كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

وفي يوم الاثنين خامس عشرينه شعبان: ركب السلطان من قلعة الجبل إلى ظاهر القاهرة، وعبر من باب النصر ومر في شارع المدينة إلى القلعة، وبين يديه الهجن التي عينها للسفر معه إلى الحجاز، وعليها حلي الذهب والفضة، فكان يوماً عظيماً، فما هو إلا أن استقر بالقلعة قدم الأمير بردبك الحمزاوي - أحد أمراء الألوف بحلب - ومعه نائب كختا - الأمير منكلي بغا - بكتاب نائب حلب والأمير عثمان بن طرعلي، المعروف بقرايلك، بأن قرايلك عدى الفرات من مكان يقال له زغموا ونزل على نهر المرزبان وذلك أنه بلغه أن قرايوسف قصد كبسه مما أحسن قرايلك إلا وقد هجمت فرقة من عسكر قرايوسف عليه من شميصات دخل بهم خليل نائب كركر، فأدركوا قرايلك عند رحيله من نهر المرزبان إلى مرج دابق، فقاتلهم في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان هذا، وأخذوا بعض أثقاله، فنزل مرج دابق، ثم قدم حلب في نحو ألف فارس، باستدعاء الأمير يشبك له، فجفل من كان خارج سور مدينة حلب، ورحلوا ليلاً عن آخرهم. واضطرب من بداخل السور، وألقوا بأنفسهم من السور ورحل أجناد الحلقة ومماليك النائب المستخدمين، بحرمهم وأولادهم، فانثنى عزم السلطان عن السفر إلى الحجاز، وكتب إلى العساكر الشامية في المسير إلى حلب، والأخذ في تهيئة الإقامات. وأصبح يوم الثلاثاء سادس عشرينه وقد جمع الأمراء والخليفة وقضاة القضاة، وطلب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني، وقص عليهم خبر قرايوسف، وما حصل لأهل حلب من الخوف والفزع، وجفلتهم - هم وأهل حماة - وأن الحمار بلغ ثمنه خمسمائة درهم فضة، والأكديش إلى خمسين ديناراً، وأن قرايوسف في عصمته أربعون امرأة، وأنه لأيدين بدين الإسلام، وكتب صورة فتوى في المجلس فيها كثير من قبائحه، وأنه قد هجم على ثغور المسلمين، ونحو هذا من الكلام. فكتب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني وقضاة القضاة بجوار قتاله. وكتب الخليفة خطه بها أيضاً. وانصرفوا ومعهم الأمير مقبل الداودار فنادوا في الناس بالقاهرة بين يدي الخليفة وشيخ الإسلام وقضاة القضاة الأربع، بأن قرايوسف يستحل الدماء، ويسبي الحريم، ويخرب الديار، فعليكم بجهاده كلكم، بأموالكم وأنفسكم. فدهى الناس عند سماعهم هذا، واشتد قلقهم. وكتب إلى ممالك الشام أن ينادي بمثل ذلك في كل مدينة، وأن السلطان واصل إليهم بنفسه وعساكره. وكتب إلى الوجه القبلي بإحضار الأمراء.
وفيه بلغ ماء النيل في زيادته عشر أصابع، من تسعة عشر ذراعاً، ونقص في يومه إصبعين، بعدما نقص خمساً، وذلك قبل أوان نقصه فارتفع سعر الغلال، وتخوف الناس الغلاء.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: نودي بين يدي الأمير خرز نقيب الجيش في أجناد الحلقة بتجهيز أمرهم للسفر إلى الشام، ومن تأخر حل به كذا وكذا من العقوبة.
شهر رمضان، أوله الأحد: فيه قدم الخبر بأن قرايلك رحل من حلب، وأقام بها الأمير يشبك نازلاً بالميدان، وعنده نحو مائة وأربعين فارساً، وقد خلت حلب من أهلها، إلا من التجأ إلى قلعتها. فأتاه النذير ليلاً أن عسكرا قرايوسف قد أدركه، فركب قبيل الصبح فإذا مقدمته معلى وطأة بابلاً فواقعهم وهزمهم، وقتل وأسر جماعة، فأخبروه أنهم جاءوا لكشف خبر قرايلك، وأن قرايوسف بعين تاب. فعاد وتوجه إلى سرمين، فلما بلغ قرايوسف هزيمة عسكره، كتب إلى نائب حلب يعتذر عن نزوله بعين تاب، وأنه ما قصد إلا قرايلك، فإنه أفسد في ماردين، فبعث إليه صاروخان - مهمندار حلب - فلقيه على جانب الفرات، وقد جازت مجموعة الفرات وهو على نية الجواز، فأكرمه واعتذر عن وصوله إلى عين تاب، وحلف أنه لم يقصد دخول الشام، وأعاده بهدية للنائب، فسر السلطان بذلك.
وكان سبب حركة قرايوسف، أن الأمير فخر الدين عثمان بن طر علي بن محمد - ويقال له قرايلك - صاحب آمد، نزل في أوائل شعبان على مدينة ماردين من بلاد قرايوسف، فأوقع بأهلها، وأسرف في قتلهم، وسبي نساءهم، وباع الأولاد والنساء، حتى أبيع صغير بدرهمين، وحرق المدينة، ورجع إلى آمد، فلما بلغ قرايوسف ذلك، اشتد حنقه وسار، ومعه الطائفة المخالفة للسلطان، يريد أخذ قرايلك، ونزل على آمد، ثم رحل عنها في ثامن شعبان جريدة خلف قرايلك، وقطع الفرات من شميصات في عاشره ولحق قرايلك، وضربه على نهر المرزبان ففر منه إلى حلب، وهو في أثره، فتوجه قرايلك من حلب، وكان من مواقعة نائب حلب لعسكر قرايوسف ما ذكر.

وفي ثانيه: كتب ببيع الغلال المجهزة في البحر إلى الحجاز لرجوع السلطان عن السفر إلى الحج.
وفي خامسه: نودي في أجناد الحلقة، بالعرض على السلطان، فعرضوا عليه في يوم الجمعة سادسه، وابتدأ بعرض من يركب منهم في خدمة الأمراء، فخيرهم بين الاستمرار في جملة رجال الحلقة، وترك خدمة الأمراء وبين الإقامة في خدمة الأمراء وترك أخبار الحلقة فاختار بعضهم هذا وبعضهم هذا، فأخرج اقطاعات من أراد خدمة الأمراء، وصرف من خدمة الأمراء من أراد الإقامة على إقطاعه، وشكا إليه بعضهم قلة متحصل إقطاعه، فزاده، وكان هذا من جيد التدبير، فإن العادة كانت أن عسكر مصر في هذا الدولة التركية على ثلاثة أقسام قسم يقال لهم أجناد الحلقة، وموضوعهم أن يكونوا في خدمة السلطان، ولكل منهم إقطاع يقال له خبز، ونظيرهم في أيام الخلفاء أهل العطاء وأهل الديوان، وقسم يقال لهم مماليك السلطان، ولهم جوامك مقروة في كل شهر، وجرايات ولحوم في كل يوم، وكسوة في كل سنة، وقسم ثالث يقال لهم مماليك الأمراء وهم الذين يخدمون الأمراء، ويعتد بطائفة من إقطاع الأمير للعدة المقررة له منهم، فلذلك كانت عدة عساكر مصر كثيرة، ثم تغير هذا في الأيام الظاهرية برقوق ومن بعده، وصار الأمراء يأخذون إقطاعات الحلقة بأسماء مماليكهم، وطواشيتهم، وتخدم أجناد الحلقة عندهم وتأخذ المماليك السلطانية أيضاً الإقطاعات مع الجوامك، فقلت عدة الرجال، وكثر متحصل قوم، وقل لآخرين ما يحصل من الإقطاعات، وخربت عدة بلاد من كثرة المغارم، وعجز مقطعيها.
