فيها بقدر ما للأشياء من القبول والاستحالة والانفعال والمواتاة ، إما على التمام ، وإما على النقصان . وقيل : إن الطبيعة لا تسلك إلى إبراز ما في المادة أبعد الطرق ، ولا تترك أقرب الطرق ، فلما كانت المعادن هي التي تعطى هذه الجواهر على قدر المقابلات العلوية والأشكال السماوية والمواد السفلية والكائنات الأرضية ، لم يجز أن تكون الصناعة مساويةً لها ، كما لم يجز أن تكون مستعليةً عليها ، لأن الصناعة بشريةٌ مستخرجةٌ من الطبيعة التي هي إلهية ، ولا سبيل لقوةٍ بشريةٍ أن تنال قوةً إلهيةً بالمساواة ؛ فأما بالتشبيه والتقريب والتلبيس ، فيمكن أن يكون بالصناعة شيءٌ كأنه ذهبٌ أو فضة ، وليس هو في الحقيقة ، لا ذهبٌ ولا فضة ؛ وإذا كان ظهور القطن بالطبيعة وظهور الثوب بالصناعة فليس لهذه أن تعرض لهذه ، ولا لهذه أن تعرض لهذه ؛ والأمور موزونة ، والصناعات متناهية ؛ فإن ادعى في شيءٍ من الصناعة ما يزيد عليها حتى تكون كأنها الطبيعة ، احتيج إلى برهانٍ واضح ، وإلى عيان مصرح ، لأنا نعلم أنه ما من صناعةٍ ولا علمٍ ولا سياسةٍ ولا نحلةٍ ولا حاٍ إلا وقد حمل عليها ، وزيد فيها وكذب من أجلها بما إذا طلبت صحته بالبرهان لم تجد ، أو بالعيان لم تقدر . فأما أصحاب النسك ومن عرف بالعبادة والصلاح ؛ فقد ادعى لهم أن الصفر يصير لهم ذهباً ، وشيئاً آخر يصير فضة ، وأن الله عز وجل يزلزل لهم الجبل وينزل لهم القطر ، وينبت لهم الأرض ، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء الذين يأتون من قبل الله بالكتب والوصايا والأحكام والمواعظ والنصائح ، وربما يسمى كثيرٌ من الناس ما يظهر للزهاد والعباد من هذا الضرب كرامات ولا يسميها معجزات ، والحقائق لا تنقلب بالأسماء ، فإن المسمى بالكرامة هو المسمى بالمعجزة والآية . والخوض في هذا الطرف قديم ، وفصله في الحق شاقٌ ، والتنازع فيه قائم ، والظن يعمل عمله ، واليقين غير مظفور به ، ولا موصولٍ إليه ؛ والطبيعة قد أولعت الناس بادعاء الغرائب ، وبعثتهم على نصرتها بالوفق والخرق ، والتسهيل واللجاج ، والمواتاة والمحك ،ولله في طي هذا العالم العلوي أسرارٌ وخفايا وعيوبٌ ومكامن لا قوة لأحد من البشر بالحس ولا بالعقل أن يحوم حولها ، أو يبلغ عمقها ، أو يدرك كنهها ، ومن تصرف عرف ، ومن عرف سلم ، والسلام . وحكى لنا أبو سليمان أن أرسطوطاليس كتب إلى رجل لم يشفعه في رجل سأله الكلام له في حاجة : إن كنت أردت ولم تقدر فمعذور ، وإن كنت قدرت ولم ترد فسوف يجيىء وقتٌ تريد ولا تقدر . وقال بعض الحكماء : لا ترفهوا السفلة فيعتادوا الكسل والراحة ، ولا تجرئوهم فيطلبوا السرف والشغب ، ولا تأذنوا لأولادهم في تعلم الأدب فيكونوا لرداءة أصولهم أذهن وأغوص ، وعلى التعلم أصبر ؛ ولا جرم فإنهم إذا سادوا في آخر الأمر خربوا بيوت العلية أهل الفضائل . وقال فيلسوف : للنفس خمس قوى : الحس والوهم والذهن والاختبار والفكر . فأما الحس فلحاق الأشياء بلا فحص ، ولا يحتاج في ذلك اللحاق إلى شيء آخر ، إلا أن يكون ممنوعاً بمانع ، وذلك إذا وجد شيئاً أبيض حكم بأنه أبيض بلا فكر ولا قياس . وأما الوهم ، فإنه يقع على الأشياء بتوسط الحس . وأما الاختبار فيوافق الفكر ، كقولك : النفس لا تموت ، فهذا قولٌ اختباريٌ بعد الفكر ، فإن كان هذا هكذا فالاختبار ليس بقياس ، ولكنه أفق القياس . وأما الذهن فإنه لا يهجم على أوائل الأشياء . وقال آخر شبيهاً بهذا الكلام ، ولابأس أن يكون مضموماً إليه ، ليكون شمل الفائدة أكثر نظاماً وأقرب مراماً . قال : ليس للحواس والحركات فعلٌ دون أن تبعثها القوة المميزة ، فلذلك لا يحس السكران ولا النائم ، وكذلك أيضاً البهائم فإنها لا تصيح إلا بعد أن يعرض في فكرها شيء ، ولا تتحرك إلا بانبعاث القوة المميزة . ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواحٍ في ثلاثة أعضاء رئيسة : نفسيةٌ في الدماغ ، وحيوانية في القلب ، وطبيعية في الكبد .وفي كل واحد منها قوةٌ مميزةٌ بها يتم عمله ، فالتي في الدماغ هي العقل المميز الحارس للبدن ، ومنه ينبعث الحس والحركة ، والتي في القلب تنبعث منها الحرارة الغريزية في جميع البدن ؛ وزعموا أن تلك الحرارة هي الروح ؛ والتي في الكبد هي موضع الهضم والنضج ، وهي التي تنضج الطعام وتغيره وتحيله دماً وتوزع في كل عضو ما هو ملائمٌ له ، وبالجاذبة تجذب ، وبالحابسة تحبس ، وبالهاضمة تهضم ، وبالدافعة تدفع . فأما الدماغ فينقسم ثلاثة أقسام يحجز بينها أغشية ، أحدها في مقدم الرأس موضع التخيل ، والثاني في وسط الرأس موضع العقل والفكر والتمييز ، والثالث في مؤخر الرأس موضع الحفظ والذكر والقبول ؛ فكل واحد مما ذكرنا يخدم الآخر ، وإن ضعف أحدها ضعف لضعفه الآخر ، وباعتدالهن وسلامتهن قوام البدن والنفس . ولكل واحدٍ منها آلةٌ بها يستعين على خدمة الآخر . قال : فكما أن الرحى إذا نقضت شيئاً منها أو زدت أفسد الطحن ؛ إما بزيادة أو نقصان ، كذلك سائر خدمه وآلاته . وقال : الدماغ مسكن العقل ، وخدمه الحس والحركة ؛ والقلب مسكن الحرارة الغريزية ، وخدمه العروق الضوارب ؛ والكبد مسكن النضج والهضم ، وخدمها العروق غير الضوارب . وقال : النار تحرق ، فإذا كانت موجودةً فالدخان والرماد موجودان ، والدخان رمادٌ لطيف ، والرماد دخانٌ كثيف . وقال أبو سليمان : ذكر بعض البحاثين عن الإنسان أنه جامعٌ لكل ما تفرق في جميع الحيوان ، ثم زاد عليها وفضل بثلاث خصالٍ : بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضارة ، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بوساطة النظر ، وبالأيدي لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلةً لما في الطبيعة بقوة النفس . ولما انتظم له هذا كله جمع الحيل والطلب والهرب والمكايد والحذر ، وهذا بدل السرعة والخفة التي في الحيوان ، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن ، واتخذ الجنن لتكون وقايةً من الآفات ، والعقل ينبوع العلم ، والطبيعة ينبوع الصناعات ، والفكر ، بينهما قابلٌ منهما ، مؤدٍ من بعض إلى بعض ، فصواب بديهة الفكر من صحة العقل ،وصواب روية الفكر من صحة الطباع . وقال أبو العباس : الناس في العلم على ثلاث درجات ، فواحد يلهم فيعلم فيصير مبدأ ، والآخر يتعلم ولا يلهم فهو يؤدي ما قد حفظ ، والآخر يجمع له بين أن يلهم وأن يتعلم . فيكون بقليل ما يتعلم مكثراً بقوة ما يلهم . وقال : الإنسان بين طبيعته - وهي عليه - ونفسه - وهي له - منقسمٌ ؛ فإن اقتبس من العقل قوي نوره ما هو له من النفس ، وأضعف ما هو عليه من الطبيعة ، فإن لم يكن يقتبس بقي حيران أو متهوراً . وقال سقراط : الكلام اللطيف ، ينبو عن الفهم الكثيف . وحكى لنا أبو سليمان قال : قيل لفيلسوف : ما بال المريض إذا داواه الطبيب ودخل عليه فرح به وقبل منه وكافأه على ذلك ، والجاهل لا يفعل ذلك بالعالم إذا علمه وبين له ؟ فقال : لأن المريض عالمٌ بما عند الطبيب ، وليس الجاهل كذلك ، لأنه لا يعلم ما عند العالم . وقال ديوجانس لصاحبه : أما تعلم أن الحمام إذا كان سمائياً كان أغلى ثمناً ، وإذا كان أرضياً كان أقل ثمناً . قال - أبقاه الله - هذا مثلٌلا في غاية الحسن والوضوح . وقال ديوجانس : المأكول للبدن ، والموهوب للمعاد ، والمحفوظ للعدو . وقال فيلسوف : التهاون باليسير أساسٌ للوقوع في الكثير . وقال أفلاطون : مثل الحكيم كمثل النملة تجمع في الصيف للشتاء ، وهو يجمع في الدنيا للآخرة . وقال فيلسوف : من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحل بها في سره وجهره فهو في المثل كرجل رزق ثوباً فأخذ بطرفه فلم يلبسه . وقال السيد المسيح : إن استطعت أن تجعل كنزك حيث لا يأكله السوس ، ولا تدركه اللصوص ، فافعل .قال فيلسوف : إذا نازعك إنسانٌ فلا تجبه ، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها ، وإن تركت إجابتها بترتها وقطعت نسلها ، وإن أجبتها ألقحتها ؛ فكم من ولدٍ ينمو بينهما في بطنٍ واحد . وقال فيلسوف : إن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت . وقال ديوجانس : من أين تأكل ؟ فقال : من حيث يأكل عبدٌ له رب . وقال ديوجانس : كن كالعروس تريد البيت خالياً . قيل لأرسطوطاليس : إن فلاناً عاقلٌ . قال : إذاً لا يفرح بالدنيا . وقيل لفيثاغورس : ما أملك فلاناً لنفسه قال : إذاً لا تصرعه شهوته ، ولا تخدعه لذته . وقيل لأسقلبيوس : فلانٌ له همة . قال إذاً لا يرضى لنفسه بدون القدر . ومدح رجل ثيودوروس على زهده في المال قال : وما حاجتي إلى شيء البخت يأتي به ، واللؤم يحفظه ، والنفقة تبدده ، إن قل غلبك الهم بتكثيره ، وإن كثر تقسمك في حفظه ، يحسدك من فاته ما عندك ، ويخدعك عنه من يطمع فيه منك . وقال سقراط : ما أحب أن تكون النفس عالمةً بكل ما أعد لها ؛ قيل : ولم ؟ قال : لأنها لو علمت طارت فرحاً ولم ينتفع بها . وقال ديوجانس : القلب ذو لطافة ، والجسم ذو كثافة ، والكثيف يحفظ اللطيف كضوء المصباح في القنديل . وقال أفلاطون : العلم مصباح النفس ، ينفي عنها ظلمة الجهل ، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل . قال أبو سليمان : ما أحسن المصباح إذا كان زجاجة نقياً ، وضوءه ذكياً ، وزيته قوياً ، وذباله سوياً . قيل لسقراط : ما أحسن بالمرء أن يتعلمه في صغره ؟ قال : ما لا يسعه أن يجهله في كبره .قال أبو سليمان : ومن ها هنا أخذ من قال : يحسن بالمرء التعلم ما حسنت به الحياة . قيل لهوميروس : ما أصبرك على عيب الناس لك قال : لأنا استوينا في العيب ، فأنا عندهم مثلهم عندي . وقيل للإسكندر : أي شيء أنت به أسر ؟ . قال : قوتي على مكافأة من أحسن إلي بأحسن من إحسانه . وقال ديوجانس : إن إقبالك بالحديث على من لا يفهم عنك بمنزلة من وضع المائدة على مقبرة . ورأى ديوجانس رجلاً يأكل ويتذرع ويكثر ، فقال له : يا هذا ، ليست زيادة القوة بكثرة الأكل ، وربما ورد على بدنك من ذلك الضرر العظيم ، ولكن الزيادة في القوة بجودة ما يقبل بدنك منه على الملاءمة . وقال ديوجانس : الذهب والفضة في الدار بمنزلة الشمس والقمر في العالم . قال أبو سليمان : هذا مليح ، ولكن ينبغي أن تبقى الشمس والقمر فإنهما يكسفان فيكونان سبباً لفسادٍ كثير ، ويذوبان ويحميان فيكونان ضارين . وقال أفلاطون : موت الرؤساء أصلح من رآسة السفلة . وقال : إذا بخل الملك بالمال كثر الإرجاف به . وقال سولون : العلم صغير في الكمية ، كبيرٌ في الكيفية . وقال أبو سليمان : يعني أن القليل منه إذا استعملته على وجهه كان له إناء ونفع فائض ودرٌ سائحٌ ، وغايةٌ محمودةٌ ، وأثرٌ باق . وهذه كلها كيفيات من تلك الكمية . وقال أفلاطون : لا يسوس النفوس الكثيرة على لاحق والواجب من لا يمكنه أن يسوس نفسه الواحدة . وقال سقراط : النفس الفاضلة لا تطغى بالفرح ، ولا تجزع من الترح ، لأنها تنظر فيكل شيء كما هو ، لا تسلبه ما هو له ولا تضيف إليه ما ليس منه ؛ والفرح بالشيء إنما يكون بالنظر في محاسن الشيء دون مساوئه ، والترح إنما يكون بالنظر في مساوىء الشيء دون محاسنه ؛ فإذا خلص النظر من شوب الغلط فيما ينظر فيه انتفى الطغيان والجزع ، وحصل النظام وربع . قال ديوجانس : ينبغي للإنسان أن ينظر في المرآة ، فإن كان وجهه حسناً استقبح أن يضيف إليه فعلاً قبيحاً ، وإن كان وجهه قبيحاً استقبح أن يضيف قبيحاً إلى قبيح حتى يتضاعف القبح . وقال إبقراط : منزلة لطافة القلب في الأبدان بمنزلة لطافة الناظر في الأجفان . وقال : للقلب آفتان : وهما الغم والهم ، فالغم يعرض منه النوم ، والهم يعرض منه السهر ، وذلك أن الهم فيه فكرٌ في الخوف مما سيكون ، فمنه يغلب السهر ؛ والغم لا فكر فيه ، لأنه إنما يحدث لما قد مضى وكان . وقال أفلاطون : من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته ، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر . قال أبو سليمان : هذا كلامٌ ضره أكثر من نفعه ، وإنما نفقه صاحبه بالمثال ، والمثال يستجيب للحق كما يستجيب للباطل ، والمعول على ما ثبت بالدليل ، لا على ما يدعى بالتمثيل ، وقد يجب أن يجتنب جانب السلطان بغاية الاستطاعة والإمكان ، إلا إذا كان الدهر سليماً من الآفات الغالبة . فقال له الأندلسي : وما صورة الزمان الخالي من الآفات ؟ فقال : أن يكون الدين طرياً ، الدولة مقبلة ، والخصب عاماً ، والعلم مطلوباً ، والحكمة مرغوباً فيها ، والأخلاق طاهرة ، والدعوة شاملة ، والقلوب سليمة ، والمعاملات متكافئة ، والسياسة مغروسة ، والبصائر متقاربة . فقال : هذا لو صح لارتفع الكون والفساد اللذان وهما سوس هذا المكان ، فقال : غلطت يا أبا عبد الله ، فإن الكون والفساد يكونان على حاليهما ، ولكنهما يقعان على معلومين للصورة الثابتة ، والسياسة العامة الغالبة ، كأنك لا تحس بالفرق بين زمان خصب الأرض وجدبها ؛ وكما أن للأرض خصباً وجدباً ؛ كذلك للأحوال والأديان وللدول صلاحٌ وفساد ، وإقبالٌ وإدبار ، وزيادةٌ ونقصان ؛ ولو كان ما خلته لازماً ، لكنا لا نتمنى ملكاً عادلاً ، ولا سائساً فاضلاً ، ولا ناظراً ناظماً ، ولا مدبراً عالماً ؛ وكان هذا لا يعرفولا يعهد ، ويكون في عرض المحال كونه ووجدانه ؛ وليس الأمر هكذا فقد عهدنا مثل أبي جعفر بسجستان ، وكان والله بصيراً خبيراً ، عالماً حكيماً ، يقظاً حذراً ، يخلق ويفري ، ويريش ويبري ، ويكسو ويعري ، ويمرض ويبري ، وهكذا مثل أبي جعفر بالأمس ملك العراق في حزامته وصرامته وقيامه في جميع أموره ، بنظره وتدبيره ؛ وكذلك قد عهد الناس قبلنا مثل هذا ، فلم يقع التعجب من شيء عليه مدار الليل والنهار . وقال ديوجانس لصاحب له : اطلب في حياتك هذه العلم والمال تملك بهما الناس ، لأنك بين الخاصة والعامة ، فالخاصة تعظمك لفضلك ، والعامة تعظمك لمالك . وقال أفلاطون : إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع الرزق ؛ قال أبو سليمان : لأن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان ، ولأن حظ الإنسان من المال إنما هو من قبيل النفس الشهوية والسبعية ، وحظه من العلم إنما هو من قبيل النفس العاقلة ، وهذان الحظان كالمتعاندين والضدين . قال : فيجب على الحصيف والمميز أن يعلم بأن العالم أشرف في سنخه وعنصره ، وأوله وآخره ، وسفره وحضره ، وشهادته ومغيبه من ذي المال ؛ فإذا وهب له العلم فلا يأس على المال الذي يجزىء منه اليسير ، ولا يلهب نفسه على فوته حسرةً وأسفاً ؛ فالعلم مدبر ، والمال مدبر ؛ والعلم نفسي ، والمال جسدي ، والعلم أكثر خصوصيةً بالإنسان من المال ، وآفات صاحب المال كثيرةٌ وسريعة ، لأنك لا ترى عالماً سرق علمه وترك فقيراً منه ؛ وقد رأيت جماعةً سرقت أموالهم ونهبت وأخذت ، وبقي أصحابها محتاجين لا حيلة لهم ؛ والعلم يزكو على الإنفاق ويصحب صاحبه على الإملاق ؛ ويهدي إلى القناعة ، ويسبل الستر على الفاقة ؛ وما هكذا المال .الليلة الثامنة عشرة
وقال مرةً : تعال حتى نجعل ليلتنا هذه مجونية ، ونأخذ من الهزل بنصيب وافر ، فإن الجد قد كدنا ، ونال من قوانا ، وملأنا قبضاً وكرباً ، هات ما عندك ، قلت : قال حسنون المجنون بالكوفة يوماً - وقد اجتمع إليه المجان يصف كل واحد منهم لذات الدنيا - فقال : أما أنا فأصف ما جربته ؛ فقالوا : هات ؛ فقال : الأمن والعافية ، وصفع الصلع الزرق ، وحك الجرب ، وأكل الرمان في الصيف ، والطلاء في كل شهرين ، وإتيان النساء الرعن والصبيان الزعر ، والمشي بلا سراويل بين يدي من لا تحتشمه ، والعربدة على الثقيل ، وقلة خلاف من تحبه والتمرس بالحمقى ومؤاخاة ذوي الوفاء ، وترك معاشرة السفلة . وقال الشاعر : أصبحت من سفل الأنام . . . إذ بعث عرضي بالطعام أصبحت صفعاناً لئي . . . م النفس من قومٍ لئام في است أم ربات الخيا . . . م ومن يحن إلى الخيام نفسي تحن إلى الهلا . . . م الموت من دون الهلام من لحم جديٍ راضعٍ . . . رخص المفاصل والعظام هذا لأولاد الخطا . . . يا والبغايا والحرام حي القدور الراسيا . . . ت وإن صممن عن الكلام وقصاعهن إذا أتي . . . نك طافحاتٍ بالسلاملهفي على سكباجةٍ . . . تشفي القلوب من السقام يا عاذلي أسرفت في . . . عذل الخليع المستهام رجلٌ يعض إذا نصح . . . ت له على فأس اللجام دع عذل من يعصي العذو . . . ل ولا يصيخ إلى الملام خلع العذار وراح في . . . ثوب المعاصي والأثام شيخٌ يصلي قاعداً . . . وينيك عشراً من قيام ويعاف نيك الغانيا . . . ت ويشتهي نيك الغلام وتراه يرعد حين يذ . . . كر عنده شهر الصيام خوفاً من الشهر المعذ . . . ب نفسه في كل عام سلس القياد إلى التصا . . . بي والملاهي والحرام من للمروءة والفتوة . . . بعد موتي والندام من للسماح وللرما . . . ح لدى الهزاهز والحسام من للواط وللحلا . . . ق وللملمات العظام كان محمد بن الحسن الجرجاني متقعراً في كلامه ، فدخل الحمام يوماً ، فقال للقيم : أين الجليدة التي تسلخ بها الضويطة من الإخفيق ؟ قال : فصفع القيم قفاه بجلدة النورة وخرج هارباً ، فلما خرج من الحمام وجه إلى صاحب الشرطة ، فأخذ القيم وحبسه ، فلما كان عشاء ذلك اليوم كتب إليه القيم رقعةً يقول فيها : قد أبرمني المحبوسون بالمسئلة عن السبب الذي حبست له ، فإما خليتني وإما عرفتهم . فوجه من أطلقه ، واتصل الخبر بالفتح ، فحدث المتوكل ، فقال : ينبغي أن يغني هذا القيم عن الخدمة في الحمام . وامر له بمائتي دينار .قال : وكان بالبصرة مخنثٌ يجمع ويعشق بعض المهالبة ، فلم يزل المخنث به حتى أوقعه ، قال : فلقيته من غدٍ فقلت له : كيف كانت وقعة الجفرة عندكم البارحة ؟ فقال : لما تدانت الأشخاص ، ورق الكلام ، والتفت الساق بالساق ، ولطخ باطنها بالبزاق ، وقرع البيض بالذكور ، وجعلت الرماح تمور ؛ صبر الكريم فلم يجزع ، وسلم طائعاً فلم يخدع ؛ ثم انصرف القوم على سلم ، بأفضل غنم ؛ وشفيت الصدور ، وسكنت حرارة النفوس ، ومات كل وجد ، وأصيب مقتل كل هجر ، واتصل الحبل ، وانعقد الوصل . قال : فلو كان أعد هذا الكلام لمسئلتي قبل ذلك بدهر لكان قد أجاد . وقال أبو فرعون الشاشي : أنا أبو فرعون فاعرف كنيتي . . . حل أبو عمرة وسط حجرتي وحل نسج العنكبوت برمتي . . . أعشب تنوري وقلت حنطتي وحالف القمل زماناً لحيتي . . . وضعفت من الهزال ضرطتي وصار تباني كفاف خصيتي . . . أير حمارٍ في حر أم عيشتي أبو عمرة : صاحب شرطة المختار بن عبيد ، كان لا ينزل بقوم إلا اجتاحهم ، فصار مثلاً لك شؤم وشر . ويقال أيضاً : إن أبا عمرة اسم الجوع ، هكذا حدثني به أبو الحسن البصري . وأنشد بشر بن هارون في أبي طاهر :أبا عبد الإله وأنت حرٌ . . . من الأحرار منزوع القلاده سألتك بالإله لتخبرني . . . أجهلك مستفادٌ أم ولاده ؟ فإن يك فيك مولوداً فعذرٌ . . . وإن يك حادثاً لك باستفاده فواعجباً يزيد الناس فضلاً . . . وأنت تزيد نقصاً بالزيادة حكى الصولي : حدثنا ميمون بن مهران قال : كان معنا مخنثٌ يلقب مشمشة - وكان أمياً - فكتب بحضرته رجلٌ إلى صديق له كتاباً ، فقال المخنث : اكتب إليه : مشمشة يقرأ عليك السلام ؛ فقال : قد فعلت - وما كان فعل - فقال : أرني ؛ فقال : هذا اسمك ؛ فقال : هيهات ، اسمي في الكتاب شبه داخل الأذن ، فعجبنا من جودة تشبيهه . قال نضلة : مررت بكناسين أحدهما في البئر والآخر على رأس البئر ، وإذا ضجة ، فقال الذي في البئر : ما الخبر ؟ فقال : قبض على علي بن عيسى ؟ فقال : من أقعدوا بدله ؟ قال : ابن الفرات ؛ قال : قاتلهم الله ، أخذوا المصحف ووضعوا بدله الطنبور . كتب أبو العيناء إلى ابن مكرم : قد أصبت لك غلاماً من بني ناعظ ، ثم من بني ناشرة ، ثم من بني نهد . فكتب إليه : ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . وقدم رجلٌ مع امرأة إلى القاضي ومعها طفلٌ ، فقالت : هذا ابنه ، فقال الرجل : أعز الله القاضي ما أعرفه ؛ فقال القاضي : اتق الله فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، فهذا وأمه على فراشك ؛ قال الرجل : ما تنايكنا إلا في الاست ، فمن أين لي ولد ؟ فقالت المرأة : أعز الله القاضي ؛ قل له : ما رأيت ؟ يعرفه ؛ فكف الرجل ، وأخذ بيد ولده وانصرف . قال : وسمعت آخر يقول لشاطر : اسكت ، فإن نهراً جرى فيه الماء لابد أن يعود إليه . فقال له الآخر : حتى يعود إليه الماء تكن قد ماتت ضفادعه . ومن كلام الشطار : أنا البغل الحرون ، والجمل الهائج ، أنا الفيلالمغتلم لو كلمني عدوي لعقدت شعر أنفه إلى شعر استه حتى يشم فساءه ، كأنه القنفذة . وقال بعض القصاص : في النبيذ شيء من الجنة ' الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ' والنبيذ يذهب الحزن . قال وسمعت ماجنةٌ تقول : ضر وسر ، وقد وارقد ، واطرح واقترح . قال ابن أبي طاهر : دعا مرة قوماً وأمر جاريته أن تبخرهم ، فأدخلت يدها في ثوب بعضهم فوجدت أيره قائماً ، فجعلت تمرسه وتلعب به وأطالت ؛ فقال مولاها : أيش آخر هذا العود ؟ احترق ؟ قالت : يا مولاي ، هو عقدة . قال مزيد : كان الرجل فيما مضى إذا عشق الجارية راسلها سنةً ، ثم رضي أن يمضغ العلك الذي تمضغه ، ثم إذا تلاقيا تحدثا وتناشدا الأشعار ، فصار الرجل اليوم إذا عشق الجارية لم يكن له هم إلا أن يرفع رجلها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة . قال ابن سيرين : كانوا يعشقون من غير ريبة ، فكان لا يستنكر من الرجل أن يجيء فيحدث أهل البيت ثم يذهب . قال هشام : ولكنهم لا يرضون اليوم إلا بالمواقعة . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : هل تعرفون العشق بالبادية ؟ قال : نعم ، أيكون أحدٌ لا يعرفه . قلت : فما هو عندكم ؟ قال : القبلة والضمة والشمة ، قلت : ليس هو هكذا عندنا . قال : وكيف هو ؟ قلت : أن يتفخذ الرجل المرأة فيباضعها . فقال : قد خرج إلى طلب الولد . قال بشر بن هارون : إن أبا موسى له لحيةٌ . . . تدخل في الجحر بلا إذن وصورةٌ في العين مثل القذى . . . ونغمةٌ كالوقر في الأذن كم صفعةٍ صاحت إلى صافعٍ . . . بالنعل من أخدعه : خذني وقال لنا أبو يوسف : قال جحظة : حضرت مجلساً فيه جماعةٌ من وجوه الكتاب ، وعندنا قينةٌ محسنةٌ حاضرة النادرة ، فقال لها بعضهم : بحياتي عليك غني لي : لست مني ولست منك فدعني . . . وامض عني مصاحباً بسلامفقالت : أهكذا كان أبوك يغنيك ؟ فأخجلته . اشترى مدينيٌ رطباً ، فأخرج صاحب الرطب كيلجةً صغيرةً ليكيل بها ، فقال المديني : والله لو كلت بها حسناتٍ ما قبلتها . سئل أبو عمارة قاضي الكوفة : أي بنيك أثقل ؟ قال : ما فيهم بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الأوسط . اجتمع جماعةٌ عند جامعٍ الصيدناني ، فقال أحدهم : ليس للمخمور أنفع من سلحه ، فقال جامع : أخذتها والله من فمي . قال رجل لرؤبة : أتهمز الخرأ ؟ قال : بإصبعك يابن الخبيثة . وقف أعرابيٌ على قوم يسائلهم ، فقال لأحدهم : ما اسمك ؟ قال : مانع ؛ وقال للآخر : ما اسمك ؟ قال : محرز ؛ وقال للآخر : ما اسمك ؟ قال : حافظ ؛ قال : قبحكم الله ، ما أظن الأقفال إلا من أسمائكم . من كلام العامة : منارة الإسكندرية عندك خشخاشة فارغة . . . . قال جحظة : قرأت على فص ماجنةٍ : ليلة عرسي ؛ ثقبوا بالأير كسي . وعلى فص ماجنةٍ أخرى ؛ السحق أخفى والنيك أشفى . وقال جحا لأبي مسلم صاحب الدعوة : إني نذرت إن رأيتك أن آخذ منك ألف درهم . فقال : رأيت أصحاب النذور يعطون لا يأخذون ، وأمر له بها . قال السري : رأيت المخنث الذي يعرف بالغريب ، وإنسانٌ من العامة قد آذاه وطال ذلك ، فالتفت إليه وقال له : يا مشقوق ؛ نعلك زائفة ، وقميصك مقرون الحاجبين ، وإزراك صدفٌ أزرق ، وأنت تتلاهى بأولاد الملوك والأمراء . قال السري : فخجل العامي ومر ، فقلت له : فسر لي هذا الغريب . فقال : امضر إلى ثعلب . فقلت : ليس هذا من عمله ؛ فسرهلي . قال : النعل الزائفة التي تجرف التراب جرفاً ، والقميص المقرون ، هو الخلق الذي في كتفيه رقعتان أجود منه ، فهما تفصحان بياناً ، والإزار صدفٌ أزرق ، أي مخرقٌ مفتت . فقلت : فقولك : يا مشقوق ؟ قال : قطيع الظهر . قيل للشعبي : أيجوز أن يصلى في البيعة ؟ قال : نعم . ويجوز أن يخرأ فيها . وقال سعيد بن جبير : القبلة رسول الجماع . وقال الرشيد للجماز : كيف مائدة محمد بن يحيى ، يعني البرمكي . قال : شبرٌ في شبر ؛ وصحفته من قشر الخشخاش ، وبين الرغيف والرغيف مضرب كرة ؛ وبين اللون واللون فترة نبي . قال : فمن يحضرها : قال : الكرام الكاتبون ؛ فضحك وقال : لحاك الله من رجل . قال نضلة : دخلت ساقيةً في الكرخ فتوضأت ؛ فلما خرجت تعلق السقاء بي وقال : هات قطعة ؛ فضرطت ضرطةً وقلت : خل الآن سبيلي فقد نقضت وضوئي ؛ فضحك وخلاني . وعد رجلٌ بعض إخوانه أن يهدي إليه بغلاً ؛ فطال مطله ، فأخذ قارورة وبال فيها وجاء إلى الطبيب وقال : انظر إلى هذا الماء ، هل يهدي إلي بعض إخواني بغلاً . حدثنا ابن الخلال البصري قال : سمعت ابن اليعقوبي يقول : رأيت على باب المربد خالداً الكاتب وهو ينادي : يا معشر الظرفاء ، والمتخلقين بالوفاء ؛ أليس من العجب العجيب ، والنادر الغريب ، أن شعري يزني به ويلاط منذ أربعين سنةً وأنا أطلب درهماً فلا أعطى ، ثم أنشأ يقول : أحرم منكم بما أقول وقد . . . نال به العاشقون من عشقوا صرت كأني ذبالةٌ نصبت . . . تضىء للناس وهي تحترق وسمعت الماجن المعروف بالغراب يقول : ويلك أيش في ذا ؟ لا تختلط الحنطة بالشعير ، أو يصنع الباذنجان قرعاً ، أو يتحول الفجل إلى الباقلاء ، ويصير الخرنوب إلى الأرندج . وسمعت دجاجة المخنث يقول لآخر : إنما أنت بيتٌ بلا باب ، وقدمٌ بلا ساق ، وأعمىبلا عصا ، ونارٌ بلا حطب ، ونهرٌ بلا معبر ، وحائطٌ بلا سقف . وشتم آخر فقال : يا رأس الأفعى ، ويا عصا المكاري ، ويا برنس الجاثليق ، يا كودن القصار ، يا بيرم النجار ؛ يا ناقوس النصارى ؛ يا ذرور العين ، يا تخت الثياب ، يا طعن الرمح في الترس ؛ يا مغرفة القدور ، ومكنسة الدور ؛ لا تبالي أين وضعت ؟ ولا أي جحرٍ دخلت ؟ ولا في أي خانٍ نزلت ، ولا في أي حمام عملت ؛ إن لم تكن في الكوة مترساً فتح اللصوص الباب ؛ يا رحىً على رحى ؛ ووعاءً في وعاء ، وغطاءً على غطاء ، وداءً بلا دواء ؛ وعمىً على عمى ؛ ويا جهد البلاء ؛ ويا سطحاً بلا ميزاب ، ويا عوداً بلا مضراب ، ويا فماً بلا ناب ، ويا سكيناً بلا نصاب ، ويا رعداً بلا سحاب ، ويا كوةً بلا باب ؛ ويا قميصاً بلا مئزر ، ويا جسراً بلا نهر ، ويا قراً على قر ؛ ويا شط الصراة ، ويا قصراً بلا مسناه ويا ورق الكماه ، يا مطبخاً بلا أفواه ؛ يا ذنب الفار ، يا قداراً بلا أبزار ، يا رأس الطومار ، يا رسولاً بلا أخبار ؛ يا خيط البواري ، يا رحىً في صحاري ، يا طاقاتٍ بلا سواري . دخل أبو نواس على عنان جارية الناطفي فقال لها : لو رأى في البيت جحراً . . . لنزا حتى يموتا أو رأى في البيت ثقباً . . . لتحول عنكبوتافأجابته : زوجوا هذا بألفٍ . . . وأظن الألف توتا قبل أن ينقل الدا . . . ء فلا يأتي ويوتى فقال - أدام الله دولته ، وبسط لديه نعمته - قدم هذ الفن على غيره ، وما ظننت أن هذا يطرد في مجلسٍ واحد ، وربما عيب هذا النمط كل العيب ، وذلك ظلم ، لأن النفس تحتاج إلى بشر . وقد بلغني أن ابن عباس كان يقول في مجلسه بعد الخوض في الكتاب والسنة والفقه والمسائل : احمصوا ، وما أراه أراد بذلك إلا لتعديل النفس لئلا يلحقها كلال الجد ، ولتقتبس نشاطاً في المستأنف ، ولتستعد لقبول ما يرد عليها فتسمع ؛ والسلام .
الليلة التاسعة عشرة
ورسم بجمع كلماتٍ بوارع ، قصارٍ جوامع ، فكتبت إليه أشياء كنت أسمعها من أفواه أهل العلم والأدب على مر الأيام في السفر والحضر ، وفيها قرعٌ للحس ، وتنبيهٌ للعقل ، وإمتاعٌ للروح ، ومعونةٌ على استفادة اليقظة ، وانتفاعٌ في المقامات المختلفة ، وتمثلٌ للتجارب المخلفة ؛ وامتثالٌ للأحوال المستأنفة . من ذلك : الحمد لله مفتاح المذاهب . البر يستعبد الحر . القناعة عز المعسر . الصدقة كنز الموسر . ما انقضت ساعةٌ من أمسك إلا ببضعةٍ من نفسك . درهمٌ ينفع خيرٌ من دينار يضر . من سره الفساد ، ساءه المعاد . الشقي من جمع لغيره فضن على نفسه بخيره . زد من طول أملك في قصر عملك . لا يغرنك صحة نفسك ، وسلامة أمسك ، فمدة العمر قليلة ، وصحة النفس مستحيلة . من لم يعتبر بالأيام ، لم ينزجر بالملام . من استغنى بالله عن الناس ، أمن من عوارض الإفلاس . من ذكر المنية ، نسي الأمنية . البخيل حارس نعمته ، وخازن ورثته . لكل امرىء من دنياه ، ما يعينه على عمارة أخراه . من ارتدى بالكفاف ، اكتسى بالعفاف . لا تخدعنك الدنيا بخدائعها ، ولا تفتننك بودائعها . رب حجة ، تأتيعلى مهجة ؛ ورب فرصة ، تؤدي إلى غصة . كم من دم ، سفكه فم . كم إنسان ، أهلكه لسان . رب حرف ، أدى إلى حتف . لا تفرط ، فتسقط . الزم الصمت ، وأخف الصوت . من حسنت مساعيه ، طابت مراعيه . من أعز فلسه ، أذل نفسه . من طال عدوانه ، زال سلطانه . من لم يستظهر باليقظة ، لم ينتفع بالحفظة . من استهدى الأعمى عمي عن الهدى . من اغتر بمحاله ، قصر في احتياله . زوال الدول ، باصطناع السفل . من ترك ما يعنيه ، دفع إلى ما لا يعنيه . ظلم العمال ، من ظلمة الأعمال . من استشار الجاهل ضل ، ومن جهل موضع قدمه زل . لا يغرنك طول القامة ، مع قصر الاستقامة ، فإن الذرة مع صغرها ، أنفع من الصخرة على كبرها . تجرع من عدوك الغصة ، إن لم تنل منه الفرصة ، فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك ، أو يصيبك الفلك ، فإن الدنيا دولٌ تبنيها الأقدار ، ويهدمها الليل والنهار . من زرع الإحن ، حصد المحن . من بعد مطمعه ، قرب مصرعه . الثعلب في إقبال جده ، يغلب الأسد في استقبال شده . رب عطب ، تحت طلب . اللسان ، رق الإنسان . من ثمرة الإحسان ، كثرة الإخوان ، من سأل ما لا يجب ، أجيب بما لا يحب ، وأنشدت : وليس لنا عيبٌ سوى أن جودنا . . . أضر بنا والبأس من كل جانب فأفنى الندى أموالنا غير ظالمٍ . . . وأفنى الردى أعمارنا غير عائب أبونا أبٌ لو كان للناس كلهم . . . أبٌ مثله أغناهم بالمناقب قال حميد بن الصميري لابنه : اصحب السلطان بشدة التوقي كما تصحب السبع الضاري والفيل المغتلم والأفعى القاتلة ؛ واصحب الصديق بلين الجانب والتواضع ؛ واصحب العدو بالإعذار إليه والحجة فيما بينك وبينه ؛ واصحب العامة بالبر والبشر واللطف باللسان .وقع عبد الحميد الكاتب على ظهر كتاب : يا هذا ، لو جعلت ما تحمله القراطيس من الكلام مالاً حويت جمالاً وحزت كمالاً . ووقع السفاح مرة : ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وحاشيتنا خارجون منها ، فعجل أرزاقهم ، وزد على قدر كل رجل منهم إن شاء الله . قال الحسن بن علي : عنوان الشرف ، حسن الخلف . وقال جعفر بن محمد : إن لم تجف ، فقلما تصفو . وقال أعرابي : النخلة جذعها نماء ، وليفها رشاء ، وكربها صلاء ، وسعفها ضياء ، وحملها غذاء . وقال الأصمعي : سمعت كساحاً يقول لغلام له : ألم أضع إزارك ، ألم أصنع عود مجرفتك ؟ ألم أجعلك كساحاً على حمارين ؟ وجد كتابٌ باليمن فيه : أنا فلانة بنت فلان التبعي ، كنت آكل البقل الرطب من الهند وأنا باليمن ، ثم جعنا حتى اشترينا مكوك برٍ بمكوك در ، من يوسف بن يعقوب بمصر ، فمن رآنا فلا يغتر بالدنيا . وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لرجل من بني تغلب يوم صفين : أآثرتم معاوية ؟ فقال : ما آثرناه ، ولكنا آثرنا القسب الأصفر ، والبر الأحمر ، والزيت الأخضر . قيل للحسن بن عليٍ - رضي الله عنه - لما صالح معاوية : يا عار المؤمنين . فقال : العار خيرٌ من النار . نظر الحجاج يوماً على المائدة إلى رجل وجاأ عنق رجل آخر ، فدعا بهما ، فقالللواجىء : علام صنعت ؟ فقال : غص بعظمٍ فخفت أن يقتله ، فوجأ عنقه فألقاه ؛ فسأل الآخر فقال : صدق ؛ فدعا بالطباخ فقال له : أتدع العظام في طعامك حتى يغص بها ؟ فقال : إن الطعام كثير ، وربما وقع العظم في المرق فلا يزال . قال : تصب المرق على المناخل . فكان يفعل . قال سلمة بن المحبق : شهدت فتح الأبلة ، فوقع في سهمي قدر نحاس ، فنظرت فإذا هي ذهبٌ فيها ثمانون ألف مثقال ، فكتبت في ذلك إلى عمر ، فأجاب بأن يحلف سلمة بأنه أخذها يوم أخذها وهي عنده ، فإن حلف سلمت إليه ، وإلا قسمت بين المسلمين ، قال : فحلفت فسلمت إلي ، فأصول أموالنا اليوم منها . قال بعض الحكماء : لا يصبر على المروءة إلا ذو طبيعةٍ كريمة . . . . . . . أصاب عبد الرحمن بن مدين - وكان رجل صدق بخراسان - مالاً عظيماً فجهز سبعين مملوكاً بدوابهم وأسلحتهم إلى هشام بن عبد الملك ، ثم أصبحوا معه يوم الرحيل ، فلما استوى بهم الطريق نظر إليهم فقال : ما ينبغي لرجل أن يتقرب بهؤلاء إلى غير الله . ثم قال : اذهبوا أنتم أحرارٌ ، وأذل لقدرك عزه . كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المهدي : أنا ناديت عفوك من قريبٍ . . . كما ناديت سخطك من بعيد وإن عاقبتني فلسوء فعلي . . . وما ظلمت عقوبة مستقيد وإن تصلح فإحسانٌ جديدٌ . . . عطفت به على شكرٍ جديد وقال رجل لمحمد بن نحرير : أوصني ؛ فقال : اسمع ولا تتكلم ، واعرف ولا تعرف ،واجلس إلى غيرك ولا تجلسه إليك . وقال رجل لابن أسيد القاضي : إن أمي تريد أن توصي فتحضر وتكتب ؛ فقال : وهل بلغت مبلغ النساء ؟ ودخل صاحب المظالم بالبصرة على رجلٍ مبرسم وعنده طبيبٌ يداويه ، فأقبل على الطبيب وأهل المريض ، وقال : ليس دواءٌ المبرسم إلا الموت حتى تقل حرارة صدره ، ثم حنيئذ يعالج بالأدوية الباردة حتى يستبل . واجتاز به بائع دراجٍ فقال : بكم تبيع الدراجة ؟ فقال : بدرهم ؛ فقال له : أحسن . قال : كذا بعت . قال : نأخذ منك اثنتين بثلاثة . قال : هما لك . قال : يا غلام خذ منه ، فإنه يسهل البيع . ودخل حجاج بن هارون على نجاحٍ الكاتب ، فذهب ليقبل رأسه ؛ فقال له : لا تفعل ، فإن رأسي مملوءٌ بالدهن ، فقال : والله لو أن عليه ألف رطلٍ خراءً لقبلته . قدم لابن الحسحاس سكباجةٌ فقال لصديق له : كل فإنها أم القرى . وعزى ابن الحسحاس صديقاً له ماتت ابنته ، فقال : من أنت حتى لا تموت ابنتك البظراء قد ماتت عائشة بنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . أخذ يعقوب بن الليثي في أول أمره رجلاً فاستصفاه ، ثم رآه بعد زمان ، فقال له : أبا فلان ، كيف أنت الساعة ؟ قال له : كما كنت أنت قديماً . قال وكيف كنت أنا ؟ قال : كما أنا الساعة ؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم . قال ابن المبارك : إذا وضع الطعام فقد أذن للآكل . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب لا تصلح ببلاد لا تصلح بها الإبل . وقال إبراهيم بن السندي : نظر رجلٌ من قريش إلى صاحب له قد نام فيغداةٍ من غدوات الصيف طيبة النسيم ، فركضه برجله وقال : ما لك تنام عن الدنيا في أطيب وقتها ، نم عنها في أخبث حالاتها ، نم في نصف النهار لبعدك عن الليلة الماضية والآتية ، ولأنها راحةٌ لما قبلها من التعب ، وجمامٌ لما بعدها من العمل ، نمت في وقت الحوائج ، وتنبهت في وقت رجوع الناس ؛ وقد جاء : قيلوا فإن الشياطين لا تقيل . وقال إبراهيم بن السندي أيقظت أعرابيةٌ أولاداً لها صغاراً قبل الفجر في غدوات الربيع وقالت : تنسموا هذه الأرواح ، واستنشقوا هذا النسيم ، وتفهموا هذا النعيم ، فإنه يشد من منتكم . ويقال في الوصف : كأنه محراك نار ، وكأنه الجأم صدىً . وإذا وصفوه بالقصر قالوا : كأنه عقدة رشاً ، وابنةُ عصا . وإذا كان ضعيفاً قالوا : كأنه قطعة زبد ، والمولدون يقولون : كأنه اسكرجة . قال بعض السلف في دعائه : اللهم لا أحيط بنعمك علي فأعدها ، ولا أبلغ كنه واحدةٍ منها فأحدها . دعا عطاءٌ السندي فقال : أعوذ بك من عذابك الواقع ، الذي ليس له دافع ، وأسألك من خيرك الواسع ، الذي ليس له مانع . ودعا بعض السلف : اللهم إن قلبي وناصيتي بيدك لم تملكني منهما شيئاً ، وإذ فعلت ذلك فكن أنت وليهما ، فاهدنا سواء السبيل . ودعا بعض الصالحين : اللهم ما كان لي من خيرٍ فإنك قضيته ويسرته وهديته ، فلا حمد لي عليه ؛ وما كان مني من سوءٍ فإنك وعظت وزجرت ونهيت فلا عذر لي فيه ولا حجة . ودعا آخر : اللهم إني أعوذ بك من سلطان جائر ، ونديمٍ فاجر ، وصديق غادر ، وغريم ماكر ، وقريب مناكر ، وشريكٍ خائن ، وحليفٍ مائن ، وولدٍ جافٍ ، وخادمهافٍ ، وحاسد ملافظ ، وجارٍ ملاحظ ، ورفيقٍ كسلان ، وخليلٍ وسنان ، و ضعيف ، ومركوبٍ قطوف ، وزوجةٍ مبذرة ، ودارٍ ضيقة . قال المدائني : قال بعض السلف لابنه : اسحذ طبعك بالعيون والفقر وإن قلت ، فإن الشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كان ثمرها نافعاً ، وأكلها ناجعاً . وقيل للأوزاعي : ما كرامة الضيف ؟ قال : طلاقة الوجه . قال مجاهد في قول الله تعالى : ' ضيف إبراهيم المكرمين ' قال : قيامه عليهم بنفسه . وقال عمر بن عبد العزيز : ليس من المروءة أن تستخدم الضيف . وقال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : أربعٌ للشريف لا ينبغي أن يأنف منهن وإن كان أميراً : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته لضيفه ، وخدمته للعالم يتعلم منه ، وإن سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم . حاتم كان يقول : العجلة من الشيطان إلا في خمسة أشياء ، فإنها من السنة : إطعام الضيف إذا حل ، وتجهيز الميت ، وتزويج البكر ، وقضاء الدين ، والتوبة من الذنب . وقال : من أطعم الضيف لحماً وخبز حنطة وماءً بارداً فقد تمم الضيافة . وقال حاتم : المزور المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم الخليل ، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم . وقال ميمون بن ميمون : من ضاف البخيل صامت دابته ، واستغنى عن الكنيف ، وأمن التخمة . وقال بعض السلف الصالح : لأن أجمع إخواني على صاعٍ من طعامٍ أحب إلي من عتق رقبة .قال الأعمش : كان الربيع بن خيثم يصنع لنا الخبيص ويقدمه ويقول : اللهم اغفر لأطيبهم نفساً ، وأحسنهم خلقاً ، وارحمهم جميعاً . وقال أنس بن مالك : كل بيت لا يدخله الضيف لا تدخله الملائكة . ولما قرأته على الوزير - بلغه الله آماله ، وزكى أعماله ، وخفف عن قلبه أثقاله - قال : ما علمت أن مثل هذا الحجم يحوي هذه الوصايا والملح ؛ وهذه الكلمات الغرر ما فيها ما لا يجب أن يحفظ ، والله لكأنها بستان في زمان الخريف ، لكل عينٍ فيه منظر ، ولكل يدٍ منه مقطف ، ولكل فمٍ منه مذاق . إذا فرغت فأضف لي جزءاً أو جزءين أو ما ساعدك عليه النشاط ، فإن موقعها يحسن ، وذكرها يجمل ، وأثرها يبقى ، وفائدتها تروى ، وعاقبتها تحمد . فقلت : السمع والطاعة .
