كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني

وفي العشرين من شوال ورد البريد من الشام مخبراً أن الفرنج قاصدون البلاد والمقدم عليهم شرون أخو ريدا فرنس وربما كان محطهم عكا فتقدم إلى العسكر بالتجهز إلى الشام وورد الخبر من الإسكندرية بأن اثني عشر مركباً للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركباً للتجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه ولم يجسر الوالي أن يخرج الشواني من الصناعة لغيبة رئيسها في مهم استدعاه الملك الظاهر بسببه ولما بلغ الملك الظاهر ذلك بعث فأمر الملك الظاهر بقتل الكلاب في الإسكندرية وأن لا يفتح أحد حانوتاً بعد المغرب ولا توقد نار في البلد ليلاً ثم تجهز وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذي القعدة في البحر.
وفي ذي الحجة أمر بعمل جسرين أحدهما من مصر إلى الجزيرة والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليها إلى الإسكندرية إن دهمها عدو وبقي منصوباً إلى أن تواترات الأخبار بقصدهم تونس ونزولهم عليها.
وفي المحرم قتل أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف صاحب مراكش في حرب كانت بينه وبين أبي مرين على مراكش والذي يرجعون إليه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن حمامة وانقرضت دولة بني عبد المؤمن.
وفيها سير الدرابزين للحجرة الشريفة صلوات الله على ساكنها من الديار المصرية صحبة الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلي فمرض وحصل له طرف فالج فتعلق بالحجرة الشريفة بعد أن تصدق بجميع ما معه وتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فعوفي في المدينة وصحب الركب إلى مكة ناقته.
ذكر كسرة أبغا لبرققد تقدم القول بتسيير رسل تبشير إلى أبغا يستصرخ به من برق فلما وصلت الرسل جمع أبغا أمراء دولته واتفقوا أن يقصدوا برق فجمع عساكره ونزل بموغان فأكلت خيولهم الزرع خمسة عشر يوماً ثم ساروا فوصلوا أردول فأمر عساكره بإخفائه وكل من ذكر ذلك قتل ورحلوا وساروا مدة خمس وخمسين يوماً وخيولهم ترعى الزراعات ونزلوا حخحخان وبينهم وبين برق خمسة أيام فحملوا زادهم مطبوخاً لأن لا يشعلوا ناراً وعينوا من كل عشرة فارس يتقدموهم بنصف نهار يتحفظوا لهم الأخبار فكانت عدتهم خمسة آلاف فارس فساروا في واد بين جبلين وقتلوا من وجدوه في طريقهم إلى أن أشرفوا على يزك برق فكبسوه سحراً واستأصلوهم عن آخرهم فلما وصل إليهم أبغا فرح بذلك وعرفوه أنه بقي لهم يوم ونصف ويصلون إلى عسكر برق فساروا ليلاً فلما أصبحوا لم يشعروا إلا وعسكر برق قدامهم وكان في طرفه مرغول مقدم ثلاثة آلاف فارس فكسر وهرب ناجياً بنفسه واتصل ببرق فأخبره وسار أبغا فنزل على مدينة هرى فأقاموا اثني عشر يوماً يطعمون خيولهم الزرع وهرب شخص من عسكر برق ووصل إلى أبغا وعرفه أن سبب هروبه أنه رأى في لوح الغنم أن أبغا يضرب مصافاً مع برق ويكسره فقال أبغا إن صح ذلك ملكتك قرية تعيش فيها أنت وعقبك وأقبل عليه إقبالاً عظيماً ولما كسر برق وفي له.
ذكر المصافلما بلغ برق رجوع أبغا طمع في لقائه وعبر النهر الأسود على الجسر والتقيا فخرج مرغول من عسكر برق بألف فارس وحمل في عسكر أبغا فكسر منه تقدير ثلاثة آلاف فارس ومكان مقدمهم شكتو بن ألكانوين وأرغون بن جرماغون وعبد الله النصراني وكان يصحب العساكر ومعه الكنائس والنواقيس فوقع فيه سهم قتله وجاء إلى أبغا من عسكره أباطي وتبشير بن هولاكو وقالا نحن نلقى عسكر برق فأذن لهما فالتقياه وكسراه كسرة عظيمة وما زالا في عسكره بالسيف إلى الجسر وعجزوا عن العبور لكثرة الزحام فرموا أنفسهم في البحر فغاض الماء لكثرة عددهم وكان كل من تخلص ينزل عن فرسه ويعرقبه على البر ويقصد الجبل هارباً ولحقهم عسكر أبغا بعد أن بعدوا عن الجسر بيوم فأما أبغا فنزل عن جحشران وأمر أن تكتب ورقة بعدة من عدم من عسكره فكانوا ثلاثمائة وسبعين فارساً ورجع عائداً إلى بلاده وكان يموت من عسكره في كل منزلة جماعة كثيرة وتدعق خيول كثيرة فعدم من الرجال والخيول ما لا يحصى كثرة.
فصل

وفيها توفي أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير أبو العباس زين الدين المقدسي الحنبلي الناسخ بدمشق ودفن بسفح قاسيون ومولده سنة خمس وسبعين وخمسمائة بفندق الشيوخ من أرض نابلس سمع الكثير بدمشق من يحيى بن محمود الثقفي وأبي محمد عبد الرحمن بن علي وغيرهما وببغداد من أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي وأبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن كليب وغيرهما وكتب الكثير بخطه من الكتب الكبار والأجزاء المنثورة وكان سريع الكتابة كتب الخرقي في ليلة وحدث بالكثير مدة وبقي حتى احتيج إلى ما عنده وتفرد بالرواية عن جماعة من شيوخه وكان فاضلاً متنبهاً وإليه انتهت الرحلة ببلده وسمعت عليه صحيح مسلم وغيره رحمه الله تعالى، وكانت وفاته في السابع من شهر رجب ورأيت بخط أخي رحمه الله أنه توفي يوم الاثنين تاسع شهر رجب والله أعلم وقال سمع من الحافظ عبد الغني رحمه الله وروى عن السلفي بالإجازة العامة وقال كتبت بإصبعي هاتين أكثر من ألفي مجلدة روى عنه الناس وألحق الأصاغر بالأكابر وكان ديناً فهماً يحفظ كثيراً ويرد في غالب الأوقات على من يقرأ عليه وسمع صحيح مسلم عن ابن صدقة الحراني بسماعه من الفراوي غير شيء يسير من أوله فإنه أجازه رحمه الله تعالى.
أحمد بن القاسم بن خليفة أبو العباس موفق الدين الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة الحكيم الفاضل له مصنفات منها كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء توفي بضرخد في جمادى الأولى وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله.
أيبك بن عبد الله الصالحي الأمير عز الدين المعروف بالزراد كان متولي قلعة دمشق وكان المذكور من المماليك الصالحية النجمية وحرمته وافرة في الدولة الظاهرية وسيرته جميلة وله مهابة وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة بقلعة دمشق المحروسة رحمه الله.
أيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الظاهري النائب بحمص كانت عنده نهضة كبيرة وصرامة مفرطة موصوف بالعسف والظلم وكان آحاد المماليك الظاهرية فأمره الملك الظاهر وولاه حمص وأعمالها فضبط عمله وساسه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بحمص في صفر من هذه السنة وكان عنده تشيع وجور على الرعية فسر أهل ولايته بموته والراحة منه.
أيوب بن محمود بن نصر الله بن محمود بن كامل أبو الفرج البعلبكي الأصل كان من المعدلين بدمشق سمع من ابن اللتي وغيره ودخل بغداد وسمع بها من جماعة وحدث وكانت وفاته بصفد في العشر الأول من ربيع الآخر رحمه الله تعالى.
حسن بن محمد بن أحمد الصوفي العجمي الأصل الفارسي المعروف بالبرسي كان يتزيد في حديثه ويدعي كبر السن وأنه قد تعدى تسعين سنة فسأل هل أدرك القاضي الزنجاني الذي قتل ببعلبك فقال نعم وكان عمري عند قتله عشرين سنة أو ما يزيد عليه والزنجاني قتل سنة ثلاث وستين وخمسمائة وتوفي حسن المذكور ببعلبك ليلة الجمعة سابع وعشرين شهر رجب ودفن في منزله داخل باب دمشق من مدينة بعلبك.
صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمد بن الحسين أبو البقاء تقي الدين الهاشمي الجعفري الزينبي مولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة سمع وحدث وكان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره والرؤساء المذكورين بالفضل والنبل وتولى قضاء قوص مدة ونظرها أيضاً مدة أخرى وله خطب حسنة ونظم جيد وتصانيف عدة مفيدة وكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي القعدة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
علي بن الحسن بن الفرج بن النعمان بن محبوب أبو الحسن تقي الدين المعري الأصل البعلبكي المولد والدار كان فقيهاً شافعي المذهب حسن العشرة كريم الأخلاق توفي بدمشق ليلة الجمعة رابع عشري ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون رحمه الله وقد ناهز الستين سنة من العمر.
علي بن أبي طالب بن محمد أبو الحسن علاء الدين الحسيني الموسوي كان شيخاً حسن الشكل من المعدلين بدمشق ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة سمع من الكندي وغيره وحدث وكانت وفاته بدمشق في الثامن والعشرين من ذي القعدة رحمه الله تعالى.

محسن بن عبد الله أبو الخير الطواشي الصالحي النجمي سمع الكثير من جماعة من أصحاب أبي طاهر السلفي وغيره وحصل الأصول وحدث وتقدم عند الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وبعد موت الملك الصالح سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم على خدام الضريح النبوي صلوات الله وسلامه على ساكنه ورجع إلى الديار المصرية فتوفي بها في العشرين من شعبان رحمه الله.
محمد بن الحسن بن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بالشمس بن عساكر مولده في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سمع الكثير وحدث وهو من بيت الحفظ والعلم والحديث وجده الحافظ أبو القاسم أحد حفاظ الشام رحمه الله وتوفي في ليلة السابع من صفر هذه السنة رحمه الله.
محمد بن علي بن محمد بن سليم أبو عبد الله فخر الدين الوزير بن الوزير المصري الشافعي سمع بمصر من أبي الحسن علي بن أبي عبد الله البغدادي وغيره وبدمشق من أبي العباس أحمد بن عبد الدائم وغيره وحدث فسمع منه جماعة وكان محباً لأهل الخير والصلاح مؤثراً لهم متفقداً لأحوالهم وعمر رباطاً حسناً بقرافة مصر الكبرى ورتب فيه جماعة من الفقراء وجعل لهم ما يقوم بهم ودرس في مدرسة والده بمصر مدة وكان كثير البر والصدقة وتوفي بمصر في الحادي والعشرين من شعبان ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضوان الله عليه بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو الفضل محي الدين القرشي الأموي العثماني الدمشقي الشافعي الإمام العالم قاضي قضاة الشام ورئيس عصره، ولد بدمشق في ليلة الخامس والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من ابن طبرزد وحنبل وزيد الكندي وعبد الصمد بن الحرستاني وآخرين وحدث بدمشق ومصر وتوفي بمصر في صبيحة الرابع عشر من شهر رجب ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله، وكان له عقيدة في الفقراء والصالحين يتلقى ما يحكى عنهم من الكرامات بالتصديق والقبول وصحب الشيخ محي الدين محمد ابن العربي رحمه الله وله فيه عقيدة تجاوز الوصف، وكان يحكي عنه أنه يفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه مع كون عثمان رضي الله عنه جده فتوهمت أنه اقتدى بالشيخ محي الدين في ذلك فإنه كان يرى هذا على ما حكى عنه.
ثم جرى بيني وبين الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله الحديث في مثل ذلك فذكر ما معناه أن قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن محي الدين المذكور حكى له أن والده أخبره أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام بجامع دمشق وهو مستند إلى عمود من عمد الجامع قال محي الدين فسلمت عليه فأعرض عني فقلت له يا أيمر المؤمنين أنا ابن عمك فقال صدقت ولكنكم ما اتقيتم أو ما هذا معناه فاستيقظ قاضي القضاة محي الدين رحمه الله وتلبس بالمغالاة في حب علي رضوان الله عليه وتفضيله ونظم قصيدة طويلة مدحه بها منها:
أدين بما دان الوصي ولا أرى ... سواه وإن كانت أمية محتدي
ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت ... وساء بني حرب هنالك مشهدي
لكنت أسن البيض عنهم مواضيا ... وأروى أرماحي ولما تقصد
وأجلبها خيلاً ورجلاً عليهم ... وأمنعهم نيل الخلافة باليد
يعقوب بن عبد الرفيع بن زيد بن مالك بن موسى بن عبد الله ابن فضالة بن علي بن عثمان بن محمد بن الحسن بن عيسى بن ثابت بن عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام أبو يوسف القرشي الأسدي الزبيري المصري الصاحب الوزير زين الدين مولده في سنة ست وثمانين وخمسمائة وقيل غير ذلك وتوفي ليلة الأربعاء المسفرة عن رابع عشر ربيع الآخر هذه السنة ثمان وستين وستمائة بالديار المصرية كان إماماً عالماً فاضلاً ممدحاً كبير الرئاسة وزر للملك المظفر قطز رحمه الله ثم وزر للملك الظاهر ركن الدين رحمه الله في أوائل دولته مدة ثم صرفه بالصاحب بهاء الدين رحمه الله ولزم بيته إلى أن أدركته منيته في التاريخ المذكور وله نظم جيد فمنه:

لامني والعذر مشتهر ... عاذل ما عنده خبر
في هوى من حسن صورته ... سجدت طوعاً له الصور
رشا ما قال واصفه ... أنه بالوصف ينحصر
رام غصن البان قامته ... فانثنى من ذاك يعتذر
واستعار الظبي مقلته ... واكتسى من نوره القمر
أسمر أخبار عاشقه ... بين أخبار الورى سمر
وإمام في ملاحته ... واثق بالحسن مقتدر
أمروا قلبي بسلوته ... أنا عاص للذي مروا
لو بقلبي مثله عشقوا ... أو بعيني حسنه نظروا
لرأوا غيي به رشدا ... ولكانوا في الهوى عذروا
السنة التاسعة والستون وستمائةدخلت والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا أبي حفص عمر بن بي إبراهيم يوسف صاحب مراكش فإنه قتل في حرب بينه وبين أبي العلاء إدريس بن أبي عبد الله محمد بن يوسف ملك نبي مرين وانقضت دولة بني عبد المؤمن.
متجدادت الأحوالكان الملك الظاهر بالديار المصرية وتوجه يوم السبت غرة صفر في جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد إلى عسقلان فوصل إليها وهدم سورها ما كان أهمل هدمه في أيام الملك الصالح ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهباً بقدرة ألفي دينار ففرقها على من في صحبته وورد عليه وهو بعسقلان البشير بأن عسكر ابن أخي بركة كسر عسكر أبغا وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول.
وفي أوائل هذه السنة انتهى الجسر الذي عمل على بحر ابن منجا ووقف عليه الملك الظاهر وقفاً يعمر ما دثر منه.
وفي أواخر ربيع الأول اتصل بالملك الظاهر أن الفرنج بعكا ضربوا رقاب جماعة من المسلمين الذين في أسرهم ظاهر عكا صبراً فأخذ من أعيان من عنده من أسراهم نحو مائة نفر فغرقهم في النيل ليلاً.
وفيها بنى جامع المنشية وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة ثامن عشري ربيع الآخر.
وفيها قبض الملك الظاهر على العزيز بن الملك المغيث صاحب الكرك وعلى يعقوب بن نور الدين بدل مقدم الشهرزورية وعلى جمال الدين أغل مقدمهم أيضاً وسببه أنه بلغه وهو على عسقلان أن الشهرزورية عازمون على أن يثبوا على الملك ويسلطنوا ابن المغيث.
وفي أواخر جمادى الأولى وصلت النجابون إلى مصر من عند نجم الدين ابن نمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة بن الحسن الحسيني صاحب مكة وأخبروا أن الخلف وقع بينه وبين عمه إدريس بن علي بن قتادة وكان شريكه في الأمرة فاستظهر إدريس عليه فخرج فاراً من بين يديه وقصد ينبع فاستنجد بصاحبها وجمع وحشد وقصد مكة فالتقيا وتحاربا فطعن أبو نمى إدريس ألقاه من جواده ونزل إليه وحز رأسه واستبد بمكة.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة توجه الملك الظاهر من الديار المصرية لقصد حصن الأكراد وفي صحبته ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين واستخلف بالديار المصرية الأمير شمس الدين الفارقاني وفي الوزارة الصاحب تاج الدين ودخل السلطان دمشق يوم الخميس ثامن رجب ثم خرج منها يوم السبت عاشره وتوجه بطائفة من العسكر إلى جهة وولده والخازندار بطائفة أخرى إلى جهة وتواعدوا الاجتماع في ويوم واحد بمكان معين ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية والمرقب وعرفة ومرقبة والقليعات وحلباً وصافيثا والمجل وأنطرسوس فلما اجتمعوا وشنوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل ثم ساروا ونزلوا على حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب وأخذوا في نصب المجانيق وعمر الستاير ولهذا الحصن ثلاثة أسوار فاشتد عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادي عشرين الشهر وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة يوم الأحد خامس عشره وكان المحاصر لها الملك السعيد والخازندار ويسري ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبلية والفلاحين ثم أطلقهم الملك الظاهر ثم أذعن أهل القلعة بالتسليم وطلبوا الأمان فأمنهم الملك الظاهر وتسلم القلعة يوم الاثنين خامس عشري شعبان وأطلق من كان فيها فرحلوا إلى طرابلس ثم رحل عنه بعد أن رتب الأفرام لعمارته وجعلت كنيسته جامعاً وأقيمت فيه الجمعة ورتب فيه نواب وقاضي.

وأنشئت كتب البشائر بفتوحه فيمن ذلك ما كتب عن الملك السعيد رحمه الله إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله بخط محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر رحمه الله وهو: هذه البشرى إلى المجلس السامي القضائي لا زالت التهاني عنده وثيقة الأواحي حسنة التواخي، عجلة لإرضاء أهل الإيمان فلا يرخى له أعنة التراخي، تعلمه بفتوحات شملت بشائرها، وتعرفت بالنصر إمائرها، واستطعم الإيمان حلاوتها، من أطراف المران، واستنطق الإسلام عبارتها من ألسنة الخرصان، وذلك بفتح حصن الأكراد الذي كان في حلق البلاد الشامية غصة، لم تسغ بمياه السيوف المجردة، وشجا في صدورها لم تقاومه أدوية العزائم المفردة. طالما اكسبت البلاد رعباً، ورهباً وطالما استمر من أخلاف الاسبتار حلباً، وكم صان كفراً في بلاد الإسلام وحماه، وكم ابتنى منها ببكر أساء صحبتها فما خشي معرة ولا خاف حماده، قد سما في السماء فلا أمل إليه يمتد، وعلا في الهواء فلا بصر يلمحه إلا وينقلب خاسيئاً عنه ويرتد، ما كان بأكثر مما قدمنا الاستخارة، وشننا على البلاد الإغارة، وعللنا بالمكاسرة عنه نفسه الأمارة، وأبحنا العساكر من الغنائم كل ما أربح لهم من التجارة، فكم أحضروا من باد وأبادوا من حاضر، وتخولوا ما يعقد على حسابه أصابع اليدين التي تدخل في جملتها عقد الخناصر، ولساعة نزولنا بساحته، ومصافحتنا بالصفاح مبسوط راحته، إذا صافيثا بذلت نفسها في فدائه، وتعلقت بذيول العسكر المنصور بأخذ الحسب من أمرائه، فقبل فداؤها ولكن بشرط فتوحه وتملكه وتكفل نصر الله على من فيه فوجدت أرباضه جميعها من الذعر خاوية على عروشها، صائلة سخالها على وحوشها مرخصة للمساوم، مرخصة في اغتنام الغنائم، فملكت العساكر محمي تلك الأموال، وحمى تلك القلل العوال، وتفيؤوا من هذه ما يصلح الأحوال، وتبؤوا من هذه ما يغدو مقاعد للقتال، وأخذنا عليها من النقوب كل ساري الجراحة في ذلك الجثمان، سارب في ضمائرها كما يسرب الميل بين الأجفان، ونصبنا عليه من المجانيق كل مثبتة في مستنقع الموت رجلها حاطة في الهواء رحلها، جائمة جثوم الهزم هادية هداية العلم، تحلق تحليق الصقور، وتحني الصخور، بالصخور وما زالت بها حتى هدمت منها الأركان، وما برح النقابون حتى سروا في ضمائرها سريان الدم في مفاصل الإنسان، وقصدوا بمباضع إقطاعاتهم عروق تلك الأبدان، واستكنوا بها داء معضلاً لا يجد العدو إليه من فتكاته دواء موصلاً، تنموا بتنقيص المواد أخلاطه، ولا يرجى ببحارين الأمطار المرسلة انحطاطه، حتى تجللت من الحصن المذكور قواه، واحترقت حماة من النيران الموقدة بأحشاء حماه، فحينئذ بلغت روحه التراقي، وعجلت عليه المجانيق المذكورة التي أصابته بعين ما لها من راقي، من كل ذات أعضاء وأعضاد وأعصاب من السرياقات وعروق تتخلل تلك الأجساد وذات زمانة كم لها خطوة في الهواء بعيدة المنال، وأمانة كم ردت إلى الحبال، ما عجزت عن حمله الجبال، لها كف متسمحة، وأعطاف لا تبرح حين تجود مترنحة. ما زالا هذا بعويل معاوله وهذا بأنين سهامه ينعيان الكفر مساء صباحاً ويترنمان بما يظنه المسلم له غناء وتحسبه للكفر عليه نواحاً، حتى تسلمناه في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شعبان المبارك فيأخذ حظه من هذه البشارة الحسنة، ويجعل الأصوات بها على الأدعية الصالحة مؤمنة، والله يمتع الشريعة بمساعيه المستحسنة بمنه وكرمه: كتب في التاريخ أعلاه، ولما حصل الاستيلاء على حصن الأكراد كتب صاحب أنطرطوس إلى الملك الظاهر وهي للداوية يطلب منه المهادنة وبعث إليه مفاتيحها فصالحه على نصف ما يتحصل من غلال بلاده وجعل عندهم نائباً له ووصل رسل الاستبار من المرقب فصالحهم مناصفة أيضاً وذلك يوم الاثنين مستهل شهر رمضان وقررت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ولما رحل نزل مرج صافيثا ثم سار يوم الأحد رابع عشر رمضان فأشرف على حصن بن عكار ثم عاد إلى المرج فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور يوم الاثنين الثاني والعشرين من الشهر ونصب المجانيق عليه يوم الثلاثاء ثالث عشريه ووصل الصاحب بهاء الدين من دمشق يوم الأربعاء رابع عشريه، وفي يوم الأحد ثامن عشريه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقي رمياً كثير فخسف خسفاً كبيراً إلى جانب البدنة ودامت عليها حجارة المنجنيق إلى الليل فطلبوا

الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم وخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وبعث صحبتهم الأمير بدر الدين يسري فأوصلهم إلى طرابلس.مان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم وخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وبعث صحبتهم الأمير بدر الدين يسري فأوصلهم إلى طرابلس.
وأنشئت كتب البشائر بأخذه فمن ذلك مكاتبة عن الملك السعيد إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان بخط فتح الدين محمد بن عبد الظاهر ومضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البركات مخيمة بفنائه، والتوفيق منوطاً بجميع آرائه، وقلوب الناس متفقة على محبته وولائه، ولا زالت البشائر إليه تتهادى، وترد على محله مثنى وفرادى، تنضم ما من الله به علينا وعلى المسلمين من المواهب العظيمة الموقع الجليلة المطلع، وهو أنه لما كان بتاريخ يوم الاثنين تاسع وعشرين من شهر رمضان المعظم سنة تسع وستين وستمائة تسلمنا حصن عكار بعد أن رتبنا عليه المجانيق من كل جانب، وأذقنا من فيه العذاب الواصب، ولم يزل الجاليش بسهامه يرشقهم والمجانيق تجدخهم والمنايا تتخطفهم، فعند ما شاهدوا مصارع بعضهم نزلوا من الحصن المذكور خاضعين، وعفروا جماجمهم بالذل متضرعين، فعند ما شاهدناهم على هذه الصورة رحمناهم لي مناهم على أنفسهم خاصة وتسلمنا الحصن المذكور بحواصله وجميع ما فيه وانتظم في سلك ممالكنا، ودخل في جملة حصوننا وقلاعنا، فليأخذ المجلس بخطه من البشري بأوفر نصيب، ويذيعها بين القضاء والعلماء والفضلاء بين كل بعيد وقريب، فإنها من النعم التي يجب على كل مسلم شكرها، ويتعين بثها بين الأنام وذكرها، فيحيط علمه الكريم بذل والله يؤيده ويعضده ويحرسه في سائر التصرفات والمسالك إن شاء الله تعالى: كتب في التاريخ المذكور أعلاه.
ثم دخل الملك الظاهر الحصن ورتب به نواباً وأمر بحمل بعض المجانيق إلى حصن الأكراد فحملها الأجناد وعيد ورحل إلى مرج صافيثا وكان هذا الحصن كثير الضر على المسلمين ولم يكن له كبير ذكر وإنما لما دخل ريدا فرنس إلى الساحل بعد فكاكه من الأسر رآه حصيناً صغيراً فأشار على صاحبه الأبرنس أن يزيد فيه وهو يساعده فزاد فيه زيادة كبيرة من ناحية الجنوب وهو في واد بين جبال تحيط به من سائر جهاته.
وفي يوم السبت رابع شوال خيم الملك الظاهر بعساكره على طرابلس فسير صاحبها إليه يسأل عن سبب قصده فقال لأرعى زرعكم وأخرب بلادكم وأعود في السنة الآتية لحصاركم فبعث إليه يتسعطفه فبعث إليه الملك الظاهر الأتابك وسيف الدين الرومي بمقترحات وهي أن يكون له من مكان عينه من أعمال طرابلس نصفاً بالسوية وأن يكون له دار وكالة فيها وأن يعطي جبلة واللاذقية بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه وأن يعطي نفقات العساكر من يوم خروجه فلما علم الرسالة عزم على القتال ونصب المجانيق ثم ترددت الرسائل وتقررت القاعدة أن تكون عرقة والجبيل وأعمالهما للبرنس وأن يكون ساحل أنطرسوس والمرقب وبليناس وبلاد هذه النواحي بينه وبين الدواية والاسبتار والتي كانت خاصاً لهم وهي بارين وحمص القديمة تعود خاصاً للملك الظاهر وشرط أن يكون عرقة وأعمالها وهي ست وخمسون قرية صدقة من الملك الظاهر عليه فتوقف وأنف فلما بلغ لملك الظاهر امتناعه صمم على ما شرط عليه فأجاب وعقد الصلح بينهما مدة عشرة سنين وعشرة اشهر وعشرة أيام أوله يوم الأربعاء ثامن شوال.
ولما كان الملك الظاهر نازلاً على طرابلس بعث إليه أولاد الصارم مبارك بن الرضى ابن المعالي يستعطفونه عليهم وعلى أبيهم فاتفق الحال على أن ينزلوا من العليقة ويسلموها لنوابه ويخرج والدهم من الحبس ويقطع بمصر خبز مائة فارس ويكونوا عنده فلما نزلوا خلع عليهم وبعث بهم إلى مصر فحبسوا وولى الحصن علم الدين سلطان ثم طلب صارم الدين مبارك في محبسه بعد أيام من وصولهم فلم يعلم له خبر فأمر الملك الظاهر بحبس علم الدين المسروري وإلى القاهرة بسببه ثم شفع فيه فأطلق.

وفي يوم الأحد ثاني عشر شوال وصل إلى دمشق سيل عظيم خرب كثيراً من العمائر وأخذ كثيراً من الناس منهم معظم الحجاج الروميين وجمالهم وأزوادهم فإنهم كانوا نزلوا بين النهرين وبلغ السور فغلقت الأبواب دونه وطما حتى دخل من المرامي وارتفع حتى بلغ أحد عشر ذراعاً وردم الأنهار بطين أصفر ودخل البلد من باب الفراديس وأخرب خان ابن المقدم وأماكن كثيرة وكان ذلك في زمن الصيف فكأن عز الدين أحمد بن معقل رحمه الله أشار إليه بأبياته في سيل مثله وهي:
لله أي حياً حنت روائمه ... وهمهمت أسده والشمس في الأسد
فصب في أغرب الأوقات صيبه ... غروب محتشك الأخلاق محتشد
وراحت الأرض بحراً فالوهاد إذا ... تعلو الهضاب بمد دائم المدد
وأقبل السيل بالأمواج مرتمياً ... مثل القروم إذا تهتاج بالزبد
فاعجب له من سحاب جاء يسحب من ... أذياله فوق نار الصحصح الجرد
يمده كل واد مزبد لجب ... فيه حطام من الينبوت والحضد
أرخى عزاليه ملأن محتفلاً ... فطال شم الربى في أقصر المدد
وحين أهدي إلينا الصخر يقذفها ... من السناخيب هدى الضر للبلد
فيا لها قدرة من قادر عجزت ... فيها البرية عن حصر وعن عدد
وفي يوم السبت حادي عشر شوال رحل الملك الظهر عن مرج صافيثا وأذن لصاحب حماة ولصاحب صهيون ولرسل أولاد الصارم مبارك في العود إلى أماكنهم ودخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال وعزل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن قضاء دمشق وكان قد وليها عشر سنين محررة وولي القاضي عز الدين محمد ابن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ وخلع عليه وكان تقليده قد كتب ظاهر طرابلس.
وفي يوم الجمعة خامس عشري شوال خرج الملك الظاهر من دمشق قاصداً القرين فنزل عليه يوم الاثنين ثامن عشري الشهر ونصب عليه المجانيق ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مقاتلة من اللمان فقاتلوا قتالاً شديداً وأخذت النقوب الحصن من كل جانب فطلب من فيه الأمان فأمنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة وبعث بهم على الجمال مأمنهم مع بيسري وتسلم الحصن بما فيه من السلاح ثم هدمه وكان بناؤه من الحجر الصلد وبين كل حجرين عمود حديد ملزوم بالرصاص فأقاموا في هدمه اثني عشر يوماً في حصاره خمسة عشر يوماً.
وفي يوم الاثنين سادس عشري الشهر نزل الملك الظاهر علي كردانة قرية قريبة من عكا ولبس العسكر وسار إلى عكا وأشرف عليها ثم عاد إلى منزله ثم رحل منها يوم الثلاثاء قاصداً مصر فدخلها يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة وجملة ما صرفه الملك الظاهر في هذه السفرة من حين خروجه إلى عوده ينيف عن ثمانمائة ألف دينار عيناً.
وفي اليوم الثاني من وصوله إلى قلعة الجبل قبض على جماعة من الأمراء منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والأمير جمال الدين آقوش المحمدي والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجبي الناصري والأمير شمس الدين سنقر المساح والأمير سيف الدين بيدغان الركني والأمير علم الدين سنجر طرطج وغيرهم وحبسوا بقلعة الجبل وسبب ذلك أنه بلغه أنهم تآمروا على قبضه لما كان بالشقيف فأسرها في نفسه.
وفيها بلغ الملك الظاهر وهو على حصن الأكراد أن صاحب قبرس خرج منها في مراكبه إلى عكا فأراد الملك الظاهر اغتنام خلوها فجهز سبعة عشر شينياً فيها الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور بن سليمان بن سلامة بن إسحاق رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام الهواري رئيس الإسكندرية وشرف الدولة علوي بن أبي المجد علوي العسقلاني رئيس دمياط وجمال الدين مكي بن حسون مقدماً على الجميع فوصلوا الجزيرة ليلاً فهاجت عليهم ريح طردتهم عن المرسي وألقت بعض الشواني على بعض فتحطم منها أحد عشر شينيا وأخذ من فيها من الرجال والصناع أسراء وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفر وسلم الرئيس ناصر الدين وابن حسون في الشواني السالمة وعادت إلى مراكزها.

وفي ويوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة تقدم الملك الظاهر باراقة الخمور في سائر بلاده والوعيد لمن يعصرها بالقتل فاريق على الأجناد والعوام منها ما لا يحصى قيمة ومكان ضمان ذلك في ديار مصر خاصة ألف دينار في كل يوم وكتب بذلك توقيع قرئ على منبري مصر والقاهرة.
وفي الآخر من ذي الحجة اهتم الملك الظاهر بإنشاء شواني عوضاً عما ذهب على قبرس وفيها نزل الفرنج على تونس وسبب ذلك أن تجاراً منهم قصدوها فألزموا على تجارتهم حقوقاً فضربوا دراهم مغشوشة على سكة صاحب تونس وأخرجوها في الحقوق الموجبة عليهم وظن العمال أن الأمير تقدم بضربها فأخذوها ثم فحصوها فوجدوها ضرب خارج الدار فسأل عن أكثر الفرنج مالاً فقيل له أهل جنوة فأمر باستيصال أموالهم في سائر بلاده وحبسهم فاستصرخ أهل جنوة بريدا فرنس وأمدوه بالأموال فجمع وحشد وقصد تونس في أربعمائة ألف رجل منها ستة وعشرون ألف فارس ومعه من الملوك صاحب نابرة وابن الفنش وزوجة صاحب صقلية وعدة مراكبهم أربعمائة مركب فأمر صاحب تونس إلى أن يخلي لهم الساحل ولا يقاتلهم أحد فنزلوا في البر في ثامن عشر ذي الحجة سنة ثمان وبعث صاحب تونس إلى قبائل العرب الذين في بلاده وجمع مشايخهم وكبراء دولته من الأجناد والكتاب ليشاورهم فكل أشار برأي ورأت الجماعة الأندلسيون أن يفسح لهم في البر فإن المكان الذي نزلوا به لا يتسع لقتال فنزلت زوجة صاحب صقلية في البرج الذي على طرف المرسي وأخرج صاحب تونس العدد وفرقها في الجند والمطوعة فحملوا من غير أمره وكان معهم جماعة من الفرنج في طاعتهم فأشاروا على من معها أن تنزل من البرج إلى البحر ويلحقوها بالمراكب لئلا تؤخذ ففعلوا ففهم الأندلسيون كلامهم فلما فاتهم مقصودهم منها عادوا إلى البلد وحكموا في نسائهم وأولادهم السيف ونهبوا أموالهم وأمر صاحب تونس الرعية بعدم القتال فأشتد طمع الفرنج وقصدوا المعلقة وقتلوا من أهلها سبعين رجلاً وأخذوا منبرها وبعثوا به إلى بلادهم.
وذلك في ثاني عشر ذي الحجة سنة ثمان ثم بعثوا إلى صاحب تونس يطلبونه لمبارزتهم فقال ليس فيكم ملك متوج حتى أخرج إليه وإنما الذين معكم كنود فأنا أبعث إليهم أكفاءهم ثم أنفق في العربان وأمرهم بالاحتياط بهم فخافت الفرنج وخندقوا على أنفسهم جميع شهر ذي الحجة فلما هل المحرم سنة تسع ومضت منه أيام خرج الفرنج وقاتلوا قتالاً شديداً ولم يكن في المسلمين من الجند أحد إنما هم عربان وبربر وعوام فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوا لهم فوق المائتي فرس وقتلوا ابن ريدافرنس وصاحب نابرة وابن صاحب قشتالة ابن الفنش.
وعلم ذلك المسلمون في العشرين من ربيع الأول وأخبروا أيضاً أن ريدا فرنس مات في الليلة التي خرجوا في صبيحتها ولم يبق عند الفرنج ملك غير أخيه شرون وطلب الفرنج الصلح فتوقف صحب تونس فقيل له المصلحة الصلح فإن العرب لهم باطن مع الفرنج ولهم عليهم في كل يوم أربعون ألف دينار حتى لا يقاتلونهم فأجاب في ذلك فتمنع الفرنج حينئذ وقالوا كيف نصالح وقد حلفنا أن نموت بعضاً على بعض إلى أن ترد أموال الجنويين عليهم وقال شرون لصاحب تونس تعطيني الذي كان أبوك يعطيه لإنبرطور من حين قطعه وذلك عشرون سنة فقال إن كنت قوياً فاجلس ومني ومنك وإن كنت ضعيفاً مهزوماً فلا تشترط فوقع الصلح على رد مال الجنويين واتفقوا في رابع وعشرين ربيع الآخر ورحلوا بعد ذلك بسبعة عشر يوماً.
ذكر دخول آجاي بن هولاكو وصمغرا

صحبته إلى بلاد الروم
قد تقدم القول برجوع أبغا إلى أذربيجان بعد كسر برق ووصل إلى ظاهر توريز ثم رحل إلى مدينة رومى وضرب مشورة بسبب صاحب مصر وغيره فاتفقوا أنهم يسيروا آجاي بن هولاكو في ثلاثة آلاف فارس وقال له تأخذ في طريقك عول بألف فارس وابن نايجونوين بألف فارس ودرباي بألف فارس وجمغل بألف فارس ونابجي بثلاثة آلاف فارس وعسكر الروم والبرواناة فوصلوا إلى الروم واجتمعوا وسيأتي ذكر ذلك في حوادث سنة سبعين إن شاء الله تعالى.
فصل

وفيها توفي إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن البارزي أبو إسحاق شمس الدين الحموي الفقيه الشافعي فقيه فاضل دين ورع وله شعر جيد قرأ على ابن اليمن زيد بن الحسن الكندي وولي التدريس بمعرة النعمان وصحب أبا منصور بن عساكر وأعاد عنده وولي التدريس بدمشق بالمدرسة الرواحية ثم ولي التدريس بحماة ثم ولي القضاء بها فوفق في قضاياه وسلك الطريق المرضي وكانت ولايته في سنة اثنين وخمسين وستمائة ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعال بحماة في شعبان ومولده سنة ثمانين وخمسمائة ومن شعره في وصف دمشق:
دمشق لها منظر رائق ... فكل إلى وصلها تائق
وأني يقاس بها بلدة ... أبى الله والجامع الفارق
أحمد بن مقدام بن أحمد بن شكر أبو السعادات كمال الدين ابن القاضي الأعز أبي الفوارس ابن أبي السعادات كان أحد الكبراء المشهورين بالديار المصرية متأهل للوزارة وغيرها معروف بالمناصب الجليلة وله الرأي الصائب والعقل الثاقب والتقدم في الدول وله يد في النظم ومعرفة بالأدب ومشاركة في غيره توفي بالقاهرة في السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
حسن بن أبي عبد الله بن صدقة بن أبي الفتوح أبو محمد الأزدي الصقلي المقرئ الشيخ الصلاح العابد الزاهد الورع كان من السادات في تعبده وزهده وإعراضه عن الدنيا وأهلها وتقلله منها مع قدرته على السعي في المناصب وغيرها وكان مثابراً على قضاء حوائج الناس يسعى فيها بنفسه وله الحرمة الوافرة والمهابة في الصدور والكلمة المسموعة والقبول التام من الخاص والعام وكانت وفاته بدمشق في ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر ودفن من الغد بسفح جبل قاسيون وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى ورضي عنه.
الحسين بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الوليد بن القاسم ابن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أبو عبد الله زكي الدين القرشي الأموي العثماني الشافعي مولده سنة اثنتين وأربعين وستمائة وتوفي في رابع صفر هذه السنة بدمشق ودفن في تربتهم بسفح قاسيون رحمه الله وكان من الفضلاء النبلاء اشتغل بالفقه والأصول والخلاف والعربية وأفتى ودرس وكان له مشاركة في الأدب وهو من بيت الرئاسة والفضيلة ومن شعره من جملة أبيات:
حيا وأقبل يمشي مشية الثمل ... يستن في حسن برد ناعم خضل
في كفه طاسة يهدي لمغرمه ... رشاً ألذ وأحلى من جنى العسل
فقلت هيهات لا خوف ولا جزع ... أنا الغريق فما خوفي من البلل
سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين الصيرفي كان من أعيان الأمراء بالديار المصرية وأكابرهم وممن يخشى جانبه ويخاف فلما تملك الملك الظاهر واستقر قدمه أخرجه إلى الشام ليأمن غائلته وأقطعه خبزاً منه عدة قرى في بلد بعلبك فطلع إلى بعلبك وتمرض وأدركته منيته بها فتوفي ليلة الأربعاء سادس صفر رحمه الله وهو في عشر الستين.
سنجر بن عبد الله المستنصري الأمير قطب الدين البغدادي المعروف بالباغز كان من مماليك الإمام المستنصر بالله رحمه الله ولما ملك التتر بغداد في سنة ست وخمسين على ما تقدم شرحه هرب جماعة كان قطب الدين المذكور منهم ووصل إلى الشام وكان محترماً في الدولة الظاهرية وعنده معرفة ونباهة وحسن عشرة ويحاضر الأشعار والحكايات وتوفي في العشر الأول من صفر رحمه الله وهو في عشر الستين.
عباس بن محمد بن أيوب بن شاذى أبو الفضل الملك الأمجد تقي الدين الملك العادل الكبير كان محترماً عند الملوك من أهل بيته وعند الملك الظاهر لا يترفع عليه أحد في المجلس ولا في الموكب وهو آخر من مات من أولاد الملك العادل لصلبه وهو كبير البيت الأيوبي غير مدافع وكان دمث الأخلاق حسن العشرة لا تمل مجالسته وكانت وفاته يوم الجمعة ثاني وعشرين جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين أبو محمد قطب الدين الشيخ العارف المرسي الزقوطى كان أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم وبعدد المعارف وله تصانيف عدة ومكانة مكينة عند جماعة من الناس وأقام بمكة سنين عديدة إلى أن توفي بها في الثامن والعشرين من شوال هذه السنة ومولده سنة أربع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى والزقوطي نسبة إلى حصن من عمل مرسية يقال له زقوطة.
عبد الله بن أحمد بن عبد الواحد بن الحسين بن أبي المضاء أبو بكر شمس الدين كان من أعيان أهل بعلبك وصدورها وولي فيها الحسبة مدة زمانية وولي غيرها من المناصب وأصابه خلط يعتريه في بعض الأيام يشبه الصرع وكان له ثروة ووجاهة وحج في سنة سبع وتسعين وخمسمائة وتوفي بمنزله ببعلبك عشية نهار الخميس سادس عشر جمادى الآخرة ودفن من الغد ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك وهو في عشر التسعين رحمه الله.
عبد الواحد بن عبد المؤمن بن سيد بن علوان البعلبكي كان من العدول الأمناء وتوفي في ليلة الثلاثاء عاشر ربيع الأول وهو في عشر الستين رحمه الله.
عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله أبو المكارم السعدي التميمي المصري العدل المعروف بزين القضاة بن الحباب سمع وحدث وهو من بيت الرياسة والنبل والعدالة والفضل وبيته من البيوت المشهورة بالديار المصرية من حين استوطنوها وهم من ذرية زيادة الله بن الأغلب آخر ملوك إفريقية الذين انتقل عنهم الملك إلى الخلفاء الفاطميين وكانت وفاة زين القضاة في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله ومولده في غرة المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر.
عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى أبو حفص شرف الدين السبكي الفقيه المالكي مولده في عشر ذي الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة تفقه وسمع وحدث وأفتى وتولى الحسبة بالقاهرة مدة ثم تولى الحكم بالديار المصرية حين جعلت القضاة بها من المذاهب الأربعة ودرس بالمدرسة الصالحية بالطائفة المالكية وكان أحد المشايخ المشهورين بالعلم والدين والفضل والخير وتوفي بالقاهرة ليلة الخامس والعشرين من ذي القعدة ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى والسبكي نسبة إلى سبك من أعمال الديار المصرية.
عمر بن علي بن أبي بكر بن محمد بن بركة بن محمد أبو الرضا رضي الدين الحنفي المعروف بابن الموصلي مولده بميافارقين سنة أربع عشرة وستمائة تفقه ودرس وأفتى وحدث وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل والرياسة والديانة والنبل وله نظم حسن وخط جيد وكانت وفاته في ثاني عشر شهر رمضان المعظم بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
عيسى بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كامل أبو محمد الكردي الهكاري الأمير شرف الدين سمع بالقدس من الخطيب أبي الحسن على بن جميل المعافري وأجاز له أبو حفص عمر بن محمد ابن طبرزد وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندي وحدث ومولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالقدس الشريف وكان أحد الأمراء الكبار مشهوراً بالشجاعة معروفاً بالإقدام وله وقائع معروفة مع العدو المخذول بأرض الساحل وغيرها ومواقف مشهورة في المصافات وولي الأعمال الجليلة وتقدم على العساكر في الحروب وكان ممن جمع بين الدين والشجاعة والكرم والمروءة وحاز الأوصاف الجميلة ما فاق به على كثير من أبناء جنسه وتوفي بدمشق في الثامن والعشرين من ربيع الآخر ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
محمد بن أسعد بن عبد الرحمن بن كنفي بن عبد الرحمن أبو عبد الله الهمذاني الشيخ الصالح الزاهد العابد كان من الأولياء الأفراد أقام بمشهد ابن عروة بجامع دمشق داخل باب البريد مدة سنين منعكفاً على العبادة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بكرة نهار الأربعاء سادس صفر بدمشق ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.