وفي سابعه: أفرج عن الأمير كمشبغا الفيسي أمير أخور، وعن قصروه من تمراز وكانا بالإسكندرية، وعن الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب وكان، بصفد وعن الأمير شاهين نائب الكرك وكان بقلعة دمشق.
وفي تاسعه: قدم الخبر بأن قرايوسف أحرق أسواق عين تاب ونهبها، فصالحه أهلها على مائة ألف درهم، وأربعين فرساً، فرحل عنها بعد أربعة أيام، إلى جهة البيرة، وعدى معظم جيشه إلى البر الشرقي في يوم الاثنين سابع عشر شعبان، وعدى من الغد، ونزل ببساتين البيرة وحصرها، فقاتله أهلها يومين وقتلوا منه جماعة، فدخل البلد، ونهب، واحرق الأسواق، حتى بقيت رماداً، امتنع الناس منه ومعهم حريمهم بالقلعة، ثم رحل في تاسع عشره إلى جهة بلاده، بعد ما حرق ونهب جميع معاملة البيرة، فسر السلطان برجوع قرايوسف، وفتر عزمه عن السفر إلى الشام.
وقدم الخبر بأن ابن قرمان حارب أهل طرسوس، فقتل بين الفريقين خلق كثير، إلى أن رحل عنها في سابع شعبان من ألم اشتد بباطنه.
وإلى ثالث عشره: جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، فعرض عليه منهم زيادة على أربعمائة، ما بين غني وفقير، وكبير وصغير. فمن كان إقطاعه قليل المتحصل أشرك معه غيره، ومثال ذلك أن جندياً يتحصل من إقطاعه في السنة سبعة آلاف درهم فلوساً، وآخر يتحصل له ثلاثة آلاف، فألزم من إقطاعه ثلاثة آلاف أن يعطي الذي إقطاعه سبعة آلاف مبلغ ثلاثة آلاف ليسافر صاحب السبعة آلاف ويقيم الذي أعطى الثلاثة آلاف، وأفرد جماعة وجد إقطاعاتهم قليلة المتحصل ثم ضم أربعة منهم، وأمرهم أن يختاروا منهم واحداً يسافر، ويقوم الثلاثة بكلفته، ورسم أن المال المجتمع من أجناد الحلقة يكون تحت يد قاضي القضاة شمس الدين الهروي.
وفي رابع عشره: قدم كمشبغا الفيسي وقصروه من تمراز من الإسكندرية، فمثلا بين يدي السلطان ونزلا إلى دورهما.
وفي سابع عشره: ركب السلطان إلى خارج القاهرة، وعبر من باب الفتوح إلى القلعة.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر من طرابلس بنزول التركمان - الأينالية والبياضية والأوشرية - على صافيتا من عمل طرابلس، جافلين من قرا يوسف، وأنهم نهبوا بلاداً، وأحرقوا منها جانباً، وأن الأمير برسباي الدقماقي النائب نهاهم عن ذلك، فلم يرجعوا، وأنه أمرهم بالعود إلى بلادهم بعد رجوع قرايوسف، فأجابوا بالسمع والطاعة، فركب عليهم برسباي ليأخذ مواشيهم وقاتلهم في يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان، فقتل منهم خلق كثير، منهم الأمير سودن الأسندمري، وثلاثة عشر من عسكر طرابلس، وانهزم باقيهم عراة، فغضب السلطان، ورسم بعزل برسباي عن نيابة طرابلس، واعتقاله بقلعة المرقب، وكتب بإحضار سودن القاضي نائب الوجه القبلي ليستقر في نيابة طرابلس.
وفي عشرينه: عرض السلطان أجناد الحلقة.

وفي ثالث عشره: ركب السلطان إلى المطعم خارج القاهرة، وعاد فلم يكد يستقر حتى في الساعة الرابعة، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة إلى السرحة، وعاد في يوم الأربعاء خامس عشرينه. وفيه ختمت قراءة صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل، وحضر السلطان ختمه على العادة، وفرق على الجماعة الحاضرين من الفقهاء - وعدتهم سبعون - مبلغ مائة وأربعين مؤيدياً كل واحد، وخلع على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي جبة صوف بفرو سمور على العادة.
وفي سابع عشرينه: عرض السلطان الأجناد على عادته، وتشدد في طلب المال منهم، فنزل بهم من ذلك شدائد، لفقر أكثرهم، وعجزهم عن القيام بما لزمهم، فلما انقضى مجلس العرض، ركب السلطان، وعدى النيل إلى بر الجيزة، وبات هناك، ثم عاد من الغد.
وفي هذا الشهر: أتلفت الدودة كثيراً من البرسيم المزروع بأراضي الجيزة.
وفيه قدم مصطفى ابن الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، إلى مدينة طرسوس، باستدعاء أهلها، من قبيح سيرة نائبها شاهين الأيدكاري، واستحلاله أموالهم ودماءهم، وأخذ المدينة وحصر القلعة، وقد امتنع بها شاهين الأيدكاري حتى أخذه، وبعث به ابنه، وأن قرايوسف لما مضى إلى بلاده مات ابنه بير بدق على ماردين، وعندما وصل إلى بلاده قبض على ولده اسكندر واعتقله، وأنه وقع بينه وبين ولده شاه محمد، صاحب بغداد.
شهر شوال، أوله الاثنين: في ثانيه: عرض السلطان الأجناد.
وفي خامسه: جلس للحكم بين الناس، وكان قد ترك ذلك، فعاد إليه، وضرب ابن الطبلاوي والي القاهرة بالمقارع بين يديه، ولم يعزله، واستقر الملطي في نيابة الوجه القبلي، عوضاً عن سودن القاضي.
وفي ليلة السبت سادسه: ركب السلطان، وسرح إلى جهة سرياقوس.
وفي ثامنه: قدم الأمير سودن القاضي من الوجه القبلي، وتمثل بمخيم السلطان من السرحة.
وفي عاشره: عاد السلطان من السرحة إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: ركب إلى الصيد، وعاد في ثالث عشره، وقد وعك بدنه، وعاوده ألم رجله، فلزم الفراش.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير سودن القاضي، واستقر في نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير برسباي الدقماقي، وخلع على الأمير كمشبغا الفيسي، واستقر أميراً كبيراً بطرابلس.
وفي سادس عشره: خلع على الأمير سيف الدين أبي بكر ابن الأمير قطلوبك، المعروف بابن المزوق، واستمر أستادار السلطان، بعد وفاة الأمير فخر الدين عبد الغني ابن أبي الفرج وخلع على ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، واستقر في نظر وقف الأشراف عوضاً عن ابن أبي الفرج، واشتملت تركة ابن أبي الفرج على نحو ثلاثمائة ألف دينار، منها صندوق فيه مبلغ اثنين وسبعين ألف دينار، وثلاثة مساطير بمبلغ سبعين ألف دينار وغلال وفرو وقماش وعدة بضائع بنحو مائة ألف دينار، أحاط السلطان بها كلها.
