كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني

وحكى لي العماد مظفر ابن سنى الدولة رحمه الله ما معناه قال خرجت معه إلى عيون الفاسريا في زمن البطيخ وكانت له فتقدم إلى أصحاب المقاث أن يجمعوها ثم جمعوها فجاءت شيئاً كثيراً فأمر أن ينقى الفجل الجيد الذي في المجموع فجاء قريب أربعمائة حمل فكتب ورقة بتفرقة ذلك جميعه على الأعيان والمعارف بدمشق وقال لي تركب وتروح إلى الدار تستدعي بالغلمان وتقف ظاهر البلد ومعك الورقة وتسير لكل إنسان ما عين باسمه فقلت يا مولانا هذا يساوي أكثر من سبعة آلاف درهم فقال وإذا أطعمنا أصحابنا بطيخ بسبعة آلاف درهم ما هو كثير ففعلت ما قال ثم إن شرف الدين المذكور أباع عيون الفاسريا وأنفق ثمنها وكان يدعي النظر على الأوقاف النورية بحلب وحماة وحمص وبعلبك وغيرها وقد أثبت مال ذلك إليه فقال بعض الناس من يبيع العيون ما يستحق النظر.
حكى لي الجمال نصر الله رحمه الله وكان في خدمته ما معناه قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك وخلف له سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فاذهب الجميع بيعاً وهبة وكان في آخر عمره قد نفد ما معه من المال والأملاك وغيرها ولم يبق له إلا ما يتناوله على سبيل النظر من الأوقاف النورية ومع هذا فنفسه وسعة صدره على ما يعهد منه لم يغيره الإقلال وخلف من الورثة ولدين أحدهما يقال له كمال الدين محمد ويلقب الجنيد ومولده في رابع عشر صفر سنة اثنتين وستمائة وكان شيخاً في حياة والده وكان والده كثير الانحراف عنه لا يلم به ويسميه الولد العاق وكان الكمال المذكور يسمي والده الشيخ الضال وبلغ ذلك الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وزير حماة فقال على سبيل المداعبة كلاهما صادق واتفق أن كمال الدين أثبت بعد وفاة والده أنه أسند النظر إليه في الأوقاف النورية وغيرها وتحدث في ذلك ثم ادعى أنه اطلع على مطالب مدفونة بالديار المصرية واتصل ذلك بالملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله فطلبه على البريد فلما وصل ذكر أنها في أماكن يحتاج في استخراجها إلى خراب آدر عظيمة وبنايات كثيرة فعزم الملك الظاهر على خراب ذلك لما أبداه له الكمال من عظم المال المدفون وجلالة قدره وشرع في ذلك فعدم الكمال عند الشروع فيه ولم يطلع له على خبر فيقال على سبيل الحدس أن بعض أرباب تلك الأملاك عمل على اغتياله والله أعلم.
وكان فقده وانقطاع خبره في أواخر سنة ستين وستمائة وخلف ابنة واحدة كانت زوجة تاج الدين عبد القادر بن السنجاري الحنفي وله منها أولاد فأثبت أن كمال الدين كان أسند إليه النظر في الأوقاف النورية وغيرها وباشر التناول منها من ذلك الوقت وأما ولد شرف الدين الصغير كان يلقب شمس الدين وكان يشهد في مركز العصرونية وتوفي إلى رحمة الله تعالى وخلف ولدا ذكراً وهو الآن في حدود العشرين سنة عند كتابة هذه الأسطر وذلك في سنة تسعين وستمائة.
علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن شيبان بن الحسن بن عامر بن عبد الله أبو الحسن جلال الدين النميري المارديني المعروف بابن الصفار ولد بماردين سنة خمس وسبعين وخمسمائة كان شاعراً مجيداً وله معرفة بالعربية ويستعمل المعاني الغريبة ومن شعره:
تعشقته زاهي حسن فما له ... أتى بكتاب ضمه سورة النمل
وما لي والمجنون فيه وشعره ... إذا مر بالكثبان خط على الرمل
وله في غريق:
يا أيها الرشأ المكحول ناظره ... بالسحر حسبك قد أحرقت أحشائي
إن انغماسك في التيار حقق أ ... ن الشمس تغرب في عين من الماء
وله في المعنى:
غريق كأن الموت رق لحسنه ... فلان له في صفحة الماء جانبه
أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه
وله:
وأعجب شيء أن ريقك ماؤه ... يولد دراً وهو عذب مروق
وأنك صاح وهو في فيك مسكر ... وأنت جديد الحسن وهو معتق
وله في فهد:
ومشتهر بالفتك يوم اكتسابه ... على ظفره أثر الدماء ونابه
كأنه مهاة الفلك لما انتهى به ... مداه إلى سرب المها وانتهابه

رمته بشهب الجو خوف انتقابه ... فأطفأها في عسجد من إهابه
وله في فحم يوقد:
كأن وقيد الفحم خوف شراره ... إذا النار مست جرمه فتلونا
تذكر أيام الشباب الذي جرى ... بمنبته لما ترنح أغصنا
فأزهر منه الآينوس بنفسجا ... وأثمر عناباً وأورق سوسنا
وله من أبيات:
فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضم شملينا معاد شامل
وأكون من أهل الخطايا خده ... ناري وصدغاه علي سلاسل
وله في مليح اسمه إسماعيل:
لحاظك إسماعيل في القلب أسهم ... فلا مفصل إلا وفيها له فعل
وكيف يرجى البرء من سيف لحظه ... وشيعته قد حل عندهم القتل
وله في قصر النهار:
ويوم حواشيه ملمومة ... علينا تحاذر أن تفرجا
قنصت غزالته والتف؟ ... ت أريد أختها فاحتمت بالدجى
وله:
إذا هب النسيم بطيب نشر ... طربت وقلت: إيهٍ يا رسول
سوى أني أغار لأن فيه ... شذاك وأنه مثلي عليل
وله:
أفدى الخيال الذي أسرى على وجل ... فصادف الحرب بين النوم والمقل
يلقى الرقاد على الأجفان كلكله ... فيلتقيه من الأهداب بالأسل
عوامل من جفوني ربما قطرت ... دماً فهل أحدثت في النوم من عمل
ما زال يخطر بين العسكرين إلى ... أن خالط القلب فعل الفارس البطل
وراح بالسبي من يريهما غزلاً ... بحال بين نشاط الجفن والكسل
ومرسل صدغه في جاهليتنا ... مؤيد دعوة الأوثان بالرسل
سن الهوى حسنه للناس فاتبعوا ... ما سن وانتقلوا عن سنة العذل
حتى إذا اخضر من ماء الشباب عذا ... راه كما أحمر خداه من الخجل
خافت زمرد خطيه ذؤابته ... فاستخبأت خلفه فهي ابنة الجبل
وقال:
ومن لم يكن ناسياً هوى ذاكره ... ما ينكر أن يصد عن عاذره
في الصد إشارة له تخبرني ... من حالي أنني على خاطره
وقال:
أسرار هواك كلها في ظني ... منك انكشفت إلى الورى لا مني
ما فهت بذكرها ولكن فطنوا ... من حيث تصدون غيري عني
وذكر قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله صاحب هذه الترجمة في بعض مجاميعه وساق نسبه كما ذكر وقال هو من بني كناز بن خليد بن عبد الله بن نمير بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان نشأ بماردين وحفظ القرآن الكريم ونظر في علم العربية وكتب الإنشاء للملك المنصور ناصر الدين ابن أرتق صاحب ماردين ثم عزل عن الكتابة وتولى الأشراف بديوان دنيسر ثماني عشرة سنة وهو شاعر في فنه بارع له المعاني الغريبة والألفاظ الرائقة ووصل إلى إربل في أواخر ذي الحجة سنة سبع وعشرين وستمائة مرتزقاً قلت ومن شعره:
بعني بأغلى ثمن نظرة ... أحيا بها يا طلعة المشتري
أمن هلال أنت يا وجهه ال؟ ... بادي بهذا المنظر المقمر
وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقيل في رجب منها في سابع عشرة قتله التتر لما دخلوا ماردين رحمه الله.
عمر بن أحمد أوحد الدين الدويني قاضي منبج كان من العلماء الفضلاء الأعيان المتبحرين في العلوم واشتغل عليه جماعة كثيرة وانتفعوا به وكانت وفاته بحلب عقيب أخذ التتر لها في العشر الأوسط من صفر هذه السنة وهو في عشر التسعين رحمه الله تعالى.
عيسى بن موسى بن أبي بكر خضر بن إبراهيم بن أحمد بن يوسف ابن جعفر بن عرفة بن المأمون بن المؤمل بن قاسم بن الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان الأمير شهاب الدين بن شيخ الإسلام القرشي الأموي الهكاري درس بدمشق مدة بالمدرسة الجاروخية وكان عالماً فاضلاً شجاعاً صالحاً متزهداً متديناً حديث بفوائد جمة وجده أبو بكر هو ابن أخي شيخ الإسلام وكانت وفاة الأمير شهاب الدين المذكور في ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى بقرافة مصر الصغرى ودفن بها من الغد رحمه الله.

قطز بن مالك بن عبد الله المظفر سيف الدين رحمه الله كان أخص مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله به وأقربهم إليه وأوثقهم عنده وهو الذي قتل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار وكان الملك المظفر بطلاً شجاعاً مقداماً حازماً حسن التدبير ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً في ذلك وقد ذكرنا استيلاءه على السلطنة سنة واحدة وخروجه للقاء التتر وهو أول من اجترأ عليهم بعد علاء الدين خوارزم شاه وضرب معهم مصافاً فكسرهم كسرة عظيمة مشهورة جبر بها الإسلام فرحمه الله ورضي عنه.
ومما حكى عنه أنه قتل جواده في يوم المصاف بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحداً من وشاقيته الذين معهم جنائبه فبقي راجلاً ورآه بعض الأمراء الأكابر الشجعان المشهورين فترجل من حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك في هذا الوقت وأمنع المسلمين الانتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة والقصة معروفة لا تحتاج إلى شرح، ولما قدم دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا عليه إلى آخر الأيام الناصرية في رواتبهم وإطلاقاتهم وجميع أسبابهم ولم يتعرض لمال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى جهة الديار المصرية كما ذكرنا فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً بالقرب من القصير وهي المنزلة التي بقرب الصالحية من منازل الرمل وبقي ملقى بالعراء فدفنه بعض من كان في خدمته بالقصير المذكور فكان قبره يقصد للزيارة دائماً واجتزت به وترحمت عليه وزرته وكثر الترحم عليه والدعاء على من قتله، وكان الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله قد شارك في قتله أتم مشاركة بل كان مدار ذلك كله عليه وتملك بعده فلما بلغه ذلك سير من نبشه ونقله إلى غير ذلك المكان وعفى أثره ولم يعف خبره رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً ولم يخلف ولداً ذكرا له بل سمعت أنه خلف ابنتين وكان قتله يوم السبت سادس عشر ذي القعدة.

حكى لي المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير تغمده الله برحمته ورضوانه ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله لما كان على برزة في أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من الديار المصرية بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن وملك الديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال المولى تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين ابن يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها وخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خانى وسلم علي وقال جاءكم بريدي أو قاصد من الديار المصرية وريت وقلت ما عندي علم بشيء من هذا قال قطز يتسلطن ويملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجباً من حديثه وقلت له أيش هذا القول؟ ومن أين لك هذا؟ قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وإياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أني كلما أخذت عنه قملة آخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قمل كثير وشرعت أصفعه ثم قلت في غضون ذلك والله ما اشتهى إلا أن الله يرزقني إمرة خمسين فارساً فقال لي طيب قلبك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت والك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزمك لك إلا إمرة بخمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية وأكسر التتر وأعطيك الذي طلبت قلت والك أنت مجنون أنت بقملك تملك الديار المصرية قال نعم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية مستقلاً ويكسر التتار كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
قال المولى تاج الدين رحمه الله فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله هو يكسر التتر فما مضى عن هذا إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما هو مشهور قال المولى تاج الدين فرأيت الأمير حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولاي تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا إلى الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائد على ذلك، قال المولى تاج الدين وشرعنا نتعجب من هذه الصورة.
حكى لي المولى الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه أن الأمير سيف الدين يلقاق حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله في حال الصبي كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق أن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتر فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب وحسب وقال وأنت تملك أيضاً الديار المصرية وغيرها فتزايد استهزاؤنا به ثم قالا لي لا بد أن تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب وقال لي وأنت تحصل إمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق إن وقع الأمر كما قال لما يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق! هذا مضمون ما حكاه لي الأمير عز الدين المذكور في خامس ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة بدمشق.

كتبغا نوين مقدم عساكر التتر كان عظيماً عندهم يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره وكان شجاعاً بطلاً مقداماً مدبراً سائساً خبيراً بالحروب والحصارات وافتتاح الحصون والمعاقل والاستيلاء على الممالك وهو الذي افتتح معظم بلاد العجم والعراق وكان هولاكو ملك التتر يثق به ولا يخالفه فيما يشير إليه ويتبرك برأيه ويحكي عنه العجائب في حروبه وحصاراته من ذلك أنه نازل عدة حصون فكان إذا فتح حصنا ساق جميع من فيه من الناس إلى الحصن الذي يليه فإن مكنهم أهله من دخوله ضيقوا عليهم في المأكول والمشروب وإن منعوهم من الدخول هم بضرب أعناقهم فيمكنوهم وإن أصروا على المنع ضرب أعناقهم فإذا تيسر فتح الحصن الآخر فعل كذلك إلى أن استكمل فتح سائر الحصون المقصودة، ومن ذلك أنه نازل حصناً لا يرام وتحقق أن فيه مؤناً كثيرة وعدة آبار فيها من الماء قدر كفايتهم فقال لهم ما معناه أما حصنكم فمنيع والمؤنة عندكم كثيرة لكن الماء الذي عندكم على فراغ فإنا أصابركم إلى أن يفرغ وآخذكم فقالوا المياه عندنا كثيرة والذي بلغك من قلتها باطل لا حقيقة له وسير من ثقاتك من يبصر ذلك ويكشف لك حقيقته، ويخبرك وكان قد هيأ عنده رماحاً جوفها وملأها سماً قاتلاً وسدها عليه فسير جماعة من أصحابه وبيد كل واحد رمحاً منها فكانوا يأتون إلى البئر فينزلون الرمح فيها كأنهم يخضخضون الماء وينفضون الرمح بقوة فتنفتح السدادة بحركة دبروها فينزل جميع ما في الرمح من السم في تلك البئر فسموا بهذا الفعل جميع ما عندهم من المياه ونزلوا من عندهم إلى كتبغا وأخبروه بانتهائهم إلى ما أمرهم به وأقام كتبغا ومن معه على حالهم أياماً فهلك من شرب من ذلك الماء وتسلم الحصن، وهو الذي افتتح حصون الشام، ورأيته لما حضر إلى بعلبك لحصار قلعتها وقد دخل جامع المدينة وصعد منارته ليشرف منه على القلعة ثم نزل وخرج من الباب الغربي الذي في صحن الجامع ودخل حانوتاً خراباً فقضى حاجته به والناس يشاهدونه وعورته مكشوفة ومعه بعض التتر فلما فرغ مسحه ذلك الشخص بقطن كان معه مسحة واحدة وركب وكانت لحيته شعرات يسيرة في حنكه وهي مضفورة دبوقة لطولها وربما جعل طرفها في حلقة في أذنه وربما أرسلها على صدره فتبلغ سرته وكان مهيباً مطاعاً في جنده لا يجسرون على مخالفته ولا الخروج عن أمره وكان يردعهم عن كثير من أفعالهم وكان إذا أمن أحداً وكتب له أماناً كان أقرب إلى الوفاء به من غيره من التتر وهذا على ما فيه من الغدر وكان شيخاً مسناً أدرك جنكزخان الأخير جد هولاكو وكان عنده ميل إلى دين النصرانية لكنه لا يظهر الميل إلى النصارى لتمسكه بأحكام أسة جنكزخان وسائر أرباب الأديان عنده سواء وهذا من أحكام الأسة، وكان إذا كتب عنه كتاب يقول في أوله من كلام كيد بوقا نوين والنوين عندهم مقدم عشرة آلاف فارس فما زاد عليها ولا يقال لمن هو مقدم على من تنقص عدتهم عنها.

ولما بلغه خروج العساكر مع الملك المظفر رحمه الله وكثرتها تلوم وتوقف واستشار فأشار عليه بعض الناس بالتأخر وأشار عليه بعضهم بالملتقى فحملته نفسه وشجاعته وما قد ألفه من النصر في سائر المواطن على اللقاء فتوجه لذلك ولقيهم على عين جالوت بالقرب من بيسان فكانت الوقعة المشهورة التي نصر الله تعالى فيها الإسلام وحزبه وأخزى الكفر وأهله فحمل على الميسرة فهزمها هزيمة شنيعة كادت تستمر لولا تدارك الله الإسلام بنصره ورحمته فحملوا عليهم فكسروهم كسرة لا يجرى بعدها جبر، فولوا على وجوههم والسيوف تأخذهم وأعتصم منهم طائفة بتل هناك فأحدقت بهم العساكر وقتلوا عن آخرهم وأسر من كان صغيراً أو مراهقاً، وأما كتبغا فلم يفر ولم يكن الفرار من عادته فثبت وقاتل إلى أن قتل وعجل الله بروحه إلى النار وكان الذي تولى قتله على ما قيل ولم يعرفه الأمير جمال الدين آقوش الشمس رحمه الله وأسر ولده وكان جميل الصورة جداً ولما تمت الكسرة قيل للملك المظفر أن كتبغا هرب وكان قد أحضر إليه ولده أسيراً وهو واقف بين يديه فقال له أبوك هرب قال لا أبي ما يهرب أبصروه في القتلى فدوروا عليه في القتلى وأحضروا عدة رؤوس وعرضوها على ولده وهو يقول ما هو هذا إلى أن أحضروا رأسه فقال هذا هو وبكى ثم قال للملك المظفر ما معناه نام طيباً ما بقي لك عدو تخاف منه هذا هو كان سعادة التتر به يهزمون الجيوش وبه يفتحون الحصون وكذا كان لم يفلحوا بعده ولله الحمد والمنة، وأما ولده فقد كنت رأيته معه ببعلبك لما حضر لحصار قلعتها ثم رأيته بالديار المصرية في سنة تسع وخمسين وقد لبس زي الترك، وكان مقتل كتبغا يوم المصاف وهو يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة.
لاحق بن عبد المنعم بن قاسم بن أحمد بن حمد بن حامد بن مفرج بن غياث أبو الكرم الأنصاري المصري المولد والدار والوفاة، مولده سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة تقديراً سمع من محمد بن حمد بن حامد وكانت له إجازة من أبي محمد المبارك بن علي بن الطباخ وحدث بها كثيراً ونشر بها علماً جماً وكان شيخاً صالحاً عفيفاً رحمه الله وتوفي في ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة ودفن من الغد بسفح المقطم.
المبارك بن يحيى بن المبارك بن مقبل أبو الخير مخلص الدين الغساني الحمصي كان من الفضلاء المشهورين بمعرفة الأدب والأنساب وأيام الناس سني المذهب اختصر كتاب الجمهرة في الأنساب لابن الكلبي اختصاراً حسناً دل على غزارة فضله ومعرفته وله كتاب المشجر في النسب أيضاً وغير ذلك من جموع مفيدة ولما ورد التتر إلى الشام في هذه السنة خرج من حمص مجفلاً في شهر ربيع الآخر ولجأ إلى جبل لبنان يعتصم في بعض القرى الوعرة التي بالجبل فأدركته منيته وقد نيف على الستين سنة من العمر ودفن حيث توفي رحمه الله تعالى، ومن شعره مما نقلته من خطه على ظهر مجلد:
بدا لي وقد خط العذار بوجهه ... حبيب له منى على رقيب
كمثل هلال العيد لاح وقد دنا ... من الأفق مرماه وحان مغيب
وله في غلام أهدى تفاحة من يده:
أتى يهز قضيب البان حين مشى ... من تحت طلعت بدر فوق جيد رشأ
حيا بتفاحة من خده اكتسبت ... لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا
لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت ... إن العليل إذا ما شمها انتعشا
وله:
طرق الخيال على البعا ... د ولم يخف خطر الطريق
بلوى العقيق وأين من ... دار الحبيب لوى العقيق
وافى إلى الوافي بما ... أعطي من العهد الوثيق
أهدى له المسك السحي؟ ... ؟ق وزار من بلد سحيق
يا طيب من هو في حشا ... ي يطوف بالبيت العتيق
لا تحسبن كرى جفو ... ني عن سلو أو عقوق
صامت لهجرك بالسها ... د فأفطرت عند الطروق
وله:
بأبي من حوى الجمال بديعاً ... وبدا لي يوماً فقلت بديها
يا حبيباً إذا تأمله طرفي ... رأى كل طرقه يشتهيها
حق من كنت وجهة لهواه ... أن يرى حظه لديك وجيها
فمتى الوصل قال من دون وصلي ... شقة حارت الأدلاء فيها

ولعمري بحق من تاهت الألب؟ ... اب في بر حسنه أن تتيها
وله:
تمثلت حين لقيت الحبيب ... على غضب منه لم ينقض
وقبل كفى ولم يبتسم ... وقبلته وهو كالمعرض
ومن يك في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضى
هذا البيت مضمن: وهو لمبارك بن يحيى بن المبارك بن مقبل بن الحسن بن يونس الغساني نقلته من خطه.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي والدي رحمه الله مولده في السادس من شهر رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بقرية يونين من عمل بعلبك الإمام الحافظ كان عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وأبى علي حنبل بن عبد الله المكبر وأبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة وحدث بالكثير وهو أحد الحفاظ المشهورين الجامعين بين العلم والدين وكانت وفاته ببعلبك في تاسع عشر شهر رمضان المعظم ودفن من يومه بتربة الشيخ عبد الله اليونيني ظاهر بعلبك رحمه الله صحب الشيخ عبد الله اليونيني وانتفع بصحبته وأخذ عنه علم الطريق وكان أخص أصحابه به يقدمه على جميعهم ولي الخرقة من الشيخ عبد الله البطائي رحمه الله تبركاً وهو شيخ شيخه ولم يزل ملازماً للشيخ عبد الله اليونيني سفراً وحضراً إلا أن يأمره بالتوجه إلى مكان والإقامة به فيفعل ذلك وفي حال ملازمته له يصلي به ويفتيه ويقتدي به في الأمور الشرعية ويرجع فيها إلى قوله حين توفي الشيخ عبد الله رحمه الله واشتغل بالفقه على الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله وعلى غيره واشتغل بالحديث على الحافظ عبد الغني رحمه الله وغيره وكان الحافظ يعظمه وإذا سئل عن مسألة بحضوره يقول له ما تقول في كذا وكذا فإذا أجاب بجواب قال لصاحب المسألة ذلك الجواب بعينه وتقدم في علم الحديث على الحفاظ المبرزين في زمانه وعلى كثير ممن تقدمه وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو وكان يكرر عليه وكذلك صحيح مسلم ومعظم مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه وغير ذلك من كتب الحديث قال قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله قرئ عليه مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه فكان يعلم على أحاديث تمر به فلما انتهى قراءة المسند سئل عن ذلك فقال هذه لا أحفظها فإنا أعلمها لأحفظها فاعتبرناها فكانت مقدار مجيليد صغير وكان إذا سئل عن حديث هل هو صحيح أم لا أجاب في الوقت واشتغل في علم العربية والنحو على الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله ولازمه وكان الشيخ تاج الدين يقدمه على سائر من اشتغل عليه من الطلبة والملوك وغيرهم وسمع عليه جميع مسموعاته وكتب خطاً منسوباً قل من كان يكتب في زمنه أجود منه وهذا في حال شبابه أما لما أسن ضعفت يده واشتغل عليه خلق لا يحصون كثرة بالعلوم الشرعية والحديث والعربية وعلى الطريق وسمع ما لا يحصى كثرة وأسمع زماناً طويلاً فسمع عليه خلق كثير وانتفع به جم غفير ونال من السعادة الدنيوية والدينية ما لم ينله غيره فيما علمنا فإن الملوك كانت تحضر إلى بابه وتقف به إلى أن يؤذن لهم فإذا دخلوا عليه عاملوه بالتعظيم الخارجي عن الحد وامتثلوا إشاراته.

حكى لي أن الملك الأشرف مظفر الدين شاه أرمن موسى بن الملك العادل رحمه الله تعالى ربما قدم مداسه وأنه توضأ يوماً وأراد ما يطأ عليه فخلع عمامته وبسطها له وحلف أنها طاهرة وأقسم عليه أن يمشي عليها ففعل ذلك وكان يخدمه بنفسه وكذلك كان يفعل معه الملك الصالح إسماعيل رحمه الله ولما توجه والدي رحمه الله إلى دمشق في آخر سنة خمس وخمسين حضر عنده أولاده ومعهم إجازة وقبلوا مما عهد به إلينا والدنا أن نقصدك ونلبس منك خرقة كما لبس وتكتب لنا في هذا الإجازة أو ما هذا معناه فأخذ عليهم العهد وألبسهم الخرقة ولما قدم الملك الكامل دمشق أيام كانت للملك الأشرف رحمه الله اقترح عليه أن يجتمع بوالدي فسير بطاقة إلى بعلبك يلتمس منه الحضور فحضر وأنزله في دار السعادة لأن الملك الأشرف كان سكنها عند قوم الملك الكامل وأنزله في قلعة دمشق فلما قدم والدي رحمه الله عرف الملك الأشرف الملك الكامل بقدومه فنزل إليه واجتمع به في المكان الذي نزل فيه بدار السعادة وبلغ الملك الكامل في التأدب معه وبحثوا في فنون من العلوم منها القتل بالمثقل واستدل الملك الكامل بحديث الذي رضخ رأسه بين حجرين وأنه سأل من فعل بك هذا: الحديث ولم يذكر فيه فاعترف واحتج بأن قول المقتول يؤخذ به فقال والدي في الحديث فاعترف وهو في صحيح مسلم فقال الملك الكامل فأنا اختصرت صحيح مسلم وأمر بطلب الكتاب فأحضر في خمس مجلدات فتناول الملك الكامل مجلداً والملك الأشرف مجدلاً والملك الصالح مجلداً وأظن عماد الدين ابن موسك مجلداً وشرعوا يتصفحون الكتاب ليظهروا الحديث وبقي مجلد فأخذه والدي وفتحه فظهر الحديث حال فتحه الكتاب وهو كما قال فأوقف عليه الملك والجماعة فتعجبوا من ذلك وعظم في عين الملك الكامل وعزم على أخذه إلى الديار المصرية وشعر الملك الأشرف بذلك فجهزه لوقته إلى بعلبك وكان الملك سير له جملة من الذهب فامتنع من قبولها وقال أنا في كفاية فلما سافر سأل عنه فأخبره الملك الأشرف بسفره وأنه لا يوافق على مفارقة الشام.
حكى الملك الأشرف لوالدي رحمه الله قال لما كسرنا في الروم وخرجنا منه قال لي الملك الكامل وقد جرى ذكرك تبصر كيف نصره اله علينا في مجلسنا من كتبنا فقلت له هو رجل موفق فقال نعم وكان الملك لا مجد يتردد إليه ويكثر الاجتماع به وله في هذا عقيدة عظيمة ويعظمه غاية التعظيم وكذلك أسد الدين شيركوه وكان بين الملك الصالح نجم الدين وعمه الملك الصالح إسماعيل من الوحشة والعداوة ما هو مشهور فلما خرجت البلاد عن الملك إسماعيل وتملكها الملك الصالح أيوب حصل منه تحامل على والدي وأوقف رواتبه واتفق أنه حضر إلى بعلبك فاجتمع عند والدي جماعة من أصحابه وسألوه الركوب لتلقيه وقالوا هذا رجل جبار ومتى تأخرت عن تلقيه توهم أن ذلك كراهة فيه لأجل عمه فلا يؤمن شره وإن لم ينلك نال أصحابك فركب قبلولاً لقولهم وتلقاه فعند ما عاينه بالغ في الإقبال والترحيب والمؤانسة ولم يشتغل عنه بغيره إلى أن فارقه قال الأمير ناصر الدين محمد بن التبنينني رحمه الله فلما فارقه شرع في شكره والثناء عليه وتعظيمه فقلت له يا خوند ألا أنه يحب عملك الملك الصالح فقال حاشى ذاك الوجه وأمر أن يحمل إليه جميع ما كان أوقف من الكسوة والرواتب وغير ذلك للمدة الماضية وأجراها في المستقبل ولما نزل إلى دمشق في آخر سنة خمس وخمسين خرج الملك الناصر صلاح الدين يوسف إلى زيارته بزاوية الشيخ علي القرشي رحمه الله فلما دخل عليه بالغ في التأدب معه والتعظيم له واستعراض حوائجه.

وكان والدي رحمه الله يكره الاجتماع بهم ولا يؤثره ومما جرى له مع الملك الأشرف أنه كان إذا حضر إليه عرض عليه قصصاً كثيرة للناس ويسومه قضاء ما فيها فيفعل ذلك فاتفق حضوره إليه في بعض الأيام وعنده قصص كثيرة جداً فشرع الملك الأشرف في قراءتها فقرأ بعضها وضجر من إتمامها فقال له والدي أنا أجعل كفارة اجتماعي بكم قضاء لحوائج الناس فإن قضيتموها وإلا ما اجتمع بكم فاعتذر إليه وتلافاه وتمم قراءة تلك القصص وقضى جميع ما فيها وكانت مدة اجتماعه بالملوك وترددهم إليه ثلاثاً وأربعين سنة، وكان قبل ذلك ربما اجتمع بهم مصادفة أما ترددهم إليه بالقصد فمن ذلك التاريخ وكان يعد ذلك من كرامات شيخه الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله فإن الشيخ عبد الله كان له زوجة ولها ابنة من غيره فقال لها زوجي ابنتك من محمد فقالت يا سيدي هو فقير ما له شيء وأنا أشتهي أن تكون بنتي سعدية فقال لها زوجيه فإني أرى له داراً مليحة وفيها بركة ماء وبنتك عنده في الليوان والملوك يترددون إلى خدمته وله كفاية تامة على الدوام فزوجته بها وهي أول زوجاته.
حكى لي أن الملك الصالح استأذن عليه مرة وهو في دار القاضي الفاضل بدمشق وهو في المرحاض فأخبر بذلك فقال دعوه حتى يدخل وحده فدخل وقعد في الإيوان واتفق أن والدي حصل له ما احتاج معه إلى النزول في البركة إلى وسطه فخرج وقال له أدر ظهرك فأداره ونزل في البركة وتطهر وتوضأ وجالسه بعد ذلك وكانوا يبذلون له الكثير من الدنيا فلا يتناول إلا قدر الكفاية ويقول أنا أستحق في بيت المال أكثر من هذا القدر الذي يصلني منهم وملكه الملك الأشرف قرية يونين وكتب به كتاب وأعطاه لمحيي الدين يوسف بن الجوزي رحمه الله وكان عنده رسولاً من جهة الخليفة ليأخذ عليه خط الخليفة فبلغ والدي ذلك فطلب الكتاب ومزقه فعاتبه الملك الأشرف فقال أنا لي قدر الكفاية ولا آخذ من بيت المال أكثر منها ولم يكن والدي رحمه الله يقبل صلة أحد من الأمراء ولا من الوزراء ولا غيرهم إلا أن أهدى له هدية من المأكول أو ما أشبهه فإنه يقبل ذلك من بعض الناس ممن يتحقق حل ما له وكان هو ربما سير للملوك هدية مختصرة من مأكول أو نحوه فيتبركون بها ويستشفون.
حكى لي خادمه الشمس محمد بن داود رحمه الله قال سير الشيخ معي للملك الكامل هدية بعلبك وكان فيها كشك فلما أحضرت ذلك كان الكشك قد جعل في طبق فجعل الملك الكامل يستف منه وهو يتناثر على لحيته وثيابه وكان الصاحب فلك الدين بن المسيري حاضراً فقال يعرف الشيخ أن السلطان له سنين يحتمى عن اللبن وما يعمل منه وتراه قد أكل من هذا الكشك تبركاً بهدية الشيخ وأما أكابر الأمراء والوزراء ونواب السلطنة فكانوا يعاملونه بأضعاف ذلك من التأدب معه والامتثال لأمره واحترام أصحابه وأتباعه والمبالغة في ذلك إلى حد لا يوصف.

ولما انتقل النعل الشريف النبوي صلوات الله وسلامه على صاحبه إلى الملك الأشرف ووصل إليه وهو بدمشق أراد إرساله إلى والدي ليزوره ويتبرك به ثم قال نحن قد اشتقنا إلى الشيخ والأولى أن نسير إليه نخبره ليحضر يزور هذا الأثر الشريف ويبصره وكتب إليه بذلك وكانت جدتي في قيد الحياة فقالت لوالدي كنت أشتهي زيارة هذا الأثر الشريف فزره عني فلما قدم دمشق وزار الأثر الشريف أخبر الملك الأشرف بما قالته والدته فجهز الأثر الشريف إلى بعلبك لأجلها فزارته وقضت وطرها من ذلك وكان جرى لهذا الأثر الشريف قصة أوجبت انتقاله إلى الملك الأشرف وذلك أن صاحبه ابن أبي الحديد كان يسافر به إلى الملوك فيعطوه الأموال وانتجع للملك الأشرف رحمه الله في بعض السنين وكان يجزل له العطاء فقال له الملك الأشرف أشتهي أن تعطيني من هذا الأثر الشريف بقدر الحمصة لأجعله في كفني إذا مت فأجابه إلى ذلك وأعطاه ثلاثين ألف درهم وتقرر أنه في غد ذلك اليوم يحضر العلماء والمشايخ ويقطع من ذلك مطلوبه واغتبط ابن أبي الحديد بذلك فلما كان في الليل انثنى عزم الملك الأشرف وسير إلى ابن أبي الحديد بذلك فسقط في يده لتوقعه فوات المبلغ الذي سمح له به فلما أصبح حضر بين يديه وسأله عن السبب الموجب لذلك فقال فكرت في أنني متى أخذت من هذا الأثر الشريف هذا القدر تشبه بي الملوك فيفضي الحال إلى عدم هذا الأثر الشريف من الوجود وأكون أنا السبب فتركته لله تعالى وأما القدر الذي سمحت لك به فخذه لا أرجع فيه فاستطار فرحاً وأخذ تلك الجملة وسافر إلى بلاد الشرق فأدركه أجله أظن في حران فأوصى قبل وفاته بالأثر الشريف للملك الأشرف فصار إليه بحسن نيته فبنى لأجله دار الحديث المجاورة للقلعة وجعله فيها يزار في عصر الاثنين والخميس وكان والدي رحمه الله إذا جمعه وعلماء عصره مثل الشيخ تقي الدين بن العز والشيخ شرف الدين ابن الشيخ أبي عمر والشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين بن الصلاح وقاضي القضاة شمس الدين بن سنى الدولة وقاضي القضاة شمس الدين الخوى والشيخ أبي عمرو بن الحاجب والشيخ الحصيري وغيرهم من تلك الطبقة بالغوا في التأدب معه ولا يترفع أحد منهم عليه في الجلوس ولا الكلام ويرجعون إلى قوله وكذلك كان حال أكابر مشايخ عصره من الزهاد يتمثلون بين يديه ويمتثلون أمره حدثني غير واحد من أعيان الفقراء أن الشيخ عثمان العدوي رحمه الله قدم مرة دمشق وكان والدي بها فدخل أمين الدولة وزير الملك الصالح على علي والدي في أنه يعمل للشيخ عثمان ومن معه من الفقراء ضيافة فأجابه والدي فعمل ضيافة احتفل لها واستدعى إليها مشايخ البلد فلما حضر والدي والشيخ عثمان ومد السماط شرع والدي يأكل وامتنع الشيخ عثمان من الأكل فقال له أمين الدولة في ذلك فقال والدي المقصود بركة الشيخ عثمان ويترك في الأكل على اختياره فلما خرج الجماعة قال بعض الفقراء للشيخ عثمان يا سيدي أنت ليس لك من تقتدي به في أمور دنياك وآخرتك إلا الشيخ وقد رأيته أكل فلم امتنعت والله لما مد السماط شاهدته وهو نار تشتعل فكان سيدي الشيخ الفقيه يمد يده ويأخذ اللقمة من السماط ويرفعها فتستحيل وما تصل إلى فمه إلا وهي نور يتلألأ وأنا فلم يكن لي هذا التمكين فامتنعت.

وحكى لي القاضي تاج الدين عبد الخالق رحمه الله ما معناه قال قدم بعلبك في الأيام الأمجدية شخص كاتب وادعى أنه من ذرية شاور وزير العاضد بمصر أو من أقاربه فولاه الملك الأمجد المواريث الحشرية ببعلبك واتفق غيبة الملك الأمجد فمات شخص وله أولاد عم فاحتاط على تركته فطلبه الشيخ وقال له هذا الرجل له وارث وأنا أعرف أنهم أولاد عمه ومستحقي ميراثه فليس لكم عليه اعتراض فقال السلطان أمرني أن من مات احتاط على تركته وأنا ما أفرج من هذه التركة فغضب الشيخ وقال له قم قطع الله يدك ويد السلطان معك فقام ذلك الشخص وتوجه إلى الملك الأمجد بالمكان الذي كان فيه وشكا إليه فقال له كنت امتثلت ما أمرك به فأنت تراني لا أخالفه وأنكر عليه فما وسعه المقام ببعلبك فتوجه إلى دمشق وأقام بها مدة وعثر عليه أنه زور توقيعاً فقطعت يده وأما الملك الأمجد فبعد أخذ بعلبك منه نزل إلى دمشق وأقام بدار السعادة وهي داره فضربه مملوك له بالسيف على يده فقطعها وجرحه جرحاً آخر وبقي يومين ومات رحمه الله ومما يقارب هذا أن خالي تاج الدين يعقوب بن سنى الدولة رحمه الله قدم بعلبك في الأيام الناصرية زائراً ونزل في دار ابن عمه الشرف خضر وكان والدي كثير البر بأقارب والدتي فاتفق أنه قصد رؤيته وأنا معه فلما دخل قام خالي وقبل يده وقعد بين يديه وهناك فقير موله يقال له علي وقد أحسن خالي فيه الظن فلما دخل والدي قعد ذلك الفقير في الصفة فحضر الشمس محمد بن داود خادم والدي ومعه رأس مشوي ومدت السفرة وطلبوا على الفقير ليأكل فوضع يده على أنفه وقال أفوه أفوه وجعل يكرر هذا القول فلما سمعه والدي زعق فيه وقال قم قطع الله أنفك فخرج من البيت لوقته وطلب طريق الزبداني فلما كان بعد المغرب صادفه جندي سكران في الرمانة فضربه بالسيف فاصطلم أنفه بالكلية فعاد من الغد وهو على هذه الصورة وخولط في عقله فلم ينتفع بنفسه إلى أن مات.