الليلة العشرون
وقال لي مرة أخرى : اكتب لي جزءاً من الأحاديث الفصيحة المفيدة . فكتبت : قال مالك بن عمارة اللخمي . كنت أجالس في ظل الكعبة أيام الموسم عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير ، وكنا نخوض في الفقه مرةً ، وفي الذكر مرةً ؛ وفي أشعار العرب وىثار الناس مرةً ؛ فكنت لا أجد عند أحدٍ منهم ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم والفصاحة والبلاغة ، وحسن استماعه إذا حدث ، وحلاوة لفظه إذا حدث ، فخلوت معه ذات ليلة فقلت : والله إني لمسرورٌ بك لما أشاهده من كثرة تصرفك وحسن حديثك ، وإقبالك على جليسك ؛ فقال : إنك إن تعش قليلاً فسترى العيون طامحة إلي والأعناق قاصدةً نحوي ، فلا عليك أن تعمل إلي ركابك . فلما أفضت إليه الخلافة شخصت أريده ، فوافيته يوم جمعة وهو يخطب الناس ، فتصديت له ، فلما وقعت عينه علي بسر في وجهي ، وأعرض عني ، فقلت : لم يثبتني معرفةً ولو عرفني ما أظهر نكرة . لكنني لم أبرح مكاني حتى قضيت الصلاة ودخل ،فلم ألبث أن خرج الحاجب إلي فقال : مالك بن عمارة ، فقمت ، فأخذ بيدي وأدخلني عليه ، فلما رآني مد يده إلي وقال : إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت من الإعراض والانقباض ؛ فمرحباً وأهلاً وسهلاً ، كيف كنت بعدنا ؟ وكيف كان مسيرك ؟ قلت : بخير ، وعلى ما يحبه أمير المؤمنين . قال : أتذكر ما كنت قلت لك ؟ قلت : نعم ، وهو الذي أعملني إليك ؛ فقال : والله ما هو بميراثٍ ادعيناه ، ولا أثرٍ وعيناه ، ولكني أخبرك عن نفسي خصالاً سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى ، مالاحيت ذا ودٍ ولا ذا قرابة قط ، ولا شمت بمصيبة عدوٍ قط ، ولا أعرضت عن محدثٍ حتى ينتهي ، ولا قصدت كبيرةً من محارم الله متلذذاً بها وواثباً عليها ، وكنت من قريش في بيتها ، ومن بيتها في وسطه ، فكنت آمل أن يرفع الله مني ، وقد فعل ؛ يا غلام ، بوئه منزلاً في الدار . فأخذ الغلام بيدي وقال : انطلق إلى رحلك ؛ فكنت في أخفض حال ، وأنعم بال ؛ وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ، فإذا حضر عشاؤه أو غداؤه أتاني الغلام وقال : إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس ، فأمشي بلا حذاء ولا رداء فيرفع مجلسي ، ويقبل على محادثتي ، ويسألني عن العراق مرة ، وعن الحجاز مرة ، حتى مضت لي عشرون ليلة . فتغديت عنده يوماً ، فلما تفرق الناس نهضت للقيام ، فقال : على رسلك أيها الرجل ، أي الأمرين أحب إليك : المقام عندنا ، ولك النصفة في المعاشرة والمجالسة مع المواساة ، أم الشخوص ولك الحباء والكرامة ؟ فقلت : فارقت أهلي وولدي على أن أزور أمير المؤمنين ، فإن أمرني اخترت فناءه على الأهل والولد ، قال : بل أرى لك الرجوع إليهم ، فإنهم متطلعون إلى رؤيتك ، فتجدد بهم عهداً ويجددون بك مثله ، والخيار في زيارتنا والمقام فيهم إليك ، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار ، وكسوناك وحملناك ، أتراني ملأت يدك أبا نصر ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، أراك ذاكراً لما رويت عن نفسك . قال : أجل ، ولا خير فيمن ينسى إذا وعد ؛ ودع إذا شئت صحبتك السلامة . قال الوزير : ما أحلى هذا الحديث هات ما بعده ، قلت : قال يحيى بن أبي يعلى : لما قدم المال من ناحية عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - على أبي بكر بن حزم ، قسمه بين الناس في المدينة ، فأصاب كل إنسان خمسين ديناراً ، فدعتني فاطمة بنت الحسينالسلام - فقالت : اكتب ، فكتبت : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من فاطمة بنت الحسين سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فأصلح الله أمير المؤمنين وأعانه على ما تولاه ، وعصم به دينه ، فإن أمير المؤمنين كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يقسم فينا مالاً من الكتيبة ، ويتحرى بذلك ما كان يصنع من قبله من الأئمة الراشدين المهديين ، وقد بلغنا ذلك ، وقسم فينا ، فوصل الله أمير المؤمنين ، وجزاه من والٍ خير ما جزى أحداً من الولاة ، فقد كانت أصابتنا جفوةٌ ، واحتجنا إلى أن يعمل فينا بالحق ؛ فأقسم بالله يا أمير المؤمنين لقد احتدم من آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من لا خادم له ، واكتسى من كان عارياً ، واستقر من كان لا يجد ما يستقر به . وبعثت إليه رسولاً . قال يحيى : فحدثني الرسول قال : قدمت الشام عليه ، فقرأ كتابها وإنه ليحمد الله ويشكره ، فأمر لي بعشرة دنانير ، وبعث إلى فاطمة خمسمائة دينارٍ ، وقال : استعيني بها على ما يعوزك ، وكتب إليها كتاباً يذكر فيه فضلها وفضل أهل بيتها ، ويذكر ما فرض الله لهم من الحق . فرق الوزير عند هذا الحديث وقال : أذكرتني أمر العلوية ، وأخذ القلم ، واستمد من الدواة ، وكتب في التذكرة شيئاً ، ثم أرسل إلى نقيب العلوية العمري في اليوم الثاني بألف دينار ، حتى تفرق في آل أبي طالب ، وقال لي : هذا من بركة الحديث . ثم قال : كيف تطاول هؤلاء القوم إلى هذا الأمر مع بعدهم من رحم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرب بني هاشم منه ؟ وكيف حدثتهم أنفسهم بذلك ؟ إن عجبي من هذا لا ينقضي ، أين بنو أمية وبنو مروان من هذا الحديث مع أحوالهم المشهورة في الدين والدنيا ؟ فقلت : أيها الوزير ، إذا حقق النظر واستشف الأصل لم يكن هذا عجيباً ، فإن أعجاز الأمور تاليةٌ لصدورها ، والأسافل تاليةٌ لأعاليها ، ولا يزال الأمر خافياً حتى ينكشفسببه فيزول التعجب منه ، وإنما بعد هذا على كثير من الناس ، لأنهم لم يعنوا به وبتعرف أوائله والبحث عن غوامضه ، ووضعه في مواضعه ، وذهبوا مذهب التعصب . قال : فما الذي خفي حتى إذا عرف سقط التعجب ولزم التسليم ؟ فكان من الجواب : لا خلاف بين الرواة وأصحاب التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توفي وعتاب بن أسيدٍ على مكة ، وخالد بن سعيد على صنعاء ، وأبو سفيان بن حرب على نجران ، وأبان بن سعيد بن العاص على البحرين ، وسعيد بن القشب الأزدي حليف بني أمية على جرش ونحوها ، والمهاجر بن أبي أمية المخزوومي على كندة والصدف ؛ وعمرو بن العاص على عمان ، وعثمان بن أبي العاص على الطائف . فإذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسس هذا الأساس ، وأظهر أمرهم لجميع الناس ؛ كيف لا يقوى ظنهم ، ولا ينبسط رجاؤهم ، ولا يمتد في الولاية أملهم ؟ وفي مقابلة هذا ، كيف لا يضعف طمع فيها ، والعاجلة محبوبة ، وهذا وما أشبهه حدد أنيابهم ، وفتح أبوابهم ؛ وأترع كأسهم ، وفتل أمراسهم ، ودلائل الأمور تسبق ، وتباشير الخبر تعرف . قال ابن الكلبي : حدثني الحكم بن هشام الثقفي قال : مات عبيد الله بن جحشٍ عن أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت معه بأرض الحبشة ، فخطبها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي ، فدعا بالقرشيين فقال : من أولاكم بأمر هذه المرأة ؟ فقال خالد بن سعيد بن العاص : أنا أولاهم بها . قال : فزوج نبيكم . قال : فزوجه ومهر عنه أربعمائة دينار ؛ فكانت أول امرأة مهرت أربعمائة دينار ؛ ثم حملت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعها الحكم بن أبي العاص ، فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر النظر إليه ، فقيل له : يا رسول الله ، إنك لتكثر النظر إلى هذا الشاب . قال : أليس ابن المخزومية ؟ قالوا : بلى ؛ قال : إذا بلغ بنو هذا أربعين رجلاً كان الأمر فيهم ، وكان مروان إذا جرى بينه وبين معاوية كلامٌ قال لمعاوية : والله إني لأبو عشرة ، وأخو عشرة ، وعم عشرة ، وما بقي إلا عشرة حتى يكون الأمر في ؛ فيقول معاوية بن أبي سفيان : أخذها والله من عينٍ صافيةٍ .فهذا - كما تسمع - إن كان حقاً فلا سبيل إلى رده ، وإن كان مفتعلاً فقد صار داعيةً إلى الأمر الذي وقع النزاع فيه ، وجال الخصام عليه . وها هنا شيء آخر . قال القعقاع بن عمرو : قلت لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : ما حملكم على خلاف العباس بن عبد المطلب وترك رأيه ؟ وهذا يعني به أن العباس كان قال لعليٍ - كرم الله وجهه - في جوابه لي : لو فعلنا ذلك فجعلها في غيرنا بعد كلامنا لم ندخل فيها أبداً ، فأحببت أن أكف ، فإن جعلها فينا فهو الذي نريد ، وإن جعلها في غيرنا كان رجاء من طلب ذلك منا ممدواً ، ولم ينقطع منا ولا من الناس . قال القعقاع : فكان الناس في ذلك فرقتين : فرقةٌ تحزب للعباس وتدين له ، وفرقةٌ تخرب لعليٍ وتدين له . فهذا وما أشبهه يضعف نفوساً ، ويرفع رءوساً ؛ وبعد فهذا البيت خص بالأمر الأول ، أعني الدعوة والنبوة والكتاب العزيز ، فأما الدنيا فإنها تزول من قوم إلى قوم ، وقد رؤي أبو سفيان صخر بن حرب وقد وقف على قبر حمزة بن عبد المطلب وهو يقول : رحمك الله يا أبا عمارة ، لقد قاتلتنا على أمرٍ صار إلينا . فإن قال قائل : فقد وصل هذا الأمر بعد مدةٍ إلى آل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فالجواب : صدقت ، ولكن لما ضعف الدين وتحلحل ركنه وتداوله الناس بالغلبة والقهر ، فتطاول له ناسٌ من آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالعجم وبوقتهم ونهضتهم وعادتهم في مساورة الملوك ، وإزالة الدول ، وتناول العز كيف كان ، وما وصل إلى أهل العدالة والطهارة والزهد والعبادة والورع والأمانة ، ألا ترى أن الحال استحالت عجماً : كسرويةً وقيصريةً ، فأين هذا من حديث النبوة الناطقة ، والإمامة الصادقة ؛ هذا الربيع - وهو حاجب المنصور - يضرب من شمت الخليفة عند العطسة ، فيشكي ذلك إلى أبي جعفر المنصور ، فيقول : أصاب الرجل اسنة وأخطأ الأدب . وهذا هو الجهل ، كأنه لا يعلم أن السنة أشرفمن الأدب ، بل الأدب كله في السنة ، وهي الجامعة للأدب النبوي والأمر الإلهي ، ولكن لما غلبت عليهم العزة ، ودخلت النعرة في آنافهم ، وظهرت الخنزاونة بينهم ، سموا آيين العجم أدباً ، وقدموه على السنة التي هي ثمرة النبوة ، هذا إلى غير ذلك من الأمور المعروفة ، والأحوال المتعالمة المتداولة التي لا وجه لذكرها ، ولا فائدة لنشرها ، لأنها مقررةٌ في التاريخ ، ودائرةٌ في عرض الحديث . ولما كانت أوائل الأمور على ما شرحت ، وأواسطها على ما وصفت ، كان من نتائجها هذه الفتن والمذاهب ، والتعصب والإفراط ، وما تفاقم منها وزاد ونما وعلا وتراقى ، وضاقت الحيل عن تداركه وإصلاحه ، وصارت العامة مع جهلها ، تجد قوةً من خاصتها مع علمها ، فسفكت الدماء ، واستبيح الحريم ، وشنت الغارات ، وخربت الديارات ، وكثر الجدال ، وطال القيل والقال ، وفشا الكذب والمحال ، وأصبح طالب الحق حيران ، ومحب السلامة مقصوداً بكل لسانٍ وسنان ، وصار الناس أحزاباً في النحل والأديان ، فهذا نصيري ، وهذا أشجعي ، وهذا جارودي ، وهذا قطعي ، وهذا جبائي ، وهذا أشعري ، وهذا خارجي ، وهذا شعيبي ، وهذا قرمطي ، وهذاراوندي ، وهذا نجاري ، وهذا زعفراني ، وهذا قدري ، وهذا جبري ، وهذا لفظي ، وهذا مستدركي ، وهذا حارثي ، وهذا رافضي ، ومن لا يحصي عددها إلا الله الذي لا يعجزه شيء ؛ لا جرم شمت اليهود والنصارى والمجوس بالمسلمين ، وعابوا وتكلموا ، ووجدوا آجراً وجصاً فبنوا ، وسمعوا فوق ما تمنوا فرووا . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا يزداد الأمر إلا صعوبة ، ولا الناس إلا اتباع هوىً ، حتى تقوم الساعة على شرار الناس ' . وقال أيضاً : ' بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء من أمتي ' . وقلت لابن الجلاء الزاهد بمكة سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاثمائة : ما صفة هذا الغريب ؟ فقال لي : يا بني هو الذي يفر من مدينةٍ إلى مدينة ، ومن قلةٍ إلى قلة ؛ ومن بلدٍ إلى بلد ومن برٍ إلى بحر ، ومن بحر إلى بر ، حتى يسلم ، وأنى له بالسلامة مع هذه النيران التي قدطافت بالشرق والغرب ، وأتت على الحرث والنسل ، فقدمت كل أفوه ، وأسكتت كل ناطق ، وحيرت كل لبيب ، وأشرقت كل شارب ، وأمرت على كل طاعم ؛ وإن الفكر في هذا الأمر لمختلسٌ للعقل وكارثٌ للنفس ، ومحرقٌ للكبد . فقال الوزير : والله إنه لكذلك ، وقد نال مني هذا الكلام ، وكبر علي هذا الخطب ، والله المستعان . ونظرت إليه وقد دمعت عينه ورق فؤاده وهو - كما تعلم - كثير التأله ، شديد التوقي ، يصوم الاثنين والخميس ، فإذا كان أول رجب أصبح صائماً إلى أول يومٍ من شوال ، وما راينا وزيراً على هذا الدأب وبهذه العادة ، لا منافقاً ولا مخلصاً ، وقد قال الله تعالى : ' إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ' تولاه الله أحسن الولاية ، وكفاه أكمل الكفاية ، إنه قريب مجيب . فلما رايت دمعته قلت : أيها الوزير ، روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' حرمت النار على عينٍ بكت من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله وحرمت النار على عينٍ غضت عن محارم الله ' ، فقال - أحسن الله توفيقه - : هو الهلاك إن لم ينقذ الله بفضله ، ولم يتغمد بعفوه ؛ لو غرقت في البحر كان رجائي في الخلاص منه أقوى من رجائي في السلامة مما أنا فيه . قلت : إذا علم الله من ضميرك هذه العقيدة ألبسك ثوب عفوه ، وحلاك بشعرا عافيته وولايته ، وكفاك كيد أعدائك ، وعصب برءوسهم ما يريدونه بك ' إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ' . فقال : اجمع لي جزءاً من رقائق العباد وكلامهم اللطيف الحلو ، فإن مراميهم شريفة ، وسرائرهم خالصة ، ومواعظهم رادعة ، وذاك - أظن - للدين الغالب عليهم ، والتألهالمؤثر فيهم ؛ فالصدق مقرونٌ بمنطقهم ، والحق موصولٌ بقصدهم ، ولست أجد هذا المعنى في كلام الفلاسفة ، وذاك - أظن أيضاً - لخوضهم في حديث الطبائع والأفلاك والأثار وأحداث الزمان . قلت : أفعل ، فكتبت تمام ما تقعدم به ، ثم كتبت بعد وريقاتٍ في حديث النساك . قال عتبة بن المنذر السلمي : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأجلين قضى موسى - عليه السلام - ؟ فقال : أكثرهما وأوفاهما ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن موسى - عليه السلام - لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من نتاج غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام ، فلما وردت الحوض وقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاةٌ إلا ضرب جنبها بعصاه ، فوضعت قوالب ألوان كلها ووضعت اثنتين أو ثلاثةً كل شاة ، ليس فيهن فشوشٌ ولا ضبوبٌ ولا ثعولٌ ولا كميشةٌ تفوت الكف فإن افتتحتم الشام وجدتم بها بقايا منها ، فاتخذوها ، وهي السامرية ' . قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي في حديثٍ : بعث الله تعالى رسولاً فينا نعرف صدقه وأمانته ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبده ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وقال صاحب التاريخ : ولدت لعمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زيداً ورقية ؛ وأم أم كلثوم فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال أنس بن مالك : صلى الناس على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما توفي أفراداً لم يؤمهم عليه أحد .ولما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمان سنين ، هلك عبد المطلب ، وهو شيبة أبو الحارث ، وذلك بعد الفيل بثمان سنين ، وتوفيت آمنة أمه وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة ، كانت قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم ، فماتت وهي راجعة إلى مكة .