وفي حادي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى البركة مع الأمير جلبان أمير أخور، ورحل في رابع عشرينه، بعد أن تقدمه الركب في أمسه.
وفي هذا الشهر: عز وجود التبن، حتى أبيع الحمل بدينار، بعد خمسة أحمال بدينار. وفيه كثرت الفتن بالوجه البحري. وانقضى الشهر والسلطان مريض.
شهر ذي القعدة. أوله الثلاثاء: في ثالثه: قبض على الوزير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي. وسلم إلى الأمير أبي بكر الأستادار، بعد إخراق السلطان به، ومبالغته في إهانته لسوء تدبيره، وقبح سيرته، وخبث سريرته. وتتبعت حواشيه أتباعه فقبض عليهم ثم أفرج عنهم، وفيه خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله خلع الوزارة، مضافاً لنظر الخاص. وأنعم عليه مرة ماله وتقدمة ألف، فنزل الأمراء وأهل الدولة معه، وسر الناس به، وفيه دقت الطبلخاناه على بابه بعد غروب الشمس على عادة الأمراء الأكابر ولم يقع في الدولة التركية مثل هذا لوزير صاحب قلم.
وفيه خلع على الأمير جربغا دوادار الأمير يشبك نائب حلب، واستمر على عادته، وكان قد قدم في سادس عشرين شوال، وصحبته شهاب بن أحمد بن صلاح الدين صالح بن محمد، كاتب سر حلب بطلب، لشكوى نائب حلب منها، فسار جربغا وتأخر ابن السفاح بالقاهرة وكتب بقبض على قرمش الأمير الكبير بحلب وسجنه بقلعتها.
وفي خامسه: ركب السلطان المحفة - وهو مريض - وسرح، ثم عاد من آخره.
وفي سابعه: استقر شمس الدين محمد بن يعقوب في وزارة دمشق.

وفي تاسعه: خلع على الشيخ الأمجد رفائيل - كاتب الجيزة - واستقر بطرك اليعاقبة، عوضاً عن متى بعد موته.
وفي عاشره: ركب السلطان ونزل إلى بيت كاتب سره، ناصر الدين محمد بن البارزي، المطل على النيل، وعدى الأمراء إلى بر الجيزة ثم سار السلطان من بيت كاتب السر في يوم الجمعة حادي عشره إلى السرحة ببركة الحجاج، وركب من الغد النيل يريد سرحة البحيرة، ونزل بالبر الغربي على الطرانة، وانتهي إلى مريوط فأقام بها أربعة أيام. ورسم بعمارة بستان السلطان بها، وقد تهدم، واستأجر مريوط من مباشري وقف الملك المظفر بيبرس الجاشنكير على الجامع الحاكمي، وتقدم بعمارة سواقيه، ومعاهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وعاد.
وفي هذا الشهر: عز وجود لحم الضأن بأسواق القاهرة، ولم يرتفع سعره.
وفيه أفرج عن الشريف عجلان بن نعير الحسيني أمير المدينة، وللإفراج عنه خبر فيه معتبر: وهو أن عز الدين عبد العزيز بن علي البغدادي الحنبلي - أحد جلساء السلطان - رأى في منامه كأنه في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد انفتح قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منه صلى الله عليه وسلم، وجلس وعليه أكفانه، وأشار بيده المقدسة إلى عز الدين فقام إليه حتى دنا منه، فقال له: " قل للمؤيد يفرج عن عجلان " فانتبه وصعد على عادته إلى مجلس السلطان، وحلف له بالأيمان الحرجة أنه ما رأى عجلان قط ولا بينه وبينه معرفة، وقص عليه رؤياه، فسكت حتى انفض المجلس، وخرج إلى مرمى نشاب استجدها بالقلعة، فأحضر الشريف عجلان، وخلى عنه، وقد حدثني عز الدين بالرؤيا، وأقسم لي بالله أنه ما كان قبل رؤياه يعرف عجلان، ولا رآه قط، وهو غير متهم فيما تحدث به شهر ذي الحجة، أوله الخميس: فيه قل وجود الخبز بالأسواق، وازدحم الناس في طلبه ثلاثة أيام، ثم كسد وارتفعت الأسعار، حتى تجاور الأردب من الشعير والفول مائتين وخمسين درهماً.
ووافى عيد الأضحى والسلطان بناحية وردان وهو عائد، فصلى به صلاة العيد وخطب ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر. وكان الحال بالقاهرة في الأضاحي بخلاف ما نعهد، لقلة ما ذبح، فإن السلطان والأمراء لم يفرقوا الأضاحي، كما جرت به العادة.
وفي ثاني عشره: قدم السلطان من سرحة البحيرة، وعدى النيل إلى بيت كاتب السر، وأقام به إلى بكرة يوم الثلاثاء ثالث عشره، وركب إلى القلعة وألم رجله لم يبرح. وتقدم إلى الأمراء بتجهيزهم للسفر إلى الشام.
وفي خامس عشره: عرض السلطان أجناد الحلقة على عادته، وعين منهم من يسامر، وألزم من يقيم بالمال، كما تقدم. وفيه قدمت أم إبراهيم بن رمضان التركماني من بلاد الشرقي، وتمثلت بين يدي السلطان، فوسم بتعويقها، فعوقت.
وفي تاسع عشره: عرض السلطان أجناد الحلقة، ثم ركب في خاصته بثياب جلوسه إلى جامعه بجوار باب زويلة، واجتمع عنده القضاة فتنافس كل من القاضيين شمس الدين الهروي، وشمس الدين محمد الديري، وخرجا عن الحد حتى تسابا سباباً قبيحاً بحضرة السلطان، وقد اجتمع من طوائف الناس خلق كثير، وانفضوا وعناية السلطان بالهروي. فكان هذا مما لا يليق بالقضاة. وفيه بلغ الأردب القمح مائتين وستين درهماً، والأردب الفول ثلاثمائة درهم، لقلته. وكثر كساد الأسواق، وتوقف حال الناس، وقلة فوائدهم.
وفي ثاني عشرينه: ركب السلطان للصيد، وشق القاهرة من باب النصر.
وفي رابع عشرينه: أفرج عن الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وأقام بالمدرسة الفخرية موكلاً به، ومرسماً عليه. وفيه ركب السلطان للصيد، وعاد من يومه.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: جلس السلطان بالإسطبل لعرض أجناد الحلقة، على عادته، وتشدد في طلب المال ممن عين للإقامة، وضرب عدة منهم.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالشريف النقيب شرف الدين أبو الحسن علي بن الشريف النقيب فخر الدين أبي علي أحمد بن الشريف النقيب شرف الدين أبو محمد علي بن شهاب الدين حسن بن محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن محمد بن زيد بن الحسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب الأرموي، نقيب الأشراف، في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الأول، وكان يعد من رؤساء البلد، كرماً وأفضالاً من غير شهرة بعلم ولا نسك.

ومات فيه عبد الله بن علاء الدين علي بن محي الدين يحيي بن فضل الله العمري، وقد حمل واشتدت فاقته، وهو آخر من بقي من أولاد علاء الدين بن فضل الله.
ومات الأمير أجترك القاسمي، وقد تنقل في عدة ولايات، منها نيابة غزة.
