كتاب : حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار
المؤلف : محمد بن عمر بحرق الحضرمي الشافعي

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله الذي كشف عنا الغمة ، وجلا غياهب الظلمة ، وأكمل ديننا وأتم علينا النعمة ، وأكرمنا بخير نبي فكنا به خير أمة ، ( هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) [ سورة الجمعة 62 / 2 ] . صلى الله وسلم عليه ، وعلى آله وأصحابه الأئمة ، وأتباعه وأحزابه أولي المناقب الجمة . أما بعد : فإن خير الهدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وخير الأخلاق الحسنة خلقة الأعظم ، وخير الطرق الموصلة إلى الله تعالى طريقه الأقوم . ولهذا قال الله تعالى ترغيبا للأول والآخر في أكتساب تلك المحامد والمفاخر : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر ) [ سورة الأحزاب 33 / 21 ] . [ وقال تعالى ] : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) [ سورة آل عمران 3 / 31 ] . [ وقال تعالى ] : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) [ سورة النور 24 / 63 ] . فرغب سبحانه في اتباع سنته السنية ، ومعرفة سيرته

السرية . وقد صنف العلماء - رحمهم الله تعالى - في سيرته صلى الله عليه وسلم وفي عاداته وعباداته المختصر والمطول ، وألفوا فيها المجمل والمفصل . فانتقيت من مجموع ما صنفوه ، واصطفيت من والمفصل ما ألفوه ؛ نبذة كافية شافية ، لخصتها مما صح من الأخبار ، واشتهر بين علماء الحديث والآثار ، مما أكثره في ' الصحيحين ' ، أو في أحدهما ، أو في غيرهما من الأصول المعتمدة - كالسنن الأربعة ، لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وكموطأ الإمام مالك ، وكسيرة ابن هشام ، وشفاء القاضي عياض - رحمه الله عليهم أجمعين . فوقع بحمد الله تعالى كتابا عظيم الوقع ، جم الفوائد ، كثير النفع ، صغير الحجم ، كثير العلم ، مشتملا على ما يزيد في الإيمان من الكلم الطيب العذب ، ويحيي القلب إحياء المطر الصيب للبلد الجدب . ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) [ سورة هود 11 / 120 ] . مفتتحا بخطبتين ، منقسما إلى قسمين ، مشتملا على سيرتين ، مشمولا إلى حضرتين . فقسم في المبادئ والسوابق ، وقسم في المقاصد واللواحق . أما قسم المبادئ والسوابق : فافتتحته بخطبة في التعريف بمولده الشريف ، وقدره العلي المنيف - وإن كان غنيا عن التعريف -

ينبغي أن يخطب بها في شهر مولده صلى الله عليه وسلم في الجمع على المنابر ، ويطرز بقراءتها المحافل الشريفة والمحاضر . ثم أتبعتها بثمانية أبواب ، كل منها باب من أبواب الجنة ، ووقاية من النار لمن ألقى إليه السمع وجنة . الباب الأول : في سرد مضمون الكتاب ، ليتذكر به أولوا الألباب ، من لدن مولده صلى الله عليه وسلم إلى وفاته . الباب الثاني : في شرف بلدي مولده ونشته ووفاته وهجرته ، وشرف قومه ونسبه ، ومآثر آبائه صلى الله عليه وسلم وحسبه . الباب الثالث : في ذكر من بشر به صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره ، وما أسفر قبل بزوغ شمس نبوته من صبح نوره صلى الله عليه وسلم . الباب الرابع : في سيرته صلى الله عليه وسلم من حين ولادته إلى بعثته ، من تنقله في أطواره - كرضاعه وشق صدره وبعض أسفاره . الباب الخامس : في نسخ دينه صلى الله عليه وسلم لكل دين ، وعموم رسالته إلى الناس أجمعين ، وتفضيله على جميع الأنبياء والمرسلين ، صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين . الباب السادس : في بعض ما اشتهر من معجزاته ، وظهر من دلالات صدقه صلى الله عليه وسلم وآياته . الباب السابع : في بعض سيرته صلى الله عليه وسلم ، مما لاقاه من حين بعثه الله إلى أن هاجر إلى الله تعالى . الباب الثامن : في بعض ما اشتمل عليه حديث الإسراء من العجائب ، وانطوى عليه من الأسرار والغرائب ، مما أكرمه الله به صلى الله عليه وسلم . وأما قسم المقاصد واللواحق : فافتتحته أيضا بخطبة في الحث

على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال ، وإيراد بعض الآيات والأحاديث الدالة على أنه من أفضل الأعمال ، ليخطب بها حيث تدعو الحاجة إليها ، لتحريض المجاهدين ، وتذكيرهم برفع درجاتهم يوم الدين ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [ سورة الذاريات 51 / 55 ] . ثم أتبعتها بذكر ما اشتهر من سيرته صلى الله عليه وسلم - من هجرته إلى وفاته - ومن تشريع أحكام دينه وغزواته ، وما في أثناء ذلك من علامات نبوته ومعجزاته ، وأسباب نزول سورة من القرآن وآياته ، مرتبا لها على سني هجرته صلى الله عليه وسلم العشر ، ناشرا لما انطوى من مسكها الطيب النشر . ثم ذيلت ذلك بفصول في وجوب نصب الإمام ، وأن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين ، ومدة خلافة الخلفاء الأربعة ، وذكر شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ؛ الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، وخلفائه الأربعة ، الموضحين سبل رشاده ، مع ذكر ترتيبهم في الفضل ، والرد على من قدح في أحد منهم بالقول الفصل . ثم ختمت الكتاب بشيء من سيرته صلى الله عليه وسلم في أحواله النفيسة النفسية ، وأقواله المقدسة القدسية ، إذ لا ينطق صلى الله عليه وسلم عن الهوى ( إن هو إلا وحى يوحى ) [ سورة النجم ] . أما أحواله النفسية : ففي حسن خلقه وخلقه ، ووفور عقله ، وحسن عشرته ، وسماحته ، وشجاعته ، وزهده صلى الله عليه وسلم . وأما أقواله القدسية : ففي ذكره لربه في سوابق صلاته ، ولواحقها ، وفيها ، وفي صيامه ، وحجة ، وجهاده ، وسفره ، ومعاشه ، ومعاشرته ، ومرضه ، وعند موته صلى الله عليه وسلم . ناقلا ذلك عن كتب الحديث المتعمدة ، ليكون كتاب جامعا

للحضرتين ، شافعا للجامع بين السيرتين ، كالملك المظفر والليث الغضنفر : السلطان أحمد بن السلطان محمود شاه ، زاده الله مما آتاه من الملك والحكمة ، وعلمه مما يشاء ، وأوزعه أن يشكر نعمته التي أنعم عليه ، وعلى والديه ، وأن يعمل صالحا يرضاه ، وأصلح له في ذريته ، وأدخله برحمته في عباده الصالحين ، وإتانا والمسلمين ، إنه جواد كريم / [ قال : من الطويل ] : ( فأحمد أسمى من بنى اسما وكنية ** وفعلا ووصفا ملكه من أساسه ) ( شهاب فخذ من علمه واقتباسه ** سنا النور واخش النار في وقت باسه ) ( وعن بيضه أو سمره أو قياسه ** سل الخصم عن برهانه أو قياسه ) ( فتلك رجوم ، قد أعدت لبأسه ** نجوم هدى في زيه ولباسه ) ( فلا زال محمودا حميدا مظفرا ** شهاب على أعدائه كأناسه ) ( ينكس جالوت الصليب صلابه ** بتأييد داود على أم رأسه )

( ويخطى بما آتاه ملكا وحكمه ** بأجناده أم نفسه أم مراسه ) فوسمت باسمه هذا الكتاب الكريم ، ورسمته برسمه ، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فسميته : ( تبصرة الحضرة الأحمدية الشاهية بسيرة اتلحضرة الأحمدية النبوية ) ، متوسلا إلى الله تعالى بصاحب الحضرة النبوية خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام ؛ أن يمهد بصاحب الحضرة الشاهية قواعد الإسلام ، وأن يعمر ويغمر بوجوده وجوده البلاد والعباد ، وأن يلحق الحضرة بالحضرة ، ويحشر الزمرة في الزمرة ، فالمرء مع من أحب ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، ( ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) [ سورة المائدة 5 / 56 ] .

خطبة
في التعريف بمولده الشريف ، وقدره العلي المنيف الحمد لله بارىء أمشاج النسم ، وفاتق رتاج الكمم ، ومولج الأنوار في الظلم ، ومخرج الموجودات من العدم ، خلق من صلصال كالفخار آدم ، ونجى نوحا في السفينة من الغرق الذي عم ، وقال للنار : ! ( كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) ! [ سورة الأنبياء 21 / 69 ] وهي تضطرم ، وسلم موسى من سطوة فرعون ونجاه من اليم ، وأنطق عيسى في المهد ببراءة مريم ، وختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم ، وجعله سيد ولد آدم ، وأمته خير الأمم . أحمده على ما رزق وأنعم ، وأفوض أمري إليه تعالى فيما قضى وأبرم . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من آمن به وأسلم . وأشهد أن محمدا عبده المصطفى المكرم ، ورسوله

المجتبى المعظم ؛ أرسله / إلى كافة العرب والعجم ، وأختصه بأحسن الأخلاق والشيم . اللهم صل على محمد وعلى آله أهل الفضل والكرم ، وأصحابه الموفين بالعهود والذمم . أما بعد : فحقيق بيوم كان فيه وجود المصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] أن يتخذ عيدا ، وخليق بوقت أسفرت فيه غرته أن يعقد طالعا سعيدا ، فاتقوا الله عباد الله ، واحذروا عواقب الذنوب ، وتقربوا إلى الله تعالى بتعظيم شأن هذا النبي المحبوب ، واعرفوا حرمته عند علام الغيوب ، ! ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) ! [ سورة الحج 22 / 32 ] . واعلموا أنه ما أكرم أيام مولده الشريفة عند من عرف قدرها ! وما أعظم بركتها عند من لاحظ سرها ! . ففي شهر ربيع الأول انبثقت عن جوهرة الكون بيضة الشرف . وفي يوم الإثنين منه ظهرت الدرة المصونة من باطن الصدف . وفي ثاني عشره أبرز سابق السعد من كمون العدم ، وب ( مكة ) المشرفة أنجز صادق الوعد بمضمون الكرم . حملت به أمه في شهر رجب الأصم ، ومات أبوه و حمله ما استتم ، ثم أدت ما حملته من الأمانة آمنة ، وكانت مما تشكوه الحوامل آمنة . فحينئذ أسفر صبح السعادة وبدا ، وبشرت طلائعه بطلوع

شمس الهدى ، وطوق جيد الوجود بعقود الإفضال ، ودارت أفلاك السعود بقطب دائرة الكمال ، فوضعته [ صلى الله عليه وسلم ] واضعا يديه على الأرض ، رافعا رأسه إلى السماء ، مقطوع السرة ، مختونا ، منزها عن قذر النفاس ، مكرما . فأضاءت له قصور ( بصرى ) من أرض الشام . وخمدت نار الفرس التي يعبدونها ، ولم تخمد منذ ألف عام . وانشق لهيبته حين ولد إيوان كسرى . وتواصلت من الرهبان والكهان هواتف البشرى ، وأشرقت مطالع الأنوار بميمون وفادته ، وتعبقت أرجاء الأقطار بطيب ولادته ، وخرت الأصنام على وجوهها إذعانا لسيادته . فأرضعته ثويبة مولاة عمه أياما ، ثم تولته حليمة السعدية رضاعا وفطاما ، فشملتها / البركات بحضانته ، ولم تزل تتعرف منه الخيرات في مدته ، فدر ثديها عليه بعد أن كان عاطلا ، وجادت شارفها باللبن بعد أن كانت لا تروي ناهلا ، وأسرعت أتانها في السير وقد كانت ثاقلا ، وأخصبت بلادها وكانت قبل ذلك ماحلا . ثم فصلته بعد أن تم له الحولان ، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان ، وظهرت لها في صغره مخائل نبوته ، وأخذه الملكان من بين الصبيان ، فشقا من تحت صدره إلى سرته ، فاستخرجا منه علقة سوداء ، وقالا : هذا حظ الشيطان ، وغسلاه بماء الكوثر ، ثم ختماه بالحكمة والإيمان .


قلت : المشهور في الأحاديث الصحيحة أنهما غسلاه بماء زمزم . فلذلك جزم البلقيني وغيره من المتأخرين أن ماء زمزم أفضل من الكوثر . ثم ماتت لسن تمييزه أمه ، وكفله جده ، ثم عمه ، ولم يزل [ صلى الله عليه وسلم ] ينشأ وعين العناية ترعاه وتحفظه مما يحذره ويخشاه ، ومنحه الله تعالى منذ نشأ كل خلق جميل ، وأحله من القلوب بالمحل الجليل ، وعرف من بين أقرانه بالعفة والصيانة ، وتميز عند أهل زمانه بالصدق والأمانة . ولما أخذت مطالع بعثته في أفق سموها ، وآن لشمس نبوته أن تطلع من علوها ؛ حببت إليه الخلوة للأنس بربه . فكان يخلو في ( حراء ) وتنعم بقربه ، وكانت تظهر له الأضواء والأنوار ، وتسلم عليه بالرسالة الأحجار والأشجار . ثم كان وحيه مناما ، وتعليمه إلهاما ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ولا ينوى أمرا إلا ظفر بالفوز والنجح . فلما بلغ الأربعين ؛ جاءه جبريل الأمين من ربه ذي الجلالة ، بمنشور النبوة والرسالة ، فأقرأه : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسن من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسن ما لم يعلم ) [ سورة العلق 96 / 5 ] . فمكث [ صلى الله عليه وسلم ] ب ( مكة ) ثلاث عشرة سنة ، يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فآمن به من سبقت له السعادة في دار البقاء ، وكذب به من كتب عليه في الأزل الشقاء .

ولعشر سنين من مبعثه الكريم ؛ خصه الله بالإسراء العظيم ، فسار وجبريل مصاحب له إلى أعلى السماوات العلى ، وجاوز سدرة المنتهى ، وشرف بالمناجاة في المقام / الأسنى ، ونال من القرب ما ترجم عنه : ! ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) ! [ سورة النجم 53 / 9 ] ثم هاجر إلى دار هجرته ، ومأوى أنصاره وأسرته ، فسل سيف الحق من غمده ، وجاهد في سبيل الله غاية جهده ، حتى فتح الله له أقفال البلاد ، ومكنه من نواصي العباد ، وأظهر دينه على الدين كله . ثم توفاه عند حضور أجله ، إلى ما أعد الله له في جنات النعيم ، من الكرامة والفوز العظيم . فسبحان من حباه بأنواع الإكرام ، وأرسله رحمة لجميع الأنام ، وجعله سيد ولد آدم ومعولهم ، وخاتم النبيين وأولهم ، ونسخ بشرعه الشرائع ، وملأ بذكره المسامع ، وشرف برسالته المنائر والمنابر ، وقرن ذكره بذكره في لسان كل ذاكر ، وذلل كل صعب لطلابه ، وأمده بملائكته الكرام تجاهد في ركابه . نسأل الله تعالى الذي أكرمنا بظهوره ، وأخرجنا من ظلمات الكفر بنوره : أن يجعلنا وإياكم ممن شملته برحمته العناية ، ولا حظته في جميع أحواله عين الرعاية . وأن يشرفنا في هذه الدنيا بطاعته ، واتباع سنته ، واغتنام زيارته ، ويحشرنا يوم القيامة في شفاعته وزمرته .

اللهم إنا نتوجه إليك ، ونتشفع إليك بحقه عليك ، فهو أوجه الشفعاء لديك ، وأكرم الخلق عليك : أن لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ، ولاهما إلا فرجته ، ولا ضرا إلا كشفته ، ولا عدوا إلا كفيته ، ولا شرا إلا صرفته ، ولا خيرا إلا يسرته ، ولا واليا إلا أصلحته ، ولا مجاهدا في سبيلك إلا نصرته ، ولا طالبا للخير إلا أعنته ، ولا حاجة هي لك رضى إلا قضيتها . يا أرحم الراحمين .

الباب الأول
في سرد مضمون هذا الكتاب
ليتذكر به أولوا الألباب
من ذكر مولده [ صلى الله عليه وسلم ] إلى وفاته ، وما بينهما من معجزاته وغزواته ، بحيث لو اقتصر عليه مقتصر لأغناه عما فصلناه في سائر الكتاب وفرطناه
قال علماء السير : ولد نبينا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في ربيع الأول ، / يوم الاثنين بلا خلاف لثنتي عشرة ليلة خلت منه على الأشهر ، وأرضعته حليمة السعدية ، وفصلته لحولين كاملين ، وقدمت به ( مكة ) ، ثم رجعت به إلى بلد ( بني سعد ) لحرصها عليه ، وشق صدره [ صلى الله عليه وسلم ] في العام الخامس وهو عندهم . ثم قدمت به بعده لما تخوفت عليه ، وكانت مدة إقامته عندهم نحو خمسة أعوام . وفي السنة السادسة من مولده [ صلى الله عليه وسلم ] : خرجت به أمه معها إلى ( المدينة ) ، فأقامت به شهرا ثم رجعت به فماتت ب ( الأبواء )

بموحدة بين ( مكة والمدينة ) . وفي السنة السابعة : وفد جده عبد المطلب على سيف بن ذي يزن الحميري ، فأخبره سيف والكهان بنبوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] . وفي السنة الثامنة : توفي جده عبد المطلب ، وكفله عمه أبو طالب . وفي الثالثة عشرة : خرج به عمه أبو طالب إلى ( الشام ) ، فلما بلغوا ( بصرى ) ، رآه بحيرا الراهب بفتح الموحدة وكسر المهملة ممدودا فتحقق فيه صفات النبوة ، فأمر عمه برده ، فرجع به . وفي الرابعة عشرة : كانت حرب الفجار بكسر الفاء بين قريش وهوازن ، وكانت الدائرة لهوازن على قريش ، فشهدها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مع قومه يوما ، فانقلبت الدائرة لقريش على هوازن . ثم عقدت قريش حلف الفضول لنصرة المظلوم ، فشهده مع قومه . وفي الخامسة والعشرين : خرج [ صلى الله عليه وسلم ] مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها في تجارة لها ، فرآه نسطور بفتح النون الراهب ، فقال : ( أشهد أن هذا نبي ، وأنه آخر الأنبياء ) . فلما رجعا أخبرها ميسرة بذلك ، وبما شاهد منه [ صلى الله عليه وسلم ] ، فخطبته إلى نفسها ، فنكحها . وفي الخامسة والثلاثين : بنت قريش الكعبة ، ووضع [ صلى الله عليه وسلم ] الحجر الأسود في مكانه . وفي الثامنة والثلاثين : حبب الله إليه الخلوة ، فكان يخلو بغار ( حراء ) ، ثم كان يرى الأنوار ، ويسمع الهواتف ، ثم كان تسلم عليه الأحجار / والأشجار . وقبل مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] بستة أشهر كان وحيه مناما ، وكان لا يرى رؤيا

إلا جاءت مثل فلق الصبح أي : الصبح المفلوق . ولما بلغ [ صلى الله عليه وسلم ] أربعين سنة : جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربه عز وجل بسورة : اقرأ ، ثم [ القلم ، ثم ] المدثر ، ثم المزمل ، فكان في أول أمره يدعو الناس إلى الله عز وجل سرا حتى أنزل الله عليه : ! ( فاصدع بما تؤمر ) ! بسورة الحجر [ 15 / 94 ] أي : شق جموعهم بالتوحيد فأظهر الدعوة . وفي السنة الخامسة من مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] : هاجر جماعة من الصحابة ، منهم : عثمان والزبير وعبد الرحمن وجعفر رضي الله عنهم ومن معهم إلى ( الحبشة ) ، فأقاموا بها عشر سنين . وفي السنة السادسة من مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] : أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما ، فعز بإسلامهما الإسلام . وفي السنة السابعة لمستهل المحرم منها : تعاهدت قريش على قطيعة بني هاشم ، إلا أن يسلموا إليهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ويبرؤوا منه ، وكتبوا بذلك بينهم صحيفة ، وعلقوها في الكعبة . فاعتزل بنو هاشم بن عبد مناف ، وتبعهم إخوانهم بنو المطلب بن عبد مناف مع أبي طالب إلى شعب أبي طالب ، فأقاموا به نحو ثلاث سنين ، إلى أن سعى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، وزمعة بن الأسود بن [ المطلب بن ] أسد في نقض الصحيفة ، فخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب في أواخر السنة التاسعة . وفي السنة العاشرة : مات أبو طالب ، ثم ماتت بعده خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام ، فحزن [ صلى الله عليه وسلم ] لموتهما حزنا شديدا ، ونالت

قريش منه [ صلى الله عليه وسلم ] ما لم تكن تناله في حياة عمه أبي طالب . فخرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( الطائف ) ، وأقام بها شهرا يدعو ثقيفا إلى الله تعالى ، فردوا عليه قوله ، وأغروا به عند انصرافه سفهاءهم ، فرجع إلى ( مكة ) فلم يدخلها إلا بجوار المطعم بن عدي . وفي السنة الحادية عشرة / : اجتهد [ صلى الله عليه وسلم ] في عرض نفسه على القبائل في الموسم ، فآمن به ستة من رؤساء الأنصار ، ورجعوا إلى ( المدينة ) ، ففشا فيها الإسلام . وفي السنة الثانية عشرة في رجب منها أو رمضان : أسرى به مولاه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى سدرة المنتهى . وفي تلك الليلة فرض الله عليه وعلى أمته الخمس صلوات . وفي آخر تلك السنة في الموسم : وافاه اثنا عشر رجلا من الأنصار ب ( العقبة ) ليلا ، فبايعوه بيعة النساء المذكورة في قوله تعالى : ! ( على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ) ! الآية [ سورة الممتحنة 60 / 12 ] ، وبعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ، فأسلم على يديه السعدان : سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، فأسلم لإسلامهما كثير من قومهما . وفي السنة الثالثة عشرة في آخرها في الموسم : وافاه سبعون رجلا من مسلمي الأنصار فبايعوه عند ( العقبة ) أيضا ، على أن يمنعوه إن هاجر إليهم مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم ، وأخرجوا له أثني عشر نقيبا ؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، ثم رجعوا إلى ( المدينة ) . فأمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حينئذ أصحابه بالهجرة إلى ( المدينة ) ، فهاجروا

إليها ، وأقام [ صلى الله عليه وسلم ] ينتظر الإذن من ربه تعالى في الهجرة ، وحبس معه عليا وأبا بكر رضي الله عنهما . فاجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأجمعوا على قتله ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بالوحي من عند الله تعالى ، فأخبره بذلك ، وأمره بالهجرة إلى ( المدينة ) ، فهاجر إليها . وذلك في أواخر صفر من السنة المذكورة الرابعة عشرة لتمام ثلاث عشرة من مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] . ودخل [ صلى الله عليه وسلم ] من عوالي ( المدينة ) ، يوم الاثنين ، الثاني عشر من ربيع الأول ، فلبث في ( قباء ) عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة / ليلة ، وبنى فيها مسجد ( قباء ) ، ثم انتقل فنزل في بني النجار ، أخوال جده عبد المطلب ؛ في منزل أبي أيوب الأنصاري شهرا ، إلى أن بنى مسجده الشريف ومساكنه . وفي تلك السنة ، وهي الأولى من سني الهجرة : شرع الأذان . وفي أول السنة الثانية أو آخر الأولى ؛ نزل قوله تعالى : ( يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله ) الآيات [ سورة الصف 61 / 1011 ] ؛ فأمر بالجهاد . وفي السنة الثانية في رجب ، نزل قوله تعالى : ! ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ! [ سورة البقرة 2 / 144 ] ؛ فحولت القبلة إلى ا لكعبة ، بعد أن صلى إلى بيت المقدس نحو ستة عشر شهرا . وفي شعبان منها [ أي : السنة الثانية ] : نزل قوله تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام ) الآيات [ سورة البقرة 2 / 183 ] ؛ ففرض صوم رمضان ، وفرض فيه [ صلى الله عليه وسلم ] صدقة الفطر .

وفيها ايضا ( أي : السنة الثانية ) - في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان : كانت وقعة ( بدر ) الكبرى ، وهي يوم الفرقان ، يوم ألتقي الجمعان ، ونزلت سورة الأنفال في قسمة غنائمها . وفيها - ( أي : السنة الثانية ) - بعد ( بدر ) : أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بقتل كعب ابن الأشرف الطائي وأمه من بني النضير ، وهو في حصن من ( يثرب ) ، فقتله خمسة من من الأوس ، عليهم محمد بن مسلمة - بفتح الميم واللام - . ثم أمر [ صلى الله عليه وسلم ] بقتل أبي رافع بن ابي الحقيق ، وهو في حصن ب ( خيبر ) ، فقتله سبعة من الخزرج ، عليهم عبد الله بن عتيك - بتقديم الفوقية على التحتية كعظيم - . وفيها - ( أي : السنة الثانية ) - : نقضت يهود ( المدينة ) - بنو قينقاع رهط عبد الله بن سلام الحبر الأسرائيلي - العهد ، فحاصرهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى نزلوا على على حكمه ، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي ابن سلول ، وكانوا حلفاءه ، فوهبهم له . وفي السنة الثالثة ، في شوال ، في اليوم الخامس عشر منه كانت وقعة ( أحد ) ، فأكرم الله تعالى فيها من اكرم بالشهادة ؛ ومنهم : حمزة رضى الله عنه ، ونزل قوله تعالى : ! ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) ! الى آخر السورة [ سورة آل عمران 121 / 3 ] . وفيها - ( أي : السنة الثالثة ) - بعد ( أحد ) : بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عاصم بن ثابت في عشرة عينا ، فلما كانوا في بعض الطريق

ب ( الرجيع ) وهو ماء لهذيل بين ( عسفان ومر الظهران ) ظفر بهم بنو لحيان بعد أن أعطوهم العهد بالأمان ، فقتلوا منهم ستة ، وهرب أثنان ، وأسروا أثنين ، وهما : خبيب بن عدي ، وزيدبن الدثنة ، فباعوهما ب ( مكة ) لقريش ، فأشتروهما وقتلوهما . وفيها أيضا [ أي : السنة الثانيا ] - بعد ( أحد ) : بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مع عامر بن مالك العامري ملاعب الأسنة سبعين رجلا ، وهم القراء بجواره ، فقتلهم قبائل سليم : عصية ورعل وذكوان ، وأخفروا جوار عامر بن مالك ، فقنت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو

عليهم وعلى بني لحيان وكانوا أطلقوا عمرو بن أمية الضمري ، فلما رجع وجد اثنين من بني عامر فقتلهما ومعهما جوار من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لم يعلم به ، فوداهما النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . وفيها أو في الرابعة : قصد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بني النضير ليستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، فاستند إلى جدار حصن لهم ، فهموا بطرح حجر عليه ، فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك ، فقام موهما لهم أنه غير ذاهب ، ثم صبحهم [ صلى الله عليه وسلم ] بالجيش فجلاهم إلى ( الشام ) . وفيهم نزلت سورة الحشر : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديارهم لأول الحشر ) [ سورة الحشر 59 / 2 ] إلى آخرها ، فجلوا إلى ( الشام ) ، إلا حيي بن أخطب فلحق ب ( خيبر ) . وفي السنة الرابعة : خرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأصحابه في شهر رمضان في موعد [ مع ] أبي سفيان له يوم ( أحد ) إلى ( بدر ) ، فلم يأته أبو سفيان وقومه ، فرجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . وفيها - [ أي : السنة الرابعة ] - : كانت غزوة ذات الرقاع ، فخرج [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( نجد ) يريد غطفان ، فالتقى بهم ولم يكن قتال ، فنزلت : ! ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) ! الآيات [ سورة النساء 4 / 102 ] .

فصلوا صلاة الخوف . ولما قفل [ صلى الله عليه وسلم ] منها - أي : رجع - نام تحت - / شجرة وقت القيلولة ، وتفرق عنه الناس ، وعلق سيفه بالشجرة ، فهم غورث بن الحارث بقتله به ، فعصمه الله منه ، ونزل : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ) [ سورة المائدة 5 / 11 ] ، في ذلك أوفي قصة بني النضير . وفي السنة الرابعة : بلغه أن بني المصطلق من خزاعة أجمعوا لحربه ، فخرج [ صلى الله عليه وسلم ] إليهم حتى لقيهم ب : ( المريسيع ) - مصغرا بمهملات - وهو ماء لهم من ناحية ( قديد ) - مصغرا بقاف ومهملة مكررة - وهو مكان بين ( مكة والمدينة ) ، فهزمهم ، وسبى أموالهم وذراريهم ، واصطفى منهم أم المؤمنين جويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنها . ولما قفل [ صلى الله عليه وسلم ] منها ازدحم المهاجرون والأنصار على ماء . وكان من أمر عبد الله بن أبي ابن سلول ما كان من قوله : ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) [ سورة المنافقون 63 / 8 ] ،

فنجم نفاقه - أي : ظهر - ونزلت فيه سورة ( المنافقون ) . ولما دنا [ صلى الله عليه وسلم ] من ( المدينة ) تخلفت عائشة رضي الله عنها عن الجيش ليلا في قضاء حاجة لها ، فرحلوا هودجها ولم يشعروا بها ، فقال فيها أهل الإفك ما قالوا ، ونزلت عشر الآيات من سورة النور : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) [ سورة النور 24 / 11 ] . وفيها - [ أي : السنة الخامسة ] - : كانت وقعة الخندق - وهي الأحزاب أيضا - في شوال سنة [ خمس ] بعد غزوة ( بدر ) الصغرى ، وكان المشركون فيها أحد عشر ألفا ، واشتد الحصار على أهل ( المدينة ) ، ( وإن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) [ سورة الأحزاب 33 / 9 ] ، كما حكى الله عنهم ، وكانت مدة الحصار نحو شهر ، ثم كشف الله عنهم بما ذكره في قوله : ! ( فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) ! [ سورة الأحزاب 9 / 33 ] ، ونزلت سورة الأحزاب . ووقع في أيام ( الخندق ) ما وقع من معجزاته [ صلى الله عليه وسلم ] الباهرة ، كحديث الكدية - بضم الكاف - التي اعترضت ، فهدها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالمعول . وحديث جابر حيث دعا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خامس خمسة / إلى عناق وصاع من شعير ، فأشبع من ذلك جيش الخندق كله ؛ وهم ألف فأكثر . وحديث أبي طلحة حيث بعث أنسا بأقراص تحت إبطه فأشبع منها [ صلى الله عليه وسلم ] ثمانين رجلا جياعا .

وكانت بنو قريظة معاهدين له [ صلى الله عليه وسلم ] فنقضت العهد في مدة الحصار ، وأعانوا المشركين . فلما هزم الله الأحزاب وانقضى الحصار ، جاء جبريل عليه الصلاة ، والسلام إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وقت القيلولة ، فأمره بالخروج إليهم ، فخرج [ صلى الله عليه وسلم ] فحاصرهم . فأرسلوا إلى أبي لبابة رضي الله عنه يستشيرونه ، فكان من أمره رضي الله عنه ما كان ، فلما اشتد بهم الحصار نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وكانوا حلفاءه ، وكان قد أصيب بسهم يوم ( الخندق ) ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم وقسمة أموالهم ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : لقد وافقت حكم الله تعالى ' ثم مات رضي الله عنه ، فاهتز العرش لموته رضي الله عنه فرحا بقدوم روحه . وفي السنة الخامسة : زوجه الله تعالى زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها ، كما نطق به القرآن : ! ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ) ! الآيات [ سورة الأحزاب 33 / 37 ] . وفيها : - [ أي : السنة السادسة ] - خرج [ صلى الله عليه وسلم ] معتمرا في ذي القعدة ، فصدته قريش عن البيت ، فوقعت بيعة الرضوان . ثم صلح الحديبية عشر سنين ، وفيه : أنه لا يأتيه أحد مسلما إلا رده إليهم .

وأن بني بكر في صلحهم ، وخزاعة في صلحه [ صلى الله عليه وسلم ] . وألا يدخل ( مكة ) إلا من عام قابل . فنحر هديه وحلق ورجع [ صلى الله عليه وسلم ] ، ونزلت سورة الفتح ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ بايعوك تحت الشجرة ) الآيات [ سورة الفتح 48 / 18 ] . وفيها - [ أي : السنة السادسة ] - : انفلت أبو بصير - بموحدة ومهملة ، كعظيم - إلى ( المدينة ) مسلما ، فرده النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقتل واحدا من الرجلين اللذين رجعا به ، وانفلت ، فلحق بسيف البحر ، فانفلت إليه أبو جندل - بجيم ونون - بن سهيل بن عمرو ورجال من المسلمين / المستضعفين ب ( مكة ) ، فاجتمعت منهم عصابة ، فقطعوا سبيل قريش إلى ( الشام ) ، حتى سألت قريش من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يضمهم إليه ، ومن جاءه فهو آمن ، فضمهم إليه . وفيها - [ أي : السنة السابعة ] - أسلم جماعة من رؤساء قريش منهم : عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ، بعد أن أسلم عمرو ب ( الحبشة ) على يد النجاشي . وفيها - [ أي : السنة السابعة ] - - أرسل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رسله بكتبه إلى ملوك الأقاليم .