محمد بن إسماعيل بن عثمان بن المظفر بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بالمجد ابن عساكر سمع من الخشوعي والقسم بن علي الدمشقي وأبي المعالي محمد بن علي القرشي وابن طبرزد وحنبل والكندي وغيرهم وحدث ومولد مقارب سنة سبع وثمانين وخمسمائة وتوفي بدمشق في الثامن من ذي القعدة ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
محمد بن تمام بن يحيى بن عباس بن يحيى بن أبي الفتوح بن تميم أبو بكر فخر الدين الحميري الدمشقي كان من صدور دمشق وأعيانها وعدولها ومولده في خامس ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة سمع من الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة وغيره وحدث بدمشق والقاهرة وتوفي بدمشق في رابع رجب ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن خطلبا بن عبد الله أبو عبد الله ناصر الدين الأمير بن الأمير صارم الدين التبنيني كان أميراً جليلاً كبير المقدار عالي الهمة واسع الصدر خبيراً بالتصرفات تنقلت به الأحوال وأحكمته التجارب وولي الولايات الجليلة وكان نزهاً عن أموال السلطان وأموال الرعية لا يدنس بذلك هو ولا أحد من حاشيته وكان صارماً ضابطاً لما يتولاه يكف القوى عن الضعيف وله الحرمة الوافرة عند الملوك ووصله من الأموال في عمره ما لا يحصى كثرة وأنفقها جميعها وقل ما بيده في آخر عمره وتوفي إلى رحمة الله تعالى مجرداً في حصن الأكراد بظاهره في شهر ذي الحجة ودفن ظاهر الحصن المذكور وقد نيف على السبعين وكان له إلمام بالأدب والفضيلة ومعرفة تامة بالجوارح ومعالجتها وصنف في ذلك وفي البيطرة ما يحتاج إليه وينتفع به رحمه الله.
محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن أحمد بن حواري أبو المكارم تاج الدين التنوخي المعري الأصل الحنفي المذهب الدمشقي المولد والدار والوفاة المعروف بابن شقير مولده في سنة ست وستمائة سمع وحدث بدمشق والقاهرة وكان أديباً فاضلاً وعنده رئاسة ومكارم أخلاق ودماثة وحسن محاضرة وهو من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد وله فيه مدائح جمة وكان الملك الناصر يحبه ويقدمه على غيره من الشعراء الذين في خدمته وتوفي تاج الدين المذكور يوم الثلاثاء تاسع عشر صفر في منزله بسفح قاسيون ودفن في دهليز مغارة الجوع بقاسيون رحمه الله تعالى ومن شعره:
لاح وهناً بالأبرقين بروق ... فاعترى قلبي المشوق خفوق
طرق الدمع طرفه وله منه صبوح لا ينقضي وغبوق
أنحلته مرضى الجفون فما أن ... يهتدي نحوه الخيال الطروق
ريقه رائق السلافة والثغر حباب وخده الراووق
حل صدغيه ثم قال أفرقٌ ... بين هذين قلت فرق دقيق
فأتى بالنطاق ينطق بالفر ... ق ولولاه أشكل التفريق
وله:
أسكرتني عيناك يا ابن خمار ... سكرة ما لخمرها من خمار
ما رأينا من قبل شعرك ليلاً ... أشرقت في دجاه شمس النهار
اطلع الحسن من ثناياك طلعاً ... في عقيق يسقي بصافي العقار
ناله في جماله من مصون ... في هواه تهتكت أستاري
محمد بن حيدر بن..... كان رجلاً عابداً يقوم معظم الليل ويكثر من الصلاة والتسبيح ويؤذن احتساباً وكانت والدته زوجة شيخنا الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه وتوفي ببعلبك في ثاني جمادى الأولى وقد نيف على سبعين سنة ودفن بالقرب من رأس العين ظاهر بعلبك رحمه الله.
مرشد بن عبد الله شجاع الدين المظفري الخادم الأمير الكبير عتيق الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور صاحب حماة كان من الأبطال الشجعان وله في الحروب مواقف مشهورة وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يحبه ويعتمد عليه لكفايته وشجاعته وكان الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة رحمه الله ابن أستاذه هو مخدومه لا يخالفه فيما يشير به يتصرف في مملكته كتصرفه وكان عنده إيثار وبر بالفقراء كثير الصدقة وتوفي إلى رحمة الله تعالى بحماة ودفن في تربته بقرب المدرسة التي أنشاها وهو في عشر السبعين.
السنة السبعون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة والملك الظاهر بقلعة الجبل بالقاهرة.
متجددات هذه السنة

في يوم الأحد رابع عشر المحرم ركب الملك الظاهر إلى الصناعة لإلقاء الشواني في البحر وركب في شينى منها ومعه الأمير بدر الدين الخازندار فلما صار الشيني في الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر فنهض بعض رجال الشينى ورمى نفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلصه وقد كاد فخلع عليه وأحسن إليه.
وفي ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر إلى الشام في نفر يسير من خواصه وأمرائه ودخل حصن الكرك ثم خرج منه وقد أخذ معه الأمير عز الدين أيدمر النائب كان فيه وسار إلى دمشق فوصلها يوم الجمعة ثاني عشر صفر فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي وولى مكانه الأمير عز الدين أيدمر ثم خرج منها إلى حماة في السادس عشر منه ثم عاد عنها في السادس والعشرين منه.
ذكر توجه الملك الظاهر إلى حلبوسببه أن صمغرا ومعين الدين سليمان البرواناة وعساكر المغل والروم لما عادوا من عند أبغا في السنة الخالية وردت عليهم أوامر أبغا بقصد الشام في هذه السنة فحشد وخرج صمغرا والبرواناة بعسكر عدته عشرة آلاف فارس فوصلوا إلى البلستين ثم إلى مرعش وبلغهم أن الملك الظاهر بدمشق فبعثوا ألفاً وخمسمائة فارساً من المغل ليتجسسوا الأخبار ويغيروا على أطراف بلاد حلب وكان مقدمهم إقبال بن بايجونوين فوصلت غارتهم إلى عين تاب ثم إلى قسطون ووقعوا على جماعة تركمان نازلين بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فتقدم الملك الظاهر بتجفيل البلاد وأهل دمشق ليحمل التتر الطمع فيدخلوا فيتمكن منه وبعث إلى مصر فخرجت العساكر ومقدمها الأمير بدر الدين بيسرى فوصلوا إليه في خامس ربيع الآخر وخرج بهم في السابع منه فسبق إلى التتر خبره فولوا على أعقابهم ولما مر الملك الظاهر بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحبها وكذلك الأمير نور الدين بن مجلي بمن عنده من عسكر حلب وسار حتى نزل حلب يوم الاثنين ثامن عشر الشهر المذكور فخيم بالميدان الأخضر ثم جهز الأمير شمس الدين الفارقاني في عسكر وأمره أن يدوخ بلاد حلب الشمالية ولا يتعرض لبلاد صاحب سيس وجهز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر وأمره بالتوجه إلى حران فأما شمس الدين فإنه سار خلف التتر إلى مرعش فلم يجد منهم أحداً ثم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيماً بها وقد أمر بإنشاء دار شمالي القلعة كانت تعرف بالأمير سيف الدين بكتوت أستاذ درا الملك الناصر وأضاف إليها داراً تعرف بالملك الرشيد شرف الدين هارون ابن الملك المفضل موسى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ووكل بعمارتها الأمير عز الدين الأفرم.
ولما عاد الفارقاني إلى حلب رحل الملك الظاهر منها قاصداً الديار المصرية في ثامن وعشرين ربيع الآخر ودخل مصر في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، ولما كان بحلب خرجت طائفة من الفرنج من عثليث وأغارت على قافون وأخذت التركمان على غفلة منهم فلحقهم الأمير جمال الدين أقوش الشمسي ببعض العسكر واسترد بعض الغنيمة ثم أغاروا ثانية على القرين فلحقهم واقتلع منهم عشرين فارساً وعند وصول الملك الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجردين على قافون غير الشمسي فشفع فيهم فأطلقهم.
وأما الأمير علاء الدين طيبرس فإنه سار ومعه عيسى بن مهنا في جماعة من العرب فخاض الفرات وسار إلى حران فخرج إليه من بها من نواب التتر فالتقاهم عيسى وطاردهم وطاردوه فخرج عليهم العسكر فلما رأوه نزلوا عن خيولهم وقبلوا الأرض وألقوا سلاحهم فقبضوا عن آخرهم وكانوا ستين رجلاً وسار الأمير علاء الدين إلى حران فأغلقوا أبوابها وتركوا باباً واحداً فخرج منه الشيخ محاسن بن القوال أحد أصحاب الشيخ حياة ومعه جماعة كثيرة وذلك يوم الثلاثاء سادس عشري ربيع الآخر وأخرج له طعاماً تبركا فتلقاه الأمير علاء الدين وترجل له فأخرج له مفاتيح حران وقال له البلد للسلطان ثم عاد علاء الدين ولم يدخل حران فعبر الفرات سباحة وعاد إلى مصر.

وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عبر الملك الظاهر إلى بر الجيزة فأخبر أن ببوصير السدر مغارة بها مطلب فجمع لها خلقاً فخفروا أمداً بعيداً فوجدوا قطاطاً ميتة وكلاب صيد وطيوراً وغير ذلك من الحيوان ملفوفاً في عصائب وخرق فإذا حلت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء وأقام الناس ينقلون ذلك مدة ولم ينفد ما فيها فأمر الملك الظاهر بتركها وعاد من الجيزة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين منه.
وفي يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة ركب الملك الظاهر إلى الصناعة ليرى الشواني التي عملت وهي أربعون شينياً فسر بها.
وفي الشهر المذكور ولدت زرافة بقلعة الجبل وهذا أمر لم يعهد وأرضع ولدها لبن بقرة.
وفي ثالث شهر رجب أمر الملك الظاهر جماعة منهم الأمير شرف الدين مختص وبهاء الدين أيوب أمير آخور وركن الدين منكورس الزاهدي وأسد الدين قراصقل وأسد الدين منكورس الحموي وناصر الدين نصر اللالا وتوجه الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي إلى الساحل في جماعة من الأمراء والأجناد يوم الاثنين سادس شهر رجب.
وفي يوم الجمعة ثاني شعبان أمر الملك الظاهر بالحوطة على بيت الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد المقدسي الحنبلي وحمل ما فيه من الودائع فحملت إلى قلعة الجبل وسبب ذلك أنه وقع بينه وبين التقي شبيب الحراني الكحال شنآن كان أصله أن المذكور كان له أخ ينوب عن الشيخ قاضي القضاة في المحلة فعزله لأمر أوجب عزله فحمل شبيب المذكور تعصبه لأخيه أن كتب رقعة إلى الملك الظاهر ذكر فيها أن عند الشيخ شمس الدين ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام وذكر جملة كبيرة قد مات بعض أهلها واستولى عليها فلما وصلت إليه استدعي الشيخ شمس الدين وسأله فأنكر فحلفه فتأول وحلف فأمر بهجم بيته فوجد فيه كثيراً مما ادعاه شبيب بعضه قد مات أهله ولهم وراث وبعضه أهله أحياء والغبار عليه عاكف لم تمسه يد فأخذ من ذلك زكاته عدة سنين وسلم لأصحابه وحنق الملك الظاهر على الشيخ وحبسه فتسلط عليه شبيب حينئذ وادعى أنه حشوي وأنه يقدح في الدولة وكتب بذلك محضراً فعقد له مجلس يوم الاثنين حادي عشر شعبان بعد سفر الملك الظاهر إلى الشام وكان المجلس بحضرة الأمير بدر الدين الخازندار فاستدعي بالشهود الذين شهدوا في المحضر فنكل بعضهم عن الشهادة فأطلقوا وشهد الباقون فأخرق بهم وحرصوا وتبين للأمير بدر الدين تحامل شبيب فأمر بحبسه والحوطة على موجوده وأعيد الشيخ شمس الدين إلى الحبس فأقام به إلى أن أفرج عنه في نصف شعبان سنة اثنتين وسبعين.
وفي الثالث من شعبان توجه الملك الظاهر في جماعة من الأمراء والخواص إلى الشام وخيم بني قيسارية وأرسوف وكان مركزاً بها الأمير شمس الدين الفارقاني فرحل عنها إلى مصر ودخلها يوم الاثنين تاسع عشر شعبان وتلقاه الملك السعيد والأمير بدر الدين الخازاندار ثم إن الملك الظاهر شن الغارات على بلد عكا فخرجت إليه الرسل يطلبون منه الموادعة والصلح وترددوا في ذلك حتى تقررت الهدنة مدة عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها ثاني عشري شهر رمضان ثم رحل بالعساكر التي بالساحل ونزل بهم خربة اللصوص ثم سار إلى دمشق فدخلها في الثامن من شوال.
وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان وصل جماعة كثيرة من التتر إلى حران فأخربوا سورها وكثيراً من أسواقها ودورها ونقضوا جامعها وأخذوا أخشاب سقوفه واستصحبوا معهم من فيها فخربت ودثرت.
ذكر وصول رسل التتر إلى الملك الظاهر

كان قد وصل رسل صمغرا نوين المقيم بالروم في السابع من شوال وهم مجد الدين دولات خان وسعد الدين سعيد الترجمان من جهة صمغرا ومن جهة معين الدين سليمان بن مهذب الدين بن محمد نائب السلطنة ببلاد الروم فأحضرهم وسألهم عما جاؤا فيه فقالوا صمغرا نوين يسلم عليك ويقول لك مذ جاورته في البلاد لم يصله من جهتك رسول في أمر تختاره وقد رأى من المصلحة أن تبعث إلى أبغا رسولاً بما تحب حتى يساعدك على بلوغ غرضك وتتوسط عنده فأكرم الملك الظاهر الرسل وركبهم معه في الميدان مراراً ثم عين الأمير فخر الدين إياز المقري والأمير مبارز الدين الطوري رسولين إلى أبغا وبعث معهما جوشنا له ولصمغرا قوساً فسارا مع رسل صمغرا فلما وصلا قونية حضرا جامعها يوم الجمعة فسمعا الرعية يبتهلون بالدعاء للملك الظاهر فأديا الرسالة إلى صمغرا ومضمونها شكره.
ثم أخذهما البرواناة وسار بهما إلى أبغا فلما اجتمعا به قال لهما ما الذي جئتما فيه فقالا إن صمغرا بعث إلى السلطان وأخبره أنك أحببت أن يأتي إليك من جهته رسول فأرسلنا نقول لك أن أردت أن أكون مطاوعاً لك فرد ما في يدك من بلاد المسلمين فقال هذا لا يمكن وأقرب ما في هذا أن يبقى كل واحد منا على ما في يده فحصلت بينهما مفاوضات أغلظ لهما فيها وانفصلا عنه من غير اتفاق فوصلا دمشق في خامس عشر صفر سنة إحدى وسبعين.
وفي ذي القعدة وصل إلى دمشق رسل من بيت بركة من عند منكوتمر بن طغان بن سرطق بن باتو في البحر وكانوا لما خرجوا من بلاد الأشكرى صادفهم مركب من البيسانيين فأخذهم ودخلوا بهم عكا فقبح عليهم من بها ما فعلوه ثم جهزوهم إلى دمشق ولم يرد البيسانيون ما أخذوا لهم وكان معهم هدية فلما اجتمعوا بالملك الظاهر عرفوه ما كان معهم فبعث إلى الإسكندرية ومنع من فيها من التجار البيسانيين من السفر حتى يعوضوا ما أخذ أصحابهم وكان مضمون رسالتهم أنهم أحضروا كتاباً للملك الظاهر بجميع ما كان في أيدي المسلمين من البلاد التي استولى عليها هولاكو وطلبوا منه أن ينجدهم ويعينهم على استيصال شأفته.
وفي ذي الحجة توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لنقل حجارة المجانيق إلى القلعة ورؤية ما عمر فيها ثم سار إلى حصن عكا فأشرف عليه ثم عاد إلى دمشق فدخلها في خامس المحرم سنة إحدى وسبعين.
وفي هذه السنة وهي سنة سبعين تسلم نواب الملك الظاهر قلعة الخوابي والقليعة من بلد الإسماعيلية ولم يبق خارجاً عن مملكته من جميع حصونهم سوى الكهف والقدموس والمينقة لأن أهلها لما قبض الملك الظاهر على نجم الدين بن الشعراني وولده عصوا بالقلاع المذكورة وقدموا عليهم مقدماً.
فصلوفيها توفي أحمد بن سعيد بن أحمد بن أبي بكر بن الحسين أبو العباس صفي الدين النيسابوري الأصل اللهاوري المولد والمنشأ الصوفي توفي بالقاهرة في حادي عشر شهر رمضان المعظم ودفن من الغد بمقابر باب النصر ومولده في العشرين من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وخمسمائة صحب جماعة من مشايخ الصوفية وتهذب بهم وتأدب بآدابهم وسمع وحدث وكان أحد المشايخ المشهورين بالخير والصلاح والعفة والانقطاع والمعرفة وله كلام على طريقهم وتقدم فيهم مع ما كان عليه من لطف الأخلاق ولين الجانب وحسن الملقى وجميل الطريقة رحمه الله.
الحسن بن داود بن عيسى ببن محمد بن أيوب بن شاذى أبو محمد الملك الأمجد مجد الدين بن الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر رحمهم الله تعالى وقد تقدم ذكر نسبهم في ترجمة مجير الدين يعقوب بن العادل فأغنى عن إعادته كان الملك الأمجد من الفضلاء عنده مشاركة جيدة في كثير من العلوم وله معرفة تامة بالأدب غير أنه لم يكن له طبع في نظم الشعر ثم وقفت بعد ذلك على سفينة بخط عز الدين محمود الورمدي رحمه الله وفيها أنشدني نجيب الدين الحجازي للملك الأمجد بن الملك الناصر داود رحمهما الله تعالى:
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والغليل غليلي
عجباً لقوم لم تكن أكبادهم ... لجوىً ولا أجسادهم لنحول
دقت معاني الحب عن أفهامهم ... فتأولوها أقبح التأويل
في أي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التنكيد والتنكيل

إن قلت في عيني فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي
لكن رأيت مسامعي مثوى له ... وحجبتها عن عذل كل عذول
ومحاسنه كثيرة ومكارمه غزيرة وتنقلت به الأحوال في عمره فتزهد وصحب المشايخ وانتفع بهم وأخذ عنهم واشتغل على العلماء وحصل وكان كثير البر بمن يصحبه من المشايخ لا يدخر عنهم شيئاً وكانت همته عالية ونفسه ملوكية وعنده شجاعة وإقدام وصبر على المكاره.
حكى لي أنه لما عاد العسكر من إنطاكية مع الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري رحمه الله في سنة ستين وستمائة كان المذكور في جملتهم وقد غرق أخوه شقيقه الملك الأفضل نور الدين علي رحمه الله في تلك السفرة فبينا هو يساير بعض الأمراء ويحدثه مر به إلى جانبه رجل يجر جنيباً فضربه ذلك الجنيب كسر رجله فلم يتأوه ولا قطع حديثه ولا ما كان فيه فلما امتلأ الخف بالدم أمر بعض من كان معه أن ينزل ويشق أسفل الخف ليذهب منه الدم وكان يتلقى جميع ما يريد عليه من الأمور المؤلمة بالرضا والتسليم وكان له عقيدة عظيمة في الفقراء والمشايخ وكان جميع أهل بيته يعظمونه ويعترفون بتقدمه عليهم حتى عم أبيه الملك الأمجد تقي الدين بن العادل وكذلك سائر الأمراء وأرباب الدولة وله اليد الطولى في الترسل مع حسن الخط وأنفق في عمره أموالاً جمة معظمها في طاعة الله تعالى وكان مقتصداً في ملبوسه ومركوبه ويتعلق بنفسه مسرفاً في فعل الخير وبر الإخوان رحمه الله تزوج ابنة عم أبيه الملك العزيز عثمان ابن العادل ثم تزوج ابنة الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر. غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله وهي أخت الملك الناصر وأولدها ولداً سماه صلاح الدين محمود وهو باق وكان عنده من الكتب النفيسة ما لا يوجد عنده غيره فوهب معظمها لأصحابه وإخوانه وسمع الكثير وحصل الفوائد وكان مقصداً لمن يقصده يقوم معه بنفسه وماله وجاهه لا يستحيل على أصحابه ولا يتغير عن مودتهم وإن تغيروا أواسطه عقد بيتهم رحمه الله تعالى وكانت وفاته بدمشق ليلة الاثنين سادس عشر جمادى الأولى ودفن من الغد بسفح قاسيون في تربة جده الملك المعظم.
وكانت والدة الملك الأمجد المذكور ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل الكبير فسمي صاحب هذه الترجمة باسمه وإلى جده المذكور ينسب الغور الأمجدي وتلقاه أولاد الملك الناصر داود بالإرث عنها وتوفي الملك الأمجد صاحب هذه الترجمة وهو في عشر الخمسين وقد نيف عليها ورثاه غير واحد من الفضلاء بعدة قصائد ومقاطيع فممن رثاه المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج أيده الله تعالى بقوله:
هو الربع ما أقوى وأضحت ملاعبه ... مشرعة إلا وقد لان جانبه
وقفت به والشوق نحو قبابه ... يجاذبني طوراً وطوراً أجاذبه
أسايله جهلاً ومن سفه الهوى ... مخاطبة الإنسان من لا يخاطبه
أسايله والبين قد زار ربعه ... فنابت عن العيش الهنيء نوائبه
وعهدي به والعز عن كل ناظر ... يطوف به إلا عز الوفد حاجبه
لئن قلصت كف الزمان ظلاله ... وشابت هنئ العيش في هذا شوائبه
فقد كان مغني ضافيات ظلاله ... على نازليه صافيات مشاربه
عهدت به من آل أيوب ماجداً ... كريم المحيا زاكيات مناسبه
يزيد على وزن الجبال وقاره ... ويكثر ذرات الرمال مناقبه
أجار على صرف الزمان فغاله ... على غرة والثأر يحتال طالبه
قضى فاعتدت فينا الليالي وطالما ... غدت في عدانا قاضيات قواضبه
ويوم كليل الصب إذ ظل سمره ... مداه ونقع الصافنات غياهبه
حلا وجهه جلاه من حيث أنه ... هلال وأطراف الرماح كواكبه
بكاه من السمر الكعوب وغيره ... إذا مات تبكيه من السمر كاعبه
غدت بذيول الحزن تعثر خيله ... وكم سبقت ريح الجنوب جنائبه
إذا ما بكت عجم العراب فقد بكى ... من الخلق طراً عجمه وأعاربه

ترى بعده العافين شتى وطالما ... حواهم نداه والزمان مصاحبه
فمن لاثم للتراب من عتباته ... ومن متصد للزمان يعاتبه
إذا ما رثوه بالغرائب بعده ... فمن قبل قد عمت عليهم رغائبه
هو ابن الذي لان الشديد بعد النهى ... له فلذاً والدهر جم عجائبه
يحدث عن فصل الخطاب كتابه ... ويخبر عن فصل الخطوب كتائبه
عليكم بني الآمال باليأس بعده ... فلليأس عز يأبن الذل صاحبه
ولا ترقبوا نوء السماحة بعده ... فأفق الأماني مقشعات سحائبه
الحسين بن علي بن الحسن بن ماهد بن طاهر بن أبي الجن أبو عبد الله مؤيد الدين الحسيني كان من أعيان الأشراف ووالده نظام الدين تولى نقابة الأشراف مدة ونظر بعلبك وأعمالها مدة أخرى وكان وأسع النعمة كثير الأملاك وافر الحرمة نزهاً عفيفاً في ولاياته غير أنه كان قليل النفع وكان له مكانة عند الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعند وزيره أمين الدولة وأما ولده مؤيد الدين صاحب هذه الترجمة فكان شاباً حسن دمث الأخلاق كثير الاحتمال والخدمة لم يصحبه بنفسه مع عظم بيته وعدم احتياجه بل تحمله المروءة على ذلك وكان بيني وبينه صحبة أكيدة ومودة جمع الله بيننا في جنته وكان عنده تشيع يسر ولكن لم يسمع منه كلمة تؤخذ عليه وكان يعظم الصحابة رضوان الله عليهم ويترضى عنهم ويذم من يسلك غير ذلك ويبري منه وكانت وفاته يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر بقلعة بعلبك لأنه تمرض في مدينة بعلبك وحصل أراجيف وجفل أوجب انتقال معظم أهل البلد إلى القلعة فانتقل المذكور وهو متمرض في جملتهم فأدركته منيته بها ودفن في مقابر باب سطحا ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك ولم يبلغ أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
سلار بن الحسن بن عمر بن سعيد أبو الفضائل كمال الدين الأربلي الفقيه الشافعي كان من الأئمة الفضلاء الخبيرين بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وكان الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله قد جعله معيد مدرستة التي وقفها بدمشق لعلمه بغزارة علمه ولم يزل على ذلك إلى حيث توفي لم يتريد منصب آخر وكان عليه مدار الفتوى في وقته بدمشق واشتغل عليه جماعة وانتفعوا به ومن يجتمع به في النادر يصفه بشراسة الأخلاق وتوعرها فإذا أكثر الشخص من الاجتماع به وجد عنده في الخلوة دماثة وحسن مباسطة وسعة صدر وكانت وفاته ليلة الخميس الخامس من جمادى الآخرة بدمشق ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله وهو في عشر السبعين.
سنقر بن عبد الله الأمير شمس الدين المعروف بالأقرع وهو من مماليك الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل وكان من أعيان الأمراء بالديار المصرية وأكابرهم وتقدم في الدول وكان الملك الظاهر رحمه الله نقم عليه لأمر بلغه عنه فاعتقله وتوفي في الثامن والعشرين من ربيع الأول هذه السنة رحمه الله وقد نيف على الستين سنة من العمر.
عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن طاهر ابن محمد بن محمد بن الحسين بن علي أبو الحسين عماد الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي تفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وسمع وحدث ودرس وتولى الحكم بمدينة الفيوم وغيرها وناب في الحكم بدمشق مدة وكان مشكور السيرة شديد الأحكام عارفاً بفضل الخصومات وتوفي بحلب في رابع شهر رمضان هذه السنة مولده في ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وستمائة بحلب رحمه الله وبيته مشهور بالعلم والحديث والرئاسة والسنة والجماعة.

علي بن عبد الخالق بن علي بن محمد بن الحسن أبو الحسن عز الدين الأسعردي الأصل البعلبكي المولد والدار والوفاة كان من الصدور الأماثل خبيراً بالكتابة وصناعة الحساب قيماً بها تولى عدة ولايات شهادة ديوان بعلبك ثم مشارفته ثم نظره وتولى نظر الأسرى بدمشق ثم ولي نظر حمص وأعمالها ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته ببعلبك ليلة الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وكان حسن العشرة كثير المداراة والمجاملة وجده القاضي مهذب الدين علي بن محمد الأسعردي كان من العلماء الأعيان ولي القضاء ببعلبك مدة زمانية في الأيام الصلاحية ولم يزل متولياً إلى حين وفاته وكان سديد الأحكام متحرياً فعل الحق وتوفي عز الدين المذكور وهو في عشر الستين ودفن بالقرب من دير إلياس عليه السلام ظاهر بعلبك.
علي بن عثمان بن علي بن سليمان بن علي بن سليمان بن علي أبو الحسن أمين الدين السليماني الأربلي الصوفي مولده بإربل سنة اثنتين وستمائة وقيل في أحد الربيعين سنة ثلاث وستمائة وتوفي إلى رحمة الله تعالى بمدينة الفيوم من أعمال الديار المصرية في العشر الأخر من جمادى الأولى كان فاضلاً مقتدراً على النظم وهو من أعيان شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وكان في أول عمره يخدم جندياً ثم ترك الجندية وتزهد وصار أحد مشايخ الصوفية المشار إليهم ومن شعره وقد سير إلى بعض الأمراء هدية وكتب معها:
هدية عبد مخلص في ولائه ... لها شاهد منها على عدم المال
وليست على قدري ولا قدر مالكي ... ولكنها جاءت على قدر الحال
وكتب إلى شرف الدين أبي البركات بن المستوفي وزير إربل وقد طلبه علاء الدين بن صالح الأربلي وتحدث معه في أن يلي البيمارستان:
يا أيها المولى الوزير ذي الرعاية والعناية
إن العلاء أضلني ... بالقول عن طرق الهدايه
لألى لمارستانكم ... وأقوم فيه بالكفايه
إني لمحتاج إليه متى أجبت إلى الولاية
وله:
تنال نوال الناس ثم تنيله ... فدهرك مطلوب بما أنت طالبه
سخاؤك عما في يد الناس فوق ما ... تنيل من المال الذي أنت واهبه
وله:
قيل تهوى الجمال قلت لهم ما ... فيه عيب إن لم يكن فيه ريبه
كيف لا أعتني بمن يعتني الله به إن ذى عقول عجيبه
وله في الشربات:
عبد لكم في داركم كالدرة البيضاء إن أهملتموه تبدداً
عريان يقلقه الهواء فكلما ... مرض النسيم أتوا إليه عودا
وله:
انظر بعين عناية ... وأعطف فعطفك مستفاد
وأقل بحلمك عثرتي ... فلربما عثر الجواد
وله:
يقولون من تهواه زاد ملالة ... ومال فلا وصل لديه ولا وعد
إذا ألف ذنب من حبيب تجمعت ... يقوم بها من حسنه شافع فرد
وله في النرد:
رجال من بني سام وحام ... لهم بالضرب والإيقاع رقص
قيام في سماعهم عراة ... ليس عليهم في ذاك نقص
وله:
ارض بما قدر إلاله ولا ... تحرص فماذا يفيدك الحرص
قد قسم الرزق في العباد فلا ... زيادة تنبغي ولا نقص
وله:
إني لأعرف في الرجال مخادعاً ... يبدي الصفاء ووده ممذوق
مثل الغدير يريك قرب قرارة ... لصفائه والقعر منه عميق
وله:
كل ما تبتغيه من هذه الدنيا ... يعنيك منه ما يغنيك
وإذا كانت الكفاية لا تكفيك لا شيء بعدها يكفيك
وله في شربة الماء:
وخادم يخدم حتى إذا ... قصر صب الماء في حلقه
ما فسح الشارع في ضربه ... فما لكم تفتون في شنقه
وله:
وإذا ضاق قلب المرء عما يجنه ... تبين منه في اتساع لسانه
وصمت الفتى عما يجن ضميره ... أثم ولو أن اللهي في بيانه
وله:
عرفتكم فجهلت الناس عندكم ... فلم أعرج على أهل ولا وطن
وفزت منكم بما أبغي ولي أسف ... باق لسالف ما ضيعت من زمني
وله:
كف عن الناس إذا شئت أن ... تسلم من قول جهول سفيه

من قذف الناس بما فيهم ... يقذفه الناس بما ليس فيه
وله في الشربات:
وبيض الوجوه رقاق الشفاه ... تجمعن والحب في داريه
يبعن على الناس بيع الرقيق ... ولم أر فيهن من جاريه
وله من أبيات:
وسكنت قلبي يا محرك وجده ... فعجبت كيف سكنت وهو مقلقل
والقلب منزلة البدور وإنما ... خالفتها في كونها تنتقل
حل العزائم عقد بندك مثلما ... فتح الصبابة حاجب لك مقفل
فلأن صبرت فما اصطباري عن رضاً ... وجميل وجهك أنى أتجمل
وله من أبيات:
لعبت خلفه الذؤابة فاستكبر تيهاً ... فقبلت أقدامه
جمع العاشقين بالواو والنو ... ن ولكن جمعاً لغير السلامه
علي بن عمر بن نبا أبو الحسن نور الدولة اليونيني كان رجلاً غزير المروءة كريم الأخلاق شجاعاً بطلاً مقداماً على الأهوال كثير التعصب لمن يقصده يبذل في ذلك نفسه وماله وكان له اليد الطولى في قتل الوحوش الضارية تصدى لتقل الأدباب فأفنى منهم شيئاً كثيراً لا يحصر بحيث كان يقتل في الليلة الواحدة عدة أدباب وكان سبب تصديه لقتلهم دون غيرهم من الوحوش أنه كان له أخ صغير وكان للملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه رحمه الله صاحب بعلبك دب في بيت بقلعة بعلبك فدخل أخو علي المذكور ليتفرج عليه وقرب منه فافترسه وقتله فكان نور الدولة المذكور يرى أنه يقتلهم يستوفي ثأراً وكانت وفاته بمنزله بمدينة بعلبك ليلة الأربعاء خامس وعشرين جمادى الآخرة ودفن من الغد قريباً من تربة الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله وهو بن عمتي وتزوج لي ثلاث أخوات كلما ماتت واحدة زوجه والدي رحمه الله بأختها وتوفي وعنده الأخيرة منهن وكان عند والدي في محل الولد وهو رباه وأسمعه الحديث فسمع عليه وعلى الشيخ بهاء الدين المقدسي وابن رواحة رحمهما الله وغيرهم وحكى لي ناصر الدين علي بن قرقين رحمه الله ما معناه أن الخوارزمية لما طرقوا البلاد استولوا على ضواحي بعلبك ولم تبق إلا المدينة والقلعة وأما ظاهر البلد من القرايا فخرج عن الطاعة وأطاعهم فولوا على ضواحي بعلبك شخصاً من أعيانهم وتركوا عنده جماعة يسيرة منهم فكان يتصرف في البر وأهل البلاد في طاعته وهو ينتقل من مكان إلى مكان وكان متولي القلعة والمدينة إذ ذاك الأمير سيف الدين المعروف بأبي الشامات رحمه الله.

قال ناصر الدين فقال لي والله إن هذا غبن عظيم يستولي على بلاد بعلبك وأعمالها رجل واحد من الخوارزمية ونحن كالمحصورين معه فقلت له تشتهي أن أحضره لك بنفسه ومن معه قال ومن لي بهذا قلت أنا أسعى لك فيه إن شاء الله تعالى فسر بهذا القول ولم تطمئن نفسه إلى وقوعه فاجتمعت بنور الدولة وحدثته في ذلك وقلت له تقدر نحضره قال نعم إن شاء الله تعالى قلت متى قال الليلة أمسكه وغداً أحضره فقلت كم تختار من الخيالة والرجالة قال سير لي خمس رجالة يلقوني بعد المغرب إلى تل بسقي فجردت عشرين راجل على أنهم يتوجهون إلى حصن اللبوة في شغل وكان لنا بحصن اللبوة وال لا يتعدى أمره باب الحصن وكتبت مع مقدم الرجالة ورقة وختمتها مضمونها نور الدولة بن الحرامي مقدمكم فإذا وصلتم إليه افعلوا ما يقول لكم ولا تخالفوه وقلت للمقدم إذا وصلت تل بسقى افتح الورقة وافعل ما فيها فلما وصل التل قرأها ورأى نور الدولة هناك فجاء إليه وقال قد سيرونا إليك فقال ما لي بكم كلكم حاجة يروح منكم عشرة ويبقى عندي عشرة وكان قد أخذ خبر والي الخوارزمية أنه في قرية بنحة فتوجه بالعشرة إليها وتركهم خارج القرية ودخل بمفرده إلى القرية قريب الثلث الآخر من الليل فوجد شخصاً من أهل القرية قد خرج من بيت لقضاء حاجته فسأله عن الوالي فقال هو في تلك العلية نائم سكران هو ومن معه فقصد نور الدولة العلية وفتح بابها ودخل ووجد الوالي نائماً سكران فجذب سكينه وأيقظه بهدوء ففتح عينيه فرأى السكين مشهورة على حلقه وقال له إن تكلمت ذبحتك فلم ينطق فأخذه وأخرجه إلى الرجالة وسلمه إليهم ثم عاد وفعل كذلك بمن معه من أصحابه وجاء بهم إلى القلعة فأوعدوا السجن وتصرف النواب في البر على عادتهم بأيسر مؤونة وله أمور كثيرة من هذا الجنس من الأقدام والشجاعة رحمه الله تعالى.
محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد ابن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى أبو عبد الله عماد الدين الربعي التغلبي البلدي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة العدل الرئيس الصدر الكبير مولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة تخميناً سمع من الكندي وغيره وحدث وكان شيخاً جليلاً كريم الأخلاق لطيف الأوصاف حسن العشرة متفضلاً على من يعرفه باراً بمن يقصده محتملاً صبوراً كثير الإغضاء والحياء من بيت العلم والحديث والرياسة والعدالة والتقدم وقد حدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وجد جده وغير واحد من أهل بيته وكانت وفاته في العشرين من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد التكريتي أبو عبد الله وجيه الدين التاجر المشهور بسعة المال والجاه ولم يبلغ أحد من أمثاله من الحرمة ونفاذ الكلمة ما بلغ بحيث كانت النجابين ترد عليه من بغداد إلى دمشق في مهمات تتعلق الخلافة فينجز ما قدموا لأجله ويسفرهم وكانت متاجره لا يتعرض لها متعرض وكتبه عند سائر ملوك الأطراف وملوك الفرنج بالساحل نافذة ومن ينتسب إليه مرعي الجانب وهو من خواص الملك الناصر رحمه الله وأصحابه ويده مبسوطة في دولته وكلمته مسموعة ورسالته مقبولة عند ديوان الإنشاء ومع هذا كله فانقضت الدولة ولا يكتب له سوى الصدر الأجل وما يناسب ذلك من الألقاب لا غير وفي آخر الأيام الناصرية كانت عنده فضة كثيرة مروك وخشر فاستأذن الملك الناصر في ضربها دراهم فأذن له وجعل دار الضرب بيده فضرب منه شيء كثير جداً وهذا النقد من الدراهم التي ضربها معروف ولما ملك التتار البلاد الشامية في شهور سنة ثمان وخمسين ذكر عنه أنه وصله فرمان هولاكو يتضمن الأمان له على نفسه وماله وأصحابه ولم يعرج على ذلك ولا وثق به ودخل الديار المصرية وغرم فيها جملة طائلة تقارب ألف ألف درهم فلما عاد الشام إلى المسلمين وتملك الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله قربه غاية التقريب وأدناه وعظم محله عنده بحيث أوصى إليه على أولاده وجعله ناظر أوقافه وما يتعلق به وأصغى إلى أقوله وزاد في حرمته فيما يكتب له وخوطب بالمجلس السامي وكان له من التمكن ما لا مزيد عليه غير أنه كان تمكنه في الأيام الناصرية أكثر وحكى لي الحاج فخر الدين إياز رحمه الله وكان رجلاً صادقاً قال حججت في السنة التي حج فيها الملك الظاهر فلما رأني فراشينه بمكة طلبوا مني ملازمتهم لمعرفة بيني وبينهم فلازمتهم فلما كان يوم عرفة بسطت بسط كثيرة على الجبل للملك الظاهر وحضر إليه أمراء العرب وملوك الحجاز وغيرهم وقعدوا في خدمته فحضر نصير الدين ولد وجيه الدين المذكور للسلام عليه فحين وطئ البساط قام له وبالغ في أكرامه والمساءلة له عن طريقه واستعراض حوائجه وتفخيمه في المخاطبة والنصير يتشكر ويدعو بما يناسب وهو يقول أبصر مهما كان لك من حاجة حتى نقضيها ولا يقول لوجيه الدين أبصروني في مكة وما التفوا إلي فقال ما للمملوك حاجة سوى أن هذا الركب لم يكن له أمير فتعبنا بهذا السبب والمملوك يسأل أن يعين مولانا السلطان للركب الشامي أميراً فقال هؤلاء المصريين والشاميين من اخترت منهم بروح في خدمتك قال أريد جمال الدين بن نهار فطلبه السلطان وقال له هذا المولى نصير الدين قد اختارك على جميع من معي فتروح معه إلى الشام وتخدمه مثل ما تخدمني ولا تزال بين يديه حتى توصله إلى والده فقال السمع والطاعة وانفصل والناس يتستعظموا ذلك من مثل الملك الظاهر وأنه لعظيم منه وكان وجيه الدين كثير المكارمة للأمراء والوزراء وأرباب الدولة يهاديهم ويقضي حوائجهم ويتجر لهم فكان مدار الأمور أو أكثرها عليه وعنده بر للفقراء وصدقة ويعمل في كل سنة من التراييق والمعاجين والأكحال ما يغرم عليه جملة كبيرة ويفرقه للثواب وكان عنده دماثة أخلاق ورقة حاشية وينظم المواليا على رأي البغاددة قال كان صبي من القيمرية حسن الصورة قد تزوج وزف ليلة عرسه بدمشق فنظمت:
لما جلو ذا الصبي كالبدر في حالو ... سبى المواشط وقالو ما قالو
صبي وكردي وكردية من أشكالو ... لولا نبات عذاره لالتبس الحالو
وأنشدته للملك الناصر فأعجبه وكان أقارب ذلك الصبي أكابر أمراء القيمرية فكانوا إذا حضروا يقول على سبيل المباسطة يا وجيه لولا يوهمني أنه ينشد البيتين قدامهم فأضع أصبعي على فمي أي أسكت عني فيضحك وكانت وفاة الوجيه رحمه الله بدمشق في العشر الآخر من شوال أو الأول من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون وقد ناهز السبعين من العمر.
نصير بن تمام بن معالي أبو الذكر المقيسي المؤذن كان حسن الصوت مليح الشكل يطرب حسه السامع وهو رئيس المؤذنين في وقته بدمشق وتوفي بها في ليلة التاسع عشر من المحرم ودفن في غده بباب الفراديس ومولده سنة سبع وثمانين وخمسمائة سمع من أبي المنجا عبد الله بن عمر ابن اللتي وغيره وحدث رحمه الله.

