كتاب : حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار
المؤلف : محمد بن عمر بحرق الحضرمي الشافعي

الإحن التي كانت بينهم ، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار ، ثم وادع اليهود . تجهيزه [ صلى الله عليه وسلم ] السرايا والبعوث ثم شمر عن ساق الجد والاجتهاد ، وجاهد في الله حق الجهاد ، فعقد الألوية ، وأمر الأمراء ، وجهز السرايا والبعوث والجيوش ، وشن الغارات على أعداء الدين ، بما سيأتي ذكر بعضه والإشارة إلى غيره مع الترغيب في الجهاد والحث عليه بقوله وفعله ، وقد سبق في صدر هذا القسم ما فيه كفاية من الآيات والأحاديث المرغبة فيه . عدد غزواته [ صلى الله عليه وسلم ] وفي / ' صحيح البخاري ' ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : غزا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تسع عشرة غزوة ، غزوت معه سبع عشرة غزوة . صرف القبلة وفي رجب من السنة الثانية : حولت القبلة على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة .

وكان [ صلى الله عليه وسلم ] من قبل يصلي إلى ( بيت المقدس ) ، ويقول : ' وددت لو حولني ربي إلى ( الكعبة ) ، فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام ' . وكان يتوقع نزول الوحي عليه في ذلك ، فيقلب وجهه في السماء ، فاختار الله له ما يختاره ، فنزل قوله تعالى : ! ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ! أي : جهته ! ( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ! الآيات [ سورة البقرة 2 / 144 ] . وفي ' الصحيحين ' عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صلى نحو ( بيت المقدس ) ستة عشر شهرا ، وكان يحب أن يوجه إلى ( الكعبة ) ، فأنزل الله عز وجل : ! ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) ! ، فتوجه نحو ( الكعبة ) ، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود : ! ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ! ، فقال الله تعالى : ! ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ! [ سورة البقرة 2 / 142 ] ، فصلى مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجل ثم خرج بعدما صلى ، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو ( بيت المقدس ) ، فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأنه توجه نحو ( الكعبة ) ، فتوجه القوم نحو ( الكعبة ) .

فائدة
في أن القبلة أول منسوخ في الإسلام
قال العلماء : كانت القبلة أول منسوخ في شريعتنا .
الناسخ والمنسوخ
ومعنى النسخ عند الأصوليين : رفع الحكم الشرعي السابق بخطاب لاحق . ويجوز النسخ إلى بدل ؛ كنسخ استقبال ( بيت المقدس ) إلى استقبال ( الكعبة ) . وإلى غير بدل ؛ كنسخ وجوب تقديم صدقة بين يدي النجوى في قوله تعالى : ! ( إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) ! بقوله : ( ءأشفقتم / أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ) الآية [ سورة المجادلة 58 / 12 / 13 ] . وإلى بدل أخف ؛ كنسخ العدة عاما في قوله تعالى : ! ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ) ! بقوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ سورة البقرة 2 / 240 ، 234 ] . وإلى أغلظ كنسخ التخيير بين رمضان والفدية في قوله : ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) بتعين الصيام في قوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) [ سورة البقرة 2 / 184185 ] .

وأنكرت اليهود جواز نسخ حكم الله السابق بحكم لاحق ، ليتوصلوا بذلك إلى تأييد شرع موسى . وأحتج عليهم بعض العلماء : بأن آدم عليه السلام إن كان زوج بنيه ببناته ، فقد اعترفتم إما بالنسخ وإما بجواز ذلك في شريعة موسى عليه السلام ، وإن كان زوج بنيه ببنات إبليس وبناته بأبناء إبليس ؛ فأنتم من ذرية إبليس . عليه وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

ما فعله اليهود عند صرف القبلة
قال العلماء : ولما نسخ التوجه إلى ( بيت المقدس ) بالتوجه إلى ( الكعبة ) أكثر اليهود في ذلك : ! ( سيقول السفهاء من الناس ) ! أي : اليهود ! ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ! أي : خيارا ! ( لتكونوا شهداء على الناس ) ! أي : يوم القيامة بتبليغ الرسل ! ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ! أي : مزكيا ! ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ) ! أي : لننظر ! ( من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت ) ! أي : قصة التحويل ! ( لكبيرة ) ! أي : ثقيلة ! ( إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ! أي : صلاتكم إلى ( بيت المقدس ) ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) [ سورة البقرة 143 - 2 / 142 ] . (
فرض الصيام
) وفي شعبان من هذه السنة [ أي : السنة الثانية ] : فرض صوم رمضان ، ونسخ صوم عاشوراء / ، فنزل قوله تعالى : ! ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) ! الآيات [ سورة البقرة 2 / 183 ] . وفي ' الصحيحين ' عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عاشوراء ، وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك .
فرض صدقة الفطر
وفيها [ أي : السنة الثانية ] في رمضان : فرضت صدقة الفطر . ففي ' الصحيحين ' ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، على كل حر أو عبد ، ذكر أو أنثى من المسلمين .
غزوة بدر الكبرى
وفيها - [ أي : السنة الثانية ] - في رمضان : غزا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غزوة ( بدر ) الكبرى ، وكانت الوقعة يوم الجمعة ، السابع عشر من رمضان المعظم ، وهو يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان ، وأشار إليها في القرآن قبل وقوعها بقوله ! ( فسوف يكون لزاما ) ! [ سورة الفرقان 25 / 77 ] ، وبقوله ! ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) ! [ سورة الدخان 44 / 16 ] . وفضلها أشهر من أن يذكر . عدة من خرج من المسلمين إلى بدر وفي ' صحيح البخاري ' ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما : إن عدة أصحاب ( بدر ) على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا مؤمن . وهم ثلاث مئة وثلاثة عشر ، معهم فارس واحد ، وهو المقداد بن الأسود رضي الله عنهم أجمعين . وعدة المشركين نحو الألف ، منهم ثمانون فارسا . واستشهد من المسلمين أربعة عشر ، وقتل من المشركين سبعون ، وأسر سبعون .
إمداد الله المسلمين بالملائكة وفضلهم
وشهدها جبريل الأمين في ألف من الملائكة مردفين ، وصار لهم فضل عند أهل السماء كفضل أهل ( بدر ) عند أهل الأرض . وفي ' صحيح البخاري ' . أن جبريل عليه السلام قال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ما تعدون أهل ( بدر ) فيكم ؟ قال : ' من أفضل المسلمين ' ، قال : وكذلك من شهد ( بدرا ) من الملائكة . والله أعلم .
فائدة
في المزايا التي منحها الله لأهل بدر
وفي ' الصحيحين ' أيضا ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لعل الله اطلع على أهل ( بدر ) فقال : / اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ' . أي : علم الله أنهم من أهل الجنة ، لما سبق أنه لم يشهدها إلا مؤمن ، كما أنه لم يجاوز النهر مع طالوت إلا مؤمن ، ومن سبقت له العناية لم تضره الجناية ، ولم يمت أحد منهم بحمد الله إلا على أعمال أهل الجنة ، ولا ينافي ذلك معاقبتهم على هفواتهم بعد ذلك ؛ كحاطب وسعد وأبي لبابة ومسطح ومرارة وهلال . والمراد أن الله علم أن ذنوبهم مغفورة لما ينالهم من البلاء والأذى في الدنيا ، وإذا كان كذلك فلم يغفر حينئذ على القطع لأحد ما تأخر من ذنبه ، إلا لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] .

وما ورد في بعض الأخبار كما ورد في حديث الشفاعة من قوله : ' غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ' ، محمول على غفران أول ذنبه وآخره ، لقوله : ' ما قدمت وما أخرت ، وأوله وآخره ' . والله أعلم .

سبب غزوة بدر
قال أهل السير : وسببها أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سمع بأبي سفيان بن حرب في عير لقريش أقبلت من ( الشام ) ، فجعل العيون عليها ، فلما جاءه عينه خرج بمن خف معه من المسلمين ، ولم يكن يظن أنه يلقى عدوا ، وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار خوفا من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فجاءه الخبر بمخرجه ، فبعث إلى قريش يستنفرهم ، فأوعبت قريش في الخروج ، وخرجت سائر بطونها . استشارة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه بعد نجاة العير فلما كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ببعض الطريق ، بلغه نفر قريش ، فاستشار أصحابه في طلب العير أو قتال النفير ، وقال : ' إن الله وعدني إحدى الطائفتين ' . وكانت العير أحب إليهم ، كما قال الله تعالى : ! ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة ) ! أي : السلاح ، وهي العير ! ( تكون لكم ) ! [ سورة الأنفال 8 / 7 ] . فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ، فتكلم عمر فأعرض عنه ، وهو في كل ذلك يقول : ' أشيروا علي ' ، فعلموا أنه إنما يريد / الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على القتال ، إنما بايعهم على أن يمنعوه مما

يمنعون منه أنفسهم ، ممن دهمه إلى ( المدينة ) ، ولكن كان الإيمان قد تمكن في قلوبهم ، واعتقدوا وجوب طاعته ونصرته [ صلى الله عليه وسلم ] ، حتى لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لامتثلوا أمره . فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال : إيانا تريد يا رسول الله ؟ قال : ' نعم ' ، قال : والذي بعثك بالحق ، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى ( برك الغماد ) - أي : بالمعجمة - لفعلنا ، ولو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها . فسر بذلك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : ' سيروا على بركة الله ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم . مبادرة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قريشا إلى الماء وبناء العريش له فساروا حتى نزل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على أدنى ماء من مياه ( بدر ) إلى عسكره ، فأشير عليه أن ينزل على أدنى ماء إلى العدو ، ويترك المياه كلها خلفه ، ففعل . وبني له عريش يستظل فيه . دعاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على قريش ولما أقبلت قريش قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم أحنهم - أي : أحضر حينهم وهو هلاكهم - الغداة ، اللهم إن تهلك هذه العصابة - يعني : المسلمين - لا تعبد في الأرض ' . وما زال يهتف بربه - أي : يدعوه - حتى سقط رداؤه ، فأخذ

أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله ، فقد ألححت على ربك - أي : بالغت في سؤاله - فخرج [ صلى الله عليه وسلم ] وعليه الدرع وهو يقول : ( سيهزم الجمع ويولون الأدبار * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) [ سورة القمر 54 / 45 - 46 ] . تسوية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الصفوف
قلت : ينبغي نصب الساعة الأولى في الحديث على الظرفية لكنا رويناه بالرفع كلفظ التلاوة . ثم أخذ [ صلى الله عليه وسلم ] يعدل صفوفهم ، وأمرهم أن لا يحملوا حتى يأمرهم . مناشدة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ربه النصر ثم رجع إلى العريش ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، فخفق خفقة ، ثم انتبه ، فقال : ' أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه ' . ثم خرج إلى صف أصحابه ، فلما تزاحف الناس أخذ حفنة من الحصباء ورمى بها في وجوه المشركين ، وقال لأصحابه : ' شدوا باسم الله ' ، فكانت الهزيمة فيهم بإذن الله تعالى ، ونصر الله عبده ، وأعز جنده ، وأنزل الله تعالى في قسمة غنائم ( بدر ) سورة الأنفال ، وفيها أيضا ليعلموا أنه الناصر لهم : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ' [ سورة الأنفال 8 / 17 ] . طرح بعض المشركين في القليب ، ومخاطبة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهم وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] أمر بقتلى المشركين فألقوا في قليب ، ثم قام على القليب ، فجعل يناديهم بأسمائهم : ' هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ' ، ثم قال : ' والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ' .

عودة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى المدينة وتهنئته بالنصر ثم قفل [ صلى الله عليه وسلم ] راجعا إلى ( المدينة ) ، ولقيه المسلمون إلى ( الروحاء ) يهنئونه بالنصر والظفر : ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) [ سورة الأنعام 6 / 45 ] .

فائدة
في سبب إلحاح النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على ربه بالنصر في بدر قوله : فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك يا رسول الله ، فقد ألححت على ربك .
قال العلماء : لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر رضي الله عنه كان أوثق بربه من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في تلك الحالة وغيرها ، بل الحامل له على ذلك تقوية قلوب أصحابه ، لأنهم كانوا يعلمون أنه شفيع مشفع ، مستجاب الدعوة ، وكان ذلك اليوم أول مشهد شهدوه ، فبالغ في الدعاء لتسكن نفوسهم ، فلما قال أبو بكر ما قال ، علم أنه قد اعتقد إجابة الدعاء ، ووقوع النصر ، فخرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . والله أعلم . بناؤه [ صلى الله عليه وسلم ] بعائشة رضي الله عنها وفيها [ أي : السنة الثانية ] 5 في شوال : بعد ( بدر ) دخل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، وهي بنت تسع سنين .

وفيها [ أي : السنة الثانية ] بعد ( بدر ) : كان قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع .

سبب قتل كعب بن الأشرف
أما كعب بن الأشرف فإن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لما انتصر ب ( بدر ) اشتد حزن عدو الله / كعب بن الأشرف الطائي اليهودي ، وأمه من بني النضير ، فرثى قتلى المشركين بقصائد ، وقدم ( مكة ) وحرض قريشا على الأخذ بالثأر ، ثم رجع إلى ( يثرب ) ، وكان له حصن منيع ، فأظهر العداوة والبغضاء للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه ، وجعل يشبب في شعره بنساء المسلمين ويؤذيهم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ' ، فانتدب له خمسة من الأنصار ثم من الأوس ، فقتلوه .
سبب قتل سلام بن أبي الحقيق
وانتدب أيضا لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق تاجر أهل ( الحجاز ) - وكان له حصن ب ( خيبر ) ، وكان يؤذي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ويعين عليه - سبعة من الخزرج ، فقتلوه .

تحريض النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على قتل كعب بن الأشرف وفي ' الصحيحين ' ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ' . فقال محمد بن مسلمة : أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال : ' نعم ' ، قال : ائذن لي فلأقل ، قال : ' قل ' ، قال فأتاه فقال له : إن هذا الرجل قد أراد الصدقة منا ، وقد عنانا - أي : أتعبنا - فقال كعب : وأيضا والله لتملنه ، قال : إنا قد أتبعناه ، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره ، وقد أردت أن تسلفني سلفا ، قال : فما ترهنني ؟ قال : ما تريد ؟ قال : ترهنني نساؤكم ؟ قال : أنت أجمل العرب ، أنرهنك نساءنا ؟ قال له : ترهنوني أولادكم ؟ قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهن في وسقين من تمر ، ولكن نرهنك اللأمة - يعني السلاح - قال : فنعم . فواعده أن يأتيه بالحارث بن أوس ، وأبي نائلة ، وأبي عبس بن جبر ، وعباد بن بشر ، قال : فجاؤوا ، فدعوه ليلا ، فقالت له امرأته : والله إني لأسمع صوتا فيه الموت ، قال : إنما هذا محمد بن سلمة ، ورضيعه أبو نائلة ، إن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب ، فقال محمد بن مسلمة لأصحابه : إني إذا جاء / فسوف أمد يدي إلى رأسه ، فإذا استمكنت منه فدونكم ، فنزل وهو متوشح بالسيف ، فقالوا له : إنا نجد منك ريح الطيب ، قال نعم ، تحتي فلانة أعطر نساء العرب ، قال محمد بن مسلمة : أفتأذن لي أن أشم منه ؟ قال : نعم ، فشم ، فتناول فشم ، ثم قال : أتأذن لي أن أعود ؟ قال : نعم ، وتمكن منه ، ثم قال : دونكم ، فقتلوه . ثم

أتوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبروه . بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق وفي ' صحيح البخاري ' ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : بعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رجالا من الأنصار ، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك ، وكان أبو رافع يؤذي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ويعين عليه ، وكان في حصن له بأرض ( الحجاز ) ، فلما دنوا منه ، وقد غربت الشمس ، وراح الناس بسرحهم ، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه : اجلسوا مكانكم - أي : خارج السور - فإني منطلق ، ومتلطف للبواب ، لعلي أن أدخل ، ثم أقبل حتى دنا من الباب ، ثم تقنع بثوبه - أي : غطى به رأسه - كأنه يقضي الحاجة ، وقد دخل الناس ، فهتف به البواب : يا هذا ، إن كنت تريد أن تدخل فادخل ، فإني أريد أن أغلق الباب ، قال : فدخلت فكمنت - أي اختفيت - فلما دخل الناس أغلق البواب الباب ، ثم علق المفاتيح على وتد ، قال : فقمت إلى الأغاليق فأخذتها ، ففتحت الباب ، وكان أبو رافع يسمر مع أصحابه في علية له ، فلما ذهب عنه أهل سمرة ، صعدت إليه ، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل ، وقلت : إن يدر بي القوم لم يخلص إلي أحد منهم حتى أقتله - أي : وإن قتلوني بعده - ، فانتهيت إليه ، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله ، لا أدري أين هو ، فقلت : يا أبا رافع ، فقال : من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت ، فضربته بالسيف وأنا دهش ، فما

أغنيت شيئا ، وصاح ، فخرجت من البيت ، فمكثت غير بعيد ، ثم دخلت إليه ، فقلت : ما هذا / الصوت يا أبا رافع ؟ وغيرت صوتي كأني أغيثه ، فقال : إن رجلا في البيت ضربني بالسيف ، قال : فضربته ضربة فأثخنته ، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه ، واعتمدت عليه حتى خرج من ظهره ، فعرفت أني قد قتلته ، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا ، حتى انتهيت إلى درجة له ، فوضعت رجلي ، وأنا أظن أني قد انتهيت إلى الأرض ، فوقعت ، فانكسرت ساقي فعصبتها ، ثم جلست على الباب ، وقلت : والله لا أخرج الليلة حتى أعلم أني قتلته ، فمكثت إلى أن صاح الديك ، فقام الناعي على السور ، وقال : أنعي أبا رافع تاجر أهل ( الحجاز ) ، فانطلقت إلى أصحابي ، فقلت : النجاء ، فقد قتل الله أبا رافع ، فانتهينا إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فحدثته ، فقال : ' ابسط رجلك ' ، فبسطتها فمسحها بيده ، فكأني لم أشكها قط .

غزوة بني قينقاع
وفي هذه السنة أيضا - [ أي : السنة الثانية ] - : نقضت بنو قينقاع يهود ( المدينة ) العهد ، فحاصرهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى نزلوا على حكمه فيهم ، فوهبهم لعبد الله ابن أبي سلول ، وكانوا حلفاءه ، وأخذ أموالهم .
غزوة أحد
وفي السنة الثالثة : كانت غزوة ( أحد ) ، وكانت وقعتها يوم السبت للنصف من شوال .
خروج قريش
وكان من حديث ( أحد ) أن قريشا تحاشدوا بعد ( بدر ) ، واجتهدوا في طلب الثأر ، وخرجوا بظعنهم ومن أطاعهم من الأحابيش - أي : جموع العرب - حتى نزلوا ب ( أحد ) ، وكانوا ثلاثة آلاف ، منهم مئتا فارس . مشاورة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه في الخروج فلما علم بهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] استشار أصحابه في الخروج إليهم أو الإقامة ، وقال لهم : ' إني رأيت في منامي كأن في سيفي ثلمة ، وأن بقرا تذبح ، وتأولتها أن نفرا من أصحابي يقتلون ، وأن رجلا من أهل بيتي يصاب ، فإن رأيتم أن تقيموا ب ( المدينة ) وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن دخلوها قاتلناهم فيها ' . فاختلفت آراؤهم في ذلك ، حتى غلب رأي من أحب الخروج . وكان من لم يشهد / ( بدرا ) حصل معهم من الأسف على ما فاتهم من الفضيلة . تهيؤ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للخروج فدخل [ صلى الله عليه وسلم ] فلبس لأمته ، وخرج عليهم فوجدهم قد رجحوا رأي القعود ، فقال : ' لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ' . فسار بهم ، وكانوا نحو الألف ، ليس فيهم فرس .
انخذال عبد الله بن أبي بالمنافقين
فانخذل عبد الله بن أبي سلول ، وكان مطاعا بثلث الناس تعبئة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المسلمين للقتال فبقي نحو سبع مئة رجل ، فنزل [ صلى الله عليه وسلم ] وجعل ظهره إلى ( أحد ) ، ورتب أصحابه كما قال تعالى : ( وإذ غدوت من اهلك

- وكان غدا من منزلة عائشة - ! ( تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) ! الآيات [ سورة آل عمران 3 / 121 ] ، وأقعد الرماة ، وهم خمسون على جبل ( عنين ) - مصغرا بمهملة ونون مكررة - وقال لهم : ' لا تبرحوا مكانكم إن غلبنا أو غلبنا ' .

انتصار المسلمين ودور الرماة فيه
وظاهر [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ بين درعين ، وحمل هو وأصحابه على المشركين فهزمهم الله تعالى ، كما قال الله تعالى : ! ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) ! [ سورة آل عمران 3 / 152 ] . وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا .
الابتلاء بعد النصر
فقالت الرماة : الغنيمة يا قوم ، فقد ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ فأبى بعضهم مثبت مكانه لقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا تبرحوا مكانكم ' ، وخالف الآخرون ، فأقبلوا على الغنيمة ، كما قال الله تعالى : ( منكم من يريد الدنيا أي الغنيمة ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) ، لكن عفا عنهم بقوله : ! ( ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) ! [ سورة آل عمران 3 / 152 ] . فلما رأت خيل قريش ظهور المسلمين خالية عن الرماة ، حملوا عليهم ، فقتلوا من بقي من الرماة ، وأتوا المسلمين من خلفهم . إشاعة مقتل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وما لقيه من الأذى وصرخ إبليس لعنه الله تعالى : ألا إن محمدا قد قتل ، فانفضت صفوف المسلمين ، وتراجعت قريش بعد هزيمتها ، وخلص العدو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فرموه بالحجارة ، حتى وقع لشقه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وجرحت شفته / السفلى ،

وضربة ابن قمئة الليثي على وجهه ، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، وضربه آخر على رأسه حتى هشم البيضة ، وكانوا أحرص شيء على قتله ، فعصمه الله عز وجل منهم ، وهو [ صلى الله عليه وسلم ] ثابت ينادي أصحابه ، فلم يلو عليه أحد ، إذ لم يعرفوه ، وظنوا أنه قد قتل ، وهو في الحديد ؛ الدرع والمغفر ، كما قال الله تعالى : ! ( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم ) ! أي : جزاكم ! ( غما بغم ) ! أي : بعد غم [ سورة آل عمران 3 / 153 ] . أول من عرف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إشاعة مقتله ثم إن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه عرف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فصاح : يا معشر المسلمين ، أبشروا فهذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعطف عليه نفر من المسلمين ، ونهضوا إلى الشعب . أبي بن خلف يبحث عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليقتله فأدركهم أبي بن خلف فارسا ، وهو يقول : أين محمد ؟ لا نجوت إن نجا ، وشد عليه ، فاعترضه رجال من المسلمين دون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بيده هكذا أي : خلوا طريقه وتناول الحربة فهزها حتى تطايروا من حوله لشدة بأسه ، ثم استقبله فدقه في عنقه بطعنة ، تدأدأ لها عن فرسه مرارا ، ونفذت من الدرع ، فرجع إلى أصحابه فمات ، فهم المشركون أن يكروا على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه في الشعب ، فحماهم الله منهم .

تغشية النعاس المؤمنين
ثم إنهم لما ترادفت عليهم الغموم مما أصابهم ، ومن خوف كرة العدو عليهم ، ألقى الله عليهم النعاس ، أمنة منه لهم ، إلا المنافقين

فلم يغش النعاس أحدا منهم لظنهم السوء ، كما قال الله تعالى : ! ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) ! الآيات [ سورة آل عمران 3 / 154 ] .

شماتة أبي سفيان بعد المعركة
ثم إن أبا سفيان أشرف فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا تجيبوه ' ، فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال : ' لا تجيبوه ' ، قال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ قال : / ' لا تجيبوه ' ، فقال : إن هؤلاء قتلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا ، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه ، فقال : كذبت يا عدو الله ، قد أبقى الله لك ما يخزيك ، فقال أبو سفيان : أعل هبل ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أجيبوه ' ، قالوا : ما نقول ؟ قال : ' قولوا : الله أعلى وأجل ' ، قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أجيبوه ' ، قالوا : ما نقول ؟ قال : ' قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم ' . قال أبو سفيان : يوم بيوم ( بدر ) ، والحرب سجال ، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني . رواه البخاري عن البراء بن عازب .
فائدة
فيمن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد
قال العلماء : وكان يوم ( أحد ) يوم بلاء وتمحيص وإكرام ، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة ، فقتل حمزة في سبعين شهيدا من المسلمين رضي الله عنهم ، ومثلت بهم نساء قريش ، فبقروا بطن

الحمزة ، وقطعوا كبده ، فلما نظر إليه [ صلى الله عليه وسلم ] كذلك ترحم عليه وأثنى عليه ، ثم قال : ' والله ، لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك ' ، ثم ذكر قول الله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر ما صبرك إلا بالله ) [ سورة النحل 16 / 126 - 127 ] . فاختار الصبر كما أمره الله تعالى ، وكان ينهى عن المثلة .

دفن الشهداء
ثم إنه [ صلى الله عليه وسلم ] أمر بدفن الشهداء بدمائهم ، ولم يغسلهم ، ولم يصل عليهم ، وقال : ' أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ' - أي : لهم - وكان يجمع بين الرجلين في ثوب واحد ، ثم يقول : ' أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ ' ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد .
ما نزل من القرآن في يوم أحد
وأنزل الله فيهم : ! ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) ! الآيات [ سورة آل عمران 3 / 169 - 170 ] . وأنزل الله تسلية للمؤمنين وتقوية لعزائمهم : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) * - أي : يوم ( بدر ) - ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) [ سورة آل عمران 3 / 139 - 140 ] . ودلهم على وجه الحكمة فيما قضاه وقدره / عليهم بقوله تعالى : ( وليعلم الله الذين آمنوا ) - أي : يظهر إيمانهم ويميزهم

عن المنافقين ؛ كعبد الله بن أبي وذويه - ! ( ويتخذ منكم شهداء ) ! - كحمزة وأصحابه - ! ( والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ) ! - أي : يخلص إيمانهم - ! ( ويمحق الكافرين ) ! [ سورة آل عمران 3 / 140 - 141 ] . (

غزوة حمراء الأسد
) [ قال تعالى ] : ! ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم ) ! [ سورة آل عمران 3 / 172 ] . وذلك أن قريشا لما بلغت ( الروحاء ) هموا أيضا بالرجوع لاستئصال من بقي من المسلمين بزعمهم ، فلما علم بهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ندب أصحابه للخروج للقائهم ، وقال : ' لا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ' ، فسار بهم حتى بلغ ( حمراء الأسد ) ، فمر بهم معبد الخزاعي ، وهم نزول ، فأسرع إلى قريش فأخبرهم بمخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه إليهم ، فثنى ذلك قريشا عن لقائهم ، وألقى الله في قلوبهم الرعب ، فأدبروا إلى ( مكة ) ، فمر عليهم ركب ، فجعلوا لهم جعلا على أن يخبروا محمدا وأصحابه أنهم يريدون الكرة عليهم ، ولا يخبروهم بانصرافهم إلى ( مكة ) ، فلما مر الركب على المسلمين وأخبروهم بذلك ، قالوا : ! ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) ! [ سورة آل عمران 3 / 173 ] . وأقاموا ثلاثا ينتظرون لقاء العدو ، فبلغهم مسيرهم فرجعوا ، فأنزل الله سبحانه : ! ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس ) !

- أي : الركب - ! ( ان الناس ) ! - أي : قريشا - ! ( قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) ! [ سورة آل عمران 3 / 172 / 174 ] .

