كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الحمد لله مصرّف الدهور، وخالق الأزمنة عن مر الأيام والليالي والشهور، أحمده على نعمه التي شملت الأمم جيلاً بعد جيل، وعرفت أخبار من سلف في القرآن والتوراة والإنجيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبصر بعواقب الطائعين والعاصين وتقضي بنجاة من أقر بها من الدانين والقاصين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى الأمة إلى مناهج سبلهم، وندبوا على لسانه كيف نسير في الأرض فينظرون كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما بقيت الأيام والليالي، وعرفت أخبار الأمم السالفين في العصور الخوالي.أما بعد فإنه لما كانت الأذهان مصروفة إلى معرفة أخبار من مضى، والإطلاع على أحوال من قضى الله له بما قضى، ليستفاد بذلك سيرة الطراز الأول والوقوف عند نص أحاديثهم التي بها يعتبر وعليها يعوّل،صنف الناس في ذلك كتباً، وساروا بأفكارهم فجلبوا من أخبار الأمم حطباً وذهباً، ولما وقفت على بعض ما نصوه، وتأملت ما انبأوا به عن السالفين وقصّوه، رأيت اجمعها مقصداً وأعذبها مورداً وأحسنها بياناً وأصحها روايةً يكاد خبرها يكون عياناً الكتاب المعروف بمرآة الزمان تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي المظفّر يوسف سبط الإمام الحافظ جمال الدين عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله الذي ضمّنه ما علا قدره على كل نبيه، وفاق به على من يناويه، فشرعت في اختصاره وأخذت في اقتصاره فلما أنهيته مطالعةً وحررته اختصاراً ومراجعةً وجدته انقطع إلى سنة أر بع وخمسين وستمائة - وهي السنة التي توفي فيها المصنف رحمه الله في أثنائها فأثرت أن أذيله بما يتصل به سببه إلى حيث يقدره الله تعالى من الزمان، مع أني لست من فرسان هذا الميدان، وربما ذكرت وقائع متقدمة على سنة بع وخمسين أو من تقدمت وفاته على سبيل الاستطراد أو لمعنى اقتضى ذلك ولعل بعض من يقف عليه ينتقد الإطالة في بعض الأماكن والاختصار في بعضها، وإنما جمعت هذا الذيل لنفسي وذكرت ما اتصل بعلمي وسمعته من أفواه الرجال ونقلته من خطوط الفضلاء والعمدة في ذلك لا علي واسأل من الله تعالى التوفيق والهداية إلى سواء الطريق بمنّه وكرمه وخفي لطفه.
سنة أربع وخمسين وستمائةاستهلت هذه السنة وخليفة المسلمين ببغداد دار ملكه وهو الأمام المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله أمير المؤمنين أبن الإمام المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد رحمه الله تعالى وملك الشام والبلاد الفراتية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمّد وملك الديار المصرية الملك المعز عز الدين أيبك التركماني وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل وصاحب الموصل وبلادها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي وصاحب ميافارقين وديار بكر وتلك الأعمال الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل والمستولي على أربل وأعمالها وما أضيف إليها الصاحب تاج الدين محمد ابن صلايا العلوي من جهة الخليفة والنائب في حصون الإسماعيلية الثمانيّة بالشام رضي الدين أبو المعالي وصاحب صهيون وبرزيه وبلاطنس الأمير مظفر الدين عثمان بن الأمير ناصر الدين منكورس.
وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب وصاحب تلّ باشر والرحبة وتدمر وزلوبيا الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن إبراهيم بن شيركوه - ابن محمد بن شيركوه - بن شاذي وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله على ساكنها وسلامه الأمير عز الدين أبو مالك منيف بن شيحة بن قاسم الحسيني وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف قتادة الحسيني وصاحب ماردين الملك السعيد إيلغازي الأرتقي وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدّين يوسف بن عمر وخرا سان وما وراء النهر وخوارزم وخلاط وبلد فارس ومعظم الشرق بأسره بيد التتار وصاحب الرّوم السلطان ركن الدين وأخوه عز الدين والبلاد بينهما مناصفة وهما في طاعة هولاكو ملك التتار.
وفي هذه السنة ورد إلى دمشق كتب من المدينة صلوات الله على ساكنها و سلامه تاريخها خامس شهر رجب ووصلت في عاشر شعبان ونحوه تتضمن خروج نار بالمدينة وفيما تضمنته الكتب لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الأخرى سنة أربع وخمسين ظهر بالمدينة دويٌ عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت منها المدينة والحيطان والسقوف والأخشاب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور ظهرت نار عظيمة في الحرة بالقرب من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنّها عندنا وهي نار عظيم إشعالها وقد سالت أودية منها بالنار إلى وادي شطا مسيل الماء وقد سدّت مسيل شطا وما عاد يسيل والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً وقد سدّت الحرة طريق الحاج العراقي وسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعدما أشفقنا أن تجئ إلينا ورجعت تسير في الشرق تخرج من وسطها مهود وجبال نيران تأكل الحجارة منها أنموذج عما أخبر الله في كتابه العزيز فقال عز من قائل - إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر - وقد أكلت الأرض وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين والنار في زيادة ما تغيرت وقد عادت إلى الحرارة في طريق قريظة طريق الحاج العراقي كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج، وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر والأم الكبيرة النار التي سالت النيران منها من عند قريظة وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك والله يجعل العاقبة إلى خير وما أقدر صف هذه النار.
ومن كتاب أخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الأخرى وقع بالمدينة صوت يشبه الرعد البعيد تارة وتارة وأقام على هذه الحالة يومين فلما كان يوم الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلزال فتقيم على هذه الحالة ثلاثة أيام يقع في اليوم والليلة أربع عشر زلزلة فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور أنتجت الأرض من الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مرأى العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر كما قال الله تعالى وهي بموضع يقال له أجلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصفا وهي تجري على وجه الأرض وتخرج منه امهاد وجبال صغار تسير على الأرض وهو صخر يذوب حتى تبقى مثل الآنك فإذا خمد صار أسود وقبل الجمود لونه أحمر وقد حصل بطريق هذه النار إقلاع عن المعاصي والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها.
ومن كتاب شمس الدين سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه لما كان ليلة الأربعاء ثالث شهر جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة النبي صلى الله علي وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذي فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف ثم طلع يوم الجمعة في طريق العنزة في رأس أجلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة وما باتت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً وطلعت إلى الأمير وكلمته وقلت له قد أحاط بنا العذاب ارجع إلى الله فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم فلما فعل هذا قلت له أهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله علي وسلم فهبط وبتنا ليلة السبت الناس جميعهم والنسوان وأولادهم وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله علي وسلم وأشفقنا منها فظهر ضوءها إلى أن أبصرت من مكة ومن الفلاة جميعها ثم سال منها نهر من نار وأخذ في وادي أجلين وسدّت الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري سيل قط لأنها حرة تجيء قامتين وثلث علوها وبالله يا أخي إن عيشنا اليوم مكروه والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب وتمت تسير إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض البحيرة بحرة الحاج وجاء في الوادي إليها منا قتير وخفنا أنها تجئنا واجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله علي وسلم وبات عنده جميعهم ليلة الجمعة وأما قتيرها الذي يلينا فقد طفئ بقدرة الله تعالى وأنها إلى الساعة ما نقصت إلا ترمي مثل الجبال حجارة من نار لها دوى ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن سعد وجاء وغدا إليها وما أصبح يقدر يصفها من عظمها وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهي على حالها والناس منها خائفون والشمس والقمر من يوم طلعت ما يطلان إلا كاسفين فنسأل الله العافية، و من كتاب بعض بني القاشاني بالمدينة يقول فيه وصل إلينا في جمادى الآخرة نجّابة من العراق أخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوار بغداد إلى البلد وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة وسط البلد وانهد مت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير وعادت السفن تدخل إلى وسط البلد وتتخرق أزقة بغداد قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم لما كان ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها - بيومين - عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد ساعة بعد ساعة وما في السماء غيم حتى أنه منذ يومين إلى ليلة الأربعاء ثم ظهر الصوت حتى سمعه الناس وتزلزلت الأرض ورجفت بنا رجفة لها صوت كدوي الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى وذكر بمعنى ما تقدم ثم قال والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حدة العريض ثم سكنت ووقفت أياماً ثم عاد تخرج من النار ترمي بحجار خلفها وأمامها حتى بنت لها جبلين خلفها ما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً ثم أنها عظمت الآن وشباها إلى الآن وهي تخرج كأعظم ما يكون ولها كل يوم صوت عظيم آخر الليل إلى ضحوة ولها عجائب ما أقدر أصفها لك على الكمال وإنما هذا منها طرف كبير يكفي والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن وكتبت هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها حتى قال فيها بعضهم
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها ... حملاً ونحن بها حقاً أحقاء
زلازلاً تخشع الشم الصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شماء
أقام سبعاً يرج الارض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء
ترمى لها شرر كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت ... رعباً وترعد مثل السعف أضواء
منها تكاثف في الجو دخان إلى ... إن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سعفة في البدر لفتحها ... فليلة التم بعد النور ليلاء
تحدت النيران السبع ألسنها ... بما يلاقي بها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ... أن كاد يلحقها بالأرض أهواء
فيالها آية من معجزات رسول الل ... ه يعقلها القوم الألباء
فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء
فاسمح وهب وتفضل وانج واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الحلم خطاء
فقوم يونس لما آمنوا كشف ال ... عذاب عنهم وعم القوم نعماء
ونحن أمة هذا المصطفى ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعاء
هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل الله بيضاء
فارحم وصل على المختار ما خطبت ... على علا منبر اللأوراق ورقاء
ونظم بعضهم في هذه النار وغرق بغداد
سبحان من أصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار
في سنة أغرق العراق وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار
وفيها ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان احترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان ابتداء حريقه من زاويته - الغربية من الشمال - فعلقت في الأبواب ثم اتصلت بالسقف بسرعة ثم دبت في السقوف آخذة قبلة فاعجلت الناس عن قطعها فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع ووقع بعض أساطينه وذاب رصاصها وكل ذلك قبل أن ينام الناس واحترق سقف الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ووقع ما وقع منه في الحجر وبقي على حاله لما شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد واصبح الناس يوم الجمعة فعزلوا موضعاً للصلاة ونظم في حريق المسجد.
لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار.
لكنما أيدي الروافض لامست ... ذاك الجناب فطهرته النار.
وقال معين الدين بن تولوا المعزى
قل للروافض بالمدينة مالكم ... يقتادكم للذم كل سفيه.
ما أصبح الحرم الشريف محرقاً ... إلا لسبكم الصحابة فيه.
وعلى ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات فقال شهاب الدين أبو شامة في ذلك وفيما تقدم
بعد ست من المئين وخمسين ... لدى أربع جرى في العام.
نار ارض الحجاز مع حرق المسجد ... معه تغريق دار السلام.
ثم أخذ التتار بغداد في أو ... ل عام من بعد ذاك بعام.
لم يعن أهلها والكفر أعوا ... ن عليهم يا ضيعة الإسلام.
وانقضت دولة الخلافة منها ... صار مستعصم بغير اعتصام.
رب سلم وصن وعاف بقايا ال ... مدن يا ذا الجلال والإكرام.
فحنانا على الحجاز ومصر ... وسلام على بلاد الشآم.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة وفي ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس في غده واحمرت وقت طلوعها وقريب غروبها واتضح بذلك ما صوره الشافعي رحمة الله عليه من اجتماع الكسوف والخسوف واستبعده أهل النجامة.
وفيها تواترت الأخبار بوصول عساكر هولاكو إلى أذربيجان قاصدة بلاد الشام فوردت قصاد الديوان العزيز على الشيخ نجم الدين البادرائي وهو إذ ذاك بدمشق تأمره أن يتقدم إلى الملك الناصر بمصالحة الملك المعز صاحب مصر وأن يثني عزمه عن قصده ويتفق معه على قتال التتار وأجاب إلى ذلك وأعاد العسكر إلى دمشق بعد أن كان قد وصل إلى غزة وأقام بها صحبة الملك المعظم توران شاه ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب فدخل العسكر دمشق في العشر الأول من شوال وفي جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فاقطعه الملك الناصر مثل ما كان له بمصر من الإقطاع.
وفي شوال توّجه كمال الدين بن العديم رسولاً من الملك الناصر - صلاح الدين يوسف - رحمه الله إلى الخليفة المستعصم بالله على البرية بتقدمة كبيرة فوصل بغداد في الثاني والعشرين من ذي القعدة وطلب من الخليفة خلعه لمخدومه وكان قد قدم بغداد الأمير شمس الدين سنقر الأقرع وهو في الأصل من غلمان الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن العادل رسولاً من الملك المعز صاحب مصر إلى الخليفة بسبب تعطيل الخلعة فتحير الخليفة فيما يفعل فاحضر الوزير مؤيد الدين بن العلقمي جمال الدين بن كمال الدين بن العديم وكان سافر مع أبيه وناوله سكينة كبيرة من نشم وقال له خذ هذه علامة على أنه لابد من الخلعة للملك الناصر في وقت آخر.
وفيها عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية ووليها القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز.
ذكر ما تجدد للملك الناصر داود
بن الملك المعظم في السنة.
كان له وديعة سنية عند الخليفة من جواهر وغيرها فتوقف في ردها عليه وشرهت نفسه إليها واحتج بحجج لا معنى لها وجرى في ذلك خطوب يطول شرحها وكان الملك الناصر حج في السنة الخالية وعاد إلى العراق بسببها فانزل بالحلة وأجرى عليه راتب لا يليق به ولا يناسب محله وكان الخليفة قد عمر ببغداد قصراً فلما تم هنته الشعراء وهناه الملك الناصر بقصيدة تلطف فيها وعدد خدمه وخدم أسلافه فلم يجد ما يكافيه أن سير إليه من حاسبه على جميع ما وصل إليه طول المدة من النفقات وما أوصلوه إليه مفرقاً وما ضيفوه به في تردده وإقامته وظعنه من خبز ولحم وعليق - واصلوا بسائر.... - وقالوا قد وصل إليك قيمة وديعتك فاكتب خطك بوصوله وأنه لم يبق لك عند الديوان حق ولا مطالبة فلم يمكنه إلا الإجابة والمسارعة فكتب ولم يصله من ثمنها إلا دون العشر فانصرف ساخطاً واجتمع عليه جماعة من العرب أرادوا التوصل به إلى النهب والفساد فامتنع وأقام عند العرب وبلغ الملك الناصر صلاح الدين يوسف فأهمه مقامه عندهم فاحضر الملك الظاهر شادي أكبر أولاد الملك الناصر داود وحلف له اليمين المغلظة أنه لا يتعرض له بأذى فوصل شادي إلى والده وعرفه ذلك فقدم دمشق ووجد الملك الناصر يوسف قد أوغر صدره عليه فنزل بتربة والده الملك المعظم بسفح قاسيون وشرط عليه أن لا يركب فرساً ثم أذن له في الركوب بشرط أنه لا يدخل البلد ولا يركب في موكب فاستمر الحال على ذلك إلى آخر السنة.فصلوفيها توفي إبراهيم بن أونبا بن عبد الله الصوابي الأمير مجاهد الدين والي دمشق وليها بعد الأمير حسام الدين عرابي بن أبي علي في سنة أربع وأربعين وستمائة وكان في بداية سعادته أمير جاندار الملك الصالح نجم الدين وكان أميراً جليلاً فاضلاً عاقلاً رئيساً كثير الصمت مقتصداً في إنفاقه وكان بينه وبين الأمير حسام الدين مصافاة كثيرة ومودة أكيدة ولما مرض مرض موته أسند نظر الخانقاه التي عمرها على شرف الميدان القبلي ظاهر دمشق إلى الأمير حسام الدين المذكور فتوقف في قبول ذلك ثم قبله على كره منه وتوفي مجاهد الدين رحمه الله تعالى في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة ثلاث وخمسين ودفن بالخانقاه المذكورة رحمه الله وله نظم فمنه.
أشبهك الغصن في خصال ... القد واللين والتثني.
لكن تجنّيك ما حكاه ... الغصن يجنى وأنت تجني.
وله في صبي اسمه مالك.
ومليح قلت ما الاسم ... حبيبي قال مالك.
قلت صف لي قدك الزا ... هي وصف حسن اعتدالك.
قال كالغصن وكالبد ... روما أشبه ذلك.
إبراهيم بن أيبك بن عبد الله مظفر الدين كان والده الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد قد اشتراه الملك المعظم عيسى بن العادل سنة سبع وستمائة وترقى عنده حتى جعله أستاذ داره فكان عنده في المنزلة العلياء يؤثر على أولاده أهله ولم يكن له نظير في حشمته ورياسته وكرمه وشجاعته - 10ب - وسداد رأيه وعلو همته بحيث كان يضاهي الملوك الكبار واقطعه الملك المعظم صرخد وقلعتها وأعمالها وقرى كثيرة أمهات غيرها ولما توفي الملك المعظم بقي في خدمة ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فلما حضر الملك الكامل كان الأمير عز الدين المذكور هو المدبر للحرب وأمور الحصار فلما حصل الاتفاق على تسليم دمشق كان هو المتحدث لذلك فاشترط للملك الناصر من البلاد والأموال والحواصل فوق ما أرضاه ثم اشترط لنفسه صرخد وأعمالها وسائر أملاكه بدمشق وغيرها وأن يسامح بما يأخذ من المكوس على سائر ما يباع ويبتاع له من سائر الأصناف ويفسح له في الممنوعات وأن يكون له حبس في دمشق يحبس فيه نوابه من لهم عليه حق فأجيب إلى ذلك جميعه بعد توقف وبقي على ذلك الأيام الأشرفية والكاملية و الصالحية والعمادية وإلى أوائل الدولة الصالحيه النجمية فحصل له وحشة من الملك الصالح نجم الدين وكان مع الخوارزمية لما كسروا على القصب في يوم الجمعة مستهل المحرم سنة أربع وأربعين وستمائة فمضى إلى صرخد وامتنع بها ثم أخذت منه صرخد في أوائل السنة المذكورة وأخذ إلى الديار المصرية فاعتقل بها بدار صواب فكان إبراهيم هذا قد مضى إلى الملك الصالح نجم الدين ووشى به وقال أموال أبى قد بعث بها إلى الحبلين وأول ما نزل بها صرخد كانت ثمانين خرجا فأودعها عند الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي وبلغ الأمير عز الدين اجتماعه بالملك الصالح فمرض ووقع إلى الأرض وقال هذا آخر عهدي بالدنيا ولم يتكلم بعدها حتى مات ودفن ظاهر القاهرة بباب النصر سنة خمس وأربعين ثم نقل بعد ذلك إلى القبة التي بناها برسم دفنه في المدرسة التي أنشأها على شرف الميدان ظاهر دمشق من جهة الشمال ووقفها على أًصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه وهي من أحسن المدارس وأنضرها وله مدرسة أخرى بالكشك داخل مدينة دمشق.
وبالجملة فكان من سادات الأمراء كثير البر والمعروف وإنعامه يشمل الأمراء والأكابر والفقراء والصلحاء والعوام رحمه الله ورضى عنه فلقد كان من محاسن الدهر ثم أن ولده هذا سعى بحاشيته مثل البرهان كاتبه وابن الموصلي صاحب ديوانه والبدر الخادم ومسرور وغيرهم فأمر الملك الصالح نجم الدين بحملهم إلى مصر فأما البرهان فإنه من خوفه يوم اخرج ليتوجه إلى مصر مات بمسجد النارنج والباقون حملوا إلى مصر ولم يظهر عليهم مما قيل درهم واحد فرجعوا إلى دمشق بعد وفاة الملك الصالح وقد لاقوا شدائد وأهوال - 11ب - وختم للأمير عز الدين بالشهادة رحمه الله تعالى.
وذكر الشيخ شمس الدين سبط ابن جوزي رحمه الله ما يدل على أن إبراهيم هذا ولد جاريته وانه تبناه وليس بولده وهو أخبر بذلك ويدل عليه ما فعله به وبحاشيته والله أعلم بذلك.
بشارة بن عبد الله أبو البدر الأرمني - الكاتب - مولى شبل الدولة المعظمى سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيره وكان يكتب خطاً حسناً وتوفي ليلة النصف من شهر رمضان بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وذريته يدعون النظر على المدرسة والخانقاه والتربة المنسوب ذلك إلى شبل الدولة رحمه الله تعالى.
طغريل بن عبد الله الأمير سيف الدين أستاذ دار الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة كان من أعيان الأمراء شجاعاً حسن التدبير والسياسة للأمور ولما توفي الملك المظفر قام بتدبير أمور ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد بمراجعة والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل ناصر الدين ابن أبي المعالي محمد بن الملك العادل ومشاورتها في الأمور وأخذ رأي الصاحب شرف الدين عبد العزيز محمد بن شيخ الشيوخ ولم يزل على ذلك وهو أتابكه إلى أن توفي في ثالث شوال رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن احمد بن الحسن بن كاتب بن عبد الرحمن أبو المعالي شرف الدين القرشي البعلبكي العدل المعروف بابن الفارقي توفي ببعلك في سادس شهر رمضان هذه السنة ومولده بدمشق في شوال سنة تسعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر الخشوعي وغيره وحدث بدمشق وكان فيه شرف وكان كاتب الحكم بعلبك وحصل بينه وبين قاضيها صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله منافرة فوقّع في حقه واشتط عليه ورماه بما برأه الله منه وكان الشرف المذكور يمت بمعرفته قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة رحمه الله تعالى فاستطال بذلك ولم يجد من القاضي صدر الدين عبد الرحيم مع ما صدر منه في حقه إلا الإحسان المتواتر إلى حيث توفي الشرف المذكور وكان القاضي صدر الدين عبد الرحيم من حسنات الزمان وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن حفاظ أبو محمد - زكي الدين - السلمي المعروف بابن الفويرة كان من أعيان عدول دمشق وتوفي بها ليلة نصف ربيع الآخر ودفن من الغد بجبل قاسيون ومولده نحو سنة إحدى وتسعين وخمسمائة تقديراً سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي - وغيره - وحدث رحمة الله تعالى.
عبد الرحمن بن نوح بن محمد أبو محمد شمس الدين - ص2 ورقة 6 ألف - المقدسي الشافعي تفقه وبرع ودرس وكان أحدا الفقهاء المشهورين بدمشق سمع من أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وغيره وحدث وتوفي بدمشق ليلة السادس عشر من شهر ربيع الآخر ودفن من الغد بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حافلة رحمه الله.
عبد العزيز بن عبد الرحمن بن احمد بن هبة الله بن علي أبو بكر شرف الدين الحموي الشافعي المعروف بابن قرناص وقد كان قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله نسبه فقد هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسين ابن محمد بن جعفر بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولده في تاسع عشر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وخمسمائة كان من أعيان العلماء الفضلاء النبلاء الرؤساء المشهورين وله نظم حسن وتوفي في الثامن والعشرين من ذي القعدة بحماة وبيته - ص2 ورقة 6 ب - مشهور بالفضل والتقدم قال القاضي جمال الدين بن واصل أنه توفي في ذي الحجة وكان فاضلاً في الفقه والأدب مجيداً في النظم والنثر تزهد في صباه وامتنع من قول الشعر إلا ما يتعلق بالزهد ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صنف ديوان رسائل مبتكرة بديعة فاعرض عنها وكان يأمر بإعدامها.
ومن شعره
يا من غدا وجهه روض العيون لما ... أعاره الحسن من أنواع أزهار.
نعمت طرفي وأودعت الحشى حرقا ... فالطرف في جنة والقلب في نار.
وله
إذا لم ينر بالجد ليل شبيبتي ... سيظلم بالتقصير صبح مشيبي.
وله من أبيات في أوقات طلوع منازل القمر ينتفع بها جداً وهو.
إذا ما نلت بعد عشرين وقت ... لنيسان بالنطح ارتقبه مع الفجر.
وسادس أيار البطين ومحتل ... حنين الثريا تسع عشر من الشهر.
وللدبران من حريزان أوّل ... وهقعته تتلوه في رابع العشر.
وسابع عشريه لهنع ودونه ال ... ذراع يوافى عشر تموز ذي الحر.
وفي ثالث العشرين تطلع نثرة ... وخامس أن لا تنظر الطرف ذا شزر.
وثامن عشر منه مطلع جبهة ... وأول أيلول به مطلع الزبر.
ورابع عشر صرفة الحر والعوى ... من السبع والعشرين يأوي إلى الوكر.
وتشرنينا الأول سمّاك لعاشر ... وثالث عشريه فيه مطلع الغفر.
وتشرنينا الثاني زباني لخامس ... وثامن عشر منه ذلك بالزهر.
ويوم ترى كانونا الأول مقبلا ... بأول يوم يحقق القلب القر.
ورابع عشر شولة ونعائم ... من السبع والعشرين مجرتها تجري.
وكانوننا الثاني يوافيك بلدة ... لعشر تراها وهي كالبلدة القفز.
وثالث عشريه كريح ورابع ... أتى من شباط بلعه أنزه نسرى.
وثامن عشر منه سعد سعوده ... وثاني آذار لا خيبة السفر.
وخامس عشر منه فرغ مقدم ... وثامن عشريه المؤخر بالأثر.
وعاشر بيسان لحوت بذا انقضت ... منازل لا ينفك به آب في الكر.
فسبحان لمن في طي حكمته لمن ... حباه بتوفيق دليل على الحشر.
عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن حسن أبو محمد - ص 2 ورقة 7 ألف - العدواني المصري المعروف بابن أبي الإصبع كان أحد الشعراء المجيدين وله تصانيف في الأدب حسنة مفيدة ومولدة سنة خمس وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر وتوفي بها في الثالث والعشرين من شوال ودفن من يومه.
ومن شعره
ليطف لهيب القلب وليذهب السقم ... فقد أنعمت بالوصل بعد الجفا نعم.
أشكى ظلمها قلبي فجادت بنظمها ... على ظمأ فاستعذب الظُلم والظَلم.
وقالت أرسلي حين بثوا صبابتي ... إليكم فعندي من صبابته علم.
أيا نعم إن شئت انعمي أو فعذبي ... فعرم الهوى عند المحب هو النعم.
وله
وساق إذا ما ضحك الكأس قابلت ... فواقعها من ثغره اللؤلؤ الرطبا.
خشيت وقد أمسى نديمي على الدجى ... فأسدلت دون الصبح من شعره حجبا.
وقسمت شمر الطاس في الكأس انجما ... ويا طول ليل قسمت شمسه شهبا.
تبسم لما أن بكيت من الهجر ... فقلت ترى دمعي فقال ترى ثغري.
فديتك لما أن بكيت تنظمت ... بفيك لآلئ الدمع عقد من الدر
فلا تدعي يا شاعر الثغر صنعة ... فكاتب دمعي قال ذا النظم من نثري.
وله يمدح الملك الأشرف رحمه الله تعالى
أيا عبلة ألا لحاظك عنتر ... وما لي على غاراته في الحشا صبر.
نعم أنت ياخنساء خنساء عصرنا ... وشاهد قولي أن قلبك لي صخر.
غاية قصدي بطن يمناك غاية ... بها أندى المجدى ينبت التبر.
أغضت الحيا والبحر جودا فقد بكى ال ... حياء حياءً منك والنظم والبحر.
عيون معانيها صحاح وأعين ال ... ملاح مراض في لواحظها كسر.
أضاعت عقولا حين ضاعت فما درى ... أبابل أهدتها إليك أم السحر.
وله
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق.
وتذكرني من ادمعي وقوامها ... تجر عوالينا وتجر السواق.
وله يهجو
ولما رأيتك عند المديح ... جهم المحيا لنا تنظر.
تيقنت نحلك لي بالندا ... لأن الجهامة لا تمطر.
وله في قيّم حمّام
وقيّم كلمت جسمي أنامله ... بغير السنة تكليم خرصان.
ص 2 ورقة 7 ب إن أمسك اليد مني كاد يخلعهاأو سرح الشعر عند الغسل أدماني.
فليس يمسك إمساكا بمعرفة ... ولا يسرح تسريحا بإحسان.
وله
تصدق بوصل إن دمعي سائل ... وزود فؤادي نظرة فهو راحل.
فخدك موجود به التبر والغنى ... وحسنك معدوم لديه الشمائل.
أيا قمراً من شمس وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل.
تنقلت من طرف القلب مع النوى ... وهاتيك للبدر التمام منازل.
إذا ذكرت عيناك للصب درونها ... من السحر قامت بالدليل الدلائل.
جعلتك بالتمييز نصباً لناظري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل.
ولما أضفت السحر للجفن حسنت ... به الكسر منه غنج الجفون العوامل.
أعاذل قد أبطرت حبي وحسنه ... فإن لمتني فيه فما أنت عاقل.
محياه قنديل لديجور شعره ... تعلقه بالصدغ منها سلاسل.
غدا القد منه غصناً تعطفه الصبا ... ولا غرو إن هاجت عليه البلابل.
عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن عبد الباقي بن محاسن أبو بكر الأنصاري المعروف بالشيخ عماد الدين - بن - النحاس الدمشقي كان من الفضلاء الصلحاء وله من المكانة العظيمة والحرمة الوافرة والكلمة المسموعة والقبول التام من الخاص والعام كان قد حصل له صمم فكان يحدث من لفظه بسبب ذلك ومولده في الثاني والعشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بمصر سمع الشيخ شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون بدمشق وسمع من غيره بحلب وأصبهان ونيسابور وكانت وفاته بدمشق في الثاني و العشرين من صفر ودفن من يومه رحمه الله تعالى.
قال سعد الدين مسعود بن حمويه أنشدني عماد الدين عبد الله بن النحاس سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
أحبة قلبي إن عندي رسالة ... أحب وأهوى أن تؤدى إليكم.
متى ينقضي هذا القطوع وينتهي ... وأحظى شفاها بالسلام عليكم.
عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد بن خليل بن محمود بن محمد بن سالم بن الشيخ الصالح عيسى اليونيني يوسف بن خالد بن بركة بن مبارك بن داود بن شريف بن رميح بن رباح بن كرز بن - ص 2 ورقة 8 ألف - وبرة اليونيني الشيخ الصالح الزاهد العابد العارف المشهور صحب الشيخ الكبير عبد الله اليونيني رحمه الله وانتفع به وكان من أخص أصحابه وأعيانهم وانقطع بزاويته شمال قرية يونين من أعمال بعلبك متوفراً على العبادة معرضاً عن الدنيا وأهلها يقوم الليل ويسرد الصوم وبقي على ذلك سنين كثيرة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في زاويته في قرية يونين في رابع ذي القعدة ودفن بها وهو في عشر الثمانين تقريبا وكان من الأولياء الأفراد لم يشتغل في عمره بغير العبادةً والتوجه إلى الله تعالى على الوجه المشهور الذي يشهد به الكتاب والسنة ومطالعة كتب الرقائق وما يجري مجراها ولم يتزوج في عمره لاستغراق أوقاته بذلك لكنه عقد عقدة على امرأة عجوز تدعى أم يوسف كانت تخدمه لاحتمال أنه يتناول منها شيئاً فتمس يده يدها.
وقال بعض الصلحاء قد قيل أن على قلب كل ولي نبي من أولي العزم رجلا كلما مات جعل مكانه غيره فإن صح فالشيخ عيسى على قلب عيسى ابن مريم عليهما السلام لسلوكه ما يناسب طريقه من الزهد والتحلي فكان لا يتردد إلى أحد البتة وإذا حضر إلى زيارته أحد من أرباب الدنيا والمراتب الجليلة في الدول كالأمراء والوزراء وغيرهم عاملهم بما يعامل به آحاد الناس، وبلغني أن الشيخ نجم الدين البادرائي قصد زيارته فوصل إلى زاويته عند صلاة المغرب فصلى الشيخ المغرب وقام ليدخل إلى خلوته على عادته فعارضه بعض أصحابه فقال يا سيدي هذا لرجل مجتاز وقد قصد زيارتك وانفرد عن أصحابه وجاء الشيخ نجم الدين فسلم عليه وسأله الدعاء وشرع في محادثته فقال الشيخ رحمه الله من زار وخفف وتركه ودخل إلى خلوته وكان كثير المطالعة لكتب الأحاديث النبوية وكتب الرقائق كقوت القلوب وصفوة الصفوة ومناقب الأبرار وغير ذلك وكان يستحضر من ذلك وغيره شيئاً كثيراً فإنه كان إذا طالع شيئاً علق بخاطره معناه وكانت عبارته حلوة لكن كان لفظه يناسب حديث أهل قريته فربما لحن في بعض كلامه وكان إذا كتب إلى أحد من أرباب الدول وغيرهم ورقة في حاجة سألها إما استغاثة ملهوف أو إعانة مظلوم أو تنفيس كربة أحد من المسلمين كتب من أول الورقة إلى حيث ينتهي الكلام أو يقطعها بحيث لا يكون فيها من البياض ما يكتب به كلمة واحدة اتباعا بما أمر به من عدم الإسراف فيما لا فائدة فيه فإذا وصلت ورقته سورع إلى امتثالها وحصل بها المقصود وكانت له الحرمة العظيمة عند - ص 2 ورقة 8 ب - سائر الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم والمهابة الشديدة في صدورهم مع لطف أخلاقه ولين كلمته وله الكرامات الظاهرة وإذا حضر أحد من المشايخ وأرباب القلوب إلى يونين قصد زيارته وتأدب معه غاية الأدب أما هو فلا يمشي إلى أحد البتة ومن ورد من أرباب القلوب وسلك غير ذلك سلبه حاله ولقد سلب جماعة من الفقراء أحوالهم فيما بلغني وأدركت بعضهم وكان والدي رحمه الله إذا خرج إلى يونين طلع إلى زاويته من بكرة النهار ويدخلان إلى الخلوة بمفردهما ولا يدخل أحد عليهما ولا يزالان كذلك إلى قريب الظهر وكان بينهما وداد عظيم واتحاد زائد ومحابة في الله تعالى جمع الله بينهما في دار كرامته وكنت أيام مقام والدي
رحمه الله تعالى بقرية يونين اغشاه وأزوره كثيراً فيقبل عليّ ويتلطف خلاف ما عادته أن يعامل به غيري وأما إذا كنت ببعلبك فأتردد إلى زيارته في الأحيان فلما كانت هذه السنة كان والدي رحمه الله يأمرني كل وقت بقصد زيارته كأنه استشعر قرب أجله وأحس به فكنت بعد كل يوم أتردد إليه فقصدته مرة في أول شوال من هذه السنة ومعي ناصر الدين علي بن فرقين والشمس محمد بن داود رحمهما الله فدخلنا عليه وليس عنده غيرنا وشرع يحدثنا واسترسل في الحديث وغاب واستغرق وهو يحدثنا عن غير قصد منه لذلك ثم أفاق من غيبته فقطع الحديث فسألناه إتمامه وألححنا عليه في السؤال فانشد
من سارروه فأبدى السر مشتهرا؟ ... لم يأمنوا على الأسرار ما عاشا.
وأبعدوه فلم يحظ بقربهم ... وبدلوه مكان الأنس أيحاشاً.