يعقوب بن إبراهيم بن موسى بن يعقوب بن يوسف أبو يوسف شرف الدين بن المعتمد العادلي الدمشقي الحنفي مولده في رابع شهر رمضان المعظم سنة سبع وثمانين وخمسمائة بدمشق سمع من حنبل وحدث وتوفي في ثالث عشر شهر رجب بجبل قاسيون ودفن به رحمه الله تعالى، ووالده المبارز إبراهيم المعتمد متولي دمشق في الأيام العادلية وهو من أعيان الناس مشكور السيرة محمود الطريقة ينطوي على دين متين وبر كثير وحسن اعتقاد في الفقراء والصلحاء ومحبة لهم، صحب الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وانتفع به وكان الشيخ يثني عليه رحمه الله تعالى.
//بسم الله الرحمن الرحيم
السنة الحادية والسبعون وستمائةدخلت والخليفة والملوك على لقاعدة المستقرة والملك الظاهر بالشام متجددات الأحوال في هذه السنة.
في ثامن عشر المحرم أفرج ن الأمير عز الدين أيبك النجيبي وعز الدين أيدمر الغوري وكانا محبوسين بالقاهرة.وفي يوم الأحد سابع عشر المحرم توجه الملك الظاهر على البريد إلى الديار المصرية، وفي صحبته الأمير بدر الدين بيسري وجمال الدين آقوشي الرومي وسيف الدين جرمك الناصري؛ فوصل إلى قلعة الجبل يوم السبت ثالث وعشرين منه، فأقام إلى ليلة الجمعة التاسع والعشرين منه، ثم توجه إلى دمشق فدخل قلعتها ليلة الثلاثاء رابع صفر.
وفي الحادي والعشرين من المحرم وصلت جماعة من النوبة وصاحبها فهجموا ثغر عيذاب ونهبوا ما كان وصل من تجار جاؤوا من عدن ومصر وقتلوا منهم خلقاً وقتلوا واليها وقاضيها وأسروا ابن حلى، وكان مشارفاً على ما ترد به التجار. ثم ورد كتاب علاء الدين ايدغدي الحربدار متولي قوص يخبر بأنه رحل من قوص إلى أسوان فوصلها سادس عشر صفر وأقام ستة أيام؛ ثم رحل طالباً بلاد النوبة، فوصل إلى بلد يقال له الجون حادي وعشرين صفر، فقتل من به وأحرقه؛ ثم رحل منه إلى بلد أرمنا، فوصله في الخامس والعشرين منه فقتل من به وأحرقه؛ ثم رحل منه إلى اطميث فوصله في السابع والعشرين منه فقتل من فيه وأحرقه ودوخ بلادهم وأخذ بثأر من قتلوا.
وفيها خرجت العساكر من الديار المصرية إلى الشام.
وفي خامس جمادى الأولى اتصل بالملك الظاهر وهو بدمشق إن فرقة من التتر قصدت الرحبة، فبرز إلى القصير بالعساكر فبلغه أنهم عادوا عن الرحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيادين بالبحيرة على الجمال للجسور؛ ثم سار حتى وصل إلى الباب من أعمال حلب وبعث جماعة من المماليك والعربان لكشف أخبارهم وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أن طائفة من التتر مقدارها ثلاثة آلاف فارس على شط الفرات مما يلي الجزيرة، فرحل من منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى ووصل شط الفرات وتقدم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدين قلاوون والأمير بدر الدين بيسري في أول الناس؛ ثم تبعهما بنفسه وتبعته العساكر فوقعوا على التتر فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتي نفس ولم ينج منهم إلا القليل وتبعهم الأمير بدر الدين بيسري إلى قريب سروج؛ ثم عادوا الذين كانوا على البيرة شرف الدين بن الخطير، وأتابك رسلان دعمش، وأمين الدين ميكائيل النائب بقونية، وأمراء الروم تقديراً ثلاثة آلاف فارس ومقدم المغل درباي؛ ولما اتصل بهم خبر الوقعة رحلوا عن البيرة بعد أن أشرفوا على أخذها وتركوا ما لهم من الأسلحة والعدد والمجانيق والأمتعة والحشارات ونجوا بأنفسهم، فسار الملك الظاهر إلى البيرة ووصلها في الثاني والعشرين من الشهر وصعدها وخلع على مستحفظها وفرق في أهلها مائة ألف درهم وأنعم عليهم ببعض ما تركه التتر عند هربهم؛ ثم رحل قاصداً دمشق. وقد ذكر خوض الفرات المولى شهاب الدين محمود الكاتب - أيده الله - في قصيدة أولها:
سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الأقدار
منها:
لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الأعادي ثأر
لما تراقصت الرؤوس وحركت ... من مطربات قسيك الأوتار
خضت الفرات بسابح أقصى منى ... هوج الصبا من نعله الآثار
حملتك أمواج الفرات، ومن رأى ... بحراً سواك تقله الأنهار؟
وتقطعت فرقاً ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جيشك الجرار
منها:

رشت دماؤهم الصعيد فلم يطر ... منهم على الجيش السعيد غبار
شكرت مساعيك المعاقل والورى ... والترب والآساد والأطيار
هذي منعت وهؤلاء حميتهم ... وسقيت تلك وعمّ ذا الإيثار
فلأملأن الدهر فيك مدائحا ... تبقى بقيت وتذهب الأعصار
وقال ناصر الدين حسن بن النقيب الكناني رحمه الله في واقعة الفرات - وأظنه حضرها - :
ولما ترامينا الفرات بخيلنا ... سكرناه منا بالقوى والقوادم
فأوقفت التيار عن جريانه ... إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وعمل صاحبنا موفق الدين عبد الله بن عمر رحمه الله ذكره إن شاء الله تعالى في ذلك:
الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الماء ليطفي به ... حرارة القلب من المغل
وعند اجتياز السلطان بحمص تقدم بعمارة الدور التي بالقلعة فعمرت وجدد له طارمة وسماط وتوجه إلى مصر، وخرج ولده الملك السعيد من قلعة الجبل لتلقيه يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، فاجتمع به بين القصير والصالحية يوم الجمعة الحادي والعشرين منه فترجلا واعتنقا طويلاً؛ ثم ركبا وسارا إلى القلعة وأدخل أسراء التتر ركاباً على الخيل.
وفي سابع هذا الشهر أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الدمياطي وكانت مدة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام، وفي يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب خلع على جميع الأمراء ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثياب والسيوف، وكان ما صرف فيهم فوق الثلاث مائة ألف دينار.
وفي سادس عشر من شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر العتمي المعزي وأثبت موالي أيبك الأسمر أنه باق على ملكهم فاشتراه منهم.
وفي العشر الآخر من الشهر سفر الملك الظاهر رسل منكوتمر ابن أخي بركة وبعث معهم هدية سنية من حوائص، وسيوف محلاة، وجواهر، وثياباً منوعة، وصحبتهم بدر الدين عزيز الكردي وغيره.
وفي يوم الأربعاء ثامن شهر رمضان اشترى الملك الظاهر عز الدين أيبك النجيبي من مولاه الأمير جمال الدين آقوش النجيبي.
وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضر إلى القلعة و أحضره بين يديه مع جماعة حاقوه على أشياء كثيرة، كثر بينه وبينهم فيها القيل والقال ورموه بفواحش كثيرة فتقدم باعتقاله، وهذا المذكور كانت له عند الملك الظاهر منزلة لم يظفر بها أحد منه بحيث كان ينزل إلى عنده كل جمعة المرة والمرتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعاته ويقف عند ما يرسم به ويستصحبه في سائر سفراته. ومتى فتح مكاناً فرض له منه أوفر نصيب، فامتدت يده في سائر المملكة يفعل ما يختار ولا يمنعه أحد من النواب، ودخل إلى كنيسة قمامة وذبح قسيسها بيده وأنهب ما كان فيها تلامذته وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبر عنه من الآلات والفرش، وصيّرها مسجداً، وعمل بها سماعاً ومدّ بها سماطاً؛ ودخل كنيسة الإسكندرية - وهي عظيمة عند النصارى - فنهبها وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء، وأنفق في تغييرها مالاً كثيراً من بيت المال؛ وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقفها عليه وحبس عليها أرضاً تجاورها تحكر لمن ينبني فيها يستغلها في كل سنة جملة كبيرة، وبنى لأجله الجامع بالحسينية.
ذكر استيلاء الملك الظاهر على ما بقي من قلاع الإسماعيليةكانت طائفة منهم عصوا بقلعة القدموس على واليها وقتلوه وعلى من بقلعة المنيقة وقلعة الكهف وكاتبوا الملك الظاهر وسلموها له، فبعث إليها نائباً وكتب إلى من بالقلعتين في تسليمها على أن يعوضهم إقطاعاً بمصر، فأجابوا، وكان المتوسط بينهم الملك المنصور صاحب حماة. فلما أجابوا بعث سيف الدين دواداره ومعه رسلهم فوصلوا قلعة الجبل يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة فخلع عليه وكتب للرسل أماناً وأعطاهم مناشير بما وعدهم من الأقطاع وعادوا يوم الأحد تاسع ذي القعدة.
ذكر هرب عمرو بن مخلول من آل فضل

كان الملك الظاهر قد حبسه وحامداً قريبه في برج من أبراج قلعة عجلون، فحفرا حفيرة قريبة من السور وأداما فيها وقيد النار حتى تكلس حجر السور فنقباه وخرجا منه وكانا قد أعدّا لهما خيلاً فهربا عليها وقصدا التتر، ثم ندما فكتبا إلى الملك الظاهر يستعطفانه، فحلف أنه لا يرضى عنهما حتى يعودا بأنفسهما إلى قلعة عجلون ويجعلا القيود في أرجلهما، ففعلا ذلك، فعفى عنهما.
ذكر عزل الصاحب خواجا فخر الدين وزير الروموسبب ذلك أن معين الدين البرواناة بلغه أن فخر الدين سيّر كتاباً إلى السلطان عز الدين كيكاووس - وهو نازل بصوادق - وذهبا؛ فسير: أحضر الوزير إلى مجلس آجاي وصمغرا و وجوه الدولة. وذلك في شهر رمضان من هذه السنة، وقال له: أنت سيرت ذهباً إلى السلطان عز الدين وكاتبته، قال: نعم! بالأمس كان عز الدين سلطاننا وصاحب البلاد وهو الذي أنشأك وأنشأني والآن فقد كتب إلي كتاباً يشكو ضرره وأنا أقل مملوكاً له فلا أقل من مراعاة بعض نعمتهم بالقدر اليسير الذي سيرته له هذا ما اعتمدته ولم أعتمد شيئاً غيره مما يوجب الإنكار عليّ. فقبض عليه وعلى ولده تاج الدين محمد واعتقلهما في قلعة يقال لها عمان جق، واحتاط على موجوده وأملاكه وكانت عظيمة جداً، والذي قبض عليه ضياء الدين بن الخطير في داره وحمله إلى البرواناة. وأما ولده الصغير نصير الدين محمود فإنه نجا بنفسه وقصد أبغا وصار من خواصه، وولى البرواناة مكان فخر الدين مجد الدين الحسين ختنه. وأما نصير الدين فأحسن التوصل واستنجز يغلغا بالإفراج عن أبيه فخر الدين وعن أملاكه والوقوف التي عليه والتي وقعها لوجوه البر وأفرج عنه. وأقام ملازماً بيت ولده بغير خبر.
وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بإنشاء جسورة في الساحل غرم عليها مبلغاً عظيماً وحصل للمسافرين بها الرفق الكثير.
وفي هذه السنة هلك افرررناط مقدم الداوية وكان أخذ أسيراً في كسرة الداوية مع عسكر حلب على بغراس سنة أربع وأربعين وستمائة؛ ثم خلص من الأسر بسبب كسر الخوارزمية لعسكر حلب على بزاعا أطلق مع مائة فارس وتسع من الداوية والاسبتار.
وفيها قبض سالم بن إدريس بن محمود بن محمد الحضرمي على أخيه موسى صاحب ظفار واستبد بها.
فصلوفيها توفي إبراهيم بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن قرناص أبو إسحاق مخلص الدين الخزاعي الحموي، كان أديباً فاضلاً وله اليد الطولى في النظم؛ وكانت وفاته بحماة يوم الأحد رابع شوال ودفن بتربة بني قرناص ظاهر حماة - رحمه الله تعالى - ومن شعره:
ليلى وليلك يا سؤلي ويا أملي ... ضدان هذا به طول وذا قصر
وذاك أن جفوني لا يلمّ بها ... نوم وجفنك لا يحظى بها السهر
وله:
ولما علا المنصور لا حطّ قدره على البلغة الدهماء سار بإسعاد
جرت تحته كالموج حرّكه الصبا ... ووجه صباح الملك من ليلها بادى
فأيقنت أن البحر تحت أبحر ... وسؤدد أهل الأرض فوق سواد
وقال على وزن قصيدة الشريف الرضي رحمه الله ورويّها ولقد أجاب في ذلك:
يا جنة الطرف نار القلب مأواكي ... و ما توقّدها من برد ذكراكي
ويا مهاة الدمى كل الدماء لكم ... حلّ فمن بحرام الفتك أفتاكي
حاشاك يا ظبية الأنس التي افترست ... أسد العرين من التأثيم حاشاكي
ومن تناسيك من أضحى لديك لقى ... ملق إليك فؤاداً ما تناساكي
وقد علمت غرام القلب من دنف ... ما كان يعلم ما الأشواق لو لاكي
وليس يعجبه مرأى سواك ولا ... يشفى غليلاه إلا ريّ رؤياكي
وأنت جنته يا برء علته ... مما تنوب يد الأيام مضناكي
وأنت من جوهر الأشياء صوّرك ال ... رحمان ثم بروض الحسن انشاكي
يثنى بثنيك قصب البان عابسة ... وتبسم الدر عجباً من ثناياكي
وما بدا البدر في أنوار بهجته ... إلا وعاد حياءً من محيّاكي
والشمس ما طلعت في الحجب وانتقبت ... بغيمها خجلاً إلا للقياكي
وعيد حبل من أثنى عليك بها ... لسانه طرباً من لفظه الحاكي

يدعى عليا يناديه فتى حسن ... يشكو إليك وما المشكى كالشاكي
فعطفه يا مناه وارحميه فمن ... يمته طرفك لا يحييه إلا كي
و واصليه قد أودى الصدود به ... وعامليه بلا مطل بحسناكي
فالله يشكر مسعاك لديه غداً ... إذا شكرت مساعي الواله الباكي
وله:
فإن لم تجدني مخلص القول صادق ال ... وداد إذا جربتني في العظائم
فلا تسدين بعدي صنيعاً إلى امرىء ... سواي وقل قد مات أهل المكارم
وله:
وإذا قصدت سواكم بشكاية ... وقف الإباء المحض لي عن مقصدي
وإذا انتقدت بني الزمان لحاجتي ... قال النجاح هدى إلي بأحمد
هبت له نسمة من نحو أرضكم ... فأنشأت سحباً خلنا بها المطرا
حتى إذا ما وردناه على ظمأ ... لم نلق ماء فأمطرنا لها النظرا
وله:
لك في الصدود عنى فدع يوم النوى ... لا تعجلن به فذاك المغرم
فلتعلمن إذا افترقنا أيّنا ... تبّت يداه ومن على من يندم
وله:
ليس الظريف الذي تبدو خلائقه ... للناس ألطف من النسيم سرى
لكنه رجل عفّت ضمائره ... عن المحارم بالمنى ظفرا
أحمد بن عثمان بن سياوش أبو العباس الأخلاطي المقرىء المنعوت بالتقى أمام الكلاسة، قرأ القرآن الكريم بالقراءات وأقرأه، وسمع من الشيخ علم الدين السخاوي ومن غيره وحدث؛ وكان مشهوراً بالخير والدين والصلاح، وتوفي في خامس شهر رمضان المعظم بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون - رحمه الله - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، أحمد بن علي بن حمير أبو العباس صفي الدين البعلبكي المعروف بابن معقل، كان من أماثل أهل بعلبك وله جدة متوسطة وعنده مكارمة وسعة صدر وحسن عشرة وكان متشيعاً متغالياً في ذلك؛ وتوفي بمنزله ببعلبك العصر من نهار الخميس ثالث شعبان وقد نيف على الأربعين سنة من العمر - رحمه الله - . وخال والده هو عز الدين أبو العباس أحمد بن علي بن معقل بن أبي العلاء بن محمد بن معقل الأزدي ثم المهلبي الحمصي، كان شاعراً مقتدراً على النظم، عالماً بفنون الأدب والأصول والفقه على رأي الإمامية، غالياً في التشيع، وله ديوان يختص بمدح أهل البيت عليهم السلام لكنه قد حشاه بثلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والتعريض بهم، والتصريح في بعض القصائد؛ وكان من شعراء الملك الأمجد صاحب بعلبك، وانتقل إلى حماة مدو ثم عاد إلى بعلبك وتزهد وانقطع إلى أن توفي بدمشق سنة أربع وأربعين وستمائة؛ ونظم عدة كتب من كتب النحو وغيره. وله في أهل البيت رضي الله تعالى عنهم:
يا قوم كم هذا التحير والغمى ... وضح النهار لمقلة وبدا لها
فاختر لنفسك أيها الإنسان ما ... يهدي النعيم لها وينعم بالها
واعمد إلى بحر العلوم وخل في ... بر الجهالة والضلالة آلها
متعمداً سبل الهدى متجنباً ... سبل الردى وظلامها وضلالها
فالموت منتظر بلا شك لتج ... زى كل نفس قولها وفعالها
وولاء آل محمد أمن لمن ... خاف الجحيم عذابها ونكالها
هم حجة الله العليّ على الورى ... وبهم أبان حرامها وحلالها
وهم المسيمو سرحها والممطر و ... جرازها والممسكو أحبالها
لولاهم في الأرض أوتاداً لما ... ثبتت بهم وزلزلت زلزالها
فعليهم صلواته سحباً غدت ... كالنيبّ ترأم بالعشي إفالها
وله:
رأتني سعاد حليف السهاد ... وقد كنت قدماً حليف السرور
فغضت عن الشيب لما رأت ... برأسي طرفاً شديد الفتور
فقلت لها قذىً في العيون ... فقالت نعم وشجىً في الصدور
وله:
وجنة أعطاف أغصانها ... تميس في أوراقها الخضر
ظلنا وقد أهدى لنا ظلها ... يجني علينا بجنى التمر
تفاحها كالراح في طعمه ... وطيبه واللون والنشر

لو يحمد الخمر حكاه ولو ... يذوب أغنانا عن الخمر
وله:
إذا رمت أمراً في ذراه صعوبة ... فرفقاً تقده ممكناً مصحباً طهرا
ولا تأخذن بالعنف ذا نخوة ... وذا إباء تهج ناراً مضرمة شرا
فلطمة طرف هيجت حرب داحس ... ولطمة ملك نصرت أمةً كثرا
وله من قصيدة يفتخر فيها ودس فيها العظائم على عادته من ثلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين:
ماذا سؤالك صم ربع مقفر ... لولا ضلالك بالغزال الأعفر
منها:
أنى وقوفك من سراة الأزد في اله ... امات منها والسنام الأكبر
آل المهلب خير قحطان إذا ... ما عد كل متوج ومسور
كانوا حلى ممالك فتخرموا ... والآن ذكرهم حلى الأعصر
ولأوسهم فخر وخزرجهم ما ... نصروا النبي وغيرهم لم ينصر
ووقفوا بأنفسهم جميعاً نفسه ... من كل عاد مفترى أو مقترى
حتى غدا الإسلام بين بيوتهم ... بادى السنا للقابس المتنور
لله در أبيهم لو أنهم ... لم يهدموا ما شيدوا من مفخر
بدءوا نزيلهم بكأس لذة ... معسولة وثنوا بكأس ممقر
نقضوا عهودا أبرمت أسبابها ... بتحير من بعده وتجبر
فغدا به سيان رب تقدم ... من بعده يوماً ورب تأخر
غن الخلافة لم تكن لتحل في ... متهود يوماً ولا متنصر
ومنها:
فاستحى من نسب إليهم أنهم ... غدروا لحينهم بمن لم يغدر
واطو الفؤاد على الذي أضمرته ... منهم ولا ينشره ما لم تنشر
إذا مدحت فتىً قواداً ماجداً ... فامدح أبا حسن الجواد العسكري
عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن محمد أبو القاسم تاج الدين الموصلي. مولده بالموصل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، كان إماماً عالماً فاضلاً شافعي المذهب اختصر كتاب الوجيز للغزالي رحمه الله اختصاراً حسناً وسماه التعجيز في اختصار الوجيز؛ واختصر كتاب المحصول في أصول الفقه، واختصر طريقة ركن الدين الطاووسي في الخلاف. ووالده رضي الدين من أعيان العلماء، وجده الشيخ عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس أمام وقته في مذهب الشافعي رحمة الله عليه وفي الأصول والخلاف. وله صيت عظيم في الآفاق؛ قصده الفقهاء من بلاد الشافعية للآشتغال وتخرج عليه خلق كثير صاروا أئمة ومدرسين يشار إليهم، وصنف كتباً في المذهب، منها: كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط، وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلاً وعقيدة وتعليقة في الخلاف ولكنه لم يتممها. وترسل إلى الخليفة وإلى الملك العادل وغيره من الملوك، وناظر في ديوان الخلافة، وتولى القضاء بالموصل في رابع شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ثم انفصل عنه لضياء الدين ابن الشهرزوري. وكان دمث الأخلاق، لطيف الخلوة، محاضراً بالحكايات والأشعار، مكمل الأدوات؛ وتصانيفه وإن كانت مفيدة ولكنها منحطة عن فضيلتها. وكانت ولادته بقلعة اربل سنة خمس وثلاثين وخمسمائة في بيت صغير منها. ولما وصل إلى اربل في بعض رسائله دخل ذلك البيت وأنشد:
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وتوفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وستمائة بالموصل - رحمه الله - وأما حفيده تاج الدين صاحب هذه الترجمة فإنه لما استولى التتار على الموصل سنة ستين وستمائة كان بها، ثم انتقل عنها إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان سنة سبعين وستمائة؛ وتوفي في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وستمائة هذه السنة؛ وبيته بيت فضيلة وتقدم ورئاسة، ولما مات رثاه جماعة منهم شمس الدين محمد الواعظ المعروف بابن الكوفي قال:
أرى الدهر يبدأ للبرية أسهما ... فتقصد منهم من تقصد أو رمى
ويعتمد الأعيان منهم بصرفه ... وإن كان لا يبغي سواهم مصمما
فما ترك الموت النبي محمدا ... ولا سالم الدهر المسيح بن مريما

وفي حال تاج الدين موعظة لمن ... رأى ما دهى الحبر العليم المعظما
هو الحاكم العدل الذي شاع فضله ... فأنجد بالذكر الجميل وأتمها
لدنياه هارون استخار مساعدا ... وموسى لأخراه شفيعاً مكرما
وحاز دعاء الخلق إذ كان محسناً ... فلما قضى صار الدعاء ترحما
وليس يبالي من يخلف بعده ... جميل الثنا إن لا يخلف درهما
وفي الجانب الغربي كان قضاؤه ... وفيه قضى أمر له كان مبرما
وجيء فما رد القضاء قضاؤه ... ولا صد عند الحكم ما فيه حكما
أيا صاحب التعجيز عجزك الردى ... فلم نستطع عند الخطاب التكلما
ولا معجم الأقران عند جداله ... أبى الموت أن يلقاه إلا مسلماً
عنيت بتخليص العلوم مخلص ال ... ردى لك من كل العلوم معلما
ومختصر سير من الأرض قد غدا ... لمختصر الكتب الطوال تحكما
ألا يا غريب الدار أنى كلما ... ذكرتك زادت نار وجدى تضرما
وآبى على الأحزان إلا تجلدا ... ويأبى على الحزن إلا تصرما
فأمسيت من حر الفراق معذبا ... وأصبحت من برد الجنان منعما
وبشرني بالفوز في حشرة اسمه ... ونسبته لما عدت أحسن اللما
فعبد الرحيم من الرضي بن يونس ... بيونس في العقبى رضى وترحما
ألا فليراجع قلبه كل ذي حجى ... فمن راجع العقل استكان وسلما
وأيقن أن المرء يفنى وماله ... من الذخر إلا ما من الخير قدما
؟عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن تيمية أبو الفرج فخر الدين الحراني الخطيب. مولده سنة اثنتي عشرة وستمائة، سمع من جده أبي عبد الله محمد وعبد الله بن عمر بن اللتى بدمشق، وخطب بجامع حران وكان فاضلاً ديناً، وتوفي بدمشق في حادي عشر شوال ودفن من الغد بمقابر الصوفية - رحمه الله؛ وبيته معروف بالفضيلة والعلم والحديث والرئاسة والتقدم.
عبيد الله بن عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي أبو صالح شهاب الدين الحلبي المعروف بابن العجمي. مولده في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وستمائة بحلب، سمع من جماعة وحدث وكتب بخطه كثيراً، وكان فاضلاً من بيت الرئاسة والجلالة والعلم والحديث والسنة، وتوفي بحلب فجأة في تاسع عشر جمادى الأولى رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد أبو الحسن القيسي التلمساني المالكي الفقيه الإمام العلامة جامع الفضائل الذي لا يجاري في مضماره ولا يسبح ماهر في تياره، صاحب التصانيف والمبرز بسيفه على الأقران؛ أنشده الكاتب أبو زيد عبد الرحمن الفارقاني لنفسه فيه:
أنا في الوداع مقدم ... ومحبتي ما تعلم
وتعصبي لك كالذي ... تدريه لا بك أكرم
ولدي من إجلال قد ... رك ما يجل ويعظم
ويكن قلبي رقة ... ما ليس يشرحه الفم
ويهيج وجدي عارض ... يبكي وبرق يبسم
وصوادح تشكو الغرا ... م بنغمة لا تفهم
يا من أرى تكريمه ... وهو الأعز الأكرم
ومن الحضيض مكانه ... والقدر حيث الأنجم
أعييت حتى قيل أن ... ك لائم متاوم
وتركتني في خجلة ... عن أصلها استفهم
هذا وقلبي سائل ... عن حالكم ومسلم
ولئن عتبت فأنت في ... رعى الوداد مقدم
فلك السماح مصور ... ولك الوفاء مسلم
ولكم خبرتك قبلها ... فإذا الحسام المخذم
والمرء ما لم يختبر ... فالأمر أمر مبهم
ذاعت محاسنك العلى ... والمسك ما لا يكتم
حسب البرية مفخرا ... إن كان مثلك منهم

مات علي بن التلمساني المذكور رحمه الله تعالى بدار الحديث الكاملية من القاهرة المصرية ليلة الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة ودفن بظاهر باب النصر خارج القاهرة رحمه الله تعالى.
؟عمر بن إبراهيم بن محمد بن أيوب بن شاذي أبو الفتح فتح الدين بن الملك الفائز أبي إسحاق سابق الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. مولده في صفر سنة سبع وستمائة. حدث بالإجازة عن أبي روح عبد المعز بن محمد الهروي، وتوفي مسجوناً بخزانة البنود بالقاهرة في السابع والعشرين من ذي الحجة وأخرج منها في يومه ودفن بتربتهم المجاورة لضريح الشافعي رحمة الله عليه بالقرافة الصغرى رحمه الله وكان يلقب بالمغيث.
محمد بن رضوان بن علي بن أبي المظفر بن أبي الغنائم أبو عبد الله شرف الدين الحسيني المعروف بالشريف الناسخ. مولده في سابع جمادى الآخرة سنة اثنتين وستمائة، وتوفي في الساعة السابعة من يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر بدمشق؛ وكان من الفضلاء، له مشاركة جيدة في كثير من العلوم، واشتغل بعلم الأدب وله اليد الطولى في النظم والنثر مع حسن المحاضرة وكثرة الاطلاع على التواريخ والوقائع وأيام الناس لا تمل مجالسته، وخطه في غاية الحسن والجودة رحمه الله تعالى. أنشدني كثيراً من شعره بدمشق وبعلبك وسمعت منه بعض تواليفه، وأشعاره كثيرة فمنها:
يا من يعيب تلوني ... ما في التلون ما يعاب
إن السماء إذا تلو ... ن وجهها رجي السحاب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كرد على الغصن حديث الهوى ... على سماه بعد صحو تغيم
ولا تخف أن له نفرة ... وطالما أونس ظبي الصريم
ولا تقل إن له صحبة ... مع غيرنا دهراً وعهد قديم
فالماء ربى الغصن في حجرة ... ومال عنه برسول النسيم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
عقد الربيع على الشتاء مآتما ... لما تقوض للرحيل خيامه
نظم الشقيق خدوده فتضرجت ... حزناً وناح على الغصون حمامه
والزهر منفتح العيون إلى خيو ... ط المزن حيث تفتقت أكمامه
و قال أيضاً رحمه الله تعالى:
لحاظ مراض دون فتكتها الفتك ... بها صح في دين الهوى لدمى السفك
ومن عجب أن اللحاظ فواتر ... ومن عادة فيها التبتت والبتك
وما كل سهم من لحاظ بقاتل ... سوى رشقات ريش أسهمها الترك
ولى رشأ أن فهت يوماً بسلوة ... له فهي دعوى أصلها المين والإفك
فلا لوم لي أن بعت ديني وأصبحت ... سجية مثلي في محبته الشرك
له مبسم عذب إذا افتر ضاحكاً ... تداعى أصيحاب الغرام ألا فابكوا
تجلى لنا ليلاً فلم ندر وجهه ... أم القمر الوضاح فاعترض الشك
صعقت لما استنار جماله ... فطور فؤادي مذ تجلى له دك
طما بحرأ جفاني فيانوح غفلتي أنت ... به فلهذا البحر يصطنع الفلك
وقال أيضاً رحمه الله:
يا نفحة البان هذي نفحة السحر ... تهدى إلينا شذى من عرفك العطر
ويا بريقاً بأفق الشام مطلعه ... محرر بحقك إيماضاً على بصري
ونبه الحي فالسمار قد رقدوا ... لعل بالجزع أعواناً على السهر
وقال أيضاً في مليح يلقب بالجدي:
رأيت في جلق أعجوبة ... ما إن رأينا مثلها في بلد
جدي له في صدغه عقرب ... وفي مطاوي الجفن منه أسد
وخلفه سنبلة تطلب المي ... زان لا ترضى بأخذ العدد
وقال في حسين الصواف:
لست أخشى حر الهجير إذا ... كان حسين الصواف في الناس حيا
فببيت من شعره اتقى الحر ... وبظل من أنفه أتفيا
وقال أيضاً من قصيدة:
كم استعذنا بهم من شر بينهم ... فما شعرنا بهم إلا وقد بانوا
وكم حرصنا أن لا نفارقهم ... ففارقونا وبعض الحرص حرمان
وما ألوم النوى في قبح ما صنعت ... لأن بعدكم والقرب هجران

لانت صلاد الصفا من فيح ما جزعى ... يوم الوداع ولا رقوا ولا لانوا
وحنت النيب من وجد أنازلها ... شوقي المبرح والمشتاق حنان
وأقبلت سمرات الجفن عاطفة ... على حنيني ومال الطلح والبان
وأقبل الركب كل ذاكر شجنا ... له فؤاد بحر الوجد ولهان
وما النياق وأهل الركب والحجر الأ ... صم مع سمرات الحي صنوان
وإنما جمعتنا مع تباعدنا ... مناسب الحب والعشاق إخوان
وقال في حسين الصواف وقد خلع عليه الشمس العذار فرجية صوف وكان حسين يلازم في منزله رجلاً مقدسياً:
يهنيكم الصواف أصبح عابداً ... للرب غير مداهن ومدلس
خلع العذار عليه خلعة ناسك ... سوداء من شعر خشين الملبس
طويت له الأرض الفسيحة فاغتدى ... يجب المهامه في ظلام الحندس
فهو الصقيم بجلق وركوعه ... وسجوده أبداً ببيت المقدس
وسأل بدر الدين الأسعردي الشريف الناسخ الوقوف على بيتين من الشعر عملهما. فكتب إليه الشريف يقبل اليد وينمى أنه وقف على البيتين اللذين أسسا على التقوى وخلا كل بيت غيرهما من المعاني وأقوى فوجدهما في سبكهما كالإبريز وعزا على الناظمين فأمنا من التعزيز، وأما سؤاله عن التوطئة فقد ضاقت على غيره فيها المسالك وعلم بذلك الموطأ بأنه مالك، وللشريف رحمه الله تعالى:
عاتقته عند الوداع وقد جرت ... عيني دموعاً كالفجيع القاني
ورجعت عنه طرفه في فترة ... تملى عليّ مقاتل الفرسان
وقال رحمه الله تعالى:
غازلني الظبي وغازلته ... في لحظة أخفى من الطيف
ومكن الإصبع من عينه ... فكدت أن أقضي من الخوف
وكيف لا أجزع من ظالم ... بنانه يؤمى إلى السيف
وكتب إلى عماد الدين الدنيسري يذكر حمى عرضت له:
يا من نداه وحسن صورته ... يستفزعان الحسن والكرما
ناديتني ورفعت منزلتي ... وأضفتني بمصيبتي عزما
وأعدت عصر مشيبتي نضرا ... من بعد ما أخلفته هرما
وأفدت جسمي صحة ضمنت ... أن لا يرى من بعدها سقما
فغدوت أتلو عند صنعك بي ... يا ليت قومي يعلمون بما
فكتب عماد الدين جواباً على غير القافية:
يا من فوائده إذا ... عدت غدت مثل المطر
ومهذباً في نظمه ... ومزيناً فيما نثر
مولاي دعوة مغرم ... لو لاك ما عرف السهر
وافاك منك مشرف ... ألفاظه تحكي الدرر
فنفى عن العين الكرى ... ونفى عن القلب الضجر
يا سيداً أخلاقه ... قد أخجلت كل الزهر
لو لاك ما عرف القري ... ض ولا رأينا من شعر
أوليتني منناً بقي ... ت بها وحقك مفتخر
فغدوت منها باكياً ... ومنادياً بين البشر
يا ليت قومي كلهم ... لو يعلمون بما غفر
وقال الشريف أيضاً رحمه الله تعالى:
رب طرف أدهم سابقه ... أصفر يختال عجباً ويميل
وجهه صبح وهاديه دجىً ... كيف لا يسبقه وهو الأصيل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
حدث ولا حرج عن بانة العلم ... ففي حديثك لي برء من الألم
وأجر في مسمعي ذكراك ما جر إذ ... فيها الشفاء ومنها مبدأ السقم
منازل حل فيها من هويت فمذ ... فارقته فنديمي بعده ندمي
معاهد هي أحلى حين أذكرها ... عندي وفي مسمعي من بانة العلم
لم أنس فيها غضيض الطرف ينشدني ... سهم أصاب وراميه بذي سلم
وبي من الترك ألمي قد بذلت له ... روحي وبعت وجودي فيه بالعدم
جسمي إلى جفنه يشكو جنايته ... هيهات كيف يداوى السقم بالسقم
رجعت فيه إلى الدين القديم وما ... زالت قريش قديماً عابدي صنم

طلائع الحسن تسري في مواكبه ... وسقره فوق رمح القد كالعلم
قامت لواحظه عيني فمذ رقدت ... أيقنت أن جفوني فيه لم تنم
إذا وردت بطرفي ماء وجنته ... جيا الرقيب فدائي البارد الشبم
ليت الرقيب ابتلاه الله فانبجست ... منه الجفون بدمع هامل بدم
أوليت ناظره المزور من حنق ... نحوي إذا رمت مرأى من أحب عمي
إن لم أذد عن حياضي من يكدرها ... جهلاً بسمر القنا والصارم الخذم
فلا عقلت بحبل الود من حسن ... رب الفضائل بدر الدين ذي الكرم
محمد بن عبد المنعم بن عمار بن هامل أبو عبد الله شمس الدين الحراني - الحنبلي - ، كان عالماً فاضلاً كثير الديانة والتحري في حديثه، سمع الكثير ببغداد، ودمشق، ومصر، والإسكندرية وغيرها من جماعة كثيرة من أصحاب أبي الوقت السجزي وأبي طاهر السلفي وغيرهما، وحدث بدمشق وغيرها، وكان أحد المعروفين بالطب والإفادة. وتوفي بدمشق ليلة الثامن من شهر رمضان المعظم هذه السنة ودفن بجبل قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى - .
محمد بن عثمان بن منكورس بن جردكين أبو عبد الله الأمير سيف الدين بن الأمير مظفر الدين بن الأمير ناصر الدين بن الأمير بدر الدين صاحب صهيون. كان تملك صهيون بعد وفاة أبيه - الأمير - مظفر الدين في سنة تسع وخمسين وست مائة في ثاني عشر ربيع الأول - منها ولم يزل مستقلاً بذلك إلى أن توفي في شهر ربيع الأول - من هذه السنة؛ فكان مدة تملكه لها اثنتي عشرة سنة، ودفن بتربة أبيه بصهيون؛ وتسلم صهيون وبرزية ولده الأمير سابق الدين وكان الملك الظاهر بدمشق؛ فطلب سابق الدين منه دستوراً ليحضر فأذن له، فلما حضر أقطعه خبز أربعين فارس وأقطع عمه جلال الدين مسعود خبز عشر طواشية، وعمه الآخر مجاهد الدين إبراهيم عشر طواشية، وتسلم صهيون وبرزية واستناب فيهما؛ وكان سيف الدين عند وفاته قد نيف على الستين - رحمه الله تعالى - .
محمد بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل - بن يوسف بن يحيى بن قابس بن حابس بن عمرو بن معدي كرب - أبو عبد الله الزبيدي، المقدسي الأصل، الدمشقي الدار والمولد، الشافعي الخطيب، المنعوت بالموفق، المعروف بابن خطيب بيت الآبار. مولده ليلة العشرين من شوال سنة خمس وتسعين وخمس مائة، سمع من ابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث وهو من بيت الحديث والخطابة والعدالة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر ببيت الآبار ودفن بها - رحمه الله تعالى - .
يحيى بن محمد بن أحمد بن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحسن بن علي أبو الفضل الثعلبي الدمشقي المعروف بالتاج المحبوبي، مولده سنة عشرين وست مائة - أحضر علي أبي القاسم عبد الصمد بن الحرستاني والشريف أبي الفتوح محمد بن أبي سعد البكري؛ وسمع أبا عبد الله محمد بن غسان وأبا الحسن بن المقير وأبا الحسن بن الصابوني وأبا القاسم عبد الله بن رواحة وغيرهم، وأجاز له خلق كثير من بلاد شتى وحدث هو وجماعة من بيته وهو من بيت الحديث والرواية - ولي نظر - مخزن الأيتام بدمشق ثم ولي الحسبة مدة، ثم ولّي وكالة بيت المال في آخر عمره وباشرها مدة يسيرة، وتوفي بدمشق في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى - والثعلبي بالثاء المثلثة.

يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو المظفر شرف الدين النابلسي الأصل، الدمشقي المولد والدار والمنشأ والوفاة، المشهور بعلم الحديث، روى عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسن بن خلف القطيعي بقراءته بمنزله ببغداد وغيرها، وسمع بدمشق أبا اليمن - الكندي وأبا الغنائم سالم بن الحسن - بن هبة الله بن صصرى، وأبا محمد الحسن بن علي بن البن الأسدي وأبا محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي والحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي قرأ عليه الكثير، وأبا الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي وزين الأمناء أبا المكرمات الحسن بن محمد بن الحسن بن عساكر، وآخرين يطول ذكرهم: وببغداد أبا محمد عبد السلام بن بكران، وأبا حفص عمر بن كرم الدينوري، والحسن بن المبارك الزبيدي، والشيخ شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله الهروردي. وقرأ عليه كتاب المعارف، وكتب عنه بخطه ولبس منه خرقة التصوف، ولهذا المذكور نظم حسن فمنه:
رأى البرق نجدياً فحن بمن يهوى ... ولاحت له نار فحن إلى حزوى
وهبت له من جانب الغور نفخة ... أتته برياً ساكني السفح من رضوى
محب لهم مغري بهم كلف فنوى ... إلى اللوم فيهم ما أصاخ ولا ألوى
يناجي نسيم الصبح عند هبوبه ... وأخبار ذاك الحي باطنها نجوى
ويشكو إليهم ما يلاقي من النوى ... كذا كل صب يستريح إلى الشكوى
فيا راحة الروح التي شغفت بكم ... ويا منتهى المأمول والغاية القصوى
رويتم حديث الصد عال مسلسلاً ... فلم لا أحاديث التواصل لا تروى
أرى كل خلق يدعيكم وينتمي ... إليكم ولكن من تصح له الدعوى
مراتع ذكراكم بقلبي أواهل ... ومغنى التسلي عن محبتكم أقوى
عذاب الهوى مستعذب عند أهله ... وغلته فيهم مدى الدهر لا تروى
سكارى قد أدارت على القوم خمرة ... سوى أن خمر الحب طرحهم نشوى
سلام على أهل الغرام جميعهم ... وخفف عنهم ما يلاقوا من البلوى
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى - :
عرّج بعيسك واحبس أيها الحادي ... عند الكثيب وعرّس يمنة الوادي
وأقر السلام على سكان كاظمة ... منى وعز بتهيامي وتسهادي
وقل محب بنار الشوق محترق ... أودي به الوجد خلفناه بالنادي
وقال وكتب بها إلى الشيخ أمين الدين عبد الصمد بن عساكر المجاور للشريف - رحمه الله تعالى:
على قدر أشواقي إليك سلامي ... وإن بعدت داري وعزّ لمامي
تروح تحياتي عليك وتغتدي ... كأرواح مسك عند فض ختام
إليك ارتياح كل حين ولحظة ... كما الوجد وجدي والغرام غرامي
ألا هل يعود الشمل مجتمعاً بكم ... وأنظركم من قبل يوم حمامي
وأغفر زلات الزمان التي مضت ... بفرط تناسيكم وفوت مرامي
وأرتع طرفي في رياض جمالكم ... فيا نيل آمالي وبدء أوامي
وقال يمدح الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى - :
ألا إن عز الدين ابن حقيقة ... وخير إمام في الأنام رأيناه
سلكت سبيل المجتبين لربهم ... بصدق وإيمان وذاك علمناه
وجاهدت في ذات الإله مصمماً ... ولم تخش هولاً حين غيرك يخشاه
وأرديت فيه مرة بعد مرة ... وكم نال جهداً في الذي تتبعاه
فجوزيت خيراً عن شريعة أحمد ... وأعطاك رب الناس ما تتمناه
السنة الثانية والسبعون وست مائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا سيف الدين صاحب صهيون وبرزية - فإنه توفي وانتقلت صهيون وحصن برزية - إلى الملك الظاهر، وخلا موسى بن إدريس صاحب ظفار، فإن أخاه سالم بن إدريس قبض عليه وجلس مكانه، - والملك الظاهر بالديار المصرية - .
متجددات الأحوال

في يوم الاثنين سابع المحرم جلس الملك الظاهر في دار العدل وحضر إليه الأكراد الواصلون من الشرق وخلع على مقدمهم.
وفي العاشر هدمت غرفة على باب قصر من قصور المصريين بالقاهرة، ويعرف هذا الباب قديماً بباب البحر، وهو من بناء الخليفة الحاكم، فوجد فيها صورة امرأة في صندوق منقوش، عليها كتابة ترجمت، فكانت اسم الملك الظاهر وصفته وبقي منها ما لم يمكن قراءته.
ذكر أخذ بيلوس أمير عرب برقةكان الملك الظاهر قد جرد عسكراً من ابن عزاز وتقدم إليه بالدخول إلى برقة لأخذ العداد، فوصل إلى طلميثة، وهي مدينة تسكنها اليهود، ولهم بها أموال كثيرة، فحماها منه بيلوس فقاتله، ووقع بين العسكريين وقعة، وأسر فيها بيلوس، وهو شيخ قد نيف على المائة سنة، وقد حمل إلى القلعة فاعتقل بها في ثامن المحرم وبقي إلى أن خلص بعد شروط شرطها على نفسه في غرة شهر رمضان.
وفي ليلة السبت سادس عشر المحرم توجه الملك الظاهر إلى الشام وصحبته الأمير شمس الدين سنقر الأشقر والأمير بدر الدين بيسري والأمير سيف الدين أتامش السعدي وجماعة يسيرة؛ فلما وصل عسقلان بلغه أن أبغا بن هولاكو وصل إلى بغداد وخرج إلى الزاب متصيداً، فكتب إلى القاهرة واستدعى عسكراً، فخرج منها يوم السبت حادي عشر صفر أربعة آلاف فارس مع أربع مقدمين، وفيهم الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وجمال الدين آقوش الرومي وشمس الدين آقوش المعروف بقطليجا وعلم الدين طرطج، ورحلوا قاصدين الشام. ثم برز الأمير بدر الدين الخزندار - يوم السبت ثامن عشر صفر إلى مسجد التين، وأقام الملك السعيد يقلعة الجبل، وفي خدمته الأمير شمس الدين الفارقاني، ورحل الأمير بدر الدين الخزندار - وصحبته الصاحب بهاء الدين، فوصل الدهليز إلى غزة يوم الاثنين رابع ربيع الأول وسافر فنزل بيافا يوم السبت تاسعه، فوجد الملك الظاهر قد سبق إليها في جماعة من الأمراء. ومن الغد رتب العساكر ثم توجه إلبى دمشق فوصلها يوم السبت سادس عشره. ورحل الأمير بدر الدين الخزندار من يافا يوم الجمعة خامس جمادى الأولى، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشره ورد عليه سيف الدين أتامش السعدي على البريد بكتاب السلطان يأمره بعود العسكر إلى مصر، فرحل يوم الأحد الحادي والعشرين ودخل القاهرة يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة.
وفي جمادى الأولى كمل بناء جامع دير الطين وصلى فيه.
ذكر قبض الملك الكرجكان قد خرج من بلاده قاصداً زيارة القدس الشريف في زي الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصه، فسلك بلاد الروم إلى سيس وركب في البحر إلى عكا؛ ثم خرج منها إلى بيت المقدس فأطلع الأمير بدر الدين خزندار - وهو على يافا - على أمره، فبعث إليه من قبض عليه؛ فلما حضر بين يديه بعث به مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان. فوصل دمشق في رابع عشر جمادى الأول، فأقبل عليه السلطان وسأله واستنزله حتى اعترف، فحبسه في برج من أبراج قلعة دمشق، وأمره أن يبعث من جهته إلى بلاده من يعرفهم بأسره، فبعث نفرين. وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشر جمادى الآخرة وقدم القاهرة يوم الخميس سابع شهر رجب.
وفي يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر الملك الظاهر العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب في الميدان تحت القلعة بالقاهرة، فاستمر ذلك إلى يوم عيد الفطر وختن السلطان الملك الظاهر ولده خضراً ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم.
وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان توجه الملك السعيد - وصحبته الأمير شمس الدين الفارقاني وأربعون نفراً من خواصه - إلى دمشق على خير البريد وعاد إلى القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال.
وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة حضر متولي القرافة إلى الأمير سيف الدين متولي مصر واخبره أن شخصاً دخل إلى تربة الملك المعز وجلس عند القبر باكياً؛ فسأله عن بكائه من بالمكان، فأخبره أنه قال: أنا ابن الملك المعز. وقد كان قطز نفاه مع أخيه الملك المنصور إلى بلاد الأشكري لما ملك فأحضر وقيد وطولع به إلى الملك الظاهر؛ فأحضره وسأله عن أمره فذكر أن له في البلاد نحو ست سنين يتوكل الأجناد فحبس بحبس اللصوص بمصر وحنا عليه بعض مماليك أبيه فأجرى عليه نفقة.
؟؟

ذكر مراسلة دارت بين الملك الظاهر ومعين الدين البرواناة

لما توجه البرواناة مع رسل الملك الظاهر - كما تقدم - واجتمع بأبغا في أمر الرسالة خلا به سراً وقال له الملك عقيم؟ وإن أخاك أجاي عازم على قتلي والاستيلاء على ملك الروم والانتماء إلى صاحب مصر، وحمل البرواناة على ذلك بحيلة من أجاي، فإنه كان يكلفه ما يعجز عنه ويتوعده؛ فأمره أبغا أن يخفي ذلك وأمره أن يستدعي أجاي وصمغرا - وسرتوقونوين بدلاً منهما - فلما عاد البرواناة إلى الروم رأى أجاي أعرض إعراضاً مفرطاً؛ فاضطر إلى أن كاتب الملك الظاهر سراً وبعث إليه قاصداً وطلب منه أن يحلف له ولغياث الدين بن ركن الدين على ملك الروم وشرط أن يكون له عسكر في البلاد مقيماً يستعين به على قتال أجاي وصمغر ومن معهما من التتر؛ فوافى القاصد الملك الظاهر بمصر قد عاد من دمشق فبلغه الرسالة فقال: إذا حلفنا له على ما أراد وسيرنا عسكراً يقيم عنده فلا بد للعسكر من شيء فتعين لي بلاداً أرصدها لذلك أو ما يستخرج من الأوقاف والصدقات والأملاك التي له، فإذا كسرت التتر أفرجت عن ذلك وأعدته إلى أربابه مع أننا لا نكلف خيلنا سلوك الدرب في هذا الوقت وفي العام القابل نحن عند إن شاء الله. فلما عاد القاصد وجد أبغا قد استدعى أجاي وصمغر وحالة البرواناة قد صلحت فتلكى في إجابة الملك الظاهر إلى ملتمسه ونكل عنه.
فصلوفيها توفي أحمد بن علي بن محمد بن سليم أبو العباس محي الدين بن الصاحب بهاء الدين أبي الحسن بن القاضي السديد أبي عبد الله الشافعي المصري في ثامن شعبان بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم. سمع من جماعة وحدث ودرس بمدرسة والده التي أنشأها بزقاق القناديل بمصر مدة إلى حين وفاته وكان منقطعاً عن المناصب الدنياوية، محباً للتخلي والانفراد، مؤثرأ لأهل الخير والدين، كثير الصدقة والمعروف؛ بنى رباطاً حسناً بمصر ووجد عليه والده وجداً شديداً وعملت له الأعزية والختم في سائر البلاد المعتبرة من المملكة - رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم أبو العباس الأنصاري المعروف بضياء الدين ابن القرطبي، مولده سنة اثنتين وست مائة. سمع وحدث وكان فاضلاً، وله النظم الحسن والنثر الجيد مع ما كان عليه من الكرم والإيثار والإحسان إلى من يرد عليه، وكانت وفاته في النصف من شوال هذه السنة بقنا من صعيد مصر. ووالده الشيخ أبو عبد الله أحد المشايخ المعروفين بالعلم والصلاح وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره - رحمه الله تعالى. ومن نظمه - رحمه الله:
ما افتر عن ثغره البسام في غسق ... إلا أضاء سبيل السالك الساري
يا للعجائب قد عاينت مغربة ... بيتاً من النور في أرض من النار
وقال أيضاً رحمه الله:
انظر إلى سندس في الروض حين بدا ... مطرزاً بطراز النور كالذهب
وفي حشا الماء من مصفره لهب ... فاعجب لضدين جمع الماء واللهب
كأنه في ضمير البحر مضطرباً ... لمع من البرق في صاف من الذهب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى - :
يأبى خيالك إذ سرى متوجساً ... والأفق يسحب فضل ذيل الغيهب
في حلة الخفر الذي ستر الحيا ... فتنقبت والحسن لم يتنقب
فاصطاده إنسان عين ساهر ... متمكن من جفنه في مرقب

أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد بن أبو المعالي مؤيد الدين التميمي المعروف بابن القلانسي، مولده بدمشق سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله بن الفرج، وحدّث بدمشق والديار المصرية، وهو من ذوي البيوتات المشهورة بالحديث والعدالة والتقدم. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر المحرم ببستانه ظاهر دمشق - ودفن في التربة المعروفة به بجبل قاسيون بالقرب من قبة جهاركش - رحمه الله تعالى - . وكان صدراً رئيساً، وافر الحرمة، ضخم النعمة، كثير الأملاك، واسع الصدر، متأهلاً للوزارة وغيرها من المناصب الجليلة، من رجال الدهر خبرة وحزماً، وعنده قوة نفس وأهلية المناصب الجليلة غير أنه يتعاطاها في عمره، وإذا عرضت عليه يأباها ويمتنع منها كل امتناع. فلما توفي وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي في سنة سبعين وست مائة التزم مؤيد الدين بمباشرة متعلقات الملك الظاهر وأولاده وخواصه بالشام على ما كان عليه الوجيه. فباشر نظر ذلك مكرها بغير جامكية ولا جراية ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان رجلاً سعيداً لم يتقرب إليه أحد ويلازمه إلا ونال منه نفعاً كثيراً من ماله وبجاهه، وكان باراً بأهله، يضع الأشياء في مواضعها، وهو من بيت الرئاسة والوزارة والحديث، سمع الحديث وأسمعه؛ والرئاسة في بيته قديمة، وبيته من البيوت المشهورة بالتقدم بدمشق. وجده مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن حمزة وزير الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين - رحمهما الله تعالى. وكان فاضلاً رئيساً عالماً، له كتاب الوضيئة في الأخلاق المرضية وغير ذلك. وله يد في النظم والنثر. ومولده يوم الجمعة سابع شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمس مائة - وتوفي بها في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وخمس مائة - ومن شعره:
يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي ... برحمة منك تنجيني من النار
أحسن جواري إذا أصبحت جارك في ... لحدي فإنك قد أوصيت بالجار
ووالده حمزة بن أسد هو العميد، حدث عن سهل بن بشر وأبي أحمد حامد بن يوسف التنيسي، وكان فاضلاً أديباً، له خط حسن ونثر ونظم؛ وصنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربع مائة إلى حين وفاته. ومات يوم الجمعة سابع ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
إسحاق بن خليل بن غازي بن علي عفيف الدين الحموي، كان فاضلاً في الفقه والعربية، متقناً للقراآت السبع، مشاركاً في عدة علوم؛ ولّي التدريس بحماة وخطابة القلعة، وكان له حلقة يشغل بها العلوم والقراآت، وله شعر يسير. مولده سنة سبع وثمانين وخمس مائة، وتوفي في ذي الحجة بحماة - رحمه الله تعالى.
إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان أبو محمد تقي الدين التنوخي المعري الأصل. الدمشقي المولد والدار والوفاة. مولده في سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من الخشوعي، وابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث مدة بدمشق ومصر وغيرهما، وتفرد برواية أشياء من مسموعاته. وكان شيخاً فاضلاً نبيلاً من بيت كتابة وعدالة وجلالة، توفي إلى رحمة الله تعالى في السادس والعشرين من صفر. وكان له يد في النظم والنثر، كتب الإنشاء للملك الناصر صلاح الدين داود - بن الملك المعظم - وتولى نظر المارستان النوري وغيره - ذكره الحافظ شرف الدين الدمياطي في تاريخه فقال: إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أنجم؛ ورفع نسبه إلى عمران بن إسحاق بن قضاعة. أبو محمد بن أبي إسحاق بن أبي اليسر بن أبي محمد بن أبي المجد التنوخي الدمشقي الشافعي العدل. أنشد لنفسه:
خاب رجاء امرئ له أمله ... بغير رب السماء قد وصله
يفعل للمرء كل مكرمة ... ثم يثب الفتى بما فعله
أيبتغي غيره أخو ثقة ... وهو ببطن الأحشاء قد كفله

ذكره الصاحب كمال الدين بن العديم - رحمه الله تعالى - في تاريخ حلب، قال: نشأ أبو محمد بدمشق واشتغل بالعلم والأدب وسمع بها أبا طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي، وأبا اليمن زيد بن الحسن الكندي، والقاضي أبا القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، وأبا حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وسمع أباه أبا إسحاق بن أبي اليسر وجماعة غير هؤلاء من شيوخ دمشق، وكتب الإنشاء للملك الناصر داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب مدة في أيام ولايته، وسيره رسولاً إلى مصر وقدم علينا حلب في سنة أربع وأربعين وست مائة، وزارني في داري وأنشدني شيئاً من شعره وأخبرني أن مولده بدمشق يوم السبت سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين وخمس مائة، ثم اجتمعت به بدمشق وعلقت عنه بفوائد، أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وست مائة، قوله:
ليلى كشعر معذبي ما أطوله ... أخفى الصباح بفرعه إذ أسبله
وأنار ضوء جبينه من شعره ... كالصبح سل عن الدياجي منصله
قصصي بنمل عذاره مكتوبة ... بأحسن ما خط الجمال وأجمله
والله قد أهملت لام عذاره ... يا عاذلي ما كل لام مهمله
اقرأ على قلبي سباً في حبه ... والذاريات لمدمع قد أهمله
آيات تحريم الوصال أظنها ... وطلاق أسباب الحياة مرتله
ما هامت الشعراء في أوصافه ... إلا وفاطر حسنه قد كمله
ثبت الغرام بحاكم من حسنه ... وشهادة الألفاظ وهي معدله
كم صاد من صاد بعين دونها ... أسياف لحظ في الجفون مسلله
إن أبعدته يد النوى عن ناظري ... فله بقلبي إذ ترحّل منزله
بالعاديات قد اعتدى عنا ضحىً ... وبدا له في كل قلب زلزله
شمس النفوس لبينه قد كورت ... والنار في الأحشاء منه مشعله
قال وأنشدني لنفسه ابتداء مكاتبة كتبها إلى القاضي بدر الدين السنجاري:
لولا مواعيد آمال أعيش بها ... لمت يا أهل هذا الحي من زمن
وإنما طرف آمالي به مرح ... يجري بوعد الأماني مطلق الرسن
وذكره أبو البركات المبارك بن أبي بكر بن حمدان المعروف بابن الشعار في كتابه عقود الجمان في شعراء هذا الزمان فقال في نسبه: أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن أحمد بن سليمان - ورفع نسبه إلى قحطان التنوخي المعري الدمشقي المنشأ والدار من بيت الأدب والكتابة والشعر والقضاء - أبو محمد شاعر أديب. سأله الأمين أبو حفص بن أبي المعالي أن يحل أبيات أبي الحسن علي بن العباس الرومي في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وست مائة:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... ولم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك النفوس وفتنة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المتوفز
فنثرها و قال: وحديثها - الحديث - لا كالحديث العذب فهو كالماء الزلال، وأسكر فأشبه العتيق من الجريال، واستملى من غير ملل ولا إملال، وشغل عن عذر من واجب الأشغال وجنى من قتل المسلم المتحرز ما ليس بحلال، وصادت بشركه النفوس، ومالت إلى وجهه الأعناق والرؤوس. فهو نزهة العيون، وعقال العقول، والموجز الذي ود المحدث أن يطول؛ ثم أنشد لنفسه:
حديث حديث العهد يفتح نوره ... فمن نوره قد زاد في السمع والبصر
يخرّون للأذقان عند سماعه ... كأنهم من شيعه وهو منتظر
يلذ به طول الحديث لسامر ... ولا يعتريه من إطالته ضجر
به طرف للطرف تجنى وعقلة ... لغافل ركب سبقن إلى سفر
هي البدر فاسمع ما تقول فإنه ... غريب وحدث بالرواية عن قمر

- انتهى كلام ابن الشعار وقال - قال أبو محمد: كتبت رقعة على لسان سيف الدين مقلد بن الكامل بن شاور إلى الملك الأشرف أبي الفتح موسى بن الملك الكامل على سبيل الإنجاز - وكان أبطأ عليه عطاءه - وذلك في سنة ثلاث عشرة وست مائة، مضمونها: يقبل الأرض بين يدي الملك الأشرف - أعز الله نصره! وشرح ببقائه نفس الدهر وصدره! - وهو ينهي أنه وصل إلى باب مولانا، كما قال المتنبي:
حتى وصلت بنفس مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا
ويرجو ما قاله في البيت الآخر:
أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
فأعطاه صلة سنية وقرر له جامكية وأحسن قراه ورتب له ما كفاه.
وأنشد له أو لغيره:
ما لي أرى ناقتي في سرحة الوادي ... تشكو الكلال ولا يحدو لها حادي
إذا ونت من كلال السير أذكرها ... عهد القدوم فتحيا عند ميعادي
ونقل من خطه قوله: وقال أنه عملها سنة اثنتين وستين وست مائة:
لي فيك يا غاية الآمال آمال ... إذا تذكرتها أمشي وأختال
أميل من طرب إن عز ذكرك لي ... كأنني ثمل تثنيه جريال
وأستمد نداكم من يلاحظني ... ما عندكم من جميل فيه إجمال
لا أطلب الخير إلا من معادنه ... راجي سواك له فقر وإذلال
أنا الفقير إليكم والغنى بكم ... فقري غناي ولي في الغيب آمال
لحبك العفو أضحت في وسائلنا ... ذنوبنا ومحب العفو مفضال
عمرت بالي لما أن سكنت به ... فالآن فليتنعم منى البال
وصرت أوثر قلبي وهو منزلكم ... لأنكم فيه بالإجلال نزال
لا حوّل الله من قلبي محبتكم ... ما دمت حياً ولا حالت بي الحال
جدتم علينا ولم نشكر نوالكم ... والشكر موهبة منكم وإفضال
وهبتمونا هبات ليس نقدرها ... منها اليقين ومنها الوجد والحال
وكيف ما ملت مالت بي عواطفكم ... إليكم والهوى بالصب ميال
ما زلت أرفل من نعماك في حدل ... لهن من سابغ المعروف أذيال
أعيش بالحب إذ مات الأنام به ... فلي حياة كما للناس آجال
لا مال لي غير آمال يحقق لي ... منك الغنى فهي في التحقيق أموال
هتكت ستري ببلبالي بحبكم ... وطالما هتك العشاق بلبال
تلذ لي فيك أقوال فتطربني ... إن الهوى لذ فيه القيل والقال
لي في النهار أحاديث ملفقة ... مع الأنام ولي في الليل أحوال
يا هادي الركب قد بتنا يسربنا ... قوم همو عن طريق الرشد قد مالوا
لهم عيون عن الآثام مائلة ... وهم عن الرشد والإحسان ضلال
وللشريعة حظ إذ نقيم به ... من سار قصداً وللمعوج أوجال
أيبتغي الخير إنسان وقد كثرت ... فتونه وهو مغتال ومختال
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا كنت لي لم أبك ليلي ولا سعدي ... ولا دار هند بالعقيق ولا هندا
ولم أتشوق نحو بارق بارق ... ولم أتشوق لا العقيق ولا نجدا
ولم يشفني مر النسيم من الجوى ... إذا اعتل مشتاق وهاج به وجدا
إليك تناهى الحب وانقطع الهوى ... فلست أرى قبلاً سواك ولا بعدا
وقال رحمه الله: كان قد ركبني دين فوق عشرة آلاف درهم وبقيت منه في قلق، فرأيت في النوم والدي فشكوت إليه ثقل الدين، فقال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم فقلت - يا سيدي! وماذا عسى أقول؟ قال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت! قدري يعجز عن مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال: امدحه يوفي الله عنك دينك؛ فعملت وأنا نائم في النوم فقلت:
أجد المقال وجد في طول المدى ... فعساك تظفر أو تنال المقصدا
هي حلبة للمدح ليس يجوزها ... بالسبق إلا من أعين وأسعدا

قال: فانتبهت فأتممت القصيدة فوفى الله عني ديني في تلك السنة ومن شعره - رحمه الله:
خرس اللسان وكل عن أوصافكم ... ماذا أقول وأنتم ما أنتم
الأمر أعظم من مقالة حائر ... قد تاه فيكم أن يعبر عنكم
العجز والتقصير وصفي دائماً ... والبر والإحسان يعرف منكم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أراك إذا ما امتد طرفي حاضر ... بكل مكان عند كل عيان
ولست أرى شيئاً سواك حقيقة ... لأنك لا تفنى وغيرك فاني
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا أحمد إن فترة الأجفان ... بليت بها في آخر الأزمان
والمعجز منك واضح البرهان ... تحيي بالوصل ميت الهجران
وأشعاره ومحاسنه كثيرة، وعمّر حتى روى معظم مسموعاته ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الأحد السادس والعشرين من صفر - سنة اثنتين وسبعين وست مائة - بدمشق، ودفن بجبل الصالحية بتربة والده، قريباً من مغارة الجوع - رحمه الله.
أقطاي بن عبد الله بن عبد الله الأمير فارس الدين الأتابك المعروف بالمستعرب الصالحي النجمي، كان مملوكاً لنجم الدين محمد بن يمن، ثم انتقل إلى ملكية الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - وأمّره ثم ترقى بعد وفاته إلى أن عد من الأعيان الأمراء أكابرهم، ثم لما تملك الملك المظفر سيف الدين قطز - رحمه الله - رفع من شأنه وجعله أتابك العساكر وعلق أمور المملكة جميعها به، فكان مدار الدولة بأسرها عليه وهو المتحكم فيها لا يضاهيه أحد ولا يعارضه فيما يفعل. ثم لما قتل الملك المظفر - رحمه الله - على الصورة المشهورة تشوف إلى السلطنة أكابر الأمراء فقدم الأمير فارس الدين الملك الظاهر ركن الدين وسلطنه وحلف له في الوقت فلم يسع بقية الأمراء إلا الموافقة، فتم أمره ورأى له ذلك واستمر على حاله عنده في علو المنزلة ونفاذ الأمر وكثرة الإقطاع والرواتب، وبقي على ذلك مدة سنتين، لكن الملك الظاهر يختار الراحة منه في الباطن ولا يسعه ذلك لافتقاره إليه ولعدم وجود من يقوم مقامه، فإنه كان من رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً وخبرة ومعرفة ورئاسة ومهابة، فلما نشي الملك الظاهر الأمير بدر الدين بيليك الخزندار - رحمه الله - أمره بملازمته والاقتباس منه والتخلق بأخلاقه، فلازمه مدة. فلما علم الملك الظاهر منه الاستقلال بذلك جعله مشاركاً له في أمر الجيش، وقطع الرواتب التي كانت للأتابك واقتصر به على ما له من الإقطاعات؛ فجمع نفسه وتبع مراد الملك الظاهر، ثم قبل وفاته بمدة - لعل قريب السنة أو ما حولها - أمره أن يتداوى؛ وقيل له أنه ربما ابتدأ به طرف جذام ولم يكن به شيء من ذلك، فلزم منزله وحصل له من الغبن ما كان سبباً لوفاته. ثم إن الملك الظاهر عاده قبل وفاته غير مرة، فعاتبه الأتابك - بلطف ومت بخدمته - وبكى بين يديه، فبكى الملك الظاهر لبكائه ولم يزل متمرضاً إلى أن توفي إلى رحمة الله بالقاهرة في جمادى الأولى - أظن في الثاني والعشرين - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، رحمه الله تعالى.

لما كان عند ابن يمن بدمشق كان يعاشره أحد بني بردويل، وهم ثلاثة نفر أخوة جيرانه بالقصاعين؛ لكن كان أحدهم كثير الاختصاص به يعاشره؛ ولا يكاد يفارقه. فلما انتقل إلى الملك الصالح نجم الدين كان الأتابك من جملة من كان بدمشق من مماليكه حين أخذها الملك الصالح إسماعيل، فاعتقله وتمرض بالحبس فنقل إلى البيمارستان النوري. فلما أبل أفرج عنه وفسح له بالتوجه إلى الديار المصرية وهو في عافية في رقة الحال؛ فسير غلامه بورقة إلى ابن بردويل صاحبه يطلب منه ما يستعين به على سفره قرضاً. فلما قرأ الورقة قال للغلام صاحبها: ما أعرفه فبقى الغلام كلما عرفه به ويقول هو صاحبك وعشيرك يقول ما أعرفه فرجع الغلام إليه وعرفه ذلك، فتحيل وسافر وتنقلت به الأحوال. فلما جفل الناس في سنة ثمان وخمسين كان أولاد بردويل من جملة من توجه إلى الديار المصرية، فقصدوا باب الأتابك، فدخل الحاجب وأخبره بهم؛ فقال: من هم؟ قال: فلان وفلان وفلان، قال: أما فلان وفلان فأدخلهم، وأما فلان فما أعرفه. فدخل أخواه فسلم عليهما ورحب بهما؛ فقالا: يا خوند! مملوكك فلان، قال: ما أعرفه. وهو يقولون: يا خوند! مملوكك الذي كان لا يزال في خدمتك وبين يديك وهو يقول: ما أعرفه ولا أعرف أولاد بردويل إلا أنتما لا غيركما. ثم بعد جهد أذن له في الدخول فحكى له الحكاية، فخجلوا واعتذروا بما ناسب الوقت، ومع هذا أحسن إليهم كلهم إحساناً كثيراً غمرهم به - رحمه الله تعالى.
أقوش بن عبد الله مبارز الدين المنصوري استاد دار الملك المنصور صاحب حماة، كان متحكماً في دولته، متمكناً منه، لا يخالفه في ما يشير به، وله الإقطاعات الوافرة والكلمة النافذة، في مملكة مخدومه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الخميس رابع ذي الحجة من هذه السنة، وقد نيف على الأربعين سنة من العمر رحمه الله وحزن عليه مخدومه حزناً كثيراً وأقر خبزه بيد أولاده، ولم يتعرض إلى شيء من تركته. وكان المبارز موصوفاً بشجاعة، وكرم طباع، ولين جانب رحمه الله.
الحسين بن بدران بن أحمد بن عمرو بن مفرج بن عبد الله بن الفتح بن خاقان بن شيخ السلامية أبو عبد الله نجم الدين، كان رجلاً جيداً، لين الجانب، رئيساً، مسارعاً إلى قضاء الحوائج لمن يقصده؛ وولي مشارفة ديوان بعلبك وشهادته ومشارفة قلعتها سنين كثيرة، لم يشك منه أحد من خلق الله تعالى، وجميع أهل البلد يثنون عليه بحسن سيرته ومعاملته لهم. توفي إلى رحمة الله تعالى بعلبك ليلة الثلاثاء رابع شعبان وهو في عشر التسعين، ودفن بمقابر باب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى.
سليمان بن الخضر بن بحتر شهاب الدين، كان والده الأمير سعد الدين الخضر من الأمراء الجبليين، وأمره الملك الصالح عماد الدين رحمه الله، واستمر على إمريته إلى حين وفاته في الأيام الناصرية الصلاحية. فأعطى خبزه لولديه شهاب الدين المذكور وأخيه شجاع الدين بحتر، وكاتن شهاب الدين هو الرئيس الكبير السن، فلما قصد التتر حلب في سنة سبع وخمسين ورجعوا منها جهز الملك الناصر رحمه الله إليها جماعة، كان شهاب الدين من جملتهم وكان ممن اعتصم بقلعة حلب، فلما فتحت على الصورة المشهورة فاستحضره هولاكو في جملة من استحضر ممن كان في القلعة؛ فقيل له: هذا له صورة في بعلبك وبلادها، وربما يحصل به مقصود من تسليم القلعة واستنزال من في الجبال فإنهم أقاربه ويصغون إلى قوله، فخلع عليه وسيره إلى بعلبك صحبة بدر الدين يوسف الخوارزمي رحمه الله المتولى لها من جهته، ووعد من جهتهم بأقطاع فلما لم يكن لهم أثر في حصول مقصودهم أطرحوه وبقي في بيته إلى أن فتح الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله الشام، فلم يحصل في أيامه على طائل، وكذلك في الأيام الظاهرية إلى حين وفاته. وكان توجه إلى الديار المصرية فأدركته منيته هناك في سابع ذي القعدة، وقد نيف على الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن عبد الله بن بخدكين أبو محمد الجرزي المنعوت بالشمس، كان رجلاً حسناً، له معرفة بالنجوم وعلم الهيئة، ويتلو القرآن العزيز في غالب أوقاته، وكان خطيب مشهد علي رضي الله عنه الذي ظاهر باب الفقاعية من مدينة بعلبك، وعلى ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير، حسن المجالسة لا يذكر أحداً إلا بخير. وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر من هذه السنة وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
عبد اللطيف بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله أبو الفرج نجيب الدين النميري الحراني الحنبلي المعروف والده بابن الصيقل، ولد بحران سنة سبع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من جماعة من الشيوخ، منهم أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ومن جماعة من أصحاب أبي القاسم الخضر الشيباني، وأصحاب القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري؛ وأجازه جماعة من الفقهاء كأبي جعفر الطرسوسي وأبي الحسين الجمال وأبي الفتح الرازي والقاضي أبي المكارم المعروف باللبان وغيرهم. وحدث بالكثير ببغداد ودمشق والقاهرة ومصر وغيرها، وبقي حتى تفرد بالرواية عن كثير من شيوخه، وازدحم عليه أصحاب الحديث ولازموه للسماع واتفقوا عليه وخرجوا له، ولم يبق في زمنه من يجري مجراه في علو الإسناد وكثرة المرويات. وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة، فحدث بها مدة إلى حين وفاته، وجرى عليه محن؛ شارك فيها الصلحاء، وزاحم من يقتدي به في ذلك من أولياء توفي في مستهل صفر بقلعة الجبل ظاهر القاهرة ودفن بأول القرافة خارج السور رحمه الله تعالى.
عبد الله بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو محمد الأنصاري المقدسي الشيخ العارف الصالح، كان من أعيان المشايخ، مشهوراً بالخير والعبادة ومكارم الأخلاق، جمع الله له بين حسن الصورة والمعنى، وله الصيت المشهور والآثار الجميلة ومعظم مقامه بنابلس، وله فيها زاوية معمورة بالفقراء الأخيار والواردين، ويتردد إلى البيت المقدس ويكثر المقام به، وله فيها زاوية مشهورة وأتباع ومريدون، وعنده فضيلة ومعرفة بطريق القوم.
وله نظم جيد، فمنه:
لك في القلوب منازل ومقام ... لا العقل يدركها ولا الأفهام
ولروح من يهواك فيه إشارة ... لا الطرف يلحظها ولا الأرهام
ولقلبي المشتاق فيك صبابة ... لا الدهر ينفدها ولا الأيام
وسرت إلى الأرواح منك نسيمة ... سكرت بها العشاق فيك وهاموا
من أصبحت خطرات ذكراك قوته ... وفؤاده مأواك كيف ينام
ومن التجت بجناب عزك روحه ... واستمسكت بعراك كيف يضام
ومن أحرقت نيران حبك قلبه ... شوقاً إليك وهام وكيف يلام
ما الوجد وجداً إن عداك ولا الهوى ... إلا هواك ولا الغرام غرام
وإذا خلت منك الخيام وأصبحت ... تؤوي سواك فما الخيام خيام
و قال: رحمه الله تعالى:
فاء الفقير فناؤه عن ذاته ... وفراغه من نفسه وصفاته
والقاف قوة قلبه بحبيبه ... وقيامه بالصدق في مرضاته
والياء يرجو ربه ويخافه ... ويقوم في التقوى بحق تقاته
والراء رقة قلبه وضياؤه ... ورجوعه لله عن شهواته
وكتب الشيخ جمال الدين عبد الرحمن والد الشيخ فخر الدين الحنبلي يذم السماع وأهله:
يا سائلي عن طريق الفضل والأدب ... عن معشر عقلهم أدى إلى العطب
قوم بلا راحة أستانسوا وبلوا ... عن التكسب بين الناس والتعب
قالوا بلا سبب الله رازقنا ... والله رازقنا بالسعي والسبب
أليس مريم رب العرش قال لها ... إليك هزي بجذع يانع الرطب
ولو يشاء أتاها رزقها رغداً ... من غير ما تعب منها ولا نصب
وكان رزق رسول الله جاعله ... رب البرية تحت القصر والقصب
وباكروا اللهو واللذات واتخذوا ... لهو الحديث لهم ديناً مع الطرب

إذا أتوا منزلاً قالوا لصاحبه ... قبّل يد الشيخ ذا الأفضال والأدب
هذه له نظر هذا له همم ... له المكرمات بين العجم والعرب
يمشي على الماء يطوي الأرض قاطبة ... وفاتح كل باب مغلق أشب
اطلب رضا الشيخ وانظر أين مذهبه ... وليس مذهبه إلا إلى الذهب
هذا وقد جاء بالمعلوم فابتدر ... وا محسرين عن الأيدي على الركب
كل امرئ منهم في الأكل معطله ... وترجف الأرض يوم الروع بالهرب
إذا تغنى مغنيهم سمعت لهم ... صراخ قوم رموا بالويل والحرب
ما زال ليلهم رقصاً فإن تعبوا ... تساندوا في زوايا البيت كالخشب
ضرب القضيب مدى الأيام شغلهم ... والرقص دأبهم والضرب في الطرب
قالوا لنا مذهب وهي الحقيقة لا ... تقول بالشرع ثم الدرس في الكتب
ولا نريد من الرحمن جنته ... ولا نخاف لظىً جاءت على غضب
وما بهذا كتاب فيه أخبرنا ... وجاءت الرسل بالترغيب والرهب
زاروا النساء وآخوهن هل عصموا ... منهن أم أمنوا من طارق النوب
نسوا قضية هاروت وصاحبه ... ماروت إذ شربا كأساً من العطب
وهمّ يوسف لما أن رأى عجبا؟ً ... برهان خالقه أعجب من العجب
ونظرة تركت داود ذا خرق ... على خطيئته باك أخا كرب
أبرأ إلى الله من قوم فعالهم ... هذا وإن دينهم ما عشت لم أتب
فأجابه الشيخ عبد الله رحمه الله:
يا منكراً فضل أهل الفضل والأدب ... وناسباً فعلهم ظلماً إلى اللعب
قوم لهم عند ذكر الله أفئدة ... تطير شوقاً لفرط الحب والطلب
قلوبهم بالغنى بالله قد ملئت ... فما لهم حاجة في الخلق والسبب
قد أصبحت في رياض القرب ساكنة ... أرواحهم فغدت بالأنس والطرب
قد علت سبعة الأفلاك همتهم ... مع السماوات والكرسي مع الحجب
فلم تزل في ظلال العرش سائرة ... فيا لها رتبة جلت على الرتب
هم الرجال وأهل الله نعرفهم ... من خصه الله بالتوفيق والقرب
فيهم ودائع أدحال وأودية ... وبين أظهرنا في العجم والعرب
لذكرهم ينزل الرحمن رحمته ... كما سمعناه في الأخبار والكتب
يراهم الجاهل العاني فيحسبهم ... من التعفف أهل المال والحسب
فالفقر فخرهم والحق عزهم ... واللطف وصفهم والغبر في تعب
هذا هو الفضل لا بالدرس في كتب ... هذا هو الفخر لا بالمال والحسب
تقدست وصفت أسرارهم فرأت ... معنى يجل عن الإدراك والسبب
لما انجلت وتجلت في سرائرهم ... قاموا لها وجثوا منها على الركب
وصاح صائحهم صوتاً لو انفلقت ... له الصخور لما كانت من العجب
ورب صرخة وجد لو تلبثها ... لمات منها لفرط النار واللهب
ولو حدا لهم الحادي وأنشدهم ... باسم الحبيب بصوت طيب دأب
تراهم بين سكران ومطرح ... وهائم واله ملقى ومضطرب
وبين باك وذي وجد وذي حرق ... وبين شاك وأواه ومنتحب
صرعى من الوجد لامس ولا عرض ... سكرى من الحب لا من خمرة العنب
إن بشروا بالوفا فالقوم في مرح ... أو خوفوا بالجفا فالقوم في حرب
هذا السماع الذي اذكرتموه على ... أهل السماع وأنتم منه في نصب
والله ما فعلوه أهله عبثاً ... ولا لحظ ولا دنيا ولا سبب
وإنما نسمة مرت بهم فسرت ... في كل قلب دميث طاهر لجب