الليلة الحادية والعشرون
وسأل مرة عن المغني إذا راسله آخر لم يجب أن يكون ألذ وأطيب ، وأحلى وأعذب ؟ فكان من الجواب : أن أبا سليمان قال في جواب هذه المطالب ما يمنع من اقتضاب قولٍ وتكلف جواب ، ذكر أن المسموع الواحد إنما هو بالحس الواحد ، وربما كان الحس الواحد أيضاً غليظاً أو كدراً ، فلا يكون لنيله اللذة به بسطٌ ونشوٌ ولذاذة ، وكذلك المسموع ربما لم يكن في غاية الصفاء على تمام الأداء بالتقطيع الذي هو نفس في الهواء ، فلا تكون أيضاً إنالته للذة على التمام والوفاء ، فإذا ثنى المسموع - أعني توحد النغم بالنغم - قوي الحس المدرك ، فنال مسموعين بالصناعة ، ومسموعاً واحداً بالطبيعة ؛ والحس لا يعشق المواحدة والمناسبة والاتفاق إلا بعد أن يجدها في المركب ، كما أن العقل لا يعشق إلا بعد أن ينالها في فضاء البسيط ؛ فكلما قوي الحس باستعماله ، التذ صاحبه بقوته حتى كأنه يسمع ما لم يسمع بحسٍ أو أكثر ، وكما أن الحس إذا كان كليلاً كان الذي يناله كليلاً ، كذلك الحس إذا كان قوياً كان ما يناله قوياً . قال : هذا كله موهوبٌ للحس ، فما للعقل في ذلك ؟ فإنا نرى العاقل تعتريه دهشةٌوأريحية واهتزاز . قلت : قد أتى على مجموع هذا ومعرفته أبو سليمان في مذاكرته لابن الخمار ، وذكر أن من شأن العق السكون ، ومن شأن الحس التهيج ، ولهذا يوصف العاقل بالوقار والسكينة ، ومن دونه يوصف بالطيش والعجرفة ، والإنسان ليس يجد العقل وجداناً فيلتذ به ، وإنما يعرفه إما جملةً وإما تفصيلاً ؛ أعني جملةً بالرسم وتفصيلاً بالجد ، ومع ذلك يشتاق إلى العقل ، ويتمنى أن يناله ضرباً من النيل ويجده نوعاً من الوجدان ، فلما أبرزت الطبيعة الموسيقى في عرض الصناعة بالآلات المهيأة ، وتحركت بالمناسبات التامة والأشكال المتفقة أيضاً ، حدث الاعتدال الذي يشعر بالعقل وطلوعه وانكشافه وانجلائه ، فبهر الإحساس ، وبث الإيناس ، وشوق إلى عالم الروح والنعيم ، وإلى محل الشرف العميم ، وبعث على كسب الفضائل الحسية والعقلية ، أعني الشجاعة والجود والحلم والحكمة والصبر ، وهذه كلها جماع الأسباب المكملة للإنسان في عاجلته وآجلته ؛ وبالواجب ما كان ذلك كذلك ، لأن الفضائل لا تقتنى إلا بالشوق إليها ، والحرص عليها ، والطلب لها ؛ والشوق والطلب والحرص لا تكون إلا بمشوقٍ وباعثٍ وداعٍ ، فلهذا برزت الأريحية والهزة ، والشوق والعزة ؛ فالأريحية للروح ، والهزة للنفس ، والشوق للعقل ، والعزة للإنسان . ومما يجب أن يعلم أن السمع والبصر أخص بالنفس من الإحساسات الباقية ، لأنهما خادما النفس في السر والعلانية ، ومؤنساها في الخلوة ، وممداها في النوم واليقظة ؛ وليست هذه الرتبة لشيء من الباقيات ، بل الباقيات آثارها في الجسد الذي هو مطية الإنسان ، لكن الفرق بين السمع والبصر في أبواب كثيرة : ألطفها أن أشكال المسموع مركبةٌ في بسيط ، وأشكال المبصر مبسوطة في مركب . قلت : وقد حكيت هذا لأبي زكرياء الصيمري فطرب وارتاح وقال : ما أبعد نظر هذا الرجل وما أرقى لحظه وما أعز جانبهالليلة الثانية والعشرون
وقال لي مرة أخرى : ارو لي شيئاً من كلام أبي الحسن العامري ، فإني أرى أصحابنا يرذلونه ويذيلونه ، فلا يرون له في هذه العصبة قدماً ، ولا يرفعون له في هذه الطائفة علماً . فقلت : كان الرجل لكزازته وغلظ طباعه وجفاء خلقه ينفر من نفسه ، ويغري الناس بعرضه ، فإذا طلب منه الفن الذي قد خص به وطولب بتحقيقه وجد على غاية الفضل . فمن كلامه قوله : الطبيعة تتدرج في فعلها من الكليات البسيطة ، إلى الجزئيات المركبة ، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة ، إلى البسائط الكلية ، والإحاطة بالمعاني البسيطة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني المركبة ، ليتوصل بتوسطها إلى استثباتها ، والإحاطة بالمعاني المركبة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني البسيطة ليتوصل بتوسطها إلى تحقيق إثباتها . وكما أن القوة الحسية عاجزةٌ بطباعها عن استخلاص البسائط الأوائل ، بل تحتاج معها إلى القوة العاقلة ، وإنقويت لصار العقل فضلاً - كذلك أيضاً القوة العاقلة لا تقوى بذاتها على استثبات المركبات إلا من جهة القوة الحساسة ، ولو قويت عليه لصار الحس فضلاً للعاقلة . قال : هذا كلامٌ بارعٌ من صدرٍ واسع ، وأحب أن تزيدني من نمطه . قلت : وقال أيضاً : الكلي مفتقرٌ إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً ، والجزئي مفتقر إلى الكلي لا لأن يصير بتوسطه موجوداً ، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً ، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً . وقال : الحال في جميع السبل - أعني مسالك الأشياء في تكونها صناعيةً كانت أوتدبيريةً أو طبيعيةً أو اتفاقيةً - واحدة ، مثاله أن الإنسان وإن التذ بالدستنبان فلن يعد موسيقاراً إلا إذا تحقق بمبادئه الأول التي هي الطنينات وأنصاف الطنينات ، وكذلك الإنسان وإن استطاب الحلو فلن يسمى حلوانياً إلا إذا عرف بسائطه وأسطقساته . وقال : العلم لا يحيط بالشيء إلا إذا عرف مبادئه القريبة والبعيدة والمتوسطة . وقال : نتوصل إلى كرية القمر بما نراه من اختلاف أشكاله ، أعني أنا نراه في الدورة الواحدة هلالياً مرتين ومنصفاً مرتين وبدراً مرة واحدة ، وهذه الأشكال وإن كانت متقدمةً عندنا فإن كونه كرياً هو المتقدم بالذات . وقال : ما هو أكثر تركيباً فالحس أقوى على إثباته ، وما هو أقل تركيباً فالعقل أخلص إلى ذاته . وقال : الأحداث - وهي الذوات الإبداعية - الوقوف على إثباتها يغني عن البحث عن ماهياتها . وقال : كل معنىً يوجد بوجوده غيره لا يرتفع بارتفاع ذلك الذي هو غيره ، بل يرتفع غيره بارتفاعه ، فإنه أقدم ذاتاً من غيره ، مثاله الجنس لا يرتفع بارتفاع واحدٍ من أنواعه ، والأنواع ترتفع بارتفاع الجنس ، وكذلك حال النوع مع الشخص ، فالجنس أقدم من النوع ، والنوع أقدم من الشخص ، وأعني بالجنس والنوع الطبيعيين لا المنطقيين . وقال : معرفتنا أولاً تتعلق بالأشخاص الجزئية ثم بتوسطها ثبتت الأجناس فإذاً المتقدم بالذات غير المتقدم إلينا . وقال : مسلك العقل في تعرف المعاني الطبيعية مقابلٌ لمسلك الطبيعة في إيجادها ، لأن الطبيعة تتدرج من الكليات البسيطة إلى الجزئيات المركبة ، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة إلى البسائط الكلية . قال أبو النضر نفيس : إنما كان هذا هكذا لأن الطبيعة متناولة من العقل والعقل مناولٌ للطبيعة ، فوجب أن يختلف الأمران ، فإن قال قائل : فهلا تم الأمران معاً بواحدٍ منهما ، أعني الطبيعة أو العقل ؟ فالجواب أن أحدهما في العلو ، والآخر في السفل ، فليس للعالي أنيهبط ، ولا للسافل أن يعلو ؛ فلما كان هذا محالاً توسط بينهما - أعني العالي والسافل - المناولة والتناول حتى اتصل الأول بالثاني ، وغص الفضاء بينهما بضروب الأفراد والأزواج ، وانتظم الكل فلم يكن فيه خلل ، ولا دونه مأتىً ، ولا وراءه متوهم . وقال : الإنسان مركب من الأعضاء الآلية بمنزلة الرأس واليدين والرجلين وغيرها ، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأعضاء المتشابهة الأنواع بمنزلة اللحم والعظم والعصب والشريان ، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمريان ، ثم كل واحد من هذه الأخلاط مركب من الأسطقسات الأربع التي هي النار والهواء ، والأرض والماء ؛ ثم كل واحدٍ من هذه الأسطقسات مركب من الهيولى والصورة . وقال : كما أن لكل عضو قوةً تخصه بتدبيرها ، كذلك لجميع البدن قوةٌ أخرى ضامنةٌ لتدبيره . قال : وقال الحكيم في كتاب السماء : علة الأنواع والأجناس ودوامها هي الفلك المستقيم ، وعلة كون الأشخاص وتجدد حدوثها هي الفلك المائل ، فأما الكليات المنطقية فإن طبيعتها هي القوة القياسية المستتبة لها عند تكون الحس على واحدٍ منها . قال أبو النضر نفيس : هذا حكمٌ بالوهم ، ورأيٌ خرج من الظن ؛ الفلك المستقيم والفلك المائل هما بنوع الوحدة ونسبة الاتفاق ، فليس لأحدهما اختصاص بالأنواع والأجناس ، ولا بتجدد الأشخاص ، والدليل على هذا أن قالباً لو قلب قالبه ذلك لم يكن له عنه انفصال . وللرأي زلات ، كما أن للسان فلتات ،وللحكيم هفوات ، كما أن للجواد عثرات ؛ وما أكثر من يسكر فيقول في سكره ما لا يعرف ، وما أكثر من يغرق في النوم فيهذي بما لا يدري ، ومن الذي حقق عنده أن الفلك المستقيم هذا نعته ، والفلك المائل تلك صفته ؛ هذا توهم وتلفيق ، لا يرجع مدعيه إلى تحقيق ، وقول أبي الحسن هذا عن الحكيم تقليدٌ ، كما أن دعوى ذاك الحكيم توهم ، ومحبة الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على قبول الباطل ، وبغض الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على رد الحق ؟ وهذا أمرٌ قد طال منه الضجيج ، وفزع إلى الله منه بالتضرع . قال أبو الحسن : الموجود له حقيقةٌ واحدةٌ لا تدرك إلا عقلاً ، وليس له مبدأ ، ولو كان له مبدأٌ لشاركه المبدأ في طبيعة الوجود ، وليس بمتحرك لأنه لا مقابل له فيتحرك إليه . وقال أبو النضر نفيس : عني بهذا الموجود الحق الأول الذي هو علة العلل ، وهو البارىء الإله ، وما أنصف ، لأنه يجب أن يقسم الموجود بأقسامه ، ويصف مرتبة كل موجود على ما هي عليه وعلى ما هو به حتى ينتهي من هذا الموجود الأعلى إلى آخر الموجود الأسفل ، أو يصف الموجود الأسفل حتى يرتقي إلى هذا الموجود الأعلى ، فإنه لا شيء مما يعقل ويحس إلا وله من هذا الوجود نصيب به استحق أن يكون موجوداً ، وإن كان ذلك النصيب قليلاً . وقال : قد يوصف الشيء بأنه واحد بالمعنى وهو كثير بالأسماء ، ويوصف بأنه واحد بالاسم وهو كثير بالمعنى ، ويوصف بأنه واحد بالجنس وهو كثير بالأنواع ، ويوصف بأنه واحد بالنوع وهو كثير بالشخوص ، ويوصف بأنه واحد بالاتصال وهو كثير بالأجزاء ، وقد نقول في شيء : إنه واحد بالموضوع وهو كثير بالحدود ، كالتفاحة الواحدة التي يوجد فيها اللون والطعم والرائحة ، وقد يكون واحداً في الحد وكثيراً في الموضوع ، كالبياض الذي يوجد في الثلج والقطن والاسفيداج ، وقد يكون كثيراً بالحج والموضوع كالعلم والحركة ، فإن موضوع هذا الجسم ، وموضع ذاك النفس ، وحد أحدهما غير حد الآخر ، وقد يكون واحداً بالموضوع والحد بمنزلة السيف والصمصام ؛ وقد نقول أشياء تكون واحدةً بالفعل ،وهي بالقوة كثيرة ، كالسراج الواحد ؛ فأما أن يكون واحداً بالقوة وكثيراً بالفعل من وجهٍ واحد ، فلا يكون ، بل من جهات مختلفة . قال أبو النضر نفيس : الواحد الذي ينقسم فينشأ منه الكثرة غير الواحد الذي لا ينقسم ، والكثير الذي يتوحد حتى يكون واحداً غير الكثير الذي لا يتوحد ، فالواحد الذي لا ينقسم علة الواحد المنقسم ، والكثير الذي يتوحد هو علة الكثير الذي لا يتوحد ، وبالحكمة الإلهية ما كان هكذا حتى يكون الكثير الذي يتوحد في مقابلة الكثير الذي لا يتوحد ، والواحد الذي ينقسم في مقابلة الواحد الذي لا ينقسم ، وهذه المقابلة هي عبارة عن صورة التمام الحاصل للكل ، وليست هي عبارة عن صورةٍ مزاحمةٍ لصورة ، أو كثيرةٍ غالبةٍ لكثرة ، المستغاث بالله من قصور العبارة عن الغاية ، وتقاعس اللفظ عن المراد . وقال : يعجبني من جملة الحكم الأمثال التي يضربونها ، والعيون التي يستخرجونها ، والمعاني التي يقربونها . قلت : صدقت ، مثل قول فيلسوف : البدن للنفس بمنزلة الدكان للصانع ، والأعضاء بمنزلة الآلات ، فإذا انكسرت آلات الصانع وخرب الدكان وانهدم ، فإن الصانع لا يقدر على عمله الذي كان يعمله إلا أن يتخذ دكاناً آخر ، وآلاتٍ جددً أخر . قال : أحب أن أسمع شيئاً من منثور كلامهم في فنون مختلفة . قلت : قال فيلسوف : العاقل يضل عقله عند محاورة الأحمق . قال أبو سليمان : هذا صحيح ، ومثاله أن العاقل إذا خاطب العاقل فهم وإن اختلفت مرتبتاهما في العقل ، فإنهما يرجعان إلى سنخ العقل ، وليس كذلك العاقل إذا خاطب الأحمق ، فإنهما ضدان ، والضد يهرب من الضد ؛ وقد قيل لأبي الهذيل العلاف - وكان متكلم زمانه - : إنك لتناظر النظام وتدور بينكما نوبات ، وأحسن أحوالنا إذا حضرنا أن ننصرف شاكين في القاطع منكما والمنقطع ، ونراك مع هذا يناظرك زنجويه الحمال فيقطعك في ساعة .فقال : يا قوم إن النظام معي على جادة واحدة لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدر ما يراه صاحبه فيذكره انحرافه ، ويحمله على سننه فأمرنا يقرب ، وليس هكذا زنجويه الحمال فإنه يبتدىء معي بشيء ، ثم يطفر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة ، وأبقى ، فيحكم علي بالانقطاع ، وذاك لعجزي عن رده إلى سنن الطريق الذي فارقني آنفاً فيه . وقال فيلسوفٌ آخر : العادات قاهرات ، فمن اعتاد شيئاً في السر فضحه في العلانية . قال أبو سليمان : وهذا صحيح ، لأن حقيقة العادة في الشيء المعهود عوده بعد عوده ، فهي - أعني العادة - بالاستمرار الذي يقهر من اعتاده ، والخلوة حال ، والعلانية حال ، والعادة بجريانها تهجم في الحالين ولا تفرق ؛ ولهذا ما قيل : العادة هي الطبيعة الثانية ؛ كأن الطبيعة عادة ، ولكنها الأولى بالجبلة ؛ والعادة طبيعة ولكنها الأخرى بحسن الاختيار أو بسوء الاختيار . وقال فيلسوف : ما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئاً كثيراً وهذا فقير من جهة العرض ، فأما الفقير الطبيعي فالذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال ؛ كما أن الغني الطبيعي لا يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال ، أي الذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته ؛ وقد ظن قومٌ أن الذين منعوا من الشهوات ، ورضوا بالزهد في اللذات ، خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم ، وحرموهم ما هو لهم ، وصدوهم عن محبوباتهم ؛ وهذا ظنٌ خطأ ، وأي مرادٍ في هذا للواعظين والمزهدين ، والذين وصوا وأشفقوا ، وردعوا عن الخوض في لذات النفوس الغضبية والبهيمية ؟ والله ما كان ذلك منهم إلا على طريق النصيحة والشفقة والإعذار والإنذار ، إلا أن يكون الذين ظنوا هذا إنما ظنوه لأنهم رأوا بعض المزهدين راغباً ، وبعض الناصحين غاشاً ، وبعض الآمرين مخالفاً ، وليس العمل على المحتال ، وعلى من آثر الغش في المقال ؛ ولكن المرجع إلى ما يدل عليه الحق ، ويشهد له العقل ، ويصح فيه البرهان ؛ أترى الفيلسوف غش في قوله لأصحابه :اقنعوا بالقوت ، وانفوا عن أنفسكم الحاجة ، ليكون لكم قربة إلى الله ، لأن الله غير محتاج ، فكلما احتجتم أكثر كنتم منه أبعد ، واهربوا من الشر والإثم ، واطلبوا من الخير أعمه وأعظمه ، وأبقاه وأدومه ؛ واعرفوا الأبد ، واطلبوا السرمد ، فإن من طلب الأبد ثم وجد بقي على الأبد ، ومن طلب الأمد ثم وجد فني على الأمد . الحاجة ذلٌ ، والغنى عز ، والعز ضد الذل ؛ فمن طلب العز في العاجلة فقد طلب الذل وهو لا يدري ، ومن طلب العز في الآجلة فقد وجد العز وهو لا يدري . في الحكمة أن يقال : اصبر على الذل لتنال العز ، وليس في الحكمة اثبت على العز لتنال الذل ، هذا معكوس .