وكان مضمون الحديث أنه جاءه من رجال الغيب من اخبره بدنو أجله أو ما هذا معناه وإن كنت الآن لا أحقق جميع الحديث على وجهه فاتفق مرضه في أواخر الشهر المذكور وبقي على ذلك أياماً وأهل البلد من الرجال والنساء يترددون إلى زيارته وإعادته ويغتنمون بركته إلى أن توفي رحمه الله ورضوانه في التاريخ المذكور فلما وصل خبر وفاته إلى بعلبك لم يبق في البلد إلا القليل وخرج الناس لشهود جنازته والصلاة عليه فكان الناس منتشرين والمدينة إلى يونين والمسافة فوق فرسخين أما والدي رحمه الله فأنه حصل له من الحزن والكآبة والوجوم لموته مالا مزيد عليه وأمرني بالمبادرة لحضور دفنه فبادرت إلى ذلك ولما اجتمع - ص 2 ورقة 9 ألف - غسل وكفن وصلى عليه ودفن إلى جانب عمه الشيخ عبد الخالق رحمه الله وكان الشيخ عبد القادر المذكور من الصلحاء الأولياء الزهاد العباد وهو من أعيان أصحاب الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله تعالى وقد ذكرنا نسب الشيخ عيسى وسقناه إلى كرز بن وبرة رحمة الله عليه حسب ما كتبه لي محمد بن اسماعيل بن أحمد بن الياس بن أخي الشيخ عيسى رحمه الله وكان كرز بن وبرة الكوفي من الطبقة الرابعة من أهلها وكان زاهداً عابداً خائفاً مجتهداً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيضربونه حتى يغشى عليه وسأل الله تعالى أن يعطيه الاسم الأعظم على أن لا يسأل به من الدنيا شيئاً فأعطاه الله ذلك فسأل الله أن يقويه على ختم القرآن فكان يختمه في اليوم والليلة ثلاث مرات ولم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة حياء من الله تعالى وقال أبو سلمان المكتب صحبت كرزاً إلى مكة فكان ينزل فيصلي فرأيت يوماً سحابة تظله وكان يوما شديد الحر فقال أكتم علي فحلفت له وما حدثت به أحداً حتى مات، وروى أبو نعيم عنه أنه دخل عليه وهو يبكي فقيل له ما يبكيك فقال بابي مغلق وستري مرسل ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة وما ذاك إلا من ذنب أحدثته وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ومائة ولما رأى رجل فيما يرى النائم كأن أهل القبور جلوس على قبورهم وعليهم ثياب جدد فقيل لهم ما هذا قالوا إن أهل القبور كسوا ثيابا جددا لقدوم كرز عليهم، أسند كرز عن طاوس وعطاء والربيع بن خثيم والقرظي وغيرهم وكان سكن جرجان رحمة الله عليه قلت والشيخ عيسى عريق في الصلاح نفع الله تعالى به وبالصالحين من سلفه، حدثني أبو طالب بن أحمد بن أبي طالب اليونيني غير مرة ما معناه أن الشيخ عيسى رحمه الله أخبره أن ملك بني أيوب يزول وتنقطع دولتهم قال فقلت له من يملك بعدهم قال الترك المماليك و يفتحون الساحل بحيث لا يبقى للفرنج في ساحل الشام شيء أصلاً وذكر كلاماً آخر وهذا سمعته من المذكور قبل فتوح صفد وغيرها وحكى لي المذكور ما معناه أن عبد الله بن الياس النصراني من أهل قرية الرأس قال له رحت إلى طرابلس فقال لي بعض الجبالة عندي أسير من بلادكم تشتريه فرحت معه إلى منزله فوجدت الأسير سهل من قرية رعبان فحين رآني تشبث بي وقال لا تخلي عني أشترني وأنا أعطيك ثمني حال وصولي إلى رعبان فاشتريته بستين ديناراً صورية وجبته إلى رعبان فلم يكن له ولأولاده ما - ص2 ورقة 9 ب - يأكلون تلك الليلة فندمت وحرت في أمري فقال لي أهل القرية نحن في البيدر نجمع لك ثمنه فضاق صدري واتفق أني جئت إلى يونين فرأيت الشيخ عيسى وهو خارج من الطهارة ولم أكن رأيته قبل ذلك فحين رآني قال أنت الذي اشتريت سهل قلت نعم فشرع يحدثني ويسألني عن الصورة وهو متوجه إلى زاويته وأنا معه فلما وصل إلى السياج الذي على ظاهر الزاوية طلب فقيراً من داخل السياج وقال له أبصر في الزاوية ورقة تحت اللباد الذي لي أحضرها قال النصراني فتوهمت أنها كتاب كتبه إلى من يعطيني شيئاً من وقف الأسرى أو غيره فأحضر ذلك الفقير ورقة ناولها الشيخ فناولني إياها فوجدتها ثقيلة فقال خذ هذا فأبعدت عنه وفتحت الورقة فوجدت فيها الستين ديناراً التي وجدتها في الأسير بعينها فتحيرت وأخذتها وانصرفت قال أبو طالب لم لا أسلمت فقال ما أراد الله وحكى لي الشيخ عمران حمل رحمه الله بقرية برصونا من حبل الطينين في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وست مائة بعد منصرفي من ظاهر طرابلس بعد فتحها وقد بت عنده وجرى حديث التفاح وقد أكلته الدودة ويبست معظم أشجاره عندهم فقال ما معناه كانت الدودة قد ركبت أشجار التفاح عندنا بحيث
أعطبتها فشكونا ذلك إلى الشيخ عيسى رحمه الله وسألناه أن يكتب لنا حرزاً فأعطانا ورقة مطوية صورة حرز فشمعناها وعلقناها على بعض الأشجار فزالت الدودة عن الوادي بأسره وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها وحملت حملاً مفرطاً وبقينا على ذلك سنين في حياة الشيخ وبعد وفاته ثم خشينا ضياع الحرز وقلنا ننسخه فأزلنا عنه الشمع وفتحناه فإذا هو قطعة من كتاب ورد على الشيخ من بعض أهل حماة فندمنا على فتحه ثم شمعناه وأعدناه إلى مكانه فجاءت الدودة وركبت الأشجار وأعطبتها واستمر الحال على ذلك وحكى لي الحاج علي بن أبي بكر بن دلفة اليونيني ما معناه قال كان والدي وابن عمك نور الدولة علي بن عمر بن نيار رحمه الله قد اتفقنا على عمارة حمام بقرية يونين وحصلوا بعض آلاته وهيئوا المكان الذي يعمر فيه واهتموا بذلك واتفق أنهما طلعا إلى عند الشيخ عيسى وأنا معهما فقال لهما الشيخ رحمه الله بلغني أنكم تريدون تعمرون حماماً في هذه القرية وهذا لا تفعلوه واتركوا - ص 2 ورقة عشرة ألف - عمارته فما وسعهم إلا أن قالوا السمع والطاعة وقاموا من عنده فلما بعدوا عنه قال أحدهما للآخر كيف نعمل بهذه الآلات فقال له صاحبه الشيخ عيسى رجل كبير ما يخلد نصبر فمتى مات عمرناه فطلبهما الشيخ إليه وقال كأني بكم قد قلتم كذا وكذا وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي وهذا لا يصير ولا يعمر في القرية حمام لا في حياتي ولا بعد موتي فاعتذروا إليه مما قالوه وفارقوا على ذلك قلت فأنا والله رأيت الأمير جمال الدين التجيبي رحمه الله نائب السلطنة في الشام في أوائل الدولة الظاهرية وكان معهم مقطع معظم يونين قد اهتم بعمارة حمام في القرية واشترى القدور وسائر الآلات ولم يبق إلا عمارته ثم اتفق ما صرفه عن ذلك ثم انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده فشرع في ذلك واهتم به كهمة الأمير جمال الدين أو أكثر وحفر الأساس ثم بطل ذلك بموانع سماوية وأظن أميراً آخر غيرهما اقطع في القرية فعزم على مثل ذلك فلم يتم وصح قول الشيخ رحمه الله تعالى وحدثني المغربي عامر بن يحيى بنى ريان بمنزلي بقرية يونين في ثاني وعشرين ذي قعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة ما معناه قال قدم الشيخ عثمان رحمه الله من دير ناعر إلى بعلبك ووالدك رحمه الله في يونين وقصده وخرجت في خدمته فطرقت باب هذه الدار واستأذنت على والدك رحمه الله ودخلت إليه وقلت يا سيدي الشيخ عثمان قد حضر إلى خدمتك قال يدخل فلما دخل تلقاه والدك ورحب به وجلسا يتحدثان وحضر شيء للأكل فأكلا ومن عندهما فلما شيل السماط قال والدك للشيخ عثمان ما تطلع تزور أخاك الشيخ عيسى قال اطلع في خفارتك قال نعم في خفارتي قال وطلع وأنا معه فلما وصل إلى زاوية الشيخ عيسى تلقاه واعتنقه وبالغ في الترحيب به وجلسا يتحدثان زمنا طويلا وودعه الشيخ عثمان ونزل إلى عند والدك إلى هذه الدار فلما دخل عليه قال له والدك كيف رأيت قال له يا سيدي كل خير قال عامر فسألت الشيخ عثمان بعد ذلك عن توقفه عن الطلوع إلى الشيخ عيسى حتى أجاره والدك قال يا ولدي قدمت هذه القرية من سنين بعد وفاة الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله بسنيات ونمت في المرح الذي في الزوايا فلما مضى بعض الليل قمت لأجدد الوضوء في الطهارة فحين خرجت إلى الطريق وجدت ثعباناً عظيماً فتح فاه وكاد يبتلعني فصرخت - ص 2 ورقة 10 ب - وقلت يا سيدي الشيخ عبد الله أنا في جيرتك وفي حسبك فلم أستتم كلامي إلا والشيخ عبد الله واقف بيني وبين الثعبان وبيده حربة وضرب الثعبان بين كتفيه بيده وقال مالك يا نحيس ضيف وارد عليك تفعل معه هذا وإذا بذلك الثعبان هو الشيخ عيسى فطلع إلى زاويته فهذا سبب قولي الذي سمعت ولو لم يجرني سيدي الشيخ الفقيه منه لما طلعت إليه وكرامات الشيخ عيسى كثيرة رحمه الله ورضي عنه.عيسى بن ظاهر بن نصر الله بن جميل أبو محمد الحلبي الحاجب - 12ب - وأظن لقبه القطب كان قيّماً بالفرائض والحساب والأوقاف وله مشاركة في غير ذلك من العلوم ولد بحلب في سادس محرم سنة أربع وثمانين وخمسمائة وانتقل إلى القدس الشريف وأقام به مدة ثم عاد إلى مدينة دمشق وأقام بها إلى سنة أربع وأربعين وستمائة ثم انتقل إلى مدينة حلب وأقام بها إلى أن توفي بها في ليلة الخميس مستهل شهر رمضان هذه السنة رحمه الله تعالى.بتها فشكونا ذلك إلى الشيخ عيسى رحمه الله وسألناه أن يكتب لنا حرزاً فأعطانا ورقة مطوية صورة حرز فشمعناها وعلقناها على بعض الأشجار فزالت الدودة عن الوادي بأسره وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها وحملت حملاً مفرطاً وبقينا على ذلك سنين في حياة الشيخ وبعد وفاته ثم خشينا ضياع الحرز وقلنا ننسخه فأزلنا عنه الشمع وفتحناه فإذا هو قطعة من كتاب ورد على الشيخ من بعض أهل حماة فندمنا على فتحه ثم شمعناه وأعدناه إلى مكانه فجاءت الدودة وركبت الأشجار وأعطبتها واستمر الحال على ذلك وحكى لي الحاج علي بن أبي بكر بن دلفة اليونيني ما معناه قال كان والدي وابن عمك نور الدولة علي بن عمر بن نيار رحمه الله قد اتفقنا على عمارة حمام بقرية يونين وحصلوا بعض آلاته وهيئوا المكان الذي يعمر فيه واهتموا بذلك واتفق أنهما طلعا إلى عند الشيخ عيسى وأنا معهما فقال لهما الشيخ رحمه الله بلغني أنكم تريدون تعمرون حماماً في هذه القرية وهذا لا تفعلوه واتركوا - ص 2 ورقة عشرة ألف - عمارته فما وسعهم إلا أن قالوا السمع والطاعة وقاموا من عنده فلما بعدوا عنه قال أحدهما للآخر كيف نعمل بهذه الآلات فقال له صاحبه الشيخ عيسى رجل كبير ما يخلد نصبر فمتى مات عمرناه فطلبهما الشيخ إليه وقال كأني بكم قد قلتم كذا وكذا وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي وهذا لا يصير ولا يعمر في القرية حمام لا في حياتي ولا بعد موتي فاعتذروا إليه مما قالوه وفارقوا على ذلك قلت فأنا والله رأيت الأمير جمال الدين التجيبي رحمه الله نائب السلطنة في الشام في أوائل الدولة الظاهرية وكان معهم مقطع معظم يونين قد اهتم بعمارة حمام في القرية واشترى القدور وسائر الآلات ولم يبق إلا عمارته ثم اتفق ما صرفه عن ذلك ثم انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده فشرع في ذلك واهتم به كهمة الأمير جمال الدين أو أكثر وحفر الأساس ثم بطل ذلك بموانع سماوية وأظن أميراً آخر غيرهما اقطع في القرية فعزم على مثل ذلك فلم يتم وصح قول الشيخ رحمه الله تعالى وحدثني المغربي عامر بن يحيى بنى ريان بمنزلي بقرية يونين في ثاني وعشرين ذي قعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة ما معناه قال قدم الشيخ عثمان رحمه الله من دير ناعر إلى بعلبك ووالدك رحمه الله في يونين وقصده وخرجت في خدمته فطرقت باب هذه الدار واستأذنت على والدك رحمه الله ودخلت إليه وقلت يا سيدي الشيخ عثمان قد حضر إلى خدمتك قال يدخل فلما دخل تلقاه والدك ورحب به وجلسا يتحدثان وحضر شيء للأكل فأكلا ومن عندهما فلما شيل السماط قال والدك للشيخ عثمان ما تطلع تزور أخاك الشيخ عيسى قال اطلع في خفارتك قال نعم في خفارتي قال وطلع وأنا معه فلما وصل إلى زاوية الشيخ عيسى تلقاه واعتنقه وبالغ في الترحيب به وجلسا يتحدثان زمنا طويلا وودعه الشيخ عثمان ونزل إلى عند والدك إلى هذه الدار فلما دخل عليه قال له والدك كيف رأيت قال له يا سيدي كل خير قال عامر فسألت الشيخ عثمان بعد ذلك عن توقفه عن الطلوع إلى الشيخ عيسى حتى أجاره والدك قال يا ولدي قدمت هذه القرية من سنين بعد وفاة الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله بسنيات ونمت في المرح الذي في الزوايا فلما مضى بعض الليل قمت لأجدد الوضوء في الطهارة فحين خرجت إلى الطريق وجدت ثعباناً عظيماً فتح فاه وكاد يبتلعني فصرخت - ص 2 ورقة 10 ب - وقلت يا سيدي الشيخ عبد الله أنا في جيرتك وفي حسبك فلم أستتم كلامي إلا والشيخ عبد الله واقف بيني وبين الثعبان وبيده حربة وضرب الثعبان بين كتفيه بيده وقال مالك يا نحيس ضيف وارد عليك تفعل معه هذا وإذا بذلك الثعبان هو الشيخ عيسى فطلع إلى زاويته فهذا سبب قولي الذي سمعت ولو لم يجرني سيدي الشيخ الفقيه منه لما طلعت إليه وكرامات الشيخ عيسى كثيرة رحمه الله ورضي عنه.عيسى بن ظاهر بن نصر الله بن جميل أبو محمد الحلبي الحاجب - 12ب - وأظن لقبه القطب كان قيّماً بالفرائض والحساب والأوقاف وله مشاركة في غير ذلك من العلوم ولد بحلب في سادس محرم سنة أربع وثمانين وخمسمائة وانتقل إلى القدس الشريف وأقام به مدة ثم عاد إلى مدينة دمشق وأقام بها إلى سنة أربع وأربعين وستمائة ثم انتقل إلى مدينة حلب وأقام بها إلى أن توفي بها في ليلة الخميس مستهل شهر رمضان هذه السنة رحمه الله تعالى.
المبارك بن أبي بكر بن أحمد بن حمدان بن غلبون بن ماجد بن الحسين بن علي بن حامد أبو البركات جمال الدين المعروف بابن الشعار المؤرخ الموصلي مولده بالموصل في مستهل صفر سنة ثلاث وتسعين و خمسمائة وتوفي بحلب يوم الأحد سابع جمادى الآخرة هذه السنة وهو مؤلف عقود الجمان في شعراء هذا الزمان رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسن بن عبد السلام بن عتيق بن محمد بن محمد أبو بكر التميمي السفافي الإسكندري المولد والدار المالكي العدل المعروف بابن المقدسية ولد في نصف المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وحضر الحافظ أبا طاهر بن محمد السلفي وسمع من أبي القاسم هبة الله ابن البوصيري وغيره وهو آخر من بقي من أصحاب السلف وناب في الحكم بالإسكندرية مدة وتوفي بها في ثالث جمادى الأولى ودفن بمقبرة دعلة رحمه الله تعالى.
محمد بن خزرج بن ضحاك بن خزرج أبو السرايا الأنصاري الخزرجي الدمشقي الكاتب سمع من أبي اليمن الكندي وأبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وحدث وتوفي بتل باشر في الثاني والعشرين من جمادى الأولى ويسمى سرايا أيضاً رحمه الله تعالى.
محمد بن الفضل بن عقيل بن عثمان بن عبد القاهر بن الربيع بن سليمان بن حمزة بن طاهر بن محمد بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو طالب الهاشمي العباسي سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وحدث ولد في إحدى الجماديين سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق وتوفي بها في سادس عشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى.
محمد بن يونس بن بدران بن فيروز بن صاعد بن غالي بن محمد بن علي أبو حامد بن أبي الوليد القرشي العيدي السبتي المصري أبوه الدمشقي سمع من أبي علي الحسن بن عبد الله المكبر وحدث وحكم بدمشق نيابة عن أبيه ودرس بالمدرسة الشامية وكان والده قاضي القضاة جمال الدين أبو الفضائل المصري رحمه الله من أعيان الحكام وأماثلهم مشكور السيرة محمود الطريقة لين الجانب كثير التقوى والديانة وكان يباشر وكالة بيت المال بدمشق أولاً ثم ولي الحكم فيها بعد ذلك توفي أبو حامد في نصف شهر رجب بدمشق ودفن بجبل قاسيون ومولده في العشرين من صفر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة قال شرف الدين عمر بن خواجا إمام الفارسي أنشدني تاج الدين أبو حامد - محمد - ابن يونس لنفسه دو بيت.
لما هجروا واصل جفني سهري ... قوم غدروا وأورثوني فكري.
عاتبتهم قالوا تعشق بدلا ... واختر عوضا فقلت ردوا عمري.
وله أيضا
يا عيسهم إن جزت وادي العلمي ... بالله قفي عساك تبري سقمي.
ورقى لصب ما كان يرضى أبداً ... بالوصل غدا يرقب طيف الحلم.
وله أيضاً
سحت بدموعها وسحت بدمعي ... أجفان ظنن اللبس ثوب السقم.
راض بغرامه ينادي أبداً ... في محنته يا نعمة الحب دمي.
وله
ما تم على المجنون ما تم على ... لما بعث الحبيب العتب على.
يا من عتبوا على كئيب دنف ... هل ينفع عتبكم إذا لم اك حي.
وقال
اروي خبرا يعرفه كل فقيه ... الخمر حلال من ثناياه وفيه.
قد أرشدني الحاكم في عشقه ... إن اتركه يقال لي أنت سفيه.
وقال
بابي وبي طيف طرق ... عذب اللمى والمعتنق.
ما إن مددت يدي إل ... يه معانقا حتى أبق.
ثم انتبهت فما وجد ... ت سوى الصبابة والحرق.
فلأي عقل ما سبا ... ولأي قلب ما سرق.
وطفقت انشد بعده ... ولواء قلبي قد خفق.
أوحشت جفني يا كرى ... وحرمت انسك يا أرق.
يا شمس قلبي في هواك ... عطارد وقد احترق.
في نون صدغك حرف أي ... الكاتبين لها مشق.
أخجلت خد الورد من ... ك بوجنة مثل الشفق.
حتى تقطر دائبا ... وعلامة الخجل العرق.
يا قوم من لمتيم ... فتكت به سود الحدق.
وبقلبه من لم يدع ... رمقا له لما رمق.
شتان ما اشتملت لوا ... حظه عليه وما امتشق.
ملك الملاح ترى العيو ... ن عليه دائرة نطق.
ومخيم بين الجفو ... ن وفي الفؤاد له سبق.
14 - ب فاز الوشاح بضمهوخليت أنا في القلق.
قيدت قلبي في هواه ... فخاف دمعي مانطلق.
يعقوب بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي أبو إسحاق الملك المعز محي الدين بن الملك العادل سيف الدين كان شقيق الملك المظفر شهاب الدين غازي وله الحرمة العظيمة في الدول وكان بخلاط لما أخذها خوارزم شاه من الملك الأشرف رحمه الله تعالى فأخذه أسيراً ثم أطلقه بعد ذلك وأجاز له جماعة من الحفاظ منهم أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وغيره وحدث وتوفي بدمشق في سادس عشر ذي القعدة ودفن من يومه بقبر والده الملك العادل بمدينة مشق رحمه الله تعالى قال سيف الدين مسعود بن حمويه أنشدني الملك المظفر نجم الدين يعقوب المذكور سنة تسع وعشرين وستمائة.
إذا ما جرى من جفن غيري أدمع ... جرت من جفوني أبحر وسيول.
ووالله ما ضاعت دموعي فيكم ... ولو أن روحي في الدموع تسيل.
اتفق أهل التاريخ على أن نجم الدين أيوب رحمه الله من دوين وهي في آخر عمل أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج وأنهم أكراد رواديه والروادية بطن من الهذبانية وهي قبيلة كبيرة وقيل أن على باب دوين قرية يقال لها أجدا يقال وجميع أهلها أكراد رواديه ومولد نجم الدين بها وكان شادي أخذ ولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا تكريت ومات شادي بتكريت وعلى قبره قبة داخل البلد وقال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله لقد تتبعت نسبهم كثيراً فلم أجد أحد ذكر بعد شادي أباً آخر حتى أني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شادي وأيوب بن شادي لا غير ورأيت مدرجاً رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحوشي وقد سمعه عليه الملك المعظم عيسى وولده الملك الناصر داود رحمهما الله وهو يتضمن أن أيوب بن شادي بن مرون ابن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن - أبي - علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن - بيهس - بن الحارث صاحب الحمالة بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ثم رفع في النسب إلى آدم عليه السلام ثم ذكر أن علي بن أحمد بن - أبي - علي بن عبد العزيز يقال أنه ممدوح المتنبي ويعرف بالخراساني وفيه يقول من قصيدة.
شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام.
وأما حارثة بن عوف بن أبى حارثة صاحب الحمالة فهو الذي حمل الدماء بين عيسى..... وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان وفيهما يقول زهير بن أبي سلمى المدني قصائد منها قوله.
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبدل.
وهل ينبت الخطى الأوشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل.
قلت وقد كان المعز فتح الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب بن شادي ملك اليمن أدعى نسباً في بني أمية وادعى الخلافة وبلغ ذلك عمه الملك العادل رحمه الله فأنكر ذلك وقال ليس لهذا أصل وسمعت الملك الأمجد تقي الدين عباس بن العادل رحمه الله وقد جرى ذكر نسبهم وقول بعض الناس أنهم من بني أمية ينكر أن يكون لهم نسب في بني أمية وقال ما معناه لو كان عمي صلاح الدين رحمه الله قرشياً لولي الخلافة فإن شروطها اجتمعت فيه ماعدا النسب وكان نجم الدين ِأيوب رحمه الله قد جعله عماد الدين زنكي دوادار ببعلبك لما فتحها وفي قلعة بعلبك ولد له الملك سيف الدين أبو بكر رحمه الله والد صاحب هذه الترجمة والله أعلم.
يوسف بن قزأوغلي بن عبد الله أبو المظفر شمس الدين البغدادي الواعظ المشهور سبط أبي الفرج بن عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله كان والده حسام الدين قزعلي من مماليك الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة رحمه الله وكان عنده بمنزلة الولد فاعتقه وخطب له ابنة الحافظ جمال الدين وكانت قد تأيمت بوفاة زوجها - لبى عددها - فلم يمكن الشيخ جمال الدين إلا إجابة الوزير إلى ذلك فزوجها منه فأولدها شمس الدين المذكور فلما ترعرع اجتذبه جده إليه واشغله وتفقه واسمعه الكثير عليه وعلى غيره وكان أوحد زمانه في الوعظ حسن الإيراد ترق لرؤيته القلوب وتذرف لسماع كلامه العيون وتفرد بهذا الفن وحصل له فيه القبول التام وفاق فيه من عاصره وكثيراً ممن تقدمه حتى أنه كان يتكلم في المجلس الكلمات اليسيرة المعدودة أو ينشد البيت الواحد من الشعر فيحصل لأهل المجلس من الخشوع والاضطراب والبكاء ما لا مزيد عليه فيقتصر على ذلك القدر اليسير وينزل فكانت مجالسه نزهة القلوب و الأبصار يحضرها الصلحاء والعلماء والملوك والأمراء والوزراء وغيرهم ولا يخلو المجلس من جماعة يتوبون ويرجعون إلى الله تعالى وفي كثير من المجالس يحضر من يسلم من أهل الذمة فانتفع بحضور مجالسه خلق كثير وكان الناس يبيتون ليلة المجلس في جامع دمشق ويتسابقون على مواضع يجلسون فيها لكثرة من يحضر مجالسه وكان يجري فيها من الطرف والوقائع المستحسنة والملح الغريبة ما لا يجري في مجالس غيره ممن عاصره وتقدم عصره أيضاً وكان له الحرمة الوافرة والوجاهة العظيمة عند الملوك وغيرهم من الأمراء والأكابر ولا ينقطعون عن التردد إليه وهو يعاملهم بالفراغ منهم ومما في أيديهم وينكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعين فيها الإنكار وهم يتطفلون عليه وكان في أول أمره حنبلي المذهب فلما تكرر اجتماعه بالملك المعظم عيسى بن الملك العادل رحمهما الله اجتذبه إليه ونقله إلى مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه وكان الملك المعظم شديد التغالي في مذهب أبي حنيفة فغض ذلك الشيخ شمس الدين عند كثير من الناس وانتقدوه عليه حكى لي بعض الفقراء أرباب الأحوال قال له وهو على المنبر إذا كان الرجل كبيراً ما يرجع عنه إلا لعيب ظهر له فيه وأي شيء ظهر لك في الإمام أحمد حتى رجعت عنه فقال له اسكت فقال أما أنا فقد سكت وأما أنت فتكلم فرام الكلام فلم يستطعه ولا قدر عليه فنزل عن المنبر ومع ذلك كان يعظم الإمام أحمد رحمة الله عليه ويبالغ في المغالاة فيه وتوفيته بعض ما يستحق وعندي أنه لم ينتقل عن مذهبه إلا في الصورة الظاهرة والله اعلم - ومع هذا فكان له القبول التام من الخاص والعام من وأهل الدنيا أهل الآخرة وكان لطيف الشمائل، ظريف الحركات، حسن المعاملة لسائر الناس محبوباً إليهم معظماً في صدورهم وكان عنده فضيلة تامة ومشاركة في العلوم جمة ولو لم يكن من ذلك إلا التاريخ الذي ألفه وسماه بمرآة الزمان وهو بخطه في سبع وثلاثين مجلدا جمع فيه أشياء مليحة جداً وأودعه كثيرا من الأحاديث النبوية الشريفة صلوات الله وسلامه على قائلها - وجملة من أخبار الصالحين وقطعة من الأشعار المستحسنة وسلك في جمعه مسلكاً غريباً وهو من أول الزمان إلى أوائل سنة أربع وخمسين وستمائة هذه السنة التي توفي فيها إلى رحمة الله تعالى، وكنت اختصرته كما ذكرت في خطبة هذا المذيل ثم خطر لي أن أذيل عليه فشرعت في تعليق الحوادث والوفيات حسب ما نمى إلى علمي لاستقبال هذه السنة، وبالله التوفيق والله المستعان.
وللشيخ شمس الدين المذكور رحمه الله - 16ب - تصانيف آخر مفيدة في أنواع من علوم شتى ومولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تقريباً وذكر قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله عنه أنه قال ذكرت والدتي أن مولدي في سنة أثنين وثمانين وخمسمائة وقال لي خالي محي الدين يوسف أنه في سنة إحدى وثمانين قال وكان مولدي في رجب سمع ببغداد من جده الإمام أبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب وأبي محمد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد وأبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد والحافظ أبي محمد عبد العزيز بن محمود بن الأخضر وغيرهم وبالموصل من أبي طاهر أحمد وأبي القاسم عبد المحسن ابني عبد الله الطوسي وغيرهما وبدمشق من شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ومن العلامة أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهما وسمع بغير هذه البلاد من جماعة من المشايخ وحدث بدمشق وبالديار المصرية وغيرها وكان أحد العلماء المشهورين محمود الفضائل وتوفي ليلة الثلاثاء ثلث الليل العشر من ذي الحجة أوالحادي والعشرين منه بمنزله بجبل الصالحية ظاهر دمشق ودفن هناك وحضر جنازته الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله سلطان الشام إذ ذاك وسائر الأمراء والأكابر وغيرهم من الناس ودرس بالمدرسة الشبلية مدة وبالمدرسة - البدرية - الحسنية وبالمدرسة المعزية التي على شرف الميدان من جهة الشمال وكان إماماً عالماً فاضلاً منقطعاً عن الناس والتردد إليهم متواضعاً لين الكلمة لزم في آخر عمره ركوب الحمار من منزله بالجبل إلى مدرسته وإلى غيرها مقتصداً في لباسه مواظباً على المطالعة والاشتغال والتصنيف مصنفاً لأهل العلم والفضل مبايناً لأهل الزيغ والجهل ويأتي الملوك وأرباب الدول إلى بابه زائرين وقاصدين ومتأنسين بمحادثته والاقتباس من فوائده وعاش طول عمره في جاه طويل عريض وعيش رقيق الحواشي جعل الله ذلك مواصلاً بنعيم الآخرة وسعادتها السرمدية وولده عز الدين كان عنده فضيلة ووعظ بعده فلم يكن يدانيه في ذلك فبقي سنيات يسيرة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وخلف ولداً صغيراً فلم يكن له من يربيه ويقوم بأمره فنشأ على غير طريقة سلفه وخدم بعض ذرية الملك المعظم عيسى رحمه الله كاتباً وغيرهم وهو إلى الآن على ذلك.
أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك الأمير سيف الدين القيمري واقف الماستان بجبل الصالحية ومدفنه في القبة المقابلة له من جهة الشمال بينهما الطريق كان أكبر الأمراء في آخر عمره وأعظمهم مكانة وأعلاهم همة وجميع أمراء الأكراد من القيمرية وغيرهم يتأدبون معه ويقفون في خدمته وهم بين يديه كالأتباع مطاعاً فيهم ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث شعبان من هذه السنة أعني سنة أربع وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى وكان كثير البر والمعروف والصدقة ولو لم يكن له من ذلك إلا المارستان الذي ضاهى به مارستان نور الدين رحمه الله تعالى لكفاه.
حكى لي شجاع الدين محمد بن شهري رحمه الله ما معناه أن الأمير سيف الدين المذكور رحمه الله كان تزوج ابنة الأمير عز الدين بن المحلي رحمه الله على صداق كبير وجهزت بجهاز كثير واستصحبها معه إلى الديار المصرية فتوفيت هناك عن غير ولد فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما الله تعالى دمشق والشام حضر الأمير سيف الدين من الديار المصرية إلى خدمته وأخذ قماش زوجته المتوفاة وجهازها ومالها من الفضيات والمصاغ وغير ذلك وحمله على عشرين بغلاً ووزن باقي صداقها ومائتي ألف درهم وجعلها في صناديق وحملها على البغال وسير الجميع إلى الأمير نور الدين علي بن المحلي بحكم أنه وارثها مع زوجها فلما وصل ذلك إلى الأمير نور الدين أنكره غاية الإنكار ورده وقال لرسوله الأكراد ما جرت عادتهم يأخذون صداقاً ولا ميراثاً فلما عاد ذلك إلى الأمير سيف الدين قال هذا شيء خرجت عنه وما يعود إلى ملكي وصرفه جميعه في بناء المارستان وأوقافه وتصدق به.
سنة خمس وخمسين وستمائة
استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية وفي شهر رمضان منها توجه الملك العزيز بن الملك الناصر إلى هولاكو بهديةٍ سنيةٍ جليلةٍ وكان في خدمته الأمير سيف الدين إبراهيم الجاكي والحافظي وغيرهما وفيها أشتهر أن الملك المعز صاحب مصر قد عزم على أن يتزوج ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأن قد تردد بينهما الرسائل في ذلك وبلغ زوجته شجر الدر وكانت جارية الملك الصالح نجم الدين أيوب وأم ولده خليل فعظم ذلك عليها وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك فطلبت صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وكان مقيماً في الديار المصرية وله تقدم في الدول ووجاهة عند الملوك فاستشارته في ذلك ووعدته أن يكون الوزير والحاكم في الدولة فأنكر عليها ذلك ونهاها عنه فلم تصغ إلى ذلك وطلبت مملوكها الطواشي محسن الجوجري الصالحي وعرفته ما عزمت عليه ووعدته الوعد الجميل إن قتله واستدعت جماعة من الخدام الصالحية وأطلعتهم على هذا الأمر واتفقت معهم عليه فلما كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول لعب الملك المعز بالكرة في ميدان اللوق إلى آخر النهار ثم صعد إلى قلعة الجبل والأمراء في خدمته والوزير شرف الدين الفائزي والقاضي بدر الدين السنجاري فلما دخل القلعة وفارقه الموكب وصار إلى داره أتى إلى حمام الدار ليغتسل فيه فلما خلع ثيابه وثب عليه سنجر مملوك الجوجري والخدام فرموه إلى الأرض وخنقوه وطلبت شجر الدر الصفي بن مرزوق على لسان الملك المعز فركب حماره وبادر وكانت عادته يركب الحمار في الموكب السلطاني وغيره مع عظم مكانته وكثرة أمواله ودخل القلعة من باب سر فتح له وادخل الدار فرأى شجر الدر جالسة والملك المعز بين يديها ميتاً فأخبرته الخبر فعظم عليه وخاف خوفاً شديداً فاستشارته فيما تفعل فقال ما أعرف ما أقول وقد وقعت في أمر عظيم ما لك منه من مخلص وكان الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي معتقلاً في بعض الآدر مكرماً فأحضرته في تلك الليلة وطلبت منه أن يقوم بالأمر فامتنع وسيرت في تلك الليلة إصبع الملك المعز وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة ولما كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين منه ركب الأمراء والأكابر إلى القلعة على عادتهم وليس عندهم خبر بما جرى ولم يركب الفائزي في ذلك اليوم وتحيرت شجر الدر فيما تفعل فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز تقول له عن أبيه أنه ينزل إلى البحر في جمع من الأمراء لإصلاح الشواني التي تجهزت للمضي إلى دمياط ففعل وقصدت بذلك أن يقل من على الباب لتتمكن مما تريد فلم يتم مرادها.
ولما تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعز واضطربت الناس في البلد واختلفت أقاويلهم ولم يتفقوا على حقيقة الأمر وركب العسكر إلى جهة القلعة وأحد قوابها ودخلها مماليك الملك المعز والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وطمع الأمير عز الدين الحلبي في التقدم وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحية فلم يتم لهم مرادهم ثم استحضر الذين في القلعة الوزير شرف الدين الفائزي واتفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علي بن الملك العز وعمره يومئذ نحو خمس عشر سنة فرتبوه في الملك ونودي في البلد بشعاره وسكن الناس وتفرقت الأمراء الصالحية إلى دورهم ولما كان يوم الخميس خامس وعشرين الشهر وقع في البلد خبط عظيم وركب العسكر إلى القلعة واتفق رأي الذين في القلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبي المعروف بالمشد أتابكاً للملك المنصور واستحلفوا العسكر له وحلف له الأمراء الصالحية على كره من أكثرهم وامتنع الأمير عز الدين الحلبي ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟وفي يوم الجمعة سادس وعشرين منه خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة وأما شجر الدر فامتنعت بدار السلطنة هي والذين قتلوا الملك المعز وطلب مماليك المعز هجوم الدار عليهم فحالت الأمراء الصالحية بينهم وبين ذلك فأمنها مماليك المعز وحلفوا أنهم لا يتعرضون لها بمساءة ولما كان يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرجت من دار السلطنة إلى البرج الأحمر وعندها بعض جواريها وقبض على الخدام واقتسمت الجواري فكان نصر العزيزي الصالحي هو أحد الخدام القتلة قد هرب يوم ظهور الواقعة إلى الشام واحتيط على الدار وجميع من فيها وكلن يوم ظهور الواقعة احضر الصفي بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجر الدر فعرفهم صورة الحال فصدقوه وأطلقوه وحضر الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي وكان الناس قد قطعوا بموته فأمر باعتقاله ثم نقل إلى الإسكندرية فاعتقل بها وفي يوم الاثنين المذكور صلب الخدام الذين اتفقوا على قتل المعز وهرب سنجر غلام الجوجري ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن فمات سنجر وقت العصر من هذا اليوم على الخشبة وتأخر موت الباقين إلى تمام يومين.
وفي يوم الخميس ثاني ربيع الآخر ركب ودخل القاهرة من باب النصر وترجل جميع الأمراء خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبي وصعد القلعة ومد السماط للأمراء وتقرر في الملك ووزر له وزير أبيه شرف الدين الفائزي وفي يوم الجمعة ثالث ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه علم الدين سنجر الحلبي.
وفي مستهل ربيع الآخر فوض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضي بدر الدين السنجاري وعزل عن ذلك تاج الدين ابن بنت الأعز وأبقى عليه قضاء مصر وعملها.
وفي يوم الجمعة عاشر الشهر قبض الأمير سيف الدين قطز وعلم الدين سنجر الغتمي وسيف الدين بهادر وغيرهم من المعزية على الأتابك علم الدين سنجر الحلبي وأنزلوه إلى الجب بالقلعة لتخيلهم منه الاستيلاء على الملك فاضطرب الأمراء الصالحية وركب العسكر وخيف على البلد النهب ثم خاف الصالحية على أنفسهم فهرب أكثرهم إلى جهة الشام وتقنطر بالأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير فرسه وكذلك خاص ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وادخلا ميتين واتبع العسكر المنهزمين فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها وقبض على الأمير شرف الدين الفائزي واعتقل وفوض أمر الوزارة إلى القاضي بدر الدين يوسف السنجاري مضافاً إلى قضاء القاهرة وما معها واحتيط على موجود الفائزي وكان له مال كثير ولكن كان أكثره مودعاً وأخذ خطه الأمير سيف الدين قطز بمائة ألف دينار واحتيط على بهاء الدين علي - بن محمد بن سليم - بن حنّا وزير شجر الدر وأخذ خطه بستين ألف دينار. وفي يوم الأربعاء منتصف الشهر المذكور رتب الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا للملك المنصور.
وفي رجب رفعت يد القاضي بدر الدين من الوزارة وأضيف إليه قضاء مصر وأعمالها فكمل له قضاء الإقليم بكامله وولي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز الوزارة.
وفي هذه السنة وقعت وحشة في نفس الملك الناصر صلاح الدين يوسف من البحرية وأنهى إليه أنهم عزموا على اغتياله والتغلب على الملك فتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق ففارقوها على صورة العصيان والمشاققة ونزلوا غزة ثم انتموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل صاحب الكرك وفي شعبان كثرت الأراجيف بالقاهرة بأن الأمراء والأجناد اتفقوا على إزالة أمر مماليك الملك المعز عن البلد وأن الملك المنصور تغير على الأمير سيف الدين قطز واجتمع أكثر الأمراء في دار الأمير بهاء الدين بغدي مقدم الحلقة ثم رضى الملك المنصور على قطز وخلع عليه وطيب قلبه.
وفي رابع شهر رمضان ركب الأمير بهاء الدين بغدي وبدر الدين بلغان بعد أن جرح بلغان وانهزم من كان معهما وحملا إلى القلعة ودخل المعزية القاهرة فقبضوا على الأمير عز الدين أيبك الأسمر وارزن الرومي وسابق الدين توزبا الصيرفي وغيرهم من الأشرفية ونهبت دورهم ووقع في البلد اضطراب عظيم ثم نودي بالأمان لمن دخل في الطاعة وسكن الناس.
وفي خامس شهر رمضان ركب الملك المنصور وفي خدمته الأمير سيف الدين قطز وباقي مماليك أبيه وشق القاهرة وفي عيد الفطر نزل الملك المنصور وصلى في المصلى ثم ركب إلى القلعة ومد السماط ووردت الأخبار إلى الديار المصرية بمفارقة البحرية للملك الناصر صلاح الدين يوسف فظن المصريون أن ذلك خديعة من الملك الناصر وأنه قد عزم على قصد البلاد فأخذوا في التحرز.
وفي ثالث شوال خرج من القاهرة جماعة أمراء مقدمهم الدمياطي وخرج غد هذا اليوم آخرون ونزلت العساكر بالعباسة وما حولها ثم وردت الأخبار بأن عساكر الملك الناصر وصلت نابلس لحرب البحرية وكانوا نازلين غزة ثم ورد الخبر أن البحرية كبسوا الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة ليلاً ثم ورد الخبر أن عسكر الملك الناصر كسروا البحرية وأن البحرية انحازوا إلى ناحية زغر من الغور.
وفي الثالث عشر منه دخل جماعة من البحرية إلى القاهرة منهم الأمير عز الدين أيبك الأفرم فتلقوا بالإكرام وأفرج عن أملاك الأفرم ونزل بداره بمصر وترادفت الأخبار بالديار المصرية أن البحرية رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات فاتضح من أمرهم أنهم خرجوا من دمشق على حمية وأنهم قصدوا القدس الشريف وهو مقطع الأمير سيف الدين ايبك من جهة الملك الناصر وطلبوا منه أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه وخطبوا للملك المغيث وجاءوا إلى غزة وقبضوا واليها وأخذوا حواصل الملك الناصر بغزة والقدس وغيره وقصدتهم عساكر الملك الناصر فجرى ما تقدم ذكره من كبسهم للعسكر الناصري ثم انتصر عليهم العسكر الناصري فانهزموا إلى البلقاء ثم إلى زغر ودخلوا في طاعة الملك المغيث وانفق فيهم جملة كثيرة من المال وطمعوا في أخذ مصر له وأنزل إليهم بعض عسكره والطواشي بدر الدين الصوابي وفي الثاني عشر ذي القعدة وردت الأخبار إلى الديار المصرية بأن البحرية عازمون على قصد البلاد فخرج الأمير علم الدين الغتمي - المعزي - وبعد العسكر وفي غد هذا اليوم وقع الانزعاج الشديد وخرجت الأمراء والحلقة واجتمع العسكر المصري بالصالحية فلما كان سحر ليلة السبت منتصف ذي القعدة وصلت البحرية ومن معهم من عسكر المغيث ووقعت الحرب بين الفريقين واشتد القتال وخرج جماعة من الناس والمصريون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس ورأت البحرية كثرة المصريين فانهزموا وأستوسر منهم سيف الدين الرشيدي وبه جراحات وهرب الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وبدر الدين الصوابي إلى الكرك وبعض البحرية دخل في العسكر المصري ودخل العسكر إلى القاهرة وزين البلد لهذه الوقعة.
وفيها وصل الشيخ نجم الدين محمد البادرائي رسول الخليفة المستعصم بالله إلى دمشق المحروسة وأفاض الخلعة المكملة على الملك الناصر صلاح الدين يوسف والفرس والطوق الذهب ومعه التقليد بالسلطنة فركب بالخلعة الأمامية وكان يوماً مشهوداً.