ويفهم القول والمعنى ويدركه ... ذوو البصائر أهل العقل والرتب
عجبت منكم وأنتم أيها الفقها ... أهل الحديث وأهل الفضل والأدب
دحضتم القول في أهل السماع فلم ... تبقوا على أحد في السب والغضب
فكيف حرمتم كل السماع ولم ... تفرقوا بين أهل الصدق والكذب
فكم رجال وأبدال وقد حضروا ... هذا السماع من السادات والنجب
قوم تعم بقاع الأرض دعوتهم ... بالنضر والأمطار والسحب
فهل ذكرتم بتصريح كما ذكرت ... أسماؤهم في كتاب الله بالعربي
لو كان إنكارهم لله يا فقها ... لكان خال من الأهواء والغضب
نهيتم الناس عن أهل السماع وما ... والله صاحبهم عنهم بمنجذب
وقد تعبتم وأتعبتم بذمكم ... أهل السماع وما هذا بمنتحب
لكن نشبتم فلم يمكن رجوعكم ... عنهم فيا رب خلصهم من النشب
وربما كان فيهم من له أسف ... على السماع ولكن خافكم فعبي
وبعد هذا فإني ناصح لكم ... وحرمة المصطفى الهادي النبي العربي
لا تهلكوا دينكم بالذم للفقرا ... أهل السماع فهذا غاية العطب
هذا السماع لهم أهل يخص بهم ... وغيرهم منه في لهو وفي لعب
فاللهو منه حرام ليس يحضره ... إلا العوام وأهل اللغو والتعب
والحق منه حلال طيب نفس ... خال من اللهو والأهواء واللعب
كم بين قلب منيب طاهر يقظ ... وبين قلب مبيد مظلم حرب
ما أحسن العدل والإنصاف يا فقها ... ما تفرقوا بين غصن البان والحطب
قلبان قلب لطيف كالنسيم إذا ... سرى وقلب إذا أقسى من الخشب
هذا يعادل هذا في تحركه ... عند السماع فافتوا واكشفوا كربي
فارجع إلى الله عن كسر القلوب وعن ... ذم الرجال ولا تغتبهم وتسب
ما بدعة أحدثت خيراً وعافية ... وتوبة وصلاحاً يا أخا العرب
كبدعة أحدثت شراً ومعصية ... وفتنة وفسادا يا أبا العتب
ما ثم إلا النفوس إلا أظهرت حسداً ... فأظهرت بعض ما فيها من التعب
إني لأرجو بحبي في الرجال غداً ... وبالبشر أرجوه من فعلي ومن نصبي
أهل الصفا والوفا والحب للفقرا ... والصدق والرفق والأخلاق والأدب
ورحم الله أهل الفقر والفقها ... والمسلمين جميعاً فادعه يجب

حكى قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله عن الشيخ عبد الله المذكور رحمه الله ما معناه قال: كنت يوماً بجامع دمشق مع الفقراء، فحضر شخص ومعه كتاب وذهب في خرقة، وقال للفقراء: أفيكم من يروح إلى الديار المصرية مع هذا القفل ليتصدق بحمل هذا الكتاب والذهب إلى أصحابه مثاباً في ذلك؟ قال الشيخ عبد الله: فلم يتكلم من الجماعة أحد. فحضر لي إجابة سؤال ذلك الرجل والتوجه إلى الديار المصرية للتفرج، فقلت له: أنا أروح. فأعطاني الذهب والكتاب، فخرجت مع القفل، وبقيت في الطريق تعباناً جائعاً أصل الأيام بلا أكل. فلما توسطنا الطريق جعت جوعاً شديداً فعاينت الموت، وإذا بالقفل يقولون: قد طلع علينا حرامية، فأخذت قوسي وتبعتهم، فانهزموا عن آخرهم. قال: فعظمني أهل القفل وأطعموني وأكرموني غاية الإكرام؛ فلما وصلنا الديار المصرية نزلنا في خان، فلما استقرينا في الخان سمعت غلبة عظيمة وإذا بشخص من الجماعة يقول: قد زاح لي ذهب عدده كذا ووزنه كذا وهو في خرقة صفتها كذا. قال: فقلت في نفسي: والله وكذلك الذهب الذي معي، وتألمت لذلك وتوكلت على الله تعالى. فشكى ذلك الرجل إلى الوالي وأحضر رجاله، وأخذ جميع من في الخان إلى دار الوالي ليفتشونا، فرحت معهم، وقد انقطع قلبي. فلما صرنا في دار الوالي أحضروا واحداً، ثم أنه أحضر شخصاً وصمم عليه؛ ثم قال له: هات الذهب بعينه وإلا فعلت بك وصنعت. فأخذه منه وسلمه إلى صاحبه، ففرحت بذلك. ثم إنه قال لي الوالي من غير معرفة بيني وبينه ولا بأحد من خدمه في ذلك الوقت: يا عبد الله! أيش هذه العمائل؟ الله عليك! ما العدد العدد والوزن الوزن والخرقة الخرقة؟ فارتعت من كلامه وإطلاعه على ما هو مغيب عنه، فرميت روحي على أقدامه؛ فعانقني و قال: لا تعود إلى مثلها؛ قال: فقلت له: يا سيدي! هذا وأنت وال. قال: نحن قوم نرى أن نتستر بذلك؛ قال: فودعته ومضيت وآليت على نفسي أن لا أخرج من مكان إلا بإذن؛ وحكى ولده الشيخ محمد - رحمه الله - قال: قال لي والدي - رحمه الله: يا محمد! أنا في كل سنة أزور القدس والخليل، فاتفق أنني زرت الخليل صلى الله عليه وسلم وخطر لي أني أبيت داخل المسجد لأتملى بالخليل عليه السلام وأقرأه عنده ختمة. فلما كان بعد العشاء جاء الشحاني وقالوا لي: ما تخرج يا سيدي أو نغلق عليك؟ فقلت: أغلقوا علي. فلما أغلقوا قمت عند رأس الخليل عليه السلام وجعلت أصلي عند رأسه وأقرأ. فلما صليت وقرأت البقرة وشرعت في آل عمران سمعت قائلاً يقول: ما تتأدب تقف عند رأس الخليل! قال: فزمعت فلما أفقت تأخرت؛ فلما كان بعد قليل وإذا بالأبواب قد فتحت ودخل قوم كثيرون لا أعرفهم؛ قال: فاقعدت وامتدت الصفوف بحيث أنهم ساووني وما أقدر أن أنطق بكلمة، ثم إن شخصاً منهم طلع إلى المنبر وخطب ونزل وصلى بهم، ثم انصرفوا فغلقت الأبواب كما كانت وما قدرت على كلام أحد منهم. ثم بقيت كذلك إلى الصباح. وللشيخ عبد الله - رحمه الله - أشعار كثيرة وكلام حسن على طريق القوم، وكان صحب والده وأخذ عنه وانتفع به، وكان لوالده عدة أولاد جميعهم أخيار صلحاء. والشيخ عبد الله المشار إليه منهم والمتعين من بينهم اجتمعت به بدمشق غير مرة؛ ورأيته يملأ العين والقلب ويقصر عن محاسنه الوصف ودرج إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة وهو في عشر السبعين بنابلس، ودفن بالطور وصلى عليه بالتيه بجامع دمشق يوم الجمعة العشرين من شعبان. رثاه ولده أبو الحسن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى:
أأرض بها قبر الحبيب يزار ... لك الدمع من جفني القريح نثار
لقد أنس الرحمن أرضاً ثوى بها ... وأصبح فيها معهد ومزار
وطاب ثرى البطحاء من طيب نشره ... وحسبك قبر للخليل جوار
فلا تسألن الصبر عمن أحبه ... ففي القلب من فقد الأحبة نار
فلا تذكر إلى الدار من بعد أهلها ... فما الدار من بعد الأحبة دار
لقد أوحشت تلك المنازل بعدهم ... وكان عليها هيبة ووقار
سلام على تلك الخيام وأهلها ... لقد خلفوني في الخيام وساروا

وأما والده الشيخ غانم فكان من سادات المشايخ وأعيانهم وأعلمهم بطريق القوم، وله بقرية نورين من عمل نابلس زاوية أقام بها عشرين سنة، ولما فتح البيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة استوطنه وأقام به نحواً من خمسين سنة، ثم قدم دمشق فتوفي بها في غرة شعبان سنة اثنتين وثلاثين وست مائة عشية الأحد، ودفن يوم الاثنين في الحضيرة التي بها السادة المشايخ عبد الله البطائحي وعبد الله الأرموي - رحمهما الله تعالى - بسفح قاسيون، وبلغ من العمر سبعين سنة وكان الشيخ غانم في السنة التي فتح فيها بيت المقدس على يد رجل رآه مرة واحدة، ثم لم يزل يراه بظنه من الأبدال، وانقطع إلى العبادة تحت صخرة بيت المقدس في الأفياء السليمانية ست سنين، وصحب بعد ذلك المشايخ: عمر المدني، ومحمد الديسني، وأبا بكر العين سرياني، ومحمد الكيلاني، ومحمد القرشي، وأبا عمران المغربي وغيرهم، وصحب الشيخ عبد الله الأرموي صحبة كبيرة، و لازمه إلى حين وفاته. وماتا جميعاً - رحمهما الله - في مدة قريبة. وسبب توبته وانقطاعه إلى الله تعالى أنه تمرض عام فتح المقدس مرضة عظيمة، فلما أبلّ سأل عن أصدقائه الذين كان يصحبهم قبل توبته، فوجد أكثرهم قد مرضوا وماتوا، فحزن عليهم وأقلع من وقته وأكب على العبارة والإقبال على الله تعالى وحج ثلاث حجات محرماً من بيت المقدس، وفتح عليه في الحجة الثالثة بما فتح. وقال: خرجت حاجاً ثم عزمت بعد الحج على السياحة بأرض تهامة، فجاءني رجل سلّم عليّ وقال: لهذا الأمر رجال غيرك أنت في صلبك ذرية ولك أصحاب ينتفعون بك؛ وأخبرني ببعض ما أنا فيه، ثم غاب عني فلم أره؛ فرجعت إلى الشام. و قال: رجعت سنة من الحجاز إلى الشام وأنا مريض، لا أستطيع الكلام ولا القيام ولا أكل الطعام، فبينما أنا مطروح في البرية - قد ذهب عني رفقتي بعد اليأس مني - جاءني رجل مغربي أشقر، فسلم عليّ ثم سار يحدثني بما أنا فيه وبما يكون مني، وأنا لا أشك أني سائر في الهواء، غير أني قريب من الأرض ساعة؛ ثم قال: اجلس. فجلست؛ ثم قال: نم. فنمت. فنام إلى جانبي، فاستيقظت فلم أجده. ووجدت نفسي قريباً من الشام ولم أجد بي مرضاً، ولا أحتاج إلى طعام ولا شراب، حتى دخلت بيت المقدس. وأما أخلاقه فلم ير ساخطاً على أحد، ولا سمع مغتاباً لأحد ولا ذاماً له، ولا أسقط لأحد حرمة، ولا كسر قلباً، ولا نسى وداً، ولا رأى لأحد فعلاً ومن توجه إلى الله تعالى لم يسأل من الدنيا شيئاً ولا تعرض له، وإذا فتح الله عليه بشيء من الدنيا لم يرده، وإذا أخذه لم يبقه ولم يدخر، ولم يفرح بما أوتي منها ولا تأسف على ما فاته منها، وكان كثير الأمراض والابتلاء، ولم يسمع منه أنين ولا شكاية، وإذا سئل عن حاله ظهرت عليه أعلام الرضاء. وقال ولده الشيخ عبد الله: أخبرني والدي عن سبب توبته ما تقدم، و قال: لما وضعت يدي على يد الشيخ الذي توبني نزعت الدنيا من قلبي كما تنزع الشعرة من العجين، فلما نهضت قائماً تلا عليّ " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " . قال: فجعلت هذه الآية قدوتي إلى الله تعالى وسلكت بها في طريقي وجعلتها نصب عيني لكل شيء منها. قالت لي نفسي: أو أمرني به هواي فعلت بخلافه. فهذه أخلاق كريمة ومواهب جسيمة لا يقوى عليها أحد إلا بتأييد رباني. وللشيخ غانم رحمه الله كلام كثير مدون، وأشعار على طريق القوم، ليس هذا موضع ذكرها، نفعنا الله به وبالصالحين إنه جواد كريم.
علي بن عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي أبو الحسن نجم الدين الربعي الشافعي، كان شاباً محصلاً مجتهداً، عنده فضيلة وأهلية وديانة، لم يزل منذ نشأ مكباً على الاشتغال والتحصيل والسماع، فسمع كثيراً من المشايخ، واخترمته المنية شاباً، فتوفى في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون رحمه الله، ولعله لم يبلغ من العمر ثلاثين سنة، وكان عالماً بالفقه والأدب والحديث، وله نظم حسن، فمنه هذه يقول:
أعاهد قلبي في اجتناب وصالكم ... ويغلبني شوقي إليكم فأنكث
واحلف لا واصلتكم ما بقيتموا ... واعلم أن الوصل خير فأحنث

وقال يمدح شيخه الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله حين أملى عليه كتابة المسمى بالإقليد لذر التقليد في شرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله:
يا إماماً فاق كل إمام ... وفقيهاً أزرى بكل فقيه
أنت حبر صان الإله بك الدي ... ن من الترهات والتمويه
أنت تاج لمفرق الدين تحميه ... من كل جاهل وسفيه
أنت أوضحت مشكلات المعاني ... يا إمام الدنيا من التنبيه
أنت ألبسته بألفاظك الغر ... لباساً يرد ما قيل فيه
كم تصدى لذاك قوم قصدوا ... عن بديع وغامض تحويه
ما رعوه حق الرعاية حتى ... أخذ السهم بعدهم باريه
فأنار الكنوز منه وأدنى ... غصن أثماره لمن يجتنيه
فبدا واضح كشمس النهار ... نازعاً يده لمن يجتليه
وأعلمنا أن الجهالة كانت ... عن مبادي أفهامنا يخفيه
فوقاك الإله من كل ما تخ ... شى وآتاك كل ما ترتجيه
وقال يمدح الإقليد المذكور وشيخه:
ما زال للتنبيه باب مغلق ... عن فهم قوم ثاقب وبليد
أغنى عن الشراح طراً فتحه ... فلذلك قد ذهلوا عن المقصود
حتى أرى شيخ البرية كلها ... علامة العلماء بالإقليد
شرح وجيز بالإبانة كامل ... حاوي هدى التقريب والتمهيد
فيه النهاية في البيان وضمّ ... نه إحكام ورد عقود
كاف بتلقيح الفهوم مهذب ... تهذيبه عار عن التقليد
فأبان منه كل معنى مشكل ... خاف وقرب منه كل بعيد
وأزال عنه كل شبهة قائل ... ساه ورد مقال كل حسود
بعبارة متعذر أسلوبها ... إلا على ذلق اللسان حديد
فرأيت وجه الحق أبيض ناصعاً ... ما بين هاتيك الحروف السود
يا أيها المولي الإمام ومن له ... الثناء باق على التأييد
أبشر فقد فقت البرية كلها ... علماً بلا شك ولا ترديد
عمر بن بندار بن عمر أبو الفتح كمال الدين التفليسي، مولده بتفليس سنة اثنتين وست مائة

- تخميناً - تفقه على مذهب الشافعي رحمة الله عليه، وقرأ الأصولين وغيرهما من العلوم، وبرع في ذلك، وسمع وحدث ودرس وأفتى وولي القضاء بدمشق مدة زمانية، وكان محمود السيرة، مشكور الطريقة؛ وقدم القاهرة وأقام بها مدة يشغل الطلبة بعلوم عدة في غالب أوقاته، ووجد الناس به نفعاً كثيراً. وتوفي ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم. وكان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم مع الديانة الوافرة والعفة المفرطة وشرف النفس مع عدم المال رحمه الله تعالى. ولما تملك التتر الشام في سنة ثمان وخمسين وست مائة، سير له تقليد بقضاء الشام بأسره والجزيرة والموصل وغير ذلك من البلاد المجاورة لها، وباشر ذلك مدة يسيرة إلى حين قدم قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكى رحمه الله متولياً من جهة هولاكو، فتوجه القاضي كمال الدين إلى حلب وأعمالها متولياً لها، وكان في تلك الأيام اليسيرة قد فعل من الخير والإحسان والذب عن الرعية ما يقصر عن الوصف، وكان مسموع القول عند نواب التتر بدمشق، لا يخالفونه: فبالغ في الإحسان إلى الخاص والعام، والسعي في حقن الدماء وحفظ الأموال لم يتدنس في تلك المدة بشيء من الدنيا مع فقره وكثرة عائلته، ولا استضاف في زمن ولايته مدرسة ولا غيرها، بل اقتصر على ما كان مباشره من تدريس العادلية الكبيرة إلى حين سفره إلى حلب، وجرى عليه تعصب كثير ونسب إليه أشياء برأه الله منها، ونزهه عنها، فعصمه الله ممن أراد ضرره. وكان نهاية ما نالوا منه أنهم ألزموه بالسفر إلى الديار المصرية، فتوجه إليها على ما تقدم شرحه، ولم يزل بها معززاً مكرماً إلى حين وفاته رحمه الله تعالى ورضي عنه. فلقد كان من حسنات الدهر. وصل إلى دمشق في سادس عشرين ربيع الأول، ومنه قضاء ماردين وميافارقين، ونظر جميع الأوقاف والجامع، وكان القاضي قبله صدر الدين بن سنى الدولة في سنة ثلاث وأربعين، وكان كمال الدين ينوب عنه بدمشق.
أنشده بهاء الدين محمد بن الدجاجية قوله فيه بديهاً بمجلس الحكم بالعادلية أيام مباشرته الحكم بها، خلافة عن قاضي القضاة صدر الدين رحمه الله تعالى يقول:
يا من شرفت بفضله تفليس ... قد سار بحسن العدل عنك العيس
ما للعمرين نالت غيرك يا ... من زين به القضاء والتدريس
عمر بن الياس بن العنطوري، كان رجلاً صالحاً، كثير العبادة وقيام الليل، وحج غير مرة على قدميه، وحال عوده من الحجاز يلبس كلوتة صفراء جديدة، توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بجبل لبنان في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
عيسى بن موفق بن المزهر مبارك سيف الدين التنوخي، كان من أعيان الأمراء الحلبيين، ووالده الأمير ناصر الدين كان خصيصاً بالملك الصالح عماد الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا سيف الدين كثير الخير والمروءة، صادق اللهجة، لا يذكر أحداً بسوء، كثير البر بمعارفه وأصحابه والمكارمة لهم، توفي ببعلبك ليلة الأحد خامس صفر، وحمل إلى قرية بحوشية من قرى البقاع البعلبكية، وهي شمالي كرك نوح عليه السلام، فدفن بها عند أهله؛ وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.

كيكاووس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلمش بن أنر بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان عز الدين بن السلطان غياث الدين بن السلطان علاء الدين السلجوقي، قد ذكرنا أن والده لما مات اقتسم هذا عز الدين وأخوه ركن الدين بلاد الروم بينهما مناصفة، وأن أخاه ركن الدين تغلب على مملكة الروم، فلما تغلب هرب عز الدين بجماعة من خواصه وأهله، واستصحب معه مالاً وذخائر، وقصد القسطنطينية. فلما حل بها خافه ملكها، فقبض عليه وحبسه في بعض قلاعه، فلم يزل محبوساً بها إلى أن بعث بركة ملك التتر عشرين ألف فارس إلى بلاد صاحب القسطنطينية، فأغاروا عليها من سائر نواحيها فراسلهم في طلب الهدنة، فأجابوه على أن يسلم لهم السلطان عز الدين وما أخذ معه، فسلمه إليهم وما كان أخذ معه، وذلك في سنة ستين وست مائة، وساروا به إلى بركة، فأكرمه وقدمه على عسكره، وأمره بقصد صاحب قسطنطينية. فلما نزل على بلاده كان عنده فارس الدين أقوش المسعودي رسولاً من جهة الملك الظاهر، فخرج إليه وأمره بالرحيل وقال له: هذا قد صار من أصحاب السلطان الملك الظاهر ولا سبيل لك عليه، فرحل ولم يزل عند بركة إلى أن مات. وانتقل الملك إلى ابن أخيه منكوتمر، فأقام عنده إلى أن توفي في هذه السنة. وخلف من الأولاد ثلاثة ذكور، وهم: الملك المسعود، مقيم في سوداق في خدمة منكوتمر، والآخران عند بالعوش ملك الأشكر في اسطنبول في كتّاب الروم، لا يعرفان الإسلام. وكانت وفاة السلطان عز الدين بصوداق من بلاد الترك، ومولده سنة ست وثلاثين وست مائة رحمه الله تعالى.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الإيدمري الدوادار المعروف بالدرفيل، كان مفرط الذكاء، كثير المعرفة والخبرة بالأمور، محباً للعلماء والفقراء، حسن الظن بهم، يقبل عليهم ويقضي حوائجهم، ويبالغ في إكرامهم وتعظيمهم، وعنده مشاركة وإلمام بالفضيلة، ويكتب خطاً جيداً حسناً، وله همة عالية، وصدر واسع، وتجمل تام، وكان الملك الظاهر يحبه ويؤثره كثيراً، ويعتمد عليه ويثق به، وحرمته وافرة وأوامره عند سائر ولاة الأطراف ونواب السلطنة ممتثلة، وهو محبوب إلى الخاص والعام، وأمر المكاتبات وجميع ما يتعلق بذلك معزوق به، وبالأمير سيف الدين بلبان الرومي، لكنه كان أكثر تنفيذاً للأشغال من الرومي، ولم يزل على ذلك إلى أن تمرض في هذه السنة. وتوفي إلى رحمة الله تعالى في رابع عشر شهر رمضان منها ببستان الخشاب ظاهر القاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى. سمع من أبي القاسم عبد الرحمن بن مكي السبط وجماعة غيره، وتوفي وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى.
مجاهد بن سليمان بن مرهف بن أبي الفتح التميمي المصري الخياط ويعرف بابن أبي الربيع، توفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة هذه السنة بالقرافة الكبرى لأنها كانت سكنه، ودفن بها أيضاً وقد ناهز سبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى كان فاضلاً أديباً ومن شعره في أبي الحسين الجزار، وكان بينهما مهاجاة:
أبا الحسين تأدب ... ما الفخر بالشعر فخر
وما ترشحت منه ... بقطرة وهو بحر
إن جئت بالبيت منه ... وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلا ... عليه للناس حكر
وقال يهجوه:
لا تلمني إذا غسلت تعاشي ... ر كغسل الكروش مما خباه
فسأشويه بالهجاء ولا أت ... ركه باقياً بشحم كلاه
وقال فيه أيضاً يهجوه:
إن تاه جزاركم عليكم ... بفطنة عنده وكيس
فليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه غير تيس
وقال أيضاً فيه يهجوه:
ما للأديب تعاشير بلا سبب ... في خده صعر في أنفه شمم
وسوق وردان لم يدرس بوالده ... حياً ولما ماتت الأبقار والغنم
وقال فيه أيضاً يهجوه:
ما لتعاشير حلاقيمه ... عليّ قامت من مواعينه
فلا يلمني وليلم نفسه ... إذ هو مذبوح بسكينه
والله ما عصيتها فعله ... إلا بتقطيع مصارينه
وكتب إلى الوزير يعاتبه على التقرب إليه:
قل لوزير العصر لا تطرح ... أمراً به أعني بك العتب

واجزر عن الجزار نفساً فقد ... تجني به ذنب ولا ذنب
ولا تجالس طرفاً نازلاً ... يا طال ما جالسه كلب
وقال أيضاً يهجوه من أبيات:
يجحدني ما لم يفد جحده ... دعه فما ينفعه مينه
كذلك الرجس لما ذوي ... وكاد يقضي ودنا حينه
ما إن صببت الماء في قاعه ... وقام إلا قويت عينه
وقال أيضاً يهجوه:
أعد يا برق ذكر أصيل نجد ... فإن لك اليد البيضاء عندي
أشيمك بارقاً فيضلّ عقلي ... فوا عجباً تضل وأنت تهدي
ويبكيك السخاء ولست ممن ... تحمل بعض أشواقي ووجدي
بعثت مع النسيم لهم سلاماً ... فما عنوا عليّ له بردّ
وقال أيضاً:
فوق خده بنفسج وشقيق ... كيف حملتموه ما لا يطيق
وفم فيه ما يجلّ عن الو ... صف ونخوة قلبه فيضيق
وقوام يزيد فيه قلوب ... كلما قام فيه للعشق سوق
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وظبي تظلمت من خصره ... لقلبي عليه حقوق ودم
أخذت القصاص بتعضيضه ... ولم يجر بعد عليه قلم
وقال أيضاً ملغزاً في الإبر والكستبان:
ثلاثة في أمر خصمين ... ألفين لكن غير ألفين
هما قرينان وإن فرقت ... بينهما الأيام فرقين
فواحد يعضده واحد ... ويعضدد الآخر باثنين
تراهما بينهما وقعة إذ ... تقع العين على العين
محمد بن سليمان بن عبد الله بن يوسف أبو عبد الله جمال الدين الهواري الفقيه المالكي المذهب المعروف بابن أبي الربيع، كان فاضلاً أديباً. قال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان أنشدني لنفسه قال:
لولا التطير بالخلاف وانهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي خدمة بفنائكم ... لأكون مندوباً قضى مفروضا
ولجمال الدين محمد المذكور:
أحباب قلبي إن تحكمت النوى ... في بيننا وجرى القضاء بما جرى
فلقد غضضت عن الورى من بعدكم ... طرفاً يرى من بعدكم أن لا يرى
توفي المذكور في شهر رمضان هذه السنة بالقاهرة وقد جاوز ستين سنة من العمر وذكر الحافظ شرف الدين الدمياطي - رحمه الله - في معجمه، فقال عنه التونسي المحتد المصري المولد والدار الفقيه الأديب، أنشدني لنفسه في صديق له انتقل من السواد إلى السويداء:
سريت من السواد إلى السويدا ... سير البدر من طرف لقلب
قضيت من النوى وطراً وهاقد ... قضيت لك البقا في البعد نحبي
وقال: وأنشدنا لنفسه في موسى بن يغمور:
لك الله يا موسى فأنت محمد ال ... صفات وذهني فيك حسان مدحه
إذ ما دجى ليل من الخطب مظلم ... فمن يدك البيضاء إسفار صبحه
وقال: وأنشدنا وكتب بها إلى صديق له يدعى الصدر:
مازلت في بعد وفي قرب ... صبّاً إليك وأي صبّ
جزت القلوب بأسرها ... والصدر موضع كل قلب
وأنشدنا أيضاً فيه:
وتوسوست بأسياف إلى الصد ... ر وما زال موضع الوسواس
قال: ومولده بالقاهرة سنة ست مائة، ووفاته بها ليلة الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان. وحدث بشيء من الحديث - رحمه الله تعالى.
محمد بن سليمان أبو عبد الله المعافري، الشاطبي الشيخ الصالح، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي بظاهر الاسكندرية في العشرين من شهر رمضان ودفن بمرج سوار. كان أحد مشايخ الفقراء المعروفين بالصلاح والانتفاع مقصوداً للزيارة والتبرك به، مشهوراً في ناحيته - رحمه الله تعالى.

محمد بن عبد القادر بن ناصر بن الخضر بن علي أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي الشافعي الملقب شهاب الدين، الدمشقي الأصل والمولد والمنشأ، قرأ القرآن العظيم لسبع سنين وصلى بالناس به بجامع دمشق بالحائط القبلي في شهر رمضان المعظم صلاة التراويح، ثم اشتغل بالفقه على الخطيب جمال الدين عبد الكريم بن الحرستاني خطيب جامع دمشق، فقرأ عليه التنبيه والمعالم، واشتغل في حفظ الوسيط، فقرأ منه مقدار ربعه، ثم ارتحل إلى حلب، أقام بها مدة، وبها لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي حين وفد عليها رسولا، ثم قصد الموصل وأقام بها سنين، وفيها كمل حفظ الوسيط، فجمع بين طرفيه واجتمع بفضلاء بيت يونس وغيرهم بها، وأخذ عنهم ثم ارتحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية مدة، ثم ارتحل إلى بلاد العراق فطاف أكثرها وحصل العلوم من علمائها، وأقام في رحلته ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى أهله بدمشق أقام بها سنين. منقطعاً عن الناس، لا يتردد إلى باب أحد ولا يجتمع إلا بمن يأخذ عنه شيئاً من العلم تعوضاً عن العريض للولايات، ثم طلب لولاية الحكم بمدينة الخليل عليه السلام، فأقام مديدة. وطلب الديار المصرية واجتمع بالوزير بهاء الدين - رحمه الله - ورغبه في المقام بمصر، وذكره للملك الظاهر - رحمه الله، فوافق على أن يولي بمصر ما يقوم به.
قال: فكرهته لما فيه من تركي مجاورة الخليل عليه الصلاة والسلام وإقبالي على الدنيا وأهلها. وقلت: أتشوق إلى الخليل صلى الله عليه وسلم وأهله:
أترى أعبش أرى العريش وشامه ... فبمصر قد سئم المحب مقامه
أم هل تبلّغ عنه أنفاس الصبا ... يوماً إلى أهل الخليل سلامه
يا سادة خلفت قلبي عندهم ... هل يحفظون عهوده وذمامه
أسعرتم نار الغرام بمهجتي ... وسلبتم طرفي الكئيب منامه
إن لم يجد مطر على مغناكم ... أغناكم دمعي ويقوم مقامه
يا هل يعيد الله أيام الحمى ... من قبل أن يلقى المحب حمامه
فاشتهرت الأبيات وبلغت الصاحب بهاء الدين، فأخذ في تجهيزه وأعاده إلى الخليل عليه السلام، فأقام بها إلى أن توفي ليلة الجمعة سابع وعشرين جمادى الأولى هذه السنة - رحمه الله تعالى - ودفن بجبل حرى بالقرب من البلد، ومولده سنة ست مائة، وكان يعرف بابن العالمة، فإن أباه توفي وهو صغير، فربّته والدته وهذّبته، وكان سبب تسميتها بالعالمة: أن الملك العادل الكبير لما توفي في سنة خمس عشرة وست مائة نظروا وامرأة تتكلم في العزاء فذكروها وإنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، فألزموها وأخذوها مكرهة وكانت تحفظ كثيراً من الخطب النباتية، قالت: وكنت أسأل الله تعالى في الطريق أن لا يفضحني في ذلك المحفل وأنا أرجف فرقاً من ذلك.
قالت: فلما حضرت وصعدت المنبر سرّي عني، فقرأت شيئاً من القرآن وخطبت بخطبة الموت التي أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وهي من طنانات الخطب. فاتفق في ذلك المجلس من البكاء والوجد والحال ما لم يتفق في غيره، واشتهرت تسميتها بالعالمة، وصار لها بذلك لياذ ببيت العادل وحصلت منهم دنيا طائلة.

وكان شهاب الدين المذكور من العلماء الأعيان وعلى خاطره من الشعر والحكايات وأخبار الناس وأحوال السلف وأهل الطريق شيء كثير، وكان يستحضر الأحياء ونهاية المطلب لإمام الحرم، لا يكاد يطالع في الفقه سوى ذلك، وكان قد اشتهر اختصاصه بمعرفة الوسيط، فقال بعض الفضلاء: لم لم تعرج على طريق العراق؟ فاختصر المهذب في مدة يسيرة في مجلد واحد بعبارة سلسة فصيحة وافية بالمقصود، وزاد على الأصل فوائد جليلة، وقيد ما أهمله المصنف، ونازعه في تعليله في مواضع عديدة، وهو من نفائس الكتب. وكان رحمه الله ناقص الحظ من الدنيا ومناصبها، فإنه أقام ببعلبك مدة يكتب الشروط، وهو كاتب الحكم لقاضيها القاضي صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله ومقيد عنده بالمدرسة النورية، ثم ولي صرخد، ولم يكن من مناصبه، وكذلك بلد الخليل صلى الله عليه وسلم، وهذه الولايات بالنسبة إلى فضيلته وأهليته لعلها صغيرة على أحد تلامذته، وكان الحكيم نجم الدين أحمد بن المفتاح رحمه الله الطبيب المشهور أخاه لأمه، وكذلك الشرف إسماعيل المقيم ببعلبك والمتوفي بها رحمهم الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الإمام العلامة جمال الدين الطائي الجياني النحوي اللغوي، أوحد عصره وفريد دهره في علم النحو والعربية مع كثرة الديانة والصلاح والتعبد والاجتهاد، سمع وحدث، وكان مشهوراً بسعة العلم والإتقان والفضل موثوقاً بنقله حجة في ذلك، وله عدة تصانيف حسنة مفيدة، وإليه انتهى علم العربية. ولم يكن في زمنه من يجري مجراه في غزارة علمه ووفور فضله، وله نظم كثير يشتمل على فوائد جمة؛ وكانت وفاته بدمشق في ثاني عشر شعبان، ودفن بسفح قاسيون، وهو في العشر الثمانين رحمه الله ورثاه غير واحد، منهم الشيخ محمد الحنفي رحمه الله بقوله:
أم دهى الخطب من أصابت سهامه ... واستخف الحلوم حزناً حمامه
أم درى رائد المنيسة إذ ... أقدم ماذا إذا فتى أقدامه
بالإمام ابن مالك فجمع الدي ... ن فغشى ضوء النهار ظلامه
بإمام أفنى الليالي والأيا ... م وفي البر والكتاب إمامه
شاركت في مصابه العرب والعج ... م فمالت بالدوح نوحاً حمامه
وشكا الجامع اشتياقاً إليه ... وبكاه مقامه ومقامه
روضه حفرة أعدت لمثوا ... ه يزهر أعماله أكمامه
زخرفت القدوم منه قصور ... وجنان ولدانها خدامه
جمع الناس والملائكة في التشي ... يع والملتقى له أعظامه
كان زين الوجود منه وجود ... كامل شوه الوجوه اخترامه
كان حليا لدهره وبنيه ... فوهى سلك دره ونظامه
كان نعمى لم يوف موليها الشك ... ر فبالشكر كان منا انتقامه
كان ركناً تأوي إليه بنو الف ... ضل فأخنى على العلوم انهدامه
كل صعب من المعاني جليل ... بيدي فكره الدقيق زمامه
نحو علم أدنى من الفضل من طا ... ل إني عذبه الثمير إدامه
خلّدت ذكره الجميل علوم ... خلدتها من بعده أقلامه
كم سقيم من الكلام شفاه ... بعد ما أيأس الأساة سقامه
وبفهم من الدقائق ما مس ... كن منها المفهوم إلا اهتمامه
نال بالجد في المعارف حداً ... لم ينله أحلامه
خلّف الفاضل الفريد أبا بش ... ر وأنسب أيامه أيامه
كان للنحو قبل شمل بديد ... وبمسعاه أحكمت أحكامه
لو حواه ومن تقدم عصر ... لأقرت بفضله أعلامه
من لأهل الآداب ومن بعده ها ... ذاك منهج الصواب كلامه
قعدوا منه زاعمين ... عطوفاً فكلهم أيثامه
لو درى حاملوه ماذا أق ... لوا ما استقلت بحامل أقدامه
إنما الموت نافذ الح ... كم فمن كان للكرام اغتنامه
أولع النقص بالكمال فما أو ... جب هذا السرار إلا تمامه

أعضل الداء في نواه فلا سل ... وان لرجالنا ولا إلمامه
ونقيض النفوس وهو قليل ... لا تفيض الدموع يقضي ذمامه
إن قبراً حواه لا غرو إن را ... ح ذكياً كالمسك ريحاً رغامه
آنس الله روحه برحم ... ته عليها وروحة وسلامه
ورثاه تقي الدين حسين بقوله:
وافى مصاب يقتضي إلمامه ... هملان طرف لا يقل سجامه
وخفوق قلب ما أراه ساكناً ... يوم ابن مالك إذ أتاه حمامه
لهفي عليه لقد مضى مستسلماً ... لقضاء ربه يفيه مرامه
قد كان بحراً في العلوم وشامخاً ... في الحلم واهاً لو يطول مقامه
المانح الأدب الجزيل الشارح الت ... نزيل كما يجتلي أحكامه
رحم المهيمن روحه فضريحه ... يعتاده صوب يسحّ غمامه
أعني ابن مالك الموسد في الثرى ... وعلومه بين الورى أعلامه
إن يطرأ النقص الشنيع لفقده ... فإذا أبيد الدين صح تمامه
خلف رضي بالوقار مسربل ... وبروق مرأى فعله وكلامه
ورث الفضائل كابراً عن كابر ... دامت لنا في نعمة أيامه
محمد بن محمد بن الحسن أبو عبد الله نصير الدين الطوسي صاحب علوم الرياضة والرصد وغير ذلك من علوم الأوائل، كان إماماً منفرداً بذلك فاق أهل عصره، وانتهت إليه معرفة هذا الشأن، وتوفي بالجانب الغربي من بغداد في يوم الإثنين ثامن عشر ذي الحجة، ودفن في مقابر موسى بن جعفر رحمة الله عليهما وقد نيف على ثمانين سنة، وقيل كانت وفاته في صفر سنة أربع وسبعين والأول أظهر رحمه الله. قرأ العلم على المعين سالم بن بدران بن علي المعتزلي المتشيع المصري وغيره. وكانت له مصنفات كثيرة في أنواع من العلوم العقلية وإليه المرجع فيها، وله أشعار كثيرة، فمن ذلك ما كتبه من شعره على مصنف في أصول الدين لكمال الدين الطوسي، سيّره إليه ليجيب عن مسائل فيه، سأله إياها فأجاب عنها أحسن جواب ومدحه بهذه الأبيات:
أيأتي كتاب في البلاغة منته ... إلى غاية ليست تقارب بالوصف
فمنظومه كالدر جاد نظامه ... ومنثوره مثل الدراري في اللطف
دقيق المعاني في جزالة لطفة ... يخبّر في ضم الغموض إلى الكشف
كفايته حار العقول بحسنها ... فأمرض عيناها وملثمها يشفي
أتى عن كثير ذي فضائل جمة ... عليم بما يبدي الحكيم وما يخفي
فأصبحت مشتاقاً إليه مشاهداً ... بقلبي مخباه وإن عز عن طرفي
رجا الطرف أيضاً كالفؤاد لقاءه ... وإن لا يوافي قبل إدراكه حتفي
قرأت من العنوان لما فتحته ... وقبّلت تقبيلاً يزيد على اللف
ولما بدا لي ذكركم في مسامعي ... تعشّقكم قلبي ولم يركم طرفي
وصادفت هذا البيت في شرح قصتي ... وإيضاح ما عانيته جملة يكفي

وردت رسالة شريفة ومقالة لطيفة مشحونة بفرائد الفوائد مشتملة على صحائف اللطائف مستجمعة لفرائس النفائس مملوءة من زواهر الجواهر من الجناب الكريم السيدي العالمي الفاضلي السندي المحققي الكمالي أدام الله جماله وحرس كماله إلى الداعي الضعيف المحروم المتلهف محمد بن محمد الطوسي، فاقتبس من شرار ناره نكت الزبور وآنس من جانب جناب طوره أثر النور، فوجدتها بكراً حلت حلة كريمة، وصادفتها صدقة تضمت درة يتيمة هي أوراق مشتملة على رسائل في ضمنها مسائل أرسلها وسأل عنها من كان أفضل زمانه وواحد أقرانه الذي نطق الحق على لسانه ولوح الحقيقة من بنانه ورأيت المورد أدام الله فضله قد سألني الكلام فيها، وكشف القناع عن مطاويها؛ وأين أنا من المبارزة مع فرسان الكلام والمعارضة مع البدر عند التمام، وكيف يصل الأعرج إلى قلة الجبل المنيع وأتى الظالع شأو الضليع، ولكني بحرصي على طلب التوصل الروحاني إليه بإجابة سؤاله، وشغفي بنيل التوصل الحقيقي لديه بإيراد الجواب عن مقابلة اجترأت، فامتثلت أمره واشتغلت بمرسومه، فإن كان موافقاً كما أراد فقد أدركت طلبي وإلا فليعذرني إذ قدمت معذرتي والله المستعان وعليه التكلان، والأخذ في تصفح الرسالة فصلاً فصلاً، وتقريرما يتقدر عندي منه أو برد عليّ مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه إنه الموفق والمعين.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو المكارم الأسدي الشافعي محي الدين قاضي القضاة بحلب؛ مولده بها في خامس شعبان سنة اثنتي عشرة وست مائة بحلب، سمع وحدث ودرس بالمدرسة المسرورية بالقاهرة، وتولى القضاء بحلب وأعمالها إلى حين وفاته؛ وبيته معروف بالعلم و الدين والتقدم والسنة والجماعة، وتوفي في ثالث عشر جمادى الأولى بحلب، ودفن بتربة جده رحمه الله تعالى؛ وقيل في وفاته غير ذلك. وقد ولي القضاء بحلب من بيتهم غير واحد رحمهم الله أجمعين.
محمد بن الموفق بن الزهر مبارك أبو عبد الله الأمير نجم الدين، وقد تقدم ذكر أخيه الأمير سيف الدين عيسى رحمه الله، ووفاته في أوائل هذه السنة. وتوفي نجم الدين محمد المذكور ليلة السبت سابع عشر شهر رجب بقرية بحوشية، ودفن بها عند أهله وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى. وكان عنده ديانة وتشيّع ومعرفة بمذهبه وتغالى فيه كثير المكارم حسن الصحبة والأدب مع من يصحبه رحمه الله تعالى.
محمد بن أبي الرجاء بن أبي الزهر بن أبي القاسم أبو عبد الله التنوخي الدمشقي المتطبب المعروف بابن السلعوس، مولده في العشر الأوسط من شهر رجب سنة تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من عبد الصمد الحرستاني وحدث عنه بالقاهرة، وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.
نعمان بن حمدان بن نعمان التكريتي الملقب بشجاع الدين من التجار المشهورين بالثروة وكثرة الجد، وعنده سعة صدر فيما يقدمه للملوك والأمراء من التقادم والتحف، وكانت له مكانة عند الملك الظاهر، رحمه الله وقرب أوجب تغير خاطر وزيره الصاحب بهاء الدين عليه، فلم تنفعه مكانته وقربه، وكان صهر وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي وزج ابنته وأولاده منها وتوفي ليلة الجمعة ثاني جمادى الآخرة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.