الليلة الثالثة والعشرون
وكان الوزير رسم بكتابه لمعٍ من كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأفردت ذلك في هذه الورقات ، وهي : قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أشد الأعمال ثلاثة : إنصاف الناس من نفسك ، ومواساة الأخ من مالك ، وشكر الله تعالى على كل حال ' . وقال الواقدي : لما غالط خالد بن الوليد عبد الرحمن بن عوف قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا خالد ذروا لي أصحابي ، لو كان لك أحدٌ ذهباً تنفقه قراريط في سبيل الله لم تدرك غدوةً أو روحةً من عبد الرحمن . وقال عليه السلام : ' إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة تبشبش الله إليه ، وإن أخرها أعرض عنه ' . وقال عليه السلام : ' إنما فدك طعمةٌ أطعمنيها الله حياتي ، ثم هي بين المسلمين ' . وقال عليه السلام : ' المقوم قد يأثم ولا يغرم ' . وقال عليه السلام في دعائه : ' اللهم اجمع على الهدى أمرنا ، وأصلح ذات بيننا ،وألف بين قلوبنا ، واجعل قلوبنا كقلوب خيارنا ، واهدنا سواء السبيل وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ومعايشنا ، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمتك ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ' . وقيل له ( صلى الله عليه وسلم ) : إن فلاناً استشهد ، فقال : ' كلا إن الشملة التي أخذها من الغنائم يوم حنين اشتعلت عليه ناراً ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من اطلع من صبر بابٍ ففقئت عينه فهي هدر ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لرجل يذبح شاةً : ' ارهف شفرتك ، فإذا فريت فأرح ذبيحتك ، ودعها تخب وتشخب ، فإن ذلك أمرى للدم وأحلى للحم ' . وقال عليه السلام : ' خير الناس الغني الخفي التقي ' . وقال : ' التاجر الصدوق إن مات في سفره كان شهيداً ، أو في حضره كان صديقاً ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ظهر المؤمن مشجبه ، وبطنه خزانته ، ورجله مطيته ، وذخيرته ربه ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما نقص مالٌ من صدقة ، فتصدقوا ، ولا عفا رجلٌ عن مظلمةٍ إلا زاده الله عز وجل عزاً وعفواً ؛ ولا فتح رجلٌ على نفسه باب مسئلةٍ إلا فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر ، فاستعفوا ' . وقال عليه السلام : ' أجود الأعمال الجود في العسر ، والقصد في الغضب ، والعفو عند المقدرة ' . وقال عليه السلام : ' إن بين مصراعي باب الجنة مسيرة مائة عام ، وليأتين عليه يومٌوهو كظيظٌ من الزحام ' . وفد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رسول قومٍ من بني عامر يستأذنه في المرعى حول المدينة ؛ فقال عليه السلام : إنها ديارٌ لا تضيق عن جارنا ، وإن جارنا لا يظلم في ديارنا ، وقد ألجأتكم الآزمة ، فنحن نأذن لكم في المرعى ونشرككم في المأوى ، على أن سرحنا كسرحكم ، وعانينا كعانيكم ، ولا تعينوا علينا بعد اليوم ؛ فقال : لا نعين عدواً ما أقمنا في جوارك ، فإذا رحلنا فإنما هي العرب تطلب أثآرها ، وتشفي ذحولها ؛ فقال عليه السلام : يا بني عامر ، أما علمتم أن اللوم كل اللوم أن تنحاشوا عند الفاقة ، وتثبوا عند العزة ، فقال : وأبيك إن ذلك للؤم ، ولن نبغيك غائلةً بعد اليوم ، فقال : اللهم اشهد ، وأذن لهم . وسئل ( صلى الله عليه وسلم ) : كيف يأتيه الوحي ؟ فقال : ' في مثل صلصلة الجرس ، ثم ينفصم ' . وقد روى ابن الكلبي عن أبيه عن ابن صالح ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال علي للمقداد : أعطني فرسك أركبه ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أنت تقاتل راجلاً خيرٌ منك فارساً . قال : فركبه ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن الفرس فصرمه ، فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أمسك على فيه ، فلما رأى عليٌ ضحكه غضب فسل سيفه ، ثم شد على المشركين ، فقتل ثمانيةً قبل أن يرجع ، فقال عليٌ : لو أصابني شرٌ من هذا كنت أهله حين يقول : أنت تقاتل راجلاً خيرٌ منك فارساً ، فعصيته . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن امرأ عرف الله وعبده وطلب رضاه وخالف هواه لحقيقٌ بأن يفوز بالرحمة ' . لما ورد محمد بن مسلمة عن عمرو بن العاص من جهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، صنع عمرو له طعاماً ودعاه إليه ، فأبى محمدٌ ، فقال عمرو : أتحرمطعامي ؟ قال : لا ، ولكني لم أومر به . فقال عمرو : لعن الله زماناً عملنا فيه لابن الخطاب ، لقد رأيته وأباه وإنهما لفي شملة ما تواري أرساغهما ، وإن العاصي بن وائل لفي مقطعات الديباج مزررةً بالذهب . فقال محمد : أما أبوك وأبو عمر ففي النار ، وأما أنت فلولا ما وليت لعمر لألفيتك معتقلاً غنزاً يسرك غزرها ويسوءك بكوها ، فقال عمرو : المجالس أمانة ، فقال محمد : أما ما دام عمر حياً فنعم . دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على فاطمة يعودها من علة ، فبكت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما يبكيك ؟ فقالت : قلة الطعم ، وشدة السقم ، وكثرة الهم . قال عبد الله بن مسعود : شر الأمور محدثاتها ، وشر الغني غني الإثم ، وخير الغنى غنى النفس ، والخمر جماع الإثم ، والدنيا حبالة الشيطان ، والشباب شعبةٌ من الجنون . قيل له : أتقول هذا من تلقائك ؟ قال : لا ، بل من تلقاء من فرض الله علي طاعته . وقال أبو ذر رحمة الله عليه : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا أبا ذر : إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم . وقال أبو هريرة : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ستحرصون على الإمارة ، وستكون حسرةً وندامةً يوم القيامة ، فنعمت المرضعة ، وبئست الفاطمة . أبو أمامة يرفعه ، قال : ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً أطلقه العدل ، أو أوثقه الجور . قال العباس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أمرني يا رسول الله فأصيب .قال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن رجلاً جاء إلى النجاشي فقال له : أقرضني ألف دينار إلى أجل ، فقال : من الكفيل بك ؟ فقال : الله . فأعطاه الألف ، فلما بلغ الأجل أراد الرد ، فحبسته الريح ، فعمل تابوتاً وجعل فيه الألف وغلفه ، وألقاه في البحر ، وقال : اللهم أد حمالتك ؛ فخرج النجاشي إلى البحر فرأى سواداً ؛ فقال : ائتوني به . فأتوه بالتابوت ، ففتحه ، فإذا فيه الألف ، ثم إن الرجل جمع ألفاً بعد ذلك ، وطابت الريح ، وجاء إلى النجاشي فسلم عليه ؛ فقال له النجاشي : لا أقبلها منك حتى تخبرني بما صنعت فيها . فأخبره بالذي صنع ؛ فقال النجاشي : فقد أدى الله عنك ، وقد بلغت الألف في التابوت ، فأمسك عليك ألفك . رأى أبو هريرة رجلاً مع آخر ، فقال : من هذا الذي معك ؟ قال : أبي . قال : فلا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له . قال أبو هريرة : كان جريجٌ يتعبد في صومعته ، فأتت أمه فقالت : يا جريج ، أنا أمك ، كلمني ؛ فقال : اللهم أمي وصلاتي ؛ فاختار صلاته ، فرجعت ثم أتته ثانيةً فقالت : يا جريج ، كلمني ، فصادفته يصلي فقال : اللهم أمي وصلاتي ، فاختار صلاته ، ثم جاءته فصادفته يصلي ، فقالت : اللهم إن هذا ابني قد عقني فلم يكلمني فلا تمته حتى تريه المومسات ، ولو دعت عليه أن يفتن لفتن ؛ قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره ، فخرجت امرأةٌ من القرية ، فوقع عليها الراعي ، فحملت فولدت غلاماً ، فقيل لها : ممن هذا ؟ فقالت : من صاحب هذه الصومعة ، فأقبل الناس إليه بفؤوسهم ومساحيهم فبصروا به ، فصادفوه يصلي ، فلم يكلمهم ، فأخذوا يهدمون ديره ، فنزل وتبسم ومسح رأس الصبي وقال : من أبوك ؟ فقال : أبي راعي الضأن . فلما سمع القوم ذلك راعهم ، وعجبوا ،وقالوا : نحن نبني لك ما هدمنا بالذهب والفضة . قال : لا ، أعيدوها كما كانت تراباً ؛ ثم عاد . وقال أبو الدرداء : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواب . وقال أيضاً : ليس على سارق الحمام قطع . وقال : إذا اخترتم أرضاً فلا تختاروا أرمينية ، فإن فيها قطعةً من عذاب الله ، يعني البرد . أبو هريرة يرفعه : ويلٌ للعرفاء ، ويلٌ للأمناء ، ليتمنين أقوامٌ يوم القيامة أنهم كانوا متعلقين بين السماء والأرض يتذبذبون من الثريا ، وأنهم لم يلوا عملاً . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الرحمن بن سمرة : ' لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسئلةٍ وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسئلةٍ أعنت عليها ' . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كلكم راع ومسؤولٌ عن رعيته ، فالأمير راعٍ على الناس وهو مسؤولٌ أقام أمر الله فيهم أم ضيع ؛ والمرأة راعيةٌ على بيتها وما وليت من زوجها ، ومسئولةٌ عنهم أقامت أمر الله فيهم أم ضيعت ؛ والخادم مسؤولٌ عن مال سيده أقام أمر الله فيه أم ضيع ' . هكذا رواه ابن عتبة عن نابع عن ابن عمر . قال عياض الأشعري : قدم أبو موسى على عمر ومعه كاتبٌ له ، فرفع حسابه ، فأعجب عمر . وجاء إلى عمر كتابٌ ، فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ قال : إنه لا يدخل المسجد . قال : لم ؟ أجنبٌ هو ؟ قال : إنه نصراني . قال : فانتهره ، وقال : لا تدنهم وقد أقصاهم الله ، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ، ولا تأتمنهم وقد خونهم الله . قال عبد الله بن نافع : جاء رجلان من الأنصار إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : إنكم لتختصمون إلي وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ،وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعةً من نار ، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . قال : فبكى الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقي لأخي ؛ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أما إذ قلتما هذا فاذهبا فاستهما ، وتوخيا الحق ، وليحلل كل واحد منكما صاحبه . وفي رواية أخرى : اذهبا فاصطلحا . وروي أن عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى النجاشي أصحمة : سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، فكتب النجاشي : إلى محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من النجاشي أصحمة بن أبجر : سلامٌ عليك يا نبي الله من الله ورحمته وبركاته . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الكافر خبٌ ضبٌ ، والمؤمن دعبٌ لعب ' . وقال رجلٌ للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اعدل فإنك إلى الآن لم تعدل . فقال : ويلك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل ؟ . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الواجد يبيح ظهره وعرضه ' . وقال عمر : ردد الخصوم كي يصطلحوا . وقال عليه السلام : لا تحلفوا بأيمانكم ، ومن حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له فليقبل . وقال : من حلف يميناً كاذبة يقتطع بها مال امرىء مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان . وقال : من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خيرٌ ، وليكفر عن يمينه . وقال - عليه السلام - لا تسافر المرأة ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرم . حدثنا أبو السائب القاضي عتبة بن عبيد قال : حدثنا محمد بن المرزبان قال : حدثنا المغيرة قال : حدثنا محمد بن العباس المنقري قال : كان شريك ابن عبد الله على القضاءبالكوفة ، فقضى على وكيلٍ لعبد الله بن مصعب بقضاء لم يوافق عبد الله ، فلقي شريكاً ببغداد ، فقال له : قضيت على وكيلي قضاءً لا يوافق الحق . قال : من أنت ؟ قال : من لا تنكر . قال : قد نكرتك أشد النكير . قال : أنا عبد الله بن مصعب . قال : فلا كبيرٌ ولا طيب . قال : كيف لا تقول هذا وأنت تشتم الشيخين . قال : من الشيخان ؟ قال : أبو بكرٍ وعمر . قال : والله لا أشتم أباك وهو دونهما ، فكيف أشتمهما وهما فوقي وأنا دونهما ؟ وقال عقبة بن عامر الجهني : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما من رجل يؤتى الدنيا ويوسع له فيها وهو لله على غير ما يحب إلا وهو مستدرج ، لأن الله تعالى يقول : ' فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ' . قال ابن الأنباري : قوله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا وهو مستدرج ، معناه إلا وهو مستدعٍ هلكته ، مأخوذٌ من الدراج ، وهو الهالك ، يقال هو أعلم من دب ودرج ، ويراد بدرج : هلك ؛ وبدب : مشى . وقال سعيد بن عامر بن حزيم ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن لله أمناء على خلقه يضن بهم على القتل يعيشهم في عافية ، ويميتهم في عافية ' . قال ناشرة بن سمي : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول يوم الجابية : إني قد نزعت خالد بن الوليد وأمرت أبا عبيدة ، فقال رجلٌ : والله لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال عمر : إنك لشابٌ قريب القرابة ، وهذا القائل هو أبو عمرو بن حفص بن المغيرة ابن عم خالد . قال قبيصة بن المخارق : نهى رسول الله عن الطرق والعيافة والخط . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صلةٌ وصدقة ' .قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو قالا : لما نزلت : ' وأنذر عشيرتك الأقربين ' ، انطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى رضمةٍ من جبلٍ فعلا أعلاها حجراً ، وقال : يا بني عبد مناف ، يا بني فهر ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ رأى العدو فانطلق يريد أهله ، وخشي أن يسبقوه إلى أهله ، فجعل يهتف واصباحاه . النعمان بن بشير وقبيصة قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ، ولكن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع ' . تزوج رجلٌ امرأةً فمات قبل أن يدخل بها ، ولم يسم لها صداقاً ، فسئل ابن مسعود فقال : لها صداق إحدى نسائه ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام أبو سنان في رهطٍ من أشجع ، فقالوا : لقد قضى فيها بقضاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في برزع بنت واشقٍ الأشجعية . عقبة السلمي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إذا تباطأت المغازي وكثرت الغرائم واستؤثر بالغنائم فخير جهادكم الرباط ' . حبان الأنصاري قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطب الناس يوم حنينٍ فأحل لهم ثلاثة أشياء كان نهاهم عنها ، وحرم عليهم ثلاثة أشياء كان الناس يحللونها ، أحل لهم أكل لحوم الأضاحي ، وزيارة القبور والأوعية ، ونهاهم عن بياع المغنم حتى يقسم ، ونهاهم عن النساء من السبايا ألا يوطأن حتى يضعن أولادهن ، ونهاهم ألا تباع ثمرةٌ حتى يبدو صلاحها ، ويؤمن عليها من العاهة . وهب بن حذيفة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : الرجل أحق بمجلسه . حسان بن ثابتٍ قال : لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زائرات القبور . قال مالك بن عبادة الغافقي : مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعبد الله بن مسعود فقال : لا تكثر همك ما يقدر يكن ، وما ترزق يأتك .خالد بن عدي الجهني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من بلغه معروفٌ من أخيه من غير مسئلةٍ ولا إشراف نفسٍ فليقبله ولا يرده ، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه . رافع بن مكيثٍ - أخو جندب بن مكيث - شهد الحديبية قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ' حسن الملكة نماءٌ ، وسوء الخلق شؤم ، والصدقة تدفع ميتة السوء ، والبر زيادةٌ في العمر . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن يوم الجمعة يوم زينةٍ كيوم الفطر والنحر . خباب بن الأرت - وكان من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى يوماً إلى جدارٍ كثير الجحرة إما ظهراً أو عصراً ، فلما صلى خرجت إليه عقرب فلدغته ؛ فغشي عليه ، فرقاه الناس فأفاق ، فقال : ' إن الله شفاني وليس برقيتكم ' . قال الوزير : ما أحسن هذا المجلس .