وقتل الأمير حسين بن كبك، أحد أمراء التركمان، في ثالث جمادى الأولى، وكان من خبر قتله أن الأمير تغري بردى الجكمي - أحد العصاة على السلطان - فر والسلطان على مدينة كختا فيمن تسحب، ثم لحق بالأمير منكلي بغا نائب ملطية مع رفقته، فسأل السلطان في الصفح عنه، فصفح، وأقام عند منكلي بغا إلى أن قدم حسين ابن كبك على ملطية، وحصرها، فقرر الأمير منكلي بغا تغري بردى هذا، أنه يظهر الهرب، ويتسحب إلى حسين بن كبك، ويقيم عنده إلى أن يجد فرصة يقتله فيها، فخرج من ملطية فاراً إليه، فأكرمه، واستمر به عنده إلى أن توجه إلى بير عمر حاكم أرزنكان، في أول جمادى، فأنزله بير عمر في مخيم، وأجرى له ما يليق به، فلم يبت عنده سوى ليلة واحدة، وجلسوا لشرب الخمر في الليلة التي بعدها، حتى تفرق عن حسين أصحابه ودخل إلى مبيته، واستدعى بتغري بردى إليه ليكبسه، فعندما نام - وهو سكران - أخذ تعري بردى سيفه وحشاه في بطه، فلم يتنفس، وركب فرسه ليلاً إلى جهة شماخي وتوصل منها إلى ملطية، وقدم حلب، وجاء إلى مصر، فأكرمه السلطان، وخلع عليه، وأعطاه عشرة آلاف درهم فضة، وثلاثة أرؤس من الخيل كاملة العدة، وثياباً نفيسة، وإقطاعاً بديار مصر كثير المتحصل، وتقدم إلى الأمراء أن يخلع كل منهم عليه، فناله مال كبير، واستراح الناس من حسين بن كبك.
ومات بالقاهرة شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد القرقشندي الشافعي في ليلة السبت عاشر جمادى الآخرة، عن خمس وستين سنة، وقد كتب في الإنشاء، وبرع في العربية، وشارك في الفقه، وناب في الحكم، وعرف الفرائض ونظم ونثر. وصنف كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، جمع فيه جمعاً كبيراً مفيداً، وكتب في الفقه وغيره.
ومات الأمير بيسق الشيخي، أحد المماليك الظاهرية، في جمادى الآخرة بالقدس، وترقي حتى صار من أمراء الطلبخاناه، وأمير أخور، وولي إمرة الحج في الأيام الظاهرية والناصرية، وولي عمارة المسجد الحرام، لما احترق في سنة ثلاث وثمانمائة، ثم تنكر عليه الناصر فرج، وأخرجه من القاهرة إلى بلاد الروم منفياً، فأقام بها حتى تسلطن المؤيد شيخ قدم عليه، فلم يقبل عليه وأقام في داره مدة، ثم أخرجه إلى القدس بطالاً، فمات بها، وكان عارفاً بالأمور، متعصباً الفقهاء الحنفية على الشافعية، شرس الخلق، عسوفاً، كثير المال، وفيه بر وصدقات.
ومات الأمير علاء الدين أقبغا شيطان، مقتولاً في ليلة الخميس سادس شعبان، وقد جمع له بين ولاية القاهرة وحسبتها، وشد الدواوين، وكان يحسن المباشرة، ولم يشهر عنه تعاطي شيء من القاذورات المحرمة، كالخمر ونحوه.
ومات الأمير بردبك الخليلي بصفد، في ليلة الخميس نصف شهر رجب بها، وهو على نيابتها.
ومات الأمير سودن الأسندمري، مقتولاً في وقعة التركمان خارج طرابلس، في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان، وهو أحد مماليك الظاهرية، ومن جملة أمراء مصر، فلما قتل الناصر فرج، قبض عليه وسجن، ثم أفرج عنه، وعمل أميراً بطرابلس، فقتل بها عن قليل.
ومات الأمير أبو الفتوح موسى ابن السلطان، في يوم الأحد تاسع عشرين شهر رمضان، وهو في الشهر الخامس، فدمن بالجامع المؤيدي.
ومات الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفوج، في يوم الاثنين نصف شوال، ودفن بجامعه.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا العثماني الظاهري، نائب الشام، بطالاً بالقدس، في يوم الاثنين ثاني عشرين شوال.
ومات الأمير الطواشي بدر الدين لؤلؤ العزي كاشف الوجه القبلي، في يوم الأربعاء رابع عشرين شوال. ولي كشف الوجه القبلي في سنة ثلاث عشره، ثم في رجب سنة ثمان عشرة، وعزل وصودر وأخذ منه مال جزيل، بعد عقوبة شديدة، ثم ولي شد الدواليب السلطانية بالوجه القبلي، حتى مات، وكان من الحمقاء المتمعقلين، والظلمة الفاتكين، في هيئة متدين ناسك واعظ.

وتوفي شرف الدين محمد بن عز الدين أبي اليمن محمد بن عبد اللطف بن أحمد بن محمود بن أبي الفتح، الشهير بابن الكويك الربعي، الإسكندري، الشافعي، في يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، ومولده في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، بالقاهرة، وقد انفرد بأشياء لم يروها غيره. وتصدى للأسماع عدة سنين، فسمع عليه كثير من أهل القاهرة والقادمين إليها، وأضر قبل موته. وكان خيراً ساكناً كافا عن الشر، من بيت رياسة. وأول سماعه حضوراً سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. و لم يشتهر بعلم.
ومات الأمير قطلوبغا الخليلي نائب الإسكندرية، في يوم الخميس خامس عشرين ذي الحجة، وكان قد ولي حاجباً بالقاهرة، ثم تعطل ستاً وعشرين سنة، فساءت حاله، إلى أن ولاه الملك المؤيد نيابة الإسكندرية، مباشرها مباشرة مشكورة، ومات وهو على نيابتها.
ومات الأستاذ إبراهيم بن باباي العواد، في ليلة الجمعة مستهل شهر ربيع الأول. وقد انتهت إليه الرياسة في الضرب بالعود. وكان أبي النفس، من ندماء السلطان، مقرباً عنده، وجدد عمارة بستان الحلبي المطل على النيل، وبه مات.
سنة اثنتين وعشرين وثمانمائةأهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، وسلطان مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، والأمير الكبير ألطنبغا القرمشي، وأتابك العساكر المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان، والدوادار الأمير جقمق، ورأس نوبة الأمير ألطنبغا الصغير، وأمير سلاح الأمير قجقار القردمي، وأمير مجلس الأمير ططر، وكاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي، والوزير وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، أحد الأمراء مقدمي الألوف، والأستادار الأمير أبو بكر، وناظر الجيش علم الدين داود بن الكويز، وقضاة القضاة على حالهم، ونائب الشام الأمير تنبك ميق العلاي، ونائب حلب الأمير يشبك اليوسفي، ونائب طرابلس الأمير سودن القاضي، ونائب حماة الأمير شاهين الزردكاش، ونائب صفد الأمير قرا مراد خجا، ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن العطار.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الجمعة: في ثانيه: جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة على ما تقدم، وأنفق على الأمراء نفقة السفر، فبعث إلى كل من الأميرين ألطنبغا القرمشي وططر ثلاثة آلاف دينار، ولمن عداهما ألفي دينار.