ولما قصد التتر الشام في أوائل سنة ثمان وخمسين وستمائة وكثر الإرجاف بهم قال والدي رحمه الله للشيخ محمود بن الشيخ سلطان وكان الشيخ محمود يجتمع برجال لبنان قد جمع بينه وبينهم والده فقال له والدي سلم عليهم وسلهم عن أمر هذا العدو وما يكون عاقبة الناس معهم فسألهم وحضر عند والدي فقال له ما الذي أجابوك به فقال قالوا قل له يسألنا عن مثل هذا ونحن لا نعلم إلا ما يفضل عنه وسمعت الشيخ محمود رحمه الله يقول غير مرة ما توفي سيدي الشيخ الفقيه إلا بعد أن قطب اثنتي عشرة سنة أو قال فوق ذلك الشك مني في المدة وكان شرف الدين محمد بن عطاء حنبلي المذهب وكان يحب والدي محبة مفرطة بحيث ترك وطنه وانتقل إلى بعلبك لمحبته فيه وأقرأ ولده قاضي القضاة شمس الدين عبد الله الحنفي رحمه الله القرآن الكريم فلما فرغ منه قال له ولدي يا سيدي يقرأ المقنع أو مختصر الخرقى فقال والدي يقرأ في القدوري ويشتغل على مذهب ابن حنيفة فإنه يسود فيه فاشتغل وساد كما قال وكذلك قال لجماعة أخر من الشافعية وغيرهم فجرى الأمر كما قال رحمه الله وقال كنت عزمت على السفر إلى حران للاشتغال بالفرائض على شخص بلغني تفرده بهذا العلم وتبحره فيه وأريد السفر في غد ذلك اليوم فجاءني كتاب الشيخ عبد الله قال أو رسالته أنني أمضي إلى القدس فشق علي ذلك وأردت إمضاء ما عزمت عليه فاستفتحت في المصحف الكريم فظهر قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " فقلت هذا الشيخ لا يسألني أجراً ولا شك أنه مهتدي فسافرت إلى القدس كما أمرني وحضر عندي جماعة من أهل القدس يشتغلون علي بالفرائض وغيرها فأشغلتهم مدة وإلى جانبي رجل لا أعرفه فلما كان بعد مدة أيام سألته من أي البلاد هو فذكر أنه من حران فسألته عن ذلك الشخص الذي كنت عزمت على قصدة فوجدته هو بعينه فقلت يا سبحان الله وأنا أشغل بالفرائض بحضرتك ولا تقول لي شيئاً فقال لم تخط وإنما تسلك طريقاً بعيدة وتترك ما هو أقرب منها فلازمته وأخذت جميع ما عنده حتى ظننت أني قد صبرت أخبر بذلك منه ثم سألته عن سبب قدومه إلى القدس فذكرانه توفي له نسيب بالقدس ومعه تجارة احتاط عليها ديوان القدس وحضر لاستخلاصها وكان ناظر القدس وتلك الأعمال المنصرف فيها جمال الدين عبد الرحيم ابن شيث رحمه الله وهو صاحبي جداً ولا ينقطع عني فلما حضر قلت له بسببه فسلم إليه التركة بكمالها فما بات في القدس تلك الليلة وسافر إلى بلده وكان جمال الدين المذكور يحب والدي محبة شديدة وله صحبة مع الشيخ عبد الله.
وحكى والدي رحمه الله قال أقمت بالقدس مدة زمانية وكان ثم فقير يخدمني فلم أشعر إلا بشخص قد حضروا حضر عشرة دراهم وشرع يعتذر ويسأل الصفح فقلت له ما خبرك فقال الصاحب جمال الدين أمرني أن أعطي لهذا الشخص الذي يخدمك كل يوم عشرة دراهم برسم النفقة منذ قدمتم وكل يوم يحضر يأخذها من بكرة النهار فلما كان في هذا اليوم حضر وما معي دراهم فخاصمني وقال أنه يشكوني إلى جمال الدين فقلت له طيب قلبك ما عليك بأس وإذا عاد إليك يطلب منك شيئاً لا تعطه وقل له أنني أمرتك بذلك فأخذ الدراهم العشرة وراح وحضر ذلك الفقير عندي فلم أقل له شيئاً وعاد إلى ذلك الشخص يطلب منه الدراهم فأخبره أنه قال لي وأنني أمرته أن لا يعطيه شيئاً فسافر الفقير لوقته من القدس فكان آخر العهد به وحضر جمال الدين فقال لمن تأمر بقبض تلك النفقة قد كفى ما تفضلت والله لا عدت تناولت منه شيئاً فتألم لذلك فلاطفته إلى أن طاب خاطره بقطعها.

وكان لوالدي رحمه الله ابن عم يدعى إدريس وكان مشوه الخلق زري الشكل ليس له قوت إلا ما يعطيه والدي فركب والدي والملك الصالح إسماعيل إلى ظاهر البلد فصادفه داخلاً من قرية يونين إلى المدينة فحين رأهم تنكب الطريق وأبعد فطلبه والدي وسلم عليه ورحب به وسأله عن حاله وقال للملك الصالح هذا ابن عمي ولولا شرف العلم والتقوى لكنت مثله فتعجب الملك الصالح من ذلك وعظم في صدره وقال والدي رحمه الله مرضت في حال شبابي بذات الجنب والشقيقة ونالني من ذلك شدة عظيمة فدخل علي فقيران عاداني وسألاني عما أجد فأخبرتهما فقال أحدهما لصاحبه اختر أحد المرضين وأنا الآخر فقال أنا أحمل عنه ذات الجنب وقال صاحبه وأنا أحمل الشقيقة فتلبس كل واحد منهما لوقته بالمرض الذي اختاره وبرئت أنا بالكلية لوقتي فأما الذي أصابه ذات الجنب فبقي أياماً ومات رحمه الله وأما صاحب الشقيقة فبقي مدة وعوفى.
وحكى لي العماد محمد بن عوضة رحمه الله ما معناه أنه قال كنت يوماً في خدمة سيدي الشيخ بجامع دمشق وقد أحضر شخص له دارهم قريب ثلاثمائة درهم من ضمان بستان كان له بدمشق فأخذتها وجعلتها تحت طرف السجادة فمر في صحن الجامع رجل أعمى فقال لي يا عماد خذ هذه الدراهم أعطها لهذا الرجل فأخذت الدراهم وقمت إلى الأعمى ودفعتها إليه وجعلتها في مئزره فدعا لي وتوهم أنها فلوس فقلت له هذه الدراهم فاضطرب من السرور إلى أن كادت تسقط منه فقلت له هذه سيرها لك الشيخ الفقيه فدعا وانصرف ثم أن شخصاً أهدى للشيخ ثوب صوف نادر المثل فسألته أن أخيطه له ففصلته وخيطته وتأنقت فيه وأحضرته إليه وهو بجامع دمشق فلبسه وصلى فيه ركعتين وقعد وهو على أكتافه وذلك الأعمى مار في الجامع فقال لي يا عماد خذ هذه الفرجية أعطها لهذا الرجل ففعلت ذلك قال ثم كنت عنده يوماً آخر وذلك الأعمى عابر فأعطاني شيئاً له جنب وقال أعطه إياه فأعطيته ذلك وبقيت متعجباً من تخصيصه بذلك فلما رأيته منشرحاً سألته عن سبب ذلك فقال جئت مرة من جبل الصالحية ودخلت من باب الفراديس وأنا محتاج إلى الخلاء فدخلت الطهارة التي بين البابين عند الأزبهارية وقضيت حاجتي واغترفت غرفة من الجرن استعملتها ثم تأملت الجرن فوجدت فيه بعر فأر والماء مقطوع فورد علي ما ضيق صدري وكان هذا الرجل يسكن في المجاهدية وما كف بصره فلم أشعر به إلا وقد فتح علي باب بيت الطهارة وناولني إبريقاً مملوؤاً ماء من النهر فسررت بذلك وتطهرت بالماء وخرجت وأعطيته الإبريق ولم يكن لي في ذلك الوقت ما أعطيه فأنا لا أراه وعندي ما يمكنني أن أبره به إلا بررته مجازاة لفعله.
قال العماد فعجبت من هذه المكارم والمجازاة على ما أيسر شيء بمثل هذا، فكان والدي رحمه الله يبالغ في مجازاة من يخدمه ولو بايسر شيء بما يمكنه ولا يرى أنه وفي ذلك الشخص حقه.
وسمعته رحمه الله يحكي أن الشيخ عبد الله نزل دمشق وأقام بالربوة والملك العادل غائب عن دمشق ونائبه بها المعتمد رحمه الله فجعل نساء الملك العادل وبناته وإخواته يترددن إلى زيارة الشيخ وكثر ذلك ولا يقدر المعتمد على منعهن وخشي من الملك العادل وأن ذلك يبلغه فينكر عليه تمكينهن فحضر إلى عندي وكان صديقي وهو من أصحاب الشيخ ومحبيه وعرفني الصورة وطلب مني أن أحسن للشيخ السفر فوعدته بذلك هذا والشيخ في الطهارة وقام المعتمد ركب ودخل البلد وخرج الشيخ فتوضأ للصلاة وصلى ركعتين ولبس الجمجم وقال تم بنا وسافر لوقته ولم أحدثه بشيء مما قال المعتمد وكان عادة المعتمد أن يسير للشيخ في كل سنة فرجية قرض يصلي بها في الشتاء وتوهم المعتمد أن سفر الشيخ كان لقوله فكتب إلي يسألني أن أطيب قلب الشيخ عليه وسير الفرجية القرض فأحضرتها عند الشيخ وقلت يا سيدي المبارز المعتمد يقبل يدك وقد سير هذه الفرجية فقال يا محمد أنا إذا أحسن الشخص علي في العمر مرة واحدة وأساء بقية عمره ما أراه إلا محسناً وهذا المعتمد عمره يخدمني وقد أخطأ مرة واحدة وعرفني أن طيب القلب عليه أو ما هذا معناه.

حدثني الشمس محمد بن داود رحمه الله ما معناه قال وجدت ابن الشهاب على النهر ببعلبك وهو يشتم الشيخ شتماً قبيحاً وطلعت إلى القلعة ووجدت الملك الأمجد في شباك مجلس السماط فحين رآني من بعيد طلبني فحكيت له الصورة فسير جندارية وأمرهم بإحضاره ورميه في الجب إلى بكرة النهار يوقع فيه الفعل ويشهره فأحضروه عند غلوق باب القلعة وحبسوه وحكيت للشيخ رحمه الله فخاصمني وأنكر فعلي وسير فتوح الباب إلى الملك الأمجد وطلب منه إطلاقه وأنه لا يتعرض إليه بأذية وأكد في ذلك فتألمت أنا والجماعة لذلك وظهر علينا الأذى وشرعنا نعدد ما صدر منه غير مرة وأنه يستحق غاية العقوبة والنكال فقال صدقتم وإنما له والدة عجوز ما آذتني ومتى فعل به شيء مما قلتم تألمت فأنا أترك مقابلته لذلك.
دخل على الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل رحمهما الله تعالى الشيخ جمال الدين بن الحافظ المقدسي رحمه الله وبيد الملك المعظم مجلد فيه أحاديث غير معزوة فقال له أشتهي أن تعزي هذه الأحاديث إلى الكتب الصحاح وتعين ما اتفق عليه وما وقع لبعض المصنفين دون بعض ويكون ذلك بسرعة فقال له هذا يحتاج إلى مدة ويكشف من الأطراف وغيرها وأقل ما يكون ذلك في شهرين فاستطال المدة ودخل عليه في إثر ذلك الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي رحمه الله وهم في الحديث فقال للملك المعظم تعطيني هذا الكتاب والمقصود يحصل في عشرة أسام فأعطاه الكتاب فركب من وقته وحضر إلى بعلبك واجتمع بوالدي وقال له أشتهي أن تعزو هذه الأحاديث فأخذ الكتاب منه وعزاها على ما اقترح المعظم في مدة ثلاثة أيام وعثر على ألفاظ سقطت فألحقها بخطه وكان ذلك المجلد في نهاية حسن الخط، فلما فرغ منه أخذه الشيخ شمس الدين وعاد به إلى دمشق وحمله إلى الملك المعظم فسر بذلك وأثنى على الشيخ شمس الدين وفضيلته فلما عاد وحضر عنده الشيخ جمال الدين بن الحافظ عرفه أن الشيخ شمس الدين عزا تلك الأحاديث في مدة يسيرة وأوقفه على المجلد فتعجب من ذلك لأن الحديث لم يكن في الشيخ شمس الدين وتصفح المجلد فوجد تلك الإلحاقات التي بخط والدي فقال إنما عزا هذه الأحاديث الشيخ الفقيه اليونيني فقال وكيف صنع قال هو يحفظ هذه الأحاديث جميعها ويعرف مظانها فما يتعذر عليه ذلك وهذا خطه فقال اشتهى أن اجتمع به فقال ما يفعل يجئ إلى هنا.

وكان والدي رحمه الله لا يتناول من وقف شيئاً ولا يقبل بر أحد ولا أكل في عمره صدقة ولا ما يجري مجراها وكان يقبل الهدية من بعض الناس ممن يتيقن حل ما له ويكافي عليها، وحدثني أخي أبو الحسن علي رحمه الله أن والده رحمه الله أخبره قبل وفاته أنه من ذرية جعفر الصادق بن محمد الباقر رضي الله عنهما وإنما أخبره بذلك ليعلم ما يحرم عليه من الصدقة وما يترتب على ذلك وكان لا يصرح بذلك وإنما أظهره قبل وفاته لولده خاصة لهذا المعنى والله أعلم، ووقفت على ورقة بخط أخي رحمه الله يذكر فيها نسبه ومن مضمونها محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين شهيد كربلا بن علي المرتضى أمير المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف وذكره الحافظ عز الدين عمر بن الحاجب الأميني رحمه الله في معجمه فقال محمد بن أبي الحسين بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال الشيخ الفقيه الزاهد يكنى أبا عبد الله أصله ومولده بقرية يونين قرية من بعلبك وترعرع ونشأ في ستر وسلامة وصحب الشيخ الزاهد عبد الله اليونيني وأظنه نسيبه وتتلمذ له وعرف بصحبته واختص بخدمته وعادت أنوار الشيخ وبركته عليه وتخلق بأخلاقه وقرأ واشتغل بالفقه والحديث وغيرهما إلى أن صار إماماً عالماً حافظاً ثقة زاهداً ورعاً وقوراً وصار متقدم الطائفة وسالك الطريقة ولم ير في زمانه مثل نفسه في كماله وبراعته جمع بين علمي الشريعة والحقيقة وكان مليح الشيبه فصيح اللهجة حسن الوجه والشكل ظريف الشمائل مليح الحركات والسكنات له القبول التام في تلك الديار حميد المساعي والآثار وله الصيت المشهور والأفضال على المنتابين وكان من المقبولين المعظمين عند الملوك لكماله وفضله وحسن سيرته حسن الخلق والخلق نفاعاً للخلق مطرحاً للتكلف كريم النفس بشوش الوجه وكان من جملة محفوظاته الجمع بين الصحيحين للحميدي وغيره مليح الخط وذكر غير ذلك، ثم قال حكى لي الشيخ الفقيه رحمه الله تعالى قال مكثت مدة أريد أن أسأل شيخنا الإمام العلامة موفق الدين بن قدامة رحمه الله عما يقال عن الحنابلة في التشبيه والتجسيم هل هو مجرد شناعة أو قال به بعضهم فحصلت به الشناعة على الجميع أو هو شيء يخفيه المشايخ فلا يظهره إلا لمن يثق إليه إلى أن صعدت معه إلى جبل قاسيون وخلت الطريق وهو بين يدي وأنا خلفه فقلت الآن أسأله عما في نفسي فقلت يا سيدي وما زدت على ذلك فالتفت إلي وقال التشبيه مستحيل فقلت لم قال لأن من شرط التشبيه أن ترى الشيء ثم تشبهه من الذي رأى الله تعالى ثم شبهه لنا.
قال وحكى لي أيضاً قال حضرت مجلس شيخي عبد الله اليونيني رحمه الله وقد سأله ابن خاله حميد بن برق فقال زوجتي حامل إن جاءت بولد ما اسميه قال سم الواحد سليمان والآخر داود فأتت زوجته بتوأم فسمى الواحد سلميان والآخر داود قال وأنشدنا لنفسه:
خذ مليك الناس قولاً شافياً ... شافياً قولاً مليك الناس خذ
؟لذ بباب الله صباً مغرماً مغرماً صباً بباب الله لذ
إذ شباب المرء ظل زائل ... زائلاً ظل شاب المرء إذ
قال وحكى لي أيضاً أنه حفظ صحيح مسلم جميعه وكرر عليه في أربعة أشهر وكان يكرر على الجمع بين الصحيحين وأكثر مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حفظه وأنه كان في الجلسة الواحدة يحفظ ما يزيد على السبعين حديثاً، انتهى ما نقلته مختصراً من معجم الأميني رحمه الله وأورد له الشيخ عز الدين أحمد بن علي بن معقل الأزدي المهلبي رحمه الله أبياتاً في الروضة في وصف بعلبك وكان نظمها في أيام الشبيبة من أولها:
لله بلدة بعلبك بقعة ... رق النسيم بها وراق الماء
فتغردت أطيارها وتمايدت ... أشجارها وامتدت الأفياء
فالجو صاف والنسيم معطر ... والماء ناف ما جناه غذاء
طابت مآكلها وقد طابت بها ... أمواههاً والترب والأهواء
؟صحت جسوم رجالها وثمارها فتولدت عنها قوى وذكاء

من أبيات، ووقفت على جزء ألفه بعض المقادسة جمع فيه شيئاً من أحوال الشيخ عبد الله الكبير اليونيني وذكر بعض أصحابه وذكر والدي رحمه الله وذكر بعض مضمون ما تقدم فلم أذكره للاستغناء عن إعادته وذكرت مختصراً بعض ما لم أذكره في هذه الأوراق. قال ومنهم يعني أصحاب الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه قطب الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد بن أبي الحسين الفقيه كان إماماً عالماً علامة قطب ثمان عشرة سنة وكان أحسن أهل زمانه خلقاً وخلقاً.
ذكر بدايتهقيل: إنه كان بين يدي الشيخ عبد الله رحمة الله عليه فقال له أنت تكون فقيهاً وأرسله إلى الشيخ موفق الدين فقرأ عليه الفقه وعلى الإمام الحافظ عبد الغني رحمه الله الحديث وقرأ القرآن الكريم على الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسي رحمه الله وجمع الله له بين الحديث والفقه وكان يكرر الجمع بين الصحيحين وأعطاه الله الحال في صغره قال أبو الحسن علي بن الإمام أبي العباس أحمد بن عبد الدائم وكان يخدمه مدة سنين كثيرة وكان للشيخ الفقيه أوراد لو جاء ملك من الملوك ما أخرها عن وقتها.
نبذة من كراماتهقال أبو العباس أحمد بن محمد بن سعد كان بين يدي الشيخ الفقيه جماعة فذكروا السرقة فقال الشيخ أنا سرقت كنت صغيراً وكان لوالدتي في طاقة ثلاثة عشر درهماً فحدثتني نفسي أن آخذ منها درهماً فأخذته ثم لم أزل آخذ درهماً بعد درهم حتى آخذ منها درهما فأخذته ثم لم أزل آخذ درهماً بعد درهم حتى أخذت الجميع فلما كان بعد مدة احتاجت والدتي إلى ثوب فقال لي والدي لأمك في الطاقة ثلاثة عشر درهماً خذها واشتر لها بها ثوباً قال الشيخ فبقيت حائراً أتفكر وقمت إلى الطاقة فوجدت الخرقة وفيها ثلاثة عشر درهما أو كما قال.
وقال المؤلف حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الدائم قال كنت أخدم الشيخ الفقيه فلما كان في بعض الأيام ورد الشيخ عثمان من دير ناعس وكان الشيخ عند صغاره أو في مكان آخر قال فقال الشيخ عثمان كنت اشتهى يكشف الشيخ الفقيه صدره وأعانقه بصدري ويعطيني الثوب الذي عليه قال فلما جاء الشيخ عثمان ومن معه من الفقراء وأحضر الطعام فلما أكلوا وفرغوا قال لأصحاب الشيخ عثمان قوموا الشيخ عثمان ما يخرج الساعة فلما خرجوا قال قم يا شيخ عثمان فلما قام كشف عن صدره وعانقه ونزع الثوب الذي كان عليه وأعطاه للشيخ عثمان وقال كلما تقطع أعطيتك غيره أو ما هذا معناه.
قال المؤلف وأخبرني أبو الحسن علي بن أحمد المذكور قال ما كان الشيخ الفقيه يرى إظهار الكرامات ويقول كما أوجب الله على الأنبياء صلى الله عليه وسلم إظهار المعجزات أوجب على الأولياء إخفاء الكرامات قال وذكروا عنده الكرامات فقال ويلكم إيش الكرامات كنت وأنا صغير عند الشيخ عبد الله يعني ببعلبك وكان عنده بغاددة يعملوا مجاهدات وكنت أرى من يخرج من باب دمشق وأرى الدنيا قدامى مثل الوردة فكنت أقول للشيخ يا سيدي يجيء إلى عندك من دمشق أناس ومعهم كذا وكذا ومن حمص ومن مصر فإذا جاء ما أقول يقولون يا سيدي نحن نعمل مجاهدات وما نرى وهذا يرى فيقول هذا ما هو بالمجاهدات هذا من الله تعالى أو ما هذا معناه، قال وحدثني الشيخ إسرائيل ابن إبراهيم قال كان وقع لبعض أصحاب الشيخ الفقيه أمر كره الشيخ وقوعه فلما كان بعد مدة ورد الشيخ عثمان من دير ناعس فلما حضر عند الشيخ الفقيه سأله مسألة غليظة أن يمكنه بجعل قدمه على وجهه فقال له يا شيخ عثمان إيش هذا الخاطر فقال أنا قد سألتك فلما مكنه من ذلك قال له يا شيخ عثمان أعاد الله على المسلمين بركتك أشتهي زوال كذا وكذا فلما صلى العشاء رمق الشيخ عثمان فما كان إلا قليلاً وانقضت الحاجة فلما بلغ الشيخ الفقيه قال أحسنت يا شيخ عثمان أحسنت يا شيخ عثمان فسأل بعض الجماعة الشيخ عثمان فقال له أنت ما عندك أحد مثل الشيخ الفقيه فلم لا قام هو في هذا الأمر بنفسه فقال الخليفة إذا أراد شغلاً أو قال أمراً من الأمور ما يقوم هو فيه بنفسه ولكن يأمر بعض من عنده يقوم فيه أو ما هذا معناه.

قال وكان الشيخ الفقيه يكرر على الجمع بين الصحيحين وعلى أسماء الرجال فشذ عنه بعض الأسماء فنظر إلى السماء فعرفه فسأله خادمه ابن باقي فقال له يا سيدي رأيتك إذا نسيت الاسم ترفع رأسك إلى السماء فتذكره فقال له إذا نظرت إلى السماء رأيته مكتوباً في الهواء أو كما قال قال وأخبرني المعري عامر قال غضب الشيخ الفقيه على خادمه ابن باقي وروحه من خدمته فسافر إلى حلب وأقام بها مدة ورجع في يوم عيد والشيخ يخطب للعيد عند ضريح الشيخ عبد الله اليونيني والشيخ عثمان يومئذ حاضر فسأل ابن باقي الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله والشيخ عثمان أن يشفعا فيه عند الشيخ الفقيه وكان للشيخ عادة إذا صلى العيد يأخذ الجماعة إلى منزله قال فلما صرنا في منزله غمز ابن باقي للشيخ محمد فنظر إلى الشيخ الفقيه وقال يا سيدي أشتهي تصفح عن خادمك أبي بكر وكان حاضراً وكشفنا نحن رؤوسنا فاحمر وجه الشيخ الفقيه وأطرق وقال إذا كان الإنسان نحس إيش أعمل أنا ما يدخل أحد إلى المسجد إلا وأبصر قلبه مثل هذا الثوب وأمسك كمه ونظر إلينا وصاح غطوا رؤوسكم من فعل هذا حتى تفعلوه أنتم وأما الشيخ عثمان فإنه ما تكلم والتفت إلى ابن باقي فما رايته أو ما هذا معناه.
قال وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي بن عثمان بن عمر الموصلي الشافعي قال أخبرني المقرئ نصر المرداوي قال كنت أقرئ القرآن بمسجد الحنابلة ببعلبك وقد تجمع على عشرة دراهم دين ضاق منها صدري فخطر لي أخرج إلى بعض الأماكن واعمل واحصلها فلما صليت الصلح وكنت بالزاوية الغربية من المسجد والشيخ الفقيه بالشرقية فلما صلى طلبني فجئت إليه فقال روح إلى فلان وخذ منه عشرة دراهم أو ما هذا معناه، قال وأخبرني إبراهيم بن محمد بن حمدان قال أرسلت بكتاب من جهة الملك الصالح إسماعيل إلى عند الشيخ الفقيه فوصلت بعلبك ورحت إلى الشيخ وناولته الكتاب فقرأ بعضه ونظر إلي وقال ما جاءك أولاد قلت يا سيدي خليت المرأة على ليالها وتم قراءة الكتاب وقال لا رأى لحاقن وقام وتوضأ للصلاة فلما كان العصر من يوم الاثنين والمؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله رفع يديه وقال اللهم خلصها قال فلما رجعت إلى المزة أخبروني أنني جاءني صغيرة فسألت متى جاءت قالوا يوم الاثنين ومؤذن العصر يقول أشهد أن محمداً رسول الله أو كما قال.
قال وحدثني الشيخ إسماعيل بن علي بن إبراهيم قال كنت عند الشيخ الفقيه فنظر إلي وقال رحم الله والدك فلان وأمك فلانة قال فحصل عندي شيء فقلت له يا سيدي اسمع يقولون كرامات الفقراء وقد سمعتها منك وإذا إنسان ينادي على الباقلاء فقال الشيخ خذ قرطاس واشتر به باقلاء وخذه إلى حجرك وكل ما قلت لك كرامة أعطني باقلاه، ثم قال والله أيراد حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ينتفع به الناس أحب إلي من ملء الأرض كرامات أو ما هذا معناه، قال وحدثنا أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الوهاب قال جاءني فقيران من حلب يسالان الشيخ الفقيه عن أحاديث حتى استأذن لهما عليه فلما استأذنت بالدخول وكان بالزاوية التي قبلي المسجد ببعلبك فلما دخلنا عليه سلموا وتحادثوا فابتدأ الشيخ وحدثهم بمعنى الأحاديث وذكرها لهم فحصل عند أحدهما شيء فقال الشيخ لا إله إلا الله لو أراد الفقيران يكون كل كلامه كرامات فعل أو ما هذا معناه.
قال وأخبرني أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن محمد قال أخبرني الشيخ عثمان قال كان في خاطري ثلاث مسائل أريد أن اسأل الشيخ الفقيه عنها قال فأجابني عنها قبل أن أسأله أو ما هذا معناه، وقال أبو محمد عبد الرحمن المذكور طالعت في كتاب الترغيب والترهيب في باب الاستغفار ثم سألت الشيخ الفقيه عن الاستغفار فقال ذكر البخاري كذا وذكر مسلم كذا وما اتفقا عليه كذا ثم ذكر ما في الترغيب من فضائل الاستغفار قال: قال الشيخ حسن بن إبراهيم الحداد حضرت مجلس الشيخ الفقيه بجامع دمشق وقد سئل عن اختلاف الأئمة الأربعة فقال هذا الجامع الذي نحن فيه له أربعة أبواب فإذا دخل كل إنسان من باب صار فيه وهكذا الأئمة وكلهم على الحق.

قال المؤلف قرأت في سيرة الشيخ موفق الدين تأليف الشيخ الضياء محمد المقدسي قال سمعت الفقيه الإمام الزاهد أبا عبد الله محمد بن أبي الحسين اليونيني قال ومع ما رأيت منه وسمعت منه يعني الشيخ موفق الدين رحمه الله ما أعلم أنه أشكل على موضع في أصول الدين وفروعه إلا رأيته في المنام ورفع عني الإشكال مرة جاءتني فتيا مشكلة في الفروع فتحيرت في الجواب فرأيته في المنام فقال لي الجواب.
قال المؤلف قرأت في بعض الكتب ما صورته سمعت من لفظ شيخنا الفقيه الإمام العالم محمد بن أبي الحسين بن عبد الله اليونيني أثابه الله الجنة بكرمه ببلده بعلبك فيما رفعه إلى الجنيد رحمة الله عليه قال كان في نفسي مسألة في التوحيد فسألت عنها جماعة من أهل العلم فما شفي أحد فؤادي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عنها فشفى فؤادي قلت يا رسول الله ما التوحيد قال كل ما حده فكرك وأحاط به علمك أو أدركه حسك أو أصبته بفهمك فالله تعالى بخلاف ذلك وإنما يسأل العبد يوم القيامة عن الشك والشرك والتشبيه والتعطيل قلت يا رسول الله فما العقل قال أدناه ترك الدنيا وأعلاه ترك التفكر في ذات الله تعالى قلت يا رسول الله ما التصوف قال ترك الدعاوى وكتمان المعاني.
؟

ذكر قطبيته رحمه الله
قال المؤلف أخبرني الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ عثمان بدير ناعس قال أخبرني والدي قال قطب الشيخ الفقيه ثماني عشرة سنة أو كما قال: قال المؤلف حدثنا الشيخ محمود بن الشيخ سلطان بمنزلة ببعلبك قال: قال لي الشيخ الفقيه حاجة فلما سألت عنها أخبرت أنه قطب من اثنتي عشرة سنة فلما سألني عن الجواب قلت له من يكون قطب من اثنتي عشرة سنة يسألني عن حاجة فاحمر وجهه ولبس مداسه وخلاني وخرج أو كما قال.
قال المؤلف وحدثني علي بن أحمد بن عبد الدائم قال قدم علينا فقير بغدادي اسمه عبد الله وكان إمام قرية زحلة وأخبرنا أنه رأى خلقاً وسمع نقارات فسأل إيش هذا فقيل له قد قطب الشيخ محمد الفقيه قال فما كان إلا قليلاً وإذا بالشيخ عثمان قد أقبل من دير ناعس فقلنا له يا سيدي ما تسمع ما يقول هذا الفقير فقال وأيش قال قلنا قال كذا وكذا فقال الشيخ عثمان صدق لأجل هذا جئت أو ما هذا معناه، قال المؤلف وأخبرني الشيخ تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن فضل الواسطي قال رأيت للشيخ الفقيه رؤيا تدل على أنه أعطى ولاية أو كما قال.
ذكر أدب الملوك والوزراء بين يديهقال المؤلف سمعت قاضي القضاة أبا المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري الشافعي يقول سأل الملك الأشرف الشيخ محمد الفقيه فقال له يا سيدي اشتهى أبصر شيئاً من كرماتك فقال له الشيخ إيش يكون هذا فلما أراد الشيخ الخروج بادر الملك الأشرف إلى مداس الشيخ وقدمه فقال له الشيخ يا فلان هذا الذي كنت تطلبه قد وقع قال كيف يا سيدي قال أنت الملك الأشرف بن الملك العادل وأنا ابن رجل من أهل يونين تقدم مداسي قال فاطرق الملك الأشرف أو ما هذا معناه.
قال المؤلف حدثني إسرائيل بن إبراهيم قال كنت مرة عند الشيخ الفقيه وعنده ولده عبد القادر فإذا بأمين الدولة وزير الملك الصالح قد دخل فلم يقم له الشيخ فقال لي ولده عبد القادر ما الشيخ إلا عجيب يدخل عليه مثل هذا ما يقوم له فلما خرج أمين الدولة وانبسط الشيخ قال له ولده يا سيدي يدخل عليك مثل هذا الوزير ما تقوم له إيما أميز هذا أو الملك الأشرف كان إذا دخل علي وأنا متكئ على جنبي يسألني أني لا أقعد ويقف يقول ما أراد ويخرج وكان ابن الملك العادل وهذا من هو أو كما قال.

وقال المؤلف أخبرني الأمير سيف الدين بكتمر الساقي العزيزي قال لما عبر التتار إلى الشام قصدت زيارة الشيخ الفقيه فلما حضرت عنده ذكرت له التتار فأخبرني أنهم ينكسروا فلما أردت أودعه قلت له يا سيدي اشتهى تدعو لي قال فرفع يديه ورفعت يدي ودعا بدعاء لا هو بالعربي ولا بالتركي وقال لي ما بقيت بعدها تراني قال فلما انكسر التتار رجعت إلى دمشق وطلعت إلى بعلبك وسألت عن الشيخ قالوا توفى أو كما قال، قال المؤلف أخبرني الشيخ يوسف بن محمد بن موسى قال رأيت الشيخ الفقيه والشيخ عبد الله بن عزيز في المنام وفي حجر الشيخ الفقيه دنانير ودراهم وفلوس وفي حجر الشيخ عبد الله أيضاً قال فمست التي في حجر الشيخ الفقيه فوجدتها مسكوكة ولمست التي في حجر الشيخ عبد الله فوجدتها بلا سكة فسالت الشيخ الفقيه كما أنا من هذا في النوم فقال حالي ظاهر وباطن وحال الشيخ عبد الله باطن قال فلما رأيته في اليقظة أخبرته بما رأيت فقال صحيح أو ما هذا معناه.
قال وأخبرني أحمد بن عباس قال أخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ عثمان بدير ناعس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له يا رسول الله أنا مشتاق إليك فقال لي زر قبر الشيخ الفقيه وقال أبو الفداء إسماعيل بن علي بن إبراهيم الفراء درت أطراف الحجاز والعراق ومصر وما رأيت مثل الشيخ الفقيه وكنت مرة عنده فنظر إلي وقال يا شيخ إسماعيل أراك بعض الأوقات تؤذن على سجادتي وعلى باب المسجد وعلى باب داري وأنا قد عجزت عن الركوب فحج عني ولا تروح على البر إلا على البحر فإنك تروح طيباً فخالفته وشارطت عرباً وأعطيتهم مائة وخمسين درهماً فأخذوها وراحوا فلما طلعت إليه قال لي ما قلت لك ما تروح على البر فقلت يا سيدي وإيش أدراك فقال قولك إيش أدراك أعجب من مخالفتي قال فتجهزت ورحت على البحر فلما طلعت من البحر جئت إلى مكان فيه عين ونخل ورجل أسمر شديد السمرة فلما رآني سلم علي وقال لي طيب قلبك تروح طيباً فلما رجعت ودخلت على الشيخ سألني عن طريقي وقال إيش حسن المكان والنخل والرجل الأسود يوم فارقك جاء إلي وأخبرني إنك طيب وكان أحد الأبدال أو ما هذا معناه. قال وأرسلني الشيخ الفقيه مرة إلى مصر في حاجة فما وردت منزلة إلا وخرج إلى إنسان وخدمني إلى أن جئت إلى سفط الحنى ظاهر بلبيس فرأيت بها مسجداً وسفرة وأباريق فدخلته فقال شخص هذا مكان للصلاة ما هو للقعود فبينا نحن كذلك وإذا شيخ قد أقبل فقال لي يا أخي من أين أنت فقلت من دمشق فقال من تعرف قلت أعرف مشايخ الصالحية فلان وفلان ومشايخ بعلبك الشيخ الفقيه فصاح وقال هذا الشيخ الذي أخذت عنه أمور دينكم فاعتذر إلي وأكرمني تلك الليلة ودخلت القاهرة وقضيت حاجتي ورجعت فلما دخلت على الشيخ سألني عن طريقي فقلت له ما جئت إلى مكان إلا وخرج إلي من يخدمني فاغرورقت عينه بالدموع وقال يا إلهي ما هذا الإحسان وأنا ابن فلان من يونين قال وقلت له يا سيدي اشتهى أبصر الشيخ فلان فقال كان فقيراً يخدم الشيخ فقال له يا سيدي اشتهى أبصر القطب فقال له القطب يحضر في المكان الفلاني في السنة مرة وعند جماعة فسافر الفقير إلى ذلك المكان ورأى أولئك الجماعة فقالوا له مالك فقال جئت أبصر القطب فقالوا له اليوم راح من ههنا فبقي عندهم سنة، فلما كانت تلك الليلة التي عادة القطب يجئ فيها قاموا فقال لهم الفقير ما لكم قالوا الساعة يجيء القطب فقام معهم وإذا به قد أقبل فتلقوه وإذا هو شيخه فقال له يا سيدي وأنت هو قال نعم لو قلت لك إني هو ما سلمت لي أو ما هذا معناه.
قال المؤلف سمعت الشيخ عبد الدائم بن أحمد يقول كان الشيخ الفقيه في مبتدأه زاهداً وفي منتهاه عارفاً أو ما هذا معناه قال المؤلف وذكره سيف الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن الشيخ موفق الدين ممن سمع بقاسيون فقال محمد بن أبي الحسين اليونيني وذكر مولده وغير ذلك وقال كان عالماً سريع الحفظ كثير المحفوظ سمعته يقول حفظت أكثر مسند الإمام أحمد رضي الله عنه وكرر على الجمع بين الصحيحين وحفظ سورة الأنعام في يوم واحد وحفظ صحيح مسلم في أربعة أشهر وحفظ ثلاث مقامات من مقامات الحريري إلى نصف نهار الظفر انتهى ما نقلته من الجزء تأليف بعض المقادسة.