ذكر ما تجدد للملك الناصر داود
كنا ذكرنا وصوله إلى دمشق وأقامته بتربة والده فلما رأى إعراض الملك الناصر صلاح الدين يوسف عنه وبلغه أنه ربما يقبض عليه مضى إلى - 22 ب - الشيخ نجم الدين البادرائي فاستجار به وسأله أن يتوجه صحبته إلى العراق فأجابه فتوجه ومعه جماعة من أولاده فلما وصلوا حلباً وكان بها الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الناصر يوسف وكان أبوه قد أرسله إلى ملك التتر فورد إلى الملك العزيز ومن معه بكتاب الملك الناصر يوسف بأن تشيروا على الشيخ نجم الدين البادرائي أن لا يستصحب الملك الناصر داود معه وانهم يتحيلون في انقطاعه عنه ويقبضون عليه فلما خرج الشيخ نجم الدين متوجهاً إلى العراق ومعه الملك الناصر داود خرج الملك العزيز وجماعة من أعيان الدولة لوداعه وتقدم إليه بعضهم وحدثه في ذلك وأحس الناصر داود بالقضية فتقدم إلى الشيخ نجم الدين وأخذ بذيله وقال معاذ الله أن يمنعني مولانا من قصد الأبواب الشريفة والاستظلال بظلها وأنا معي كتاب السلطان الملك الناصر لما كنت المرة الأولى بالعراق أنه يقرر لي كل سنة مائة ألف درهم ويأذن لي في التوجه إلى حيث شئت ولم يصل إلي منه ذلك وأخرج خط الملك الناصر يوسف فقال للبادرائي هذا قد استجار بالديوان وطلب التوجه إلى الخدمة الشريفة فما يسعني منعه ومعه خط الملك الناصر أنه لا يمنع من ذلك فرجعوا الجماعة إلى حلب وسافر الملك الناصر داود فلما وصلوا قرقيسيا خاف الشيخ نجم الدين أن يصل به إلى العراق من غير تقدم فأشار عليه أن يقيم بقرقيسيا حتى يأخذ له دستوراً للوصول فأقام بها وأبطأ عليه الأذن فعدا الفرات إلى جهة الشام متوجهاً إلى تيه بني إسرائيل واجتمع عليه جماعة من العرب ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فصلوفيها توفى أحمد بن مكي بن المسلم بن مكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن خضر بن قر بن عبد الواحد بن علي بن غيلان أبو المظفر القيسي الدمشقي كان من أعيان الدمشقيين ومن البيوت المشهورة بها سمع من حنبل وحدث وتوفي بدمشق في السابع والعشرين من المحرم ودفن من الغد ببستانه من أرض بنيت لها رحمه الله.
اسمعيل بن عبد الله بن سعيد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أبي المجد عماد الدين بن باطيش الموصلي الفقيه الشافعي كان من الأعيان الأماثل الأفاضل مولده بالموصل في السادس المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة سمع من الحافظ أبي الفرج بن الجوزي وغيره وحدث وخرج لنفسه أحاديث ودرس وأفتى وصنف تصانيف حسنة مفيدة وكان أحد العلماء المذكورين وتوفي بحلب في رابع جمادى الآخرة رحمه الله تعالى.
- 23 ب - أيبك بن عبد الله الصالحي الملك المعز عز الدين المعروف بالتركماني كان في بداية أمره مملوكاً للملك الصالح نجم الدين - أيوب - اشتراه في حياة أبيه الملك الكامل وتنقلت به الأحوال عنده ولازمه في الشرق وغيره وجعله جاشنكيره ولهذا لما أمره كان رنكه صورة خوانجا فلما قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين وبقيت الديار المصرية بلا ملك تشوف إلى السلطنة أعيان الأمراء فخيف من شرهم وكان الأمير عز الدين التركماني معروفاً بالسداد وملازمة الصلاة ولا يشرب الخمر وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب وهو من أوسط الأمراء فاتفقوا عليه وسلطنوه في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة وركب السناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه وأول من حملها الأمير حسام الدين بن أبي علي ثم تداولها أكابر الأمراء وقالوا هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته ولكونه من أوسط الأمراء ثم اجتمع الأمراء البحرية فاتفقوا على انه لابد من إقامة شخص في الملك من بني أيوب يجتمع الكل على طاعته وكان سبب ذلك أن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والأمير ركن الدين بيبرس البندقداري والأمير سيف الدين بلبان الرشيدي والأمير شمس الدين سنقر الرومي واتفقوا أن التركماني سلطاناً عليهم واختاروا أن يقيموا صبيا من بني أيوب له اسم الملك وهم يدبرونه ويأكلون الدنيا بأسمه فوقع اتفاقهم على الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك الناصر يوسف بن الملك المسعود بن الملك الكامل وكان عند عماته القطبيات وعمره نحو عشر سنين فأحضروه وسلطنوه وخطبوا له وجعلوا التركماني أتابك وذلك لخمس مضين من جمادى الأولى بعد سلطنة الملك المعز بخمسة أيام وكانت التواقيع تخرج وصورتها - رسم بالأمر العالي المولى السلطاني الملكي الأشرفي والملكي المعزى - واستمر الحال على ذلك والملك المعز المستولي على التدبير ويعلم على التواقيع والملك الأشرف صورة فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق في سنة ثمان وأربعين خرج الأمير ركن الدين وجماعة من العسكر إلى غزة فلقيهم عساكر الملك الناصر فاندفعوا راجعين ونزلوا بالسابح وبه جماعة من الأمراء فاتفقت كلمة الجميع على مكاتبة الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن الملك الكامل صاحب الكرك والشوبك وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة لأربع مضين من جمادى الآخرة فأمر الملك المعز بالنداء بالقاهرة ومصر بأن البلاد للخليفة المستعصم بالله والملك المعز نائبه بها وذلك يوم السبت لخمس مضين من جماد الآخر سنة ثمان وأربعون ووقع الحث في خروج العساكر وجددت الأيمان للملك الأشرف بالسلطنة وللملك المعز بالأتابكية ثم قصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف الديار المصرية بالعساكر وضرب مصافاً مع العساكر المصرية وكسروا كسرة شنيعة ولم يبق إلا تملك الملك الناصر البلاد وخطب له في قلعة الجبل ومصر وغيرها من الأعمال على ما هو مشهور وتفرقوا منهزمين لا يلوون على شيء وتبعتهم عساكر الملك الناصر في شرذمة يسيرة من أعيان الأمراء والملوك تحت السناجق والكوسات تخفق وراءه وقد تحقق النصر والظفر وأما الملك المعز فتحيز في أمره إذ ليس له جهة يلتجئ إليها فعزم بمن كان معه من الأمراء على دخول البرية والتوصل إلى مكان يأمنون فيه على أنفسهم وظهر لهم بعد ذلك عليهم فاجتازوا إلى الملك الناصر على بعد وهم في نفر يسير - وهو في نفر يسير - فرموا أنفسهم عليه وحملوا عليه حملة رجل واحد وقتل الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني مدبر الدولة وأتابك العساكر والأمير ضياء الدين القيمري وغيرهما وهرب الملك الناصر لا يلوي على شيء وكسر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل والملك الأشرف ابن صاحب حمص والملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين وغيرهم واستمرت الكسرة على عساكر الشام وبلغ خبرها الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وقد قارب بلبيس ومعه قطعة كبيرة من الجيش فقال ما علينا نحن قد ملكنا البلاد والسلطان يعود إلينا وكان بعض الأمراء قد توهم أن الملك الناصر ربما قتل فقال الأمير نجم الدين أمير حاجب لابن يغمور ياخوند جمال الدين حب الوطن من الأيمان كأنه نسبه إلى أنه أختار دخول الديار المصرية على كل حال وأنه ربما له باطن مع المصريين فغضب لذلك وثنى رأس
فرسه وعاد ولو كان دخل بمن معه لملك البلاد وعاد الملك المعز إلى الديار المصرية مظفراً منصوراً وخرج الملك الأشرف من قلعة الجبل للقائه ورسخ قدم الملك المعز وعظم شأنه واستمر الحال على ذلك إلى سنة إحدى وخمسين فوقع الاتفاق بينه وبين الملك الناصر على أن يكون له وللبحرية الديار المصرية وغزة والقدس وما في البلاد الشامية للملك الناصر وأفرج عن الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخيه نصرة الدين والملك الأشرف بن صاحب حمص وغيرهم - 25ب - من الاعتقال وتوجهوا إلى الشام وعظم شأن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والتفت عليه البحرية وصار يركب بالشاويش وحدثته نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد فيما بينهم وخطب بنت الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة وهي أخت الملك المنصور صاحبها وتحدث مع الملك المعز أنه يريد يسكنها في قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك ولا يليق سكناها بالبلد فاستشعر الملك المعز منه - بما عزم عليه - وعمل على قتله ولم يقدم على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره في الفتك به فلم يجبه في ذلك بشيء مع كونه يؤثر ذلك لكنه علم أنه مقتول على كل حال وسير الأمير فارس الدين ليحضر بنت حماة إليه فخرجت من حماة ووصلت دمشق في تجمل عظيم وعدة محفاة مغشاة بالأطلس وغيره من فاخر القماش وعليها الحلي والجواهر ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجهة إلى الديار المصرية، وأما الملك المعز فانه لما أبطأ عليه جواب الملك الناصر وتحقق أن بنت صاحب حماة في الطريق بقي بين خطتي خسف إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكلية وإن سكنه قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكن من إخراجه ويترتب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين بالملك فعمل على معالجته فدخل إليه على عادته وقد رتب له الملك المعز جماعة للفتك به منهم الأمير سيف الدين قطز المعزي وغيره من مماليكه المعزية فقتلوه في دار السلطنة بقلعة الجبل في سنة اثنتين وخمسين ثم خلع بعد قتله الملك الأشرف من السلطنة وأنزله من قلعة الجبل إلى عماته القطبيات وركب الملك المعز بالسناجق السلطانية وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقل بالملك بمفرده استقلالا تاما ثم أن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم ثم تقرر الصلح بينه وبين الملك الناصر على أن يكون الشام جميعه للملك الناصر يوسف وديار مصر للملك المعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو فيما بين الواردة والعريش وذلك بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي وتزوج الملك المعز بشجر الدر في سنة ثلاث وخمسين فكان ذلك سببا لقتله وقد ذكرنا كيفية ذلك وما جرى عند ذلك وسلطنة ولده المنصور نور الدين فأغنى عن إعادته وكان الملك المعز كثير الكرم والبذل لا يمنع طالب حاجة إلا في النادر وأطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة وكان عفيفا طاهر - 26ب - الذيل لا يشرب مسكراً ولا يرى العسف والجور كثير المداراة لخشداشيته والاحتمال لتجنيهم وشراسة أخلاقهم وخلف عدة أولاد منهم الملك المنصور نور الدين علي وناصر الدين قاآن ورأيت له ولداً آخر بالديار المصرية سنة تسع وثمانين وهو في زي الفقراء الحريرية وكان للملك المعز رحمه الله عدة مماليك أمراء نجباء منهم الملك المظفر قطز رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى وغيره، ومعظمهم كرماء على سجيته وكان قتل الملك المعز بقلعة الجبل عشية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وقيل السادس وعشرين منه، وكان له بر ومعروف وبنى المدرسة المعزية بمصر على النيل وهي من أحسن المدارس ووقف عليها وقفاً جيداً ولها دهليز عظيم متسع طويل مفرط في السعة والطول بلغني أن بعض الكبراء دخلها فرآها صغيرة بالنسبة إلى مجازها فقال هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة وكان يلي تدريسها القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري رحمه الله إلى أن مات وهو على تدريسها وملك الملك المعز الديار المصرية نحو سبع سنين وتوفي وقد ناهز الستين سنة رحمه الله تعالى.سه وعاد ولو كان دخل بمن معه لملك البلاد وعاد الملك المعز إلى الديار المصرية مظفراً منصوراً وخرج الملك الأشرف من قلعة الجبل للقائه ورسخ قدم الملك المعز وعظم شأنه واستمر الحال على ذلك إلى سنة إحدى وخمسين فوقع الاتفاق بينه وبين الملك الناصر على أن يكون له وللبحرية الديار المصرية وغزة والقدس وما في البلاد الشامية للملك الناصر وأفرج عن الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخيه نصرة الدين والملك الأشرف بن صاحب حمص وغيرهم - 25ب - من الاعتقال وتوجهوا إلى الشام وعظم شأن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والتفت عليه البحرية وصار يركب بالشاويش وحدثته نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد فيما بينهم وخطب بنت الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة وهي أخت الملك المنصور صاحبها وتحدث مع الملك المعز أنه يريد يسكنها في قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك ولا يليق سكناها بالبلد فاستشعر الملك المعز منه - بما عزم عليه - وعمل على قتله ولم يقدم على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره في الفتك به فلم يجبه في ذلك بشيء مع كونه يؤثر ذلك لكنه علم أنه مقتول على كل حال وسير الأمير فارس الدين ليحضر بنت حماة إليه فخرجت من حماة ووصلت دمشق في تجمل عظيم وعدة محفاة مغشاة بالأطلس وغيره من فاخر القماش وعليها الحلي والجواهر ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجهة إلى الديار المصرية، وأما الملك المعز فانه لما أبطأ عليه جواب الملك الناصر وتحقق أن بنت صاحب حماة في الطريق بقي بين خطتي خسف إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكلية وإن سكنه قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكن من إخراجه ويترتب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين بالملك فعمل على معالجته فدخل إليه على عادته وقد رتب له الملك المعز جماعة للفتك به منهم الأمير سيف الدين قطز المعزي وغيره من مماليكه المعزية فقتلوه في دار السلطنة بقلعة الجبل في سنة اثنتين وخمسين ثم خلع بعد قتله الملك الأشرف من السلطنة وأنزله من قلعة الجبل إلى عماته القطبيات وركب الملك المعز بالسناجق السلطانية وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقل بالملك بمفرده استقلالا تاما ثم أن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم ثم تقرر الصلح بينه وبين الملك الناصر على أن يكون الشام جميعه للملك الناصر يوسف وديار مصر للملك المعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو فيما بين الواردة والعريش وذلك بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي وتزوج الملك المعز بشجر الدر في سنة ثلاث وخمسين فكان ذلك سببا لقتله وقد ذكرنا كيفية ذلك وما جرى عند ذلك وسلطنة ولده المنصور نور الدين فأغنى عن إعادته وكان الملك المعز كثير الكرم والبذل لا يمنع طالب حاجة إلا في النادر وأطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة وكان عفيفا طاهر - 26ب - الذيل لا يشرب مسكراً ولا يرى العسف والجور كثير المداراة لخشداشيته والاحتمال لتجنيهم وشراسة أخلاقهم وخلف عدة أولاد منهم الملك المنصور نور الدين علي وناصر الدين قاآن ورأيت له ولداً آخر بالديار المصرية سنة تسع وثمانين وهو في زي الفقراء الحريرية وكان للملك المعز رحمه الله عدة مماليك أمراء نجباء منهم الملك المظفر قطز رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى وغيره، ومعظمهم كرماء على سجيته وكان قتل الملك المعز بقلعة الجبل عشية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وقيل السادس وعشرين منه، وكان له بر ومعروف وبنى المدرسة المعزية بمصر على النيل وهي من أحسن المدارس ووقف عليها وقفاً جيداً ولها دهليز عظيم متسع طويل مفرط في السعة والطول بلغني أن بعض الكبراء دخلها فرآها صغيرة بالنسبة إلى مجازها فقال هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة وكان يلي تدريسها القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري رحمه الله إلى أن مات وهو على تدريسها وملك الملك المعز الديار المصرية نحو سبع سنين وتوفي وقد ناهز الستين سنة رحمه الله تعالى.
ايبك بن عبد الله الأمير عز الدين الحلبي الكبير كان من أعيان الأمراء الصالحية النجمية وقدمائهم وممن يضاهي الملك المعز وله المكانة العظيمة في الدولة والمحل الكبير بين الأمراء يعترفون له بالتقدم عليهم والرياسة وكان له عدة مماليك أعيان نجباء صاروا بعده أمراء أكابر منهم ركن الدين أتاجي أمير حاجب وبدر الدين بيليك الجاشنكير وصارم الدين أزبك الحلبي وغيرهم ولما قتل الملك المعز على ما قدمنا ذكره حلف الأمراء لولده الملك المنصور وتوقف الأمير عز الدين المذكور وأراد القيام بالأمر ثم خاف على نفسه فحلف ووافق الأمراء في ذلك فلما كان يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر وقبض الأمير سيف الدين قطز والمعزية على الأمير علم الدين سنجر الحلبي واعتقلوه ركب الأمراء الصالحية ومنهم الأمير عز الدين المذكور فتقنطر به فرسه فهلك خارج القاهرة وادخل إليها ميتاً وكذلك ركن الدين خاص ترك الصغير رحمهما الله تعالى.
شجرة الدر بنت عبد الله جارية الملك الصالح نجم الدين وأم ولده خليل كانت حظية عنده أثيرة لديه وكانت في صحبته لما كان بالكرك ولده خليلاً وحمل معها إلى الديار المصرية وبقي مديدة يسيرة يركب مع الخدام وتوفي صغيراً ولما قتل الملك المعظم توران شاه فملكت الديار المصرية وخطب لها على المنابر وكانت تعلم على المناشير وغيرها والدة خليل وبقيت على ذلك مدة ثلاثة شهور ثم استقر الأشرف والمعز على ما ذكرنا ثم تزوجها الملك المعز حسب ما شرحناه وكانت مستولية عليه ليس له معها كلام وكانت تركية ذات شهامة ونفس قوية وسيرة حسنة شديدة الغيرة فلما بلغها أن الملك المعز يريد أن يتزوج بنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وقد عمل على ذلك وتخيلت منه أنه ربما عزم على إبعادها أو إعدامها لأنه سأم من تحجرها عليه واستطالتها فعاجلته وقتلته على ما ذكرنا فأخذها مماليكه بعد آن أمنوها واعتقلوها بالبرج الأحمر بقلعة الجبل وعندها بعض جواريها والملك المنصور ووالدته يحرضان المعزية على قتلها لأنها كانت غير مجملة في أمرهما وكان الملك المعز لا يجسر أن يجتمع بوالدة الملك المنصور ولده خوفاً من شجر الدر.
فلما كان يوم السبت حادي عشر ربيع الآخر وجدت مسلوبة مقتولة خارج القلعة فحملت إلى تربة كانت بنتها لنفسها بقرب مشهد السيدة نفيسة رحمة الله عليها فدفنت بها وكان الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا وزيرها ووزارته لها أول درجة يرقى إليها من المناصب الجليلة ولما قتلت الملك المعز وأحيط بها وتيقنت أنها مقتولة أودعت جملة من المال فذهب وأعدمت جواهر نفيسة سحقتها في الهاون، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد أبو حامد عز الدين المدايني ولد بالمداين يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة وتوفي ببغداد هذه السنة وكان فقيهاً أديباً فاضلاً وله أشعار حسنة فيها يمدح الإمام الناصر وهي هذه
قد بدا ما يسر فيما تقول ... إنما أنت عاشق لا عذول
رابني منك في ملامك تكث ... ير لصبري ببعضه تقليل
وحديث ملجلج فيه للقل ... ب على السر آية ودليل
قاتل الله شادنا أمست الأض ... داد فيه الحسين وهي شكول
قسم البدر بيننا فله الن ... ور وعندي محاقه والذبول
أجد الناس ذا يماثل ذاك ... وفيه قد أعوز التمثيل
وارى الخلق عرضة لزوال ... وارى حسنه لا يزول
يا حميد الجفاء وهو ذميم ... وخفيف الدلال وهو ثقيل
هذه مهجتي بكفك فافعل ... ما ترى لست عن هواك احول
اسمح الناس ناصح مستخان ... ومحب على الحبيب بخيل
وتراني أروم عنك بديلا ... أنت أحلى وغيرك المملول
28ب - إنما أنت مهجتي واتخاذيبدلا عن حشاشتي مستحيل
لا تظنن جفوتي عن سلو ... عز ما خلته وسد السبيل
كم وصول هو القطوع نفاقا ... وقطوع هو المحب الوصول
لست أرضى بأن تجود بوصل ... وانتيابي عليك نزر قليل
إن يوماً أن يطلب العاشق الوصل ... ولم تسبق العيون الذيول
في التبرعات قبيح عند مثلي ... وفي القبيح جميل
ثروتي دون همتي وفراقي ... فوق طوقي وساعدي مغلول
فألام الرضا بما أنا فيه ... مشرع ميت وحي دليل
في نهوضي لها وترك اقتناعي ... مطلب منفس وكسب جليل
وانتجاع الإمام احمد عندي ... احمد الفعل والركام محيل
أنشدني أخي من أبيات رحمه الله تعالى لعز الدين عبد الحميد المذكور
وحقك إن أدخلتني النار قلت لل ... ذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في علوم دقيقة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوقع الحلم جهله ... وأوبقه دون البرية ذنبه
أما يقتضي شرع التكرم عتقه ... أيحسن أن ينسى هواه وحبه
أما قلتم من كان فينا مجاهدا ... سيكرم مثواه ويعذب شربه
أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه ... وتمويهه إذ جل في الدين خطبه
أما كان ينوي الحق فيما يقوله ... ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
فإن تصفحوا نغنم وإن تتجرموا ... فتعذيبكم حلو المذاق عذبه
وآية صدق الصب أن يعذب الأذى إذا كان من يهوى عليه يصبه
ولما صنف ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري ومولده بجزيرة ابن عمر ونشأ بها وانتقل إلى الموصل مع والده في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة واشتغل بها وحصل العلوم وصنف التصانيف الدالة على غزارة علمه وفضله منها المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر جمع فيه فأوعب فلما فرغ من تأليفه كتبه الناس عنه فوصل إلى بغداد منه نسخة فانتدب له عز الدين عبد الحميد المذكور وتصدى لمؤاخذته والرد عليه وجمع هذه المؤاخذة في كتاب سماه الفلك الدائر على المثل السائر فلما أكمله وقف عليه أخوه موفق الدين أبو المعالي أحمد بن هبة الله فكتب إلى أخيه عز الدين المذكور يقول
المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا
لكن هذا فلك دائر ... أصبحت فيه المثل السائرا
قال ابن المستوفي كانت ولادة ضياء الدين بجزيرة ابن عمر يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وتوفي في إحدى الجماديين سنة سبع وثلاثين وستمائة ببغداد وقد توجه إليها رسولاً من جهة صاحب الموصل وصلى عليه بجامع القصر ودفن بمقبرة قريش في الجانب الغربي بمشهد موسى بن جعفر عليهما السلام وقال أبو عبد الله محمد بن النجار البغدادي في تاريخه لبغداد أنه توفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين رحمه الله تعالى كان له تصانيف كثيرة وتواليف حسنة وترسل كثير أجاد فيه فمن رسائله ما كتبه عن مخدومه إلى الديوان من جملة رسالة - هي - ودولته هي الضاحكة وان كان نسبتها إلى العباس فهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم وأنها لا تزال محبوة من أبكار السعادة بالحب الذي لايسلى والوصل الذي لا يصرم وهذا معنى اخترعه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لم تخطه الأقلام في صحفها ولا أجالته الخواطر في أفكارها وله من رسالة في ذكر العصا التي يتوكأ عليها الشيخ الكبير وهذا لمبتدأ ضعفي الخبر ولقوس ظهري وتر وإن كان إلقاؤها دليلا على الإقامة فإن في حملها دليل على السفر وله في وصف المسلوبين من جملة كتاب يتضمن البشرى بهزيمة الكفار فسلبوا وعاضتهم الدماء عن اللباس فهم في صورة عار وزيهم زي كاس وما أسرع ما خيط لهم لباسها المحمر غير أنه لم يحط عليهم ولم يزر وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر الباقي على الدهر وهو شعار نسخه السنان الخارق لا الصنع الحاذق ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض في الطلى والهام وألّف الطعن بين ألف الخط واللام.... وله يصف نيل مصر عند زيادته عذب رضى به فضاهى جنى النحل واحمر صفيحة فعلمت أنه قد قتل المحل وهذا مأخوذ من قول القائل
لله قلب لا يزال يروعه ... برق الغمامة منجدا أو مغورا
ما احمر في الليل البهيم صفيحة ... متجردا إلا وقد قتل الكرى
وكتب إلى مخدومه وقد سافر في زمن الشتاء وينهى أنه سافر عن الخدمة وقد ضرب الدجن فيه مضاربه وأسبل عليه ذوائبه وجعل كل قرارة حفيراً وكل ربوة غديراً وخط كل أرض خطاً وغادر كل جانب شطاً كأنه يوازي يد مولانا في شيمة كرمها والتياث صوب..... يستغفر الله من هذا التمثيل العاري عن فائدة التحصيل - 30ب - وفرق بين ما يملأ الوادي بمائه وما يملأ النادي بنعمائه وليس ما ينبت زهرا يذهبه المصيف، أو ثمرا يأكله الخريف، كمن ينبت ثروة تغوص الأعطاف ويأكل المرتبع منها والمصطاف ثم استمر على مسير بقاسي الأرض ووحلها والسما ووبلها ولقد جاد حتى أكثر وواصل حتى أضجر أسرف حتى أتصل بره بالعقوق وما خاف المملوك لمع البوارق كما خاف لمع البروق ولم يزل من مواقع قطره في حرب ومن شدة برده في كرب، والسلام.
ومن إنشائه في وصف دمشق اصدر هذه الخدمة من دمشق حرسها الله تعالى وعمرها وقد نزل بأرض خضراء ومدينة غراء وتربة زكية ونفحة ذكية وظل ظليل وماء سلسبيل ذات قرار ومعين وظباء عين فهي محل الرياض الناضرة وجنة الدنيا الزاهية على خير الآخرة تتبرج في ملابس عبقرية وتتأرج بأنفاس عنبرية فزمانها ربيع وجنابها مريع ونسيمها وان وجناها دان وقاطنها بحبها عان وليس لها في مزية الحسن ثان تطرب الحان أطيارها وتعجب ببنيان ديارها وبها قوم صميمة أنسابهم كريمة أحسابهم منيفة مناقبهم شريفة ضرائبهم فهم سحب الكرم وشهب الظلم ومعادن الحكم وعليهم من نعم الله السرية الأقدار العزية من الأكدار الفائضة فيض الغمام المذكور ما لا يفرق بين رئيسهم ومرؤسهم في زيهم وملبوسهم ولا يميز بين أماثلهم وأراذلهم في مشاربهم ومآكلهم وفيهم ظبيات وجآذر يلقى الإنسان في حبهم ما يحاذر في أعطافهم هيف وفي خصورهم ديف ينظرن من عقد سحر ويبتسمن عن عقود در فقد ودهم أغصان مثمرة وعيونهم سيوف مشهرة
فإذا شنت عليهم غارة ... اغمدوا البيض وسلوا الأعينا
وفي بلدهم من عجائب الآثار التي سارت بها شوارد الأخبار ما استفاض بين المنجد والمغور واستغرق وصف الواصف المكثر فمن ذلك بناء المسجد الجامع ذي العمارات الروائع والصنائع البدائع الذي حوى سعة الفناء وحسن البناء وكأنما فرشت أرضه بألوان الأزهار ونقشت سقوفه بخالص اللجين والنضار وبظاهر البلدة من أصناف الجواسق بين ألفاف الحدائق ما يلوح للموفي على مرابعها والمطل على مراتعها كأنها كواكب السماء ومراكب الداماء وكأنها غدران البرائك المتبرجة في وشائع الحبائك فلو جاز الرضا بجنابها الأنيق لم يتغزل برامة والعقيق
ولو بظبائها الخفرات ... لم يذكر يوما ظباء السمرات
بلدة قد خصها الل ... ه بطيب الثمرات
وبها سرب ظباء ... لا ظباء السمرات
يتهادين اختيالا ... بضروب الحبرات
31ب - ويذودن محبيهن فيض العبرات
وقد وافيتها في زمن المشمش الذي له الذكر الدائر والمثل السائر فرأيت منظرا بهياً ومخبراً شهياً ذا لون ذهبي وشكل كوكبي وعرف مندل وطعم عسل كأنما تألف من نسيم، وتجمع من تسنيم فهو يتمزق للطافة جلده ويزهو بلذة طعمه وعظم قده ولما حللت بمغناها واكتحلت بسناها سرت بين نضير الأشجار وخرير الأنهار من طلوع الشمس إلى انتصاف النهار فظللت بين ملعب ومرتع ومرأى ومسمع.
هذه المنازل لا وادي العقيق ولا ... رمل المصلى ولا أكناف يبرين
ومما لقيته بها من المسار العظيمة وشهدته فيها من المشاهد الكريمة أن جاءني بعض خواصها في يوم صفا ورده وأشرق سعده وتهلل بشره وغفل عنه دهره يقدم عصبة يعرف في وجههم نضرة النعيم ويهتدي بأنوار شيمهم في الليل البهيم فداني بإحسانه ودعاني إلى بستانه فنهضت معهم كأني أساير بدورا وأجاور بحورا حتى انتهينا إلى جنة معروشة وروضة مفروشة تنفجر عيونها وتتهادى غصونها يحيط بها نهر حصباؤه من الجوهر وماؤه من الكوثر.
أرض حصاها جوهر وترابها مسك ... وماء المد فيها قرقف
وبها قصر رفيع الذرى وسيع المذرى مفرق الشرفات مزخرف الغرفات وبعوته بركة مرصوفة الجدر بأنواع الصور فمن أشجار مائلة وأطيار غير هادلة ومن غزلان خلفها فهود وفيول عليها أسود وعلى جنباتها ألسنة من الماء مختلفة الصفات لا الأسماء فهي أعذب من حب الغمام وارق من فيض المدام فلما نزلنا بساحتها الفسيحة الأقطار وأخذنا بحظ الأسماع والأبصار سرحنا تحت الأشجار لاقتطاف الثمار فظللت اجتني من الغصون ثمرا واجتلي من أخلاق تلك العصبة درراً حتى حزت من أحديهما لذة هنيئة ونظمت من الأخرى عقوداً سنية وكان ذلك اليوم مما يعد بالأعمار الطوال ولا يأتي على وصفه جوامع الأقوال وورد بغداد معوناً بالإمام الناصر ومهنياً بولده الإمام الظاهر فقال العبد.
عبد الرحمن بن أبي الفهم أبو محمد تقي الدين اليلداني كان رجلا صالحا مشتغلا بالحديث سمّاعاً وكتابة وإسماعاً إلى أن توفي بقرية يلدا من غوطة دمشق في ثامن ربيع الأول وقد ناهز مائة سنة من العمر ذكر انه كان مراهقاً سنة سبع وستين وخمسمائة حين طهر الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي رحمه الله ولده وانه حضر مع صبيان قريته الطهور ولعب الأمراء بالميدان وقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وانه قال له يا رسول الله بالله ما أنا رجل جيد فقال بلى أنت رجل جيد رحمه الله.
- 32ب - عبد الله بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عثمان أبو محمد بن أبي الوفاء بن أبي محمد بن أبي سعد نجم الدين البغدادي البادرائي الشيخ الإمام العلامة مولده في أخر محرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة سمع من جماعة وحدث ببغداد وحلب ودمشق ومصر وغيرها من البلاد وأفتى ودرّس بالمدرسة النظامية ببغداد وترسل عن الديوان إلى الشام ومصر وغيرها من البلاد إلى ملوك الأطراف ولم يزل يتردد في المهمات والرسائل إلى هذه السنة فعاد من الشام إلى بغداد فلما قدمها ولي قضاء القضاة بها وبجميع البلاد الإسلامية وتقلد ذلك وهو متمرض وتوفي بعد ذلك بأيام يسيرة قيل سبعة عشر يوماً وكانت وفاته في مستهل ذي القعدة وقيل في أواخر ذي الحجة والأول أصح وكان فاضلاً ديناً متواضعاً حسن المقاصد كثير التأني في بلوغ الآمال على أحسن وجه وحصل في ترسله إلى الملوك جملاً طائلة فابتاع من ذلك دار أسامة بدمشق وعمرها مدرسة للشافعية ووقف عليها أوقافاً كثيرة وذكر بها الدرس بنفسه أول ما فتحت وحضر درسه الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسائر أرباب الدولة والعلماء والقضاة ومد بها سماطاً عظيماً في ذلك اليوم ثم رتب بها معيدين أحدهما الشيخ كمال الدين رسلان بن الحسن الأربلي والآخر الشيخ نجم الدين الموقاتي وجعلها محصورة على عدد معلوم وعين مقدار ما يصرف إلى كل نفر منهم من الجامكية والخبز وشرط - أن لا يكون الفقيه بها بمدرسة أخرى ولا يكون متأهلاً وشرط - عليه السكنى بها وشرط على المدرس أن لا يكون له مدرسة أخرى ثم ولي تدريسها بعد وفاته ولده جمال الدين عبد الرحمن فدرس بها مدة سنين وتوفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق وهي من أحسن مدارس دمشق لا بل أحسنها على الإطلاق وكان المتحدث في نظرها وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي ثم القاضي عز الدين محمد بن الصائغ ثم اثبت أن الوجيه جعل النظر لزوجته والمباشر لنظرها الآن حال تسطير هذه الأسطر ولدها نصر الدين ولد وجيه الدين المذكور.
وخلف جمال الدين ولداً ذكراً بقي بعده مدة يسيرة ومات وكان الشيخ نجم الدين حسن الاعتقاد في الصلحاء والفقراء يزورهم ويبرهم ويقضي حوائجهم وكان دمث الأخلاق حسن المحاضرة كثير المباسطة بلغني أنه قال للزين خالد النابلسي تذكر ونحن في النظامية والفقهاء يلقبونك خولتا قال نعم وكانوا يلقبونك بالدعشوش فضحك الشيخ نجم الدين واعجبه منه هذه المباسطة وكان يسلم على كل من يمر به وهو راكب يشير بإصبعه بالسلام وبلغني في موجب ترسله أن الملك الصالح نجم الدين سير إلى الديوان القاضي نجم الدين قاضي نابلس وكان عنده رياسة وفضيلة وله مكانة عند الملك الصالح نجم الدين وأمره أن يخاطب الخليفة في أداء الرسالة عنه بما كان السلطان صلاح الدين رحمه الله يخاطب به الإمام الناصر في كتبه ورسائله وهو الخادم فلما أدى قاضي نابلس الرسالة كما أمره مخدومه أنكر عليه ذلك وترك في المكان الذي وقف فيه لأداء الرسالة على حالته قائماً وبلغته الشمس فكاد يهلك فأدى الرسالة على ما أرضى الديوان وحصل عند الخليفة تأثر من ذلك وقال من هذا الرسول قالوا هو فقيه من أهل نابلس قال وما هي نابلس قيل بلدة لطيفة من أعمال دمشق فقال أبصروا لنا فقيهاً يكون من قرية ولقبه نجم الدين ليتوجه بجواب الرسالة فطلبوا بالمدرسة المستنصرية والمدرسة النظامية شخصاً بهذه الصفة فلم يجدوا سوى الشيخ نجم الدين فأحضروه وجهزوه وأرسلوه وصحبته قاضي نابلس فلما صارا في الطريق قيل لقاضي نابلس ينبغي أن تغير لقبك تأدبا مع رسول الديوان العزيز ومع مخدومك فأن لقبه نجم الدين فغير لقبه مسافة الطريق وكان ذلك بداية سعادة الشيخ نجم الدين وظهر منه كفاية تامة في ذلك وشكر أثره وجميل اعتماده وأما الملك الصالح فغضب على قاضي نابلس وقال كنت بقيت مكانك إلى أن مت ولا أديت عني ما لم أمرك به وانحطت رتبته عنده لذلك وقال شهاب الدين عبد الرحمن في يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة عمل عزاء الشيخ نجم الدين المذكور بمدرسته التي أنشأها بدمشق وقال القاضي جمال الدين بن واصل أنه ولي القضاء ببغداد في ثالث عشر ذي القعدة واستمر فيه مريضاً سبعة عشر يوما وتوفي وظاهر الحال أنه توفي في سلخ شهر ذي القعدة رحمه الله.
علي بن محمد بن الرضا بن محمد بن حمزة بن أميركا أبو الحسن الحسيني الموسوي الطوسي المعروف بابن دمير خان مولده في رابع صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بحماة وله شعر حسن وتصانيف كثيرة وكان فاضلاً متفنناً توفي في رابع شهر ربيع الآخر كان ورد أربل في شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وستمائة من بغداد وذكر انه مدح الإمام المستنصر بالله وأجازه جائزة سنية وأول القصيدة المشار إليها.
البيض أخلق بالفتى والأسمر ... إن خانه البيض الدمى والأسمر
إن المهند والمثقف ملجأ ... لمسهد لسوى العلي لا يسهر
أيسومني سلطان حبك ذلة ... وبي المهامة والمهاوى اجدر
ولأن قتلت بسهم لحظك طالما ... قتل الضراغمة الغزال الأحور
كم زرت حيك واللهاذم والظبي ... في النقع من مهج الفوارس تقطر
وخفيت سقماً عنهم وكأنني ... في خاطر الظلماء وهم يخطر
34ب - كم ذأ مني النفس عنك تجلداوالعاذلون بسر وجدي أخبر
كذب التجلد والعواذل والمنى ... لا كان صب عن حماك يصبر
من لي بوصلك والزمان مساعدي ... والعيش في سود الذوائب أخضر
والليل في عرس الوصال قميصه ... بالزاهرات مدرهم ومدنر
قد شد منطقة المجرة وامتطى ... بالتاج والإكليل فيها خنجر
- من أبيات مدحه بها - وقال
أعاتب عيني وهي أول من جنى ... وأزجر قلبي كي يحيد عن الحب
فإن قلت قلبي قال عيناك قد جنت ... وإن قلت يا عيني تحيل على القلب
وقد حرت بين اثنين كل بجهده ... يسوق بليات الغرام إلى لبي
وقال شرف الدين ابن المستوفي وزير أربل رحمه الله أغار بهذه الأبيات على أبيات حفظها في المكتب وهي.
إذا لمت قلبي قال عيناك أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تشاركن في دمي ... فيارب كن عوني على العين والقلب
غازية خاتون بنت الملك الكامل محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب بن شادي والدة الملك المنصور صاحب حماة كانت صالحة دينة تحب الخير وأهله وأقامت منار العدل بحماة وهي المدبرة للأمور منذ توفي زوجها الملك - 35 ألف - المظفر ونصب مكانه ولده الملك المنصور والمرجع إلى ما ترسم به في الجليل والحقير وكانت وصلت إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة وولد لها من الملك المظفر ابنان وثلاث بنات أما الابنان فالملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة والأفضل نور الدين أبو الحسن علي ومولده سنة خمس وثلاثين وأما البنات فتوفيت الكبرى منهن قبل وفاة والدتها بقليل فدفنتها بقلعة حماة ولما توفيت الصاحبة دفنت إلى جانبها ثم لما توفيت الصاحبة عائشة خاتون بنت الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر زوجة الملك المنصور ووالدة ولده الملك المظفر دفنت في التربة المذكورة ثم لما توفي الملك المنصور دفن في تربة عملت - له - إلى جانب الجامع الأعلى بحماة ونقل المدفونون بالقلعة ِإلى التربة المذكورة وكانت وفاة غازية خاتون ليلة الأحد تاسع عشر ذي القعدة أوذي الحجة هذه السنة رحمها الله تعالى.
محمد بن سيف بن مهدي أبو عبد الله اليونيني الشيخ الصالح كان صحب الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه وأخذ عنه وانتفع به ثم انقطع في زاوية اتخذها في كرم له قبلي قرية يونين متوفراً على العبادة ويتردد إلى القرية في بعض الأوقات وكان حلو العبارة حسن الحديث والمذاكرة - 35ب - بأخبار الصالحين رحمهم الله تعالى وعنده كرم وسعة صدر وإيثار ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمه الله تعالى في هذه السنة بقرية يونين وقد جاوز السبعين سنة من العمر ودفن في زاويته المذكورة رحمه الله تعالى وخلف عدة أولاد لم يقم أحد منهم مقامه بل أقام في الزاوية المشار إليها ابن أخيه وهو أبن زوجته أيضاً الشيخ سليمان بن علي بن سيف بن مهدي نفع الله به وهو من الصلحاء الأعيان العباد يسرد الصوم ويقوم معظم الليل ويبادر إلى السعي في قضاء حوائج الناس ويتجشم في ذلك المشاق وهو من ألطف الناس وأكرمهم وأكثرهم بشراً بمن يرد عليه مع شدة التواضع وملازمة الذكر والتلاوة وللكتاب العزيز وعدم الغيبة لأحد من خلق الله تعالى وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن محمد بن ِأبي الفضل أبو عبد الله شرف الدين السلمى الأندلسي المرسي المغربي النحوي المتكلم الأصولي الفقيه المالكي صاحب التصانيف المشهورة في التفسير وغيره مولده بمرسية في ذي الحجة سنة تسع وستين وقيل سنة سبعين وقيل سنة إحدى وسبعين وخمسمائة قرأ القرآن الكريم ببلده على أبى محمد غلبون بن محمد بن غلبون النحوي والنحو على أبى على الشلوبين وسمع - 36 ألف - بالمغرب والحجاز والشام والعراق وخراسان وحصل الأصول والنسخ وكان مكثراً شيوخاً وسماعاً وحدث بالكثير مدة بالحجاز وديار مصر والشام والعراق وجاور بمكة زمناً طويلاً وكان من أعيان العلماء الأئمة الفضلاء ذا معارف متعددة بارعاً في علم العربية وتفسير القرآن الكريم وله مصنفات مفيدة ونظم حسن وهو مع ذلك متزهد تارك الرياسة حسن الطريقة قليل المخالطة للناس كثير الصلاح والعبادة والحج مقتصد في أموره محقق البحث، محصل الكتب العلمية، مفتن بها، له قبول بسائر البلاد الإسلامية لا يحل ببلد إلا ويكرمه رؤساؤه وأهله وكان أكثر مقامه بالحجاز ومصر والشام وتوفي في منتصف ربيع الأول بين الزعقة والعريش وهو متوجه من مصر إلى دمشق ودفن بتل الزعقة رحمه الله تعالى، ومن شعره قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان أنشدني لنفسه بحلب ملغزا باسم يحيى.