وفي خامسه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا أنه لم يرد أحد من حاج العراق.
وفي رابع عشره: قرئ تقليد الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، بالجامع المؤيدي، وكانت العادة أن يقرأ تقليد الوزارة بخانكاه سعيد السعداء.
وفي نصفه: ضرب خام المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان تجاه مسجد تبر خارج القاهرة.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره: ركب إبراهيم ابن السلطان بكرة النهار في أمراء الدولة والعساكر، وتبعه طلبه وطلب الأمير جقمق الدوادار، حتى نزل بمخيمه، وخرج بعده الأمراء بأطلابهم، وهم ططر أمير مجلس، وقجقار القردمي أمير سلاح، وأينال الأزعري رأس نوبة، وجلبان، وأركماس الجلباني من مقدمي الألوف، وثلاثة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة عشر من أمراء العشرات، ومائتين من المماليك السلطانية.
وفي عشرينه: نزل السلطان إلى مخيمه على خليج الزعفران، ثم سار إلى مخيم ولده وبات عنده، ثم ودعه وركب من الغد إلى القلعة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه: رحل المقام الصارمي إلى جهة البلاد الشامية، بمن معه وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج، وقدم المحمل ببقية الحاج من عده، ومعهم الشريف عجلان بن نعير، أمير المدينة النبوية في الحديد. وقدم الأمير بكتمر السعدي عائداً من اليمن، بكتاب الناصر أحمد بن الأشرف. وفيه شرع السلطان في عمارة قبة عظيمة بالحوش من قلعة الجبل، أنفق عليها مالاً كبيراً. وفيه كتب تقليد الأمير ناصر الدين محمد بن باك بن دلغادر، باستقراره في نيابة السلطنة بقيسارية الروم، وجهز إليه. وفيه خلع على الأمير مقبل الدوادار، واستقر شاد العمارة بالجامع المؤيدي، عوضاً عن الأمير ططر.

وفي يوم الخميس ثامن عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه بجوار باب زويلة، واستدعى القضاة ومشايخ العلم، ليسألهم عن إصلاح ما تهدم من أروقة المسجد الحرام، وتشقق الكعبة، وعمارة الحجرة النبوية، ومن أين تكون النفقة على ذلك. فأجالوا القول في هذا. وسأل قاضي القضاة علاء الدين علي بن مغلي الحنبلي قاضي القضاة شمس الدين الهروي عن أربع مسائل، وهو يجيبه، فيقول له: أخطأت. وأخذ قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي في الكلام مع الهروي حتى خرجا إلى المسابة. وعدد الديري قبائح الهروي، من أنه من أتباع تيمورلنك، وأنه كان ضامن يزد، ونحو ذلك. ثم قال: يا مولانا السلطان، أشهدك علي أني حجرت عليه أن لا يفتي، وحكمت بذلك. فنفذ الحنبلي والمالكي حكمه. فكان مجلساً في غاية القبح، من إهانة الهروي وبهدلته، ثم انفضوا على ذلك، وقد تبين انحطاط قدره، وبعده عن العلم بالفقه والحديث.
شهر صفر، أوله الأحد: في خامسه: اجتمع المماليك السلطانية بالقلعة، وهموا أن يوقعوا بالوزير والأستادار لتأخر عليق خيولهم، فما زال الأمراء بهم حتى فرقوهم على أن يصرف لهم ما استحق.
وفيه خلع على صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود العجمي، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن شعبان.
وفي يوم السبت سابعه: عدى السلطان النيل، ونزل بناحية أوسيم وأقام بها. فقدمت له التقادم، من الخيول والجمال، على العادة.
وفي سادس عشره: توجه الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد اللطف الطرابلسي إلى طرابلس، ليكون مقيماً بها، من جملة أمرائها.
وفي ثامن عشره: عاد السلطان من أوسيم، ونزل على النيل بناحية منبابة، وعمل الوقيد في ليلة الخميس تاسع عشره، فمر تلك الليلة من السخف، وإتلاف النفوط ما ينكر مثله، ثم أصبح مركب الحراقة، وقطع النيل بكرة، وصعد القلعة، فتعصب المماليك سكان الطباق بقلعة الحبل، وبقوا يداً واحدة وامتنعوا من أخذ الجامكية، وطالبوا بأن يصرف لهم في هذه الدولة المؤيدية من ابتدائها نظير ما كان يصرف في الأيام الظاهرية، من الكسوة واللحم، والسكر وغيره، فتوقع الناس حدوث شر وفتنة، فردوا وسكن الشر.
وفي هذا الشهر: استقر رقم أمير هوارة البحرية، وتوجه ومعه الأمير ألطنبغا المرقبي إلى الوجه القبلي، وكتب للكشاف والولاة بالركوب معه، وطرد هواره، فلما نزل الأمير ألطنبغا بسفط ميدوم وقد نزلت هوارة قمن في نحو أربعة آلاف، فركبوا يوم الجمعة ثامن عشرينه، وطرقوا الأمير ألطنبغا والأمير رقم، وقاتلوهم عامة النهار، ثم مضوا إلى الميمون وقد قتل من الفريقين نحو ثلاثة آلاف، فأخذ العسكر السلطاني ما تركوه من الأغنام، والأبقار، والجمال، والرقيق، وغيرها، وهو شيء كثير جداً.
وفي يوم الاثنين سادس عشره: وصل المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان بمن معه إلى دمشق، وقد تلقته النواب والعساكر.
وفي هذا الشهر: فشا الموت بالطاعون في إقليمي الشرقية والغربية وجميع الوجه البحري، وابتدأ بالقاهرة ومصر منذ حلت الشمس في برج الحمل، في يوم الأحد خامس عشرة، فبلغت عدة من يرد الديوان من الأموات ما بين العشرين والثلاثين في كل يوم.
وفيه رسم بمرمة قناطر شبين بالجيزية وكتب تقدير مصروفها خمسة آلاف دينار، فرضت على بلاد الجيزة. وقرر على كل فدان مبلغ عشرين درهم يسهم الفلاح منها بستة دراهم، والمقطع بأربعة عشر. ولا يعفي من ذلك من انقطع رزقه. فجبي المال من البلاد على هذا.
وفي ثامن عشرينه: عرض السلطان أجناد الحلقة، وكان قد ترك عرضهم مدة أيام.

وفي تاسع عشرينه: كسفت الشمس قبيل الزوال، فاجتمع الناس، وصلى بالناس في الجامع الأزهر الشيخ الحافظ شهاب الدين أبو الفتح بن حجر العسقلاني الشافعي - خطب الجامع - صلاة الكسوف. عقيب صلاة الظهر ركعتين، ركع في كل ركعة ركوعين، أطال فيهما القراءة، فقرأت في قيام الركعتين نحواً من ستة أحزاب. وكان الركوع نحوا من القيام والسجود نحو الركوع، فقارب في أركان الصلاة ما بينها، وأذكرني بصلاته أهل السلف، ثم صعد بعد صلاته المنبر فخطب خطبتين، وعظ فيهما وأنذر، وذكر. وعم اجتماع الناس جوامع مصر والقاهرة، وظواهرها وعد هذا من حميد أفعال محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود العجمي، فإنه بث أعوانه قبل أذان الظهر، فنادوا في الأسواق تهيئوا رحمكم الله لصلاة الكسوف. فبادر الناس للتطهر، وأقبلوا يسعون إلى الجوامع طوائف طوائف، ما بين رجال ونساء. وهم في خشوع وذكر واستغفار، فدفع الله بذلك عن الناس بلاءاً كثيراً.