قلت وتزوج والدي رحمه الله في عمره ست زوجات ورزق عدة أولاد درج منهم في حياته جماعة وتوفي إلى رحمة الله تعالى وفي عقده والدتي رحمها الله تعالى أما بقية النساء فددجن إلى رحمة الله في حياته لم يفارق أحداً منهم ولا جمع بين زوجتين وخلف من الأولاد أخي أبا الحسين علي وخديجة وآمنة، أمهم ابنة الهمام تركمانية وموسى وأمة الرحيم وأمهما زين العرب بنت نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى ابن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط التغلبية وجدها الحسن ابن يحيى هو المعروف بسنى الدولة فأبو الحسين رحمه الله استشهد يوم الخميس حادي عشر شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعمائة كان وثب عليه من جرحه في رأسه بكرة يوم الجمعة خامس شهر رمضان المذكور بمسجد الحنابلة ودفن بباب سطحاً وكان سيداً كبيراً إماماً عالماً حافظاً متقناً محققاً رحمه الله ورضي عنه ومولده في شهر رجب سنة إحدى وعشرين وستمائة ببعلبك، و أما خديجة فكانت امرأة صالحة كثيرة العبادة والخير توفيت إلى رحمة الله تعالى في شهر رجب سنة ثمانين وستمائة ببعلبك ودفنت في تربة الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله تعالى وزين العرب والدتي رحمها الله تعالى توفيت سحر ليلة الجمعة خامس عشري شوال سنة ثلاث وتسعين وستمائة بمنزلي ببعلبك ودفنت بعد صلاة الجمعة في مقابر باب سطحا وقد نيفت على الثمانين سنة من العمر وكانت امرأة صالحة كثيرة العبادة وقيام الليل.
محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبو عبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال ومولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بدمشق في خامس شهر رمضان من هذه السنة رحمه الله وكان رجلاً صالحاً كثير الإيثار وحكاياته في أخذ الأجرة على ما يأكله وما يقبله من بر الأمراء والملوك وغيرهم مشهور ولم يسبقه إلى ذلك أحد ولا اقتفى أثره من بعده ولا شك أنه كان له حال ينفعل له بها ذلك وجميع ما يفتح به عليه على كثرته يصرفه إلى القرب ويفقد المحابيس وغيرهم من المحاويج والأرامل والمنقطعين وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور في فعله فإذا اتفق اجتماعه به انفعل له انفعالاً كلياً ولا يستطيع الامتناع من إعاطئه كل ما يروم وكان مع هذا حسن الشكل مليح العبارة حلو الحديث له قبول تام من سائر الناس وكان كثير المحبة في والدي رحمه الله والتردد إليه لما نزل دمشق في سنة خمس وخمسين والأكل عنده بغير أجرة وهو مطلق عنده دون غيره رحمه الله.
محمد بن عبد الله بن أبي بكر أبو عبد الله القضاعي البلنسي المعروف بابن الآبار الكاتب الأديب المحدث ذو الفضائل الجمة كان إماماً عالماً عارفاً بأنواع كثيرة من العلوم ومولده ببلنسية من شرقي بلاد الأندلس في أحد الربيعين من سنة خمس وتسعين وخمسمائة ونشر بتلك البلاد علماً كثيراً وصنف تصانيف مفيدة في علوم متعددة وتوفي بتونس في يوم الثلاثاء العشر من المحرم هذه السنة رحمه الله.
محمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر أبو عبد الله شمس الدين المقدسي الصالح العالم العابد المسند سمع من محمد بن حمزة بن أبي الصقر وغيره وأجاز له أبو طاهر السلفي والكاتبة شهدة رحمهما الله وهو آخر من روى عنهما فيما علم بالإجازة المعينة واستشهد بيد التتار في قرية ساوية من عمل نابلس في شهر جمادى الأولى ودفن بها وقد نيف على المائة سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الواحد بن عبد الجليل بن علي أبو بكر زكي الدين المخزومي اللبنى الشافعي كان فقيهاً عالماً فاضلاً خبيراً بالأحكام وعنده مشاركة جيدة في الأدب وغيره وله نظم حسن ولي القضاء ببانياس مدة وببصرى وولي إعادة المدرسة الناصرية بدمشق وتدريس المدرسة القليجية الشافعية بدمشق وغير ذلك ثم ولي القضاء ببعلبك

بعد وفاة صدر الدين عبد الرحيم قاضيها رحمه الله واستمر بها إلى أن جفل الناس من التتر في أول هذه السنة فتوجه إلى قلعة الصبيبة صحبة الأمير ناصر الدين التبنيني رحمه الله فلما سلمت إلى التتر دخل دمشق وأقام بها إلى أن انقضت دولة التتر وسأل العود إلى بعلبك فأعيد إليها فتوجه نحوها وهو متمرض فأقام بها أياماً وتوفي إلى رحمة الله تعالى في ذي القعدة ودفن في مقابر باب سطحاً ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك هو في عشر الثمانين وكان كريم الأخلاق حسن العشرة لطيف المحاضرة على ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير وكان شديداً في أحكامه مشكور السيرة في ولاياته متفننا في فضائله رحمه الله وكان يزعم أنه من ذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه واللبن قربة بين القدس ونابلس وأنشدني من نظمه أشعاراً كثيرة لم يعلق بذهني الآن منها شيء وسألت ولده معين الدين عن شيء من شعره فكتب لي هذه القطعة:
سل سائل العبرات في الأطلال ... كم قد خلوت بها بذات الخال
وجنيت باللحظات من وجناتها ... ما غض منه الغض من عذالي
وهممت ارتشف اللمى فترنحت ... فحمت جنى المعسول بالعسال
لو لم تكن مثل الغزالة لم تكن ... بمنى لها عني نفور غزال
صدت ولولاها تصدت لي لما ... وصل الغرام حبالها بحبالي
وبروض خديها تنعم ناظري ... ولنار وجنتها فؤادي صالي
فاعجب لجذوة خدها ولمائه ... ضدان مجتمعان من صلصال
أنا في هجير محرق من هجرها ... فمتى أطفيه ببرد وصالي
؟إن كان أعرض أو تعرض طيفها فمدامعي كالعارض الهطال
ومن المحال نزور من عبراته ... طوفانها قد طم طيف خيالي
قلت وقد جدت العقيق بمثله ... هلا بد معك جدت وهو لآل
فأجبتها ذي مهجتي من مقلتي ... سألت فكيف زعمت إني سالي
فتضاحكت فبكيت من فرط الجوى ... شوقاً فما رقت لرقة حالي
فعليلها ما أن يبل وغلتي ... ما أن تبل بريقها الجريال
ومنها في مديح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما الله تعالى.
رفعت عوامله لمجرور الظبي ... قمماً بها نصبت بحكم الحال
ورماحه رقصت فنقطها الظبي ... يوم الوغى بجماجم الأبطال
وسألت معين الدين المذكور عن عمر والده رحمه الله حال وفاته فقال كان نيف على ست وستين سنة من العمر وكنت أنا أتوهم أن عمره فوق ذلك بسنين عدة وولده أخبر بحاله والله أعلم.

محمد بن غازي بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى أبو المعالي الملك الكامل ناصر الدين صاحب ميافارقين وتلك البلاد ملك في سنة اثنتين وأربعين وستمائة عقيب وفاة والده الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل وكان أولاً يداري التتر فلما خبر باطن أمرهم وأن المداراة لا تفيد معهم انجذب منهم فلما علم أنهم على عزم قصده قدم على الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بدمشق مستغيثاً ومستنجداً على التتر فوعده بالنجدة بعد أن أكرمه غاية الإكرام وقدم له من التحف والخيول وغيرها ما يجل مقداره وعاد الملك الكامل إلى ميافارقين ولم يمكن الملك الناصر إنجاده لما رأى من تخاذل أصحابه وضعف قلوبهم عن مقابلة التتر لكثرتهم ولأنه لم يتفق إلى تلك الغاية من انتصف منهم وقد ملكوا العراق والعجم والروم وغير ذلك من الأقاليم والبلاد وسير هولاكو أشموط لمحاصرة الملك الكامل فحصره حصراً شديداً وبقي الملك الكامل رحمه الله مجاهداً للتتر صابراً لقتالهم حتى فني أكثر أهل ميافارقين وعمهم الموت قتلاً وفناء لكثرة الغلاء وعدم الأقوات وبقي محصوراً دون سنتين فعند ذلك ضعفت القوى عن محاربة العدو فاستولوا على ميافارقين واستشهد الملك الكامل قدس الله روحه وحمل رأسه على رمح وطيف به في البلاد فوصلوا به إلى حلب ثم إلى حماة وحمص وبعلبك وشاهدته رحمه الله وهو يطاف به بمدينة بعلبك ثم وصلوا به إلى دمشق يوم الاثنين سابع وعشرين جمادى الأولى وطافوا به بالمغاني والطبول ثم علق الرأس بسور باب الفراديس فلم يزل معلقاً في شبكة إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الرأس داخل باب الفراديس وقد ذكرنا كيفية دفنه وما قيل في ذلك فأغنى عن إعادته.
وكان رحمه الله ملكاً جليلاً ديناً خيراً عادلاً عالماً محسناً إلى رعيته وسائر من في خدمته كثير التعبد والخشوع لم يكن في البيت الأيوبي من يضاهيه في ديانته وحسن طريقته رحمه الله ورضي عنه وكان التتار قد استولوا على جميع بلاده ومعاقله ومعظم أولاده وحرمه وأهله وهو محصور بميافارقين ثم ختم له بالشهادة على هذا الوجه الجميل بعد أن أفنى في مدة الحصار من التتار ما لا يحصى كثرة رحمه الله تعالى.

أبو علي بن محمد بن أبي علي بن باساك الأمير حسام الدين الهذباني كان أميراً كبيراً جليل المقدار قوي النفس حسن التدبير كثير الرياسة عنده تعاظم وتعدد حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه إن الأمير حسام الدين لما حضر إلى دمشق في الأيام الناصرية طلبه الملك الناصر لحضور مشورة فظهر عليه كراهية الحضور وقال كنت أود لو عاجلني الموت في هذه الساعة فقلت لم يا خوند فقال قد طلبني السلطان إلى مجلسه العام وعنده ناصر الدين القيمري عن يساره وجمال الدين بن يغمور عن يمينه وهما عنده في المنزلة العليا فيقتضى الحال القعود دون أحدهما وهذا أرى الموت دونه فهونت عليه ذلك وقلت يا خوند مكانتك معروفة لا ينقصها ذلك فقال لكن على كل حال إذا كان ولا بد اشتهى أن يقعدوني في جهة الأمير ناصر الدين فهو كردي ثم أمرني بالتوجه إلى باب دار السلطان لكشف الخبر فلما صرت بباب دار السلطان وجدت بعض من كان حاضراً قد خرج فحدثني إن بعد توجه الرسول لطلبه تشاوروا أين يقعدونه إذا حضر فقال الأمير ناصر الدين هذا رجل كبير القدر وقادم على مولانا السلطان فيقعد بين مولانا السلطان وبين المملوك وتقرر أنه يقعد فوق الأمير ناصر الدين القيمري فعدت إليه مسرعاً فصادفته عند باب القلعة فعرفته ما جرى فتهلل وجهه ودخل فاحترمه الملك الناصر احتراماً كثيراً وأقعده إلى جانبه بينه وبين الأمير ناصر الدين القيمري فلما خرج قلت له يا خوند أجلسك السلطان إلى جانبه فوق الأمير ناصر الدين فقال نعم ما كان يمكن غير هذا وهذا التعاظم والمنافسة في مثل ذلك وما يجري مجراه إنما اقتبسه من مخدومه الملك الصالح نجم الدين فإنه كان اتصل بخدمته في حياة الملك الكامل ولازمه واختص به اختصاصاً كبيراً وجعله أستاذ داره وكان يعتمد عليه في مهماته ويثق به وثوقاً عظيماً ويسكن إليه بخلاف وثوقه بسائر من في خدمته ولما أمسك الملك الصالح واعتقل بالكرك أراد الأمير حسام الدين المذكور التوصل إلى آمد بإشارة من الملك الصالح إليه عند ما أمسك فعمل على ذلك فقبضه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل واعتقله في حبس الخيالة بقلعة دمشق ثم نقله إلى قلعة بعلبك فحبس في جب مظلم لا يفرق فيه بين الليل والنهار وهو مضيق عليه وينزل إليه في كل يوم قليل خبز وقليل من الماء وربما أنزل إليه مع الخبز جرزة بقل في بعض الأوقات قال الأمير حسام الدين فكنت أحسب في نفسي أنني ربما أمنع الطعام والشراب لأموت فكنت أدخر من الخبز المرتب شيئاً قليلاً وكذلك من الماء أجمعه في جرة طلبتها فاجتمع عندي من ذلك شيء كثير ثم طين على الجب ومنعت من الطعام والشراب فارتفقت بذلك الذي جمعته مدة إلى أن فتح الجب وأنزل إلي ما كان يجري علي أولاً إلى أن فرج الله تعالى عني ولما أخرج من الجب سنة إحدى وأربعين حمل إلى دمشق ونزل في برج كان الملك المغيث بن الملك الصالح نجم الدين معتقلاً فيه ثم أذن له في الانتقال من القلعة وأن يتجهز للمسير إلى الديار المصرية فخرج من البرج ومضى إلى مدرسة الأمير عز الدين أيبك المعظمي صاحب صرخد التي على شرف الميدان وأطلق له ما كان أخذ له من القماش والخيول والمماليك وغير ذلك وخلع عليه وأطلق له مال فتوجه إلى مخدومه وحكى لي ناصر الدين علي بن قرقين أن الأمير حسام الدين المذكور لما نقل إلى قلعة بعلبك حبس في بيت مفرد ولم يكن يدخل عليه كل أحد قال ناصر الدين المذكور وكنت أدخل عليه في كثير من الأوقات وأطيل الجلوس عنده والحديث معه وهو غير مضيق عليه فاتفق أن الملك الصالح عماد الدين سير أسد الدين الزرزاري بكتاب منه إلى والي القلعة بأن يمكنه من قتل حسام الدين فعظم ذلك على والي القلعة وكان رجلاً ديناً خيراً فطلبني وعرفني ما ورد به من المرسوم فقلت له وللزرزاري إذا قتلتموه إيش في عزمكم تفعلون به بعد القتل قالوا ندفنه قلت ادفنوه وهو حي ولا تتلوثوا بدمه واجعلوه في الجب وشاوروا السلطان قال فكتبوا إلى الملك الصالح عماد الدين وشاوروه على ذلك ففسح فيه وأمر أن ينزل إليه في كل أسبوع رغيفاً خبز وجرة ماء فامتثل المرسوم وكان ينزل له رغيفان كبيران ولم يزل على ذلك إلى أن أفرج عنه وفي سنة ثلاث وأربعين فوض إليه الملك الصالح نجم الدين النيابة بدمشق فمضى إليها وأقام بها، وفي سنة أربع وأربعين توجه إلى

بعلبك بمن معه من العسكر ونازل قلعتها وضايقها وكان بها الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وإخوته فاشتد عليهم الحصار فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان فرتب أمورها وسار إلى دمشق وأولاد الملك الصالح عماد الدين معه فاعتقلهم بدمشق ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين قال الأمير حسام الدين لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا فرق بين الليل والنهار حدثتني نفسي يوماً وأنا في تلك الحال التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية أنني أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتي التي كانت لي عند الملك الصالح نجم الدين وأنه يسيرني إلى بعلبك وأفتحها واحتاط على أولاد الملك الصالح إسماعيل وأحملهم بين يدي إلى دمشق فقلت لنفسي هذا من الأماني الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون فما كان الأمد يسيرة وحصل لي ما تمنيته عياناً لم يخرم منه شيء، وفي سنة أربع وأربعين أيضاً أطلق صاحب حمص الأمير بدر الدين محمد بن أبي علي والد الأمير حسام الدين وكان الملك المجاهد حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين ابن أبي علي وجماعة الحمويين فقدم بدر الدين على والده حسام الدين وهو يومئذ نائب السلطنة بالديار المصرية في سنة خمس وأربعين ثم توفي بعد قدومه بمدة يسيرة فدفنه ولده بالرصد وبنى عليه تربة، وفي سنة ست وأربعين تقدم الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير حسام الدين المذكور بالمسير إلى الصالحية مقدماً على العساكر المتوجهة إلى الشام واستناب الملك الصالح بالديار المصرية عوضه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور فخرج وأقام بالصالحية أربعة أشهر ثم رجع إلى القاهرة ثم سار إلى الشام مقدماً على الحلقة السلطانية ومعه الدهليز السلطاني إلى حمص.بعلبك بمن معه من العسكر ونازل قلعتها وضايقها وكان بها الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وإخوته فاشتد عليهم الحصار فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان فرتب أمورها وسار إلى دمشق وأولاد الملك الصالح عماد الدين معه فاعتقلهم بدمشق ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين قال الأمير حسام الدين لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا فرق بين الليل والنهار حدثتني نفسي يوماً وأنا في تلك الحال التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية أنني أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتي التي كانت لي عند الملك الصالح نجم الدين وأنه يسيرني إلى بعلبك وأفتحها واحتاط على أولاد الملك الصالح إسماعيل وأحملهم بين يدي إلى دمشق فقلت لنفسي هذا من الأماني الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون فما كان الأمد يسيرة وحصل لي ما تمنيته عياناً لم يخرم منه شيء، وفي سنة أربع وأربعين أيضاً أطلق صاحب حمص الأمير بدر الدين محمد بن أبي علي والد الأمير حسام الدين وكان الملك المجاهد حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين ابن أبي علي وجماعة الحمويين فقدم بدر الدين على والده حسام الدين وهو يومئذ نائب السلطنة بالديار المصرية في سنة خمس وأربعين ثم توفي بعد قدومه بمدة يسيرة فدفنه ولده بالرصد وبنى عليه تربة، وفي سنة ست وأربعين تقدم الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير حسام الدين المذكور بالمسير إلى الصالحية مقدماً على العساكر المتوجهة إلى الشام واستناب الملك الصالح بالديار المصرية عوضه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور فخرج وأقام بالصالحية أربعة أشهر ثم رجع إلى القاهرة ثم سار إلى الشام مقدماً على الحلقة السلطانية ومعه الدهليز السلطاني إلى حمص.

وفي المحرم سنة سبع وأربعين دخل الأمير حسام الدين إلى الديار المصرية نائباً بها وتوجه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور إلى الشام نائباً بدمشق فالتقيا في الرمل واستمر في نيابة السلطنة بالديار المصرية إلى حيث مات الملك الصالح فبلغه أن الأمير فخر الدين بن الشيخ قد عزم استدعاء الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل بن الملك الكامل من عند عماته القطبيات ويفوض السلطنة إليه ويكون أتابكه فتقدم الأمير حسام الدين إلى شمي الدين بن باخل وإلى القاهرة إذ ذاك أن ينقل المغيث إلى قلعة الجبل وأمر بالاحتياط عليه وسير قصاده إلى حصن كيفا يستحثوا الملك المعظم توران شاه على سرعة الوصول ويعرفوه المفاسد المترتبة على تأخره بخروج الأمر عنه إلى الملك المغيث فلما وصلت قصاده إلى الملك المعظم سار مجداً لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وترك بالحصن ولده الملك الموحد عبد الله وعمره نحو عشر سنين وعنده من يقوم بتدبيره وسار يعتسف القفار خوفاً من الملوك الذين في طريقه فوصل دمشق واستقر بقلعتها فامتدحه بعض الشعراء بقصيدة مطلعها:
قل لنا كيف جئت من حصن كيفا ... حين أرغمت للأعادي أنوفاً
فأجابه الملك المعظم في الوقت:
الطريق الطريق يا ألف نحس ... مرة آمناً وطوراً مخوفاً
فاستظرف الناس ذلك من الملك المعظم و لما توجه استصحب معه شرف الدين الفائزي ولما وصل الرمل أسلم علي يديه نشو الدولة ابن حشيش كاتب إنشائه ولقبه معين الدين ورشحه لأن يكون وزيره كما كان معين الدين بن الشيخ وزير أبيه فكان الأمير حسام الدين آكد الأسباب في حضور الملك المعظم وسلطنته بالديار المصرية والعجب منه كيف اجتهد في ذلك بعد ما سمع من الملك الصالح نجم الدين ما يقتضي العمل على خلافه فإنه قال لما ودعت الملك الصالح حين سفره إلى الشام قال لي أنا مسافر إلى الشام وأخاف أن يعرض لي موت وأخي الملك العادل بقلعة مصر فيأخذ البلاد وما يجري عليكم منه خير فإن عرض لي في سفري هذا مرض ولو أنه وجع إصبع أو حمى فاعدمه فإنه لا خير فيه لكم وولدي توران شاه لا يصلح للملك فإن بلغك موتي لا تسلم البلاد لأحد من أهلي بل سلمها إلى الخليفة المستعصم بالله وقال الأمير حسام الدين قلت للملك الصالح وهو مريض مشرف ما يسير مولانا السلطان يطلب ولده الملك المعظم فما أجاب فلما ألححت عليه قال أجيبه إليهم يقتلوه فكان الأمر كما قال وفي جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين استأذن الأمير حسام الدين الملك المعز في الحج فأذن له وأمر له بحراقة يسافر عليها إلى قوص وبألف دينار وطلب من الملك المعز الأمير عز الدين أزدمر الجمدار ليحج صحبته فأذن له ودخلا مكة في أواخر شعبان ونزل الأمير حسام الدين بدار الضيافة التي بقرب الصفا وقضى الحج وعاد إلى المدينة صلوات الله وسلامة على ساكنها فزار وتوجه إلى ينبع وأقام بها أياماً لأمر بلغه ثم عاد إلى الديار المصرية على الهجن وفي سنة إحدى وخمسين استأذن الملك المعز في التوجه إلى الشام وكان قد ترك الخدمة فأذن له وسافر إلى دمشق فاقطعه الملك الناصر خبزاً جليلاً واحترمه غاية الاحترام وقام عنده مكرماً معظماً، ثم توجه إلى الديار المصرية فتوفي بها وورد الخبر إلى دمشق بوفاته في أواخر شهر شعبان من هذه السنة رحمه الله ودفن بالرصد عند والده رحمهما الله وكان الأمير حسام الدين قد عرض له صرع قبل وفاته بسنين ثم تزايد به وكثر فكان سبب وفاته ومولده بحلب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وأصله من إربل وكان فاضلاً وله نظم جيد قال الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله أنشدني الأمير حسام الدين المذكور بالمدينة الشريفة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه لنفسه:
بتنا على حالة ما شابها ريبه ... لم نعدما سنه المدفون في طيبه
حتى بدا الصبح يرفل في ضياشيبه ... وفارق الليل مشكوراً على طيبه
وأنشدني الأمير عز الدين المذكور للأمير حسام الدين أيضاً:
لبيت داعي هواكم حين ناداني ... وقلت شأن الهوى العذرى من شأني
حفظى لعهد الهوى ديني مع إيماني ... وحبكم صاحبي في طي أكفاني
وأنشدني الأمير عز الدين للأمير حسام الدين أيضاً:

؟أهوى رشأ من خالص الترك رشيق في الحصو معربد وفي السكر مفيق
في فيه لعاشقيه در وعقيق ... ما أحسنه عندي عدو وصديق

وقد تقدم في هذه الترجمة أن صاحب حمص أطلق بدر الدين محمد والد حسام الدين وأن الملك المجاهد كان حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين بن أبي علي وشرح القصة في ذلك أن الأمير سف الدين كان هو المشار إليه من بني أبي علي ولما ملك الملك المظفر تقي الدين محمود حماة سنة ثمان وعشرين وستمائة اجتذبه إليه واقطعه سلمية وزوجه أخته وجعله عديل روحه والمتصرف في جميع ما تحويه يده وكان الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص كثير التعدي على صاحب حماة وبينهما عداوة عظيمة ثم بعد موت الملك الكامل اتفق معه الملك الصالح عماد الدين على مثل ذلك فضعف عنهما فاستنجد بالفرنج وحضر إليه جماعة من خيالتهم وبنى لهم في حماة كنيسة ولبس الغفارة تقرباً إليهم ليعتضد بهم على دفع الملك المجاهد والملك الصالح واتفق حضور الملك الصالح نجم الدين من المشرق وتسلمه دمشق من الملك الجواد على ما هو مشهور وعزم على قصد حمص وانتزاعها من صاحبها فحضر إليه جماعة من الأمراء المصريين فطلبوه ليملكوه الديار المصرية وقالوا له لا تشتغل بحمص إذا ملكت مصر كانت حمص وغيرها لك فتوجه إلى نابلس وأقام بها في انتظار عمه الملك الصالح وكان الملك الصالح والملك المجاهد قد اتفقا على أخذ دمشق وكان الملك الصالح نجم الدين مصافياً للملك المظفر صاحب حماة فسير إليه يقول أنا متوجه إلى الديار المصرية وتبقى دمشق شاغرة وأخاف من الملك الناصر داود ومن غيره من المجاورين فاحفظها كيف شئت فاقتضى رأيه أن يجهز إليها الأمير سيف الدين وخشي عليه من صاحب حمص فأظهرا منافرة وقال له سيف الدين في ملأ من الناس أنت تواطئ الفرنج وتريد تسليم البلاد إليهم وأنا ما بقيت أقيم عندك وقام خرج على غضب وتوجه في قريب أربعمائة فارس وجماعة كثيرة من أعيان الحمويين وجاؤوا إلى حمص ونزلوا على البحيرة فخرج الملك المجاهد إلى الأمير سيف الدين وهنأه بالسلامة وسير له الإقامات وسأله عن سبب حركته فأخبره فشرع صاحب حمص يشتم صاحب حماة ويلعنه بكل لسان ويشكر سيف الدين على مفارقته وصار يركب إليه كل يوم ويسيران ويتحدثان فعمل صاحب حمص حسابه ورتب له جماعة كثيرة وركب معه وسايره وأشغله بالحديث إلى أن قربوا من المدينة فتوقف سيف الدين وقال للملك المجاهد بسم الله يدخل المولى مدينته فقال لي بك اجتماع في المدينة وأشتهي أتحدث معك في مهم لي وأطلعك على ما في نفسي منه وهذا ما يمكن إلا في المدينة ولا بد من دخولك على كل حال فرأى الأمير سيف الدين أنه مقهور معه فدخل ونزلوا في دار بالمدينة وقال له الأمير سيف الدين ما هو المهم الذي ذكره المولى قال لي شغل أريد أقضيه وأشتهي تعيرني جماعتك يجيئون معي مدة ثلاثة أيام أستعين بهم على قضاء شغلي وأعود بهم إلى خدمتك خذهم ورح قال فأنا وهم نجئ معك قال ما يمكن المولى كبير المقدار وإنما تقيم أنت هنا إلى أن نعود فما أمكنه مخالفته وقد صار في قبضته فقال له الملك المجاهد تسير إليهم وتستدعي فلان وفلان وفلان جماعة عينهم منهم الأمير بدر الدين محمد والد الأمير حسام الدين فاستدعاهم فحضروا فقال تكتب إلى بقية العسكر أن يتوجهوا صحبتي فكتب إليهم فأخذهم وتوجه بهم هو والملك الصالح عماد الدين إلى دمشق فهجموها على الصورة المشهورة، فلما عاد صاحب حمص قال لعسكر الأمير سيف الدين من أراد أن يخدمني استخدمته ومن أراد يروح فيروح حيث شاء فخدم عنده جماعة يسيرة وراح الباقون ونقل الأمير سيف الدين ومن معه إلى قلعة حمص وضيق عليهم ولم يزل الأمير سيف الدين في حبسه إلى أن مات فيه رحمه الله، ومات الملك المجاهد وجميع أصحاب الأمير سيف الدين ومن كان في صحبته من الحمويين في الحبس ثم أفرج عن الأمير بدر الدين كما ذكرنا وأفرج عن من سلم منهم بعد طول مدة ومشقة عظيمة ومصادرة نالت من هو متهم بمال وكان هذا الفعل من سوء التدبير وضعف الرأي فإنهم لو توجهوا على البرية لوصلوا دمشق وحفظوها بمشيئة الله تعالى ولو لم يغرر الأمير سيف الدين بنفسه لما قدر صاحب حمص عليه فإنه كان معه عسكر يضاهي عسكر حمص ويزيد عليه لكن إذا أراد الله أمراً لا مرد عليه وكان الشيخ شرف الدين عبد العزيز وزير صاحب حماة إذا جرى عنده ذكر الأمير سيف الدين وما تم عليه يقول دعونا من دم ضيعه أهله.
؟؟
السنة التاسعة والخمسون وستمائة

أولها يوم الاثنين لأيام خلون من كانون الأول دخلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة حرسها الله تعالى نجم الدين أبو نمى بن أبي أسعد بن علي بن قتادة الحسني وعمه إدريس بن علي بن قتادة ومكة بينهما بالسوية وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب دمشق وبعلبك وبانياس والصبيبة الأمير علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد وصاحب الديار المصرية ومعظم الشام السلطان الملك الظاهر والمستولي على حلب وأعمالها الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار وهو في طاعة الملك الظاهر وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ وصاحب جزيرة ابن عمر أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازي بن أرتق وصاحب بلاد الروم ركن الدين قليج أرسلان بن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن علاء الدين السلجوقي وأخوه عز الدين كيكاووس والبلاد بينهما مناصفة وصاحب صهيون وبرزية مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الملك الكامل وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، وصاحب حمص وتدمر والرحبة الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذى والمستولي على حصون الإسماعيلية الثمانية التي بالشام من أعمال حلب رضي الدين أبو المعالي ابن أبي المنصور ونجم الدين إسماعيل الشعراني وصاحب مراكش أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف ويلقب بالمرتضى، وصاحب تونس أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى، و صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر، وصاحب ظفار موسى بن إدريس بن محمود بن محمد الحضرمي وصاحب دلى ناصر الدين محمود بن شمس الدين ايلتمش وصاحب كرمان تركان خاتون زوجة الحاجب براق وولدا قطب الدين براخمه وصاحب بلاد فارس أبو بكر بن أتابك سعد بن زنكى ابن دكلا.
متجددات الأحوال في هذه السنةفي المحرم منا جاء الخبر إلى دمشق بحفل أهل حلب وما والاها وسبب ذلك تجمع التتار الذين كانوا بحران وغيرها من بلاد الجزيرة وانضم إليهم من سلم من كسرة عين جالوت وضعفوا لشدة الغلاء عندهم فألجأتهم الضرورة إلى الغارة على بلد حلب فأجفل الناس من بين أيديهم.
وفيها في أوائل المحرم كانت كسرة التتار على حمص وكانوا في ستة آلاف فارس فلما وصلوا حمص وجدوا عليها الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ومن معه والملك المنصور صاحب حماة والملك الأشرف صاحب حمص في ألف وأربعمائة فارس فحملوا على التتار حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب بيدرة في نفر يسير وأتى القتل على معظمهم وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ولما عاد فل التتار إلى حلب أخرجوا من فيها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من اختفى خوفاً على نفسه ثم نادوا من كان من أهل حلب فليعتزل فاختلط على الناس أمرهم ولم يعلموا المراد فاعتزل بعض الغرباء مع أهل حلب جماعة من أقارب الملك الناصر رحمه الله ثم عدوا من بقي من أهل حلب وسلموا كل طائفة منهم إلى رجل من الأكابر ضمنوهم له ثم أذنوا لهم في العود إلى البلد وأحاطوا بها ولم يمكنوا أحداً من الخروج منها ولا من الدخول إليها أربعة أشهر فغلت الأسعار وبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهماً ورطل السمك ثلاثين درهماً ورطل اللبن خمسة عشرة درهماً ورطل الشيرج سبعين درهماً ورطل الأرز عشرين درهماً ورطل حب الرمان ثلاثين درهماً ورطل السكر خمسين درهماً والحلواء كذلك ورطل العسل ثلاثين درهماً ورطل الشراب ستين درهماً والجدي الرضيع أربعين درهماً والدجاجة خمسة دراهم والبيضة درهماً ونصفاً والبصلة نصف درهم والحسك نصف درهم وباقة البصل درهماً والبطيخة أربعين درهماً والتفاحة خمسة دراهم حتى أكلت الميتة من شدة الغلاء.

وأما الأمير حسام الدين الجوكندار والأمير نور الدين علي بن مجلى ومن معهما من الناصرية لما تحققوا عود التتر إلى حلب ساقوا على حمية وعبروا المرج ولم يقربوا دمشق وقصدوا الغور ثم إلى مصر فأقبل الملك الظاهر عليهم وكتب لهم المناشير بالأخباز بحلب ودمشق وعادوا بعد ما استولى الملك الظاهر على دمشق.
وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الملك الظاهر من قلعة الجبل بأبهة الملك ونزل من وراء القاهرة ودخل من باب النصر وشق البلد وخرج من باب زويلة عائداً إلى القلعة والأمراء وأعيان الأجناد مشاة بين يديه وكان هذا أول ركوبه في دست السلطنة ثم استمر بعد ذلك على الركوب للعب بالكرة وغيره.
؟

ذكر انتزاع دمشق من يد الأمير علم الدين الحلبي
كان الملك الظاهر قد كتب إلى الأمراء الذين بدمشق يستميلهم إليه ويحضهم على منابذة الأمير علم الدين والقبض عليه فأجابوه وخرجوا عن دمشق منابذين له وفيهم الأمير علاء الدين البندقدار والأمير بهاء الدين بغدى فتبعهم الأمير علم الدين الحلبي بمن بقي معه من الأمراء والجند فهزموه والجأوه إلى القلعة فأغلقها دونهم وذلك يوم السبت حادي عشر صفر ثم خرج من القلعة تلك الليلة وقصد بعلبك فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفراً من مماليكه ودخل علاء الدين البند قدار دمشق واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر وجهز إلى بعلبك لمحاصرة الأمير علم الدين الحلبي بدر الدين محمد بن رحال والأمير... التركماني فحال وصلوهما دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النورية وكان الأمير علم الدين الحلبي عند ما وصل جعل عنده في القلعة طائفة كبيرة من أهل نحله مقدمهم علي بن عبود فسير إليهم بدر الدين بن رحال وأفسدهم فتدلوا من القلعة ليلاً ونزلوا وترددت المراسلات بين الحلبي والبند قدار واستقر الحال على نزوله وتوجهه إلى خدمة الملك الظاهر حسبما يختار فخرج من القلعة راكباً حصانه وفي وسطه عدته وفي قربانه قوسان وهو كالأسد الهصور فحال ما بعد عن القلعة قدم له بغلة فتحول إليها وقلع العدة ووصل إلى دمشق وسار منها إلى الديار المصرية فأدخل على الملك الظاهر ليلاً بقلعة الجبل فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه وعاتبه عتاباً لطيفاً ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك.
وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الأول فوض الملك الظاهر أمر الوزارة وتدبير الدولة إلى الصاحب بهاء الدين علي بن محمد.
وفي ربيع الآخر حضر عند الملك الظاهر أحد أجناد الأمير عز الدين الصيقلي وأنهى إليه أنه فرق ذهباً في جماعة من حاشيته وقرر معهم الوثوب على السلطان واتفق معه الأمير علم الدين الغتمي وبهادر والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم.
وفي ربيع الآخر بعث الملك الظاهر عسكراً إلى الشوبك فتسلمه من نواب الملك المغيث بباطن كان بينهم وبين الملك الظاهر.
وفيه قبض الملك الظاهر على الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي بدمشق وحمل إلى قلعة الجبل فلم يزل محبوساً بها إلى أن مات.
ذكر نزوح التتار عن حلب وما حدث بعد نزوحهم

كان الملك الظاهر جهز الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي والأمير حسام الدين لاجين العينتابي في عسكر لترحيل التتار عن حلب فلما وصلوا غزة كتب الفرنج من عكا إلى التتار يخبرونهم فرحلوا عنها في أوائل جمادى الأولى فتغلب عليها جماعة من أحداثها وشطارها منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر وعلي بن الأنصاري وأبو الفتح ويوسف بن معالي فقتلوا ونهبوا ونالوا أغراضهم ثم وصل إليها فخر الدين الحمصي والعينتابي بمن معهما من العسكر فخرجوا هاربين ولما دخلها العينتابي صادر أهلها وعذبهم حتى استخرج منهم ألف ألف وستمائة ألف درهماً بيروتية وأقام بها إلى أن وصل إليها الأمير شمس الدين آقوش البرلي في جمادى الآخرة فخرج لتلقيه ظناً منه أنه جاء نجدة له وكان قد خرج من دمشق هارباً لما استشعر من الملك الظاهر فلما دخلها تغلب عليها فخافه فخر الدين الحمصي فأعمل الحيلة في الخلاص منه بأن طلب السفر إلى الملك الظاهر ليستميله إليه فمكنه من الخروج فلما توجه أخذ البرلي في مصادرة من كان في صحبة الحمصي وأبقى على العينتابي وأمر وأقطع ووقد عليه زامل بن علي بن خذيفة في أصحابه ففرق عليهم تسعة آلاف مكوكاً مما احتاط عليه من الغلال التي كانت مطمورة بحلب وفرق في التركمان أربعة آلاف مكوكاً أخرى.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى عرض الملك الظاهر ولاية القضاء بالديار المصرية على القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن القاضي رشيد الدين أبي الثناء محمود بن بدر العلامي فشرط شروطاً أغلظ فيها فأجابه السلطان إليها وصلى به الظهر وحكم بقية النهار وعزل القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن علي السنجاري وعوق عشرة أيام ثم أفرج عنه.
وفي الثامن والعشرين منه ولي الأمير جمال الدين موسى بن يغمور ولاية البحر وشد العمائر والجيزة وولي الأمير صارم الدين قايماز المسعودي القاهرة وولي شجاع الدين جلدك الفائزي شد الدواوين.
ذكر وصول المستنصر بالله إلى القاهرة ومبايعتهكان هذا وهو أبو القاسم أحمد بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد محبوساً ببغداد مع جماعة من بني العباس فلما ملكت التتار بغداد أطلقوهم فصار المستنصر إلى عرب العراق واختلط بهم فلما ملك الملك الظاهر وفد عليه مع جماعة من بني مهارش وهم عشرة أمراء مقدمهم ابن قبيتا والأمير ناصر الدين مهنا وكان وصوله إلى القاهرة في ثامن رجب فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين وقاضي القضاة تاج الدين والشهود والرؤساء والقراء والمؤذنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل في يوم الخميس فدخل من باب النصر وشق القاهرة وكان يوماً مشهوداً، ولما كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان والخليفة في الإيوان بقلعة الجبل وحضر الصاحب بهاء الدين وولده فخر الدين وقاضي القضاة تاج الدين والأمراء والناس على طبقاتهم وقرئ نسب الخليفة على القاضي وشهد عنده بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع وركب من يومه وشق القاهرة في وجوه الدولة وأعيانها.
باب في مبايعته

وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس رضي الله عنه وهو الإمام المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن أبي المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين بويع بالخلافة في قلعة الجبل ظاهر القاهرة من الديار المصرية يوم الاثنين ثالث عشر شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة وأول من بايعه قاضي الديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف الشافعي عند ما ثبت نسبه عنده ثم بايعه الملك الظاهر والشيخ عز الدين عبد العزيز ابن عبد السلام والأمراء والأعيان من أولى الحل والعقد وكانت بيعته في الأيوان الكبير بالقلعة المذكورة وكان المسلمون بغير خليفة منذ قتل التتار ابن أخيه الإمام المستعصم بالله أبا أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد رحمه الله في أوائل سنة ست وخمسين مدة ثلاث سنين ونصف وكان المستنصر بالله شديد السمرة جسيماً وسيماً عالي الهمة شديد القوى عنده شجاعة وإقدام وهو أخو المستنصر بالله أبي جعفر المنصور ونعت بنعته وهذا ما لم يجربه العادة فيما تقدم أن خليفة يلقب بلقب خليفة تقدمه من أهل بيته وقد ولى الخلافة إخوان وثلاثة إخوة إما أربعة أخوة ولوا الخلافة فأولاد عبد الملك بن مروان لا غير وثلاثة إخوة الأمين والمأمون والمعتصم أولاد هارون الرشيد والمستنصر والمعتز والمعتمد أولاد المتوكل والمكتفي والمقتدر والقاهر أولاد المعتضد والراضي والمتقي والمطيع أولاد جعفر المقتدر وإخوان فالسفاح والمنصور ولدا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه والهادي والرشيد ابنا المهدي والواثق والمتوكل ابنا المعتصم والمسترشد والمقتفي ابنا المستظهر والمستنصر منصور والمستنصر هذا ابنا الظاهر ومنه إلى العباس رضي الله عنه أربعة وعشرون نفراً وولي الخلافة بعد ابن أخيه ولم يل أحد بعد ابن أخيه قبله إلا جده المقتفي بن المستظهر فإنه ولي أيضاً بعد الراشد بن المستظهر، وأما من ولى الخلافة بعد عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك من بني أمية ولي بعد عمه هشام ابن عبد الملك والمعتضد ابن الأمير الناصر بن المتوكل ولي بعد عمه المعتمد ابن المتوكل والراضي بالله بن المقتدر بن المعتضد ولي بعد عمه القاهر بالله ابن المعتضد ومدة خلافة المستنصر منذ بويع إلى أن فقد خمسة شهور وعشرون يوماً فمدة خلافته أقصر المدد من أهل بيته، أما من بني أمية فمعاوية بن يزيد بن معاوية رحمه الله مدة خلافته أربعون يوماً ويزيد ابن الوليد خمسة أشهر وأخوه إبراهيم بن الوليد سبعون يوماً، ومن بني العباس رضي الله عنه لم يستكملوا سنة أولهم المستنصر بن المتوكل بقي في الخلافة ستة أشهر والمهتدي بن الواثق بقي فيه أحد عشر شهراً وأياماً والحسن بن علي رضي الله عنهما بقي في الخلافة منذ بويع بعد قتل أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أن نزع نفسه وبايع معاوية رضي الله عنه سبعة شهور وأحد عشر يوماً وقيل غير ذلك.
ولما كان يوم الجمعة ركب من البرج الذي كان مقيماً به في القلعة وعليه ثياب سود إلى الجامع بالقلعة للصلاة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس ثم استفتح وقرأ سورة الأنعام حتى بلغ قوله تعالى: " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وترضى عن الصحابة رضي الله عنهم ودعا للسلطان ثم نزل وصلى بالناس.
وفي مستهل شعبان تقدم الخليفة بتفضيل خلعة سوداء وبعمل الطوق وقيد من ذهب وبكتب تقليد السلطنة للملك الظاهر ونصب خيمة ظاهر القاهرة، فلما كان يوم الاثنين رابعه ركب الخليفة والسلطان والوزير ووجوه الدولة والأمراء والقضاة والشهود إلى الخيمة فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه وقيده وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتاب منبراً نصب له فقرأ التقليد وهو من إنشائه وبخطه ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق والقيد ودخل من باب النصر وشق القاهرة وقد زينت له وحمل الصاحب بهاء الدين التقليد على رأسه راكباً والأمراء يمشون بين يديه وكان يوماً يقصر اللسان عن وصفه.
نسخة التقليد

الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشد ما وهي من علائه حتى أنسى ذكر من سلف، وقيض لنصره ملوكاً اتفق عليهم من اختلف، أمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشكر عليها فليس له عنها منصرف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمناً، وتسهل من الأمور ما كان حزناً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فنا، صلى الله عليه وعلى آله الذين أصبحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وبعد فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعاً وساجداً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الحميد متقدماً، ودعا إلى طاعته فأجابه من كان منجد أو متهماً، وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصماً، ولا استباح بسيفه حمى وغي إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً.

ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه ذكرها الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله سلطانه تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهب ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب، دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلماً بعد أن كان عليها حرباً، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعاً رحباً، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفاً، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بأمر البيعة أمراً لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف من حسابه، فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل إلا يأس من جمعه، وأمير المؤمنين يشكر هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية، والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجداً وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فرداً، ولا جعل منها بلداً من البلاد ولا حصناً من الحصون مستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى، فلا حظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملاً، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولاً عنها لا سائلاً، ودع لاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلاً، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالاً زائلاً، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى، فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة، وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل والإحسان، وكرر ذكره في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوباً كتبت عليه وآثاماً، وجعل يوماً واحداً منه كعبادة العابد ستين عاماً، وما سلك سبيل العدل إلا واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمن بعد تداعي أركانه مشيد الأركان، وتحصن من حوادث الزمان فكانت أيامه في الأنام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إنما حلى بها عطل الأجياد، وهذه الأقاليم منوطة بنظرك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيباً واجعل عليه في تصرفاته رقيباً، وسل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولاً وبما اجترم مطلوباً، ولا تولى منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوباً ومرهم بالأناة في الأمور والرفق ومخالفة الهوى إذا ظهرت لهم أدلة الحق، وإن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق وإن لا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وإن يكونوا لمن تحت إيديهم من الرعية إخواناً، وأن يوسعوهم براً وإحساناً وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم وإن كان أميراً عليه وسلطاناً، فالسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله، ومما يؤمرون به أن يحمي ما أحدث من سيء السنن، وجدد من المظالم التي هي على الخلائق من أعظم المحن، وإن يشتري بإبطالها المحامد فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن، ومهما جبى منها من الأموال فإنها باقية في الذمم وإن كانت حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها حالية، فإنها هي على الحقيقة عاطلة، و هل أشقى ممن احتقب إثماً، واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له خصماء وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلماً، وحقيق بالمقام الشريف السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف عن الخلائق ثقلاً لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخراً، فأحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على

ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه الأمور ينبغي أن تلاحظ وترعى، وإن يوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صيرت في الأمور أصلاً، وغيرك فرعاً، ومما يجب تقديم ذكره الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد، يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الإغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك الذي أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور، من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها ما غادره العدو متداعياً متهدماً، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراُ، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحاً ورجع خاسراً واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سائرة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تطلع في أيام وقد سبى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأس الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعم تستثمر بشكره.ا خصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه الأمور ينبغي أن تلاحظ وترعى، وإن يوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صيرت في الأمور أصلاً، وغيرك فرعاً، ومما يجب تقديم ذكره الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد، يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الإغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك الذي أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور، من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها ما غادره العدو متداعياً متهدماً، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراُ، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحاً ورجع خاسراً واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سائرة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تطلع في أيام وقد سبى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأس الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعم تستثمر بشكره.

ولما تمت البيعة أخذ السلطان في تسييره إلى بغداد ورتب له الطواشي بهاء الدين صندل الصالحي شرابياً والأمير سابق الدين بوزبا أتابكا والأمير الشريف نجم الدين جعفر أستاذ دار والأمير فتح الدين ابن الشهاب أحمد أمير جاندار والأمير ناصر الدين محمد بن صرم خازندار والأمير سيف الدين بلبان والشمسي وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموري دويدارية والقاضي كمال الدين بن عز الدين السنجاري وزيراً وشرف الدين محمد بن علي بن أبي جرادة كاتباً وعين له خزانة وسلاح خاناة ومماليك كباراً وصغاراً عدتهم أربعون مملوكاً رتب منهم جمدارية وسلاح دارية وزرد كاشية ورمح دارية وأمر له بمائة فرس وعشرة قطر بغال وعشرة قطر جمال وفراش خاناة وطبل خاناة وطست خاناة وشراب خاناة وحوائج خاناة وإماماً ومؤذناً وكتب لمن وفد معه من العراق تواقيع باقطاعات، واستتب هذا الحال إلى أن تجهز الملك الظاهر إلى الشام لسبب يذكر فيما بعد، فبرز في تاسع عشر شهر رمضان إلى بركة الجب فأخرجه معه ورغب إليه في إلباسه سراويل الفتوة فألبسه ثم سافرا.
؟
ذكر ولاية الأمير علم الدين الحلبي نيابة السلطنة بحلبلما خرج فخر الدين الحمصي من حلب كما قدمنا ذكره وبلغ الرمل كتب إليه الملك الظاهر يأمره بالعود وكان البرلي لما تغلب على حلب خرج منها في حشد من التركمان والعربان لشن الغارة على عيسى بن مهنأ وكان على حمص فلما مر البرلي بحماة طلب من صاحبها موافقته فأبى وأغلق دونه أبواب البلد فأحرق غلالاً للعشر بالباب الغربي وعاث في نواحيها وأفسد وذلك في نصف رجب وبلغ الملك الظاهر فولى الحلبي نيابة السلطنة بحلب وأقطعه ما يقوم بوظائف المملكة ورتب معه علاء الدين بن نصر اله مدبر الأمور وبعث معه عسكراً لمحاربة البرلي وقدم عليه الأمير جمال الدين آقوش المحمدي فسار الحلبي ومن معه وقصد الرقة ودخل الحلبي حلباً وسار المحمدي يتبع البرلي فأدركه بالرقة فركب ودخل على المحمدي خيمته وقال له أنا مملوك السلطان وما هربت إلا خوفاً منه وقد رغبت إليك في أن تستعطفه بحيث يبقى على حران فإني طردت نواب التتر عنها ووليت فيها ومتى لم يسمح بالإبقاء علي لم أجد بداً من التجائي إلى التتار فتكفل له المحمدي بما التمسه ورحل عائداً وعبر البرلي إلى حران وكان ذلك خديعة منه.
ذكر أخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلبكان الحلبي قد كاتب الأسد حاجب الجوكندار والبهاء على أن يسلمها إليه وكان ولاه بها علاء الدين بن صاحب الموصل فطلب ذهباً يقرروا عينه فأجابه الحلبي وسير إليه المال ولم يسلمها ثم استدعى البرلي من حران فسار إليه وتسلمها ثم قصد حلب فلما كان بتل باشر خرج عن طاعة الحلبي أكثر من كان معه ولحقوا بالبرلي فخرج الحلبي من حلب ليلاً فلما علم البرلي بذلك بعث إليها علم الدين طقصبا الناصري وسيف الدين كيكاري الحلبي فتسلماها ثم دخلها في أوائل شهر رمضان وبعث طائفة ممن كان معه في أثر الحلبي فلم يدركوه.
ذكر وصول ولدي صاحب الموصل إلى القاهرةفي العشر الأخر من شهر رجب خرج الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن صاحب الموصل منها واستخلف فيها زوجته التترية ولم يستصحب معه شيئاً من المال وسبب خروجه خوفه من التتار فإنهم كانوا قد أخذوا يختلقون له ذنوباً يريدون بذلك القبض عليه فاستشعر منهم، فلما وصل قرقيسيا كتب إلى أخيه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق وكان بالجزيرة يعرفه بحركته ويشير عليه بقصد الملك الظاهر ثم ساروا فوصل القاهرة في أواخر شهر رجب فخرج الملك الظاهر إلى لقائه وأكرمه واحترمه وأمر له بمال وثياب وأنزله في دار الفائزي خارج باب القنطرة بمصر ثم وصل أخوه الملك المجاهد في ثاني شهر رمضان فخرج السلطان للقائه وفعل معه كما فعل مع أخيه وأنزله بجواره في دار أنشأها معين الدين ابن الشيخ ورتب لمن وصل معهما من الحريم راتباً مجرى عليهم في كل شهر.
ذكر توجه الخليفة والسلطان إلى الشام

لما وردت الأخبار بأخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلب وخروج الحلبي عنها برز السلطان بالعساكر إلى بركة الجب ومعه الخليفة وأولاد صاحب الموصل في تاسع عشر شهر رمضان بعد أن رتب الأمير عزك الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بقلعة الجبل والصاحب بهاء الدين مدبر الأمور وخرج مع السلطان الأمير بدر الدين بيليك الخزندار بعد أن فوض إليه أمور الجيوش وأقامه مقام نفسه وفخر الدين بن الصاحب بهاء الدين وزير الصحبة وأقام ببركة الجب إلى عيد الفطر وخلل هذه الأيام وصل المحمدي فأنكر عليه إبقاءه على البرلي وانخذاعه له ووصل رسول الملك المغيث صاحب الكرك بكتاب يتضمن الاعتذار وطلب الصفح عنه وإبقاء الكرك عليه وكان سبب الغضب عليه إنه كتب إلى يعقوب بن بدل وإلى جمال الدين أغل وإلى جماعة من أمراء الشهرزورية بعد أن تسلطن الملك الظاهر وهم بالقاهرة يستميلهم إليه فخرجوا عن الطاعة ثم إن العرب عثروا على قصاد منه إلى التتر وعلى أيديهم كتب مضمونها إنه مستمر على طاعتهم فلما ورد كتابه أجابه بالرضا عنه فقصر في حق الشهرزورية ففارقوه ثم رحل السلطان في ثالث شوال وفيه ولي قاضي القضاة برهان الدين الخضر السنجاري قضاء مصر وعزل عنها تاج الدين المعروف بابن بنت الأعز.
ذكر مصاهرة الخزندار المواصلةلما وصل الملك الظاهر غزة في ثالث عشر شوال استدعى أولاد صاحب الموصل وعرفهم مكانة الأمير بدر الدين الخزاندار عنده ومحله منه وطلب منهم أن يزوجوه بأختهم فأجابوا فعقد عقده وملكه بانياس وقلعة الصبيبة بعقد البيع والشراء.
ذكر وصول الخليفة والسلطان إلى

دمشق وخروج الخليفة منها
ثم رحل السلطان من غزة فدخل دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة وقدم عليه الملك الأشرف صاحب حمص فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثياباً وزاده من البلاد تل باشر وكان الملك المظفر رحمه الله قد حلها عنه وقدم عليه الملك المنصور صاحب حماة فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثياباً وكتب له توقيعاً ببلاده التي بيده ثم جهز الخليفة وأولاد صاحب الموصل صحبته فكان الذي غرم على تجهيز الخليفة وأولاد صاحب الموصل فوق الألف ألف دينار عيناً وجهز الأمير علاء الدين أيدكين البند قداري لنيابة السلطنة بحلب وأعمالها وبعث معه عسكراً لمحاربة البرلي وقدم عليه الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي فخرجا من دمشق في منتصف ذي القعدة فلما وصلا حماة خرج البرلي من حلب وقصد حران فتبعه الرشيدي ودخل البند قداري حلب ولما وصل الرشيد الفرات رحل البرلي عن حران وقصد قلعة القرادي فحاصرها حتى أخذها من نواب التتار عنوة ونهبها وعاد الرشيدي بعسكره إلى أنطاكية فشن الغارة على بلدها ودام ذلك سنة حتى بذلوا له مالاً في طلب المهادنة فأبى ثم بلغه أن الملك الظاهر خرج من دمشق قاصداً مصرفي سبع عشر ذي الحجة فرحل عن أنطاكية.
ذكر توجه الخليفة إلى العراق
وأولاد صاحب الموصل

لما سير الملك الظاهر البند قداري والرشيدي كما تقدم أشار على الخليفة بالتوجه إلى العراق واعتنى بتجهيزة فرغب أولاد صاحب الموصل وهم الملك الصالح وولده علاء الملك والملك المجاهد سيف الدين صاحب الجزيرة والملك المظفر علاء الدين صاحب سنجار والملك الكامل ناصر الدين محمد في العود إلى بلادهم فخرجوا من دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة فلما وصلوا الرحبة وافوا عليها الأمير بريد بن علي بن حذيفة من آل فضل وأخاه الأخرس في أربعمائة فارس من العرب وفارق الخليفة أولاد صاحب الموصل من الرحبة وكان التمس منهم المسير معه فأبوا وقالوا ما معناه مرسوم بذلك فاستمال من مماليك والدهم نحو ستين نفراً فانضافوا إليه ولحقهم بالرحبة الأمير عز الدين ابن كر من حماة ومعه ثلاثون فارساً ثم رحل الخليفة بمن معه عن الرحبة بعد مقام ثلاثة أيام فنزلوا مشهد علي رضي الله عنه ثم رحل إلى زاوية الشيخ بري ثم إلى قائم عنقه ثم إلى عانة فوافوا الإمام الحاكم بالله على عانة من ناحية الشرق ومعه نحو سبعمائة فارس من التركمان وكان البرلي قد جهزهم من حلب فبعث المستنصر بالله إليهم واستمالهم فلما جاوزوا الفرات فارقوا الحاكم فبعث المستنصر بالله يطلبه إليه ويؤمنه على نفسه ويرغب إليه في اجتماع الكلمة فأجاب ورحل إليه فوفى له وأنزله معه في الدهليز وكان الحاكم لما نزل على عانة امتنع أهلها منه وقالوا قد بايع الملك الظاهر خليفة وهو واصل فما نسلمها إلا إليه فلما وصل المستنصر بالله نزل إليه واليها وكريم الدين ناظرها وسلماها إليه، وحملا له إقامة فأقطعها للأمير ناصر الدين اغليش أخى الأمير علم الدين الحلبي ثم رحل الخليفة عنها إلى الحديثة ففتحها أهلها له فجعلها خاصاً له ثم رحل عنها ونزل على شط قرية الناووسة ثم رحل عنها قاصداً هيت، ولما اتصل ذلك بقرابغا مقدم عسكر المغل بالعراق وبهادر على الخوارزمي شحنة بغداد خرج قرابغا بخمسة آلاف من المغل على الشط العراقي وقصد الأنبار فدخلها إغارة وقتل جميع من فيها ثم ردفه بها در بمن بقي ببغداد من العساكر وكان قد بعث ولده إلى هيت متشوفاً لما يرد من أخبار المستنصر بالله وقرر معه إنه إذا اتصل به خبره بعث بالمراكب إلى الشط الآخر وأحرقها، فلما وصل الخليفة هيت أغلق أهلها الباب دونه فنزل عليها وحاصرها حتى فتحها ودخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة ونهب من فيها من اليهود والنصارى ثم رحل عنها فنزل الدور وبعث طليعة من عسكره مقدمها الأمير أسد الدين محمود بن الملك المفضل موسى نائباً عن بوزبا فبات تجاه الأنبار تلك الليلة وهي ليلة الأحد ثالث المحرم سنة ستين وستمائة وكان ينبغي ذكر تتمة هذه الواقعة في حوادث سنة ستين وإنما لارتباط الحديث وسياقته ذكرتها في هذه السنة، فلما رأى قرابغا الطليعة أمر من معه من العساكر بالعبور إليها في المخائض والمراكب ليلاً، فلما أسفر الصبح أفرد قرابغا من معه من عسكر بغداد مسلماً ناحية، ورتب الخليفة اثنى عشر طلباً فجعل التركمان والعربان ميمنة وميسرة وباقي العسكر قلباً ثم حمل بنفسه مبادراً وحمل من كان معه في القلب فانكسر بهادر ووقع معظم عسكره في الفرات ثم خرج كمين من التتار فلما رآه التركمان والعرب هربوا وأحاط الكمين بعسكر الخليفة فصدق المسلمون الحملة فأفرج لهم التتر فنجا الحاكم وناصر الدين بن مهنا وناصر الدين بن صيرم وبوزبا وسيف الدين بلبان الشمسي وأسد الدين محمود وجماعة من الجند نحو الخمسين نفراً وقتل الشريف نجم الدين جعفر أستاذ الدار وفتح الدين بن الشهاب أحمد وفارس الدين أحمد بن ازدمر اليغموري ولم يوقع للخليفة على خبر فقيل قتل في الوقعة وعفى أثره وقيل نجا مجروحاً في طائفة من العرب فمات عندهم وقيل سلم واضمرته البلاد.

وفيها بعث الملك المظفر صاحب ماردين بعد موت أبيه الملك السعيد رحمه الله عز الدين يوسف بن الشماع إلى التتر ليتعرف له ما أضمرته نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له بين الملك المظفر وبين أيل خان يعنون هولاكو وعد أن والده متى مات دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شيء يدخل في طاعته حتى يدارى عنه فقالا نحن نضم له أن أيل خان يعوضه عما خرب بلاداً عامرة مما جاوره، فلما عاد عز الدين وأخبره رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعوا وترددت الرسل إلى أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه، فلما صعدا القلعة بعث الملك المظفر نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهة سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغة وادياً الرسالة فأجاب إلى ما ضمنه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك فرامين وبعث بها من جهته مع قصاد وأبقى الرسل عنده وأمر بالرحيل عن ماردين، فرحلوا في شهر رجب ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداى فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين الملك المظفر والتتر وأسلم كوهداى على يد الملك المظفر فأزوجه أخته.
ثم توجه الملك المظفر في شهر رمضان إلى هولاكو واستصحب معه هدية سنية من تحف أدخرها أبوه وأجداده من جملتها باطية مجوهرة قيمتها أربعة وثمانون ألف دينار، فاجتمع به بصحراء إدرنة بنهر الباع من أعمال سلماس فأقبل عليه وأكرمه وقال له بلغني أن أولاد صاحب الموصل هربوا إلى مصر وأنا أعلم أن أصحابهم كانوا السبب فأترك أصحابك الذين وصلوا صحبتك عندي فإني لا آمن أن يحرفوك عني ورغبوك في النزوح عن بلادك إلى مصر وإذا دخلت أنا البلاد استصحبتهم معي فأجابه إلى ذلك ثم انفصل عنه عائداً إلى بلده فلما كان في أثناء الطريق لحقته رسل تأمره بالعود فعاد وجلاً فقال له هولاكو أخبرني أصحابك أن لك باطناً مع صاحب مصر وقد رأيت أن يكون عندك من جهى من يمنعك التسحب إليه ثم عين له أميراً يدعى أحمد بغا ورده إلى ماردين وزاده نصيبين والخابو وأمره بهدم شراريف القلعة ثم ضرب بعد مفارقته له رقاب الجماعة وكانوا سبعين رجلاً منهم الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن الملك السعيد ونور الدين محمد وأسد الدين البحى وحسام الدين عزيز البحى وفخر الدين ابن جاجري وعلاء الدين والي القلعة وعلم الدين بن حيدر ولم يكن لأحد منهم ذنب لكن قصد بقتلهم قص جناح الملك المظفر.
وفيها كان المصاف بين الأخوين ركن الدين وعز الدين صاحبي الروم على قوم من قونية في الخامس والعشرين من شهر رمضان فكسره ركن الدين لأنه كان معه نجدة من التتر وخامر على عز الدين العربان واحداً مقدمي التركمان وتأخر محمد بك إلا وحي عنه وقتل من أصحاب عز الدين خلق كثير وأمسك منهم جماعة فشنقوا على الأسوار وانحاز عز الدين إلى أنطاكية وأقام بها وترك في بلاده شمس الدين أرتاش نائباً عنه.
وفيها وصل رسول رضي الدين أبي المعالي ونجم الدين إسماعيل ابن الشعراني المستوليين على حصون الإسماعيلية إلى الملك الظاهر بدمشق وعلى يده هدية ومعه رسالة مضمونها التهديد والوعيد وطلب ما كان لهما من الإقطاعات في الدولة الناصرية والرسوم فأجابهما إلى ذلك فلما عزم على التوجه إلى مرسلاه وحضر لوداع الملك الظاهر قال له بلغني أن الرضا قد مات وقد رأيت أن أولئك مكانه ولم يكن اتصل به شيء من ذلك فكان ذلك سبباً لاستنزاله له عن سره ثم كتب له توقيعاً بالولاية فتوجه المذكور فوجد الرضى في عافية فكتم التوقيع ولم يلبث إلا عشرة أيام حتى مرض الرضا أياماً قلائل ثم مات فولى مكانه فلم ترض به الإسماعيلية وقتلوه فنقم عليهم الملك الظاهر قتله وشرع في أعمال الحيلة عليهم إلى أن استأصل شأفتهم واحتوى على بلادهم، قلت هذا خلاصة ما كان على خاطري وما نقلته من مسودات كانت عندي من حوادث هذه السنة وقد ذكر القاضي جمال الدين محمد ابن واصل بعض الحوادث المتقدمة على وجه آخر ربما هو أتم من ذلك فذكرت ما قاله واثبته هنا والله أعلم.

قال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل في حوادث هذه السنة لما وصل عسكر حلب وحماة إلى حمص على ما تقدم شرحه في حوادث سنة ثمان وخمسين اجمعوا بالملك الأشرف صاحبها وعزم عسكر حلب على التوجه إلى دمشق وقارب التتر حمص فلام الملك الأشرف الجوكندار على هذا الرأي وقال له ما يقال عنا في البلاد وبأي وجه نلقى صاحب مصر وأخذ في تثنيته هو وصاحب حماة وحرضاه على لقاء العدو وكان قد وقع بين الجوكندار وبعض خشداشيته منافرة من أجل الأموال التي أخذت من ابن صاحب الموصل فما زال بهم الملك الأشرف والملك المنصور حتى أصلحا بينهم، ووصل التتر فحمل عليهم المسلمون يوم الجمعة خامس المحرم ورزقهم الله النصر عليهم فبددوا شملهم وأخذتهم سيوف المسلمين وكان فيهم جماعة كثيرة من شجعان المغل، قال مبارز الدين أستاذ دار صاحب حماة كان من بهادرية المغل في هذه الوقعة أكثر من الذين كانوا منهم في وقعة عين جالوت بالغور وانهزم من سلم من التتر والمسلمون في آثارهم ومدح الصاحب شريف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ رحمه الله الملك المسعود صاحب حماة وهنأه بهذا الفتح بقصيدة مطلعها:
لك في الندى وردى ذوي الأشراك ... شيم تفوق بها على الأملاك
ومنها:
لما شكا دين الهدى اشكيته ... بشديد باسك والسلاح الشاكي
دعت المعالي يا أباها دعوة ... لامت عليك فقلت لبي فاك
جردت يوم الأربعاء عزيمة ... خفيت عواقبها عن الإدراك
وأقمت في يوم الخميس مبالغاً ... في الجمع بين طوائف الأتراك
ووقفت في يوم العروبة موقفاً ... أوسعت فيه الفتك بالفتاك
قيدت ابطال التتار بصولة ... تركتهم كالصيد في الأشراك
وأطرت منهم هام كل مدجج ... لله كل موحد سفاك
فالطعن والطاعون أسلمهم إلى ... ضرب كا شداق المخاض دراك
بردت أكباد الورى بقواضب ... قذفت عليهم كالضرام الذاكي
أضحكت سن ثغورنا من بعد ما ... ظفروا بها فبكى عليها الباكي
غادرتهم صرعى كأن كماتهم ... في المرج من سلاف جناك
ثم ارتحلت إلى دمشق موضحاً ... سبل الرشاد المحض للسلاك
ورجعت في غرر الجيوش معاجلاً ... منا رهان نفوسنا بفكاك
فلقد أنمت المحصنات أو أمنا ... ولقد أقمت شعائر النساك
سلمت مهجة كل بر مسلم ... وهزمت كل معاند أفاك
نوهت باسمك في سماء مدائح ... أعلته فوق مجرة وسماك
تسبي العقائل والعقول جميعها ... من صائغ لنضارها سباك
فلك الهناء بما منحت ولا تزل ... يجري بسعدك دائر الأفلاك

ولما بلغ خبر هذه الوقعة إلى حماة وكان بها جماعة يميلون إلى التتر وربما أراد بعضهم أن ينقب من السور إليهم موضعاً يدخلون منه إلى البلد فثار أهل حماة عليهم فقتلوا بعضهم منهم رجل من أطراف الناس يقال له ابن دخان فقتله العامة واعتقل بعضهم ووصل الملك المنصور إلى حماة وبعد هذه الوقعة رجع التتر ونازلوا حماة وكانت قواهم تضعف لقلتهم والرعب الذي داخلهم عن المقام على حصار البلد فرحلوا ولم يقيموا إلا يوماً واحداً وأراد الملك المنصور السفر إلى دمشق ليستصحب عسكراً يتقوى به على التتر فمنعته العامة من ذلك حتى استوثقوا منه بأنه يعود إليهم عن قرب فمكنوه من السفر بطائفة قليلة من خواصه ومماليكه وترك عندهم الطواشي شجاع الدين مرشداً والعسكر وسار إلى دمشق، وتوجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق أيضاً والمتولي عليهم علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد وكان حين ورد الخبر إلى دمشق بهذا الفتح زين البلد وضربت البشائر ووصل إلى دمشق رؤوس التتر محمولة في الشرائح فرميت في الطرق ووصل الأمير حسام الدين الجوكندار ومن معه من العزيزية والناصرية ونزلوا المرج ولم يدخل دمشق خوفاً من الحلبي ثم رحل إلى الكسوة وتوجه إلى الديار المصرية بمن معه وكان يتوهم أن الملك الظاهر يقلده حلب وأعمالها نيابة عنه فلم يتم له ذلك، وأما التتر فإنهم اندفعوا إلى ناحية أفامية ونزلوا في تلك الأرض وطمع فيهم المسلمون ودخل عليهم الشتاء واشتد البرد وورد إلى أفامية الأمير سيف الدين الدبيلي الأشرفي ومعه جماعة فأقام بها وواتر الإغارة عليهم والقتل والنهب ثم رحلوا طالبين الشرق.
؟

ذكر القبض على علم الدين الحلبي
في أوائل هذه السنة قدم عسكر من الديار المصرية مقدمهم الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وهو من أكابر الأمراء الصالحية وإليه ينسب الملك الظاهر قبل السلطنة وكان علاء الدين هذا مملوكاً قبل الملك الصالح نجم الدين للأمير جمال الدين بن يغمور وورد الأمر من مصر إلى الأمير شمس الدين البرلي ومن معه من العزيزية والناصرية أن يقدموا إلى دمشق فقدم بهم، فلما قدمت العساكر خرج الحلبي بأصحابه ومماليكه وحمل العسكر المصري فانهزم من مع الحلبي وجرح وقتل من مماليكه جماعة وعاد إلى القلعة فأقام بها إلى أن أجنه الليل وهرب إلى جهة بعلبك فاتبع وقبض عليه ثم حمل إلى الديار المصرية واعتقل بها ثم أطلق بعد ذلك.
وكان ورود العسكر المصري إلى دمشق في ثالث عشر صفر واستقرت العساكر الظاهرية بدمشق وأقيمت الخطبة بها وببلادها وبحماة وحمص وحلب للملك الظاهر وكان قبل ورود العسكر المصري قد سير الملك المنصور صاحب حماة وهو مقيم بدمشق ابن عمه الأمير ناصر الدين محمد بن الملك المسعود عثمان بن الملك المنصور وكانت منزلته عالية عنده رسولاً إلى الملك الظاهر فأنزل باللوق وأكرم إكراماً كثيراً وأجيب بما طاب به قلب الملك المنصور ورجع إلى صاحبه مكرماً، وكان ناصر الدين هذا متميزاً عنده فضيلة وله نظم جيد منه:
لله در عصابة تغشى الوغى ... تهوى الخياطة لا إليه تنتمى
ذرعوا الفوارس بالوشيج وفصلوا ... بالمرهفات وخيطوا بالأسهم
ذكر خروج الأمير شمي الدين البرلي والعزيزية من دمشق على حمية
واستيلائهم على حلب

لما استقرت العزيزية مع مقدمهم الأمير شمس الدين بدمشق وكان التتر قد نازلوا البيرة وضايقوها من غير محاصرة والأمير علاء الدين البندقداري مقيم بدمشق وقد جرد إلى حلب الأمير فخر الدين الحمصي مقدماً وصحبته جماعة من الأمراء فوصولا حلب وحكم الأمير فخر الدين فيها وضم بها شمل الرعية وتوجه الملك المنصور والملك الأشرف إلى بلديهما واشتدت مضايقة التتر البيرة فكتب فخر الدين الحمصي إلى الملك الظاهر وطلب إيجاده على التتر فكتب الملك الظاهر إلى البندقداري بأن يكون على أهبة المسير إلى حلب بجميع من عنده من العسكر وأن يقبض على شمس الدين البرلي وبهاء الدين بغدي وعلى جماعة من العزيزية والناصرية وبلغ ذلك هؤلاء الأمراء واتفق رأيهم على الخروج من دمشق يداً واحدة على حمية وإن يتوجهوا إلى حلب ويقبضوا على فخر الدين الحمصي ويقيموا في تلك الجهات وتحالفوا على ذلك فتوجه بهاء الدين بغدي إلى الأمير علاء الدين البندقداري رجاء أن يسلم بذلك ويتقدم عنده فحين دخل إليه قبض عليه وقيده ورسم عليه جماعة، وورد الخبر بذلك إلى الأمير شمس الدين البرلي ومن معه من العزيزية والناصرية فركبوا وخرجوا من دمشق ليلاً ووقع بسبب هذه الحركة انزعاج شديد بدمشق ونزل البرلي بأصحابه في المرج فبعث إليه البندقداري يلومه على ذلك وحلف له أن الأمر ما ورد إلا بقبض بهاء الدين خاصة وأرسل إليه مثالاً ورد من مصر بما يرضيه وكان الأمير شمس الدين قد تحقق أن الأمر بخلاف ذلك من جهة من ورد إليه من مصر فتوجه بأصحابه طالباً حلب، ولما وصل إلى حمص راسل الملك الأشرف بأن يتفق معه فلم يجبه إلى ذلك وكان قد كاتب بعض أمراء حماة بأن يفتح له أحد أبواب حماة ليدخل إليها ويستولي عليها فأجابه إلى ذلك وكان في معسكر البرلي وهو نازل بظاهر حمص ناصر الدين ناصر الجذامي وهو من أصحاب صاحب حماة ومختص بخدمته وإنما كان في عسكر البرلي ليكشف الأخبار لصاحبه فحين بلغه ذلك سار مسرعاً إلى حماة وأخبر الملك المنصور بذلك وكان الذي كاتبوا البرلي على الباب الذي واعدوه الدخول منه فجعل الملك المنصور على الباب غيرهم، ووصل الأمير شمس الدين إلى حماة فنزل ظاهرها وقد فاته ما طلب ولم يظهر الملك المنصور تغيراً على الذين كان منهم ذلك ولا غير أخبازهم ولا أشعرهم أنه عرف شيئاً من أمرهم ولما نزل الأمير شمس الدين ظاهر حماة أرسل إلى الملك المنصور يدعوه إلى الاتفاق معه وأنه يقيم الملك المنصور سلطاناً ويكون في خدمته.

قال الملك المنصور رحمه الله أرسل إلى الأمير شمس الدين يقول ينبغي أن تقوم وتحيى بيتك الكريم فما بقي في البيت الأيوبي من يصلح لهذا الأمر سواك ونكون بين يديك ونقاتل معك ونملكك البلاد فأرسلت إليه ناصر الدين البدوي أقول له متى وفيتم أنتم لأحد من بيت أستاذكم حتى تفوا لي وأنا ما لي حاجة بالملك وإنما أنا قانع بهذه البلدة وأكون فيها مطيعاً لمن يكون مالكاً للديار المصرية، ولما يئس الأمير شمس الدين من إجابة الملك المنصور غضب وأمر بإحراق بيدر الشعير غربي البلد فاحترق وأعقب ذلك جدب وغلاء شديد ثم توجه الأمير شمس الدين ومن معه إلى شيزر ونازلوها أياماً ثم ساروا إلى حلب فلما وصلوا الوضيحى جمع الأمير شمس الدين أصحابه واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بأن يكون الدخول في صبيحة الغد وأنهم لا يلبسون لأمة الحرب ولا يظهرون إلا طاعة الملك الظاهر ويقولون أنا خفنا على أنفسنا لما سمعنا تغير خاطره علينا فالتجأنا إلى أطراف البلاد إلى أن يصلنا أمانه ونعود إلى خدمته فوافقهم على ذلك وفي صبيحة الغد رحلوا إلى حلب وقد خرج فخر الدين الحمصي ومن معه من العسكر لابسين لأمة الحرب مستعدين للقاء وجاء البرلي ومن معه ودخلوا بينهم واختلطوا جميعاً بهم ودخلوا حلب ونزل الأمير شمس الدين في دار الأمير شمس الدين لؤلؤ ونزل أمراء العزيزية والناصرية حوله ثم طلبوا من فخر الدين الحمصي أن يتوجه إلى الملك الظاهر ويطلب لهم الأمان والرضا بشرط أن يكون الأمير شمس الدين مقدم العساكر بحلب والأمراء الذين في صحبته عنده ويصلهم المناشير من الديار المصرية بما يختاره الملك الظاهر ويكون الأمير شمس الدين مستقلاً بنيابة السلطنة ولا يكلف الاجتماع بالملك الظاهر وتوجه فخر الدين إلى مصر ليدبر هذه القاعدة فلما وصل إلى الرمل وجد الأمير جمال الدين الحمدي قد جرد معه عسكراً ليتوجهوا إلى الأمير شمس الدين البرلي حيث كان ويقاتلوه فكتب فخر الدين إلى الملك الظاهر يخبره بما قدم لأجله فورد عليه الجواب ينكر عليه غاية الإنكار ويأمره أن ينضم إلى المحمدي بمن معه من العسكر ويقصلون البرلي ثم رضي الملك الظاهر عن الأمير علم الدين الحلبي وجهزه وراءهم في جمع من العسكر ثم جهز بعدهم الأمير عز الدين الدمياطي في جمع آخر وتوجهوا كلهم إلى جهة حلب ليقبضوا على الأمير شمس الدين البرلي أو يطردوه عن حلب وكان الأمير شمس الدين لما توجه فخر الدين الحمصي علم أن الملك الظاهر لا يوافقه على ما طلب فأخرج من عنده من العسكر المصري واستبد بالأمرو جمع إليه من العربان والتركمان وأخرج ما كان مخبأ في حلب وبلادها من الغلال وفرقه على الشود وكان قصده إخلاء حلب من الغلال لئلا تبقى ميرة لعسكر مصر واستعد للقاء عسكر مصر وبلغه توجههم إلى قتاله وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك.
وفي السابع من جمادى الأولى عقد عزاء بجامع دمشق للملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وذلك لما ورد الخبر بمقتله.
ذكر بيعة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد بمصر

ورد إلى مصر في رجب من هذه السنة أبو القاسم أحمد ومعه جماعة من العرب وذكروا أنه ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر وهو أسود اللون وذكروا أنه خرج من دار الخلافة لما ملكها التتر فأراد الملك الظاهر أن يقلده الخلافة فعقد له مجلس بقلعة الجبل وحضر الأعيان والأكابر والشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله والقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف وكان الملك الظاهر قد عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية في أوائل هذه السنة وقلد القضاء لتاج الدين المذكور فشهد أولئك العربان بأن أبا القاسم هذا هو ابن الظاهر بأمر الله وعم المستعصم بالله وأقام القاضي تاج الدين جماعة من الشهود اجتمعوا بأولئك العرب وسمعوا شهادتهم ثم حضروا عند القاضي تاج الدين فشهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة فقام القاضي تاج الدين على قدميه وقال ثبت عندي نسب أبي القاسم هذا وأنه ابن الإمام الظاهر بأمر الله فبايعه الملك الظاهر والشيخ عز الدين والقاضي تاج الدين والحاضرون ونودي بالقاهرة ومصر بخلافته ولقب المستنصر بالله لقب أخيه ويوم الجمعة التالية لهذه البيعة حضر الملك الظاهر والأكابر والقضاة وخطب الخليفة خطبة مختصرة وصلى بالناس صلاة العصر ونثرت الدراهم والدنانير باسمه وخلع على الملك الظاهر خلعة سوداء وعمامة مذهبة وطوق ذهب وركب بالخلعة.
ذكر تبريز الملك الظاهر والخليفة للمسير إلى الشامفي شهر رمضان برز الملك الظاهر وضرب دهليزه خارج باب النصر وبرزت العساكر للتوجه إلى الشام وكان قد قدم إلى خدمة الملك الظاهر الملك الصالح ابن صاحب الموصل وأخوه صاحب الجزيرة فنزلا في المخيم السلطاني خارج البلد، كنا ذكرنا أن الملك المظفر رحمه الله لما كسر التتر وقدم دمشق عزل القاضي محي الدين يحيى بن الزكي وولى عوضه القاضي نجم الدين ابن سنى الدولة واستمر إلى أثناء هذه السنة فتحدث الناس فيه بأمور نسبت إليه وبلغ الملك الظاهر ذلك فاستشار الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي فأشار عليه أن يولى القضاء بدمشق القاضي شمس الدين أحمد ابن خلكان وكان ينوب عن القاضي بدر الدين السنجاري بالديار المصرية زمن ولايته لها فأجاب الملك الظاهر إلى ذلك وتقدم بان يسافر القاضي شمس الدين صحبته.
وفي هذه الأيام ولى الملك الظاهر القاضي برهان الدين الخضر ابن الحسن القضاء بمدينة مصر وعملها وهو الوجه القبلي وبقيت القاهرة وعملها وهو الوجه البحري في ولاية القاضي تاج الدين.
وفي هذه الأيام والملك الظاهر مبرز بالعساكر خارج القاهرة عزم على إنفاذ رسول إلى منفريد بن الانبرطور فرديك وكان الملك الكامل أرسل إلى أبيه الانبرطور الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ يطلب منه القدوم إلى الشام ليشغل سر أخيه الملك المعظم وذلك لما انتمى الملك المعظم إلى السلطان جلال الدين سلطان العجم فقدم إلى الشام بعد موت الملك المعظم وندم الملك الكامل على استقدامه إذ لم يبق له حاجة إليه وجرت المراسلات بينه وبين الملك الكامل واتفقا على أن يتسلم الانبرطور البيت المقدس فتسلمه ثم رحل إلى بلاده ثم توفي الملك الكامل وصارت مصر لابنه الملك العادل ثم لأخيه الملك الصالح نجم الدين بن الكامل فأرسل إليه الملك الصالح نجم الدين الشيخ سراج الدين الأرموي قريب الشيخ أفضل الدين الخونجي قاضي مصر وكان إماماً في المعقولات وكان الانبرطور محباً للفضائل والعلوم الحكمية وغيرها فأقبل على سراج الدين وأقام عنده مدة طويلة وصار بين الانبرطور وبين الملك الصالح نجم الدين مودة عظيمة كما كانت بينه وبين أبيه الملك الكامل ثم عاد سراج الدين إلى الديار المصرية ولما توفي الانبرطور ملك بعده أنبولية والأنبردية وجزيرة صقلية ولده كنراد ثم توفي وملك منفريد أخوه وكان كنراد وأخوه منفريد يريان رأي أبيهما في محبة الفضائل العلمية وبينهما وبين البابا خليفة الإفرنج العداوة الشديدة.
فصل