أتبكى وما بالقلب من لوعة الحب ... وما قد جنت تلك اللحاظ على لبى
أعارتني السقم الذي بجفونها ... ولكن عذا سقمي على سقمها يربى
على أنني في بثك الحب مثل ما ... يبوح بما في الصدر منه إلى القلب
أما وهواك المذهبي إن مهجتي ... تقسمه بين الصبابة والكرب
وإني ما ذقت الكرى مذ سلبتني ... وما حال من يصبو إذا صد من يسبي
36ب - كتمت الذي في من هواك عن الورىعلى أن دمعي ذو ولوع بأن ينبي
ولكن سأبديه إليك لأنني ... أرى ذلك الإبداء من سنة الحب
صبا بفؤادي نحوك اثنان سودد ... وحسن فعذر واحد منهما يصبي
فديتك من قاض على لو انه ... تعدى أسمه لي ما قضيت أسى نحى
ودونكها بكرا لها وحيائها ... ردايت فيع مروعة السرب
؟فمر لها كفا فمنك حياؤها ولا تبدنيها فهي من ذاك في رعب وقال أنشدني وقد تماروا عنده في الصفات.
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير أتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال...وكيف فإنه ... من باب بحر ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال الرسول وصحبه ... والتابعون فمن منا هجهم قفا
وقال
تقبل أبا بكر كتابا وهبته ... كقلبي لا أبقي إلى إيابه
وطبت به نفسا فخذه بمثل ما ... عذا أحدا يجني النبي كتابه
وقال
قالوا محمد قد كبرت وقد أتى ... داعي الحمام وما اهتممت بزاد
وقال الشيخ سعد الدين مسعود بن حمويه أنشدني الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله لنفسه في سنة خمسين وستمائة.
أيجهل قدري في الورى ومكانتي ... تزيد على مرقى السماكين والنسر
ولي حسب لو انه متقسم ... على أهل هذا العصر تاهوا على العصر
كما أن فضلي باهر لذوي النهي ... وهل يختفي عند البدور سنا البدر
وأعجب أن الغرب تبكي لفرقتي ... دما ومحيا الشرق يلقى بلا بشر
محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله بن حمويه أبو جعفر التيمي البكري السهوردي المولد البغدادي الدار الصوفي ومولده بسهر ورد سنة سبع وثمانين وخمسمائة في صفر سمع من الإمام أبي الفرج بن الجوزي وغيره وكان والده الشيخ شهاب الدين شيخ وفقيه في الطريقة وتربية المريدين رحمه الله تعالى وكانت وفاة ولده أبي جعفر المذكور في عاشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر أبو نصر الحلبي الحاسب ويلقب بالمهذب كان والده يعرف بالبرهان المنجم الطبري ولد المهذب بحلب سنة ثمانين وخمسمائة وكان فاضلاً أديباً وله تواليف مفيدة وصنف زيجاً ومقدمة في الحساب وغير ذلك وله ديوان شعر في مجلدين واستوطن صرخد وتوفي بها ليلة السبت ودفن يوم السبت الظهر ثاني عشر شهر ذي الحجة في هذه السنة.
محمد بن أبى القاسم - قاسم - بن فيره بن خلف بن أحمد أبو عبد الله - 37ب - الشاطبي الرعيني الأصل المصري المولد والدار المقرئ العدل ومولده في حادي عشر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وخمسمائة بمصر وتوفي بالقاهرة في حادي عشر شوال ودفن من يومه بسفح المقطم سمع من أبيه وغيره وحدث وأبوه الإمام أبو القاسم أحد القراء المجودين والعلماء المشهورين والصلحاء المتورعين قرأ القرآن العزيز بالروايات وسمع من جماعة واقرأ وحدث وصنف القصيدة المشهورة في القراءات التي لم يسبق إلى مثلها ولم يكن في مصر في زمانه مثله في تعدد فنونه وكثرة محفوظه رحمه الله تعالى .
هبة الله بن صاعد الفائزي الملقب شرف الدين كان في صباه نصرانياً ويلقب بالأسعد وهو منسوب إلى الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب لأنه خدمه أولا وفي الفائزي يقول جمال الدين يحيى بن مطروح وقيل بهاء الدين زهير .
لعن الله صاعداً ... وأباه فصاعداً
وبنيه فنازلاً ... واحدا ثم واحداً
ثم أسلم الفائزي وتوفي وكان عنده رياسة ومكارم ونفسه تسمو إلى الرتب العالية وخدم الملك الكامل بعد موت الفائز ثم خدم ولده الملك الصالح وغيرهما من الملوك - 38 ألف - وتنقلت به الأحوال حتى استوزره الملك المعز في أوائل ما تملك بعد أن صرف القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز وكان قد ولي الوزارة أول دولة الملك المعز فصرف بشرف الدين الفائزي فلما ولي الفائزي تمكن من الملك المعز تمكناً كثيراً بحيث تقدم على الجيش في الحرب وكان الملك المعز يكاتبه بالمملوك وكان في الفائزي كرم طباع وأريحية وحسن نظر في حق من يصحبه وينتمي إليه ولم تزل منزلته عند الملك المعز في تزيد إلى أن قتل وتملك ولده كما ذكرنا فباشر وزارة الملك المنصور ابن المعز أياماً يسيرة وهو مضطرب فتخيل توقع النكبة فقبض عليه الأمير سيف الدين قطز مدبر دولة الملك المنصور واخذ خطه بمائة ألف دينار لنفسه وبقي معتقلاً وكان يتهم بأموال كثيرة قال القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري دخلت إليه في مجلسه فسألني أن أتحدث في إطلاقه على أن يحمل في كل صباح ألف دينار فقلت له كيف تقدر على هذا فقال أقدر عليه إلى تمام سنة وإلى سنة يفرج الله عني فلم تلتفت مماليك المعز إلى ذلك وعجلوا هلاكه فخنق وحمل إلى القرافة فدفن بها رحمه الله تعالى وكانت ابنته زوجة فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين وبطريق هذه المصاهرة ترقى الصاحب بهاء الدين وولده فخر الدين فأولدها فخر الدين المذكور تاج الدين - المذكور - 38ب - محمدا وشهاب الدين أحمد وبنتاً أخرى هي زوجة عز الدين ابن محيي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين المذكور ونالت ابنة الفائزي من السعادة في الأيام الظاهرية ما لا يوصف وتوفيت إلى رحمة الله وكانت كثيرة البر والمعروف مفرطة في السمن وبهاء الدين الفائزي اجتمعت به بمكة شرفها الله تعالى في آخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة ورافقني إلى المدينة صلوات الله على ساكنها وسلامه في سنة خمس وسبعين - وسنة ست وسبعين - وهو معرض عن الخدم يظهر التزهد وينفق من بقايا بقيت.
له ثم رأيته بالقاهرة في سنة تسع وثمانين وقد ظهر عليه الفقر والاحتياح بحيث رغب أن يخدم في بعض الفروع بالإسكندرية فلمته على ذلك فذكر أن عنده عائلة كثيرة وليس له ما يقوم ببلغتهم فعذرته والله يلطف به وبنا.
وفي شرف الدين الفائزي يقول الشاعر.
خلف الأسعد ما خان وقد ... شهدت أفعاله المشتبهه
نقده ستون نقدا عدداً ... عن سسات الرشى منزهه
فالبغال الشهب من أين له ... والجوار الترك من أي جهة
وكانت وفاته في ربيع الآخر أو جمادى الآخرة رحمه الله تعالى كتب إليه ناصر الدين بن المنير قاضي الإسكندرية أبياتاً مدحه بها منها
ألا أيها البدر المنير وأنني ... لأخجل إن شبهت وجهك بالبدر
لأن غبت عن عيني وشطت بك النوى ... فما زلت أستجليك بالوهم في فكري
وحق زمان المذكور لي بطويلع ... وأنت معي ما سر من بعدكم سرى
- ومنها -
ويا سيدا تأتي الوفود لبابه ... فيلقاهم بالبشر والنائل الغمر
ويا من له في الجود ضرب بلاغة ... يقابل منظوم المدايح بالنثر
متى ما أقمت العبد في الخمس نائبا ... غدا مستقلا بالدعاء وبالشكر
وقال يرثيه
عيل صبري وعز عندي عزائي ... بعد فقدي لسيد الوزراء
شرف الدين والذي شرف الد ... ين بفضل وعفة وتقاء
والوزير الذي أقام منار ال ... عدل في حال شدة ورخاء
جهل العلم بعده واستخف الح ... لم يا طول حسرة العلماء
كان فيه لله سر خفي ... دق معنى عن فطنة الأذكياء
والبليغ الذي إذا عم خطب ... ناب عنه اليراع عن خطباء
والفصيح الذي إذا ما امتطى القر ... طاس أزرى بسائر الفصحاء
- ومنها -
قلت لمن سره مصابك يوما ... قد كفى ما جرى على الخلفاء
وإذا ما عدا على الأعادي ... فالهنا إن أعد في الشهداء
- ومنها -
يا قريبا دفن الأقارب مني ... وولي من سائر الأولياء
خذ عروس الثريا مني تجلى ... في ثياب من صفوتي وولاء
- 39ب - يحيى بن سليمان بن هادي أبو زكريا السبتي كان أحد الأشيايخ المشهورين والصلحاء المذكورين سكن القرافة مدة وله بها زاوية معروفة وقيل أنه كان لا يأكل الخبز وكان له قبول من الخاصة والعامة توفي في منتصف شوال بالقاهرة ودفن من الغد بها رحمه الله تعالى.
أبو الحسن المغربي المورقي نور الدين الأمير هو من أقارب المورقي الملك المشهور ببلاد المغرب توفي نور الدين في أول ربيع الأول بدمشق ودفن بجبل قاسيون بمقبرة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله تعالى وكان فاضلاً فمن المنسوب إليه من أبيات.
القضب راقصة والطير صادحة ... والشر مرتفع والماء منحدر
وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوح تستتر
فكل وادٍ به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر
ومن المنسوب إليه أيضاً.
وذي هيف راق العيون أنتباره ... بقد كريان من البان مورق
كتبت إليه هل تجود بزورة ... فوقع لا خوف الرقيب المصدق
فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلا ... كما اعتنقت لاثم لم تتفرق
وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان.
إني لأحسد لافي أول الصحف ... إذ رأيت اعتناق اللام للألف
وأحسن من هذا قول القيسراني
أستشعر الناس من لاثم يطمعني ... إشارة في اعتناق اللام للألف
؟
سنة ست وخمسين وستمائةدخلت هذه السنة والملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بدمشق والبحرية ومن انضم إليهم من الأمراء الصالحية وعلى بن الملك المغيث صاحب الكرك متفقون عل قصد الديار المصرية ووصل إليهم الملك المغيث ونزل بدهليزه بغزة وأمر البحرية كله راجع إلى الأمير ركن الدين البندقداري ووصل الأمير سيف الدين قطز وعساكر مصر ونزلوا حول العباسة مستعدين لقتالهم.
وفيها استولى التتار على بغداد والعراق بمكيدة دبرت مع وزير الخليفة قبل ذلك وآل الأمر إلى هلاك الخليفة وأرباب دولته وقتل معظم أهل بغداد ونهبوا وذلك في يوم الأربعاء عاشر صفر قصد هولاكو بغداد وملكها وقتل الخليفة المستعصم بالله رحمه الله وما دهى الإسلام بداهية أعظم من هذه الداهية ولا أفضع وسنذكر خبرها مجملاً إن شاء الله تعالى.
قد علم تملك التتر أكثر المماليك الإسلامية وما فعلوه من خراب البلاد وسفك الدماء وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال وكانوا قبل هذه السنة قد قصدوا إلا لموت بلد الباطنية ومعقلهم المشهور وكان صاحب إلا لموت وبلادها علاء الدين محمد بن جلال الدين حسن المنتسب - 40ب - إلى نزار بن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر وتوفي وقام مقامه ولده الملقب شمس الشموس وكان الذي قصد الالموت هولاكو وهو من ذرية جنكيز خان الذي قصد بلاد الإسلام سنة ستة عشر وستمائة واندفع بين يديه السلطان علاء الدين محمد بن تكش وفعل تلك الأفاعيل العجيبة المسطورة في التواريخ وهو صاحب أمة التتر التي مرجعهن إليها وكان جنكيز خان عندهم بمنزلة النبي لهم ولما نازل هولاكو الالموت نزل ِإليه صاحبها ابن علاء الدين بشارة نصير الدين الطوسي عليه بذلك وكان الطوسي عنده وعند أبيه قبله فقتل هولاكو ابن علاء الدين وفتح الألموت وما معها من البلاد التي في تلك الناحية وكان لهم بالشام معاقل ولصاحب الالموت فيها أبدا نائب من قبله وسنذكر ما آل إليه أمرها فيما بعد إن شاء الله تعالى
واستولى هولاكو على بلاد الروم وأبقى ركن الدين ين غياث الدين كيخسرو فيها له اسم السلطنة صورة وليس له من الأمر شيء وفي سنة أربع وخمسين وستمائة تهيأ هولاكو لقصد العراق وسبب ذلك أن مؤيد الدين بن العلقمي وزير الخليفة كان رافضياً وأهل الكرخ روافض وفيه جماعة من الأشراف والفتن لا تزال بينهم وبين أهل البصرة فانه لسبب التعصب في المذاهب فاتفق أنه وقع بين الفريقين محاربة فشكى أهل باب البصرة وهم سنية إلى ركن الدين الداودار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم فشكى أهل الكرخ ذلك إلى الوزير فأمرهم بالكف والتغاضي وأضمر هذا الأمر في نفسه وحصل عنده بسبب ذلك الضغن على الخليفة وكان المستنصر بالله رحمه الله قد استكثر من الجند حتى قيل أنه بلغ عدة عسكره نحو مائة ألف وكان منهم أمراء أكابر يطلق على كل منهم لفظ الملك وكان مع ذلك يصانع التتار ويهاديهم فلما ولي المستعصم أشير عليه بقطع أكثر الجند وإن مصانعة التتر وحمل المال إليهم يحصل به المقصود ففعل ذلك وقلل من الجند وكاتب الوزير ابن العلقم التتر وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهل عليهم ملك العراق وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد فوعدوه بذلك واخذوا في التجهيز لقصد العراق وكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في أن يسير إليهم ما يطلبونه من آلات الحرب فسير إليهم ذلك ولما تحقق قصدهم علم أنهم إن ملكوا العراق لا يبقون عليه فكاتب الخليفة سرا في التحذير منهم وأنه يعتد لحربهم فكان الوزير لا يوصل رسله إلى الخليفة ومن وصل إلى الخليفة منهم بغير علم الوزير أطلع الخليفة وزيره على أمره فكان الشريف تاج الدين ابن - 41ب - صلايا نائب الخليفة بإربل فسير إلى الخليفة من يحذره من التتر وهو غافل لا يجدي فيه التحذير ولا يوقظه التنبيه لما يريده الله تعالى فلما تحقق الخليفة حركت التتر نحوه سير شرف الدين بن محي الدين الجوزي رسولاً إليهم يعدهم بأموال يبذلها لهم ثم سير نحو مائة رجل إلى الدربند الذي يسلكه التتر إلى العراق ليكونوا فيه ويطالعوه بالأخبار فتوجهوا ولم يأت منهم خبر لأن الأكراد الذين كانوا عند الدربند دلوا التتر عليهم على ما قيل فقتلوهم كلهم وتوجه التتر إلى العراق وجاء بانجونوين في جحفل عظيم وفيه خلق من الكرخ ومن عسكر بركة - خان - ابن عم هولاكو ومدد من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح من جهة البر الغربي عن دجلة وخرج معظم العسكر من بغداد للقائهم ومقدمهم ركن الدين الدوادار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد و اقتتلواُ قتالاً كثيراً وفتقت فتوق من نهر الملك على البر الذي القتال فيه ووقعت الكسرة على عسكر بغداد فوقع بعضهم في الماء الذي خرج من تلك الفتوق فارتطمت خيلهم وأخذتهم السيوف فهلكوا وبعضهم رجع إلى بغداد هزيماً وقصد بعضهم جهة الشام قيل كانوا نحو ألف فارس ثم توجه بانجونوين ومن معه فنزل القرية مقابل دور الخلافة وبينه وبينها دجلة وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي عن دجلة وهو البر الذي فيه مدينة بغداد ودور الخلافة وضرب سوراً على عسكره وأحاط ببغداد فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال إنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير آبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم لا يؤثر إلا أن يكون الطاعة له كما كان أجدادك من السلاطين السلجوقية وينصرف بعساكره عنك فتجيبه ِإلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد وحسن له الخروج غليه فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة ثم مد الجسر وغدا بانجونوين ومن معه وبذل السيف في بغداد فقتل كل من ظهر ولم يسلم منها إلا من هرب أو كان صغيراً فإنه أخذ أسيراً واستمر القتل والنهب نحو أربعين يوما ثم نودي بالأمان فظهر من كان اختفى وقتل سائر الذين خرجوا إلى هولاكو من القضاة والأكابر والمدرسين وأما الوزير ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد ومات بعد - 42ب - مدة يسيرة ولقاه الله
تعالى ما فعله بالمسلمين ورأى قبل موته في نفسه العبر والهوان والذل ما لا يعبر عنه ثم ضرب هولاكو عنق بانجونوين لأنه قيل عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي وأما الخليفة فقتل ولكن لم يتحقق كيفية قتلته فقيل أنه خنق وقيل رفس إلى أن مات وقيل غرق وقيل لف في بساط فغطس والله أعلم بحقيقة الحال، ونعود إلى أخبار الشام ومصر كنا ذكرنا أن العساكر المصرية نزلوا حول العباسة لما بلغهم اجتماع البحرية وبعض أمراء مصر مع الملك المغيث ولما جاءهم الخبر بمحاصرة التتر لبغداد كتبوا بذلك إلى الديار المصرية وتقدموا بأن يدعى للمسلمين بالنصر فأمر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله الأئمة والخطباء أن يقنتوا في الصلوات الخمس ثم ورد الخبر أن بغداد ملكت فاشتد أسف المسلمين وحزنهم.الى ما فعله بالمسلمين ورأى قبل موته في نفسه العبر والهوان والذل ما لا يعبر عنه ثم ضرب هولاكو عنق بانجونوين لأنه قيل عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي وأما الخليفة فقتل ولكن لم يتحقق كيفية قتلته فقيل أنه خنق وقيل رفس إلى أن مات وقيل غرق وقيل لف في بساط فغطس والله أعلم بحقيقة الحال، ونعود إلى أخبار الشام ومصر كنا ذكرنا أن العساكر المصرية نزلوا حول العباسة لما بلغهم اجتماع البحرية وبعض أمراء مصر مع الملك المغيث ولما جاءهم الخبر بمحاصرة التتر لبغداد كتبوا بذلك إلى الديار المصرية وتقدموا بأن يدعى للمسلمين بالنصر فأمر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله الأئمة والخطباء أن يقنتوا في الصلوات الخمس ثم ورد الخبر أن بغداد ملكت فاشتد أسف المسلمين وحزنهم.
ذكر الوقعة بين الملك المغيث وعسكر مصرلما تكامل العسكر مع الملك المغيث دخل بهم إلى الرمل والتقى بعسكر المصريين فكانت الكسرة على المغيث ومن معه وقبض يومئذ على عز الدين ايبك الرومي وعز الدين ايبك الحموي الكبير وركن الدين الصرفي وبن أطلس خان الخوارزمي وأحضروا بين يدي الأمير سيف الدين قطز الغتمي وبهادر المعزية فأمروا بضرب أعناقهم فضربت وحملت رؤوسهم إلى القاهرة وعلقت بباب زويلة ثم أنزلت من يومها ودفنت لما أنكر على المعزية هذا الفعل الشنيع وهرب الملك المغيث والصوابي بدر الدين والأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ومن معهم ووصلوا الكرك في أسوأ حال ونهب ما كان معهم من الثقل ودهليز الملك المغيث ودخل العسكر القاهرة بما حازوه وزين لذلك البلدان وكان المصاف يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر.
ذكر ما تجدد للتتر بعد أخذ بغدادلما ملكوها نادوا بالأمان لأهل العراق كلهم وولوا في ولاتهم وكان الوزير ابن العلقمي قد أطمعته نفسه بأن الأمور تكون مفوضة إليه وكان قد عزم على أن يحسن لهولاكو أن يقيم ببغداد خليفة فاطمياً فلم يتم له ذلك واطرحه التتر وبقي معهم على صورة بعض الغلمان فمات بعد قرب كمداً وندم حيث لا ينفعه الندم ولقاه الله فعله ورحل التترعن بغداد إلى بلاد اذربيجان ثم رحل إليهم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل والشريف تاج الدين بن صلايا صاحب أربل فأكرم بدر الدين ورده إلى بلاده وأما ابن صلايا فقتل وقد ذكر والله اعلم أن بدر الدين لؤلؤ قال لهولاكو هذا شريف علوي وربما نطاول أن يكون خليفة ويبايعه على ذلك خلق عظيم فتقدم هولاكو لقتله ولما رجع بدر الدين إلى الموصل لم يطل مقامه - 43ب - وبها توفي.
وفيها قصد التتر ميافارقين فنازلوها وحصروها وكان المتولي لحصرها اشموط بن هولاكو وكان صاحبها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل قد قصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف مستنجداً به على التتر فوعده بذلك ولم يتمكن من إنجاده وفيها وردت رسل التتر إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف فوصلهم منه جملة كثيرة من المال.
وفيها اشتد الوباء بالشام وفني من أهل دمشق خلق لا يحصى وعزت الفراريج وغيرها مما يستعمل المرضى وبيع الرطل الدمشقي من التمر الهندي بستين درهما والحزة من البطيخ الأخضر بدرهم.
ذكر ما تجدد للبحرية بعد كسرتهم بمصر
لما رجعوا مع الملك المغيث مفلولين سير إليهم الملك الناصر جيشاً مقدمه الأمير محي الدين إبراهيم - بن أبي بكر - زكرى والأمير نور الدين عسلي بن الشجاع الأكتع والتقوا بغزة فكسرتهم البحرية وقبضوا على فخر الدين ونور الدين وحملوهما إلى الكرك فلم يزالا بها معتقلين إلى أن أخرجهما الملك المغيث فسيرهما إلى الملك الناصر لما اصطلحا كما سنذكره إن شاء الله تعالى فقوى عند هذه الكسرة أمر البحرية وامتدوا في البلاد فعند ذلك برز الملك الناصر للقائهم وضرب دهليزه قبلي دمشق وقربت البحرية من دمشق وجاء الأمير ركن الدين البندقداري مقدمهم في بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة وكثر الأرجاف بهم في دمشق.
وفيها توفي إبراهيم بن يحيى بن أبي المجد أبو إسحاق الأسيوطي الفقيه الشافعي مولده سنة سبع وخمسون تقريباً وتولى الحكم ببعض البلاد من الأعمال المصرية ودرس بالجامع الظافري بالقاهرة مدةً وأفتى وكان مشهوراً بمعرفة المذهب وحسن الفتوى وسعة الفضل كثير الإيثار مع الإقتار، والأفضال مع الإقلال، كريم الأخلاق لطيف الشمائل وله شعر فائق في توفي سابع ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله.
أحمد بن أسعد بن حلوان أبو العباس نجم الدين الطبيب المشهور الحاذق المعروف بابن العالمة ولد بدمشق سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقرأ الطب على الحكيم صدقة السامري وبرع فيه وصنف مصنفات كثيرة وخدم الملك المسعود صاحب آمد وتقدم عنده فلما فتح الملك الكامل أمد استخدامه مدة ثم خدم صاحب صهيون وغزة وانتقل إلى بعلبك وأقام بها مدة وله ترسل حسن، وتوفى بدمشق في هذه السنة أعني سنة ست وخمسين رحمه الله تعالى، وقد ذكره الحكيم موفق الدين أحمد بن أبي القاسم بن خليفة الخزرجي في طبقات الأطباء فقال هو الحكيم الأجل العالم الفاضل نجم الدين أبو العباس أحمد بن أبي الفضل أسعد بن حلوان ويعرف بابن العالمة لأن أمه كانت عالمة دمشق وتعرف ببنت دهين اللوز ومولده بدمشق في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة كان أسمر اللون نحيف البدن حاد الذهن مفرط الذكاء فصيح اللسان كثير البراعة لا يجاريه أحد في البحث ولا يلحقه في الجدل واشتغل على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحمن بصناعة الطب حتى أتقنها وكان متميزاً في العلوم الحكمية قوياً في علم المنطق مليح التصنيف جيد التأليف فاضلاً في العلوم الأدبية ويترسل ويشعر وله معرفة بالضرب بالعود حسن الحظ وخدم بصناعة الطب الملك المسعود صاحب أمد وحظي عنده واستوزره ثم بعد ذلك نقم عليه وأخذ جميع موجوده وأتى إلى دمشق واشتغل عليه جماعة بصناعة الطب وكان متميزاً في الدولة وكتب إليه الصاحب كمال الدين يحيى بن مطروح في جواب كان منه يقول.
لله در أنامل شرفت وسمت ... فأهدت أنجماً زهرا
وكتابة لو أنها نزلت على ... الملكين ما ادعيا إذاً سحرا
لم أقرأ سطراً من بلاغتها ... إلا رأيت الآية الكبرى
فأعجب لنجم في فضائله ... أنسى الأنام الشمس والبدرا
وكان نجم الدين لحدة مزاجه قليل الاحتمال والمداراة وكان جماعة يحسدونه لفضله ويقصدونه بالأذية وأنشدني يوماً متمثلاً
وكنت سمعت أن الجن عند اس ... تراق السمع ترجم بالنجوم
فلما أن علوت وصرت نجما ... رميت بكل شيطان رجيم
وفي آخر عمره خدم الملك الأشرف ابن الملك المنصور صاحب حمص بتل باشر وأقام عنده مديدة يسيرة وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر القعدة سنة اثنين وخمسين وستمائة، أنشدني عز الدين أبو بكر المقدمي له يمدح الملك الأشرف وأظنه ابن صاحب حمص.
يا ريم حتى كم اكتم دائي ... أنت الحبيب وفي يديك دوائي
هذاهواك أذاب جسمي كم لنا ... أخفيه حتى فت في أحشائي
قلبكم أكني عن هواك بغيره ... حتى لقد أغربت في السماء
طوراً بسعدي أو بعلوة تارة ... وبنعم والسر في عفراء
وكذا بنجد والعقيق وشعبه ... و المنحنى والقصر من تيماء
لا أستطيع وصاله في بعده ... والوصل غاية راحتي وشفائي
ومع الدنو أكون من إجلاله ... مخف هواه فهو دان نائي
متقسم بين الهوى ويد النوى ... قلبي فما يخلو من البرحاء
يا أيها المملك الذي إن قسته ... بالبحر فاق البحر بالإنداء
إني أعيذك أن تغير عادة ... عودتها بمقالة الأعداء
45ب - يا ابن الملوك الصيد من قد أورثواشرفا على الأباء بالأبناء
اشبهت يا موسى لموسى في الذي ... أوتيته كتشابه الأسماء
فله اليد البيضاء كانت آية ... ولكم لجودك من يد بيضاء
وحكى لي أخوه لأمه القاضي شهاب الدين محمد بن العالمة توفي مسموماً ولنجم الدين من الكتب كتاب التدقيق في الجمع والتفريق وذكر فيه الأمراض وما يتشابه في اكثر الأمر وكتاب هتك الأستار عن تمويه الدخوار وتعليق ما حصل له من تجارب وغيرها وشرح أحاديث نبوية تتعلق بالطب وكتاب المهملات في كتاب الكليات وكتاب المدخل إلى الطب وكتاب العلل والأعراض وكتاب الإشارات المرشدة في الأدوية المفردة وذكر قبله والده موفق الدين النفاح هو الحكيم العالم الأوحد أبو الفضل أسعد بن حلوان أصله من المعرة واشتغل بصناعة الطب وتميز فيها وتميز في أعمالها وخدم الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب في الشرق وبقي في خدمته سنين وانفصل أمره وكانت وفاته في حماة سنة اثنين وأربعين وستمائة.
أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي العدل المعروف بابن المزين ومولده بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة سمع من خلق كثير وقدم الديار المصرية وسكن الإسكندرية وحدث بها واختصر صحيحي البخاري ومسلم اختصاراً حسناً وشرح مختصره لصحيح مسلم بكتاب سماه المفهم وصنف غير ذلك وتوفي بالإسكندرية في الرابع عشر من ذي القعدة رحمه الله.
أحمد بن محمد بن أبي الوفا بن أبي الخطاب بن محمد بن الهزبر آبي الفضل شرف الدين الربعي الموصلي المعروف بابن الحلاوي الشاعر المشهور كان من احسن الناس صورة وألطفهم أخلاقاً وأكرمهم عشرةً مع الفضيلة التامة في الأدب والمشاركة مع غيره وامتدح الخلفاء والملوك والأعيان وأقام بالموصل عند صاحبها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ ولبس زي الجند وشعره في نهاية الجزالة والرقة وجودة المعاني فمنه ما نظمه ليكتب على مشط للملك العزيز صاحب حلب رحمه الله تعالى وهو
حللت من الملك العزيز براحة ... غدا لثمها عندي أجل الفرائض
وأصبحت مفتر الثنايا لأنني ... حللت بكف بحرها غير غائض
وقبلت سامي خده بعد كفه ... فلم أدخل في الحالين من لثم عارض
وقال يمدح الملك الناصر داود رحمه الله تعالى.
أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده
تقمر يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده
يا ليته يعد الملال فإنه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده
46ب - يفتر عن عذاب الرضاب حياتنافي ورده والموت دون وروده
واعف عني عفو مقتدر ... أنا عبد مذنب وكفى
برد يذيب ولا يذوب وربما ... أذكى زفير الوجد رشف بروده
لم أنسه إذ جاء يسحب برده ... والليل يخطر في فضول بروده
والصبح مأسور أحد لأسره ... جنح الظلام تأسفاً لفقيده
والليل يرفل في ثياب حداده ... والصبح يرسف في وثاق حديده
ولذاك لم تنم النجوم مخافة ... من أن يعاني الصبح فيك قيوده
بمدامة صفراء يحمل شمسها ... بدر يغير البدر عند سعوده
كأس كأن مدامها من ريقه ... وحبا بها من ثغره وعقوده
مازال يرشفنا شقيقة ريقه ... طيباً ويلثمنا شقيق خدوده
حتى تحكم في النجوم نعاسها ... والتذ كل مسهد بهجوده
ورأى الصباح تخلاً من أسره ... فأتى يكر على الدجى بعموده
قمر أطاع حسن سنة وجهه ... حتى كان الحسن بعض عبيده
أنا في الغرام شهيده ما ضره ... لو أن الجنة وصله لشهيده
يا يوسف الحسن الذي أنا في الهوى ... يعقوبه منى آل داوده
أشكو إليك من الزمان فإنه ... ملك يشيب سطاه رأس وليده
ملك إذا اللاواء لاح لواؤها ... هزمت كتائبها طلائع وجوده
غمرت مواهبه العفاة فأصبحت ... ترجو المواهب من وفود وفوده
آراؤه تغنيه في يوم الوغى ... والسلم عن راياته وبنوده
ملك يسير النصر تحت لوائه ... حتى كأن النصر بعض جنوده
وإذا العدو يحت لدن رماحه ... فبكت ثعالبها بقلب أسوده
من كل أسمر في الملاحم طالما ... عاد الردى مهج الكماة بعوده
غصبت عواملها ظلام نجومه ... والبان قد سلبته لين قدوده
سمر إذ الجبار سام دفاعها ... وردت أسنتها نجيع وريده
عذباتها صفر كوجه عدوه ... بالنصر تخفق مثل قلب حسوده
ملك الآن لنا الزمان وإنما ... داود معجزه بلين حديده
وقال:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا وجنتا وريقه
هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه
وأسمر يحكي الأسمر اللون قده ... غدا راشقاً قلب المحب رشيقه
على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه
أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه
بديع التثني راح قلبي أسيره ... على أن دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جريره ... وفي شفتيه للسلاف عتيقه
يهدد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذوقه
على مثله يستحسن الصب هتكه ... وفي حبه يجفو الصديق صديقه
ولا حل في حي تلوح قبابه ... ولا سار في ركب يساق وسيقه
ولا بات صبا بالفريق وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوار الأقاحي بريقه
47ب - تداويت من حر الغرام ببردهفأضرم في ذاك الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليماني موهناً ... تذكرته فاعتاد قلبي خفوقه
حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه
وأشبه زهر الروض حسناً وقد بدا ... على عارضيه آسه وشقيقه
رآني خيالاً حين وافى خياله ... فاطرق من فرط الحياء طروقه
وأشبهت منه الخصر سقماً فقد غدا ... يحملني كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبي كل حب يهيجه ... وحتام طرفي كل حسن يروقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا لبعد الدار ماجف موقه
ولله قلبي ما أشد عفافه ... إن كان قلبي مستمراً فسوقه
أرى الناس أضحوا جاهلية ودّه ... فما باله عن كل صبّ يعوقه
فما فاز إلا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه
وكتب إليه لغزاً في شبابة:
وناطقة خرساء باد شحوبها ... تكنفها عشر وعنهن تخبر
يلذ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سد منها منخر جاش منخر
فكتب جوابه.
نهاني النهى والحلم عن وصل مثلها ... فكم مثلها فارقتها وهي تصفر
وقال:
كن كيف شئت فإن الله ذو كرم ... وما عليك بما تأتيه من بأس
إلا اثنتين فلا تقربهما أبداً ... الكفر بالله والأضرار بالناس
وقال يمدح الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي
تبدي له في الخد من نبط خط ... واخجل منه القد ما ينبت الخط
ولم ندر لما هز عامل قده ... وصارم جفنيه بأيهما يسطو
هو البدر وافى في الدجى ليل شعره ... يرينا الثريا منه ما حمل القرط
رحيقيّ ثغر بابلي لواحظ ... له سالف كالورد بالمسك مختط
من الترك لا وادي إلا ذاك محله ... ولا داره رمل المصلى ولا السقط
رشيق إلى خاقان يعزى نجاره ... فما مضر الحمراء يوماً له رهط
كليث الشرى في الحرب بساوسطوة ... وفي السلم كالظبي الغرير إذا يعطو
تحف به لين المعاطف مائساً ... فيمنعه ثقل الروادف أن يخطو
حمى ثغره من مشرف القد عامل ... له ناظر ما العدل في شرعه شرط
له حاجب كالنون خط ابن مقلة ... يزينها كالخال في خده نقط
فللبدر ما يثنى عليه لثامه ... وللغصن منه ما حوى ذاك المرط
يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط
كما شبهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا
وليل كجلباب الغراب أدرعته ... إلى أن بدا للصبح في فوده وخط
على محلم الأرساغ مستخضد القرى ... غدا لشواه في ظلام الدجى خبط
كمثل عقاب الجو لما تسرعت ... إلى الصيد من أعلى التباريح تنحط
48ب - سريت به والليل في عنفوانهفما صدني إلا ذوائبه الشمط
لكل رزين في الأمور مجرب ... خفيف على ظهر المطية إذ ينطو
أقول لصحب مدلجين تدرعوا ... جلابيب ليل عن سنا الفجر ينعطو
إذا جئتم أرض العواصم أو بدت ... لكم غرة الشهباء من حلب حطوا
ففي ساحة الملك العزيز فعرسّوا ... فما نافع في غير أبوابه الحط
مليك ينيل الدر بالجود باسماً ... فمن يديه سمط ومن لفظه شمط
فراحته قبض على السيف في الوغى ... ولكن لها في يوم نائله بسط
مليك سما عن كل شكل وأغربت ... مواهبه عن نائل ماله ضبط
إذا أنشد الحرمان أموال غيره ... لمن خيره يسمو النوال فلم ينطوا
فأمواله ما زال ينشدها الندى ... لأية حال حكموا فيك فاشتطوا
وقال:
وافي يخر قوامه غصن النقا ... خذلان مخذول القوام مقرطقا
ومنعم لولا مرارة هجره ... وصدوده لم أدر ما نظم الشقا
دقت معانيه ولكن خصره ... قد زاد في معنى النحول ودققا
بمراشف منها الأماني تشتهى ... ولواحظ منها المنايا تتقى
رشأ لبارق ثغره ولشعره ... الملوى أحببت اللوى والأبرقا
لا غرو أن تصبى منازل رامة ... قلبي فاطرب نحوهن تشوقا
وشفاه مبسمه العقيق وريقه ... ماء العذيب وثغره جذع النقا
وله في مديح قصر شعره:
قصرت شعرك كي تقل ملاحة ... فكساك أبهى الحسن وهو مقصر
وقطعته ليقل عنا شره ... واللائم أقتله القصير الأبتر
وقال:
واضيعة القلب في هوى صنم ... جار على القلب وهو كافره
له عذار أقام في الخد حول ... ين وما حال منه ناضره
والإنماء والعيون مصرفها ... إليه والدمع فيه ماطره
وكيف يزكو نبات عارضه ... وفاتر بالسواد ناظره
وكتب إلى قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل يحيى بن الزكي يصف خطه ويقول:
كتبت فلولا أن ذاك محرم ... وهذا حلال قست خطك بالسحر
فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان دراً فهو من لجة البحر
وقال:
أألقى من صدودك في جحيم ... وثغرك السراط المستقيم
وأسهرني لديك رقيم خد ... فواعجباً أأسهر بالرقيم
وحتام البكاء بكل رسم ... كأن علي رسماً للرسوم
وقال في غلام اسمه حسن:
لحاظ عينيك فاتنات ... جفونها الوطف فاترات
فرق بيني وبين صبري ... منك ثنايا مفرقات
49ب - يا حسن صده قبيحفجمع شملي به شتات
قد كنت لي واصلاً ولكن ... عداك عن وصلك العداة
لم يكن منك لي وفاء ... دنت لهجرانك الوفاة
حيات صدغيك قاتلات ... فما لملسوعها حياة
والثغر كالثغر في امتناع ... يحميه من لحظك الرماة
يا بدر تم له عذار ... بحسنه تمت الصفات
منمنم الوشى في هواه ... يا طالما نمت الوشاة
نبات حل حلاك حسناً ... والحلو في السكر النبات
وقال:
جاء غلامي فشكا ... أمر كميتي وبكا
وقال لي لاش ... ك برذونك قد تشبكا
قد سقته اليوم فما ... مشى ولا تحركا
فقلت من غيضي له ... مجاوباً لما حكى
تريد أن تخدعني ... وأنت أصل المشتكى
ابن الحلاوي أنا ... خل الرياء والبكى
ولا تخادعني ودع ... حديثك المعلكا
لو أنه مسير ... لما غدا مشبكا
فمذ رأى حلاوة ... الألفاظ مني ضحكا
اجتمع بالموصل جماعة من الأدباء منهم ابن الحلاوي - عند - شخص لقبه الشمس فقالوا له أطعمنا شيئاً فقال ما عندي شيء أطعمكم فقال أحدهم الطامع في منال قرص الشمس وارتج عليه ابن الحلاوي كالطامع في مثال قرص الشمس.