ومنهم : عبد الله بن حذافة السهمي ، بعثه بكتابه إلى كسرى فمزقه ، فدعا عليهم أن يمزقوا كل ممزق . ومنهم : دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه ، بعثه بكتابه إلى قيصر [ ملك الروم ] فوجد عنده أبا سفيان ، فاستدعاه قيصر ، فسأله عن صفات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وشرائع دينه ، فأخبره ، أبو سفيان بها ، فاعترف قيصر بنبوته [ صلى الله عليه وسلم ] ، ولم يوفق للإسلام ، لعدم مساعدة جنوده له مع شقاوته ، فوقع الإسلام من يومئذ في قلب أبي سفيان . وفي السنة السادسة في المحرم منها : افتتح النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( خيبر ) بعد أن حاصرهم سبع عشرة ليلة ، ثم قسم أموالهم نصفين ، نصفا لنوائبه ونصفا بين المسلمين . وقدم عليه جعفر فيمن بقي من مهاجرة ( الحبشة ) رضي الله عنهم ، فأسهم لهم . وأهدت إليه اليهودية الشاة المصلية - أي : المشوية - المسمومة ، فأخبره الذراع بذلك . واصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] من سبايا ( خيبر ) أم المؤمنين صفية بنت حيي

الإسرائيلية الهارونية رضي الله عنها . وفي ذي القعدة منها - [ أي : السنة السابعة ] - : اعتمر [ صلى الله عليه وسلم ] عمرة القضاء ، وأقام ب ( مكة ) ثلاثا ، ثم رجع فدخل [ صلى الله عليه وسلم ] بميمونة بنت الحارث الهلالية ، أم المؤمنين رضي الله عنها خالة ابن عباس ، وذلك ليلة منصرفه من ( مكة ) ب ( سرف ) - ككتف ، بموحدة وسين مهملة - وهو بين ( التنعيم ومر الظهران ) ، وبذلك المكان كان موتها وقبرها رضي الله عنها . وفي السنة السابعة : اتخذ له المنبر [ صلى الله عليه وسلم ] ، / وكان من قبل يخطب إلى جذع نخلة ، فحن إليه الجذع ، حتى مسح عليه وضمه إليه . وفيها _ [ أي : السنة السابعة ] - في رجب : قدم عليه وفد عبد القيس يسألونه عن الإسلام ، ورئيسهم الأشج - بمعجمة وجيم - فأثنى عليه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعليهم خيرا . وفي السنة الثامنة في جمادى الأولى منها : كانت غزوة مؤتة بفوقية مضمومة الميم مهموزة [ الواو ] - وهي قرية من قرى ( البلقاء ) من أرض ( الشام ) ، فأكرم الله فيها جعفرا وزيدا وابن رواحة وجماعة رضي الله عنهم بالشهادة ، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد رضي الله عنه ، ففتح الله على يديه ، وانحاز بالمسلمين ، وكانوا ثلاثة آلاف ، وكان هرقل ملك الروم في مئتي ألف .

وفيها - [ أي : السنة الثامنة ] - في رمضان : كان فتح ( مكة ) . وسبب انتقاض الصلح : أن قريشا أعانت حلفاءهم ( بني بكر ) على ( خزاعة ) حلفاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقدم أبو سفيان ( المدينة ) يطلب من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] صلحا ، فلم يجبه إليه ، فرجع ، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي يستنصر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على قريش ، فأجابه إلى ذلك ، وتجهز النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( مكة ) في عشرة آلاف ، فلما بلغ ( الجحفة ) - بجيم مضمومة ثم حاء مهملة ساكنة - على ثلاث مراحل من ( المدينة ) لقيه عمه العباس رضي الله عنه مهاجرا بأهله ، فرده معه ، وكان قد أسلم بعد ( بدر ) ، واستأذن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في أن يقيم ب ( مكة ) على سقاية الحاج ، فأذن له . ولقيه أيضا ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد أقبل مسلما ، معتذرا مما كان جرى منه ، فرده معه . وأخذ الله العيون على قريش بدعوته [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلم يشعر أحد بخروجه [ صلى الله عليه وسلم ] إليهم . فلما بلغ ( مر الظهران ) أدركت العباس الرقة على قومه ، فركب بغلة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بإذنه ليخبرهم أن يأخذوا أمانا منه [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلقي أبا سفيان بن حرب في نفر من قريش / خرجوا يتطلعون ، وذلك في الليل ، فردهم إلى ( مكة ) ، وأتى بأبي سفيان إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأسلم ، ثم أصبح [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل ( مكة ) ضحى من أعلاها ، وذلك لعشر يقيب من رمضان ، وأقام بها ثمانية عشر يوما يقصر الصلاة .

ثم بلغه أن ( هوازن ) اجتمعت لحربه في أربعة آلاف ، عليهم مالك بن عوف النصري ، فخرج [ صلى الله عليه وسلم ] إليهم لعشرين [ من ] شوال ، في عشرة آلاف جيش الفتح ، وألفين ممن أسلم يوم الفتح ، فكانوا اثني عشر ألفا ، فأعجبتهم كثرتهم ، فقالوا : لن نعلب اليوم من قلة ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ، ووجدوا المشركين قد كمنوا لهم في شعاب ( حنين ) وهو واد بين ( مكة والطائف ) ، فلما توسط المسلمين فيه شدوا عليهم ورشقوهم بالنبل ، وكانوا رماة ، فانهزم المسلمون ، وثبت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في جماعة ، فنزل عن بغلته وأخذ كفاً من الحصى فرمى به في وجوه المشركين فانهزموا ، ونصر الله المسلمين ، فغنموا ذراريهم وأموالهم ، وكانوا قد جعلوهم معهم ليقاتلوا دونهم ، فانهزم منهم طائفة عليهم : دريد بن الصمة ، وساقوا المال والذراري ، فأدركهم أبو عامر الأشعري في سرية ب ( أوطاس ) فهزموهم بعد أن قتل أبو عامر رضي الله عنه ولحق أكثرهم ب ( الطائف ) ، فتوجه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( الطائف ) وقاتلهم قتالا شديدا ، وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، فلم يظفر بهم ، فدعا لهم بالهداية ورجع ، فأتوه بعد رجوعه إلى ( المدينة ) مسلمين على يدي مالك بن عوف . ولما قفل [ صلى الله عليه وسلم ] من ( الطائف ) قسم غنائم ( حنين ) ب ( الجعرانة ) - على مرحلتين من ( مكة ) - . ثم أحرم منها بعمرة ، وذلك في ذي القعدة ، فدخل ( مكة ) فقضى نسكه .

ثم رجع إلى ( المدينة ) فدخلها في آخر ذي القعدة ، فولد له [ صلى الله عليه وسلم ] في ذي الحجة إبراهيم ، وعاش ثلاثة أشهر ثم مات ، وانكسفت الشمس يوم موته ، وذلك وقت الضحى في أول ربيع من سنة / [ تسع ] ، فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فجمع [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] الناس وصلى بهم صلاة الكسوف ، ثم خطب فقال : ' إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ' . وفي السنة التاسعة : دخل الناس في دين الله أفواجا ، كما أخبر الله تعالى بذلك ، وجعله علما على وفاته [ صلى الله عليه وسلم ] . ووفدت عليه الوفود ؛ فمنهم : وفد ( بني حنيفة ) ، في جمع كثير ، عليهم : مسيلمة الكذاب ، وأبى أن يسلم إلا أن يجعل له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الأمر من بعده ، ورجع خائبا . ومنهم : وفد ( نجران ) ، وكانوا نصارى ، فحاجوه في عيسى عليه الصلاة والسلام أنه ابن الله لكونه خلقة من غير أب ، فنزلت : ! ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) ! [ سورة آل عمران 3 / 59 ] - أي : من غير أم ولا أب _ . ونزلت آية المباهلة - أي : الملاعنة - : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) الآية [ سورة آل عمران 3 / 61 ] ، فقال لهم رئيساهم - السيد والعاقب - : لا تفعلوا ،

ثم صالحوه على الجزية ، وقالوا ابعث معنا رجلا أمينا من أصحابك ، فقال : ' لأبعثن معكم [ رجلا ] أمينا حق أمين ' ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، وقال ' هذا أمين هذه الأمة ' . ومنهم : وفود ( اليمن ) ، فأسلموا ، فقال : ' أتاكم أهل ( اليمن ) ، هم أرق أفئدة ، وألين قلوبا ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ' وبعث معهم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما . وقدم عليه : كعب بن زهير رضي الله عنه ، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد أهدر دمه لشعر عرض فيه بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فأسلم واعتذر إليه مما كان منه ، وأنشده في المسجد قصيدته المشهورة : ( بانت سعاد ) فقبل عذره وكساه بردته [ صلى الله عليه وسلم ] . وفيها - [ أي : السنة التاسعة ] - : كانت غزوة ( تبوك ) إلى ( الشام ) لقتال الروم ، فخرج [ صلى الله عليه وسلم ] في سبعين ألفا من المسلمين ، وخلف على ( المدينة ) عليا رضي الله عنه ، فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ' . فلما بلغ ( تبوك ) وهي أدنى بلاد الروم ، أقام بها بضع عشرة ليلة ، ولم يلق عدوا ، وصالح جملة من أهل تلك الناحيه على الجزية . ثم رجع إلى ( المدينة ) وجاءه المنافقون يعتذرون إليه لتخلفهم

عنه ، وقد سماه الله : جيش العسرة ، وحلفوا له بالكذب ، فقبل عذرهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، ففضحهم الله تعالى بما أنزله في سورة براءة ، كقوله : ! ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) ! [ سورة التوبة 9 / 75 - 77 ] وغير ذلك ، فسميت الفاضحة . وأما الثلاثة الذين خلفوا وصدقوه ، واعترفوا بأنهم لا عذر لهم فخلف أمرهم إلى قضاء الله تعالى فيهم ، وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة - بالضم - ابن الربيع ، فتاب الله عليهم ، فسميت سورة التوبة . وفيها - [ أي : السنة التاسعة ] - في رجب : نعى لهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] النجاشي ، وصلى عليه في المصلى جماعة . وفي خاتمة هذه السنة : - [ أي السنة التاسعة ] - أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أبا بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس ، فسار بهم ، ثم بعث بعده عليا رضي الله عنه ليبرأ من المشركين بصدر سورة براءة يوم الحج الأكبر ، فنبذ إلى كل مشرك عهده . وفي السنة العاشرة : حج [ صلى الله عليه وسلم ] حجة الوداع ، وحج بأزواجه كلهن ، وبخلق كثير ، فحضرها من الصحابة أربعون ألفا رضي الله عنهم ، فودع [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] الناس وحذرهم وأنذرهم ، وقال : ' إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم ، كحرمة يومكم هذا ، في

شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ثم قال : ' ألا هل بلغت ' قالوا : نعم : قال : ' اللهم اشهد ' . ثم قفل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( المدينة ) فدخلها في أواخر ذي الحجة ، فلبث بها المحرم وصفر . ثم أمر الناس في أول ربيع بالجهاد إلى ( الشام ) وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم ، فأخذوا في جهازهم ؟ فمرض النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وثقل مرضه ، فأقاموا ينتظرون أمره ، فتوفي [ صلى الله عليه وسلم ] لتمام عشر سنين من هجرته ، في السنة الحادية عشرة ، ضحى يوم الاثنين ، ثاني عشر من ربيع الأول ، في الوقت واليوم والشهر الذي دخل فيه ( المدينة ) ، ودفن يوم الثلاثاء بعد العصر [ صلى الله عليه وسلم ] ، وزاده فضلا وشرفا لديه . فهذه جملة ما اشتمل عليه كتابنا هذا ملخصا من سيرته [ صلى الله عليه وسلم ] ، من مولده إلى وفاته ، وسيأتي ذلك مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى ، مع ذكر ما سبق ذكره مما اشتمل عليه الكتاب أيضا ، كالخطبة البليغة السابقة ، وخطبة الجهاد اللاحقة ، والأحاديث الواردة في فضل الجهاد ، شرف ( مكة والمدينة ) بلدي مولده ووفاته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وشرف نسبه ، ومآثر آبائه وحسبه ، ومن بشر به قبل ظهوره ، إلى ما اشتمل عليه من قواعد الدين الكلية ، كنسخ دينه [ صلى الله عليه وسلم ] لكل دين ، وتفضيله على جميع النبيين والمرسلين ، وجملة من معجزاته الباهرة ، وفضائل الصحابة رضي الله عنهم ، ثم ذكر ما اشتمل عليه الكتاب أيضا من عباداته [ صلى الله عليه وسلم ] لربه ، وشكره له بلسانه

وقلبه ، [ صلى الله عليه وسلم ] ، وشرف وكرم ومجد وعظم . ولي من قصيدة مسمطة لهذه الأبيات [ من الوافر ] : ( ألا أيها الحادي إذا ما ** أتيت قباب طيبة والخياما ) ( فخيم واقر ساكنها السلاما ** ) ( وقبل من منازله العتابا ** ) ( هناك فهن نفسك بالوصول ** وقل يا نفس مأمولي وسولي ( رسول الله يا لك من رسول ** ) ( قفي وردي مناهله العذابا ** ) ( ومرغ حول ذاك القبر خدا ** وقد مرائر الأشواق قدا ) ( ونح مما اقترفت أسى ووجدا ** ) ( لما اجترحت جوارحك اكتسابا ** )

( وقل يا خير من ركب البراقا ** وأكرم من على السبع الطباقا ) ( أتيتك كي تحل لي الوثاقا ** ) ( ذنوبا قد دهت قلبي المصابا ** ) ( فأنت الشافع المقبول حقا ** وكم لك معجزات ليس ترقى ) ( قد اتضحت لنا غربا وشرقا ** ) ( وأعيت كل ذي فهم حسابا ** ) ( أتتنا في ولادك كل بشرى ** غداة تساقط الأصنام قسرا ) ( / وزلزل هيبة إيوان كسرى ** ) ( وأضحى عرش دولته خرابا ** ) ( وفي بضع السنين شرحت صدرا ** وظللت الغمامة منك حرا ) ( وجاءت معجزات منك تترى ** ) ( رأى الرهبان منهن العجابا ** ) ( إلى أن أشرقت شمس اليقين ** تمام الأربعين من السنين ) ( وأزهر كوكب الحق المبين ** ) ( ونجم الشرك والبهتان غابا ** ) ( أتاك الحق من رب العباد ** فقمت مشمرا ساق الجهاد ) ( تبين للورى طرق الرشاد ** ) ( وتتلو الوحي فيهم والكتابا ** ) ( بحقك سل إلهك أن يكونا ** لنا عونا على الأعدا معينا ) ( ومن كل الأذى حصنا حصينا ** ) ( ويكفينا برحمته العذابا ** )

2

الباب الثاني
في شرف مكة والمدينة بلدي مولده ونشأته ووفاته ، وهجرته [ صلى الله عليه وسلم ] وشرف قومه ونسبه ، ومآثر آبائه وحسبه أما شرف ( مكة والمدينة ) اللتين هما مهبط الوحي والتنزيل : فاعلم طهر الله قلبي وقلبك ، ووفر في هذا النبي الكريم حبي وحبك أن الله سبحانه وتعالى قد أكرم هذا النبي الكريم بأصناف الكرامة ، ووفر من كل خير أقسامه ، واختار له من كل شيء خياره ، وأعلى على جميع الأولين والآخرين مناره ، فجعله خير الأنبياء ، وأمته خير الأمم ، ولغته خير اللغات ، وكتابه خير الكتب ، وقبيلته خير القبائل ، وبلاده أفضل بلاد الله وأكرمها عليه وعلى عباده . (
فضل مكة المكرمة
) أما ( مكة ) البلد الحرام ، فقال الله تعالى في فضلها : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعلمين * فيه ءايت بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ) الآية [ سورة آل عمران 97 - 3 / 96 ] . ومن الآيات البينات فيه : ( الحجر الأسود ) ، و ( الحطيم ) ، وانفجار ماء زمزم بعقب جبريل عليه السلام ، وأن شربه شفاء للأسقام ، وغذاء للأجسام ، بحيث يغني عن الماء والطعام . ومن فضلها : ما ثبت في الحديث الصحيح ؛ أن الصلاة

/ الواحدة فيها بل سائر الحرم بمئة ألف صلاة في غيرها سوى ( المدينة ) .

فائدة
فضل الصلاة في مكة على الصلاة في غيرها
حسب العلماء ذلك فبلغت صلوات اليوم والليلة ب ( مكة ) في مدة ثلاثة أيام ، وهي خمس عشرة صلاة ، بألف ألف صلاة ، وخمسين ألف ألف صلاة في غيرها ، وذلك كصلوات نحو ألف سنة ، فمن أقام ب ( مكة ) ثلاثة أيام وهي أقل ما يقيمه الحاج ، يعبد الله ، فكأنه عبد الله في غيرها ألف سنة ، وكأنه عمر عمر نوح عليه السلام في طاعة الله تعالى . وهذه إحدى المنافع التي في قوله تعالى : ! ( ليشهدوا منافع لهم ) ! [ سورة الحج 22 / 28 ] بصيغة الجمع ، فما ظنك بالوقوف والطواف وغير ذلك ، ! ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ! [ سورة الحديد 57 / 21 ] . وقال [ صلى الله عليه وسلم ] عند انصرافه من ( مكة ) بعد فتحها : ' والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى [ الله ] ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث [ حسن غريب ] صحيح . وكانت العرب في الجاهلية تحترم ( الحرم ) بحيث يمشي القاتل

فيه مع ولي المقتول ، ويقف السبع عن الظبي ونحوه من الصيد إذا دخل ( الحرم ) ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، إذ قال : ( رب اجعل هذا بلدا ءامنا وارزق أهله من الثمرات ) [ سورة البقرة 2 / 126 ] . ومن فضلها : أنها مولد المصطفى [ صلى الله عليه وسلم ] ، ومسقط رأسه ، ومنشأه ، وأقام بها ثلاثا وخمسين سنة قبل هجرته . ومن فضلها : تحريمها المشار إليه بقوله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ سورة العنكبوت 29 / 67 ] وقوله تعالى : ( أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) [ سورة القصص [ 28 / 57 ] . وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكة ولا ينفر صيده ' الحديث ، متفق عليه .

فضل المدينة المنورة
وأما ( المدينة ) الشريفة : فهي دار الهجرة ، وذات الروضة والحجرة . وثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' إن الإيمان ليأرز أي : ينضم ، بتقديم الراء على الزاي إلى ( المدينة ) ، كما تأرز الحية إلى جحرها ' ، متفق عليه / . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' المدينة ' حرم من كذا إلى كذا ولمسلم : ' من عير إلى ثور ' لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث

فيها حدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين ' متفق عليه وثور : جبل صغير خلف ( أحد ) من جهة الشمال . ولأحمد : ' ما بين عير إلى أحد ' وعير مقابل لأحد . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ( المدينة ) تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد ' ، متفق عليه .

وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا يكيد أهل ( المدينة ) أحد إلا انماع أي : انذاب كما ينماع الملح في الماء ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام ' ، متفق عليه . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي ' ، متفق عليه .

المفاضلة بين مكة والمدينة
ولا خلاف بين العلماء في أن هذين البلدين أفضل بلاد الله على الإطلاق ، وإنما اختلفوا في أيهما أفضل . والجمهور على تفضيل ( مكة ) على ( المدينة ) ، إلا موضع قبره الشريف ، فأجمعوا أنه أفضل تربة في الأرض ، لما ورد أن كلا يدفن في تربته التي خلق منها ، وهو [ صلى الله عليه وسلم ] أفضل الخلق ، فتربته أفضل تربة في الأرض .

وأفضل موضع في ( مكة ) : ( الكعبة ) ، ثم ( المسجد ) ، ثم ( دار خديجة ) رضي الله عنها ، لأنه أقام فيها نحو ثمانية وعشرين عاما . وما أحسن قول القاضي عياض رحمه الله تعالى في وصف تلك الرياض أعني ( مكة والمدينة ) : ( وجدير بمواطن عمرت بالوحي والتنزيل ، وتردد في عرصاتها جبريل ، وعرجت منها الملائكة والروح ، وضجت فيها بالتقديس والتسبيح ، [ وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر ] ، مدارس وآيات ، ومشاهد الفضل والخيرات ، ومعاهد البراهين والمعجزات ، ومناسك الدين ، ومواقف سيد المرسلين ، حيث انفجرت النبوة والرسالة ، وفاض عبابها ، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها ؛ أن تعظم عرصاتها ، وتتنسم نفحاتها ، وتقبل ربوعها وجدرانها ) . وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى في معنى ذلك شعرا ، [ من الكامل ] : ( يا دار خير المرسلين ومن به ** هدي الأنام وخص بالآيات )

( عندي لأجلك لوعة وصبابة ** وتشوق متوقد الجمرات ) ( وعلي عهد إن ملأت محاجري ** من تلكم الجدران والعرصات ) ( لأعفرن مصون شيبي بالثرى ** من كثرة التقبيل والرشفات ) ( لكن سأهدي من حفيل تحيتي ** لقطين تلك الدار والحجرات ) ( أذكى من المسك المعنبر نفحة ** تغشاه بالآصال والبكرات ) وأما شرف قومه ونسبه ، ومآثر آبائه وحسبه [ صلى الله عليه وسلم ] فهي دوحة شرف ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وعمود نبوة يصدع بنوره حجاب الظلماء . وقد قال الله تعالى ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ سورة التوبة 9 / 128 ] . ومعنى : ! ( من أنفسكم ) ! بضم الفاء أي : منكم ، و ! ( من أنفسكم ) ! بفتحها أي : من خياركم .


قال العلماء : لم تكن قبيلة من العرب إلا ولها وصلة بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، إما ولادة أو قرابة . وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' بعثت من خير قرون بني آدم ، قرنا فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه ' ، رواه البخاري . وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ' ، رواه الترمذي ، وقال : حديث [ حسن ] صحيح . النسب الأكبر لنبينا [ صلى الله عليه وسلم ] قال البخاري : ' وهو [ صلى الله عليه وسلم ] أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أي : بفتح الميم بن قصي - أي : بضم القاف مصغرا - ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي أي : مصغرا ابن غالب بن فهر أي : بكسر الفاء ابن مالك بن النضر أي : بضاد معجمة ابن كنانة بن خزيمة أي : مصغرا بالمعجمتين ابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ) / .
قلت : وهذا النسب متفق عليه بين العلماء ، وفيما بعده من عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم ، ثم من إبراهيم إلى نوح ، ثم من نوح إلى آدم عليهم السلام اختلاف وزيادة ونقصان .

وروى ابن سعد في ' طبقاته ' : أنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان بن أدد ثم يمسك ويقول : ' كذب النسابون ' ويقول : قال الله تعالى ! ( وقرونا بين ذلك كثيرا ) ! [ سورة الفرقان 25 / 38 ] .
قال العلماء : وبطون قريش هم ولد النضر بن كنانة ، وهم قومه الذين شرفهم الله به في قوله تعالى : ! ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ! [ سورة الزخرف 43 / 44 ] - أي ثناء وشرف - وهم عشيرته الأقربون في قوله : ! ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ! [ سورة الشعراء 26 / 214 ] لما في ' صحيحي البخاري ومسلم ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] لما نزلت هذه صعد على الصفا فجعل ينادي : ' يا بني فهر ، يا بني عدي ، يا بني عبد مناف - لبطون قريش - : اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئا ' الحديث . واتفق أهل الجاهلية والإسلام على أن قريشا أفضل العرب ، وأن بني عبد مناف أفضل قريش ، وأن بني هاشم أفضل بني عبد مناف ، وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] أفضل بني هاشم ، وفي ذلك يقول عمه أبو طالب ، [ من الطويل ] : ( إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ** فعبد مناف سرها وصميمها )

( وإن حصلت أشراف عبد منافها ** ففي هاشم أشرافها وقديمها ) ( وإن فخرت يوما فإن محمدا ** هو المصطفى من سرها وكريمها ) صفة عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
قال علماء السير : وكان عبد الله بن عبد المطلب والد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنهد فتى في بني هاشم - أي : أرفعهم وأصبحهم - وجها ، وأحسنهم خلقا وخلقا ، وكان نور النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يلوح في وجهه ، وهو أول من فدي بمئة من الإبل كما سيأتي . صفة عبد المطلب جد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأما عبد المطلب فاسمه : شيبة الحمد ، وإنما سمي عبد المطلب لأن عمه المطلب بن عبد مناف أخذه من أمه سلمى الأنصارية النجارية ، فقدم به ( مكة ) يردفه خلفه ، وكان / أسمر اللون ، فظن الناس أنه عبد اشتراه المطلب ، فقالوا : قدم المطلب بعبد ، فلزمه ذلك الاسم ، وكان شريفا في قومه ، مبجلا عندهم ، معظما ، يوضع له بساط في ظل ( الكعبة ) ، لا يجلس عليه غيره ، وكانوا يسمونه : الفياض ؛ لسماحته وكرمه ، وله منقبتان عظيمتان ، وهما : حفر بئر زمزم ، وإهلاك أصحاب الفيل . حفر بئر زمزم ، ونذر عبد المطلب بذبح ولده عبد الله أما بئر زمزم : فإنها كانت قد دفنتها السيول ، واندرس أثرها ، فرأى عبد المطلب في نومه من نبهه عليها ، فلما أراد حفرها حسدته بطون قريش ، وهموا أن يمنعوه ، فكفاه الله شرهم ، فنذر لئن رزقه الله عشرة من الولد يمنعونه ؛ أن يتقرب إلى الله تعالى بذبح أحدهم ، فلما تم العدد عشرة أعلمهم بنذره ، فقالوا له : اقض فينا أمرك

وأوف بنذرك ، فأسهم بينهم ، فخرج السهم على عبد الله ، فلما أراد أن يذبحه منعته قريش ، لئلا يكون فيه سنة ، فأفتاه كاهن أن يسهم عليه وعلى عشر من الإبل - وكانت العشر عندهم دية الرجل - ففعل ، فخرج السهم على عبد الله ، فقال له الكاهن : زد عشرا ، فإن ربك لم يرض ، فزاد عشرا ، فخرج السهم على عبد الله ، فقال : زد عشرا ، فزاد عشراً ، فلم يزل يخرج السهم على عبد الله حتى بلغ العدد مئة ، فخرج السهم على الإبل ، فقال له : أعد القرعة ، فأعادها ، فخرج السهم على الإبل ، ثم أعادها فخرج على الإبل ، فقال له : قد رضى ربك ، فأنحرها فداء عن ابنك ، ففعل ، فاستمرت الدية في قريش مئة من الإبل ، ثم جاء الشرع فقررها دية لكل مسلم من المسلمين . أصحاب الفيل وما جرى لهم [ صلى الله عليه وسلم ] وأما أصحاب الفيل : فإن الحبشة لما ملكت ( اليمن ) وعليهم أبرهة الأشرم ، وكانوا بنوا كنيسة ب ( صنعاء ) كالكعبة ، وصرفوا حجاج ( الكعبة ) إليها ، فدخلها ليلا رجال من قريش ولطخوها بالعذرة وهربوا ، فلما علم بذلك أبرهة عزم على هدم ( الكعبة ) ، فتجهز في جيش عظيم ، فلما شارف ( مكة ) أغار على سرحها ، فاستاق أموال قريش ، ونزل ب ( عرفه ) ، فخرج إليه عبد المطلب ، فلما رآه أبرهة نزل له / عن سرير ملكه إجلالا له ، وسأله عن حاجته ، فذكر ان له نحو مئة من الإبل فردها عليه ، فقيل لعبد المطلب : هلا كلمته في الانصراف عن ( الكعبة ) ؟ فقال : أنا رب إبلي ، والكعبة لها رب يحميها .

وامتاز بقريش إلى رؤوس الجبال ، وجعل يدعو الله ويقول ، [ من مجزوء الكامل ] : ( لا هم أن [ المرء ] يمن ** ع رحله فامنع حلالك ) ( لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوا محالك ) محالك : أي مكرك ، ومنه : ( وهو شديد المحال ) [ سورة الرعد 13 / 13 ] - ثم سار أبرهة إلى ( مكة ) فما كانوا ب ( محسر ) بمهملات ، وهو واد بين ( عرفة ومزدلفة ) - نكص الفيل على عقبيه ، فردوه فأبى ، فأدخلوا الحديد في أنفه حتى خرموه ، فلم يساعدهم على التوجه إلى ( مكة ) . فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرا ، يحمل كل طيرا منها ثلاثة أحجار صغار ؛ حجرين بين رجليه ، وحجرا في منقاره ، إذا وقعت الحجارة على رأس أحدهم خرجت من دبره ، فأهلكهم الله جميعا .

وفي ذلك أنزل الله على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] مذكرا له بنعمته عليه وعلى قومه ، لأنه كان يومئذ حملا ، وولد بعد الفيل بخمسين ليلة : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل ) - أي : إبطال - ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) - أي عصبا عصبا - ( ترميهم بحجارة من سجيل ) - أي : من قعر جهنم ، وهو أيضا سجين - ( فجعلهم كعصف مأكول ) - أي كزرع أكلته البهائم - [ سورة الفيل ] . ومن يومئذ احترمت الناس قريشا ، وقالوا : هم جيران الله ، يدافع عنهم . (

خبر هاشم
) وأما هاشم : فاسمه عمرو ، وإنما سمي هاشما لكثرة إطعامه الثريد في المجاعة ، وفيه يقول الشاعر ، [ من الكامل ] : ( عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف ) وبلغ في الكرم مبلغا عظيما حتى إنه كان يطعم الوحش والطير ، فينحر لها في رؤوس الجبال ، وكان إذا وقع القحط جمع أهل ( مكة ) وأمر الموسرين منهم / بالإنفاق على فقرائهم ، حتى يأتي الله بالغيث . ثم أنه وفد ( الشام ) على قيصر فأخذ منه كتابا بالأمان لقريش وأرسل أخاه المطلب إلى ( اليمن ) ، فأخذ من ملوكهم كتابا أيضا ، ثم أمر تجار قريش برحلتي الشتاء والصيف ، فكانوا يرحلون في

الصيف إلى ( الشام ) لشدة بردها ، وفي الشتاء إلى ( اليمن ) . فاتسعت من يومئذ معيشتهم بالتجارة ، وأنقذهم الله من الخوف والجوع ببركة هاشم . وفي ذلك أيضا أنزل الله تعالى على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ! ( لإيلاف قريش ) ! أي : لإنعام الله على قريش بإيلافهم ( إلافهم ) أي : اعتيادهم ! ( رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت ) ! أي : الكعبة ( الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف ) [ سورة قريش ] .

خبر عبد مناف
وأما عبد مناف : فكان يسمى قمر البطحاء لصباحته ، وهو الذي قام مقام أبيه قصي بالسيادة وسقاية الحاج ، وقام أخوه عبد الدار بسدانة البيت والرفادة أي : إطعام الحجيج في ( دار الندوة ) التي بناها قصي وأخوة عبد العزى بآلات الحرب من السلاح والكراع ، بوصية إليهم من أبيهم قصي .
خبر قصي
وأما قصي : فكان يسمى مجمعا ، لأنه أول من جمع قريشا من البوادي إلى سكنى ( مكة ) ، وأخرج خزاعة منها ، وفيه يقول الشاعر ، [ من الطويل ] : ( أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر ) وذلك أن سيد خزاعة شرب ليلة مع جماعة فنفد شرابه ، فقال : من يشتري مني سدانة البيت بزق خمر ، فاشتراها قصي وأشهد

عليه ، وفي ذلك يقول الشاعر ، [ من البسيط ] : ( باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ** بزق خمر فبئست صفقة البادي ) ( باعت سدانتها للبيت وانتقلت ** عن المقام وظل البيت والنادي ) صفة آبائه [ صلى الله عليه وسلم ] وآباؤه [ صلى الله عليه وسلم ] كلهم سادات ، ما منهم أحد إلا وهو سيد قومه في عصره ، من أبيه عبد الله إلى آدم عليه السلام ، كما قيل ، [ من الكامل ] : ( فأولئك السادات لم تر مثلهم ** عين على متتابع الأحقاب ) ( زهر الوجوه كريمة أحسابهم ** يعطون سائلهم بغير حساب ) ( / لم يعرفوا رد العفاة وطالما ** ردوا أعاديهم على الأعقاب ) ( حلموا إلى أن لا تكاد تراهم ** يوما على ذي هفوة بغضاب ) ( وتكرموا حتى أبوا أن يجعلوا ** بين العفاة وبينهم من باب ) ( كانت تعيش الطير في أكنافهم ** والوحش حين يشح كل سحاب ) ( وكفاهم أن النبي محمدا ** منهم فمدحهم بكل كتاب )

2

الباب الثالث
في ذكر من بشر به قبل ظهوره ، وما أسفر قبل بزوغ شمس نبوته من صبح نوره [ صلى الله عليه وسلم ]
قال العلماء السير : وقد بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] جميع النبيين عليهم الصلاة والسلام عموما . قال الله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثق النبين لما ءاتيتكم من كتب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) [ سورة آل عمران 3 / 81 ] . روى علماء التفسير معناها ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال : ( الرسول هو محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، ما بعث الله نبينا من لدن آدم إلا أخذ له عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ) ؛ إعلاما لهم بعلو قدره ، مع علمه سبحانه أنه أخرهم بعثا . وذكر جماعة من علماء التفسير في قوله تعالى : ( فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) [ سورة البقرة 2 / 37 ] : أن آدم توسل بمحمد عليهما الصلاة والسلام إلى ربه في غفران ذنبه ، فغفر له .