أبو بكر بن أحمد بن عمر البعلبكي المعروف بابن الحبال ويعرف بابن دشينية توفي ببعلبك ليلة الجمعة تاسع وعشرين شهر ربيع الأول، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة ظاهر باب نخلة، وهو في عشر السبعين، وخلف تركة عظيمة؛ قيل أنها تقارب بمائة ألف دينار، ولم يرزق ولداً، وإنما كان له زوجة وابنا عم، فاحتاط الملك الظاهر على تركته، وكان بدمشق وأخذ منها قريب أربع مائة ألف درهم وأفرج لورثته عن الوثائق والأملاك فتمحق أكثر ذلك، وكان وقف في حال حياته وقفاً على وجوه البر يتحصل منه في السنة قريب خمسة آلاف درهم وقفه على نفسه مدة حياته، ثم من بعده يصرفه في مصارفه، فجرى فيه فصول واستقر بعد وفاته وقفاً كما وقفه، وكان أراد الرجوع فيه قبل وفاته واستفتى على ذلك، فوجد كتاب الوقف قد كتب به نسخة وحكم الحكام بصحته فلم يجد إلى ذلك سبيلاً، وكان يشح على نفسه بأيسر الأشياء. وكان سبب وقفه لهذا الوقف أن الحوطة لما حصلت في سنة أربع وستين ورسم أنه لا يفرج لأحد إلا بعد ثبوت كتابه بدمشق في وجه وكيل بيت المال نظر المشار إليه ووجد عنده فوق المائة كتاب وأنه يغرم على الإثبات بدمشق وبعلبك على كل كتاب تسجيل وشهود الطريق قريب الخمسة عشر درهماً، فرأى ذلك يشق عليه ولم تسمح نفسه به، فقيل له: أنت ليس لك نية تبيع هذا الملك ولا ترهنه، والمصلحة أنك توقفه على نفسك مدة حياتك، ثم بعدك على أولادك إن كان لك ولد وإلا على وجوه البر، فتجمع هذه الأملاك في كتاب واحد وتحصل الأفراج به فجنح إلى ذلك وعمله، ثم أراد نقضه كما تقدم فتعذر عليه، وكان فيه رفق بمن يعامله ويدانيه بصبر بعد الاستحقاق المدة الطويلة، وقل إن كان يحبس له غريم رحمه الله وإيانا وكان في بداية أمره ضعيف الحال لا شيء له وإنما اكتسب ذلك بالأسفار ونماه بالمعاملة مع قلة الخرج وكثرة الدخل فصار له جملة طائلة وبعض الناس يقول أنه ربما وجد شيئاً مدفوناً ولا أصل لذلك، وفي الجملة لم ير بعده من أرباب الأموال ببعلبك مثله رحمه الله.
السنة الثالثة والسبعون وست مائةدخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة والملك الظاهر بالديار المصرية.
متجددات الأحوالفي خامس عشر المحرم يوم السبت جهزت الشواني من دار الصناعة إلى دمياط.
وفي يوم الأحد سادس عشره وصل الملك المنصور من حماة إلى القاهرة وصحبته أخوه الأفضل وولده المظفر محمود، فنزل بالكبش وبعث إليه الملك الظاهر السماط بكماله صحبة الأمير شمس الدين الفارقاني أستاذ الدار فوقف في وسطه لما مد، فلم يتركه الملك المنصور وسأله حتى جلس ثم وصلت الخلع وغيرها، وأباح له ما لم يبحه لأحد من خواصه من شرب الخمر وسماع الغناء وسائر الملاهي مبالغة في إكرامه واحترامه.
وفي سادس صفر ولدت امرأة نصرانية بقصر الشمع محلة بمصر ثلاث بنات في بطن واحد لكل واحدة منهن مشيمة ومتن لوقتهن.
وفي يوم الأحد سابع صفر توجه الملك الظاهر إلى الكرك على الهجن، وفي صحبته الأمير بدر الدين بيسري وسيف الدين أتامش السعدي وسبب توجهه أنه وقع بالكرك برج فأحب أن يكون إصلاحه بحضوره، وكان بالكرك بساتين محكرة بشيء يسير، فأمسكها جميعها ثم عاد إلى مصر، فدخلها يوم الثلاثاء ثاني وعشرين ربيع الأول، ولقيه صاحب حماة على الغرابي ليلاً، فودعه وسار إلى حماة. وقبل توجه الملك الظاهر إلى الكرك أعطى الأمير شهاب الدين يوسف بن الأمير حسام الدين الحسن بن أبي الفارس القيمري خبز أربعين طواشياً بدمشق، وكان من أعيان الأمراء في الدولة الصالحية النجمية والدولة الناصرية، وكان بطالاً قد أطلق له من بيت المال في كل يوم عشرين درهماً لنفقته وكلفته.
ذكر هرب رئيس الإسكندرية ومن معه من عكا

قد تقدم القول بكسر الشواني وأسر من كان فيها، ولما أسروا بعث بهم إلى عكا طلباً للفداء، فامتنع الملك الظاهر من فدائهم، و قال: إني قد استغنيت عنهم. وكتب إليهم أن يسعوا في فداء أنفسهم. ومن فدى نفسه شنقته ودام الحال على ذلك، فمات من مات وهرب من هرب، فكتب الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين العلائي نائب السلطنة بقلعة صفد بأن يوسع الحيلة في خلاصهم، فكتب إلى ابن جعفر من الفرنج بعكا ووعد ألف دينار إن سعى في خلاصهم فدسّ المذكور إليهم مبارداً قطعوا بها شبّاكاً في البرج الذي هم فيه، ثم أخرجوا من الباب ليلاً، وعليهم زي الفرنج إلى مركب قد أعدوا لهم، فركبوه إلى ساحل عيّن لهم، فوجدوا خيل البريد معدة لهم، فركبوا وغيروا زيهم وتلثموا ودخلوا صفد سراً لم يشعر بهم أحداً وبعث بهم العلائي ملثمين بحيث لا يعرفون، فوصلوا إلى القاهرة في ربيع الأول، وهم الرئيس شهاب الدين أبو العباس المغربي وشهاب الدين محمد بن الموفق رئيس الاسكندرية وزين الدين أخوه، والرئيس سيف الدين أبو بكر بن إسحاق. وكان توفي من المأسورين بعكا وقبرس سيف الدين محمد بن المجاهد وسيف الدين بن أبي سلامة رئيسا الاسكندرية، وشرف الدين علوي رئيس دمياط، ومن رؤساء مصر نجم الدين نجم بن سيف الدولة الجبلي، وسيف الدين أبو بكر بن المخلص إبراهيم بن إسحاق، وجمال الدولة يوسف بن المخلص وسيف الدين محمد بن نور الدولة علي بن المخلص وغيرهم، والباقون منهم من تحيل وهرب ومنهم من توفي ومنهم من بقى في الأسر بجزيرة قبرص، ولما وصل الرؤساء الذين سلموا كان الملك الظاهر بالكرك، فلما عاد أحضرهم ووبخهم على تفريطهم، فقال له شهاب الدين رئيس الاسكندرية: قضاء الله لا يرد بحيلة. فاستحسن منه ذلك وخلع عليهم.
وفي سابع عشر ربيع الآخر عاد ابن غراب وصارم الدين أزبك وجماعة من الأجناد والعرب والمماليك من برقة، ومعهم منصور صاحب قلعة طلميثة ومفاتيحها معه.
وفي سادس وعشرين ربيع الآخر خرج الملك الظاهر لرمي البندق، وترك في القلعة نائباً عنه الأمير بدر الدين أيدمز الوزيري، فأقام خمسة أيام ثم عاد إلى القلعة. وسبب عوده أن بعض العرب اطلع على أن جماعة من التتر يكاتبون، ثم ردف ذلك أن والي غزة أمسك ثلاثة نفر، ومعهم بدوي في خان حماق قد خرجوا من القاهرة لقصد التتر، فأنكر الخاني كلامهم، فعرّف الوالي بهم فأخذهم ووجد معهم كتباً، فسيرها إلى القاهرة ووقف الملك الظاهر على الكتب، فوجدها من عند قجقار الحموي وموغان بن منكورس وسربغا وطنغري برمش وأنوك وبرمش وبلبان محلى والمعلاني المرتد وبلاغاً وطعبني وأيبك وسنجر الحواشي التركي؛ فقيض عليهم وقابلهم بما فعلوا؛ فأقروا فكان آخر العهد بهم.
وفي يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى توجه الملك الظاهر وولده الملك السعيد إلى جهة البحرية للصيد في الخراريق ودخل الاسكندرية فشكى إليه وإليها شمس الدين بن باخل، فضربه وأخذ خطه بخمسين ألف دينار، وهدم له بستاناً كبيراً وقف عليه بنفسه حتى هدمته العامة، وأقره على الولاية فقط، وفوض أمر الجيش والديوان إلى الطواشي بهاء الدين صندل فشيد دار الطراز، وعاد نهار الخميس خامس جمادى الآخرة.
وفي رابع شعبان رحل الملك الظاهر بالعساكر نحو الشام، فوصل دمشق يوم الخميس تاسع عشرين منه، ثم خرج قاصداً بلد سيس وعبر إليها الدربند، فملكها وملك إياس والمصيصة وأذنة، وكان دخول العساكر إلى سيس يوم الاثنين حادي عشرين شهر رمضان، وخروجهم منها في العشرين من شوال بعد أن قتلوا من الأرمن وأسروا خلقاً كثيراً لا يحصى، وغنموا من البقر والغنم ما بيع بالمجان، وأقام الملك الظاهر بجسر الحديد إلى أن انقضى شوال وذو القعدة، ورحل في العشر الأول من ذي الحجة، فدخل دمشق يوم الثلاثاء خامسه، وأقام بدمشق إلى أن دخلت سنة أربع وسبعين.
أعجوبة: في السابع والعشرين من شعبان وقع رمل بمدينة الموصل ظهر من القبلة وانتشر يميناً وشمالاً حتى ملأ الأفق وعميت الطرق، فخرج العالم إلى ظاهر البلد بتلعها وبمشهد يحيى بن قاسم، ولم يزالوا يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى أن كشف الله ذلك عنهم.

وفي هذه السنة بعث أبغا إلى الروم تقونوين عوضاً عن أجاي ومعه أربعين رجلاً من خواصه، وأمره أن يكتب جميع أموال الروم ويضبطها، ولا يحكم البرواناة ولا غيره من أمراء الروم إلا بحضوره، ولا يصدرون إلا عن رأيه، فلما وصل حضر مجلسه جميع امراء الروم وقدموا له الهدايا والتحف خصوصاً البرواناة، وطاف تقونوين جميع بلاد الروم وحصل منها أموالاً جسيمة وحملها إلى أبغا، ولما رأى البرواناة تمكن تقونوين ذل له واستكان وبذل له الطاعة.
وفيها توفي إبراهيم بن يوسف بن جعفر بن عرفة بن المأمون بن المزمل بن قاسم بن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو إسحاق المعروف بظهير الدين بن شيخ الإسلام القرشي الأموي، ومولده بدمشق في ثالث عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، سمع وحدث، وبيته معروف بالحديث والرواية والديانة والرئاسة والأمرة والتقدم، وكانت وفاته في رابع عشرين جمادى الآخرة، ودفن من يومه بمقابر باب النصر - رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن شروة بن علي بن مرزبان بن كلول جكو أبو إسحاق الأمير سيف الدين الزهيري الجاكي توفي ببعلبك قبل طلوع الشمس من يوم الخميس رابع عشرين شهر رجب، ودفن من يومه ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك، وقد نيف على السبعين سنة من العمر - رحمه الله تعالى. وكان من الأمانة والحشمة وشرف النفس وصدق اللهجة على طريقة لا يدانيه فيها غيره. حكى لي غانم بن العشيرة أنه كان متولي حلب عند فقد التتار لها، ولما هجمت المدينة صعد إلى القلعة وأحضر غلمانه صناديق من داره رموها في خندق القلعة لضيق الوقت عن ادخالها إلى القلعة وكذلك غيره، ثم سير غلمانه ليحضروا له شيئاً من تلك الصناديق، فخرجوا والقتال يعمل، فقاتلوا ولا زالوا حتى أحضروا صندوقاً، فلما فتحه وجد فيه ذهباً ودراهم وحوائص وأشياء فاخرة وما هوله؛ فقال له غلمانه: أنت محتاج خذ منه شيئاً ولو على سبيل القرض. فأبى ولا زال ينبشه حتى وجد فيه شطفة رنك بعض الأمراء، فسير اليه عرّفه فحضر وتسلّمه، وكان ولي حران في الأيام الناصرية وأمير جندار العزيز بن عبد الملك الناصر، وتوجه معه إلى هولاكو وبعد أخذه قلعة حلب جعله هولاكو أمير شكار وسلم إليه الجوارح وغيرها، وكان عنده محترماً خلاف وكان الملك الظاهر يحترمه ويثني عليه ويصفه بالعفة والأمانة والحشمة - رحمه الله تعالى، وخلف أولاداً منهم الأمير علاء الدين أحمد أخذ خبزه وولي بعده مكانه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
أحمد بن موسى بن يغمور بن جلدك أبو العباس الأمير شهاب الدين بن الأمير جمال الدين، كان معروفاً بالشهامة والصرامة، ولاه الملك الظاهر رحمه الله تعالى المحلة وأعمالها من الغربية، فهذبها ومهّد قواعدها وأباد من بها من المفسدين والدعار، وقطع من الأيدي والأرجل ما لا يحصى كثرة وشنق ووسط وأباد بحيث أفرط في ذلك، فخافه البريء والسقيم وتمكنت مهابته في صدور أهل عمله ومن جاورهم. توفي بالمحلة في رابع عشرين جمادى الأولى، وحمل إلى القرافة. فدفن بتربتهم في الثامن والعشرين منه، وكان عنده كرم ورياسة وحشمة وسعة صدر وبر بمن يقصده، وله نظم وعنده إلمام بالفضيلة رحمه الله وتجاوز عنه، فمن شعره:
وبي أهيف واف وفيه محاسن ... بدت وعليها للعيون تهافت
ممشي في ضياء الدين كالبدر وجهه ... وبينهما للناظرين تفاوت
وأعجب ما شاهدته فيه أنه ... يكلم قلبي لحظه وهو ساكت
وقال في غلام عنبري من أبيات:
تحكم في الألباب حتى رأيته ... ينظّم حبات القلوب قلائدا
وقال في غلام يمد الشريط:
وبي زيّنا كالبدر والظبي بهجة ... وجدّا بقلبي ناره وهو جنتي
منعم خده كاللجين بياضه ... يمد نضاراً كاصفراري ودقتي
وقال وكتب بها إلى الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهري وقد أهدى إليه شاهيناً بدرياً:
يا سيد الأمراء يا من قد غدا ... وجه الزمان به جميلاً ضاحكا
وافى لك الشاهين قبل أوانه ... ليفوز قبل الحائمات ببابكا
حتى الجوارح قد غدت بدرية ... لما رأت كل الوجود لذالكا

وله يخاطب صاحباً الملك الظاهر له ورد عليه من الاسكندرية إلى المحلة:
إن صدرتم عن منزل فلكم ... فيه ثناء كنشر روض بهى
أو وردتم فاللمحب الذي من ... آل موسى في الجانب الغربي
بيمند بن بيمند بن بيمند متملك طرابلس توفي بها في العشر الأول من شهر رمضان المعظم، ودفن في كنيستها، وتملك ولده بعده كان حسن الشكل مليح الصورة، رأيته ببعلبك في سنة ثمان وخمسين وست مائة، وقد حضر إلى خدمة كتبغا نوين وصعد إلى قلعة بعلبك وداراها وحدثته نفسه أنه يطلبها من هولاكو ويبذل له ما يرضيه وشاع ذلك عند بعلبك، فشق على أهلها وعظم لديهم فحصل بحمد الله ومنته من كسرة التتار ف آخر الشهر المذكور ما أمنهم من ذلك ثم لما ملك الملك المنصور سبف الدين قلارون رحمه الله طرابلس وفتحها في سنة ثمان وثمانين وست مائة نبش الناس عظام بيمند المذكور من الكنيسة وألقوها في الطرقات وطرابلس في الحقيقة عند الفرنج إنما هي لامرأة من أولاد صنجيل الذي افتتحها أولاً وأخذها من بني عمار وهي في الجزائر في قلعة لها هناك، واستنابت هي أو جدها جد هذا، فاستولى لبعدها عنه، وكان من شياطين الفرنج ودهاتهم وتداولها أولاده من بعده، وكان ابن صنجيل خرج من قلاعها لأمر أوجب ذلك وركب البحر، فتوفقت عليه الريح ونفد زاده، وكاد يهلك هو ومن معه وقرب من طرابلس فسيّر إلى صاحبها إذ ذاك وسأله أن يأذن له في النزول في أرضه والإقامة في البر بمقدار ما يستريح ويتزود فأذن له. فنزل بمكان الحصن المعروف به الآن وهو حيث بنيت طرابلس الجديدة وباع واشترى فنزل إليه أهل حبه يشري وسائر تلك النواحي وجميعهم نصارى وأطمعوه في البلد وعرّفوه ضعف صاحبه وعجزه عن دفعه، فأقام وبنى الحصن المعروف به وتكثر بأهل بلاد طرابلس واتفق اشتغال ملوك الشام ونواب الدولة المصرية به فغنم وتم مراده وصابر طرابلس مدة زمانية فتوجه ابن عمار إلى السلطان ملك شاه السلجوقي يستنجد منه، فلم يحصل له مقصود فأخذت منه طرابلس وانتقل بأمواله وذخائره إلى عرقا.
واستفحل أمر الفرنج بالساحل فلم يمكنه مجاورتهم فانتقل إلى حصن الخوابي وكان له فأخذ عرقاً متملك طرابلس والله أعلم.
سعد الله بن سعد الله بن سالم بن واصل زين الدين الحموي، كان فاضلاً في الطب مجرباً حاذقاً حسن المعالجة متديناً ذا مروءة غزيرة، وله تقدم في الدولة، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي في شوال رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الكريم بن قرناص أبو محمد جمال الدين بن الشيخ نجم الدين أبي علي بن مخلص الدين أبي إسحاق الخزاعي الحموي، توفي بحماة عشية يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن من الغد بالتربة المعروفة بهم رحمه الله وهو في عشر السبعين. وذكره القاضي جمال الدين بن واصل رحمه الله؛ فقال: جمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن الشيخ نجم الدين أبي علي الحسن بن إبراهيم بن قرناص كان رئيساً كبيراً كريماً ذا نعمة واسعة، وداره مأوى القاصدين إليه والواردين عليه واللازمين من الأصحاب له مع ديانة تامة، وحسن طوية، وطلاقة وجه لم يكن في بلده في وقته من يضاهيه في ذلك، مولده سنة عشرين وست مائة، وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وست مائة، ودفن بالمدرسة التي أنشأها جده الرئيس مخلص الدين إبراهيم بن عبد الكريم بن قرناص ظاهر حماة رحمه الله تعالى.

عبد الله بن محمد بن عطاء أبو محمد شمس الدين الحنفي توفي بدمشق يوم الجمعة ثامن جمادى الأولى، كان والده شرف الدين محمد حنبلي المذهب، وكان يتغالى في والدي رحمه الله ويحبه محبة عظيمة مفرطة وبسببه انتقل إلى بعلبك واستوطنها مدة سنين، وقرأ ولده شمس الدين القرآن العزيز على والدي واستأذنه والده شرف الدين محمد فيما يشتغل به ولده المذكور، فأشار عليه أن يشغله في الفقه على مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه؛ فاشتغل وحفظ القدوري ورحل إلى دمشق وتفقه بحيث صار المشار إليه في الحنفية، وتولى تدريس مدارس عدة، وناب في الحكم بدمشق عن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سنى الدولة رحمه الله، ومن بعده من القضاة، فلما رتب الملك الظاهر رحمه الله القضاة من المذاهب الأربعة سيّر له تقليدا بقضاء القضاة بدمشق المحروسة وأعمالها، فباشر ذلك وانتقل من النيابة إلى الاستقلال، وذلك في سنة أربع وستين، واتفق حوطة الملك الظاهر على الأملاك وبساتين دمشق، وقعد في دار العدل وجرى الحديث في هذا المعنى بحضور القضاة وجماعة من العلماء والمشايخ وغيرهم، فكل ألان القول وخشي سطوة الملك الظاهر إلا القاضي شمس الدين المذكور رحمه الله، فأنه بالغ في الصدع بالحق ولم يخش إلا الله تعالى، و قال: لا يحل لمسلم أن يتعرض إلى هذه الأملاك ولا البساتين فإنها بيد أربابها ويدهم ثابتة عليها. فغضب الملك الظاهر لهذا القول، وقام من دار العدل، و قال: إذا كنا ما نحن مسلمين أيش قعودنا. فشرع الأمراء يتلافوه وقالوا: لم يقل أن مولانا السلطان ما هو مسلم وإنما قال ما يحل لمسلم التعرض إلى أملاك الناس. فلما سكن غضبه قال: اثبتوا كتبنا عند هذا القاضي الحنفي وتحقق صلابته في الدين فعظم في عينه. وأما القاضي شمس الدين رحمه الله فلم يتأثر ولا التفت وعصمه الله منه بحسن قصده، وكان القاضي شمس الدين من العلماء الأعيان تام الفضيلة وافر الديانة كريم الأخلاق حسن العشرة كثير التواضع عديم النظير قليل الرغبة في الدنيا، يقتنع منها باليسير ولا يحابي أحداً في الحق، واشتغل عليه خلق كثير وجم غفير كان مرضه وهو صغير ببعلبك مرضاً أشفى منه والده بدمشق في شغل له، فسيرت والدته إليه تقول: إلحق ولدك عبد الله فإنه هالك. فبطّل ما كان بصدده وحضر إلى بعلبك، فرآه في حال اليأس منه فحضر عند والدي فسلم عليه وأخبره بما شاهده من حال ولده، فقال له: طيب قلبك فإن ولدك يبرأ بإذن الله تعالى وما عليه بأس. فقام لوقته وسافر ولم يبت تلك الليلة ببعلبك، فقالت له زوجته: تسافر وولدك على هذه الحال! قال لها: قال لي الشيخ الفقيه: إنه يهدى وما عليه بأس. وتم سفره ومدفنه يجبل قاسيون رحمه الله و رضي عنه.
عثمان بن محمد بن منصور بن أبي محمد بن عبد الله بن سرور أبو عمرو فخر الدين الأميني ويعرف بابن الحاجب، والحاجب هو جده منصور بن أبي، ومولده بدمشق سنة اثنتين وست مائة. سمع من جماعة من المشايخ الكثير وحدث وتوفي في الرابع من ربيع الآخر، ودفن من الغد ظاهر باب النصر رحمه الله؛ وللأميني نسبة إلى أمين الدولة صاحب صرخد.
محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم أبو عبد الله عز الدين الحلبي الأصل المعروف بابن العجمي، قد تقدم ذكر والده كمال الدين في سنة سبع وستين وست مائة، ولما توفي والده رتب عز الدين ولده في كتابة الإنشاء، وكان عنده أهلية تامة وفضيلة كثيرة ومروءة غزيرة ومثابرة على قضاء حوائج الناس، و توفي بدمشق في هذه السنة و دفن بمقابر الصوفية إلى جانب قبر أبيه رحمه الله تعالى ولعله لم يبلغ ثلاثين سنة من العمر رحمه الله تعالى، وكان عارفاً بالفقه على مذهب الشافعي رحمه الله، مشاركاً في علوم كثيرة، متفنناً أكثرها مع كثرة الديانة وسعة الصدر، كثير التعبد والانقطاع عن الناس، حفظ شيئاً كثيراً من الكتب المشهورة في فنون العلوم ودرّس بعدة مدارس بالقاهرة وغيرها، وصنف وأفاد وبرع نظراءه، وله نظم كثير فمنه:
حكم الغرام وحكمه مقبول ... إني بسيف لحاظه مقتول
فعلام تنكر ما جنت ألحاظه ... ودمي على وجناته مطلول
بدر وغصن قدّه ورضابه ... ذا عاسل يثني وذا معسول
لا غرو أن أضحى القوام مثقفاً ... فسنانه من جفنه مسلول

حل اصطباري عقد مبسمه ... وما عقد الوداد لودّه محلول
أرادفه مثل الكثيب بحالها ... لكن محل وشاحه مجدول
كيف السبيل إلى وصال حبيبه ... وصدوده ببعاده موصول
وله ملغزاً في عقرب:
وما اسم رباعي إذا ما عددته ... تراه بلا شك يزيد على عشر
له منزل إن شئت في أبرج السماء ... ومنزله في الأرض باد لدى حجر
إذا أدركته الشمس يذهب شخصه ... وتبصره في الشمس يسعى إلى الوكر
معكوسه ستر إذا ما رفعته ... رأيت جمالاً حل باريه كالبدر
وتصحيفه أرجوه من خالق الورى ... يمن به قولاً إذا حفت من وزري
وقال أيضاً رحمه الله:
أتراه يذري في الهوى ولهن به ... أم عنده خبر الجوى ولهيبه
أم هل ترى ترتي النوى لمقاطع ... ما زال يوصل دمعه بنحيبه
صب تسربل في قميص سقامه ... لما كساه الحب ثوب شحوبه
عجباً له عذبت بفيه مشارب ... وعذابها سبباً إلى تعذيبه
فنحيبه لحبيبه وسراره ... لرقيبه وسقامه لطبيبه
حكم الهوى أن لا يمر بربعهم ... إلا ستاه بدمعه وغروبه
ويظل يطلب منه عن سكانه ... خبراً وذاك الرسم غبر مجيبه
بالله ما يجري السؤال لمعهد ... أفنى الزمان رسومه بخطوبه
درست معالمهم فلست مفرقاً ... في الرسم بين وهاده وكثيبه
هب النسيم على محل ديارهم ... فشممت من رياه عند هبوبه
آبجاً لأجلهم صبوت له كما ... يصبو المحب إلى لقاء حبيبه
أنسيته لما بدا بدر الدجى ... يحكيه صافي نهره وقليبه
فنظرت عند شروقه وغروبه ... ورأيته بين طلوعه ومغيبه
بدري الذي قد همت فيه ولم ... أخف من كيد عذله ووشي رقيبه
فلئن عفا فلطالما قد مر لي ... زمن نعمت بحسنه وبطيبه
ولئن حلا فلكم جوى من شادن ... يحتال بين حزونه وسهوبه
ومشنف كحل اللحاظ منعم ... ومهفهف علا القوام رطيبه
غنى الربيع بربعه فكساه من ... تفضيضه حللاً ومن تذهيبه
نبأ لدهر ما تبسم ساعة ... إلا وأعقبها بعام قطوبه
لم أبك إطلالاً له ولكنني ... أبكي على عيش تقضي لي به
وقال رحمه الله ملغزاً في قاسم:
سألت محبوبي عن اسمه ... فقال ما عندي له علم
لكنني أبدي له كنية ... يعرفها من عنده فهم
ترخيمه وصف لقلبي فإن ... أسقطت منه أولاً فاسم
وعكسه عضو إذا رخموا ... منى اللحم والعظم
فقلت لا نبعث من لفظه ... تصحيفه تجلى بها الوهم
فحله وانظم يا ذا الفتى ... بفضله قد شهد النظم
وقال أيضاً ملغزاً:
يا أولي الفضل والفضيلة قد أع ... وزني في حل وفي كشف
خبروني عن اسم جمع وطرف ... ومعكوسه إذا شئت حرف
وهو أن صحفوه في الصدر بعض ... وهو أن حرفوه في القلب ألف
وتراه فلا تشك بأني ... قلت حقاً إذا بدا منه وصف
وهو معتل طالما صحح ال ... مرء معروف بالخفافة عطف
ينبي العكس منه عن كل واحد ... هو إذا خففوه كم فيه ألف
أي عذر وقد أتاك صريحاً ... لك إن كان في جوابك خلف
وكتب إليه شخص من أصحابه لغزاً:
رأيت صبياً قارئاً ذا فصاحة ... يريك آيات النساء ويجوّد
فقلت له ما الاسم أطرق ساعة ... يصوب نحوي طرفه ويصوّد
فقال إذا ما رمته فهو ظاهر ... بأول ما أتلوه حين أردد
فصحفه بعد العكس منه فإنه ... تراه صحيحاً واضحاً حين يقصّد
فأجابه عنه يقول:

أظنك تعني خادماً ما لبيباً ... ومن تنقل الأخبار عنه وتسند
إذا عكسوه فهو ضوء لبارق ... وإن حرفوه فهو للصب مسعد
وتصحيفه انبئت حقاً بفضله ... فما ارتاب فيه لا ولا أتردد
فخذه ودم ما ناح في الجو طائر ... وما دام أدوار وما دام فرقد
وقال رحمه الله ملغزاً أيضاً:
ما اسم كلتا بفضيلة سماه نعترف ... متصرف كان في ملكه غير منصرف
فحرفان منه فعل أمر لمذكر وثلاثة أمر لمؤنث أن حرف وباقيه فعل ماض معناه الكذب، والمشار إليه بالصدق قد عرف له خصائص صفات قد باين بها الحيوان بالبشر ورحيل مشهور كاد أن يضاهي برحيل الشمس وبتسيير القمر وسلوك في الجو أعجب من كل عجيب وهو أن صحفته وقلبته تام تكتيب، وله رحمه الله مجيباً:
هو النبي سليمان الذي ظهر ... إيمان في عصره واستخبأ الشرك
هذا الجواب بلا شك أتاك فإن ... صحفت حرفين منه جاءك الشك
محمد بن إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين أبو عبد الله شمس الدين، كان رجلاً حسناً، وعنده اشتغال بالفقه والنحو وغيره، و توفي ببعلبك في بكرة نهار الجمعة خامس وعشرين شهر رجب، و دفن من يومه بتربة ابن قرقين بمقابر باب سطحاً ظاهر بعلبك، وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن موسى بن عبد الرحمن أبو بكر أمين الدين الأنصاري الخزرجي المحلي النحوي العروضي الكاتب، ولد في شهر رمضان المعظم سنة ست مائة، و توفي ليلة الجمعة ثامن عشر ذي القعدة، ودفن يوم الجمة بين القرافقين بالديار المصرية، قرأ الأدب وبرع فيه، وانتفع به جماعة؛ وله تصانيف، وكان أحد الفضلاء المشهورين، عارفاً بعلوم عدة؛ وله نظم حسن وأرجوزة في العروض وأخرى في القوافي وغير ذلك، كتب في مرضه إلى بعض معارفه الأكابر يشكو المضائقة وسوء الحال:
يا من الذي عم الورى نفعه ... ومن له الإحسان والفضل
العبد في منزله مدنف ... وقد جفاه الصحب والأهل
فزوجه البقل ويا ويح من ... فروجه في المرض البقل
ومات بعد قوله هذه الأبيات الثلاثة بثلاثة أيام، وكان له صاحب فمرض فلم يعده أمين الدين المذكور وكتب إليه:
إن جئت نلت ببابك التشريفا ... وإن انقطعت فأوثر التخفيفا
ووحق حبي فيك قدماً أنني ... عوفيت أكره أن أراك ضعيفا
محمد بن يحيى بن الفضل بن يحيى بن عبد الله بن القاسم بن المظفر أبو حامد محي الدين ابن الشهرزوري الموصلي، مولده في ثامن عشر شهر رمضان سنة تسعين وخمس مائة، كان من أولاد القضاة، وعنده فضيلة، وله نظم حسن، ووالده تاج الدين أبو طاهر كان قاضي الجزيرة العمرية، والمحيي المذكور ترك زي الفقهاء وتزيا بزي الأجناد، وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة بالمقس ظاهر القاهرة من الديار المصرية، وبيته مشهور بالرئاسة والتقدم، وتولى القضاء فب الأقطار غير واحد منهم رحمه الله.
مسلم البرقي البدوي شيخ الفقراء كان رجلاً صالحاً كثير التعبد، وله رباط بالقرافة الصغرى، وكان أحد المشايخ المشهورين مقصوداً للزيارة والدعاء والتبرك به وأصحابه معروفون. و توفي في خامس ربيع الأول، ودفن من الغد بقرافة مصر الصغرى رحمه الله.
منصور بن سليم بن منصور بن فتوح الهمداني الاسكندري أبو المظفر وجيه الدين ابن الشافعي الشيخ الفقيه العالم المحدث الفاضل، مولده في صفر سنة سبع وست مائة، وولد بالاسكندرية، وسمع من جماعة وحدّث ووليّ الحسبة بالاسكندرية ودرس بها وجمع وصنف وخرّج وألّف تاريخاً لبلده الاسكندرية، وكان حافظاً صالحاً حسن الطريقة جميل السيرة محسناً إلى من يرد إليه من الطلبة عفيداً حسن الأخلاق ليّن الجانب؛ رحل إلى بغداد وأقام بها مدة، وله ذيل على ابن نقطة فيما ذيله على كتاب الأمير ابن ماكولا، وله تاريخ الاسكندرية وتاريخ لمنارة الاسكندرية وغير ذلك، وكانت وفاته بالاسكندرية في ليلة الحادي والعشرين من شوال، و دفن من الغد بين العشاوين رحمه الله تعالى.

نصر الله بن عبد المنعم بن نصر الله بن أحمد بن جعفر بن حواري أبو الفتح شرف الدين التنوخي الدمشقي الحنفي، مولده في سنة ثلاث أو أربع وست مائة، وتوفي في سادس شهر ربيع الآخر بدمشق، ودفن بمغارة الجوع بسفح قاسيون، وكان فاضلاً ديّناً حلو النادرة حسن المحاضرة، على ذهنه من الأشعار والحكايات والوقائع شيء كثير، وله يد في نظم وليس بذلك، وكان كبير النفس عالي الهمة كثير الكرم يتجمل فيما يصنعه لمعارفه وأصحابه من المآكيل ولعله يدعو النفر الواحد والنفرين، ويحضر من الأطعمة الفاخرة ما يكفي جماعة كثيرة، وكان في غالب أوقاته يمتنع من أكل طعام غيره وقبول هدية فلمته على ذلك؛ فقال: أشتهي أن أكون حراً لا يسترقني أحد بإحسانه. وكان في زمن أولاد شيخ الشيوخ رحمهم الله، قد تعرف بهم وصار له قرب منهم وحرمة وافرة بسببهم وعمّر في آخر عمره مسجداً عند طواحين الأشنان ظاهر دمشق وغرم عليه جملة كثيرة وتأنق في عمارته، وكان يدعو معارفه إليه ويبالغ في الاحتفال على عادته في سعة صدره وعلو همته، وسمع الكثير وكتب بخطه ما لا يحصى وحدّث رحمه الله تعالى؛ ومن نظمه يتغزل ويصف دمشق:
ما كنت أول مستهام مدنف ... كلف بممشوق القوام مهفهف
يردي لواحظه بكل مهند ... ماض وعطفاه بكل مثقف
مستعذب الألفاظ يفعل طرفه ... في قلب من يهواه فعل المشرف
شمس الضحى كسفت بنور جبينه ... خجلاً ولولا حسنه لم تكف
أنا واله دنف بورد خدوده ... وبغض نرجس مقلتيه المضعف
فحذار من طرف كحيل أوطف ... يسبي ومن خصر نحيل مخطف
يا حائراً أبداً بعادل قده ... ما حيلتي في الحب إن لم ينصف
ديوان حبك لم يزل مستوفياً ... وجدي وأشواقي بحسن يصرف
لك ناظر فتّاك بالعشاق قد ... أضحى على الهلكات أعجل مشرف
ورشيق قد عامل في مهجتي ... من غبر حاصل أدمعي لم تصرف
يا من يروم الوصل من متمنع ... أبداً على عشاقه لم يعطف
أغرس غصون اللهو مهما تستط ... يع فإن بدت ثمرات لهوك فاقطف
وإذا طلائع عارضيه بدت فقل ... قف يا عذار بخده واستوقف
واكشف قناعك إن أردت لذاذة ... لاخير في اللذات إن لم يكشف
لا شي أعذب من تهتك عاشق ... في عشق معسول المراشف أهيف
إن يخف وجدك فالغرام يدعيه ... والوجد أقتل ما يكون إذا خفى
فإذا بلغت لما تحاول من منىً ... بحصاة همك عن فؤادك فاحذف
يا من على صنم الملاحة عاكفاً ... صنم يكون عليه من لم يعكف
أشرفت فيما قد أتيت وإنما ... قد يدرك اللذات غير المشرف
كلّفت نفسك حمل أعباء الهوى ... ومن العجيب خطاب غير مكلف
يا من يعنّف في دمشق ووصفها ... لو كنت تعقل كنت غير معنف
هي جنة الدنيا وتكفي منزهاً ... وفضيلة أوصافها في المصحف
بلد سبي الزمّر الذي حلوا به ... بمياهه ومروجه والزخرف

يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم أبو المحاسن الأسدي الدمشقي الملقب جمال الدين التكريتي الجد، الموصلي الأب، الدمشقي المولد، المحلي الوفاة، المعروف بابن الطحان، المشهور بالحافظ اليغموري مولده بدمشق سنة ست مائة - تخميناً - سمع الكثير بالموصل ودمشق ومصر والاسكندرية وغيرها من جماعة من المشايخ وحصل الأصول والفوائد منهم أبو العباس أحمد بن سلمان بن أبي بكر بن سلامة بن الأصفر البغدادي، وكان عنده فهم وتيقظ، وله مشاركة جيدة في الأدب والتاريخ وغيره من علوم متعددة، وجمع جموعاً مفيدة، وكتب بخطه الكثير، وكان كثير البحث والتنقير، جامعاً لفنون حسنة، حسن الأخلاق لطيف الشمائل، مشغولاً بنفسه، وحدّث وصحب الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله ولازمه وعرف به، فلا يعرف إلا بالحافظ اليغموري، وكان حلو المحادثة مليح النادرة لا تمل مجالسته. توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر بمدينة المحلة من أعمال الغربية، وكان قد قصدها لرؤية الأمير شهاب الدين أحمد بن يغمور المقدم ذكره، فتوفي عنده في هذا التاريخ، و توفي شهاب الدين من بعده بشهر ويومين على ما هو مذكور في ترجمته رحمهم الله تعالى، وكتب إليه الأديب شهاب الدين محمد بن عبد المنعم المعروف بابن الخيمي وكلاهما أرمد:
أبثّك يا خليلي إن عيني ... غدت رمداء تجري مثل عين
حديثاً أنت تعرفه بيننا ... لأنك قد رمدت وأنت عيني
فأجابه الحافظ رحمه الله تعالى يقول:
كفاك الله ما تشكو وحيّا ... محاسن مقلتيك بكل زين
فإني من شفاك على يقين ... فإني قد شفيت وأنت عيني
وكتب إليه الأديب شهاب الدين - ابن الخيمي - المذكور:
يا أيها البحر الذي ... هو سائغ فيه الشراب
والحبر كعب حين ين ... سب في العلوم له كعاب
أأبا المحاسن أنت حا ... فظها فليس لها ذهاب
أضحت وصدرك لوحها الم ... حفوظ ما حفظ الكتاب
كل المحاسن والفضا ... ئل والعلوم به تصاب
وكذا الغرائب أنت مو ... طنها فليس لها اغتراب
أشكو إليك وربما ... يلّتذ بالشكوى المصاب
ذهب الصبا وزمانه ... ذاك الزمان المستطاب
وتغيرت منى الغري ... زة في علوم واكتساب
وتنكرت عندي المعا ... رف والمعارف والصّحاب
وسألت لذاتي الإيا ... ب فلم يكن منها إياب
وا خيبتي ما كان يجم ... ع بيننا إلا الشباب
وبدت عيوب كان من ... بون الشباب لها حجاب
وخضبت أستر حالتي ... عنها فما نفع الخضاب
ومن القضايا في المشي ... ب وكلها فيه صعاب
كحقوق مخدومي جما ... ل الدين طاب به المآب
قد طال شغل خدمتي ... إياه وهو لها ثواب
دأبي له إما ثنا ... ء أو دعاء مستجاب
أو نظم جوهر وصفه ... في سلك نظم يستطاب
وبدائع من فضله ... يبدو بها العجب والعجاب
إلا اجتناب القرب من ... ه فما يضر الاجتناب
إذا كان للإجلال والإجلال ... الأدوان دأب
ومع التجنب فالمو ... دة فوق ما معها اقتراب
فخليفتي في خدمتي ... وله فيها انتداب
قصد النزول بظله ... ليكون منه انتساب
في دار علم جنة ... تجري جواريها العذاب
وللحافظ اليغموري:
رجع الود على رغم الأعادي ... وأتى الوصل على وفق مرادي
ما على الأيام ذنب بعدها ... كفه القرب أساءت البعادي
وقال رحمه الله تعالى:
أنا مرآة فإن أبصرتمو ... حسناً أنتم بها ذاك الحسن
أوتروا ما ليس رضوه فقد ... صدئت إن لم تروها من زمن