ولما توجه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى بلاد العجم للاجتماع بهولاكو ملك التتر كان ابن الحلاوي المذكور في خدمته ولما وصلوا تبريز مرض بها وتوفي في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى وقد ناهز الستين سنة من العمر وقيل أنه توفي بسلماس رحمه الله تعالى.
أحمد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد أبو المعالي موفق الدين ويدعى القاسم أيضاً ومولده في ربيع الأول وقيل في جمادى الأخرى سنة تسعين وخمسمائة بالمداين وتوفي ببغداد هذه السنة بعد أن أخذ التتر لها بقليل وكان أديبا فقيهاً فاضلاًَ شاعراً محسناً مترسلاً مشاركاً في أكثر العلوم وله أشعار كثيرة منها:
أسعد بدير سعيد أيها الساقي ... وامزج وخذ وأعطني من غير إشفاق
من خندريس كأني حين أشربها ... ملسوع هم تحسى كأسد درياق
نار ولكنها للماء عاشقةتزداد من وصله ضوءاً بإشراق 50ب
شجت فألبست الساقي بصبغتها ... ثوباً وألبسنيه ذلك الساقي
تجري الكؤوس فلا تجري محادثة ... مع الذي زاد في همي وأشواقي
لم أقض في عمري الماضي هوى حلب ... يا ليت شعري فهل أقضيه في الباقي
وذي قوام تثنى في غلائله ... مثل القضيب تثنى بين أوراق
نظمت من غزل في حسن صورته ... عقداً تقوم به الدنيا على ساق
يا عقرب الصدغ في الخد الأسيل أما ... لمن لبست شفاء منك أوراقي
وقال وهو بدير ميخائيل بالموصل:
كل الورى فيك حسادي وعذالي ... يا فاقد المثل ما العشاق أمثالي
بكائي وقف عليكم بعد فرقتكم ... لا للوقوف على ربع وأطلال
رضا العواذل سخطي في هواك وفي ... وفاقهم خلف أغراضي وآمالي
يا ساكني دير ميخائيل لي قمر ... لكنه بشر في شكل تمثال
قريب دار بعيد في مطالبه ... غريب حسن وألحان وأقوال
سكرت من صوته لما أشار به ... ما لست أسكر من صهباء جريال
ما رمت أمسك نفسي عند رؤيته ... إلا تغيرت من حال إلى حال
يا ليلتي بفناء الدير لست كمن ... يقول يا ليلتي بالشيح والضال
قد صرت أنشد بيتاً صار لي مثلاً ... لولا وصالك لم يخطر على بالي
لو اشتريت بعمري ساعة سلفت ... من عيشتي معكم ما كان بالغال
وقال أيضاً:
مرحباً بالخيال إذ زار وهناً ... وشفى لوعة المحب المعنى
وقضى حاجة تسر وسرى ... همم القلب عن لبانا ولبنى
كلما قلت قد تسليت عنه ... عادني طيفه وعن ...فعسى
شادن لو بدا يفاخر بدراً ... خجل البدر بالملاحة حسناً
وإذا ما انثنى رأيت كثيباً ... بند القبا يحمل غصناً
ترك الرمح والحسام وأبدى ... سيف لحظ وهز بالقد لدنا
ليلة الدير حيث نسمع لحناً ... حسن النظم ما يقارب لحنا
سعدت ليلة رأيت بها الشم ... س وجنح الظلام ينجاب عنا
بين صرعى محاجر وعيون ... بات بحيهم إذا ما تغنا
أيها الشمس من يقل فيك معنى ... لم يصب فيك أنت كلك معنى
قد نمت جوارح الناس طراً ... أنها صيرت لأجلك أدنا
وله أيضاً:
لحظات طرفك أم شفار مهند ... هزمت جيوش تصبري وتجلدي
ما رنقت عيناك من سنة الكرى ... إلا لشقوة عاشق لم يرقد
عجباً لطرفي لا يزال يعوم في ... ماء الملاحة وهو كالعطش الصدي
ولنور وجهك وهو قد هتك الدجى ... بضيائه إذ ضل فيه المهتدي
يا قاسم العشاق من متقلقل ... سكن الفناء وساكن مستسعد
15ب - ته كيف شئت فحسن وجهك قد غدامتودداً فينا بغير تودد
وكأن خط عذاره في خده ... سيح أذيب على صفيحة عسجد
قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي رحمه الله تعالى أنشدني موفق الدين المذكور له:
قمر عدمت عواذلي في عشقه ... بل ما عدمت تزاحم العشاق
يبدو فتسبقه العيون وإنها ... مأمورة بالغض والإطراق
عيناي قد شهدا بعشقك إنما ... لك أن تقول هما من الفساق
قال وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى صديق له استعمل خاتماً
يمينك تبغض أموالها ... وتهوى شبا القلب الذابل
فكيف استقر بها خاتم ... على كثرة الجود والنائل
لقد كاد يغرق في بحرها ... ولكنه كان في الساحل
أراني جبلت على حبكم ... وتأبى الطباع على الناقل
وقلت لمن كان لي عاذلاً ... الأم الطماعة للعاذل
وقال موفق الدين:
لو يعلمون كما علمت لما لحوا ... في حبه ولأقصروا إقصارا
هلا أحدثكم بسر لطيفة ... دقت إلى أن فاتت الأبصار
حاذت صقال خدوده أصداغه ... فتمثلت الناظرين عذارا
وله أيضاً:
بيت من الشعر في تشبيه وجنته ... لما أحاط به شطر من الشعر
كالظل في النور أو كالشمس عارضها ... خط من الغيم أو كالمحو في القمر
وقال الصاحب جمال الدين عمر بن العديم في تاريخه أنشدني موفق الدين لنفسه
على ليال حلب بعدنا ... مني سلام رائح باكر
وكيف أنسى حاضراً زارني ... فيها وقد طاب لنا الخاطر
قال وأنشدني لنفسه:
تقاسمت بي أقطار البلاد فقد ... أصبحت مجتمعاً في زي منشعب
في القدس عزمي وجسمي في دمشق بلا ... قلب وقلبي مع الأحباب في حلب
وقال يمدح تاج الدين محمد بن حسين الأرموي:
أردد لثامك حتى يستر اللعس ... وقف ليبعد عن أعطافك الميس
أني أغار على حسن حبيت به ... أصابه العين إن العين تختلس
يا غاصب الخشف أوصافاً مكملة ... لم يبق للخشف إلا السوق والخنس
وفاضح البدر إن البدر مقتبس ... في الدهن من خديك يقتبس
معدل الخلق لا طول ولا قصر ... مكمل الخلق لا هين ولا شرس
يصحني حبه طوراً ويمرضني ... فكم أبل من الهوى وأنتكس
حموه عن كل ما يشفي العليل به ... حتى على طيفه من شكله حرس
قد كنت أبصر صبحاً في محبته ... فعاد وهو بعينين كله غلس
52 - مالي وللحب يلهو القلب عن مدحأوصافها فصح أضدادها خرس
كيف الذهول وتاج الدين خير فتى ... خير المديح بخير الناس يلتمس
حبر تفيض به نفس بهمتها ... لم يبق للشر لا روح ولا نفس
نور تلقته نفس منك طاهرة ... لولاه لم يبد فينا ذلك القبس
شاركت في الروح عيسى ما استبد بها ... كلاكما في البرايا روحه قدس
حكمت في العالم العلوي عن نظر ... صاف من الشك ما فكره دنس
ولو رأى منك جالينوس معجزةً ... ما قال في الكل إن الأمر ملتبس
وكاد يؤمن بقراط الحكيم بما ... يلقى إليه ولا يرتاب برقلس
وحومة مزجت شكا جوانبها ... فما درى الحبر فيها كيف ينغمس
أعيي الخواطر فيها حادث جلل ... وأستعبد النطق في أرجائها الخرس
حتى إذا جاء تاج الدين فرجها ... يغضى البيادق مهما عدت الفرس
وله في رجل جعل عارض الجيش بغداد وخرج من دار الوزير وعليه خلعة جديدة فعانقه موفق الدين وقبله وأنشده:
لما بدا رائق التثني ... وهو بأثوابه يميد
قبلته باعتبار معنى ... لأنه عارض جديد
وقال:
يا هاجري لما رأى شغفي به ... ما كان حق متيم أن يهجرا
إن الذي خلق الغرام هو الذي ... خلق السلو فلا يغرك ما ترى
وقال:
أفدي الذي زارني والخوف يقلقه ... يمشي ويكمن في العطفات والطرق
قبلت أطراف كفيه على ثقة ... من منّه وخديه على فرق
وكان في أخريات السمر مضطرباً ... إذا أراد انتظام اللفظ لم يطق
لله ما أحسن الصهباء منعمةً ... علي إذا علمته طيبة الخلق
أهدت إليه سروراً نلت معظمه ... كالفعل ينصب مفعولين في نسق
وقال:
لو عاد وصلك لي لما عد الزمن ... واحسرتا مضت الشبيبة والسكن
لم ألق إلا من يذم زمانه ... قبل الممات فهذه الدنيا لمن
وقال:
معقل الحسن في محياك لا يطم ... ع فيه والثغر ثغر محصن
قد حماه عن الوصول إليه ... حاجب مقفل وصدغ مزرفن
وقال:
اللؤم فيك لجاجة من عاشق ... وافى يخادعني بلفظ العاذل
53 - ب ما كنت مجهولا لديه فلم أقلأمط اللثام عن العذار السائل
تولى موفق الدين المذكور قضاء المداين في أيام الإمام الظاهر بأمر الله رحمه الله ثم أنتقل إلى بغداد وصنف كتاباً سماه الحاكم في اصطلاح الخراسانيين والعراقيين في معرفة الجدل والمناظرة وتولي كتابة الإنشاء وغير ذلك رحمه الله.
أسعد بن إبراهيم بن حسن بن علي أبو المجد مجد الدين الشيباني الأربلي النشابي ولد بأربل في صفر سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة كان في أول أمره يعمل النشاب فنسب إليه وبقيت النسبة عليه ولما كبر سافر من أربل وتنقل في بلاد الجزيرة الفراتية والشامية ثم عاد إلى أربل وتولى كتابة الإنشاء لملكها الملك المعظم مظفر الدين أبي سعيد كوكنوري ابن الأمير زين الدين علي بن بكتكين والظاهر أن ذلك كان في حدود سنة ثمان وعشرين وستمائة ولما توجه مظفر الدين إلى بغداد في سنة ثمان وعشرين وستمائة كان في خدمته ودخل مظفر الدين على الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور ابن الإمام الظاهر بأمر الله وهو بين يديه في نفر يسير من خاصته في يوم دخولهم بغداد ولما رفع الحجاب وقبلوا الأرض بين يديه تقدم المجد وقال:
جلالة هيبة هذا المقام ... تحير عالم علم الكلام
كأن المناجي به قائماً ... يناجي النبي عليه السلام
ولو كشف الخطا لرأينا الملائكة بك حافة ووجدنا الروح الأمين يجدد تلاوة الوحي المنزل على أبن عم النبي المرسل ويقول هذا أكرم الخلفاء وصلاة الله وسلامه يخصان الأكرم الأفضل.
ولو جمع الأئمة في مكان ... وأنت به لكنت لهم إماماً
فالله تعالى يؤيد هذه الدولة الشريفة بنصره ويرد كيد عدوها في نحره، ولما تولى وزارة أربل شرف الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن حرب عرف بابن الموالي الموصلي وغالب الظن أن ذلك كان في سنة ثلاث وعشرين وستمائة أو ما يقاربها عمل فيها المجد المذكور وكان إذا حضر إلى الديوان يصبح الجاويش له
فرحنا وقلنا تولى الوزير ... وأفلح ديواننا بالوزارة
فما زادنا غير جاويشه ... وفي كتابنا كتب بالإشارة
وكان قد وقع اختلاف بين الأخوين البدر الكامل محمد والملك الأشرف موسى بن الملك العادل والكامل يومئذ صاحب مصر والأشرف صاحب بلاد الشرق وخلاط فمال ملوك الشام والشرق إلى الكامل وتحاملوا على الأشرف فقال المجد المذكور في ذلك:
صاحب مصر ثنى الملوك عن الأش ... رف من كل مسعد عون
واحتج كل به فقلت وهل يؤ ... خذ موسى بذنب فرعون
وعمل المجد المذكور في شرف الدين أبي البركات المبارك بن أحمد بن موهوب وزير اربل وصاحب تاريخها المكين ويعرف في اربل بابن المستوفي قال:
إن المبارك فيه توقف ولجاجه ... صديقه أنت ما لم تعرض إليه بحاجة
وأهدى المجد المذكور إلى شرف الدين المذكور في بعض الليالي طبقاً فيه تفاح مخضب وسفرجل على يد غلام وكان جميل الصورة فوصل إليه وعنده جماعة منهم الحسام عيسى بن سنجر الدين بهرام الحاجري فعمل كل واحد من الحاضرين في ذلك شعراً فعمل الحاجري:
أهدى لنا المجد تفاحاً وأحمره ... من خد من حمل التفاح مسترق
وللسفرجل من أعلاه رائحةً ... يضوع منها لمهديه ثنى وعبق
فظلت أعجب من حالين كيف حوى ... وصف الغلام ووصف السيد الطبق
ولم يزل المجد على رياسته وكتابته إلى أن نقم عليه مخدومه مظفر الدين فأخذه واعتقله في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وستمائة في قلعة يقال لها الكرخيني من أعمال أربل بينها وبين بغداد ولم يزل محبوساً بها إلى أن مات مظفر الدين رحمه الله في شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة وأرسل الخليفة عسكره فأخذوا أربل وأفرجوا عن المحابيس فكان المجد في جملة من خلص وذلك في شوال من السنة فخرج وتوجه إلى بغداد وتنقل في خدمها إلى أن استولى التتار عليها في صفر هذه السنة وقتلوا من ظفروا به وكان المجد في جملة من استخفى فسلم وخرج بعد سكون الفتنة ومات في بقية سنة سبع وخمسين وستمائة رحمه الله .
ومن شعره:
ولما رأى بالترك هتكى ورام أن ... يكتم منه بهجة لم تكتم
تشبه بالأعراب عند التثامه ... بعارضه يا طيب لثم الملثم
شكا خصره من ردفه فتراضيا ... بفصلهما بند القباء المكتم
ورد جيوش العاشقين لأنه ... أتاهم بخط العارض المتحكم
وقال:
تقلد أمر الحسن فاستبعد الورى ... وراحت له الأفكار تنظم ديوانا
وعامله ولي على القلب ناظراً ... فأصبح لما حل بالقلب سلطانا
غدا باحمرار الخد للحسن مالكاً ... ومن فيه أبدى للتبسم رضوانا
فأبدى لنا من ثغره ورضا به ... وعارضه راحاً وروحاً وريحانا
55 - برأى خده ميدان حسن وخاله به كرة فأستعطف الصدغ جوكانا
أجل نظرا في خده يا معنفي ... تجد فيه من إنسان عينك إنساناً
وقل لأسيلات الخدود أتيتنا ... تخاد عننا في الحب كان الذي كانا
وقال:
والأفق روض زهره ... يفتح لي كمامه
قبضت به كف الثريا ... فالهلال لها قلامه
والقلب من طعن الشمال ... برمحه فيه علامه
وأغن يشهد أن ريق ... ته الطلى عود البشامه
يصمى القلوب إذا رمى ... باللحظ يا رب السلامه
وقال من أبيات:
والبرق يخفق في خلال سحابه ... خفق الفؤاد لموعد من زائر
وقال من أبيات أيضاً:
كأن ائتلاف البرق من جنباتها ... سلاسل تبر أو سيوف قواضب
وكان مجد الدين المذكور من الفضلاء الرؤساء الأعيان غير أنه كان مذموم المعاملة لأهل بلده ومعارفه لا ينصفهم في الوداد ويتكبر عليهم فهجاه غير واحد بأهاجي قبيحة أضربنا عن ذكرها كان صدر الدين بن نبهان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى صديق عارض الجيش ببغداد فعزل - 56 ألف - ثم صار صدر الدين صورة وزير الأمير شجاع الدين العزي فتوفي العزي فاتصل الصدر بعده بالملك فتح الدين ذكري رحمه الله فخرج فتح الدين من بغداد مغاضباً فعمل مجد الدين النشابي في ذلك .
رجل ابن نبهان الأعيرج شؤمها معلوم ... ما دار قط بأحد الألقي المحتوم
قلع ملك وعزل عارض بهذا الشؤم ... وعاد جرر زعيمه مبعراخت البوم
وله يمدح الملك المنصور زنكي ابن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود ابن زنكي رحمه الله .
يا لقومي قد جئتكم مستجيراً ... لا أرى منكم ولياً نصيرا
أنا ما بين عاذل ورقيب ... منهما خلت منكراً ونكيرا
بابي شادن تبدي فأبدي ... من محياه بهجةً وسرورً
وعذار في ذلك الخد أبدى ... ببها الحسن جنةً وحريرا
وثنايا كأنها من لجين ... قدروها في ثغره تقديراً
لا رعى الله يوم زموا المطايا ... أنه كان شره مستطيراً
أودعوا حين ودعوا الصب وجدا ... وتناءوا والقلب يصلي سعيراً
واسألوا الدموع من نرجس غض على الخد لؤلؤاً منثورا
فغدا الصب يرتضى الحب ديناً ... ويرى ناظر السلو حسيراً
وهدى قلبه السبيل فإما ... صابراً شاكراً وإما كفورا
صم سمعي عن الكلام كما ص ... رت بمدحي زنكي سميعاً بصيرا
ملك أشرقت به ظلم الده ... ر فأضحى لنا سراجاً منيرا
وأرانا نواله وسطاه ... فرأينا منه بشيراً نذيرا
كل ساع داع له بدوام ال ... ملك ما زال سعيه مشكورا
كم سقى سيفه شراباً حميماً ... وسقى سيبه شراباً طهورا
سرح الطرف في ذراه ترى ث ... م نعماء وملكاً كبيرا
لم ير النازلون في ظله المغمو ... ر شمساً يوماً ولا زمهريرا
ويبيح الطعام والمال كم ع ... م يتيماً بزاده وأسيرا
قسم الدهر بين بأس وبذل ... فدعوناه سيداً وحصورا
إذ يعفى العفاة منه أجوراً ... يقذفون العداة منه دحوراً
وله في أصحاب الديوان:
قد قسمنا الديوان خمسة أقسا ... م عليها لكل قول دليل
رب حق فلا يطاع ومنسو ... ب إلى الظلم قوله مقبول
ثم شخص كأنه الحرف في النح ... و وفلا فاعل ولا مفعول
ومصر على التحيف والظلم ... بعيد عن الصواب جهول
وأخو حاجة يمشي أحوا ... لاً لديه أن جاءه البرطيل
أتراهم لم يعلموا أن كلاً ... منهم عن فعاله مسؤل
وله وقد حبس وزير أربل جماعة الديوان لعمل الحساب .
جماعة الديوان في ... ليلة شحط مظلمه
وقد غدت أيدي الوز ... ير منهم منتقمه
لا رحم الله الذي ... يرحم قوماً ظلمه
وقال في المعنى:
جماعة ديواننا أصبحوا ... وهم في العذاب لسوء الحساب
فإن يرجو الوزير الثواب ... فقتلهم من جزيل الثواب
وقال لما حبس يعقوب النصراني مشرف ديوان أربل وتولى المختص النصراني مكانه .
فرحنا بيعقوب اللعين وحبسه ... وقلنا أتانا ما يطيب به القلب
فلما ولي المختص فالشر واحد ... إذا ما مضى كلب أتى بعده كلب
وكتب إلى مؤيد الدين وزير بغداد هذه نهاية أقدام على غاية أنعام وهداية أقلام إلى أعلام،أعلام . وفاتحة حمد . إلى خاتمة مجد، يتشعب منها شعب الإرجاء، إلى ابنة شعيب الرجاء، وقد جاءت تمشي على استيحاء، إلى عصم تأوى الطريدة، يبتغي غضارة عيدان السماحة، والمجد عرض يعرضها عارض مستمطر ألوية، وحامل ألوية، وكافل أدعية، لا يلوى إلى طمع، ولايأوى إلى طبع، يعتصم من طوفان الحرض لجودي العفاف، ويرهب الخشع بسطوة الكفاف.
إذا قيل هذا منهل قيل قد رأى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل سقم دليل
اللهم غفرا من دعوة تفقر إلى برهان وقول لا يترجح له ميزان إلا بعيار الامتحان
زنى القوم حتى تعلمي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل
فلا لا بعدها أن والت قريحة عاثرة أو تأولت بصحة قاصرة وهاهو مستدرك فارط ما أخره من حقوق خدم لو قدمتها لأضاءت شاكلة الصواب ومستغفر من زلة قهره إقدام مدح يرجو أن يدخل عليه مليكه العذر به من كل باب ولئن بقيت وإن بقيت لتسمعن مدحا تخب بها الرواة وتوجف حتى يقال صام نهار أدبه وغسق ليل هيدبه ولسعسع فم طرسه وجاء في عسه وبسه لتعدو أنفاسه علة مضغة من أرض الفلا وألوية مقاصده في الإطراء على تلك الآلاء كالعقاب العسراء يتلقى كل رائة منها عرابة مجد بيمين حمد يحف بذلك الموكب المؤيدي والنادي الندي ما لها كتيبة ثناء يقال معها جاء محمد والخميس وجحفل إطراء ينادي به الآن حمي الوطيس
واعتذاري إليك فرض وإن ك ... نت بريئاً لعظم قدرك عندي
وقد كان يجب على هذا العبد المقصر أن يرفعه في كل يوم بل في كل ساعة حدبه يقف بها كوقوف ابن حجر الكندي وطرفة العبدي وعمرو بن معد والنابغة في السؤال والأعشى بالأطلال والطائي ومديح للانه والشحيح الذي ضاع في الترب خاتمه بل كوقوف عبد المسيح على سطيح ووقوف وفد العرب باليمن على سيف ابن ذي يزن
وكنت جديراً حين أعرف منزلاً ... لآل سليمى أن يعنفني صحبي
وما صده عن مخاطرة الخاطر واقتحام حومة أقوال العواذل والعواذر سوى التحرز من الأستمهان والتهجم بنفاق ما قد كسد في هذا الزمان.
ولما تمادى قلت خذها عريقة ... فإنك من قوم جحاجة زهر
ولقد ناجاه فكره بهذه المناجاة وثقة ظنه بسلوك سبيل هذا النجاة متيقناً أن تلك الألمعية التي تدرك الأشياء بعين التحقيق وتنظر المغيبات من وراء ستر رقيق لا يخفى عنها لمن أولى من ولى وجه صدق يعيده إلى شطر تلك القبلة واستمسك بالعروة الوثقى من تلك الكعبة ودخل في زمرة الداخلين للسلام وزاحم في تلك الكتاب الكريم؟ لا يكاد يخلص من كثرة الزحام ولو ظفرت بلقياه لشاهدي وكل حاجة لي في الثناء فم لكنه علم أن ظاهر أمره يغنيه عن اعتذاره وإيثاره سد باب القول يبعث ذوي المكارم على المسامحة بهذا الإيثار
ومن يغو في امرأتاه فإنه ... إلى أن يصيب الرشد في الأمر جاهد
وهو كالطبيب الذي يرى حفظ الصحة على وجهين أحدهما ما يوافق الإنسان والثاني ما يضر بالأبدان وكمال الطب هو العلم بحفظ الصلاح وموضوعه التحرز من الخلل قبل وقوعه وأن آخره قدر عن مثوله بجسمه فإنه يرسل كل يوم قلبه إلى ذاك الباب العالي فيعود على بينة من علمه وربما سمع النداء أو وجد على النور هدىً ولو لا أن القلوب تنتقل من مكان إلى مكان لما قيل أنها بين إصبعين من أصابع الرحمن وهذا قول له عند أخوان الصفا مثل معروف وكذلك قيل لسارية الجبل حتى كشف ما لم يكن لغيره بمكشوف وهاهو العبد يحافظ على شريعة تلك المحامل التي هي غير منسوخة ولا مبدلة ولا مستعارة ولا مهملة إذ لابد لكل شريعة من حافظ إما أن يكون معصوماً أو غير معصوم فإن كان معصوماً
فهو المطلوب وإن لم يكن معصوما كان عنده القوة وأمانة وحفظ قام مقام العصمة وبيان ذلك بالامتحان والتكلف لإثبات الحكمة فإن قيل ما الواسطة أيها المدعي في إقامة البرهان على أقدار هذا الصاحب الألمعي والصدر اللوذعي حتى تعاطيت ولاء الولاء ونصبت على التمييز والإغراء ورفعت الخبر والابتداء وشاركت حمزة والكسائي في إعدام اللام في الراء ولم تواط على الإيطاء ولا أسندت إلى النادي رواية الأكفاء ولا نكلت قوة وقيل عن الإقواء ولهجت بعروض شكره في كل مكان كأنه الضرب الكامل في الأوزان هذا ولم يخرجوا ذا ملك في مضار فضله ولا ضربت معلا قداحك لدى وارف ظله ولو نسي لك ذلك لكانت حياض بلاغتك بمر لهجة مترعة ورياض فصاحتك بأوصافه بمرعة وقد وجدت مكان القول ذا سعة.
وما على مادح أطراه من تعب ... فمدحه قبل نظم الشعر ينتظم
وقال يمدح الإمام المستنصر بالله أبا جعفر المنصور ويشير إلى ذكر الخلفاء:
الجد يرتع في المقام الأفخر ... والعز يرتع في الجانب الأخضر
والدهر من بعض القطوب بدا لنا ... يزهو كوجه الضاحك المستبشر
وتجلت الدنيا على أبنائها ... تدعو بحي على الفلاح الأكبر
وغدا بها الإسلام يحمل رايةً ... سوداء راية منذر ومبشر
أعلى الأئمة من سلالة هاشم ... قدراً وأشرف محتداً من عنصر
ورث النبوة طاهراً عن طاهر ... إرثاً ينزه عن مقالة مفتري
وبحقه أرث اللواء وبرده ... وحسامه وقضيبه والمنبر
وإذا رأى الراؤن نور جلاله ... لم تلق غير مهلل ومكبر
أعطى إلى أن قالت الدنيا قد ... وحبا إلى أن قال سائله اقصر
جمعت مكارمه الشراق جميع أو ... صاف الخلائق مفخراً عن مفخر
فبكل وصف منه نعت خليفة ... كالفعل شق ثنائه عن مصدر
فنوا له السفاح والمنصور كالمن ... صور سيدنا الإمام الأنور
مهدي هذا العصر والهادي إلى ال ... أمر الرشيد بنور هدى مبصر
وأمين أمة أحمد وإمامها ... حقاً ومأمون لها في المحشر
لو بي بمعتصم به من واثق ... من فضله بأواصر لم تخفر
كم مقتر أضحى على أنعامه ... متوكلاً أمسى بمال مكثر
لم يرض منتصر ببعض عبيده ... أن شبهوه بتبع في حمير
ما بات غير المستعين بعزه ... في جنة من جوده أوعبقري
لو شاء معتز به أن يملك ال ... دنيا رأها خاتماً في خنصر
نصب الصراط المستقيم لمهتد ... وأفاض نائله العميم لمعتر
ولكل معتمد يداً لم تقتر ... ولكل معتضد يداً لم تقهر
والمكتفى بعزيمة من بأسه ... يطأ البلاد بكل ليث مخدر
مازال مقتدر المرامي وقاهرال ... أعداء بالجد السعيد الأطهر
فالله راض بالذي يرضى به ... إن قال خلق غير هذا يكفر
فرضاه تقوى المتقي ولكل مس ... تكف بنائله كنور الأبجر
فاز المطيع له فطائع أمره ... يوماً متى أصفى السريرة يؤجر
ملك البلاد فكان اقدر قادر ... وبحكمه قد دان كل مقدر
ما شأنه إذ كان قائم هديه ... متقدما في عصره المتأخر
فالمحتذى من وجوده المتوفر ... كالمقتدي بعلائه المستظهر
وإذا استقل بقوة مسترشد ... وجد الهداية مثل لمحة منظر
هو راشد للمقتفي ومساعد للمعتفي ... ومعاند للمجتري
هذا الذي أضحى الزمان بعزمه ... مستنجداً في الحادث المستكبر
وإذا ادلهم الخطب كان مناره ... للمستضيء ضياء صبح مقمر
لله سيف منه ناصر دينه ... وبغيره دين الهدى لم ينصر
فاليوم برهان النبوة ظاهر ... بخلافة المستنصر المستبصر
ومنها في ذكر الوزير مؤيد الدين:
سلطان كل معمم ومطيلس ... ومليك كل متوج ومسور
ورد مجد الدين المذكور دمشق سنة أربع وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى ذكر عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله تعالى أنه شيباني ورأيت بخط كمال الدين أحمد بن العطار أنه أنصاري والله أعلم.
إسماعيل بن محمد بن يوسف بن عبد الله أبو إبراهيم برهان الدين الأنصاري الأندلسي إمام الصخرة كان رجلاً صالحاً كثير الخير والعبادة أخبر عن بعض الأولياء المجاورين بيت المقدس أنه سمع هاتفاً يقول لما خرب القدس.
إن يكن بالشآم قل نصيري ... ثم خربت واستمر هلوكي
فلقد أتيت الغداة خرابي ... سمر العار في حياة الملوك
توفي البرهان إسماعيل المذكور ليلة الخميس الثالث والعشرين من المحرم بالقدس رحمه الله تعالى.
بكتوت بن عبد الله الأمير سيف الدين العزيزي أستاذ دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله كان من أكبر الأمراء بالدولة الناصرية وله الحرمة الوافرة والمكانة العالية والمهابة الشديدة ويده مبسوطة وآمره نافذ في المملكة وبيده الإقطاعات العظيمة وله الأموال الجمة والخيول والجمال والمواشي الكثيرة وغير ذلك ظاهر التجمل شجاعاً حسن السياسة والتدبير مليح الصورة بهي الشكل وكان مجرداً في الجهات التي قبلي دمشق فتوفي هناك ودخل غلمانه وحاشيته دمشق بالأعلام المنكسة والسروج المقلبة على الخيول المهلبة ومماليكه وقد قطعوا شعورهم ولبسوا المسوح السود فكانت صورة مؤلمة مبكية ووجد له من الحواصل ما لا يوصف وسمعت أنه سم وأن الذي تولى ذلك عز الدين عبد العزيز بن وداعة وأنه سمه في بطيخة خضراء وكان سيف الدين المذكور يحب البطيخ الخضر ويجلي إليه حيث كان فاتفق أني سألت حسام الدين اتش العزي رحمه الله أستاذ دار ابن وداعة إذ كان متولياً قلعة بعلبك عن ذلك فأنكر أن يكون أستاذه فعله بل قال أن الملك الناصر سير أستاذي في بعض المهمات فلما أجتاز بالعسكر قصد خدمة الأمير سيف الدين السلام عليه فقال له الأمير سيف الدين معك بطيخ أخضر؟ قال فعاد إلى خيمته وجهز له بطيخاً أخضر وغيره من هدية دمشق فأكل البطيخ وأمعن واتفق تغير مزاجه ومرضه ووفاته فقال الناس ما قالوا والله أعلم بالجملة فكان الأمير سيف الدين جليل المقدار من أركان الدولة ومنذ توفي حصل الخلل وتغير أحوال الدولة الناصرية رحمه الله تعالى.
الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك وهو عمرو بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن القاسم بن علقمة بن نصر بن معاذ بن عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه أبو علي صدر الدين القريشي التيمي البكري النيسابوري الأصل الدمشقي المولد والمنشأ مولده بدمشق بكرة الحادي والعشرين من المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة سمع من خلق كثير في بلاد متعددة وحصل كثيراً من الكتب وكتب العالي والنازل وكان حافظاً مغرماً بهذا الشأن وخرج تخاريج عدة وشرع في جميع ذيل التاريخ الذي بدمشق وحصل منه أشياء حسنة ولم يتمه وعدم بعده وكان عنده رياسة وفضيلة تامة وولي حسبة دمشق وسيره الملك المعظم عيسى بن الملك العادل إلى الشرق برسالة إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه ملك العجم باطناً وأظهر أن توجه ليحضر ماء من عين من تلك البلاد منن خاصية ذلك الماء أنه إذا حمل في قوارير زجاج وحمل على الرماح تبعه نوع من الطير يفني الجراد وكان قد حصل بالشام جراد كثير لم يعهد مثله فتوجه وصحبه جماعة صوفية واجتمع بجلال الدين منكيرني خوارزم شاه وقرر معه الاتفاق مع الملك المعظم وتعاضد به واستحلفه له وكان سبب ذلك أن الملك الكامل والملك الأشرف اتفقا على الملك المعظم فأراد أن يحصل له من يعتضد به وكان السلطان جلال الدين مجاوراً لخلاط وبلاد الملك الأشرف في الشرق فلما أبرم صدر الدين ما توجه بسببه أحضر الماء المطلوب على الصورة المقترحة وعاد إلى دمشق وكان الجراد قد قل فلما عاد البكري كثر فعمل الناس في ذلك الأشعار وظهر الناس ما توجه بسببه في الأمر وعلم الملك الكامل والملك الأشرف ذلك ولما عاد البكري ولاه الملك المعظم مشيخة الشيوخ مضافا إلى الحسبة ولهذا صدر الدين خانكاه بدمشق تعرف قيسارية الصرف وكانت وفاته في ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة ودفن بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
الحسين الدين إبراهيم بن الحسين بن يوسف أبو عبد الله شرف الدين الهذباني الكوراني الأربلي الشافعي الصوفي اللغوي مولده في يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمسمائة قرأ الأدب عن جماعة منهم الشيخ تاج الدين الكندي وسمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وعمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله المهرواني اليميني الكندي وآخرين وحدث بدمشق وغيرها وكان من الفضلاء المشهورين وأهل الأدب المذكورين عارفاً بما يروم حسن الأخلاق لطيف الشمائل كثير المحاضرة بالحكايات والنوادر والأشعار وسمعت عليه كثيراً من مروياته بدمشق وبعلبك وكانت وفاته رحمه الله عصر يوم الجمعة بدمشق ثاني ذي القعدة ودفن من الغد بمقابر الصوفية ظاهر دمشق رحمه الله تعالى.
داود بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن قابس بن حابس بدمشق مالك بن عمرو بن معد يكرب أبو المعالي عماد الدين زبيدي المقدسي الأصل الدمشقي الدار والوفاة الشافعي مولده بدمشق في ثاني عشر شوال سنة ثمانين وخمسمائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وخطب بجامع دمشق مدة وأم الناس وخطب بجامع بيت الآبار وكان معروفاً بالإصلاح والتعبد وتوفي في حادي عشر شعبان ودفن من الغد رحمه الله تعالى.
داود بن عيسى بن أبي بكر بن محمد بن أيوب بن شادي أبو المظفر وقيل أبو المفاخر الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين ولد الملك الناصر المذكور في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة ولما ولد سماه الملك المعظم إبراهيم وأخبر والده الملك العادل بذلك فقال أخوك اسمه إبراهيم يشر إلى الملك الفائز فقال ما ترسم إن اسميه فقال سمه داود فسماه فلما حج الملك المعظم في سنة إحدى عشر وستمائة واجتاز بالمدينة صلوات الله وسلامه على ساكنها تلقاه أمير المدينة وخدمه خدمة بالغة وقال له يا خوند أريد أن افتح لك الحجر الشريفة لتزور زيارة خاصة لم ينلها غيرك فقال معاذ الله أن أتهجم وأقدم على هذا والله إني في طرف المسجد وأنا رجل من أساة الأدب فإني أخبر بنفسي ومثلي لا ينبغي له أن يداني هذا المقام الشريف إجلالاً له وتعظيما فرأى بعض الصلحاء النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له قل لعيسى إن الله قد قبل حجه وزيارته وغفر له ولام إبراهيم لتأدبه معي واحترامه لي وأما هذا معناه فحضر ذاك الرجل إلى الملك المعظم وقص عليه الرؤيا بمحضر من خواصه فبكى الملك المعظم لفرط السرور فلما قام من عنده قال ما أشك في صدق هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى فقال له خواصه لكن ما يعرف لك ولد اسمه إبراهيم وحكى لهم صورة تسمية الملك الناصر أولا بإبراهيم وأنه هو الاسم الذي وقع عليه أولاً ونشأ الملك الناصر في حياة أبيه ملازماً للاشتغال بالعلوم على اختلافها وشارك في كثير منها وحصل منها طرفاً جيداً وسمع بالشام والعراق من جماعة منهم محمد بن أحمد القطيعي وغيره وكانت له إجازة من أبي الحسن المؤيد ابن محمد الطوسي وغيره وحدث وسأذكر من أحواله وأخباره وأشعاره وترسله ما يعلم به معظم أمره إن شاء الله كان الملك المعظم عيسى رحمه الله خلف من الولد عدة بنات وثلاثة بنين الملك الناصر أكبرهم فملك دمشق وسائر مملكة أبيه في عشر ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة واستقل بذلك.
وفي سنة خمس وعشرين وصل عماد الدين بن الشيخ من مصر إلى دمشق ومعه ابن جلدك بالخلع والتغايير على الملك المعظم من الملك الكامل.