عيسى عليه الصلاة والسلام يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وبشر به عيسى عليه الصلاة والسلام خصوصا ، قال الله تعالى : ! ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ! [ سورة الصف 61 / 6 ] . كعب بن لؤي يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به من غير النبيين جده كعب بن لؤي .
قال علماء السير : كان كعب بن لؤي متمسكا بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، مصدقا ببعثه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وهو الذي سمى يوم الجمعة جمعة ، وكانت تسميه العرب ؛ العروبة بعين وراء مهملتين لأنه كان يجمع الناس في يومها بعد الزوال ، يخطبهم ، ويعظهم ، ويبشرهم ببعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فيهم ، ويقول : يا أيها الناس ، الدار والله أمامكم ، ، والظن خلاف ظنكم ، فزينوا حرمكم وعظموه : ، وتمسكوا به ولا تفارقوه ، فسيأتي له نبأ عظيم ، وسيخرج منه نبي كريم ، ثم ينشد ، [ من الطويل ] : ( نهار وليل واختلاف حوادث ** سواء علينا حلوها ومريرها ) ( على غفلة يأتي النبي محمد ** فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها ) تبع يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] تبع أسعد الكامل الملك الحميري .


قال أهل السير : كان تبع أسعد الكامل أراد أهل ( المدينة النبوية ) بسوء ، مكيدة كاده بها بعض أعدائه ليهلكه ، فأخبره الأحبار أنها دار هجرة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] المبعوث في آخر الزمان ، فانصرف عنهم ، ثم قرأ التوراة وتعرف فيها صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، فصدق بمبعثه ، وكان يقول . [ من المتقارب ] : ( شهدت على أحمد أنه ** رسول من الله باري النسم ) ( فلو مد عمري إلى عمره ** لكنت وزيرا له وابن عم ) عبد المطلب يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] جده عبد المطلب .
قال علماء السير : إن عبد المطلب كان قد اطلع على عجائب من أمر محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، فرآى في المنام أن سلسلة من فضة خرجت من ظهره ، لها طرف في السماء وطرف في الأرض ، وطرف بالمشرق وطرف بالمغرب ، فبينما هو متعجب من الأمر المغرب ، إذ بها قد عادت كأنها شجرة عظيمة مورقة ، وعلى كل ورقة منها نور مشرق ، وقد تعلق بها أهل المغرب والمشرق ، فأولت له بمولود يخرج من صلبه يحمده أهل السماوات في كل صنيع ، وينقاد له أهل الأرض انقياد مطيع . وذكروا أن عبد المطلب رآه مرة حبر من الأحبار ، فقال له : إن في أحد منخريك لملكا ، وفي الآخرة نبوة .

حجب الشياطين عن استراق السمع عند قرب مبعثه
ومن المبشرات به [ صلى الله عليه وسلم ] ما اتفق عليه علماء التفسير : أن الشياطين منعت قبيل مولده من استراق السمع .

ارتجاج إيوان كسرى ليلة ولادته [ صلى الله عليه وسلم ] وما ظهر ليلة مولده من ارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته ، وخمود نار فارس التي يعبدونها ، وما خمدت منذ ألف عام . ورؤيا الموبذان بفتح الموحدة وبذال معجمة وهو عالم الفرس / : رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، قد قطعت ( دجلة ) وانتشرت في بلادها ، فخاف [ كسرى ] أن يكون ذلك لفساد دولته وخرابها . فأرسل عبد المسيح إلى خاله سطيح الكاهن ب ( الشام ) فوجده قد أشفى على الموت ، فلما أحس به سطيح ، قال : عبد المسيح ، على جمل مشيح أي : ضامر ، بشين معجمة أرسلك ملك بني ساسان ، ليسأل عن ارتجاس الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ؟ يا عبد المسيح : إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة ، وفاض وداي سماوة ، فليست ( الشام ) لسطيح شاما ، ولا مقام ( العراق ) لكسرى وقومه مقاما ، يملك منهم ملوك وملكات ، على عدد الساقط من الشرفات ، وكل ما هو آت آت . ثم قضى سطيح مكانه ، بعد ما أبان من أمر ظهور رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أبانه .

عيصا يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به ما ذكره علماء السير : أنه كان حول ( مكة ) راهب يقال له : عيصا بمهملتين بينهما تحتية وكان قد أحرز علما كثيرا ، وأنه كان يدخل ( مكة ) كل موسم ، فيقوم مبشرا بظهور رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيقول : ( يا معشر قريش ، إنه سيظهر فيكم نبي تدين له العجم والعرب ، وهذا وقت ظهوره قد اقترب ) . فلما كان في الليلة التي ولد فيها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان عبد المطلب طائفا ب ( الكعبة ) ، فرأى إسافا ونائله وهما صنمان عظيمان قد سقطا ، فأذهله ذلك الشأن ، وجعل يمسح عينيه ، ويقول : أنائم أنا أم يقظان ؟ فلما أخبر بالمولود علم أن ذلك من أجله ، لما كان قد رأى من الدلائل من قبله ، فخرج من الغد ، فوقف تحت صومعة عيصا وناداه ، فلما رآه أكرمه وفداه ، وقال له : ( كن أباه ، كن أباه ، قد طلع نجمه البارحة ، وظهر سناه ، وقد كنت أحب أن يكون منكم ، وقد كان ، وعلامة ذلك أنه يشتكي من بطنه ثلاثة أيام ، ثم يعافى من كل الأسقام ، فاحفظه من اليهود فإنهم أعداؤه ، وقد تحققت عندهم صفاته ) . سيف بن ذي يزن يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] بعد مولده : سيف بن ذي يزن ، الملك الحميري ، وذلك أن عبد المطلب وفد عليه في السنة الثامنة من مولد / النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ( صنعاء ) يهنئه بظفره ب ( الحبشة ) لما أزالهم الله من ( اليمن ) ، فأكرمه وأجلسه على سرير ملكه ، وأعطاه عطايا

جزيلة ، وأخبره أنه يجد في الكتب القديمة أن هذا أوان وجود النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي ، وأن صفته كذا وكذا ، فأخبره عبد المطلب أنه عنده غلاما بتلك الصفة ، فأوصاه به ، وحذره من كيد اليهود والنصارى . فمات عبد المطلب في تلك السنة . الراهب بحيرا يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] : بحيرا الراهب بفتح الموحدة وكسر المهملة ممدودا وذلك أن عمه أبا طالب خرج به إلى ( الشام ) في السنة الثانية عشرة من ولادته [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلما بلغوا ( بصرى ) من أرض ( الشام ) رآه الراهب المذكور معهم ، فعرفه بصفاته المذكورة عنده في الإنجيل ، فأمر أبا طالب أن يرده ، وناشده الله في ذلك خوفا عليه من كيد اليهود والنصارى ، فرجع به ، وزوده الراهب شيئا من الكعك والزبيب . ثني بحيرا نفرا من النصارى عن قتل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وروى الترمذي في ' جامعه ' أن نفرا من النصارى أتوا بحيرا الراهب بعد رجوع أبي طالب بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وقالوا : إنا خرجنا في طلب النبي الأمي ، وإنا وجدنا في كتبنا أنه يمر بطريقك هذه في هذا الشهر ، وإنا نريد قتله ، فذكرهم الله وقال : ( أرأيتم أمرا يريد الله أن يقضيه أيقدر أحد أن يرده ؟ قالوا : لا ، وانصرفوا عنه ) . الراهب نسطور يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] ثم بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] : نسطور الراهب بمهملات مع فتح النون وذلك أنه [ صلى الله عليه وسلم ] خرج في سنة خمس وعشرين من مولده مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها ، في تجارة لها ، فلما نزل الركب بقرب صومعة الراهب المذكور ، نزل إليهم منها ، وكان لا ينزل لأحد ، وطاف فيهم حتى رأى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فعرف فيه علامات

النبوة ، فأكرمه ، وأضافهم لأجله ، وعرفهم أنه نبي هذه الأمة وأنه خاتم النبيين ، وقال له : احذر على نفسك من كيد اليهود والنصارى ، وأوصى ميسرة به ، فقيل له : كيف عرفت أنه فينا ؟ قال : إنكم لما أقبلتم لم يبق شجر ولا حجر إلا وسجد إلى جهتكم / ، وكان ميسرة يقول : ( كان إذا اشتد الحر ظلته غمامة ، تسير معه أينما سار ) . فلما رجعا من ( الشام ) أخبر ميسرة خديجة بما رآه من كرامته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وصدقه ، وأمانته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وما أخبر به الراهب ، وما رآه من تظليل الغمامة له ، وغير ذلك ، فرغبت خديجة في نكاحه ، فخطبته إلى نفسها ، وكان كل من أشراف قومها حريصا على ذلك ، فتزوج بها [ صلى الله عليه وسلم ] . قس بن ساعدة الإيادي يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] ثم بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] : قس بن ساعدة وقد روى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قصته ؛ أنه كان يقوم بسوق عكاظ خطيبا ، فقام مرة والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأبو بكر حاضران ، فقال : ( يا أيها الناس ، إن لله دينا هو خير من دينكم الذي أنتم عليه ، وإن لله نبيا قد حان [ حينه ، وأظلكم ] أوانه ، [ فطوبى لمن آمن به فهداه ، وويل لمن خالفه وعصاه ] ، فبادروا إليه . فعما قليل ، وقد ظهر النور ، وبطل الزور ، وبعث الله محمدا بالحبور ، صاحب النجيب الأحمر ، والتاج والمغفر ، والوجه الأزهر ، [ والحجاب النور ، والطرف الأحور ] ، وصاحب

شهادة أن لا إله إلا الله ، فذلكم محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر ؛ [ أهل المدر والوبر ] . زيد بن عمرو بن نفيل يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] ثم بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] قبيل مبعثه : زيد بن عمرو بن نفيل ، وكان خرج يلتمس دين إبراهيم كما رواه البخاري في ' صحيحه ' فأخبره آخر الأحبار إنه لم يبق أحد عليه ، وأنه قد أظل زمان خروج النبي الأمي ب ( مكة ) . فرجع واجتمع به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مرارا ، وكان يقول : ( اللهم إني أعبدك وحدك ، وأدين لك بدين إبراهيم ، ولا أعرف كيف أعبدك ؟ ! ) . وله أشعار في التوحيد . ومات شهيدا رحمه الله تعالى . وكان ا لنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يترحم عليه ، ويقول : ' إنه يبعث أمة وحده ' . سلمان الفارسي يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن بشر به [ صلى الله عليه وسلم ] قبل مبعثه : سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وكان يتنقل من حبر إلى حبر ، حتى قال له آخرهم عند موته : إنه لم يبق أحد على دين الحق ، ولكن قد آن خروج النبي الأمي ب ( مكة ) ، وعرفه بصفاته . فخرج مع ركب إليها ، فأخذه قطاع الطريق ، فباعوه إلى يهود ( المدينة ) ، فلم يزل بها إلى أن هاجر إليها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فعرف الصفات التي فيه فآمن / رضي الله عنه به ، وصدقه ، إلى أن سعى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في مكاتبته بما سيأتي في معجزاته [ صلى الله عليه وسلم ] . ورقة بن نوفل يبشر به [ صلى الله عليه وسلم ] وممن عرفه بصفاته : ورقة بن نوفل بن أسد ، ابن عم خديجة

رضي الله عنها ، على ما في أول ' صحيح البخاري ' ، وكان قد تنصر وقرأ الإنجيل ، فلما نزل جبريل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] بالوحي ، ذهبت به خديجة إلى ورقة ، فتحقق أنه النبي الأمي الذي بشر به عيسى عليه السلام ، فآمن به وصدقه ، وأخبره أن قومه سيخرجونه من ( مكة ) ، وتمنى أن يكون حاضرا يومئذ لينصره نصرا مؤزرا . ومن شعره في ذلك ، [ من الوافر ] : ( لججت وكنت في الذكرى لجوجا ** لهم طالما بعث النشيجا ) ( ووصف من خديجة بعد وصف ** فقد طال انتظاري يا خديجا ) ( بأن محمدا سيسود فينا ** ويخصم من يكون له حجيجا ) ( فيلقى من يحاربه خسارا ** ويلقى من يسالمه فلوجا ) ( فيا ليتني إذا ما كان ذاكم ** [ شهدت ] فكنت أولهم ولوجا ) ( ولوجا في الذي كرهت قريش ** ولو عجت بمكتها عجيجا ) ثم إنه لم يلبث أن مات - رحمه الله تعالى - .

الباب الرابع
في ذكر مولده الشريف ، ورضاعته ونشأته إلى حين أوان بعثته [ صلى الله عليه وسلم ] مولده [ صلى الله عليه وسلم ] وتاريخه ومكان ولادته
قال علماء السير : ولد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في ربيع الأول ، يوم الاثنين بلا خلاف . ثم قال الأكثرون : ليلة الثاني عشر منه . وقال بعضهم العاشر . وقال آخرون : الثامن . وذلك ب ( مكة ) المشرفة ، في شعب أبي طالب ، وهو المكان الذي يجتمع فيه أهل ( مكة ) ليلة المولد الشريف ، للذكر والدعاء والتبرك بمسقط رأسه [ صلى الله عليه وسلم ] . وأفتى جماعة من المتأخرين بأن عمل المولد على هذا القصد حسن محمود . صفة مولده [ صلى الله عليه وسلم ]
قال علماء السير : ووضعته أمه وهو مستقبل القبلة ، واضعا يديه على الأرض ، رافعا رأسه إلى السماء ، مختونا ، مسرورا أي :

مقطوع السرة ، ليس عليه شيء من قذر الولادة . روى / ابن إسحاق ، عن الشفاء بالتشديد : أم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ، وهي التي تولت ولادته ، أنها قالت : لما سقط النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على يدي ، سمعت قائلاً يقول : يرحمك الله ، وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب ، حتى نظرت إلى قصور ( الشام ) . الآيات التي وقعت ليلة مولده [ صلى الله عليه وسلم ] وليلة ولاده [ صلى الله عليه وسلم ] خمدت نار فارس التي يعبدونها ، وكان وقودها مستمرا من عهد موسى عليه الصلاة والسلام ، وارتجس إيوان كسرى ، وسقطت منه أربع عشرة شرفة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وتنكست جميع الأصنام في جميع الآفاق ، وسقط عرش إبليس ، ورميت الشياطين بالشهب ، فمنعت من استراق السمع .

فائدة
في رمي الشياطين بالشهب
التحقيق أن الشياطين كانت ترمى بالشهب لقوله تعالى : ! ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ) ! [ سورة الحجر 15 / 18 ] ؛ لكنه رمي لا يكثر فيه إصابتهم بالرجوم ، ولا يمنعهم عن مقاعدهم للسمع . فلما ولد [ صلى الله عليه وسلم ] كان الرمي بالرجوم أشد رجما ، فلما بعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] استمر منعهم عن مقاعدهم ، كما صرح بذلك فيما حكاه الله تعالى عنهم :

! ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) ! [ سورة الجن 72 / 9 ] . وذلك لئلا يلتبس الوحي بالكهانة . وفي ' الصحيحين ' أيضا ، أنهم قالوا : قد حيل بيننا وبين خبر السماء . والله أعلم . رضاعته [ صلى الله عليه وسلم ] وأول من أرضعته [ صلى الله عليه وسلم ] ثويبة - بمثلثة ، مصغرة - مولاة عنه أبي لهب ، وأرضعت معه عمه حمزة وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح - بمهملات - . وفي ' صحيح البخاري ' انه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أرضعتني أنا وأبا سلمة ثويبة ' قال عروة بن الزبير : وثويبة مولاة أبي لهب ، كان أبو لهب أعتقها ، فأرضعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلما مات أبو لهب أريه العباس في أسوء حالة ، فقال له : ماذا لقيت ؟ قال : لم ألق بعدكم خيرا ، غير أني خفف عني العذاب بعتاقي / ثويبة .
قلت : فتخفيف العذاب عنه إنما هو كرامة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] كما خفف عن أبي طالب ، لا لأجل مجرد العتق لقوله تعالى : ( وخبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) [ سورة هود 11 / 16 ] . رضاعته [ صلى الله عليه وسلم ] من حليمة السعدية
قال علماء السير : ثم احتملته حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب - مصغر ذئب - من بني سعد بن بكر بن هوازن ، ثم قيس بن عيلان - بمهملة - ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ؛ حين قدمت مع قومها يلتمسون الرضعاء ، لما يرجونه من المعروف من أهليهم .

وكان أهل ( مكة ) يسترضعون أولادهم فيهم لفصاحتهم ، ولصحة هواء البادية ، فأقام [ صلى الله عليه وسلم ] فيهم نحو خمس سنين ، وظهر لهم من يمنه وبركته في تلك المدة أنواع من المعجزات وخوارق العادات . روى ابن إسحاق عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : قالت حليمة : خرجت في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء ، على أتان لي قمراء ، في سنة شهباء ، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر ، ومعنا شارف لنا - أي ناقة مسنة - ما تبض بقطرة ، وما ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا ، ما في ثديي ما يغنيه ، ولا في شارفنا ما يغذيه ، فخرجت على أتاني تلك ، ولقد أذمت بالركب - أي : ولقد أزرت بهم - ضعفا وعجفا ، حتى شق ذلك عليهم ، حتى قدمنا ( مكة ) ، فوالله ما منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتأباه إذا قيل لها : إنه يتيم ، [ وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي ، فكنا نقول : يتيم ! وما عسى أن تصنع أمه وجده ؟ ، فكنا نكرهه لذلك ] فما بقيت امرأة ممن قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري ، [ فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم

فلآخذنه ، قال : لا عليك أن تفعلي ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة . قالت ] : فذهبت إليه فأخذته ، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره . قالت : فلما أخذته رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري ، أقبل عليه ثدياي بما شاء من اللبن ، فشرب حتى روي ، وشرب معه أخوه ضمرة حتى رويا ، ثم ناما ، وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي إلى شارفي فإذا بها حافل ، فحلب منها ما شرب ، وشربت ، حتى انتهينا شبعا وريا / [ فبتنا بخير ليلة ] . قالت : يقول صاحبي حين أصبحنا : تعلمي يا حليمة ، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ، ألم تري إلى ما بتنا فيه من الخير والبركة ؟ فلم يزل الله يرينا خيرا . قالت ثم خرجنا وركبت أتاني تلك ، وحملته عليها معي ، فوالله لقد قطعت بالركب ، [ ما يقدر عليها شيء من حمرهم ] . حتى إن صواحبي ليقلن لي : يا بنت أبي ذؤيب ، ويحك ! ! إربعي علينا - أي : ارفقي - أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن : بلى ، والله إنها لهي هي ! ! فيقلن : والله إن لها لشأنا . قالت : ثم قدمنا منازلنا [ من بلاد بني سعد ] ، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي [ حين قدمنا به معنا ] شباعا لبنا ، فنحلب ونشرب ، وما يحلب إنسان غيرنا منهم قطرة لبن ، [ ولا يجدها في ضرع ] ، حتى كان الحاضرون من قومنا

يقولون لرعاتهم : ويحكم ؟ اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فيسرحون ، فتروح أغنانهم جياعا هزلا ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شبعا لبنا ، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والبركة حتى مضت سنتاه ، ففصلته عن الرضاعة . قالت : وكنت لا أدخل عليه بالليل إلا وجدت السقف قد انفرج ، وقد نزل عليه القمر يناغيه - أي يحدثه - . وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يشب شبابا لا يشبه الغلمان ، [ فلم يبلغ ] سنتيه حتى كان غلاما جفرا - أي : ممتلئ الجنبين - . قالت : فقدمنا به على أمه ، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا ، لما كنا نتعرف من بركته ، فقلت لأمه : دعينا نرجع به ، فإنا نخشى عليه وباء ( مكة ) ، ولم نزل بها حتى ردته معنا . انتهى كلام ابن إسحاق .

حادثة شق صدره
قال غيره : وبعد حولين من مرجعها به - أي : في العام الخامس من مولده [ صلى الله عليه وسلم ] - أتاه ملكان فشقا صدره ، واستخرجا قلبه فشقاه ، واستخرجا منه علقة سوداء ، وقالا : هذا حظ الشيطان منك ، ثم ملاه حكمة وإيمانا ، ثم لأماه ، فالتأم [ الشق ] بإذن الله تعالى ، ثم ختماه بخاتم النبوة بين كتفيه كالطابع ، ثم قال أحدهما لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، ففعل فوزنهم / ، ثم قال : زنه بمئة [ من أمته ] ، ففعل فوزنهم ، ثم قال : زنه بألف [ من أمته ] ، ففعل فوزنهم ، حتى قال : والله لو وزنته كلها لوزنهم ، ثم قبلا رأسه

وما بين عينيه ، وقالا : يا حبيب ، لم ترع ، إنك لو تدري ما يراد بك [ من الخير ] لقرت عيناك . وروي عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' فما هو إلا أن وليا عني ، وكأنما الأمر معاينة ' . وفي ' صحيح البخاري ' عن السائب بن يزيد قال : قمت خلف ظهره [ صلى الله عليه وسلم ] فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه . ولمسلم : أن الخاتم كان إلى جهة كتفه اليسرى . خوف حليمة على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ورده إلى أمه قال ابن إسحاق : فتخوفت عليه حليمة بعد ذلك ، فردته إلى

أمه ، فقالت لها : ما أقدمك يا ظئر وقد كنت حريصة عليه ؟ فأخبرتها ، قالت : أفتخوفت عليه ؟ والله ما للشيطان على ابني هذا من سبيل ، وإن له لشأنا ، ولقد رأيت حين حملت به أنه أخرج مني نور أضاء لي قصور ( بصرى ) من أرض ( الشام ) .

وفاة أمنه
وفي السنة السادسة من مولده [ صلى الله عليه وسلم ] خرجت به أمه إلى ( المدينة ) لتزيره أخوال جده عبد المطلب ، وهم بنو عدي بن النجار من الخزرج ، وأقامت به شهرا . وروي عنه أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أحسنت السباحة في بئر بني عدي بن النجار من يومئذ ' . وكان يهود ( المدينة ) يومئذ يختلفون إليه ، ويتعرفون فيه علامات النبوة . ثم رجعت به ، فماتت ب ( الأبواء ) - بالموحدة - وهو مكان بين ( مكة والمدينة ) . أم أيمن تحتضن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبقي ب ( الأبواء ) حتى انتهى الخبر إلى ( مكة ) ، فجاءته حاضنته أم أيمن - مولاة أبيه عبد الله بن عبد المطلب وأم أسامة بن زيد - فاحتملته .

والصحيح أن أباه عبد الله مات وهو حمل . وأما أمه : فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة [ بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ] ، وكانت سيدة قومها بني زهرة ، وكان أبوها سيدهم ولم يلدا - أعني أبويه - غيره [ صلى الله عليه وسلم ] .

فائدة عظيمة
فيما يتعلق بأبويه [ صلى الله عليه وسلم ] قال القرطبي في ' تذكرته ' : خرج الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه ' السابق واللاحق ' والحافظ أبو حفص / عمر بن شاهين في كتابه ' الناسخ والمنسوخ ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال في حجة الوداع : ' ذهبت لقبر أمي ، فسألت الله أن يحييها لي فأحياها ، فآمنت بي ' . في إحياء والدي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] له وكذا ذكره السهيلي في ' الروض الأنف ' : أن من خصائصه [ صلى الله عليه وسلم ] أن الله تعالى أحيا له أبويه فآمنا به .

قال القرطبي : فهذا ناسخ لما في صحيح مسلم أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] زار قبر أمه وقال : ' استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي ، فاستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي ' .

قال القرطبي : فإيمانهما به بعد الرجعة ينفعهما كرامة له [ صلى الله عليه وسلم ] ، كما وقعت صلاة سليمان عليه السلام أداء ، لما رد الله عليه الشمس بعد غروبها كرامة له ، والله يختص برحمته من يشاء ، ويكرم بكرامته من يشاء . تنبؤ سيف بن ذي يزن والكهان بمبعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي السنة السابعة : وفد جده عبد المطلب على سيف بن ذي يزن الحميري ، لتهنئته بأخذه ( صنعاء ) وبظفره ب ( الحبشة ) ، فأكرمه وأخبره هو والكهان الوافدون عليه بنبوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وأنه أبوه ، وأنه سيكون له شأن عظيم . وفاة جده عبد المطلب وكفالة أبي طالب للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي السنة الثامنة : توفي جده عبد المطلب ، فكفله عمه أبو طالب ، واسمه : عبد مناف ؛ لأنه شقيق عبد الله ، فأحسن كفالته ، وتعرف منه اليمن والبركة ، ودافع عنه بعد مبعثه بيده ولسانه ، وكان إذا أكل هو وأولاده فأكل معهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] شبعوا ، وإذا لم يأكل معهم لم يشبعوا . خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الشام مع عمه أبي طالب وقصة الراهب بحيرا وفي السنة الثالثة عشرة : خرج به عمه أبو طالب في تجارة إلى ( الشام ) ، فلما بلغوا ( بصرى ) ، رآه الراهب بحيرا - بفتح الموحدة وكسر المهملة ممدودا - فتحقق فيه صفات النبوة ، فأمر أبا طالب أن يرده إلى ( مكة ) خوفا عليه من اليهود والنصارى ، فرجع به . وروى الترمذي في ' جامعه ' أن نفرا من الروم أرادوا به سوءا ، فمنعهم بحيرا وذكرهم الله ، وقال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه ، أيقدر أحد من الناس أن يرده ؟ فقالوا : لا ، وانصرفوا .

شهود النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حرب الفجار وفي السنة الرابعة عشرة / : كانت حرب الفجار - بكسر الفاء وجيم - بين قريش وهوازن وسميت بذلك لوقوعها في الشهر الحرام ، وتطاولت الحرب بينهم ، وكانت الدائرة لهوازن على قريش ، حتى شهدها [ صلى الله عليه وسلم ] يوما مع قومه ، فانقلبت الدائرة لهم على هوازن . شهود النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حلف الفضول ثم عقدت قريش حلف الفضول لنصرة المظلوم ، فشهدهم [ صلى الله عليه وسلم ] . وكان سببه أن رجلا قدم ( مكة ) بمتاع ، فابتاعه منه العاص بن وائل السهمي ، وظلمه الثمن ، فشكاه ، فلم ينصفه أحد ، فأوفى على جبل أبي قبيس وأنشد بأعلى صوته ، [ من البسيط ] : ( يا آل فهر لمظلوم بضاعته ** ببطن مكة نائي الدار والنفر ) ( ومحرم أشعث لم يقض عمرته ** يا للرجال وبين الحجر والحجر ) فقال الزبير بن عبد المطلب بن هاشم : والله لا صبر لي على هذا الأمر ، فجمع بني عبد مناف وبني زهرة وبني أسد وتيما في دار عبد الله ابن جدعان التيمي ، وقد صنع لهم ابن جدعان طعاما ، فتحالفوا ليكونن عونا للمظلوم على الظالم ، ثم أتوا العاص بن وائل فانتزعوا سلعة الرجل منه قهرا . وفي الحديث أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' شهدت مع عمومتي في دار ابن جدعان من حلف الفضول ما لو دعيت إليه اليوم لأجبت '

خروج النبي إلى الشام في تجارة لخديجة رضي اله عنها
وفي السنة الخامسة والعشرين : خرج [ صلى الله عليه وسلم ] مع ميسرة غلام

خديجة في تجارة لها بأجرة ، فربحا أضعاف ما يربح الناس ، فلما رجعا أضعفت له خديجة الأجرة ، وشاهد منه ميسرة في تلك السفرة أنواعا من علامات النبوة ، منها : أنه كان إذا اشتد الحر ظللته غمامة ، تسير بسيره ، وتقف في وقوفه .

فائدة
في تظليل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالغمام الظاهر أن تظليله بالغمام كان قبل البعثة ، ففي حديث الهجرة أن أبا بكر ظلله بثوب . وفي قصة غورث كنا إذا رأينا شجرة ظليلة تركناها لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . مرور النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالراهب نسطور ومنها - [ أي : من علامات النبوة ] - : أنهم مروا براهب / يقال له نسطور - بفتح النون - فقال لميسرة : من هذا الفتى ؟ فقال : هو من أهل ( مكة ) من أهل الحرم ، فقال : أشهد أنه نبي ، وأنه آخر الأنبياء . خطبة خديجة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وزواجه منها ومنها : ما شاهده من صدقه وأمانته وخلقه العظيم ، فأخبر ميسرة خديجة بما شاهده من معجزاته [ صلى الله عليه وسلم ] وخلقه العظيم ، فأخبر ميسرة خديجة بما شاهده من معجزاته [ صلى الله عليه وسلم ] وخلقه وبركته ، فخطبته إلى نفسها . وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي . وكانت خديجة من أفضل نساء قريش حسبا ونسبا وجمالا ومالا ، وقد كان كل من قومها حريصا على نكاحها ، فأكرمها الله بأكرم الخلق على الله ، لما سبق في الأزل من الكرامة ، فنكحها ، وبقيت معه خمسا وعشرين سنة ، عشرا بعد المبعث وخمس عشرة قبله ، وكانت له عونا على الحق ، وهي أول من أسلم على يديه من النساء ، وهي أم أولاده كلهم : القاسم وعبد الله الطاهر ، ورقية ، وزينب وأم كلثوم ، وفاطمة ، إلا إبراهيم فإن أمه مارية القبطية .

وفي ' الصحيحين ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' خير نسائها مريم [ ابنة عمران ] ، وخير نسائها خديجة ' - أي : مريم خير نساء زمانها ، وخديجة خير نساء زمانها - . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : : ' أتاني جبريل فقال : هذه خديجة ، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب - أي : لؤلؤ مجوف - لا نصب فيه - أي : تعب - ولا صخب - أي : صراخ - ' . زاد الطبراني أنها قالت : هو السلام ، ومنه السلام ، وعلى جبريل السلام .

فائدة
في التفاضل بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما
احتج بعض الأئمة بهذا الحديث على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنهما من حيث أن جبريل أقرأ خديجة السلام عن الله وعن نفسه ، وإنما أقرأ عائشة السلام عن نفسه ، وبقوله [ صلى الله عليه وسلم ] - لما قالت له عائشة : قد أبدلك الله خيرا منها - : ' ما أبدلني الله خيرا منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ' . وأجيب عن الأول : بأن تسليم الله على خديجة لا يقتضي تفضيلها ، / كما لا يقتضي تسليمه على إبراهيم وغيره من الأنبياء تفضيلهم على محمد ، الذي أمر الله أمته بالتسليم عليه . وعن الثاني : بأن مراد عائشة خيرا منها في السن - كما في الحديث - فقابل

ذلك [ صلى الله عليه وسلم ] بخيرية خديجة في الدين الذي هو أفضل من حداثة السن والله أعلم . بنيان الكعبة ومشاركة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي السنة الخامسة والثلاثين : بنت قريش ( الكعبة ) وتقاسمتها أرباعا ، فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود ، تنازعت القبائل أيها يضعه موضعه ، حتى كادوا يقتتلون ، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل عليهم من بني هاشم . فكان [ صلى الله عليه وسلم ] هو أول داخل ، فقالوا : هذا محمد ، هذا الصادق الأمين ، رضينا به ، فحكموه ، فبسط [ صلى الله عليه وسلم ] رداءه ووضع الحجر فيه ، وأمر أربعة من رؤساء القبائل الأربع ، أن يأخذوا بأرباع الثوب ، فرفعوه إلى موضعه ، فتناوله [ صلى الله عليه وسلم ] بيده المباركة ، فوضعه في موضعه . وفي ' الصحيحين ' : أنه [ صلى الله عليه وسلم ] حضرهم يوما في بناء الكعبة فذهب هو وعمه العباس ينقلان الحجارة ، فقال له العباس : اجعل إزارك على عاتقك كما يفعلون ، ففعل ، فخر إلى الأرض مغشيا عليه ، وطمحت عيناه إلى السماء ، وقال : ' أرني إزاري ' ، فشده عليه . ترادف علامات النبوة عليه [ صلى الله عليه وسلم ] وفي الثامنة والثلاثين : ترادفت علامات نبوته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وتحدث بها الرهبان والكهان .