موقف أنس بن النضر رضي الله عنه
وفي ' الصحيحين ' ، عن أنس رضي الله عنه قال : إن عمي أنس بن النضر غاب عن ( بدر ) ، فقال : غبت عن أول قتال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، لئن أشهدني الله قتالا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليرين الله ما أصنع ، فلما انهزم المسلمون يوم ( أحد ) / ، قال / : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني : المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه فلقيه سعد بن معاذ ، قال : يا سعد إني أجد ريح الجنة دون ( أحد ) ، فقتل ، ووجد به بضع وثمانون ، من طعنه وضربة ورمية بسهم رضي الله عنه . وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن أنس رضي الله عنه قال : كنا نرى أن هذه الآية : ( من المؤمنين رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) [ سورة الأحزاب 33 / 23 ] نزلت في أنس بن النضر وأشباهه من قتلى ( أحد ) . حضور الملائكة ودفاعها عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : رأيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقاتل يوم ( أحد ) ومعه رجلان يقاتلان ، عليهما ثياب بيض ، ما رأيتهما قبل ولا بعد .
قتال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
وقال : نثل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لي كنانته يوم ( أحد ) ، وقال : ' ارم فداك أبي وأمي ' . وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما سمعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك ، فإني سمعته يقول له يوم ( أحد ) : ' ارم فداك أبي وأمي ' . تأثر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما لقيه وفي ' صحيح البخاري ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اشتد غضب الله على من قتله نبي الله ، واشتد غضب الله على من أدمى وجه نبي الله . بشارة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] جابرا رضي الله عنه وفي ' الصحيحين ' ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما قتل أبي يوم ( أحد ) ، جعلت أبكي ، وأكشف الثوب عن وجهه ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' تبكيه أو لا تبكيه ، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ' . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . (
الرجيع وبئر معونة
) وفي هذه السنة أيضا - [ أي : السنة الثالثة ] - بعد ( أحد ) : أصيب عاصم وأصحابه ب ( الرجيع ) ، والقراء السبعون أصحاب ( بئر معونة ) ، ليمتحن الله الأنصار بالصبر ، ويضاعف لهم عظيم الأجر ، وقصة الفريقين مشهورة في ' الصحيحين ' .
بعث الرجيع
أما أصحاب الرجيع : فإن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعث عاصم بن ثابت الأنصاري في عشرة من أصحابه عينا ، فلما / كانوا ب ( الرجيع ) وهو : ماء لهذيل ، بين ( عسفان ومر الظهران ) ، وعسفان على مرحلتين من ( مكة ) ذكروا لبني لحيان وهم بطن من هذيل فتبعهم منهم نحو مئة رام ، فالتجأ عاصم وأصحابه إلى أكمة ، فأحاط بهم القوم ، ولم يقدروا على الوصول إليهم ، فأمنوهم وأعطوهم العهد أنهم إن استسلموا لا يقتلونهم ، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر بالله أبدا ، اللهم أخبر عنا رسولك ، فقاتلوهم حتى قتل عاصم في ثمانية من أصحابه .
أسر زيد و خبيب
ونزل إليهم خبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة بالأمان ، فغدروا بهما ، فانطلقوا بهما إلى ( مكة ) ، فباعوهما . فأما زيد : فاشتراه صفوان بن أمية بن خلف ، فقتله بأبيه ، وكان قتل أباه يوم ( بدر ) . وأما خبيب : فاشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ، فقتلوه بأبيهم ، وكان قتل أباهم يوم ( بدر ) أيضا .
مقتل زيد رضي الله عنه
فلما خرجوا بزيد من ( الحرم ) إلى أدنى ( الحل ) ، وقربوه

للقتل ، قال له أبو سفيان : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا مكانك تضرب عنقه ، وأنت في أهلك ؟ قال : والله ما أحب أن محمدا تصيبه الآن في مكانه شوكة تؤذيه ، وأنا جالس في أهلي ، فقتلوه ، ثم أرادوا أخذ رأسه ، فحمتهم عنه الدبر أي : الزنابير فتركوه إلى الليل ليأخذوه ، فجاءه سيل فاحتمله ، وكان قد أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا ، ولا يمسه مشرك ، فأتم الله له ذلك بعد وفاته ، كما وفى به هو في حياته . (

مقتل حبيب رضي الله عنه
) ولما خرجوا بخبيب ليقتلوه دعا بماء فتوضأ ، وصلى ركعتين ، وأوجز فيهما ، وقال : لولا أن تظنوا أن بي جزعا لزدت . فهو أوال من سن هاتين الركعتين عند التقديم للقتل ، ثم أنشد رحمه الله تعالى ، [ من الطويل ] : ( ولست أبالي حين أقتل مسلما ** على أي جنب كان في الله مصرعي ) ( وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع ) / فقتلوه ، ثم صلبوه ، فلما بلغ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه مصلوب ، قال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أيكم يحمل خبيبا عن خشبته وله الجنة ؟ ' .

فانتدب له الزبير بن العوام ، والمقداد بن الأسود فارسين ، فسارا إلى ( مكة ) ، فحمله الزبير على فرسه ، فأغار عليهما أهل ( مكة ) ، فلما أرهقوهما ألقاه الزبير ، فابتلعته الأرض ، فسمي : بليع الأرض .

وقعة بئر معونة
وأما أصحاب بئر معونة بالنون : فإن أبا البراء عامر بن مالك العامري ملاعب الأسنة قدم على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فعرض عليه رسول الله الإسلام ، فلم يسلم ، ولم يبعد ، وقال : يا محمد ، ابعث معي رجالا من أصحابك إلى أهل ( نجد ) يدعونهم إلى أمرك ، وأنا لهم جار ، فبعث معه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سبعين رجلا من خيار المسلمين . قال أنس : كنا نسميهم القراء ، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري الخزرجي الساعدي ، أحد النقباء الاثني عشر .
غدر عامر بن الطفيل بالمسلمين
فلما نزلوا ب ( بئر معونة ) ، أنطلق حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل رئيس المكان ليبلغه رسالة من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأمنه عامر ثم غدر به ، فأومأ إلى رجل خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذ الطعنة ، فقال حرام : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، فقتلوه ، ثم استصرخوا على أصحابه بقبائل سليم : ( رعل وذكوان وعصية ) ، فقتلوهم عن آخرهم ، ما خلا رجلين ، وأخفروا ذمة أبي البراء عامر بن مالك .

والرجلان هما : عمرو بن أمية الضمري وأنصاري ، كانا في إبل أصحابهم ، فلما راحا بهما وجدا أصحابهما صرعى ، والخيل واقفة ، فقتلوا الأنصاري أيضا ، وتركوا عمرا حين أخبرهم أنه من ضمرة . فرجع عمرو إلى ( المدينة ) فوجد رجلين من بني عامر فقتلهما ، وكان معهما جوار من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لم يعلم به ، فلما قدم ( المدينة ) / أخبر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الخبر ، فقال : ' لقد قتلت رجلين لأدينهما ' . دعاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على قتلة أصحاب بئر معونة وحزنه عليهم وحزن [ صلى الله عليه وسلم ] على أصحاب ( بئر معونة ) حزنا شديدا ، وقنت في الصلوات الخمس ، على قبائل سليم : ( رعل وذكوان وعصية ) ، الذين عصوا الله ورسوله وبني لحيان أيضا شهرا ، إلى أن نزل عليه قوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) [ سورة آل عمران 3 / 128 ] فترك القنوت .

أمر عامر بن فهيرة رضي الله عنه
وممن قتل ب ( بئر معونة ) عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما .

وروى البخاري في ' صحيحه ' ، عن عمرو بن أمية الضمري أن عامر بن الطفيل قال له : من هذا ؟ وأشار له إلى عامر بن فهيرة فقال له عمرو : هذا عامر بن فهيرة ، فقال : لقد رأيته رفع بعدما قتل إلى السماء ، حتى إني أنظر إلى السماء بينه وبين الأرض .

غزوة بني النضير
وفي هذه السنة أو في الرابعة : كانت غزوة بني النضير . وسببها : ما رواه البخاري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ فهي على الصواب كما قال ابن إسحاق : بعد ( أحد ) وبعد ( بئر معونة ) فاستند إلى جدار حصن لهم من حصونهم ، فأمروا رجلا بطرح حجر على رأسه من الحصن ، فأخبره جبريل عليه السلام بذلك ، فقام موهما لهم وترك أصحابه ورجع إلى ( المدينة ) . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ سورة المائدة 5 / 11 ] وقيل : إنها نزلت في قصة غورث بن الحارث الذي هم بقتل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] .
حصار بني النضير
ثم أصبح غازيا عليهم ، فحصرهم وقطع نخيلهم وحرقها ،

فدس إليهم المنافقون ما حكى الله عنهم من قوله : ( * ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذي كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن / معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن فوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون ) الآيات [ سورة الحشر 59 / 11 ] . فلما اشتد الحصار على أعداء الله ، وأيسوا من نصرة المنافقين ، قذف الله في قلوبهم الرعب ، فطلبوا الصلح ، فصالحهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على الجلاء أي : الإخراج من أرض إلى أرض وأن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح ، فجلوا إلى ( الشام ) إلا آل حيي بن أخطب وآل أبي الحقيق ، فإنهم جلوا إلى ( خيبر ) . وأنزل الله فيهم سورة الحشر ، وكانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله ، خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقسمها بين المهاجرين خاصة لشدة حاجتهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، إلا لثلاثة نفر بهم حاجة ، وطابت بذلك نفوس الأنصار ، كما أثنى الله عليهم بقوله : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر 59 / 9 ] . وفي ' صحيح البخاري ' ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضي الله عنهما : سورة الحشر ، قال : قل سورة النضير . وفيه [ أي : صحيح البخاري ] عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حرق نخل بني النضير وقطع ، وهي البويرة ،

فعاب ذلك المشركون عليه ، فأنزل الله عز وجل : ! ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) ! [ سورة الحشر 59 / 5 ] . قال ابن عمر : ولها يقول حسان بن ثابت ، [ من الوافر ] : ( وهان على سراة بني لؤي ** حريق بالبويرة مستطير ) فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب [ من الوافر ] : ( أدام الله ذلك من صنيع ** وحرق في نواحيها السعير ) ( ستعلم أينا منها بنزه ** وتعلم أي أرضينا تضير )

مآل أموال بني النضير
وفي ' الصحيحين ' ، عن عمر رضي الله عنه أنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ، مما لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابا ، وكانت لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خاصة / ينفق على أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله . غزوة ذات الرقاع ، أو غزوة نجد وفي هذه السنة أيضا وهي : الرابعة غزا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] غزوة ذات

الرقاع إلى ( نجد ) يريد غطفان سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت من الحفاء ، وكان يلفون عليها الخرق فانتهى [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( نجد ) ، فلقي جمعا من غطفان ، فتقاربوا ولم يكن قتال ، فلما صلى الظهر بأصحابه ندم المشركون أن لا يكونوا حملوا عليهم في الصلاة ، ثم قالوا : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون : صلاة العصر فإذا قاموا إليها فشدوا عليهم ، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف ، وهي قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك

وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ) الآية [ سورة النساء 4 / 102 ] . وفي ' صحيح البخاري ' ، خرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ذات الرقاع من بطن ( نخل ) ، فلقي جمعا من غطفان ، فصلى بهم ركعتي الخوف . وقول البخاري وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة : صوابه وثعلبة بواو العطف .

خبر غورث بن الحارث
ولما قفل [ صلى الله عليه وسلم ] من هذه الغزوة نزلوا وقت القيلولة منزلا وتفرقوا ، ونزل [ صلى الله عليه وسلم ] تحت شجرة وعلق بها سيفه ونام ، فجاء أعرابي يسمى غورث بن الحارث ، فأخذ السيف فاخترطه ، فاستيقظ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال له الأعرابي : من يمنعك مني ؟ قال : ' الله ' ، فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وقال : ' من يمنعك مني ؟ ' ، فقال : كن خيرا آخذ ، فتركه ولم يعاقبه ، فذهب إلى قومه .
غزوة بني المصطلق
وفي هذه السنة وهي الرابعة : غزا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] غزوة بني المصطلق / من خزاعة ب ( المريسيع ) مصغرا بهملات . وذلك أنه بلغه أن بني المصطلق من خزاعة أجمعوا لحربه .
التقاء الفريقين وهزيمتهم
فخرج إليهم فلقيهم ب ( المريسيع ) وهو ماء لهم من ناحية ( قديد ) مصغرا أيضا . وهو أي : قديد مكان بين ( خليص ورابغ ) ، بين ( مكة والمدينة ) . وخليص على ثلاثة مراحل من ( مكة ) ، فهزمهم الله ، وقتل من قتل منهم ، وسبى أولادهم ونساءهم ، وغنم أموالهم ، واصطفى من سبيهم لنفسه جويرية بنت الحارث المصطلقية ، أم المؤمنين رضي الله عنها . ولما قفل [ صلى الله عليه وسلم ] اتفق في قفوله [ حدثان ] . أحدهما : نزل سورة المنافقين ، وثانيهما : حديث الإفك .
سبب نزول سورة المنافقين
أما نزول سورة المنافقين : فذلك أنه ازدحم مهاجري وأنصاري على الماء ، فتداعى الفريقان ، فتكاثر المهاجرون على

الأنصار ، فغلبوهم .

مقالة عبد الله بن أبي ابن سلول
فجعل عبد الله بن أبي ابن سلول يؤنب أصحابه أي : يوبخهم ويقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا عنه أي : لو تركتم الإنفاق على من عنده من المهاجرين لانفضوا عنه ، وتركوه وحيدا محتاجا إليكم ولكن والله لئن رجعنا إلى ( المدينة ) ليخرجن الأعز منها الأذل ، إما تركوها لنا وإما تركناها لهم ، في كلام كثير . زيد بن أرقم رضي الله عنه يخبر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما سمع ، وتصديق الوحي له وكان زيد بن أرقم رضي الله عنه حاضرا عنده ، فشق عليه ذلك ، فحمل كلامه إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فشكاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى قومه ، فعاتبوه على ذلك ، فأنكره وكذب زيد بن أرقم ، وجاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فحلف بالله إنه ما قال شيئا من ذلك ، وإنه يشهد أنك لرسول الله حقا ، فقبل منه علانيته ووكل سريرته إلى الله تعالى ؛ فحزن لذلك زيد بن أرقم حزنا شديدا ، وقال له قومه : ما أردت إلا / أن كذبك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكذبك الناس . فلما ارتحل [ صلى الله عليه وسلم ] من ذلك المنزل أردف زيد بن أرقم خلفه ، وكان يومئذ فتى ، فنزل جبريل الأمين بسورة ( المنافقون ) فقال

النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لزيد بن أرقم : ' أبشر ، فقد صدقك الله ' . وتلاها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على الناس : ! ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة ) ! أي : وقاية في الظاهر بين كفرهم الباطن وبين الناس الآيات [ سورة المنافقون 63 / 12 ] .

صور من مواقف عبد الله بن أبي ابن سلول
وكان عبد الله بن أبي يقوم في كل جمعة إذا قام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يخطب يقول : يا معشر المسلمين ، هذا رسول الله بين أظهركم ، فانصروه ، فلما انصرف يوم ( أحد ) بثلث الناس وخذل المؤمنين ، فقتل منهم من قتل ، أراد أن يقوم مقامة ذلك ، فأقعده الناس ، وقالوا : أسكت يا عدو الله ، فانصرف من المسجد في حال الخطبة مغاضبا ، فقيل له : ارجع يستغفر لك رسول الله ، فلوى رأسه وقال : لا حاجة بي إلى استغفاره ، فعدد الله في هذه السور قبائحه بقوله : ( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون * سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين * هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزآئن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) [ سورة المنافقون 63 / 58 ] . موقف ابن عبد الله بن أبي ابن سلول رضي الله عنه ، من أبيه وكان لعبد الله بن أبي ابن / يسمى عبد الله أيضا ابن عبد الله بن أبي ، وكان مؤمنا صادقا ، حسن الإيمان ، فلما أراد أبوه أن يدخل ( المدينة ) ، وكان قد تخلف قليلا عن الناس ، رده ، وقال : والله

يا عدو الله ، لا تدخلها إلا بإذن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، حتى تعلم أنه الأعز وأنت الأذل ، ولئن أمرني رسول الله لأضربن عنقك . فأرسل إليه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن خل عنه ، فخلى عنه ، وأتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وقال : يا رسول الله إن شئت أن آتيك برأسه فمرني بذلك ؟ فقال : ' بل نعاشره معاشرة حسنة حتى يموت أو نموت ، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ' . فعامله [ صلى الله عليه وسلم ] بالإحسان مدة حياته ، وكفنه في قميصه بعد وفاته ، واستغفر له قبل أن ينهى عنه ، وقام على قبره وأراد أن يصلي عليه ، فنهي بنزل قوله تعالى : ! ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) ! [ سورة التوبة ) / 84 ] .

حديث الإفك
وأما حديث الإفك فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجت مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في غزاة ، فأنا أحمل في هودجي ، فلما دنونا من ( المدينة ) ، آذن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة بالرحيل ، فقمت لأقضي حاجتي ، فأبطأت ، فأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا الهودج ، فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أني فيه ، فجئت المنزل فإذا ليس فيه أحد ، فجلست مكاني ، وكان صفوان بن المعطل قد تخلف عن الركب ، فأصبح بالمنزل ، فلما رآى سوادي عرفني ، فاسترجع ، فو الله ما كلمني كلمة ، ثم أناخ راحلته لي ، فركبتها ، وأخذ بزمامها يقود بي حتى

أتى الجيش ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، وكان الذي تولى كبر ذلك عبد الله بن أبي .

مرض عائشة رضي الله عنها وإخبار أم مسطح لها بالأمر
/ فقدمنا ( المدينة ) ، فاشتكت بها شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا علم لي بذلك حتى نقهت أي : شفيت فخرجت ليلة أنا وأم مسطح للبراز بفتح الموحدة ، أي : المكان البارز وذلك قبل أن نتخذ الكنف ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت لرجل شهد ( بدرا ) ، قالت : ألم تمسعي ما قال ؟ وكان ممن خاض في حديث الإفك فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضآ على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ، دخل علي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فسلم وقد رابني منه أني لا أرى منه اللطف أي : بالتحريك الذي كنت أراه منه حين أشتكي ، إنما يدخل ويسلم ويسأل عني ، ثم ينصرف ، فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ ، وأنا أريد أن أستيقن الخبر ، فأذن لي .
مواساة أم رومان لابنتها رضي الله عنهما
فأتيت أبوي فقلت لأمي : يا أماه ، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : يا بنية ، هوني على نفسك الأمر ، فقلما حظيت امرأة عند زوجها إلا حسدت ، فقلت : سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ فبكيت تلك الليلة ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . استشارة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه بشأن عائشة رضي الله عنها فلما اصبح النبي [ صلى الله عليه وسلم ] استشار علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد في فراقي .

فأما أسامة فقال : يا رسول الله ، أهلك ، والله ما نعلم إلا خيرا . وأما علي فقال : يا رسول الله ، لن يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بريرة ، فقال ' يا بريرة ، هل رأيت في عائشة شيئا يريبك ؟ ' ، قالت : لا ، والذي بعثك بالحق .

فائدة
في حرص الصحابة على إراحة خاطره [ صلى الله عليه وسلم ]
قال العلماء : إنما رأى علي رضي الله عنه من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] انزعاجا وقلقا ، فأراد راحة خاطره .
قلت : ومما يدل على أنهم كانوا يرون انزعاج خاطره أشد عليهم من كل أمر : أن عمر لما قال للأنصاري : أجاء الغساني ؟ قال : بل أشد ، اعتزل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نساءه . خطبة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بشأن الإفك قالت عائشة / : فقام رسول [ صلى الله عليه وسلم ] في الناس واستعذر من عبد الله بن أبي ، فقال : ' من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ فوالله ما علمت على أهل بيتي إلا خيرا ، ولقد ذكروا

رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ' . فقام سعد بن معاذ سيد الأوس ، فقال : أنا والله أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك ، فقام سعد بن عبادة - وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، والله لا تقتلنه ولا تقدر على ذلك ، فتثاور الحيان في المسجد حتى هموا أن يقتتلوا ، فلم يزل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخفضهم حتى سكتوا . قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقا لي دمع ، ولا اكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة . قالت : وأصبح عندي أبواي ، وقد بكيت ليلتين ويوما ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما عندي وأنا أبكي ، إذ دخل علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فسلم ، ثم جلس عندي ، قالت : ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم قال : ' أما بعد : يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة ، فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت

بذنب ، فاستغفري الله ، وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه ' . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال : والله ما أدري ما أقول له ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقالت : والله ما أدري ما أقول له ، فقلت : والله لئن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم ذلك لا تصدقوني بذلك ، وقد استقر في أنفسكم ما تحدث به الناس ، ولئن اعترفت بذنب والله يعلم أني منه لبريئة لتصدقني ، فوالله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف والتمست اسم يعقوب فدهشت إذ قال : : ! ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ! [ سورة يوسف : 12 / 18 ] . قالت : ثم تحولت واضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلم أن الله سيبرئني ، وما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من ذلك ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما قام من مجلسه حتى أخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، من ثقل الوحي ، ثم سري عنه وهو يضحك ، وقال : ' أبشري يا عائشة ، فقد برأك الله ' ، فقلت : لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه .
قال العلماء : فبينت أنهم لا حمد لهم بالنسبة إلى براءتها لعلمهم بحسن سيرتها .

وفي رواية : وكنت أشد ما كنت غضبا . فأظهرت وجه العذر . قالت : وأنزل الله عز وجل : ( إن الذين جآءو بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) أي : في الآخرة [ سورة النور 24 / 11 ] .

فائدة
في طرق روايات حديث الإفك
روى البخاري ومسلم حديث الإفك من طريق الزهري ، عن عروة وهشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة . وانفرد البخاري بروايته له من طريق مسروق بن الأجدع ، عن أم رومان أم عائشة ، مصرحا بسماعه منها ، وهو يرد ما زعمه أبو بكر الخطيب وجماعة من الحفاظ من أن أم رومان ماتت في حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، وصلى عليها سنة ست ؛ بل حديث نزل آية التخيير وفيه : ' لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ' أي : أبا بكر وأم رومان كما صرح به في رواية الإمام أحمد يرد ما قالوه ، لأن التخيير سنة تسع . والله أعلم . (
موقف عائشة من حسان رضي الله عنهما
) قال عروة : لم يسم من أهل الإفك غيره إلا حسان بن ثابت ، ومسطحا ، وحمنة بنت جحش ، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى

قال أي : عروة وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان ، وتقول إنه الذي يقول ، [ من الوافر ] : ( فإن أبي ووالده وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء ) / وكان حسان أيضا يعتذر عن ذلك . ومن شعره فيه وفي مدح عائشة رضي الله عنها قوله ، [ من الطويل ] : ( حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ) ( عقيلة حي من لؤي بن غالب ** كرام المساعي مجدهم غير زائل ) ( مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل سوء وباطل ) ( فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ** فلا رفعت سوطي إلي أناملي ) ( وكيف وودي ما حييت ونصرتي ** لآل رسول الله زين المحافل ) ( له شرف عال على الناس كلهم ** تقاصر عنه سورة المتطاول )

قالت عائشة رضي الله عنها : فلما أنزل الله تعالى براءتي ، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه : والله لا أنفق على مسطح أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله عز وجل : ! ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) ! [ سورة النور 24 / 22 ] . فقال أبو بكر : بلى ، والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي يجرى عليه .

فائدة
في كفر من يعتقد أن عائشة رضي الله عنها لم تكن بريئة
لا يخفى أن بين حديث نزول سورة المنافقين وحديث الإفك مناسبة من وجوه : منها : إنهما وقعا في الرجوع من غزوة واحدة . ومنها : إن سورة المنافقين في براءة زيد بن أرقم عن الإفك ، وهو الكذب المتهم به ، وحديث الإفك في براءة عائشة رضي الله عنها عما قذفت به ، فهي براءة قطعية بنص القرآن ، حتى إن من يشكك في براءتها فهو كافر بالإجماع . بل قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : ! ( فخانتاهما ) ! [ سورة التحريم 66 / 10 ] - امرأة نوح نوحا ، وامرأة لوط لوطا - : لم تزن امرأة نبي قط . وفي ' الصحيحين ' أن صفوان بن المعطل قال : والله ما كشفت

عن كنف أنثى قط - أي : أنه كان حصورا لا يأتي النساء - . وسيأتي أن ( الخندق ) في شوال ، فيلزم أن حديث الإفك قبل شوال ، / لأن سعد بن معاذ أصيب ب ( الخندق ) وهو القائم بعذر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الإفك ، كما سبق .

فضل عائشة ومنزلتها من العلم
وسبق أن عائشة دخل بها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في شوال بعد ( بدر ) ، وهي بنت تسع ، فيكون سنها يوم الإفك أقل من إحدى عشرة سنة ، ومن تأمل ثباتها فيه كقولها : ( ولشأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآنا يتلى ) ، علم أن الله يزكي من يشاء : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ) [ سورة النور 24 / 21 ] . وأما علو درجتها بعد ذلك في العلم فأشهر من أن يذكر : كقولها لما قال مسروق : هل رأى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ربه ؟ [ فقالت ] : لقد قف شعري . وقولها لما قال لها عروة : وظنوا أنهم قد كذبوا - مخففة - [ فقالت ] : معاذ الله أن تكون الرسل تظن ذلك بربها .

وبمثل ذلك يعلم جلالة قدرها فيما يجب لله سبحانه من التنزيه ، ولرسله من العصمة . ومنها : إن الذي تولى كبر الحدثين معا عبد الله بن أبي ، المنافق مرة بعد أخرى ، مع ما سبق من معاشرة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] له معاشرة حسنة .
قال العلماء : وكان تقريره [ صلى الله عليه وسلم ] له من باب ترجيح المصلحة العامة ، وهي تأليف القلوب وخشية التنفير عن الإسلام المشار إليه بقوله : ' لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ' . مع ما سبق من غضب قومه له ، وأن سعد بن عبادة حملته الحمية ، هذا ولو لم يكن لسعد بعد شهود ( العقبة وبدر ) إلا قوله يوم ( بدر ) : ( والذي بعثك بالحق ، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى ( برك الغماد ) لفعلنا ، أو نخيضها البحر لأخضناها معك ) . فترجحت هذه المصلحة العامة على المفسدة الخاصة به [ صلى الله عليه وسلم ] ، لأن الأذى راجع إليه وإلى أهله ، فاحتمله لمصلحة المسلمين العامة . كما عفا عن غورث بن الحارث الذي اخترط عليه السيف . وعن اليهودية التي أطعمته السم ، وغير ذلك . والله أعلم .

غزوة الخندق أو الأحزاب
وفي هذه السنة - وهي الرابعة - كانت غزوة / ( الخندق ) ، وتسمى غزوة الأحزاب ، في شوال منها ، لحول الحول من غزوة ( أحد ) ، ثم غزوة بني قريظة .
سببها
أما غزوة ( الخندق ) فسببها : أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما أجلى بني النضير ، ولحق رئيسهم حيي بن أخطب ب ( خيبر ) ، ذهب بعد ذلك إلى ( مكة ) في رجال من قومه ، ودعوا قريشا إلى حرب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، بعد أن سألوهم : أينا أهدى سبيلا نحن أم محمد ؟ فقالوا : بل أنتم أهدى سبيلا منه . وفيهم أنزل الله تعالى : ! ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) ! - والجبت : الأصنام ، والطاغوت : طغاة المشركين - ! ( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) ! [ سورة النساء 4 / 51 - 52 ] .
خروج لمشركين
فلما أجابتهم قريش إلى ذلك تقدموا إلى قبائل قيس عيلان - بمهملة - من أهل ( الطائف ) وغطفان وهوازن وغيرهم ، فدعوهم إلى مثل ذلك ، فأجابوهم . مشاورة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه فلما علم بهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] استشار أصحابه ، فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق ، فشرع فيه ، وقسمه بين المهاجرين والأنصار ، فاجتهدوا في حفره متنافسين في رضا الله ورسوله ، بحيث لا ينصرف أحد منهم لحاجته حتى يستأذن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] .

مشاركة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه العمل وكان [ صلى الله عليه وسلم ] ينقل معهم التراب على عاتقه ، ويكابد معهم النصب والجوع . ارتجاز النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مع أصحابه ويرتجز معهم بأبيات عبد الله بن رواحة ، [ من الرجز ] . ( والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا ) ( فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لا قينا ) ( إن الذين قد بغوا علينا ** إذا أرادوا فتنة أبينا ) ويمد بها صوته : أبينا أبينا . وكانوا يرتجزون ، [ من الرجز ] : ( نحن الذين بايعوا محمدا ** على الجهاد ما بقينا أبدا ) فيجيبهم [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' اللهم لا عيش إلا عيش / الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجره وأصله : ' اللهم إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار بالنقل والمهاجره ' . وفي ' الصحيحين ' ، عن البراء بن عازب [ رضي الله عنهما ] : رأيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ينقل من تراب الخندق حتى وارى [ عني ] الغبار جلدة بطنه ، وكان كثير الشعر أي شعر أعالي الصدر لأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان دقيق المسربة .