وفي سنة ست وعشرين خرج الملك الكامل لقصده وانتزاع دمشق منه فسير الملك الناصر فخر القضاة بن بصاقة إلى الملك الأشرف يستصرخ به فحضر الملك الأشرف إلى دمشق لنصرته ونزل في بستانه بالنيرب فجرت أمور يطول شرحها لأن الملك الأشرف تغير عليه ومال إلى الملك الكامل وفارق الملك الناصر وتوجه إلى الملك الكامل ووصل إلى بيسان فلما بلغه وصول الملك الأشرف رجع إلى غزة وقال أنا ما خرجت على أن أقاتل أخي الملك الأشرف فلما بلغ ذلك الملك الأشرف قال للملك الناصر داود الملك الكامل قد رجع حردان والمصلحة أنني ألحقه وأسترضيه وأقرر القواعد معه وأما الملك الكامل فإنه نزل غزة وكان الأنبرور قد نزل الساحل بمقتضى مراسلة قديمة كانت من الملك الكامل إليه في حياة الملك المعظم فلما حضر على تلك القاعدة بجموعه بعد موت المعظم سير إلى الملك الكامل وقال له أنا قد حضرت بقولك وعرفت أن غرضك قد فات ومعي عساكر عظيمة وخلق كثير وما بقي يمكنني الرجوع على غير شيء فحدثني حديث العقال حتى أرجع إلى بلادي فقال الملك الكامل إيش تريد قال تعطينا القدس وترددت المراسلات بينهما أشهراً فاقتضى رأي الملك الكامل تسليم القدس - 64ألف - دون عمله وحصل الرضا بذلك فلما تردد الفرنج للزيارة اغتيل منهم في الطريق من انفرد فشكوا ذلك إلى الملك الكامل فأعطاهم القرايا التي على طريقهم من عكا إلى القدس ووقع الصلح والاتفاق على ذلك وحضر بعد إبرام الصلح مع الفرنج على هذه القاعدة لحصار دمشق فحصرها وأخذها على ما سنذكر إن شاء الله تعالى ولما اجتمع الملك الأشرف والملك الكامل اتفقا على انتزاع دمشق من الملك الناصر وأن يأخذها الملك الأشرف وينزل عن بلاد في الشرق عينها الملك الكامل ووقع الاتفاق عليها فحضرا لحصاره بعساكرهما وحصراه مدة أربعة شهور وتسلما دمشق في غرة شعبان سنة ست وعشرين وأبقى عليه قطعة كثيرة من الشام منها الكرك وعجلون والصلت ونابلس والخليل وأعمال القدس لأن القدس كان سلم إلى الأنبرور قبل ذلك سوى عشر قرى على الطريق من عكا إلى القدس فإنها سلمت إلى الفرنج مع مدينة القدس وأخذ منه الشوبك فبكى بين يدي الملك الكامل عليها فقال الملك الكامل أنا مالي حصن يحمي رأسي وأفرض أنك وهبتني إياه فسكت وخرج الملك الناصر بأمواله وذخائره جميعها وتوجه إلى الكرك والبلاد التي أبقيت عليه وعقد على عاشوراء خاتون ابنة الملك الكامل شقيقة العادل بن الكامل سنة تسع وعشرين وبقي على ذلك مدة ثم تغير عليه الملك الكامل تغيراً مفرطاً وأعرض عنه إعراضاً كلياً و والزمه طلاق ابنته ففارقها قبل الدخول بها في سنة إحدى وثلاثين وكان سبب تغيره عليه أن الملك الكامل قصد دخول الروم والاستيلاء على ممالكه وكان ملك الروم إذ ذاك السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو فنوجه الملك الكامل وصحبته الملوك بستة عشر دهليزاً الملك الأشرف مظفر الدين موسى والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين والملك الصالح عماد الدين إسماعيل والملك الحافظ نور الدين رسلان شاه ابن صلاح الدين بعسكر حلب والملك الزاهد محيي الدين داود بن صلاح الدين صاحب البيرة وأخوه الملك المفضل قطب الدين صاحب سميساط والملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غازي صاحب عين تاب والملك المظفر تقي الدين - 65 ألف - محمود صاحب حماة والملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وغيرهم وسير صاحب الروم إلى الملك العزيز صاحب حلب يقول أنا راض بأن تمده بالرجال ولا تنزل إليه أبداً وأعفاه الملك الكامل من النزول فرضي الملكان بفعله ثم تقدم الملك الكامل بالعساكر إلى الدربند فوجد السلطان علاء الدين قد حفظ طرقاته بالرجال وهي طرق صعبة متوترة يشق سلوكها على العساكر فنزل الملك الكامل على النهر الأزرق وهو في أوائل بلد الروم وجاءت عساكر صاحب الروم وصعدت رجالاته إلى فم الدربند وبنوا عليه سوراً وقاتلوا منه وقلت الأقوات في عسكر الملك الكامل جداً ثم نمى إلى الملك الأشرف والملك المجاهد صاحب حمص أن الملك الكامل ذكر في الباطن أنه أن ملك بلاد الروم نقل سائر الملوك من أهل بيته إليها وانفرد بملك الشام مع الديار المصرية فاستوحشا من ذلك وإطلاعاً ملوك البيت الأيوبي فتغيرت نيات الجميع واتفقوا على التخاذل وعدم النصح فلما أحس الملك الكامل منهم بذلك مع كثرة الغلاء
وامتناع الدربند رحل بالعساكر إلى أطراف بلاد بهنسا وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدمه ووصل إلى خدمته صاحب - 65 ب - خرتبرت داخلاً في طاعته وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت فجهز معه الملك المظفر صاحب حماة والطواشي شمس الدين صواب العادلي وكان من أكبر الأمراء وفخر الدين البانياسي في ألفين وخمسمائة فارس فوصلوها جرائد بغير خيم فعند طلوع الفجر أقبلت عساكر الروم في اثني عشر ألف فارس مقدمهم القيمري وضربوا معهم مصافاً من أول النهار إلى آخره وظهر عسكر الروم ودخل الملك المظفر وشمس الدين صواب وفخر الدين البانياسي قلعة خرتبرت مع صحابها ونزل باقي العسكر في الربض فزحف عسكر الروم وملكوا الربض عنوة و أسروا أكثر من كان فيه من العسكر الكاملي ثم وصل السلطان علاء الدين في بقية عساكره وأحدقوا بالقلعة ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقاً وحصروها أربعة وعشرين يوماً وقل الماء والزاد من عندهم فطلبوا الأمان فأمنهم صاحب الروم وتسلم القلعة وما معها من القلاع وكانت سبعاً وتلقى الملك المظفر ومن معه أحسن ملتقى ونادمهم وخلع عليهم وقدم لهم التحف الجليلة وكان نزولهم من القلعة يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين فكان ذلك من أكد مقدمات الوحشة بين الملك الكامل والناصر وغيره من الملوك وكثر استشعار الملك الناصر من عمه الملك الكامل، فلما دخلت سنة ثلاث وثلاثين قوي عزم الملك الناصر على قصد الخليفة وهو المستنصر بالله والاستجارة به فحصل النجب والروايا وما يحتاج إليه لسفر البرية ثم توجه وصحبته فخر القضاة نصر الله بن بزاقة والشيخ شمس الدين عبد الحميد الخروشاهي والخواص من ممالكيه وإلزامه فلما قرب من بغداد أمر الخليفة بتلقيه وإكرامه ودخل بغداد ونزل بها مكرماً معظماً وقدم للخليفة ما كان استصحبه معه من الجواهر النفيسة والتحف والهدايا الجليلة وأمر الخليفة له بالإقامات الكثيرة ولأصحابه بالعطايا والخلع وكان آثر أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه فيقبل يده ومشاهدة وجهه كما فعل بمظفر الدين كوكيري ابن بهاء الدين صاحب إربل فإنه كان قدم بغداد فطال الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك فحضر وبرز له الخليفة فشاهده فرغب الملك الناصر أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتاً من مظفر الدين وأعرق منه في الملك وسأل ذلك فلم يقع في الإجابة رعاية لخاطر الملك الكامل فعمل الملك الناصر قصيدة يعرض فيها بمطلوبه وبمظفر الدين وازن فيها قصيدة أبي تمام الطائي التي منها .ناع الدربند رحل بالعساكر إلى أطراف بلاد بهنسا وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدمه ووصل إلى خدمته صاحب - 65 ب - خرتبرت داخلاً في طاعته وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت فجهز معه الملك المظفر صاحب حماة والطواشي شمس الدين صواب العادلي وكان من أكبر الأمراء وفخر الدين البانياسي في ألفين وخمسمائة فارس فوصلوها جرائد بغير خيم فعند طلوع الفجر أقبلت عساكر الروم في اثني عشر ألف فارس مقدمهم القيمري وضربوا معهم مصافاً من أول النهار إلى آخره وظهر عسكر الروم ودخل الملك المظفر وشمس الدين صواب وفخر الدين البانياسي قلعة خرتبرت مع صحابها ونزل باقي العسكر في الربض فزحف عسكر الروم وملكوا الربض عنوة و أسروا أكثر من كان فيه من العسكر الكاملي ثم وصل السلطان علاء الدين في بقية عساكره وأحدقوا بالقلعة ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقاً وحصروها أربعة وعشرين يوماً وقل الماء والزاد من عندهم فطلبوا الأمان فأمنهم صاحب الروم وتسلم القلعة وما معها من القلاع وكانت سبعاً وتلقى الملك المظفر ومن معه أحسن ملتقى ونادمهم وخلع عليهم وقدم لهم التحف الجليلة وكان نزولهم من القلعة يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين فكان ذلك من أكد مقدمات الوحشة بين الملك الكامل والناصر وغيره من الملوك وكثر استشعار الملك الناصر من عمه الملك الكامل، فلما دخلت سنة ثلاث وثلاثين قوي عزم الملك الناصر على قصد الخليفة وهو المستنصر بالله والاستجارة به فحصل النجب والروايا وما يحتاج إليه لسفر البرية ثم توجه وصحبته فخر القضاة نصر الله بن بزاقة والشيخ شمس الدين عبد الحميد الخروشاهي والخواص من ممالكيه وإلزامه فلما قرب من بغداد أمر الخليفة بتلقيه وإكرامه ودخل بغداد ونزل بها مكرماً معظماً وقدم للخليفة ما كان استصحبه معه من الجواهر النفيسة والتحف والهدايا الجليلة وأمر الخليفة له بالإقامات الكثيرة ولأصحابه بالعطايا والخلع وكان آثر أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه فيقبل يده ومشاهدة وجهه كما فعل بمظفر الدين كوكيري ابن بهاء الدين صاحب إربل فإنه كان قدم بغداد فطال الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك فحضر وبرز له الخليفة فشاهده فرغب الملك الناصر أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتاً من مظفر الدين وأعرق منه في الملك وسأل ذلك فلم يقع في الإجابة رعاية لخاطر الملك الكامل فعمل الملك الناصر قصيدة يعرض فيها بمطلوبه وبمظفر الدين وازن فيها قصيدة أبي تمام الطائي التي منها .
66 - ب لأمر عليهم أن تتم صدورهوليس عليهم أن تتم عواقبه
والقصيدة الناصرية مطلعها .
ودانٍ ألمت بالكثيب ذوائبه ... وجنح الدجى وحف تجول غيابهه
تقهقه في تلك الربوع رعوده ... وتبكي على تلك الطلول سحائبه
أرقت به لما توالت بروقه ... وحلت عزاليه وأسبل ساكبه
إلى أن بدا من أشقر الصبح قادم ... يراع له من أدهم الليل هاربه
وأصبح ثغر الأقحوانة حالكاً ... تدغدغه ريح الصبا وتداعبه
تمر على نبت الرياض بليله ... تحمشه طوراً وطوراً تلا عبه
فأقبل وجه الأرض طلقاً وطالما ... غدا مكفهراً موحشاة جوانبه
كساه الحيا وشياً من النبت فاخراً ... فعاد قشيباً غوره وغوار به
كما عاد بالمستنصر بن محمد ... نظام المعالي حين قلت كتائبه
أمام تجلي الدين منه بماجد ... تحلت آثار النبي مناكبه
هو العارض الهتان لا البرق مخلف ... لديه ولا أنواره وكواكبه
إذا السنة الشهبا شحت بطلها ... شجن وابل منه وسحت سواكبه
فاخبأ ضياء البرق ضوء جينه ... كما نحلت جود الغوادي مواهبه
له العزمات اللائي لولا نضالها ... تزعزع ركن الدين وأنهد جانبه
بصير بأحوال الزمان وأهله ... حذور فما يخشى عليه نوائبه
حوى قصبات السبق مذ كان يافعاً ... وأربت على زهر النجوم مناقبه
تزينت الدنيا به وتشرفت ... بنوها فأضحى خافض العيش ناصبه
لإن نوهت باسم الإمام خلافة ... ورفعت الزاكي النجار مناسبه
فإن الإمام العدل والمعرق الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه
جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كتابه
وأغنيت حتى ليس في الأرض معدم ... يجور عليه دهره ويحاربه
ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه
ومن جده عم النبي وخدمه ... إذ صار منه أهله وأقاربه
أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليه مذاهبه
وأنت الذي يعني حبيب بقوله ... ألا هكذا فليسكب المجد كاسبه
بأني أخوض الدوّ والدوّ مقفر ... سباريته مغبرة وسباسبه
وارتكب الهول المخوف مخاطراً ... بنفسي ولا أعي بما أنا راكبه
وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه
وأتيك والعضب المهند مصلت ... طرير شباه فانيات ذوائبه
67 - ب وأنزل آمالي ببابك راجياًبواهر جاه يبهر النجم ثاقبه
فتقبل مني عبد رق فيغتدي له ... الدهر عبداً طائعاً لا يغالبه
وتلبسني من نسج ظلك ملبسا ... يشرف قدر النيرين من جلائبه
وتنعم في حقي ما أنت أهله ... وتعلى محلي فالسها لا يقاربه
وتركبني نعماء أياديك مركباً ... على الفلك الأعلى تسير مواكبه
وتسمح لي بالمال والجاه بغيتي ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه
ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه
وما اغتر من جوب الفلا حر وجهه ... ولا أنضيت بالسير فيها ركائبه
فيلقى دنوا من لم ألق مثله ... ويحظى ولا أحظى بما أنا طالبه
وينظر من آلاء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الأمامي صاحبه
ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه
لكنت أسلي النفس عما ترومه ... وكنت أذود العين عما تراقبه
ولكنه مثلي ولو قلت إنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه
وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مأربه
ولا بالذي يرضيه دفن نظيره ... ولو أنعلت بالنيرات مراكبه
وبي ظمأ رؤياك منهل رئيه ... ولا غرو أن تصفو لدى مشاربه
ومن عجب أني لدى البحر واقف ... وأشكو الظمأ والبحر جم عجائبه
وغير ملوم من يأتيك قاصدا ... إذا عظمت أغراضه ومذاهبه.
فلما وقف الخليفة المستنصر بالله على هذه القصيدة أعجبته إعجاباً كثيراً وقصد الجمع بين المصلحتين فاستدعاه سراً إجابة لسؤاله ورعاية في عدم الجهر للملك الكامل فحكى الملك الناصر قال واستدعاني الخليفة بعد شطر من الليل فدخلت من باب السر إلى إيوان فيه ستر مضروب والخليفة من ورائه فقبلت الأرض من بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم أخذ الخليفة يدثني من خلف الستر ويؤنسني ثم أمر الخدم فرفعوا الستر فقبلت الأرض ثانية وتقدمت فقبلت يده فأمرني بالجلوس فجلست بين يديه وجاراني في أنواع من العلوم وأساليب من الشعر ثم خرجت من عنده وعدت إلى منزلي ليلاً ثم حضر الملك الناصر بعد ذلك بالمدرسة المستنصرية على شاطئ دجلة وكان الخليفة في روشن ينظر ويسمع الكلام وحضر جماعة من الفقهاء المرتبين بالمدرسة وغيرهم من المذاهب الأربعة وبحث الملك الناصر واستدل واعترض وناظر الفقهاء مناظرة حسنة وكان جيد المناظرة صحيح الذهن له في كل فن مشاركة جيدة فقام يومئذ رجل من الفقهاء يقال له وجيه الدين اليرواني ومدح الخليفة بقصيدة يقول فيها مخاطباً للخليفة.
لو كنت في يوم السقيفة حاضراً ... كنت المقدم والإمام الأروعا
فغضب الملك الناصر لله تعالى لكون ذلك الفقيه لأجل سحت الدنيا أساء الأدب على أبى بكر الصديق رضوان الله عليه والخلفاء الراشدين وسادات المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حاضرين يوم السقيفة وجعل المستنصر بالله مقدماً عليهم فقال لذلك الفقيه أخطأت فيما قلت كان ذلك اليوم جد سيدنا ومولانا الإمام المستنصر بالله العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً فلم يكن مقدماً ولا الإمام الأروع إلا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فخرج المرسوم في ذلك الوقت بنفي ذلك الفقيه فنفي ثم وصل إلى القاهرة وولي بها تدريس مدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر ثم أن المستنصر بالله خلع على الملك الناصر خلعة سنيّة عمامة سوداء وفرجية سوداء مذهبه وخلع على أصحابه ومماليكه خلعاً سنية وأعطاه مالاً جليلاً وبعث في خدمته رسولاً من أكبر خواصه إلى الملك الكامل يشفع إليه في إخلاص نيته له - 69ألف - وإبقاء بلاده عليه فوصل الملك الناصر والرسول إلى دمشق وبها الملك الكامل فخرج لتلقيهما إلى القصير وأقبل على الملك الناصر إقبالاً كثيراً وقبل شفاعة الخليفة وألبسه الخلعة هناك وكان قد قدم من بغداد ومعه أعلام سود وكان الخليفة لقبه الولي المهاجر مضافاً إلى لقبه فأمر الخطباء بلاده أن يذكروا في الدعاء له ذلك ثم خلع على الرسول وأعطاه شيئا كثيرا ورجع إلى بغداد وأقام الملك الناصر مطمئناً لانتسابه إلى الخليفة فلما حصلت المباينة بين الملك الكامل والملك الأشرف وعزما على المحاربة وانضم إلى الملك الأشرف جميع ملوك الشام سير إلى الملك الناصر داود يدعوه إلى موافقته على أن يحضر إليه ليزوجه ابنته ويجعله ولي عهده ويملكه البلاد بعده وسير الملك الكامل إلى الملك الناصر أيضاً رسولاً يدعوه إلى الاتفاق معه وأنه يجدد عقده على ابنته ويفعل معه كل ما اختار وتوافى الرسولان عند الملك الناصر بالكرك فرجع الميل إلى الملك الكامل وصرح لرسول الملك الأشرف بجواب إقناع فسير رسول الملك الكامل إليه يعرفه ميل الملك الناصر إلى جهته وكان قد حضر عند الملك الكامل بعض الأمراء الأكابر الذين مرت بهم التجارب - 69ب - ومارسوا الحروب وشهدوا المصافاة والوقائع فقال له الملك الكامل أشتهي أن تعرفني ما عندك في أمري وأمر أخي الملك الأشرف ومن يظهر لك أنه ينتصر ومن أقوى منا على لقاء صاحبه ولا تخفي ما في ضميرك من ذلك فقال أنت الآن وأخوك مثل الميزان لا يرجح عليك ولا ترجح عليه وقد بقي بينكما الملك الناصر داود فإلى أي جهة مال ترجحت وكان قد وصل الملك الكامل كتاب رسوله وهو القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل يخبره بموافقة الملك الناصر له على ما قدمنا ذكره ولم يطلع عليه أحد فسر الملك الكامل بذلك ووقع منه قول ذلك الأمير أجمل موقع ثم أن الملك الناصر حضر بنفسه إلى الملك الكامل فتلقاه وبالغ في إكرامه وأعطاه الأموال وقدم له التحف واتفق موت الملك الأشرف رحمه الله واستيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل على بلاده التي بالشام وخروج الملك الكامل لانتزاعها منه فخرج الملك الناصر وصحبته وأخذ دمشق على الصورة المشهورة واتفق موت الملك الكامل عقيب ذلك والملك الناصر بدمشق نازل في داره المعروفة بدار أسامة فتشوف إلى مملكة دمشق فوافقه جماعة من المعضمية وغيرهم وجاءه الركن الهيجاوي والركن في الليل وبينا له وجه الصواب وأرسل له الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد يقول أخرج المال وفرقه في مماليك أيبك والعوام معك تملك البلد ويبقوا في القلعة محصورين فما فعل ثم أن الأمراء والأعيان أرباب الحل والعقد اجتمعوا بالقلعة وذكروا الملك الناصر والملك الجواد يونس بن داود بن الملك العادل فرجح عماد الدين بن شيخ الشيوخ الملك الجواد يونس بن داود بن الملك العادل وكان منحرفاً عن الملك الناصر لأنه كان يجري بينه وبينه في مجلس الملك الكامل مباحثات فيخطئه الملك الناصر فيها ويستجهله فبقي في قلبه من ذلك أثر كثير كان أقوى الأسباب في صرف السلطنة عنه وأما الأمير فخر الدين بن الشيخ فلم يكن في ذلك رأي وكان ميله إلى الملك الناصر أكثر من الجواد وأرسلوا إلى الملك الناصر الهيجاوي ليخرجه من دمشق فدخل عليه بدار أسامة وقال له أيش قعودك في بلد القوم فقام وركب وجميع من في دمشق من باب دار أسامة إلى القلعة وما شك
أحد أن الملك الناصر طالع إلى القلعة وساق فلما تعدى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الزقاق عرج إلى باب الفرج صاحت العامة لا لا لا وانقلبت دمشق ونزل الملك الناصر بالقابون وفتح الجواد خزائن الكامل وفرق المال والخلع واستقر قدمه وأقام الملك الناصر أياماً بالقابون فعزم الجواد على مسكه وسير الأمير عز الدين أيبك الأشرفي ليمسكه وكان قد علم الأمير عماد الدين بن موسك بذلك فبعث إليه في السر من عرفه فسار في الليل إلى عجلون فوصل عز الدين أيبك إلى قصر أم حكيم وعاد إلى دمشق وأما الملك الناصر فإنه سار إلى الكرك وجمع وحشد ونزل إلى السواحل فاستولى عليها وخيم بعزمة طالباً للاستيلاء على مملكة والده فرحل الجواد فيمن بقي من العساكر المصرية مقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ وفي عساكر دمشق والمماليك الأشرفية وتوجه نحو الملك الناصر فرحل الملك الناصر غليه ليلقاه فوقع المصاف على ظهر حمار بين نابلس وجينين فانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة ومضى منهزماً واحتوى الجواد على خزائنه وأثقاله على سبع مائة جمل فأخذت بأحمالها وأخذوا فيها من الأموال والجواهر والجنائب ما لا يحصى واستغنوا غنى الأبد وافتقر الملك الناصر فقرا الملك يفتقره أحد ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط صغير فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة فطلبها من الجواد فأعطاه إياها وهذه الأموال هي التي كان الملك المعظم جهز بها دار مرشد ابنته لما زوجها بخوارزم شاه أخذها الملك الناصر ظناً منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد ونزل الجواد في دار المعظم بنابلس داخل البلاد واحتوى على ما فيها وولي فيها وفي أعمال القدس والأغوار من قبله ورحل عماد الدين بن الشيخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية ولم تعجب هذه الواقعة الملك العادل خوفاً من تمكن الجواد واستيلائه على البلاد فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق ورد بلاد الملك الناصر إليه ففعل ورحل عائداً وفي هذه الواقعة يقول به جمال الدين بن عسل. أن الملك الناصر طالع إلى القلعة وساق فلما تعدى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الزقاق عرج إلى باب الفرج صاحت العامة لا لا لا وانقلبت دمشق ونزل الملك الناصر بالقابون وفتح الجواد خزائن الكامل وفرق المال والخلع واستقر قدمه وأقام الملك الناصر أياماً بالقابون فعزم الجواد على مسكه وسير الأمير عز الدين أيبك الأشرفي ليمسكه وكان قد علم الأمير عماد الدين بن موسك بذلك فبعث إليه في السر من عرفه فسار في الليل إلى عجلون فوصل عز الدين أيبك إلى قصر أم حكيم وعاد إلى دمشق وأما الملك الناصر فإنه سار إلى الكرك وجمع وحشد ونزل إلى السواحل فاستولى عليها وخيم بعزمة طالباً للاستيلاء على مملكة والده فرحل الجواد فيمن بقي من العساكر المصرية مقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ وفي عساكر دمشق والمماليك الأشرفية وتوجه نحو الملك الناصر فرحل الملك الناصر غليه ليلقاه فوقع المصاف على ظهر حمار بين نابلس وجينين فانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة ومضى منهزماً واحتوى الجواد على خزائنه وأثقاله على سبع مائة جمل فأخذت بأحمالها وأخذوا فيها من الأموال والجواهر والجنائب ما لا يحصى واستغنوا غنى الأبد وافتقر الملك الناصر فقرا الملك يفتقره أحد ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط صغير فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة فطلبها من الجواد فأعطاه إياها وهذه الأموال هي التي كان الملك المعظم جهز بها دار مرشد ابنته لما زوجها بخوارزم شاه أخذها الملك الناصر ظناً منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد ونزل الجواد في دار المعظم بنابلس داخل البلاد واحتوى على ما فيها وولي فيها وفي أعمال القدس والأغوار من قبله ورحل عماد الدين بن الشيخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية ولم تعجب هذه الواقعة الملك العادل خوفاً من تمكن الجواد واستيلائه على البلاد فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق ورد بلاد الملك الناصر إليه ففعل ورحل عائداً وفي هذه الواقعة يقول به جمال الدين بن عسل.
يا فقيهاً قد ضل سبل الرشاد ... ليس يغني الجدال يوم الجلاد
كيف ينحني ظهر الحمار هزيماً ... من جواد يكر فوق الجواد
ثم لما ملك الملك الصالح نجم الدين دمشق بعد الجواد ورد عليه فخر القضاة نصر الله بن بصاقة رسولاً من الملك الناصر يعده بمساعدته ومعاضدته على أخذ مصر له من العادل ويطلب منه تسليم دمشق وجميع البلاد التي كانت بيد أبيه فوعده الملك الصالح بذلك إذا ملك مصر فأبى الملك الناصر إلا أن ينجز له ذلك فلم يتفق بينهما أمر ثم أن الملك الصالح نجم الدين خرج لقصد الديار المصرية فاستولى الملك الصالح إسماعيل على دمشق وتعلل عسكر الملك الصالح نجم الدين عنه وبقي بنابلس فسير إليه الملك الناصر داود من أمسكه وطلع به إلى قلعة الكرك فاعتقله بها مكرماً على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه وكان الملك الكامل سلم القدس إلى الفرنج سنة ست وعشرين على أن يكون الحرم الشريف بما فيه من المزارات للمسلمين وكذا جميع أعمال القدس ما خلا عشر ضياع على طريق الفرنج من عكا إلى القدس وشرط أن يكون القدس خراباً ولا يجدد فيه عمارة البتة فلما مات الملك الكامل وجرى ما ذكرناه من الاختلاف بين الملوك عمر الفرنج في غربيه قلعة جعلوا برج داود عليه السلام من أبراجها وكان بقي هذا البرج لم يخرب لما خرب الملك المعظم أسوار القدس ولما اعتقل الملك الناصر داود الملك الصالح نجم الدين بالكرك توجه الملك الناصر بعسكره ومن معه من أصحاب الملك الصالح نجم الدين إلى القدس ونازل القلعة التي بناها الفرنج ونصب عليها المجانيق ولم يزل مصابراً لها حتى سلمت إليه بالأمان فهدمها وهدم برج داود عليه السلام واستولى على القدس ومضى من كان فيه من الفرنج إلى بلادهم واتفق وصول محي الدين يوسف بن الجوزي وصحبته جمال الدين يحيى بن مطروح فقال جمال الدين المذكور.
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلاً سائرا
إذا غدا بالكفر مستوطناً ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهره أولاً ... وناصر طهره آخرا
وكتب عن الملك الناصر داود رحمه الله بالبشائر بذلك فمن كتاب كتبه عنه فخر القضاة نصر الله بن بصاقة رحمه الله تعالى إلى الديوان المستنصري فصل منه وقابلهم العبد بصليب من الرأي لا يعجم عوده وقاتلهم بجيش المصابرة لا تفل جنوده وجرد إليهم جماعة من عسكر الديوان تشهر عليهم الصواعق من نصالها وترسل عليهم البوائق من نبالها ونصب عليهم المجانيق التي تزاحم الحصون بمناكبها وتحرق شياطينها برجوم حجارتها بدلاً من نجوم كواكبها ومن شأنها أنها إذا قابلت بلدة أخذت بكضمها وفضت برغمها وأنزلها حكمها وأزتها أن السبق للمنجنيق وصخرها لا للقوس وسهمها فرمتها بثالثة الأثافي من جبالها وسحرت أعينهم إلا أن الله ما أبطل سحر عصبها ولا سحر حبالها وتقريبه لهم وإحسانه إليهم وإلى كل من تقدم إليه أوحد زمانه جواداً كريماً كثير العطاء ممدحاً وشعره في نهاية الجودة والفصاحة وكان في البيت الأيوبي جماعة ينظمون الشعر لم يكن فيهم من يتقدمه فيه إلا أن كان الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه صاحب بعلبك فإنه شاعر مجيد مكثر وكان قد أدركته حرمة الأدب كما أدركت عبد الله بن المعتز وغيره من الملوك الفضلاء ولم يزل منذ توفي والده رحمه الله في سنة أربع وعشرين وستمائة وإلى أن أدركته منيته في نكد وتعب ونصب لم يصف له من عمره سنة واحدة وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ولم يكن له رأي حازم في تدبير المملكة فإنه مع تقدير الله تعالى لما مات والده لو دارى الملك الكامل ونزل له عن بعض البلاد كان أبقى عليه دمشق ثم لما طلبه الملك الأشرف ليزوجه ابنته ويجعله ولي عهده على ما ذكرنا لو أجابه حضر إليه لاستقل بعد الملك الأشرف بالشام والتفت عليه المماليك الأشرفية مع المعظمية وكان قد دنا أجل الملك الكامل فاستقام أمره لما مات الملك الكامل لو قبل من رأي الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد - 73 ألف - وأنفق في المعظمية واستمالهم لملك دمشق ولم يلتفت على من بالقلعة ثم لما ضرب المصاف مع الجواد لو أحرز خزائنه وأمواله ببعض قلاعه لبقيت له وكانت عظيمة جليلة المقدار يمكنه أن يستخدم بها من العساكر جملة كثيرة ثم لما حصل الملك الصالح نجم الدين في قبضته لو أراد به أخذ الشام لأخذه وسلمه لأخيه العادل أو إلى عمه الصالح إسماعيل ثم اعتقله لم يحسن عشرته من كل وجه وكان يبد ومنه في بعض الأوقات أمور أثرت في قلب الملك الصالح نجم الدين ولم يحرج منه وكان الملك الصالح باطن والملك الناصر سليم الصدر ثم اقتضى رائه إطلاقه ومساعدته على تمليك الديار المصرية واشترط عليه أموراً لا يمكنه القيام بها ولا تسمح بها نفس بشر لو أمكنت واستحلفه على ذلك فلما تحقق الملك الصالح نجم الدين أنه لابد له من الحنث ضرورة في البعض حنث في المجموع قال الملك الصالح حلفني على أمور لا يقدر عليها ملوك الأرض منها أنني آخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب والجزيرة والموصل وديار بكر وغيرها ونصف ديار مصر وما في الخزائن من المال والجواهر والثياب والخيول والآلات وغيرها فحلفت له - 73ب - من تحت السيف رحمه الله .
قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان كنت أسمعه يقول كثيراً إذا طلب منه حاجة تتعذر عليه إذا شئت أن تطاع، فامتثل ما يستطاع ثم معاملة الملك الصالح نجم الدين بعد أن تملك بما كان يعامله به وهو عنده معتقل بقلعة الكرك إلى أن حصل من الوحشة والمباينة بينهما ما آل به إلى انتزاع بلاده منه ثم لما توجه إلى حلب واستنابته لولده المعظم دون أخوته مع تميزهم عليه حتى أوغر صدورهم فكان ذلك من أسباب خروج الكرك عنه ثم لما توجه إلى حلب ترك بالكرك إسحاق المقدم ذكره مع إفراط ميله إليه ومحبته له فلو استصحبه لأمن مما ترتب على تركه من السبب الموجب لأخذ الكرك وحصول الوحشة والمنافرة بينه وبين ولده الملك الأمجد وكان يتسلى برؤيته وخفف عنه من أثقال همومه ثم إيداع تلك الجواهر النفيسة عند الخليفة فآل الأمر إلى كثرة تعبه ونصبه وتبذله وسفره ولم تعد إليه إلى غير ذلك من الأمور التي فارق فيها الحزم وذلك تقدير العزيز العليم وكان الملك الناصر داود رحمه الله معتنياً بالكتب النفيسة حصل منها جملة كثيرة ذهبت بعد وفاته وكان يجيز الشعراء بالجوائز السنية قدم عليه شرف الدين راجح الحلى شاعر الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين رحمه الله ومدحه بعدة قصائد فوصل إليه منه ما يزيد على أربعين ألف درهم وأجازه على قصيدة واحدة امتدحه بها وهو بنابلس بألف دينار مصرية والقصيدة من غرر القصائد وهي:
أمنكم عبقت مسكية النفس ... صبا تبسمت منها برء منتكس
تمت بما استودعت والفجر حمرته ... ما ذنب إيقادها من فحمة الغلس
ردت على مقلتي طيب الرقاد فها ... أنسانها بلذيذ النوم في أنس
فيا لها نفحة خالست نسمتها ... لما تيقنت أن العيش في الخلس
وللنسيم إشارات إذا التبست ... فسرها عند مثلى غير ملتبس
فما قعودك بي عن بيت وسكرة ... يغنيك آلاؤها في الليل عن قبس
يديرها ثمل الأعطاف قامته ... لو مثلت لغصون البان لم تمس
يسعى بها والدجى من حلى أنجمهعار ولكن بأنوار الكؤس كسى 74 ب
والسحب تضحك بغر النور أدمعها ... والجوفى مآتم والأرض في عرس
بدر وقائع قلبي في محبته ... بين اللمى وفتور الجفن واللمس
نبهته ونجوم الأفق تسبح في ... بحر الظلام فمن طاف ومنغمس
فقام يمسح ما في الطرف من سنة ... وقد تمشى الكرى في الأعين النعس
فسكنت سورة الصهباء شرته ... واستودعت بعض ما في الخلق من شرس
فما ضممت الذي في العطف من هيف ... حتى استكف الذي في الطرف من شوس
فلا عدمت طلا صادته كأس طُلى ... فما ثنى عطفه عن نيل ملتمس
هذا وركب عفاة قد عدلت بهم ... إلى مغاني الغنى عن أربع درس
عافوا وردوا عود الباخلين فما ... أجروا مطالبهم منها على يبس
فقلت نصو راكاب الحمد واحدة ... إلى مقر العلى في رأرض نابلس
إلى مقر تناجيني جلالته ... كأني واقف في حضرة القدس
لوذوا بداود محيى الجود وانتجعوا ... عرائس على نعماه من حرس
نصوا إلى الناصر السلطان عيسكم ... فهو ملك الأيادي غير منبجس
لا تعدلوا عن ندى بدر أغريد ... طلق الأسرة مرهوب السطا تدمر
إن خاب فادح ملث الغيث منهمراً ... أوصال فاخش وثوب الضيغم الشرس
ذو العلم يشرف والألباب مظلمة ... فاسلك مساقط ذاك النور واقتبس
فارضه تلق عباب اليم ملتطماً ... والعي قد ألجم الأفواه بالخرس
يضيء في ظلمات الشك مكرمة ... كما أضاء ظلام الليل بالقبس
ابان من كرم ملآن من همم ... ترفعت فهي لا تدنوا إلى دنس
حفت إلى بابه عيسى فأثقلها ... بأنعم أنقذت من جدبي التعس
أحلني ذروة العلياء مقترعاً ... والعزا و طال من صهوة الفرس
وردعني صروف الدهر حين طغت ... لها وقائع من أيامها الحمس
يهمى نداه إذا استصحبت ديمته ... كأنني قلت يا أمواهه انبجسي
لبيك يارئ آمالي التي ظمئت ... ويحسن الصنع عندي والزمان مُسى
لبيك فالعبد ما حالت مودته ... عما عهدت ولا عاهدته فنسى
تفديك نفسي وأبكار القريض وما ... مقدار نفسي وما أهديه من نفسي
أنت الذي رشني إذ خصني زمني ... بالأمس وأبيسى والدهر مفترسي
غرستني فاجتنيت الحمد من مدحي ... وليس يجني ثماري غير مغترسي
75 - ب فدم دوام الثريا فهي خالدةوطأ بنعليك أرقاب العدى ودس
فتلك قوم متى عاينُت أوجههم ... بكيت فاغتسلت عيني من النجس
وانقطع إليه الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسرو شاهى تلميذ فخر الدين الرازي فوصل إليه منه أموال جمة وكذلك كل من انتمى إليه استفاد من ماله ومن علمه فكانوا معه كما قيل فأخذ من ماله ومن أدبه ومن نظمه رحمه الله أعني الملك الناصر داود رحمه الله تعالى.
لما بدا في مروزى قبائه ... وعليه من درب النضار تبهرج
مثلته قمراً عليه سحابة ... مزرورةً فيها البروق ترجرج
وله أيضاً:
إلى كم أخفى الوجد والدمع بائح ... وكم ارتجى صبراً وصبري نازح
خلعت عناني وانطلقت مع الصبي ... وشمرت عن ساق الهوى لا أبارح
وبي ظبية كحلاء قلبي كنا سها ... لذا جنحت منى إليها الجوانح
ولو لم يكن ظبياً نفاراً ومقلة ... وجيداً لما تاقت إليها الجوارح
على لين غصن البان منها مخايل ... وشمس الضحى منها عليها ملامح
ولولا سناها ما تألق بارق ... ولولا هواها ما ترنم صادح
حننت إليها والغزام يحثنى ... وقد ساقني شوق إليها يكافح
ولما أتاني طيفها يخبر الهوى ... ويوهمني بالكر أني مصالح
تذكرت ربع الأنس عن أيمن الحمى ... وأغصان بانٍ دونه تتناوح
فكادت بظهر النفس من فرط شوقها ... إلى عالم فيه النفوس سوانح
مقربة الأرواح في عالم البقا ... مقربة من ربها لا تبارح
يطاف عليهم من رحيق ختامه ... من المسك ما تحييك منه الروائح
جنان عليهم دانيات قطافها ... وفي ظلها ما لا تمنى القرائح
هنالك من لم يأته فهو خاسر ... ومن حل فيه فهو لا شك رابح
وقال:
زار الحبيب وذيل الليل منسدل ... فانجاب عن وجهه داجى غياهبه
فقال لي صاحبي والضوء قد رفعت ... يداه من ليلنا مرخى جلا ببه
أما ترى الضوء في ليل المحاق لقد ... جاء الزمان بضرب من عجائبه
فقلت يا عاذلاً من نور طلعته ... أما ترى البدر يبدو في عقاربه
وقال:
لئن عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه
- 76 ب - وقال:
طرفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمعي على خديك منه شهيد
يا أيها الرشأ الذي لحظاته ... كم دونهن صوارم وأسود
من لي بطيفك بعد ما منع الكر ... عن ناظريّ البعد والتسهيد
أما وحبك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي ودع الفؤاد يئيد
والذ مالا قيت فيك منيتي ... وأقل ما بالنفس فيك أجود
ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي والحديد الآنه داود
وقال:
ما استصرخ الصبر قلبي وهو مذعور ... إلا وقد سلبته الأعين الحور
ولا سبأ عن خاطري جفن له غنج ... إلا وصارمه بالسحر مشهور
أفدي التي صيرت قلبي بها دنفاً ... فرق السوالف يلقى وهو مأسور
وردية الخد فيها معتقة ... من سكرها نرجس الأجفان مخمور
قد خيم السحر في أجفان ناظرها ... والسحر فما له في القلب تأثير
يجلو هواها وان أجرت دمي عبثاً ... ولا أبالي فإن الموت مقدور
لو لا سناها وخداها لما عبدت ... كما تعبدتها نار ولا نور
وله من جملة قصيدة:
وإذا الملوك تكثرت بعد يدها ... للمقتنين بسواك لا أتكثر
وإذا طغت وبغت بما خولتها ... أقبلت نحوك خاضعاً أستغفر
مالي مراد في جنان زخرفت ... كلا ولا أخشى جحيماً تسعر
لكنني أبغي رضاك وخشيتي ... أني تخبط بي الذنوب فاهجر
وكتب إلى الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص يستدعيه إلى مجلس أنس وذلك لما كانا نازلين ببيسان حين كانا متفقين على حرب الملك الصالح نجم الدين وهما إذ ذاك معاضد أن الملك الصالح عماد الدين وذلك يوم العيد في زمن الربيع.
يا ملكاً قد جلا العصرا ... وفاق أملاك الورى طرا
وفاق في نائله حاتما ... وبذ في أقدامه عمروا
وباكر العلياء فاقبضها ... وكانت الناهدة البكرا
أما ترى الدهر وقد جاءنا ... مستقبلا بالبشر والبشرى
تجري الدنيا ما أتانا به ... أحسن وأكرم بالذي أجرى
العيد والنيروز في حالة ... وطلعة المنصور والنصرا
والأرض قد تاهت به واغتدت ... تختال في جدتها الحضرا
عبّست السحب على نورها ... فراح ثغر النور مفترا
الصوم قد ولى بالأمة وال ... فطر باللذات قد كرا
فانهض بلا مطل ولا فترة ... ترتشف المشمولة الحمرا
حبرية قد عتقت حقبة ... فأقبلت تخبر عن كسرى
واستجلها صفراء قدسية ... تحسبها في كأسها تبرا
اوذوب جمر حل في جامد ال ... سماء فألقى فوقه درا
وبادر اللذة في حينها ... وقم بنا ننتهب العمرا
في دوحة أترجها يانع ... يلوح في الأغصان مصفرا
كأنه إذ لاح في دوحها ... وجه سماء اطلعت زهرا
وأسلم ودم في عيشة رغدة ... تُبلى على جدتها الدهرا
وقال:
أحب الغادة الحسناء ترنو ... بمقلة جؤذر فيها فتور
ولا أصبو إلى رشأ غرير ... وإن فتن الرشأ الغرير
وإني يستوى شمس وبدر ... ومنها يستمد ويستنير
وهل تبدو الغزالة في سماء ... فيظهر عندها للبدر نور
وقال:
وإني إذا ما الغرا بدى مودتي ... خداعاً وأخفى الغل بين الأضالع
لا ظهر جملاً بالذي أنا عالم ... بمكنونه فعل اللبيب المخادع
وأغدو إذا ما أمكنتني فرصة ... عليه بماضي الحد أبيض قاطع
بضربة مقدام ثبوت مجرب ... نعسه بين اللها والأخادع
وقال في معنى قصيدة
المسك بعض دم الغزال فلا ... تضع دم من بلحاظه الآراما
فلعله إما يحاول نجدة ... ورداً وإما في لماه مداما
وقال:
صنم من الكافور بات معانقي ... في حلتين تعفف وتكرم
فكرت ليلة وصله في هجره ... فجرت سوابق عبرتي كالعندم
فجعلت أمسح ناظري بسحره ... إذ شيمة الكافور إمساك الدم
وقال:
عيون عن السحر المبين ... لها عند تحريك القلوب سكون
تصول ببيض وهي سود فريدها ... ذبول فتور والجفون جفون
إذا ما رأت قلباً خلياً من الهوى ... تقول له كن مغرماً فيكون
فقال:
جميعي حين أذكركم شجون ... وكلى حين أبكيكم عيون
وأنتم غاية الآمال عندي ... وإن بخلت تقربكم ظنون
وصالكم حياة الروح مني ... وهجركم الأليم لي المنون
أرى الأشواق تجذبني إليكم ... وسائقها الصبابة والحنين
بذلت لكم دموع العين لكن ... هواكم في حشاشتي المصون
يعز عليّ بعدكم ولكم ... مماتي في محبتكم يهون
أحبتنا أذيتم بالتنائ ... فؤادي فهو مكتئب حزين
هواكم لا تغيره الليالي ... وصبري عنكم قل لا يكون
- 78 ب - ومن إنشائه رسالة كتبها إلى المستعصم بالله بعثها على يد فخر القضاة بن بصاقة وهي.