وفي هذا الشهر: اتفق وقت العصر من يوم الثلاثاء سابع عشره حدوث زلزلة استمرت ثلاثة أيام بلياليها. لا تهدأ، فسقط سور المدينة، وخرجت عامة دورها، بحيث لم يبق بها دار إلا سقطت أو هدم بها شيء، وانقطع من جبل قطعة في قدر نصف هرم مصر، وسقطت إلى الأرض، وتفجرت عدة أعين من وادي الأزرق، وانطمت عدة أنهر، وكانت الزلزلة تأتي من جهة المغرب إلى جهة المشرق، ولها دوي كركض الخيل، ثم امتدت الزلزلة بعد ثلاثة أيام مدة أربعين يوماً، تعود كل يوم مرة أو مرتين وثلاث وأربع، حتى خرج الناس إلى الصحراء، ثم تمادت سنة.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: فيه نزل المقام الصارمي تل السلطان ظاهر حلب، وقد خرج إليه نائب حلب بعسكرها، وأتته العربان والتركمان، ودخل حلب في ثالثه. وفيه جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، على عادته. وفيه بلغت عدة من ورد من الأموات بالقاهرة إلى الديوان نحو الخمسين، أكثرهم أطفال، وذلك سوى المارستان، وموتهم بأمراض حادة. وحبة الموت قل من يمرض منهم ثلاثة أيام، بل كثير منهم يموت ساعة يمرض، أو من يومه.
وفي رابعه: سار الأمير أبو بكر الأستادار إلى الوجه القبلي لأخذ أموال هوارة.
وفي ثامنه: استدعى قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي إلى قلعة الجبل، وقد قدم طائفة من بلد القدس والخليل مع الأمير حسن نائب القدسي، للشكوى عليه بأنه أخذ في أيام نظره من مال وقف الخليل قدراً كبيراً، فندب السلطان للقضاء بينهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر مفتي دار العدل، وخطيب الجامع الأزهر، فثبت في جهة الهروي مال كثير بحضرة السلطان، فرسم بإمضاء حكم الشرع فيه، فلما نزل من القلعة وحاذي المدرسة الصالحية بين القصرين، أمره نقيب قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري بالنزول ليعتقل بها،. فنزل بعد تمنع، وجلس قليلاً وركب يريد منزله، فتسارع إليه الرسل أعوان القضاة وجذبوا بغلته ليردوه إلى المدرسة، فتصايحت العامة وعطعطوا به وسبوه ورجموه، فعاد عوداً قبيحاً، وقد رحمه من رآه، وأدخل في دار وأغلق عليه، فلم يمض غير قليل حتى نزل إليه الطواشي مرجان الهندي الخازندار وأخرجه من معتقله، ومضى به إلى داره.
وفيه واقع الأمير ألطنبغا المرقبي هوارة بناحية بني عدي، وكان قد توجه في طلبهم إلى ناحية الأشمونين وترك أثقاله بها، وتبعهم بالعساكر جريدة حتى أدركهم ليلاً، فكانت بينهما معركة قتل فيها جماعة وانهزمت هوارة وتشتتوا.
وفي ثاني عشره: جلس الأمير مقبل الدوادار، والقاضي علم الدين داود بن الكوبز ناظر الجيش، بقلعة الجبل، لعرض بقية أجناد الحلقة، من غير أن يحضر السلطان. وفيه رسم السلطان للشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر أن يرسم على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي ليخرج عما ثبت عليه، فندب له أربعة من أعوان القضاة لازمه منهم اثنان في داره، أقاما معه في موضع منها، وتوكل اثنان ببابي داره، ومنع من البروز من داره حتى يخرج مما في قبله.

وفي رابع عشره: نزل مرسوم السلطان إلى الهروي أن يخرج مما ثبت عليه، ويدفع إلى مستحقي وقف الخليل مصالحة عما ثبت في جهته، لو عمل حسابه، لمدة مباشرته مبلغ ثلاثة آلاف دينار، فشرع في بيع موجوده إلى يوم الثلاثاء نصفه، بعث السلطان من ثقاته أميراً إلى بيت الهروي، فأخذ منه ما تحت يده من المال المأخوذ من أجناد الحلقة، وهو ألف ألف وستمائة ألف درهم فلوساً، فلم يوجد سوى ألف ألف درهم، وقد تصرف في ستمائة ألف درهم عنها نحو ثلاثة آلاف دينار، فشنعت القالة عليه، واشتد غضب السلطان منه، وبعث قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي إلى نواب الهروي، فمنعهم من الحكم بين الناس، بمقتضي أنه ثبت فسقه، وحكم الفاسق لا ينفذ وولايته لا تصح عند الإمام الشافعي، وهددهم متى حكموا بين الناس، فانكفوا عن الحكم.
وفي يوم الأربعاء غده: صعد بعض الرسل المرسمين على الهروي إلى السلطان، وبلغه - على لسان بعض خواصه - أنه تبين له ولرفقائه أن الهروي تهيأ ليهرب، فبعث عدة من الأجناد وكلهم به في داره.
وفي يوم الخميس سابع عشره: نزل السلطان إلى جامعه بجوار باب زويلة، واستدعى شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، فارتجت القاهرة، وخرج الناس من الرجال والنساء على اختلاف طبقاتهم لرؤيته، فرحاً به، حتى غصت الشوارع، فعندما رآه السلطان، قام له وأجله، وبالغ في إكرامه وأفاض عليه التشريف، وشافهه بولاية القضاة، وتوجه جلال الدين البلقيني من الجامع إلى المدرسة الصالحية، فمر من تحت الربع، وعبر من باب زويلة، وسلك تحت شبابيك الجامع، وقد قام السلطان في الشباك ليراه، فأبصر من كثرة الخلق، وشدة فرحهم، وعظيم ما بذلوه، وسمحوا به من الزعفران للخلوق، والشموع للوقود، مع مجامر العود والعنبر، ورش ماء الورد، وضجيجهم بالدعاء للسلطان، ما أذهله، وقوي رغبته فيه، وسار كذلك حتى أن بغلته لا تكاد أن تجد موضعاً لحوافرها، حتى نزل بالمدرسة الصالحية، ومعه أهل الدولة عن آخرهم، لم توجه إلى داره، فكان يوماً مشهوداً، واجتماعاً لم يعهد لقاض، مثله.
وفي سادس عشرينه: انتهي عرض أجناد الحلقة.
وفي هذا الشهر: تتبع صدر الدين محتسب القاهرة أماكن الفساد بنفسه، ومعه والي القاهرة، فأراق آلافاً من جرار الخمر وكسرها، ومنع النساء من النياحة على الأموات، ومنع من التظاهر بالحشيش، وكف البغايا عن الوقوف لطلب الفاحشة في الأسواق، ومواضع الريب، وألزم اليهود والنصارى بتضييق الأكمام الواسعة وتصغير العمائم، حتى لا تتجاوز عمامة أحدهم سبعة أذرع، وأن يدخلوا الحمامات بجلاجل في أعناقهم، وأن تلبس نساوهم أزراً مصبوغة، ما بين إزار أصفر لليهودية، وإزار أزرق للنصرانية، فاشتد قلقهم من ذلك، وتعصب لهم قوم، فعمل بعض ما ذكر دون باقيه. وبلغت عدة من ورد الديوان من الأموات في هذا الشهر بمدينة بلبيس ألف إنسان، وبناحية بردين من الشرقية خمسمائة نفس، وبناحية ديروط من الغربية ثلاثة آلاف إنسان، سوى بقية القرى، وهي كثيرة جداً.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: في ثالثة: بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات بالقاهرة إلى مائة وستة وتسعين، سوى المارستان، ومصر، وبقية المواضع التي لا تود الديوان، وما تقصر عن مائة أخرى. هذا مع شناعة الموتان بالأرياف، وخلو عدة قرى من أهلها.