وفيها توفي إبراهيم بن عبد الله بن هبة الله بن أحمد بن علي بن مرزوق أبو إسحاق صفي الدين العسقلاني الكاتب التاجر مولده في شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة سمع بمصر من أبي محمد عبد الله بن محمد بن بجلي وأجاز له غير واحد وحدث وكان أحد الرؤساء المعروفين بالثروة وسعة ذات اليد وله الوجاهة الوافرة والتقدم عند الملوك وأرباب الدول وله بر ومعروف وأوقاف منسوبة إليه وتوفي في ثاني عشر ذي القعدة بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله.
إسحاق بن يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن علي بن المفضل أبو إبراهيم الحلبي الكاتب كان من الفضلاء الرؤساء ومولده بحلب في ثالث شهر رجب سنة إحدى وستمائة وتوفي بالقاهرة في السادس والعشرين من ربيع الآخر هذه السنة ودفن من يومه بالقرافة رحمه الله.
إسماعيل بن شيركوه بن محمد بن شيركوه الملك الصالح نور الدين ابن صاحب حمص كان له اختصاص كبير بالملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وقرب منه وكان عنده حزم وعزم وسياسة وكان من رأيه مداراة التتر وعدم مشاققتهم وكان يعضد الزين الحافظي عند الملك الناصر ويثني عليه ويشكره فكان يقال إن الزين الحافظي أحضر له فرماناً من هولاكو وإن للملك الصلاح باطناً مع التتر وأنه لم يدخل الديار المصرية مع العساكر لذلك لا محافظة للملك الناصر وتوهم أنه إذا وصل إلى هولاكو أبقى عليه ووفى له بما في الفرمان فعاد مع الملك الناصر من قطيا وحسن له قصد هولاكو وتوجه صحبته إليه فلما أمر هولاكو بقتل الملك الناصر ومن معه على ما سيأتي في ترجمة الملك الناصر رحمه الله إن شاء الله أمر بقتل الملك الصالح أيضاً فقتل في أطراف بلاد العجم وكان يلقب السيس ومولده ومرباه حمص وإنما انتقل عنها بعد موت والده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه وكان مقتله في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى وحكي أنه قال يوماً للأمير عماد الدين إبراهيم بن المحبر رحمه الله وهما في مجلس السلطان الملك الناصر نريد أن نعمل مشوراً وكان عماد الدين رأيه قتال التتر وعدم مداراتهم فقال له لم هذا المفشر فقال له الملك الصالح أنت كما قيل طويل ولحيتك طويلة فقال له عماد الدين ألا أني ما ربيت في حمص أشار الملك الصالح إلى أن الطويل القامة واللحية غالباً يكون قليل العقل وأشار عماد الدين رحمه الله إلى أن من ربى بحمص يكون أجدر بقلة العقل وهذا إنما هو على ما يقوله العوام لا على الحقيقة.
إسماعيل بن عمر بن قرناص أبو العرب مخلص الدين الحموي كان فقيهاً متأدباً وله شعر حسن وعنده معرفة بطرف من العربية وكان يدرس بحماة في مدرسة نسيبة مخلص الدين بن قرناص ومدرسة الشيخ تقي الدين ابن البققي ويقرئ العربية بالجامع ومولده سنة اثنتين وستمائة وتوفي في جمادى الآخرة هذه السنة بحماة وله أشعار حسنة منها قوله:
فقد إلا حبة مولم وبنا إذا ... غاب شخصك فوق ذاك المولم
إذ أنت بين الأحبة منعم ... وأحقهم بالشوق وجه المنعم
وله:
أما والله لو شقت قلوب ... ليعلم ما بها من فرط حبي
لأرضاك الذي لك في فوأدي ... وأرضاني رضاك بشق قلبي
أيل غازي الملك السعيد نجم الدين صاحب ماردين توفي في سادس عشر صفر هذه السنة وقيل في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وقد ذكرناه هناك.
الحسن بن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر أبو محمد شرف الدين المقدسي الحنبلي مولده سنة خمس وستمائة سمع الكثير من أبي اليمن الكندي وغيره وكان من العلماء الفضلاء وهو من أولاد المشايخ الأئمة من بيت الحفظ والحديث حدث هو وأبوه وجده وكانت وفاة شرف الدين المذكور في ليلة الثامن من المحرم بدمشق رحمه الله وجده الإمام الحافظ عبد الغني رحمة الله عليه صاحب التصانيف والفوائد وإليه انتهى علم الحديث ومعرفة الآثار النبوية في وقته رحمه الله.

عبد الرحمن بن محمد بن عبد القاهر بن موهب أبو البركات زين الدين الحموي الشافعي خطيب الجامع الأعلى بحماة كان فاضلاً عالماً حسن الخطابة متمولاً وله وجاهة كبيرة وكرم ومعروف مشهور وكان الملك المظفر صاحب حماة يحترمه كثيراً وترسل بعد وفاة الملك المظفر إلى الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية فأكرمه واحترمه وبنى زين الدين المذكور بحماة مدرسة جليلة ووقف عليها وقفاً كثيراً ودفن بها لما توفي ومولده في سنة ثمانين وخمسمائة وتوفي بحماة صبح يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الأول وقيل توفي ليلة الثامن والعشرين منه حدث عن عمر بن أبي اليسر وغيره وكان من المشايخ المشهورين بالخير والصلاح والعلم والنبل والجلالة رحمه الله وقيل في نسبه هو عبد الرحمن بن محمد ابن عبد القاهر بن موهوب والله أعلم.
عثمان بن منكورس بن خمردكين الأمير مظفر الدين صاحب صهيون وبرزية كان حازماً يقظاً مهيباً كثير السياسة والنهضة تملك صهيون وما معها بعد وفاة والده الأمير ناصر الدين منكورس في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وجده بدر الدين خمردكين كان عتيق الأمير مجاهد الدين بزان صاحب صرخد وكانت وفاة مظفر الدين المذكور في ثاني عشر ربيع الأول بقلعة صهيون ودفن بها عند والده وقد نيف على تسعين سنة رحمه الله وولى بعده الأمير سيف الدين محمد مكانه.
علي بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى الملك الظاهر سيف الدين كان جميل الأوصاف حسن الصورة كريم الأخلاق شجاعاً جواداً ممدحاً وهو شقيق الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله أمهما أم ولد تركية وكان الملك الناصر يحبه محبة شديدة ولما كان في أواخر سنة سبع وخمسين أعطاه الملك الناصر أماكن من جملتها الصلت وقلعتها واتفق أن جماعة من الناصرية والعزيزية مالوا إليه وأرادوا تمليكه والقبض على الملك الناصر فأوجب ذلك وحشة اقتضت أن الملك الظاهر فارق الملك الناصر في أوائل سنة ثمان وخمسين وتوجه بحريمه إلى قلعة الصلت تركهم بها وقصد غزة فاجتمع على طاعته الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بمن معه من البحرية وجماعة من الناصرية والعزيزية والشهرزورية وسلطنوه عليهم ثم لما بلغهم أن التتر قد دهموا البلاد وملكوا قلعة حلب اتفق هو والأمير ركن الدين أن يرسلا إلى الملك المظفر قطز رحمه الله ويقررا معه الاتفاق معهما ليكون عضداً لهما فأرسلا رسولين أما رسول الأمير ركن الدين فكان الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وحمله رسالة باطنة مضمونها أن يستوثقوا له من الملك المظفر ليقدم عليه وظاهرها ما اتفقا عليه فلما وصلا إلى الملك المظفر أجاب الملك الظاهر سيف الدين بأنه عضده وأن ألجأته ضرورة إلى دخول الديار المصرية وآواه وأحسن إليه وأجاب الأمير ركن الدين إلى ما طلب وحلف له فعند ما عاد بالجواب توجه الأمير ركن الدين إلى الديار المصرية وقدم في أثر ذلك الملك الناصر إلى غزة فانضاف إليه أخوه الملك الظاهر ومن معه فصفح عنهم وصاروا في خدمته وتوجه الملك الظاهر مع أخيه الملك الناصر إلى قطيا وعاد معه ولولا اتسامه بالسلطنة تلك الأيام لدخل الديار المصرية لكنه خاف أن يتخيل منه الملك المظفر فيقبضه ولما توجه الملك الناصر إلى هولاكو كان معه فلما قتل قتل معه أيضاً وكان قتله في أوائل هذه السنة أو في أواخر سنة ثمان وخمسين وخلف الملك الظاهر ولداً ذكراَ اسمه زبالة كان مفرط الجمال وأمه تعرف بوجه القمر كانت من حظايا الملك الناصر فوهبها لأخيه الملك الظاهر فلما قتل تزوجها الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي فلما مات عنها تزوجها الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي ثم درج الولد زبالة المذكور رحمه الله تعالى بالديار المصرية.
علي بن يوسف بن أبي المكارم بن أبي عبد الله بن عبد الجليل أبو الحسن نور الدين الأنصاري المصري العطار كان شاعراً فاضلاً وتوفي في هذه السنة ولم يبلغ الأربعين سنة من العمر، ومن شعره لغزاً في كوز الزير:
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا لب
مدى الأيام في خفض ... وفي رفع وفي نصب
إذا استولى على الحب ... فقل ما شئث في الحب

محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر اليعمري الأندلسي مولده في صفر سنة سبع وتسعين وخمسمائة، سمع الكثير وحصل جملة من الكتب وحدث وصنف وجمع وكان أحد حفاظ المحدثين المشهورين وفضلائهم المذكورين وبه ختم هذا الشأن بالمغرب، وكانت وفاته في الرابع والعشرين من شهر رجب بمدينة تونس رحمه الله.
محمد بن صالح بن محمد بن حمزة بن محمد بن علي أبو عبد الله التنوخي الفقيه الشافعي، لقي بدمشق عمر بن طبرزد وزيد بن الحسن الكندي وعبد الصمد الحرستاني وولي نظر ثغر الإسكندرية وجميع أمورها من الأحباس والمساجد والجوامع والمدارس وحدث بالثغر وكان ذا سيرة مرضية ومولده بمدينة المحلة من غربية مصر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة قال أبو المظفر منصور بن سليم أنشدنا القاضي أبو عبد الله محمد بن صالح لنفسه بمنزله بالثغر:
سلام على ذاك المقر فإنه ... مقر نعيمي وهو روحي وراحتي
فإن تسمح الأيام مني بنظرة ... إليه فقد أوتيت مأمول منيتي
قال وأنشدنا أيضاً لنفسه مكاتبة:
لو بقدر الحنين أرسل كتبي ... كنت أفنى الأوراق والأنفاسا
غير أني أرجو اللقاء قريباً ... في سرور ويبتدى الأعراسا
قال أنشدنا لنفسه في ولايته الثالثة بالثغر:
أصبحت من أسعد البرايا ... في نعم الله بالقناعه
مع بلغة من كفاف عيش ... وخدمة العلم كل ساعه
طلقت دنياهم ثلاثاً ... بلا رجوع ولا شناعه
وارتجى من ثواب ربى ... حشري مع صاحب الشفاعه
قال وأنشدنا لنفسه:
أقول لمن يلوم على انقطاعي ... وإيثاري ملازمة الزوايا
أأطمع أن تجدد لي حياة ... وقد جاوزت معترك المنايا
توفي القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بالثغر في ليلة الأحد خامس صفر سنة تسع وخمسين وستمائة ودفن في محرس سوار جوار الشيخ أبي العباس الرأس رحمهما الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عيسى بن معتبر بن علي بن يوسف أبو عبد الله الإسكندري الفقيه المالكي العدل من أهل العلم والحديث كان صالحاً ثبتاً ثقة وكان ينظم، ومن شعره كتب بها في الإجازة:
أجزت لهم على المهيمن قدرهم ... وحلاهم ذكراً جميلاً معطرا
رواية ما أرويه شرقاً ومغرباً ... وما قلته نظماً ونثراً محبرا
على شرط أهل العلم والصنعة التي ... يكون بها معنى الإجازة مظهرا
وهذا جوابي ثم واسمي محمد ... عفا الله عنه ما مضى وتأخرا
أقول وعبد الله اسم لوالدي ... وإبراهيم جدي قد نصصت مخبرا
ويعرف بالمتيجى نسبة بلده ... وسطرت خطى بالقريض معبرا
توفي أبو عبد الله المتيجي ليلة الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وستمائة ودفن يوم الاثنين بجوار والده بمحروسة ثغر الإسكندرية رحمه الله.
محمد بن عبد الله بن موسى أبو عبد الله شرف الدين الحوراني المتاني الشيخ الفاضل العارف الزاهد كان له رياضات وخلوات وانقطاع ومعرفة جيدة بفنون متعددة من العلوم وكانت وفاته في هذه السنة بمدينة حماة وعمره مقدار سبعين سنة رحمه الله، ومتان بضم الميم قرية من عمل حوران.
محمد بن عبد الملك بن درباس أبو حامد كمال الدين الضرير الماراني الشافعي العدل مولده في ثاني عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وخمسمائة سمع من القاسم بن علي الدمشقي والبوصيري وغيرهما ودرس بالمدرسة السيفية بالقاهرة مدة وكان من الفضلاء ووالده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في الأيام الصلاحية كان كبير القدر وافر العلم والفضل، توفي كمال الدين المذكور في خامس شوال بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله.

يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى أبو المظفر السلطان الملك الناصر صلاح الدين ومولده في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب بقلعتها ولما ولد زين البلد ولبس العسكر أحسن زي وأظهر من السرور والابتهاج بمولده ما جاوز الحد، وتوفي والده الملك العزيز غياث الدين أبي المعالي محمد بن الملك الظاهر في عنفوان شبابه وعمره ثلاث وعشرون سنة وشهور وكان قد توجه إلى جارم للتنزه وكان له بها جوسق تحته نهر وإلى جانبه بستان فنزل به ثم حضر الحلقة لرمي البندق واغتسل بماء بارد فحم ودخل حلب وهو موعوك ودامت به الحمى وقوي مرضه فاستحلف الناس لولده الملك الناصر وأرسل كمال الدين ابن العديم إلى أخيه الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر صاحب عين تاب فاستحلفه لابنه بعد نفسه، وكان الملك العزيز عادلاً رقيق القلب رحوماً مشفقاً على رعيته متودداً إليهم مائلاً إلى أهل الخير محباً لأهل العلم والفضل وخلف من الولد الملك الناصر المذكور والملك الظاهر علي وقد تقدم ذكره وأمهما أم ولد تركية وشقيقتهما تزوجها الملك الأمجد مجد الدين الحسن ابن الملك الناصر داود رحمه الله فمات عنها بعد أن أولدها الأمير صلاح الدين محمود ثم ماتت وخلف ابنتين غيرها إحداهما عائشة خاتون وأمها فاطمة خاتون بنت الملك الكامل تزوجها الملك المنصور صاحب حماة وأولدها الملك المظفر تقي الدين محمود والأخرى غازية خاتون أمها أم ولد فقد عقدها بحلب على السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ ملك الروم فمات ولم تحمل إليه ثم تزوجها الملك السعيد فتح الدين عبد الملك بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فماتت عنده، وكان الملك العزيز عالي الهمة كريم الأخلاق واسع الصدر كثير الصفح والتجاوز حازم الرأي جواداً ممدحاً مدحه جماعة من الشعراء فكان يجيزهم الجوائز السنية ولما أخذ شيزر في سنة ثلاثين وستمائة من الأمير شهاب الدين يوسف بن عز الدين مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية قال شهاب الدين يحيى بن خالد بن القيسراني يهنئه:
يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي
لما رأت شيزر رايات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي

فأعطاه حملة عظيمة وكان عمر الملك الناصر لما أفضى إليه الملك بعد وفاة والده نحو سبع سنين وقام بتدبير مملكته الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني والأمير عز الدين عمر بن مجلى ووزير الدولة جمال الدين القفطي ويحضر معهم جمال الدولة إقبال الخاتوني في المشورة فإذا اتفق رأيهم على شيء دخل جمال الدولة إلى الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل والدة الملك العزيز وعرفها ما اتفق الجماعة عليه فكانت الأمور منوطة بها، ولما تقررت هذه القواعد توجه القاضي زين الدين ابن الأستاذ وبدر الدين بدر بن أبي الهيجاء رسولين إلى الملك الكامل واستصحبا معهما كزاغند الملك العزيز وزرديته وخوذته ومركوبه فلما وصلا إلى الديار المصرية واجتمعا بالملك الكامل وأديا الرسالة وأحضرا ما معهما أظهر الألم والحزن وقصر في إكرامهما وعطائهما وحلف للملك الناصر على الوجه الذي اقترح عليه وخاطب الرسولين بما يشير به من تقدمة الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر على العسكر وإن يقوم بتربية ابن أخيه الملك الناصر فلما رجع الرسولان إلى حلب وأنهيا إلى الصاحبة ذلك لم تره صوابا، وكذلك الجماعة القائمون بترتيب الدولة ثم بعد مدة يسيرة سير الملك الكامل خلعة للملك الناصر بغير مركوب وسير عدة خلع لأمراء الدولة وسير مع رسول آخر خلعة للملك الصالح أحمد صاحب عين تاب على أن يمضي بالخلعة إليه فاستشعرت الصاحبة وأرباب الدولة من ذلك وحصل عند الصاحبة وحشة من أخيها الملك الكامل بسبب ذلك فاتفق رأي الجماعة على أن يلبس الملك الناصر خلعة الملك الكامل ولم يخلع على أحد من الأمراء شيء مما سير إليهم ورد الرسول الوارد إلى الملك الصالح بخلعته ولم يمكنوه من الوصول إليه واستحكمت الوحشة في قلوبهم من الملك الكامل وفي سنة أربعين توفيت الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل صاحبة حلب أم الملك العزيز فاستقل ابن ابنها الملك الناصر بالسلطنة وأشهد على نفسه بالبلوغ وله نحو ثلاث عشرة سنة وأمر ونهى وقطع ووصل وجلس في دار العدل والإشارة للأمير شمس الدين لؤلؤ ولجمال الدولة إقبال الخاتوني والوزير القاضي الأكرم جمال الدين القفطي، وفي سنة ست وأربعين خرجت عساكر حلب مع الأمير شمس الدين لؤلؤ إلى حمص فنازلوها ونصبوا عليها المجانيق وضايقوها شهرين ورسل الملك الأشرف صاحبها ووزيره مخلص الدين ابن قرناص تتردد إلى الأمير فخر الدين بن الشيح وهو بدمشق وإلى الملك الصالح نجم الدين وهو بالديار المصرية يطلب النجدة وكان الملك الصالح بأشمون طناج وقد عرض له ورم في مأبضه ثم فتح وحصل له منه ناصور تعسر بربوه وحصل في رئته بعد ذلك قرحة تيقن الأطباء أنه لا خلاص له منها لكنه لم يشعر بذلك فأشغله ما به عن أنجاد صاحب حمص ولما ضاق الأمر بصاحب حمص راسل الأمير شمس الدين لؤلؤ وطلب منه العوض فعوضه عن حمص تل باشر مضافاً إلى ما بيده من الرحبة وتدمر وتسلم حمص منه واطلع الأمير شمس الدين في أثناء ذلك على كتاب لمخلص الدين إلى الأمير فخر الدين ابن الشيخ يستعجله ليقدم ويدفع عسكر حلب وقد بسط القول في الكتاب فغضب الأمير شمس الدين وحمل الملك الأشرف على القبض على مخلص الدين فقبض عليه وعذبه حتى مات بتل باشر وتسلم الملك الأشرف تل باشر ولما بلغ ذلك الملك الصالح نجم الدين عظم عليه جداً وتوجه إلى دمشق في محفة لما به من المرض وتقدم إلى الأمير فخر الدين بالمسير بالعساكر إلى حمص لانتزاعها من يد نواب الملك الناصر فسارت العساكر ونازلوها وضايقوها ونصبوا عليها المجانيق ومنها منجنيق مغربي حجره مائة وأربعون رطلاً بالشامي وجدوا في حصارها لأن الزمان كان شتاء وخرج الملك الناصر من حلب في منتصف رمضان فنزل بأرض كفر طاب ولم يزل الحصار مستمراً إلى أن ورد الشيخ نجم الدين الباذراني للإصلاح بين الملك الصالح نجم الدين والملك الناصر صاحب حلب على أن يقر حمص بيد الملك الناصر فوقع الاتفاق على ذلك ورحلوا عنها وكان سبب انتزاع الملك الناصر حمص من الملك الأشرف أنه سلم قلعة شميميس في سنة خمس وأربعين إلى الملك الصالح نجم الدين بسفارة مخلص الدين فعظم ذلك على الملك الناصر والأمير شمس الدين لؤلؤ وكرها مجاورة الملك الصالح لحلب وما والاها وخشياً أن تسلم إليه حمص ولهذا انتصر الملك الصالح للملك الأشرف وجهز العساكر لنجدته لكن فات الأمر فأمرهم

بمحاصرة حمص وانتزاعها فجرى الأمر على ما ذكرنا.صرة حمص وانتزاعها فجرى الأمر على ما ذكرنا.
وفي يوم الاثنين لعشر مضين من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين تسلم الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق صفواً عفواً بغير ممانعة ولا قتال ثم تسلم سائر الأعمال والقلاع المضافة إليها بعد ذلك.
وفي سنة اثنتين وخمسين قدمت ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ ابن كيخسرو إلى دمشق وفي خدمتها الشريف عز الدين المرتضى وهي التي عقد عليها عقد الملك الناصر في بلاد الروم وكانت في تجمل عظيم يقصر عنه الوصف وأمها ابنة الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد ابن أيوب، وفي سنة ثلاث وخمسين أولدها الملك الناصر ولده علاء الدين.
ذكر سيرة الملك الناصر

رحمه الله
كان ملكاً جليلاً جواداً كريماً كثير المعروف غزير الإحسان حليماً صفوحاً حسن الأخلاق كامل الأوصاف جميل العشرة طيب المحادثة والمفاكهة قريباً من الرعية يؤثر العدل ويكره الظلم وزاد ملكه على ملك أبيه وجده فإنه ملك بلاد الجزيرة كحران والرها والرقة ورأس عين وما معها من البلاد وملك حمص كما ذكرنا ثم ملك الشام كما ذكرنا بعد قتل الملك المعظم فملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل والمعاقل والحصون إلى غزة وصفا له الشام والبلاد الشرقية وأطاعه صاحب الموصل وصاحب ماردين وعظم شأنه جداً، ثم دخل بعساكره إلى الديار المصرية سنة ثمان وأربعين وكسر عساكرها وخطب له بمصر وقلعة الجبل وكان يملك الإقليم ويستولي على الممالك الصلاحية كلها لولا ما قدره الله من ظهور طائفة من عسكر مصر وانهزامه إلى الشام ومقتل مدبر دولته الأمير شمس الدين لؤلؤ وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله فيما تقدم، وأقام الملك الناصر بدمشق عشر سنين حاكماً على الشام والشرق إلى أن قدر الله تعالى ما قدر من استيلاء التتر على البلاد وذهابه إليهم ومقتله رحمه الله ولم يكن لأحد من الملوك قبله مثل ما كان له من التجمل بكثرة الطعام وغيره فإنه كان يذبح فقي مطبخه كل يوم أربعمائة رأس من الغنم وأما غير ذلك من الدجاج وفراخ الحمام والخراف الرضع والأجدية فلا يحصى فكانت تنزل فضلات السماط ويبيعها الفراشون والطباخون وأرباب النوالات والجرايات عند باب قلعة دمشق بأبخس الأثمان فكانت تعم أهل دمشق وكان أكثر الناس بدمشق يغنيهم ما يشترونه منها عن الطبخ في بيوتهم، وقال علاء الدين علي بن نصر الله جاء السلطان الملك الناصر رحمه الله إلى داري بغتة ومعه جماعة كثيرة من أصحابه فمددت له في الوقت سماطاً فيه من الأطعمة الفاخرة ومن أنواع الدجاج المحشو بالسكر والمقلوبات شيء كثير فبقي متعجباً وقال في أي وقت تهيأ لك عمل هذا كله فقلت والله هذا كله من نعمتك ومن سماطك ما صنعت لك شيئاً منه؟ وإنما اشتريته من عند باب القلعة وحكيت له ما يباع من ذلك، ومثل هذا لم يتفق لملك قبله وكان يصل إلى الرسل والوافدين إليه والقاصدين بابه من إحسانه وعطاياه وبره ما لم يصل من أحد من الملوك إلى من يقصدهم.

وحكى لي بهاء الدين عبد الله بن محبوب رحمه الله وكان متولياً نظر الحوائج خاناة التي له بدمشق أن نفقة مطابخه وما يتعلق بها في كل يوم فوق عشرين ألف درهم، وكان الملك الناصر رحمه الله حليماً إلى الغاية عظيم العفو عن الزلات لا يرى المؤاخذة والانتقام بل سجيته الصفح والتجاوز تجاوز الله عنه وعفا عن سيآته، اعترضه شخص يوماً بورقة فأمر بأخذها منه وقرأها فوجد فيها الوقيعة فيه وذمه فقال لبعض غلمانه قل له يخرج من دمشق إلى حيث شاء فأنا ما أوذيه ولا أقابله على فعله، وتقرب إليه جماعة من الأدباء والفضلاء فكان يحاضرهم أحسن محاضرة وكان على ذهنه شيء كثير من الأدب وأشعار العرب وغيرهم من المتأخرين، وينظم نظماً حسناً وله نوادر حلوة وأجوبة مسكتة ولما بنى الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله مدرسته بدمشق وذكر فيها الدرس بنفسه حضر الملك الناصر رحمه الله والأكابر من الأمراء والفقهاء وغيرهم وجرت المناظرة بين الفقهاء، وكان ممن حضر تاج الدين الإسكندري المعروف بالشحرور وكان كثير الصياح قليل الفوائد فصاح في ذلك اليوم صياحاً كثيراً والفقهاء معرضون عن جوابه فقال مالي نوبة وكرر ذلك مراراً فأشار الملك الناصر بأصابعه الثلاث يعني نوبة حمى ربع وهي المعروفة عند العوام بالمثلثة، وكان رحمه الله حسن المباسطة مع جلسائه وكان في خدمته جماعة كثيرة من الفضلاء والعلماء والأدباء والشعراء وغيرهم ولهم عليه الرواتب السنية وكان حسن العقيدة والظن بالصالحين يكرمهم ويبرهم ويجري عليهم الرواتب ولما توجه والدي رحمه الله إلى دمشق سنة خمس وخمسين قصد زيارته إلى جبل الصالحية بزاوية الشيخ علي القرشي رحمه الله ولما دخل عليه بالغ في التأدب معه وحسن الاستماع لحديثه ولم يستند إلى الحائط في جلوسه، ثم لما عزم والدي رحمه الله على العود إلى بعلبك جهز له محفة وعدة بغال وجماعة من المحفدارية وغيرهم فركب بها إلى بعلبك وأجرى للناس من الفقراء والعلماء وأرباب البيوت من الرواتب ما يجل مقداره ويعظم مبلغه هذا أنشأه هو خارجاً عما استمر به مما أطلقه الملوك قبله وكان إذا مات من له من ذلك شيء لا يخرج به عن ولده ومن مات من أرباب المناصب وله ولد فإن كان كافياً رتبه عوض أبيه وإن كان صغيراً استناب عنه إلى حيث يتأهل للمباشرة، وكان الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصاري رحمه الله يتردد إلى دمشق في مهمات مخدومه الملك المنصور صاحب حماة وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه جداً وكان يقيم في خدمته المدة الطويلة، وبره الكثير واصل إليه ويحضر عنده في غالب الأوقات ويحاضره ويقع بينهما في حال الغيبة مكاتبات كثيرة وللشيخ شرف الدين فيه مدائح نادرة وكان سافر في خدمته إلى مصر سنة ثمان وأربعين وكتب إليه الملك الناصر رحمه الله مرة كتاباً بخط نظام الدين بن المولى وكتب الملك الناصر بخطه بين أسطر الكتاب من شعره:
إن طال ليلك يا عبد العزيز لقد ... أسهرت في وصفك الشبان والشيبا
وإن رميت لأجلي إن عرضك لم ... يعرض له دنس يوماً ولا شيبا
وصبر يوسف أدناه إلى شرف ... فاصبر ألست من الأنصار منسوبا
وأكرم به نسباً عز النبي به ... وصار في النيرات الزهر محسوبا
وكتب بخطه إلى وزيره مؤيد الدين القفطي رحمه الله.
أيا راكباً يطوي الفلا بشملة ... عذافرة وجناء من نسل شدقم
إذا حلبا وافيتها حي أهلها ... وقل لهم مشتاقكم لم يهوم
ومن شعره رحمه الله:
الأهل يعيد الله وصل الحبائب ... فقد طال حزني من دموعي السواكب
كمجمر جرت في حلة الشوق من دمى ... وحرث دموعي الشهب مثل الجنائب
يروم اللواحي من سواي تصبراً ... وكم خاب مني من عدو وصاحب
قضى الصبر في توديع بعض ترائبي ... وأودع ناراً في سويدا ترائبي
جفا النوم عيني حين فاضت مدامعي ... وخاف هلاكاً في خلال السحائب
وكيف أرجى النوم بعد بعادكم ... وفي قلبي الأشواق من كل جانب

وقيل إنه إنما قتل بالسيف كما قتل من معه رحمهم الله تعالى وخلف عدة أولاد ذكوراً وإناثاً درج أكثرهم بعده إلى رحمة الله تعالى وتزوج الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة لإحدى بناته، وقيل كان قتله في الخامس والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين وستمائة وعمل عزاؤه في سادس وعشرين ربيع الأول سنة تسع وخمسين وستمائة بقلعة الجبل من الديار المصرية رحمه الله، ورثاه غير واحد من شعراء دولته وغيرهم فممن رثاه أمين الدين علي بن عثمان بن علي بن سليمان بن علي السليماني رحمه الله وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى فقال حين توجه الملك الناصر إلى التتار وانقطعت أخباره والتبس أمره:
بكى الملأ الأعلى على الملك الأعلى ... وأصبحت الدنيا لفقدانه ثكلى
تولى صلاح الدين يوسف وانقضت ... محاسنه الحسنى وسيرته المثلى
وفارق ملك الشام والشرق عنوة ... فريداً كما جردت من غمده نصلا
فأضحى أسيراً في التتار مروعاً ... فبكوا عزيزاً لم يعرف الذلا
وإني لأرجو أن يكون كصارم ... يجرده قين ليحكمه صقلا
تناقضت الأخبار عنه لبعده ... فيا لحديث ما أمر وما أحلى
فيا ليت عيني عاينت كنه حاله ... لقد شفني حزني عليه وقد أبلى
أبكيه في الأسرى وأرجو خلاصه ... رجاء بعيد أو أرثيه في القتلى
ابن مخبراً يا يوسف بن محمد ... أحي ترجى أنت أم ميت تسلى
ووالله يسلوك قلب ابن حرة ... جعلت له من طولك الفرض والنفلا
علام ثنيت العزم عما قصدته ... ولم لا تبوأت السماوة والرملا
وكنت كطير طالب غير وكره ... فحيث يحل الليل من وجهه حلا
وداومت أكل الأيم والضب برهة ... وثورت في البر النعامة والصعلا
إلى أن يؤوب الحظ أو ينجلي لنا ... دجى الخطب أو أن تأمن الخوف والخبلا
وقد كان محض الرأي قبل عواملا ... ملا مشرعة عرصانها تسبق النبلا
ترى لهم عند اللقاء تسرعاً ... إلى الطعن صعباً عاينوا الأمرا وسهلا
كما فعلت أبطال مصر وقيلها ... فيا طيب ما أبقى ويا حسن ما أبلى
غزوا في سبيل الله غزوة واحد ... فما قفلوا الأوقد دمروا الكلا
وجاؤا بهم قتلى وأسرى رؤوسهم ... على قصب المران تحسبها أثلا
وأول ما أرضي الإله ورسله ... وكان دليل النصر أن قتل الرسلا
فلو بادرت أقيالك الحرب مثلهم ... ظفرتم ولم يهتز عرش ولا ثلا
لحا الله قوماً أسلموك إلى العدى ... فما حفظوا عهداً ولا راقبوا إلا
جعلت إليهم أمر ملكك برهة ... فما أحسنوا قولاً ولا أحسنوا فعلا
وما عذر قوم خلفوك بقفرة ... ومروا كما نفرت عن محرم رجلا
وحاق بهم ما أضمروه وصادفوا ... على أثر ذاك النهب والسبي والقتلى
لقد أفسدوا آراءهم وحلومهم ... وأموالهم والأرض والحرث والنسلا
وما لعبيد فارقوك جهالة ... لقد واصلوا من بعدك الويل والخبلا
زوى ملك مصر عنهم وجه بره ... فخابوا ولا علا أصابوا ولا نهلا
وكم أهيف يبدي لنا الذل قده ... وقد كان قبل اليوم يبدي لنا الدلا
وكم وجنة صفراء بعد احمرارها ... وكم مقلة قرحاء عهدي بها كحلى
وكم راكب نعليه بعد مطهم ... من الجرد لا يرضى الهلال له نعلا
وعلمك بالستر العلائي أنها ... مروعة من يوم فارقتها ثكلى
تضم علاء الدين ضم غريبة ... زوى الدهر عنها الملك والآل والبعلا
فهل رقة أو رحمة لغريبة ... غدت بعد ملك الشام كافلة طفلا

فؤادي وطرفي منزلاك على النوى ... فغيرك لا يحلو لدي ولا يحلى
وها أنا قد أعرضت عن كل منعم ... فلا أحد أدعوه بعدك للجلى
ضممت يميناً تعرف البذل دونه ... وما صنت محباقل ما عرف البذلا
قنعت فما لي حاجة غير ما دعت ... إليه ضروراتي ومن قنع استعلى
فما نازع النمل الرحال بقوة ... ذخيرته لكنهم نازعوا النملا
ولما بلغه أن التتار قتلوه رحمه الله وتحقق وفاته قال يرثيه:
رمت الخطوب فاقصدتك نبالها ... والأرض من بعدك زلزلت زلزالها
أ أبا المظفر يوسف بن محمد ... لا قلت بعدك للحوادث يا لها
خذلتك أسرتك الذين ذخرتهم ... للنائبات وقد وقفت حيالها
ماذا تقول جحافل ملمومة ... ملأت سهول بلادها وجبالها
رهبت وما شهدت وغي فاستسلمت ... من قبل أن تضع الحروب سجالها
تركوك منفرداً بقطية ذاهلا ... تسفى عليك العاصفات رمالها
تبكيك ولولة الحريم حواسراً ... من كل معولة تضم عيالها
ومصونة في خدريها ما شاهدت ... قبل الرزية ما يروع بالها
برزت ولم تك برزة من قبلها ... كيما يشاهد ذو الحمية حالها
والقوم إرسالاً يوالي بعضهم ... بعضاً كسرب مهاً رات رئبا لها
حتى إذا دنت الجياد مغيرة ... ووقفت فرداً لا تطيق نزالها
أقبلت وجه الأعوجى مغارة ... تردي الملحج راكباً أهوالها
ونزلتم بعد الكلال بقفرة ... عذراء يذعر جنها وغوالها
صرت جنادبها وهجر يومها ... واشتف حر هجيرها أو شالها
والخيل غائرة العيون من الظمأ ... صبراً يقل على الوجى أمثالها
فإذا وردت بها المياه نواضبا ... جثمت تشف بركتها صلصالها
وطئت سنابكها مواقد حره ... لولا الحميم إذاً لذاب نعالها
حتى إذا الكرك استبان منارها ... متأمل ورأى الغلام قلالها
وافيتها فرأيت أمر مليكها ... وقفاً كما سمت اليمين شمالها
في حيث يطرح المروع سيفه ... أمناً وتنبذ قينة خلخالها
حتى إذا ضاقت عليك برحبها ... ورأيت أبعد خطة أميالها
جنح الشقي إلى مسالمة العدى ... ليريك عاجل صرعة ووبالها
وطعمت في عود الممالك عامداً ... نحو التتار فكان ذاك زوالها
كيف الخلاص من المنية لامرئ ... من بعد ما نصبت عليه حبالها
عظم المصاب فلو رآها شامت ... لبكى لها أو حاسد لرثى لها
أ أبا المظفر يوسف بن محمد ... جرعت نفسي صابها وحبالها
إن الملوك إذا تخاذل بعضها ... عن بعضها ففعالها أفعى لها
ذكرى مصيبات الملوك تعللاً ... إذ كان حالك في المصيبة حالها
إني لاجتنب المراثي طامعاً ... ببقاء نفسك بالغاً آمالها
وقال السيف الشطرنجي يرثيه:
كل حي مصيره للفناء ... ثم لم يبق غير رب السماء
مالك قادر رؤوف رحيم ... باسط الرزق كافل بالعطاء
حامل للمقل كهف لذي الفا ... قة أرجوه عند يوم اللقاء
هو ربي وراحمي ومجيري ... ومعيني في بكرتي وعشائي
فالسعيد الذي يؤمل نعما ... ه بحسن اليقين في الابتغاء
فانتهز فرصة التقى غير وانٍ ... لتكن في غدٍ من الأتقياء
ما الغنى السعيد والبائس المس ... كين حاليهما إذاً بسواء
من له الله فهو عبد منيب ... ومن احتال فهو في الأشقياء
إنما هذه الحياة غرور ... ومتاع الدنيا لنا كالهواء