حث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للخلوة وفي التاسعة والثلاثين : حببت إليه الخلوة ، فكان يخلو بغار ( حراء ) أياما بعد أيام ، يتزود لها . وكان في تلك المدة يرى أنوارا ، ويسمع أصواتا .

الرؤيا الصادقة
وفي السنة الأربعين قبل مبعثه بستة أشهر : كان وحيه [ صلى الله عليه وسلم ] مناما ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . أي : مثل الصبح المفلوق ، أي : المنشق . ومنه : ! ( قل أعوذ برب الفلق ) ! [ سورة الفلق 13 / 1 ] . تسليم الحجر والشجر عليه [ صلى الله عليه وسلم ] وكانت الأحجار والأشجار تسلم عليه بالرسالة . وفي الحديث الصحيح / أنه [ صلى الله عليه وسلم ] 7 قال : ' إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ' . وفي ' الصحيحين ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ' .
قال العلماء : لأن مدة النبوة ثلاث وعشرون سنة ، ونصف السنة منها جزء من ستة وأربعين جزءا . وما أحسن قول صاحب البردة - رحمه الله - فيها ، [ من البسيط ] : ( أبان مولده عن طيب عنصره ** يا طيب مبتدأ منه ومختتم ) ( يوم تفرس فيه الفرس أنهم ** قد أنذروا بحلول البؤس والنقم )

( وبات إيوان كسرى وهو منصدع ** كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم ) ( والنار خامدة الأنفاس من أسف ** عليه والنهر ساهي العين من سدم ) ( وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ** ورد واردها بالغيظ حين ظمي ) ( كأن بالنار ما بالماء من بلل ** حزنا وبالماء ما بالنار من ضرم ) ( والجن تهتف والأنوار ساطعة ** والحق يظهر من معنى ومن كلم ) ( عموا وصموا فإعلان البشائر لم ** تسمع وبارقة الإنذار لم تشم ) ( من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم ** بأن دينهم المعوج لم يقم ) ( وبعد ما عاينوا في الأفق من شهب ** منقضة وفق ما في الأرض من صنم ) ( حتى غدا عن طريق الوحي منهزم ** من الشياطين يقفو إثر منهزم ) ( لا تنكر الوحي من رؤياه إن له ** قلبا متى نامت العينان لم ينم )

( وذاك حين بلوغ من نبوته ** فليس ينكر فيه حال محتلم ) ( تبارك الله ما وحي بمكتسب ** ولا نبي على غيب بمتهم )

الباب الخامس
في إثبات أن دينه [ صلى الله عليه وسلم ] ناسخ لكل دين ، وأنه خاتم النبيين وعموم رسالته إلى الناس أجمعين وتفضيله على جميع النبيين والمرسلين اعلم أن إثبات النبوة هو الشطر الثاني من التوحيد ، فإنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' مبنى الإيمان على قول : لا إله إلا الله / ، وهو شطر - أي : نصف - والشطر الثاني : محمد رسول الله ' . وقد ذكرنا نبذاً من مبادئ نبوته [ صلى الله عليه وسلم ] قبل البعثة من المبشرات ، التي يتذكر بها من يخشى ، ويتجنبها الأشقى . وسنذكر أيضا في الباب السادس بعد هذا من معجزاته [ صلى الله عليه وسلم ] ، البالغة مبلغ التواتر ما يستيقن به الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا . ولكن التذكير والتبشير إنما هو لمن تقرر في قلبه التصديق والإيمان برسالته [ صلى الله عليه وسلم ] . وأما المنكر الجاحد لها : فلا يدحض حجته ولا يبطل شبهته إلا البراهين العقلية القاطعة لحجته ، المبطلة لشبهته . فنقول وبالله التوفيق ، على سبيل التمهيد والتحقيق ، في إدراك النبوة بطريق الذوق ، ثم بيان أصلها ، ثم إمكانها ، ثم وجودها ، ثم صحتها : أما طريق الذوق : فاعلم أنه لا يدرك بالذوق شيئا من المعرفة

بحقيقة النبوة من لم يذق شيئا من سلوك طريق أهل الله تعالى ، وأولياء الله تعالى ، برياضة الأنفس وتزكيتها ، وتصفية القلوب ، وتهذيب الأخلاق . لأن كرامات الأولياء على التحقيق بدايات الأنبياء ، وقد كان ذلك أول حال نبينا [ صلى الله عليه وسلم ] ، حيث كان يتعبد في ( حراء ) ، وكان يؤثر العزلة للخلوة بربه ، والتجرد والتبتل ؛ وهو الانقطاع عن الخلائق إلى الخالق ، وهو الذهاب إلى الله تعالى ، الذي أشار إليه الخليل عليه الصلاة والسلام بقوله : ! ( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) ! [ سورة الصافات 37 / 99 ] . فمن مارس تلك الطريق اتضح له طرف من حقيقة النبوة ، ما هي وخاصيتها بالكشف والعيان ، ومن لم يبلغ هذه الرتبة فلا بد له من التنبيه على أصلها وإمكانها ، ثم وجودها عموما ، ثم لشخص معين ، بإقامة البرهان ، لشدة مسيس الحاجة إليها . وأما دليل أصلها : فكل عاقل قاطع بأن الإنسان أول ما يدرك من مراتب العلم في صغره / وطفوليته العلم بالحواس الخمس ، التي هي : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس . فيدرك بكل واحدة من هذه عالما لا يدركه بالأخرى ، ومن تعطلت عليه حاسة منها - كالبصر مثلا - لم يدرك ما حقيقة الألوان ، إلا بسماعها بالتواتر ، فإنكاره لها مكابرة جاهل بما لم يعلم ، وتكذيب بما لم يحط بعلمه ، وقد أحاط به غيره ، فيحتج عليه المبصر بأن عندك حاسة الشم وزيد أخشم لا يفرق بين رائحة المسك والجيفة ، فماذا نقول له لو زعم التسوية بين المسك والجيفة ؟ .

فإن زعمت أنه مكذب بما لم يحط بعلمه من المشمومات ، فهو أيضا يزعم أنك مكذب بما لم تحط به من الألوان المبصرات ، ولا يسعك إلا أن تؤمن له بوجود الألوان وتنوعها ، ويؤمن لك بوجود المشمومات وتنوعها . وهكذا في المطعومات والملموسات والمسموعات . وهذا الإدراك حاصل للطفل ، لا يدرك غيره من العوالم إلى سن التمييز ، فإذا بلغ سن التمييز خلق الله فيه أمورا عقلية زائدة على تلك الحسية ؛ كالتمييز بين الجائزات والمستحيلات والواجبات . فإذا قلت مثلا للطفل : رش هذا الحجر ليصير لينا كالطين اعتقد جواز ذلك دون المميز ، ولو قلت للمميز الذي سقط من يده القدح الذي فيه الشراب : هذا القدح انكسر والشراب لم يتبدد لعلم أنك تهزأ به ، إذ من لوازم انكسار القدح تبدد الشراب الذي هو فيه . وهكذا لو قلت له غير ذلك . وهو في هذا العالم إلى بلوغ سن التكليف الذي يتحمل به الأمانة الشرعية فيكمل تمييزه ، فيخلق الله فيه طورا آخر من العقل ، بحيث يوثق بأقواله وأفعاله ، وتطمئن النفس لمعظم أحواله ، ولا يزال يزداد بالتجربة عقلا . فكل عاقل يقطع بأن سن التمييز طور وراء سن الطفولية ، وسن العقل طور وراء سن التمييز . وإذ قطع العاقل / بذلك قلنا له : ليس في العقل أيضا ما يحيل أن فوق طوره طورا آخر ، وفوق ذلك الطور طورا أخر ، وهلم جرا . فكما أن قدرة الله صالحة لأن يخلق في المميز ما لم يدركه الطفل من العلم ، وفي العاقل ما لم يدركه المميز ؛ فهو سبحانه قادر على أن يخلق في بعض العقلاء طورا لا يدركه العقلاء ؛ من الاطلاع على الغيب ، وفتح عين في القلب تسمى : البصيرة الباطنة ، بمثابة البصر لعين الرأس الظاهرة ، والعقل عن هذا الطور معزول ، كعزل قوة الحواس عن التمييز ، وعزل التمييز عن المعقولات ،

فإنكار بعض العقلاء لطور النبوة كإنكار المميز لطور العقل ، وإنكار الأعمى للمبصرات ، والأخشم للمشمومات ، وذلك عين الجهل ، إذ لا مستند له إلا أن هذا طور لم يبلغه عقله إدراكا . فنقول له : إن لم يدركه عقلك بمباشرة فلا تحل جوازه ، كما لا يحيل الأعمى وجود المبصرات ، ويجب عليه أن يقول : إن الحاسة التي تدرك بها المبصرات وجدت في غيري فأدركها ، ولم توجد في فلم أدركها . فحينئذ الشك في النبوة إما أن يكون في إمكانها ، أو في وجودها في العالم ، أو في وقوعها مطلقا ، أو في إثباتها لشخص معين . أما دليل إمكانها : فظاهر مما تقرر من أن العقل لا يحيل من أن يترقى الإنسان الكامل إلى طور فوق طور العقل ، يفتح الله لقلبه عينا يدرك بنورها ما لم يدركه العقل ، كما ترقى المميز إلى طور العقل ، والطفل إلى طور التمييز ، وكما أن الله سبحانه قادر على أن يخلق في قلوب عباده المعرفة به ، وبأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا ، وجميع تكليفاته الشرعية ، ابتداء بغير واسطة ، كقوله تعالى : ( وعلم ءادم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ) [ سورة البقرة 2 / 31 ] وقوله تعالى : ( فوجدا عبدا من عبادنا ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) [ سورة الكهف 18 / 65 ] . وآدم نبي ، والعبد ولي ، وكلاهما اشتركا في تعليم العلم اللدني بغير واسطة . وطور النبوة / أيضا فوق طور الولاية ، يعلمه الولي ويؤمن به ، كما يعلم أن طور الولاية فوق طور العقل ذوقا ومباشرة ، وكذلك العقل لا يمنع أن يوصل الله إلى من ارتضاه من رسله العلم بما سبق

من المعرفة به وبأحكامه ، بواسطة بينهم وبينه ، يبلغهم عنه سبحانه وتعالى ، سواء كان ذلك الواسطة من جنسهم كالأنبياء في حق سائر البشر أم من غير جنسهم كالملائكة في حق الرسل وإذا جوز العقل ذلك ، وجاءت الرسل بما تثبت بأمثاله الرسالة ، من المعجزات الدالة على صدقهم ، وجب تصديقهم ، والإيمان بهم ، وبجميع ما أتوا به . [ وأما دليل وجودها ] : فإذا وقع الشك في شخص معين ، هل هو نبي أم لا ؟ فسبيل تحصيل اليقين بما يدعيه من النبوة ، بأمرين : أحدهما : مشاهدة ما أقامه من المعجزات الخارقة للعادات ، كما سنذكره ، وهذا خاص بمن عاصره . وثانيهما : معرفة خاصية النبوة أولا ، من إدراك الأنبياء ما لا يدركه العقلاء ، ثم التسامع بالتواتر . كما أن من أراد أن يعرف مثلا أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه فقيه أم لا ؟ فسبيله أن يعرف أولا حقيقة الفقه ما هو ؛ وهو استنباط الأحكام الفرعية من الأدلة الأصلية ، ثم ينظر ثانيا فيما نقل عنه ، مما استنبطه من الفقه ، من كتاب الله تعالى ، وحديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فإنه يحصل له العلم الضروري بأنه في أعلى مراتب الفقه . وكذلك من علم خاصية النبوة ، ثم نظر إلى ما قرره نبينا [ صلى الله عليه وسلم ] من الشرع ، حصل له لا محالة العلم القطعي ، والإيمان القوي بكونه [ صلى الله عليه وسلم ] في أعلى درجات النبوة . هذا كله لمن أراد من المؤمنين تقوية اليقين . وأما الجاحد الملحد : فيقرر عليه أولا من دليل العقل عدم استحالة وقوع النبوة كما سبق ثم يقرر حقيقة المعجزة / التي بها تثبت النبوة لمدعيها . فنقول : المعجزة عبارة عن إيجاد الله تعالى أمرا

خارقا للعادة على يدي مدعي الرسالة ، للدلالة على تصديق الله له . فكل ما أظهره الله سبحانه وتعالى على أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مما يعجز البشر عن الإتيان بمثله ؛ فهو من معجزاتهم الدالة على نبوتهم ، لأنه لما كان لا يقدر أن يوجد ذلك الفعل إلا الله تعالى ، كان إيجاده على أيديهم قائما بلسان الحال ، مقام التصديق بلسان المقال : صدق عبدي في ما ادعاه . كما لو قال شخص عاقل بحضرة الملك : معاشر المسلمين ! ! إن السلطان قد نصب فلانا عليكم حاكما ، فاسمعوا له ، وأطيعوا ، ولم ينكر عليه الملك ، علم الحاضرون بتقرير الملك صدق ذلك القائل . فالمعجزة مع التحدي قائمة مقام قول الله تعالى : صدق عبدي فاتبعوه ، وذلك عند عجزهم عن معارضته تلك المعجزة ، واعتراف أعلم أهل ذلك العصر أن مثل هذا غير داخل في طوق البشر . ولهذا فإنه لما كان زمن موسى عليه السلام غاية علم أهله التفنن في السحر ، بعثه الله إليهم بمعجزة تشبه ما يدعون كمال المعرفة فيه ، ثم جاءهم بما خرق به عادتهم ، وأبطل سحرهم . ولما كان زمن عيسى عليه السلام غاية علم أهله التفنن في الطب ، جاءهم بما لا يقدرون عليه ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، دون معالجته . وهكذا سائر معجزات الأنبياء عليهم السلام ، إنما تكون بأمر شائع بين أهل ذلك العصر العلم به ، والتفنن في المعرفة به على أقصى درجات الكمال عندهم ، لتقوى عليهم الحجة ، ويعترفون

بعجزهم وعجز من سواهم عن مقاومته . [ وأما صحتها ] : ولما بعث الله نبينا محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] كان منتهى علم أهل عصره ، وغاية المعرفة والكمال عندهم أمران : أحدهما : فصاحه المنطق ، وبلاغة الكلام ، والتفنن فه نثرا ونظما ، في خطبهم / وأشعارهم . وثانيهما : علم الكهانة والزجر ، والإخبار عن الحوادث . فجعل الله معجزته العظمى ما أ نزل عليه من الكتاب الحكيم ، على هذا الأسلوب الغريب ، الذي لم يهتدوا إلى طريقه ، ولا سلكوا سبيله ، وتحداهم أن يأتوا بمثله ، ثم بعشر سور منه ، ثم بسورة ، فعجزوا ، وجعله مشتملا على الإخبار بالمغيبات ، وكشف المخبآت التي اعترف بصحتها وأذعن لصدقها أعدى الأعداء له ، وأبطل بذلك ما كانوا عليه من الكهانة ، التي تصدق مرة وتكذب ألفا . فلما أدعى [ صلى الله عليه وسلم ] النبوة والرسالة إلى الناس كافة ، وأظهر المعجزات ، وعظيم الآيات ، التي لم تعارض في جميع الأوقات ؛ دل ذلك قطعا على صدق ما ادعاه . أما دعواه النبوة والرسالة : فمعلوم بالتواتر بين البر والفاجر ، لا يختلف فيه مؤمن وكافر . وأما إقامته على ذلك الدلائل الظاهرة ، والمعجزات الباهرة ؛ فلما نقله الخلف عن السلف ، من الأمور الخارقة كانشقاق القمر ، وتسليم الحجر ، وإجابة الشجر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتفجير الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام القليل ببركته وغير ذلك

مما ستأتي الإشارة إلى بعضه تصريحا وتلويحا ، إلى غير ذلك من عظيم الآيات المعلومة بالقطع بين علماء السير ، ونقله الأخبار ، ورواها العدد الكثير في جميع الأعصار ، من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم ، ولم تزدد على مر الأيام إلا ظهورا . ومجموع معناها بالغ مبلغ التواتر بين البر والفاجر ، كما يعلم جود حاتم ، وشجاعة علي بالضرورة . وإن لم تبلغ كل واقعة منها بعينيها مبلغ التواتر ، بل وأكثرها كان في المجامع الحفلة ، والعساكر الجمة من الصحابة رضي الله عنهم ، ثم رواها عنهم الكافة ، ولم يرو عن أحد منهم مخالفة للراوي فيما رواه ، والإنكار لما نسبه إليهم من المشاهدة لها وحكاه . فسكوت الساكت منهم / كنطق الناطق ، وكثيرا ما يحصل العلم الضروري بشيء لإنسان دون آخر ، كمن يعلم جملة من أخبار الملوك الماضية ، والبلدان النائية ، وآخر لا يعرف وجودها ، فضلا عن تحقق أخبارها . ثم إن من أعظم معجزاته [ صلى الله عليه وسلم ] الباهرة ، وآيات نبوته الظاهرة ، ودلائل صدقه : معجزة القرآن العظيم ، المستمرة على مر الدهور والأزمان ، المشاهدة لجميع الإنس والجان ، وقد انطوى على وجوه من الإعجاز - ستأتي الإشارة إليها في الباب السادس - لا يحصرها عد ، ولا يحيط بها حد . فلما أظهر [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الكلام البليغ ، الذي أعجز به البلغاء ، واللد الفضحاء ، مع ما اشتمل عليه من نبأ القرون السالفة ، والشرائع الداثرة ، مما كان لا يوجد في القصة الواحدة ، إلا عند الفذ من الأحبار والرهبان ، ولا ينالهم بالتعلم إلا من قطع

العمر ، وأفنى في طلبها الأزمان . [ قال تعالى ] : ! ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ) ! [ سورة آل عمران 3 / 44 ] . [ وقال تعالى ] : ! ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ) ! [ سورة النمل 27 / 76 - 77 ] . هذا مع ما انطوى عليه من المغيبات ، والإخبار بما كان وما هو آت ، ومع ما احتوى عليه من بليغ المواعظ والحكم ، وكريم الأخلاق والشيم ، والترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، وإثبات النبوات والتوحيد ، وتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله ، فعجزوا بعد أن أخبرهم أنهم لن يفعلوا ، ! ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ! [ سورة الإسراء 17 / 88 ] . فلما عجزوا كلهم عن معارضته ، مع كمال بلاغتهم ، وشدة حرصهم ، وتوفر دواعيهم ، وتهالكهم على إفحامه ، وألقوا بأيديهم مذعنين ، وأحجموا عن معارضته صاغرين ، دل ذلك على / صدقه قطعا فيما ادعاه ، وأن كتابه منزل من عند الله ، هذا مع ما قد تواتر عنه قبل دعوى النبوة وبعدها ، من ملازمة الصدق والأمانة ، والعفة والصيانة ، والأحوال الكريمة ، والأخلاق العظيمة ، والسيرة الحسنة ، والإعراض عن زهرة الدنيا ، والمداومة على الجد والتشمير للأخرى ، إلى أن توفاه الله . إذا العقل يقطع بامتناع اجتماع لهذه الأمور ، إلا في الأنبياء المؤيدين بتأييد الله تعالى وأمره ، ويستحيل أن يجمع الله هذه الكمالات فيمن يفتري على الله الكذب والبهتان ، ثم يظهر دينه ،

كما أخبر به على سائر الأديان . وهل للنبوة والرسالة معنى غير هذا في الاستدلال ؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ثم إذا ثبتت نبوته [ صلى الله عليه وسلم ] - وقد دل كلام ربه المنزل على أنه خاتم النبيين ، وأنه مبعوث إلى الناس أجمعين - ثبت بذلك عموم رسالته ، ونسخ شريعته لسائر الشرائع ، لوجوب طاعته واتباعه على الكل : ! ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ! [ سورة آل عمران 3 / 85 ] . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' : ' مثلي ومثل الأنبياء ، كرجل بنى دارا ، فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فيها ، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون : لولا موضع هذه اللبنة ، فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ' : . فإن ادعى مدع خصوص رسالته إلى العرب فقط ، فقد اعترف بنبوته ، والكذب ممتنع على الأنبياء اتفاقا . وقد حصل العلم القطعي أنه [ صلى الله عليه وسلم ] جاء بكتاب من عند الله ، ناطق بعموم رسالته إلى الناس أجمعين ، كقوله تعالى : ! ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ! [ سورة الأعراف 7 / 158 ] . وبأنه ادعى عموم الرسالة الى الأحمر والأسود ، والبعيد والقريب : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) [ سورة الأنعام 6 / 19 ] - أي : من بلغه القرآن - . / وتواتر النقل عنه أنه [ صلى الله عليه وسلم ] دعا اليهود والنصارى وغيرهم إلى الإيمان ، وأرسل كتبه إلى ملوك الفرس والروم وغيرهم ، وألزمهم

وجوب طاعته ، وأتباعه على وفق ما يجدونه في كتبه : ! ( الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) ! [ سورة الأعراف 7 / 157 ] ! ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) ! [ سورة البقرة 2 / 146 ] ! ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) ! [ سورة البقرة 2 / 89 ] . فكيف يعترف هذا بنبوته ثم يناقض وجوب عصمته بتكذيبه ؟ [ قال تعالى ] : ! ( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) ! [ سورة النساء 4 / 150 - 151 ] . فهذا القدر كاف في تحقيق نبوته ، وعموم رسالته [ صلى الله عليه وسلم ] ، ونسخ دينه لكل دين . تفضيل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على الأنبياء والمرسلين وأما تفضيله [ صلى الله عليه وسلم ] على جميع النبيين والمرسلين ، فلما صح من قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أنا سيد ولد آدم ولا فخر ' . فتحدث بنعمة ربه امتثالا لأمره ، نافيا للفخر والخيلاء ، وبلغ ذلك إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ، ولقوله سبحانه وتعالى : ! ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ! [ سورة آل عمران 3 / 110 ] . ولا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالها ، وذلك تابع لكمال نبيها ، لأن كمال التابع من كمال المتبوع . هذا إلى ما ورد في الأخبار الصحيحة من اختصاصه [ صلى الله عليه وسلم ] بالشفاعة العظمى في أهل الموقف يوم الدين ، وهو المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون ، بعد رجوع الخلائق إليه في الشفاعة العظمى ، واعترافهم له بالمزية . وفي ' الصحيحين ' : ' أعطيت خمسا ، لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ،

وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وبعثت إلى الناس عامة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ' . وقال بعض العارفين / بالله : لما أخرج الله : ! ( من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) ! [ سورة الأعراف 7 / 172 ] تفاوتوا في الإجابة ، فأولهم الرسل ، وأول الرسل محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وعليهم أجمعين . هذا مع أنه لا تفاضل بين جميع الأنبياء في درجة النبوة ، وإنما يكون التفاضل بينهم بأمور أخر زائدة على ذلك ؛ كأن تكون معجزات أحدهم أشهر وأظهر ، أو تكون أمته أكثر وأظهر ، أو غير ذلك مما يخصهم الله به من الكرامة . فمنهم : أولوا العزم ومنهم : أولوا الأيدي والأبصار ، ومنهم : المصطفون الأخيار ، ومنهم : من رفعه الله مكانا عليا ، ومنهم : من آتاه الله الحكم صبيا .

[ قال الله تعالى ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) [ سورة البقرة 2 / 253 ] . [ وقال تعالى ] : ! ( وكلم الله موسى تكليما ) ! [ سورة النساء 4 / 164 ] . ثم إنه ليس يخفى على من له أدنى ممارسة بالعلم أن معجزات نبينا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] أشهر وأكثر من معجزات سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين كما سيأتي ذكر بعضها وإنها أبلغ وأتم في باب الإعجاز . إذ من المعلوم أن انفجار الأصابع بالماء الغزير أبلغ في باب الإعجاز من انفجاره من الحجر ، لأنه شيء ما شوهد مثله قط ولا عهد ، بخلاف انفجار الحجر بالماء ، فإنه بالجملة معهود ، وإن كان على غير الوجه الذي شوهد في عهد موسى عليه السلام . وكذلك إشباع الجيش الكثير من أقراص من شعير ، أتم في باب الإعجاز من إنزال المن والسلوى ، والمائدة على عيسى [ عليه السلام ] من السماء . وكذلك رد العين السائلة وإعادتها في الحال إلى صحتها حتى كانت أحسن من الأخرى الصحيحة ، أعجب من إبراء الأكمه والأبرص . وكذلك نطق ما لم يعهد نطقه أصلا كالجذع ، والحجر ، والشجر ، والضب ، والذئب ، والذراع أغرب من إحياء الموتى ، فإن الميت قد كان ينطق / ، فقد عهد منه الحياة والنطق في الجملة ، ولم يعهد في حال من الأحوال نطق شيء من تلك الأجناس . على أن جميع معجزات المرسلين عليهم السلام تصلح أن تكون

معجزة لنبينا [ صلى الله عليه وسلم ] ، لأن حقيقة المعجزة ما دل على صدق الرسول ، وكل من المرسلين قد بشر به ، فمعجزاتهم الدالة على صدقهم ، معجزات دالة على صدقه ، وبراهين شاهدة بصحة نبوته . ثم إن معجزات سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام انقرضت بانقراضهم ، وانعدمت بموتهم . وأما نبينا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فأعظم معجزاته : القرآن ، وهو معجزة مستمرة على مر الأزمان ، لا تبيد ولا تنقطع ، ولا تذهب ولا تضمحل ، بل هي ثابتة إلى الأبد ، واضحة الحجة لكل قرن ، فلا يمر عصر ، ولا يظهر قرن ، إلا وهم مستدلون على الخصم بوجوه إعجازه ، محتجون عليه بما احتج من قبلهم على الخصم من قبله ، قائلين : ! ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) ! [ سورة البقرة 2 / 23 ] .

فائدة
في الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر
أجمع أهل السنة على أن كرامات الأولياء حق . قال الشيخ الرباني محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في ' شرح صحيح مسلم ' ، في الكلام على حديث جريج الراهب : ' فيه إثبات كرامات الأولياء ، وأنها تكون بجميع خوارق العادات ، وأن كل ما جاز أن يكون معجزة للأنبياء ، جاز أن يكون كرامة للأولياء ، وأن كرامات الأولياء يجوز أن تقع باختيارهم وطلبهم وبغير اختيارهم ، لأن جريجا توضأ ، وصلى ، ودعا الله تعالى ، وقال للغلام : من أبوك ؟ فقال : فلان الراعي ) . انتهى .


قلت : وجميع ما ذكره رحمه الله تعالى هو مذهب أهل السنة ، لأن خرق العادة لا يحيله العقل ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة ، والأخبار والآثار ، التي ملأت الآفاق ، وضاقت عن حصرها الأوراق ؛ على وقوع / كرامات الأولياء في كل عصر وزمان ، كقوله تعالى في مريم : ! ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) ! [ سورة آل عمران 3 / 37 ] ، وقوله تعالى : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) [ سورة مريم 19 / 25 ] ، وقوله تعالى : ( فتمثل لها بشرا سويا ) [ سورة مريم 19 / 17 ] ، وقوله تعالى : ( قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به ) [ سورة النمل 27 / 39 ] . وكحديث جريج ، وأصحاب الغار الثلاثة ، وكذا حديث بركة قصعة الصديق ، وحديث نداء الفاروق : يا سارية الجبل ، ومشي العلاء بن الحضرمي على الماء ، وتسبيح قصعة أبي الدرداء وسلمان ، وتسليم الملائكة على عمران [ بن حصين ] .

ولو لم يكن إلا قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن من عباد الله ، من لو أقسم على الله لأبره ' أي : لأكرمه لكفى . وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى : ما بال الصحابة لم ينقل عنهم من الكرامات ما نقل عمن بعدهم ؟ فقال : لقوة إيمانهم . وسئل النووي رحمه الله تعالى : ما بال العلماء لا يظهر عليهم ما يظهر على العباد ؟ فقال : لعزة الإخلاص في العلم دون العبادة . ولا فرق بين الكرامة والمعجزة إلا اقتران المعجزة بدعوى النبوة . نعم ، قد تلتبس الكرامة بالسحر ، فإنه أيضا أمر خارق للعادة ، وإنما الفرق بين الكرامة والسحر باتباع الولي للرسول ، ومخالفة الساحر له . فالكرامة التي لا يتطرق إليها تلبيس هي الاستقامة .
قال العلماء : ويستحيل أن يظهر الخارق مع دعوى النبوة على يد الكاذب ، وكل كرامة لولي معجزة لنبيه ، لدلالة صدق التابع على صدق المتبوع . والله أعلم .

الباب السادس
في ذكر بعض ما اشتهر من معجزاته ، وظهر من علامات نبوته في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] فمن [ ذلك ] : انشقاق القمر ، ورد الشمس وحبسها له ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام اليسير ببركته ، وكلام الشجر والحجر ، وشهادتها له بالنبوة ، وشهادة الحيوانات له بالرسالة ، وشفاء العلل بريقه وكفه المباركة ، وإجابة دعائه لمن دعا له ، وصلاح ما كان فاسدا بلمسه ، وما أخبر به من المغيبات ، مما كان ، ومما هو آت / . وأعظمها معجزة : القرآن العظيم ، والذكر الحكيم . فهذه عشرة أنواع من المعجزات الباهرة ، والآيات الظاهرة ، كل نوع منها منطو على ما لا يحصره عد ، ولا يحيط به حد ، ولكنا نشير من كل نوع منها إلى شيء منه : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ) [ سورة المدثر 74 / 31 ] . فنقول : انشقاق القمر ، ورد الشمس أما النوع الأول : وهو انشقاق القمر ، ورد الشمس وحبسها له [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقد قال الله تعالى : ! ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) ! [ سورة القمر 54 / 1 ] وروى البخاري في ' صحيحه ' عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول [ صلى الله عليه وسلم ] أي لمن معه من

المسلمين : ' اشهدوا ' . وفي رواية : ' حتى رأيت الجبل بين فرقتي القمر ' . فقال كفار قريش : سحركم محمد ؟ فقال رجل منهم : إن محمدا إن كان سحركم ، فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر أهل الأرض كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر ، هل رأوا مثل هذا ؟ فأتوا فسألوهم ، فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك ، فقال أبو جهل : هذا سحر مستمر . رد الشمس وحبسها له [ صلى الله عليه وسلم ] وخرج الطحاوي في ' مشكل الحديث ' بإسنادين صحيحين ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه ، فلم يصل علي العصر حتى غربت الشمس ، فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أصليت العصر يا علي ؟ ' قال : لا ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' اللهم إنه كان في طاعتك ، وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس ' فطلعت بعدما غربت ، وأشرقت على الجبال ، وكان ذلك ب ( الصهباء ) في غزوة ( خيبر ) . وروى الحافظ يونس بن بكير ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لما اسري به ليلة الاثنين ، وأخبر قومه بالرفقة التي وجدهم في طريق ( الشام ) ، في العير الآتية إليهم ، فقالوا له : متى تجيء العير ؟ فقال : / ' يوم الأربعاء ' فلما كان ذلك الوقت احتبست العير ، وأشرفت قريش ينتظرون ، ودنت الشمس للغروب ، فحبس الله الشمس ساعة ،

حتى قدمت العير ، بعد أن دعا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ربه أن يحبسها له . نبع الماء من بين أصابعه [ صلى الله عليه وسلم ] وأما النوع الثاني : وهو نبع الماء من بين أصابعه [ صلى الله عليه وسلم ] ، فالأحاديث فيه كثيرة . ففي ' الصحيحين ' ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد حانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء ، فلم يجدوه ، فأتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بوضوء وفي رواية : بإناء لا يكاد يغمر أصابعه فوضع [ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ] يده في ذلك الإناء ، وأمر الناس أن يتوضؤا منه . قال : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه ، حتى توضؤا عن آخرهم . وفي ' الصحيحين ' أيضا ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : بينما نحن مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وليس معنا ماء ، فقال [ لنا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' اطلبوا من معه فضل ماء ' ، فأتي بقليل ماء فصبه في إناء ، ثم وضع كفه فيه ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه [ صلى الله عليه وسلم ] .