الليلة الرابعة والعشرون
وجرى حديث الفيل ليلةً فأكثر من حضر وصفه بما لم يكن فيه فائدةٌ تعاد ، ولا غريبةٌ تستفاد ؛ فحكيت : إن العلماء بطبائع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية ، وتحت مدار برج الحمل ، والزرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة ، والسمور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية ؛ وأما الصقور والنسور والبزاة وما شاكلها من الطير فإنها لا تفرخ إلا في رءوس الجبال الشامخة والعقاب . والنعام لا تفرخ إلا في البراري والقفار والفلوات . والوطواط والطيطوي وأمثالهما من الطير لاتفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام ؛ والعصافير والفواخت وما شاكلها من الطير لا تفرخ إلا بين الأشجار والدحال والقرى والبساتين . وحدث ابن الأعرابي عن هشام بن سالم - وكان مسناً من رهط ذي الرمة - قال : أكلت حيةٌ بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها ، حتى إذا فتحت فاها تريده وهمت به ألقى في فيها حسكةً ؛ فأخذت بحلقها حتى ماتت . وأنشد أبو عمرو الشيباني قول الأسدي : إن كنت أبصرتني قلا ومصطلما . . . فربما قتل المكاء ثعبانا فقال - حرس الله نفسه - من أين للحيوان غير الإنسان هذه الفطنة وهذه الفضيلة وهذه الجرأة وهذه الحيلة ؟ فقلت : شيخنا أبو سليمان يقول في هذه الأيام - وقد جرى حديث الحيوان وعجائب أفاعيله - إن الإحساسات التي للحيوان على أصنافه لها غرضٌ عظيم ، وبذلك الغرض لها تفاوتٌ عظيم ظاهرٌ وخافٍ ، وأفعالٌ معهودة ونادرة ، ولها أخلاق معروفة ، ومعارف موصوفة ؛ ولولا ذلك ما كان يقال : أصول من جمل ، وأغدر من ذئب ، وأروغ من ثعلب ، وأجبن من صقر ، وأجمع من ذرة ، وآلف من كلب ، وأهدى من قطاة ، واحذر من عقعق ، وأزهى من غراب ،وأظلم من حية . وأشد عداوةً من عقرب . وأخبث من قرد ، وأحمق من حبارى ، وأكذب من فاخته ، والأم من كلبٍ على جيفة ، وأعق من ضب ، وأبر من هرة ، وأنفر من ظليم ، وأجرأ من ليث ، وأحقد من فيل ؛ وعلى هذا . قال : وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتاً في الأخلاق ، كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت ، وكما أنه يزل بعض العقلاء فيركب ما لا يظن بمثله لعقله ، كذلك يزل ويغلط بعض الحمقى فيأتي بما لا يحسب أن مثله يهتدي إليه ، فليس العقل بخاطرٍ على صاحبه أن يندر منه ما يكون من الحيوان ، وأصناف الحيوان من الناس وغير الناس تتقاسم هذه الأخلاق بضروب المزاج المختلفة في الأزمان المتباعدة ، والأماكن المتنازحة ، تقاسماً محفوظ النسب بالطبيعة المستولية ، وإن كان ذلك التقاسم مجهول النسب للغموض الذي يغلب عليه ، وإذا عرف هذا الشرح وما أشبهه مما يزيده وضوحاً ، زال التعجب الناشىء من جهل العلة وخفاء الأمر . قال : ومن العجب أنا إذا قلنا : أروغ من ثعلب ، وأجبن من صقر ، وأحقد من فيل ، أن هذا الروغ وهذا الجبن وهذا الحقد في هذه الأصاف ليست لتكون عدةً لها مع نوع الإنسان ، ولكن لتتعاطى أيضاً بينها ، وتستعملها عند الحاجة إليها ؛ وكما يشبه إنسانٌ لأنه لصٌ بالفأرة ، أو بالفيل لأنه حقود ، أو بالجمل لأنه صؤول ، كذلك يشبه كل ضرب منالحيوان في فعله وخلقه وما يظهر من سنخه بأنه إنسان . ويقال للبليد من الناس : كأنه حمار ؛ ويقال للذكي من الخيل : كأنه إنسان ؛ ولولا هذا التمازج في الأصل والجوهر ، والسنخ والعنصر ، ما كان هذا التشابه في الفرع الظاهر ، والعادة الجارية بالخبر والنظر . فقال : هذا كلامٌ لا مزيد عليه . وقالت العلماء : إن هذا الاعتبار واصلٌ في الحقيقة إلى جنس النبات ، فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلدان الدافئة والأرض اللينة والتربة ، والجوز والفستق وأمثالهما لا ينبتان إلا في البلدان الباردة والأرض الجبلية . والدلب وأم غيلان في الصحارى والقفار ؛ والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار . قالوا : وهكذا أيضاً وصف الجواهر المعدنية ، كالذهب ، فإنه لا يكون إلا في الأرض الرملية والجبال والأحجار الرخوة . والفضة والنحاس والحديد لا تكون إلا في الأرض الندية والتراب اللين والرطوبات الدهنية ، والأملاح لا تنعقد إلا في الأراضي والبقاع السبخة ، والجص والاسفيداج لا يكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابها بالحصى ، والزاج لا يكون إلا في التراب العفص ؛ وقد أحصى بعض من عني بهذا الشأن هذه الأنواع المعدنية فوجد سبعمائة نوعٍ . وقالوا : من الجواهر المعدنية ما هو صلب لا يذوب إلا بالنار الشديدة ، ولا يكسر إلا بالفأس كالياقوت والعقيق . ومنها ترابيٌ رخوٌ لا يذوب ولكن ينفرك ، كالملح والزاج ، والطلق ؛ ومنها مائي رطب ينفر من النار كالزئبق ، ومنها هوائي دهني تأكله النار ، كالكبريت والزرنيخ ؛ ومنها نباتيٌ كالمرجان ، ومنها حيوانيٌ كالدر ، ومنها طلٌمنعقد ، كالعنبر والبادزهر ، وذلك أن العنبر إنما هو طلٌ يقع على سطح ماء البحر ، ثم ينعقد في مواضع مخصوصةٍ في زمان مقدر ؛ وكذلك البادزهر ، فإنه طلٌ يقع على بعض الأحجار ، ثم يرسخ في خللها ، ويغيب فيها ، وينعقد في بقاعٍ مخصوصةٍ ، في زمانٍ معلوم ، وكالترنجبين الذي هو طلٌ يقع على ضربٍ من الشوك ؛ وكذلك اللك فإنه يقع على نباتٍ مخصوصٍ ينعقد عليه ؛ وكذلك الدر فإنه طلٌ يرسخ في أصداف نوعٍ من الحيوان البحري ، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه ، وكذلك الموميا ، وهي طلٌ يرسخ في صخورٍ هناك ويصير ماء ثم ينز من مسام ضيقةٍ ويجمد وينعقد . والطل هو رطوبةٌ هوائيةٌ تجمد من برد الليل ، وتقع على النبات والشجر والحجر والصخر ؛ وعلى هذا القياس جميع الجواهر المعدنية ، فإن مادتها إنما هي رطوباتٌ مائية ، وأنداءٌ وبخاراتٌ تنعقد بطول الوقوع ومر الزمان . وقالت الحكماء الأولون : ها هنا طبيعةٌ تألف طبيعةً أخرى ، وطبيعةٌ تلزق بطبيعة أخرى ، وطبيعةٌ تأنس بطبيعة ، وطبيعةٌ تتشبه بطبيعة ، وطبيعة تقهر طبيعة ، وطبيعةٌ تخبث مع طبيعة ، وطبيعة تطيب مع طبيعة ، وطبيعةٌ تفسد طبيعة ، وطبيعة تحمر طبيعة ، وطبيعة تبيض طبيعة ، وطبيعة تهرب من طبيعة ، وطبيعةٌ تبغض طبيعة ، وطبيعةٌ تمازج طبيعة . فأما الطبيعة التي تألف طبيعةً فمثل الماس فإنه إذا قرب من الذهب لزق به وأمسكه ، ويقال : لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلدٍ من ناحية المشرق . ومثل طبيعة المغناطيس في الحديد ، فإن هذين الحجرين يابسان صلبان ، وبين طبيعتيهما ألفة ، فإذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به وجذب الحديد إلى نفسه وأمسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق . وكذلك يفعل الحجر الجاذب للخز والحجر الجاذب للشعر ، والجاذب للتبن ؛ وعلى هذا المثال ما من حجر من أحجار المعدن إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر إلفٌ واشتياق ، عرف ذلك أو لميعرف ؛ ومثل هذا ما يكون بين الدواء والعضو العليل ، وذلك أن من خاصة كل عضوٍ عليلٍ اشتياقه إلى طبيعة الدواء التي هي ضد طبيعة العلة التي به ، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضو العليل وأحس به جذبته القوة الجاذبة إلى ذلك العضو وأمسكت الممسكة واستعانت بالقوة المدبرة لطبيعة الدواء على دفع الطبيعة المؤلفة للعلة وقويت عليها ودفعتها عن العضو العليل كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة من يعينه على خصمه وعدوه ويدفعه عن نفسه ؛ وأما الطبيعة التي تقهر طبيعةً أخرى فمثل طبيعة السنباذج الذي يأكل الأحجار عن الحك أكلاً ويلينها ويجعلها ملساء . ومثل طبيعة الأسرب الوسخ في الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة ، وذلك أن الماس لا يقهره شيءٌ من الأحجار ، وهو قاهر لها كلها ، ولو ترك على السندان وطرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر ، وإن جعل بين صفيحتين من أسربٍ وضمتا عليه تفتت ؛ ومثل طبيعة الزئبق الطيار الرطب القليل الصبر على حرارة النار ، إذا طلي به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والفضلة والنحاس والحديد أوهنها وأرخاها حتى يمكن أن تكسر بأهون سعيٍ ، وتتفتت قطعاً . ومثل الكبريت المنتن الرائحة المسود للأحجار النيرة البراقة ، المذهب لألوانها وأصباغها ، يمكن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة . والعلة في ذلك أن الكبريت رطوبة دهنيةٌ لزجةٌ جامدة ، فإذا أصابته حرارة النار ذاب والتزق بأجساد الأحجار ومازجها ، فإذا تمكنت منها احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتاً كانت أو ذهباً أو غيرهما . وأما الطبيعة التي ترسب في طبيعة أخرى وتنيرها ، فمثل النوشاذر الذي يغوص في قعر الأشياء ويغسلها من الوسخ . وأما الطبيعة التي تعين طبيعةً أخرى فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الذائبة ، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنيرهها وتصبغها ، ومثلالمغنيسيا والقلي المعينين على سبك الرمل وتصفيته حتى يكون منه زجاج ؛ وعلى هذا المثال جميع الأحجار المعدنية . النار هي الحاكمة بين الجواهر المعدنية بالحق . ويقال : من أدمن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسدت مزاجه ، وعرض له أمراضٌ صعبة ، وإن أدنيت أواني النحاس من السمك شممت لها رائحةً كريهة وإن كبت آنية النحاس على سمكٍ مشويٍ أو مطبوخٍ بحرارته حدث منه سمٌ قاتل . القلعي قريبٌ من الفضة في لونه ، ولكن يخالفها في ثلاث صفات : الرائحة والرخاوة والصرير ، وهذه الآفات دخلت عليه وهو في معدنه كما تدخل الآفات على المفلوج وهو في بطن أمه ؛ فرخاوته لكثرة زئبقه ، وصريره لغلظ كبريته . ويقال : إن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز ، ولون الزعفران وما شاكلها من الألوان المشرقة منسوبةٌ إلى نور الشمس وبريق شعاعها ، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن وما شاكله من ألوان النبات منسوبةٌ إلى نور القمر وبريق شعاعه ؛ وعلى هذا المثال سائر الألوان . وقال أصحاب النجوم : السواد لزحل ، والحمرة للمريخ ، والخضرة للمشتري ، والزرقة للزهرة ، والصفرة للشمس ، والبياض للقمر ، والتلون لعطارد . ويقال : إن العلة الفاعلة للجواهر المعدنية هي الطبيعة ، والعلة الطينية الزئبق والكبريت ؛ والعلة الصورية دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ؛ والعلة التمامية المنافع التي ينالها الإنسان والحيوان . ويقال : إن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع : منها ما يكون في التراب والطين والأرضالسبخة ، ويتم نضجه في السنة وأقل كالكباريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شابهها ؛ ومنها ما يكون في قعر البحار وقرار المياه ، ولا يتم نضجه إلا في السنة أو اكثر كالدر والمرجان ، فإن أحدهما نباتٌ وهو المرجان ، والآخر حيوان ، وهو الدر . ومنها ما يكون في وسط الحجر وكهوف الجبال وخلل الرمال فلا يتم نضجه إلا في السنين ، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها ؛ ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عشرات السنين ، كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها . وقال بعض من حضر المجلس - وهو الرجل الفدم الثقيل - : إن الزارع لا يزرع طالباً للعشب ، بل قصده للحب ، ولابد للعشب من أن ينبت إن أحب أو كره ، فلم ذلك ؟ فقيل له : قد يصحب المقصود ما ليس بمقصود ، من حيث لا يتم المقصود إلا بما ليس بمقصود ، والعشب هو فضلات الحب ، وبه صفاء الحب وتمامه ، ولولا القوة التي تصفي الحب وتصوره بصورته الخاصة به ، وتنفي كدره وتحصل صفوه لكان العشب في بدن الحب ، وحينئذ لا يكون الحب المنتفع به المخصوص باسمه المعروف بعينه ، بل يكون شيءٌ آخر ؛ فلما تميزت تلك الشوائب التي كانت ملابسةً له من أجزاء الأرض والماء وآثار الهواء والنار ، خلص منتفعاً به ، مفصوداً بعينه ، فوجب بهذا الاعتبار أن يكون الحب بالذات ، والعشب بالعرض . فقال - أدام الله دولته - هل تعرف العرب الفرق بين الروح والنفس في كلامها ؟ وهل في لفظها من نظمها ونثرها ما يدل على ما بينهما ، أو هما كشيء واحد لحقه اسمان ؟ فكان الجواب : إن الاستعمال يخلط هذا بهذا وهذه بهذا في مواضع كثيرة ، وإذا جاء الاعتبار أفرد أحدهما عن الآخر بالحد والاسم ؛ وعلى هذا اتفق رأي الحكماء ، لأنهم حكموا بأن الروح جسمٌ لطيف منبثٌ في الجسد على خاص ماله فيه فأما النفس الناطقة فإنها جوهرٌ إلهي ، وليست في الجسد على خاص ماله فيه ولكنها مدبرةٌ للجسد ؛ ولم يكن الإنسان إنساناً بالروح ، بل بالنفس ، ولو كان إنساناً بالروح لم يكن بينه وبين الحمارفرق ، بأن كان له روحٌ ولكن لا نفس له . فأما النفسان الأخريان اللتان هما الشهوية والغضبية فإنهما أشد اتصالاً بالروح منهما بالنفس ، وإن كانت النفس الناطقة تدبرهما وتمدهما وتأمرهما وتنهاهما ؛ فهذا أيضاً يوضح الفرق بين الروح والنفس ، فليس كل ذي روحٍ ذا نفس ، ولكن كل ذي نفسٍ ذو روح ؛ وقد وجدنا في كلام العرب مع هذا الفرق بينهما ، فإن النابغة قد قال للنعمان بن المنذر : وأسكنت نفسي بعد ما طار روحها . . . وألبستني نعمي ولست بشاهد وقال أبو الأسود : لعمرك ما حشاك الله روحا . . . به جشعٌ ولا نفساً شريرة قال : هذا من الفوائد التي كنت أحن إليها ، وأستبعد الظفر بها ، وما أنفع المطارحة والمفاتحة وبث الشك واستماحة النفس ، فإن التغافل عما تمس إليه الحاجة سوء اختيار ، بل سوء توفيق . وما أحسن ما قاله بعض الجلة : توانيت في أوان التعلم عن المسئلة عن أشياء كانت الحاجة تحفز إليها والكسل يصد عنها ، فلما كبرت أنفت من ذكرها وعرضها على من علمها عنده ، فبقيت الجهالة في نفسي ، وركدت الوحشة بين قلبي وفكري . ثم جرى في حديث النفس ذكر بعض العلماء فإنه قال : إن نفسك هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية ، لا هي بعينها ، ولا منفصلةٌ عنها ، كما أن جسدك جزءٌ من العالم لا هو كله ولا منفصلٌ عنه ؛ وقد مر من أمر النفس ما فيه إيضاحٌ تامٌ واستبصارٌ واسع ، وإن كان الكلام في نعت النفس لا آخر له ، ولا وقوف عنه . ولو قال قائلٌ : إن جسدك هو كل العالم لم يكن مبطلاً ، لأنه شبيهٌ به ، ومسلولٌ منه ، وبحق الشبه يحكيه ، وبحق الانسلال يستمد منه ؛ وكذلك النفس الجزئية هي النفس الكلية ، لأنها أيضاً مشاكهةٌ لها ، وموجودةٌ بها ، فبحق الشبه أيضاً تحكيحالها ، وبحق الوجود تبقى بقاءها ، فليس بين الجسد إذا أضيف إلى العالم ، والنفس إذا قيست بالأخرى فرق ، إلا أن الجسد معجونٌ من الطينة ، والنفس مدبرةٌ بالقوة الإلهية ؛ ولهذا احتيج إلى الإحساس والمواد ، وإلى الاقتباس والالاتماس حتى تكون مدة الحياة الحسية بالغة إلى آخرها من ناحية الجسد ، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولاً بالأبد بعد الأبد . فقال - أدام الله سعادته - لو كان ما يمر من هذه الفوائد الغرر والمرامي اللطاف مرسوماً بسوادٍ على بياض ، ومقيداً بلفظٍ وعبارة ، لكان له ريعٌ وإتاء ، وزيادةٌ ونماء . فكان الجواب إن هذا غير متعذر ولا صعبٍ إن نفس الله في البقاء ، وصرف هذه الهموم التي تقسم الفكر بالعوارض التي لا تحتسب ، والأسباب التي لا تعرف ؛ فأما والأشغال على تكاثفها ، والزمان على تلونه فكيف يمكن ذلك ؛ والعجب أنه يجري حرفٌ من هذه الأمور الشريفة في هذه الأوقات الضيقة . ولقد قال أبو سليمان أمس : كيف نشاط الوزير - أدام الله سعادته - في شأنه ، وكيف كان تقبله لرسالتي إليه ، وتلطفي له ، وخدمتي لدولته ؟ فقلت : ما ثم شيءٌ يحتاج إلى الزيادة من فهمٍ ودراية ، وبيان واستبانة ، وهشاشةٍ ورفق ، واطلاعٍ وتأنٍ ؛ ولكن الوقت مستوعبٌ بالتدبير والنظر ، وكف العدو بالمداورة مرة ، وبالإحسان مرة . فقال : الله يبقيه ، ويرينا ما نحبه فيه . وقال أيضاً أبو سليمان : كيف لا يكون ما تقلده ثقيلاً ، وما تصدى له عظيماً ، وما يباشره بلسانه وقلمه صعباً ، والأولياء أعداء ، والأعداء جهال ، والحض عليه من ورائه شديد ، ونصيحه غاش ، وثقته مريب ، والشغب متصل ، وطلب المال لا آخر له ، والمصطنع مستزيد ، والمحروم ساخط ، والمال ممزق ، والتجديف من الطالب واقع ،والتحكم بالإدلال دائم ، والاستقالة من الكبير والصغير زائدة ، والكلام ليس ينفع ، والتدبر ليس يقمع ؛ والوعظ هباءٌ منثور ، والأصل مقطوعٌ مبتور ؛ والسر مكشوف ، والعلانية فاضحة ؛ وقد ركب كلٌ هواه ، وليس لأحدٍ فكرٌ في عقباه ؛ واختلط المبرم بالسحيل ، وضاق على السالك كل سبيل ؛ ومنابع الفساد ومنابت التخليط كلها من الحاشية التي لا تعرف نظام الدولة ولا استقامة المملكة ؟ وإنما سؤلها تعجيل حظٍ وإن كان نزراً ، واستلاب درهمٍ وإن كان زيفاً ، ولعمري ليس يكون الكدر إلا بعد الصفو ، كما لا يكون الصفو إلا بعد الكدر ، هكذا الليل والنهار ، والنور والظلام ، هذا يخلف هذا ، وهذا يتلو هذا . قال : أعني بهذا أنه لم افقد الملك السعيد - رضي الله عنه - بالأمس حدث هذا كله ، فإنه كان قد زم وخطم ، وجبر وحطم ، وأسا وجرح ، ومنع ومنح ؛ وأورد وأصدر ، وأظهر وستر ، وسهل ووعر ، ووعد وتوعد ، وأنحس وأسعد ، ووهب زمانه وحياته لهذا ، لأنه جعل لذته فيه ، وغايته إليه ، واشتهى أن يطير صيته في أطراف الأرض فيسمع ملوكها بفطنته وحزمه ، وتصميمه وعزمه ، وجده وتشميره ، ورضاه في موضع الرضا ، وسخطه في وقت السخط ، ورفعه لمن يرفعه بالحق ، ووضعه لمن يضعه بالواجب ؛ يجري الأمور بسنن الدين ما استجابت ، فإن عصت أخذ بأحكام السياسة التي هي الدنيا ، ولما كانت الأمور متلبسةً بالدين والدنيا لم يجز للعاقل الحصيف ، والمدبر اللطيف أن يعمل التدبير فيها من ناحية الدين فحسب ، ولا من ناحية الدنيا فقط ، لأن دائرة الدين إلهية ، ودائرة الدنيا حسية ، وفي الإحسان أحقادٌ لابد من إطفاء ثائرتها ، وصنائع لابد من تربيتها ، وموضوعاتٌ لابد من إشالتها ومرفوعاتٌ لابد من إزالتها ؛ وتدبيراتٌ لابد من إخفائها ، وأحوالٌ لابد من إبدائها ، ومقاماتٌ لابد من الصبر على عوارض ما فيها ، وأمورٌ هي مسطورةٌ في كتب السياسات للحكماء لابد من عرفانها والعمل بها والمصير إليها ، والزيادة عليها ؛ فليسالخبر كالعيان ، ولا الشاهد كالغائب ، ولا المظنون كالمستيقن . ثم قال : - أعني أبا سليمان - وهذا كله منوطٌ بالتوفيق والتأييد اللذين إذا نزلا من السماء واتصلا بمفرق السائس تضامت أحواله على الصلاح ، وانتشرت على النجاح ؛ وكفى كثيراً من همومه ؛ ثم دعا للوزير بالبقاء المديد ، والعيش الرغيد والجد السعيد ؛ وأمن الحاضرون على ذلك ، وكانوا جماً غفيراً ، لا فائدة في ذكر أسمائهم والإشارة إلى أعيانهم ؛ وكلهم لما سمعوا هذا الكلام الشريف عجبوا منه ، وعوذوه وسألوه أن ينظم لهم رسالةً في السياسة ؛ فقال : قد رسمت شيئاً منذ زمان ، وقد شاع وفشا ، وكتب وحمل في جملة الهدية إلى قابوس بجرجان ، فهذا - أيها الشيخ - نمط أبي سليمان وأنت عنه مشغول ، قد رضيت بترك النظر في أمره ، وبذل الجاه له فيما عاد بشأنه ، والله ما هذا لسوء عهدك فيه ، ولا لحيلولة نيتك عنه ؛ ولكن لقلة حظه منك وإنحاء الزمان على كل من يجري مجراه ، مع عوز مثله في عصره ؛ وكيف تتهم بسوء اعتقاد وقلة حفاظٍ ، وتوانٍ عن رعاية عهدٍ ، وقيامٍ بحق ، وأنت من فرقك إلى قدمك فضلٌ وخيرٌ وجود ومجدٌ وإحسانٌ وكرمٌ ومعونةٌ ورفدٌ وإنعامٌ وتفقد وتعهد وبذلٌ وعرفٌ ؛ ولو كان امرءٌ من الذهب المصفى لكنته ولو كان أحدٌ من الروح الصرف لكنته ؛ ولو كان أحدٌ من الضياء المحيط لكنته ؛ فسبحان من خلقك صرفاً بلا مزاج ، وصفواً بلا كدر ، وواحداً بلا ثان ، لقد فخر بك الشرق على الغرب ، وسلم لك بلا خصومةٍ ولا شغب ، فأدام الله لك ما آتاك وأفاض عليك من لدنه ما ينور مسعاك ؛ وبلغك السعادة العظمى في عقباك ، كما بلغك السعادة الصغرى في دنياك . أعرض أيها الشيخ هذا الحديث على ما ترى ، والكلام ذو جيشان ، والصدر ذو غليان ، والقلم ذو نفيان ومتدفقه لا يستطاع رده ؛ ومنبعثه لا يقدر على تسهيله ، وخطبه غريب ، وشأنه عجيب ؛ وإنما يعرف دقه وجله من يذوق حلوه ومره ، ومع هذا كله ، فإنيأذكرك أمري لتلحظه بعين الرعاية ، وأعرض عليك حديثي لتحفظه في صحيفة العناية ؛ فلقد أمسيت بين صديقٍ يشق علي حزنه لي ، وبين عدوٍ تسوءني شماتته بي ؛ وقد صح عندي أن إقبالك على يسر ، كما أن إعراضك عني عسر ، وأرجع إلى تمام هذين الجزأين وإنه أحرى . وأما حديث الزهاد وأصحاب النسك ، فإنه كان تقدم بإفراد جزء فيه ، وقد أثبته في هذا الموضع ، ولم أحب أن أعزله عن جملته ، فإن فيه تنبيهاً حسناً ، وإرشاداً مقبولاً ، وكما قصدنا بالهزل الذي أفردنا فيه جزءاً جماماً للنفس قصدنا بهذا الجزء الذي عطفنا عليه إصلاحاً للنفس وتهذيباً للخلق ، واقتداءً بمن سبق إلى الخير واتباعاً لمن قصد النصح ؛ وشرف الإنسان موقوفٌ على أن يكون فاتحاً لباب من أبواب الخير على نفسه وعلى غيره ، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن يكون مقتفياً لأثر من كان فاتحاً قبله ؛ ومن تقاعس عن هذين الأمرين فهو الخاسر الذي جهل قيمة نفسه ، وضل عن غاية حياته ، وحرم التوفيق في إصابة رشده ؛ والله المستعان . قال ابن مسعود : لو عرفت البهائم ما عرفتم ما أكلتم سميناً . وقال أبو هريرة : اللهم إني أسألك قلباً قاراً ، ورزقاً داراً ، وعملاً ساراً . وقال بعض السلف : اللهم إني أسألك قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وبدناً صابراً . وقال صالح بن مسمار : لا أدري أنعمته علي فيما بسط لي أفضل ، أم نعمته فيما زوى عني ، لأنه فيما بسط لي أحياني ، وفيما زوى عني حماني ، نظر لي بما يزيد على نظري لنفسي ، وآتاني من عنده أكثر مما عندي . وقال الله عز وجل - لموسى - عليه السلام : حببني إلى عبادي . قال : وكيف أحببك ؟ قال : ذكرهم آلائي ونعمائي . وقال شداد بن حكيم لبعض الواعظين : أي شيء تقول إذا جلست على المنبر ؟ قال : أذكرهم آلاء الله ليشكروا ، وأذكرهم جفاءهم ليتوبوا ، وأخبرهم عن إبليس وأعوانه حتى يحذروا .وقال بعض الصالحين : مثل الدنيا ونعيمها كخابيةٍ فيها سمٌ وعلى رأسها عسلٌ ، فمن رغب في العسل سقي من السم ، ومثل شدة الدنيا كمثل خابيةٍ مملوءةٍ من العسل وعلى رأسها قطراتٌ من سم ، فمن صبر على أكلها بلغ إلى العسل . جاء رجلٌ إلى حاتم الزاهد بنميمةٍ ، فقال : يا هذا أبطأت عني وجئت بثلاث جنايات ؛ بغضت إلي الحبيب ، وشغلت قلبي الفارغ ، وأعلقت نفسك التهمة ، وأنت آمن . وكان خالد بن صفوان يقول : قبول قول النمام شرٌ من النميمة ، لأن النميمة دلالة ، والقبول إجازة ، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز . وقال ابن السماك الواعظ : يدرك النمام بنميمته ما لا يدرك الساحر بسحره . وقال معمر : ما نزلت بعبدٍ نازلةٌ فكان مفزعه إلى الله إلا فرج الله عنه . وقال عمر : ما أسأل الله الرزق وقد فرغ منه ، ولكن أسئلة أن يبارك لي فيه . وقال مالك بن دينار : الجلوس مع الكلب خيرٌ من الجلوس مع رفيق سوء . وقال أبو هريرة : تهادوا عباد الله يتجدد في قلوبكم الود ، وتذهب السخيمة . وقال حاتم : صاب الضغن غير ذي دين ، والغائب غير ذي عبادة والنمام غير صدوق ، والحاسد غير منصور . وقال بعض السلف : من استقصى عيوب الناس بقي بلا أصدقاء . وقال محمد بن واسع : ينبغي للرجل أن يكون مع المرأة كما يكون أهل المجنون مع المجنون ، يحتملون منه كل أذى ومكروه . قيل لمالك بن دينار لو تزوجت ؛ قال : لو استطعت لطلقت نفسي . قال شقيق : اشتريت بطيخة لأمي ، فلما ذاقتها سخطت . فقلت : يا أمي ، على من تردين القضاء ومن تلومين ، أحارثها أم مشتريها أم خالقها ؟ فأما حارثها ومشتريها فمالهما ذنب ، فلا أراك تلومين إلا خالقها . ويقال : إن عبداً حبشياً ناوله مولاه شيئاً يأكله ، وقال : أعطني قطعةً منه فأعطاه ، فلما أكله وجده مراً ، فقال : يا غلام ، كيف أكلت هذا مع شدة مرارته . قال : يا مولاي ، قد أكلت من يدك حلواً كثيراً ، ولم أحب أن أريك من نفسي كراهةً لمرارته . وأوحى الله تعالى إلى عزير : إذا نزلت بك بليةٌ لا تشكني إلى خلقي كما لم أشكك إلى ملائكتي عند صعود مساوئك إلي ، وإذا أذنبت ذنباً فلا تنظر إلى صغره ، ولكن انظر من أهديته إليه . وقال لقمان : إن الذهب يجرب بالنار ، وإن المؤمن يجرب بالبلاء . وقال بعض السلف : عليكم بالصبر فإن الله تعالى قال : ' وبشر الصابرين ' . وقال : : ' إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ ' . وقال : ' أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ' . وقال : اصبروا وصابروا . وقال : ' سلامٌ عليكم بما صبرتم ' . وقال الأوزاعي : المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل . والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل . وقال فضيل بن عياض : الخوف مادام الرجل صحيحاً أفضل ، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إياكم والخيانة ، فإنها بئست البطانة ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه لفح النار يوم القيامة ' . وروي من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي شره الشباب . وقيل لابن المبارك : إنك لتحفظ نفسك من الغيبة . قال : لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي ، لأنهما أحق بحسناتي . وقال بعض الصالحين : لو أن رجلاً تعشى بألوان الطعام وقد أصاب من النساء فيالليل ، ورجلاً آخر رأى رؤيا على مثال ما أصاب الأول في اليقظة ، فإذا مضيا صار الحالم والآخر سواء . وقال شقيق : من أبصر ثواب الشدة لم يتمن الخروج منها . وقال شقيق لأصحابه : أيما أحب إليكم ، أن يكون لكم شيءٌ على الملىء ، أو يكون شيءٌ للملىء عليكم . فقالوا : بل نحب أن يكون لنا على الملىء . فقال : إذا كنتم ف الشدة يكون لكم على الله ؛ وإذا كنتم في النعمة يكون الله عليكم . وقال بعض السلف : شتان ما بين عملين : عملٍ تذهب لذته وتبقى تبعته ، وعملٍ تذهب مؤونته ويبقى ذخره . وقال الرقاشي في مواعظه : خذوا الذهب من الحجر ، واللؤلؤ من المزبلة . وقال يحيى بن معاذ : العلم قبل العمل ، والعقل قائد الخير ، والهوى مركب المعاصي ، والمال داء المتكبر . وقال : من تعلم علم أبي حنيفة فقد تعرض للسلطان ، ومن تعلم النحو والعربية دله بين الصبيان ، ومن علم علم الزهاد بلغ إلى العرش . . وقال بعض الصالحين : إن العلماء يسقون الناس ، فبعضهم من الغدران والحياض ، وبعضهم من العيون والقلب ، وبعضهم من البحار الواسعة . وقال حاتم : لا تنظر إلى من قال ، ولكن انظر إلى ما قال . وقال مالك بن دينار : إني لا أقدر أن أعمل بجميع ما اقول . وقال وهيب بن الورد : مثل عالم السوء كمثل الحجر يقع في الساقية فلا هو يشرب الماء ، ولا يخلي عن الماء فيذهب إلى الشجرة . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لأنا من غير الدجال أخوف عليكم . قيل : ومن هو ؟ قال : الأئمة المضلون . وقال الثوري : نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر ، وفتنة القائد الجاهل .وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سيكون في امتي علماء فساق ، وقراءٌ جهال ' . وقال الثوري : العلم طبيب الدين ، والمال داؤه ، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره . وقال عيسى بن مريم : ما ينفع الأعمى ضوء الشمس ولا يبصرها . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أشد الناس حسرةً يوم القيامة عالمٌ علم الناس ونجوا به ، وارتهن هو بسوء عمله ' . وقال أحمد بن حرب : إن منازل الدنيا لا تقطع بالكلام ، فكيف يقطع طريق الآخرة بالكلام . وقال أبو مسلم الخولاني : العلماء ثلاثة : رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناس ، ورجلٌ عاش بعلمه ولم يعش به الناس ، ورجلٌ عاش بعلمه الناس وهلك هو . وشاور رجلٌ محمد بن أسلم فقال : إني أريد أن أزوج بنتي ، فبمن أزوج ؟ قال : لا تزوجها عالماً مفتوناً ، ولا كاسباً كاذباً ، ولا عابداً شاكاً . قيل : نصح إبليس فقال : إياك والكبر ، فإني تكبرت فلعنت ؛ وإياك والحرص فإن أباك حرص على أكل الشجرة فأخرج من الجنة ؛ وإياك والحسد فإن أحد بني آدم قتل أخاه بالحسد . ومر حاتمٌ بقومٍ يكتبون العلم فنظر إليهم وقال : إن يكن معكم ثلاثة أشياء لن تفلحوا . قالوا : وما هي ؟ قال : هم أمس ، واغتمام اليوم ، وخوف الغد . وقال ابن عمر : كان في بني إسرائيل ثلاثةٌ خرجوا في وجهٍ ، فأخذهم المطر فدخلوا كهفاً ، فوقع حجرٌ عظيم على باب الكهف ، وبقوا في الظلمة وقالوا : لا ينجينا إلا ما عملناه في الرخاء . فقال أحدهم : إني كنت راعياً فأرحت وحلبت ، وكان لي أبوان وأولاد وامرأةٌ فسقيت أولاً الوالدين ثم الأولاد ، فجئت يوماً فوجدت أبوي قد ناما فلم أوقظهما لحرمتهما ولم أسق الأولاد ، وبقيت قائماً إلى الصبح ؛ فإن كنت يا رب قبلت هذا مني فاجعل لنافرجاً ، فتحرك الحجر ودخل عليهم الضوء . وقال الثاني : إني كنت صاحب ضياعٍ ، فجاءني رجل بعد ما متع النهار ، وكان لي أجراء يحصدون الزرع ، فاستأجرته ، فلما تم عملهم أعطيتهم أجورهم ، فلما بلغت إلى ذلك الرجل أعطيته وافياً كما أعطيت غيره ، فغضبوا وقالوا : تعطيه مثل ما أعطيتنا . فأخذت تلك الأجرة واشتريت بها عجولاً ونمي حتى كثر البقر ؛ فجاء صاحب الأجرة يطلب فقلت : هذه البقر كلها لك ، فسلمتها إليه ، فإن كنت يا رب قبلت مني هذا الوفاء ففرج عنا . فتحرك الحجر ودخل منه ضوءٌ كثير . وقال الثالث : كانت لي بنت عمٍ فراودتها ، فأبت ، حتى أعطيتها مائة دينار فلما أردت اضطربت وارتعدت . فقلت لها : ما لك ؟ فقالت : إني أخاف الله . فتركتها ورجعت عنها ، إلهي فإن كنت قبلت ذلك مني ففرج عنا . فتحرك الحجر وسقط عن باب الكهف وخرجوا منه يمشون . وقال حاتم : لو أدخلت السوق شياهٌ كثيرةٌ لما اشترى أحدٌ المهزول ، بل يقصد السمين للذبح . وقال يحيى بن معاذ : في القلب عيونٌ يهيج منها الخير والشر . وقال بعض الصالحين في دعائه : اللهم إن أحدنا لا يشاء حتى تشاء ، فاجعل مشيئتك لي أن تشاء ما يقربني إليك ؛ اللهم إنك قدرت حركات العبد ، فلا يتحرك شيءٌ إلابإذنك ، فاجعل حركاتي في هواك . وقال قاسم بن محمد : لأن يعيش الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم . وقال الشعبي : لم يكن مجلسٌ أحب إلي من هذا المجلس ، ولأن أبعد اليوم عن بساطه أحب إلي من أن أحبس فيه . وقال حاتم : إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عليه فقد خنته ، وإن قلته لغيره فقد اغتبته ، وإن واجهته به فقد أوحشته ؛ قيل له : كيف أصنع ؟ قال : تكني عنه ، وتعرض به ،وتجعله في جملة الحديث . وقال : إذا رأيت من أخيك زلةً فاطلب لها سبعين وجهاً من العلل ، فإن لم تجد فلم نفسك . وقال إبراهيم بن جنيد : اتخذ مرآتين ، وانظر في إحداهما عيب نفسك ، وفي الأخرى محاسن الناس . وقال يحيى بن معاذ : الدنيا دار خراب ، وأخرب منها قلب من يعمرها ، والآخرة دار عمران ، وأعمر منها قلب من يعمرها . وقال ابن السماك : الدنيا كالعروس المجلوة تشوفت لخطابها وفتنت بغرورها ، فالعيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها والهة ؛ والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها قاتلة . وقال بعض العارفين : الدنيا أربعة أشياء : الفرح والراحة والحلاوة واللذة ؛ فالفرح بالقلب . والراحة بالبدن ، واللذة بالحلق ، والحلاوة بالعين . وقال يحيى بن معاذ : الدنيا خمر الشيطان ، فمن سكر منها لم يفق إلا في مسكن النادمين . وقال بعض السلف : الزهد خلع الراحة ، وبذل الجهد ، وقطع الأمل . وقال الأنطاكي أحمد بن عاصم : الزهد هو الثقة بالله ، والتبرء من الخلق ، والإخلاص في العمل ، واحتمال الذل . وقال داود - عليه السلام - في دعائه : يا رازق النعاب في عشه . وقال بعض السلف : لو كنت على ذنب الريح لم تفر من رزقك . وقال آخر : الإنسان بين رزقه وأجله ، إلا أنه مخدوعٌ بأمله . وقال عيسى بن مريم عليه السلام : خلقك ربك في أربع مراتب ، فكنت آمناً ساكناً في ثلاث ، وقلقلت في الرابعة ، أولاها في بطن أمك في ظلماتٍ ثلاث ، والثانية حين أخرجك منه وأخرج لك لبناً من بين فرثٍ ودمٍ . والثالثة إذا فطمت أطعمك المري الشهي ، حتى إذااشتدت عظامك وبلغت تمامك صرت خائناً وأخذت في السرقة والحيلة . وقال أنس : رأيت طائراً أكمه فتح فاه فجاءت جرادة فدخلت فمه . وقال عيسى - عليه السلام - يابن آدم اعتبر رزقك بطير السماء ، لا يزرعن ولا يحصدن وإله السماء يرزقهن . فإن قلت : لها أجنحةٌ فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها وما أبشمها وأبدنها وقال ابن السماك لو قال العبد : يا رب لا ترزقني لقال الله : بل أرزقك على رغم أنفك ، ليس لك خالقٌ غيري ، ولا رازقٌ سواي ، إن لم أرزقك فمن يرزقك ؟ وقيل لراهب : من أين تأكل ؟ فقال : إن خالق الرحى يأتي بالطحين . وقال حاتم : الحمار يعرف طريق المعلف ، والمنافق لا يعرف طريق السماء . وقال إبراهيم بن أدهم : سألت راهباً من أين تأكل ؟ قال : ليس هذا العلم عندي ، ولكن سل ربي من أين يطعمني . وقال حاتم : مثل المتوكل مثل رجلٍ أسند ظهره إلى جبل . وقال بعض الأبرار : حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصراً غيره ، ولا لرزقك خازناً غيره ، ولا لعملك شاهدأً غيره . وقال عبد الحميد بن عبد العزيز : كان لأبي صديقٌ وراق ، فقال له أبي يوماً : كيف أصبحت ؟ قال : بخير ما دامت يدي معي ، فأصبح الوراق وقد شلت يده . قال أبو العالية : لا تتكل على غير الله فيكلك الله إليه ، ولا تعمل لغير الله فيجعل ثواب عملك عليه . وقال رجلٌ لأبي ذرٍ : أنت أبو ذرٍ ؟ قال : نعم . قال : لولا أنك رجل سوء ما أخرجت من المدينة . فقال أبو ذر : بين يدي عقبةٌ كؤودٌ إن نجوت منها لا يضرني ما قلت ، وإن أقع فيها فأنا شرٌ مما تقول . وقيل لفضيل : إن فلاناً يقع فيك . فقال : لأغيظن منأمره بذلك اللهم اغفر له . وقال رجل لأبي هريرة : أنت أبو هريرة ؟ قال : نعم . قال : سارق الذريرة ؟ قال : اللهم إن كان كاذباً فاغفر له ، وإن كان صادقاً فاغفر لي ؛ هكذا أمرين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال رجل لابن مكدم : يا كافر . قال : وجب علي الشكر ، حيث لم يجر ذلك على لساني ، ولم تجب علي إقامة الحجة فيه ، وقد طويت قلبي على جملة أشياء : قال : وما هن ؟ قال : إن قلت ألف مرة لا أجيبك مرة ، ولا أحقد عليك ، ولا أشكوك إلى أحد ، وإن نجوت من الله عز وجل بعد هذه الكلمة شفعت لك . فتاب الرجل . كان للحسن جارٌ نصراني ، وكان له كنيف على السطح ، وقد نقب ذلك في بيته ، وكان يتحلب منه البول في بيت الحسن ، وكان الحسن أمر بإناء فوضع تحته ، فكان يخرج ما يجتمع منه ليلاً ، ومضى على ذلك عشرون سنةً ، فمرض الحسن ذات يومٍ فعاده النصراني ، فرأى ذلك ، فقال : يا أبا سعيد : مذ كم تحملون مني هذا الأذى ؟ فقال : منذ عشرين سنةً . فقطع النصراني زناره وأسلم . وجاءت جاريةٌ لمنصور بن مهران بمرقةٍ فهراقتها عليه ، فلما أحس بحرها نظر إليها ، فقالت : يا معلم الخير اذكر قول الله . قال : وما هو ؟ قالت : ' والكاظمين الغيظ ' . قال : كظمت . قالت : واذكر ' والعافين عن الناس ' . قال : قد عفوت . قالت واذكر ' والله يحب المحسنين ' . قال : اذهبي فأنت حرة . قال الحسن : ما جزعةٌ أحب إلي من جزعة مصيبةٍ ردها صاحبها بصبرٍ ، وجزعة غضبٍ ردها صاحبها بحلم . وكان محمد بن المنكدر إذا غضب على غلامه يقول : ما أشبهك بسيدك وقال أبو ذر : كيف يكون حليماً من يغضب على حماره وسخله وهره .ومات ابنٌ للرشيد فجزع جزعاً شديداً ، فوعظه العلماء فلم يتعظ ؛ فدخل مخنث وقال : أتأذي لي في الكلام ؟ قال : تكلم . فكشف عن رأسه وقام بين يديه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا رجل ، وقد تشبهت بالنساء كما ترى ، فأي شيء كنت تصنع لو كان ابنك في الأحياء وكان على صورتي ، فاتعظ به وأخرج النواحات من الدار . قال وهب : مكتوبٌ في الكتب القديمة : إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي . وقال جعفر بن محمد حسن الجوار عمارة الديار ومثراة المال . ولما قرأ هذا الجزء - حرسه الله - ارتاح وقال : أين نحن من هذه الطريقة ، إلى الله المشتكى .