حصار المسلمين
ولما فرغوا من الخندق وأقبلت جموع الأحزاب في عشرة الآف ، وأحاطوا ب ( المدينة ) من جميع جهاتها ، واشتد الحصار على المسلمين ، كما قال الله تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) [ سورة الأحزاب 33 / 1011 ] .
ظهور النفاق
وعند ذلك ظهر نفاق المنافقين ، واضطرب إيمان ضعفاء الإيمان ، كما قال الله تعالى : ! ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) ! الآيات [ سورة الأحزاب 33 / 12 ] . وكانوا يقولون : يعدنا محمد أن نفتح ( مكة والشام والعراق ) ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط . وامتد الحصار قريبا من شهر . ثم زاد الأمر شدة أن حيي بن أخطب تقدم إلى بني قريظة فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد .
نقض بني قريظة العهد
ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لما رأى ما أصحابه فيه من الشدة ، استشار الأنصار في أن يعطي عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري قائدي غطفان ثلث ثمار ( الميدنة ) ، على أن يفرقا الجمع ، فقال له سعد بن معاذ رضي الله عنه : أهذا أمر أمرك الله به لا بد منه ، فالسمع والطاعة لله ولرسوله ، أم هو أمر تصنعه لنا ؟ قال : ' لا ، بل لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فأردت أن أكسر شوكتهم ' ، فقال له سعد : قد كنا ونحن وهؤلاء على الشرك ، وهم لا يطمعون منا بتمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين

أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم / أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف . دعاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على الأحزاب فسر بذلك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقال : ' اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم ' . ولم يكن بين القوم قتال إلا الرمي بالنبل والحصى ، فأوقع الله بينهم التخاذل . تأييد الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بالريح ثم أرسل الله عليهم في ظلمة شديدة من الليل ريح الصبا الشديدة ، في برد شديد ، فأسقطت خيامهم ، وأطفأت نيرانهم وزلزلتهم ، حتى جالت خيولهم بعضها في بعض في تلك الظلمة ، فارتحلوا خائبين . بعث النب 5 ي [ صلى الله عليه وسلم ] حذيفة بن اليمان ليتحسس أخبار المشركين وفي ' الصحيحين ' ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من يأتيني بخبر القوم ؟ ' ، فقال الزبير : أنا ، ثم قال : ' من يأتيني بخبر القوم ؟ ' ، فقال الزبير : أنا ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير ' . زاد ابن إسحاق أن الزبير قال : فذهبت ، فدخلت بينهم ، فنادى أبو سفيان : إن هذه الظلمة ظلمة شديدة ، فليسأل كل منكم

جليسة من هو ؟ قال : فبدأت بجليسي ، وقلت : من أنت ؟ ومكثت إلى أن ارتحلوا . ثم أتيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بخبرهم . فحمد الله وأثنى عليه . فأنزل الله عز وجل مذكرا لعباده ما من به عليهم قوله تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) أي : الملائكة إلى قوله : ! ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) ! [ سورة الأحزاب 33 / 25 - 9 ] . ما ظهر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] من الآيات في حفر الخندق أمر الكدية ووقع في أيام حفر ( الخندق ) معجزات باهرة من علامات نبوته [ صلى الله عليه وسلم ] . كحديث الكدية : وهي قطعة من الجبل التي اعترضت لهم في حفر ( الخندق ) ، فلم يعمل فيها المعول ، وأعيت فيها الحيل ، فأخذ [ صلى الله عليه وسلم ] المعول وسمى الله فضربها ، فانهالت كالكثيب .

تكثير طعام أنس رضي الله عنه
وكحديث أبي طلحة : حيث بعث / أنسا بأقراص من شعير تحت إبطه ، ففتها [ صلى الله عليه وسلم ] وأطعم منها ثمانين .
تكثير طعام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
وكحديث جابر : حيث دعا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خامس خمسة ، على صاع من شعير وعناق ذبحها لهم ، لما رأى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع ، فبصق [ صلى الله عليه وسلم ] في البرمة وفي العجين ، ونادى في أهل ( الخندق ) وكانوا ألفا على ما بهم من الجوع ، فأشبعهم جميعا خبزا وثريدا ولحما .

وقال جابر : فأقسم ، بالله لقد انصرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز كما هو . إخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بانتهاء غزو قريش لهم وكقوله [ صلى الله عليه وسلم ] لما انصرفت الأحزاب : ' لن تغزونا قريش بعدها أبدا ، بل نغزوهم ولا يغزوننا ' . فكان كما قال ، وكانت تلك الشدة خاتمة الشدائد .

غزوة بني قريظة
وأما غزوة بني قريظة : فسببها ما سبق من نقضهم العهد . أمر الله تعالى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بالمسير إلى بني قريظة وفي ' الصحيحين ' ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لما رجع من ( الخندق ) ، ووضع السلاح ، واغتسل ، أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعناه ، فاخرج إليهم ، قال : ' فإلى أين ' ، قال : هاهنا . وأشار بيده إلى بني قريظة ، فخرج إليهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . ( النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يأمر أصحابه بالخروج ) وفيهما [ أي : الصحيحين ] أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ' ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها أي : ولو غربت الشمس متمسكا بظاهر اللفظ وقال بعضهم : بل نصلي ، لم يرد منا ذلك ففهم من النص معنى خصصه به فذكر ذلك للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلم يعنف واحدا منهم .


قلت : وفي ذلك فسحة للأئمة المجتهدين رضي الله عنهم ، وأن كل مجتهد مصيب أي : في الفروع إذ لم يخص النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أحدا من الفريقين بصواب ما ذهب إليه .

شأن أبي لبابة رضي الله عنه
فلما نزل [ صلى الله عليه وسلم ] بساحتهم ، وحاصرهم / واشتدت عليه وطأته ، أرسلوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بموحدة مكررة الأنصاري الأوسي ، وكانوا حلفاء الأوس ، فأرسله إليهم ، فلما أقبل عليهم تلقاه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، فقالوا : أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه يعني : أن حكمه الذبح ثم ندم في مقامه ، وعلم أنه قد خان الله ورسوله ، فلم يرجع إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، بل ذهب إلى ( المدينة ) ، وربط نفسه بسارية في المسجد ، وقال : والله لا أذوق ذواقا حتى يطلقني النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بيده ، فأقام على ذلك سبعة أيام لا يذوق ذواقا حتى خر مغشيا عليه ، فنزل فيه : ( وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) [ سورة التوبة 9 / 102 ] فتاب الله عليه ، وغفر له ورحمه ، فأطلقه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بيده ، ولم يطأ بلد بني قريظة حتى مات ، وكان يقول : والله لا أرى ببلد خنت الله ورسوله فيها ، وكان له بها أموال فتركها رضي الله عنه .
نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه
ثم إن بني قريظة سألوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يقبل منهم ما قبل من إخوانهم بني النضير ، بأن يجلو عن بلدهم ، ولهم ما أقلت الإبل ، فأبى عليهم لما تولد من حيي بن أخطب من الشر ، فنزلوا على حكمه [ صلى الله عليه وسلم ] ، فجاء حلفاؤهم من الأوس ، وقالوا : هبهم لنا يا رسول الله كما وهبت بني قينقاع لحلفائهم الخزرج ، فقال : ' ألا

ترضون أن يحكم فيهم سيدكم سعد بن معاذ ' ؟ قالوا : بلى .

توجه سعد رضي الله عنه إلى بني قريظة
وكان سعد قد أصيب بسهم يوم ( الخندق ) ، فجعله النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في خيمة في المسجد ، ليعوده عن قرب ، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار ، وأقبلوا به ، وهم يقولون : يا أبا عمرو ، أحسن في مواليك أي : حلفائك / فقال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم . فعلموا أنه قاتلهم . فلما دنا من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال لمن عنده : ' قوموا إلى سيدكم ' ، فقاموا له . فالمهاجرون قالوا : إنما أراد الأنصار ، والأنصار قالوا : قد عم بها .
حكم سعد رضي الله عنه في بني قريظة
فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء ، وقسمه الأموال ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لقد حكمت بحكم الله فيهم ' .
تنفيذ الحكم في بني قريظة
فخد لهم أخدود ، وضرب أعناق رجالهم وألقاهم فيه ، وكان عدد من قتل منهم نحو سبع مئة بتقديم السين وقيل : نحو تسع مئة بتقديم التاء . وفيهم أنزل الله تعالى متفضلا بقوله : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا . . . وأنزل الذين ظاهروهم ) أي : أعانوا

قريشا وأحزابها ! ( من أهل الكتاب من صياصيهم ) ! أ ي : حصونهم ، وأصلها قرون البقر ( وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا ) [ سورة الأحزاب 33 / 2527 ] .

وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه
وكان سعد رضي الله عنه لما أصيب يوم ( الخندق ) دعا الله تعالى فقال : ( اللهم فإن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، وإلا فاجعله لي شهادة ، ولا تمتني يا رب حتى تقر عيني من بني قريظة ) . فلما انقضى شأنهم ورجع إلى خيمته بالمسجد ، استجاب الله له دعوته ، فانفجر جرحه ، فمات فيها . ولم يشعر أحد بموته حتى نزل جبريل عليه السلام فقال : من هذا الذي فتحت لروحه أبواب السماء ، واهتز له عرش الرحمن ؟ أي : طربا لقدومه فقام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مسرعا ، فإذا سعد قد مات رضي الله عنه . زواج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش رضي الله عنها وفي السنة الخامسة : بنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأم المؤمنين زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها ، وأمها أميمة بنت عبد المطلب ؛ عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد أن زوجه الله إياها / ، وكان لزواجها شأن جليل . وذلك أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان خطبها أولا لمولاه زيد بن حارثة ، فترفعت عليه لشرف نسبها وجمالها ، وساعدها أخوها عبد الله بن جحش ، فأنزل الله عز وجل فيهما : ! ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) ! [ سورة الأحزاب 33 / 36 ] .

فلما سمعا ذلك رضيا طاعة الله ولرسوله ، فأنكحها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] زيدا ، فمكثت عنده ما شاء الله . ثم رآها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يوما متزينة فأعجبته ، ورغب في نكاحها لو طلقها زيد ، فأوقع الله كراهيتها في قلب زيد ، فجاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يستأمره في فراقها ، فقال له ' : أمسك عليك زوجك واتق الله ' أي : في طلاقها من غير سبب فأبى إلا طلاقها وطلقها . وفي ' صحيح مسلم ' ، أنها لما انقضت عدتها بعثه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إليها ليخطبها له ، قال زيد : فلما جئتها عظمت في صدري ، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها إجلالا للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فوليتها ظهري ، وقلت : يا زينب ، أرسلني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إليك يذكرك ، فقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها تصلي الاستخارة فنزل القرآن بقوله تعالى : ! ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ) ! أي : بالإسلام ! ( وأنعمت عليه ) ! أي : بالعتق ! ( أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) ! أي : مظهره ، لأنه سبق في علمه أنها ستكون لك ( وتخشى

الناس والله أحق أن تخشاه ) [ سور الأحزاب 33 / 37 ] أي : تستحي أن ذلك يظهر لئلا يشنع عليك المنافقون واليهود أنك نكحت منكوحة ابنك .

تحريم التبني
وكان من قبل قد تبنى زيدا ، ثم حرم الله ذلك عليه وعلى الأمة بقوله : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) ! ( وقوله ) ! ( ادعوهم لأبآئهم هو أقسط عند الله ) الآية [ سورة الأحزاب 33 / 40 ، 5 ] . فأمره الله بنكاحها ، بل أنكحه إياها لتقتدي به الأمة ، كما قال الله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج ادعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ) [ سورة الأحزاب 33 / 37 ] . فجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل عليها بغير استئذان ، كما في ' صحيح مسلم ' .
افتخار زينب رضي الله عنها بتزويج الله لها
وفي ' الصحيحين ' ، عن أنس بن مالك ، قال : جاء زيد بن حارثة يشكو ، فجعل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقول له : ' اتق الله وأمسك عليك زوجك ' ، قال أنس : وكانت زينب رضي الله عنها تفتخر فتقول لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن : زوجكن أهاليكن ، وزوجني ربي من فوق سبع سماوات .
فائدة
كذا روى ابن إسحاق وغيره من حديث قتادة عن أنس ما تقدم من أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رأى زينب متزينة فأعجبته ، فرغب في نكاحها لو

طلقها زيد . روى ذلك جمع من المفسرين بأسانيد قوية . وفي ' البخاري ' من حديث ثابت البناني عن أنس بن مالك أن هذه الآية : ! ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) ! [ سورة الأحزاب 33 / 37 ] نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة ولم يزد . وسبق أن الذي أخفاه هو ما أعلمه الله من أنها ستكون زوجته . وقال له : ! ( أمسك عليك زوجك ) ! استصحابا للحال إلى أن يبلغ الكتاب أجله . وليس في استحسانه لها ، ورغبته في نكاحها لو طلقها زيد قدح في منصبه الجليل حتى يوجب الطعن في الروايات الثابتة المنقولة في هذه القصة ، بل قد جعلها العلماء من أصحابنا أصلا ، استدلوا به

على أن من خصائصه [ صلى الله عليه وسلم ] وجوب طلاق من رغب في نكاحها على زوجها ، ووجوب إجابتها ، فجوزوا رغبته في نكاح منكوحة / غيره . وأن في هذه القصة مالا يخفى من التنويه بقدر المصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] ، والإعلام بعظيم مكانته عند ربه سبحانه وتعالى ، وأنه سبحانه يحب ما يحبه ، ويكره ما يكرهه ، وينوب عنه في إظهار ما استحيا من إظهاره ، علما منه سبحانه بأنه إنما يفعل ذلك قمعا لشهوته ، وردا لنفسه عن هواها ، كما قال سبحانه في الآية الأخرى : ( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق ) [ سورة الأحزاب 33 / 53 ] . فما نقله القاضي عياض عن ابن القشيري وقرره : من أن ما سبق من تجويز رغبته في نكاحها لو طلقها زيد إقدام عظيم من قائله ، وقلة

معرفة بحق النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مردود بحثا ودليلا . والله أعلم . وأعلم أن نظره إليها كان قبل نزول آية الحجاب ، لأنها نزلت في حال دخوله عليها ، مع أن الراجح أيضا عند المحققين أن النساء ما كن يحتجبن عنه [ صلى الله عليه وسلم ] . وليمة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على زينب رضي الله عنها وفي ' الصحيحين ' ، عن أنس رضي الله عنه قال : أنا أعلم الناس بشأن الحجاب ، وكان في أول ما أنزل في مبتنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بزينب ، أصبح النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بها عروسا ، فأرسلت معي أم سليم بحيس من تمر وسمن وأقط إليه في برمة ، فقال لي ضعها ، ثم أمرني فقال : ' ادع لي رجالا سماهم وادع من لقيت ' ، ففعلت الذي أمرني به ، فرجعت ، فإذا البيت غاص بأهله ، ورأيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وضع يده على تلك الحيسة ، وتكلم بما شاء الله ، ثم جعل يدعو عشرة عشرة ، يأكلون منها ، ويقول لهم : ' اذكروا اسم الله ، وليأكل كل رجل مما يليه ' ، حتى تفرقوا كلهم ، وبقي نفر يتحدثون ، ثم خرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نحو الحجرات ، وخرجت في إثره ، فقلت : إنهم قد ذهبوا ، فرجع ودخل البيت / وأرخى الستر ، وإني لفي الحجرة وهو يقول : ( يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي ) إلى قوله ( والله لا يستحي من الحق ) الآية [ سورة الأحزاب 33 / 53 ] . وفي ' صحيح البخاري ' عن أنس أيضا قال : أولم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]

حين بنى بزينب بنت جحش فأشبع الناس خبزا ولحما . وفي رواية : فأرسلت داعيا على الطعام ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو ، فقلت يا نبي الله ، ما أجد أحدا أدعوه ، فقال : ' ارفعوا طعامكم ' .

صلح الحديبية
. وفي هذه السنة وهي الخامسة أحرم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعمرة ، فصد عن البيت ، فوقع صلح الحديبية بعد بيعة الرضوان ، وذلك أنه [ صلى الله عليه وسلم ] خرج في ذي القعدة معتمرا ، فأحرم وقلد الهدي ، وأشعر البدن ، فاجتمعت قريش على أن تصده عن البيت ، فاجتمع رأيه على أن يدخلها عليهم قهرا . وفي ذلك يقول حسان بن ثابت جوابا لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عن شعره الذي هجا فيه ، [ من الوافر ] . ( هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء ) ( هجوت محمدا برا تقيا ** رسول الله شيمته الوفاء ) ( أتهجوه ولست له بكفء ؟ ** فشركما لخير كما الفداء ) ( فإن أبي ووالده وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء )

( عدمنا خيلنا إن لم تروها ** تثير النقع موردها كداء ) ( ينازعن الأعنة مصعدات ** على أكبادها الأسل الظماء ) ( فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ** وكان الفتح وانكشف الغطاء ) ( وإلا فاصبروا لضراب يوم ** يعز الله فيه من يشاء ) ( / وقال الله : قد أرسلت عبدا ** يقول الحق ليس به خفاء ) ( وجبريل رسول الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء ) إرسال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عثمان بن عفان لمفاوضة قريش ثم إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أرسل إليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فهم سفهاؤهم أن يقتلوا عثمان ، فاجازه ابن عمه أبان بن سعيد بن العاص بن أمية ، فشاع أن قريشا قتلت عثمان ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا خير في الحياة بعد عثمان ، أما والله ولئن قتلوه لأناجزنهم ' . (

بيعة الرضوان
) ودعا الناس إلى تجديد البيعة على الموت ، فبايعوه ، وكانوا ألفا وأربع مئة . ثم تحقق كذب الخبر ، فضرب [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] بإحدى يديه على الأخرى ، وقال : ' هذه لعثمان ' .

ولا يخفى ما في ذلك من الفضيلة لعثمان رضي الله عنه . وأنزل الله عز وجل ( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعوك تحت الشجرة ) [ سورة الفتح 48 / 18 ] . وكانوا تحت شجرة سمرة . ثم صالحهم عشر سنين على أن لا يدخل ( مكة ) إلا من العام القابل ، وأن من أتاه منهم مسلما رده إليهم ، ثم نحر وحلق ، ورجع إلى ( المدينة ) ، وأنزل الله في منصرفه سورة الفتح .

كيفية الصلح
وفي ' صحيح البخاري ' ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهم - يصدق كل واحد منهما حديث الآخر - قالا : خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زمن ( الحديبية ) ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته ، فزجروها ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء - أي : حزنت - فقال : ' ما خلات القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ' ، ثم قال : ' والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة - أي طريقا - يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ' ، ثم زجرها ، فوثبت ، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى ( الحديبية ) ، على ماء قليل يتبرضه الناس ، فشكوا إليه العطش ، فانتزع سهما من كنانته ، وأمرهم / أن يجعلوه فيه ، فجاش لهم بالماء الغزير حتى صدروا عنه . فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، فقال : إني تركت قريشا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال رسول

الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد أضرت بهم الحرب ، فإن شاؤوا ماددتهم - أي : صالحتهم مدة - على أن يخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر ، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا - أي : استراحوا - من الحرب مدة ، وإن أبوا ، فوالله لأقاتلنهم على هذا الأمر حتى تنفرد سالفتي - أي : صفحة عنقي - ولينفذن الله أمره ' ، قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، قال : فانطلق حتى أتى قريشا ، فحدثهم بما قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . فقام عروة بن مسعود وقال : أي قوم ، إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آتيه ، قالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ويرمق أصحابه ، فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نحواً مما قاله لبديل ، فرجع عروة إلى قريش ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، فما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم أمرا ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .

كتابة علي رضي الله عنه عقد الصلح وبنوده
فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو ، فلما أقبل قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' قد سهل الأمر ' ، فجاء سهيل فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا . فدعا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الكاتب ، وهو علي بن أبي طالب رضي الله

عنه ، فقال : ' اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ' / ، فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' اكتب باسمك اللهم ' ، ثم قال : ' هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ' ، فقال سهيل : والله ، لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' والله ، إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله ' ، ثم قال : ' على أن تخلو بيننا وبين البيت فنطوف به ' ، قال سهيل : والله ، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة - أي : قهرا - ولكن ذلك لك من العام القابل ، فكتب ، فقال سهيل : وعلى أنه لا يأتيك رجل منا ، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ، فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل ( مكة ) ، فرمى بنفسه بينهم ، وكان قد عذب في الله عذابا شديدا ، وقال : أي معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون إلى ما قد لقيت ؟ فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، وإلا فوالله لا أصالحك أبدا ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إنا لم نقض الكتاب بعد فأجزه لي ' ، فقال ما أنا بمجيزه لك .

موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شروط الصلح
قال عمر بن الخطاب : فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ ، قال : ' بلى ' ، قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ ، قال : ' بلى ' ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ ، قال : ' إني

رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري ' ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ ، قال : ' بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام ؟ ' ، قلت : لا ، قال : ' فإنك آتيه ومطوف به ' ، قال : فأتيت أبا بكر وكان / غائبا فقلت : يا أبا بكر ، أليس هذا نبي الله حقا ؟ ، قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ ، قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ ، قال : أيها الرجل ، أنه لرسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره فاستمسك بغرزه أي : بركابه فو الله إنه على الحق ، قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ أي : وها هو قد صالحهم عشر سنين قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه هذا العام ؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به . قال عمر رضي الله عنه : فعملت لذلك أعمالا أي : من البر لتكفر على جرأتي بالكلام على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لما رجع إلى ( المدينة ) لحقه رجال مسلمون من قريش فردهم ، فانقلبوا ولحقوا بسيف البحر حتى اجتمعت منهم عصابة ، فجعلوا لا تمر بهم عير لقريش إلا اعترضوها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] تناشده الله والرحم لما ضمهم إليه ، وأن من خرج إليه فهو آمن ، فضمهم .

فائدة
في أن مقام الصديقية فوق مقام أهل الإلهام
قال العلماء : هذا من أوضح الأدلة على أن أهل الإلهام يخطئون ويصيبون ، فلا بد من عرض ما وقع في قلوبهم من ذلك على الكتاب

والسنة ، كما يخطىء أهل الاجتهاد ويصيبون ، وهذا سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخطأ في أماكن كهذا الموطن . وفي وفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، وهو المشهود له بقوله [ صلى الله عليه وسلم ] له في ' الصحيحين ' : ' إيهاً يا ابن الخطاب ، فو الله ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ' . وبقوله [ صلى الله عليه وسلم ] فيهما [ أي : الصحيحين ] أيضا : ' لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون أي : ملهمون فإن يك في أمتي أحدا فإنه عمر ' . وفي رواية : ' لقد كان فيمن كان / قبلكم رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر ' . ولهذا كثيرا ما يوافق الوحي . وفي رواية : أن عمر قال : فعجبت من مطابقة كلام أبي بكر لكلام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأشار إلى أن مقام الصديقية فوق مقام أهل الإلهام يردونهم عند خطئهم إلى الحق .
قال العلماء : ولا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته [ صلى الله عليه وسلم ] ، والانقياد لأمره ، وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس ، أو كرهته النفوس ، فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الخير فيما أمر به ، وأنه عين الصلاح ، المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة ، وأنه جار على

أتم الوجوه وأكملها ، غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره .

حزن الصحابة رضي الله عنهم لصلح القوم
وفي ' الصحيحين ' ، أن سهل بن حنيف قال يوم صفين : يا أيها الناس ، اتهموا رأيكم على دينكم ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته . ولهذا قال الله تعالى في هذه القصة بعينها بعد أن قال : ! ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) ! - أي : بصدهم عن البيت وإنكارهم لاسم الله الرحمن الرحيم - إلى قوله تعالى : ! ( فعلم ما لم تعلموا ) ! - أي : من عاقبة الأمر - ! ( فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) ! - أي : صلح الحديبية - [ سورة الفتح 48 / 26 - 27 ] . فسماه فتحا كما في ' الصحيحين ' ، عن البراء بن عازب : تعدون أنتم الفتح فتح ( مكة ) ، وقد كان فتح ( مكة ) فتحا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم ( الحديبية ) .
قال العلماء : فهي المراد بالفتح في قوله تعالى : ! ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ! [ سورة الفتح 48 / 1 ] ؛ لأنها نزلت عند انصرافهم منها ، ثم قال فيها : ! ( فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) ! [ سورة الفتح 48 / 27 ] . والمراد به فتح ( خيبر ) ؛ لأنهم افتتحوها بعد انصرافهم من ( الحديبية ) ، ثم وعدهم فتح ( مكة ) بقوله : ! ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ! [ سورة النصر 110 / 1 ] .
قال العلماء : ولم يكن فتح قبل الفتح أعظم من صلح ( الحديبية ) ،

وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين في تلك الهدنة ، وسمعوا منهم أخلاق النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ومحاسن شريعته ، فأسلم منهم في تلك المدة جماعة من رؤسائهم ؛ كعمرو بن العاص وخالد بن الوليد ، في خلق كثير ، فظهر حسن اختيار الله لهم في ذلك الصلح الذي كرهوه ، مع ما سبق في علمه بأن ( مكة ) إنما يحل القتال بها لنبيه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ساعة من نهار ، وهي يوم فتحها : و ^ _ ( وقد جعل الله لكل شيء قدرا ) [ سورة الطلاق 65 / 3 ] ، ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ سورة البقرة 2 / 216 ] .

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما
وفي هذه السنة : أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما . وذلك أن عمرا بذهب إلى النجاشي ، وكان صديقا له ، فأكرمه ، فقدم على النجاشي عمرو بن أمية الضمري رسولا من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ليجهز إليه من عنده من مهاجرة ( الحبشة ) ، فسأل عمرو بن العاص من النجاشي قتل عمرو بن أمية الضمري ، فغضب النجاشي ، وقال : أتسأل مني أن أقتل رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ؟ ، قال عمرو : فقلت : أهو كذلك ؟ ، قال : نعم : فأطعني يا عمرو واتبعه ، فإنه على الحق ، وليظهرن على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، فأسلم عمرو حينئذ على يد النجاشي . ثم خرج من ( الحبشة ) عامدا إلى ( المدينة ) ، فلقي خالد بن الوليد مقبلا من ( مكة ) إلى ( المدينة ) أيضا ، فقال له : إلى أين

يا أبا سليمان ؟ قال : لأسلم ، والله فقد استبان لي الحق ، وإن الرجل لصادق ، قال : وأنا والله ما جئت إلا لأسلم ، قال عمرو : فلما قدمنا ( المدينة ) تقدم خالد فأسلم ، وبايع . ثم دنوت ، فقلت : يا رسول الله ، أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدم من ذنبي / ، فقال : ' يا عمرو إن الإسلام يجب ما كان قبله ، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها ، قال : وكان ذلك بعد ( الحديبية ) وقبل ( خيبر ) . كتب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الملوك وفي هذه السنة - [ أي : السابعة ] - أرسل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رسله بكتبه إلى ملوك الأقاليم . ومنهم : عبد الله بن حذافة السهمي ؛ بعثه بكتابه إلى كسرى ، فمزقه . ودحية بن خليفة الكلبي ؛ بعثه بكتابه إلى قيصر ، فوجد عنده أبا سفيان بن حرب . وفي ' الصحيحين ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعث بكتابه إلى كسرى ، فأمره أن يدفعه إلى عظيم

البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه مزقه . قال ابن المسيب : فدعا عليهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يمزقوا كل ممزق (

بعث دحية رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم
) . وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن ابن عباس أيضا رضي الله عنهما أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، بعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، وهو ب ( إيلياء ) ، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال حين قرأه : التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه لأسألهم عنه . قال ابن عباس : فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنه كان ب ( الشام ) في رجال من قريش قدموا تجارا في المدة التي كانت بين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبين كفار قريش ، قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض ( الشام ) ، فانطلق بي وبأصحابي ، حتى قدمنا ( إيلياء ) ، فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في مجلس ملكه ، وعليه التاج ، وإذا حوله عظماء الروم . فقال لترجمانه : سلهم : أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم إليه نسبا ، وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري . قال قيصر : أدنوه مني ، وأمر بأصحابي فجعلوا / خلف ظهري .

ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه : إني سائل هذا الرجل حديثا ، فإن كذب فكذبوه في وجهه . ثم قال لترجمانه : قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم ؟ ، قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قبله ؟ ، قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ ، قلت : لا . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ ، قلت لا . قال : فاشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ ، قلت : بل ضعفاؤهم . قال : فيزيدون أم ينقصون ؟ ، قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ ، قلت : لا . قال : فهل يغدر ؟ ، قلت : لا ، ونحن الآن في مدة لا ندري ما يصنع . قال أبو سفيان : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا انتقصه به لا أخاف أن تؤثر عني غيرها . قال : فهل قاتلتموه ؟ ، قلت : نعم . قال : فكيف كان حربه وحربكم ؟ . قلت : كان دولا وسجالا ، يدال علينا مرة وندال عليه أخرى . قال : فماذا يأمركم ؟ ، قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك

به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة . فقال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن نسبه فيكم ؛ فزعمت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها . وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول قبله ؛ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله ، قلت : رجل يأتم - أي : يقتدي - بقول قد قيل قبله . وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؛ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله . وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؛ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه من ملك ، قلت : رجل يطلب ملك آبائه . وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؛ فزعمت أن ضعفاؤهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل . وسألتك : هل يزيدون أو ينقصون ؛ فزعمت / أنهم يزيدون ، وكذلك [ أمر ] الإيمان حتى يتم . وسألتك : هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؛ فزعمت أن لا ، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد . وسألتك : هل يغدر ؛ فزعمت أن لا ، وكذلك الرسل لا يغدرون . وسألتك : هل قاتلتموه وقاتلكم ؛ فزعمت أن قد فعل ، وأن

حربة وحربكم يكون سجالا ودولا ، يدال عليكم المرة ، وتدالون عليه الأخرى ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لها العاقبة . وسألتك : بماذا يأمركم ؛ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عما كان يعبد أباؤكم ، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، وهذه صفة نبي . وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أظن أنه منكم ، وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أرجو أني أخلص إليه لتكلفت لقيه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه . ثم دعا بكتاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقرأه فإذا فيه : باسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين - أي : الرعايا - : و ! ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) ! [ سورة آل عمران 3 / 64 ] . قال أبو سفيان : فلما انقضت مقالته ، علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم ، وكثر لغطهم ، فلا أدري ماذا قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا . قال أبو سفيان : والله ، ما زلت ذليلا مستيقنا أن / أمره سيظهر ، حتى أدخل الله الإسلام في قلبي وأنا كاره .