فائدة
في طلبه [ صلى الله عليه وسلم ] فضل ماء
قال العلماء : وإنما طلب فضل الماء ليكون من باب تكثير القليل ، لا من باب الإيجاد من العدم ، لئلا يتوهم أحد أنه الموجد للماء .

وفي ' الصحيحين ' أيضا ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : عطش الناس يوم ( الحديبية ) ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بين يديه ركوة ، فتوضأ منها ، وأقبل الناس نحوه ، فقالوا : ليس لنا ماء إلا ما في ركوتك هذه ، فوضع يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه [ صلى الله عليه وسلم ] ، كأمثال العيون . وفي ' الصحيحين ' عن البراء بن عازب ، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما ، أنهم نزحوا بئر ' الحديبية ' فلم يتركوا فيها قطرة ، وكانت قليلة الماء ، لا تروي خمسين شاة ، فنزح [ صلى الله عليه وسلم ] منها دلوا وبصق فيه ، وأعاده إليها / ، فجاشت بالماء الغزير ، حتى أروى الجيش أنفسهم وركابهم . وفي ' الصحيحين ' عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : أصاب الناس عطش شديد ، وهم مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في بعض أسفاره ، فوجه رجلين من أصحابه ، وهما : عمران بن حصين ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، وأعلمهما أنهما يجدان امرأة بمكان كذا ، معها بعير عليه مزادتان ، فوجداها ، فأتيا بها إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، [ فجعل في إناء من مزادتيها ، وقال فيه ما شاء الله أن يقول ، ثم أعاد الماء في المزادتين ، ثم فتحت عزاليهما ] فأمر الناس أن يستقوا من مزادتيها ، فملؤوا أسقيتهم حتى لم يدعوا سقاء إلا ملؤوه ، قال عمران بن حصين : ثم أوكيتهما ، وتخيل لي أنهما لم يزدادا إلا امتلاء ، ثم أمر فجمع لها من الأزواد حتى ملأ ثوبها ،

وقال : ' اذهبي فإنا لم نأخذ من مائك شيئا أي : لم ننقصه ولكن الله سقانا ' . وفي الصحيحين ' ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في جيش العسرة فعطش الناس عطشا شديدا ، حتى إن الرجل منا لينحر بعيرة ، فيعصر فرثة فيشربه ، فرغب أبو بكر إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الدعاء ، فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السماء ، فانسكبت ، فملؤوا ما معهم من الأسقية ، ولم يجاوز المطر العسكر . وفي ' صحيح مسلم ' عن جابر رضي الله عنه قال : كنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في غزوة ، فقال : ' يا جابر ناد الوضوء ' ، فلم يجدوا ماء إلا قطرة في فم مزادة ، فقال : ' ائتني بجفنة الراكب ' ، فأتيته بها ، فوضع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كفه فيها ، وصب عليه ذلك الماء ، فقال : ' باسم الله ' ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، حتى امتلأت الجفنة ، واستدارت ، فأمر الناس بالاستقاء منها ، فاستقوا ، واسقوا ركابهم ، فرفع يده من الجفنة ، وإنها لملأى .

وروى الإمام مالك في ' الموطأ ' ، / عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : كنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في غزوة ( تبوك ) ، فوردنا العين ، فوجدناها تبض بشيء من ماء مثل الشراك ، فغرفوا منها شيئا في إناء ، فغسل به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجهه ويديه ، وأعاده فيها ، فجرت بماء كثير له حس كحس الصواعق ، ثم قال : ' يوشك أن يكون ما هاهنا جنانا ' أي : بساتين فكان كذلك .

إكثار الطعام
وأما النوع الثالث : وهو تكثير الطعام اليسير ببركته [ صلى الله عليه وسلم ] فكثير أيضا . فمن ذلك . حديث أنس رضي الله عنه ، أن أبا طلحة بعثه بأقراص من شعير تحت إبطه ، ففتها [ صلى الله عليه وسلم ] وأشبع منها ثمانين رجلا . متفق عليه . وحديث جابر رضي الله عنه ، أنه صنع للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] صاعا من شعير وعناقا ، وطلب خامس خمسة فنادى في أهل ( الخندق ) ، وكانوا ألفا جياعا ، فأكلوا من ذلك كلهم ، حتى انصرفوا ، قال جابر : وأقسم بالله إن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز ، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بصق في البرمة والعجين . متفق عليه .

وحديث جابر أيضا المتفق عليه ، أنه حين مات أبوه أبى غرماؤه أن يقبلوا ثمرة نخيله بدينه ، فجاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجلس على بيدر واحد منها ، فكال لهم حتى أوفاهم منه ، وسلمت له منه بقية مع سائر البيادر . وحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، أنه صنع لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولأبي بكر عند قدومهما في الهجرة ما يكفيهما ، فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ادع ثلاثين من أشراف الأنصار ' ، فدعاهم ، فأكلوا حتى تركوه ، فقال : ' ادع ستين ' ، فدعاهم ، فأكلوا حتى تركوه ، فقال : ' ادع سبعين ' ، فدعاهم ، فأكلوا حتى تركوه ، قال أبو أيوب : فأكل من طعامي ثمانون ومئة رجل ، وما خرج رجل منهم حتى أسلم وبايع / متفق عليه . وحديث أنس أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين ابتنى بزينب رضي الله عنها ، أمره أن يدعو له كل من لقي ، حتى امتلأ البيت ، فقدم إليهم مدا من تمر ، قد جعل حيسا ، فجعل القوم يتغدون ويخرجون ، وبقي التمر كما هو . متفق عليه . وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، قال : لنا

مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ثلاثين ومئة ، فعجن صاع من طعام ، وذبحت شاة ، فشوي سواد بطنها أي : كبدها وأمره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحز لهم منها ، قال : وايم الله ما من الثلاثين والمئة إلا وقد حز له حزة من كبدها ، ثم جعل منها الطعام واللحم قصعتين ، فأكلنا منهما أجمعون ، وفضل منهما فضلة ، فحملته على البعير . متفق عليه . وحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، قال : أصابت الناس مخمصة شديدة في بعض مغازي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فدعا ببقية الأزواد ، فجاء الرجل بالحثية من الطعام وفوق ذلك ، وأعلاهم الذي أتى بالصاع من التمر ، فجمعوه على نطع زاد مسلم : قال سلمة : فحزرته كربضة العنز قال : ثم دعا الناس بأوعيتهم ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه ، وبقي منه بقية . متفق عليه . وحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : أصابني جوع شديد ، فلما خرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من المسجد تبعته ، فوجد عند أهله قدح لبن قد أهدي له ، فأمرني أن أدعو له أهل الصفة ، وكانوا سبعين ، فدعوتهم ، فأمرني النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن أسقيهم منه ، فجعلت أعطي الرجل القدح ، فيشرب حتى يروى ، حتى رووا جميعهم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' بقيت أنا وأنت ، فاشرب ' ، فشربت حتى رويت ، فقال : ' اشرب ' فشربت ، فما زال يقول : ' اشرب ' ، حتى قلت : والذي بعثك بالحق نبيا لا أجد له مسلكا ، فأخذ القدح

فحمد الله وسمى وشرب . متفق عليه / . تكليم الحجر والشجر له [ صلى الله عليه وسلم ] وأما النوع الرابع : وهو كلام الشجر والحجر ، وشهادتهما له بالنبوة [ صلى الله عليه وسلم ] . فمن ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في سفر ، فدنا منه أعرابي ، فقال [ له رسول الله ] : ' يا أعرابي ، أين تريد ' ؟ ، قال : إلى أهلي ، قال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' هل لك إلى خير ؟ قال : وما هو ؟ قال : ' تشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ' قال : من يشهد لك على ما تقول ؟ قال : ' هذه السمرة ' وهي بشاطىء الوادي ، فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها ، فشهدت الشهادتين ، ثم أمرها فرجعت إلى مكانها . وفي ' الصحيحين ' ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : ذهب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليقضي حاجته ، فلم ير شيئا يستتر به ، فإذا بشجرتين بشاطىء الوادي متباعدتين ، فأخذ بغصن من أغصان أحدهما ، فانقادت له كالبعير المخشوش أي : المجعول في أنفه حلقة فيها الخطام حتى إذا كانت بالمنصف ، وفعل بالأخرى كذلك ، فالتأمتا بإذن الله تعالى ، فلما قضى حاجته افترقتا ، وعادت كل واحدة منهما إلى منبتها . وعن بريدة بن الحصيب مصغرين رضي الله عنه ، قال :

سأل أعرابي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية أي : علامة على نبوته فقال له : ' قل لتلك الشجرة ؛ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يدعوك ' ففعل ، فمالت الشجرة يمينا وشمالا ، فتقطعت عروقها ، ثم جاءت تجر عروقها ، حتى وقفت بين يديه [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال له الأعرابي : ائذن لي أسجد لك ، قال : ' لا ينبغي السجود إلا لله ' قال : ائذن لي أقبل يديك ورجليك ، فأذن له . وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قاعدا / ، فأتت شجرة عظيمة فأطافت به ، ثم رجعت إلى منبتها ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إنها استأذنت ربها أن تسلم علي ' . وذكر الإمام أبو بكر بن فورك - رحمة الله تعالى - : أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان يسير ليلا في غزوة ' الطائف ' وهو وسن أي : به سنة نوم فاعترضته شجرة سدر ، فانفرجت له نصفين حتى مر بينهما ، قال : وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا ، قال : وهي هناك معروفة معظمة . ومن ذلك : حديث الجذع المشهور في ' الصحيحين ' ، عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، قالوا : كان المسجد مسقوفا بجذوع النخل ، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا له صوتا كصوت العشار من الإبل وفي

رواية : حتى ارتج المسجد لشدة خواره . وفي رواية سهل بن سعد : وكثر بكاء الناس . وفي رواية المطلب بن أبي وداعة : حتى انشق الجذع وجاءه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فوضع يده عليه فسكت . زاد غيره : فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن هذا بكى لما فقده من ذكر الله تعالى ' ، وقال : ' والذي نفسي بيده ، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة ' . ثم أمر به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فدفن تحت المنبر . وفي رواية بريدة : أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال له : ' إن شئت أن أردك إلى البستان الذي كنت فيه ، تنبت لك عروقك ، ويكمل خلقك ، ويجدد لك خوص وثمر ، وإن شئت أن أغرسك في الجنة ليأكل أولياء الله من ثمرك ' ، فقال : بل تغرسني في الجنة ، لأكون في مكان لا أبلى فيه ، فسمعه الحاضرون ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' قد فعلت ' ثم قال : ' إنه اختار دار البقاء على دار الفناء ' . وكان الحسن البصري رحمه الله إذا حدث بهذا الحديث

بكى ، وقال يا عباد الله / ، الخشبة تحن شوقا إلى رسول الله لما فارقها ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه . وفي ' صحيح البخاري ' عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنا نسمع تسبيح الطعام مع رسوا الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يؤكل . وفي ' الصحيحين ' عن أنس رضي الله عنه ، قال : صعد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] جبل ( أحد ) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فرجف بهم الجبل ، فقال ' اثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق ، وشهيدان ' . وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان حول الكعبة لقريش ثلاث مئه وستون صنما ، مثبتة على الرخام بالرصاص ، فلما دخل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عام الفتح ، جعل يشير إليها بقضيب كان في يده ، ويقول : ! ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ! - أي : ذاهبا - [ سورة الإسراء 17 / 81 ] فما أشار لوجه صنم إلا وقع لقفاه ، ولا لقفاه إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم ، فأمر بإخراجها . شهادة الحيوانات له [ صلى الله عليه وسلم ] وأما النوع الخامس : وهو شهادة الحيوانات له بالرسالة [ صلى الله عليه وسلم ] . فمن ذلك : حديث الضب .

شهادة الضب
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] جالسا في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي معه ضب قد صاده ،

فعرض عليه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الإسلام ، فقال : واللات والعزى لا آمنت بك إلا أن يؤمن بك هذا الضب ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يا ضب ' ، فأجابه بلسان فصيح سمعه القوم جميعا : لبتك وسعديك يا زين من وافى القيامة ، قال : ' من تعبد ؟ ' قال : الله الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عذابه ، قال : ' فمن أنا ؟ ' قال : أنت رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، قد أفلح من صدقك ، وخاب من كذبك [ فأسلم الأعرابي ] .

حديث الذئب للراعي
ومن ذلك : حديث الذئب / ، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما ، قالا : بينما راع يرعى غنما له ، إذ عرض الذئب لشاة منها فأخذها ، فأدركه الراعي ، فاستردها منه ، فأقعى الذئب ، فقال : أفلا تتقي الله تعالى ، حلت بيني وبين رزقي ؟ فقال الراعي : عجب ! ! لذئب يتكلم ؟ فقال الذئب : أنت أعجب مني ، واقف على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله نبيا قط أعظم منه قدرا عنده ، قد فتحت له أبواب الجنة ، وأشرفت الحور العين على أصحابه ، ينظرون قتالهم ، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب ، فتصير في جنود الله تعالى - وكان ذلك يوم ( أحد ) - قال الراعي : فمن لي بغنمي ؟ قال الذئب : أنا أرعاها حتى ترجع ، فمضى الرجل ووجد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقاتل ، فأسلم ، وأخبره الخبر ، فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' قم فحدثهم ' ، ثم قال له : ' عد إلى غنمك تجدها بوفرها ' ، فرجع فوجدها كذلك ، فذبح للذئب شاة .

سجود الغنم له [ صلى الله عليه وسلم ] ومن ذلك : حديث الغنم ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : دخل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حائطا لبعض الأنصار ، ومعه أبو بكر وعمر ، وفي الحائط غنم ، فسجدت له [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال أبو بكر : نحن أحق بالسجود لك منها ، فقال : ' إنه لا ينبغي السجود إلا لله تعالى ' . خضوع الجمل له [ صلى الله عليه وسلم ] ومن ذلك : حديث البعير ، عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، قالوا : دخل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حائطا وكان فيه جمل لا يدع أحدا يدخل الحائط إلا صال عليه ، فلما دخل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] دعاه فجاءه ، ووضع مشفره في الأرض ، وبرك بين يديه ، فخطمه ، وقال للحاضرين : ' والذي نفسي بيده ، ما من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله ، ما خلا عصاة الإنس والجن ' . فسألهم عن شأن الجمل ؟ فأخبروه أنهم أرادوا ذبحه . وفي رواية : أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لهم : ' إنه شكا / كثرة العمل ، وقلة العلف ، وأنكم أردتم ذبحه بعد أن استعملتموه في العمل الشاق من صغره ' فقالوا : نعم يا رسول الله .

قصة الظبية
ومن ذلك : حديث الظبية ، عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ، قالت : كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الصحراء ، فنادته ظبية : يا رسول الله ، قال : ' ما حاجتك ؟ ' قالت : صادني هذا الأعرابي ، ولي خشفان في

ذلك الجبل ، وكان الأعرابي نائما ، فأطلقها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فذهبت ورجعت فانتبه الأعرابي ، فقال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ألك حاجة ؟ قال : ' نعم ، تطلق هذه الظبية ' ، فأطلقها ، فذهبت تعدو في الصحراء ، وتقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله .

ذراع الشاة المسمومة
ومن ذلك : حديث الذراع المشهور في ' الصحيحين ' ، عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم : أن يهودية أيام فتح ( خيبر ) أهدت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] شاة مصلية - أي : مشوية - سمتها ، فأكل منها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم قال للقوم : ' ارفعوا أيديكم ، فإنها أخبرتني أنها مسمومة ' . وفي رواية جابر : ' أخبرتني هذا الذراع ' ، وقال لليهودية : ' ما حملك على ما صنعت ؟ ' فقالت : إن كنت نبيا لم تضرك ، وإن كنت ملكا أرحت الناس منك ، فعفا عنها . فمات بشر بن البراء من السم ، فقتلها به قصاصا . وفي رواية أنس : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال في وجعه الذي مات فيه : ' ما زالت أكلة ( خيبر ) تعادني - أي : تعاودني -

فالآن قطعت أبهري _ أي عرق الظهر المتعلق بالقلب _ ' . وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' كلوا باسم الله ' ، فأكلنا . وعند ابن إسحاق : إن كان المؤمنون ليرون أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مات شهيدا ، مع ما أكرمه الله به من / النبوة . الأسد يدل رسول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على الطريق ومن ذلك : حديث الأسد ، مع سفينة مولى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، وكان أرسله النبي [ صلى الله عليه وسلم ] برسالة إلى معاذ بن جبل إلى ( اليمن ) ، فضل الطريق ، فاعترضه الأسد فقال له سفينة : يا أبا الحارث ، أنا مولى رسول الله ، ومعي كتابه ، فهمهم وتنحى عن طريقه ، وجعل يغمزه بمنكبيه حتى أدله الطريق .

إبراء المرضى وذوي العاهات رد عين بعد قلعها
وأما النوع السادس : وهو شفاء العلل بريقه وكفه المباركة [ صلى الله عليه وسلم ] . فمن ذلك : ما رواه ابن إسحاق ، أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم ( أحد ) حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فكانت أحسن عينيه . وفي ذلك يقول ابنه ، [ من الطويل ] : ( أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ** فردت بكف المصطفى أحسن الرد )
شفاء عيني علي
وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] تفل في عيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم ' خيبر ' وكان رمدا ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع .
رده يدا بعد ما قطعت
وروى ابن وهب : أن أبا جهل قطع يد معوذ بن عفراء يوم ( بدر ) ، فجاء يحمل يده ، فبصق عليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وألصقها ، فلصقت . وأتته امرأة من خثعم بصبي لا يتكلم ، فتمضمض بماء وأعطاه إياها ، فسقته إياه ، فنطق وعقل عقلا يفضل عقول الرجال . حياء في الجارية من أثر لقمته [ صلى الله عليه وسلم ] . وسألته جارية وهو يأكل طعاما - وكانت قليلة الحياء - أن يطعمها من الذي في فيه ، فناولها الذي في فيه - ولم يكن يمنع شيئا يسأله - فلما استقر في جوفها ، ألقى الله عليها الحياء ، حتى لم يكن ب ( المدينة ) أشد حياء منها . إجابة دعائه [ صلى الله عليه وسلم ] وأما النوع السابع : وهو إجابة دعائه [ صلى الله عليه وسلم ] لمن دعا له . فمنه : ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا دعا لرجل ، أدركت الدعوة ولده وولد ولده . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] للمدينة وفي ' الصحيحين ' ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] / قدم ( المدينة ) وهي أوبأ أرض الله ، فقال : ' اللهم حبب إلينا المدينة ، كحبنا مكة ، أو أشد ، وصححها لنا ، وانقل حماها إلى الجحفة ' .
دعاؤه لأنس بن مالك
وروى البخاري في ' صحيحه ' ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قالت أمي : يا رسول الله ، خادمك أنس ادع الله له ، فقال : ' اللهم أكثر ماله وولده ، وبارك له فيما أعطيته ' . قال أنس : ( فوالله إن مالي لكثير ، وما أعلم أن أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت ، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون اليوم على نحو المئة ، ولقد دفنت إلى اليوم مائة من ولدي ، لا أقول سقطا ، ولا ولد ولد ) .
البركة في مال عبد الرحمن بن عوف
ودعا [ صلى الله عليه وسلم ] لعبد الرحمن بن عوف بالبركة ، فقال عبد الرحمن : فلو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب تحته ذهبا . ولا يخفى كثرة أمواله وصدقاته الجزيلة ، حتى إنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدا ، وتصدق مرة بعير قدمت من ( الشام ) تحمل كل شيء ، وكان الناس في مجاعة ، فارتجت ( المدينة ) لقدومها ، فتصدق بها وبما عليها ، حتى بأقتابها وأحلاسها ، وكانت سبع مئة جمل ، عليها سبع مئة حمل ، ولما مات أخذت كل زوجة ثمانين ألفا ، وكن أربعا ، بعد أن أوصى بخمسين ألفا .

دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] بالسقيا وفي ' الصحيحين ' . عن أنس رضي الله عنه ، أن أعرابيا دخل المسجد يوم الجمعة ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يخطب ، فشكا إليه القحط ، فدعا الله ، فسقوا ، ولم يروا الشمس إلى الجمعة الأخرى ، حتى دخل عليه وهو يخطب ، فشكا كثرة المطر ، فدعا الله تعالى فانكشف السحاب . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] لابن عباس رضي الله عنهما وفيهما - [ أي : الصحيحين ] ، أنه دعا [ صلى الله عليه وسلم ] لابن عباس رضي الله عنهما ، حين حنكة ، وهو مولود : أن يفقهه الله في الدين ، ويعلمه التأويل ، فكان يسمى الحبر والبحر لسعه علمه . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] لعلي رضي الله عنه ودعا [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن يكفيه الله الحر والقر . فكان في الشتاء يلبس ثياب الصيف ، وفي الصيف يلبس ثياب الشتاء ، ولا يصيبه حر ولا برد .

دعاؤه لفاطمة رضي الله عنها
ودعا [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] لفاطمة الزهراء ابنتيه رضي الله عنها ، أن لا يجيعها الله ، فما وجدت بعد ذلك للجوع ألما / . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] للنابغة وأنشده النابغة أبياتا ، فقال له [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' لا يفضض الله فاك ' فما سقطت له سن ، وكان من أحسن الناس ثغرا ، وعاش مئة

دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] على كسرى وعشرين سنة ، وقيل : كان إذا سقطت له سن نبتت في مكانها سن أخرى . وأما دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] على الأعداء ، فمنه : ما في ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] دعا على كسرى حين مزق كتابه : ' أن يمزق الله ملكه كل ممزق ' . فتمزقوا حتى لم يبق لهم باقية ، ولا بقيت للفرس رئاسة في جميع أقطار الدنيا . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] على عتبة بن أبي لهب ودعا [ صلى الله عليه وسلم ] على عتبة بن أبي لهب ، أن يسلط الله عليه كلبا من كلابه ، فجاءه الأسد ، وأخذه من وسط أصحابه . دعاؤه [ صلى الله عليه وسلم ] على محلم بن جثامة [ ودعا ] [ صلى الله عليه وسلم ] على رجل آخر فأصبح ميتا ، فدفنوه ، فلفظته الأرض ، فدفنوه مرارا ، لفظته الأرض ، فتركوه . وهذا الباب أكثر من أن يحصر .

دعاؤه على بشر بن راعي العير
وقال لرجل آخر يأكل بشماله : ' كل بيمينك ' ، قال : لا أستطيع ، قال : ' لا استطعت ' ما منعه إلا الكبر ، فما رفعها إلى فيه . رواه مسلم . كراماته وبركاته فيما لمسه وباشره [ صلى الله عليه وسلم ] وأما النوع الثامن : وهو صلاح ما كان فاسدا بلمسه [ صلى الله عليه وسلم ] . فرس أبي طلحة رضي الله عنه فمنه : ما روى البخاري في ' صحيحه ' ، أن أهل ( المدينة ) فزعوا مرة ، فركب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فرسا لأبي طلحة ، بطيء السير ، فلما

رجع ، قال : وجدناه بحرا ، فكان بعد ذلك لا يجاريه فرس .

نشاط جمل جابر رضي الله عنه
وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] نخس جملا لجابر ، قد أعيا ، فنشط حتى كان ما يملك زمامه .
بئر دار أنس رضي الله عنه
وكانت في دار أنس رضي الله عنه بئر ملحة ، [ فبزق ] [ صلى الله عليه وسلم ] فيها ، فلم يكن في ( المدينة ) أعذب منها .
بئر رائحته المسك
ومج في دلو من بئر ، ثم أعاده إليها ، فكانت أبدا يفوح منها رائحة المسك .
غرس النخيل لسلمان رضي الله عنه
وكاتب سلمان الفارسي مواليه على ثلاث مئة ودية - أي : ولد من أولاد النخل - يغرسها لهم حكلها تى تعلق وتثمر ، وعلى أربعين أوقية من ذهب ، كل أوقية أربعون درهما ، فقام [ صلى الله عليه وسلم ] وغرسها له بيده ، فعلقت كلها ، وأثمرت لعامها . وأعطاه / مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن أدارها على لسانه ، فوزن منها لمواليه أربعين أوقية ، وبقي له مثل ما أعطاهم .
فائدة
في وزن القطعة التي أعطاها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لسلمان الأوقية : أربعون درهما ، والدرهم : قفلة ، وقدر بيضة

الدجاجة لا يكاد يبلغ ثمانين درهما ، وقد وزن منها أربعين أوقية ، وهي مثلها عن ثمانين أوقية ، كل أوقية أربعون قفلة ، فذلك عن مئتي قفلة وثلاثة آلاف قفلة .

سيف عكاشة رضي الله عنه
وانكسر سيف عكاشة بن محصن يوم ( بدر ) ، فأعطاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عودا من حطب ، فعاد في يده سيفا صارما ، يشهد به المواقف ، وكان هذا السيف يسمى : العون .
ماء يتحول إلى لبن وزبدة
وبعث [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] سرية من أصحابه ، فلم يجدوا لهم زادا ، فأعطاهم سقاء من ماء أو كاه بيده ، فلما فتحوه وجدوه لبنا خالصا ، وزبدة في فم السقاء .
غرة عائذ بن عمرو رضي الله عنه
وسلت [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] الدم عن وجه بعض أصحابه ، فكانت له غرة في وجهه كغرة الفرس ، فكان يدعى الأغر .
بريق وجه قتادة بن ملحان رضي الله عنه
ومسح [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] وجه آخر ، فما زال على وجهه نور ، حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرآة الصقيلة .
سائق عبد الله بن عتيك رضي الله عنه
ومسح [ صلى الله عليه وسلم ] على ساق عبد الله بن عتيك لما انكسرت عند قتل أبي رافع فقام وما به قلبة .
أمر الكدية
وأخذ [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] المعول فضرب به الكدية التي اعترضت لهم في حفر الخندق ، وقال : ' باسم الله ' فانهالت . ومسح [ صلى الله عليه وسلم ] على غير واحد من المرضى والمجانين ، فشفاهم الله تعالى .
يوم حنين
وأخذ يوم ( بدر ) ويوم ( حنين ) قبضة من تراب ، ورمى بها في وجوه الكفار ، فما بقي منهم أحد إلا ودخل في عينه منها القذى ، وانهزموا . خالد وشعرة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وكانت شعرات من شعره [ صلى الله عليه وسلم ] في قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه ، فلم يشهد بها قتالا إلا رزق النصر ، فسقطت منه في بعض المعارك ، فشد عليها شدة وقع بسببها مقتلة عظيمة بين الفريقين ، فعوتب في ذلك ، فقال / : خفت أن يفوتني النصر ، وأن تقع في أيدي الكفار ، وفيها جزء من أجزاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . ولا يخفى أن هذا النوع أكثر من أن يحصر . ما اطلع عليه [ صلى الله عليه وسلم ] من الغيوب وما سيكون وأما النوع التاسع : وهو ما أخبر به [ صلى الله عليه وسلم ] من المغيبات ، مما كان ، ومما هو آت ، فمن ذلك ما هو في كتاب الله تعالى ، أو سنته [ صلى الله عليه وسلم ] . أما ما أخبر به من المغيبات في كتاب الله تعالى ، وهو من جملة وجوه الإعجاز .

[ فمن ] ذلك : إخباره بعجز الإنس والجن عن : ! ( يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ! [ سورة الإسراء 17 / 88 ] ، ثم إخبارهم بأنهم لن يفعلوا ، بقوله [ تعالى ] : ! ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) ! [ سورة البقرة 2 / 24 ] . وإخباره : أنه محفوظ من التبديل التحريف ، بقوله [ تعالى ] : ! ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ! [ سورة الحجر 15 / 9 ] ، مع كثرة الملاحدة وأعداء الدين ، فلم يقدر أحد على تشكيك المسلمين بحمد الله تعالى في حرف واحد من حروفه ، بخلاف التوراة والإنجيل وغيرهما ، لأن الله تعالى تولى حفظ القرآن بنفسه ، ووكل حفظ غيره من كتبه إلى أهلها ، بقوله [ تعالى ] : ( بما استحفظوا من كتب الله ) [ سورة المائدة 5 / 44 ] بل : ( كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهو يعلمون ) [ سورة البقرة 2 / 75 ] . ومن ذلك : وقوع ما وعده الله فيه ؛ من قوله تعالى : ! ( والله يعصمك من الناس ) ! سورة المائدة 5 / 67 ] . وقوله تعالى : ! ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) ! [ سورة الأنفال 8 / 7 ] . وقوله تعالى ! ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) ! [ سورة التوبة 9 / 33 ] وقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) [ سورة النور 24 / 55 ]

وقوله تعالى : ! ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون ) ! [ سورة الفتح 48 / 27 ] . وقوله تعالى : ! ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ! سورة القمر 54 / 45 ] . وقوله تعالى : ! ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) ! [ سورة النصر 110 / 1 - 2 ] . فوقع جميع ذلك ، ونصر الله عبده ، وصدق وعده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده . هذا مع ما كشف فيه من أسرار المنافقين وإضمار المعاندين ؛ كقوله تعالى : ! ( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) ! سورة آل عمران 154 / 3 ] . وقوله تعالى : ! ( ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ) ! [ سورة المجادلة 58 / 8 ] . وقوله تعالى : ! ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ) ! [ سورة التوبة 9 / 94 ] . وأما ما أخبر به [ صلى الله عليه وسلم ] من المغيبات في سنته : فمن ذلك : ما هو في ' الصحيحين ' ، أو في أحدهما ، أو في غيرهما ، صحيحا وحسنا . جمع الأرض له [ صلى الله عليه وسلم ] [ فمنها ] قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' زويت لي الأرض - أي : جمعت في زاوية - فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ' .

لا يدخل المدينة من أرادها بسوء ولا الدجال ولا الطاعون
وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] أن الطاعون لا يدخل ( المدينة ) ، ولا يدخلها رعب

الدجال ، وأنها لا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله ذوب الملح في الماء . ( ظهور الأمن والفتوح ) وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بفتح ( بيت المقدس والشام والعراق ) ، وظهور الأمن ، حتى تظعن المرأة من ( الحيرة إلى مكة ) لا تخاف إلا الله . ذهاب دولة الفرس والروم وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بذهاب فارس حتى لا فارس بعده ، وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده ، وإن الروم ذات قرون إلى آخر الدهر . فتح الله على الأمة وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بما يفتحه الله على أمته من الدنيا وزهرتها ، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر ، حتى يروح أحدهم في حلة ويغدو في حلة أخرى ، ويوضع بين يديه قصعة وترفع أخرى . اختلاف الأمة من بعده وافتراقهم وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بما يحدث بينهم من الاختلاف والفتن ، وافتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة ، وسلوك سبيل من قبلهم من أهل الكتاب . استحلال الزنا والربا وشرب الخمر وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] أن أمته إذا فشا فيهم الزنا والربا وشرب الخمر رد الله بأسهم بينهم / ، وسلط عليهم أعداءهم .

الفتن في آخر الزمان
وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بظهور الفتن في آخر الزمان ، وكثرة الهرج - وهو القتل - وقبض العلم - وظهور الجهل ، وموت الأمثل فالأمثل ، وأنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ، وأنه سيكون في أمته دجالون ، كلهم يكذبون على الله ورسوله ، آخرهم المسيح الدجال . وإخباره [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق ، قاهرين لعدوهم ، حتى يأتي أمر الله . وبخروج المهدي ، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام . إلى ما لا يحصى ولا يستقصى . حتى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : قام فينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقاما فما ترك شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا حدثه ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ، وإنه يكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذ غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه . متفق عليه . وفي حديث آخر عنه ، قال : والله ، ما ترك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا ، إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته . وقال أبو ذر رضي الله عنه : لقد تركنا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وما

يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما . قال الله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) [ سورة فصلت 41 / 53 ] .

نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام
وفي ' الصحيحين ' ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' والذي نفسي بيده ، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية - أي : فلا يقبل من أهلها إلا الإسلام - ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ' . ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) [ سورة النساء 4 / 159 ] . وفي مسند / الإمام أحمد ' ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' يخرج الدجال ، فينزل عيسى فيقتله ، ثم يمكث عيسى أربعين سنة إماما عادلا وحكما مقسطا ' . وورد من طرق كثيرة أن المهدي يخرج قبل الدجال بسبع سنين ، ويخرج الدجال على رأس مئة سنة - أي : رأس قرن - لكن التحقيق : أن قرون هذه الأمة ابتداؤها من مولد نبيها كألف نوح ، وبين مولده وهجرته ثلاث وخمسون سنة ، فيكون تمام الألف لسبع وأربعين سنة بعد تسع مئة من هجرته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وعند ذلك يتوقع

خروج الدجال إن كان . والله أعلم .