وفي خامسه: خدع قاضي القضاة الهروي الموكلين به من الأجناد، حتى مكنوه أن يخرج من داره، فالتجأ إلى بيت الأمير قطلوبغا التنمي، فطار الخبر في الوقت إلى الأمير مقبل الدوادار وغيره، بأن الهروي قد هرب، وبلغ السلطان ذلك، فبعث الأمير تاج الدين الشويكي أستادار الصحبة إليه، فأخذه من بيت التنمي، وحمله إلى القلعة، فسجنه بها في أحد أبراجها، وضرب الدوادار الأجناد الموكلين به ضرباً مبرحاً.
وفي يوم الخميس ثامنه: نودي في الناس من قبل المحتسب أن يصوموا ثلاثة أيام أخرها يوم الخميس خامس عشره، ليخرجوا مع السلطان، فيدعوا الله بالصحراء في رفع الوباء، ثم أعيد النداء في ثاني عشره أن يصوموا من الغد فتناقص عدد الأموات فيه، وأصبح كثير من الناس صياماً، فصاموا يوم الثلاثاء، ويوم الخميس، وبطل كثير من الباعة بيع الأقوات في أول النهار، كما هي العادة في أول شهر رمضان.

وفي يوم الخميس خامس عشره: نودي في الناس بالمضي إلى الصحراء من الغد، وأن يخرج العلماء والفقهاء، ومشايخ الخوانك، وصوفيتها وعامة الناس، ونزل الوزير الصاحب بدر الدين بن نصر الله، والأمير التاج الأستادار بالصحبة إلى تربة الملك الظاهر برقوق، ونصبوا المطابخ بالحوش القبلي منها، وأحضروا الأغنام والأبقار، وباتوا هناك في تهيئة الأطعمة والأخباز، ثم ركب السلطان بعدما صلى صلاة الصبح، ونزل من قلعة الجبل، وهو لابس الصوف، وعلى كتفيه مئزر صوف مسدل كهيئة الصوفية، وعليه عمامة صغيرة جداً، لها عذبة مرخاة من بين لحيته وكتفه الأيسر، وهو بتخشع وانكسار وفرسه بقماش ساذج، ليس فيه ذهب ولا حرير، وقد أقبل الناس أفواجاً.
وسار شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني من منزله، ماشياً في عالم كبير، وسار معظم الأعيان من منازلهم، ما بين ماش وراكب، حتى وافوا السلطان بالصحراء قريباً من قبة النصر، ومعهم الأعلام والمصاحف، ولهم بذكر الله تعالى أصوات مرتفعة، فنزل السلطان عن فرسه، وقام على قدميه، وعن يمينه وشماله القضاة والخليفة، وأهل العلم، ومن بين يديه وخلفه طوائف لا يحصيها إلا خالقها سبحانه، فبسط يديه، ودعا الله وهو يبكي، وينتحب، والجم الغفير يراه ويشهده زماناً طويلاً، ثم ركب يريد الحوش من التربة الظاهرية، والناس في قدمه وبين يديه، حتى نزل وأكل ما تهيأ، وذبح بيده قرباناً، قربة إلى الله، مائة وخمسين كبشاً سميناً، من أثمان خمسة دنانير الواحد، ثم ذبح عشر بقرات سمان، وجاموستين، وجملين، وهو يبكي، ودموعه تنحدر - بحضرة الملأ - على لحيته، ثم ترك القرابين على مضاجعها كما هي، وركب إلى القلعة، فتولى الوزير والتاج تفرقتها، صحاحاً، على الجوامع المشهورة، والخوانك، وقبة الإمام الشافعي، وتربة الليث بن سعد ومشهد السيدة نفيسة، وعدة من الزوايا، حملت إليها صحاحاً، وقطع منها عدة بالحوش، فرقت لحماً على الفقراء، وفرق من الخبز النقي يومئذ عدة ثمانية وعشرين ألف رغيف، تناولها الفقراء من يد الوزير، وبعث منها إلى كل سجن خمسمائة رغيف، وعدة قدور كبار مملوءة بالطعام الكثير اللحم، هذا، وشيخ الإسلام في طائفة عظيمة من الناس يقرءون القرآن، ويدعون الله حيث وقف السلطان، وشيخ الحديث النبوي - شهاب الدين أحمد بن حجر - في صرفية خانكاة بيبرس، وغيرهم كذلك، وأهل كل جامع ومشهد وخانكاه كذلك، حتى اشتد حر النهار، انصرفوا، وركب الوزير بعدهم قبيل نصف النهار إلى منزله، فكان يوماً مشهوداً، لم ندرك مثله، إلا أنه بخلاف ما كان عليه السلف الصالح، فقد خرج الإمام أحمد - عن شهر بن حوشب - في حديث طاعون عمواس أن أبا عبيدة بن الجراح قام خطيباً، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وأن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لنا حظاً منه فطعن، فمات. واستخلف معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وأن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظه منه فطعن ابنه عبد الرحمن، فمات. ثم قام فدعا ربه لنفسه، فطعن في راحته. ولقد رأيته ينظر إلى السماء، ثم يقبل كفه ويقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا ومات. فاستخلف عمرو بن العاص، فذكر الحديث. فهذه أعزك الله أفعال الصحابة. وقد عكس أهل زماننا الأمر، فصاروا يسألوا الله رفعه عنهم.
ومن غريب ما وقع في هذا الطاعون أن رجلاً له أربعة أولاد أراد ختانهم وعمل لهم مجتمعاً، بالغ في عمل الأطعمة ونحوها لمن دعاه، يريد بذلك تفريح أولاده وأهله قبل أن يأتيهم الموت، وقدمهم واحداً واحداً ليختنوا، وهم يسقون الأولاد الشراب المذاب بالماء على العادة، فمات الأربعة في الحال عقيب اختتانهم، والناس حضور. فأتهم أباهم الخاتن أنه سمهم، فجرح نفسه بالموسى الذي ختنهم به ليبرئ نفسه فانقلب الفرح مأتماً، وبينما هم في ذلك، إذ ظهر أن الزير الذي عندهم فيه الماء الذي أخذوا منه ومزجوا به الشراب الأطفال، فيه حية ميتة. تنوعت الأسباب والداء واحد.

وقدم الخبر بحدوث زلزلة عظيمة ببلاد الروم، حدثت يوم كسف الشمس. خسف منها قدر نصف مدينة أرزنكان، هلك فيها عالم كثير، وانهدم من مباني القسطنطينية شيء كثير، وكان ابن عثمان قد بني في برصا قيسارية وعدة حوانيت، خسف بها وبما حولها، فهلك خلق كثير، لم يسلم منهم أحد. وأن الوباء عم أهل إقريطش والبندقية من بلاد الفرنج، حتى خلتا، وأن الفرنج قد اجتمعوا لحرب ابن عثمان متملك برصا.