بينما المرء راتع في رياض ... من شباب جار على الاستواء
غافل في نهاره وليال ... يه مجد في أخذه والعطاء
إذ أتاه داع من الموت يدعو ... ه إلى حفرة من الغبراء
منها:
أين من كان للأنام جمال ... ومعيناً على بلوغ الرجاء
أين من كان جوده يخجل السحب وأين المرجو بالشهباء
أين كانت الملوك لديه ... تتوارى من خيفة وحياء
سلبته أيدي المنون فأمسى ... ثاوياً لا يعد في الأحياء
لم ترد الجيوش عنه قضاء ... لا وما قد أعد للأنكاء
هتكت بعده وجوه نساء ... كن من قبل في حمى وخباء
واستبيحت دماؤهم في ديار ... جمعتهم في ساعة السراء
فلهم أسوة بآل رسول ال ... له في حال شدة ورخاء
كان والله مالكاً طاب أصلاً ... وهو فرع متوج بالبهاء
ناصر الحق مالك الأرض طراً ... جامع الفضل أوحد في الذكاء
هو مولى أدعوه بالملك النا ... صر ملك سما على الجوزاء
ما رأى الناس مثله في زمان ... نحن فيه فكيف لي بالبقاء
كان والله للمقلين كنزاً ... وجواداً يغني عن الأغنياء
ورؤوفاً بكل قاص ودان ... في دنو خال من الكبرياء
فعليه من الإله تعالى ... رحمة أنزلت على الأولياء
وله الحور في جنان أعدت ... لأولي العزم شاكر للعطاء
قد سقى يوسف الناس كأس صبر ... مرة لا تقر في الأحشاء
بفراق وبعد عهد وهجر ... وشتات خلا من الالتقاء
فهم في محل يعقوب في الحز ... ن وأجراء جمعهم بالبكاء
فسقى الله تربة هو فيها ... مزنة في صباحه والمساء
كي ترى تربها عبيراً سحيقاً ... طبن نشراً عن روضة غناء
لست أرجو من بعده اليوم خلقاً ... خاب سعي إذاً وقل رجائي
كدت من حرقة الفؤاد عليه ... أجري دمعاً من مقلتي كالدماء
فسقى عهده عهاد سحاب ... من رضا الحق لا من الأنداء
السنة الستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة المستنصر بالله المتوجه إلى العراق وملوك الأطراف على القاعدة في السنة الخالية وقد استولى الملك الظاهر على دمشق وبعلبك والصبية وحلب وأعمالها خلا البيرة فإنها بيد البرلي مع ما كان مستولياً عليه وخلا الملك السعيد صاحب ماردين فإنه توفي وولي ولده الملك المظفر قرا أرسلان وخلا مظفر الدين صاحب صهيون فإنه توفي أيضاً وولي بعده ولده سيف الدين محمد والملك الظاهر على غيثاء من أعمال الشرقية عائداً من الشام ووصل يوم السبت ثاني المحرم وفي الثالث منه خلع على الأمراء ومقدمي الحلقة والصاحب بهاء الدين وقاضي القضاة تاج الدين وأكثر الحاشية وهو اليوم الذي كان فيه المصاف بين الخليفة رحمه الله والتتار على ما تقدم في حوادث السنة الخالية.
وفي الثالث والعشرين منه أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخزندار على بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأمر السلطان بعمل العرس في الميدان الأسود تحت القلعة واحتفل به احتفالاً لم ير مثله وبسط يده بعد أيام في الجيوش والإقطاعات والنظر في أمر الرعية.
وفي ثالث شهر صفر استدعى الملك الظاهر القاضي برهان الدين قاضي القضاة بمصر وأعمالها وطلب منه محاققة بأرباب الودائع المختصة بالصاحب شرف الدين الفائزي فتوقف عن ذلك فغضب الملك الظاهر لتوقفه وعزله عن القضاء وأضاف ما كان إليه منه إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز.
ذكر عود البرلي إلى حلب وخروجه عنها

كان المشار إليه قد انهزم بين يدي الرشيدي وعبر الفرات إلى حران وشن الغارات على البلاد التي كانت في يد نواب التتر حتى وصل آمد، فلما عاد الرشيدي إلى مصر عاد البرلي إلى البيرة وبعث جماعة من أصحابه إلى حلب فلما اتصل بالبندقداري قربهم خرج من حلب وقصد حماة فأقام في بلدها ودخل البرلي حلب مظهراً طاعة الملك الظاهر وأقام بها إلى أن كتب إليه الملك الصالح صاحب الموصل يعلمه بنزول التتر عليه ويستنجده فكتب إلى الملك الظاهر يستأذنه في التوجه لنصرته فأجابه وأمره بالتربص بحران إلى أن يصل إليه عسكر من جهته ينجد به صاحب الموصل فلما وصل حران أقام بها ثم خاف من العسكر الواصل من مصر أن يقبض عليه فتوجه إلى سنجار وأما الملك الظاهر فتقدم إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومي بالمسير إلى حلب ثم إلى الموصل وجهز معه عسكراً وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين البندقداري يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما إذا وصل إليهما حيث توجه فلما وصلت العساكر تل السلطان واتصل بهم توجه البرلي إلى سنجار بعثوا إلى حلب من تسلمها نيابة عن البندقداري ثم عادت العساكر إلى أنطاكية فنزلوا عليها وشنوا الغارات على نواحيها فداراهم بها بإقامة وضيافة وسألوهم أن يرحلوا عنهم وإن يحملوا إليهم ما لا مصانعة فوقع الخلف في تقرير المال بين الأمير علاء الدين طيبرس والأمير شمس الدين سنقر فرحلا بالعسكر ونزلا على تل السلطان فأتاهم أمر السلطان أن يتوجه البندقداري إلى حلب ويعود طيبرس إلى دمشق وسنقر الرومي إلى مصر فعاد الرومي في شهر رمضان فلما اجتمع بالسلطان أوغر صدره على طيبرس فكان ذلك أحد الأسباب في عزله وحبسه بقلعة القاهرة وكان ما قيل عنه اختلاق لا أصل له، وفي السابع والعشرين من ربيع الآخر وصل إلى القاهرة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي القبني ابن الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد وصحبته زين الدين صالح بن محمد بن أبي الرشيد الأسدي الحاكمي المعروف بابن البناء وأخوه شمس الدين محمد بن نجم الدين محمد بن المشاء واحتفل الملك الظاهر بلقائه وأنزل بالبرج الكبير داخل القلعة ورتب له ما تدعو حاجته إليه ووصل معه ولده.
وفي ربيع الآخر عزل الأمير جمال الدين آقوش النجيبي عن أستاذ دارية الملك الظاهر وولي الأمير عز الدين أيدمر السعدي أحد مماليك الملك الظاهر.
وفي يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب حضر الملك الظاهر في محاكمة إلى قاضي القضاة تاج الدين بدار العدل وسبب ذلك أنه كان في أيام الملك المعز حفر بئراً عند زاوية الشيخ أبي السعود وبنى بعضها ثم خرج إلى الشام فاستولى عليها جمال الدين محمود أستاذ دار بهادر وأتمها وبنى حوضاً يأتي إليه الماء من البئر واتفق موت بعض مماليك الملك الظاهر فدفنه قريباً من الزاوية وذكر أمر البئر فأخبر بقصتها فاستدعى جمال الدين المذكور وقال له البئر ملكي وأنا أنشأتها فقال يا خونداني أتممتها وبنيت إلى جانبها حوضاً ووقفتهما ولا يمكنني أفعل إلا ما يقتضيه الشرع فحضر الملك الظاهر دار العدل لمحاكمة المذكور فقام من فيها وأراد القاضي القيام فقال له لا تقم فإني جئت محاكماً ووقف مع الغريم وادعى بالبئر فأنكر الغريم وأحضر الملك الظاهر من شهد له فتقدم القاضي إلى الغريم بتسليم البئر إليه.

وفي شهر رجب خرج جماعة من الإسماعيلية على الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وهو راكب على جسر العاصي نهر حماة وجرحوه وسبب ذلك أنه لما خرج من حلب عند مجيء البرلي إليها مر على سرمين وكان بها وال من قبل الدعوة يدعى شرف الدين ثابت بن مدس فأخرج له ضيافة على يد نقيب الدعوة فلما حضر بين يديه قال له أين سكينك؟ قال سكاكيننا مخبأة لأعداء السلطان الملك الظاهر فأمر بضربه فضرب ضرباً مبرحاً وأمر به فرمى في مسيل ماء فجاء أهله وأخذوه فمات من ليلته فاجتمع أقاربه وقصدوا الحصون وطلبوا من الرضا ثأرهم فدافعهم وقالوا إن لم تأخذ بثأرنا دخلنا بلاد الفرنج وتنصرنا، فسير في وثب عليه فقبض على جماعة منهم فقتلهم وحبس جماعة وأخذ أموالهم، ووصل الخبر إلى الملك الظاهر فقبض على من بمصر من نوابهم ورتب له طبردارية يركبون بين يديه فوصلت إليه كتب الرضا يستعطفه ويتضرع إليه ويتنصل فرضي عنه.
وفي شوال رتب الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نائباً عن السلطنة بحلب، وفيها أغار عسكر سيس ورجالة إنطاكية على الفوعة من بلد حلب ونهبوا وأفسدوا فركب إليهم الشهابي وصحبته عسكر فكسرهم وأخذ منهم جماعة فسيرهم إلى مصر فوسطوا.
وفي شوال سير الملك الظاهر الأمير عز الدين الدمياطي والأمير علي الدين الركني فقبضا على الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة وباشر الركنى النيابة بدمشق إلى أن قدم الأمير جمال الدين النجيبي متولياً.
وفي ذي القعدة خرج مرسوم الملك الظاهر إلى قاضي القضاة تاج الدين أن يستنيب من المذاهب الثلاثة فاستناب صدر الدين سليمان الحنفي والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي وشرف الدين عمر السبكي المالكي.
وفي يوم الخميس رابع وعشرين ذي الحجة وصلت طائفة من التتر إلى القاهرة مستأمنين وهم أول من وصل إليه منه فغير زيهم وأقطعهم أخبازاً وأنفق فيهم وأضاف كل جماعة منهم إلى مقدم ثم تواتروا بعد ذلك طائفة بعد أخرى.
ذكر ما آل إليه أمر أولاد صاحب الموصل

بعد فراقهم المستنصر بالله
لما فارقوه وصلوا سنجار وكاتب الملك الصالح لمن بالموصل يستشيرهم فأشاروا إليه بالتوجه إليهم فسار إليهم في العشرين من ذي الحجة من السنة الخالية ومعه نحو ثلاثة مائة فارس وكان بالموصل أربعمائة فارس فدخل الموصل وبقي اخوته بسنجار، فلما اتصل بهم قتل الخليفة ونزول التتر على الموصل لحصار أخيهم الملك الصالح خرجوا من سنجار وتوجهوا إلى الملك الظاهر فأحسن إليهم واقطع الملك المجاهد سيف الدين إسحاق فوق المائة ألف درهم لخاصته ولأولاده كل منهم على انفراده إقطاعاً جزيلة ورتب لأخواته الثلاث راتباً وأقطع لمماليكه الذين معه أيضاً وأضافهم إليه وكذلك اعتمد مع أخيه الملك المظفر علاء الدين لخاصته ومماليكه أيضاً.
ذكر حصار الموصل

في أوائل المحرم قصدت التتر الموصل ومقدمهم صندغون ومعهم الملك المظفر صاحب ماردين بعسكره وشمس الدين ابن يونس المشذ وسيف الدين بيبرس أمير شكار البدري ونصب عليها التتر أربعة وعشرين منجنيقاً وضايقوها أشد مضايقة ولم يكن بها سلاح يقاتلون به ولا قوت يمسك رمق من بها وغلا فيها السعر حتى بلغ المكوك بها ومقداره ربع أردب مصري أربعة وعشرين ديناراً فاستصرخ الملك الصالح بالبرلي فخرج من حلب وسار إلى سنجار فلما اتصل بالتتر وصوله عزموا على الهرب واتفق وصول الزين الحافظي إليهم من عند هولاكو يعرفهم أن الجماعة التي مع البرلي قليلة والمصلحة أن تلاقوهم فقوى عزمهم الحافظي قاتله الله فسار صندغون بطائفة ممن كان على حصار الموصل عدتها عشرة آلاف فارس وقصد سنجار وبها البرلي ومعه تسع مائة فارس غزى وأربعمائة من التركمان ومائة من العرب فخرج إليهم بعد أن تردد في ملتقاهم يوم الأحد رابع عشر جمادى الآخرة فكانت الكرة عليه فانهزم جريحاً في رجله وقتل ممن معه جماعة منهم الأمير علم الدين الوباش والأمير عز الدين أيبك السليماني من العزيزية والأمير بهاء الدين يوسف بن طرنطاي أمير جاندار الظاهري وسيف الدين كيكلدى الحلبي الناصري وعلم الدين سنجر الناصري وهؤلاء من أيعان الأمراء وشجعانهم وفرسانهم وقاتلوا في ذلك اليوم قتالاً عظيماً وأبلوا بلاء حسناً وأنكوا في العدو نكايات عظيمة ثم تكاثر التتر عليهم فاستشهدوا إلى رحمة الله تعالى واستشهد معهم من أولي البصائر جماعة يطول ذكرهم وأسر الأمير علم الدين جلم الأشرفي وولده والأمير سيف الدين بكتوت الحراني الناصري وغيرهم ونجا الأمير شمس الدين البرلي في جماعة يسيرة من العزيزية والناصرية منهم الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي وعلاء الدين آق سنقر الدوادار الناصري فوصلوا إلى البيرة ففارقه أكثرهم ودخلوا الديار المصرية ولما حل بالبيرة وصله قونو بن خاله وزين الدين قراجا الجمدار الناصري وكان أخذ أسيراً من حلب رسلاً من هولاكو يطلبونه إليه ليقطعه البلاد فقال أنا مملوك السلطان الملك الظاهر وما يمكنني مفارقته واختيار هولاكو عليه ثم سير الكتب إلى الملك الظاهر وكتب يطلب منه أماناً فسير إليه كتاباً بما سأل ويأمره فيه بالمصير إلى مصر فتوجه من البيرة في تاسع عشر شهر رمضان واجتمع بالبندقداري بعد توثق كلاهما بالأمان ثم وردت كتب الملك الظاهر إلى جميع نواب الشام أن يخلوا البلاد وينضموا إلى دمشق ودخل البرلي مصر يوم الاثنين غرة ذي الحجة فأنعم عليه الملك الظاهر وعين له سبعين فارساً.
ذكر استيلاء التتر على الموصل

وقتل الملك الصالح صاحبها
لما انهزم البرلي من التتر عاد صيدغون إلى الموصل بالأسرى فأدخلهم من النقوب إلى الملك الصالح ليعرفوه بكسرة البرلي وانهزامه ويشيروا عليه بالدخول في الطاعة ثم استمر الحصار إلى مستهل شعبان فطلبوا علاء الملك بن الملك الصالح وأوهموا أنه وصل إليهم كتاب هولاكو مضمونه أن علاء الملك ما له عندنا ذنب وقد وهبناه ذنب أبيه فسيره إلينا لنصلح أمرك معه وكان الملك الصالح قد ضعف وغلبت المماليك على رأيه فأخرج إليهم علاء الملك ولده فلما وصل بقي عندهم اثنى عشر يوماً ووالده يظن أنهم سيروه إلى هولاكو ثم كاتبوه بعد أيام يأمرونه بتسليم البلاد وإن لم يفعل لا يلوم إلا نفسه إذا دخلنا البلد بالسيف وقتلنا من فيه فجمع الملك الصالح أهل البلد والجند وشاورهم فأشاروا إليه بالخروج فقال تقتلوا لا محالة وأقتل بعدكم فصمموا على خروجه فخرج إليهم يوم الجمعة خامس عشر شعبان بعد الصلاة وقد ودع الناس ولبس البياض فلما وصل إليهم احتاطوا به ووكلوا عليه وعلى من معه وحملوه إلى الجوسق وأمروا شمس الدين بن يونس الباعشيقي بالدخول إلى البلد فدخل ومعه الفرمان ونادى بالأمان فظهر الناس بعد اختفائهم وشرع التتر في خراب الأسوار فلما اطمأن الناس وباعوا واشتروا ودخلوا البلد وأجالوا البلد وأجالوا السيف على من فيه تسعة أيام وكان دخولهم في السادس والعشرين من شعبان وهدموا السور ووسطوا علاء الملك وعلق على باب الجسر ثم رحلوا في سلخ شوال فقتلوا الملك الصالح في طريقهم وهم متوجهون إلى بيوت هولاكو.

وفي شهر ذي الحجة ظهر باب بين القصرين عند الركن المخلق بالقرب من رحبة العيد بالقاهرة وفيه حجر مكتوب عليه هذا مسجد موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام فجددت عمارته وهو الآن يعرف بمعبد موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر رسل الملك الظاهر إلى السلطان عز الدين

صاحب الروم
لما بلغ الملك الظاهر خلف السلطان عز الدين لأخيه السلطان ركن الدين وخروجه عن بلاده وانحيازه إلى أنطاكية بعث إليه عماد الدين عبد الرحيم الهاشمي والأمير شرف الدين الجاكي فوافياه بإنطاكية فأنهيا إليه رسالة الملك الظاهر ومضمونها تثبيت جنانه وترغيبه في انحيازه إليه ليعاضده ويساعده بخيله ورجله ويبذل نفسه لقصد البلاد الرومية حتى يتسخلصها كلها له فاعتذر بأعذار ظهر فيها التلوم والتوقف والتأني والتأفف ووعدانه متى لم يستتب له حال وضايقته التتر لم يكن له إلا حرم السلطان ملجأ ففارقاه على ذلك وعادا ثم اختل حاله وتلاشت أموره بمضايقة التتر بلاده وذلك أنه لما خرج عنها وقصد أنطاكية قصد التتر نائبه الأمير شمس الدين أرتاش البكلربكي مع مقدمهم على جق نوين فهزموا عسكره وقتلوه واستولوا على ما كان بيده من البلاد خلا بلاد أوج فلم ير السلطان عز الدين بداً من قصد الأشكرى فلما وصل إليه سأله المساعدة فوعده وسوفه فتقاضاه فقال مبعداً له أن تنصرت أزوجتك ابنة أختي وساعدتك على عدوك فهم أن يفعل ذلك ليبلغ غرضه من نصرته على أخيه فأشار عليه من معه أن لا تفعل فإنه متى فعل ذلك نفرت قلوب من معه من الجند وخذلوه فأمسك وتغير باطن الأشكري عليه فبعث إليه مخادعاً له أنه قد ظهر لي رأي في معونتك ولا بد من الاجتماع بك فخرج من قسطنطينية فمر في طريقه على قلعة فنزل جانبيها منها وقبض عليه بوصية تقدمت من الأشكري فلم يزل محبوساً إلى أن أغارت طائفة من أصحاب بركة على أطراف بلاد الأشكري وحاصروا القلقة التي فيها السلطان عز الدين فوقع الاتفاق بينهم على أنهم إن سلموه لهم يرحلوا عنها فسلموه إليهم فانطلقوا به إلى بركة.
ذكر الخلف الواقع بين هولاكو وبركةقال عز الدين محمد بن شداد رحمه الله حكى لي علاء الدين علي بن عبد الله البغدادي قال أخذت أسيراً من بغداد لما أخذتها التتر وكنت معهم مختلطاً بهم مطلعاً على أخبارهم فلما كانت سنة ستين ورد من عند بركة رسولان أحدهما يدعى بلاغا والآخر ططر برسالة مضمونها ما جرت به العادة من حمل ما كان يحمل إلى بيت باتو مما يفتح من البلاد وكانت العادة أن جميع ما يحصل في البلاد التي يملكونها ويستولون عليها من نهر جيحون مغرباً يقسم خمسة أقسام قسمان لا لقان وهو الملك الأعظم وقسمان للعسكر وقسم لبيت باتو فلما مات باتو وجلس بركة على التخت بدلاً منه لم يوصل إليه هولاكو مما أخذه من العراق ولا من الشام شيئاً مما كان يوصله إلى باتو ولما بعث بركة رسله بعث معهم سحرة ليفسدوا سحرة هولاكو وكان عند هولاكو ساحر يسمى تكتا فأعطوه هدية أرسلها بركة إليه معهم فلما وصلت الرسل بعث إليهم هولاكو من يخدمهم وساحرة من الخطا يتسمى كمشتا لتطلعه على أحوالهم فتعرفت أحوالهم وأخبرته فقبض عليهم وحبسهم في قلعة تلاثم قتلهم بعد خمسة عشر يوماً وقتل ساحره تكتا معهم فلما بلغ بركة ذلك أظهر العداوة وبعث رسله إلى الملك الظاهر يحرضه على اجتماع الكلمة على قتاله وسيأتي إن شاء الله.
وفي هذه السنة بعث هولاكو إلى مقدم عسكر المغل بالروم يأمره بقتل من ارتاب منه من التركمان فقصد طائفة منهم وقتل منهم خلقاً كثيراً وكان هذا سبب انحياز بقيتهم إلى الشام.
وفيها اشتد الغلاء بالشام فأبيع الرطل اللحم بالدمشقي بستة دراهم وبسبعة دراهم والغرارة القمح بأربع مائة وخمسين درهماً والشعير بمائتي وخمسين درهماً والمكوك القمح بحماة وبحلب بأربعمائة درهم واللحم الرطل بالحلبي بثمانية دراهم ورطل الخبز بثلاثة دراهم ثم بلغ خمسة ثم اشتد الغلاء في جميع الأصناف ومات خلق كثير من الجوع بحلب وحماة وغيرهما.

وفيها في أولها وصل إلى الديار المصرية رسول يدعى جمال الدين حسن بن ثابت من جهة رضي الدين أبي المعالي ونجم الدين إسماعيل بن الشعراني المستوليين على حصون الإسماعيلية بالبلاد الشامية برسالة تتضمن طلب أملاك الدعوة في الديار المصرية والبلاد الشامية وطلب الإقطاعات المعروفة بهم وعلى يده هدية كجاري العادة وأحضر أيضاً السكين والثوب والأمان إلى بين يدي الملك الظاهر فأجابه إلى جميع مطلوبه وقال له قد ثبت عندي أنك من أكابر أمراء الجبل وقد بلغني أن رضي الدين قد مات وقد اخترت أن أجعلك نائباً عني في سائر حصون الدعوة وتكون في مقام الرضي فأجابه إلى ذلك وكتب له الملك الظاهر تقليداً فأخذه وعاد إلى الحصون فوجد رضي الدين مريضاً فكتم الحال إلى أن توفي الرضي في أواخر هذه السنة فأظهر التقليد وقرأه على أهله وأقاربه بحصن الكهف وعرف به ابن الشعراني فما أمكنه إلا موافقته فخالفه جمال الدين واتفق معه وفي العين قذى وسمع صارم الدين مبارك ولد رضي الدين بذلك فعصى عليهما في قلعة العليقة.
فصل

فيها درج إلى رحمة الله تعالى الإمام المستنصر بالله
أبو القاسم أحمد أمير المؤمنين ابن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد وبقية نسبه إلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مذكور في ترجمة ابن أخيه المستعصم بالله رحمه الله في سنة ست وخمسين وستمائة فلا حاجة إلى إعادته.
وقد ذكرنا قدومه إلى الديار المصرية وثبوت نسبه ومبايعته وتجهيز الملك الظاهر له ووصلوه إلى العراق وملتقاه عسكر التتار وكسرهم لعسكره في حوادث السنة الخالية وإن كان المصاف الذي فقد فيه وقع في هذه السنة لكن ذكرته هناك لارتباط الحديث واتصاله وكان المستنصر بالله شجاعاً بطلاً مقداماً جواداً ممدحاً حسن الطريقة محمود السيرة قاتل يوم المصاف قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً وفقد فلم يطلع له على خبر ولا ذكر أحد أنه رآه بعد المصاف وظاهر أمره والله أعلم أنه استشهد إلى رحمة الله تعالى في المصاف ولحق بربه على الوجه الحسن رحمه الله وكان المصاف في ثالث المحرم من هذه السنة وقد ذكرناه ومدة خلافته خمسة أشهر وعشرون يوماً لأنه بويع له في ثالث عشر رجب سنة تسع وخمسين.
إسماعيل بن لؤلؤ بن عبد الله الملك الصالح ركن الدين بن الملك الرحيم بدر الدين صاحب الموصل قد ذكرنا وفوده على الملك الظاهر وعوده صحبة الخليفة المستنصر بالله ومفاقته له وتوجه إلى بلاده ولما فرغ التتر من أمر الخليفة المستنصر بالله حصروه في هذه السنة بالموصل وضيقوا عليه إلى أن ظفروا به على ما تقدم شرحه فقتلوا ولده قبله بأيام ثم قتلوه في ذي القعدة وهم متوجهون إلى أردو هولاكو في طريقهم رحمه الله وكان ملكاً عادلاً لين الجانب لم يكن على طريقة والده في السفك والقطع وما كان يسلكه من ذلك ورزقه الله تعالى الشهادة على أيدي التتر.
بلبان بن عبد الله سيف الدين الزرد كاش كان من أعيان الأمراء بالشام وكان الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري رحمه الله نائب السلطنة بالشام إذا غاب عن دمشق في بعض المهمات استنابه عنه في دار العدل ونيابة السلطنة لكبر قدره ولما يعلم من سداده وحسن طريقته وكان ديناً خيراً يحب العدل والصلاح وتوفي بدمشق في ثامن ذي الحجة رحمه الله.

الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الغنوي أبو محمد الضرير الأربلي المنشأ والملقب بالعز المشهور بعدم الدين والزندقة كان فاضلاً في العربية والنحو والأدب وعلوم الأوائل منقطعاً في منزله يتردد إليه من يشتغل عليه في تلك العلوم التي يعرفها فيتردد إليه جماعة من المسلمين وأرباب العقائد المفسودة واليهود والنصارى والسامرة وكان يصدر منه من الأقوال ما يشعر بانحلاله وفساد عقيدته ولم يكن يصلي ولا يفعل شيئاً من الفرائض فيما قيل عنه واشتهر وله مع ذلك حرمة وافرة عند كثير من الناس وإذا حضر إليه بعض الأكابر لا يعتني بهم ولا يوفيهم حقهم ويهينهم بالقول وفيما يعاملهم به وهم مع ذلك لا يرجعون عن التردد إليه وابتلى مع العمى بطلوعات وقروح في بدنه وكان قذرا زري الشكل قبيح المنظر لا يتوقى النجاسات لكنه كان ذكياً جيد الذهن حسن المحاضرة بالحكايات والنوادر والأشعار وعلى ذهنه من ذلك شيء كثير وله نظم جيد ولما ورد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله إلى دمشق في أواخر السنة الخالية ذهب إليه للبلدية وللفضيلة فيم ينصفه وعامله بما كان يعامله في حال صغر سن القاضي شمس الدين وقبل ترقيه بالعلوم والفضائل التي بذ بها الأقران وتوليه المناصب الجليلة فأهمله القاضي شمس الدين بالكلية ولم يعد إليه لنفسه الأبية وشرفها وكانت وفاة العز الضرير في أواخر ربيع الآخر بدمشق ودفن بسفح قاسيون قال عماد الدين الخضر بن دبوقا رحمه الله أنشدني العز الضرير لنفسه:
توهم واشينا بليل مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتى اتحدنا تعانقاً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد
وقال العماد أنشدني أيضاً لبعضهم:
اصبر إذا نازلة أقبلت ... فهي سواء والتي ولت
وأرهف العزم فليس الظبي ... تفري وتبري كالتي كلت
وأنشدني الفقيه عز الدين أحمد الأربلي للعز الضرير المذكور:
لو كان لي الصبر من الأنصار ... ما كان عليك هتكت أستاري
ما ضرك يا أسمر لو كنت لنا ... في دهرك ليلة من السمار
وأنشدني الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله للعز الضرير:
لو يسعدني على هواه صبري ... ما كنت ألذ فيه هتك الستر
حرمت على السمع سوى ذكرهم ... ما لي سمر غير حديث السعر
وأنشدني أيضاً له:
إن أجف تكلفاً وفى لي طبعاً ... أو خنت عهوده عهودي يرعى
يبغي لي في ذاك دوام الأسر ... هذا ضرير يحسبه لي نفا
قال ومولد العز بقرية يقال لها أفشا من أعمال نصيبين في سنة ست وثمانين وخمسمائة وكان عالماً بالنحو والأدب والفقه والخلاف والأصولين والمنطق والطبيعي والألاهي والمجسطي وشعره منحط عن فضيلته أقام بإربل مدة طويلة واشتغل بها على الشيخ شرف الدين المذكور بالحكميات ثم انتقل إلى الموصل ثم سافر إلى الشام سنة أربع وعشرين وستمائة وتصدر لقراءة العلوم والحكميات والأدبيات والأصولين والخلاف وكان حسن الأخلاق طيب العشرة لا تمل مفاكهته ولما أنشدت بيتيه المشهورة: توهم واشينا بليل مزاره، بحضرة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله استحسن الحاضرون ما أشار إليه من ضيق العناق وشدته فقال الملك الناصر لا تلوموه بزمه لزوم أعمى فلما بلغ العز قول الملك الناصر قال والله هذا الكلام أحلى من شعري وقد ألم غرس الدين أبو بكر الأربلي تلميذ العز بهذا المعنى فقال:
هم الرقيب ليسعى في تفرقنا ... ليلاً وقد بات من أهواه معتنقي
عانقته فاتحدنا والرقيب أتى ... فمذ رأى واحداً ولى على حنق

وحكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه قال لازمت العز الضرير بوم وفاته فقال اشتهى آكل أرزاً بلبن فقال له الكمال الحكيم رحمه وابن القف ما يوافق فقال هذه البنية التي لي قد تحللت وما بقي يرجى بقاؤها فدعوني آكل ما أشتهي فعمل له ذلك وأكل منه ولما أحس بشروع خروج الروح منه قال قد خرجت الروح من رجلي ثم قال قد وصلت إلى صدري فلما أراد المفارقة بالكية تلا: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ، صدق اله العظيم وكذب ابن سينا كذب ثم خرجت روحه وكان هذا آخر كلامه قال الأمير عز الدين فحكيت ذلك فيما بعد للشيخ شمس الدين المقدسي الحنبلي رحمه الله فسر له وقال فرحتني بذلك وحكى لي الأمير عز الدين أن العز كان يصرح بتفضيل على رضوان الله عليه على الثلاثة الخفاء مع المبالغة في تعظيمهم رضي الله عنهم أجمعين وللعز يمدح عز الدين أحمد بن معقل:
علا الحبر عز الدين في العلم والندى ... على قومه مع فضلهم وعلى مضر
عرفنا به كيف الطريق إلى العلا ... وأنسى عظيم الخبر من أمره الخبر
إذا كان بيت في القصيدة غرة ... فأشعار عز الدين أجمعها غرر
هو البحر فاق الدر نظم قريضه ... ولا عجب للبحر إن قذف الدر
أملي علي نسب العز على هذه الصورة الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله، ثم رأيت بخط الشيخ تاج الدين عبد الرحمن برحمة الله قصائد عدة منسوبة إليه وكتب في أولها للشيخ عز الدين الحسن بن علي النصيبيني.
ورأيت أيضاً بخط الشيخ نجم الدين أمد بن صصرى أيده الله وقد كتب شعراً منسوباً إليه وقال في أوله للشيخ عز الدين الحسن بن علي النصيبيني المكفوف والله أعلم.
وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه أن العز الضرير حدثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي وهناك جماعة من العلماء منهم الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله فجري البحث في الإمامة ومن الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله فجرى البحث في الإمامة ومن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض الحاضرين قد روى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع لأبي بكر رضي الله عنه مكرهاً وإن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال له بايع وإلا قتلت فالتفت على رضى الله عنه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " قال العز فبكى السيف الآمدي فقال له ابن عبد السلام هذا لم يجر وليس بصحيح وإنما هو من اختلاق الرافضة، فقال سيف الدين الآمدي ما قلت أنه صحيح وإنما وقع في خاطري شيء أبكاني قال العز فقلت للسيف يا مولانا قد احتملوك أهل دمشق على الكفر والزندقة تريد انهم يحتملوك على محبة أهل البيت هذا ما يصير، وكان للعز المذكور هجو خبيث فمنه، في العماد بن أبي زهران:
تعمم بالظرف من ظرفه ... وقام خطيباً لندمانه
وقال السلام على من زنى ... ولاط وقاد لإخوانه
فردوا جميعاً عليه السلام ... وكل يترجم عن شأنه
وقال يجوز التداوي بها ... وكل عليل بأشجانه
فأفتى بحل الزنى واللوا ... ط فقيه الزمان ابن زهرانه
وله في العماد المذكور وكان يلقب أولاً بالشجاع فلما تفقه لقب بالعماد فقال:
شجاع الدين عمدتا ... فهلا كنت شمسنا
خطيباً قمت سكراناً ... وبالزكوة عممتا
ومن أبيات، وللعز يهجو مجد الدين الروذراوري رحمه الله تعالى:
الروذراوري تلعنونه ... وما أتى في زعمه ببدعه
هل نال الإجازة في حجرها ... في رمضان الظهر يوم الجمعة

الخضر بن أبي بكر بن أمد أبو العباس كمال الدين الكردي قاضي المقس كان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله قد قربه وأدناه في زمن سلطنته فعلق به حب الرياسة والتقدم عند الملوك وكان عنده أقدام وهوج وقلة فكر في العواقب فصنع خاتماً وجعل تحت فصه ورقة لطيفة فيها أسماء جماعة ممن قصد أذاهم وإن عندهم ودائع لشرف الدين الفائزي وأظهر أن ذلك الخاتم كان لشرف الدين المذكور وأنه جعل تلك الورقة فيه تذكرة بما له من الودائع ورام بذلك التقرب إلى السلطان وضرر أولئك القوم لإحن قديمة بينه وبينهم وأظهر ذلك الخاتم وجرى في أمره خطوباً آخرها أنه اتضح أمره فأهين الكمال وصفع فقال فيه بعض الأدباء:
ما وفق الكمال في أفعاله ... كلا ولا سدد في أقواله
يقول من أبصره يصك تأ ... ديباً على ما كان من محاله
قد كان مكتوباً على جبينه ... فقلت لا بل كان في قذاله
ثم حبس وكان في الحبس شخص يدعى أنه ولد الأمير الغريب وكان ورد إلى إربل في أيام الإمام الناصر شخص يسمى الأمير الغريب ويزعم أنه ولد الإمام الناصر ثم توفي في سنة أربع عشرة وستمائة فادعى هذا الشخص أنه ولده وكانت الشهرزورية أرادت مبايعته بغزة فلما تبدد شملهم للأسباب التي تقدم شرحها من استيلاء التتر على الشام وغير ذلك أمسك هذا الشخص العباسي واعتقل فلما اعتقل الكمال معه وجمعهما الحبس تحدث الكمال معه على أن يسعى له في إتمام ذلك الأمر الذي كان الشهرزورية راموا فعله ويكون الكمال وزيره فاتفق موت العباسي، فلما خرج الكمال سعى في إتمام الأمر لابنه وتحدث في ذلك مع جماعة من الأعيان وغيرهم وكتب مناشير وتواقيع واتخذ بنود أشعار الدولة فنمى الخبر إلى الملك الظاهر وكان وزيره الصاحب بهاء الدين وقاضي قضاة الديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب وله المكانة العلية والوجاهة العظيمة والكلمة المسموعة وكلاهما من أشد الناس عداوة وبغضاً للكمال لذاته وتوثبه ولكونه من أصحاب القاضي بدر الدين السنجاري والمعروفين به فحصل التحريض عليه فشنق بالديار المصرية والتواقيع والبنود معلقة في عنقه، وذلك في ثامن عشر جمادى الآخرة من هذه السنة رحمه الله.