قال الحافظ اليغموري: ذكرت الأمير سيف الدين المشد رحمه الله زهر السفرجل وحرصته على رؤيته، فلما صار إليه ورأى بهجته كتب إلي يستدعيني:
زهر السفرجل ما علم ... ت فقد أشرت برؤيته
يدعوك دعوة شيق ... فاغنم إجابة دعوته
إن لم تعنه بنظرة ... أذبلت يانع نضرته
قال الحافظ: فأجزت هذه الأبيات ببيت تأدباً:
حاشاه أن يذوي وقد ... حل البذى في ساحته
مرض للأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله بعض مماليكه، وكان يعز عليه معالجة بعض الأطباء واتفق أن ذلك المملوك توفي إلى رحمة الله تعالى فخرج في جنازته خلق عظيم من الأمراء والأعيان وغيرهم، وخرج الطبيب الذي عالجه في الجملة ووقف على شفير القبر، وجعل يقول للحفار: افعل كذا وكذا؛ فقال له الحافظ اليغموري: يا حكيم أنت قضيت ما عليه ووصلته إلى هنا وما لك بعد هذا حديث هذا يتولاه غيرك. فضحك بعض الحاضرين وخجل الطبيب وبلغ الأمير جمال الدين ذلك فطرب له.
بسم الله الرحمن الرحيم؟

السنة الرابعة والسبعون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية و الملك الظاهر بدمشق.
مجددات الأحوالفي رابع عشر المحرم بعث الملك الظاهر الأمير بدر الدين الخزندار على البريد إلى القاهرة لإحضار الملك السعيد فعاد به إلى دمشق في يوم الأربعاء سادس شهر صفر.
وفي الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير وهو بين حارم وأنطاكية وكان فيه قسيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرك به، وكان الملك الظاهر قلد أمراء التركمان وبعض عسكر حلب بمحاصرته وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ثم بعث إليه الأمير سيف الدين الرومي الدوادار فحصل بينه وبين القسيس مراسلات فيها ضروب من الخداع ألجأه الجمالي فيها النزول إليه. فلما اجتمع به أكرمه سيف الدين وجعل عليه عيوناً تمنعه من التصرف والعود إلى الحصن من حيث لا يشعر ولك يزل يلاطفه بالمواعيد إلى أن سلمه وأطلعه ووفى له بما وعده.
ذكر ما ورد من أخبار بلاد الرومفمن ذلك أن أبغا طلب تقونوين والسلطان غياث الدين والبرواناة فخرجوا من الروم في ذي الحجة من السنة فصادفوا آجاي في أرزن الروم عائداً من عند أبغا إلى الروم، فخافوا منه وقدموا له هدايا كثيرة ثم فارقوه وكان في صحبتهم مرحسيا سركيس وهو قسيس يؤثره أبغا ويكرمه، فوصلوا إلى أبغا في أوائل المحرم وهو بأرموا من بلاد آذربيجان نازلاً في الدار التي أنشأها هولاكو وأنشأ إلى جانبها كنيسة عظيمة لزوجته طغز خاتون وبواطن جدرانها مصفحة بالذهب بأنواع الجواهر فلما مثلوا بين يديه أتحفوه بما معهم من الهدايا، فكان أول ما قبل هدية مرحسياً وكان من جملتها جواشن مبدعة الصفة فأعجبته وفرقها على خواصه ثم سأل السلطان غياث الدين عن أبيه فقال له أبوك مات أو قتل وكان قصده أن يأخذ به من قتله فقال مات وردد القول عليه مراراً وهو لا يغير الجواب الأول، وكان قد تقدمهم خواجا علي فاجتمع بهم عند أبغا فتوسط لهم تقونوين في عوده إلى الوزارة ولولديه تاج الدين ونصير الدين في أن برد عليهما أقطاعاً على أن يبذل في كل سنة ألفي بالشت وسبع مائة فرس يستظهر بها على ما كان يحمل إليه من بلاد الروم فأجاب إلى ذلك، وخلع عليه وعلى ولديه وعادوا، فلما جلسوا بسيواس بلغهم أن آجاي ضرب نواب البرواناة وضياء الدين بن الخطير، واستأصل أموالهم وتعرض لمن سواهم من الأعيان وعسفهم فكتبوا إلى أبغا بذلك فبعث إليه يطلبه.
ذكر ما دبر البرواناة في إخراج آجاي
على ما كاتب به البرواناة

اتفقا على أكل مال الروم وأنهما يشنآن بي ليخرجاني ويستبدان بها فكتب إليه من هو البرواناة حتى نسمع كلامه فيك، أمره إليك إن شئت أن تقتله وإن شئت أن تبقيه، وكان البرواناة لما بلغه أن آجاي بعث رسولاً في أمره جعل عليه عيناً عن عوده بالجواب فلما قدم الرسول أخذ إلى دار البرواناة وأنزل وأكرم وحمل إليه الخمر وأعطى بعض غلمانه دراهم وأمره أن يسرق الكتاب ويحمله إليه ليقف عليه ويعيده إليه ففعل ذلك، فلما وقف على الكتاب سارع في تجهيز هدية سنية بعث بها إلى أجاي ولاطفه بأعذار قبلها منه، ثم إن البرواناة أخذ خطوط وجوه أهل الروم بأن آجاي قد عزم على قتله وقتل تقونوين وتسليم البلاد لصاحب مصر فعاد الجواب باستدعاء آجاي وتقونوين والبرواناة ومرحسياً القسيس، والأمير سيف الدين طغان البكلربكي فخاف البرواناة من استصحاب سيف الدين فأقطعه أرزنكان وولاه كفالة السلطان غياث الدين ثم خرج فيمن بقي معه واستصحب معه كل من كان آجاي ظلمه وعسفه ليستصرخوا عليه عند أبغا فوصلوا إليه في ربيع الأول فلما مثلوا بين يديه وسمع شكوى المتظلمين أمر آجاي أن يقيم عنده وقتل من أصحابه سبعة أنفس وأنهى مرحسياً إلى أبغا أن البرواناة أقطع سيف الدين أرزنجان لكي لا أسكنها وإني إن أقتطعها حملت كل سنة خمس مائة فرس عليها خمس مائة فارس نجدة، فقال له تقونوين أنت تلبس البرنس ولا تليق الإقطاع إلا لمن يلبس السراقوج وإن كنت ترغب في الإقطاع فاخلع البرنس.
وقال للبرواناة هذا يضيع كل سنة من أموال الروم شيئاً كثيراً لأنه يحمي من الفلاحين خلقاً يلبسهم البرانس فلا يؤدون الخراج ولا الجزية، فأمر أبغا أن لا يحمي أحد في سائر البلاد لمرحسياً إلا في أرزنجان لا غير لكونه ساكناً بها ثم عاد إلى الروم في ربيع الآخر، لما عاد البرواناة وتقونوين ومن معهما إلى بلاد الروم ورد عليهم أمر أبغا بخروجهم ونزولهم على قلعة البيرة فرحلوا قاصدين البيرة فنزلوا عليها يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة وعدتهم ثلاثون ألفاً، منهم خمسة عشر ألفاً من المغل مقدمهم تابشي وأقتاي نوين ومقدم عسكر الروم البرواناة، ومقدم عسكر ماردين وميافارقين شرف الدين عبد الله اللاوي، ومعهم من عساكر الموصل وشهرزور والعراق طوائف، فوصلوا إليها ونصبوا ثلاثة وعشرين منجنيقاً أفرنجياً والرامي به مسلم، ونصبوا من القلعة عليه منجنيقاً فلم يصبه حجره وكان يقع رائداً عنه فقال له الرامي المسلم، لو قطع الله من ساعدك ذراعاً كان أهل البيرة يستتركون منك لقلة معرفتك ففهم إشارته وقطع ذراعاً من ساعد المنجنيق ورمى به فأصاب المنجنيق فكسره، وخرج أهل البيرة في الليل وكبسوا العسكر فقتلوا الكثير ونهبوا وأحرقوا المنجنيقات وعادوا.
وكان البرواناة لما نزل على البية بعث أربعمائة فارس يتجسسون أخبار الملك الظاهر ليقتلهم ويعمل السير إلى البيرة فإذا سمع بقدومه كبس عسكر المغل بمن معه من عسكر الروم وتوجه إلى الملك الظاهر فلما عبرت الأربعمائة الفرات إلى الشام وجدوا ثلاثة قصّاد وكتب معهم من الملك الظاهر، كتب إلى البرواناة تتضمن أننا وقفنا على ما كتبت به إلينا، وها نحن على أثر رسلك، فكن على أهبة فيما عزمت عليه من اجتماع الكلمة على العدو المخذول، فأحضروا القصّاد عند أقتاي نوين فعزم على قتل من في العسكر من المسلمين فأشار سمعان عليه أن لا يفعل فإنهم يلجأون إلى أهل البيرة فيقووا بهم على قتالنا فتتركهم إلى أن ننفصل ونرحل ونقتلهم في بعض الأماكن ونقتل معهم البرواناة فأمر بحملتهم إلى البرواناة فأنكرهم، وقال هذه مكيدة من صاحب سيس فقبلوا ذلك منه في الظاهر وقالوا شأنك والقصّاد فقتلهم وطاف برؤوسهم في العسكر ثم سيرت الكتب إلى أبغا من غير علم البرواناة، ولما امتد حصار القلعة وعصيانها أرسل أقتاي نوين إلى سيف الدين بكلربكي وحسام الدين بيجار يستشيرهما فأجاباه هذه القلعة حصينة وعساكر صاحبها قريبة وفيها ذخائر كثيرة وعساكرنا قد ضعفت من الغلاء والوباء والرأي الرحيل فرحلوا يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة بعد أن أحرقوا مجانيقهم ونهبوا أسواقهم بأيديهم.

ولما بلغ الملك الظاهر وهو بدمشق نزول التتر على البيرة أنفق على العساكر فوق ستمائة ألف دينار، وخرج يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة وهو يوم رحيل التتر عن البيرة فاتصل به خبر رحيلهم بالقطيفة فنم إلى حمص وترادفت الأخبار عليه بتفريق شملهم فعاد إلى دمشق ودخلها يوم الخميس سلخه ثم خرج منها يوم السبت ثاني شهر رجب ومعه جميع العساكر ووصل القاهرة يوم الثلاثاء ثامن عشره وكان قد اجتمع بالقاهرة رسل الملك المظفر صاحب اليمن ورسل الأنبروز ورسل الجنوبين ورسل منكوتمر بن تولي خان بن جنكز خان ملك المسلمين من التتر ورسل العلان ورسل الأشكري وعدتهم خمسة وعشرون رسولاً فركبوا وتلقوا الملك الظاهر على بركة الجب ورجّلوا وقبلوا الأرض فسلم عليهم وأمرهم بالركوب ودخل القلعة.
وأما البرواناة وعساكر الروم فإنهم استشعروا من أقتاي بسبب القصّاد فلما رحلوا عن البيرة فارقوهم وعبروا الفرات قاصدين ملطية وبلاد الروم فلما وصلوا أوطانهم تيقنوا أن لا مقام لهم في الروم مع التتر فأجمعوا رأيهم مع البرواناة على منابذتهم فاستحلف البرواناة حسام الدين بيجار النابتري وولده بهاء الدين مقطع ديار بكر وشرف الدين الخطير وضياء الدين محمود أخاه وأمين الدين ميكائيل على أن يكونوا مع الملك الظاهر يعادون من عاداه ويوالون من والاه فلما بلغ ذلك مجد الدين أتابك وجلال الدين المستوفي أنكرا على البرواناة ولما اطلع الأمير سيف الدين بكلربكي على ذلك لزم بيته ثم سير البرواناة رسولاً بنسخة اليمين بدعاء نور الدين بريز يطلب من الملك الظاهر عسكراً يستعين به وأن يكون السلطان غياث الدين على ما هو عليه من الجلوس من التخت على أن يحمل له ما كان يحمله إلى التتر فأجابه الملك الظاهر بالشكر والاعتذار بأن العسكر لا يمكنه الدخول إلى هذه البلاد إلا بعد انقضاء الربيع ويقع العزم على التوجه إليك إن شاء الله تعالى.
ذكر استئصال شأفة النوبةكان داود ملك النوبة أغار على سرح عيذاب سنة إحدى وسبعين وقتل من فيها من التجار ووفد على الملك الظاهر شكدة ابن عم داود متظلماً منه وزعم أن الملك كان له وأنه تغلب عليه فلما استقر الملك الظاهر بقلعة الجبل بعد عوده من الشام تقدم إلى الأميرين عز الدين أفرم وشمس الدين الفارقاني بالمسير إلى النوبة وأصحبهما ثلاثمائة فارس وشكندة وأمرهما بتسليم البلاد إليه على أن يكون ربعها للملك الظاهر فخرجوا يوم الاثنين مستهل شعبان فوصلوا دنقلة في ثالث عشر شوال فخرج إليهم ملكها داود وأخوه جنكو ومن عندهما على النجب الصهب بأيديهم الحراب وليس عليهم ما يقي من السهام غير أكسية سود تسمى الدكاديك فانهزموا وقتل منهم مالا يحصى وأسر أكثر مما قتل، وبيع الرؤوس من السبي بثلاثة دراهم وعزلوا منهم ألف نفر للسلطان، وانهزم داؤد وقطع النيل بأمه وأخته إلى البر الغربي، ثم هرب في أثناء الليل إلى بعض الحصون فركب الأفرم والفارقاني بمن معهما وسارا في طلبه ثلاثة أيام مجدين فلما أحس بهم ترك أمه وأخته وابنة أخيه جنكو ونجا بنفسه وابنه وأخذوا حريمه ورجعوا إلى دنقلة وملكوا شكندة ورتبوه على كل بالغ في البلاد ديناراً في السنة جزية وأن يحمل إلى السلطان في كل سنة عدة كثيرة من الهجن والبقر والعبيد وقرروا مع صاحب بلاد الجبل وكان مبايناً لداؤد أن يكون دووبريم، وهما قلعتان حصينتان بغرب أسوان بينهما سبعة أيام خاصاً للملك الظاهر، وفوضوا إليه نيابة السلطنة فيهما ومتى قصده عدو نجدته العساكر، ثم عاد الأميران ومن معهما إلى القاهرة في خامس ذي الحجة ومعهما أخو الملك داود في برج بقلعة الجبل ثم وصل بعد أيام أم داؤد وأخته وابنة أخيه فحبسوا، ثم وصل السبي فبيع بمائة وعشرين ألف درهم، وأمر الملك الظاهر أن لا يباع منهم شيء على يهودي ولا على نصراني وأن لا يفرق بين المرأة وأولادها، ولما هرب الملك داؤد قصد صاحب الأنواب وهو ملك ملوك النوبة فقبض عليه وسيّره إلى الملك الظاهر فوصل يوم الثلاثاء ثاني المحرم سنة خمس وسبعين فحبس في بعض أبراج القلعة وتقدم السلطان إلى الصاحب بهاء الدين باستخدام عمال على ما يستخرج من الجزية والخراج بدنقلة وأعمالها وأن يجمّل إليها من فوض الصناع والفلاحين والبياعين.

وفي العشر الآخر من شهر رجب شنق الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز، وسبب ذلك أنه كان من خواص الخدام المباشرين لدور الملك الظاهر فبلغه عنه أنه يشرب الخمر بالبلغة مع جماعة من الخدام فأحضره ليلاً وقام إليه بنفسه ولكمه وأمر بعض الفراشين بشد كتافه بطنب وشنقه بالميدان الأسود وشنق تلك الليلة خمسة من الأجناد كانوا تخلفوا عن العرض بحمص، وشفع في جماعة أخرى تخلفوا فحبسوا في خزانة البنود، وأمر بمن كان يحضر معه في الشراب من الخدام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم وكانوا أربعة عشر نفراً فمنهم من مات ومنهم من سلم.
وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة عقد نكاح الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة بن الملك الظاهر على ابنة الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي بالإيوان في القلعة على صداق خمسة آلاف دينار المعجل منها ألفا دينار معاملة، وتوكل في قبول النكاح عن الملك السعيد الأمير بدر الدين الخزندار، وتوكل عن الأمير سيف الدين قلاوون في العقد شمس الدين الفارقاني، وجزى العقد بحضور الملك الظاهر والوزراء والقضاة وأعيان الشهود والأمراء وأعيان الأجناد، وكتب الصداق محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر وقرأه في المجلس فخلع عليه وأعطي مائة دينار.
مضمون الصداق وصورته: الحمد لله موفق الأملاك لأسعد حركة، ومصدق الفأل لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبه سلطانه وصهره ملكه، الذي جعل للأولياء من لدنه سلطانه نصيراً، وميز أقدارهم باصطفاء تأهيله حتى حازوا بغنى أو ملكاً كبيراً، وأقر فخارهم بتقريبه حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا، وسربه وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بهاء عظيماً وأفضاله كثيرا، فهي أسباب التوفيق الآجلة والعاجلة وجاعل ربوع كل أملاك من الأملاك بالشموس والبدور والأهلة آهلة، جامع أطراف الفخار لذوي الإيثار حتى حصلت لهم النعمة الشاملة، وحلت عندهم البركة الكاملة.
نحمده على أن أحسن عند الأولياء بالنعمة الاستيداع، وأجمل لتأملهم الاستطاع وكمّل لاختيارهم الأجناس من العز والانقطاع، وآتى آمالهم ما لم يكن في حساب من الابتداء بالتحويل والابتداع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حسنة الأوضاع، ملئة بتشريف الألسنة وتشنيف الأسماع، ونصلي على سيدنا محمد الذي أعلى الله به الأقدار، وشرف به الموالي والأصهار، وجعل كرمه داراً لهم في كل دار، وفخره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرف الأنوار، صلى الله عليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار.
وبعد فلو كان اتصال كل شيء بحسب المتصل به في تفضيله لما استصلح البدر شيئاً من المنازل لنزوله، ولا الغيث شيئاً من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لساناً لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئاً من التيجان لحلوله، لكن ليشرف بيت يحل به القمر، ونبت يزوره المطر، وكذلك تجملت برسول الله صلى الله عليه وسلم أصهاره من أصحابه، وتشرفت أنسابهم بأنسابه، وتزوج صلى الله عليه وسلم وتمت لهم قربة الفخار، حتى رضوا عن الله رضي عنهم.

والمترتب على هذه القاعدة إفاضة نور يستمده الوجود، وتقرير أمر يقارن الأخبية منه سعد السعود، وإظهار خطبة تقول الثريا لانتظام عقودها، وكيف وإبرام وصله يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف، الذي يغبطه في إيداع هذه الجوهرة كل سيف، ونسيج صهارة يتم بها إن شاء الله كل أمر شديد ويتفق بها كل توفيق تخلق الأيام وهو جديد، ويختار لها أبرك طالع وكيف لا تكون البركة في ذلك الطالع وهو سعيد. وذاك بأن المراسيم الشريفة السلطانية أرادت أن تخص المجلس السامي الأميري ونعوته بالإحسان المبتكر تفرده بالموهبة التي يرهف بها منه الحد المنتضى ويعظم الجد المنتظر، وأن يرفع من قدره بالصهارة مثل ما رفعه النبي صلى الله عليه وسلم من قدر صاحبيه صهريه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فخطب إليه أسعد البرية، وأمنع من تحميها السيوف وأعز من تسبل عليها ستور الصون الخفية، وتضرب دونها خدود الجلالة الرضية، ويتجمل بنعوتها العقود وكيف لا وهي الدرة الألفية، فقال والدها المذكور، هكذا ترفع الأقدار وتزان، وكذا يكون قران السعد وسعد القران، وما أسعد روضاً أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة وأشرف سيفاً غدت منطقة بروج سمائها له حميلة وما أعظمها موهبة أبت للأولياء من لدنها سلطاناً، وزادتهم مع إيمانهم إيمانا، وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لسرعة إبرامها ليت، ولسرفها عبودية كرمت سلماتها بأن جعلته من أهل البيت.
شوإذ قد حصلت الاستخارة في رفع قدر الملوك، وخصصته بهذه المرتبة التي يتقاصر عنها آمال أكابر الملوك، فالأمر لمليك البسيطة في رفع درجات عبيده كيف يشاء، والتصدق بما يتفوه به هذا الإنشاء، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الحظ وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع النوار ومشارق الأنوار على إبداء سطوره، فأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره بالإحسان فأغدق، تناشبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل، فقال الاعتراف هذا ما تصدق وقال العرف هذا ما أصدق، مولانا السلطان أصدقها بما يملأ خزائن الإحسان فخارا، وشجرة الأنساب ثماراً، ومشكاة الجلالة أنواراً، فبدل لها من الغير المصري ما هو أقاليم ومدائن أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان باسم والده قد تشرف، وبنعوته قد تعرف، وبين يدي هباته وتصدقاته قد تصرف.
وكان العقد قاضي القضاة صدر الدين الحنفي. وانفصل ذلك اليوم عن سرور تام فبشر بما بعده من التهاني والأفراح والأمور التي تزيد على الأفراح.
وفي العشر الأول من ذي الحجة بلغ الملك الظاهر أن جماعة من الذين استخدمهم بحصن الكرك من الخرخية والجندارية والخراسانية والإسباسلارية وغيرهم سولت لهم أنفسهم أن يثبوا في الحصن، ويقتلون من به من النواب ويسلمونه لأخ كان للملك القاهر بن الملك المعظم من أمه لكونه ينتسب إلى الملك الناصر داود وكان يقيم معهم بالكرك لا يؤبه به، فخرج الملك الظاهر من القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة ودخل حصن الكرك بغتة يوم السبت ثاني وعشرين منه ثم استدعاهم وكانوا زهاء ستمائة نفر وهو على سطح وأمرهم بشنقهم فشفع فيهم من كان في خدمته من الأمراء فعفا عنهم وأخرجهم من الحصن خى ستة نفر فإنه قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم قال للجميع مالكم في بلادي مقام فسألوه أن يعاد لهم ما كان ارتجع من أموالهم فأمر لهم بذلك ونفاهم إلى مصر واستدعى شمس الدين صواب السهيلي وإلى صناعة الإنشاء بمصر، ويلم إليه حصن الكرك وفوض إليه النظر في حواصله وذخائره، واستدعى من مصر رجالاً رتبهم في الحصن عوض الذين نفاهم منه ثم خرج متوجهاً إلى دمشق يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة.
وفي هذه السنة كان بخلاط زلزلة عظيمة أخربت الدور والخانات والأسواق، ومات الناس تحت الردم ولم ينج من أهلها إلا النفر القليل، واتصلت بأرجيش فأخربتها، وخسفت فيها مواضع ووصلت إلى ديار بكر فشعثت ميافارقين وماردين.
وكسر الخليج يوم الخميس ثامن وعشرين صفر وانتهت الزيادة إلى ثلاثة أصابع من ثمانية عشر ذراعاً.

وفي خامس عشر شوال جهز الملك الظاهر كسوة الكعبة صحبة الأمير عز الدين يوسف بن أبي زكرى، وخرد معه جماعة من الحجاج ووصل مكة شرفها الله تعالى، وكانت الوقفة يوم الاثنين وأقاموا بمكة ثمانية عشر يوماً وبالمدينة عشرة أيام، فذهب أكثر زاد الناس وحصل لهم من أيلة إلى مصر مشقة عظيمة ومات منهم خلق كثير.
وفي ثالث شهر رمضان ظهر بالموصل بحارة تعرف بسويقة ابن خليفة ضريح شخص من ولد الحسين بن علي عليهما السلام، وسبب ظهوره أن شخصاً يقال له محمدون بن الأقفاصي رأى في منامه شخصاً من ولد الحسين بن علي عليهما السلام وهو يقول له يا محمدون أنا مناد من تنور الخبز ومجرى الحمام الصغير، فلما أصبح قص المنام على بعض الأكابر واستشاره في نبشه فأشار عليه أن لا يفعل، فأمسك الرجل.
فلما كان في الليلة الآتية رأى الرؤيا بعينها وهو يقول له احفر ضريحي ولا تهمله وإنه ما أقول لك أن تراب الضريح يشفي من جميع الآلام والأسقام، فلما أصبح الصباح حفر المكان وظهر الضريح فأقبل الناس ينكرون عليه وإذ برجل أعمى قد أخذ من تراب الضريح شيئاً وتركه على عينه فأيصر فكبر الله وحمده، ورأى الناس تأثير الضريح فتهافتوا عليه وحظر محمدون بسببه، وتكاثر على الضريح أصحاب الآلام والعاهات وكل من جعل على ألمه شيئاً من ترابه برئ لوقته.
وسمع بذلك شخص من التتر يعتريه الصرع فأتى وطلب معالجته فشرط عليه من بالمكان أن يترك شرب الخمر ولحم الخنزير وقتل المسلمين فالتزم ذلك وأخذ من تراب الضريح فبرئ لوقته، فسر بذلك وخرج مسافراً فمر بتل زيار، وبه دير النصارى فنزل عندهم وحكى لهم صورة حاله فقال له النصارى أنت إنما برئت بما عولجت به وتداويت لا بهذا القبر، فأثر هذا القول بنفسه فعاوده الصرع فجاء إلى الضريح وطلب من ترابه فقيل له ألم تك قد أخذت منه وعوفيت فقال بلى ولكنني مررت بدير فيه نصارى فحكيت لهم فذكروا لي كيت وكيت فأثر ذلك عندي فعاودني ما كان بي فقيل له تلك المرة بطل حكمها، والآن فما ينفعك شيء من هذا الضريح إلا أن تسلم وتشهد أن جد هذا السيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى ذلك وبقي أياماً على ما به من الصرع وزاد به حتى أجاب إلى الإسلام فأتى المشهد وأسلم وتناول شيئاً من ترابه فبرئ ولم يعتاده بعد وحسن إسلامه، وأسلم جماعة كثيرة من التتر ونصارى البلاد بسبب ذلك.
قال عز الدين محمد بن أستاذ داره رحمه الله هذا حكاه لي ناصر الدين محمود بن عشائر بن حسين بن عبيد يعرف بابن الليالي الموصلي، والعهدة عليه فيما حكاه.
وفيها توفي إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن إسحاق بن علي بن شيث أبو إسحاق كمال الدين القرشي الأموي، كانت وفاته آخر نهار الخميس رابع عشر صفر بالقرب من حلبا من بلاد الساحل، ونقل إلى ظاهر بعلبك فدفن بتربة سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله وقد نيف على الستين، وكان من أعيان الناس وأماثلهم، خدم الملك الناصر صلاح الدين داؤد بن الملك المعظم وهو من أجل أصحابه، وأخصهم به وترسل عنه ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله فأعطاه خبراً جيداً وقربه وأدناه واعتمد عليه في مهماته.
وفي الأيام الظاهرية ولي الرحبة وبلادها عقيب موت الملك الأشرف صاحب حمص مدة يسيرة، ثم نقل منها إلى بعلبك فولي مدينتها وقلعتها، وبقي بها مدة سنين وطلبه الملك الظاهر منها مع استمراره على ولايته فاستناب وتوجه إليه فسيره رسولاً إلى عكا وكان عنده خبرة تامة بادعاوى على الفرنج ومواصفاتهم وتفاصيل أحوالهم فكان يندب في المهمات المتعلقة بهم ويستضار بهم في ذلك وحرمته وافرة في الدولة ومكانته مكينة وسيرته حسنة، وعنده مكارم وحسن عشرة.
و توفي رحمه الله ولم يخلف ما يقوم بنصف ما عليه من الديون رحمه الله تعالى، وكان عنده فضيلة وأهلية ومعرفة بالأدب والنحو يحفظ القرآن العظيم، ويتلوه في كثير من أوقاته وعلى ذهنه من الأحاديث النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها جملة وافرة، ولعله يستحضر معظم موطأ مالك بن أنس رحمه الله، وكان يميل إلى مذهبه، وله عقيدة عظيمة في الفقراء والصالحين ومسارعة إلى قضاء حوائجهم رحمه الله، وكان ينظم الشعر، فمن شعره:
صب أسير في بلد الأشواق ... مذ آذنوا أهل الحمى بفراق

لا داره تدنو فيسكن ما به ... يوماً ولا هو بعد بعد فراق
يلقى جيوش الشوق وهي كثيرة ... أبداً بقلب واهن خفاق
أترى له من عودة يحيا بها ... أم هل للسعة قلبه من راق
يا نازلين على الكثيب برامة ... متعرضين لفتنة العشاق
أنتم ملاذ المستهام وذخره ... وهواكم من أنفس الأعلاق
أعيا الذي يصف المحبة والهوى ... ما قد لقيت بكم وما أنا لاق
ليلي طويل بعد بعدي عنكم ... وكذاك ليل فاقد المشتاق
وقال أيضاً رحمه الله:
برق بدا لك أم لاحت لك الدار ... فعاد قلبك تهيام وتذكار
أم ذكر أيام نجد والخليط بها ... وأنت فيها ومن تهواه زوار
أم قاسيون ومن فيه فكم قضيت ... بسفحه لك أوقات وأوطار
والشمل مجتمع والدار دانية ... ومن تحب بها جار وسمار
فبت رهن صبابات حليف هوى ... ودمع عينك منهل ومدرار
يا نازلين وفي الأحشاء منزلهم ... وغائبين وهم في القلب حضّار
أم اصطباري فشيء عز مطلبه ... ونار شوقي إليكم دونها النار
وقال أيضاً رحمه الله:
سقاك الحيا من أربع و منازل ... ومن لي بأن تهدي إليكم رسائلي
فلو قيل سل تعطى المنى وبقربه ... لكان منى قلبي وأقصى وسائلي
أمر بوادي النيرين محييا ... لناباته عند الضحى والأصائل
تريني القدود الهيف كثبان رمله ... وتبدو به الأقمار غير أوافل
ويصحبني من طيب رياه نفحة ... تهيّج أشجاني وتدني بلابلي
منازل أترابي ومربى أحبتي ... وأهل ودادي في الهوى وتواصلي
رعى الله دهراً مر لي في ظلاله ... حميداً فما وجدي عليه بزائل
صحبت به الأحباب واللهو والصبي ... فما قرب من عمري سواه بطائل
إذا القلب لا يثنيه تعنيف واشح ... ولا مسمعي مصغ لقول العواذل
ألا هل إلى تلك المعاهد عودة ... ويقضي ذنوبي مزملي ومماطلي
أأحبابنا بنتم فلا العيش بعدكم ... نضير ولا ربع السرور بآهل
أحن إليكم كلما هبّت الصبا ... وأجزع من طول المدى المتطاول
ولا تحسبوا أني نسيت عهودكم ... ولا كل ما في الكون عنكم بشاغل
إذا ما انقضى عام ببين وفرقة ... رجوت التلاقي عائداً عند قابل
وقال أيضاً رحمه الله:
لا تلحه في وجده تغريه ... دعه فيقظ ولوعة تكفيه
حكم الغرام عليه فهو كما ترى ... مقري بتذكار الحمى يبكيه
يشتاق أيام العقيق وحبذا ... وادي العقيق وحبذا من فيه
ويعود يوماً ما يعود إلى الحمى ... بالوصل كان بعمره يشريه
وإذا النسيم روى سحيراً منهم ... خبراً فيا طيب الذي يرويه
يا أهل نجد دعوة من مغرم ... حلت شكايته عن التمويه
متستر في حبكم متهتك ... يخفي الغرام ودمعه يبديه
لا يبتغي أبداً سواكم بغية ... كلا ولا عنكم غنىً يغنيه
يهوى هواكم ما استطعت وكل ما ... يرضيكم في حبكم يرضيه
وقال أيضاً رحمه الله دوبيت:
بالخيف منزل لليلي عافي ... أهواه وإن خلا من الآلاف
يا سعد فقف بي ساعة تبديه ... ما ترك حقوقه من الإنصاف
وقال أيضاً رحمه الله دوبيت:
واها لأوقات تقضت وإنها ... لو ساعدني الزمان في لقياها
ما لذة أيام اجتماع بكم ... لا أذكر غيرها ولا أنساها

وله شعر غير هذا، وكان يترسل جيداً ويأتي بالمقاصد الكثيرة ويقع له القرائن المستملحة والاستشهادات الحسنة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار وأيام الناس والتواريخ، وعلى ذهنه من ذلك جملة طائلة. وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان له عناية بهذا الشأن وإلمام بمعرفته.
ومن غريب الاتفاق أنني اجتزت بمدينة الكرك في عودي من الحجاز الشريف في أول صفر سنة أربع وسبعين، فاجتمع بي فقير من أهل الكرك يعرف بالجمال ابن الضياء، كان يصحبه ويكثر من التردد إليه والإقامة عنده ببعلبك، وعزاني فيه: فقلت له: أنت واهم، الرجل في خير وعافية وإنما المخبر لك سمع بوفاة الأمير سيف الدين الجاكي وهو متولي بلاد بعلبك وبرها فظن أنه كمال الدين، فقال: كذا أخبرني شخص أنه مات في هذه الأيام، فقلت: يحتمل واغتممت لذلك، فلما رحلنا من الكرك وقاربنا دمشق، لقينا جماعة من أهل بعلبك ودمشق في الطريق على مراحل من دمشق، فسألناهم عنه؛ فذكروا أنه في نهاية الطيبة والصحة وأنه يتوجه في مهم إلى بلد طرابلس صحبة الأمير سيف الدين بلبان الرومي الدوادار، فسررت بذلك، فلما دخلت دمشق جاءت الأخبار بوفاته على ما شرحناه رحمه الله تعالى؛ ولما توفي عمل عزاؤه في مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه بقلعة بعلبك، وحضر صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري رحمه الله تعالى وتكلم في العزاء بما يناسب، وأنشد هذه الأبيات:
يا منزلاً لم يبق فيه مقيم ... هذا المقام فأين إبراهيم
عجباً لعين عاينت آثاره ... من بارق الهاوي كيف يشيم
ولمهجة وما فنيت أسىً ... ولكل قلب فيه كيف يهيم
يا مدعي نسب الوفاء لعهده ... نسب الوفاء كما علمت صميم
أين التمزق والتحرق والبكا ... هل شافع في رزية وجميم
عز العزاء الفرد في ذاته ... ولكل قلب منك فيه كلوم
أما والده جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم فكان من سادات الناس ورؤسائهم وأعيانهم وصدورهم وفضلائهم، خدم الملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل رحمه الله تعالى، وكان عنده في محل الوزارة وكان من المتضلعين بالعلوم، وله أشعار كثيرة، ومصنفاته عديدة مفيدة، وكان بينه وبين والدي رحمهما الله تعالى صحبة أكيدة، وصحب سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله تعالى، وكان كثير البر والصدقة معروفاً بأسد، المعروف إلى سائر من يعرفه ويقصده ويجتاز به، وكان بينه وبين الملك المعظم مداعبات كثيرة. كتب إليه مرة رقعة يداعبه فيها يعني أنه فارق الملك المعظم ودخل منزله، فطالبه أهله بما حصل له من بره وأنه قال: ما أعطاني شيئاً، فقاموا إليه بالخفاف وفعلوا به وصنعوا. ومن نظمها قولها:
وتحالفت بيض الأكف كأنها ... التصفيق عند مجامع الأعراس
وتطايرت سود الخفاف كأنها ... وقع المطارق من يد النحاس
فرمى المعظم الرقعة إلى فخر القضاة ابن بصاقة وقال له: أجبه عنه. فكتب نثراً ونظماً، فجاء في النظم:
فاصبر على أخلاقهن ولاتكن ... متخلقاً إلا بخلق الناس
واعلم إذا اختلفت عليك فإنه ... ما في وقوفك ساعة من بأس
فلما وقف عليها الملك المعظم أعجبته غاية الإعجاب. ومن شعر جمال الدين رحمه الله تعالى قوله:
وإذا رآني الناس قالوا صالحاً ... غفر الإله لهم وغضوا الأعينا
ويقرني أقوالهم مع أنني ... أدري بما عندي فأسكت مذعنا
يا ليتهم عرفوا بقبح سريرتي ... فسلمت أو سلموا فكان الأحسنا
يا نفس ويحك من يرى حالي فما ... عذر امرئ مثلي تأخر أو دنى
أعني بتحسين الثياب فأغتدي ... مثل الحمار مجلاً ومرسنا
ماذا العناية ويك بالجسم الذي ... هو سجن من لا يرتضي أن يسجنا
هل ذاك إلا جيفة لو لم يكن ... أبداً يعاود بالنظافة أنتنا
وقال أيضاً من شعره:
كن مع الدعر كيف قلّبك الده ... ر بقلب راض وصدر رحيب
وتيّقن أن الليالي ستأتي ... كل يوم وليلة بعجيب

وكانت وفاته بدمشق سابع المحرم سنة خمس وعشرين وست مائة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
أيبك بن عبد الله أبو محمد الأمير عز الدين الاسكندري الصالحي، كان من مماليك الملك الصالح نجم الدين وعتقائه، وكان الملك الصالح يثق به ويعتمد عليه؛ ولاّه الشوبك قلعتها وبلدها، وجعل عنده جماعة كثيرة من خواص مماليكه منهم: الأمير عز الدين ايدمر الحلي، و الأمير علم الدين سنجر الحصني، و الأمير عز الدين أيبك الزراد وغيرهم: وكان عنده كفاية وخبرة تامة، وصرامة شديدة، ومهابة عظيمة، يقيم الحدود على ما يجب، لا يحابي في ذلك. ولما ملك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني الديار المصرية مان الأمير عز الدين المذكور من خواصه ولم يزل على ذلك إلى أول الأيام الظاهرية. فلما استولى الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير رحمه الله على قطعة من الشام كمل تقدم شرحه. ثم تخلل أمره وخرج من دمشق وقصد قلعة بعلبك وحضر بحضرة بدر الدين محمد بن رحال وغيره، وجرت المراسلات بينه وبين الأمير علاء الدين البندقار رحمه الله في تسليم قلعة بعلبك والتوجه إلى باب الملك الظاهر بالديار المصرية، أنه لا يسلم القلعة إلى بدر الدين بن رحال، وأنه لا يسلمها إلا إلى أحد نفرين من خشداشيته سماها أحدهما الأمير عز الدين صاحب هذه الترجمة، فجهز إليه وتسلم القلعة منه. وكان متولياً قلعة شميميش فطلب منها لهذا المهم واستناب بقلعة شميميش، ولما طولع الملك الظاهر بذلك رسم باستمراره في قلعة بعلبك ومدينتها واستمر نائبه بشميميش وبقي على ذلك مدة إلى أن سأل الإعفاء عن شميميش، فاجيب وحضر نائبه إليه، وبقي الأمير عز الدين متولياً ببعلبك وقلعتها مدة أربع سنين كوامل، ثم طلب إلى الديار المصرية وولي قلعة الرحبة وأعمالها وما قاربها فتوجه إليها على كره وزاد الملك الظاهر أقطاعه. ولما وصل إلى الرحبة تجرد لكشف الأخبار وأخذ ما جاوره من بلاد العدو، فقام في ذلك المقام المحمود وفعل ما لا تسمو إليه همة غيره من أخذ بلاد العدو. فقام في ذلك ما يطول شرحه من شن الغارات عليهم، ونهب جشاراتهم وقطع الطريق على سفارتهم. ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان عنده معرفة بالنجوم وإلمام بالفضيلة ومحبة لها ولأهلها، وديانة كثيرة، وغيرة مفرطة، وكرم طباع، وسعة صدر، وشدة حياء، لا يخيب من قصده في حاجة ولا يطلب أحد رفده إلا ويبره بأكثر ما في نفسه، وإن أهدى أحد له هدية كافأه بأكثر منها؛ وكان له عقيدة في الفقراء والصلحاء وإيمان بكراماتهم لا ينكر من ذلك ما يخرق العادات. وكانت وفاته في رابع عشرين رمضان المعظم بقلعة الرحبة ودفن بظاهرها رحمه الله تعالى وهو في عشر الستين.
ولما كان ببعلبك تزوج كريمتي واتفق توجهها إليه ومعها والدتي وأنا إذ ذاك في الحجاز الشريف وهي تتشوق إلي: فتوجهت في شهر رجب وأقمت، فتوفي المذكور وأنا هناك، فاستصحبت الأهل وولد الأمير عز الدين المذكور رحمه الله تعالى وغلمانه، وعدت بهم إلى دمشق فورد علي كتاب صاحبنا الموفق عمر بن عبد الله الآتي ذكره من بعلبك إلى دمشق يتضمن الشوق والتهنئة بالسلامة. وفي صدر الكتاب بيتان من الشعر من نظمه يقول:
مولاي قطب الدين موسى دعوة ... من نازح يخشى قطيعة أهله
أنسيت يا مولاي نار تشوقي ... يا من قضى أجلاً وسار بأهله

الحسن بن علي بن الحسن بن ناهد بن طاهر بن أبي الحسن أبو محمد الحسيني الملقب فخر الدين نقيب الأشراف وابن نقيبهم. مولده سنة ثمان وست مائة، و توفي إلى رحمة الله تعالى سحر يوم الأحد تاسع ربيع الأول ببعلبك، وكان عنده فضيلة ومعرفة بأنساب العلويين ونظم نظماً متوسطاً، وخلف له والده نعمة ضخمة فمحقها ولم يبق له إلا صبابة يسيرة ووالدته شريفة حسينية. حكي لي قال: كنت - وأنا شاب - أشتغل بالنحو والأدب. قال قرأت القرآن العزيز؟ قلت: لا؛ فقال: قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وإنه لذكر لك ولقومك " وانت من قومه، فما ينبغي أن تقدم على حفظ القرآن الكريم غيره؛ فشرعت في الختمة الشريفة وأكببت عليها حتى حفظتها، فأنا أعتقد ذلك من بركة الشيخ رحمه الله. وكان جمع تاريخاً لم يتممه. ولما قدم هولاكو الشام في سنة ثمان وخمسين توجه إليه وحضر بين يديه فلم يجد منه من الإقبال ما كان يرجوه فعاد على غير شيء من الولايات، وقدم بعلبك وتوعك بها، واتفق كسرة كتبغا وفتله على ما تقدم شرحه، فحمد الله إذ لم ينل عند التتر ولاية يتضرر عند ملوك المسلمين بسببها، ومن شعره في بعلبك:
بعلبك علت على البلدان ... وغدا دون نورها النيران
رق فيها الهواء إذ راق فيها ... الماء وافتر ثغرها الأقحوان
وتغني الأطيار فيها بصوت ... لذ للسامعين في الأغصان
حصنها باذخ على كل طود ... ثابت الأس شامخ البنيان
مبني أنه بنته جن ... لا لروم تدعي ولا يونان
سار في الأرض ذكره وهو راس ... وسرى صيته بكل مكان
مثل ما سار في الدنيا جود موسى الشم ... لك رب الأفضال والإحسان
ملك قد علا الملوك جميعاً ... بعلو المكان والإمكان
خاص ترك الكبير ركن الدين المشهور بالشجاعة والإقدام والتقدم عند الملوك، وهو من غلمان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، وكانت وفاته بكرة الأحد ثاني عشر ربيع الأول برحبة خالد بدمشق، ودفن عند حمام النحاس بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

ع بن شكر بن علي اليونيني أبو محمد الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع العارف. صحب المشايخ وأخذ عنهم وتأدب بهم، وكان أوحد عصره في الورع، وتحرى الحلال في أمر مطعمه وملبسه لم يسبقه أحد إلى ذلك، كان يتقوت في سنته بما يتحصل له من مغل قطعة ملك ورثها من أبيه بقرية يونين، لعل معلومها في السنة قريب خمسين درهماً، ويصبر على خشونة العيش وكثرة الجوع إلى أن حصل يبس، أورثه تخيلات فاسدة، فتارة يتخيل أن جماعة عزموا على اغتياله وقتله، وتارة يتخيل أنه اطلع على أماكن فيها كنوز واموال جليلة واتصل ذلك ببعض الولاة ببعلبك فأحضره وسأله عن ذلك، فذكر أنه يعرف أماكن فيها مدافن تحتوي على أموال جمة فسأل عنه، فقال من يعرفه هذا من الأولياء الأفراد ولا يتجوز في القول وإنما لكثرة الجوع والمجاهدة حصل له يبس أفسد مزاجه؛ دخل رباط بن الأسكاف بجبل قاسيون، فأعجبه وأخلى له به بيت فسكنه، ولم يتناول من المقرر لمن به شيئاً. فلما رأى خادم الرباط ما هو عليه من الاجتهاد والعبادة مع الزهد المفرط أخبر الوجيه بن سويد رحمه الله به وهو ناظر الرباط إذ ذاك، فحضر إليه ليلاً ومعه صحن فيه قطائف وقد تأنق فيه، فلما دخل عليه انقبض منه ولم يكلمه، فوضع الصحن بين يديه وشرع يستعرض حوائجه، فقال: أولها ارفع هذا الصحن وأنت لا تحضر إلي بعدها، ومتى حضرت تركت هذا المكان ورحت. فتعجب منه وسأله الدعاء فقال: أنا أدعو كل يوم للمسلمين، فإن كنت منهم وكان لدعائي أثر حصل لك منه نصيب. ومناقبه في هذا الباب كثيرة، وأدرك سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير - رحمه الله - وصحبه مدة يسيرة فإنه كان صغير السن في حال حياته لكنه لازم كبار أصحابه وصحبهم وانتفع بهم، وكان فقيهاً في أمر دينه يعرف ما يحتاج إليه ويسأل عما أشكل عليه من ذلك. سمع الحافظ ضياء الدين ووالدي وغيرهما، و توفي بدمشق يوم الاثنين مستهل رمضان المعظم، ودفن بسفح قاسيون، وقد نيف على الثمانين من العمر رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن علي بن الحسن أبو المظفر زين الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي.
مولده بحلب في منتصف ذي القعدة سنة إحدى ةتسعين وخمس مئة، سمع من الشريف افتخار الدين بن هاشم عبد المطلب بن الفضل وغيره وحدث، وكان شيخاً حسناً فاضلاً، وبيته مشهور بالعلم والتقدم والسنة؛ وكانت وفاته في خامس عشرين ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد يوم الأربعاء بسفح المقطم - رحمه الله تعالى، وهو خال قاضي القضاة كمال الدين أحمد بن الأستاذ. وله شعر جيد ومنه في مليح في عنقه شامة:
المعز بدر ولكن ليس شامته ... مسروقة من دجى صدغيه والغسق
وإنما حبة القلب التي احترقت ... في حبه علقت للطم في العنق
عثمان بن عبد الله الآمدي حطيم الحنابلة بالحرم الشريف اتجاه الكعبة المعظمة كان سيداً كبيراً شيخاً جليلاً صالحاً عالماً إماماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً ربانياً منقطعاً متعكفاً على العبادة والاشتغال بالله تعالى في سائر أوقاته، وله المكرمات الظاهرة لم يكن له نظير في وقته؛ أقام بالحرم الشريف ما يقارب خمسين سنة. وكانت وفاته يوم الخميس ضحىً النهار الثاني والعشرين من المحرم رحمه الله ورضي عنه، وكنت أود رؤيته وأتشوق إلى ذلك وأخشى أن تحول المنية دون الأمنية. فاتفق أني حججت في سنة ثلاث وسبعين وست مئة، وزرته وتمليت برؤيته، وحصل لي نصيب وافر من إقباله ودعائه، وقدرت وفاته إلى رحمة الله تعالى ورضوانه عقيب ذلك. وكذلك كنت أود رؤية الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله، فاتفق سفري إلى الديار المصرية في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وست مئة فرأيته وسمعت منه، ثم توفي بعد ذلك بمدة يسيرة على ما هو مذكور في ترجمته رحمه الله تعالى.