في إعجاز القرآن
وأما النوع العاشر منه : وهو المعجزة العظمى ، والآية الكبرى ، معجزة القرآن العظيم ، المستمرة إلى آخر الدهر ، المشتملة على وجوه من الإعجاز . فمنها البلاغة التي أعجز بها الجن والإنس ، قال الله تعالى : ! ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ! [ سورة الإسراء 17 / 88 ] . قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى - : ( ووجه إعجازه بحسن نظمه ، وفصاحة كلمه الخارقة عادة العرب العرباء ، وهم القوم اللد الفصحاء ، لأنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان هذا الميدان ، جعل الله البلاغة لهم طبعا وخلقة ، وركبها فيهم جبلة وقوة ، يأتون من ذلك على البديهة بالعجب ، ويرتجلون في المحافل القصائد والخطب ، ويرتجزون به في الحرب ، بين الطعن والضرب ، فيرفعون من مدحوه ، ويضعون من قدحوه ، ويجعلون الناقص كاملا ، والنبيه خاملا ، ويتغزلون فيأتون بالسحر الحلال ، ويتمثلون بما يزري على عقد اللآل ، ويخدعون الألباب إن سألوا ، ويذللون الصعاب إن شفعوا ، لهم في فنون البلاغة الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم / ، وأن البلاغة ملك قيادهم ، قد حووا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا فيها من كل باب ، وتمسكوا فيها بأوثق الأسباب ، فما راعهم إلا رسول كريم ، قد جاءهم بكتاب حكيم : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه

ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) [ سورة فصلت 41 / 42 ] ، قد أحكمت آياته ، وفصلت كلماته ، وبهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول ، صارخا بهم في كل حين ، ومقرعا لهم على مر السنين ، قائلا لهم : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ سورة البقرة ] . ولم يزل يقرعهم به أشد التقريع ، ويوبخهم به غاية التوبيخ ، ويسفه أحلامهم ، ويحط أعلامهم ، وهم في كل ذلك ناكصون عن معارضته ، معترفون بالعجز عن مماثلته ، حتى أعرضوا عن المعارضة بالحروف ، إلى المقارعة بالسيوف ، وقالوا على سبيل المباهته والرضى بالدنية : ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) [ سورة فصلت 41 / 5 ] ، و : ( لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [ سورة فصلت 41 / 26 ] . ولما سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآىء ذي القربى وينهى عن الفحشآء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) [ سورة النحل 16 / 90 ] ، قال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمورق ، وما يقول هذا بشر ) .

فاعترف بعجز البشر عن معارضته ، وقصورهم عن مماثلته ، وأصر مع ذلك على العناد ، وأضله الله سبيل الرشاد ، وكان يقول لقريش إذا قالوا للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه كاهن ، أو شاعر ، أو ساحر : والله ، ما أنتم بعاقلين من هذا شيئا . إلا وأنا أعلم أنه لباطل ، ولقد سمعت قولا والله ما سمعت مثله ، ولا يقوله بشر .

إخبار القرآن عن القرون السالفة
ومن وجوه إعجازه ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم الخالية ، مما كان لا يعلم منه / القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب ، وقد علموا أنه [ صلى الله عليه وسلم ] أمي ، لا يقرأ ولا يكتب ، حتى كان علماء أهل الكتاب يسألونه عن كثير مما يختلفون فيه ، فيورده لهم على وجهه ، ويأتي به على نصه ، فيعترف العالم منهم بذلك له بصدقه . قال الله تعالى : ( إن هذا القرءان يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) [ سورة النمل 72 / 76 ] .
اعجاز النظم والأسلوب
ويقطع الموافق والمخالف أنه لم ينل ذلك بتعليم ، وإنما هو بإعلام العزيز العليم ، حتى لم يقدر أحد من أحبار اليهود مع شدة عداوتهم له على تكذيبه فيما سألوه عنه من قصة يوسف وإخوته ، وذي القرنين ، وموسى والخضر ، ولقمان وابنه ، وأصحاب الكهف ، مع أن أقرب قصة كانت بينه وبين عيسى عليه السلام ؛ قصة أصحاب الكهف ، وكان أهل الكتاب فيها ، كما قال الله تعالى : ! ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ) ! ، فقال الله تعالى : ! ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) ! ، وقال : ! ( ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) ! [ سورة الكهف 18 / 22 ] .

فاعترفوا له بالصدق ، وأقروا له بالحق ، فإذا كان هذا شأنهم في أقرب القصص إلى عصرهم ، فما ظنك بقصة آدم وإبليس ، وابني آدم ، وإدريس ، ونوح وأصحاب السفينة ، وعاد وثمود ، وإبراهيم وإسماعيل ، وإسحاق ويعقوب . وغيرهم ممن لا يعلمهم إلا الله ؟ . وكانوا إذا نازعوه في شيء مما أخبرهم به - كحكم الرجم ، وما حرم إسرائيل على نفسه - احتج عليهم بأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وقال : ! ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) ! [ سورة آل عمران 3 / 93 - 94 ] ، ! ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) ! [ سورة البقرة 2 / 89 ] . وما أحسن قول صاحب البردة - رحمه الله تعالى - [ من البسيط ] : ( دعني ووصفي آيات له ظهرت ** ظهور نار القرى ليلا على علم ) ( فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ** وليس ينقص قدرا غير منتظم ) ( فما تطاول آمال المديح إلى ** ما فيه من كرم الأخلاق والشيم )

( آيات حق من الرحمن محدثة ** قديمة صفة الموصوف بالقدم ) ( لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ** عن المعاد وعن عاد وعن إرم ) ( دامت لدينا ففاقت كل معجزة ** من النبيين إذ جاءت ولم تدم ) ( محكمات فما تبقين من شبه ** لذي شقاق وما تبغين من حكم ) ( ما حوربت قط إلا عاد من حرب ** أعدى الأعادي إليها ملقي السلم ) ( ردت بلاغتها دعوى معارضها ** رد الغيور يد الجاني عن الحرم ) ( لها معان كموج البحر في مدد ** وفوق جوهره في الحسن والقيم )

( فما تعد ولا تحصى عجائبها ** ولا تسام على الإكثار بالسأم ) ( قرت بها عين قاريها فقلت له ** لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم ) ( إن تتلها خيفة من حر نار لظى ** أطفأت حد لظى من وردها الشبم ) ( كأنها الحوض تبيض الوجوه به ** من العصاة وقد جاؤوه كالحمم ) ( وكالصراط وكالميزان معدلة ** فالقسط من غيرها في الناس لم يقم ) ( لا تعجبن لحسود راح ينكرها ** تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم ) ( قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ** وينكر الفم طعم الماء من سقم )

2

الباب السابع
في بعض سيرته [ صلى الله عليه وسلم ] مما لاقاه من حين بعثه الله إلى أن هاجر إلى الله تعالى
الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
روى البخاري في ' صحيحه ' ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، قال : فترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ست مئة سنة .
زمن الرسالة
قال علماء السير : وكانت رسالته [ صلى الله عليه وسلم ] على رأس الأربعين من مولده .
قصة بدء الوحي
ففي ' صحيح البخاري ومسلم ' ، عن محمد بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير / ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أول ما بدئ به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الوحي : الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار ( حراء ) ، فيتحنث فيه - ( أي : بحاء مهملة ثم نون ثم مثلثة ، قال الزهري : وهو التعبد ) - الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار ( حراء ) ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال : ' ما أنا بقارئ ' . قال : ' فأخذني فغطني - أي : حبس نفسي - حتى بلغ مني الجهد - أي : المشقة - ثم أرسلني ' ، فقال : اقرأ ، قلت : ' ما أنا

بقارئ فأخذني وغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ' ، فقال اقرأ ، فقلت : ' ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ' ، فقال : ! ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ) ! [ سورة العلق 96 / 1 - 3 ] ، فرجع بها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة ، فقال : ' زملوني زملوني ' - أي : غطوني - فزملوه حتى ذهب منه الروع - أي : الفزع - فقال لخديجة وأخبرها الخبر - أي : خديجة - : ' لقد خشيت على نفسي ' ، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا - أي : لا يهينك بل يكرمك - ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل - أي : المنقطع - ، وتكسب المعدوم - أي : تعطي الشيء مع قلته وفقده - ، وتقري الضيف - أي : تطعمه الطعام - ، وتعين على نوائب الحق - أي : الحوادث المحمودة - .

تحقق خديجة رضي الله عنها من الوحي
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، ابن عم خديجة ، وكان امرأ _ أي رجلا - قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب [ العربي ] ، فيكتب من الإنجيل

[ بالعربية ] ما شاء الله أن يكتب ، وكان / شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا بن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا هو الناموس الأكبر الذي نزل الله تعالى على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أو مخرجي هم ؟ ' قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا - أي : معانا - . ثم لم ينشب ورقة - أي : لم يلبث أن توفي ، وفتر الوحي . ( حتى حزن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] [ فيما بلغنا ] حزنا شديدا ، غدا منه يتردى من رؤوس الجبال ، فكلما أراد أن يلقي نفسه تبدى له جبريل ، وقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا ) .

فترة الوحي وما نزل من القرآن بعد ذلك
قال ابن شهاب : وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، أن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أخبره أنه سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يحدث عن فترة الوحي ، قال : ' ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء - أي : في جهتها - فإذا الملك الذي جاءني ب ( حراء ) قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه - أي : فزعت - حتى هويت إلى الأرض - أي : سقطت - فجئت أهلي ، فقلت : دثروني دثروني ، - أي : غطوني - فدثروني ، فأنزل الله عز وجل : ! ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز ) ! - أي : النجس _ ! ( فاهجر ) ! - أي : فاترك - [ سورة المدثر 74 / 1 - 5 ] ' . شكوى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ونزول الضحى وفي رواية : أنه لما فتر الوحي عنه ، قالت قريش : قلاه ربه .

فأنزل الله تعالى : ! ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) ! إلى آخر السورة . حجب الشياطين عن استراق السمع عند مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] وفي ' الصحيحين ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال انطلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب / ، فرجعت الشياطين ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا أمر حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانطلق الذين توجهوا منهم نحو ( تهامة ) ، فإذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ب ( نخلة ) ، يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن عجبوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، ورجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ، ( إنا سمعنا قرءانا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) [ سورة الجن 72 / 1 - 2 ] فأنزل الله تعالى على نبيه : ! ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) ! [ سورة الجن 72 / 1 ] . دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قومه إلى الإسلام سرا ولما بعث [ صلى الله عليه وسلم ] أخفى أمره ، وجعل يدعو أهل ( مكة ) ، ومن أتى إليها سرا ، فآمن به ناس من ضعفاء الرجال والنساء والموالي ، وهم أتباع الرسل ؛ كما في حديث أبي سفيان عن هرقل ، فلقوا من المشركين في ذات الله تعالى أنواع الأذى ، فما ارتد أحد منهم عن دينه ، ولا التوى ، ولذلك أشار [ صلى الله عليه وسلم ] بقوله : ' إن هذا الدين

بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ' . نعوذ بالله من الفتن والمحن ، ما ظهر منها وما بطن .

الجهر بالدعوة
وفي السنة الرابعة من مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] : نزل قوله تعالى ! ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين ) ! [ سورة الحجر 15 / 94 - 95 ] . فامتثل [ صلى الله عليه وسلم ] أمر ربه ، وأظهى الدعوة إلى الله تعالى ، فدخل الناس في الإسلام أرسالا ، حتى فشا ذكر الإسلام ب ( مكة ) ، ولكن كان المسلمون إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب ، واستخفوا من قومهم بصلاتهم . موقف المشركين من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إثر جهره بالدعوة ولما أظهر دعوة الخلق إلى الحق لم يتفاحش إنكار قومه عليه ، حتى ذكر آلهتهم وسبها ، وضلل آباءهم ، وسفه أحلامهم ، فحينئذ اشتد ذلك عليهم ، وأجمعوا له الشر ، فحدب عليه عمه أبو طالب ، وعرض نفسه للشر دونه ، مع / بقائه على دينه . فلما رأت ذلك قريش ، اجتمع أشرافهم ومشوا إلى أبي طالب ، وقالوا له : إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه . أبو طالب بين نصرته للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتخليه عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه ، ولم تطب نفسه بخذلان ابن أخيه ، فكلم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فظن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن عمه قد بدا له تركه ، والعجز عن نصرته ، فقال : ' يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في

يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته ' ثم استعبر [ صلى الله عليه وسلم ] باكيا ، فقال له : يا ابن أخي ، قل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا . وفي ذلك يقول أبو طالب ، [ من الكامل ] ( والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا ) ( فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وابشر وقر بذاك منك عيونا ) ( ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا ) ( وعرضت دينا قد علمت بأنه ** من خير أديان البرية دينا ) ( لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحا بذاك مبينا )

اشتداد قريش على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه فعند ذلك نابذته قريش وتزامروا للحرب ، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم .

حشد أبي طالب مؤيديه من بني هاشم
وأخذ أبو طالب يحشد بطون بني عبد مناف ، وهم أربعة : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبنو عبد شمس ، وبنو نوفل ، فأجابه : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وخذله بنو عبد شمس ، وبنو نوفل ، وانسلخ أيضا من بني هاشم : أبو لهب .
قصيدة أبي طالب اللامية
وفي بني عبد شمس وبني نوفل وحميته على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ومدحه له ، يقول أبو طالب في قصيدته الطويلة ، [ من الطويل ] / : ( جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير آجل ) ( كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ** ولما نطاعن دونه ونناضل ) ( ونسلمه حتى نصرع حوله ** ونذهل عن أبنائنا والحلائل ) ( وينهض قوم في الحديد إليكم ** نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل ) ( بكفي فتى مثل الشهاب سميدع ** أخي ثقة حامي [ الحقيقة ] باسل )

( وما ترك قوم ، لا أبالك سيدا ** يحوط الذمار غير ذرب مواكل ) ( وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل ) ( يلوذ به الهلاف من آل هاشم ** فهم عنده في نعمة وفواضل ) ( لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ** وإخوته دأب المحب المواصل ) ( حدبت بنفسي دونه وحميته ** ودافعت عنه بالذرا والكلاكل ) ( فمن مثله في الناس أي مؤمل ** إذا قاسه الحكام عند التفاضل ؟ ! ) ( حليم رشيد عادل غير طائش ** يوالي إلها ليس عنه بغافل ) ( فو الله لولا أن أجيء بسبة ** تجر على أشياخنا في المحافل )

( لكنا اتبعناه على كل حالة ** من الدهر جدا غير قول التهازل ) ( لقد علموا أن ابننا لا مكذب ** لدينا ولا يعنى بقول الأباطل ) ( فأصبح فينا أحمد في أرومة ** تقاصر عنها سورة المتطاول )

فائدة
في تشريف بني المطلب بتسميتهم أهل البيت
قال العلماء : ولأجل نصرة بني المطلب لبني هاشم وموالاتهم لهم ، شاركوهم في التشريف بتسميتهم أهل البيت ، وفضل الكفاءة على سائر قريش ، واستحقاق سهم ذوي القربى ، وتحريم الزكاة دون البطنين الآخرين ، إذ لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام . وروى البخاري في ' صحيحه ' ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم بن عدي بن الحارث بن نوفل بن عبد مناف ، قال : مشيت أنا وعثمان بن عفان أي : ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقلنا : يا رسول الله أعطيت / بني المطلب أي : ابن عبد مناف وتركتنا ، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال : ' إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ' . وفي رواية : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر . وفي أخرى : ولم يقسم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا . قال البخاري : وقال ابن إسحاق : عبد شمس وهاشم

دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الناس بالحكمة ، والموعظة الحسنة والمطلب أخوة لأب وأم ، وأمهم : عاتكة بنت مرة ، وكان نوفل أخاهم لأبيهم . انتهى .
قال العلماء : وجعل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو إلى سبيل ربه مرة بالترغيب ، ومرة بالترهيب ، ومرة بالقول اللين ، ومرة بالخشن ، كما أمره ربه بقوله تعالى : ( ادع سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ سورة النحل 16 / 125 ] .

تعذيب المسلمين
وامتنع جماعة ممن أسلم بعشائرهم من أذى المشركين ، وبقي قوم مستضعفون في أيدي المشركين ، يعذبونهم بأنواع العذاب ؛ كعمار بن ياسر ، وأبيه ، وأمه ، وأخته ، وبلال بن حمامة ، وخباب بن الأرت ، وغيرهم رضي الله عنهم .
تعذيب آل ياسر رضي الله عنهم
فكانوا يأخذون عمارا وأباه وأمه وأخته فيقلبونهم ظهرا لبطن ، فيمر بهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيقول : ' صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ' . وماتت سمية أم عمار بذلك . فكانت أول قتيل في الإسلام في ذات الله . ثم مات ياسر وابنته بعدها أيضا . (
تعذيب بلال رضي الله عنه
) وأما بلال فكان أمية بن خلف يخرج به فيضع الصخور على صدره ، ويتركها كذلك حتى يكاد يموت ، فيرفعها ، وبلال يقول : أحد ، أحد . فمر به أبو بكر رضي الله عنه ، فقال لأمية : ألا تتقي الله في هذا العبد ؟ فقال : أنت الذي أفسدته علي ، فقال : بعنيه ، فباعه منه ، فأعتقه .
عتقاء أبي بكر رضي الله عنه
وكان عمر رضي الله عنه ، يقول : أبو بكر سيدنا ، وأعتق سيدنا بلالا . واشترى أيضا عامر بن فهيرة في ست رقاب أخر على مثل ذلك .
قال المفسرون : وفي حقه رضي الله عنه / نزلت : ( وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى ) [ سورة الليل 21 - 92 / 17 ] .
فائدة
في أن الأتقى هو الأفضل عند الله
ولا يخفى دلالة الآية الكريمة أن الأتقى هو الأفضل عند الله ، لقوله تعالى : ( إن أ كرمكم عند الله أتقاكم ) [ سورة الحجرات 49 / 13 ] . شكوى المسلمين إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من التعذيب ] وأما خباب بن الأرت : ففي ' صحيح البخاري ' عنه ، قال : أتيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو متوسد بردة ، وهو في ظل الكعبة ، ولقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت : يا رسول الله ، ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمر وجهه ، فقال : ' لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ، ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه ، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من ( صنعاء ) إلى ( حضرموت ) ، ما يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ' .
فائدة
فضل من ثبت على إيمانه
قال العلماء : وهذا الحديث من أحسن الأحاديث النبوية الدالة على التأسي مع قوله سبحانه وتعالى : ( ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [ سورة العنكبوت 19 / 13 ] وقوله عز وجل : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ سورة البقرة 2 / 214 ] وقوله تعالى : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أتوا الكتب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبرا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ سورة آل عمران 3 / 186 ] . فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن مبنى الدين على الصبر ، وأن من تجرد لإظهار دين الله استقبلته المحن في نفسه وماله وعرضه وأهله . وإنما أعلم المؤمنين بذلك أولا لتتوطن نفوسهم عليه ، وأعلمهم أن هذه سنة الذين خلوا من قبلهم / ، ثم كانت لهم العاقبة ، تعبوا قليلا ثم استراحوا طويلا ، وبذلوا حقيرا فنالوا خطيرا : ! ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ! [ سورة البقر 2 / 157 ] . ومع شدة حرصهم على أذاه ، فقد كانت عين الله ترعاه . وفي ' الصحيحين ' ، أن أبا جهل ، قال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن [ على ] عنقه ، فبلغ النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فقال : ' لو فعل لأخذته الملائكة عضوا عضوا ' .

زاد مسلم والنسائي : أنه لما هم بذلك رأى بينه وبينه خندقا من نار ، وهولآ وأجنحة ، فنكص على عقبيه ، وهو يتقي بيديه ، وأخبرهم بما رأى ، فأنزل الله تعالى : ( أريت الذي ينهى * عبدا إذا صلى ) إلى قوله : ! ( ألم يعلم بأن الله يرى ) ! ، ثم توعده بقوله تعالى : ! ( كلا لئن لم ينته ) ! إلى قوله : ( سندع الزبانية ) ، ثم أمر رسوله بالسجود غير مكترث به ، فقال : ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) [ سورة العلق 96 / 919 ] .

الهجرة الأولى إلى الحبشة
وفي السنة الخامسة من مبعثه [ صلى الله عليه وسلم ] : رأى شدة ما بأصحابه من البلاء ، وما نالهم في دين الله من الأذى ، فأمرهم بالمهاجرة إلى ( الحبشة ) ، وقال لهم : ' إن بها معاشا وسعة ، وملكا عادلا لا يسلم جاره ' . فهاجر إليها عثمان بن عفان ، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم .
الهجرة الثانية إلى الحبشة
ثم تبعهم جعفر بن أبي طالب في جماعة رضي الله عنهم ، حتى بلغوا اثنين وثمانين رجلا ، سوى النساء والصبيان ، فلما وصلوا إلى ( الحبشة ) أكرمهم النجاشي ، وأحسن جوارهم ، وسمع القرآن من جعفر رضي الله عنه ، فآمن به وصدق ، وأمر قومه بذلك فأبوا ، فكتم إيمانه عنهم .
وفد قريش إلى الحبشة لاسترداد المهاجرين إليها
فلما شاعت بذلك الأخبار ، وجهت قريش إلى النجاشي عمرو بن العاص في جماعة ، ووجهوا معهم بهدايا للنجاشي ولخواصه ، فقدموا على النجاشي وقدموا ما عندهم من الهدايا ، وكلموه في شأنهم ، ليمكنهم / منهم ، فغضب ، ورد هداياهم عليهم ، فانقلبوا خائبين . (
عودة بعض مهاجري الحبشة
) ثم إن مهاجرة ( الحبشة ) بلغهم أن أهل ( مكة ) أسلموا ، فاستخف ذلك الخبر جماعة منهم ، نحو ثلاثين رجلا ، فأقبلوا راجعين ، حتى إذا كانوا بقرب ( مكة ) بان لهم فساد الخبر ، فلم يدخل أحد منهم ( مكة ) إلا مستخفيا أو بجوار ، وأقام بقية المهاجرين ب ( الحبشة ) إلى سنة [ سبع ] من الهجرة ، فمدة إقامتهم نحو عشر سنين .
قدوم جعفر رضي الله عنه من الحبشة
فكتب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى النجاشي ليجهزهم إليه ، فجهزهم ، فقدموا يوم فتح ( خبير ) ، فأسهم لهم ، وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لا أدري بأيهما أسر بفتح خيبر ، أم بقدوم جعفر ' .
فائدة
في حكم الهجرة
قال العلماء : وهذه الهجرة أول هجرة في الإسلام ، وبعدها الهجرة الكبرى إلى ( المدينة ) ، وقد حازها أيضا مهاجرو ( الحبشة ) كجعفر وعثمان والزبير وعبد الرحمن ، فسموا أهل الهجرتين . وحكم الهجرة باق إلى يوم القيامة إذا وجد معناها ؛ وهو الفرار بالدين عند خوف الافتتان فيه ، أو عند العجز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو عن رد البدع المنكر . ة أما عند خوف الافتتان : فمن بقي في دار الحرب عاجزا عن إظهار دين الإسلام عصى معصية عظيمة ، بل اختلف في صحة

إسلامه ، لقوله تعالى : ! ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) ! الآيات ، [ سورة النساء 4 / 97 ] . وكذلك يعصي من أقام ببلد البدع والمنكر ، الذي لا يقدر على تغييره فيها ، أو بأرض غلب عليها الحرام ، فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم .

إسلام حمزة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما
وفي السنة السادسة : أسلم سيدنا حمزة بن عبد المطلب ، عم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم أسلم بعده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما . فعز بإسلامهما الإسلام والمسلمون . وفي ' صحيح البخاري ' ، عن / عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره ، وقالوا : صبأ عمر ، وأنا غلام فوق ظهر البيت ، فجاء العاص بن وائل ، وقال : أنا له جار . فتفرقوا .
المقاطعة وحصر قريش لبني هاشم
وفي أول ليلة من المحرم من السنة السابعة : اجتمعت قريش بخيف بني كنانة ؛ وهو : ( المحصب ) ، فتقاسموا على الكفر ، كما في ' صحيحي البخاري ومسلم ' وذلك أنهم تعاهدوا

على قطيعة بني هاشم وبني عبد المطلب ، ومقاطعتهم في البيع والشراء والنكاح وغير ذلك ، حتى يهلكوا عن آخرهم ، أو يسلموا إليهم محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف ( الكعبة ) تأكيدا لأمرها .

مدة الحصار وشدته
فانحاز البطنان إلى أبي طالب في الشعب ، وبقوا هنالك محصورين مدة ثلاث سنين ، وتضوروا بذلك جوعا وعطشا وعريا ، ولحقتهم مشقة عظيمة بسبب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . وفي ذلك يقول أبو طالب ، [ من الطويل ] : ( ألا أبلغا عني على ذات بيننا ** لؤيا وخصا من لؤي بني كعب ) ( ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ** نبيا كموسى خط في أول الكتب ) ( وأن الذي التفقتم من كتابكم ** لكم كائن نحسا كراغية السقب ) ( أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى ** ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب ) ( ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا ** أواصرنا بعد المودة والقرب )

( فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا ** لعزاء من عض الزمان ولا كرب ) ( ولما تبن منا ومنكم سوالف ** وأيد أترت بالقساسية الشهب ) ( أليس أبونا هاشم شد أزره ** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ) ( ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ** ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ) ( ولكننا أهل الحفائظ والنهى ** إذا طار أرواح الكماة من الرعب )

نقض الصحيفة
فلما أراد الله تعالى حل ما عقدوه ، وإبطال ما أكدوه ، اجتمع في أواخر السنة التاسعة ستة من سادات قريش ليلا بأعلى ( مكة ) / ، فتعاقدوا على نقض الصحيفة ، منهم : المطعم بن عدي النوفلي ، وزمعة بن الأسود بن أسد الأسدي ، فلما أصبحوا قال قائلهم : أنأكل الطعام ، ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى ، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة ، فقال أبو جهل : كذبت والله [ لا تشق ] ، فقال [ زمعة ] : أنت والله الكاذب ، ووثبوا ، فقال أبو جهل : هذا أمر قد برم بليل ، ثم قاموا إلى الصحيفة ليشقوها ، فأخبرهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن الأرضة قد أكلت جميعها ، إلا ما فيه اسم الله ،

فوجدوه كما ذكر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . وخرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبنو هاشم وبنو المطلب من الشعب ؛ في أواخر السنة التاسعة .

انشقاق القمر
وفي موسم السنة التاسعة سألت قريش النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية وهو ب ( منى ) ، فأراهم انشقاق القمر شقتين . ورواه البخاري ومسلم . وفي رواية : حتى رأوا حراء بينهما . (
فائدة
)
في أن معجزة انشقاق القمر لا تعدلها معجزة
قال العلماء : وانشقاق القمر معجزة عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من معجزات الأنبياء عليهم السلام ، إذ لا يطمع أحد بحيلة إلى التصرف في العالم العلوي ، فصار البرهان بها أظهر ، ولهذا نص عليها القرآن بقوله تعالى : ! ( وانشق القمر ) ! [ سورة القمر 54 / 1 ] .
وفاة أبي طالب
وفي السنة العاشرة : مات أبو طالب ، فاشتد حزن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . حرص الني [ صلى الله عليه وسلم ] على إسلام عمه وفي ' صحيح البخاري ' ، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة ، دخل عليه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فوجد عنده أبا جهل ، فقال : ' أي عم ، قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ' ، فقال أبو جهل [ وعبد الله بن أبي أمية ] : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ [ فلم يزالا يكلمانه ] ، حتى قال آخر شيء [ كلمهم ] به هو : على ملة

عبد المطلب . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ' ، فنزلت : ( ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) [ سورة التوبة 9 / 113 ] أي : فلم يزل يستغفر له حتى نزلت / .

تخفيف العذاب عن أبي طالب
وفي ' صحيح البخاري ' أيضا ، أن العباس قال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ما أغنيت عن عمك ؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك ، فقال : ' هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ' . أي : لأن كفره كفر إيثار للباطل على الحق ، مع علمه بذلك وتيقنه بذلك ، وما شاء الله تعالى كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وفاة خديجة رضي الله عنها
ثم ماتت خديجة رضي الله عنها ، بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام . فتضاعف حزنه [ صلى الله عليه وسلم ] ، ولكن كان الله له خلفا عن كل فائت . اشتداد إيذاء قريش للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد وفاة أبي طالب ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من الذي بعد وفاته ما لم تنله به في حياته . وفي ' صحيح البخاري ' ، عن عروة بن الزبير ، قال : سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد شيء صنعه المشركون بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ فقال : بينما النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يصلي في ( الحجر ) .

إذ أقبل عقبة بن أبي معيط أي : مصغرا بمهملتين فوضع ثوبه في عنقه ، فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبيه ، ودفعه عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، وقال : ! ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) ! الآية ، [ سورة غافر 40 / 28 ] . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : بينما النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يصلي عند ( الكعبة ) ، وقريش في مجالسهم في المسجد ، إذ قال قائل منهم : ألا تنظرون إلى هذا المرائي ، أيكم يقوم إلى جزور بني فلان ، فيجيء بسلاها فيضعه بين كتفيه إذ سجد ؟ فانبعث أشقاهم وفي رواية : أنه عقبة بن أبي معيط أيضا ففعل ذلك ، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك ، وثبت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ساجدا ، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها وهي يومئذ جويرية فأقبلت تسعى حتى ألقته عنه ، / ثم أقبلت عليهم تسبهم ، فلما قضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الصلاة ، قال : ' اللهم عليك بقريش ' ثلاثا ، ثم سمى رجالا . قال عبد الله : فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم ( بدر ) ، ثم سحبوا إلى ( القليب ) قليب بدر .

تحقيق حول مولد فاطمة وأخواتها
قلت : وهذا يدل على أن مولد فاطمة رضي الله عنها متقدم

على ليلة الإسراء بمدة عشر سنين وأكثر ، وسبق أن أختها رقية رضي الله عنها من مهاجرة ( الحبشة ) ، فلعل زينب وأم كلثوم كذلك ، أو منعهن الحياء من الخروج . والله أعلم .

إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وقومه
وفي ' الصحيحين ' أيضا ، أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه ، قال لأخيه أنيس : اركب إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، يأتيه الخبر من السماء ، واسمع من قوله ، ثم ائتني ، فانطلق الأخ حتى قدم ( مكة ) ، وسمع من قول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم رجع ، فقال لأبي ذر : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاما ما هو بالشعر ، فقال : ما شفيتني مما أردت ، فتزود وحمل شنة له ، فيها ماء حتى قدم ( مكة ) ، فأتى المسجد ، فالتمس النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو لا يعرفه ، وكره أن يسأل عنه ، فلما أدركه الليل اضطجع في المسجد ، فرآه على فعرف أنه غريب فأضافه ، فتبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ، ثم احتمل زاده وقربته إلى المسجد ، وظل ذلك اليوم ولم يره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى أمسى ، فعاد إلى مضجعه ، فمر عليه علي فقال : أما آن للرجل أن يعرف منزله ؟ فأقامه فذهب به معه ، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ، حتى إذا كان يوم الثالث [ فعل ] علي مثل ذلك ، فأقامه علي معه ، ثم قال له : ألا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني فعلت ، ففعل ، فأخبره . قال علي : فإنه حق ، وإنه رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني ، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني / أريق الماء ، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل ، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل معه ، وسمع من

قوله ، وأسلم مكانه ، فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ' . وفي رواية مسلم : فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إني قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب ' . فقال : والذي بعثك بالحق ، لأصرخن بها بين أظهرهم ، فخرج حتى أتى المسجد ، فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه ، فأتى العباس فأكب عليه ، ثم قال : ويحكم : ألستم تعلمون أنه من غفار ، وأن طريق تجاركم عليهم ، فأنقذه منهم ، ثم عاد لمثلها من الغد ، فبادروا إليه فضربوه ، فأكب عليه العباس فأنقذه منهم . هذا لفظ البخاري . زاد مسلم في روايته عنه : قال : فأتيت أخي أنيسا فقال : ما صنعت ؟ قلت : إني قد أسلمت وصدقت ، فقال : ما بي رغبة عن دينك ، فإني أيضا أسلمت وصدقت . قال : فأتينا أمنا ، فقالت : ما بي رغبة عن دينكما ، فإني قد أسلمت وصدقت ، فأتينا قومنا غفارا ، فأسلم نصفهم ، وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ( المدينة ) قدمنا إليه فأسلمنا ، فلما قدم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ( المدينة ) أسلم نصفهم الباقي ، وجاءت أسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا أسلمنا على ما أسلم عليه إخواننا ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' غفار غفر الله لها ، واسلم سالمها الله ' .

خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف وفي هذه السنة وهي العاشرة : خرج رسول الله إلى ( الطائف ) ، إلى ثقيف ، وأقام فهيم شهرا يدعوهم إلى الله ، وسألهم أن يمنعوه ، فردوا عليه قوله ، واستهزؤوا به ، فسألهم أن يكتموا عنه لئلا تشمت به / قريش ، فلم يفعلوا . فلما انصرف عنهم أغروا به سفاءهم يصيحون خلفه ويسبونه ، حتى اجتمعوا عليه ، وألجؤوه إلى حائط ، فاشتد كربه لذلك [ صلى الله عليه وسلم ] ودعا حينئذ بدعاء الكرب : ' لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ، رب العرش الكريم ' ، ثم قال : ' اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة [ من ] أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ' . فنزل عليه جبريل عليه السلام ، وقال : إن الله قد سمع قولك وسمع قولهم ، وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال ، لتأمره فيهم بما شئت ، فقال : ' بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم

من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ' . وروى البخاري ومسلم في ' صحيحهما ' ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم ( أحد ) ؟ قال : ' لقد لقيت من قومك [ ما لقيت ] ، وكان أشد ما لقيت منهم [ يوم العقبة ] ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل أي : بتحية مكررة ابن عبد كلال أي : بالضم فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت ، وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا ( قرن الثعالب ) ، فرفعت رأسي ، وإذا سحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام ، فناداني وقال إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : / يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك بما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ ' أي : جبلي

مكة فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' فقلت : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا ' .
قلت : وابن عبد كلال هذا هو وأخوته رؤساء أهل ( الطائف ) .

فائدة
في أن الاستهزاء والسب أشد من الطعن والضرب
قال العلماء : جعل [ صلى الله عليه وسلم ] ما ناله من الاستهزاء وشماتة الأعداء أشد مما لاقاه يوم ( أحد ) ؛ من قتل حمزة في سبعين من أصحابه ، مع ما ناله في نفسه من الجراحة ، وما ذاك إلا أن نفس الكريم تتأذى بالأذى وبالقول والسب أشد مما تتأذى به من الطعن والضرب . ولهذا عفا [ صلى الله عليه وسلم ] عن كل من تعرض لقتله ، وأهدر دم كل من تعرض لشتمه . ومع ذلك فقد كان [ صلى الله عليه وسلم ] صابرا على ما ناله من الأذى في نفسه أو عرضه أو أهله ، لعلمه بأن الامتحان عنوان الإيمان الذي يتبين به جواهر الرجال ، كما قيل : عند الامتحان يكرم المرء أو يهان . وأن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، زيادة في حسناتهم ورفع درجاتهم . [ قال تعالى ] : ! ( هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ) ! [ سورة آل عمران 3 / 163 ] . دخول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مكة في جوار المطعم بن عدي ولما بلغ [ صلى الله عليه وسلم ] في مرجعه من ( الطائف ) ( حراء ) ، بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فاعتذر ، وقال : ( إنما أنا حليف والحليف لا يجير ) ، فبعث إلى سهيل بن عمرو فاعتذر ، وقال :

( أن بني عامر أي : ابن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي بن غالب ) ، فبعث إلى المطعم بن عدي النوفلي ، فلبس سلاحه ، هو وأهل بيته ، وخرجوا إلى المسجد ، وبعثوا إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن ادخل ، فدخل [ صلى الله عليه وسلم ] في جوارهم ، فطاف ب ( الكعبة ) وانصرف . فلما كان يوم ( بدر ) قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في / هؤلاء [ النتنى ] يعني : الأسرى لتركتهم له ' وكانوا سبعين أسيرا . ( عرض النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نفسه على القبائل ) وفي السنة الحادية عشرة ، في الموسم منها : اجتهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في عرض نفسه على القبائل في مجامعهم بالموسم ب ( منى ، وعرفات ) أيهم يمنعه ويؤويه . واجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة ليأمرهم بما يرمون به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الموسم ، لتكون كلمتهم واحدة ، وعرضوا عليه أن يقولوا ساحرا أو شاعر أو كاهن أو مجنون ، فقال : ( والله ما هو بشاعر ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون ، ولد سمعت قولا ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ) ، قالوا : فكيف نقول فيه ؟ ففكر في نفسه ، ثم قال : ( إن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وزوجه ، وبين المرء وأخيه ، فتفرقوا على ذلك ، وجعلوا يلقونه إلى من قدم إليهم من أهل الموسم .

وكان أبو لهب يقفو أثر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فكلما أتى قوما ودعاهم إلى الله كذبه عمه وحذرهم منه . وفي الوليد بن المغيرة أنزل الله تعالى : ! ( كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر ) ! [ سورة المدثر 74 / 1626 ] .

ابتداء أمر الأنصار
ولما أراد الله تعالى كرامة الأنصار ، وإعزاز دينه بهم ، لقي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في ذلك الموسم ستة نفر منهم ، فعرض عليهم ما عرض على غيرهم ، فقالوا فيما بينهم : والله إنه للنبي الذي تواعدنا به اليهود ، فلا يسبقونا إليه . وكان اليهود يقولون لهم : قد أظل زمان نبي سوف نتبعه ، ونقتلكم معه ، قال الله تعالى : ! ( وكانوا من قبل يستفتحون ) ! أي : يستنصرون ! ( على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) ! [ سورة البقرة 2 / 89 ] . وكانوا قد وضعت عليهم تكاليف شاقة ، وحرمت / عليهم طيبات أحلت لهم من قبل ، فوعدوا بوضع التكاليف وحل الطيبات على لسان محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وهو معنى قوله سبحانه وتعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في

التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم ) أي : حملهم الثقيل ( والأغلال التي كانت عليهم ) [ سورة الأعراف 7 / 157 ] ؛ [ وقوله تعالى ] : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) [ سورة البقرة 2 / 286 ] . إسلام النفر الذين لقيهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الموسم فلما عرض نفسه على الستة النفر من الأنصار ، أتوه ليلا فآمنوا به وصدقوه ، وقالوا : إن قومنا بينهم العداوة والبغضاء ، فإن جمعنا الله بك فلا رجل أعن علينا منك . فلما قدموا ( المدينة ) أخبروا قومهم ، وفشا فيهم الإسلام ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وكان ذلك عقيب يوم ( بعاث ) بموحدة مضمومة ، ثم مهملة ومثلثه وهو يوم وقعت فيه مقتلة عظيمة بين الأوس والخزرج في شوال في هذه السنة . وفي ' صحيح البخاري ' ، كان يوم ( بعاث ) يوما قدمه الله لرسوله ، فقدم رسول الله وقد افترق ملؤهم ، وقتلت سرواتهم ، وجرحوا ، فدخلوا في الإسلام .

زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من عائشة رضي الله عنها وفي شوال من السنة الثانية عشرة : عقد نكاح عائشة رضي الله عنها . وفي ' صحيح البخاري ' توفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين ، ونكح عائشة بعد موت خديجة بسنتين أو قريبا من ذلك ، وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع أي : بعد سنة ونصف من الهجرة ، في شوال أيضا . وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال لعائشة : ' أريتك في المنام مرتين ، رأيت الملك يحملك في سرقة من حرير ، فقال : هذه زوجتك ، فأكشف ، فإذا هي أنت ، فقلت : إن يكن هذا من عند الله يمضه ' .

بيعة العقبة الأولى
وفي الموسم من السنة الثانية عشرة : وافاه اثنا عشر / رجلا من الأنصار ، فبايعوه عند ( العقبة ) بيعة النساء : ! ( على أن لا يشركن بالله شيئا ) ! ، إلى آخر الآية ، [ سورة الممتحنة 60 / 12 ] . ورجعوا .
بعث مصعب رضي الله عنه إلى المدينة وانتشار الإسلام فيها
وبعث معهم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مصعب بن عمير رضي الله عنه ، يقرئهم

القرآن ، فأسلم على يديه السعدان : سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، فأسلم لإسلامهما كثير من قومهما .

بيعة العقبة الثانية
وفي الموسم من السنة الثالثة عشرة : خرج حجاج الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من المشركين ، فلما قدموا ( مكة ) ، واعدوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ( العقبة ) من أوسط ليالي التشريق ؛ فلما كان ليلة الميعاد باتوا مع قومهم ، فلما مضى ثلث الليل خرجوا مستخفين ، فلما اجتمعوا بالشعب عند ( العقبة ) ، جاءهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومعه عمه العباس ، وهو يومئذ باق على دينه ، لكن أراد أن يتوثق لابن أخيه ، فتكلم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقال : ' أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم ؟ ' ، قالوا : نعم ، فقال لهم : ' اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم ' ، فأخرجوهم . وهم تسعة من الخزرج : أسعد بن زرارة - بضم الزاي - ، والبراء بن معرور - بمهملات - ، ورافع بن مالك بن عجلان ، وسعد بن الربيع ، وسعد بن عبادة ، وعبادة بن الصامت ، وعبد الله بن رواحة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر - والمنذر بن عمرو . وثلاثة من الأوس ، وهم أسيد بن حضير - مصغرين ، وبحاء مهملة وضاد معجمة - ورفاعة بن عبد المنذر ، وسعد بن خيثمة - بمعجمة مفتوحة وتحتية ثم مثلثة - رضي الله عنهم أجمعين . فقال لهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا الكفيل على قومي ؟ ' ،

قالوا : نعم فبايعوه ، ووعدهم على الوفاء : الجنة . وجملتهم : ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان . وروي أن جبريل عليه السلام كان إلى جنب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عند مبايعتهم ، وهو يشير إليهم واحدا بعد واحد .

تحذير إبليس قريشا من البيعة
ولما تمت البيعة صاح إبليس - لعنه الله - صيحة منكرة ، مشبها صوته بصوت منبه بن الحجاج السهمي : يا أهل ( منى ) : هذا محمد وأهل ( يثرب ) قد اجتمعوا لحربكم ، فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك ' ، ثم تفرقوا .
استجلاء قريش الحقيقة
فلما أصبحوا غدت عليهم رؤساء قريش ، وقالوا : يا معشر الخزرج ، بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما حي من العرب أبغض علينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم ، فحلف مشركوا الأنصار ما كان من هذا شيء ولا علمناه ، وصدقوا ، فإنهم لم يعلموا . تأكد قريش من صحة الخبر ، وملاحقتها للمبايعين فلما تفرق الناس من ( منى ) فتشت قريش عن الخبر فوجدوه قد كان ، فخرجوا في طلب القوم ففاتوهم ، إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة ، فرجعوا به أسيرا يضربونه ، فاستنقذه منهم مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ؛ لصائع كانت لسعد في رقابها ، وخوفوا قريشا من تعرض الأنصار لهم على طريق ( الشام ) . إذن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال لأصحابه : ' إن الله قد جعل لكم إخوانا وداراً تأمنون بها ' .

وأمرهم بالهجرة إلى ( المدينة ) ، فهاجروا إليها ، فلقوا عند الأنصار خير دار وخير جوار ، آثروهم على أنفسهم ، وقاسموهم في أموالهم . وبذلك أثنى الله عليهم في محكم كتابه العزيز بقوله تعالى : ! ( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) ! [ سورة الحشر 59 / 9 ] ، رضي الله عنهم . وفي ' الصحيحين ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ' . ثناء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على الأنصار وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - أنه [ صلى الله عليه وسلم ] / قال قبيل موته : ' أوصيكم بالأنصار خيرا ، فإنهم كرشي وعيبتي ، قد قضوا الذي عليهم ، وبقي الذي لهم ، فاقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ' . انتظار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الإذن بالهجرة وأقام [ صلى الله عليه وسلم ] ب ( مكة ) ينتظر الإذن في الهجرة ، ولم يتخلف منهم إلا من حبسه المشركون ، وإلا أبو بكر وعلي رضي الله عنهما ؛ فإنهما حبسا أنفسهما على صحبة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وفي ' صحيحي البخاري ومسلم ' ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلي إلى أنها

اليمامة [ أو هجر ] ، فإذا هي المدينة يثرب ' .
قلت : هكذا سماها ( يثرب ) ، ثم سماها ( طيبة ) ، ونهى عن تسميتها ( يثرب ) .

المهاجرون الأوائل
[ وفي ' صحيح البخاري ' ] ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما ، قال : أول من قدم علينا مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، وكانوا يقرئان الناس ، ثم قدم سعد - أي : ابن أبي وقاص - وبلال ، وعمار بن ياسر ، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم قدم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . خوف قريش من خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واجتماعهم بدار الندوة فلما رأت قريش ما لقي أصحاب رسول الله من طيب الدار ، وحسن الجوار ، خافوا خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، فاجتمعوا في أول المحرم من السنة الرابعة عشرة في ( دار الندوة ) ، وتشاوروا في أمره ، وتصور لهم إبليس - [ لعنه الله ] - في صورة شيخ نجدي ، مشاركا لهم في الرأي .

فقال قائل منهم : أرى أن تربطوه في الحديد ، وتغلقوا دونه الأبواب حتى يموت ، وقال آخر : أرى أن تخرجوه من بين أظهركم ، فتستريحوا منه ، وإن قتله غيركم كفاكم شره ، وإن ظفر بالعرب فعزه عن عزكم ، فقال أبو جهل : الرأي عندي أن تخرجوا له من كل قبيلة رجلا ، فيقتلوه دفعة واحدة ، فيتفرق دمه في القبائل ، فيعجز قومه عن طلب الثأر به . فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي . فتفرقوا على ذلك .

الإذن بالهجرة
فأخبر / جبريل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما قصدوا له ، وأمره بالهجرة ليلة كذا ، وهي الليلة التي علم الله سبحانه أنهم يمكرون به فيها . وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ! ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ) ! - أي : يحبسوك - ! ( أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله ) ! - أي : يحاربهم الله - ! ( والله خير الماكرين ) ! [ سورة الأنفال 8 / 30 ] .
الإسرار إلى أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة
وكان أبو بكر رضي الله عنه قد تجهز للهجرة إلى ( المدينة ) ، فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' على رسلك - أي : أمهل - فإني أرجو أن يؤذن لي فيها ' . فعلف أبو بكر راحلتين كانتا عنده ورق التمر .

قالت عائشة رضي الله عنها : فبينما نحن جلوس في نحر الظهيرة - حين تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع ، كأنها وصلت إلى النحر ، وهو أعلى الصدر - إذ أقبل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال أبو بكر : فداه أبي وأمي ، ما جاءنا في هذه الساعة التي لم يكن يأتينا فيها إلا لأمر قد حدث ، فلما دخل [ صلى الله عليه وسلم ] قال له : ' أخرج من عندك ' ، قال : فإنما هم أهلك . قال : ' فإني قد أذن لي في الخروج ' وواعده وقت السحر ، وأمره بالتجهيز . قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز - بالمثلثة ، أي : أسرعه - واستأجرا رجلا دليلا ماهرا ، قد دفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه ( غار ثور ) بعد ثلاث ليال . خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأبي بكر إلى الغار ثم لحقا ب ( الغار ) ، فمكثا فيه ثلاثا يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ، وهو يومئذ غلام فطن ، ويدلج من عندها بسحر ، فيصبح ب ( مكة ) مع قريش كبائت فيها ، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ، وأتاهما بذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منائح من غنم ، فيريحها عليهما عشيا ،

وينعق بها من عندهم . تطويق المشركين دار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وكان المشركون قبل خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من داره قد قعدوا له على بابه تلك الليلة ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لعلي رضي الله عنه : ' ( على فراشي ، وتسبح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ' / . وخرج عليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبيده حفنة من التراب ، وهو يتلو فيها صدر سورة ( يس ) إلى قوله تعالى : ! ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) ! [ سورة يس 36 / 9 ] . فأعمى الله أبصارهم عنه ، وجعل ينثر على رؤوسهم التراب ، فآتاهم آت ، فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا ، قال : خيبكم الله ! ! والله لقد خرج عليكم محمد وما ترك رجلا منكم إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، فتفقدوا رؤوسهم فوجدوا التراب عليها كما قال . ثم نظروا إلى الفراش فوجدوا عليا مسجى بالبرد ، فبقوا متحيرين ، وفتر حرصهم على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . جائزة قريش لمن يرد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وصاحبه فلما علموا بخروجهم وقعوا في الأسف ، فطلبوهم بأشد وجوه الطلب ، وأخذوا على الطرقات بالرصد ، وجعلوا دية كل واحد منهما لمن أسره أو قتله .

وصول المشركين إلى باب الغار
ومروا على ( غارهما ) ، فأعمى الله أبصارهم عنهما ، وألهم الله العنكبوت فنسجت على فم ( الغار ) ، وحمامتين فعششتا

على فمه ، فلما رأوا ذلك قالوا : لو دخله أحد ما كان هكذا .

لا تحزن إن الله معنا
وفي ' الصحيحين ' ، من حديث أنس بن مالك ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ، فقال : ' يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ' . وفي ذلك يقول الله تعالى : ! ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ! [ سورة التوبة 9 / 40 ] . وما أحسن قول صاحب البردة - رحمه الله تعالى - فيهما ، [ من البسيط ] : ( أقسمت بالقمر المنشق إن له ** من قلبه نسبة مبرورة القسم ) ( وما حوى الغار من خير ومن كرم ** وكل طرف من الكفار عنه عمي ) ( فالصدق في الغار والصديق لم يرما ** وهم يقولون ما بالغار من أرم ) ( / ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ** خير البرية لم تنسج ولم تحم )

( وقاية الله أغنت عن مضاعفة ** من الدروع وعن عال من الأطم ) مدة إقامة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في الغار وبعد الثلاث جاءهم الدليل بالراحلتين فارتحلوا ، وأردف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عامر بن فهيرة ليخدمهما ، فأخذ بهم الدليل طريق السواحل . خروج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى المدينة وفي ' الصحيحين ' ، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : فأسرينا ليلتنا كلها ، حتى قام قائم الظهيرة ، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد ، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل ، لم تأت عليه الشمس بعد ، فنزلنا عندها ، فأتيت الصخرة وسويت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم بسطت عليه فروة ، ثم قلت : نم يا رسول الله ، وأنا أنفض لك ما حولك ، فنام ، وخرجت أنفض ما حوله أي : أستبرئه ، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة ، يريد منها الذي أردناه ، فلقيته ، فقلت ، لمن أنت يا غلام ؟ ، فقال : لرجل من أهل المدينة يعني : ( مكة ) ، فهو صفة لا علم فقلت : أفي غنمك لبن ؟ ، قال : نعم ، قلت : أفتحلب لي ؟ ، قال : نعم ،

فأخذ شاة ، فقلت له : انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى ، فحلب لي في قعب معه أي : قدح كثبه من لبن ، قال : ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، ليشرب منها ويتوضأ ، قال : : فأتيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وكرهت أن أوقظه من نومه ، فوقفت حتى استيقظ . وفي رواية : فوافقته حين استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله ، فقلت يا رسول الله : اشرب من هذا اللبن ، فشرب حتى رضيت ، ثم قال : ' ألم يأن للرحيل ؟ ' ، قلت : بلى ، قال : فارتحلنا بعدما زالت الشمس ، فاتبعنا سراقة بن مالك ، ونحن في جلد من الأرض / أي : موضع صلب فقلت : يا رسول الله أتينا ، فقال : ' لا تحزن إن الله معنا ' فدعا عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، قال : فارتطمت فرسه إلى بطنها ، فقال : إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي ، فادعوا لي ، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب ، فدعا له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنجا ، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال : قد كفيتكم ما هاهنا ، ولا يلقى أحدا إلا رده ، فوفى لنا . وصول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى قباء فأقام [ صلى الله عليه وسلم ] ب ( قباء ) ، ثم دخل ( المدينة ) يوم الاثنين أيضا . دخول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المدينة ، ودعوة الأنصار له بالنزول عندهم قال أبو بكر رضي الله عنه : فقدمنا ( المدينة ) ليلا ، فتنازعوا على أيهم ينزل عليه ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أنزل على بني النجار ، أخوال

عبد المطلب ، أكرمهم بذلك ' . فصعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان والخدم ينادون : جاء محمد ، جاء رسول الله .

خبر إسلام سراقة
وفي ' صحيح البخاري ' ، أن سراقة قال : فسألته أن يكتب لي كتاب أمن ، فأمر عامر بن فهيرة فكتب . زاد ابن إسحاق عنه ، قال : فلقيته ب ( الجعرانة ) فرفعت يدي بالكتاب ، فقلت : هذا كتابك لي ، فقال : ' نعم ، هذا يوم وفاء وبر ، أدن ' فدنوت ، فأسلمت .
قال علماء السير : ولم تدر قريش أين توجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، حتى سمعوا وقت الصبح هاتفا من مؤمني الجن ينشد ب ( مكة ) في الهواء ، [ من الطويل ] : ( جزى الله رب [ العرش ] خير جزائه ** رفيقين حلا خيمتي أم معبد ) ( هما نزلا بالبر ثم ترحلا ** فيا فوز من أمسى رفيق محمد ) ( فيال قصي ما زوى الله عنكم ** به من فخار لا يجارى وسؤدد )

( ليهن بني كعب مكان فتاتهم ** ومقعدها للمؤمنين بمرصد ) ( سلوا أختكم عن شأنها وإنائها ** فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد ) ( أتته بشاة حائل فتحلبت ** عليه بدر ضرة الشاة مزيد ) مرور النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأبي بكر بأم معبد بعد لحاق مراقة لهم / وكانوا قد مروا على خيمة أم معبد الخزاعية الكعبية ، فسألوها الزاد ، فلم يجدوا عندها إلا شاة هزيلة ، قد تخلفت لضعفها عن الغنم ، فمسح [ صلى الله عليه وسلم ] بيده المباركة على ضرتها أي : ضرعها فدرت لهم بلبن غزير ، شرب منه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه حتى ارتووا ، وأفضلوا لأهل الخيمة ما يرويهم . ثم أتى زوجها فأخبرته ، فقال : والله إنه لصاحب قريش ، فحينئذ علمت قريش أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] توجه إلى ( المدينة ) ، وأن الله ناصر عبده ، ومظهر لا محالة دينه .

الباب الثامن
في ذكر ما اشتمل عليه حديث الإسراء من العجائب واحتوى عليه من الأسرار والغرائب [ وذلك ] من العروج به إلى سدرة المنتهى ، ثم إلى قاب قوسين أو أدنى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى ، والمناجاة ، والرؤية ، وإمامة الأنبياء ، مما أكرمه الله تعالى به [ صلى الله عليه وسلم ] .
زمن الإسراء
قال القاضي عياض : وكان قبل الهجرة بسنة أي : في السنة الثانية عشرة . ثم قال بعضهم : في رمضان منها . وقال النووي في ' روضته ' : في رجب . والأصل فيه من القرآن قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله

لنريه من ءاياتنا ) [ سورة الإسراء 17 / 1 ] . وقوله تعالى : ( ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ سورة النجم 11 - 53 / 8 ] ، إلى قوله : ( ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من ءايات ربه الكبرى ) [ سورة النجم 18 - 53 / 17 ] . (

حديث الأسراء والمعراج
) ولا خلاف بني أئمة المسلمين وعلماء الدين في صحة الإسراء به [ صلى الله عليه وسلم ] ، إذ هو نص القرآن العظيم . ورواه جماعة من الصحابة ، كما أخرجه الحفاظ في أصول الإسلام المشهورة ، ولكن أكملها ترتيبا ووضعا ما رواه مسلم في ' صحيحه ' من حديث ثابت البناني . عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' أتيت بالبراق ( وهو / دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ) قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة .

ثم عرج بي إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، فقيل : ومن معك ؟ ، قال : محمد ، قيل : وق بعث إليه ؟ ، قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا . فإذا أنا بآدم عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ ، قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ ، قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا . فإذا أنا بابني الخالة : عيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريا عليهما السلام فرحبا بي ودعوا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول ففتح لنا . فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن أي : نصفه ، ومن الناس من ، يعطى عشره أو دونه أو فوقه ، وفيه إشارة إلى أن منهم من أكمل له الحسن ، ويتعين أنه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قال : فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة وذكر مثله فإذا أنا بإدريس عليه السلام فرحب بن ودعا لي بخير قال الله تعالى : ! ( ورفعناه مكانا عليا ) ! [ سورة مريم 19 / 57 ] .

ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله فإذا أنا بهارون عليه السلام فرحب ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فذكر مثله فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فذكر مثله فإذا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه . ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها / كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال . فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت أي : تلونت بألوان مختلفة فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها . قال : فأوحى الله إلي ما أوحى . ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى عليه السلام ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ ، قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك واسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف على أمتي . فحط عني خمسا ، فرجعت إلى موسى ، فقلت : حط عني خمسا ، فقال : إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، قال : فلم أزل أرجع بين ربي عز وجل وبين موسى ، حتى قال : يا محمد ، إنهن خمس صلوات كل يوم

وليلة ، لكل صلاة عشر ، فذلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا وفي رواية : كتبت حسنة فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقال رسول [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه ' .
قلت : هذا مع ما قد أفهمه [ صلى الله عليه وسلم ] من الإلزام له بقوله : ' إنهن خمس ' وفي رواية أيضا : ' لا يبدل القول لدي ' . قال القاضي عياض رحمه الله : ( جود ثابت رحمه الله هذا الحديث عن أنس ما شاء ، ولم يأت عنه أحد بأصوب من هذا . وقد خلط فيه غيره عن أنس تخليطا كثيرا ، لا سيما من رواية شريك بن أبي نمر ) . انتهى .
قلت : وحديث شريك مما اتفق عليه الشيخان ، وإنما لم يورد البخاري حديث ثابت هذا لأن مسلما إنما رواه من طريق حماد بن سلمة ، وهو متروك عند البخاري ، لم يرو له إلا تعليقا . واتفق عليه الشيخان أيضا من حديث أبي / ذر وغيره .

فائدة
في بعض دقائق الإسراء
وفي قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' بالحلقة التي تربط به الأنبياء ' إشارة إلى أن ركوب البراق للإسراء غير مختص بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، ويشير إلى ذلك

قوله في الرواية الآتية : ' فما ركبك عبد أكرم على الله من محمد ' ، لكن في ظاهر قول أهل كل سماء ( وقد بعث إليه ) ، إشكال لعدم علمهم ببعثه إلا بعد مضي هذه المدة ، مع كثرة تردد جبريل فيها ، وانتشارها عند أهل الأرض ، فضلا عن أهل السماء . وأجاب بعضهم : بأنه سؤال عن البعث إليه للعروج المتوقع عندهم لقوله : ( إليه ) ، وهو جواب حسن . وإنما لم يفتح له قبل مجيئه ليعلم أنه إنما فتح من أجله ، كما في قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أنا أول من يقرع باب الجنة ' . والحكمة في الإسراء به إلى ( بيت المقدس ) ما ذكره كعب الأحبار : أن باب السماء الذي يسمى ( مصعد الملائكة ) يقابله ( بيت المقدس ) ، كما أن ( البيت المعمور ) مقابل ( الكعبة ) . وأيضا ليحوز [ صلى الله عليه وسلم ] فضل شد الرحال إلى المساجد الثلاثة . وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ' يحتمل أيضا أنهم لا يخرجون منه ، فيكون في ذلك دلالة على سعته ، وعلى كثرة جنود الله تعالى ، والله أعلم بالصواب . وعندهما [ أي : البخاري ومسلم ] أن كل نبي قال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، إلا آدم وإبراهيم عليهما السلام فقالا له : والابن الصالح .

فائدة
في اجتماع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالأنبياء الظاهر أن أرواح الأنبياء تشكلت له في العالم الأعلى . ويجوز نقل أجسادها تلك الليلة إكراما لهم أجمعين . ويؤيد الأول قوله في الحديث : ' فصلى بأهل السماء ، وفيهم أرواح الأنبياء ' . والظاهر أيضا : أن اختصاص من لقيه منهم في كل سماء ، وهم آدم ، وعيسى ، ويوسف ، وإدريس ، وهارون ، وموسى ، وإبراهيم ، بحسب تفاوتهم في الدرجات ، فآدم في السماء الدنيا ، لأنه أول الأنبياء . ثم عيسى في الثانية ، لأنه أقرب الأنبياء عهدا بمحمد . ويوسف في الثالثة ، لأن أمة محمد يدخلون الجنة على صورته . وإدريس في الرابعة / ، لأنها الوسطى ، وقد رفعه الله مكانا عليا . وهارون في الخامسة ، لقربه من أخيه موسى . وموسى في السادسة ، لفضله بالتكليم . وإبراهيم في السابعة ، لأنه أفضل الأنبياء بعد محمد . صلى الله عليه وعليهم أجمعين . والظاهر من اختصاص مراجعة موسى له كونه أشبه الرسل به في كثرة الأتباع وشرف الكتاب . والله أعلم . رؤية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سدرة المنتهى وفي رواية : فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ' .

قال الله تعالى : ! ( عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ) ! [ سورة النجم 53 / 14 / 16 ] . وفي أخرى : ' إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها . وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها ' . وفي ثالثة : هذه السدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد من أمتك ، خلا على سبيلك ، وهي السدرة المنتهى . وفي رابعة : ' يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما [ لا يقطعها ] ، وأن ورقة منها مظلة الخلق ، فغشيها نور [ الخالق ] ، وغشيتها الملائكة ' . وفي خامسة : ' ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ' . ( ما خص به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمته ) وفي سادسة : ' أن جبريل لما جاء بالبراق فذهب ليركب ، فاستعصت عليه ، فقال لها جبريل : اسكني ، فو الله ما ركبك عبد

أكرم على الله من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، فركبها حتى أتى بها الحجاب الذي يلي عرش الرحمن . فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من هذا يا جبريل ؟ ' ، قال : والذي بعثك بالحق نبيا إني لأقرب الخلق مكانا ، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه ، فأذن الملك وأقام ، وأخذ بيد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فقدمه فصلى بأهل السماء ، وفيهم أرواح الأنبياء عليهم السلام ثم قال محمد : ' يا رب ، إنك اتخذت إبراهيم خليلا . وكلمت موسى تكليما . وآتيت داود الملك والحكمة ، وألنت له الحديد ، وسخرت له الجبال يسبحن معه والطير . ووهبت سليمان / ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وسخرت له الريح تجري بأمره رخاء أي : لينة حيث أصاب أي : قصد والشياطين كل بناء وغواص ، وآخرين مقرنين في الأصفاد أي : القيود وعلمت عيسى التوراة والإنجيل ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك ' ، فقال الله تعالى : يا محمد ؛ قد اتخذتك خليلا وحبيبا ، فهو مكتوب في التوراة أن محمد حبيب الرحمن ، وأرسلتك إلى الناس كافة ، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون بعثا ، والسابقون يوم القيامة ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلتك فاتحا وخاتما ، وأعطيتك السبع المثاني أي : الفاتحة وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي ، ولم أعط ذلك أحدا من خلقي ' .

فائدة
في الحكمة من ركوب البراق
الحكمة في ركوب البراق مع قدرة الله تعالى على طي المسافة له إكرامه بما جربت به العادة مع خرقها ، إذ الملوك يبعثون لمن استدعوه بمركوب . وجزم جماعة من المحققين بأنه لم يجاوز سدرة المنتهى أحد إلا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، ويؤيده قوله [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] : ' إليها ينتهي ما يعرج [ به ] من الأرض ' .
عرض الآنية على النبي
وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' فأتيت بإناء من لبن وإناء من خمر ' . زاد في رواية في ' الصحيحين ' : ' وإناء من عسل ' وفي رواية أخرى للبزاز : ' وإناء من ماء ' .
قلت : وبتمام الأربعة يعلم أنه أتي من كل نهر بإناء من الأنهار التي تخرج من أصل سدرة المنتهى المذكورة في الحديث السابق . ثم في قوله تعالى فيها : ( أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ) [ سورة محمد 47 / 15 ] . والله أعلم . وفي ' الصحيحين ' ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لما عرج بي جبريل إلى سدرة المنتهى دنا الجبار رب العزة ، فتدلى ، حتى كنت منه قاب قوسين أي : قدر قوسين أو أدنى ،

فأوحى إلي بما شاء ' . وعن ابن عباس رضي الله / عنهما ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' فارقني جبريل ، فانقطعت عني الأصوات ، فسمعت كلام ربي جل وعلا يقول : ليهدأ روعك أي : ليسكن خوفك أدن يا محمد ، أدن ' . رؤية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] نهر الكوثر وفي البخاري ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لما عرج بي إلى السماء بينما أنا أسير في الجنة ، إذا [ أنا ] بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ ، قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك ، فإذا طينه مسك أذفر ' . رؤية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لبعض أهل النار وفي سنن ' أبي داود ' ، عن أنس أيضا ، قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون بها وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ' . وصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأمة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وروى الترمذي في ' جامعه ' ، وقال : حديث حسن ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' لقيت إبراهيم - عليه السلام - ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد : أقرئ أمتك عني السلام - عليه وعلى نبينا السلام - ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ' .