أعز الله سلطان الديوان العزيز النبوي لا زال عزمه الشريف يستدرك فائة الأمور، وهممه العالية تصلح ما . . . الدهور، وسعيه الميمون في مصالح المسلمين هو السعي المشكور - العبد المملوك يقبل العتبة الشريفة الديوانية تقبيلاً يتقرب به إلى خالقه وخليقته ويتشرف به في حلية المساجلة على أهله وعشيرته، ويجعله في يوم المعاد من أسباب وسيلته وينهى أنه سير إلى الخدمة من ينوب عنه في آدابها، ويستنزل من كرمها مثعجر سمائها، وهو عبد الديوان نصر الله بن بصاقة وحمله من المشافهة ما هو مليء بإعادته، ومن الأدعية الصالحة ما هو من وظائف العبد وعادته، والمسؤول من صدقات الديوان العزيز الإقبال عليه بوجه القبول، والإصغاء إليه بالسمع الذي إليه يباح مصونات الأسرار إذا عومل غيره بالإحجام والنكول، وستر ما ينهيه في الخدمة ثبوت كرمه المسدول الذيول، لا زال كرم الديوان عالماً بخدمات عبيده، فخذا من محض النصيحة منهم بعدده وعديده إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم صاحب حمص
أيا ملكاً يفلي الفلاة جواده ... تأيد على قلب لقاك مراده
رحلت به ثم انثنيت مكلفاً ... جواب بليغ لا يرام انتقاده
أتطلب أبكار المعاني وعونها ... لذي جسد قد سار عنه فؤاده
ألم بجسمي مذ رحلت نحوله ... وفارق جفني مذ نأيت رقاده
ولا عجب ممن نأت عنك داره ... إن اقتربت أسقامه وسهاده
أيا راحلاً ولى وخلّى بمهجتي ... أجيجاً يلاقى زنده وزناده
أسلت شؤون المقلتين فغادرت ... غدير دموعي لا يرجّى نفاده
وخلفتني كالوحش غير مؤانس ... خليلاً ولا يلقى إليه قياده
أعز الله أنصار السلطان المقام العالي الملكي المنصوري الناصري ولا أوحش مماليكه من خدمته، وأعاد لهم مشاهدته، ومن عانهم بعد عينيه بطلوع طلعته، المملوك يقبل الأرض خدمة متى تذكرها فاضت عبراته، وتوالت حسراته، ويشكو إلى مولاه ما لقي بعده من بعده من توالي أرقه، وتواتر قلقه، وتوحشه حتى من الصديق الحميم، ونفوره حتى من الملك العقيم، فلو نزل بسير ما نزل به لزلزل حتى استوت هضابه بوهاده، أوحلّ بثبير ما حلّ به أسف كما يتأسف في معاده، فالله تعالى يجمع له بمولانا بين الجسد وقلبه ويعيد أيام الأنس بعودة قريبة.
واتفقت له وقعة بالساحل مع الفرنج انتصر فيها فكتب في جملة كتاب كتب هذه الخدمة بعلمه بما من الله تعالى به من النصر والظفر ومهنيئة، باستعلاء الفئة المؤمنة على من حاد وكفر.
ومن كتاب آخر كتبت حيث أثرت مدادها، بمثار نقع جيادها، وبالمكان الذي صرعت فيه كماة أمجادها، بضرب صفاحها، وطعن صعادها، وكلمتهم السن الصفاح بفصيح أقوالها، وأشارت إليهم أنامل الرماح بسلاميات نصالها، فأصبحوا شارة لما أشار إليهم آنفاً وامتطوا أنف الحرب حتى صار أنف الخطى بهم راعفاً.
وكان الأمير سيف الدين علي بن فليح قد سار في خدمته واقطعه عجلون وأعمالها وكان أخوه عماد الدين قد قتل بالشرق في وقعة جرت بين الحلبيين وصاحب ماردين وصاحب الموصل في سنة سبع وأربعين فكتب إلى الملك الناصر يعرفه بمقتله فكتب إليه الملك الناصر وفي الجواب يقول الذي إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون كتب الله اسم المولى الأمير سيف الدين في جريدة المهتدين الذي هم بهذه الأخلاق يتخلقون وصيّره من الذين هم لهذه الآيات يتدبرون وأنزل عليه عند حدوث الحوادث صبراً، وأعظم له في الدارين أجراً، وأبقاه بعد معمري زمنه دهراً، وجعل من يتقدمه منهم له ذخراً، وهجم عل الأسماع والألباب فأصمها، وأصماها، بمصاب الأمير عماد الدين أفاض الله عليه ملابس رضوانه، وبوأه دار تجاوزه وغفرانه، ثبت الله عزائمه، وأقام ببقائه من بيته الكريم دعائمه، أهدى ممن يهدى إلى محجة الصبر، وإن يعرف ما فيه من جزيل الأجر، لأنه يعلم أن هذه الدنيا دار خسران، ومنزل أتراح وأحزان، لا يصفى لأحد عيشاً إلا كدرته، ولا تعاهده عهداً إلا نقضته ألا ترى أن المرء إذا متع بحياته كثرت مصائبه في أحبابه ولذاته وإن سبقهم إلى حلول رحمته كانت مصيبته في نفسه.
كن المعزى لا المعزي به ... إن كان لا بد من الواحد
والله تعالى يجعل المولى وارثاً لأعمارهم معمّراً من بعدهم ربوع ديارهم وليعلم أطال الله له مدة البقاء وأفاض عليه سابغ النعماء، إن العاقل كما يختار لنفسه خير الخيرين فكذلك يشكر إذ كُفى شر الشرين وهو ثبته الله وعمره، ووفقه للصبر الجميل وقدّره، أولى الناس أن يتصف بهذه الصفات، ويتسم بهذه السمات، ليكتب مع الصابرين، ويدّخر له إن شاء الله في أعلى عليين وعلى كل حال فالحمد لله رب العالمين ولما ملك الملك الصالح الديار المصرية وحصل بينه وبين الملك الناصر داود من الوحشة ما ذكرنا ورجع الملك الناصر إلى بلاده وأقام بالساحل مرابطاً للفرنج وقوي بسبب الخلف بين الملوك شأن العدو واهتمّوا في عمارة عسقلان وتشييد أسوارها وشنّ الغارات على ما حولها كتب الملك إلى ابن عمه الملك الصالح نجم الدين يستنجد به عليهم فلم ينجده وجمعت الفرنج جمعاً كثيراً وقصدوا نابلس فهجموها وبذلوا السيف في أهلها وأسروا من وجده بها من النساء والولدان وأقاموا بها ثلاثة أيام يسفكون وينهبون ونصبوا على المساجد صلبانهم وأعلنوا بكفرهم ومن سلم من أهلها تعلق برؤوس الجبال وبلغ الملك الناصر ذلك فقدم مسرعاً في عسكره فلما تحققت الفرنج إقباله رجعوا إلى حصونهم وقد فازوا بما استولوا عليه من القتل والأسر والنهب فكتب الملك الناصر إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وكان الملك الصالح نجم الدين قد قلده بمصر القضاء والخطابة كتاباً مضمونه أحسن الله عزاء المجلس السامي القضوى العزى في مصابه بالمسلمين وصبّرنا وإياه على ما ذهى به حوزة الدين وأثاب الذين استشهدوا بما وعد به الشهداء من رضوانه، عوضهم عن منازلهم بمنازل الأمن من قصور جنانه، وسامحنا وإياه بما أهملناه من حمية الدين وحفظ أركانه، وبما اعتدناه من إغفاله، وخذلانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قول معترف بتقصيره، عن جهاد أعداء الله وأعداء دينه، جهراً بلسانه وسراً بيقينه، وذلك لمصيبة المسلمين بمدينة نابلس التي قتلت فيها المشايخ والشبان وسبيت الحلائل والصبيان، واستولت أيدي الكفار على ما كان فيها من خزائن الأموال، والغلال، وما جمعه المسلمون لازمتهم في السنين الطوال، فهو يوم ضرب الكفر بحرابه وتبختر بين أنصاره وأعوانه، وتزهى على الإسلام برونق زمانه، وهو اليوم الذي تقاتلا فيه فأحجم الإسلام ثم تولى، واقتسما فيه بالسهمان فكان سهم الكفر هو السهم المعلى، فيالها من فجيعة أبكت العيون، وأبكت الجفون، وهجمت على القلوب فودت لو أنها فودت لو أنها سقت بالمنون، فيا ليتني نبذت قبل سماعها مكاناً قصياً، أوليت ربي لم يجعلني بعباده حفيّا، أوليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً، ألا ليت أمي أيّم طول عمرها فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل، وياليتها لما قضاها لسيد لبيب أريب طيب الفرع والأصل، قضاها من اللاتي خلقن عواقر فما بشرت يوماً بأنثى ولا قحل، - 81 ب - ويا ليتها لما غدت بي حاملاً أصليت بما احتفت عليه من الحمل، ويا ليتني لما ولدت وأصبحت لشد إلى الشد فبات بالرجل.
لحقت باسلاً في فلمت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خبل
فيا أيها العز الذي كنا نظن أن الإسلام يتزيد بسعيه غداً، وأن رقّى عزائمة تكون عليه من سحر الكفار حرزاً، تيقن أن قد عمّ بالشام النفير، ووجبت الغزاة على الحدث الطرير، والشيخ الكبير، وجاز للحرة أن تبرز للقتال بغير إذن بعلها وللأمة أن تبارز برمحها ونصلها، ووجب على المجاهدين الإسعاد، والإنجاد، وتعين في طاعة الله الجهاد، فيالسان الشريعة أين الجدال فيه وأين الجلاد، وأين مهند لسانك الماضي، إذا كلّت المهندة الحداد، بعد سيف لسانك في غمده وقد هجرت سيوف الكفار جفونها، وأجرت عيون الأنام على الإسلام شؤونها، إلا وأن الإسلام بدا غريباً وسيرجع كما بدا، وتقاصرت الهمم عن إسعاده حتى لا يرى له مسعداً فأنا لله قول من عز عزاؤه في الإسلام وذويه، وبذل في الدفاع عنه ما تملكه يده وتحويه، وصبر في الله على احتمال الأذى وعدم دونه محاميه والله سبحانه وتعالى يتلا في الإسلام بتلافيه، ويحميه بحمايته، وحسن نظره فيه، أنه قريب مجيب ونظم الملك الناصر أبياتاً وسيرها إلى وزيره فخر القضاة أبي الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الله بن عبد الباقي الغفاري المعروف بابن بصاقة لينظر فيها وهي:
يا ليلة قطّعت عمر ظلامها ... بمدامة صفراء ذات تأجج
بالساحل النائب روائح نشره ... عن روضة المتروح المتأرج
واليمّ زاه قد هدا تياره ... من بعد طول تقلقل وتموج
طوراً يدغدغه النسيم وتارةً ... يكرى فيوقظه بنان الخزرج
والبدر قد ألقى سنا أنواره ... في لجه المتجعد المتدبج
فكأنه أذمدّ صفحة متنه ... بشعاعه المتوقد المتوهج
نهر تكون من نضار مائع ... يجري على أرض من الفيروزج
فوقف عليها فخر القضاة المذكور وكتب إليه وأما الأبيات الجيمية الجمة المعاني، المحكمة المباني، المعوذة بالسبع المثاني، فإنها والله حسنة النظام بعيدة المرام، متقدمة على شعراء من تقدمها في الجاهلية وعارضها في الإسلام، قد أخذت بمجامع القلوب في الإبداع، واستولت على المحاسن فهي نزهة الأبصار والأسماع، ولعبت بالعقول لعب الشمول إلا ان تلك خرقاء وهذه صناع، - 82 ب - .
ثم أن الملك الناصر أخرج الملك الصالح نجم الدين وتوجه معه إلى الديار المصرية فملكها وكان حصل الاتفاق بينهما قبل ذلك على أمور اشترطها الملك الناصر وحلف عليها الملك الصالح وهو عنده معتقل بالكرك وكانت مشقة يتعذر الوفاء بها لكثرتها من الأموال والبلاد فلما ملك الملك الصالح الديار المصرية حصل التسويف والمغالطة فيما حصل الاتفاق عليهم فحصلت الوحشة وتأكدت وعاد الملك الناصر إلى بلاده على غضب وشرع النفور يتزايد من الجهتين وتمادى الأمر على ذلك إلى أن حصلت المباينة الكلية فقصدت عساكر الملك الصالح جمع ما وصلت إليه أيديهم من بلاد الملك الناصر فاستولوا عليه ثم توفي الأمير سيف الدين قليج سنة أربع وأربعين وهو من أعيان الأمراء الأكابر.
وكان الملك الناصر أقطعه قلعة عجلون وعملها فتسلمها عمه الملك الصالح عماد الدين واستنزل أولاده من قلعتها وكان قد سير الأمير فخر الدين بن الشيخ لقصد الملك الناصر داود فقصده وأخذ منه القدس ونابلس وبيت جبريل والصلت والبلقاء وخرب ما حول الكرك والملك الناصر بها في حكم المحصور ثم نازلها الأمير فخر الدين وحاصرها أياماً ثم رحل عنها وقل ما عند الملك الناصر من المال والذخائر واشتد عليه الأمر فنظم معاتب الملك الناصر نجم الدين ابن عمه:
قولوا لمن قاسمته ملك اليد ... ونهضت فيه نهضة المستأسد
واقعت عليه كل أصيد من ذوي ... رحمي عريق في العلا والسودد
لا قيتم بسنان كل مثقف ... صدق الكعوب وحدّ كل مهند
غاضبت فيه ذوي الحجى من أسرتي ... وأطعت فيه مكارمي وتوددي
يا قاطع الرحم التي صلتي لها ... ألفت على الفلك الأثير بعسجد
شددت نحوى بالعتاب مقالة ... جاءت كتبهم للنضال مسدد
أتقول فيّ مقالة لك جرها ... إن انصفت أوكلها إذ يعتدى
إن كنت تقدح في صريح منابتي ... فاصبر بعرضك في اللهيب الموجد
عمي أبوك ووالدي عم به ... يعلو انتسابك كل ملك أصيد
صالا وجالا كالأسود ضوارياً ... وأبرير تيار الفرات المزبد
ورثا الحماسة والسماحة عن أب ... ورّاد حرب مورد المحتدي
العادل الملك المؤيد بالتقى ... سيف الإله على البغاة محمد
دع سيف مقول البليغ يذبّ عن ... أعراضكم بفرنده المتوقد
فهو الذي قد صاغ تاج فخاركم ... بمفصل من لؤلؤي وزبرجد
وفلئن غدوت بما تقول مخصصي ... لأبرهنن على الصحيح المسند
إني الذي اشتهرت جميل خلائقي ... لفعال معروف وقول أحمد
83 - ب الناس أجمع يعلمون بأننيمن آل شادي في صميم المحتد
بيتي ونفسي في المعالي آية ... مثل السها ما أن تلامس باليد
سمح إذا ما شح موسر معشر ... في حالتي بطار في وبمتلدي
إني لأفضل والملوك كثيرة ... في حالتي خوف وعام أجرد
بيتي إذا ألف خاف حراً ورجا ... حرم الدخيل وكعبة المسترفد
حصن المطرد إن تعذر منعه ... من خوف جماع الجنود مؤيد
آوى المشدد لي وأعطى ما نعى ... وأقيل أعدائي وأرحم حسّدي
إن الغنى والجود من نفسي الفتى ... ليست بكثرة أنيق أوأعبد
ما كل مقلال ضنين يا للمى ... ما كل مكثار بذي كفّ ندى
كم من فقير كالغني بفعله ... وأخى غني كالمملق المتجدد
قلد الجود ووجهه متهلل ... ولذاك يأخذ وهو كالعاني الصدى
ما أمنى العافون إلا عاينوا ... بشراً بوجهى واخضلالاً في يدي
ما إن ربيت ولا أرى في مهلتي ... يوماً على أهلي بفظ أنكد
إني لهم في النائبات كخادم ... والخادم الكافي لهم كالسيد
وأنا المجيب دعاهم إن أرهفوا ... علناً بصوتي في الحجاج الأربد
وأقيهم بحشاشتي متبرعاً ... من كل بؤس رائح أو مغتدي
أفديهم أن قوتلوا وأمدهم ... إن أعسروا وارد . . . السوددي
يا مخرجي بالقول والله الذي ... خضعت لعزته جبين السجّد
لولا مقال الهجر منك لما بدا ... مني افتخار بالقريض المنشد
إن كنت قلت خلاف ما هو شيمتي ... فالحاكمون بمسمع وبمشهد
والله يا ابن العم لولا خيفتي ... لرميت ثغرك بالعداة المرّد
لكنتى ممن يخاف حزامة ... ندماً تجرعني سمام الأسود
فأراك ربك بالهدى ما ترتجي ... ليراك تفعل كل فعل أرشد
لتعيد وجه الملك طلقاً ضاحكاً ... وترد شمل البيت غير مبدد
كيلا ترى الأيام فينا فرصة ... للخارجين وضحكة للحسد
لا زال هذا البيت مرتفع البنا ... يزهو بأمجد آخر أمجد
يحوى البنون المجد عن آبائهم ... إرثاً على مر الزمان الأطرد
حتى يكونوا للمسيح عصابة ... بهم يسوس المعتدي والمهتدي
وفي سنة ست وأربعين ورد الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي على الملك الصالح وهو بدمشق رسولاً من الملك الناصر داود ومعه ولده الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك الناصر ومضمون الرسالة أن يتسلم الملك الصالح الكرك ويعوضه عنها الشوبك وخبزاً بالديار المصرية فأجاب الملك الصالح إلى ذلك ثم رحل إلى الديار المصرية في المحفة لمرضه وسير تاج الدين بن المهاجر ليتسلم الكرك منه ويسلم الشوبك عوضها فتوجه لذلك فوجد الملك الناصر قد رجع عنه لما بلغه من حركة الفرنج إلى الديار المصرية ومرض الملك الصالح وتربص الدوائر فلما دخلت سنة سبع وأربعين ضاقت الأمور بالملك الناصر بالكرك فاستناب بها ولده الملك المعظم شرف الدين عيسى وأخذ ما يعز عليه من الجواهر ومضى في البرية إلى حلب مستجيراً بالملك الناصر صلاح الدين يوسف كما فعل عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فأنزله صاحب حلب وأكرمه وسير الملك الناصر داود ما معه من الجواهر إلى بغداد لتكون وديعه له عند الخليفة المستعصم بالله فلما وصل الجواهر إلى بغداد قبض وسير إلى الملك الناصر داود خط بقبضه و أراد أن يكون آمناً عليه لكونه مودعاً في دار الخلافة فلم ينظره بعد ذلك وكانت قيمته مائة ألف دينار إذا بيع بالهوان وكان المعظم الذي استنابه والده بالكرك أمه أم ولد تركية الملك الناصر يميل إليها ويحب ولدها أكثر من إخوته الباقين وكان للملك الناصر من ابنة عمه الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل أولاد منهم الملك الظاهر شادي أكبر أولاده والملك الأمجد مجد الدين حسن وكان فاضلاً نبيهاً مشاركاً في علوم شتى وكان للملك الناصر أيضاً أولاد أخر من أمهات أولاد شتى فلما قدم المعظم عليهم تعلموا خصوصاً الظاهر والأمجد لكبر سنهما وتميزهما في أنفسهما ولما كان الملك الصالح نجم الدين بالكرك كانت أمهما تخدمه وتقوم بمصالحه لكونها ابنة عمه وكان والداها المذكوران يأنسان به ويلازمانه في أكثر الأوقات واتفق مع ذلك ضيق الوقت وتطاول مدة الحصر فاتفقا مع أمهما على القبض على أخيهما المعظم فقبضاه واستوليا على الكرك وعزما على تسليمها إلى الملك الصالح نجم الدين وأن يأخذا عوضاً عنها فسار الملك الأمجد إلى العسكر بالمنصورة فوصل يوم السبت لسبع مضين من جمادى الآخرى سنة سبع وأربعين واجتمع بالملك الصالح فأكرمه وأقبل عليه وتحدث مع الملك الصالح في تسليم الكرك وتوثق منه ولنفسه ولأخوته وطلب خبزاً بالديار المصرية يقوم به فأجابه إلى ذلك وسير إلى الكرك الطواشي بدر الدين بدر الصوابي متسلماً لها ونائباً عنه بها ووصل إلى العسكر أولاد الملك الناصر جميعهم وأخواه الملك القاهر عبد الملك والملك المغيث عبد العزيز ونساؤهم وجواريهم وغلمانهم وأتباعهم واقطعوا اقطاعات جليلة ورتب لهم الرواتب الكثيرة وأنزل أولاد الملك الناصر الأكابر وأخواه في الجانب الغربي قبالة المنصورة وفرح الملك الصالح بأخذ الكرك فرحاً عظيماً معما هو فيه من المرض العظيم الذي لا يرجى برؤه وزينت القاهرة ومصر وضربت البشائر بالقلعتين وكان تسلم الكرك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرى سنة سبع وأربعين وستمائة وحكى لي أن آكد الأسباب في تسليم الكرك معماً تقدم ذكره من الأسباب أن الملك الناصر كان يميل إلى شخص من أولاد غلمانه يدعى إسحاق وكان بارع الجمال مفرط الحسن وله فيه أشعار مشهورة فلما توجه إلى حلب تركه بالكرك فمال إليه الملك الأمجد بن الملك الناصر نيلاً مفرطاً واستحوذ الشاب إلى الملك الأمجد وكلاهما جميل الصورة والأمجد أسن منه بسنين يسيرة وجرى في ذلك فصول يطول شرحها فتخيل الأمجد أن والده متى تمسكن منه فرق بينهما قطعاً وربما أعدم الشاب بالكلية لأنه كان شديد الغيرة عليه ولا يخلو الأمجد من أذية تناله ومكروه يوقعه به فكان هذا آكد الأسباب في تسليمها ولو تأخر تسليمها لبقيت لهم مع تقدير الله تعالى فإن الملك الصالح كان قد اشتغل عنهم وعن غيرهم بنفسه وما به من الأمراض العظيمة المهولة وبما دهمه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على طرق بلادها وأعقب ذلك موته ثم قدوم الملك المعظم ولده وقتله ثم تفرق المماليك وإنفراد الشام عن مصر وإشتغال الملك الناصر صلاح الدين يوسف بالمصريين واشتغالهم به ثم قصد التنر البلاد الشامية واستيلاؤهم
عليها ثم كسرتهم وقصر مدتهم لله الحمد والمنة لكن إذا أراد الله أمراً بلغه.ها ثم كسرتهم وقصر مدتهم لله الحمد والمنة لكن إذا أراد الله أمراً بلغه.
وأما الملك الناصر داود فبقي في حلب عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبلغه ما جرى فعظم عليه جداً فمات الملك الصالح وتملك البلاد الملك المعظم ولده وقتل وأخرج الطواشي بدر الدين الصوابي الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل وملكه الكرك والشوبك وملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق والشام على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه فلما أستقر قدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بدمشق في سنة ثمان وأربعين ومرض بها مرضاً يؤس منه فيه.
وكان معه بدمشق في سنة...الملك الصالح عماد الدين إسماعيل والملك الناصر داود فقيل أن الملك الناصر داود سعى في أيام مرض الملك الناصر يوسف والأرجاف في أن يتملك دمشق فلما عوفي الملك الناصر بلغه ذلك فتقدم بالقبض عليه وسيره تحت الحوطة إلى حمص فاعتقله في قلعتها فقال الملك الناصر داود أبياتناً أولها.
إلهي إلهي أنت أعلى وأعلم ... بمحقوق ما تبدي الصدور تكتم
وأنت الذي ترجى لكل عظيمة ... وتخشى وأنت الحاكم المتحكم
86ب - إلى علمك الفصل أشكو ظلامتيوهل بسواه ينصف المتظلم
أبث جنايات العشيرة معلناً ... إلى من بمكنون السرائر يعلم
أتيتهم مستصرخاً مستجرماً ... كما يفعل المستصرخ المتظلم
فلما يئسنا نصرهم ونوالهم ... رمونا بإفك القول وهو مرجم
وقطع مني ما أمرت بوصله ... وإحلال أبعاد القرابة يحرم
مليكي أتعلوني الملوك بقهرها ... وأنت ملاذي منهم وهم هم
فحسبي اعتصاماً إنني بك لائذ ... إذا هز خطى وجرد مجرم
أغثنا اغثنا من عانا يكن لنا ... بك النصر حتى يخذلوا ثم يهزموا
لندركهم من باسنا بكتائب ... تهد صناديد الملوك وتهدم
لنسقيهم كأساً سقونا بمثلها ... ونعفو ونسخو إذ سطوا وتلوموا
طلبنا جليلاً من عظيم وإنما ... يجود على المكرمات المعظم
يجدد نعماك القديمة عندنا ... حديث إياد لفظها يترنم
فنصرك مجعول لنا ومعجل ... وبرك معلوم لنا فهو معلم
وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه بشفاعة وردت من الديوان فتوجه إلى العراق فلم يؤذن له في دخول بغداد مراعاة لخاطر الملك الناصر صلاح الدين يوسف وطلب الوديعة فلم تحصل له وجرى له خطوب يطول شرحها وآخر الأمر وقعت شفاعة في حقه على أن يكون في خدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ويطلق له ما يقوم بكفايته فحصلت الإجابة إلى ذلك وورد دمشق وأقام بها فلما وردت سنة ثلاث وخمسين طلب من الملك الناصر دستوراً ليمضي إلى العراق ليأخذ الوديعة ثم يتوجه إلى مكة شرفها الله تعالى لقضاء فريضة الحج فأذن له وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الخليفة يشفع له في رد وديعته إليه ويخبره بالرضا عنه لينقطع بذلك ما يحتج به عليه من جهته فأجابه إلى ذلك وكتب له فسافر إلى العراق وجعل طريقه على كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام وأقام به وسير إلى الخليفة المستعصم بالله قصيدة يمدحه بها ويتلطف ويمت بقصده وخدمة وهي:
مقامك أعلى في الصدور وأعظم ... وحلمك أرجى في النفوس وأكرم
فلا عجب أن غص بالقول شاعر ... وفوه مصل اللها بين مفحم
وأني يقول والمحل معظم ... ولم لا وما يرجى من الحلم أعظم
إليك أمير المؤمنين توجهي ... بوجه رجاء عنده منه أنعم
إلى ماجد يرجوه كل ممجد ... عظيم ولا يغشاه إلا المعظم
ركبت إليه ظهر تيماء قفرة ... بما تسرج الأعداء خيلاً وتلجم
فأشجارها ينع وأحجارها ظبي ... وأعشابها نبل وأمواهها دم
رميت فيافيها بكل نجيبةبنسبتها يعلو الجديل وشذقم 87 ب
يجاذبنا فضل الأزمة بعد ما ... براهن موصول من السير مبرم
تساقين من خمر الكلال مدامة ... فلا هن أيقاظ ولا هن نوم
يطسن الحصى في جمرة القيظ بعد ما ... غدا يتبع الجبار كلب ومرزم
تلوح سباريت الفلاة مسطر ... بأخفافها منه فصيح وأعجم
تخال ابيضاض القاع تحت احمرارها ... قراطيس وراق علاهن عندم
فلما توسطن المساواة واعتدت ... تلفت نحو الدار شوقاً وبرزم
وأصبح أصحابي نشاوي من السرى ... يدور عليهم كوبه وهو مفعم
تنكر للخريت بالبيد عرفه ... فلا علم يعلو ولا النجم ينجم
فظل لا فراط الآسي متندماً ... وإن كان لا يجدي الأسى والتندم
لشوف الرغامة صلة لهداية ... ومن بالرغامة يهتدي فهو يرغم
يناجي فجاج الدو والدو صامت ... ولا يسمع النجوى ولا يتكلم
على حين قال الظبي والظل قالص ... وأوقدت المعزاء فهي جهنم
وجف مزاد القوم فهي أشنة ... وخف لورد الموت كف ومعصم
ووسع ميدان المنايا بخيله ... فضاق مجال الريق والتجم الفم
فوحش الرزايا للرزية حصر ... وطيرالمنايا بالمنية حوم
فلما تبدت كربلا وتبينت ... قباب بها السبط الزكي المكرم
ولذت به مستشفعا متحرما ... كما يفعل المستشفع المتحرم
وأصبح لي دون البرية شافعاً ... إلى من به معوج أمري يقوم
أنخت ركابي حيث أيقنت أنني ... بباب أمير المؤمنين مخيم
بباب يلاقي البشر آمال وفده ... بوجه إلى أرفادهم يتبسم
بحيث الأماني للأماني قسيمة ... وحيث العطايا بالعواطف تقسم
وحيث غصون المجد تهتز للندى ... تزعزج جواداً من سجاياه يثجم
عليك أمير المؤمنين تهجمي ... بنففس على الجوزاء لا تتهجم
تلوم بأن تغشى الملوك لحاجة ... وللتهابي عنك لا تتلوم
تضن بماء الوجه لكن وفدكم ... له شرف ينتابه المتعظم
فصن ماء وجهي عن سواك فإنه ... مصون يصوناه الحيا والتكرم
الست بعيد حرمتي عن وراثة ... له عندكم عهد تقادم محكم
ومثلي يحيى للفتوق ورتقها ... إذا هز خطي وجرد مخذم
فلا زلت للآمال تبقى مسلما ... لتنتابك الآمال وهي تسلم
فلم يجد شيئاً ثم توجه إلى مكة شرفها الله تعالى وقضى فرائض الحج وسننه ووقعت فتنة بمكة بين أهلها والركب العراقى فركب أمير الحاج العراقي بمن معه من عسكر الخليفة وكاد يقع بينهم ملحمة عظيمة فقام الملك الناصر داود في الإصلاح حسن قيام واجتمع بالشريف قتادة أمير مكة واخضر إلى أمير الحاج مذعناً له بالطاعة وقد جعل عمامته في عنقه فرضي عنه أمير الحاج وخلع عليه وذاده على ما جرت به العادة من الرسم وقضى الناس مناسكهم وتفرقوا إلى أوطانهم وهم شاكرون لجميل صنع الملك الناصر وإصلاحه لذات البين وحفظه بما فعل لأموالهم وأرواحهم وكثر دعاؤهم له وثناؤهم عليه ثم توجه أمير الحاج العراقي فلما قدم مدينة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قام بين يدي الحجرة الشريفة وأنشد مادحاً للنبي صلى الله عليه وسلم وفرائصه ترتعد ولسانه من هيبة ذلك المقام تتلجلج
عليك سلام الله يا خير مرسل ... أتاه صريح الحي من خير مرسل
إليك امتطينا اليعملات رواسما ... يجبن الفلا ما بين رضوى ويذبل
إلى خير من أطرته بالمدائح السن ... فصدقها نص الكتاب المنزل
إليك رسول الله قمت مجمجماً ... وقد كل عن ثقل البلاغة مقولي
وأدهشني نور تألق مشرقاً ... يلوح على سامي ضريحك من على
ثنتني عن مدحي لمجدك هيبة ... يراع لها قلبي ويرعد مفصلي
وعلمي أن الله أعطاك مدحة ... مفصلها في مجملات المفصل
فماذا يقول لمادحون بمدحهم ... بمن مدحه يعلو على كل معتلي
ثم أحضر شيخ الحرم وخدامه ووقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً بأذيال الحجرة المقدسة وقال بمشهد وإن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين في أن يرد علي وديعتي فأعظم الناس هذا المقام الشريف وجرت عبراتهم وكثر بكائهم وكتب في الحال بصورة ما جرى إلى الخليفة وحمل المكتوب إلى أمير الحاج وحدثه الحاضرون بصورة ما جرى في تلك الحضرة المقدسة وكان ذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين ثم توجه الركب العراقي وصحبتهم الملك الناصر فلما صاروا ببعض المنازل خرج عليهم جمع عظيم من العرب يريدون نهبهم وأخذ أموالهم وأشرعوا لهم الأسنة وأخذوا في مقاتلتهم ومحاربتهم واشتد القتال بينهم وكادوا يظفرون بأمير الحاج ومن معه فخرج الملك الناصر وشق الصفوف واستدعى بأمير السرية وهو أحمد بن حجي بن زيد من آل مري وكان أبوه الأمير حجي صاحب الملك الناصر داود وص والده الملك المعظم للناصر عليه أياد عظيمة فدنا أحمد من الملك الناصر فحذره سوء عاقبة فعله وإقدامه على ركب الخليفة وأخذ في محادثته تارة بالترهيب وتارة بالترغيب إلى أن انقاد له وأجاب إلى الكف ولما رجع الحاج وصحبتهم الملك الناصر إلى العراق خرج أمر الخليفة بإنزال الملك الناصر - 89ب - بالمحلة فنزل بها وقرر له راتب لا يكفيه وجرى له ما ذكرنا من محاسبته على ما وصل إليه من الضيافة وغيرها فعاد إلى الشام ولم يحصل له المقصود وأخر أمره أنه وصل إلى قرقيسياتم عاد منها إلى تيه بني اسرائيل كما ذكرنا وانضم غليه جماعة من العرب ورام فيما قيل أن يتصل بالبحرية وذلك في أوائل سنة ست وخمسين وبلغ الملك المغيت فتح الدين عمر صاحب الكرك فخاف منه أن يكثر جمعه من العرب والترك فيقصده فراسله مخادعاً له بإظهار المودة ثم أرسل إليه عسكر فقبضوا عليه وعلى من معه من أولاده فلما وصلوا بهم إلى اللاجية من غور زغراء أفردوه منهم وأذنوا للأولاد أن ينصرفوا حيث شاؤا ومضى أصحاب الملك المغيث بالملك الناصر داود إلى بلد الشوبك وكان تقدم الملك المغيث بأن يهيئ به مطمورة يحبس فيها لينقطع خبره فلما وصلوا به إلى ذلك المكان وجدوا المطمورة لم يتم عملها فأنزلوه في طور هارون عليه السلام فلجأ إليه مستشفعاً به وبأخيه موسى صلى الله عليهما وسلم واتفق أن الخليفة لما قصده التتر في هذه السنة أعني سنة ست وخمسين كما ذكرنا اضطر إلى الانتصار بكل أحد فأرسل إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف يستمده بالرجال ويطلب منه أن يسير إليه الملك الناصر داود مقدماً على من يبعثه من العساكر الذي يستخدمهم لنصرة الإسلام فوصل الرسول من الخليفة بذلك إلى دمشق ثم توجه إلى الكرك لإحضار الملك الناصر داود لهذا المهم فأتاه الفرج من حيث لا يحتسب بعد أن أقام في طور هارون عليه السلام ثلاث ليال فقال في ذلك .