وزاد في رواية : أن هرقل جمع عظماء الروم في دسكرة وأمر بإغلاق أبوابها ، وأشرف عليهم ، وقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم إلى الأبد ؟ أن تبايعوا لهذا النبي ، فنفروا نفرة شديدة إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فلما رآى هرقل نفرتهم ، وأيس من إيمانهم ، قال : ردوهم علي ، وقال : إني قلت مقالتي تلك أختبر بها شدتكم على دينكم ، وقد رأيت ، فسجدوا له ، ورضوا عنه .

فائدة
في أن حب الرئاسة هو الذي أضل هرقل
لا تخفى حسن سياسة هرقل . وقوة إدراكه ، وثقوب فهمه ، بما استدل به على صحة نبوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وصدقه ، من البراهين الإقناعية لو ساعده التوفيق ، ولكن غلب عليه حب الرئاسة ، وهو الداء العضال الذي غلب على إبليس فأبى واستكبر ، مع سبق الشقاوة ، ولو وفقه الله للهداية كما وفق النجاشي ، لتلطف لقومه في ظاهره ، وآمن بقلبه ، وأحسن إلى المسلمين بيده ولسانه ، فجمع بين ملك الدنيا والآخرة ، ولكنه ممن أضله الله على علم ، وكان منه ما سيأتي قريبا ؛ من خروجه في محاربة الله ورسوله في قتال جعفر وأصحابه بغزوة ( مؤتة ) ، فأكرمهم الله تعالى بالشهادة على يديه ، وأشقاه . والعياذ بالله تعالى . ! ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) ! [ سورة آل عمران 3 / 8 ] .
غزوة خيبر
وفي أول السنة السادسة في المحرم : افتتح النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( خيبر ) ، وهو اسم جامع لحصون وقرى ؛ بينها وبين ( المدينة ) ثلاث مراحل .
سببها
لما سبق أن حيي بن أخطب لحق بها ، وحزب قريشا والأحزاب . الإغارة على خيبر وبشارة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بفتحها فسار إليهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلما نزل بساحتهم قال : ' الله أكبر ، خربت خيبر - أي : أهلها - إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح / المنذرين ' ، قالها ثلاثا . (
افتتاح حصونها
) ثم أقبل على حصونها ، يقاتلها ويفتتحها حصنا حصنا ، حتى انتهى إلى حصن لهم يسمى السلالم ، وكان أعظمها وأوسعها أموالا ، فحاصرهم بضع عشرة ليلة ، واشتد الحصار عليه والقتال . وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد أخذته شقيقة ، فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ الراية أبو بكر فقاتل قتالا شديدا ، ثم رجع ولم يفتح عليه ، ثم أخذها عمر فقاتل قتالا شديدا ، ثم رجع ولم يفتح عليه .
شأن علي رضي الله عنه
وكان علي رضي الله عنه قد تخلف ب ( المدينة ) لرمد كان بعينيه ، ثم لحق بالمسلمين ، فلما كان مساء الليلة التي فتح الله في صباحها الحصن ، قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ' .

فبات الناس ليلتهم يخوضون أيهم يعطاها . قال عمر : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ .

علي رضي الله عنه وباب الحصن
فلما أصبحوا غدوا على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، وكلهم يرجوا أن يعطاها فقال : ' أين علي بن أبي طالب ؟ ' ، قال الراوي : فإذا نحن بعلي قد أقبل وما كنا نرجوه ، فقالوا : هاهو يشتكي عينيه ، فدعاه وبصق في عينيه ، فبرأ لوقته ، حتى كأن لم يكن به وجع ، ثم أعطاه الراية ، فتقدم إلى الحصن ، فأشرف عليه رجل من اليهود ، فقال : من أنت ؟ ، قال : أنا علي ، قال : علوتم الآن ورب موسى وهارون ، فبرز له رئيسهم مرحب ، فضرب ترس علي فطرحه ، فتناول علي بابا كان عند الحصن فتترس به ، ثم ضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه ، ولم يزل الباب بيد علي رضي الله عنه إلى أن انقضى القتال ، ثم طرحه . قال أبو رافع [ مولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ] : فلقد رأيتني ثامن ثمانية نجهد أن نقلب ذلك الباب فلم نقلبه . مصالحة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أهل خيبر فلما أيقن أهل الحصن بالهكلة ، استسلموا ، وسألوا من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحقن دماءهم ، ففعل . وسمع بهم أهل ( فدك ) / فأرسلوا إليه يطلبون منه ذلك ، ففعله لهم . فكانت ( خيبر ) غنيمة و ( فدك ) فيئا خالصة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب .
قسمة غنائم خيبر
ثم قسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بين المسلمين ، وكانوا مئة فارس وأربع عشرة مئة راجل ، فجعل للفارس ثلاثة أسهم ؛ سهما له وسهمين لفرسه . ولم يغب أحد من أهل ( الحديبية ) عن ( خيبر ) إلا جابر بن عبد الله ، فأسهم له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفرح النبي [ صلى الله عليه وسلم ] به وقدم عليه جعفر في مهاجرة ( الحبشة ) بعد الوقعة ، وقبل القسمة ، فأسهم لهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . ولما أقبل جعفر ، قام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقبل بين عينيه واعتنقه ، وقال : ' ما أدري بأيهما أسر : بفتح ( خيبر ) أم بقدوم جعفر ؟ ' .
رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم
وحدث المسلمين من فتح ( خيبر ) الرخاء العظيم ، وكانت مع المهاجرين منائح من الأنصار ، فردوها عليهم . قال ابن عمر : ما شبعنا من التمر حتى فتحنا ( خيبر ) . مصالحة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أهل خيبر على النصف من أموالهم وعامل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يهود ( خيبر ) على أن يعملوها ، ويكفوا المسلمين مئونتها ما داموا مشغولين بالجهاد ، ولهم نصف ما يخرج منها من الثمار .
خبر الشاة المسمومة
وأهدت امرأة من اليهود للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] شاة مشوية مسمومة ، وطعاما مسموما ، وأكثرت من السم في الذراع ، لما بلغها أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان يعجبه الذراع ، فلما أكلوا منها ، ورفع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الذراع

وأخذ منها لقمة في فمه ولم يبتلعها ، قال : ' إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ' ، ولم يبتلع أحد من القوم لقمة إلا بشر بن البراء ، ثم دعا بالمرأة فاعترفت ، فقال : ' ما حملك على ذلك ؟ ' ، قالت : إنك بلغت من قومي ما لا يخفى عليك ، فقلت : إن كان ملكا أرحت الناس منه ، وإن كان نبيا لم يضره ، فقال للقوم : ' كلوا باسم الله ' ، وتجاوز عنها ، فأكلوا ، ولم يضرهم شيء ، إلا بشر فمات من لقمته / الأولى ، فلما مات قتلت به قصاصا . قال أنس : فما زلت أعرف السم في لهوات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أكلة ( خيبر ) . زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بصفية بنت حيي رضي الله عنها واصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] من سبايا ( خيبر ) أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها . وكانت يوم فتح ( خيبر ) عروسا على ابن عمها ، فرأت أن القمر وقع في حجرها ، وقصت رؤياها على زوجها ، فلطمها على وجنتها لطمة خضرت منها عينها ، وقال : ما هذا إلا أنك تتمنين محمدا ملك العرب ، فقتل أبوها وزوجها يومئذ ، وأتي بها إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبها أثر اللطمة ، فاستبرأها حيضة ، وحلت له على مرجعه إلى ( المدينة ) في أثناء الطريق ، فدخل بها ، وأولم عليها ، وأردفها خلفه على البعير ، وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يضع ركبته لها إذا أرادت أن تركب ، فتضع رجلها على ركبته ثم تركب . ودخل ( المدينة ) وهو مردفها خلفه . قال ابن عمر : وما زال يعتذر إليها من قتل أبيها ، ليذهب ما في نفسها رضي الله عنها .

فائدة
في أحد وعير
وفي الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لما قدم ( المدينة ) راجعا من ( خيبر ) وبدا له ( أحد ) ، قال : ' هذا جبل يحبنا ونحبه ' . زاد بعضهم : ' وعير جبل يبغضنا ونبغضه ' .
قال المحققون : لا مانع من إسناد الحب الحقيقي إلى الجبل ، كما سخر الله الجبال لداود يسبحن ، وردوا على من فسره بأن المراد : هذا جبل قوم يحبوننا ونحبهم بقوله : ' وعير جبل يبغضنا ونبغضه ' ، وهو من جبال ( المدينة ) أيضا مقابل لأحد وما بينهما حرم . والله أعلم .
عمرة القضاء
وفي ذي القعدة من هذه السنة [ أي : السابعة ] : اعتمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عمرة القضاء ، وأقام ب ( مكة ) ثلاثا . زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها ثم رجع فدخل بميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها ، عند منصرفه من ( مكة ) ب ( سرف ) ، وهو مكان بين ( التنعيم ومر الظهران ) ، وبه ماتت رضي الله عنها ، فقبرها هناك / . وفي ' الصحيحين ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تزوج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ميمونة في عمرة القضاء ، وهو محرم ، وبنى بها وهو حلال ب ( سرف ) ، وماتت ب ( سرف ) .
وفد عبد القيس
وفي السنة السابعة في رجب منها : قدم على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من ( البحرين ) وفد عبد القيس ، ورئيسهم الأشج ، فلما دخلوا عليه ، قال : ' مرحبا بالقوم ، غير خزايا ولا ندامى ' ، وأمرهم ونهاهم ، ثم قال للأشج : ' إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة ' .
بناء المنبر وحنين الجذع
وفيها [ أي : السنة السابعة ] : اتخذ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المنبر ، وكان قبله إذا خطب يستند إلى جذع نخلة ، فلما عدل عن الجذع إلى المنبر سمعوا للجذع صوتا كصوت العشار ، فارتج المسجد

لخواره ، وكثر بكاء الناس حتى وضع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يده عليه فسكت ، وقال : ' إن هذا بكى لما فقد من ذكر الله ، والذي نفسي بيده ، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة ' . ثم أمر به فدفن تحت المنبر . (

غزوة مؤته
) وفيها [ أي : السنة الثامنة ] في جمادى الأولى منها : كانت غزوة ( مؤتة ) بضم الميم مهموزا وبفوقية وهي قرية من قرى ( البلقاء بالشام ) دون ( دمشق ) ، انتهت غزوتهم إليها ، وأكرم الله عز وجل فيها زيدا وجعفرا وابن رواحة بالشهادة . وكان من خبرها أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعث جيشا ، وهم ثلاثة آلاف ، وأمر عليهم زيد بن حارثة ، وقال : ' إن قتل زيد فجعفر ، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ' . عدة العدو ، وتشاور المسلمين فساروا إلى ( الشام ) فلقيهم هرقل في مئتي ألف ، فتشاور المسلمون في أن يراجعوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيمدهم أو يأمرهم بأمره فشجعهم عبد الله بن رواحة ، وقال : يا قوم ، إنما هي إحدى الحسنيين : إما النصر ، وإما الشهادة ، فقالوا : صدقت .
ابتداء القتال واستشهاد الأمراء الثلاثة
فمضوا حتى التقوا ب ( مؤتة ) ، فتقدم زيد فقاتل بالراية حتى قتل . فأخذها جعفر فقاتل قتالا شديدا ، وهو فارس / ، فلما أحاطوا به نزل عن فرسه فعقرها ، فكان أول من عقر فرسا في الإسلام ، ثم قاتل حتى قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله ، فقطعت أيضا ، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل . فعوضه الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة . فسمي الطيار . رواه الترمذي والحاكم .

وفي ' البخاري ' ، عن ابن عمر قال : كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفرا ، فوجدناه ما في جسده بضعا وتسعين طعنه من ضربة ورمية بسهم ، ليس منها شيء في دبره . ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فوجد من نفسه كراهة للموت ، فأنشد شعرا ، [ من الرجز ] : ( يا نفس إلا تقتلي تموتي ** هذا حمام الموت قد صليت ) ( وما تمنيت فقد أعطيت ** إن تفعلي فعلهما هديت ) ثم قاتل حتى قتل .

تولي خالد بن الوليد رضي الله عنه قيادة الجيش
فأخذ الراية خالد بن الوليد من غير مشورة ، وقاتل قتالا شديدا ، ودافع عن المسلمين ، حتى انحاز بهم إلى جبل ، ونجاهم الله . ولم يستشهد منهم يومئذ إلا ثمانية ، منهم الأمراء الثلاثة . نعي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] زيدا وجعفرا وابن رواحة وفي ' صحيح البخاري ' ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نعاهم للناس يوم أصيبوا ، وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ' أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها ابن رواحة فاصيب ' ، وعيناه تذرفان . وقال : ' ما يسرهم أنهم عندنا ' ، ثم قال : ' ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله تعالى ، حتى فتح الله عليهم ' أي : فرج الله عنهم بسببه . وفيه [ أي : صحيح البخاري ] أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر قال : السلام عليك يا ابن ذي الجناحين .

وفيه [ أي : صحيح البخاري ] عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : لقد انقطعت في يدي يوم ( مؤتة ) تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية وهي العاشرة / .

فائدة
في تأويل الجناحين الذين لقب بهما جعفر
قال السهيلي : ( قد يتبادر من ذكر الجناحين إلى الذهن أنهما كجناحي الطائر ، وإنما المراد أن جعفرا أعطي صفة الملائكة ، وكذا أجنحة الملائكة ، إنما هي صفات لا تعلم حقيقتها ) . والله أعلم .
رثاء حسان بن ثابت جعفرا رضي الله عنهما
ومما رثى به حسان جعفرا رضي الله عنهما قوله [ من الكامل ] ( ولقد بكيت وعز مهلك جعفر ** حب النبي على البرية كلها ) ( ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي ** من للجلاد لدى العقاب وظلها ) ( بالبيض حين تسل من أغمادها ** ضربا وإنهال الرماح وعلها ) ( بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ** خير البرية كلها وأجلها )
فتح مكة
وفي رمضان من هذه السنة وهي : الثامنة : كان فتح ( مكة ) ،

ويسمى : فتح الفتوح ؛ لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش وفتح ( مكة ) ، وتقول : هم أهل الحرم ، وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل وغيرهم ، فإن سلط الله عليهم محمدا فهو رسول الله حقا . فلما فتح الله ( مكة ) على يد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دخل الناس في دين الله أفواجا ، كما وعد الله نبيه ذلك ، وجعل ذلك علامة قرب أجله ، بقوله : ! ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ! إلى آخر السورة [ سورة النصر 110 / 1 ] .

سبب الغزوة
وسبب غزوة الفتح انتقاض صلح ( الحديبية ) ، وأن خزاعة كان بينها وبين بني بكر عداوة ، وكانت خزاعة دخلت يوم صلح ( الحديبية ) في عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، مسلمهم وكافرهم ، لأنهم كانوا في الجاهلية حلفاء لبني هاشم ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، فمكثوا على ذلك نحو ثمانية عشر شهرا ، ثم بيتت بنو بكر خزاعة في شعبان ، على ماء لهم يسمى الوتير من ناحية ( عرنة ) ، وأعانتهم قريش مختفين في سواد الليل ، فقتلوا رجالا من خزاعة ، فركب عمرو بن سالم الخزاعي ثم الكعبي إلى رسول الله / [ صلى الله عليه وسلم ] ، فوقف عليه وهو في المسجد بين ظهراني الناس ، وأنشده ، [ من الرجز ] : ( يا رب إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا )

فانصر هداك الله نصرا أعتدا ** وادع عباد الله يأتوا مددا ) ( فيهم رسول الله قد تجردا ** في فيلق كالبحر يجري مزبدا ) ( إن قريشا أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكدا ) ( وبيتونا ركعا وسجدا ** وزعموا أن لست أدعو أحدا ) ( وهم أذل وأقل عددا ** ) ( هم بيتونا بالوتير هجدا ** ) ( وقتلونا ركعا وسجدا ** ) فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' نصرت يا عمرو ' .

قدوم أبي سفيان ليجدد الصلح
فبينما هو عندهم إذ قدم أبو سفيان بن حرب من ( مكة ) يريد تجديد العهد والزيادة في مدة الصلح . فأبى عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ورده ، فانصرف . ولعل أبا سفيان لما أدخل في حديث هرقل : ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع ؛ عوقب بإدخال الغدر عليه من جهته . تهيؤ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للغزو وكتمانه الأمر ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لما دخل رمضان آذن الناس بالجهاز إلى ( مكة ) وآذن من حوله / ، من الأعراب ، وقال : ' اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ' . أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وفي ' الصحيحين ' عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنا والزبير والمقداد فقال : ' انطلقوا حتى تأتوا ( روضة خاخ )

أي : بمعجمة مكررة ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ' ، فأدركناها فأخذناه منها ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين ب ( مكة ) ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال له [ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' ما حملك على هذا ؟ ' ، فقال : أحببت أن يكون لي عندهم يد . فصدقة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعذره / رضي الله عنه . خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لفتح مكة ولقاؤه العباس في الطريق وخرج [ صلى الله عليه وسلم ] لعشر مضين من رمضان ، فلما بلغ ( الجحفة ) لقيه عمه العباس مهاجرا بأهله وبيته وقد كان أسر يوم ( بدر ) وفادى بنفسه وأسلم ، واستأذن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يقيم ب ( مكة ) على سقايته ، فأذن له فرد عمه معه .

إسلام أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه
ولقيه أيضا ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فأسلم ، واعتذر إليه مما كان جرى منه ، فعذره ، ورده معه .
اعتذار أبي سفيان بن الحارث عما كان منه قبل إسلامه
وأنشد أبو سفيان شعرا ، [ من الطويل ] :

( لعمرك إني يوم أحمل راية ** لتغلب خيل اللات خيل محمد ) ( لكالمدلج الحيران أظلم ليله ** فهذا أواني حين أهدى وأهتدي ) ( هداني هاد غير نفسي ودلني ** على الحق من طردت كل مطرد ) ( أصد وأناي جاهدا عن محمد ** وأدعى وإن لم أنتسب من محمد ) نزول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مر الظهران ، وتحسس قريش عليه ثم مضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى نزل ( مر الظهران ) في عشرة الآف ، فأدركت العباس الرقة لقريش ، فركب بغلة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الليل بإذنه ، رجاء أن يصادف أحدا بعثه إلى قريش ، فيطلبوا الأمان من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . فلقي أبا سفيان بن حرب في نفر من قريش ، وقد كانوا خرجوا يتحسسون الأخبار ، فرأوا نيران الجيش واستنكروها ، حتى قال أبو سفيان : والله لكأنها نيران أهل ( عرفة ) ، ولا شعور لهم بمخرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إليهم . فأخبرهم العباس الخبر ، فقال له أبو سفيان : فما الحيلة ؟ قال : الحيلة أن ترد من معك ليخبروا أهل ( مكة ) ، وتركب أنت معي حتى آتي بك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأستأمنه لك .

إسلام أبي سفيان على يد العباس رضي الله عنهما
فركب معه ورجع أصحابه ، فلما انتهى به إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال للعباس : ' اذهب به إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ' ، فلما اصبح جاء به ، فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ألم يأن لك يا أبا سفيان / أن تسلم ؟ ' ، قال : بلى ، بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأرحمك ، وأسلم . فقال له العباس : يا رسول الله ، إن ابا سفيان رجل يحب الفخر والخيلاء ، فاجعل له شيئا ، فقال : ' نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ' . عرض جيوش الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] على أبي سفيان وفي ' صحيح البخاري ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال للعباس : ' احبس

أبا سفيان عند حطم الخيل ، حتى ينظر إلى جنود الله ' ، فحبسه . ثم سار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فجعلت الكتائب تمر كتيبة كتيبة ، حتى مرت به كتيبة لم ير مثلها قط ، فقال يا عباس من هؤلاء ؟ ، فقال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية ، وهو يقول اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل ( الكعبة ) . ثم جاءت كتيبة وهي أقلهم عددا ، وأجلهم قدرا ، فيها المصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] ووزراوه من خواص المهاجرين والراية مع الزبير بن العوام . فقال أبو سفيان للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : يا رسول الله ، ألم تسمع إلى ما قال سعد بن عبادة ؟ ، قال : ' ما قال ؟ ' ، قال : قال : اليوم تستحل ( الكعبة ) . فقال : ' كذب سعد ، ولكن : هذا يوم تعظم فيه ( الكعبة ) ' . وأمر [ صلى الله عليه وسلم ] الزبير أن يركز رأيته ب ( الحجون ) . وتفرق أهل ( مكة ) ، فمنهم من لجأ إلى المسجد ، ومنهم من أغلق عليه داره . دخول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مكة ودخل [ صلى الله عليه وسلم ] من أعلى ( مكة ) ، وذلك لعشر بقين من رمضان المعظم ، ولم يعرض له قتال .

دخول المسلمين مكة
وأمر خالد بن الوليد في جمع من المهاجرين أن يدخلوا من أسفلها ، فعرض لهم عكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ؛ في جمع من قريش ، فهزمهم خالد ، وقتل منهم ثلاثة عشر رجلا ، وقد كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عهد إلى أمرائه أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم .

إهدار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] دماء نفر من المشركين إلا أنه أمر بقتل جماعة سماهم ، فقال : ' اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ' . وفي ' صحيح البخاري ' ، أن رجلا / أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال : ' اقتلوه ' . وزاد أحمد والبيهقي : فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .

إجارة أم هانىء رضي الله عنها رجلين من قريش
وفي ' الصحيحين ' أن أم هانىء أجارت ابن هبيرة ، فأراد علي قتله ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء ' . قلت : وفي هذا دليل على أن حرمة المؤمن عند الله ورسوله أشد من حرمة ( الكعبة ) المعظمة . طواف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالبيت العتيق وتطهيره المسجد من الأصنام ثم دخل [ صلى الله عليه وسلم ] المسجد ، وهو راكب راحلته ، منكس رأسه تواضعا لله تعالى ، فطاف بالبيت سبعا راكبا ، يستلم الركن بمحجن في يديه . وكان حول البيت ثلاث مئة وستون صنما ، مثبتة بالرصاص ، فجعل [ صلى الله عليه وسلم ] يطعنها بالمحجن ويقول : ! ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ! [ سورة الإسراء 17 / 81 ] .

فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع إلى قفاه ، ولا إلى قفاه إلا وقع لوجهه . دخوله [ صلى الله عليه وسلم ] الكعبة وكسر الأوثان وطمس الصور ولما فرغ من طوافه دعا بالمفتاح ، وكان بيد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن شيبة بن عبد الدار ، وبيد ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن شيبة بن عبد الدار بن قصي ، ففتح البيت ، ودخل ، وصلى فيه ركعتين ، وكبر في نواحيه ، ودعا ، وكسر ما فيه من الأوثان ، وطمس الصور ، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام . إعطاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مفتاح الكعبة إلى أهله فسأله العباس رضي الله عنه أن يجمع له سدانة البيت إلى السقاية ، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى : ! ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ! الآية [ سورة النساء 4 / 58 ] . فخرج وهو يتلوها ، فدعا عثمان وشيبة فأعطاهما المفتاح ، وقال : ' خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ' . خطبة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على باب الكعبة ثم قام [ صلى الله عليه وسلم ] على باب ( الكعبة ) وقال : ' لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ' . ثم قال : ' يا معشر قريش ؛ ما ترون أني فاعل بكم ؟ ' ، قالوا : خيرا ، أخ كريم / وابن أخ كريم ، فقال : ' اذهبوا فأنتم الطلقاء ، [ أقول كما قال يوسف ] : ! ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ! [ سورة يوسف 12 / 92 ] . ثم قال : ' يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة

الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ' ، ثم تلا : ! ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) ! [ سورة الحجرات 49 / 13 ] . ( خطبة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] غداة الفتح ) وفي ' صحيح البخاري ومسلم ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إن ( مكة ) حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لا مرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ' . وفيها [ أي : السنة الثامنة ] : كانت

غزوة حنين
وأوطاس ، ثم غزوة الطائف ، ووفد هوازن ، وعمرة الجعرانة ، ومولد إبراهيم ، وكسوف الشمس . ( غزوة حنين ) أما غزوة حنين : فإنه [ صلى الله عليه وسلم ] لما فرغ من الفتح بلغه أن هوازن أقبلت لحربه في أربعة آلاف ، عليهم مالك بن عوف النصري بمعجمة فأجمع [ صلى الله عليه وسلم ] على المسير إليهم ، وأرسل إلى صفوان بن أمية ليستعير منه السلاح ، وكان صفوان لما عرض عليه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الإسلام ، قال : أمهلني شهرا أرى فيه رأيي ، قال : ' قد أمهلتك أربعة أشهر ' ، وكان عنده مئة درع ، فقال : أغصبا يا محمد ؟

قال : ' لا ، بل عارية مضمونة ' ، فأعطاه مئة درع مع ما يتبعها من السلاح . خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من مكة إلى حنين ثم خرج [ صلى الله عليه وسلم ] بجيش الفتح وألفين ممن أسلم بعد الفتح ، وكان مدة إقامته ب ( مكة ) بعد الفتح نحو ثمانية عشر يوما ، وكان يقصر فيها الصلاة . هزيمة المسلمين ، وثبات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبعض أصحابه فلما انتهى إلى ( حنين ) وهو واد بين ( مكة والطائف ) ، في غلس الصبح ، وجد المشركين قد سبقوه إليه ، وكمنوا في شعابه ، فلما توسط المسلمون في الوادي ، / شد المشركون عليهم شدة رجل واحد ، فانشمر المسلمون راجعين ، لا يلوي منهم أحد على أحد ، وكان سبب الهزيمة مسلمي الفتح . وثبت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، وثبت معه جماعة من أهل بيته ، منهم : عمه العباس وابنه الفضل ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخوه ربيعة . ومن المهاجرين أبو بكر وعمر رضي الله عنهم . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، أن رجلا قال للبراء بن عازب رضي الله عنهما : أفررتم عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم ( حنين ) ؟ ، قال : لكن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم يفر ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء ، وابن عمه أبو سفيان آخذ بزمامها ، وهو يقول : ( أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب )

فما رئي في الناس يومئذ أشد منه . وروى ابن إسحاق عن العباس رضي الله عنه قال : شهدت مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم ( حنين ) ، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث ، فلم نفارقه .

عودة المسلمين واحتدام القتال
فلما التقى الجمعان ، ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله يركض بغلته قبل الكفار ، قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلته ، أكفها إرادة أن لا تسرع ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يا عباس ، ناد أصحاب السمرة ' أي : أهل بيعة الرضوان وكان العباس صيتا ، فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة ؟ ، فقالوا : يا لبيك ، يا لبيك ، فو الله لكأن عطفتهم علي حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فاقتلوا هم والكفار ، فنظر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى قتالهم ، فقال : ' هذا حين حمي الوطيس ' . رمي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المشركين بالحصى ثم أخذ [ صلى الله عليه وسلم ] كفاً من الحصباء فرمى به وجوه الكفار ، وقال : ' شاهت الوجوه ' ، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملئت عينه ترابا من تلك القبضة ، فولوا مدبرين ، وهزمهم الله .
ما نزل من القرآن في يوم حنين
وأنزل الله في ذلك : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم

حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) ، وكانوا قالوا : لن نغلب اليوم من قلة ( فلم تغن عنكم / شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) أي : من سعتها ( ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) [ سورة التوبة 9 / 2526 ] أي : جبريل : ( بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) أي : معلمين . شماتة أهل مكة بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه ولما انهزم المسلمون شمت بهم كثير من مسلمي الفتح ، فقال أخ لصفوان بن أمية من أمه : اليوم بطل سحر محمد ، فقال له صفوان : اسكت ، فض الله فاك - أي كسره الله - فو الله لأن يربني أي : يسودني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن . محاولة شيبة قتل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ثم إسلامه وعن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري رضي الله عنه قال : استدبرت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم ( حنين ) لأقتله ، فأطلعه الله على ما في نفسي ، فالتفت إلي ، فضرب بيده على صدري ، وقال : ' أعيذك بالله يا شيبة ' . فارتعدت فرائصي ، فرفع يده ، وهو أحب إلي من سمعي وبصري ، وقلت : أشهد أنك رسول الله ، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي .

سرية أوطاس
وأما بعث أبي عامر الأشعري إلى ( أوطاس ) ، وكانت هوازن قد خرجت معها بأهليها وأموالها ، فلما انهزموا انحاز منهم طائفة

بالأهل والمال إلى ناحية ( أوطاس ) ، عليهم دريد بن الصمة ، فبعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أبا عامر الأشعري في جيش من المسلمين في آثارهم ، فأدركوهم ، فناوشوهم القتال ، فاستشهد أبو عامر بعد أن قتل تسعة إخوة ، فقتله عاشرهم ، فأخذ الراية منه ابن أخيه أبو موسى الأشعري باستخلاف منه ، ففتح الله على يديه ، وقتل قاتل أبي عامر ، وهزمهم ، وغنم أموالهم ، وكانت سباياهم من النساء والصبيان نحو ست ة آلاف ، وأما الإبل والغنم فلا تحصر عددا ، فأمر بها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فحبست له ب ( الجعرانة ) . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : لما فرغ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من ( حنين ) بعث أبا عامر على جيش إلى ( أوطاس ) ، فلقي دريد أي : مصغرا ابن الصمة ، فقتل / دريد ، وهزم الله أصحابه ، قال أبو موسى : وبعثني مع أبي عامر ، فرمي أبو عامر في ركبته بسهم ، فأثبته في ركبته فانتهيت إليه فقلت : يا عم ، من رماك ؟ ، فقال : ذاك قاتلي ، فقصدت إليه ، فقتلته ، ثم قلت لأبي عامر : قد قتل الله صاحبك ، فقال : فانزع هذا السهم ، وأقرىء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عني السلام ، وقل له يستغفر لي ، واستخلفني أبو عامر على الناس ، ثم مات ، فرجعت ، فأتيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبرته ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ، فقال ' اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ، اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس ' ، فقلت : ولي يا رسول الله فاستغفر ، فقال : ' اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه ، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما ' .

(

غزوة الطائف
) وأما غزوة الطائف : فإنه [ صلى الله عليه وسلم ] توجه إليها لقتال من شرد إليها من ( حنين ) ، ومر على طريقه بحصن مالك بن عوف النصري السابق ذكره ، قائد هوازن ، فهدمه ، ثم ارتحل ، فحاصر أهل ( الطائف ) بضعا وعشرين ليلة من شهر شوال ، وقاتلهم قتالا شديدا ، فلم يظفر بهم ، بعد أن رماهم بالمنجنيق ، وحرق أعنابهم / فلما انصرف قيل له : ادع عليهم / فقال : ' اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ' . فهداهم الله بدعوته ، فأتوا إلى ( المدينة ) مسلمين ، بعد أن تقدم قبلهم مالك بن عوف فأسلم ، ثم رجع إليهم ، فدعاهم إلى الله ، وأتى بهم إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مسلمين ، ومن شعر مالك بن عوف حين أسلم ، [ من الكامل ] : ( ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ** في الناس كلهم كمثل محمد ) ( أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي ** ومتى تشأ يخبرك عما في غد ) ( وإذا الكتيبة عردت أنيابها ** بالسمهري وضرب كل مهند ) ( فكأنه ليث على أشباله ** وسط الهباءة خادر في مرصد )
ارتحال المسلمين
وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن عبد الله بن عمر بن

الخطاب رضي الله / عنهما قال : لما حاصر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( الطائف ) ، فلم ينل منهم شيئا ، قال : ' إنا قافلون غدا إن شاء الله ' ، فثقل ذلك على أصحابه ، وقالوا : نذهب ولا نفتحه ؟ ، فقال : ' اغدوا على القتال ' فغدوا ، فأصابهم جراح ، فقال : ' إنا قافلون غدا إن شاء الله ' ، فأعجبهم ذلك ، فضحك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . نزوله [ صلى الله عليه وسلم ] بالجعرانة وقسم الغنائم ولما رجع [ صلى الله عليه وسلم ] من ( الطائف ) نزل ب ( الجعرانة ) فقسم بها غنائم ( حنين ) ، وأعطى جماعة من الرؤساء والمؤلفة قلوبهم مئة مئة من الإبل ، منهم من قريش : أبو سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية . ومن غير قريش : عيينة بن حصن الفزاري ، والأقرع بن حابس . العباس بن مرداس يسخط عطاءه ، ويعاتب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيه وأعطى [ صلى الله عليه وسلم ] العباس بن مرداس الشاعر خمسين من الإبل ، فسخطها ، إذ لم يجعله كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، وأنشد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أبياتا يقول فيها ، [ من المتقارب ] : ( أتجعل نهبي ونهب العبيد ** بين عيينة والأقرع ) ( وما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع ) ( وما كنت دون أمرىء منهما ** ومن تضع اليوم لا يرفع ) فأكمل له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مئة . (

توزيع الغنائم على سائر المسلمين
) وأما الغنم : فأعطى منها بغير عدد ، حتى أن أعرابيا رأى غنما بين جبلين ، فقال : ما أكثر هذه الأغنام ؟ ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' هي لك ' ، فأتى بها قومه ، وقال لهم : أسلموا ، فو الله إن محمدا

ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر . وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] نادى قبل القسمة : ' من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه ' ، قال أبو قتادة : فقمت ألتمس بينة على قتيلي ، فلم أر أحدا يشهد لي فجلست ، ثم بدا لي ، فذكرت أمره لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال رجل : سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي ، فأرضه منه ، فقال أبو بكر وعند أحمد : فقال عمر وجمع بينهما بأن كلا منهما قال : كلا والله ، لا نعطيه أضيبعا من قريش تصغير ضبع / بمعجمة وندع أسدا من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله ، فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأداه إلي . و ولما قسم هذه المقاسم ، وأعطى هذه العطايا ، شرهت أنفس الأعراب وجفاة العرب ، مع ضعف إيمانهم حينئذ إلى المال ، فألحوا عليه [ صلى الله عليه وسلم ] في السؤال ، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه ، فقال : ' أعطوني ردائي ، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا ' . رواه البخاري .

أمر ذي الخويصرة التميمي
وروى أيضا [ أي : البخاري ] أن أعرابيا قال : اعدل ، فقال : ' ويحك ! إن لم أعدل فمن يعدل وأنا حر ؟ ! ' ، قال : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' رحم الله أخي موسى ، قد

أوذي بأكثر من هذا فصبر ' . مقالة الأنصار بشأن الغنائم وخطبة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيهم وكان [ صلى الله عليه وسلم ] وكل الأنصار إلى إيمانهم ، فلم يعطهم من هذه المقاسم شيئا ، فوجدوا وجدا شديدا ، ووقع في أنفسهم ما لم يقع قبل ذلك . وأنشده حسان بن ثابت في ذلك قوله ، [ من البسيط ] : ( [ زادت هموم ] فدمع العين ينحدر ** سحا إذا حفلته عبرة درر ) ( وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن ** للمؤمنين إذا ما عدد البشر ) ( علام تدعى سليم وهي نازحة ** قدام قوم هم آووا وهم نصروا ) ( سماهم الله أنصارا لنصرهم ** دين الهدى وعوان الحرب تستعر ) ( وسارعوا في سبيل الله واعترفوا ** للنائبات وما خاموا وما ضجروا ) ( والناس ألب علينا فيك ليس لنا ** إلا السيوف وأطراف القنا وزر )

( نجالد الناس لا نبقي على أحد ** ولا نضيع ما توحي به السور ) ثم إنه [ صلى الله عليه وسلم ] جمعهم وخطبهم ، واعتذر إليهم ، حتى طابت أنفسهم . كما رواه البخاري ومسلم ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال ناس من الأنصار حين طفق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعطي رجالا من أموال هوازن المئة من الإبل ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله ! يعطي قريشا / ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ، قال أنس : فحدث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بمقالتهم ، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ، ولم يدع معهم أحدا غيرهم ، فلما اجتمعوا قام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : ' ما حديث بلغني عنكم ؟ ' ، فقال فقهاء الأنصار : أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ؟ ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ' ، فقالوا : قد رضينا يا رسول الله .

فائدة
في سبب حجب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أموال هوازن عن الأنصار قوله : ( لم يعط الأنصار شيئا ) ، أي : أنه لم يعط الأنصار شيئا من أصل الغنيمة ، لا من الخمس الذي أعطى منه المؤلفة قلوبهم .
قال العلماء : وسببه أنهم كانوا انهزموا ، فلم يرجعوا إلا وقد

انهزم الكفار ، فرد الله أمر الغنيمة إلى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] ، ففعل فيها ما فعل للتأليف ، ووكل الأنصار إلى إيمانهم . والله أعلم . ( قدوم وفد هوزان مسلمين ، ورد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سباياهم ) ثم إن وفد هوازن جاؤوا بعد قسمة غنائمهم مسلمين ، ومناشدين للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] برضاعه فيهم أن يرد عليهم غنائمهم ، وأنشدوه في ذلك أشعارا منها ، [ من البسيط ] : ( أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك يملؤه من مخضها الدرر ) ( لا تجعلنا كمن شالت نعامته ** واستبق منا فإنا معشر زهر ) ذكره ابن إسحاق مطولا ، وأشار إليه البخاري بقوله في أبواب فرض الخمس ، باب : ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ، ما سأل هوازن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] برضاعة فيهم . وأتته أيضا أمه وأخته من الرضاعة : حليمة السعدية وبنتها الشيماء ، فبسط لهما رداءه وأجلسهما عليه ورق لهما [ صلى الله عليه وسلم ] . وروى البخاري في ' صحيحه ' ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] / قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين ، فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم : ' إن معي من ترون ، وإن أحب الحديث إلي أصدقه ، فاختاروا إحدى الطائفتين : إما المال وإما السبي ' ، فقالوا : إنا نختار سبينا ، فقام رسول الله في المسلمين ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : ' أما بعد : فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم ، فمن أحب أن يطيب ذلك

فليفعل ، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل ' ، فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله . عمرة الجعرانة واستخلاف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عتابا على الحج ثم انصرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ( الجعرانة ) محرما بعمرة في ذي القعدة ، فدخل ( مكة ) فقضى نسكه ، واستخلف على ( مكة ) عتاب بتشديد الفوقية ابن أسيد بفتح الهمزة فحج بالناس في تلك السنة [ أي : الثامنة ] ثم انصرف إلى ( المدينة ) فدخلها في آخر ذي القعدة . خبر ولادة إبراهيم ابن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ووفاته وولد له في ذي الحجة ولده إبراهيم ، فعاش نحو ثلاثة أشهر ، وكسفت الشمس يوم موته ، في ربيع الأول من سنة تسع . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] دخل عليه في مرضه فوجده يجود بنفسه ، فجعلت عيناه تذرفان ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ ، فقال له : ' يا ابن عوف ، إنها رحمة ، جعلها الله في قلوب عباده ' ، ثم أتبعها بأخرى ، وقال : ' إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ' . وقال : ' إن له مرضعا في الجنة ' .

وفيهما [ أي : صحيحي البخاري ومسلم ] أن الناس قالوا : كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فنهاهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عن ذلك ، وصلى صلاة الكسوف ، فأطال فيها حتى انجلت ، ثم خطب الناس فحثهم على الصدقة والعتق ، وقال : ' إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، يخوف الله بهما عباده ، ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ' . (

عام الوفود
) وفي السنة التاسعة : دخل الناس / في دين الله أفواجا ، كما أعلم الله سبحانه وتعالى رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] بذلك ، وجعله علما لقرب أجله . وفي ' الصحيحين ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن عمر رضي الله عنه قال له : ما تقول في : ! ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ! حتى ختم السورة ؟ ، فقلت : هو أجل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أعلمه الله له . قال : ! ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ! فتح ( مكة ) ! ( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) ! فذلك علامة أجلك ! ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) ! [ سورة النصر 110 / 13 ] فقال عمر :

ما أعلم منها إلا ما تعلمه .

وفد بني يحنيفة
ومن الوفود : وفد عليه [ صلى الله عليه وسلم ] وفد بني حنيفة ، عليهم مسيلمة الكذاب . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم مسيلمة الكذاب في بشر كثير من قومه ، فأقبل إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومعه ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وفي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قطعة من جريد ، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه ، فجعل مسيلمة يقول : إن جعل لي محمد الأمر [ من ] بعده تبعته ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت ، وهذا ثابت يجيبك عني ' . ثم انصرف عنه . قال ابن عباس : فسألت عن قول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إني لأراك الذي أريت فيه ما أريت ' ؟ فأخبرني أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب ، فأهمني شأنهما ، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما ، فنفختهما ، فطار ، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ، أحدهما الأسود العنسي والآخر / مسيلمة الكذاب ' . وفي رواية : ' فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما : صاحب ( صنعاء ) وصاحب ( اليمامة ) ' . وفي رواية أخرى : ' العنسي أي : الذي قتله فيروز ب ( اليمن )

والآخر مسيلمة الكذاب أي : الذي قتله وحشي بن حرب الحبشي ، قاتل حمزة في قتال خالد بن الوليد لأهل الردة . وكان كل من مسيلمة والأسود ادعى النبوة بعد وفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] .

وفد نجران
ومن الوفود : وفد ( نجران ) ، وفيهم نزلت آية الملاعنة ، لما حاجوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في عيسى ابن مريم [ عليه الصلاة والسلام ] ، فقالوا : إنه ابن الله ، وكانوا نصارى ، فأنزل الله تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبناءكم ونسآءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) [ سورة آل عمران 3 / 61 ] . فأخذ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بيد الحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي يمشي خلفها ، فلما رأوهم قال حبران منهما السيد والعاقب لأصحابهما : لا تفعلوا ، فو الله لئن لاعنتم هذه الوجوه لا تفلحوا أبدا . ثم صالحوه على الجزية ، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : جاء السيد والعاقب صاحبا ( نجران ) إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يريدان أن يلاعناه ، فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، ثم قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا ، فقال : ' لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين ' ، فاستشرف لها أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال : ' قم يا أبا عبيدة بن الجراح ' ، فلما قام قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' هذا أمين هذه الأمة ' .
فائدتان
الحجة على النصارى في شبهتهم بولادة عيسى عليه الصلاة والسلام
الأولى : وجه الحجة على النصارى ، بقوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم ) [ سورة آل عمران 3 / 59 ] : إن شبهتهم فيه كونه خلق من أم بلا أب ، فاحتج الله عليهم بأن آدم خلق من غير أم ولا أب ، وليس بابن الله اتفاقا .
قال العلماء : والقسمة تقتضي أربعة أقسام : قسم خلقه الله / من غير أم ولا أب ، وهو آدم عليه السلام . وقسم بعكسه ، وهو سائر ذريته . وقسم من أب بلا أم ، وهي حواء . وبقي القسم الرابع ، فأبرزه الله في عيسى عليه السلام .
في شهادة النبي بتفضيل صحابته بعضهم على بعض
الثانية :
قال العلماء : إذا شهد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لبعض أصحابه بفضيلة عليهم وجب القطع بأنه أفضل منهم في تلك الفضيلة ، فيجب أن نقطع بأن أبا عبيدة أفضل من أبي بكر وعمر وغيرهما في فضيلة الأمانة . وأن أبا ذر حيث قال فيه : ' أصدقكم لهجة أبو ذر ' فصار أفضل منهم جميعا في تحري الصدق . وأن عليا أقضاهم ، حيث قال : ' أقضاكم علي ' . وأن معاذا أعلمهم بالحلال والحرام حيث وصفه بذلك . وأن زيدا أفرضهم حيث وصفه أيضا بذلك .

والأفضل المطلق بإجماع أهل السنة من جمع خصال الفضل كأبي بكر رضي الله عنه ، حيث أشار إليه [ صلى الله عليه وسلم ] بقوله : ' من اصبح منكم اليوم صائما ؟ ' ، فقال أبو بكر : أنا ، فقال : ' من عاد منكم اليوم مريضا ؟ ' ، فقال أبو بكر : أنا فقال : ' من تبع منكم اليوم جنازة ؟ ' ، فقال أبو بكر : أنا . الحديث رضي الله عنهم أجمعين ، والله أعلم .

وفد أهل اليمن
ومن الوفود : وفد أهل ( اليمن ) ، فبشرهم [ صلى الله عليه وسلم ] وأثنى عليهم خيرا ، وبعث معهم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما . وفي ' الصحيحين ' ، جاءت بنو تميم ، فقال لهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ابشروا يا بني تميم ' ، فقالوا : بشرتنا فأعطنا ، فتغير وجهه [ صلى الله عليه وسلم ] ، فجاء ناس من ( اليمن ) ، فقال : ' اقبلوا البشرى يا أهل ( اليمن ) ، إذ لم يقبلها بنو تميم ' ، فقالوا : قد قبلنا يا رسول الله . فقال : ' الإيمان هاهنا ' ، وأشار بيده إلى ( اليمن ) . وفي رواية لهما [ أي : الصحيحين ] : ' أتاكم أهل ( اليمن ) ، هم أرق أفئدة ، وألين قلوبا . الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية ' .

وفيهما - [ أي : الصحيحين ] : ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] بعث أبا موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل إلى ( اليمن ) ، وبعث كل واحد منهما على مخلاف ، قال : ' و ( اليمن ) مخلافان ' ، ثم قال : ' يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ' وأنه [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] قال لمعاذ : ' إنك ستأتي قوما أهل / كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ' . ومما جاء في فضل أهل ( اليمن ) ، أن عمرا رضي الله عنه سأل الناس : من أجود العرب ؟ ، قالوا : حاتم ، قال : فمن فارسها ؟ ، قالوا : عمرو بن معدي كرب ، قال : فمن شاعرها ؟ ، قالوا : امرؤ القيس ، قال : فأي سيوفها أقطع ؟ ، قالوا : الصمصامة ، قال : كفى بهذا فضل ( اليمن ) . وأن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لأهل ( اليمن ) ؛ من السماء نجمها - أي سهيل - ومن ( الكعبة ) ركنها .

إسلام كعب بن زهير رضي الله عنه
وقدم أيضا على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كعب بن زهير بن أبي سلمى - بالضم - المزني فأسلم ، واعتذر إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مما سبق منه ، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد أهدر دمه لتعريضه بذمه وذم الصديق رضي الله عنه ، في شعر له . وأنشد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين وافاه قصيدته المشهورة : ( بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ) ، ومنها ، [ من البسيط ] : ( نبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول ) ( مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال ** قرآن فيه مواعيظ وتفضيل ) ( لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ** أذنب ولو كثرت في الأقاويل ) فعفا عنه ، وكساه بردته ، فاشتراها منه معاوية بن أبي سفيان في أيام خلافته بمئة ألف درهم ، وأوصى أن يكفن فيها .
غزوة تبوك
وفي هذه السنة - وهي التاسعة - في رجب منها : غزا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] غزوة ( تبوك ) . وهي آخر غزوة غزاها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وسماها الله تعالى ساعة العسرة ، لوقوعها في شدة / الحر . وذلك أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لما لم يبق له عدو من العرب ، أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم إلى ( الشام ) ، وحث الموسرين منهم على إعانة المعسرين ، فأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه فيها ألف دينار ذهبا ، وحمل على تسع مئة وخمسين بعيرا ، وخمسين فرسا في سبيل الله ، فذلك ألف ،

وبذلك سمى رضي الله عنه مجهز جيش العسرة ، حتى قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' اللهم ارض عن عثمان ، فإني عنه راض ' . وقال : ' ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ' . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم ، وقال : أنشدكم بالله ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ألستم تعلمون أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من جهز جيش العسرة فله الجنة ' ، فجهزتهم ؟ ألستم تعلمون أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من حفر بئر رومة فله الجنة ' ، فحفرتها ؟ فصدقوه فيما قال . وأوعب المسلمون مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى بلغوا سبعين ألفا ، ولم يتخلف عنها إلا منافق أو معذور ، سوى الثلاثة الذين خلفوا ، الآتي ذكرهم ، وسوى علي رضي الله عنه . ففي ' الصحيحين ' ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى ( تبوك ) واستخلف عليا رضي الله عنه على ( المدينة ) ، فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ ، فقال ' ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ، إلا أنه لا نبي بعدي ؟ ' . وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال ب ( تبوك ) : ' إن

بالمدينة أقواما حبسهم العذر ، ما قطعنا واديا ولا شعبا إلا وهم معنا فيه ' .

أمر المعذرين من الأعراب
وأنزل الله أيضا في المعذرين : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ولرسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ) [ سورة التوبة 9 / 91 ] .
أمر المنافقين
وأنزل في المنافقين قوله تعالى : ( إنما السبيل على الذين يستئذنونك / وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) - أي : النساء - ! ( وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ) ! [ سورة التوبة 9 / 93 ] .
أمر البكائين
وفي ' الصحيحين ' أيضا ، أن الأشعريين أرسلوا أبا موسى الأشعري إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يسأله الحملان لهم في جيش العسرة ، وهي غزوة ( تبوك ) ، فقال : ' والله لا أحملكم على شيء ' ، أي : لا أجد شيئا أحملكم عليه - كما في الرواية الأخرى - فرجعوا يبكون ، فأنزل الله فيهم : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدون ما ينفقون ) [ سورة التوبة 9 / 92 ] ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ابتاع ستة أبعرة فأرسل بها إلى أبي موسى ، فقال : ' خذها فانطلق بها إلى أصحابك ' . ومضى [ صلى الله عليه وسلم ] بسبيله . مرور النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه بالحجر وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لما بالحجر - ديار ثمود - قال لأصحابه : ' لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ' ، ثم قنع رأسه - أي : غطاه -

وأسرع السير حتى أجاز الوادي . مصالحة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أهل أيلة وجرباء وأذرح ولما انتهى إلى ( تبوك ) ، وهي أدنى بلاد الروم ، أقام بها بضع عشرة ليلة . وصالح جملة من أهل الناحية على الجزية ، ثم رجع إلى ( المدينة ) ، ولم يلق عدوا .

اعتذار المنافقين عن تخلفهم
فلما قدم ( المدينة ) ، جاء المنافقون يعتذرون إليه عن تخلفهم عنه ، ويحلفون له ، فقبل منهم معذرتهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، فأنزل الله تعالى فيهم : ! ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ) ! الآيات ، إلى قوله : ! ( فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ! [ سورة التوبة 9 / 94 - 96 ] . ونزلت فيهم سورة براءة ، وسماها ابن عباس رضي الله عنهما الفاضحة - والعياذ بالله تعالى - وقال : لم ينزل فيهم : ! ( ومنهم ) ! ! ( ومنهم ) ! ! ( ومنهم ) ! حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكرته . أمر كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع أما الثلاثة الذين خلفوا ، وهم : كعب بن مالك الخزرجي ، وهلال بن أمية الأوسي ، ومرارة / بن الربيع ، فإنهم لم يتخلفوا لنفاق ولا لعذر ، بل كسلا مع استطاعتهم ، كمن ترك الصلاة كسلا ، فاستحقوا العقاب ، فعوقبوا ، ثم تاب الله عليهم . وكان من خبرهم ما ذكره البخاري ومسلم في ' صحيحيهما ' ، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال : لم أتخلف عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في غزوة غزاها إلا في غزوة ( تبوك ) ، غير أني لم أشهد ( بدرا ) ، ولم

يعاتب [ الله ] أحدا تخلف عنها ، ولم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، فتجهز رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو بيومين ، فلم يزل يتباطأ بي الأمر حتى تباعد الغزو ، فكنت إذا خرجت في الناس أحزنني أني لا أجد إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق - أي : معيرا به - أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، فلما بلغني أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قفل راجعا طفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا ؟ ثم زاح عني الكذب ، وعرفت أني لا أخرج عنه بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه . فلما قدم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ( المدينة ) جاءه المخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، فقبل منهم علانيتهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، ، فجئته ، فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ، ثم قال : ' ما خلفك ؟ ' ، فقلت : والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكني والله لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن أن يسخطك الله علي ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه ، إني لأرجو فيه عفو الله ، ولا والله ما كان لي من عذر ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ' ، فقمت ، فلامني رجال من بني سلمة - أي : بكسر اللام - أن لا أكون اعتذرت كما اعتذر إليه المخلفون ، فقلت : هل لقي معي هذا أحد ؟ ، قالوا : نعم ؛ مرارة / بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين ،

قد شهدا ( بدرا ) فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي ، ونهى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة خاصة ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فلما صليت صلاة الفجر ، وأنا على الحال التي ذكرها الله تعالى ، وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، وضاقت علي نفسي ، سمعت وأنا جالس على ظهر بيتي صارخا ، أوفى على ( سلع ) ، يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت لله ساجدا ، وقد آذن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس بتوبة الله علينا ، فذهبوا يبشروننا ، فلما جاءني الذي سمعت صوته نزعت له ثوبي ، فكسوته إياهما ببشراه . ووالله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فيتلقاني الناس فوجا فوجا ، فلما دخلت المسجد وسلمت على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال لي - ووجهه يبرق من السرور - : ' ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ' . وأنزل الله على رسوله ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب

الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ سورة التوبة 9 / 117 - 119 ] . فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وأن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال : ( سيحلفون بالله لكم إذا / انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) [ سورة التوبة 9 / 9596 ] .

فائدة
في قبول الله تعالى توبة كعب بن مالك
في قوله [ صلى الله عليه وسلم ] لكعب : ' أبشر بخير يوم مر عليك ' دليل واضح أن توبة الله على عبده لا يتطرق إليها نقص ، إذ كعب أسلم وبايع ب ( العقبة ) وشهد غير ( بدر وتبوك ) من المشاهد ، وكل هذه أيام شريفة ، لكن عاقبتها غير مأمونة ، وبذلك يعلم أن ثناء الله على من أثنى عليه من عباده لا يتحول ذما ، كثنائه على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم . وسيأتي تقرير ذلك في فصل معقود لفضلهم .
وفاة النجاشي
وفيها [ أي : السنة التاسعة ] في رجب : نعى لهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] النجاشي ، وصلى عليه في المصلى جماعة . وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] نعى لهم النجاشي صاحب

( الحبشة ) في اليوم الذي مات فيه ، وقال : ' استغفروا لأخيكم ' . وصف بهم في المصلى ، فصلى عليه ، وكبر أربعا .

حج أبي بكر رضي الله عنه
وفي خاتمة هذه السنة [ أي : السنة التاسعة ] : حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس ، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هم أن يحج ، فذكر ما اعتاده المشركون من الجهالات في حجهم ، مع ما بينه وبينهم من المعاهدة ، فثناه ذلك عن الحج ، وأمر أبا بكر على الحج ، وبعث معه بصدر سورة براءة . وروى ' البخاري ومسلم ' ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال : فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام عهودهم ، فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حجة الوداع مشرك ، وأنزل الله تعالى في العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه : ( يا أيها الذين ءامنوا / إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ سورة التوبة 9 / 28 ] . بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عليا رضي الله عنه بصدر ببراءة ( بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عليا رضي الله عنه بصدر براءة ) قال أبو هريرة : فأذن معنا ببراءة في أهل ( منى ) . وقال ابن إسحاق : بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أبا بكر أميرا ، ثم بعث بعده

عليا ، وأمره أن يتولى نبذ العهود ، بأن يقرأ على الناس صدر سورة براءة ، لئلا يبقى للمشركين عذر ، إذ كان من عادتهم ألا يتولى نبذ العقود إلا من تولى عقدها ، وهو صاحبها ، أو رجل من أهل بيته . قال ابن إسحاق : فلما أدرك علي أبا بكر ، قال له أبو بكر : أأمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور ؟ ، ثم مضيا ، فكان علي ينادي ب ( منى ) : أن من كان له أجل فله أربعة أشهر ، ثم لا عهد له أ ي : لقوله تعالى : ! ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ! [ سورة التوبة 9 / 2 ] .

وروى الطبراني أن جبريل أتاه فقال له : ( إنه لن يؤديها أي : البراءة إلا أنت أو رجل منك ) .

حجة الوداع
وفي السنة العاشرة : حج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حجة الوداع ، وسميت حجة الوداع لأنه [ صلى الله عليه وسلم ] ودع الناس فيها . وقال : ' خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا ' . وحج [ صلى الله عليه وسلم ] بأزواجه كلهن رضي الله عنهن ، وبخلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم . فحضرها من الصحابة أربعون ألفا ، كلهم يلتمس أن يأتم به [ صلى الله عليه وسلم ] ، فعلمهم المناسك ، وأبطل شعائر الجاهلية ، وقال [ صلى الله عليه وسلم ] في خطبته : ' ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وربا الجاهلية موضوع ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن تمسكتم به : كتاب الله ، وأنكم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ ' قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال : ' اللهم أشهد ' ثلاث مرات . ونزل علينا قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت / عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [ سورة المائدة 5 / 3 ] .

وكان نزولها يوم عرفة ، بعد العصر ، وهو [ صلى الله عليه وسلم ] واقف ب ( عرفات ) ، وذلك يوم الجمعة . ولما سمعها عمر رضي الله عنه بكى ، فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما يبكيك ؟ ' ، قال : إنه لم يكمل شيء إلا نقص . قال : ' صدقت ' . فعاش بعدها [ صلى الله عليه وسلم ] نحو ثلاثة أشهر ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا غيرهما من الأحكام . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نتحدث بحجة الوداع ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بين أظهرنا ، فلا ندري ما حجة الوداع ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر المسيح الدجال ، فأطنب في ذكره ، وقال ' ما بعث الله نبيا إلا وقد أنذر أمته ، أنذره نوح والنبيون من بعده ، وإنه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس بأعور ، وإنه أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية ، ألا وإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا هل بلغت ؟ ' ، قالوا : نعم ، قال : ' اللهم اشهد ثلاثا ويلكم ، أو ويحكم ، انظروا ، لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ' . وفيهما [ أي : الصحيحين ] أن أناسا من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أية آية هي ؟ ، فقالوا : ( اليوم أكملت لكم دينكم

وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، فقال عمر رضي الله عنه : والله ، إني لأعلم أي مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واقف ب ( عرفة ) . ثم قفل [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( المدينة ) ، فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر .

سرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما
ثم أمر الناس بالجهاز إلى ( الشام ) ، وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم ، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم ( البلقاء ) ، وأن يحرق القرية التي عند ( مؤتة ) ، حيث قتل أبوه زيد ، وأراد بذلك أن يدرك ثأره / من المشركين . فطعن ناس في إمارته لحداثة سنه ، ولكونه مولى ، وقالوا : أمر غلاما على جلة المهاجرين والأنصار ؟ . وابتدأ برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] المرض ، فلما بلغه ذلك ، خرج فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، وأمرهم بالجهاز ، وبطاعة من أمره عليهم . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعثا ، وأمر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن بعض الناس في إمارته ، فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : ' إن تطعنوا في إمارته ، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل ، وأيم الله ، إن كان لخليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده ' .

فأخذ الناس في جهازهم ، فثقل [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأقاموا ينتظرون ما الله قاض في رسوله . مرض النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وكان وجعه [ صلى الله عليه وسلم ] بالحاضرة والصداع والحمى ، وكان يوعك وعكا شديدا ، وكان يدار به على نسائه ، ثم استأذنهم أن يمرض في بيت عائشة ، فأذن له . فلما عجز عن الخروج إلى الصلاة ، أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، فصلى بهم . اشتداد مرض النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : دخلت على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في مرضه ، وهو يوعك وعكا شديدا ، فمسسته بيدي ، فقلت : يا رسول الله ، إنك لتوعك وعكا شديدا ، قال : ' أجل ، إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم ' ، قلت : ذلك ، بأن لك أجرين ؟ قال : ' أجل ذلك كذلك ، ما من مسلم يصيبه أذى ، شوكة فما فوقها ، إلا كفر به سيئاته ، كما تحاث الشجرة ورقها ' .

أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن عائشة رضي الله عنها قالت : ثقل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : ' ضعوا لي ماء في المخضب ' ، ففعلنا ، فاغتسل ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، والناس عكوف في المسجد بصلاة العشاء الآخرة ، فقال : ' أصلى الناس ؟ ' ، قلنا : لا ، هم ينتظرونك ، فقال : ' مروا أبا بكر فليصل / بالناس ' . قالت : فراجعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ذلك ، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي : أن يجب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا ، ولا كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن أبي بكر . فأرسل [ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ] إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ، فقال أبو بكر - وكان رجلا رقيقا - : يا عمر صل بالناس ، فقال عمر : أنت أحق بذلك ، وصلى أبو بكر بالناس تلك الأيام . ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] - أي : بعد أيام - وجد من نفسه خفة ، فخرج لصلاة الظهر بين رجلين ، وأبو بكر يصلي بالناس ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه [ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ] بأن لا يتأخر ، وقال : ' أجلساني إلى جنبه ' ، فأجلساه ، فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، والناس يأتمون بصلاة أبي بكر - أي : كالمبلغ لهم - .

فائدة
في أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أبا بكر أن يصلي بالناس وفي ' الصحيحين ' ، أن عائشة رضي الله عنها راجعته ثلاث مرات ، تقول له : إن أبا بكر رجل رقيق ، إذ قرأ غلبه البكاء ، فلم يسمع الناس ، فمر عمر فليصل بالناس ، وهو يقول : ' مروا أبا بكر فليصل بالناس ' ، فأمرت حفصة فراجعته أيضا ، فقال : ' مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ' .
قال العلماء : وجه المشابهة : أن عائشة أضمرت ما سبق من قولها : ( وما حملني على كثرة مراجعته ) - إلى آخره - ( وأظهرت أنه رجل رقيق ) - إلى آخره - فأشبهت امرأة العزيز ، التي استدعت النسوة ، وأظهرت إكرامهن بالضيافة ، وأضمرت أن يعذرنها في شغفها بحب يوسف إذ رأينه ، كما صرحت بذلك في قولها : ! ( فذلكن الذي لمتنني فيه ) ! [ سورة يوسف 12 / 32 ] . والله أعلم . هم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يكتب لأصحابه كتابا وفي ' الصحيحين ' عنها أيضا ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال في مرضه : ' لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه ، وأعهد أن يقول القائلون ، أو ينتمي المتمنون ، ثم قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون ' . خطبته [ صلى الله عليه وسلم ] في الناس وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن أبي سعيد الخدري / رضي الله عنه أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خطب الناس فقال : ' إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله ' ، قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه - فقلت في نفسي : ما يبكي هذا الشيخ ؟ أن يكون الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل ، فكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا به - .

فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يا أبا بكر لا تبك ، إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد ، إلا باب أبي بكر ' . نعي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نفسه إلى فاطمة رضي الله عنها وبشارته لها وفيهما [ أي : الصحيحين ] أنه [ صلى الله عليه وسلم ] دعا ابنته فاطمة ، في شكواه التي قبض فيها ، فسارها بشيء فبكت ، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت . قالت عائشة : فسألتها بعد موته ، فقالت : أخبرني أنه يقبض في وجعه ذلك فبكيت ، ثم أخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت . فماتت رضي الله عنها بعده بستة أشهر . كثرة نزول الوحي على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في السنة التي قبض فيها وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : إن الله تابع على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] نزول الوحي حين توفاه أكثر ما كان الوحي ، ثم توفي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد .
قال العلماء : وذلك لكثرة الوفود وسؤالهم عن الأحكام . تأثر فاطمة رضي الله عنها لما ألم بأبيها [ صلى الله عليه وسلم ] وفيه [ أي : الصحيحين ] عنه أيضا قال : لما ثقل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] جعل يتغشاه الكرب ، فقالت فاطمة عليها السلام : واكرب أباه ، فقال لها : ' ليس على أبيك كرب بعد اليوم ' ، قال : فلما دفناه ، قالت فاطمة عليها السلام يا أنس ، أطابت أنفسكم أن تحثوا على نبيكم التراب .

( تخيير النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عند قبضه ) وفي ' الصحيحين ' ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله وهو صحيح يقول : ' إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة ، ويخير بين الدنيا والآخرة ' ، فسمعته في مرضه الذي مات فيه يقول ، وقد أخذته بحة : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولائك رفيقا ) [ سورة النساء 4 / 69 ] . وفي رواية : ثم شخص بصره / إلى السماء ، ثم قال : ' اللهم الرفيق الأعلى ' . فقلت : إذا لا يختارنا ، وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح . وفي رواية أنه قال : ' اللهم اغفر لي وارحمني ، وألحقني بالرفيق الأعلى ' . ( خروج تلنبي [ صلى الله عليه وسلم ] صبيحة يوم وفاته ) وفي ' الصحيحين ' ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الإثنين ، وأبو بكر يصلي لهم ، لم يفجأهم إلا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد كشف ستر حجرة عائشة ، فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة ، فتبسم يضحك ، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يريد أن يخرج إلى الصلاة ، فقال أنس : وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأشار إليهم بيده : ' أن أتموا صلاتكم ' ، ودخل الحجرة ، وأرخى الستر ، ومات من يومه .

معالجة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سكرات الموت وفيهما [ أي : الصحيحين ] أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كانت عنده ركوة فيها ماء ، فجعل يدخل يديه فيها ، ويمسح بها وجهه ، ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات ' ، ثم نصب يده ، فجعل يقول ' في الرفيق الأعلى ' حتى قبض ومالت يده [ صلى الله عليه وسلم ] .

فائدة
في حب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لقاء الرفيق الأعلى
قال العلماء : إنما لم يزل يكررها لأن التخيير لم يزل يعاد عليه ، وهي كلمة تتضمن حب لقاء الله ، الذي هو لباب التوحيد ، وسر الذكر باللسان والقلب ، ومنه يستفاد أنه لا يشترط في نجاة المحتضر أن يتلفظ ب ( لا إله إلا الله ) ، إذا مات وقلبه مطمئن بالإيمان . والله أعلم . عمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يوم قبض وفي ' صحيح البخاري ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأربعين سنة ، ومكث ب ( مكة ) ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة ، فهاجر إلى ( المدينة ) عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة . دهشة المسلمين لوفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولما قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده ؛ دهش أصحابه رضي الله عنهم دهشة عظيمة ، وطاشت أحلامهم لعظم المصيبة ، ولم يكن فيهم أثبت من العباس وأبي بكر رضي الله عنهما . وروى الترمذي / في ' الشمائل النبوية ' ، وابن ماجه في ' السنن ' عن أنس رضي الله عنه قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( المدينة ) أضاء منها كل شيء ، ولما كان اليوم الذي مات

فيه أظلم منها كل شيء . وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث ، ابن عم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، [ من الوافر ] : ( أرقت فبات ليلي لا يزول ** وليل أخي المصيبة فيه طول ) ( وأسعدني البكاء وذاك فيما ** أصيب المسلمون به قليل ) ( لقد عظمت مصيبتنا وجلت ** عشية قيل قد قبض الرسول ) ( وأضحت أرضا مما عراها ** تكاد بنا جوانبها تميل ) ( فقدنا الوحي والتنزيل فينا ** يروح به ويغدو جبرائيل ) ( وذاك أحق ما سالت عليه ** نفوس الناس أو كادت تسيل ) ( نبي كان يجلو الشك عنا ** بما يوحى إليه وما يقول ) ( ويهدينا فما نخشى ضلالا ** علينا والرسول لنا دليل ) ( أفاطم إن جزعت فذاك عذر ** وإن لم تجزعي ذاك السبيل ) ( فقبر أبيك سيد كل قبر ** وفيه سيد الناس الرسول ) موقف أبي بكر رضي الله عنه من وفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وروى البخاري في ' صحيحه ' ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مات وأبو بكر رضي الله عنه ب ( العالية ) ، فقام عمر رضي الله عنه يقول : والله ما مات رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وليبعثنه الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ، فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقبله ، وقال : بأبي أنت وأمي ، طبت حيا وميتا ، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . ثم خرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ألا من كان يعبد محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي

لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى : ! ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ! [ سورة الزمر 39 / 30 ] وقوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم / على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين ) [ سورة آل عمران 3 / 144 ] . قال : فنشج الناس بالبكاء حينئذ ، وكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم يتلوها ، قال عمر رضي الله عنه : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت ، وعلمت أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد مات . زمن وفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وكانت وفاته [ صلى الله عليه وسلم ] ضحى يوم الاثنين ، ثاني عشر ربيع الأول ، ودفن يوم الثلاثاء . (

دفن النبي
) وإنما تأخر دفنه لاختلافهم في موته ، حتى أزال الشك عنهم أبو بكر .

ثم اختلفوا أيضا أين يدفن ؟ ، فمنهم من قال : في مسجده . ومنهم من قال : في ( البقيع ) حيث دفن ابنه إبراهيم وأصحابه ، ومنهم من قال : يحمل إلى ( القدس ) عند قبر أبيه إبراهيم عليه السلام . حتى أزال الشك الصديق أيضا رضي الله عنه ، فقال سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : ' ما دفن نبي إلا حيث يموت ' . أخرجه مالك في ' الموطأ ' ، وابن ماجه في ( السنن ) .

أمر سقيفة بني ساعدة
ثم إن الأنصار أرادوا أن يتميزوا عن المهاجرين ، وأن يعقدوا الخلافة لسعد بن عبادة ، فأطفأ الله نار الفتنة على يد أبي بكر الصدقي رضي الله عنه ، بأن الأئمة من قريش ، ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه : ( لولا أبو بكر لهلكت هذه الأمة ) .
مبايعة أبي بكر رضي الله عنه
وفي ' صحيح البخاري ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في خلافته - فذكر حديث بيعة أبي بكر - فقال : إنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] ، إلا أن الأنصار خالفونا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا حتى أتيناهم ، فقال قائلهم : نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام - أي التي اجتمع إليها آحاد الناس - فمنا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : ما ذكرتم فيكم من خير / فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن

بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فيضرب عنقي ، لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى خفت من الاختلاف ، ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقناهم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى ، وإما أن نخالفهم فيقع الفساد ، فقلت لأبي بكر : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ثم كانت بيعة العامة من الغد . وأما سيدنا علي رضي الله عنه وسائر بني هاشم فكانوا في وقت البيعة مشغولين بغسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتكفينه ، فوقع في أنفسهم من استبداد أبي بكر وعمر وسائر المهاجرين والأنصار بالأمر عليهم . وسبق أنها لم تقع عن روية ، إنما بادر إليها عمر خوفا من الوقوع في الفتنة ، فلم يسأل أبو بكر منهم البيعة لانعقادها ، ولم يبادروا هم إليها .

طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من النبي
ثم إن فاطمة رضي الله عنها سألت أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ( خيبر وفدك ) ، وصدقات ( المدينة ) من أموال بني قينقاع والنضير وقريظة ، فأبى عليها أبو بكر ذلك ، وقال سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : ' لا نورث ، ما تركناه صدقة ' ، ولكني سأعول من كان النبي يعوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يفعله إلا عملت به ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ .

فوقع في نفسها من ذلك ، فهجرت أبا بكر إلى أن ماتت رضي الله عنها . فلما ماتت أرسل علي رضي الله عنه - بعد أن جمع بني هاشم - إلى أبي بكر أن يأتيهم وحده ، فأتاهم فاعتذر / إليه علي من تخلفه ، وقال : إنا قد عرفنا فضلك ، ولم نحسدك على خير ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت بالأمر علينا ، ففاضت عينا أبي بكر ، واعتذر إليهم بوقوع البيعة من غير روية ، وقال : والله لقرابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أحب إلي من أصل من قرابتي ، فقال له علي : موعدك العشية للبيعة ، ثم راح بمن معه من بني هاشم إلى المسجد ، فبايعوه ، رضي الله عنهم أجمعين ، فسر بذلك المهاجرون والأنصار ، وقالوا لعلي رضي الله عنه : أصبت ، أصبت . روى ذلك البخاري ومسلم . ورويا أيضا - [ أي : البخاري ومسلم ] - أن عليا والعباس سألا من أبي بكر رضي الله عنه نصيبهما من الصدقة السابق ذكرها . سأل علي نصيب فاطمة ، والعباس هو عصبة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأبى عليهما . ثم سألاها عمر فأبى عليهما ، واستشهد جماعة من الصحابة منهم : عثمان وعبد الرحمن على أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا نورث '

فشهدوا ، واعترف بذلك أيضا علي والعباس رضي الله عنهما ، ثم دفع إليهما صدقات ( المدينة ) ، على أن يعملا فيها بما عمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبو بكر رضي الله عنه ، فأخذاها . ثم إن عليا رضي الله عنه تغلب عليها ، فلم يعط عمه العباس منها شيئا ، فاختصما إلى عمر ليقسمها بينهما نصفين ، فأبى ذلك عليهما ، وكره أن يجري عليها اسم القسم لئلا تظن أنها إرث ، فلم يسع علي رضي الله عنه مدة خلافته أن يعمل فيها إلا بما عمل فيها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين . وفي ' الصحيحين ' أيضا ، أن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن ، فقالت لهن عائشة : أليس قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ ' . زوجاته [ صلى الله عليه وسلم ] اللواتي توفي عنهن وتوفي [ صلى الله عليه وسلم ] عن تسع زوجات ، وهن عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر / ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وسودة بنت زمعة العامرية ، وصفية بنت حيي بن أخطب النضرية الإسرائيلية الهارونية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية . رضي الله عنهن ، وعن سائر أصحاب رسول الله أجمعين .

تذييل
فيه فصول في وجوب نصب الإمام ، وشرائط الإمامة ، وفي الإمام الحق بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي فضل الخلفاء الأربعة ، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

( فارغة )

فصل
في وجوب نصب الإمام
اعلم أن مذهب أهل السنة أن نصب الإمام واجب على الأمة ، لإجماع الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على امتناع خلو الوقت عن خليفة له وإمام . وقد قال الصديق رضي الله عنه في خطبته في ( سقيفة بني ساعدة ) بين المهاجرين والأنصار : ( ألا وإن محمدا قد مات ، وأنه لا بد لهذا الدين من إمام يقوم به ) . فبادر الكل إلى قبول قوله ، ولم يقل أحد لا حاجة لي إلى ذلك ، بل اتفقوا عليه ، واجتمعوا له ، وتركوا لشدة اهتمامهم به أهم الأشياء عندهم ؛ وهو تجهيز رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كما سبق ، ثم لم يزل الناس بعدهم على ذلك في جميع الأمصار والأعصار . وأيضا : فإن نصب الإمام يتضمن دفع الضرر ، لأن الناس إذا كان لهم رئيس قاهر انتظمت مصالح دينهم ودنياهم ، لأن مقاصد الشرع الشريف فيما شرع الله ورسوله فيه من الأحكام والحدود ، وإظهار شعائر الدين ، إنما هي مصالح عائدة إلى الخلق ، إما عاجلا وإما آجلا . ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بإمام يرجعون إليه عند اختلافهم ، وإلا لأفضى ذلك إلى الهلاك . ويشهد لذلك ما يثور من الفتن عند موت الأئمة ، بحيث يقطع / بأنها لو تمادت لتعطلت أمور المعاش والمعاد .

وقد سبق أن الشيطان لعنه الله أطلع رأسه ، ومد مطامعه ، وأوقد نار الشتات ، ونصب راية الخلاف بعد موت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، حتى أطفأها الله بالصديق ، مع أنهم أفضل الأمة رضي الله عنهم ، فما الظن بغيرهم ؟ قال الله سبحانه وتعالى : ! ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ! [ سورة البقرة 2 / 251 ] . وما أحسن قول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى [ من البسيط ] : ( الله يدفع بالسلطان معضلة ** عن ديننا وبه إصلاح دنيانا ) ( لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل ** وكان أضعفنا نهبا لأقوانا )

فصل
في شروط الإمامة
وحد الإمامة أنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص بشروط ؛ وهي عشرة : الأول : أن يكون ذكرا ، إذ النساء ناقصات عقل ودين . الثاني : أن يكون بالغا ، لقصور عقل الصبي . الثالث : أن يكون عاقلا ، إذ لا يصلح المجنون لتصرفات نفسه فضلا عن غيره . الرابع : أن يكون حرا ، إذ العبد مشغول بخدمة سيده ، ولأنه مستحقر تستنكف النفوس عن الانقياد له . الخامس : أن يكون عدلا ، لأن الفاسق غير مأمون شرعا ،

فربما ضيع الحقوق ، وصرف الأشياء في غير مصارفها . السادس : أن يكون ذا رأي وبصارة بتدبير الأمور ، لأن المغفل لا يقوم بأمر الملك . السابع : أن يكون شجاعا ، لأن الجبان لا قوة له على الذب عن حوزة الدين ، وحريم المسلمين لجرأة العدو عليه . الثامن : أن يكون قرشيا ؛ لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' الأئمة من قريش ' مع عمل الصحابة رضي الله عنهم به ، وإجماعهم عليه ، وأما قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد حبشي ' فمحمول على السمع والطاعة لأمراء الجيوش ونحوهم من ولاة الإمام . التاسع : أن يكون / عالما مجتهدا في أصول الدين وفروعه ، ولغة العرب وأعرابها ، مشتغلا بالفتوى في الحوادث ، لأن الجاهل أو القاصر عن رتبة الاجتهاد لا يتمكن من حفظ العقائد ، وحل الشبه ، وإقامة الحجج والبراهين ، ولا من فصل الخصومات عند النزاع .

العاشر : أن تعقد الإمامة طوعا ، إما بأن يبايعه أهل الحل والعقد كأبي بكر ، أو يستخلفه إمام سابق جامع لشروط الإمامة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه .

الشروط في عاقدي البيعة للإمام وشرط صحة البيعة
وشرط العاقدين : أن يكونوا عدولا ، ذوي رأي ومعرفة بالمصالح ، ولا يشترط في صحة البيعة إجماع الحاضرين منهم ببلدها ، من أهل الحل والعقد ، فضلا عن إجماع أهل الأقطار ، لأن الصحابة لم يفتقروا في عقدها لأبي بكر إلى حضور علي وعباس وسائر بني هاشم رضي الله عنهم أجمعين ، بل يكتفى ببيعة واحد منهم في ثبوت الإمامة لمن عقدها له ، ووجوب اتباع المعقود له على سائر أهل الإسلام ، لاكتفاء الصحابة مع صلابتهم في الدين بعقد عمر لأبي بكر كما سبق ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان كما سيأتي . انعقاد الإمامة للإمام الذي تم السبق لأهل الحل والربط في عقدها له . ثم إذا انعقدت الإمامة لشخص لم يجز عقدها لآخر لأدائه إلى ثوران الفتنة ، فإن اتفق التعدد فالإمامة للسابق ، وغيره باغ إن أصر ، فيجب أن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله ، فإن جهل السابق بطل في الجميع ، واستؤنف العقد لمن وقع عليه الاختيار . جواز خلع الإمام وعزله ثم إذا وجد من الإمام ما يقتضي إخلال أمور الدين ، وانتقاض مصالح المسلمين ؛ جاز لأهل الحل والعقد خلعه وعزله ، كما كان لهم نصبه ابتداء ، إلا إذا كان المضرة في خلعه أعظم من المضرة في تقريره ، فيحتمل أدنى المضرتين .
عدم الجواز لأهل الحل والعقد تقليد الإمامة لمن فقد بعض شروطها بوجود الكامل المستوفي جميع شروطها
ولا يجوز لأهل الحل والعقد أن ينصبوا فاقدا لبعض الشرائط مع وجود الكامل . نعم لهم نصب المفضول مع وجود الأفضل ، إذا كان المفضول أصلح ، إذ المعتبر في ولاية كل أمر والقيام / به معرفة مصالحه ومفاسده ، والقوة على القيام بلوازمه ومقاصده ، ورب مفضول في علمه وعمله هو بالرئاسة أعلم ، وبشرائطها أقوم . وكذا يجوز لأهل الحل والعقد عند فقد الكامل نصب فاقد لبعض الشرائط السابقة ، دفعا للمفاسد التي لا تندفع إلا بنصب الأئمة وبعض الشر أهون من بعض والله يعلم المفسد من المصلح .
فصل
في الإمام الحق بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أجمع أهل السنة سلفا وخلفا على أن الإمام الحق بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي . على ترتيبهم في الخلافة رضي الله عنهم . وأجمع معظم الأمة على أن النبي لم ينص على خلافة رجل معين ، بل أشار إلى ما سيكون بعده من غير وصية بذلك ، كقوله : ' مروا أبا بكر فليصل بالناس ' [ وقوله ] : ' ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ' . أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بتقديم أبي بكر للصلاة في مرضه وبحضور علي وثبت أن عليا رضي الله عنه كان يقول : قدم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أبا بكر ، فصلى بالناس وأنا حاضر غير غائب ، وصحيح غير مريض ، ولو شاء أن يقدمني قدمني ، أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لديننا ؟ .
قال العلماء : وهل بقي من أمر الخلافة بعد الإمامة في الصلوات إلا جباية الزكوات ؟ وكيف يحسن لي أو لغيري أن يعزل أبو بكر عن الإمامة في الصلوات ، أو يكون غيره خليفة مأموما به في الصلوات التي هي أعظم شعائر الدين ؟


قلت : وسبق أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لما أعطى عثمان وشيبة مفتاح ( الكعبة ) قال : ' خذاها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ' . فالإمامة أولى . قال الشيخ الرباني محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في ' شرح صحيح مسلم ' : ( وخلافة أبي بكر رضي الله عنه لم تكن بنص صريح ، بل بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على عقدها له ، فقدموه لشهرة فضله عندهم ، ولو كان هناك نص صريح عليه ، أو على غيره ؛ لم تقع المنازعة أولا من / الأنصار أي : بقولهم : ( منا أمير ومنكم أمير ) ولذكر حافظ النص ما معه ، ولرجعوا إليه أي : كما احتج أبو بكر على الأنصار بقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' الأئمة من قريش ' ورجعوا إليه قال : لكن تنازعوا أولا ، ثم اتفقوا على أبي بكر رضي الله عنه ) . تفنيد آراء الشيعة في استخلاف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عليا قال : ( وأما ما تدعيه الشعية من النص على علي رضي الله عنه فباطل ، لا أصل له باتفاق المسلمين . وأول من كذبهم علي رضي الله عنه ، ولو كان عنده نص لذكره ، ولم ينقل أنه ذكره في يوم من الأيام ) انتهى .
قال العلماء : ولو كان ثم نص لتواتر ، ولم يمكن ستره عادة ، إذ ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله . وإذا لم يكن نص فالبيعة لم توجد لغير أبي بكر إجماعا ، فوجب أن يكون هو الإمام الحق ، ثم منصوبه عمر ، ثم عثمان المجمع على عقد الخلافة له ، ثم علي رضي الله عنهم .


قال العلماء : وأما ما تدعيه الشيعة أن عليا رضي الله عنه قد أظهر النص فلم يقبل منه ، فمن أكاذيبهم الشنيعة التي ظاهرها الرفض ، وباطنها الكفر المحض ، لإزرائهم بذلك على الصحابة ، الذين نقلوا هذا الدين وحملوه ، إذ لو أجمعوا على نبذ وصية نبيهم بعد موته وقبل دفنه ، لردت روايتهم وبطلت عدالتهم ، وبطل حينئذ هذا الدين من أصله ، الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

مبايعة علي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم
وقد اجتمعت الأمة على أن عليا رضي الله عنه لم ينازع أبا بكر ولا عمر ، وبايع أبا بكر وترضى عنه وعن عمر ، وأثنى عليهما بعد موتهما ، وأنه عقد الخلافة لعثمان بعد أن خلا دست الخلافة وشغر ، فلو كان عنده نص ، أو كان رضي الله عنه يرى أنه يتعين للخلافة ، لنازعهم كما نازع الفئة الباغية في أيام معاوية . وما يزعمه المبطلون من مداهنته رضي الله عنه في دين الله ، يتحاشى عنه منصب علي العلي رضي الله عنه ، كيف وهو الذي تضرب بشجاعته الأمثال ، وتبطل عنده الأبطال ؟ مع ما هو فيه من عزة العشيرة نخبة بني / هاشم ، وبين الصحابة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، يشهد لهم القرآن بهجرهم في سبيل الله الأهل والأوطان . وإذا كان أبو طالب قاوم قريشا كلها ، كما سبق عنه من قوله ، [ من الكامل ] :

( والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا ) فكيف يجوز لمن يدعي الإسلام أن ينسب إلى أخي الرسول ، وبعل التبول ، الأسد المواثب ، ليث بني غالب ؛ أنه نبذ وصية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ أو داهن في دين الله ؟ ! ( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ) ! [ سورة النور 224 / 16 ] .
قال العلماء : وما يتمسك به الشيعة من الظواهر التي توهم كون علي رضي الله عنه متعينا للإمامة ، معارض بنصوص كثيرة ، تشير إلى تعين الصديق تلويحا ، بل تصريحا ، يجب تقريرها ، وتأويل ما عارضها ، لانعقاد الإجماع على مقتضاها . وقد قام الدليل المتواتر القطعي على عصمة الصحابة ، فمن بعدهم من القرون ؛ من أن يجتمعوا على الضلال ، وقد سماهم الله : خير أمة ، فلو تعاونوا على الإثم والعدوان كما يزعم أهل الباطل والبهتان لكانوا شر أمة ، كيف وقد وعد الله نم اتبع غير سبيلهم ؟ فقال تعالى : ! ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) ! [ سورة النساء 4 / 115 ] .

فصل
في فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم أجمعين
الأئمة من قريش
قال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ' .
قال العلماء : هو خبر بمعنى الأمر أي : لا تزيلوا الخلافة من قريش وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين ' . متفق عليهما . وقال الله تعالى : ( وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) الآية [ سورة النور 24 / 55 ] . وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا عضوضا ' / .

فدلت الآية الكريمة بوعد الله الحق من أن هذه الأمة لا بد أن يقيم الله لها خلفاء بعد نبيها ، يمكن لهم الدين الذي ارتضى لهم ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، وذلك إن كان في حق من بعد الخلفاء الأربعة الأئمة فباطل اتفاقا ، وإن كان فيهم فهم الذين صدق وعد الله فيهم ، وتعين حينئذ صحة خلافتهم ، وصحة ترتيبهم ، لأن الطرفين من الأربعة ، وهما : أبو بكر وعلي دون الوسط في تحقيق التمكين الموعود في الدين ؛ إذ الصديق رضي الله عنه إنما قاتل أهل الردة ليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإسلام ، وعلي رضي الله عنه إنما قاتل الفئة الباغية لتفيء إلى أمر الله . وحقيقة التمكين في الدين إنما حصل في مدة عمر وعثمان رضي الله عنهما ، وإذا صدق الوعد الحق في الوسط ، وجب صدقه في الطرف الأول قطعا ، وفي الآخر إجماعا . وأما الحديث الشريف : ففيه حكم منه [ صلى الله عليه وسلم ] بأن مدة القائمين بالخلافة بعده أي : على ما كان هو عليه [ صلى الله عليه وسلم ] ثلاثون سنة ، وذلك هو قدر مدة الخلفاء الأربعة مع أيام خلافة سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما . لأن الصديق رضي الله عنه بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول [ صلى الله عليه وسلم ] ، في سقيفة ( بني ساعدة ) ، ثم بويع له البيعة العامة من غد ذلك اليوم كما سبق .

وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وتوفي رضي الله عنه لثمان ليال بقين من شهر جمادى الأولى ، سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، فمدة خلافته سنتان وشهران ونصف شهر ، وسنه رضي الله عنه يوم مات ثلاث وستون سنة كسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ودفن معه في حجرته .
عهد الصديق بالخلافة إلى عمر
وعهد بالخلافة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال : وليت عليهم خيرهم . وتوفي عمر شهيدا في صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، فمدة خلافته / عشر سنين وستة أشهر .
انتخاب عثمان رضي الله عنه وخلافته
وأوصى بالخلافة شورى بين ستة من العشرة . وهم : عثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، فأجمع رأيهم بعد شدة البحث على عثمان رضي الله عنه ، فبايعوه بالخلافة يوم السبت ، غرة المحرم ، أول سنة أربع وعشرين من الهجرة .
مقتل عثمان رضي الله عنه
وقتل ب ( المدينة ) شهيدا يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة ، سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، فمدة خلافته اثنتا عشرة سنة ، وقد قارب ثمانين سنة ، ودفن ب ( البقيع ) . مبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة ومقتله بالكوفة وبويع لعلي رضي الله عنه في ذلك اليوم ، في دار من دور الأنصار ، ثم بويع له البيعة العامة من الغد في ( المسجد النبوي ) ، وقتل ب ( الكوفة ) شهيدا صبح الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان المعظم ، سنة أربعين من الهجرة ، ومدة خلافته أربع سنين وتسعة اشهر بتقديم التاء رضي الله عنه وعنهم أجمعين .
فصل
في ذكر شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أجمع أهل السنة على أن خير الصحابة وأفضلهم على ما رتبوه هم رضي الله عنهم ، فمن قدموه فهو المقدم ، ومن أخروه فهو المؤخر ، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل ، وذلك غيب لا يطلع عليه إلا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وقد ورد من ثنائه [ صلى الله عليه وسلم ] على أصحابه عموما وخصوصا نصوص لا يدرك دقائقها ، ويعرف حقائقها إلا الصحابة الذين سمعوها وحملوها ، وعرفوا أسبابها ، وقرائن أحوالها ، وشاهدوا ما كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يعامل به أصحابه ، ويخص به بعضهم دون بعض من التقديم والتعظيم ، فوجب الرجوع في ذلك إلى الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل ، وعلموا بقرائن الأحوال مراتب التفضيل . وقد أجمعوا رضي الله عنهم من غير توقف ولا تردد في حياة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعد وفاته على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، / كنا نفاضل بين الصحابة في زمان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنقول : أفضلهم أبو بكر ، ثم عمر ، فلا ينكر علينا . وفي رواية : ثم نترك أصحاب رسول الله فلا نفاضل بينهم . وفيهما [ أي : الصحيحين ] عن محمد بن علي بن أبي طالب

رضي الله عنهما وهو ابن الحنفية قال : قلت لأبي : أي الناس خير بعد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ ، فقال : أبو بكر ، قلت : ثم من ؟ ، قال : عمر . واتفقت الأمة على أن خير الصحابة : الخلفاء الأربعة .
قال أهل السنة : ثم تمام العشرة المشهود لهم بالجنة ، ثم بقية أهل ( بدر ) ، ثم أهل ( أحد ) ، ثم أهل بيعة الرضوان . قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى : ( وأجمع أهل السنة على أن أفضلهم على الإطلاق : أبو بكر ، ثم عمر ، وقدم جمهورهم عثمان على علي ، وهو الصحيح ، ولهذا اختارته الصحابة للخلافة وقدموه ، وهم أعلم بالترتيب ) . انتهى .
قلت : ولهذا عقد الصحابة الخلافة للصديق من غير تردد ، وعقدها أبو بكر لعمر من غير تردد ، وتوقف عمر فيمن يعقدها له . وقال الإمام الجليل الحافظ أبو عمر يوسف بن محمد بن عبد البر المالكي رحمه الله تعالى في ' شرح موطأ الإمام مالك ' رحمه الله تعالى : ( أجمع أهل السنة على أن أفضل الأمة بعد نبيها : أبو بكر ، ثم عمر ، ووقف بعض السلف في عثمان وعلي . وأما اليوم فلا يختلف الخلف في أن الترتيب : عثمان ثم علي . قال : وعليه عامة أهل الحديث من لدن أحمد ابن حنبل وهلم جرا ) . انتهى .
قال العلماء : ولو لا فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما رتبوا الأمر كذلك ، إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عن أهل الحق صارف .

فصل
في أدلة فضل الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم ومن الأدلة الشاهدة على فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، الموجبة لهم زيادة المزية على غيرهم : (
فضائل الصديق رضي الله عنه
) قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ' ، متفق / عليه ] . زاد في رواية : ' ولكن أخوة الإسلام أفضل ' . وفي أخرى : ' ولكنه أخي وصاحبي ' . أي : أن تسميتي له بما سماه الله به من الأخوة والصحبة في الغار أفضل من وصفي له بالخلة . [ وفي رواية ] : إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ' ، متفق عليه [ وقوله ] : ' إن الله بعثني فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت ، وواساني بنفسه وماله ' ، متفق عليه .

[ وقوله ] : ' فهل أنتم تاركو لي صاحبي ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي - ثلاث مرات - ' ، متفق عليه . [ وقوله ] : ' مروا أبا بكر فليصل بالناس ' ، متفق عليه . [ وقوله ] : ' إني أخشى أن يتمنى متمن ، أو يقول قائل : أنا أولى بالأمر ، ويأبى الله ذلك والمؤمنون إلا أبا بكر ' ، متفق عليه . وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] لما رجف به ( أحد ) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان : ' أثبت أو اسكن أحد ، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان ' ، متفق عليه . والخطاب عند المحققين محمول على الحقيقة ، إقامة له مقام من يفعل ، لتحركه ، مع قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما من شيء إلا ويعلم أني رسول الله ' . وقالوا : سبحان الله أبقرة تتكلم وذئب يتكلم ؟ فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر ' ، متفق عليه .

وقيل له : من أحب الناس إليك ؟ قال : ' عائشة ' ، قيل : ومن الرجال ؟ قال : أبوها ' ، قيل : ثم من ؟ قال : ' عمر ' ، متفق عليه .

فضائل عمر رضي الله عنه
[ وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' إيه يا ابن الخطاب ، والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك ' متفق عليه . أي : أن الحق يدور معه أينما دار ، فهو من الذين قال الله فيهم : ! ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ! [ سورة الحجر 15 / 42 ] . وشهادته [ صلى الله عليه وسلم ] بأن عمر من المحدثين - بفتح المهملتين ، أي : من أهل الإلهام الموافق للصواب - وإنه [ صلى الله عليه وسلم ] رأى عليه قميصا ضافيا يجره ، وأوله بوفور الدين في أيامه . متفق عليه . وأنه [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] سقى فضلة من اللبن عمر ، وأوله بالعلم ، متفق عليه . وأن عمر سقى الناس حتى أرواهم ، متفق عليه . وأوله العلماء بكثرة الخيرات والفتوحات في أيامه
فضائل عثمان رضي الله عنه
وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' بشره بالجنة ، على بلوى تصيبه ' - يعني : عثمان - متفق عليه .
فضائل علي رضي الله عنه
وقوله / [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ' ، فأعطاها عليا . متفق عليه . مع قوله [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ' ، متفق عليه .
مناقب الصديق رضي الله عنه
هذا مع ما اشتهر للصديق رضي الله عنه من سبقه إلى التصديق من غير تردد ، وكثرة التصدق غير مرة بجميع ماله في سبيل الله ، وما كان عرفه البر والفاجر والمؤمن والكافر من شدة اختصاصه في الجاهلية والإسلام بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام ، وقربه منه ، ومجاورته له حيا وميتا ، ثم ما أيده الله به من الثبات عند موت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ووعظه المسلمين ، ثم إطفاء نار الفتنة عند تنازع الصحابة ، وجهاد أهل الردة ، حتى استقام الدين ، ومن تقواه المعروف ، وصنائعه للمعروف ، وكمال النفس ، ورسوخ القدم في التوحيد ، ووقر اليقين في الصدر .
مناقب عمر رضي الله عنه
ومع ما عرف للفاروق رضي الله عنه من عزة الإسلام بإسلامه ابتداء وانتهاء ، ومن الشدة في الدين ، والجمع في السياسة بين

العنف واللين ، وكثرة الفتوحات ، وموافقة رأيه للوحي في غير مرة ، وعدله ، وإحسانه ، وحسن سيرته المشهورة ، حتى قال أهل السير : لو أن هذه الأمة فاخرت جميع الأمم بسيرة عمر لفخرتها ، إذ لم يعلم أن ملكا من المتقدمين والمتأخرين سار سيرته .

مناقب عثمان رضي الله عنه
ومع شهادة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لعثمان الشهيد باستحياء الملائكة الكرام منه إجلالا واحتراما ، وضربه له بسهمه وأجره يوم ( بدر ) ، وضربه بيده اليمنى على اليسرى عنه في بيعة الرضوان ، وتزويجه له بابنتيه رضي الله عنهما ، ثم قال : ' لو كان عندي ثالثة لزوجتكها ' ، مع ما اشتهر من جمعه لمصاحف القرآن ، ومواظبته على تلاوته ، وكثرة الصيام والقيام ، وشفقته على الأمة بوضع السلاح تورعا منه على سفك الدماء ، وصدقاته المشهورة ؛ كتجهيز جيش / العسرة وحفر بئر ( رومة ) الموعود عليها بالجنة .
مناقب علي رضي الله عنه
ومع شهادته [ صلى الله عليه وسلم ] للمرتضى علي بن أبي طالب بأنه أقضاهم ، وأنه قائد الفئة الناجية ، وتقتل عمارا الفئة الباغية ، وتزويجه له بابنته فاطمة الزهراء - سيدة نساء أهل الجنة ، وأم الحسن والحسين ، سبطي المصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] - مع ما اشتهر من قدم إسلامه ، ورسوخ علمه ، وزهده ، وشجاعته في نصرة دين الله ، وشرف القرابة القربى من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ورضي الله عنهم أجمعين . ومن نظر بعين البصيرة في مناقب الخلفاء الأربعة الواردة في ' الصحيحين ' ، أو في أحدهما - كما أوردناه ، ولم تمل به الأهواء - ظهر له إصابة الصحابة في تربيتهم في الفضل على تربيتهم في الخلافة . ! ( وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) ! [ سورة الحديد 57 / 10ٍ ] .
فصل
في أدلة فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين الذي عليه جمهور المحدثين أن كل مسلم اجتمع بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولو لحظة فهو من الصحابة . وقد ورد في فضلهم رضي الله عنهم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما لا يحصى . فروى البخاري ومسلم في ' صحيحهما ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' خيركم - وفي رواية - خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم - أي : التابعون - ثم الذين يلونهم - أي : تابعو التابعين - ' . قال الشيخ محي الدين النووي - رحمه الله تعالى - : ( ورواية ' خير الناس ' على عمومها ، والمراد منه جملة القرون السابقة واللاحقة ، ولا يلزم منه تفضيل أهل قرنه على الأنبياء عليهم السلام ، إذ المراد جملة القرون ، بالنسبة إلى كل قرن بجملته . قال : والمراد بالقرن : الصحابة ، ثم الذين يلونهم : التابعون ، ثم الذين يلونهم : تابعو التابعين ) . انتهى .


قلت : وأول قرن الصحبة من مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى موت آخرهم موتا ؛ وهو أبو الطفيل على رأس عشر بعد المئة من الهجرة ، لمئة من الوفاة ، وهو أيضا آخر قرن التبعية لتعذرها حينئذ ، وأوله من الوفاة لتعذر الصحبة حينئذ ، والله أعلم .
قال العلماء : وإنما كانوا خير القرون بشهادة الله تعالى ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] لهم بكل فضيلة ؛ من الإخلاص والصدق والتقوى ، والشدة في الدين ، والرحمة على المؤمنين ، ونصرة الله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، وبذل النفوس والأموال وبيعها من الله تعالى ، وإيثارهم على أنفسهم ، وكونهم خير أمة أخرجت للناس ، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه ، والحائزين على الفوز والفلاح ، والبشارة بأعلى الجنان وجوار الرحمن ، إلى غير ذلك . ومدح الله لا يتبدل ، ووعده لا يخلف ولا يتحول ، إذ هو سبحانه المطلع على عواقب الأمور ، والعالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فلا يمدح جل وعلا إلا من سبقت له منه الحسنى ، وكان ممدوحا في الآخرة والأولى . قال الله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بأحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وذلك الفوز العظيم ) [ سورة التوبة 9 / 100ٍ ] . وقال سبحانه : ! ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) ! [ سورة التوبة 9 / 88 - 89 ] . وقال تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم

بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ) [ سورة التوبة 9 / 111 ] . وقال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ) الأية [ سورة الفتح 48 / 29 ] . وقال تعالى في حق المهاجرين : ! ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) ! [ سورة الحشر 59 / 8 ] . [ وقال تعالى ] في حق الأنصار : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) [ سورة الحشر 59 / 9 ] . [ وقال تعالى ] في حق التابعين لهم بإحسان ، المستغفرين لهم ، السالمين من غل القلوب - جعلنا الله منهم - : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) [ سورة الحشر 59 / 10 ] وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل ( أحد ) ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفة ' ، متفق عليه . قال الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله تعالى - : ( ومعنى

الحديث : لو أنفق أحدكم في سبيل الله مثل ( أحد ) ذهبا ما بلغ ثوابه ثواب نفقة أحدهم مدا من طعام ولا نصيفة . قال : وسبب ذلك كون نفقتهم رضي الله عنهم في وقت الضرورة وضيق الحال ، وفي نصرته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وحماية دينه وإعزازه ، وكذلك كان جهادهم وسائر طاعاتهم ، وذلك معدوم فيمن بعدهم ، مع أن فضيلة الصحبة ولو بلحظة لا توازيها فضيلة ، ولا تنال درجتها بشيء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) انتهى . والمخاطب بقوله : ' لا تسبوا أصحابي ' الأمة ، أو أنه نزل الساب منزلة من ليس من أصحابه ، أو خص بالصحبة السابقين منهم ، كما ورد في سبب الحديث أن خالد بن الوليد سب عبد الرحمن بن عوف .
قال العلماء : وإذا ثبت ثناء الله ورسوله عليهم رضي الله عنهم بكل فضيلة ، والشهادة لهم بالمناقب الجليلة ، فأي دين / يبقى لمن نبذ كتاب الله وراء ظهره ، فنسبهم إلى باطل ، أيقول هذا الجاهل بأن الله - تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - لما وصفهم وأثنى عليهم كان جاهلا بما يؤول إليه حالهم ، فتبدل قوله الحق باطلا ، والصدق كذبا ، أم كان عالما بذلك ، ولكنه خان رسوله بالثناء على من ليس أهلا للثناء ، ورضي لرسوله المجتبى عنده بصحبة الفاسقين ، ومصافاة المنافقين . كلا ، والله لقد كانوا أحق بتلك الفضائل وأهلها . ( وكان الله بكل شيء عليما ) [ سورة الأحزاب 33 / 40 ] .

وكانوا كما وصفهم الله : ! ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) ! [ سورة الأحزاب 33 / 23 ] . اللهم إنا نشهد أنهم كما وصفتهم من أنهم خير أمة ، ونثني عليهم بما أثنيت عليهم من الفضائل الجمة ، ونعتقد أنهم قد قلدوا رقاب الخاصة والعامة المنة ؛ لأنهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، حتى قرروا هذا الدين ، ثم حملوه إلى الناس كما نقلوه ، باذلين في ذلك غاية الجهد والنصح ، ونعتقد وجوب تعظيمهم واحترامهم ومحبتهم ، والكف عما شجر بينهم ، وحسن الظن بهم ، والإعراض عما يورده الإخباريون عنهم ، مما لا يسلم من مثله بشر ، إلا من عصمه الله ، وهم غير معصومين ، وحمل ما صح عنهم من الهفوات التي هي قطرة كدرة في بحر صاف من محاسنهم على أحسن المحامل ، وتأويله بما يليق بجلالة قدرهم ، ولا يحرم ذلك إلا من حرم التوفيق . اللهم فانفعنا بحبهم ، واعصمنا عن سبهم ، وأحينا على سنتهم ، وتوفنا على ملتهم ، واحشرنا في زمرتهم ، يا أرحم الراحمين . وما أحسن قول صاحب البردة - رحمه الله تعالى - فيهم ، [ من البسيط ] : ( ما زال يلقاهم في كل معترك ** حتى حكوا بالقنا لحما على وضم )

( كأنما الذين ضيف حل ساحتهم ** بكل قرم إلى لحم العدا قرم ) ( يجر بحر خميس فوق سابحة ** يرمي بموج من الأبطال ملتطم ) ( من كل منتدب لله محتسب ** يسطو بمستأصل للكفر مصطلم ) ( حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم ** من بعد غربتها موصولة الرحم ) ( مكفولة أبدا منهم بخير أب ** وخير بعل فلم تيتم ولم تئم )

2

الخاتمة
في ذكر شيء من سيرته [ صلى الله عليه وسلم ] في أحواله النفسية وأقواله القدسية

( فارغة )

الباب الأول
في أحواله النفسية وفيه فصول سبعة : في حسن خلقته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وحسن خلقه ، ووفور عقله ، وحسن عشرته ، وسماحته ، وشجاعته ، وزهده

( فارغة )

فصل
في حسن خلقته [ صلى الله عليه وسلم ] اعلم أن من نظر إلى خصال الكمال وجد نبينا [ صلى الله عليه وسلم ] حائزا لجميعها ، محيطا بشتاتها . أما حسن خلقته [ صلى الله عليه وسلم ] : فقد كان كما في الحديث الصحيح أحسن الناس وجها ، وأكملهم صورة . وأحسنهم خلقا ، حتى كأن الشمس تجري في وجهه ، إذا ضحك تلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أجمل الناس من بعيد ، وأحلاهم وأحسنهم من قريب . يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله . وكان له شعر يبلغ شحمة أذنيه ، فإذا جاوزها قصه . وكان [ صلى الله عليه وسلم ] نظيف الجسم ، طيب الطيب والعرق طبعا ، لا يشم عنبر ولا مسك أطيب من ريحه ، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريح يده ، سواء مسها بطيب أم لا ، ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحه ، ولا يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه ، لم يكن منه شيء يكره [ صلى الله عليه وسلم ] .
فائدة
في أشبه الناس صورة بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] أشبه الناس صورة بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أولاده : فاطمة ، وابناها الحسن والحسين رضي الله عنهم ، ومن أهل بيته أربعة : وهم : بنو أعمامه الثلاثة : جعفر بن أبي طالب ، وقثم بن العباس ، وأبو سفيان المغيرة بن الحارث ، والسائب بن يزيد جد الإمام

الشافعي رضي الله عنهم . وقد نظم هؤلاء الأربعة مع الحسن بن علي - بعض الفضلاء فقال / ، [ من البسيط ] : ( بخمسة شبه المختار من مضر ** يا حسن ما خولوا من وجهه الحسن ) ( كجعفر وابن عم المصطفى قثم ** وسائب وأبي سفيان والحسن )

فصل
في حسن خلقه [ صلى الله عليه وسلم ] وأما حسن خلقه [ صلى الله عليه وسلم ] : فقد كانت فيه الأخلاق الحميدة ، والآداب المجيدة ، جميعها على الانتهاء في كمالها ، والاعتدال في غايتها ، حتى أثنى الله عليه بذلك ، فقال : ! ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ! [ سورة القلم 68 / 4 ] . وفي ' الصحيحين ' : كان خلقه القرآن - أي : مطبوعا على ما احتوى عليه من العدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، آخذا للعفو ، آمرا بالعرف ، معرضا عن الجاهلين - إلى غير ذلك . وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ' . وكان [ صلى الله عليه وسلم ] مجبولا عليها في أصل خلقته ، مطبوعا عليها في أول فطرته ؛ بالجود الإلهي ، والتخصيص الرحماني ، ثم ازداد كمالا بترادف نفحات الكرم ، وإشراق أنوار المعارف والحكم ، وطلوع شمس النبوة والرسالة ، واتساق بدر الخلة والمحبة ، إلى ما لا يحيط به الوصف ، ولا يدركه الوهم ، ولا يعلمه إلا مانحه ومسديه ، ومعيد الفضل ومبديه .
فصل
في وفور عقله [ صلى الله عليه وسلم ] وأما وفور عقله وذكاء لبه [ صلى الله عليه وسلم ] : فمن تأمل حسن تدبيره [ صلى الله عليه وسلم ] لأمور بواطن الخلق وظواهرهم ، وسياسته للخاصة والعامة ، مع عجيب شمائله ، وغريب سيره ، فضلا عما نشره من العلم ، وقرره من الشرع ، وما علمه الله من ملكوت سماواته وأرضه ، وآيات قدرته ، واطلعه عليه مما كان ومما سيكون ، ومع ما خصه الله به من جوامع كلمه ، وبدائع حكمه ، ومع التأييد الإلهي والعصمة بالوحي السماوي ، فإنه يقتضي العجب ، ويذهب به الفكر ، ويعلم يقينا مصداق قوله تعالى تشريفا له وتكريما وتعظيما : ! ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) ! [ سورة النساء 4 / 113 ] . وعن وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - قال : قرأت في أحد وسبعين كتابا ، فوجدت فيها أن الله تعالى لم يعط جميع الأولين / والآخرين من العقل في جنب عقل نبيه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] إلا كحبة رمل من رمال الدنيا . ولا شك أن العقل عنصر الأخلاق الشريفة ، ومنه ينبعث العلم والمعرفة ، فبحسب عقله [ صلى الله عليه وسلم ] كانت علومه ومعارفه ، وهو عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقا وعلما ومعرفة وعقلا ، وذلك سجية فيه وطبعا وصف ما امتاز به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في خلقه وخلقه وما أحسن قول صاحب البردة - رحمه الله تعالى - فيها ، [ من البسيط ] :

( فاق النبيين في خلق وفي خلق ** ولم يدانوه في علم ولا كرم ) ( وكلهم من رسول الله ملتمس ** غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) ( وواقفون لديه عند حدهم ** من نقطة العلم أو من شكلة الحكم ) ( فهو الذي تم معناه وصورته ** ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم ) ( منزه عن شريك في محاسنه ** فجوهر الحسن فيه غير منقسم )

فصل
في حسن عشرته [ صلى الله عليه وسلم ] وأما في حسن عشرته [ صلى الله عليه وسلم ] ووفور شفقته ورحمته : فقد قال الله تعالى : ! ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ! [ سورة التوبة 9 / 128 ] . وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أوسع الناس صدرا ، وأكرمهم عشرة ، وألينهم عريكة - أي : خبرة - . قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء . يؤلفهم ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ، ويتعهد أصحابه ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، ومن جالسه صابره حتى ينصرف ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول . وما أخذ أحدا بيده فأرسلها حتى يرسلها الآخذ .

وكان يجيب من دعاه من حر أو عبد ، أو غني أو فقير ، وما دعاه أحد إلا قال : ' لبيك ' . ويعود المرضى ، ويقبل عذر المعتذر ، ويقبل الهدية ويكافئ عليها ، ويمازح أصحابه . ولكن لا يقول إلا حقا ، ويخالطهم ويحادثهم ، ويضع أطفالهم في حجره / ، ويداعب صبيانهم ، ويدعوهم بأحب أسمائهم . ويبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى ينتهي . وكان مجلسه مجلس حلم وحياء ، وصدق وأمانة ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .

فصل
في سماحته وجوده [ صلى الله عليه وسلم ] وأما سماحته وجوده [ صلى الله عليه وسلم ] : فمن المعلوم أنه كان بالمحل الأكمل . وفي ' الصحيح ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أجود الناس بالخير ، وأجود ما يكون في رمضان . وأنه كان إذا لقيه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة . وما سئل عن شيء قط فقال : ' لا ' . وسبق أنه أعطى رجلا من غير سؤال غنما بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لو كان عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا ' .

وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما أحب أن يكون لي مثل ( أحد ) ذهبا ، تمسي علي ثالثة وعندي مئة شيء إلا أن أقول به في عباء الله ، هكذا وهكذا وهكذا ' وحثا بين يديه وخلقه ، وعن يمينه وشماله . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] جاءه مال من ( البحرين ) - أي : نحو مئة ألف - فأمر بطرحه على نطع في المسجد ، فصلى العصر ، ثم انصرف إليه ، فما قام من مجلسه حتى فرقة عطاء .

فصل
في شجاعته [ صلى الله عليه وسلم ] وأما شجاعته [ صلى الله عليه وسلم ] : فقد كان في ذلك بالمكان الذي لا يجهل . بذلك وصفه من عرفه ، فقد حضر المواقف الصعبة ، وفر الكماة منه غير مرة ، وهو ثابت لا يبرح ، ومقبل لا يتزحزح ، كما سبق في يوم ( أحد ) ، ويوم ( حنين ) . وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال - وهو البطل المقدام والليث الضرغام - : كنا إذا حمي الوطيس ، واشتد البأس ، واحمرت الحدق ؛ اتقينا برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] / ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ، وكان أشجعنا من كان أقرب إليه . وسبق قول العباس رضي الله عنه في يوم ( حنين ) : وأنا آخذ بلجام بغلته [ صلى الله عليه وسلم ] ، أكفها إرادة أن لا تسرع . وقول البراء بن عازب رضي الله عنهما : لكن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم يفر ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء ، وابن عمه أبو سفيان آخذ بلجامها يكفها وهو يقول : ' أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ' فما رئي [ من الناس ] يومئذ أشد منه [ صلى الله عليه وسلم ] .
فصل
في زهده [ صلى الله عليه وسلم ] وأما زهده [ صلى الله عليه وسلم ] في الدنيا ، وإيثاره للعقبى : فحسبك ما اشتهر عنه من تقلله منها ، وإعراضه عن زهرتها ، امتثالا لقول ربه سبحانه وتعالى : ! ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) ! [ سورة طه 20 / 131 ] . وكان [ صلى الله عليه وسلم ] - كما اتفق عليه نقلة الأخبار عنه - مقتصرا في نفقته وملبسه ومسكنه على قدر الضرورة منها ، ولقد عرضت عليه أن تجعل له بطحاء ( مكة ) ذهبا ، أو أن تكون الجبال ذهبا لا حساب عليه فيها ، فاختار أن يكون نبيا عبدا ، يجوع يوما ، ويشبع يوما ، ثم جيئت إليه الأموال من الغنائم والخمس والزكوات والجزية والهدية فصرفها في مصارفها ، وقوى المسلمين بها ، وسد به فاقتهم ، وأغنى به عيلتهم ، ولم يستأثر منها بشيء دونهم . وفي ' الصحيحين ' : ما شبع نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهله من خبز بر ثلاثة أيام تباعا حتى فارق الدنيا . وإنا كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ، ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نار ، [ قال : يا خالة ،

فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان ] ما هو إلا التمر والماء . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كثيرا ما يرى عاصبا بطنه من الجوع . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] مات ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير . وصف زهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وما أحسن قول / صاحب البردة فيها ، [ من البسيط ] : ( ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ** أن اشتكت قدماه الضر من ورم ) ( وشد من سغب أحشاءه وطوى ** تحت الحجارة كشحا مترف الأدم ) ( وراودته الجبال الشم من ذهب ** عن نفسه فأراها أيما شمم ) ( وأكدت زهده فيها ضرورته ** إن الضرورة لا تعدو على العصم ) ( وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ** لولاه لم تخرج الدنيا من العدم )

الباب الثاني
في أقواله القدسية
وفيه فصول عشرة : في ذكره لربه في سوابق الصلاة ، وفي الصلاة ، وفي لواحق الصلاة ، وفي المرض وتوابعه ، وفي الصيام ، وفي السفر ، وفي الحج ، وفي الجهاد ، وفي المعاش ، وفي المعاشرة .

( فارغة )

فصل
في سوابق الصلاة
أما سوابق الصلاة : ففي أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] إذا استيقظ من نومه ، وإذا لبس ثوبه ، وإذا خرج من بيته ، وفي قضاء الحاجة ، وفي الطهارة ، وفي التوجه إلى المسجد ، وعند سماع الأذان . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا أمسى وإذا أصبح فثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان إذا آوى إلى فراشه قال : ' باسمك اللهم أحيا وأموت ' . وإذا استيقظ قال : ' الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ' ، رواه البخاري . وروى ابن السني أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما من عبد يقول . . حين رد الله إليه روحه : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ؛ إلا غفر الله ذنوبه ، وإن كانت مثل زبد البحر ' . وفي ' سنن أبي داود ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا استيقظ من النوم قال : ' لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك ، رب زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب ' .

وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا قام من نومه نظر إلى السماء ، وقرأ الآيات العشر الخواتم / من سورة آل عمران : ! ( إن في خلق السماوات والأرض ) ! إلى آخر السورة . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا لبس ثوبا جديدا وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' من لبس ثوبا جديدا فقال : الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه ' ، رواه ابن السني . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من لبس ثوبا جديدا ، فقال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به ، كان في حفظ الله ، وفي كنف الله ، وفي ستر الله حيا وميتا ' ، رواه الترمذي والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] رأى على عمر رضي الله عنه ثوبا جديدا ، فقال ' البس جديدا ، وعش حميدا ، ومت شهيدا ' ، رواه ابن ماجه وابن السني . ( دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] اذا خرج من بيته ) وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان إذا خرج من بيته ، قال : ' باسم الله ،

توكلت على الله . اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل علي ' ، رواه أصحاب السنن الأربعة بإسناد صحيح ؛ وهم أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال إذا خرج من بيته : باسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له حينئذ - أي : تقول له الملائكة - : هديت وكفيت ووقيت ، وتنحى عنه الشيطان ، وقال لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ؟ ' دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا دخل الخلاء أو خرج منه وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يقول عند دخول الخلاء : ' اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول إذا خرج من الخلاء : ' غفرانك ' ، رواه أبو داود بإسناد صحيح . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] في الوضوء وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ' ، رواه أبو داود وغيره .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول في أثناء وضوئه : ' اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسع لي في داري ، وبارك / لي في رزقي ' ، رواه النسائي وابن السني بإسناد صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من توضأ فقال أي : بعد الفراغ : أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، [ إلا ] فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء ' ، رواه مسلم والترمذي وزاد : ' اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ' . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا خرج إلى الصلاة وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان إذا خرج إلى الصلاة قال ما يقوله إذا خرج من بيته . وزاد في ' صحيح مسلم ' ، وقال : ' اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي لساني نورا ، واجعل في سمعي نورا ، واجعل في بصري نورا ، واجعل من خلفي نورا ، ومن أمامي نورا ، واجعل من فوقي نورا ، ومن تحتي نورا ، اللهم أعطني نورا ' . زاد ابن السني : ' اللهم بحق السائلين عليك ، وبحق مخرجي هذا ، فإنه لم أخرجه أشرا ولا بطرا ، ولا رياء ولا سمعة ، خرجت ابتغاء مرضاتك ، واتقاء سخطك ، أسألك أن تعيذني من

النار وتدخلني الجنة ' . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] عند دخول المسجد وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' من قال إذا دخل المسجد : أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ؛ قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم ' ، رواه أبو داوود بإسناد حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك ' ، رواه مسلم . وأنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] إذا دخل المسجد قال : ' باسم الله ، اللهم صل على محمد ' ، وإذا خرج قال : ' باسم الله ، اللهم صل على محمد ' . ( دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إن سمع الآذان ) وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ' ، متفق عليه . وروى مسلم أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل

ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها / عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة ، لا تبتغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ' - أي وجبت - .
قلت : هكذا في جميع النسخ : ' أنا هو ' والأفصح : أن أكون أنا إياه . وروى البخاري أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال حين يسمع النداء - أي : بعد الفراغ - اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة ' .

فصل
في الصلاة
أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في افتتاح الصلاة وأما أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في الصلاة : ففي الافتتاح ، والقيام والركوع ، والاعتدال ، والسجودين ، والجلوس بينهما ، وفي التشهد وما بعده . فثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] انه كان إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه ، وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا ، وقال : ' سمع الله لمن حمده ' ، ثم قال : ' ربنا ولك الحمد ' ، وكان لا يفعل ذلك في السجود . متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] حين يدخل في الصلاة يرفع يديه ، ثم يضع يده اليمنى على اليسرى . رواه مسلم . وفي البخاري : كان الناس يؤمرون في الصلاة أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى .
قال العلماء : والحكمة في هذه إلهية ، أنه صفة العبد المستسلم لمولاه . وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال بعد تكبيرة الإحرام : ' سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ' ، رواه

الترمذي وأبو داود وابن ماجه . وأنه [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] سمع رجلا قال بعد تكبيرة الإحرام : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، فقال : ' عجبت لها ، فتحت لها أبواب الجنة ' ، رواه مسلم . وروى مسلم أيضا أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول إذا افتتح الصلاة : ' وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين / ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، ورواه ابن حبان في ' صحيحه ' وزاد بعد حنيفا : ' مسلما ' . وروى البخاري أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول : ' اللهم باعد بيني وبين

خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في القيام وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول قبل القراءة في الصلاة : ' أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، من نفخه ونفثه وهمزه ' ، رواه أصحاب السنن الأربعة . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ' ، متفق عليه . ولفظ ابن خزيمة وابن حبان في ' صحيحتهما ' : ' لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] عد البسملة آية من الفاتحة . رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا قال الإمام : ! ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ! فقولوا : آمين ، فإنه من وافق قوله - أي : في حالة التأمين - قول الملائكة - أي ' في السماء كما في رواية أخرى - غفر له ما تقدم من ذنبه ' ، متفق عليه . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقرأ بعد الفاتحة سورة ، إلا في الثالثة والرابعة . متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل ، وفي العصر والعشاء بأوساطه ، وفي المغرب بقصاره . رواه النسائي . وأول المف ل الحجرات . وأنه كان يقرأ في صبح الجمعة : ! ( الم تنزيل ) ! في الركعة الأولى ، وفي الثانية : ( هل أتى ) ، متفق عليه .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ في ركعتي سنة الفجر بسورتي : الإخلاص والكافرون . رواه مسلم . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في الركوع وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا ركع كبر مع ابتداء الهوي ، ورفع يديه حذو منكبيه ، ويقول : ' سبحان ربي / العظيم ' ثلاثا ، رواه في التكبير والرفع الشيخان . وفي التسبيح مسلم ، وفي تثليث التسبيح أبو داود . وروى مسلم أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول أيضا في ركوعه في صلاة الليل : اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي ' . وزاد ابن حبان : ' وما استقلت به قدمي لله رب العالمين ' . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في اعتداله من الركوع وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه قائلا : ' سمع الله لمن حمده ' ، فإذا انتصب قال : ' ربنا لك الحمد ' ، متفق عليه .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا لك الحمد ؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ' ، متفق عليه . وروى مسلم أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يريد في صلاة الليل : ' ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ' . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في السجود وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يكبر لهويه إذا سجد . متفق عليه . زاد البخاري : بلا رفع ليديه . زاد أصحاب السنن الأربعة : ويضع ركبتيه ثم كفيه . زاد مسلم ويقول : ' سبحان ربي الأعلى ' . زاد أبو داود : ' ثلاثا ' . وروى مسلم أنه [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] كان يريد في صلاة الليل [ في سجوده فيقول ] : ' اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ،

سجد وجهي للذي خلقه وصوره ، وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ' . وروى مسلم أيضا أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أقرب ما يكون العبد من ربه ، وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء ' . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في جلوسه بين السجدتين وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يكبر إذا رفع رأسه من السجود . متفق عليه . زاد الترمذي : ويجلس [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] مفترشا . وقال : حسن صحيح . زاد أبو داود وابن ماجه ثم يقول : ' رب اغفر لي ، وارحمني ، واجبرني ، / وارفعني ، واهدني وارزقني ، وعافني ' . وروى البخاري أنه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا - أي : للاستراحة - . وروى البخاري ومسلم أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال للمسيء في صلاته : ' إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي

قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ' .

فائدة
فيما يتلى من القرآن في الصلاة قال ابن دقيق العبد : ظاهر الحديث الدلالة على وجوب ما ذكر فيه ، وعدم وجوب ما لم يذكر فيه ؛ وذلك متوقف على جميع طرقه ، والأخذ بالزائد فالزائد ، فلأبي داود : ' ثم اقرأ بأم القرآن ' ، وكذا للإمام أحمد وابن حبان وزادا : ' ثم بما شئت ' ، وحينئذ إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في التشهد وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يعلمهم التشهد ، وأنه كان يقول : ' التحيات المباركات ، الصلوات الطيبات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ' ، رواه مسلم . وأنهم قالوا : كيف نصلي عليك ؟ فقال : ' قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ' ، متفق عليه .
فائدة
في قول : السلام عليك أيها النبي إنما لم يقل لهم قولوا : الصلاة عليك - بالخطاب - كما في : ( السلام عليك أيها النبي ) بل جعلها دعاء من الله له ، لتكون صلاة صالحة في حياته وبعد وفاته . وقد ثبت في البخاري : إنما كنا نقول : السلام عليك أيها النبي ، وهو بين أظهرنا ، فلما قبض قلنا : السلام / على النبي . فدل على أن الخطاب إنما وقع بطريق الاستصحاب الذي لم يحسن تغييره بعد موته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وإنه غير متعين . أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] بعد التشهد وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] علمهم التشهد ثم قال في آخره : ' ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يدعو في آخر التشهد : ' اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت . وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ' ، رواه مسلم . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] علم أبا بكر الصديق رضي الله عنه دعاء يدعو به في

صلاته : ' اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ' ، متفق عليه وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يتحلل ، من الصلاة بالسلام فيقول : ' السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ' ، مرتين يمينا وشمالا ، ملتفتا في الأولى حتى يرى خده الأيمن ، وفي الثانية حتى يرى خده الأيسر . رواه الدارقطني وابن حبان في ' صحيحه ' . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] علم الحسن بن علي رضي الله عنهما أن يقول في قنوت الوتر : ' اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت ' ، رواه أصحاب السنن الأربعة . والبيهقي ، وزاد : الصلاة على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في آخره . وأن محمد بن علي ابن الحنفية قال : إن هذا الدعاء هو الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته .

فصل
في لواحق الصلاة
وأما لواحق الصلاة : ففيما كان يقوله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد السلام من الصلاة ، وفي أذكاره في الصباح والمساء ، وفي أذكاره في أوقات متفرقة ، وفي أذكاره في التلاوة ، وفي أدعية مأثورة عنه ، وفي أذكاره عند النوم . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] بعد الفراغ من الصلاة فثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ، وقال : ' اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ' ، رواه مسلم . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا فرغ من صلاته قال : ' لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمد الله ثلاثا وثلاثين ، وكبر الله ثلاثا وثلاثين ، وقال تمام المئة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ؛ غفرت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر ' ، رواه مسلم .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لمعاذ بن جبل : ' يا معاذ ، والله إني لأحبك ، وأوصيك ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ' ، رواه أبو داود والنسائي ، بإسناد صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا قضى صلاته أي : فرغ منها مسح جبهته بيده اليمنى ، ثم قال : ' أشهد أن لا إله إلا الله ، الرحمن الرحيم ، اللهم أذهب عني الهم والحزن ' ، رواه ابن السني . وروى أيضا [ أي : ابن السني ] أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول إذا انصرف من صلاته : ' اللهم اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتمه ، وخير أيامي يوم / ألقاك ' . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من صلى الفجر في جماعة ، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين ، كانت له كأجر حجة وعمرة ؛ تامة ، تامة ، تامة ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قعد في مصلاه حين ينصرف ، من صلاة الصبح حتى يصلي ركعتي الضحى ، لا يقول إلا خيرا ، غفرت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر ' ، رواه الإمام أحمد وأبو داود .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال في دبر كل صلاة قبل أن يتكلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيى ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، عشر مرات ؛ كتبت له عشر حسنات ، ومحيت عنه عشر سيئات ، ورفعت له عشر درجات ، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه ، وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله تعالى ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] في الصباح والمساء وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما من عبد يقول في صباح كل يوم ، ومساء كل ليلة : باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، ثلاث مرات ، لم يضره شيء ' ، رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' سيد الاستغفار : اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء لك بذنبي أي : أقر فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، أعوذ بك من شر ما صنعت أي : أعمالي السيئة من قال ذلك حين يصبح فمات دخل الجنة ، ومن قال ذلك حين يمسي فمات دخل الجنة ' ، رواه البخاري . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال / : ' من قال أول نهاره : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، أعلم

أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما . اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ؛ لم تصبه مصيبة حتى يمسي ، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح ' ، رواه ابن السني . وفي رواية : ' لم يصبه في نفسه ولا أهله ولا ماله شيء يكرهه ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال له رجل : يا رسول الله ، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة ؟ فقال : ' أما إنك لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ؛ لم تضرك ' ، رواه مسلم . وإنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول إذا اصبح : ' اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت ، وإليك النشور ' . وإذا أمسى قال : ' اللهم بك أمسينا ، وبك أصبحنا ' إلى آخره ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، بالأسانيد الصحيحة . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال حين يصبح ، وحين يمسي : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] نبيا ؛ كان حقا على الله أن يرضيه ' ، رواه أبو داود والنسائي بأسانيد جيدة والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، والحاكم وقال : صحيح الإسناد .

وإنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم إني أصبحت ، أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك ؛ أنك أنت الله ، لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك ؛ أعتق الله ربعه من النار . فمن قالها مرتين ؛ أعتق الله نصفه من النار . ومن قالها ثلاثا ؛ أعتق الله ثلاثة / أرباعه من النار . فإن قالها أربعا ؛ أعتقه الله من النار ' ، رواه أبو داود ، بإسناد جيد . وروي أيضا بأسانيد جيدة ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك ، لا شريك لك ، لك الحمد ، ولك الشكر ؛ فقد أدى شكر يومه . ومن قال مثل ذلك حين يمسي ؛ فقد أدى شكر ليلته ' . وفي ' صحيح مسلم ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده مئة مرة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به ، إلا أحد قال مثل ما قال ، أو زاد عليه ' . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] في أوقات متفرقة وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول بعد ركعتي الفجر ، وهو جالس : ' اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد [ النبي ] [ صلى الله عليه وسلم ] : أعوذ بك من النار ، [ ثلاث مرات ] ' ، رواه ابن السني . وروى أيضا [ أي : ابن السني ] أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغداة : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو

الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاث مرات ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر ' . وروى أيضا [ أي : ابن السني ] أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول إذا طلعت الشمس : ' الحمد لله الذي جللنا اليوم أي : ألبسنا عافيته ، وجاء بالشمس من مطلعها . اللهم إني أصبحت أشهد لك بما شهدت به لنفسك ، وشهدت به ملائكتك ، وحملة عرشك ، وأولوا العلم من خلقك ؛ أنك أنت الله ، لا إله إلا أنت القائم بالقسط ، لا إله إلا أنت العزيز الحكيم . اكتب شهادتي بعدشهادة ملائكتك وأولي العلم ، ومن لم يشهد بمثل ما شهدت به فاكتب شهادتي مكان شهادته ' . وروى أبو داود والترمذي أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يقول إذا سمع المؤذن عند آذان المغرب : ' اللهم إن هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ، وأصوات دعاتك ؛ فاغفر لي ' . وروى ابن ا لسني أنه [ صلى الله عليه وسلم ] / كان يقول بعد أن يصلي سنة المغرب : ' يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ' . وروى أبو داود والنسائي بالإسناد الصحيح ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا

سلم من الوتر قال : ' سبحان الملك القدوس ' . زاد النسائي : ' ثلاث مرات ' . ورويا أيضا [ أي : أبو داود والنسائي ] أنه [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] كان يقول بعد الوتر : ' اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ' ، ورواه أيضا الترمذي ، وقال : حديث حسن . أفكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في التلاوة وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى ، فله به حسنة ؛ والحسنة بعشرة أمثالها ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ' ، رواه النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قام بعشر آيات ، لم يكتب من الغافلين . ومن قام بمئة آية كتب من القانتين . ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ' - أي : ممن كتب له قنطار من الأجر - رواه أبو داود وابن خزيمة في ' صحيحه ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة

كفتاه ' - أي : من كل سوء ، وعن قيام الليل - متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أعظم سورة في القرآن : ! ( الحمد لله رب العالمين ) ! ، وهي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيه ' ، رواه البخاري . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ! ( قل هو الله أحد ) ! تعدل ثلث القرآن ' ، رواه البخاري أيضا . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' آية الكرسي أعظم آية في القرآن : ! ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) ! ' ، رواه مسلم . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' سورة البقرة فيها آية ، هي سيدة آي القرآن ، لا تقرأ / في بيت فيه شيطان إلا خرج منه ، وهي آية الكرسي ' ، رواه الترمذي والحاكم وصححاه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' يس قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد بها وجه الله ؛ إلا غفر له ' ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إن سورة من القرآن ، ثلاثون آية ؛ شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي ! ( تبارك الذي بيده الملك ) ! ، رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في ' صحيحه ' والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وفي رواية للحاكم : ' وددت أنها في قلب كل مؤمن ' . وفي أخرى له وللنسائي : ' من قرأ ! ( تبارك الذي بيده الملك ) ! كل ليلة فقد أكثر وأطنب ، ومنعه الله من عذاب القبر ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لبعض أصحابه : ' اقرأ : ! ( قل هو الله أحد ) ! والمعوذتين حين تصبح وحين تمسي ثلاث مرات ، تكفيك من كل شيء ' ، رواه أبو داود والنسائي والترمذي بالأسانيد الصحيحة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . أدعية مأثورة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' الدعاء هو العبادة ' ثم قرأ : ! ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ! [ سورة غافر 40 / 60 ] رواه أصحاب السنن الأربعة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وابن حبان في ' صحيحه ' ،

والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال بعض أصحابه : ' إذا صليت فقعدت ، فاحمد الله بما هو أهله ، وصل على نبيك ، ثم ادع بما تحب ' ، رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في ' صحيحه ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أكثر دعائه : ! ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ! [ سورة البقرة 2 / 201 ] رواه البخاري . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من سأل الله الجنة ، ثلاث مرات ، قالت الجنة - أي : بلسان المقال ، وقيل : لسان الحال - : اللهم أدخله الجنة ، ومن استجار بالله من النار ، ثلاث مرات ، قالت النار : اللهم أجره من النار ' ، رواه الترمذي / والنسائي وابن ماجه وابن حبان في ' صحيحه ' ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من فتح له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية ، وأن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء ' ، رواه الحاكم وصححه .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] سمع رجلا يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله ، لا إله إلا أنت الأحد الصمد ، الذي ! ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) ! ، فقال له : ' لقد سألت الله بالاسم الأعظم ، الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ' ، رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن ، وابن حبان في ' صحيحه ' ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] سمع رجلا يقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : ' قد استجيب لك ، فسل ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن . وإنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إن لله ملكا موكلا بمن يقول : يا أرحم الراحمين ، فمن قالها ثلاثا ، قال له الملك : إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل ' ، رواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' دعوة أخي ذي النون : لا إله إلا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين ؛ لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له ' ، رواه الترمذي والنسائي والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' سلوا الله العفو والعافية ، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية ' ، رواه النسائي بإسناد صحيح ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] عند النوم وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لعلي وفاطمة رضي الله عنهما : ' إذا أويتما إلى فراشكما فكبرا الله ثلاثا وثلاثين ، وسبحا ثلاثا وثلاثين ، واحمدا ثلاثا وثلاثين ' ، متفق عليه / . وفي رواية : ' فكبرا أربعا وثلاثين ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه ، وقرأ بالمعوذات ، ومسح بهما جسده ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لبعض أصحابه : ' إذا أتيت مضجعك ، فتوضأ وضوؤك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، وقل : اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، وفوضت أمري إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت . فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة ، فاجعلهن آخر ما تقول ' ، متفق عليه .

فصل
في المرض وتوابعه
وأما أذكاره في المرض وتوابعه : من فضيلة الصبر على البلاء ، وعيادة المرضى ، وما يقوله المريض والعائد والمحتضر والمصاب والمعزى له ، وفضل الصلاة على الميت وحضور دفنه ، وما يقوله زائر القبور . فثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ، ولا هم ولا حزن ، ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ؛ إلا كفرا لله بها من خطاياه ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا مرض العبد ، أو سافر ؛ كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ' ، رواه البخاري . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لبعض أصحابه : ' ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل : باسم الله ثلاثا . وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ' ، متفق عليه . زاد مالك وأبو داود والترمذي : وأنه [ أي : عثمان بن أبي العاص ] فعل ذلك ، فأذهب الله عنه ما كان به .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من رأى صاحب بلاء ، فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ؛ لم يصبه ذلك البلاء ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من عاد مريضا ، لم يحضر / أجله ، فقال عنده سبع مرات : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم ، أن يشفيك ؛ إلا عافاه الله من ذلك المرض ' ، رواه أبو داود والنسائي والترمذي ، وقال : حديث حسن ، وابن حبان في ' صحيحه ' ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط البخاري . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب ، فإن الله يطعمهم ويسقيهم ' ، رواه ابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا عوذ المريض ، مسحه بيده اليمنى ويقول : ' اللهم رب الناس ، أذهب الباس ، أشفه أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما ' ، أي لا يترك متفق عليه . وفي رواية لهما : ' لا شافي إلا أنت ' .

وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا يرضاه ' ، رواه الطبراني بإسناد لا بأس به . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' يقول الله تعالى : ما لعبدي [ المؤمن ] عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ، ثم احتسبه ؛ إلا الجنة ' ، رواه البخاري . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن . وابن حبان في ' صحيحه ' .

عيادة المرضى
وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' عودوا المرضى ، واتبعوا الجنائز ؛ تذكركم الآخرة ' ، رواه الإمام أحمد والبزار وابن حبان في ' صحيحه ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم : مرضت فلم تعدني ؟ قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟

قال أما علمت / أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن آدم : استطعمتك فلم تطعمني ؟ قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم : استسقيتك فلم تسقني ؟ قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أنه استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ؟ ' ، رواه مسلم .

ما يقوله المريض والعائد والمحتضر
وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد فاعلا ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال قبل موته بثلاثة أيام : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل ' ، رواه مسلم . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أكثروا ذكر هادم اللذات - أي : قاطعها - يعني الموت ، فإنه ما كان في قليل إلا أجزله ، ولا في كثير إلا قلله ' ، رواه الطبراني بإسناد حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] سئل عن أكيس الناس - أي : أعقلهم - وأحزم الناس

- أي : أشدهم حذرا - فقال : ' أكثرهم للموت ذكرا ، وأكثرهم له استعدادا ؛ أولئك الأكياس ، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة ' ، رواه ابن ماجه بإسناد جيد ، والطبراني بإسناد حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] دخل على شاب ، وهو في الموت ، فقال : ' كيف تجدك ؟ ' قال : أرجو الله ، وأخاف ذنوبي ، قال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن ، إلا أعطاه الله ما يرجو ، وآمنه مما يخاف ' ، رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ' ، رواه مسلم والترمذي وزاد : ' من كان / آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة ' .

فضل الصلاة على الميت وحضور دفنه
وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] مروا عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال : ' وجبت ' ، ومروا عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا ، فقال : ' وجبت ' ، ثم قال : ' من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ' ، متفق عليه . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية ' ، متفق عليه .

وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من عزى مصابا فله مثل أجره ' ، رواه الترمذي والبيهقي . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] أرسل إلى إحدى بناته فقال : ' مرها فلتصبر ولتحتسب ، وأخبرها أن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ' ، متفق عليه . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ، مثل الجبلين العظيمين ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت له الجنة ' ، رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن ، وابن حبان في ' صحيحه ' . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] صلى على جنازة ، فقال في دعائه ' اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا ، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب

القبر ، ومن عذاب النار ' رواه مسلم . وفي رواية ' وفتنة القبر ، وعذاب النار ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] صلى على جنازة ، فقال : ' اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، وشاهدنا / وغائبنا . اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان . اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ' ، رواه أبو داود والترمذي والبيهقي والحاكم ، وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : ' استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يسأل ' ، رواه أبو داود والبيهقي بإسناد حسن .

ما يقوله زائر القبور
وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا خرج إلى المقبرة قال : ' السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية ' ، رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة .
فصل
في الصيام
وأما أذكاره [ صلى الله عليه وسلم ] في الصيام : فثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا رأى الهلال ، قال : ' اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيق لما تحبه وترضى ، ربنا وربك الله ' ، رواه الترمذي والدارمي في ' مسنده ' . وروى أبو داود أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا رأى الهلال ، قال : ' هلال رشد وخير ، هلال رشد وخير ، هلال رشد وخير ، آمنت بالذي خلقك - ثلاثا - [ ثم يقول ] : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا ' . نهيه [ صلى الله عليه وسلم ] عن الرفث وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' الصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل : إلي صائم - مرتين - ' ، متفق عليه . ما كان يقوله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا أفطر وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا أفطر ، قال : ' ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى ' ، رواه أبو داود والنسائي .
دعاء الصائم
زاد أبو داود : ' اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ' . زاد ابن السني : ' فتقبل مني ، إنك أنت السميع العليم ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إن للصائم / [ عند فطره ] لدعوة ما ترد ' ، رواه ابن ماجه وابن السني . ما كان يدعو به [ صلى الله عليه وسلم ] لمن أفطر عنده وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا أفطر عند قوم دعا لهم : ' أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة ' ، رواه أبو داود بإسناد صحيح وابن السني . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة القدر وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] أمر من صادف ليلة القدر أن يقول : ' اللهم إنك عفو ، تحب العفو ، فاعف عني ' ، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
فصل
في السفر
وأما أذكاره [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] في السفر : فثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها ؛ كالسور من القرآن . [ يقول [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' إذا هم بالأمر فليركع ركعتين ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب . اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسمي حاجته خير لي في ديني ومعاشي ، وعاقبة أمري أو قال : في عاجل أمري وآجله فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه . وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي ، وعاقبة أمري أو قال : عاجل أمري وآجله فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به ' ، رواه البخاري .
قال العلماء : ويقرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي : الإخلاص . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما خلف أحد عند أهله خيرا من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا ' ، رواه الطبراني .


قال بعض العلماء : ويقرأ فيهما بعد الفاتحة بالمعوذتين . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا سافر وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لم يرد سفرا إلا قال حين ينهض من جلوسه : ' اللهم إليك توجهت ، وبك اعتصمت . اللهم اكفني ما أهمني ، وما لم أهتم له . اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] / قال : ' من أراد سفرا فليقل لمن يخلف : استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ' ، رواه ابن السني . ولأحمد : ' إن الله إذا استودع شيئا حفظه ' . ما كان يقوله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا ودع مسافرا وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] ودع رجلا فقال له : ' أستودع الله دينك ، وأمانتك ، وخواتيم عملك ' ، رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] ودع رجلا آخر فقال له : ' زودك الله التقوى ، وغفر ذنبك ، ويسر لك الخير حيثما كنت ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن .

وروى أيضا أنه [ صلى الله عليه وسلم ] ودع آخر فقال له : ' أوصيك بتقوى الله ، والتكبير على كل شرف ' ، فلما ولى قال : ' اللهم اطو له البعد ، وهون عليه السفر ' ، قال الترمذي : حديث حسن . ما كان يقوله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا ركب راحلته وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ، ثم قال : ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مغرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) [ سورة الزخرف 443 / 13 - 14 ] ، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى . اللهم هون علينا سفرنا هذا ، واطو عنا بعده . اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال والولد . اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر - أي : شدته - وكآبة المنظر - أي : تغيره - وسوء المنقلب - أي المرجع - في المال والأهل والولد ' . وإذا رجع قالهن ، وزاد فيهن : ' آيبون ، تائبون ، عابدون ، ساجدون ، لربنا حامدون ' ، رواه مسلم ، وأبو داود وزاد : وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا ، وإذا هبطوا سبحوا .
قال العلماء : والحكمة : الإشارة إلى أن له سبحانه الشرف على كل شرف ، وأنه منزه عن الخفض ، جل وعلا .

دعاء ركوب السفينة
وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' أمان لأمتي من الغرق ، إذا ركبوا البحر أن يقولوا : ( بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور

رحيم ) [ سورة هود 11 / 41 ] ، ( وما قدروا الله حق قدره / والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ سورة الزمر 39 / 67 ] ، رواه ابن السني .

الدعاء إذا ضلت الدابة
وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد : يا عباد الله احبسوا ، يا عباد الله احبسوا ؛ فإن لله عز وجل في الأرض حاضرا سيحبسه ' ، رواه ابن السني .
كراهة اصطحاب الكلب والجرس في السفر
وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس ' ، رواه مسلم . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لم يريد قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : ' اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما ذرين ، نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها ' ، رواه النسائي . وابن السني وزاد : ' اللهم ارزقنا حماها - أي : صحتها - وأعذنا من وباها ، وحببنا إلى أهلها ، وحبب صالحي أهلها إلينا ' . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] إذا نزل منزلا وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من نزل منزلا ثم قال : أعوذ بكلمات الله
أقسام الكتاب
1 2 3