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب أبو محمد عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي الإمام الفقيه العلامة شيخ الإسلام ومولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، حضر أبا الحسين أحمد بن حمزة بن الموازيني وأبا طاهر الخشوعي وسمع من الحافظ أبي محمد القاسم بن علي الدمشقي وابن طبرزد وحنبل وعبد الصمد بن الحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بالشام والديار المصرية وأفتى سنين متطاولة وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار وكان في آخر عمره لا يتقيد في فتاويه بما يقتضيه مذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه بل يفتي بما يؤدي إليه اجتهاده ويترجح عنده بالدليل، وصنف التصانيف المفيدة النافعة وتولى الحكم بمصر والوجه القبلي مدة مع الخطابة بجامعها العتيق وكان ولي الخطابة بجامع دمشق مدة وكان علم عصره في العلم جامعاً لفنون متعددة عارفاً بالأصول والفروع والعربية والتفسير معاً جبل عليه من ترك التكلف والصلابة في الدين ولما كان مباشراً للخطابة والإمامة بجامع دمشق سلم الملك الصالح عماد الدين رحمه الله إلى الفرنج صفد والشقيف سنة تسع وثلاثين وهما من الفتوحات الصلاحية ليعتضد بهم فأنكر الشيخ عز الدين هذا الفعل غاية الإنكار وبسط لسانه بالقول ووافقه على ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي رحمه الله وكن كبير القدر أيضاً في العلم والدين وبلغ الملك الصالح عماد الدين إنهما ينالان منه بسبب ذلك فغضب غضباً شديداً ففارقا دمشق فمضى الشيخ جمال الدين إلى الكرك فأقام عند الملك الناصر داود رحمه الله مدة فأقبل عليه وأحسن إليه ثم سافر إلى الديار المصرية وأقام بها إلى أن مات رحمه الله وأما الشيخ عز الدين فمضى إلى الديار المصرية فأقبل عليه الملك الصالح نجم الدين غاية الإقبال لفضيلته وديانته ومكانته ولتشنيته على عمه الملك الصالح عماد الدين واتفقت وفاة القاضي شرف الدين بن عين الدولة قاضي القاهرة والوجه البحري فنقل الملك الصالح القاضي بدر الدين إلى القاهرة وما معها وولاه قضاءها وولى الشيخ عز الدين القضاء لمصر والوجه القبلي مع الخطابة بجامع مصر وبقي على ذلك مدة واتفق أن بعض غلمان الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ وزير الملك الصالح نجم الدين بنى على سطح بعض المساجد بمصر بنياناً وجعل فيه طبلخاناة معين الدين وبلغ ذلك الشيخ عز الدين فأنكره ومضى بنفسه وأولاده فهدم ذلك البناء وأمر بنقل ما على سطح ذلك المسجد وتفريغه مما فيه وعلم الشيخ عز الدين أن ذل يغضب الملك الصالح ووزيره فأحضر شهوداً وأشهدهم على نفسه أنه قد اسقط عدالة معين الدين وأنه قد عزل نفيه عن القضاء بمصر وما معهما فعظم ذلك على الملك الصالح وأبقى نواب الشيخ عز الدين فقيل للملك الصلاح إن لم تعزله عن الخطابة فربما يبدو منه تشنيع على المنبر كما فعل بدمشق لما سلم الملك الصالح عماد الدين صفد والشقيف فعزله عن الخطابة فأقام في بيته بالقاهرة يشغل الناس بالعلم وقال الأمير حسام الدين ابن أبي علي رحمه الله كان عندي شهادة تتعلق بالملك الصالح نجم الدين فقال لي السلطان والشيخ عز الدين متولي القضاء بمصر تؤدي الشهادة عنده فقلت يا خوند ما يقبل شهادتي فألح علي فقلت يا خوند خذ لي منه دستوراً فبعث إلى الشيخ عز الدين في ذلك فقال ما أقبل له شهادة فتوقفت القضية إلى أن ولي القاضي بدر الدين السنجاري فذهبت إليه فتلقاني إلى الباب فشهدت عنده فقبل الشهادة وانقضى الشغل فكان الشيخ عز الدين رحمه الله لا يحابي أحداً في الحق ولما حضرته الوفاة سير إليه الملك الظاهر رحمه الله يفتقده ويقول له من تختار أن يتولى مناصبك من أولادك فقال ما في أولادي من يصلح لشيء من ذلك وهذه المدرسة يعني مدرسة الملك الصالح التي بين القصرين يصلح لتدريسها القاضي تاج الدين عبد الوهاب يعني ابن بنت الأعز ففوضت إليه بعده وكان بالديار المصرية رجل يعرف بالمبارز العارونة وهو كثير المال وكان يكثر التردد إلى الشيخ عز الدين وهو صاحبه فحكى للشيخ عز الدين عقيب كسرة المنصورة الأخيرة وكان قد صودر قبل ذلك على قريب خمسين ألف درهم قال صودرت على ذلك المبلغ فما مضى إلا مدة يسيرة حتى كانت وقعة المنصور فحصلت من مكاسبها قريب خمسين ألف دينار فقال له الشيخ عز الدين هذا المبلغ في ذمتك لأن الغنائم لم

تخمس ولا قسمت على الوجه الشرعي فلما مرض الشيخ عز الدين مرض الموت أشهد على نفسه أنه يشهد على إقرار المبارز بما أقربه من ذلك واتصل الأمر بالملك الظاهر فالزم المبارز بغرم ما أقربه فقال إنما شهد على شاهد واحد فقال الملك الظاهر الشاهد الذي شهد أكثر من ألف شاهد وكان الشيخ عز الدين رحمه الله معماً هو عليه من هذه الأوصاف عنده رقة حاشية ويحضر السماع ويرقص ويتواجد ويستحسن الصور الجميلة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار ويستشهد بها في مواضعها مر على دار من دور القصر بالقاهرة وهي خراب وانقاضها تنقل فأنشد متمثلاً:تخمس ولا قسمت على الوجه الشرعي فلما مرض الشيخ عز الدين مرض الموت أشهد على نفسه أنه يشهد على إقرار المبارز بما أقربه من ذلك واتصل الأمر بالملك الظاهر فالزم المبارز بغرم ما أقربه فقال إنما شهد على شاهد واحد فقال الملك الظاهر الشاهد الذي شهد أكثر من ألف شاهد وكان الشيخ عز الدين رحمه الله معماً هو عليه من هذه الأوصاف عنده رقة حاشية ويحضر السماع ويرقص ويتواجد ويستحسن الصور الجميلة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار ويستشهد بها في مواضعها مر على دار من دور القصر بالقاهرة وهي خراب وانقاضها تنقل فأنشد متمثلاً:
أهادمها شلت يمينك خلها ... لمعتبر أو واقف أو مسايل
منازل قوم حدثتنا حديثهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل
وهذا البيتان لعبد الواحد بن الفرج المعري الشاعر قالهما من جملة أربعة أبيات في قصر كان بالمعرة في محلة شيات فأمر صاحب المعرة بنقضة فاجتاز عبد الواحد بالفعلة وهم بخربونه فقال بديهاً:
مررت بقصر في سيات فساءني ... به زجل الأحجار تحت المعاول
تناولها عبل الذراع كأنما ... جرى الحرب فيما بينهم حرب وائل
فقلت له شلت يمينك خلها
البيتين المتقدمين.
توفي عبد الواحد المذكور في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وكانت وفاة الشيخ عز الدين رحمه الله في العاشر من جمادى الأولى بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم ونزل الملك الظاهر لشهود جنازته وكذلك سائر أرباب الدولة والجند والعوام وغيرهم ولم يتخلف عن شهود جنازته غلا القليل من الناس وشهرته تغني عن الأطناب في ذكره رحمه الله.
عبد العزيز بن يوسف بن قزأوغلى أبو محمد عز الدين الحنفي الواعظ قد أشرنا إليه في ترجمة والده الشيخ شمس الدين أبي المظفر يوسف سبط الشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمه الله في سنة أربع وخمسين وكان درس بعد أبيه بالمدرسة العزية ووعظ وكان فاضلاً عنده أهلية جيدة وتوفي في سلخ شهر شوال ودفن بمقبرة أبيه بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو الحسن تاج الدين الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر سمع الكثير من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وزيد والكندي وعبد الصمد الحرستاني وغيرهم وحدث بدمشق ومصر وغيرهما وتولى مشيخة دار الحديث النورية وغيرهما بدمشق ومولده بدمشق ليلة عيد الفطر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته في حادي عشر جمادى الأولى بمكة شرفها الله ودفن بالحجون رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس بن الحسن بن العباس ابن الحسن بن الحسين بن علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو الحسن بهاء الدين بن أبي الجن الحسيني نقيب الأشراف بدمشق وأعمالها، مولده ليلة الثامن عشر من شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة بدمشق سمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن صدقة وأبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي وأبي الفوارس بن شافع وغيرهم وحدث بدمشق ومصر، وكان رئيساً جليل المقدار كريماً ممدحاً وتوفي بدمشق في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب ودفن بها بمنزله بدرب الديماس رحمه الله وولى النقابة بعده فخر الدين أبو محمد الحسن ابن نظام الدين أبي الحسن علي البعلبكي.

عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القاسم كمال الدين العقيلي الحلبي الفقيه الحنفي الكاتب المجيد المعروف بابن العديم مولده بحلب في العشر الأول من ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة سمع من أبيه أبي الحسن وعمه ابن غانم محمد وأبي هاشم عبد المطلب ابن الفضل الهاشمي وعمر بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وأبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وجمعة كثرة غيرهم وحدث بالكثير في بلاد متعددة ودرس وأفنى وصنف وكان إماماً عالماً فاضلاً مفنناً في العلوم جامعاً لها أحد الرؤساء المشهورين والعلماء المذكورين وترسل إلى الخليفة والملوك مراراً كثيرة وكان له الوجاهة العظيمة والحرمة الوافرة عند الخلفاء والملوك وغيرهم وهو مع الوجاهة العظيمة والحرمة الوافرة عند الخلفاء والملوك وغيرهم وهو مع ذلك كثير التواضع ولين الجانب وحسن الملتقى والبشر لسائر الناس مع ما هو منطو عليه من الديانة الوافرة والتحري في أقواله وأفعاله، وأما خطه ففي غاية الحسن والجودة باع الناس منه شيئاً كثيراً على أنه خط علي بن هلال بن البواب الكاتب المشهور، وله معرفة بالحديث والتاريخ وأيام الناس وجمع لحلب تاريخاً كبيراً أحسن فيه ما شاء ومات وبعضه مسودة لم يبيضه ولو تكمل تبييضه كان أكثر من أربعين مجلداً، وكان حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير البر لهم والإحسان إليهم وحضر عند الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وطلب منه أن يلبسه خرقة فأعطاه قميصه كأنه تفرس فيه الخير والصلاح، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى بظاهر مصر ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله، ولما وصل إلى الديار المصرية رسولاً في بعض سفراته إليها حمل إليه الشيخ أيدمر مولى وزير الجزيرة والمسمى فيما بعد بإبراهيم الصوفي ديوان شعره ليطالعه فتصفحه وطالعه وكتب عليه لنفسه: ؟وكنت أظن الترك تختص أعين لهم إن رنت بالسحر منها وأجفان
إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان
فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان
فكتب إليه أيدمر يشكره ويسأله أن يكتب اسمه تحت الشعر الذي كتبه على الديوان:
لك الفضل أولى الناس بالحمد منعم ... تعرف بالإحسان إذ رث عرفان
وبارقة من أفق علياك خبرت ... بأن سحاب الفضل عندك هتان
انثنى على الديوان أبياتك التي ... يفضل منها للبلاغة ديوان
فدلت وإن قلت على ما وراءها ... كما شف عن سر الصحيفة عنوان
فلو عاينت عيناً ابن مقلة خطكم ... لغض أتاه أو رنا وهو خزيان
فكيف يكون السحر فينا وعندنا ... وخطك هاروت ولفظك سحبان
فيا مالك أبدي ندى كان متمماً ... لتشفع من يمناك بالحسن إحسان
وتوجه والمأمور غيرك باسمك الكريم فأسماء الأكارم تيجان
يحوك الحياوشي الرياض وينجلي ... وتبقى شهيداً عندها منه غدران
على أنه الصبح المنور شهرة ... وليس بمطلوب على الصبح برهان
وإن أمرأً أضحى الكمال يعينه ... فمن أين يعروه وحاشاه نقصان
محمد بن داود بن ياقوت الصارمي أبو عبد الله ناصر الدين كان رجلاً صالحاً فاضلاً عالماً مفيداً لطلبة الحديث باذلاً كتبه وخطه للمشتغلين سمع كثيراً وكتب مجلدات وأجزاء كثيرة وطباق السماع التي بخطه من أحسن الطباق وأنورها وأصحها، وكانت وفاته بدمشق في السادس والعشرين من جمادى الآخرة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الحق بن خلف أبو عبد الله جمال الدين الحنبلي كان فاضلاً ظريفاً حسن الأخلاق يؤرخ الوقائع والمتجددات والوفيات ويتولى الحسبة بجبل الصالحية وكانت وفاته بالجبل المذكور ودفن به في سادس وعشرين جمادى الآخرة رحمه الله.

يوسف بن عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد أبو الفضل شرف الدين الموصلي الأصل ويعرف بابن اللباد كان فاضلاً أديباً شاعراً مترسلاً وله معرفة بالطب وتوفي يوم الجمعة خامس ذي القعدة بالقاهرة ودفن بالقرافة وهو في حدود الخمسين سنة رحمه الله ووالده موفق الدين عبد اللطيف بغدادي المولد كان عالماً بالنحو واللغة وعلم الكلام والطب ولد بدار جده بدرب الفالوذج سنة سبع وخمسين وخمسمائة وغاب عن بغداد مقدار خمس وأربعين سنة ودخلها عازماً على الحج فأدركته منيته بها في يوم الأحد ثاني عشر المحرم سنة تسع وعشرين وستمائة ودفن بالوردية، وله نحو مائتي مصنف ما بين مطول ومختصر وطاف البلاد ودخل دمشق والبيت المقدس والديار المصرية وغير ذلك رحمه الله.
يوسف بن يوسف بن يوسف بن يوسف بن سلامة بن إبراهيم ابن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سلميان بن محمد الفأفا الزينبي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو العز وقيل أبو المحاسن محي الدين الهاشمي العباسي الموصلي المعروف بابن زيلاق مولده بالموصل قي إحدى الربيعين سنة ثلاث وستمائة وقتلوه التتر حين ملكوا الموصل بها في عاشر شعبان هذه السنة، وكان شاعراً مجيداً فاضلاً حسن المعاني رحمه الله، ومن شعره:
إني لأقضي نهاري بعدكم أسفاً ... وطول ليلي بتسهيد وتعذيب
جفن قريح وقلب حشوه حرق ... فمن رأى يوسفاً في حزن يعقوب
وله:
بدا لنا من جبينه قمر ... يضل في ليل شعره الفكر
أحور يجلو الدجى تبسمه ... أسمر يحلو بذكره السمر
حديث عهد الشباب ما حف بالريحان ... ورد في خده نضر
ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فيحتاج عنه نعتذر
جوامع الحسن فيه كاملة ... فالقلب وقف عليه والبصر
خصر كما آثر التفرق في ... جسمي وثغر رضابه خصر
وقامة لدنة إذا خطرت ... هان علنيا في حبها الحظر
وله:
أغري جفون المحب بالسهر ... أغيد حالي الجفون بالحور
رخيم لفظ جاءت شمائله ... بكل معنى في الحسن مبتكر
مؤنث الدل كاسر جفنه الساجي على نصل صارم ذكر
حديث عهد السباب طلعته ... محية من طلائع الشعر
حياه وحدي ماء بوجنته ... ما اغترفت صفوة بذا الخضر
أن يطل الفكر في توردها ... فذاك والله موضع النظر
يا مالكي شافعي إليك هوى ... مذهب وردي فيه بلا صدر
أفوت ليلى بالطول واشتملت ... أجفان عيني به على القصر
حالين أشكو إليك بينهما ... وفاء دمع وعذر مصطبر
وله:
هل أنت يا وفد الصبا مخبري ... مربع أحبابي متى روضا
وهل أقام الحي من بعدنا ... مخيماً بالجزع أم قوضا
وأنت يا بارق نجد إذا ... أضأت جيراناً بذات الأضا
فقل لهم ذاك الغريب الذي ... أمرضتموه بجفاكم قضى
حاشا لذاك الوجد أن ينقضي ... وعهدنا بالخيف أن ينقضي
ويا شفاء النفس لو أنه ... كان طبيب الداء من أمرضي
أحبابنا منذ وداع اللوى ... لم ألق عيشاً بعدكم يرتضى
ولا رأت عيناي مذ غبتم ... يوماً كأيامي بكم أيضاً
وله:
يفيدك جفن بمائه شرق ... جار عليه البكاء والأرق
ومهجة لم تزل حشاشتها ... منك بنار الجفاء تحترق
يا رشأ أصبحت محاسنه ... تسلب ألبابنا وتسترق
تجمعت فيك للورى فتن ... على تلاف النفوس تتفق
طرف كحيل ووجنة كسيت ... حمرة دمعي ومبسم يقق
جالت علي عطفه ذوائبه ... كالغصن زانت فروعه الورق
حسن أسر الصديق لي حسداً ... على هواه وخان من أثق

رأوه لي جنة معجلة ... ما وجدوا مثلها ولا رزقوا
فأكثروا وافتروا كأنهم ... لغير قول المحال ما خلقوا
هم حسدوني عليه فاختلفوا ... بكل زور إليه واختلقوا
سعوا بتفريقنا فلا اجتمعوا ... على وصال يوماً ولا اتفقوا
بمن كسا وجنتيك من حلل ال ... حسن رياضاً نسيمها عبق
واطلع الصبح من جبينك محفوظاً بصدغ كأنه غسق
لا تثن عطفاً إلى الوشاة فما ... سلاك قلبي لكنهم عشقوا
أنت بحالي أدري وحالهم ... قد وضحت في حديثنا الطرق
ما كنت يوماً إليك معتذراً ... لو أنهم في حديثهم صدقوا
وله:
كذب الواشون قلبي ما سلا ... وفؤادي من هواكم ما خلا
لا تظنوني إن طال المدى ... ناسياً ذاك الغرام الأولا
لست ممن إن نأت دار به ... أسخط الشوق وأرضى العذلا
يا ولاة الحسن ما آن لمن ... جار في عشاقه أن يعدلا
أخذ الإشراق عن بدر الدجى ... وروى النفرة عن ظبي الفلا
أي شهد ريقه لو يجتني ... وهلال وجهه لو يجتلي
يحمد الليل إذا ولى ولا ... يعدم الصبح إذا ما أقبلا
ناعم الأطراف ما أسعد من ... ضمه معتنقاً أو قبلاً
ليس يأتي نعم في لفظه ... قوله في جده والمزح لا
أحياة أترجى بعدما ... حكمت ألحاظه أن أقتلا
وله:
يريك قوام السمهر يقوامها ... ويجلو عليك النيرين لثامها
ويفتنا منها جفون تضمنت ... لواحظها أن لا تطيش سهامها
وليلة أعطينا المنى من وصالها ... وعهدي لا يهدي إلينا سلامها
توقد ناراً خدها وحليها ... وخمرتها فأنجاب عنها ظلامها
وطافت بكأسات الرحيق كأنما ... يفض عن المسك السحيق ختامها
إذا ما ظللنا في غياهب شعرها ... هدانا إلى صبح الغرام ابتسامها
سألتكما أي الثلاثة درها ... أمبسمها أم عقدها أم كلامها
وأي الثلاث المسكرات سلبنني ... أريقها أم لحظها أم مدامها
وله:
أدمشق لا زالت تجودك ديمة ... ينمي بها زهر الرياض ويؤنق
أهوى لك السقيا ولو ضن الحيا ... أغناك عنه ماؤك المتدفق
ويسر قلبي لو تصيح إلى المنى ... أني أنال بك المقام وأرزق
وإذا امرؤ كانت ربوعك حظه ... من سائر الأمصار فهو موفق
أني التفت فجدول متسلسل ... أو جنة مرضية أو جوسق
يبدو لطرفك حيث ملت حديقة ... غناء نور النور منها يسرق
تشدو الحمام بدوحها فكأنما ... في كل عود منه عود يخفق
وإذا رأيت الغصن ترقصه الصبا ... طرباً رأيت الماء وهو يصفق
لبست جنان النيرين محاسناً ... وقفت عليها كل طرف يرمق
فحمامها غرد ونبت رياضها ... خضل وركب نسيمها مترفق
وله:
وإذا شكوت من الزمان ومسني ... ضيم ونكس صعدتي أعسار
وعلمتم أني بكم متعلق ... فعلى علاكم لا على العار
ومن شعره أيضاً:
بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنى ... سهاداً يذود الجفن أن يألف الجفنا
وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلاً ... فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى
وأبرزت وجهاً أخجل الصبح طالعاً ... ومالت بقد علم الهيف الغصنا
حكيت أخاك البدر في حال تمه ... سنى وسناء إذا تشابهتما سنا
أسمراء إن أطلقت بالهجر عبرتي ... فإن لقلبي من تباريحه سجنا
وإن تحجبي بالبيض والسمر فالهوى ... يهون عند العاشق الضرب والطعنا
وما الشوق إلا أن أزورك معلناً ... فلا مضمراً خوفاً ولا طالباً أذنا

وألقاك لا أخشى الغيور فأنثني ... ولو منعت أسد الشرى ذلك المعنى
السنة الحادية والستون وستمائةدخلت هذه السنة والخليفة المستنصر بالله قد قتل وملوك الأطراف على حالهم في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة البل من الديار المصرية.
فمن المتجددات فيها مبايعة الحاكم بأمر الله، باب في مبايعته وهو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس رضي الله عنه وهو الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي القبي بن الأمير علي ابن الأمير أبي كبر بن الإمام المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بويع بالخلافة في قلعة الجبل ظاهر القاهرة يوم الخميس تاسع المحرم سنة إحدى وستين وستمائة، وكان وصل إلى قلعة الجبل في السنة الخالية على ما تقدم شرحه.
فلما كان في التاريخ جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً فيه أعيان الناس من القضاة والأمراء والعلماء وجماعة من التتار الوافدين وحضر الإمام الحاكم إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل راكباً وبسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه وأمر الملك الظاهر بعمل شجرة نسب له فعملت وقرئت على الناس، ثم أقبل الملك الظاهر إليه وبايعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر والجهاد وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها والوفاء بالعهود وإقامة الحدود وما يجب على الأئمة فعله من أمور الدين وحراسة المسلمين، فعند ذلك أقبل الخليفة على الملك الظاهر وقلده أمور البلاد والعباد ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في المبايعة فلم يبق أحد ممن يشار إليه من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم إلا وبايعه، وكان المسلمون بغير خليفة منذ استشهد الإمام المستنصر بالله في أوائل السنة الخالية ولم يل الخلافة من والده وجده غير خليفة بعد السفاح والمنصور إلا الحاكم هذا فإن والده وجده وجد والده لم يلوا الخلافة أما من ولي الخلافة ولم يكن والده خليفة بعد السفاح والمنصور من بني العباس فالمستعين أحمد بن محمد بن المعتصم والمعتضد بن طلحة بن المتوكل والقادر بن أحمد بن المقتدر والمقتدى بأمر الله بن الذخيرة بن القائم وبقي اسم الخلافة على الإمام الحاكم بأمر الله المذكور ويخطب له على المنابر وتضرب السكة باسمه إلى أوائل جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعمائة درج إلى رحمة الله تعالى بالديار المصرية وصلى عليه في جامع دمشق بالنية يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة.
وكانت وفاته رحمه الله في أواخر جمادى الأولى رحمه الله تعالى فكان مدة وقوع اسم الخلافة عليه أربعين سنة وأشهر وبويع ولده أبو الربيع سليمان ولقب بالمستكفي وحصل الحديث من الإمام الحاكم في إنفاذ رسل إلى بركة فوافق على ذلك وانفصل المجلس، ولما كان يوم الجمعة ثاني ويوم المبايعة اجتمع الناس وحضر الرسل إلى الملك بركة وخطب الخليفة بالناس فقال: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبع من النعماء، واستنصره على دفع الأعداء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الإقتداء الأربعة الخلفاء وعلى العباس عمه وكاشف غمه أبي السادة الخلفاء الراشدين والأئمة المهذبين وعلى بقية الصحابة والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أيها الناس أعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام والجهاد، محتوم على جميع الأنام ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم، فول شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام واستباحوا الدماء والأموال وقتلوا الرجال والأطفال وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه فشمروا عن ساق الاجتهاد في أحياء فرض الجهاد: " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين والمحاماة عن المسلمين.

وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة وأخلصوا نياتكم تنصروا وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعاقبة للمتقين والدهر يومان والآخر لمؤمنين جمع الله على التقوى أمركم وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله حمداً يقوم بشكر نعمائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة عند لقائه وأشهد أن محمداً سيد رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ما خلق في أرضه وسمائه، أوصيكم عباد الله بتقوى الله أن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الملك الديان: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً نفعنا الله وإياكم بكتابه وأجزل لنا ولكم ثوابه وغفر لي ولكن وللمسلمين أجمعين.
وكتب بدعوته إلى الآفاق وتعلل بذكرها الرفاق. وكتب الله للسلطان هذه الحسنة التي يجدها يوم ينفد كل شيء وما عند الله باق، وكتب السلطان إلى الملك بركة يعلمه بذلك.
وفي ليلة الأربعاء ثالث شهر رمضان سأل السلطان الخليفة هل لبس الفتوة من أحد من أهل بيته الطاهرين أو من أوليائهم المتقين فقال: لا والتمس من السلطان أن يصل سببه بهذا المقصود، وسنخ هذا الأمر الذي من بيته بدا وإليه يعود، فلم يمكن السلطان إلا طاعته المفترضة وإن يمنحه ما كان ابن عمه قرضه، وإن يحلى بالجواهر منضده، وإن يقلد بالسيف مجرده وأن يعطي القوس لباريها، ويسلم الصهوة لراقيها، ويكون في ذلك كمحبب الحلة للابسها، ويقتدح بالجذوة لقابسها، ولبس في الليلة المذكورة بحضور من يعتبر حضوره في مثل ذلك وباشر ذلك الأتابك فارس الدين أقطاي بطريق الوكالة المعتبرة عن السلطان، وقال السلطان الملك الظاهر أبا للإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ولد الإمام الظاهر وأبوه لجده الناصر لعبد الجبار لعلي بن دغيم لعبيد الله ابن القتر لعمر بن الرصاص لأبي بكر بن الجحيش لحسن بن السارمار لبقاء بن الطباخ لنفيس العلوي لأبي القاسم بن أبي حبة لمعمر بن النن لأبي علي الصوفي لمهنا العلوي للقائد عيسى للأمير وهوان لروزبة الفارسي للملك أبي كيجيار لبي الحسن النجار لفضل الفرقاشي للقائد شبل بن المكرم لأبي الفضل القرشي للأمير حسان لجوشن الفزاري للأمير هلال النبهاني لأبي مسلم الخراساني لأبي العز النقيب لعوف القناني للحافظ الكندي لأبي علي النوى لسلمان الفارسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له صلى الله عليه وسلم سلمان من أهل البيت للإمام الظاهر التقي النقي علي سلام الله عليه وحمل إليه السلطان من الملابس لأجل ذلك ما يليق بجلاله.
وفي الليلة الثانية حضر رسل الملك بركة إلى القلعة وألبسهم الخليفة تفويض الوكالة للأتابك وحمل إليهم من الملابس ما يليق بمثلهم.
ولما كان يوم الجمعة ثامن عشري شعبان خطب الخليفة أيضاً بحضور رسل الملك بركة ودعا للسلطان وللملك بركة وصلى بالناس واجتمع بالسلطان وللملك بركة وصلى بالناس واجتمع بالسلطان وبالرسل وتحدثوا في مهمات الإسلام.
وفي ويوم المبايعة أفرج الملك الظاهر عن الأمير علاء الدين طيبرس ثم قبض عليه لما نزل من الطور وحبسه بقلعة القاهرة ثانية.

وفيها في العشر الأول من صفر جمع تكفور صاحب سيس جمعاً كبيراً خيلاً ورجلاً وخرج من سيس وأغار على بلد الجومة إلى بلد العمق وجبل ليلون ومعمرة مصرين وسرمين والفوعة، وكان دليله رجل من أهل الفوعة يعرف بابن ماجد فأخذ من الفوعة ثلاثمائة وثمانين نفراً وكبس سرمين وكان بها من الأمراء المجردين بهاء الدين الخضر الحميدي وركن الدين عيسى السروي وعلم الدين قيصر الظاهري فانحازوا إلى دار الدعوة بسرمين واجتمع عليهم خلق كثير وحاصروهم بها ثم إن ركن الدين عيسى السروي ركب وأركب الأمراء المذكورين وفتح باب دار الدعوة وخرج ثم حمل فيهم فصادف في حملته صاحب سيس ولم يعرفه فرماه من جواده فتفللت لأجله عزائم أصحابه فولوا هزيمة لا يلوى أحد منهم على صاحبه وتخلص ممن كان معهم من الأسراء جماعة كبيرة.
ذكر توجه الملك الظاهر إلى الشام

وقبضه على الملك المغيث صاحب الكرك
برز الملك الظاهر يوم السبت سابع ربيع الآخر إلى مسجد التبن وأقام به إلى عاشر الشهر ورحل يوم الخميس حادي عشرة، ولما وصل إلى غزة وفد عليه في السابع والعشرين من الشهر والدة صاحب الكرك شافعة في ولدها فأقبل عليها وأكرمها وأذن لها في العود فعادت ثم رحل إلى الطور يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى وجاء من الأمطار ما منع السابلة فغلت الأسعار ولحق العسكر مشقة عظيمة والملك الظاهر يرسل الرسل إلى صاحب الكرك يطلبه وهو يسوف خوفاً من القبض لما أسلفه من الأفعال الذميمة منها رسالة سيرها على لسان الأمجد رسوله أساء فيها الأدب ومنها كتبه إلى التتر يحرضهم على قصد البلاد، ومما ثبطه كتب وصلت إليه من أمراء كانوا مع الملك الظاهر يحذرونه الوصول إليه يعرفونه أنه عازم على قبضه، فوقف عليها وسيرها إلى الملك الظاهر فسير إليه في الجواب أني أنا أمرتهم بذلك لأتحقق ما في نفسك، فخرج من الكرك خائفاً ولما وصل بالقرب من العسكر ركب الملك الظاهر لتلقيه فأراد أن يترجل فمنعه الملك الظاهر وسايره إلى باب الدهليز فدخل الملك الظاهر وعدل بالملك المغيث إلى خركاه واحتيط عليه وبعث به إلى قلعة القاهرة صحبة الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني السلحدار يومئذ فوصل به ليلة الأحد خامس عشر جمادى الآخرة فكان آخر العهد به.
ولما قبض عليه ظهر في وجوه بعض الأمراء كراهية ذلك فاحضر الملك الظاهر الأمراء والملك الأشرف صاحب حمص وكان قد وفد عليه وقاضي القضاة بدمشق وكان قد استدعاه والشهود ورسل الفرنج وأخرج إليهم كتب الملك المغيث إلى التتر يحرضهم على قصد البلاد وكتب التتر إليه أجوبة منها مضمونها شكر هولاكو منه واعتزاؤه إليه ويعده بوعود حسنة ويقول له قد أقطعتك من بصري إلى غزة وقد عرفت ما أشرت إليه من طلب عشرين ألف فارس نسيرها تفتح بها مصر ويعده بإرسالها إليه ويوصيه بأمور جمة، ثم أخرج فتاوى الفقهاء بأنه لا يحل إبقاؤه على هذا الوجه فعذروه حينئذ وكان أوكد الأسباب في القبض عليه أن رسولاً ورد عليه من التتر فاصل ذلك بالملك الظاهر فبعث إليه بدر الدين لؤلؤ المسعودي أحد المماليك البحرية وطلبه فأنكره فتوعده وتهدده فأظهره وحمل إلى الملك الظاهر وأخذ يعده ويمنيه حتى أخبره بما جاء فيه وهو أن هولاكو سيره إليه ليكشف حاله وكتب الجواب وأخرجه، فلما وقف لعيه الملك الظاهر أخذ خطوط الفقهاء بوجوب قتاله ثم توجه إلى الكرك وكاتب من فيه بتسليمه فوقع الاتفاق على أن يؤمر الملك العزيز عثمان بن الملك المغيث على مائة فارس وتسلم الكرك يوم الخميس ثالث عشري جمادة الآخرة ودخله ثالثه نهار الجمعة، ثم قصد الديار المصرية واستصحب أولاد الملك المغيث وحريمه فلما حل بمصر أمر ولده كما تقرر وأنزله في دار القطبية بين القصرين، وكان وصوله إلى الديار المصرية يوم السبت سادس عشر شهر رجب.
وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه قبض الملك الظاهر على الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي والأمير عز الدين أيبك الدمياطي والأمير شمس الدين آقوش البرلي وحبسهم بقلعة الجبل.

وفي حادي عشر شهر رجب وصل إلى الديار المصرية رسولان من عند الملك بركة وهما جلال الدين بن قاضي دوقات والشيخ علي التركماني وكان وصولهما من الإسكندرية وصلاها من بلاد الأشكري وذلك أنهما خرجا من سقسين مدينة بكرة في نهر اتل إلى بحر سوداق وركبوا فيه إلى خليج القسطنطينية إلى البحر الكبير فسلكاه إلى الإسكندرية ومضمون الرسالة: أنت تعلم أني محب لهذا الدين وهولاكو قد تعدى على المسلمين واستولى على بلادهم وقد رأيت أن تقصده من جهتك واقصده من جهتي ونصدمه صدمة واحدة فنقتله أو نطرده عن البلاد ومتى كانت واحدة من هاتين أعطيتك ما كان في يده من البلاد التي استولى عليها فشكر له الملك الظاهر ذلك وبعث إليه هدية سنية مع رسول يستصوب هذا الرأي.
وفي آواخر شهر رجب وصلت طائفة كبيرة من التتر مستأمنين وهي الطائفة الثانية ثم وصلت طائفة أخرى كبيرة منهم ومقدمها كرمون فخرج الملك الظاهر لتلقيهم وأنعم عليهم بالإقطاعات وغيرها.
وفي شعبان خلع الملك الظاهر على الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وفوض إليه الأستاذ دارية.
وفي سادس عشر شهر رمضان جهز الملك الظاهر من الديار المصرية لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صناعاً وآلات وأخشاباً فطيف بها مصر والقاهرة وسوفر بها في العشر الأوسط من شوال.
وفي رمضان زلزلت الموصل زلزلة عظيمة بحيث انشق الشط الذي يمر بضيعة دار بشا نصفين وخربت أكثر دورها.
وفي سادس شوال توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية وعاد إلى مصر في ثامن عشر ذي القعدة وبعد ذلك تقدم بعزل ناصر الدين أحمد بن المنير قاضي الإسكندرية وخطيبها فولى عوضه في القضاء برهان الدين إبراهيم بن محمد بن علي اليوشي المالكي وكان خاملاً بمصر متواضعاً فقيراً فخلع عليه وأعطى بغلة فتوجه إليها.
حرب جرت بين بركة وهولاكولما قتل هولاكو رسل بركة وسحرته جمع عسكراً من سائر الآفاق التي استولى عليها ورحل من علا دار ووصل إلى دمر قانو وقطر نهر كوثا فصادف عسكراً لبركة فأوقع به وأقام خمسة عشر يوماً فجمع بركة عساكره وقصده فالتقى به وتقاتلا فكانت الدائرة على هولاكو وقتل من أصحابه خلق كثير وغرق منهم في النهر المذكور أكثر مما قتل ونجا هولاكو بنفسه في شرذمة قليلة، فلما رأى بركة كثرة القتلى بكى وقال يعز علي أن أرى المغل تقتل بسيوف بعضهم بعضاً لكن كيف الحيلة في من غير آسة جنكزخان، ولما عاد هولاكو مهزوماً مر ببلاد أران فوجد طائفة من أصحاب بركة بنواحي شروان وشماخي فأوقع بهم ولما وصل أردوه استشار كبراء دولته في جمع عسكر ليقصد به بكرة فثبطوه.
وفي شهر رمضان جهز الملك الظاهر رسل بركة وبعث معهم عماد الدين عبد الرحيم العباسي والأمير فارس الدين آقوش المسعودي وجهز معهما هدية سنية جليلة المقدار فيها من الحيوان الغريب وجوده في تلك البلاد خدام حبش وجواري طباخات وزرافة وقرود وهجن وخيل عربية وحمير مصرية وحمير وحشية وغير ذلك ومشاعل فضة وشمعدانات فضة وحصر عبدانية وأمتعة اسكندراني وثياب من عمل دار الطراز وسكر نبات وبياض وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وضمن الرسالة الدخول في الأيلية والطاعة وطلب المعاضدة على هولاكو على أن يكون له من البلاد التي تؤخذ من يده مما يلي الشام نصيب، فلما صولا القسطنطينية وجدوا الباسلوس كرميخائيل صاحبها غائباً في حرب كانت بينه وبين الفرنج فلما بلغه وصولهم طلبهم فساروا إليه عشرين يوماً في عمارة متصلة واجتمعوا به في قلعة أكشاثا فأقبل عليهم ووعدهم بالمساعدة ووافوا عنده رسلاً من هولاكو فاعتذر عن تأخير توجههم لخوفه من إطلاع هولاكو على ما وصلوا بسببه ثم أمرهم بالرجوع إلى القسطنطينية والمقام بها حتى يعود ويجهزهم ولم يزل يمطلهم سنة ثلاثة أشهر فبعثوا إليه أن لم يمكنك المساعدة على توجهنا فلنأذن في الرجوع فأذن للسيد عماد الدين بمفرده واعتذر من منعهم من التوجه لكونه بعيداً عن بلاده المجاورة لمملكة السلطان ركن الدين وأنه متى سمع أني مكنت صاحب مصر من التوجه إلى بركة توهم انتقاض الصلح بيني وبين هولاكو، فيسارع إلى نهب ما جاوره من بلاد وأما أنا قريب منها حتى أذب عنها فعاد عماد الدين وتأخر الفارس مدة سنتين حتى هلك أكثر ما كان الحيوانات وفسد غيرها.

وفي أثناء هذه المدة قصدا عساكر بركة القسطنطينية وأغارت على أطرافها وهرب الباسلوس من القلعة التي كان فيها إلى القسطنطينية وبعث بالفارس إلى مقدم عسكر بركة يعلمه أن البلاد في عهد الملك الظاهر وصلحه وإن بركة في صلح من صالحه وعهد من عاهده فطلب منه أن يكتب له خطة بذلك فكتب وكتب أيضاً أنه يقيم باختياره بمنع التوجه لأنه أنكر عليه طول المقام فرحل العسكر واستصحب معه السلطان عز الدين وكان محبوساً في قلعة من قلاع قسطنطينية فأخرجوه منها كما تقدم، ثم أن الباسلوس جهز الفارسي إلى بركة وبعث معه رسولاً من جهته برسالة ضمنها أن يقرر على نفسه مما يحمله كل سنة ثلاثمائة ثوب أطلس على أن يكون معاهداً ومصالحاً له ومدافعاً عن بلاده صاحب زعوراء فتوجه الفارس إلى بركة، فلما اجتمع به سأله عن تأخره حتى هلك أكثر ما كان معه فاعتذر أن صاحب القسطنطينية منعه فأخرج له خطه بما كتب لمقدم عسكره ثم قال أنا ما أواخذك لأجل الملك الظاهر وهو أولى من وأخذك على كذبك وإفساد ما بعثه معك.
وكتب السلطان عز الدين إلى الملك الظاهر يعرفه بما صدر عن الفارس من التقصير وكونه رحل عسكر بركة عن صاحب القسطنطينية بما أوهمه من كون البلاد في عهد املك الظاهر وكان قادراً على أن يأخذ منه في مقابلة ترحيله عنه قيمة ما فسد من الهدية لاضطراره إلى ذلك فلما قفل الفارس إلى مصر واجتمع بالسلطان نقم عليه ما فعله وقبض عليه وأخذ منه ما كان وصل معه من البضائع وقيمتها أربعون ألف دينار وكان وصوله في جمادى الآخرة سنة خمس وستين.
وفيها خلق المقياس وكسر الخليج يوم الاثنين ثالث عشر شوال سنة إحدى وستين وانتهت الزيادة إلى ثلاث عشرة إصبعاً من ثمان عشر ذراعاً وكان الملك الظاهر بالإسكندرية فخلف عنه الأمير عز الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بالقاهرة.
فصل وفيها توفيريدا فرنس واسمه لويس وهو من أجل ملوك الفرنج وأعظمهم قدراً وأوسعهم مملكة وأكثرهم عساكر وأموالاً وبلاداً وكان قصد الديار المصرية واستولى على طرف منها وملك دمياط في سنة سبع وأربعين واتفق موت الملك الصالح نجم الدين فقام بتدبير الأمور وتقدمة العساكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فاستشهد ثم حضر الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح فقتل على ما هو مشهور وقدر الله تعالى مع هذه الأسباب التي يوجب بعضها استيلاء الفرنج على الديار المصرية بجملتها بل على البلاد وبأسرها ثم إن الله تعالى خذل الفرنج وأهلكهم ورزق المسلمين النصر من حيث لم يحتسبوا فأسر ريداً فرنس وبقي أياماً كثيرة بيد المسلمين ثم أطلق عبد تسلم دمياط من الفرنج وتوجه إلى بلاده وفي قلبه ما فيه مما جرى عليه من ذهاب أمواله ورجاله وأسره فبقي في بلاده ونفسه تحدثه بالعود إلى الديار المصرية وأخذ ثأره فجمع جموعاً عظيمة وأهتم اهتماماً كثيراً لذلك في مدة سنين إلى سنة ستين وستمائة عزم على التوجه إليها فقيل له إنك إن قصدت ديار مصر ربما يجري لك مثل ما جرى في المرة الأولى والأولى أن تقصد تونس من بلاد إفريقية وكان ملكها يومئذ محمد بن يحيى بن عبد الواحد ويلقب المستنصر بالله ويدعى له على منابر إفريقية بالخلافة فإنك إن ظهرت عليه وملكت إفريقية تمكنت من قصد الديار المصرية في البر والبحر فأصغي إلى هذا الرأي وقصد تونس في عالم عظيم ونازلها وكان أن يستولي عليها وكان معه جماعة من الملوك فأوقع الله تعالى في عسكره وباء عظيماً فهلك ريداً فرنس وجماعة من الملوك الذين معه بظاهر تونس في هذه السنة ورجع من بقي منهم إلى بلاهم بالخيبة ووصلت البشرى بذلك إلى الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله فكتب إلى سائر بلاده بها.