تبارك الله إخلاصاً وأيماناً ... سبحانه خالقاً بالجود مناما
هو الذي يقاسي من قعر هاوية ... أقمت فيها مطار اللب حيرانا
موسى بن عمران بل هارون صاحبه ... تكفلاني إشفاقاً وتحنانا
هما إلى الله قاما بالشفاعة لي ... تلطفا فيهما براً وإحسانا
فأفرج الملك المغيث عنه وتوجه إلى دمشق ونزل بالبويضاء شرقي دمشق وأقام بها يتجهز لنصرة الخليفة وقصر الصلاة مدة إقامته بالبويضاء وتواترت الأخبار بمضايقة التتر بغداد فأشار عله جماعة من أصحابه أن يتأنى في الحركة فقال إني قد بعت نفسي من الله تعالى وما توجهي لطلب دنيا وإنما مقصودي أن أبذل نفسي في سبيل الله لعل الله تعالى يجعل على يدي نفعاً للمسلمين - 90ب - أو تحصل لي الشهادة في سبيله وبينما هو على هذه النية وردت الأخبار بأن التتر ملكوا بغداد وشاع أيضاً خبر لا حقيقة له وهو أن الخليفة لحق بالعرب فقال لا بد لي من اللحاق به فله في عنقي بيعة وقد لزمني الوصول إليه وأخذ بغداد منه لا يسقط وجوب اتباع أمره والذي يخشاه الناس القتل وأنا لا أخشاه وعرض في هذه السنة عم الشام وديار مصر وغيرها وحكى عبد الله بن فضل أحد من كان في خدمته قال لما اشتد الوباء والطاعون عقيب أخذ التتر بغداد تسخطنا به فقال لنا الملك الناصر لا تتسخطوا به فإن الطاعون لما وقع بعمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بعض الناس هذا وجه هذا الطاعون الذي بعث على بني إسرائيل فبلغ ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه فقام في الناس خطيباً وقال أيها الناس لا تجعلوا دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم ورحمة ربكم عذاباً وتزعمون أن الطاعون هو الطوفان الذي بعث على بني اسرئيل إن الطاعون رحمة ربكم رحمكم بها ودعوة من نبيكم لكم اللهم أدخل على معاذ منه النصيب الأوفى قال ثم افيض علينا موت معاذ وابنه وأهل بيته بالطاعون ثم ابتهل وقال اللهم اجعلنا منهم وارزقنا ما رزقتهم وأصبح من الغد أو بعده مطعونا فلما سمعت بمرضه جئت إليه وهو يشكو ألماً مثل الطعن بالسيف في جنبه الأيسر بحيث يمنعه من الأضطجاع وحكى ولده شهاب الدين غازي عنه أنه نام بين الصلاتين ثم انتبه فقال إني رأيت جنبي الأيسر يقول لجنبي الأيمن أنا قد جاءت نوبتي والليلة نوبتك فاصبر كما صبرت فلما كان عشية النهار شكى ألماً خفيفاً تحت جنبه الأيمن وأخذ في التزايد وتحققنا أن ذلك الطاعون فبينما أنا عنده بين الصلاتين وقد سقطت قواه إذ أخذته سنة فانتبه وفرائصه ترتعد فأشار إلي فدنوت منه فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والخضر عليه السلام قد جاءا إلى عندي ثم انصرفا فلما كان آخر النهار قال ما في رجاء فتهيئ في تجهيزي فبكيت وبكى الحاضرون فقال لا تكن إلا رجلاً ولا تعمل عمل النساء ولا تغير هيئتك وأوصاني بأهله وأولاده ثم اشتد به الضعف ليلاً وقمت في حاجة فحدثني بعض من كان عنده من أهله أنه افاق مرعوباً وقال بالله تقدموا إلى جانبي فإني أجد وحشة فسئل لما ذلك فقال أرى صفاً عن يميني - 91ب - وصورهم جميلة وعليهم ثياب حسنة وصفاً عن يساري وصورهم قبيحة فيهم أبدان بلا رؤوس وهؤلاء يطلبوني وهؤلاء يطلبوني وأنا أريد أن أروح إلى أهل اليمين وكلما قال لي أهل الشمال مقالتهم قلت ما أجيئ إليكم خلوني من أيديكم ثم أغفى إغفاءة ثم استيقظ وقال الحمد لله خلصت منهم وكانت وفاته رحمه الله تعالى صباح تلك الليلة وهي ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى هذه السنة وعمره نحو ثلاث وخمسين وقد استولى عليه الشيب استيلاء كثيرا وفي صبيحة موته جاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله في أقاربه وعساكره إلى البويضاء وأظهر التأسف والحزن عليه ورأى على بعض أقاربه ملبوسا ملونا فأنكر عليه ذلك غاية الإنكار وقال هذا يوم تلبس فيه هذه الثياب وقد مات كبيرنا وشيخنا وأجلنا قدرا ومكانة ثم حمل إلى الصالحية فدفن هناك في تربة والده الملك المعظم رحمهما الله تعالى وكانت والدة الملك الناصر داود رحمه الله تعالى أم ولد خوارزميه وعمرت بعد وفاته دهراً حكى لي عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه أنه قال خرج الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله إلى البويضاء؟ لشهود جنازة الملك الناصر داود رحمه الله وكنت في من خرج في خدمته فلما وصل السلطان خرجت والدة الملك الناصر داود حاسرة وقالت اشتفيت بولدي أو هذا معناه من كلام النساء في حال الحزن وسفههن فقال الملك الناصر يا مرة مسلمة والله لقد عز علي فقده وتألمت لوفاته وهو ابن عمي وقطعة من لحمي فكيف تقولين هذا القول ثم قعد وتأسف عليه وبكى ولم يتأثر لمقالها وعذرها لما نزل بها ولم يحضر أحد من
أعيان الدمشقيين سوى قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة وولده القاضي نجم الدين رحمهم الله تعالى لا غير فالتفت السلطان إلى القاضي صدر الدين وقال ما أقل وفائكم يا دمشقيين يموت مثل الملك الناصر وهو سلطانكم وأبوه سلطانكم وجده سلطانكم وما يخرج أحد إلا أنت وولدك والله كان الواجب على أهل دمشق أن يكونوا من المدينة إلى هنا مكشفي الرؤوس يندبونه ويبكون عليه وشرع في توبيخ الدمشقيين ولومهم على ذلك بما هذا معناه وكان في الملك الناصر داود رحمه الله فضيلة وبقية في الآداب والعلوم ومحبة في العلماء فإذا اعتبرت ألفاظها كانت دراً منظوماً وإن اختبرت معانيها كانت رحيقاً مختوماً جلت بعلوها عن المعاني المطروقة والألفاظ المسروقة ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة فلو وجدها بان المعتز لاجرى زورقة الفضة في نهرها وألقى حمولة العنبر في بحرها وألقى تشبيهاته باسرها في أسرها ولو لقيها ابن حمدان لاعتم في موسى الغمام وانبرى بري السهام وتغطى من أذبال الغلائل المصبغة بذيل الظلام ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة وكرته خاسرة وأيقن أن وحوشه غير مكسورة وعقابه غير كاسرة فأين الجزع الذي لم يثقب من الذي قد تنظم وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة ويشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة. الدمشقيين سوى قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة وولده القاضي نجم الدين رحمهم الله تعالى لا غير فالتفت السلطان إلى القاضي صدر الدين وقال ما أقل وفائكم يا دمشقيين يموت مثل الملك الناصر وهو سلطانكم وأبوه سلطانكم وجده سلطانكم وما يخرج أحد إلا أنت وولدك والله كان الواجب على أهل دمشق أن يكونوا من المدينة إلى هنا مكشفي الرؤوس يندبونه ويبكون عليه وشرع في توبيخ الدمشقيين ولومهم على ذلك بما هذا معناه وكان في الملك الناصر داود رحمه الله فضيلة وبقية في الآداب والعلوم ومحبة في العلماء فإذا اعتبرت ألفاظها كانت دراً منظوماً وإن اختبرت معانيها كانت رحيقاً مختوماً جلت بعلوها عن المعاني المطروقة والألفاظ المسروقة ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة فلو وجدها بان المعتز لاجرى زورقة الفضة في نهرها وألقى حمولة العنبر في بحرها وألقى تشبيهاته باسرها في أسرها ولو لقيها ابن حمدان لاعتم في موسى الغمام وانبرى بري السهام وتغطى من أذبال الغلائل المصبغة بذيل الظلام ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة وكرته خاسرة وأيقن أن وحوشه غير مكسورة وعقابه غير كاسرة فأين الجزع الذي لم يثقب من الذي قد تنظم وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة ويشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة.
قلت كان فخر القضاة صاحب هذا الكلام من أعيان الفضلاء مستقلاً بالعلم والأدب والترسل وله النظم الحسن ومشاركة في كثير من العلوم مع ما عنده من الرياسة والمكارم وحسن العشرة ودماثة الأخلاق خدم الملك المعظم ابن الملك العادل ثم ولده الملك الناصر المذكور ووزر له وترسل عنه إلى دار الخلافة وإلى جماعة من الملوك بالديار المصرية وغيرها من البلاد وسمع وحدث وجالس المشايخ والعلماء واعترفوا بغزارة علمه وكثرة فضله وتوفي في منزله بسفح قاسيون ظاهر دمشق يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة سنة خمس وستمائة ودفن هناك رحمه الله وأظنه قد نيف على الستين.
ومن كلامه: قتيل الجفون الفواتر في سبيل حبه كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه إلا أن هذا يغسل بدموعه وهذا يزمل بنجيعه وهذا في حال حياته حتى يرمق وهذا في مماته حتى يرزق وقد الّم ابن الأثير الجزري بهذا المعنى فقال: دمع المحب ودمع القتيل متساويان، في التشبيه والتمثيل إلا أن بينهما بوناً، لأنهما يخلفان لوناً.
ولفخر القضاة:
له الراية السوداء يشرق نورها ... وتكحل عين النصر منها بأثمد
وله في الملك المعظم عيسى بن العادل:
غبت عن القدس فأوحشته ... وقد غدا باسمك مأنوسا
فكيف لا تلحقه وحشة ... وأنت روح القدس يا عيسى
وله أيضاً:
لقد عدم الفضل والمفضلون ... وأمسى مريدهما مستريحا
فلا شاعر يستحق النوال ... ولا باذل يستحق المديحا
وقال ملغزاً في الرمح:
ولي صاحب قد كمل الله خلقه ... فليس به نقص يعاب فيذكر
عصي صقيل إن أطيل عنانه ... مطيع خفيف الكل حين يقصر
يسابقني يوم النزال إلى العدى ... فإن لم أؤخره فما يتأخر
ويؤمن منه الشر ما دام قائماً ... ولكن إذا ما نام يخشى ويحذر
أنال به في الروع مهما اعتقلته ... مراما إذا أطلقته يتعذر
تعدى إلى أعدائه متنصلاً ... إليهم وما أبدى اعتذارا فيعذر
ترى منه دمياً إلى الخط ينتمي ... ومغرى بغزو الروم وهو مزنر
عجبت له من صامت وهو أجوف ... ومن مستطيل الشكل وهو مدور
ومن طاعن في السن ليس بمنحنى ... ومن أرعن مذ عاش وهو موقر
ففكر إذا ما رمت إفشاء سره ... فها أنا قد أظهرته وهو مضمر
وكتب إلى شمس الدين بن النعماني كاتب الجيوش ببغداد لغزا في جميل:
ولي صاحب مازال يحسن صحبتي ... وليس له في المخبتين عديل
تساوى اسمه بين الأنام وفعله ... فكل إذا فكرت فيه جميل
متى تلقى حرفاً أولاً تلقه ... منيعاً يرد الطرف وهو كليل
وإن تلقى منه ثانياً فهو أمة ... مقيم يقضي عمرها ويزول
وإن تلق منك ثالثاً فهو صابر ... لما لد من ثقل الرجال حمول
وإن تلق منه رابعاُ فارتحل إذا ... تصحف عنه ليس فيه نزول
وقد رضته حتى طفا وهو راسب ... بلحج وغصّ فالبحر منه طويل
فأجابه ابن النعماني والغز في اسم سعيد:
أمولاي يا من فضله وبيانه ... وصاحبه كل يقال جميل
ومن حاز أفكار المعاني وفضله ... لسودده بالمكرمات كفيل
إنا ذلك المومى إليه ومجدكم ... يبين قياسا لي عليه دليل
ولي صاحب من كان في الناس كاسمه ... يقول بحد صارم ويصول
متى تلق حرفاً أولاً منه تلقه ... يهني به كل الورى ويزول
وإن عد حرفاً واحد من حروفه ... فللنجم منه منزل وحلول
وإن يكن المحذوف حرف انتهى به ... فليس لإنسان سواه عديل
كذا جاء في التنزيل يا قوم فاعلموا ... لتأويل ما قد قلته وأقول
فأجابه فخر القضاة:
أمولاي شمس الدين لازلت هكذا ... تفيد الصديق والعدو تبيد
ولا برحت يمناك في كل عزمة ... تجود على الراجي وأنت تسود
أبى الله أن يشقى بمثلك صاحب ... ولكنه مهما يراك سعيد
فدامت ذلك النعماء في ظل مالك ... له الخلد دار والملوك عبيد
سمع فخر القضاة وحدث وأجازه الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ويحيى بن سعد بن بؤس وأبو الفرج عبد المنعم بن كليب الحراني وغيرهم وكتب فخر القضاة إلى الشيخ جمال الدين بن الجوزي رحمه الله لغزاً في مقصورة ابن دريد وهو ما يقول سيدنا إمام أئمة الأنصار وصدر صدور الأقطار، وجامع مسانيد السير والأخبار، والعالي كعبه في تحبير العلوم على كعب الأحبار، في عروس جليت في ساعة على بغلين وزفت في ليلة إلى محلين خطباها بظهور السماح لا بصدور الرماح وملكاها بحل الصحاح لا بعقد النكاح وافترعاها في الملأ فلم يكن عليها ولا على أبيها من عيب ولا جناح وهي من المشهورات بين الأنام والمقصورات لا في الخيام باسقة الفرع ثابتة الأصل فائزة عند النضال بالخصل، جامعة المناقب والفضائل ساحبة ذيل الفصاحة على سحبان وائل.
وكتب إلى جمال الدين يوسف بن العنائفي مشرف ديوان بغداد ما يقول سيدنا واصل جناح قاصديه وقاطع جماح معانديه في مطية صامتة جوفاء تارة بدينة وتارة هيفاء إذا كانت ضئيلة صغيرة فهي قائمة على ثلاث متنقلة تنقل الأثاث وإذا كانت عظيمة كبيرة فهي عادية الأرجل والإنبعاث دائمة الإقامة واللباث فإن قصرت وصغرت كانت مطية صامت جاهل وإن طالت وكبرت كانت مطية ناطق فاضل على أن الصغيرة تباع وتشترى والكبيرة يحرم فيها ذلك ويمتنع ربها بأن يمتطيها ويقتنع وقد خشينا الجمع بين هاتين مع أنه حلال وظمئنا إلى رشف جوابك في ذلك لأنه زلال، فإن أسأنا في السؤال فتجاوز عنا وأحسن إلينا وإن جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وكتب إلى ابن النعماني.
ومنصوبة مرفوعة عند نصبها ... ولكنه رفع يؤول إلى خفض
تعين على حر الزمان وبرده ... بلا حسب ذاك ولا كرم محض
ويصبح للاجي إليها وقاية ... لبعض الأذى الطاري على الجسم لا العرض
تقوم على رجلين طوراً وتارةً ... تقوم على رجل بلا غرض منض
إذا حضرت كانت عقيلة خدرها ... وإن تبد لم تلزم مكاناً من الأرض
قصدت كريماً خيمه ليبينها ... وقصد الكريم الخيم من جملة الفرض
يا رافع لواء الأدباء ودافع لأواء الغرباء هذا اللغز ممهد موطأ مكشوف لا مغطأ وقد سطر مفرداً ومجموعاً وذكر مقيساً ومرفوعاً إلا أنه قد استخفى وهو مظهر وأستسر وهو مجهر وتعامى وهو بصير وتطاول وهو قصير وتصامم وهو سميع وتعاصى وهو مطيع ومثل مولاي من عرف وكره ولم يعمل فيه فكره والآمر له على أمره وأطال للأولياء عمره إن شاء الله تعالى.
كان فخر القضاة رحمه الله كثير المباسطة لأصحابه واحتمال تبسطهم عليه طلب منه التاج عثمان الدمشقي حمارة فاشتراها له فكتب إليه يتشكر ويقول:
اشترى لي فخر القضاة حماره ... ذات حسن وبهج ونضاره
صان عرضي بها وعمر داري ... عمر الله بالحمير دياره
فأجابه على ذلك: قال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله هو أبو الفتح نصر الله بن أبي العز هبة الله بن عبد الباقي بن أبي البركات بن الحسين بن يحيى بن علي المعروف بابن بصاقة الغفاري من كنانة المصري الملقب فخر القضاة رحمه الله.
قلت قد بسطت القول في هذه الترجمة واستوفيت معظم مقاصدها وذكرت بعض المقاطيع بكمالها وذلك لتعذر حصول ديوانه فإنه قليل الوجود أما رسائله فليست كذلك لكنها مليحة من مثله وفيها أشياء حسنة ومعاني جيدة وخلف الملك الناصر عدة أولاد ذكوراً وإناثاً وسنذكر أعيان من درج منهم إلى رحمه الله إن شاء الله تعالى.
زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم أبو الفضل وقيل أبو العلاء بهاء الدين الأزدي المولد القوصي المنشأ القاهري الدار الكاتب المشهور والشاعر المجيد مولده بوادي نخلة بقرب مكة شرفها الله تعالى لخمس مضين من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وربى بصعيد مصر وقوص قرأ الأدب وسمع وحدث وله النظم الفائق والنثر الرائق وكان رئيساً فاضلاً كريم الأخلاق حسن العشرة جميل الأوصاف واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين بالقاهرة في حياة أبيه الملك الكامل فلما توجه الملك الصالح إلى الشرق سافر في خدمته وأقام معه فلما مات الملك الكامل وتسلم الملك الصالح نجم الدين دمشق من الملك الجواد كان بهاء الدين المذكور صحبته فلما اعتقل الملك الصالح بالكرك أقام بهاء الدين بنابلس عبد الملك الناصر داود فلما خرج الملك الصالح من الأعتقال وسار إلىالديار المصرية كان بهاء الدين المذكور في صحبته وأقام عنده في أعلى المنازل وأجل المراتب هو المشار إليه في كتاب الدرج والمتقدم عليهم وأكثرهم اختصاصاً بالملك الصالح واجتماعاً به وسيره رسولاً في سنة خمس وأربعين إلى الملك الصالح يوسف رحمه الله صاحب حلب يطلب منه إنقاذ الملك الصالح عماد الدين اسماعيل إليه فلم يجب الملك الناصر رحمه الله إلى ذلك وأنكر هذه الرسالة غاية الإنكار وأعظمها واستفضعها وقال كيف يسعني أن أسير عمه إليه وهو خال أبي وكبير البيت الأيوبي ليقتله وقد استجار بي والله هذا شيء لا أفعله أبداً ورجع بهاء الدين إلى الملك الصالح نجم الدين بهذا الجواب فعظم عليه وسكت على ما في نفسه من الحنق وقبل موت الملك الصالح نجم الدين بمدة يسيرة وهو نازل بالمنصورة تغير على بهاء الدين وأبعده لأمر لم يطلع على فحواه حكى لي أنه سبب تغيره عليه أنه كتب عن الملك الصالح كتابا إلى الملك الناصر داود فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطه بين الأسطر أنت تعرف قلة عقل ابن عمي وهو يحب من يعظمه ويعطيه من يده فاكتب له ما يعجبه من ذلك وسير الكتاب إليه وهو مشغول فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأمر بختمه فخيمه وجهزه ولم يتأمله وأعطاه للنجاب فسافر به لوقته ولما استبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليلم عليه سأل عنه بهاء الدين وقال ما وقفت على ما كتبت بخطي بين الأسطر قال ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخط يده إلى ابن عمه وأخبره أنه سيره مع النجاب فسيروا في طلبه فلم يدركوه ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك فعظم عليه وتألم له وكتب إلى الملك الصالح يعتبه العتب المؤلم ويقول له والله ما بي ما يصدر منك في حقي وإنما بي أطلاع كتابك على مثل ذلك فعز على الملك الصالح وغضب على بهاء الدين زهير وبهاء الدين لكثرة مرؤته نسب ذلك إلى نفسه ولم ينسبه إلى فخر الدين إبراهيم بن لقمان رحمه الله تعالى وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاتبة على الوهم لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يرعى سالف خدمة والسيئة عنده لا تغفر والتوسل إليه لا يقبل والشفائع لديه لا تؤثر ولا يزداد بهذه الأمور التي تسل سخائم الصدور إلا حقداً وانتقاماً وكان ملكاً جباراً متكبراً شديد السطوة كثير التجبر والتعاظم يتكبر على أصحابه وندمائه وخواصه ثقيل الوطأة لا جرم أن الله تعالى قصر مدة مملكته وابتلاه بأمراض عدم فيها صبره وقتل مماليكه ولده توران شاه من بعده لكنه كان عنده سياسة حسنة ومهابة عظيمة وسعة صدرفي إعطاء العساكر والإنفاق في مهمات الدولة لا يتوقف فيما يخرجه في هذا الوجه وكانت همته عاليةً جداً وآماله بعيدة ونفسه تحدثه بالإستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلب عليها وانتزاعها من يد ملوكها حتى لقد حدثته نفسه بالإستيلاء على بغداد والعراق وكان لا يمكن القوي من الضعيف وينصف المشروف من الشريف وهو أول من استكثر من المماليك من ملوك البيت الأيوبي ثم أقتدوا به لما آل الملك إليهم فاقتنى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله أكثر منه ثم اقتنى الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله منهم أكثر من الملك الظاهر ولما مات الملك الصالح نجم الدين لم يحزن لموته إلا القليل مع ما كان الناس فيه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على قطعة منها وسر معظم الناس بموته حتى خواصه فإنهم لم
يكونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز من كل ما ينتقده عليهم ويؤاخذهم به فإنه كان يؤاخذ على أيسر هفوة بأعظم عقوبة ولم يكن في خلقه الميل إلى أحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم والحنو عليهم على ما جرت به العادة وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا في دست السلطنة وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول رحمه الله وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود ونعود إليه إن شاء الله تعالى.ونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز من كل ما ينتقده عليهم ويؤاخذهم به فإنه كان يؤاخذ على أيسر هفوة بأعظم عقوبة ولم يكن في خلقه الميل إلى أحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم والحنو عليهم على ما جرت به العادة وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا في دست السلطنة وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول رحمه الله وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود ونعود إليه إن شاء الله تعالى.
وأما بهاء الدين زهير رحمه الله فاتصل بعد موت الملك الصالح بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وله فيها مدايح حسنة يتضمنها ديوانه ثم فارقه ورجع إلى الديار المصرية ولزم بيته يبيع كتبه وموجوده وينفقه وانكشف حاله بالكلية ولما عرض بالبلاد الوباء العام عقيب أخذ التتر بغداد مرض أياماً ثم توفي إلى رحمة الله تعالى قبل المغرب من يوم الأحد رابع ذي القعدة وقيل خامسه هذه السنة عن خمس وسبعين سنة غير شهر واحد ودفن بالقرافة الصغرى وفضيلته أشهر من أن تحتاج إلى الأطناب في ذكرها وأما مروئته وكرم طباعه وعصبيته لكل من يلوذ به ويقصده فذلك أمر مشهور وكان في أول أمره كاتباً عند المكرم بن اللمطي متولي قوص والصعيد في الأيام الكاملية وله فيها مدايح حسنة منها من قصيدة:
يا منسك المعروف احرم منطقي ... زمناً وقد لباك من ميقاته
هذا زهيرك لا زهير مزينة ... وافاك لا هرماً على علاته
دعه وحولياته ثم استمع ... لزهير عصرك حسن ليلياه
لو أنشدت في آل جفنة اضربوا ... عن ذكر حسان وعن جفناته
قلت وهذه الأبيات قد يقف عليها من لا يعرف مقصوده فيها فينبغي أن نشرح ما ينبهم على بعض الناس منها قوله: زهير مزينة يعني زهير بن أبي سلمى المزني وكان يمدح كثيراً هرم بن سنان المدايح المشهورة وكان زهير أحد الشعراء الأربعة الذين فضلوا في الجاهلية على سائر الشعراء زهير إذا رغب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب وامرؤ القيس إذا ركب وكان هرم الدين سنان من المشهورين بالكرم وقوله: دعه وحولياته يعني بها القصائد التي كان زهير المزني ينظمها في سنة فقصد زهير هذا ما ينظمه في ليلة على ما كان ينظمه زهير في سنة وهذا على سبيل التجوز واللغة على عادة الشعراء لا الحقيقة فإن بهاء الدين لم يكن ممن يغالط نفسه وسره أنه أجود شعراً من زهير بن ابي سلمى، وقوله لا هرماً على علاته يشير إلى قول زهير بن أبي سلمى رحمه الله.
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة والندى خلقا
معناه أن يلقه عديم المال والجدة يلقه سمحاً خلقاً لا تحلقاً فكيف إذا لقيه على غير تلك الحال، وقوله: لو أنشد ت في آل جفنة البيت معناه أن حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه كان يمدح آل جفنة ملوك الشام القصائد المشهورة ويذكر عظم جفانهم على ما كانت العرب تمدح به في ذلك الزمان فأراد بهاء الدين بهذا البيت لو سمع آل جفنة شعره لأعرضوا عن حسان ووصفه جنفاتهم هذا خطر لي في معنى البيت ثم وثق بعض الفضلاء على ذلك فقال إنما أراد بقوله اضربوا عن ذكر حسان وعن جفناته إشارة إلى قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ورثنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا أبنما
وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
وكان بهاء الدين في خدمة الملك الصالح نجم الدين بالشرق فأرسله مرة إلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فلما قدمها حضر عنده شعراؤها ومدحوه ومن جملتهم شرف الدين أبو الطيب أحمد بن الحلاوي فلما عاد بهاء الدين إلى مخدومه حضر عنده أصحابه مسلمين عليه وسألوه عن شعراء الموصل فأخبرهم بما جرى وأنشدهم البيت وكان من جملة الحاضرين جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله فلما خرجوا من عنده أرسلوا إلى كل واحد مما استصحبه من الهدية نصيباً فكتب جمال الدين مع الرسول الذي أحضر نصيبه من الهدية ورقة فيها.
أقول وقد تتابع منه بر ... وأهلاً ما برحت لكل خير
ألا لا تذكروا هرماً يجود ... فما هرم بأكرم من زهير
وكتب إليه جمال الدين المذكور مرة يستدعي منه درج ورق.
أفلست يا سيدي من الورق ... فابعث بدرج كعرضك اليقق
وإن أتى بالمداد مقترنا ... فمرحبا بالخدود والحدق
فأجابه بهاء الدين:
مولاي سيرت ما رسمت به ... وهو يسير المداد والورق
وعز عندي تسير ذاك وقد ... شبهته بالخدود والحدق
وسنذكر طرفاً من أخبار جمال الدين بعد الفراغ من هذه الترجمة إن شاء الله وإن كانت وفاته رحمه الله متقدمة لكن إذ قد جرى ذكره فلا بأس بالتنبيه عليه ولبهاء الدين أشعار كثيرة وديوان مشهور وترسل فمن شعره ملغزاً في مدينة يافا.
بعيشك خبرني عن اسم مدينة ... يكون رباعياً إذا ما كتبته
على أنه حرفان حين تقوله ... ويرجع حرفاً واحداً إن عكسته
وله يقول
حبذا نفحة من ريح ... فرجت عني غمه
ضربت ثوب فتاة ... أكثرت تيها وحشمه
فرأيت البطن وال ... رة والخصر وثمه
وقال:
أيا معشر الأصحاب ما لي أراكم ... على مذهب والله غير حميد
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منكم ببعيد
فهل أنتم من قوم لوط بقية ... فما فيكم من فعله برشيد
وقال:
يا روضة الحسن صلي ... فما عليك ضير
فهل رأيت روضةً ... ليس بها زهير
وقال:
كيف خلاصي من هوى ... مازج روحي فأختلط
وتائه أقبض في ... حبي له وما أنبسط
يا بدر إن رمت به ... تشبهاً رمت الشطط
ودعه يا غصن النقا ... ما أنت من ذلك النمط
قام بعذري وجهه ... عند عذولي وبسط
لله أي قلم ... لواو ذاك الصدغ خط
ويا له من عجب ... في خده كيف نقط
يمر بي ملتفتاً ... فهل رأيت الظبي قط
ما فيه من عيب سوى ... فتور عينيه فقط
يا قمر السعد الذي ... لديه نجمي قد هبط
يا ما نعي حلو الرضا ... ومانحي السخط
حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غلط
وقال:
أغصن النقا لولا القوام المهفهف ... لما كان يهواك المعنى المعنف
أيا ظبي لولا أن فيك محاسناً ... حين الذي أهوى لما كنت توصف
كلفت بغصن وهو غصن ممنطق ... وهمت بظبي وهو ظبي مشنف
ومما دهاني أنه من حيائه ... أقول كليل طرفه وهو مرهف
وذلك أيضاً مثل بستان خده ... به الورد يدعى مضعفاً وهو مضعف
فيا ظبي هلا كان فيك التفاته ... ويا غصن هلا كان فيك عطف
ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف
عسى عطفة للوصل يا واو صدغه ... وحقك أني أعرف الواو تعطف
وقال يمدح الملك الصالح نجم الدين أيوب
وعد الزيارة طيفه المتملق ... وبلاء قلبي من جفون تنطق
إني لأهوى الحسن أين وجدته ... وأهيم بالقد الرشيق وأعشق
وبليتي كفل عليه ذؤابة ... مثل الكثيب عليه صل مطرق
يا عاذلي أنا من سمعت حديثه ... فعساك تحنو أو لعلك ترفق
لو كنت منا حيث تسمع أو ترى ... لرأيت ثوب الصبر كيف يمزق
ورأيت ألطف عاشقين تشاكيا ... وعجبت ممن لا يحب ويعشق
أيسوموني العذال عنه تصبراً ... وحياته قلبي أرق وأشفق
إن عنفوا إن سوفوا إن خوفوا ... لا أنتهي لا أنتهي لا أفرق
أبداً أزيد مع الوصال تلهفاً ... كالعقد في جيد المليحة يقلق
يا قاتلي إني عليك لمشفق ... يا هاجري إني عليك لشيق
وأذاع أني قد سلوتك معشر ... يا رب لا عاشوا لذاك ولا بقوا
ما أطمع العذال إلا انني ... خوفا عليك إليهم أتملق
وإذا وعدت الطيف منك بهجعة ... فاشهد علي بأنني لا أصدق
فعلام قلبك ليس بالقلب الذي ... قد كان لي منه المحب المشفق
وأظن خدك شامتا بفراقنا ... فلقد نظرت إليه وهو مخلق
ولقد سعيت إلى العلى بعزيمة ... تقضي لسعيي أنه لا يخفق
وسريت في ليل كأن نجومه ... من فرط غيرتها إلي تحدق
حتى وصلت سرادق الملك الذي ... تقف الملوك ببابه تسترزق
ووقفت من ملك الزمان بموقف ... ألفيت قلب الدهر منه يخفق
فإليك يا نجم السماء فإنني ... قد لاح نجم الدين لي يتألق
الصالح الملك الذي لزمانه ... حسن يتيه به الزمان ورونق
ملك يحدث عن أبيه وجده ... نسب لعمري في العلى لا يلحق
سجدت له حتى العيون مهابة ... أوما تراها حين يقبل تطرق
رحب الجناب خصيبة أكنافه ... فلكم سدير عنده وخورنق
فالعيش إلا في ذراه منكد ... والرزق إلا من نداه مضيق
يا عز من أضحى إليه ينتمي ... وعلو من أمسى به يتعلق
أقسمت ما الصنع الجميل بضائع ... فيه ولا الخلق الكريم تخلق
يدعو الوفود لما له فكأنما ... يدعو عليه فشمله يتفرق
أبداً تحن إلى الطراد جياده ... فلها إليه تشوف وتشوق
يندى لسطوته الخميس تطرباً ... فالسمر ترقص والسيوف تصفق
في ثني لامته هزبر باسل ... تحت التريكة منه بدر مشرق
يروي القنا بدم الأعادي في الوغى ... فلذاك تثمر بالرؤس وتورق
يمضي فيقدم جيشه من هيبة ... جيش يغص به الزمان ويشرق
ملأ القلوب مخافة ومحبة ... فالبأس يرهب والمكارم تعشق
ستجوب آفاق البلاد جياده ... ويرى له في كل فج فيلق
لبيك يا من لا مرد لأمره ... فإذا دعا العيوق لا يتعوق
لبيك يا خير الملوك بأسرهم ... وأعز من تحدى إليه الأنيق
لبقيك ألفاً أيها الملك الذي ... جمع القلوب نواله المتفرق
فعدلت حتى ما بها متظلم ... وأنلت حتى ما بها مسترزق
أنا من دعوت وقد أجابك مسرعاً ... هذا الثناء له وهذا المنطق
ألفيت سوقاً للمكارم والعلى ... فعلمت أن الفضل فيها ينفق
يا من إذا وعد المنى قصاده ... قالت مواهبه يقول ويصدق
يا من رفضت الناس حين لقيته ... حتى ظننت بأنهم لم يخلقوا
؟قيدت في مصر لديك ركائبي غيري يغرب تارة و يشرق
وحللت عندك إذ حللت بمعقل ... يلفي إليه مارد والأبلق
وتيقن الأعداء أني بعدها ... ابداً إلى رتب العلى لا أسبق
فرزقت ما لم يرزقوا ولحقت ما ... لم يلحقوا ونطقت ما لم ينطقوا
وقال من أبيات:
وأنت يا نرجس عينيه كم ... تشرب من قلبي وما أذبلك
مالك في حسنك من مشبه ... ما تم للعالم ما تم ذلك
وقال:
يا من لعبت به شمول ... ما أحسن هذه الشمائل
نشوان يهزه دلال ... كالغصن مع النسيم مائل
لا يمكنه الكلام لكن ... قد حمل طرفه رسائل
مولا ي يحق لي بأني ... عن حبك في الهوى أقاتل
لي فيك كما علمت وجد ... لا يعلم سره العواذل
ذا العام مضى فليت شعري ... هل يحصل لي رضاك قابل
وقال وكتب بها إلى الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله تعالى
دعوتك لما أن بدت لي حاجة ... وقلت رئيس مثله من تفضلا
لعلك للفضل الذي أنت ربه ... تغار فلا ترضى بأن تتبدلا
إذا لم يكن إلا تحمل منة ... فمنك وأما من سواك فلا ولا
ومن خلقي المشهور في الناس أنني ... لغير حبيب قط لن أتذللا
وقد عشت دهراً ما شكوت لحادث ... بلى كنت أشكو الأغيد المتدللا
وما هنت إلا للصبابة والهوى ... ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلا
أحب من الظبي الغرير تلفتا ... وأهوى من الغصن النضير تفتلا
أروح وألفاظي تذوب حلاوة ... وأغدو وأعطافي تسيل تغزلا
ويا رب داع قد دعاني لحاجة ... فعلت له فوق الذي كان أملا
سبقت صداه باهتمامي بكلما ... أراد ولم أحوجه أن يتمهلا
سبقت له وجها حيياً ومنطفاً ... وفياً ومعروفاً هنيئاً معجلا
ورحت أراه منعماً متفضلاً ... وراح يراني المنعم المتفضل
وله أيضاً:
أنا ذا زهيرك ليس إلا ... جود كفك لي مزينه
أهوى جميل الذكر ع ... ك كأنما هو لي بثينه
وأما جمال الدين عيسى بن يحيى بن إبراهيم بن مطروح رحمه الله المقدم ذكره فكان من حسنات الدهر تام الفضيلة متنوعاً في العلوم متفنناً في الآداب مع مكارم كثيرة ودماثة أخلاق ولين جانب وحسن عشرة وكان كثير السعي في مصالح إخوانه وأصحابه ومن يلوذ به متلطفاً في قضاء حوائج الناس على الإطلاق لا يرى التوقف في صلة رزق وكان كثير الصحبة والصداقة لبهاء الدين زهير وبينهما مودة عظيمة واشتراك في الفضيلة ومكارم الأخلاق وخدمة الملك الصالح وشاركه أيضاً في تغيير الملك الصالح عليه وانحرافه عنه فإنه تغير عليه تغيراً مفرطاً قبل وفاته وأبعده إبعاداً كلياً وسبب ذلك علمه بموت الملك الصالح نجم الدين فإن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ كان يعرف محل جمال الدين وما هو عليه من الأهلية لكل شيء وأن الدول تفتقر إلى تدبيره فلما اتفق موت الملك الصالح وبقي الأمير فخر الدين يدبر الأمور وهو في مقابلة الإفرنج قرب جمال الدين المذكور وجعله في محل الوزارة وكان يستشيره في الأمور ولا يكاد يفارقه فعلم الناس بهذه القرينة موت الملك الصالح وأنه لو كان في قيد الحياة لم يقدم الأمير فخر الدين على تقريب من أبعده وكان جمال الدين اتصل بخدمة الملك الصالح حين كان ولي عهد أبيه ولما سافر إلى الشرق سافر معه ثم قدم معه دمشق حين ملكها بعد الجواد وكان ناظر جيشه فلما أعتقل بالكرك مضى أبن مطروح إلى الخوارزمية وحرضهم على القيام بنصرة مخدومه ثم توجه إلى حماة وأقام بها لعلمه بميل صاحبها إلى الملك الصالح نجم الدين فلما خرج الملك الصالح من الاعتقال وملك الديار المصرية توجهه جمال الدين إلى خدمته وولي الخزانة ثم استنابه الملك الصالح بدمشق مع الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير وجعله صورة وزير ثم تغير عليه في سنة ست وأربعين لما قدم الشام وعزله واستصحبه معه إلى الديار المصرية في أوائل سنة سبع وأربعين فأقام بالمنصورة إلى أن توفي الملك الصالح وهو متغير عليه معرض عنه بالكلية فلما قام الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بتقدمة العساكر صحبه وقربه غاية التقريب وكان لا يصدر إلا عن رأيه في غالب الأمور فلما استشهد الأمير فخر الدين رحمه الله انتقل جمال الدين إلى مصر ونزل بدار كان بناها على النيل وكتب على بابها.
دار بنيناها بإحسان من ... لم تخل دار قط من رفده
الملك الصالح رب العلى ... أيوب زاد الله في مجده
اليمن والتوفيق من حزبه ... والنصر والتأييد من جنده
أغنى وأقنى فالذي عندنا ... من نعمة الله ومن عنده
فقل لحسادي ألا هكذا ... فليصنع السيد من عبده
وقد سبق جمال الدين إلى ذلك أبو الفتيان بن حيوس شاعر بني مرداس فإنه بنى دار بحلب وكتب إلى بابها هذه الأبيات.
دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس
قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من بأس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصنع الناس مع الناس
هذا كان على خاطري أن الأبيات لابن حيوس ثم وقفت على المجلد الثالث من تاريخ حلب للصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله فوجدته قد قال وجدت في كتاب نزهة الناظر وروضة الخاطر لقاضي معرة مصرين الكمال بن عبد القادر بن علوي المعري قيل امتدح أبو الفتح بن حصين المعري نصر بن صالح بحلب فقال له تمن فقال له أتمنى أن أكون أميراً فجعله أميراً يجلس مع الأمراء ويخاطب بالأمير وقربه وصار يحضر في مجلسه في زمرة الأمراء ثم وهبه أرضاً بحلب قبلي حمام الواساني فعمرها دراً وزخرفها وقرنصها وتمم بنيانها وكمل زخارفها ثم نقش على دائر الدار بزين.
دار بنيناها وعشنا بها ... في دعة من آل مرداس
قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من بأس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس
فلما أنهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح بن مرداس فلما أكل الطعام رأى الدار وحسنها وحسن بنيانها ونقوشها ورأى الأبيات فقرأها فقال يا أمير كم خسرت على بناء الدار فقال والله يا مولانا ما للمملوك علم بل هذا الرجل تولى عمارتها فأحضر معمارها وقال له كم لحقكم غرامة على بناء هذه الدار فقال ألفا دينار مصرية فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية وثوب أطلس وعمامة مذهبة وحصاناً بطوق ذهب وسرج ذهب وسرفشار ذهب ودفع ذلك جميعه إلى الأمير أبي الفتح وقال له.
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس
قال و بعد أيام حضر رجل من أهل المعرة يلقب بالزقوم وكان من أراذلها وفيه رحلة فطلب خبز جندي فأعطوه وجعلوه من أجناد حصن المعرة فلما وصل عمل الشيخ أبي الحسسن أحمد بن محمد بن الدويدة
أهل المعرة تحت أقبح خطة ... وبهم أناخ الخطب وهو جسيم
لم يكفهم أن أمر ابن الحصين ... حتى تجند بعده الزقوم
يا قوم قد سئمت لذاك نفوسنا ... يا قوم أين الترك أين الروم
واشتهرت الأبيات بالمعرة وحلب فسمعها الأمير أبو الفتح ابن حصينة فعبر على باب ابن الدويدة فسلم عليه أبو الحسين فقال له الأمير ويلك يا ابن الدويدة هجوتني والله ما بي من الهجو مثل ما بي من كونك تقربني إلى الزقوم وتذكرني معه فضحك ابن الدويدة وقال والله الآن كان عندي الزقوم وقال والله ما بي من الهجو ما بي تذكرني مع ابن الحصينة وتقربني إليه فقال له ابن الحصينة قاتلك الله وهذا هجو ثان.
ولجمال الدين المذكور ترسل حسن وديوان مشهور وكان لطيف الشعر جيد المعاني ومولد جمال الدين المذكور بأسيوط صعيد مصر يوم الإثنين ثامن شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وتوفي بالديار المصرية يوم الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة ودفن بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
ومن شعره:
يا من إليه اتكالي ... في العسر والإملاق
سؤال غيرك عندي ... شرك على الإطلاق
لا تسأل الرزق إلا ... من قاسم الأرزاق
وله رحمه الله تعالى:
يا ملاذ المستجير به ... لا تؤاخذني بما سلفا
وله أيضا
قد اثقلت ظهري أوزاري ... لي الويل إن ناقشني الباري
كم ليلة أسرعت منها الخطا ... إلى الخطايا حلف إصراري
وكم تجرأت على فاحش ... ولا أجير الأسد الضاري
كيف يكون العذر في موقف ... يذلّ فيه كل جبار
وتشخص الأبصار في حيث لا ... دار سوى الجنة والنار
يا رب عفوا عن ذنوبي فما ... سألت إلا عفو غفار
وقال عند قبر ابراهيم الخليل صلوات الله عليه
خليل الله قد جئناك نرجو ... شفاعتك التي ليست ترد
أنلنا دعوة واشفع تشفّع ... إلا من لا يخيب لديه قصد
وقل يا رب أضياف ووفد ... لهم بمحمد صلة وعهد
أتوا يستغفرونك من ذنوب ... عظام لا تعد ولا تحد
ولكن لا يضيق العفو عنهم ... وكيف يضيق وهو لهم معد
وقد سألوا رضاك على لساني ... ألهي ما أجيب وما أرد
فيا مولاهم عطفاً عليهم ... فهم جمع أتوك وأنت فرد
وله رحمه الله:
يا مالك الملك يا من لا شبيه له ... عطفا على عبد سوء قد أساء الأدبا
أحسنت مدة أيام الحياة له ... فما قضى ذلك يوما بعض ما وجبا
وله رحمه الله:
ذكر الصبا فصبا وكان قد ارعوى ... صب على عرش الغرام قد استوى
تجري مدامعه ويخفق قلبه ... فترى العقيق على الحقيقة واللوى
وإذا تألق بارق من بارق ... طفقت تنم عليه أسرار الجوى
لا يستطيع إذا جرى ذكر اللوى ... أن يطمئن فلا سقى الله اللوى
وأنا نذير العاشقين فمن يرد ... طول الحياة فلا يذوقن الهوى
فخذوا أحاديث الهوى عن صادق ... ما ضل في شرع الغرام ولا غوى