ما رآه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وروى الطبراني بإسناد حسن ، والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لما دخلت الجنة أتيت على قصر من ذهب مربع مشرف ، فقلت : لمن هذا القصر ؟ فقالوا : لعمر بن الخطاب ، ثم قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : من قرأ بعد كل صلاة مكتوبة : ! ( قل هو الله أحد ) ! عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة ، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة ' . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا تكثر قصورنا يا رسول الله ؟ ، قال : ' فضل الله أوسع من ذلك ' .

إخباره بمسراه وموقف قريش في ذلك
وفي ' الصحيحين ' ، / أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لما كذبتني قريش ، قمت في ( الحجر ) فجلا الله لي ( بيت المقدس ) فطفقت أخبرهم عن آياته ، وأنا أنظر إليه ' . وفي رواية : ' ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها ، ثم أصبحت فأخبرت قريشا ، فلقد رأيتني في ( الحجر ) ، وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من وصف ( بيت المقدس ) لم أثبتها ، فكربت كربا شديدا ، فجلى الله لي ( بيت المقدس ) إلى الآخرة '
فائدة
في تعليل مجيء الأقصى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي رواية للإمام أحمد : ' فجيء ب ( المسجد الأقصى ) وأنا أنظر ، حتى وضع عند ( دار عقيل ) فنعته وأنا أنظر إليه ' .
قال العلماء : وهذا أبلغ من كشف الحجب النبي بين ( الحرم وبيت المقدس ) ؛ لأنه نظير إحضار عرش بلقيس لسليمان في طرفة عين .
قلت : وذلك بطريق انزواء الأرض ، بأن تنقبض أجزاؤها حتى يصير الموضع الذي فيه ( بيت المقدس ) ب ( مكة ) . ومن ذلك قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' زويت لي الأرض ' . والله أعلم . ومنه أني قلت لبعض أصحابنا : بلغني أنك تصلي أي فرض شئت جماعة ب ( حرم مكة ) فعلى أي كيفية هذا ؟ ، فقال : بمجرد أن يخطر ذلك ببالي ، صرت تجاه ( الكعبة ) ، ثم إذا خطر ببالي العود ، صرت بمكاني ب ( حضرموت ) . والله أعلم .
تصديق أبي بكر رضي الله عنه وسبب تسميته بالصديق
وفي رواية : فقيل لأبي بكر : إن محمدا يزعم أنه بلغ ( بيت المقدس ) ورجع ، فقال : إنا لنصدقه في نزول الوحي في طرفة عين . فأنزل الله عز وجل في أبي بكر : ! ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) ! [ سورة الزمر 39 / 33 ] ، فسماه الله الصديق . وأنزل الله سبحانه في تصديق نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] وتنزيهه عما نسبوه إليه في ذلك من الغي والضلال والهوى قوله تعالى : ( والنجم إذا هوى *

ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * ) [ سورة النجم 53 / 1 - 4 ] ، إلى قوله : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) [ سورة النجم 53 / 18 ] . فأقسم تعالى بالنجم ، وهو الثريا . إذا هوى - أي : سقط للغروب - على نفي الضلال عنه [ صلى الله عليه وسلم ] والغي المستلزم ، لإثبات / الهدى والرشد ، وعلى صدقه فيما أخبر ، ونفى النطق عن الهوى ، وأن ذلك وحي يوحى إليه من الله سبحانه ، علمه إياه جبريل شديد القوى . ثم لما كان ما أوحى إليه في تلك الليلة من عظيم ملكوته لا تحيط به العبارة رمز إليه بالإشارة ، فقال : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ سورة النجم 53 / 10 ] ، ثم أخبر عن تصديق فؤاده - وهو : قلبه - بما رأى بصره من آيات ربه الكبرى بقوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ سورة النجم 53 / 11 ] - أي : بما رآه البصر - ، وعن حسن أدبه ، وعدم التفات قلبه إلى غير ربه بقوله : ( ما زاغ البصر وما طغى ) [ سورة النجم 53 / 17 ] فقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على تزكية لسانه [ صلى الله عليه وسلم ] وبصره وفؤاده ، فزكى لسانه بقوله : ( وما ينطق عن الهوى ) ، وبصره بقوله : ( ما زاغ البصر وما طغى ) ، وفؤاده ، بقوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) . الخلاف في رؤية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ربه ليلة الإسراء وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) [ سورة النجم 53 / 13 ] أنه قال : ( رأى محمد ربه بعيني رأسه وكلمه من غير حجاب ) .
قال العلماء : ولا يقول ذلك ابن عباس إلا بتوقيف ، فسبيله سبيل

المرفوع ، إذ ليس للرأي في هذا مدخل . وعن كعب الأحبار : ( أن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد - عليهما السلام - فكلمه موسى من وراء الحجاب بغير واسطة مرتين ، ورآه محمد بعيني رأسه مرتين ) . نقله الماوردي عنه . وقال كثير من العلماء في تفسير قوله تعالى ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) [ سورة الشورى 42 / 51 ] - : أبي من غير واسطة - بل مع المشاهدة ، وذلك لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] خاصة ليلة الإسراء . قالوا : بدليل قوله [ تعالى ] : ( أو من وراء حجاب ) - أي : كمن جاته لموسى عليه السلام - ( أو يرسل رسولا ) [ سورة الشورى 42 / 51 ] - وهو جبريل - فيوحى بإذنه إلى رسله ما يشاء - كأكثر أحوال محمد وموسى عليهما السلام - وكسائر أحوال غيرهما من النبيين عليهم السلام أجمعين . وقال الإمام / أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - رحمه الله - : ( كل آية أوتيها نبي فقد أوتي نبينا مثلها ، وخصه الله بالرؤية ، قال : فمحمد رأى ربه بعيني رأسه . قال ابن عطاء : أي شرح الله صدره للرؤية ، كما شرح صدر موسى للتكليم ) .
قال العلماء : ولا يقدح في ذلك إنكار عائشة رضي الله عنها لذلك ، لأنها لم تقله إلا عن رأيها ، وأما احتجاجها بقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [ سورة الأنعام 6 / 103 ] ؛ فقال ابن عباس : ( معناه : لا تحيط به ) .

ولو قيل بإطلاقها لزم منه امتناع رؤيته - سبحانه وتعالى - في الآخرة أيضا ، للأبرار في دار القرار ، وهو خلاف ما أجمع عليه أهل السنة .
قال العلماء : والدليل على جوازها في الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها ، إذ يستحيل أن يجهل نبي ما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز عليه ، ومعنى : ! ( لن تراني ) ! : لن تطيق رؤيتي كما لا يطيقها الجبل .
قلت : ومعلوم أن الجبل وجميع المخلوقات جزء من نور محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، فلا عجب أن يطيق من التجلي ما لا يطيقه الجبل . وإذا لم يستحل شيء من العقل ، ولم يدل دليل قاطع من النقل على امتناعه وجب قبوله على ظاهره ، ومن أهله الله لشيء تأهل له ، ومن لا ، فلا . ألا تراه يقول في حقه [ صلى الله عليه وسلم ] عند رؤيته آيات ربه الكبرى : ! ( ما زاغ البصر وما طغى ) ! ، ويقول : ! ( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ) ! [ سورة الكهف 18 / 18 ] . هذا وهم بشر من أبناء جنسه ، فسبحان من خص من شاء بما شاء ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) [ سورة البقرة 2 / 255 ] . ومن أحسن ما قيل في حديث الإسراء قول صاحب البردة ، [ من البسيط ] :

( يا خير من يمم العافون ساحته ** سعيا وفوق متون الأينق الرسم ) ( ومن هو الآية الكبرى لمعتبر ** ومن هو النعمة العظمى لمغتنم ) ( سريت من حرم ليلا إلى حرم ** كما سرى البدر في داج من الظلم ) ( / وبت ترقى إلى أن نلت منزلة ** من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم ) ( وقدمتك جميع الأنبياء بها ** والرسل تقديم مخدوم على خدم ) ( وأنت تخترق السبع الطباق بهم ** في موكب كنت فيه صاحب العلم ) ( حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق ** من الدنو ولا مرقى لمستنم ) ( خفضت كل مقام بالإضافة إذ ** نوديت بالرفع مثل المفرد العلم )

( كيما تفوز بوصل أي مستتر ** عن العيون وسر أي مكتتم ) ( فحزت كل فخار غير مشترك ** وجزت كل مقام غير مزدحم ) ( وجل مقدار ما وليت من رتب ** وعز إدراك ما أوليت من نعم ) ( بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ** من العناية ركنا غير منهدم ) ( لما دعا الله داعينا لطاعته ** بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم )

( فارغة )

القسم الثاني
قسم المقاصد واللواحق
وفيه خطبة بليغة في الحث على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال ، وإيراد آيات وأحاديث صحيحة في كونه أفضل الأعمال ، ثم شرح أحوال المجاهدين في سبيل الله ، وهي سيرة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين ، وفضل الصحابة وترتيبهم في الفضل ، والرد على من قدح في أحد منهم بالقول الفصل

( فارغة )

خطبة في الحث على الجهاد في سبيل الله
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، الذي له ملك السماوات والأرض ، ولم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، تسبح له السماوات السبع والأرض ، ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا . وأشهد أن محمدا / عبده ورسوله ، الذي أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . اللهم صل وسلم على محمد ، وعلى آل محمد ، بأفضل الصلوات كلها ، وسلم تسليما كثيرا ، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا . وعلى أصحابه وأتباعه الذين بشرهم بأن لهم من الله فضلا كبيرا . أما بعد : فإن الجهاد في سبيل الله هو الكنز الذي وفر الله منه لمن أحبه الأقسام ، والعز الذي أظهر الله به دين الإسلام .
إخواني : فجاهدوا في سبيل الله فقد دلكم الله به على المتجر الرابح ، فهل أنتم سامعون ؟ وساومكم في شراء أنفسكم التي هي ملكه فهل أنتم لها بائعون ؟

فقال سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) [ سورة الصف 61 / 1011 ] إلى آخر السورة . وقال عز وجل : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) [ سورة التوبة 112 - 9 / 111 ] .
إخواني : يا لها صفقة خطيرة في بيع هذه الأنفس الحقيرة ، المشتري فيها رب العالمين ، والواسطة فيها سيد المرسلين ، والثمن : جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين . فأوجبوا رحمكم الله صفقة هذا البيع الرابح ، بالثمن الجزيل الراجح ، فلمثل / هذا فليعمل العاملون ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . فالجهاد الجهاد أيها المؤمنون ، والجنة الجنة أيها الموقنون ، وقاتلوا دون أنفسكم وأموالكم أعداء الله الفجار ، وادفعوا عن أنفسكم شؤم العار والنار ، فقد جاؤوكم يحادون الله ورسوله بكفرهم ، ويستأصلون شأفة الإسلام والمسلمين بمكرهم ،

و ! ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) ! [ سورة آل عمران 3 / 118 ] ، ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونك كافة واعلموا أن الله مع المتقين ) [ سورة التوبة 9 / 36 ] . واحذروا أن تكونوا ممن : ( كره الله أن انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ سورة التوبة 9 / 46 ] ، ! ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) ! [ سورة العنكبوت 29 / 6 ] . ولقد ابتلاكم الله بالجهاد كما ابتلى به أفضل أهل السماوات والأرض : ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ) [ سورة محمد 47 / 4 ] ، ! ( أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) ! [ سورة التوبة 9 / 13 ] .
إخواني : إذا كانت المنية محتومة ، فالشهادة في سبيل الله هي الغنيمة : ( يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) [ سورة محمد 47 / 7 ] . وإن أحجمتم فلن يدفع عنكم الأجل إحجامكم .
إخواني : ما أقبح عبدا يبخل على سيده ومولاه بنفس هي من مواهبه وعطاياه ، هذا مع ما وعد ! ( ومن أوفى بعهده من الله ) ! [ سورة التوبة 9 / 111 ] ! ( ومن أصدق من الله قيلا ) ! [ سورة النساء 4 / 122 ] على ذلك ثناء جميلا وثوابا جزيلا .
إخواني : ما أقبح عبدا يقول بلسانه : قد رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، ثم يجبن عن قتال كافر بالله وباليوم الآخر ، ولا يرجو ما يرجوه المؤمن من الجنة والثواب الوافر . أوما سمعتم مولاكم سبحانه يقول : ( فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون ) [ سورة النساء 4 / 104 ] .


إخواني : أي عذر لمن جبن عن قتال أعداء الله ؟ وبأي وجه يوم القيامة يلقى الله ؟ هذا : ( ومن لم يمت بالسيف / مات بغيره ) . ولا جنة من القدر شره وخيره : ( قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تم عون إلا قليلا ) [ سورة الأحزاب 33 / 16 ] ، ! ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) ! [ سورة آل عمران 3 / 154 ] ، ! ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) ! [ سورة النساء 4 / 78 ] .
إخواني : فجردوا عزائمكم في الجهاد ، فقد وضح لكم السبيل ، وكونوا كالذين قال لهم الناس : ! ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) ! [ سورة آل عمران 3 / 173 - 175 ] ، ! ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) ! [ سورة النساء 4 / 89ٍ ] ، ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم

القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) [ سورة آل عمران 3 / 169 - 172 ] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم ، ووفقنا وإياكم لاتباع سيدنا محمد [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] النبي الكريم ، آمين .

فصل
في فضل الجهاد
اعلم أن الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله كثيرة مشهورة ، ولكنا نورد بعضا يشير إلى غيره . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : أي العمل أفضل ؟ قال : ' إيمان بالله ورسوله ' ، فقيل : ثم ماذا ؟ قال : ' الجهاد في سبيل الله ' ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : ' حج مبرور ' . متفق عليه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : ' الجهاد / في سبيل الله ' . متفق عليه .
قلت : وأجاب العلماء في الجمع بين الحديثين بأن اختلاف الجواب بحسب حال السائل . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ' . متفق عليه . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله قال : أتى رجل

رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : ' مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ' ، قال : ثم من ؟ قال : ' مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ، ويدع الناس من شره ' . متفق عليه . وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها ' . متفق عليه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' والذي نفس محمد بيده ، ما من كلم - أي : جراحة - يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم ، لونه لون دم ، وريحه ريح مسك ، والذي نفس محمد بيده ، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة ، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني ، والذي نفس محمد بيده ، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ' . متفق عليه . وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله : دلني على عمل يعدل الجهاد ، قال : ' لا أجده ' ، ثم قال : ' هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك ، فتقوم

ولا تقتر ، وتصوم ولا تفطر ؟ ' ، قال : ومن يستطيع ذلك ؟ قال : ' فلذلك مثل المجاهد في سبيل الله ' . متفق عليه ، وهذا لفظ البخاري . وعن زيد / بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا ' . متفق عليه . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجل مقنع بالحديد - أي : مغطى رأسه به _ فقال : يا رسول الله أقاتل ثم أسلم ؟ فقال : ' أسلم ثم قاتل ' ، فأسلم ثم قاتل فقتل ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' عمل قليلا وأجر كثيرا ' . متفق عليه ، وهذا لفظ البخاري . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وله ما على الأرض من شيء ، إلا الشهيد ؛ فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ، فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة وفضل الشهادة ' . متفق عليه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ' . رواه البخاري .

وعن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ' . رواه البخاري . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من احتبس فرسا في سبيل الله ، إيمانا بالله ، وتصديقا بوعده ، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ' . رواه البخاري . وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي : أم حارثة وكان قتل يوم ( أحد ) ، قالت يا رسول الله : ألا تحدثني عن حارثة ؟ فقال : ' يا أم حارثة : إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ' . رواه البخاري . وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' رأيت الليلة رجلين أتياني . . فصعدا بي الشجرة / . . فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل . . لم أر قط أحسن منها . . قالا لي : أما هذه الدار فدار الشهداء ' . رواه البخاري في حديث طويل . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أرواح الشهداء في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع

إليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، يقول : هل تشتهون شيئا ؟ فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب ، نشتهي أن ترد أرواحنا في أجسادنا ، وتعيدنا إلى الدنيا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . قال : إنه قد سبق أنهم إليها لا يرجعون ، قالوا : فأبلغ عنا إخواننا ، فأنزل الله تعالى : ! ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ! الآيات [ سورة آل عمران 3 / 169 ] . رواه مسلم . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه ' رواه مسلم . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ؛ وجبت له الجنة ' ، ثم قال : ' وأخرى يرفع الله العبد بها مئة درجة ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ' ، [ قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال ] : ' الجهاد في سبيل الله ' . رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا ' . رواه مسلم .

وعن انس رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأصحابه يوم ( بدر ) : ' قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ' . رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته ستين عاما ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ؟ اغزوا في سبيل الله ، فمن قاتل في سبيل الله فواق ناقة أي : قدر ما بين حلبتيها وجبت له الجنة ' . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وقال : حديث حسن . والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة ' . رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط البخاري . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعو سيوفهم على رقابهم تقطر دما ، فازدحموا على باب الجنة ، والناس في الموقف ، فيقال : من هؤلاء ؟ قيل : الشهداء ، كانوا أحياء مرزوقين ' . رواه الطبراني بإسناد حسن .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من قرصة النملة ' . رواه النسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وابن حبان في ' صحيحه ' . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته ' . رواه أبو داود ، وابن حبان في ' صحيحه ' . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يعجب ربنا جل وعلا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه فعلم ما عليه ، فرجع / حتى أريق دمه ، فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته : انظروا إلى عبدي هذا رجع رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي ' رواه الإمام أحمد ، وابن حبان في ' صحيحه ' . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن الله عز وجل ليدعو الجنة يوم القيامة ، فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول سبحانه : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وجاهدوا ؟ ادخلوا الجنة ، فيدخلونها بغير حساب ، فتأتي الملائكة فيقولون : ربنا ، نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ، ونقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب جل وعلا : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وقتلوا وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا ،

فتدخل عليهم الملائكة من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ' . رواه الأصبهاني بإسناد حسن . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' قال الله تعالى : المجاهد في سبيلي هو ضامن علي ، إن قبضته أورثته الجنة ، وإن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة ' . رواه الترمذي ، وقال : حديث صحيح . وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' جاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ، وينجي الله به من الهم والغم ' . رواه الإمام أحمد برواة ثقات ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد . وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من جرح جرحا في سبيل الله ، أو نكب نكبة - أي : طعن - فإنها تأتي يوم القيامة كأغزر ما كانت ، لونها لون الزعفران ، وريحها ريح المسك ' . رواه أصحاب السنن الأربعة : أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث / حسن صحيح . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر ، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية كلها ، والمائد في البحر - وهو

الذي يدور رأسه - كالمتشحط في دمه ' . رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط البخاري . وعن أم حرام رضي الله عنها قالت : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' المائد في البحر - الذي يصيبه القيء - له أجر شهيد ، والغريق له أجر شهيدين ' . رواه أبو داود بإسناد حسن . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب ، كان له كعتق رقبة من ولد إسماعيل ' . رواه الطبراني برواة ثقات . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر ب ( مكة ) عند ( الحجر الأسود ) . رواه البيهقي ، وابن حبان في ' صحيحه ' .

فائدة
في فضل من وقف في سبيل الله ساعة
قال العلماء : فيكون موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام مئة ألف ألف شهر ، لأن قيام ليلة القدر ب ( مكة ) بمئة ألف ألف شهر في غيرها .

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' رباط شهر خير من صيام دهر ، ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر ، وغدي عليه برزقه ، وريح من الجنة ، وأجري عليه أجر المرابط ، حتى يبعثه الله عز وجل ' . رواه الطبراني برواة ثقات . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من رابط ليلة حارسا من وراء المسلمين ، كان له أجر من كان خلفه ممن صام وصلى ' . رواه الطبراني بإسناد جيد .

فائدة
في جزاء المرابطين في سبيل الله
قال العلماء : وهذا الحديث دليل على أن الله يكتب للوالي مثل أعمال من عبد الله آمنا في محل ولايته بحمايته له ، وما أجزل هذا الفضل / العظيم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ' . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب ' . رواه الطبراني بإسناد حسن .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من لم يغز في سبيل الله ، أو يجهز غازيا في سبيل الله ، أو يخلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير ، أصابه الله تعالى بقارعة ، قبل يوم القيامة ' . رواه أبو داود بإسناد حسن . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ' . رواه أبو داود بإسناد صحيح . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في بعض أيامه التي لقي العدو فيها ، انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس خطيبا ، فقال : ' أيها الناس : لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ' ، ثم قال : ' اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ؛ اهزمهم ، وانصرنا عليهم ' . متفق عليه . فهذه أربعون حديثا عشرون منها في ' الصحيحين ' . عشرة من المتفق عليه . وخمسة من أفراد البخاري ، وخمسة من أفراد مسلم . وعشرون حديثا من غيرهما من كتب الحديث المعتمدة ، صحيحا وحسنا .

2

باب
في ما اشتهر من سيرته [ صلى الله عليه وسلم ] إلى وفاته ولنشرع الآن في سيرته [ صلى الله عليه وسلم ] ، وأصحابه المجاهدين في سبيل الله حق جهاده ، على ترتيب سني الهجرة . زمن وصول النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى المدينة
قال علماء السير : دخل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( المدينة ) الشريفة ضحى يوم الاثنين ، ثاني عشر ربيع الأول ، وهو أول / يوم من الهجرة النبوية .
اعتماد الهجرة بداية التاريخ
وفي ' صحيح البخاري ' ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : ما عدوا من مبعث النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولا من وفاته ، ما عدوا إلا من مقدمه ( المدينة ) . عمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين قدم المدينة ، ومدة إقامته بمكة والمدينة وفيه أيضا - [ أي : صحيح البخاري ] - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أنزل على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ابن أربعين سنة ، فمكث ب ( مكة ) ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة ، فهاجر إلى ( المدينة ) ، فمكث بها عشر سنين ، ثم توفي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ابن ثلاث وستين سنة .

سكنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وفي ' الصحيحين ' ، عن عائشة رضي الله عنها أنه لما قدم ( المدينة ) [ صلى الله عليه وسلم ] أقام ب ( قباء ) عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة ، وبنى بها مسجد ( قباء ) ، وهو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، وأول مسجد بني في الإسلام ، ثم ارتحل من ( قباء ) يوم الاثنين أيضا ، راكبا راحلته ، وقد أرخى لها الزمام ، وكان كلما حاذى دارا من دور الأنصار اعترضوه ، وقالوا : هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة ، ولزموا بزمام ناقته ، فيقول لهم : ' خلو سبيلها ، فإنها مأمورة ' ، وقد أرخى لها زمامها ، وما يحركها ، وهي تنظر يمينا وشمالا ، والناس كنفيها - يعني : جانبيها - حتى بركت حيث بركت ، على موضع باب مسجده [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم ثارت وهو عليها ، فسارت حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، وهو أحد بني النجار ، ثم ثارت وبركت في مبركها الأول ، وألقت جرانها بالأرض ، وأرزمت ، فنزل [ صلى الله عليه وسلم ] عنها ، وقال : ' هذا هو المنزل إن شاء الله تعالى ' . فاحتمل أبو أيوب الأنصاري رحله ، وأدخله بيته ، فنزل في أخوال جده عبد المطلب بني النجار ، وكان يحب ذلك ، فاختار الله له ما كان يختاره ، ولم يزل [ صلى الله عليه وسلم ] في منزل أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ، وكانت إقامته عنده شهرا .
قلت : كذا / في ' الصحيحين ' .

وبنى بها مسجد ( قباء ) ، وهو المسجد الذي أسس على التقوى ، ولا يخفى أنه من تفسير عائشة رضي الله عنها لقوله تعالى : ! ( لمسجد أسس على التقوى ) ! [ سورة التوبة 9 : 108 ] وهو نكرة ، صادق على كل مسجد بني في ابتداء الهجرة ، لكن يعارض تفسير عائشة تفسيره [ صلى الله عليه وسلم ] كما في ' صحيح مسلم والترمذي ' ، أن رجلين اختلفا في المسجد الذي أسس على التقوى ، فسألا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : ' هو مسجدي هذا ' . وهو الصواب ، والله أعلم أول مولد ولد بعد قدوم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] المدينة وفي ' صحيح البخاري ' عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : ولدت عبد الله بن الزبير ب ( قباء ) ، وكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة .

أول من مات بالمدينة
وفيه - [ أي : صحيح البخاري ] - عن أم العلاء : إن أول من مات ب ( المدينة ) : عثمان بن مظعون ، وهو خال حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
بناء المسجد النبوي
ولما بنى مسجده [ صلى الله عليه وسلم ] كان ينقل اللبن مع أصحابه ويرتجز معهم .

وفي ' الصحيحين ' ، عن انس رضي الله عنه قال : لما قدم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( المدينة ) ، نزل في أعلى ( المدينة ) ، في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف ، فأقام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى ملإ من بني النجار - لما أمر ببناء المسجد - فقال : ' يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا ' ، فقالوا : لا ، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا ، وكان فيه قبور المشركين ، وفيه خرب ، وفيه نخل ، فأمر النبي بقبور المشركين فنبشت ، ثم بالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عضادتيه الحجارة ، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] معهم ، وهو يقول : ( ' لا خير إلا خير الآخرة ** فاغفر للأنصار والمهاجره ' ) وفي رواية : ' فانصر الأنصار والمهاجرة ' . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] / تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات .

تجديد بناء المسجد
وفيهما - [ أي : الصحيحين ] - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن المسجد كان على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مبنيا باللبن ، وسقفه الجريد ، وعمده الخشب ، فلم يزد أبو بكر فيه شيئا ،

وزاد عمر وبناه على بنيانه في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، ثم غيره عثمان ، فزاد فيه زيادة كثيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة - أي : النورة ، وهي بقاف مفتوحة ومهملة - وجعل عمده من حجارة منقوشة ، وسقفه بالساج . وفي ' صحيح البخاري ' ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى . إخباره [ صلى الله عليه وسلم ] عمارا بقتله على يد الفئة الباغية وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنا في بناء المسجد نعمل لبنة لبنة ، وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فنفض التراب عنه ، وهو يقول : ' ويح عمار ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ' .

فضل المسجد النبوي
وفي ' الصحيحين ' ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، والمسجد الأقصى ' .

وفيهما - [ أي الصحيحين ] - أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان يزور مساجد ( قباء ) راكبا وماشيا .

مشروعية الأذان
وفي السنة الأولى أيضا : شرع الأذان والإقامة للصلوات الخمس ، وذلك برؤيا مشهورة ارتضاها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . وفي ' الصحيحين ' ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال / كان المسلمون حين قدموا ( المدينة ) يجتمعون فيتحينون الصلاة ، ليس ينادى لها ، فتكلموا يوما في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بوقا مثل بوق اليهود ، فقال عمر : أولا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصلاة ؟ فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' يا بلال ، قم / فناد بالصلاة ' . وأمره أن يشفع الأذان ، وأن يوتر الإقامة . وسبق في حديث الإسراء أنه سمع [ صلى الله عليه وسلم ] الأذان ، وأمر بالصلوات الخمس ، ولم يؤمر به . والحديث رواه البزار بإسناد حسن ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : أنه ركب البراق ليلة أسري به ، حتى

أتى بها الحجاب الذي يلي عرش الرحمن جل وعلا ، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من هذا يا جبريل ؟ ' ، قال : والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا ، وإن هذا الملك ما رأيته قط منذ خلقت قبل ساعتي هذه ، فقال الملك : الله أكبر ، الله أكبر ، قال : فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر ، ثم قال الملك : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقيل من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا لا إله إلا أنا ، وذكر مثل هذا في بقية الأذان إلى آخر الحديث .

فائدة
في قول القرطبي والغزالي في الأذان
قال القرطبي : الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة . وقال الغزالي : إذا سمعت النداء فأحضر في قلبك النداء يوم القيامة ، واعلم أنك إن وجدت قلبك عند هذا النداء مملوءا بالفرح والاستبشار ، مشحونا بالرغبة إلى المسارعة والابتدار ، فاعلم أنه سيأتيك النداء بالبشرى ، والفوز يوم القضاء .
حمى المدينة
قال أهل السير : وكانت ( المدينة ) كثيرة الوباء ، فتضرر بذلك أصحابه المهاجرون ، وشق ذلك عليه [ صلى الله عليه وسلم ] ، وخاف أن يكرهوها ، فدعا الله أن يرفع الوباء عنها ، فرفعه . وفي ' الصحيحين ' ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدمنا ( المدينة ) وهي أوبأ أرض الله ، فوعك أبو بكر ، ووعك بلال ، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول ، [ من الرجز ] . ( كل امرئ مصبح في أهله ** والموت أدنى من شراك نعله ) وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته - أي : صوته - يقول / ، [ من الطويل ] ( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ** بواد وحولي إذخر وجليل ) ( وهل أردن يوما مياه مجنة ** وهل يبدون لي شامة وطفيل ) وهما جبلان ب ( مكة ) - [ أي : شامة وطفيل ] . قالت : فأخبرت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : ' اللهم حبب إلينا ( المدينة ) ، كحبنا ( مكة ) ، أو أشد ، وصححها لنا ، وانقل حماها فاجعلها ب ( الجحفة ) ، وبارك لنا في صاعنا ومدنا ' .

فبعد دعوته [ صلى الله عليه وسلم ] طاب له المقام ، وانصرفت عنهم الأسقام ، عند قوم كرام . وفي ذلك يقول أبو قيس صرمة بن أبي أنس ، أحد بني النجار رضي الله عنه ، [ من الطويل ] : ( ثوى في قريش بضع عشرة حجة ** يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ) ( ويعرض في أهل المواسم نفسه ** فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا ) ( فلما أتانا أظهر الله دينه ** فأصبح مسرورا بطيبة راضيا ) ( وألفى صديقا واطمأنت به النوى ** وكنا له عونا من الله باديا ) ( يقص لنا ما قال نوح لقومه ** وما قال موسى إذ أجاب المناديا ) ( فأصبح لا يخشى من الناس واحدا ** قريبا ولا يخشى من الناس نائيا ) ( بذلنا له الأموال من كل مالنا ** وأنفسنا عند الوغى والتآسيا )

( نعادي الذي عادى من الناس كلهم ** جميعا وإن كان الحبيب المصافيا )

الإذن بالقتال وفرض الجهاد
في أول السنة الثانية من الهجرة للهجرة : أذن الله في الجهاد ، بقوله تعالى في حق المهاجرين : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الناس بعضهم لبعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) [ سورة الحج 22 / 39 - 40 ] . وبقوله تعالى في حق الأنصار ! ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) ! إلى آخر السورة . [ سورة الصف 61 / 10 - 11 ] ، ثم أوجب الله / ذلك على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بقوله : ! ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ! الآية [ سورة التوبة 9 / 73 ] .
فائدة
في أي وقت يكون الجهاد فرض عين أو فرض كفاية
قال العلماء : كان الجهاد في زمنه [ صلى الله عليه وسلم ] فرضا على الكفاية ، إلا أن التخلف عنه مشروط بإذنه [ صلى الله عليه وسلم ] ، وقيل : فرض عين . وأما بعده فغزونا الكفار إلى بلادهم فرض كفاية ، ودفعنا لمن دخل بلادنا منهم فرض عين ، وقد أمر الله به وأوعد على تركه بقوله : ! ( انفروا خفافا وثقالا ) ! الآية [ سورة التوبة 9 / 41 ] ' ، وبقوله : ! ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) ! الآية [ سورة التوبة 9 / 39 ] . وعذر أولي الضرر بقوله : ! ( ليس على الأعمى حرج ) ! الآية [ سورة النور 24 / 61 ] ، وبقوله ! ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ) ! الآية [ سورة النساء / 4 / 95 ] .
فائدة أخرى
في المكي والمدني من سور القرآن العظيم
قال العلماء : سورة الحج وسورة الصف من أوائل السور المدنيات ، ومعظم القرآن مكي ، نزل قبل الهجرة ، والمدني الذي نزل بعدها ، وهو نحو ثلاثين سورة ؛ وهي : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والحج ، والنور ، والأحزاب ، وسورة محمد ، والفتح ، والحجرات ، والحديد إلى الملك ، وهي عشر متواليات ، والمطففين قيل : وهي أول سورة مدنية - ولم يكن ، والنصر ، والمعوذتان . فهذه سبع وعشرون . واختلف العلماء في الرعد ، وهل أتى على الإنسان ، والكوثر . والراجح أنها مكية . والله أعلم
الإخاء بين المهاجرين والأنصار
قال علماء السير : فعند ذلك جمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الأنصار وأسقط

أقسام الكتاب
1 2 3