وكانت نوبة المنصورة المشار إليها من أعظم الوقائع وأجلها نصر الله فيها الإسلام وتداركه بلطفه ورحمته فلا بأس بشرح الحال فيها على وجه الإجمال فقد يقف على هذه الترجمة من لم يطلع على تفصيل الحال في ذلك فتوق نفسه إلى الإطلاع عليه وكانت الفرنج جمعوا وحشدوا وقصدوا دمياط في عدد عظيم وجماعة من ملوكهم في سنة ثماني عشرة وستمائة ونزلوا بر دمياط ونازلوها وضايقوها قريب سنة ففنيت أزواد أهلها ومات أكثرهم في الحصار من وباء حصل لهم فتسلموها والملك الكامل نازل بالمنصورة وما حولها ولا يمكنه مهاجمتهم لكثرتهم وشدة بأسهم، وكان نزول الفرنج قبالة دمياط يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة ثم نزلوا البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة المذكورة، وأخذ الثغر المذكور يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، واستعيد منهم ثغر دمياط المذكور يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة، ومدة نزولهم على دمياط وتملكهم لها وإلى أن انفصلوا عنها ثلاث سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً.
ومن الاتفاق العجيب نزولهم عليها يوماً الثلاثاء وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء وملكهم لها يوم الثلاثاء وقد جاء في الآثار أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء ولما ملك الفرنج دمياط قالوا هذه البلاد ليس لنا بها خبرة ولا نعرف طرقها ومسالكها لا في البر ولا في البحر يعنون النيل وما ينبغي لنا أن نغرر بأنفسنا ونخرج إلا على بصيرة فاتفق رأيهم على أن جهزوا بعض ملوكهم الأكابر رسولاً وكان خبيراً بالحروب فطناً مجرباً وسيروا جميع من معه من الخدم والحاشية والغلمان وغيرهم خيالة من أعيان فرسانهم وأولي البصائر منهم وقد غيروا زي الجميع وكان مقصودهم أن يكشفوا البلاد ويسلكوها ويخبروا طرقها ليبقى لهم بذلك أنسه، فجاء الرسول إلى الملك الكامل وقال له الملوك والمقدمون يسلموا عليك وقالوا مقصودهم القدس وإنما قصدوا هذه البلاد ليأخذوها ويتوصلوا بها إلى القدس فأنت تسلم إليهم القدس وتأخذ دمياط فأجابهم إلى ذلك وعادوا بالجواب بعد أن أقاموا عنده أياماً وليس قصدهم إلا كشف البلاد لا غير، ثم جاء رسول آخر بالشرح في تقرير هذه القواعد واشتراطات تقتضي المراجعة وتكرر ترداد الرسل ولم يزالوا على هذا المنوال وكل رسول يحضر لا يعود بنفسه ولا أحد ممن معه إلى أن لم يبق من أعيانهم من لا حضر ورأى البلاد وخبرها حسبما أمكن، فلما بلغوا مقصودهم من ذلك حضر رسول يطلب تسليم ما تقرر فقال الملك الكامل سيروا نوابكم يتسلموا القدس وسلموا لنا دمياط فقال الرسول والكرك قال الملك الكامل والله هذا ما سمعته إلى الآن وبعد فالكرك ليست لي ولا بحكمي الكرك لأخي الملك المعظم ولو رمت أن أراها بعيني ما مكنني منها والقدس له أيضاً ولكني استطلقه منه فانفصلوا على غير شيء وقد حصل مقصود الفرنج من رؤية البلاد وكشفها بهذه الحلية.

وقال الشيخ شمس الدين أبو المظفر لما أخذت دمياط كان الملك المعظم عند الملك الكامل فبكيا بكاء شديداً وتأخرت العساكر عن تلك المنزلة ثم قال الكامل للمعظم قد فات ما ذبح وجرى المقدور بما هو كائن وما في مقامك هاهنا فائدة والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج وتستجلب العساكر من الشرق فعاد إلى الشام ونازل قيسارية وفتحها عنوة وفتح غيرها من حصون الفرنج وهدمه وعاد إلى دمشق بعد أن أخرب بلاد الفرنج، وكان الملك الكامل كثير الحزم والتثبت والتأني لا يرى المخاطرة والمناقشة ما لم يكن على ثقة من قوته ويغلب على ظنه الظفر غلبة تقرب من اليقين فسير إلى إخوته الملك الأشرف والملك المعظم يستنجد بهم فجاؤه بالعساكر، فلما بلغ الفرنج ذلك ضعفت أنفسهم وقالوا نحن جئنا نقاتل الملك الكامل وفينا له ولعسكره أما إذا اجتمع هو وأخوته فلا واتفق أن الفرنج أرادوا مناجزته قبل وصول النجد فخرجوا بفارسهم وراجلهم وأرسوا إلى بعض الترع وكان النيل زائداً جداً ففتح المسلمون عليهم الترع من كل مكان وأحدقت بهم عساكر الملك الكامل وهم في الوحل لا يقدرون على السلوك ولم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم ومنعهم من أن تصل إليهم ميرة من دمياط وكانوا خلقاً عظيماً وانقطعت أخبارهم عن دمياط وكان فيهم مائة كند وثماني مائة من الخيالة المعروفين وملك عكا ونائب البابا وجماعة من الملوك ومن التركبلية والرجالة ما لا يحصى، فلما عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الملك الكامل يطلبون منه الصلح والرهائن ويسلمون دمياط فقال الملك الكامل للرسول ما أفعل أصالحهم وهم في قبضتي وأخذهم برقابهم فقال له الرسول وكان من ملوكهم ما كأنك تدري ما تقول هؤلاء ملوك الفرنج وفرسانهم وشجعانهم يسلمون أنفسهم إليك إلا بعد أن يقتل كل واحد منهم واحداً من عسكرك أو كل اثنين واحداً أو كل ثلاثة واحداً أو كل أربعة واحداً أو كل خمسة واحداً، فإذا قتلوا من عسكرك بمقدار خمسهم من يبقى معك فعلم الملك الكامل أن الصواب معه مع ما كان يراه من المسالمة وعدم المغافصة والمخاطرة فأجابهم إلى الصلح، ووصل الملك الأشرف والملك الأشرف والملك المعظم في ذلك الوقت جرائد على البريد والعساكر متقطعة وراءهم فطلبوا من الملك الكامل رهائن ليسلموا دمياط ويحضر عنده ملوكهم ونصوا على الملك الأشرف في الرهينة فقال الملك الكامل الملك الأشرف أكبر مني قدراً وأكثر بلاداً وقلاعاً وعساكر وقد ترك مملكته وجاء بنفسه لنصرتي كيف يسعني أن أخاطبه في مثل ذلك ولكن أنا أسير لكم ولدي وابن أختي فسير لهم الملك الصالح نجم الدين وابن أخته شمس الملوك، وجاء سائر ملوكهم إلى الملك الكامل فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام وجلس لهم مجلساً عظيماً في خيمة عالية ودهليز هائل وأعد سماطاً عظيماً وأحضر ملوك الفرنج وكنودهم وأعيانهم ووقف الملك الأشرف والملك المعظم في خدمته وقام شرف الدين راجح الحلى الشاعر فأنشد قصيدة امتدحه بها من جملتها:
هنيئاً فإن السعد راح مخلداً ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحاً بدا لنا ... مبينا وأنعاماً وعزاً مؤبدا
تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغا البحر الخضم بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه ... صقيلاً كما سل الحسام مجردا
فلم ينج إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أمن تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى أن عيسى وحزبه ... وموسى جميعاً يخدمون محمدا
من أبيات، ووقع الصلح بين الملك الكامل والفرنج يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب وسار بعض الفرنج في البر وبعضهم في البحر إلى عكا وتسلم الملك الكامل دمياط ووصلت العساكر الشرقية والشامية بعد تسلم دمياط، فهذه خلاصة نوبة دمياط الأولى.

وذكر القاضي جمال الدين محمد بن واصل أن الفرنج نازلوها سنة خمس عشرة وملكوها سنة ست عشرة وستمائة والأصح أن الواقعة سنة ثماني عشرة وستمائة والله أعلم، وأما نوبة دمياط الآخرة فإن ريدا فرنس مقدم الأفرنسيسية من الفرنج وهو المشار إليه في أول هذه الترجمة خرج من بلاده في جموع عظيمة طامعاً في الديار المصرية وتملكها وشتا بجزيرة قبرص سنة ست وأربعين، وكان أعظم ملوك الفرنج وأشدهم بأساً متديناً بدين النصرانية مرتبطاً به فحدثته نفسه أن يستعيد البيت المقدس وعلم أن ذلك لا يتم له إلا بتملك الديار المصرية فقصدها سنة سبع وأربعين وكان جمعه يزيد على خمسين ألف وقيل كان يزيد على مائة ألف بكثير، وبلغ الملك الصالح نجم الدين ما عزم عليه من قصد الديار المصرية فأخذ في جمع الذخائر والأقوات والزرد خاناة وآلات الحرب بدمياط واستكثر من ذلك وهيأ الشواني بالصناعة وعمرها بالرجال والعدد وأمر الأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزة دمياط في العساكر مقدماً عليها فنزل بها وبينه ويبن دمياط بحر النيل، وأقام الملك الصالح بأشمون طناج فلما كان ثاني ساعة من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر سنة سبع وأربعين وصلت مراكب الفرنج وفيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل فأرسلوا بإزاء المسلمين.

وفي يوم الجمعة ثاني يوم نزولهم شرعوا في الخروج إلى البر الذي فيه المسلمون وضربت خيمة عظيمة حمراء لريدا فرنس وناوشهم بعض المسلمين فاستشهد في ذلك اليوم الوزيري وهو من أمراء الديار المصرية والأمير نجم الدين بن شيخ الإسلام وكان رجلاً صالحاً رحمهما الله، فلما أمس المسلمون رحل بهم الأمير فخر الدين وقطع بهم الجسر إلى البر الشرقي الذي فيه دمياط وخلا البر الغربي للفرنج ثم رحل بالعساكر طالباً أشمون طناج وخلا البر الشرقي والغربي من عساكر المسلمين فخاف أهل دمياط على أنفسهم وكان بها جماعة شجعان من الكنانية فألقى الله في قلوبهم الرعب فخرجوا هم وأهل دمياط على وجوههم طول الليل ولم يبق بدمياط أحد البتة، ورحلوا تحت الليل مع العسكر هاربين إلى أشمون طناج ولو غلقوا أبوابها وأقاموا بها مع مشيئة الله لم يقدر العدو عليها ولما كان صباح الأحد جاء الفرنج إلى دمياط فوجدوها صفراً من الناس وأبوابها مفتحة فملكوها صفوا عفواً واحتووا على ما فيها من العد والأسلحة والذخائر والأقوات والمجانيق، فلما وصلت العساكر وأهل دمياط إلى الملك الصالح حنق على الكنانيين فشنقهم جميعهم وكان فيهم شيخ له ابن فسأل أن يشنق قبل ولده لئلا يراه فحمل الملك الصالح ما عنده من الجبروت وقلة الرحمة والحنق على أن شنق الولد قبل والده وعينه تراه ثم شنق والده بعده وعظم على الناس شنق الكنانيين وأطلقوا لسنتهم بسبب الملك الصالح وكونه تزود بدمائهم وهو في آخر رمق وقد يئس من نفسه ولم يمكنه أن يقول للأمير فخر الدين وبقية العسكر شيئاً لقوة مرضه وعجزه، ثم رحل الملك الصالح بالعساكر إلى المنصورة وهي شرقي النيل فنزل بقصرها الذي أنشأه الملك الكامل بها وضرب دهليزه إلى جانبه وكان استقراره بالمنصورة يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر وشرعت العساكر في تجديد الأبنية وقامت بها الأسواق وأصلح السور الذي كان على البحر وستر بالستائر وجاءت الشواني والحراريق بالعدد الكاملة والمقاتلة فأرسوا قدام السور وحضر من الرجالة والغزاة المطوعة والعربان من سائر النواحي خلق لا يحصون وشرع العربان في الإغارة على الفرنج وحصن الفرنج أسوار دمياط وشحنوها بالمقاتلة وفي كل وقت يحضر المسلمون جماعة سرى من الفرنج واتفقت وفاة الملك الصالح في حدود منتصف شعبان سنة سبع وأربعين، فلما تحقق الفرنج موته رحلوا بجملتهم من دمياط وشوانيهم تحاذيهم في البحر ونزلوا على فارس كور ثم تقدموا منها مرحلة، وذلك يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، ولما كان يوم الثلاثاء مستهل شهر رمضان وقع بين المسلمين والفرنج وقعة استشهد فيها جماعة من الجند وغيرهم، وفي يوم الأحد عشر شهر رمضان وصلت الفرنج طرف جزيرة دمياط وهي المنزلة التي نزلوها في أيام الملك الكامل وانتصر المسلمون عليهم فيها والمسلمون قبالة الفرنج وبينهم النيل وخندق الفرنج على أنفسهم وأداروا عليهم سوراً وستروه بالستائر ونصبوا المجانيق يرمون بها المسلمين وأرست شوانيهم بإزائهم في النيل وشواني المسلمين بإزاء المنصورة ونشب القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكل يوم يقتل من الفرنج ويؤسر جماعة وفي يوم الأربعاء لسبع مضين من شوال أخذ المسلمون من الفرنج شينيا فيه مائتا رجل وكند كبير، وفي يوم الخميس منتصف شوال ركبت الفرنج والمسلمون ودخل المسلمون إلى برهم واقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من الفرنج أربعون فأرسا، وفي يوم الخميس لثمان بقين من شوال أحرق المسلمون للفرنج مرمة عظيمة في البحر واستظهر عليهم المسلمون استظهاراً بيناً.

ومن غريب ما حكى أن شخصاً من المسلمين دخل عسكرهم ومعه فرس يقصد بيعه عليهم فمر بشخص في خيمة وبين يديه جماعة غلمان فطلبه إليه وقال له بلسان ترجمانه تبيع هذا الفرس قال نعم فقال لغلامه خذه منه فأخذه وأحضر جرابين ملآنة دراهم ففرغها بين يديه وقال له خذ ثمن فرسك قال ما الذي آخذ قال خذ ما تختار إلى أن ترضى، فأخذت قريب خمسة آلاف درهم ولعل فرسه لا يساوي ثماني مائة درهم فقال رضيت قال نعم قال نعم قال اذهب بمالك فلما أبعد رده وقال له نحن قد خرجنا من هذا البحر ومعنا دراهم كثيرة وذهب كثير ما لنا به حاجة وما معنا خيل ونحن محتاجون إلى الخيل فمن أحضر إلينا فرساً حكمناه في الثمن كما رأيت فخرج ذلك الرجل من عندهم، وأشهر هذا الأمر بين العربان والتركمان وغيرهم فجلب إليهم من الخيول بهذه الطريق فوق حاجتهم واشتروها بما اختاروا من الثمن فإن الخروج من عسكرهم بفرس خطر جداً والدخول أسهل فما يبقى بعد الدخول بالفرس إلى عسكرهم إلا بيعه ولو بأقل الأثمان، ولما كان بكرة الثلاثاء خامس ذي القعدة ركب الفرنج ونزلوا بخيولهم في مخاضة سلمون ببحر أشمون دلهم عليها بعض المفسدين وكبسوا عسكر المسلمين فلم يشعر بهم المسلمون إلا وقد خالطوهم وكان الأمير فخر الدين في الحمام فأتاه الصريخ فركب دهشاً غير معتد ولا متحفظ فصادفه جماعة من الفرنج فاستشهد إلى رحمة الله تعالى، ودخل ريدا فرنس المنصورة ووصل إلى قصر السلطان الذي على البحر وتفرقت الفرنج في أزقة المنصورة وهرب كل من فيها من الجند والعامة والسوقة يميناً وشمالاً وكادت شأفة الإسلام تستأصل وأيقن الفرنج بالظفر واشتد الأمر وأعضل الخطب فانتدب لهم جماعة من فرسان المسلمين وأولي البصائر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فزعزعوا أركانهم وأخذتهم السيوف فقتل منهم خلق كثير قريب ألفي وخمس مائة من فرسانهم وصناديدهم وشجعانهم ولولا ضيق مجال القتال لاستؤصلوا ومضى من سلم إلى مكان يقال له جديلة واجتمعوا به ودخل الليل فضربوا عليهم سوراً وخندقاً وأقامت طائفة بالبر الشرقي، وكانت هذه الواقعة مقدمة النصر وورد المنهزمون من المسلمين آخر النهار من ذلك اليوم إلى القاهرة ولا علم لهم بما تجدد من النصر وأخبروا بما شاهدوا من هجوم الفرنج المنصورة فانزعج الناس، فلما طلعت الشمس من يوم الأربعاء وردت البشرى بالنصر وزين البلدان وعظم السرور.
ولما استقر الفرنج بمنزلتهم كانت الميرة تأتيهم من دمياط في النيل فعمد المسلمون إلى مراكب شحنوها بالمقاتلة وكانوا قد حملوها على الجمال إلى بحر المحلة وألقوها فيه وفيه ماء من أيام زيادة النيل واقف لكنه متصل بالنيل فلما حاذت مراكب الفرنج وهي مقلعة من دمياط بحر المحلة وفيه المراكب المكمنة للمسلمين خرجت عليها المراكب من بحر المحلة ووقع القتال بين الفريقين وجاءت أساطيل المسلمين منحدرة من جهة المنصورة والتقى الأسطول والمراكب المكمنة وأحاطوا بهم وقبضوهم أخذاً باليد، وكانت عدة المراكب المأخوذة من الفرنج اثنين وخمسين مركباً وقتل وأسر ممن فيها نحو ألف رجل وأخذ ما فيها من الميرة ثم حملت الأسى على الجمال وقد بهم العسكر وانقطعت الميرة بسبب ذلك عن الفرنج ووهنوا وهنا عظيماً هذا وحجارة مجانيقهم تقع إلى جهة أساطيل المسلمين، وكان يوماً مشهوداً أعز الله فيه الإسلام وأوهى قوى أهل الشرك واشتد من يومئذ عندهم الغلاء وعدمت الأقوات وبقوا محصورين لا يستطيعون المقام ولا الذهاب وطمع فيهم المسلمون.
وفي مستهل ذي الحجة أخذ الفرنج من مراكب المسلمين التي في بحر الملحة سبع حراريق وهرب من بها من المسلمين.
وفي يوم عرفة تاسع ذي الحجة خرجت شواني المسلمين على مراكب وصلت للفرنج تحمل الميرة فالتقوا عند مسجد النصر فأخذت شواني المسلمين من مراكب الفرنج اثنين وثلاثين مركباً منها تسع شواني فازداد عند ذلك ضعف الفرنج ووهنهم وقوى الغلاء عندهم وشرعوا في مراسلة المسلمين وطلب الهدنة وإن يسلموا ثغر دمياط على أن يأخذوا عوضه بيت المقدس وبعض الساحل فلم تقع الإجابة إلى ذلك.

وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة أحرقت الفرنج أخشابهم كلها وأفنوا مراكبهم وعزموا على الهرب إلى دمياط ودخلت سنة ثمان وأربعين وهم على ذلك، فلما كانت ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم رحلوا بفارسهم وراجلهم إلى دمياط ليمتنعوا بها وأخذت مراكبهم في الانحدار في النيل قبالتهم فعدا المسلمون لي برهم وركبوا أكتافهم واتبعوهم وطلع الصباح من يوم الأربعاء المذكور وقد أحاط بهم المسلمون وأخذتهم سيوفهم واستنزلوا عليهم قتلاً وأسراً ولم يسلم منهم إلا الشاذ فبلغت عدة القتلى يومئذ ثلاثين ألفاً، وانحاز الملك ريدا فرنس والأكابر من أصحابه والملوك إلى تل هناك فوقفوا مستسلمين طالبين الأمان فأتاهم الطواشي محسن الصالحي فأمنهم فنزلوا على أمانه واحتيط عليهم ومضى بريداً فرنس وبهم إلى المنصورة وضرب في رجل ريدا فرنس القيد واعتقل في الدار التي كان نازلاً بها فخر الدين إبراهيم ابن لقمان كاتب الإنشاء ووكل به الطواشي جمال الدين صبيح المعظمي وفي هذا الواقعة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال حق عن قوول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يشوع المسيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضياً ... فرب غش قداتي من نصيح
وقل لهم أن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم توران شاه والعساكر إلى جهة دمياط ونزل بفارس كور وهو متراخ عن قصد دمياط وانتزاعها وسير البشائر إلى سائر البلاد بما تسنى هذا النصر العظيم، واتفق قتل المعظم على الصورة المشهورة فلا حاجة إلى شرحه والأمر على ذلك واستقر في الأتابكية وتقدمة العساكر الأمير عز الدين أيبك التركماني كما تقدم في ترجمته والسلطنة لشجرة الدر وشرعوا في الاحديث مع ريدا فرنس في تسليم دمياط إلى المسلمين وكان المتحدث معه الأمير حسام الدين بن أبي علي باتفاق الأتابك والأمراء عليه فجرى بينه وبين ريدا فرنس محاورات ومراجعات حتى وقع الاتفاق على تسليم دمياط وإن يذهب بنفسه ومن معه من الملوك والأكابر سالمين، وحكى الأمير حسام الدين بن أبي علي باتفاق الأتابك والأمراء عليه فجرى بينه وبين ريدا فرنس محاورات ومراجعات حتى وقع الاتفاق على تسليم دمياط وإن يذهب بنفسه ومن معه من الملوك والأكابر سالمين، وحكى الأمير حسام الدين عنه أنه كان فطناً عاقلاً حازماً قال حسام الدين قلت له في بعض محاورتي له كيف خطر للملك مع ما أرى من عقله وفضله وصحة ذهنه أن يقدم على خشب ويركب متن هذا البحر ويأتي إلى هذه البلاد المملوءة من عساكر الإسلام ويعتقد أنه يحصل له تملكها وفيما فعل غاية التغير بنفسه وأهل ملته فضحك ولم يحر جواباً فقلت له قد ذهب بعض فقهاء شريعتنا أن من ركب البحر مرة بعد أخرى مغررا بنفسه وماله أنه لا يقبل شهادته فضحك وقال لقد صدق هذا القائل وما قصر فيما حكم به.
ولما وقع الاتفاق على تسليم دمياط أرسل ريدا فرنس إلى من بها من الفرنج يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين فأجابوا بعد امتناع ومراجعات بينه وبينهم ودخل السنجق السلطاني دمياط يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر سنة ثمان وأربعين ورفع على سورها وأعلن بها بكلمة الإسلام، وأفرج عن ريدا فرنس وانتقل هو وأصحابه إلى الجانب الغربي ثم ركب البحر غد هذا اليوم وأقلع هو وأصحابه إلى عكا وأقام بالساحر مدة وعمر قيسارية ثم رجع إلى بلاده، وكانت هذه النصرة أعظم من النصرة الأولى التي كانت في الأيام الكاملية لكثرة من قتل منهم وأسر في هذه المرة لله الحمد والمنة.

وإذ قد جرى ذكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فلا بأس بالتنبيه عليه كان رحمه الله أميراً كبيراً جليل المقدار عالي الهمة فاضلاً عالماً متأدباً جواداً سمحاً ممدحاً خليقاً بالملك لما فيه من الأوصاف الجميلة التي قل مشاركه فيها وكان كريماً إلى العامة كبير النفس شجاعاً حسن التدبير والسياسة محبوباً إلى الخاص والعام مطاعاً في الجند وغيرهم تعلوه الهيبة والوقار وأمه وأم أخوته ابنة شهاب الدين المطهر بن الشيخ شرف الدين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون، وكانت أرضعت الملك الكامل فكان أولادها الأربعة أخوته من الرضاعة وكان يحبهم ويعظمهم ويرى جانبهم ويقدمهم كثيراً خصوصاً الأمير فخر الدين فإنه لم يكن عنده في مكانته لا يطوي عنه سراً ويعتمد عليه في سائر أموره ويثق به وثوقاً عظيماً ويسكن إليه ظاهراً وباطناً ونال الأمير فخر الدين وأخوته من السعادة ما لا ناله غيرهم، ولما ملك الملك الصالح نجم الدين البلاد أعرض عن الأمير فخر الدين وأطرحه واعتقله ثم أفرج عنه وأمره بلزوم بيته ثم ألجأته الضرورة إلى ندبه في المهمات لما لم يجد من يقوم مقامه فجهزه إلى بلاد الملك الناصر داود رحمه الله فأخذها على ما تقدم ولم يترك بيده سوى مسور الكرك ثم جهزه لحصار حمص ثم ندبه لمقاتلة الفرنج فاستشهد على ما ذكرنا، وكان الأمير فخر الدين معماً في أول أمره فألزمه الملك الكامل أن يلبس الشربوش وزي الجند فأجابه إلى ذلك فأقطعه منية السودان بالديار المصرية ثم طلب منه أن ينادمه فأجابه إلى ذلك فأقطعه شبراً فقال ابن البطريق الشاعر:
على منية السودان صار مشربشا ... وأعطوه شبراً عند ما شرب الخمرا
فلو ملكت الفرنج مصر وأنعموا ... عليه ببيوس تنصر للأخرى
وقال فيه وفي عماد الدين أخيه وكان يذكر الدرس بالمدرسة التي إلى جانب ضريح الشافعي رضي الله عنه:
ولد الشيخ في العلوم وفي الإمرة بالمال وحده والجاه
فأمير ولا قبال عليه ... وفقيه والعلم عند الله
وقال في عماد الدين:
جاءني الشافعي عند رقادي ... وهو يبكي بحرقة وينادي
عمر قبتي لعمري ولكن ... هدموا مذهبي بفقه العماد
وقال فيهم ابن عنين:
أولاد شيخ الشيوخ قالوا ... ألقابنا كلها محال
لا فخر فينا ولا عماد ... ولا معين ولا كمال
ولقد قالا غير الحق فإن أولاد الشيخ رحمهم الله كانوا سادات زمانهم وكان لهم مع الإقطاعات مناصب دينية منها المدرسة التي بالقرافة إلى جانب قبة الشافعي رحمة الله عليه، ومنها المدرسة التي إلى جانب مشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة ومنها خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة، ولم تزل هذه المناصب بأيديهم إلى أن ماتوا كلهم وكانت بعد ذلك لولدي عماد الدين وكمال الدين مدة ثم انتزعت منهما ولم يكن للأمير فخر الدين إلا بنت واحدة وكان الأمير فخر الدين ينظم ومن شعره:
عصيت هوى نفسي صغير فعندما ... رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر
اطلعت الهوى عكس القضية ليتني ... خلقت كبيراً وانتقلت إلى الصغر
وله:
إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فذاك القدر يكفيه
أنتم سلبتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أدري بالذي فيه
وقال في مملوك له توفي:
لا رغبة في الحياة من بعدك لي ... يا من ببعاده تداني أجلي
إن مت ولم أمت أسىً وأخجلي ... من عتبك لي في يوم عرض العمل

وكان قدم دمشق فنزل في دار أسامة وكان يعاني الشراب فدخل عليه الشيخ عماد الدين بن النحاس وكان يدل عليه وله عنده مكانة كبيرة وقال له يا فخر الدين إلى كم تشير إلى تناول الشراب فقال له يا عماد الدين والله لأسبقنك إلى الجنة إن شاء الله تعالى فكان والله أعلم كما قال استشهد فخر الدين في سنة سبع وأربعين وتوفي عماد الدين في سنة أربع وخمسين وقد ذكرناه هناك وكان للأمير فخر الدين يوم استشهد ست وستون سنة رحمه الله وكان قد رأى قبل مقتله بأيام والدته في المنام وهي تقول له قد أوحشتني وحملته على كتفها فاستشعر من ذلك فقتل ثم حمل من المعركة بقميص واحد وجعل في حراقة إلى القاهرة وحمل من المقياس إلى الشافعي رضي الله عنه فدفن عند والدته وبكى عليه الناس وكان يوماً مشهوداً وعمل له العزاء العظيم رحمه الله تعالى ورثاه غير واحد فممن رثاه الصاخب جمال الدين يحيى ابن مطروح قال:
أأبا المظفر يوسف بن محمد ... أودى مصابك بالندى والسودد
آليت لا أنساك ما هب الصبا ... حتى أوسد في صفيح الملحد
ومنها:
فتكوا يوم الثلاثا فتكة ... فجمع الخميس بها ولك موحد
وخلا الندى من المكارم والعلا ... بخلوه من مثل ذاك السيد
قل ما بدا لك يا حسود فطالما ... فقأت معاليه عيون الحسد
فعليك مني ما حييت تحية ... كالمسك طيبة تروح وتغتدي
وقال لما بلغه نعيه:
فض فما نعى لنا ... يوم الخميس يوسفا
وا أسفي من بعده ... على العلا وإذا أسفا
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور ابن رافع بن حسن ابن جعفر أبو الفرج عز الدين المقدسي الدمشقي الحنبلي ومولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وستمائة وكان عالماً فاضلاً صالحاً ثقة حسن الطريقة له رحلة سمع فيها من جماعة من المتأخرين وهو من بيت الحفظ والحديث وانتفع به جماعة وجده الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني المشهور صاحب التصانيف النافعة والعلوم الواسعة وكانت وفاة عز الدين المذكور في النصف من ذي الحجة بجبل قاسيون ودفن به رحمه الله.
عبد الرحمن بن أبي الليث بن عيسى بن أبي الليث تقي الدين الحموي توفي بحماة في سبع عشري ربيع الآخر من هذه السنة ولم يبلغ من العمر خمسين سنة وكان من أولاد المشايخ حسن الطريقة رضي الأفعال وله زاوية بجامع حماة مشرفة على نهر العاص وهي من أحسن الأماكن وأنضرها يرد عليها الفقراء وغيرهم ووالده الشيخ أبو الليث رحمه الله من الصلحاء الأعيان وهو من جملة أصحاب سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله ومن المنتمين إليه.
عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف أبو محمد عز الدين المحدث الرسعني مولده يوم الأحد بين الظهر والعصر الثالث والعشرين من شهر رجب سنة تسع وثمانين وخمسمائة برأس عين وتوفي ليلة الجمعة عشاء الآخرة المسفرة من ثاني عشر ربيع الآخر هذه السنة بسنجار ودفن بظاهرها شرقي البلد سمع وحدث وكان فاضلاً عالماً أديباً شاعراً جميل الأوصاف رئيساً من صدور تلك البلاد وأعيان أهلها وكانت له مكانة عند بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وغيره ومن شعره:
يا من يرينا كل وقت وجهه ... بشراً ويبدي كفه معروفا
أصبحت في الدنيا سرياً بعد ما ... أمسيت فيها بالتقى معروفا
وقال:
نعب الغراب فدلنا بنعيبه ... أن الحبيب دنا أوان مغيبه
يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ... جدلي بعيش ثم سل عن طيبه
وقال:
ولو أن إنساناً يبلغ لو عتى ... وشوقي و أشجاني إلى ذلك الرشأ
لا سكنته عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا

علي بن شجاع بن سالم بن علي بن موسى بن حسان بن طوق واسمه عبيد الله بن سند بن علي بن الفضل بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو الحسن كمال الدين العباسي الضرير المصري الشافعي المقرئ مولده في سابع شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بالمعتمدية قرية من قرى الجيزية قرأ القرآن بالروايات وتفقه وقرأ الأدب والنحو وسمع الكثير من جماعة من أهل البلاد والقادمين عليه وحدث بالكثير مدة وتصدر بالجامع التعتيق بمصر وبمسجد موسك بالقاهرة مدة لإقراء القرآن الكريم فقرأ عليه جماعة كثيرة وانتفع الناس به انتفاعاً كثيراً وإليه انتهت رياسة الإقراء بالديار المصرية وكان أحد الأئمة المشهورين والفضلاء المذكورين مع ما جبل عليه من حسن الخلق ولين الجانب وكثرة التواضع وتوفي بالديار المصرية في سابع ذي الحجة ودفن من الغد بسفع المقطم رحمه الله.
محمد بن أحمد بن عنتر أبو عبد الله شرف الدين السلمي الدمشقي كان من أعيان أهل دمشق وعدولها وأولي الثروة بها وولي الحسبة بها في أيام التتر فطلب لذلك إلى الديار المصرية فأدركته المنية بها في أوائل صفر رحمه الله.
محمد بن أحمد بن الموفق بن جعفر أبو القاسم علم الدين الأندلسي المرسي اللورقي مولده سنة خمس وسبعين وخمسمائة سمع من عبد العزيز ابن الأخضر وأبي اليمن الكندي وغيرهما واشتغل بالقرآت والنحو والعربية وبرع في ذلك وشرح كتاب المفصل ومقدمة الجزولي وقصيدة الشاطبي وكان إماماً عالماً فاضلاً أحد المشايخ الصلحاء الجامعين بين العلم والعمل وكانت وفاته في سابع شهر رجب بدمشق ودفن من الغد بمقابر باب توما رحمه الله وكان يسمى القاسم أيضاً.
محمد بن عبد الرحيم بن.... أبو عبد الله شهاب الدين المعروف بابن الضياء ويعرف بأجير البهاء كاتب الشروط كان قد فاق كتاب عصره في ذلك وكان الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله يفضله في ذلك على غيره فصار له بذلك شأن عظيم وهو أخذ هذه الصناعة عن الشريف بهاء الدين عبد القاهر بن عقيل العباسي رحمه الله لكنه فاق عليه وتوفي في السابع والعشرين من شهر رجب هذه السنة بدمشق ولم يكن يشهد على الحكام ولا يتعاطى ذلك لاستغنائه بصناعته وبما يتحصل له من الأجر الوافرة قيل أنه كان يكتب في اليوم الواحد ما يتحصل له فيه من الأجرة فوق المائة درهم ولعل هذا كان يقع له في غالب الأوقات ومات وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى.
محمد بن نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي ابن حمزة أبو الفضل جمال الدين التميمي الدمشقي المعروف بابن القلانسي مولده بدمشق في ذي الحجة سنة ست وستمائة سمع من أبي اليمن الكندي وغيره وحدث هو وغير واحد من أهل بيته وكان من العدول الرؤساء الأعيان ومن أولي الثروة والوجاهة بدمشق وتوفي في الرابع والعشرين من جمادى الأولى ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
إلياس بن عيسى بن محمد الأربلي الشيخ الصالح الفاضل كان مقيماً بدمشق وأكثر نهاره بالجامع في رواق الحنابلة وكان على ذهنه من الحكايات والنوادر والوقائع شيء كثير من حسن الحديث والمحاضرة وكان مليح الشكل ظريفاً لطيفاً وكان والدي رحمه الله يحبه ويؤثر سماع حديثه فكان لا يكاد يفارقه إذا كان والدي بدمشق وله على والدي رسم من النفقة يسيره إليه في كل سنة وكان يجلس عليه الأعيان والصدور لصلاحه وحسن شكله وسمته وحديثه ثم سكن جبل قاسيون في آخر عمره وبه توفي في ثالث عشر شعبان وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.

أبو الهيجاء بن عيسى بن خشترين الأمير مجير الدين الأزكشي الكردي الأموي كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وشجعانهم وكان له في مصاف التتار بعين جالوت اليد البيضاء والأثر العظيم ولما قدم الملك المظفر قطن رحمه الله دمشق بعد الوقعة رتب الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً عنه وجعل الأمير مجير الدين المذكور مشاركاً له في الرأي والتدبير ويجلس معه في دار العدل وأقطعه بالشام خبزاً جليلاً فبقي مقيماً بالشام إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى في تاسع عشري شعبان بدمشق ودفن بجبل قاسيون رحمه الله قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله ووالده مات في حبس الملك الأشرف بن الملك العادل ببلاد الشرق هو وعماد الدين أحمد بن المشطوب رحمهما الله.
وإذ قد جرى ذكر هما فلا بأس بشرح شيء من خبرهما كان الأمير حسام الدين عيسى بن خشترين من أعظم أمراء الملك الظاهر بحلب فلما توفي الملك الظاهر وترك ولده الملك العزيز صغيراً حصل الطمع في بلاده لصغر سنه فسيرت والدته الصاحبة بنت الملك العادل باتفاق الأتابك شهاب الدين طغريل إلى الملك الأشرف واستدعته فحضر إلى حلب واجتمع بأخته وبالأتابك شهاب الدين فقررا معه القيام بنصرة الملك العزيز فأجاب إلى ذلك وأقام بحلب مدة وصار الحاكم المنصرف فخاف الأمراء الظاهرية من استيلائه واستقلاله وقالوا كيف العمل فقل حسام الدين دعوني وإياه فركب يوماً وهم في خدمته على العادة فلما عادوا إلى ظاهر البلد ترجل حسام الدين بن خشترين ووقف بين يديه وقال يا خوند هذا اليتيم قد ضيقت عليه بمقامك في حلب ونشتهي أن تتوجه إلى بلادك فما تحملك هذه البلاد ومنعه من دخول حلب وظهر للملك الأشرف أن ذلك باتفاق من سائر الأمراء فلم يسعه إلا التروح عن حلب وبقي في قلبه من حسام الدين كونه تجاسر عليه بهذه المخاطبة وأوجهه بها واتفق أنه ظفر به بعد ذلك بمدة فحبسه وضيق عليه فمات في حبسه رحمه الله.
وأما عماد الدين أبو العباس أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن أبي الهيجاء بن عبد الله بن أبي الخليل بن مرزبان الهكاري فكان أميراً كبيراً جليلاً شجاعاً جواداً واس العطاء عالي الهمة يضاهي كبار الملوك في كثرة الحشم والغلمان والأتباع تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج علهم وكان ولده يعرف بالأمير الكبير ذلك علماً عليه لا يشاركه فيه غيره وجده أبو الهيجاء صاحب العمادية وعدة قلاع من بلاد الهكارية وكان سيف الدين كبير القدر عند السلطان صلاح الدين رحمه الله وكتب إليه يخبره بولادة عماد الدين وان عنده امرأة أخرى حاملاً فكتب القاضي الفاضل عن السلطان جوابه وصل كتاب الأمير الأعلى الخبر بالولدين الحال على التوفيق، والسائر كتب الله سلامته في الطريق، فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في كمامها، وكان سيف الدين في عكا لما حاصرها الفرنج فلما أخذوها وخلص وصل إلى صلاح الدين وهو بالقدس يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فدخل عليه بغتة وعنده الملك العادل فنهض إليه صلاح الدين واعتنقه وسر به سروراً عظيماً وأخلى المكان وتحدث معه طويلاً، وقال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله رأيت بخط القاضي الفاضل ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب أمير الأكراد وكبيرهم وكان وفاته يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالقدس وخبزه يوم وفاته نابلس وعبرتها ثلاثمائة ألف دينار وكان بين خلاصه من أسره وحضور أجله دون مائة يوم، فسبحان الحي الذي لا يموت وتهدم به بنيان قوم، والدهر قاض ما عليه لوم، وقوله تهدم به بنيان قوم حل به بيت عبدة بن الطبيب في مرثية قيس بن عاصم المنقري سيد أهل الوبر من ثلاثة أبيات وهو الآخر منها:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8