علي بن أحمد بن علي بن أبي الأسد أبو الحسن المعاوي الشيخ نور الدولة النحوي المعروف بابن العقيب، توفي ببعلبك ليلة الجمعة حادي عشرين ربيع الأول ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر باب نخلة، وهو في عشر الثمانين رحمه الله. اشتغل بالنحو على عز الدين أحمد بن معقل وغيره، واشتغل عليه جماعة كثيرة وانتفعوا به، وكان عنده فضيلة وديانة وافرة وصبر على الفقر مع شرف النفس. وكان لوالده مال جزيل، فقيل أنه دفنه وقيل أنه أودعه، فذهب وأخرب نور الدولة المذكور داره وحفر أساسها في طلبه فلم يظفر بشيء. وله يد في النظم، ومدح والدي رحمه الله بقصائد كثيرة، وكان من أصحابه يكثر غشيانه والتردد إليه والاستفادة منه. ومن شعره في فوارة:
وبركة رق ماؤها فغدا ... أرق من دمع عين مكتئب
تريك فوارة تفيض بها ... ماء لجين يسيل من ذهب
صبت إليها العيون حين غدت ... في صعد تارة وفي صبب
كراقص تارة يقوم على ... ساق وطوراً يجثو على الركب
وقال يمدح والدي رحمهما الله تعالى ويهنئه بشعبان:
فتنت بموهوب الصبي ومعاده ... على غير عند المشيب وعاره
وهبّت برسم كلما رمت ألفة ... إلى البين والغيران غير نفاره
عزيز يغار الغصن من حركاته ... ويخجل بدر التم عند ابتداره
أحن إلى تقبيل أيد وخده ... وأخشى لهيب النار من جلناره
وما زارني إلا شكوت صبابتي ... إليه فيرضيني بزور اعتذاره
ويأمرني بالصبر عنه عواذلي ... وموت أخي الأشواق عند اصطباره
تهتك ستري في هواه وإنما ... يلذ الهوى في هتكه واشتهاره
وهل نافعي طي الهوى دون كاشح ... ينم ودمعي مولع بانتشاره
وما الغدر في تركي هواه وسلوتي ... وقد سال في خديه مسك عذاره
تباعد عني بالصدود مزاره ... وإن كنت مسلوب الكرى في جواره
وقد جل وجدي في هواه وإنما ... على قاتلي في الحب حل مداره
وما زلت الحي العاشقين على الهوى ... وازجرهم حتى صليت بناره
فسقياً الحمى...... ومن حل ... .......فيه رائح بقطاره
فتى لم تزل تغني به عن نظيره ... بعارفة من جاهه ونضاره
وحب ذا النادي تناءت صدوره ... وقد خفقت عيا قلوب كباره
وغن لهم مغنى فثارت لنقصه ... كواشر فهم فاختفى في وجاره
أتاهم به من قبل يرتد طرفه ... بلفظ يطول البحث تحت اختصاره
ودل عليه فاستبان خفاؤه ... ودل على تأبيده واقتداره
ومندرج بالعلم رام نزاله ... فلم ينجه إلا جواد نزاره
أعزاً إذا ما هز في العلم والندى ... وفي البأس لا يخشى بني غزاره
يحف له علم الوقور مهابة ... إذا ما بدا في سمته ووقاره
وإن رفعت في حلبة المجد راية ... حواها بسبق آمناً من عثاره
تضوّع في الآفاق نشر ثنائه ... وهل من خفاء الصبح بعد انفجاره
فقل للمباري لست مدرك شأوه ... ولا لاحقاً يوماً غبار غباره
له الله كم أسدى إليّ أيادياً ... يميناً أزالت عسرتي من يساره
فما في عناني كسوة من ثيابه ... وما في دياري مؤنة من دياره
ما زال شعري كاسداً عند غيره ... فنفّقه لما غدا من تجاره
إليك تقي الدين أهديت غادة ... يغار عليها يعرب من نزاره
من البيض يحدوها الرواة كما حدت ... رعود الغوادي مثقلات عشاره
وخير من المال الثناء فإنه ... يخلّد ذكر المرء بعد بواره
فهنئت من شعبان ليلة نصفه ... ونلت المنى في ليله ونهاره

ولا زلت في عز وسعد ونعمة ... ومجد منا والشمس دون نهاره
وقال أيضاً يمدح والدي رحمهما الله تعالى:
أفدى بالنفس وإن حلت وبالنشب ... وإن أرب حفاها ربة النشب
ذهلية أذهلت من بات يعذلني ... فيها فأصبح معذولاً أخا حرب
ريا الخلاخل والزنار في ظمأ ... والقلب أخرس والقرطان في صخب
خود إذا ما بدت والشمس واجبة ... في الغرب من شرق ذاك الحي لم يجب
وإن رنت أو تثنت في غلائلها ... تظل تهتز بالقضبان والقصب
يستثبت الطرف منها وهو مثبتها ... خالاً محباً بلا خال ولا ندب
تلبست رقة الأخلاق من حضر ... حتى أنالت ونالت فطنة العرب
فكم تقطعت أرضاً في محبتها ... وكم قطعت بها في اللهو من إرب
وكم ترشفت راحاً من عوارضها ... تفوق طيباً وريحاً خمرة العنب
والرفق لو لم تكن منها معنفة ... لما استدار بها ثغر من الجنب
لو لا عذاب تجنيها وبهجتها ... والويل لم تعذب الدنيا ولم تطب
ومهمه طامس الأعلام كنت له ... تحت الدجى علماً بالرسم والنجب
خرق إذا الحرف ناجى فيه صاحبه ... وهو المجرب للأهوال لم يجب
وجاوزته بأمون جسرة أخذت ... لها أماناً من الإعياء والنصب
كأنها صعلة شامت سنا بارق ... فبادرته إلى بيض لدى كثب
أو ناشط راعه رام بأسهمه ... ففاتها هرباً والغضف في الطلب
أو أحقب رام أن يشأى القطا غاشياً ... للورد فهو من التعداء في لهب
تلك التي اتخذت عندي يداً حرمت ... بها فجلت على التصدير والحقب
وأوردتني بأمالي على ظمأ ... مني بحار تقي الدين ذي الرتب
ذخر البرية من بدو ومن حضر ... فخر الأئمة من عجم ومن عرب
غدا لكسب العلى والعلم في تعب ... وراحة النفس في العلياء والتعب
نصر الحديث إذا غضت مجالسه ... تخاله ناظراً في أوجه الكتب
مشنفاً صدف الأسماع مقوله ... بجوهر من بحار الكفر منتخب
موقر حفة الأجفان من حزن ... ومستحف ونور القوم من طرب
فالناس ما بين سائل ومستمع ... ومستعيد وأواب ومنتخب
مجالس هي ريحان الجليس وقد ... يحوي عقود الآلئ غير مجتلب
بل الرياض بكاها القطر فابتسمت ... ثغور نوارها من أعين السحب
بل البحار طغاً تيارها وطما ... علمها فغرقت الألباب بالجذب
محمد أنت قطب الناس قاطبة ... ولست من ذاك في شك ولا ريب
شأوت عمراً وعمراً وابن أحمد في ... علم الحديث وفي التفسير والأدب
وقد تلوت أبا يعلى وحسبك ذا ... ود غفلاً في ضروب الفقه والنسب
وقد قسّاً وقيساً والكميت وإذا ... في حلبة الرأي والأشعار والخطب
وطلت بالعلم كعباً والنوال لنا ... كعباً وبالحلم قيساً ساعة الغضب
وأنت في العصر تاريخاً كأنك قد ... شاهدت ما تم في الإعصار والحقب
وقد حويت علوماً ما لو تحملها ... متالع لجثا منها على الركب
لله أنت فكم أدنيت من أمل ... نأى المحل وكم فرّجت من كرب
وأنّستني أياد منك واضحة ... وقد هويت بأنياب من النوب
وصنت ماء مديحي أن يكدره ... بالحوض فيه وضيع غير متئب
إذا رأى سائلاً سالت حشاشته ... كأنه نطفة في ناظر كلب

أو جانحاً نحوه يرجو مساعفة ... بالجاه ضم جناحيه من الرهب
أو وارداً جوض علم بات يجهله ... يضن منه بماء منتن القلب
مولاي قد زاد بادي جودكم رحب ... شوقاً فبورك من زور ومن رحب
مبشرأ لك بالعمر الطويل كما ... تهوي وإدراك ما تبغيه من طلب
وإن سعيك سعي قد نجوت به ... وقد تقبل ما قربت من قرب
مولاي لا تنكرن تركي زيارتكم ... مع الدنو وكوني غير مقترب
فإن إقدام جدواكم علي وقد ... أوهي قوي الشكر يدعوني إلى الهرب
أين الذهاب عن اليم الخضم ولا ... يزال يتحفني بالجاه والذهب
ها أنت أترك فرضاً من مدائحه ... وقد أمنت من التأنيب والكذب
فدونك اليوم أعرابية نصفاً ... أزرت محاسنها بالخرد والعرب
نيطت صفاتك في لبانها درراً ... أربت على الدر بل أربت على الشهب
بالحفظ تصبح في الآفاق شاردة ... كذا إذالتها بالصون في الحجب
وقال يصف بعلبك ويعرض يذكر السلطان الملك الأشرف بن الملك العادل رحمه الله يقول:
إذا ما رمت إدراك الأمان ... وأحببت النجاة من الزمان
فلذ من بعلبك ربع أنس ... تجد فيه حياتك في جنان
ولا شيء عنان النفس يوماً ... إلى غير المثالب والمثان
ونل مما تحب مناك منها ... وأنت من الحوادث في أمان
وقبل بالغداة خدود ورد ... علاها الدمع من عين القيان
أذلت الظل حاذر كف جان ... تساقط عنه ظناً بالجمان
وصن بنت الكروم إذا أذليت ... مشامشها وصبت في الصوان
وشاهد شهدها الممزوج منها ... بذوب الثلج من تلك الرعان
وزر منها البقاع تجد بقاعاً ... تروق لناظر وتشوق جاني
وزد تلك الضياع ترى ضياعاً ... مقامك في سواها من جنان
وسق أخاك من روض السواقي ... قبيل الصبح من قان القناني
وعاين فيه نرجسه عيوناً ... تفض لحسنها مقل الحسان
ولذ بالذلهمية إن كلاها ... تكامل وأدلهم بلا تواني
تجد روضاً وسنديد السواري ... فأصبح دونه البرد اليماني
وراجع بعلبك فكل ناء ... عن الأوطان منها اليوم داني
فقد أضحت بموسي في فخار ... ببهجته أنار النيران
فدامت في سعود من علاها ... مقيم ما أقام الفرقدان
وقال أيضاً في المعنى:
حي من أرض بعلبك ربوعاً ... لسوام السرور أضحت ربيعا
وتعمد ما اللجوج فقلبي ... لم يزل نحوه لجوجاً نزوعا
لا تجاوز يا صاح جوزة بكا ... ر إذا كنت للنصيح سميعا
وانتجع قهوة إذا قبلوها ... شربت من طلا الكؤوس نجيعا
ومزج التبر باللجين صبوحا ... وغبوقاً فقد أذنباً جميعا
وأرت تلك الربا ودس جبهة الع ... ين تجد نزهة ومرأى بديعا
ثم قبل عند الجواهر عيناً ... لصفا مائها تظن دموعا
باسقاً صيت الجنادب حيا ... ني إذا ما سقى هناك الزروعا
وكأن الربا لزي بساط ... مدفن فوقه الشقيق نطوعا
فاقطفا الشهد من بطون جفان ... من قطوف تخالهن ضروعا
واسقياني في السقي شمس الحميا ... بيد البدر لا يغب طلوعا
في جنان من الجنان من ال ... هم فما روعه هناك مروعا
فأسمعنا بمثلها من جنان ... في مكان ولا رأينا ربوعا
وتوقع للصيد والصوت فيها ... صادحات على الغصون وقوعا
وأبركاً في رياض بركة عرو ... س تحلي ربعاً حصيناً مريعا

وانظر الطير فيه كيف تهادى ... صادرات طوراً وطوراً شروعا
جاريات في موجها كالجواري ... رافعات من الرقاب قلوعا
صوته كاليراع طيباً وقد أق ... لع مثل السحاب حين أريعا
وهلال من القسي رآه ... وبدر تم فانقض يهوى صريعا
وتأمل منها ذوائب لسنا ... ن أصيلاً ترى لهن لموعا
جبل خاسر كأن عليه ... من بياض الثلوج ذرعاً منيعا
يا لها بلدة بموسى استطالت ... فاستكانت لها البلاد خضوعا
فابن أيوب كابن يعقوب فينا ... صدر هذا جوراً وذلك جوعا
فترانا إذا سمعنا مثاني ... ذكره سجداً له وركوعا
قد بسطنا إلى تناهي الأيادي ... وطوينا على هواه الضلوعا
وقال رحمه الله في المعنى:
لبلدة بعلبك على وفخر ... بناه لها على تلك المباني
أكب بقرها شوقاً إليها ... وقد منع الوصال اللولبان
كأنهما بأرض نير فيها ... على مر الليالي كوكبان
فلا يتفرقان لطول مكث ... وهل يتفرقان الفرقدان
ولما أصبحا فرسي رهان ... هوت كف العنان عن العنان
عدت بكراً حصاناً لم ينلها ... محب البيض بالسمر اللدان
ولما عز جانبها دلالاً ... وإدلالاً لثبته في الحسان
تملكها وواصلها اقتساراً ... مليك كل ناء منه دان
فأضحت بعلبك كطور موسى ... فلا برحاً على مر الزمان
وله أشعار كثيرة، و توفي وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.
؟علي بن الأنجب أبو الحسن تاج الدين البغدادي، المعروف بابن الساعي المؤرخ، خازن كتب المستنصرية المدرسة المشهورة ببغداد. كان فاضلاً، وله تاريخ متأخر لم يزل يجمع فيه إلى أن مات. وكانت وفاته في العشر الآخر من شهر رمضان ببغداد. ودغن في الشونيزي بالجانب الغربي، وقد نيف على ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
علي بن عبد الرحمن بن علي بن إسحاق بن علي بن شيث القرشي الأموي أبو الحسن علاء الدين. مان أسن من أخيه كمال الدين المذكور في هذه السنة؛ وكان قد استوطن في آخر عمره أعمال الديار المصرية، فأقام بأسنا. ومولده بالقدس سنة إحدى وست مائة، و توفي في السادس والعشرين من شهر رجب بالقاهرة، ودفن من يومه بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن علي بن محمد أبو الحسين موفق الدين المذحجي الآمدي. كان من صدور الأعيان للوزارة المتأهلين لها، عنده الخيرة التامة بالكتابة والتصرف مع العفة المفرطة والأمانة العظيمة والصيانة؛ وولي نظر الأعمال الكبار ثم رتب في آخر عمره ناظر الكرك والشوبك واعمالها وما جمع إليها لعظيم عناية الملك الظاهر بالكرك، فباشر ذلك مكرها، واستمر إلى أن أدركته منيته بالكرك في ثامن عشر ذي الحجة، ودفن قريباً من مشهد جعفر الطيار - رضي الله عنه. ومولده في ثامن شعبان سنة تسع وثمانين وخمس مائة - رحمه الله تعالى.

علي بن محمد بن نصر الله أبو الحسن علاء الدين الحلبي. كان من خواص الملك الظاهر صلاح الدين يوسف بن محمد - رحمه الله - وذوي المكانة عنده والوجاهة في دولته. فلما نقضت الأيام الناصرية - سقى الله عهدها - استوطن المذكور حماة، فأقبل عليه صاحبها الملك النصور ناصر الدين محمد - رحمه الله - واستوزره، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي الى رحمة الله تعالى بحماة في صفر هذه السنة. ومولده سنة ثماني عشرة وست مائة بحلب. وكان والده منتجب الدين من أعيان الحلبيين - رحمه الله تعالى. حكى علاء الدين المذكور أن الملك الناصر - رحمه الله - كان يكره الجبن ورائحته ولا يمكن من إحضار شيء منه في سماطه، وكنت أنا وأخي صفي الدين نشتهي أن نأكل منه، فقلت يوماً للجاشنكير: أحضر لي قطعة جبن خفية من السلطان فقد تاقت نفسي إلى ذلك. فأحضر منه شيئاً فجعلته تحت الخوان؛ فشمّ السلطان رائحته فغضب وقال: كم أنهاكم عن أكل الجبن وانتم تخالفوني. فقلت له: يا خوند! الله سبحانه وتعالى نهانا عن أشياء وأمرتنا أنت بها فأطعناك وعصينا الله تعالى فإذا عصيناك في هذا الشيء الواحد أي شيء يكون؟ فضحك وسكت. وكان علاء الدين المذكور مشهوراً بالمروءة والعصبية وقضاء حوائج الناس والسعي في مصالحهم - رحمه الله. قال في مملوك له ملكني بالعينين وملكته بالعين.
مبارك بن حامد بن أبي الفرج المنعوت بالتقى الحداد. كان من كبار الشعة المتغالين في مذهبه عارفاً به، وله صيت في الحلة والكوفة وتلك الأماكن، وعنده دين وأمانة وصدق لهجة وحسن معاملة. وكانت وفاته ببعلبك يوم الأحد ثامن عشر ذي القعدة، وهو في العشر السبعين - رحمه الله. ورثاه جمال الدين محمد بن يحيى الغساني الحمصي بقوله:
لو أن البكا يجدي على أثر هالك ... بكينا على الدهر التقي المبارك
بكينا على من كان في الحلة بيته ... مناخ ذوي الحاجات مأوى الصعالك
بكينا على من فيه للبذل للقرى ... فريداً وحيداً ما له من مشارك
جواداً إذا ما الغيث ضن فلم يجد ... روى جنوده بالوابل المتدارك
يؤمّ بها كل الكرام ويهتدي ... بحيث اهتدات أم النجوم الشوابك
تقيّ تقيّ لا محل ديانة ... بفرض ونفل من جميع المناسك
بريء وذاك المصطفى خير متجر ... وان صدّ عنه بالظبى والنيازك
وقد كان أحيى من فتاة حيية ... وأفتك في الهيجاء من كل فاتك
ستبكيه أبناء الفواطم سادة ... ألا ناصر إذا افتروا لعواتك
وتبكيه عدنان تميم وقيسها ... وطيء وحيا مذحج والكاسك
وإن غاب عنا وجها الطلق عندنا ... لندعوه في جنح من الليل حالك
وإن لم يزره المؤمنون فإنه ... تعوض واستغنى بزور الملائك
ولو انه مما يردّ بقوة ... رددناه بالبيض الرقاق البواتك
ولكنه الموت الذي فيه يستوي ... فقير ومسكين برب الممالك
ولسنا نبكّيه وقد فارق العنا ... وراحت به التقوى الى ما هنالك
فراحت إلى رضوان في عدن روحه ... وروح معاديه إلى عند مالك
ويدلّ من حمّى الحديد وضربه ... بولدانها والحور فوق الأرائك
وممتحن لم يثنه عن ولاية ... مخوف وعيد بالردى والمهالك
رأى الهون فيما ناله الآن هيّناً ... فجاد ببذل النفس منه لسافك
فلا الخلق لما فارقوا الحق والهدى ... وفارق منهم كل غاو وآفق
وعاف البقا في دار دنيا دنيّة ... وحلّ قصوراً مهدت بدرانك
وماذا اغترار العارفين بمومس ... مخادعة مشهورة الغدر فارك
تعزّ بعيش برقه برق خلّب ... وعمر قصير ذي زوال مواشك
وقد قرّبت أفراحها وغمومها ... بكاء بواكيها بضحك الضواحك

محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلّد الأنصاري أبو عبد الله عماد الدين ويسمى عبد العزيز أيضاً، أخوه قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ لأبيه. كان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في مذهب الشافعي متصلقاً في فنون الأدب والعروض والحساب والجر والمقابلة وقسمة الأراضي، لم يكن في زمانه مثله في مجموعه، وكان صدراً كثير الخير عليه سكون ووقار إذا تكلم يحفظه صوته. وكان احد تلامذة الشيخ محيي الدين ابن العربي - قدس الله روحه ورضي عنه - لازمه دهراً طويلاً، وأخذ عنه وكتب من تصانيفه الفتوحات المكية ووقفها على المسلمين وكتب غير ذلك من تصانيفه، وكان يفهم كلامه ويعرف إرشادات الشيخ ورموزه بتوقيف منه على ذلك. درّس مدة بالمدرسة العذراوية وأفاد الطلبة إلى حين وفاته، وبشر ديوان الخزانة أيضاً. سمع من أبي عبد الله الحسين بن الزبيدي وأبي المنجا بن اللتى وأبي عبد الله محمد بن غسان الأنصاري وغيرهم، وحدّث بصحيح البخاري وغيره، وسمع أيضاً من مكرم وابن صباح وسمع من خلق كثير. وكانت وفاته يوم السبت ثامن رجب هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون. ودرّس بالعذراوية أخوه قاضي القضاة عز الدين أبو المفاخر ولم يزل بها إلى أن مات - رحمهم الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن أبي أسامة مفيد الدين بن الشيخ جمال الدين أبي صالح المعروف بابن الأحواضي، كان مفنناً ذا علوم كثيرة والغالب عليه المنطق والحكمة والفلسفة والميل إلى مذهبهم؛ توفي بقرية حراجل من جبل الحردبين ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى ولم يبلغ أربعين سنة. ووالده شيخ الشيعة والمقتدى به عندهم والمشار إليه في مذهبهم وسيأتي ذكره - إن شاء الله.
محمد بن عبيد الله بن حزيل أبو عبد الله بهاء الدين، كان صدراً كبيراً عالماً فاضلاً رئيساً، توفي في هذه السنة بالقاهرة. ودفن بالقرافة الصغرى وهو في عشر الستين - رحمه الله تعالى. أخبرني بذلك صاحبنا تاج الدين عبد الله وهو ابن أخيه، ومن شعر بهاء الدين المذكور قوله:
إنما أشكو إلى الخلق هواناً ومذلّة ... فاترك الخلق واترك كل ما تارك الله
وقال:
قالوا الحمام سيأتي هجماً عليك مصابه
فقلت أهلاً وسهلاً إن حاز اقترابه ... ما كان لا بدّ منه يهون عندي صعابه
الموت للناس حتم وذاك في الخلق دأبه ... لي خالق بي رؤوف للجود يقصد بابه
العفو منه يرجى جواداً ويخشى عقابه ... ولست أكره أني ألقاه لكن إهابه
وله مما يكتب في حياصة:
لقد غار مني العاشقون وأظهروا ... قلائي فلا نال الوصال غيور
ومن ذا الذي أضحى له كعلائقي ... لديه ولكنّ النفوس غرور
وقد ضاع مني خصره فوق ردفه ... فلا عجب أني عليه أدور
وله في المعنى في حياصة ذهب:
غار المحبون مني ... إذ درت حول نطاقه
ونلت ما لم ينالوا ... من ضمه واعتناقه
ما اصفرّ لوني إلا ... مخافة من فراقه
وله في جواب كتاب:
أهلاً وسهلاً بكتاب غدا ... كالروض جادته سماء السماح
وافى فمن فرط سروري به ... بات نديماً لي حتى الصباح
تمزج فيه بالعتاب الرضا ... وانما تمزج راحا براح
وله كتب بها إلى بعض أصحابه بالحجاز الشريف:
يا راحلاً قد كدت أقضي بعده ... أسفاً وأحشائي عليه تقطّع
شطّ المزار فما القلوب سواكن ... لكنّ دمع العين بعدك ينبع
وقال وقد اشتد به المرض:
لا يجد همّي ولا حزني ... أم مفقود لها وله
ما بقاء الروح في جسدي ... غير تعذيب لها وله
وقال أيضاً:
يا بديع الجمال رقّ لمن ... ستر هواك عليك مهتوك
دموعه في هواك جارية ... وقلبه في يدك مملوك
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ولقد شكوت لملتقى ... حالي ولطفت العباره
فكأنني أشكو إلى ... حجر وإن من الحجارة
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
وبي رشأ مصون في الفؤاد له ... ودّ فما أحد في الناس يشركه

مهابه في قلوب العاشقين له ... فكم دم منهم باللحظ يسفكه
يا من يروم وصالاً منه مت كمداً ... إن الوصال إليه عنه مسلكه
يا عاذلاً قد لحاني في محبته ... إليك عني فإني لست أتركه
وليس يقبلني إلا تعففه ... مع الأنام ولي وحدي تهتّكه
وهذا صدق قول بعضهم في مبذول:
وليس يقبلني إلا تهتكه ... مع الأنام ولا وحدي تعففه
ولزين الدين المذكور في شبابة:
وناحلة صفراء تنطق عن هوى ... فتعرب عما في الضمير وتخبر
يراها الهوى والوجد حتى أعادها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر
ومما انقل من خطه على ديوان عز الدين أحمد بن معقل:
لسيدنا الحبر الإمام ابن مقبل ... قصائد شعر كالقلائد في النحر
هو البحر في جود وعلم نائل ... ولا عجب للبحر يقذف بالدرّ
هي الروضة الغناء يمهقها الحيا ... وأنبت في أرجائها يانع الزهر
عرائس أبكار المعاني يلفظه ... على الطرس يحلى منه في حبر الحبر
فما عقد السحر الحرام كنظمه ... ولم يحكه حسناً عقود على السحر
وله وقد أنشد:
قالوا تسلّ بغيره عن حبه ... يسليك عنك قلت لا وحياته
من أين لي وجه يكون كوجهه ... حسناً ومن أوصافه كصفاته
الحسن أجمع في حبيبي إنه ... أضحى يتيه على الوجود بذاته
يا غائباً عن ناظري وخياله ... أبداً يراه القلب في مرآته
عطفاً على دنف أجلّ مراده ... إن كنت تقبله على علاته
إن لم تجد بالوصل منك له فقد ... عاجلته بالموت قبل مماته
محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن جعفر بن عمارة بن عيسى بن علي بن عمارة أبو الثناء تاج الدين التميمي الصرخدي الحنفي. مولده سنة ثمان وسبعين وخمس مائة بصرخد، وتوفي ليلة الجمعة السادس والعشرين من ربيع الآخر بدمشق بالمدرسة النورية، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر عند قبر شيخه جمال الدين الحصيري - رحمه الله تعالى.
وكان تاج الدين المذكور من الصلحاء العلماء الفضلاء، لين الجانب، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير التواضع، قنوعاً من الدنيا بقدر الكفاية، معرضاً عن التكثر مع تمكنه من ذلك وقدرته عليه؛ وكانت له وجاهة عظيمة عنند الملوك والأمراء والوزراء والأكابر والقبول العظيم من الخاص والعام. وله اليد الطولى في النظم، فمن شعره:
حدث فقد حدثتنا دوحة السلم ... عنهم فما أنت في قول بمتّهم
أخيّموا بالكثيب الفرد أم نزلوا ... منابت الرمل بالوعساء من إضم
هل حدثوك فأضحى الدرّ من صدف ... الثغور ما بين منثور ومنتظم
أضحى النسيم عليلاً ما به رمق ... لما رموه من الجفان بالسقم
أهوى حديث قديم العهد إن نطقت ... به المعاهد عن أحبابنا القدم
ويزدهيني وميض البرق في سدف ... من الظلام بحالي ثغر مبتسم
بأمور ذا اللهو من أجزاع كاظمة ... نحن العطاش إلى سلسالك الشبم
أعابد فيك ما قضيت من وطر ... مع الظباء ولو في طارق الحلم
أفدى أناساً لووا عهد اللوى ونأوا ... عني وما حلت عن عهدي ولا ذمم
أحبة كلما اشتاق عن ادّكارهم ... تبدل الدمع من تذكارهم بدم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إن كان قصدي غيركم يا سادتي ... لا نلت منكم بغيتي وإرادتي
من ذا الذي حاز الجمال سواكم ... فأحبه وتقوم فيه قيامتي
والله لا أنسى محبته سادة ... إحسانهم تمحو قبيح إساءتي
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لقديم وجدي في هواك حديث ... تفنى به الأيام وهو حديث
ولطيب ذكرك في فؤادي خطرة ... ميت الغرام بنشرها مبعوث

أضحى الغرام يزيد وهو كمدمعي ... جار إلى جاري العيون حثيث
ولقد بكيت على زمان المنحنى ... أسفاً فدمعي للديار غيوث
يا أيها الصب الذي أجفانه ... وحش وأحداق العيون حثيث
بالله يا ميثاق سلع ضائع ... عندي ولا عهد الحمى منكوث
يثنيك عني مثل ودّ ماذق ... ويعوف طرفك إن أراد يغوث
ببلية صليت في شرع الهوى ... ما لي عليها في الأنام مغيث
حدق وأجفان سبت بسوادها ... قلبي وفرع كالظلام أثيث
لولا ابتسام الثغر ريع هذه ... هذا لكن أضلني التثليث
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قسماً بتعريف الحجيج وليلة ال ... مسعىوأيام الحطيم وزمزم
والرمي والجمرات والتشريق وال ... بيت العتيق وكل أشعث محرم
وسعى إخوان الصفاء على الصفا ... وبما أريق على المحصب من دم
لأحلت عن حييكم وبحبكم ... يلقى الإله حشاشتي بل أعظمي
هذا وقلبي ما غدا من حبكم ... صفراً ولا حبي لكم بمحرم
وإذا ذكرتكم غنيت بذكركم ... عن مشرب طول الزمان ومطعم
وإذا ابتسام البرق حرّك ساكنا ... في القلب حرّكتم بكل تبسم
لكم تعطرت الخمائل الربا ... بنسيمكم وحياتكم بمتيّم
فلأشكرن يد النسيم وواجب ... بين الورى تكرار شكر المنعم
علقت بروحي أو وقد علقتكم ... قلبي فمجموعي بكم وتقسمي
إن جنكم صب فليس بمدنف ... أو حازكم قلب فليس بمغرم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لا تقولوا سلا المحب هوانا ... لا ولو ذقت في هواكم هوانا
أنا صبّ أرى المذلة عزاً ... في رضاكم وذنبكم غفرانا
لست أسلوكم وحاشى هواكم ... أن يرى فيه عاشق سلوانا
أيها المعرضون ردوا على المش ... تاق قلباً عذبتموه زمانا
أفردوا الرقاد ثم مرّوا الطي ... ف مراراً لعله يغشانا
أين أيامنا ونحن وأنتم ... قد غدونا على الحمى جيرانا
تسرح العين فيكم فيرى النا ... ظر في كل نظرة بستانا
لا ولا ذقت وصلكم إن تطلّب ... ت خروجاً عن حبكم وأمانا
قال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قضى ولم يقض من أهل الحمى إرباً ... صبّ متى شام برق الأبرقين صبا
لاحت له في الدجى نار على علم ... وهناً فآنس منها قلبه لهبا
فحنّ وجدا إلى الوادي نزلوا ... به وبات بتلك النار مكتئبا
يهيجه نشر رند في النسيم على ... بعد ويصبو إذا برق الحمى وجبا
ويسأل البرق من نجد إعادة أيامه البيض والعيش الذي ذهبا
هيهات يا سرحة الوادي بشعبهم ... للشمل فيك التئام بعد ما انشعبا
وقال - رحمه الله تعالى - :
رعى الله ليلاً زارني في دجائه ... رشيق التثني مسرف في جماله
فمزق جلباب الدجى صبح وجهه ... وضوّع جمر الخد غنبر خاله
وبتّ ولي من ريقه العذب قرقف ... معتقة ممزوجة بدلاله
مضى وانقضى ذاك الوصول كأنما ... منام رأته العين طيف وصاله
لقد صدّ حتى لو تمنيت طيفه ... يضنّ على ضعفي بطيف خياله
واتبعه هجراً يرى الوصل عنده ... حراماً فوصلي لا يمرّ بباله
وما زال يوليني الصدود تدللاً ... فوا حرباً من صده ودلاله
وقال أيضاً - رحمه الله:
أنتم لأجسامنا الأرواح والمهج ... وللنواظر فيكم منظر بهج
أنتم لنا الحجة العظمى إذا انقطعت ... بنا الأدلة يوم البعث والحجج
لا نرتجي غيركم في كل نائبة ... إذا ذكرناكم بالذكر ينفرج

وما سلكنا إليكم في الدجى بهجاً ... إلا وأشرق نوراً منكم البهج
لنا الهداية منكم لا نضلّ ولا ... نخشى الضلال وأنتم للورى سرج
لولاكم ما اغتدت منا القلوب هوا ... ء يتيه في نشر رياه وينبهج
منكم رأينا طريق الحق واضحة ... لا زيغ فيها ولا أمت ولا عوج
ففي القلوب لنا من ذكركم طرب ... وفي النسيم لنا من نشركم أرج
وفيكم نزه الأبصار ما نظرت ... إلا وعنّ لها من حسنكم فرج
وحبكم مذهب لولاه ما رفعت ... عنا المشقة والتكليف والحرج
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
سقى الله أيام الحمى ما يسرها ... وخصك يا عصر الشبيبة بالرضا
فعنك عرفت النفس غضّاً مطاوعاً ... ولكنه لما انقضى عصرك انقضا
فلولاك لم يسفح على السفح عبرة ... لعيني ولا صدّ السرور وأعرضا
ولا نلت برقاً بالثنية لامعاً ... ولا غاص دمع العين من قبقبة الأضا
ولا ترف الدمع المصون كآبة ... عليك لما أدى حقوقا ولا قضى
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
سلام على الدار التي قد تباعدت ... ودمعي بها طول الزمان سفوح
خليلي ما لي لا أرى بأن حاجر ... يلوح ولا نشر الأراك يفوح
يعز علينا أن تشط بنا النوى ... ولي عندكم قلب يذوب وروح
إذا نفحت من جانب الرمل نفحة ... وفيها غزار للغوير وشيح
وضاعت رياض الحزن في رونق الضحى ... وهب لنا من نحو رامة ريح
تذكرتكم والدمع يستر مقلتي ... وقلبي باستياف البعاد جريح
وقلت وبي من لاعج الشوق زفرة ... ولوعة وجد تغتدي فتروح
ألا هل يعيد الله أيامنا التي ... نعمنا بها والحادثات تروح
وقال أيضاً رحمه الله:
قلبي بتذكار الأحبة مولع ... حيران من ألم الفراق مولع
كيف التصبر بعد فرقة سادة ... فارقتهم والقلب مني موجع
يا صاح لو أبصرتني لرثيت لي ... والقلب عند فراقهم يتقطع
وأنا أنادي والمدامع هطل ... يا رب قل تصبري ما أصنع
وقال أيضاً رحمه الله:
يا حادي العيس مر بي حيث ما ساروا ... أذابني لهم شوق وتذكار
ساروا وقلبي على جمر الغضا تركوا ... وكيف يصبر من في قلبه نار
تلك البدور سروا تحت الظلام دجى ... فهتكت تحت ذاك الستر أستار
دعني أمزق أسرار الحياء بهم ... فما عليّ إذا مزقتهم عار
وقال أيضاً رحمه الله:
ما نلت من حب من كلفت به ... إلا غراماً عليه أو ولها
ومحنتي في هواه دائرة ... آخرها ما يزال أولها
وقال أيضاً: أنشدها للشيخ شمس الدين الستي الواعظ البغدادي بجامع دمشق في الأيام المعظمية وكان يجلس يوم الثلاثاء:
أيها العالم الذي ورثته ال ... علم جداً أجداده ميراثا
والذي إن أتى بوعد وعهد ... كان لا مخلفاً ولا نكاثا
كل يوم نراك بحراً خضيماً ... نغرف الدر منه يوم الثلاثا
قسم الدهر للتفحص في ال ... علم والنسك والندى أثلاثا
نام طرف الخليل ليلاً فنودي ... هب فاذبح مطهماً دلهاثا
والبشير النذير نام وما كا ... ن يذوق المنام إلا حثاثا
فأتاه آت فناداه قم فار ... كب متن البراق وامض مغاثا
واسر حتى ترى مقاماً كريماً ... تعجز سيرك البروق الحثاثا
أي فرق بين المنامين بين ... ما تراه بين البرية عاثا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8