الليلة الخامسة والعشرون
وقال - أدام الله دولته - ليلةً : أحب أن أسمع كلاماً في مراتب النظم والنثر ، وإلى أي حدٍ ينتهيان ، وعلى أي شكل يتفقان ، وأيهما أجمع للفائدة ، وأرجع بالعائدة ، وأدخل في الصناعة ، وأولى بالبراعة ؟ ؟ فكان الجواب : إن الكلام على الكلام صعب . قال : ولم ؟ قلت : لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس ممكن ، وفضاء هذا متسع ، والمجال فيه مختلف . فأما الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه ، ويلتبس بعضه ببعضه ؛ ولهذا شق النحو وما أشبه النحو من المنطق ، وكذلك النثر والشعر وعلى ذلك . وقد قال الناس في هذين الفنين ضروباً من القول لم يبعدوا فيها من الوصف الحسن ، والإنصاف المحمود ، والتنافس المقبول ، إلا ما خالطه من التعصب والمحك ، لأن صاحب هذين الخلقين لا يخلو من بعض المكابرة والمغالطة وبقدر ذلك يصيرله مدخلٌ فيما يراد تحقيقه من بيان الحجة أو قصورها عما يرام من البلوغ بها ، وهذه آفةٌ معترضةٌ في أمور الدين والدنيا ، ولا مطمع في زوالها ، لأنها ناشئةٌ من الطبائع المختلفة ، والعادات السيئة ، لكني مع هذه الشوكة الحادة ، والخطة الكادة ؛ أقول ما وعيته عن أرباب هذا الشأن ، والمنتمين لهذا الفن ، وإن عن شيءٌ يكون شكلاً لذلك وصلته به تكميلاً للشرح ، واستيعاباً للباب ، وصمداً للغاية ، وأخذاً بالحياطة ، وأخذاً بالحياطة ، وإن كان المنتهى منه غير مطموع فيه ، ولا موصولٍ إليه ؛ والله المعين . قال شيخنا أبو سليمان : الكلام ينبعث في أول مبادئه إما من عفو البديهة ، وإما من كد الروية ، وإما أن يكون مركباً منهما ، وفيه قواهما بالأكثر والأقل ؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى ، وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى ، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى ؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل ؛ وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل ، وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما : الأغلب والأضعف ؛ على أنه إن خلص هذا المركب من شوائب التكلف ، وشوائن التعسف ، كان بليغاً مقبولاً رائعاً حلواً ، تحتضنه الصدور ، وتختلسه الآذان ، وتنتهبه المجالس ، ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس ، والتفاضل الواقع بين البلغاء في النظم والنثر ، إنما هو في هذا المركب الذي يسمى تأليفاً ورصفاً ؛ وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح ، وأن تكون صورة الحس في الروية الوح إلا أن ذلك من غرائب آثار النفس ونوادر أفعال الطبيعة ، والمدار على العمود الذي سلف نعته ، ورسا أصله . وسمعت أبا عابدٍ الكرخي صالح بن علي يقول : النثر أصل الكلام ، والنظم فرعه ؛والأصل أشرف من الفرع ، والفرع أنقص من الأصل ؛ لكن لكل واحد منهما زائناتٌ وشائنات ، فأما زائنات النثر فهي ظاهرةٌ ، لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر ، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعيةٍ عارضة ، وسببٍ باعث ، وأمرٍ معين . قال : ومن شرفه أيضاً أن الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرسل بالتأييد الإلهي مع اختلاف اللغات كلها منثورةٌ مبسوطة ، متباينة الأوزان ، متباعدة الأبنية ، مختلفة التصاريف ، لا تناقد للوزن ، ولا تدخل في الأعاريض ؛ هذا أمرٌ لا يجوز أن يقابله ما يدحضه ، أو يعترض عليه بما يحرضه . قال : ومن شرفه أيضاً أن الوحدة فيه أظهر ، وأثرها فيه أشهر ، والتكلف منه أبعد ، وهو إلى الصفاء أقرب ، ولا توجد الوحدة غالبةً على شيء إلا كان ذلك دليلاً على حسن ذلك الشيء وبقائه ، وبهائه ونقائه . قال : ومن فضيلة النثر أيضاً كما أنه إلهي بالوحدة ، كذلك هو طبيعيٌ بالبدأة ، والبدأة في الطبيعيات وحدة ، كما أن الوحدة في الإلهيات بدأة ، وهذا كلامٌ خطير . قال : ألا ترى أن الإنسان لا ينطق في أول حاله من لدن طفوليته إلى زمانٍ مديدٍ إلا بالمنثور المتبدد ، والميسور المتردد ؛ ولا يلهم إلا ذاك ، ولا يناغى إلا بذاك ؛ ولبس كذلك المنظوم ، لأنه صناعي ؛ ألا ترى أنه داخلٌ في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف ، مع توقي الكسر ، واحتمال أصناف الزحاف ، لأنه لما هبطت درجته عن تلك الربوة العالية ، دخلته الآفة من كل ناحية . قال : فإن قيل : إن النظم قد سبق العروض بالذوق ، والذوق طباعي ؛ قيل في الجواب : الذوق وإن كان طباعياً فإنه مخدوم الفكر ، والفكر مفتاح الصنائع البشرية ، كما أن الإلهام مستخدم للفكر ، والإلهام مفتاح الأمور الإلهية . قال : ومن شرف النثر أيضاً أنه مبرأٌ من التكلف ، منزهٌ عن الضرورة ، غنيٌ عنالاعتذار والافتقار ، والتقديم والتأخير ، والحذف والتكرير ، وما هو أكثر من هذا مما هو مدون في كتب القوافي والعروض لأربابها الذين استنفدوا غايتهم فيها . وقال عيسى الوزير : النثر من قبل العقل ، والنظم من قبل الحس ، ولدخول النظم في ظي الحس دخلت إليه الآفة ، وغلبت عليه الضرورة ، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر . وقال ابن طرارة - وكان من فصحاء أهل العصر بالعراق - : النثر كالحرة ، والنظم كالأمة ، والأمة قد تكون أحسن وجهاً ، وأدمث شمائل ، وأحلى حركات ؛ إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل حيائها . وقال : ولشرف النثر قال الله تعالى في التنزيل : ' إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً ' ولم يقل : لؤلؤاً منظوماً ؛ ونجوم السماء منتثرة وإن كان انتثارها على نظام ، إلا أن نظامها في حد العقل ، وانتثارها في حد الحس ، لأن الحكمة إذا غطيت نفسها كانت الغلبة للصورة القائمة بالقدرة . وقال أحمد بن محمد كاتب ركن الدولة : الكلام المنثور أشبه بالوشي ، والمنظوم أشبه بالنير المخطط ، والوشي يروق ما لا يروق غيره . ويقال : كنا في نثار فلان ، ولا يقال : كنا في نظام فلان . وقال ابن هندو الكاتب : إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما ، والاطلاع على هواديهما وتواليهما كان أن المنظوم فيه نثرٌ من وجه ، والمنثور فيه نظمٌ من وجه ، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا . وقال ابن كعب الأنصاري : من شرف النثر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينطق إلا به آمراً وناهياً ، ومستخبراً ومخبراً ، وهادياً وواعظاً ، وغاضباً وراضياً ، وما سلب النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر ، ولا نزه عنه إلا لما فيه من النقص ، ولو تساويا لنطقبهما ، ولما اختلفا خص بأشرفهما الذي هو أجول في جميع المواضع ، وأجلب لكل ما يطلب من المنافع . فهذا قليل من كثير مما يكون تبصرةً لباغي هذا الشأن ، ولمن يتوخى حديثه عند كل إنسان . وأما ما يفضل به النظم على النثر فأشياء سمعناها من هؤلاء العلماء الذين كانت سماء علمهم دروراً ، وبحر أدبهم متلاطماً ، وروض فضلهم مزدهراً ، وشمس حكمتهم طالعة ، ونار بلاغتهم مشتعلة ، وأنا آتي على ما يحضرني من ذلك ، منسوباً إليهم ، ومحسوباً لهم ، ليكون حقهم به مقضياً ، وذكرهم على مر الزمان طرياً . قال السلامي : من فضائل النظم أن صار لنا صناعةً برأسها ، وتكلم الناس في قوافيها ، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها ، وتصرفوا بحورها ، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة ، وشواهد القدرة الصادقة ؛ وما هكذا النثر ، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة ، والقلة العالية ؛ فصار بذلك بذلةً لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان . وقال أيضاً : من فضائل النظم أنه لا يغني ولا يحدي إلا بجيده ولا يؤهل للحن الطنطنة ، ولا يحلى بالإيقاع الصحيح غيره ، لأن الطنطنات والنقرات ، والحركات والسكنات لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم عليها ، ولو كان فعل هذا بالنثر كان منقوصاً ، كما لو لم يفعل هذا بالنظم لكان محسوساً ؛ والغناء معروف الشرف ، عجيب الأثر ، عزيز القدر ، ظاهر النفع في معاينة الروح ، ومناغاة العقل ، وتنبيه النفس ، واجتلاب الطرب وتفريج الكرب ؛ وإثارة الهزة ، وإعادة العزة ، وإذكار العهد ، وإظهار النجدة ، واكتساب السلوة ؛ وما لا يحصى عدده . ويقال : ما أحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيتٌ من الشعر ، ولا يقال : ما أحسن هذا الشعر لو كان فيه شيءٌ من النثر ، لأن صورة المنظوم محفوظة ، وصورة المنثور ضائعة . وقال ابن نباتة : من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه ، والحجج لا تؤخذ إلامنه ، أعني ان العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون : قال الشاعر ؛ وهذا كثيرٌ في الشعر ، والشعر قد أتى به ، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة ، والشعر هو الحجة . وقال الخالع : للشعراء حلبة ، وليس للبلغاء حلبة ، وإذا تتبعت جوائز الشعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرخة ، ومجالسهم الفاخرة ، وأنديتهم المشهورة ، وجدتها خارجةً عن الحصر ، بعيدةً من الإحصاء ؛ وإذا تتبعت هذه الحال لأصحاب النثر لم نجد شيئاً من ذلك ؛ والناس يقولون : ما أكمل هذا البليغ لو قرض الشعر ولا يقولون : ما أشعر هذا الشاعر لو قدر على النثر وهذا لغنى الناظم عن الناثر ، وفقر الناثر إلى الناظم ؛ وقد قدم الناس أبا علي البصير على أبي العيناء ، لأن أبا علي جمع بين الفضيلتين ، وضرب بالسيفين في الحومتين ، وفاز بالقدحين المعليين في المكانين . وقال لنا الأنصاري : سمعت ابن ثوابة الكاتب يقول : لو تصفحنا ما صار إلى أصحاب النثر من كتاب البلاغة ، والخطباء الذين ذبوا عن الدولة ، وتكلموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليل والنهار به ؛ مما فتق به الرتق ، ورتق به الفتق ، وأصلح به الفاسد ، ولم به الشعث ، وقرب به البعيد ، وبعد به القريب ، وحقق به الحق ، وأبطل به الباطل ، لكان يوفى على كل ما صار إلى جميع من قال الشعر ولاك القصيد ، ولهج بالقريض ، واستماح بالمرحمة ؛ ووقف موقف المظلوم ، وانصرف انصراف المحروم ؛ وأين من يفتخر بالقريض ، ويدل بالنظم ، ويباهي بالبديهة ، من وزير الخليفة ، ومن صاحب السر ، وممن ليس بين لسانه ولسان صاحبه واسطة ، ولا بين أذنه وأذنه حجاب ؟ ومتى كانت الحاجة إلى الشعراء كالحاجة إلى الوزراء ؟ ومتى قام وزير لشاعر للخدمة أو للتكرمة ؟ ومتى قعد شاعرٌ لوزير على رجاء وتأميل ؟ بل لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفةٍ أووزيرٍ أو أميرٍ باسط اليد ، ممدود الكف ، يستعطف طالباً ، ويسترحم سائلاً ؛ هذا مع الذلة والهوان ، والخوف من الخيبة والحرمان ، وخطر الرد عليه في لفظٍ يمر ، وإعرابٍ يجري ، واستعارةٍ تعرض ، وكنايةٍ تعترض ، ثم يكون مقلياً مشيناً بما يظن به من الهجاء الذي ربما دلاه في حومة الموت ، وقد برأ الله تعالى بإحسانه القديم ومنه الجسيم صاحب البلاغة من هذا كله ، وكفاه مؤونة الغدر به ، والضرر فيه . قال : وكان ابن ثوابة إذا جال في هذه الأكناف لا يلحق شأوه ، ولا يشق غباره ، ولا يطمع في جوابه . قال : وله مناظراتٌ واسعةٌ في هذا الباب مع جماعةٍ من أهل زمانه ناقضوه وعارضوه ، وكاشفوه وواجهوه ؛ فثبت لهم ، وانتصف منهم ، وأربى عليهم ، ولم يقلع عن مسالطتهم ومبالطتهم إلى أن نكصوا على أعقابهم ، وراجعوا ما هو أولى بهم . قال أبو سليمان : المعاني المعقولة بسيطةٌ في بحبوحة النفس ؛ لا يحوم عليها شيءٌ قبل الفكر ، فإذا لقيها الفكر بالذهن الوثيق والفهم الدقيق القى ذلك إلى العبارة ، والعبارة حينئذ تتركب بين وزنٍ هو النظم للشعر ، وبين وزن هو سياقه الحديث ؛ وكل هذا راجعٌ إلى نسبةٍ صحيحة أو فاسدة ، وصورةٍ حسناء أو قبيحة ، وتأليفٍ مقبولٍ أو ممجوج ، وذوقٍ حلوٍ أو مر وطريقٍ سهلٍ أو وعر ، واقتضابٍ مفضلٍ أو مردود ، واحتجاجٍ قاطعٍ أو مقطوع ، وبرهانٍ مسفرٍ أو مظلم ، ومتناولٍ بعيدٍ أو قريب ، ومسموعٍ مألوفٍ أو غريب . قال : فإذا كان الأمر في هذه الحال على ما وصفنا فللنثر فضيلته التي لا تنكر ، وللنظم شرفه الذي لا يجحد ولا يستر ، لأن مناقب النثر في مقابلة مناقب النظم ، ومثالب النظم في مقابلة مثالب النثر ؛ والذي لابد منه فيهما السلامة والدقة ، وتجنب العويص ، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص .وقد قال بعض العرب : خير الكلام ما لم يحتج معه إلى كلام . ووقف أعرابيٌ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل معه ، فحار وعجب ، وأطرق ووسوس ، فقال له الأخفش : ما تسمع يا أخا العرب ؟ قال : أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا . وقال أعرابيٌ آخر : مازال أخذهم في النحو يعجمني . . . حتى سمعت كلام الزنج والروم وقال أبو سليمان : نحو العرب فطرة ، ونحونا فطنة ؛ فلو كان إلى الكمال سبيلٌ لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا ، أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم . وقال : لما تميزت الأشياء في الأصول ، تلاقت ببعض التشابه في الفروع ، ولما تباينت الأشياء بالطبائع ، تألفت بالمشاكلة في الصنائع ، فصارت من حيث افترقت مجتمعة ، ومن حيث اجتمعت مفترقة ، لتكون قدرة الله - عز وجل - آتيةً على كل شيء ، وحكمته موجودةً في كل شيء ، ومشيئته نافذةً في كل شيء . وقد أنشد بعض الأعراب ما يقتضي هذا المكان رسمه فيه ، لأنه موافق لما نحن فيه في ذكره ووصفه . قال : ماذا لقيت من المستعربين ومن . . . تأسيس نحوهم هذا الذي ابتدعوا إن قلت قافيةً فيه يكون لها . . . معنىً يخالف ما قاسوا وما وضعوا قالوا لحنت وهذا الحرف منخفضٌ . . . وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا . . . وبين زيدٍ وطال الضرب والوجع إني نشأت بأرضٍ لا تشب بها . . . نار المجوس ولا تبنى بها البيع ولا يطا القرد والخنزير ساحتها . . . لكن بها الهيق والسيدان والصدعما كل قولي معروفٌ لكم فخذوا . . . ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم . . . وآخرين على إعرابهم طبعوا وبين قوم رأوا شيئاً معاينةً . . . وبين قومٍ رووا بعض الذي سمعوا فهذا هذا . وقال أبو سليمان : البلاغة ضروب : فمنها بلاغة الشعر ومنها بلاغة الخطابة ومنه بلاغة النثر ، ومنها بلاغة المثل ، ومنها بلاغة العقل ، ومنها بلاغة البديهة ، ومنها بلاغة التأويل . قال : فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولاً ، والمعنى من كل ناحية مكشوفاً ، واللفظ من الغريب بريئاً ، والكناية لطيفة ، والتصريح احتجاجاً ، والمؤاخاة موجودة ، والمواءمة ظاهرة . وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللفظ قريباً ، والإشارة فيها غالبة ، والسجع عليها مستولياً ، والوهم في أضعافها سابحاً ، وتكون فقرها قصاراً ، ويكون ركابها شوارد إبل . وأما بلاغة النثر فأن يكون اللفظ متناولاً ، والمعنى مشهوراً ، والتهذيب مستعملاً ، والتأليف سهلاً ، والمراد سليماً ، والرونق عالياً ، والحواشي رقيقة ، والصفائح مصقولة ، والأمثلة خفيفة المأخذ ، والهوادي متصلة ، والأعجاز مفصلة . وأما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضباً ، والحذف محتملاً ، والصورة محفوظة ،والمرمى لطيفاً ، والتلويح كافياً ، والإشارة مغنية ، والعبارة سائرة . وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن ، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ ، وتقفية الحروف ، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب ، ويكون المقصود ملحوظاً في عرض السنن ، والمرمي يتلقى بالوهم لحسن الترتيب . وأما بلاغة البديهة فأن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى ، وهناك يقع التعجب للسامع ، لأنه يهجم بفهمه على ما لا يظن أنه يظفر به كمن يعثر بمأموله ، على غفلةٍ من تأميله ، والبديهة قدرةٌ روحانية ، في جبلةٍ بشرية ، كما أن الروية صورةٌ بشرية ، في جبلةٍ روحانية . وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبر والتصفح ، وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة كثيرةً نافعةً ، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا ، وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحرام والحلال ، والحظر والإباحة ، والأمر والنهي ، وغير ذلك مما يكثر ؛ وبها تفاضلوا ، وعليها تجادلوا ، وفيها تنافسوا ، ومنها استملوا ، وبها اشتغلوا ؛ ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الروح كله ، وبطل الاستنباط أوله وآخره ، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا النمط في أعماق هذا الفن ؛ وها هنا تنثال الفوائد ، وتكثر العجائب ، وتتلاقح الخواطر ، وتتلاحق الهمم ، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة ، حتى تكون معينةً ورافدةً في إثارة المعنى المدفون ، وإنارة المراد المخزون .وأمثلة هذه الأبواب موجودةٌ في الكتب ، ولولا ذلك لرسمت في هذا المكان لكل فن مثالاً وشكلت شكلاً ، ولو فعلت ذلك لكنت مكرراً لما قد سبق إليه ، ومتكلفاً ما قد لقن من قبل على أن الزهد في هذا الشأن قد وضع عنا وعن غيرنا مؤونة الخوض فيه ، والتعني به ، والتوفر عليه ، وتقديمه على ما هو أهم منه ، أعني طلب القوت الذي ليس إليه سبيل إلا ببيع الدين ، وإخلاق المروءة ، وإراقة ماء الوجه ، وكد البدن ، وتجرع الأسى ، ومقاساة الحرقة ، ومض الحرمان ، والصبر على ألوانٍ وألوان ؛ والله المستعان . وقد كان هذا الباب يتنافس فيه أوان كان للخلافة بهجة ، وللنيابة عنها بهاء ، وللديانة معتقد ، وللمروءة عاشق ، وللخير منتهز ، وللصدق مؤثر ، وللأدب شراة ، وللبيان سوق ، وللصواب طالب ، وفي العلم راغب ؛ فأما اليوم واليد عنه مقبوضة ، والذيل دونه مشمر ، والمتحلي بجماله مطرود ، والمباهي بشرفه مبعد ، فما يصنع به ، ولله أمرٌ هو بالغه . وقال ابن دأب : قال لي ابن موسى : اجتمعنا عند عبد الملك بن مروان فقال : أي الآداب أغلب على الناس ؟ فقلنا فأكثرنا في كل نوع ؛ فقال عبد الملك : ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاورون القول ، ويتعاطون البيان ، ويتهادون الحكم ، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها ؛ ويجمعون ما تفرق منها ؛ إن الكلام فارقٌ للحكم بين الخصوم ، وضياءٌ يجلو ظلم الأغاليط ، وحاجة الناس إليه كحاجتهم إلى مواد الأغذية .وقد قال زهير : لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده . . . فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فقلنا : لم يقله زهير ، إنما قاله زيادٌ الأعجم ؛ فقال : لا ، قاله من هو أعظم تجربةً وأنطق لساناً منه . وقال أبو العيناء : سمعت العباس بن الحسن العلوي يصف كلام رجل فقال : كلامه سمحٌ سهل ، كأن بينه وبين القلوب نسب ، وبينه وبين الحياة سبب ؛ كأنما هو تحفة قادم ، ودواء مريض ، وواسطة قلادة . ورأيت أبا إسحاق الصابي وهو يعجب من فصلٍ قرأه من كتاب ورد عليه ، وهو : أشعر قلبك يأس مجاوز السبيل ، مقصرٍ عن الشوط . وقال ابن ذكوان : سمعت إبراهيم بن العباس الصولي يقول : ما سمعت كلاماً محدثاً أجزل في رقة ، ولا أصعب في سهولة ، ولا أبلغ في إيجاز ، من قول العباس بن الأحنف : تعالي نجدد دارس العهد بيننا . . . كلانا على طول الجفاء ملوم أناسيةٌ ما كان بيني وبينها . . . وقاطعةٌ حبل الصفاء ظلوم وفي الجملة ، أحسن الكلام ما رق لفظه ، ولطف معناه ، وتلألأ رونقه ، وقامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر ، ونثرٍ كأنه نظم ، يطمع مشهوده بالسمع ، ويمتنع مقصوده على الطبع ؛ حتى إذا رامه مريغٌ حلق ، وإذا حلق أسف ، أعني يبعد على المحاول بعنف ، ويقرب من المتناول بلطف .وما رأيت أحداً تناهى في وصف النثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة ابن جعفر في المنزلة الثالثة من كتابه ؛ قال لنا علي بن عيسى الوزير : عرض على قدامة كتابه سنة عشرين وثلثمائة ؛ واختبرته فوجدته قد بالغ وأحسن ، وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى ، مما يدل على المختار المجتبى والمعيب المجتنب . ولقد شاكه فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض ؛ ولكني وجدته هجين اللفظ ، ركيك البلاغة في وصف البلاغة ، حتى كأن ما يصفه ليس ما يعرفه ، وكأن ما يدل به غير ما يدل عليه . والعرب تقول : فلان يدل ولا يدل ، حكاه ابن الأعرابي ، وهذا لا يكون إلا من غزارة العلم ، وحسن التصور ، وتوارد المعنى ، ونقد الطبع ، وتصرف القريحة . قال : ولولا أن الأمر على ما ذكرت لكان ذلك الطريق الذي سلكه ، والفن الذي ملكه ، والكنز الذي هجم عليه ، والنمط الذي ظفر به ؛ قد برز في أحسن معرض ، وتحلى بألطف كلام ، وماس في أطول ذيل ، وسفر عن أحسن وجه ، وطلع من أقرب نفق ، وحلق في أبعد أفق . وابن المراغي يقول كثيراً - وهو شيخٌ من جلة العلماء ، وله سهمٌ وافٍ في زمرة البلغاء - : ما أحسن معونة الكلمات القصار ، المشتملة على الحكم الكبار ، لمن كانت بلاغته في صناعته بالقلم واللسان ، فإنها توافيه عند الحاجة ، وتستصحب أخواتها على سهولة ؛ وهكذا مصاريع أبيات الشعر ؛ فإنها تختلط بالنثر متقطعةً وموزونة ، ومنتثرةً ومنضودة . قال لي ابن عبيدٍ الكاتب : بلغني هذا الوصف عن هذا الشيخ ؛ فبلوته بالتتبع فوجدته على ما قال ؛ وما أشبه ما ذكره إلا بالصرة المعدة عند الإنسان ، لما يحتاج إليه في الوقت المهم والأمر الملم ؛ فهذا هذا .فقال - أدام الله دولته ، وكبت أعداءه - : قدم هذا الباب فقد أتى على ما لم أظن أنه يؤتى عليه ويهتدى إليه - إذا شئت ؛ وانصرفت .
الليلة السادسة والعشرون
ثم قال : وما أمثلة الكلمات القصار التي أومأ إليها ذلك الشيخ ؟ فكان من الجواب : إن هذا الباب واسع ، نحو قول القائل : ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار . كل عزيزٍ دخل تحت القدرة فهو ذليل . غنم من أدبته الحكمة ، وأحكمته التجربة . التضاغن رائد التباين . المرء ما عاش في تجريب . الدهر يومٌ ويوم . . . والعيش عذلٌ ولوم وأكثر أسباب النجاح مع الياس من لم يقدمه حزم أخره عجز . كم مستدرجٍ بالإحسان إليه ، ومغترٍ باليسر عليه . الحرب متلفة العباد مذهبةٌ للطارف والتلاد . ليس المقل عن الزمان براضي من ضاق صدره اتسع لسانه . وحسبك داءً أن تصح وتسلما العيال سوس المال . الموت الفادح خيرٌ من الزي الفاضح . احذروا نفاد النعم ، فما كل شاردٍ مردود . خير الأمور أوساطها . يكفيك من شرٍ سماعه . الكريم لا يلين على قسر ، ولا يقتسر على يسر . ما أدرك النمام ثأراً ، ولا محا عاراً .