وفي ثاني عشرينه: أنزل بالهروي مع معتقله بالبرج، مع الأمير التاج إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، وقد اجتمع قضاة القضاة الثلاث عند شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني بقاعته منها، فأوقف الهروي تحت حافة الإيوان، وادعي الأمير التاج عليه عند الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر - بحضرة القضاة - بما ثبت عليه عنده في مجلس السلطان، فأجاب بأن ما ثبت عليه قد أدى بعضه، وأنه يحمل باقيه قليلاً قليلاً، فطلب التاج حكم الله فيه، فأمر بسجنه، حتى يودي ما عليه، فأخرج به إلى قبة الصالح فسجن بها، ووكل به جماعة يحفظونه. فأقام إلى ثامن عشرينه، ونقل من القبة إلى قلعه الجبل من كثرة شكواه، بأنه يمر به من سب الناس ولعنهم له، ما لا يحتمل مثله، وأنه لا يأمن أن يفتك الناس به لكراهتهم فيه، فعندما صار بجامع القلعة، نقل للتاج أن الهروي ما أراد بتحوله من القبة إلى القلعة إلا القرب من خواص السلطان، ليتمكن منهم، حتى يشفعوا له عند السلطان في خلاصه، فبادر ونقله من جامع القلعة إلى موضع يشرف على المطبخ السلطاني.
وقدم الخبر برحيل ابن السلطان من حلب، ودخل إلى مدينة قيسارية الروم، في يوم الخميس تاسعه، فحضر إليه أكابرها من القضاة والمشايخ، والصوفية، وتلقوه، فألبسهم الخلع، وطلع قلعتها في يوم الجمعة، وخطب في جوامعها للسلطان، وضربت السكة باسمه. وأن شيخ جلبي نائب قيسارية تسحب قبل وصوله إليها، وأنه خلع على الأمير محمد بك قرمان، وأقره في نيابة السلطنة بقيسارية الروم فدقت البشائر بقلعة الجبل، وفرح السلطان بأخذ قيسارية، فإن هذا شيء لم يتفق لملك من ملوك الترك بمصر، سوى للظاهر بيبرس، ثم انتقص الصلح بينه وبين أهلها.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات سبعة وسبعين، وكان عدة من مات بالقاهرة وورد اسمه إلى الديوان من العشرين من صفر إلى سلخ شهر ربيع الآخر - أمسه - سبعة آلاف وستمائة واثنين وخمسين: الرجال ألف وخمسة وستون رجلاً، والنساء ستمائة وتسعة وستون امرأة، والصغار ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعة وستون صغيراً، والعبيد خمسمائة وأربعة وأربعون، والإماء ألف وثلاثمائة وتسع وستون، والنصارى تسعة وستون، واليهود اثنان وثلاثون، وذلك سوى المارستان، وسوى ديوان مصر، وسوى من لا يرد اسمه إلى الديوانين، ولا يقصر ذلك عن تتمة العشرة آلاف. ومات بقري الشرقية والغربية مثل ذلك وأزيد.
وفي يوم الأحد ثانيه: ولد الأمير أحمد ابن السلطان من زوجته سعادات.
وفيه رسم بإخلاء حوش العرب تحت القلعة، مما يلي باب القرافة، فأخرج منه عرب آل يسار بحرمهم وأولادهم، ووقع الشروع في عمارته.
وفي ثالثه: خلع على الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر، واستقر مدرس الشافعية بالجامع المؤيدي، واستقر الشيخ يحيي بن محمد بن أحمد العجيسي البجائي المغربي النحوي في تدريس المالكية، واستقر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن على بن العز البغدادي في تدريس الحنابلة، وخلع عليهم بحضرة السلطان، ونزلوا ثلاثتهم.
وفي سادسه: استدعى السلطان الأطباء، وأوقفهم بين يديه، ليختار منهم من يوليه رئاسة الأطباء، فتكلم سراج الدين عمر بن منصور بن عبد الله البهادري الحنفي، ونظام الدين أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر، الهمداني الأصل، البغدادي المولد، ومولده بها في شعبان سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وقد استدعاه السلطان من دمشق، فقدم إلى القاهرة في شهر ربيع الآخر، وادعي دعوى عريضة في علم الطب، والنجامة، فظهر البهادري عليه بكثرة حفظه واستحضاره، وكاد يروج، لولا ما رمي به عند السلطان من أنه لا يحسن العلاج، وأنه مع علمه، يده غير مباركة، ما عالج مريضاً إلا مات من مرضه، فانحل السلاح عنه، وصرفهم من غير أن يختار منهم أحداً.

وفي سابعه: استدعى بطرك النصارى، وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأوقف على قدميه، ووبخ وقرع، وأنكر عليه ما بالمسلمين من الذل في بلاد الحبشة، تحت حكم الحطي متملكها، وهدد بالقتل، فانتدب له محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن العجمي وأسمعه المكروه له من أجل تهاون النصارى فيما أمروا به من التزام الذلة والصغار في ملبسهم وهيأتهم، وطال الخطاب في معنى ذلك إلى أن استقر الحال على أن لا يباشر أحد من النصارى في ديوان السلطان، ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عما يلزموا به من الصغار، ثم طلب السلطان بالإكرام فضائل النصراني كاتب الوزير، وكان قد سجن منذ أيام، فضربه بالمقارع وشهره بالقاهرة، عرياناً بين يدي المحتسب، وهو ينادي عليه هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان. ثم سجن بعد إشهاره، فانكف النصارى عن مباشرة الديوان ولزموا بيوتهم، وصغروا عمائهم، وضيقوا أكمامهم، وألتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير في القاهرة، فإذا خرجوا من القاهرة ركبوا الحمير عرضاً، وأنف جماعة من النصارى الكتاب أن يفعلوا ذلك، وبذلوا جهدهم في السعي، فلما لم يجابوا إلى عودهم إلى ما كانوا عليه، تتابع عدة منهم في إظهار الإسلام، وصاروا من ركوب الحمير إلى ركوب الخيول المسومة، والتعاظم على أعيان أهل الإسلام، والانتقام منهم بإذلالهم، وتعويق معاليمهم ورواتبهم، حتى يخضعوا لهم، ويترددوا إلى دورهم، ويلحوا في السؤال لهم، ولا قوة إلا بالله.
وفيه قدم الخبر بتوجه ابن السلطان من مدينة قيسارية إلى جهة قونية في خامس عشر شهر ربيع الآخر، بعدما مهد أمور قيسارية، ورتب أحوالها، ونقش اسم السلطان على بابها وأن الأمير تنبك ميق نائب الشام، لما وصل إلى العمق، حضر إليه الأمير حمزة ابن رمضان بجمائعه من التركمان، وتوجه معه هو - وابن أرزر - إلى قريب المصيصة، وأخذ أذنة وطرسوس.
وفي ثامنه: عملت عقيقة الأمير أحمد ابن السلطان، وخلع على الأمراء، وأركبوا الخيول بالقماش الذهب على العادة.
وفيه قدم الأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، والأمير أبو بكر الأستادار، من الوجه القبلي، وخلع عليهما. وفيه نادي المحتسب في شوارع القاهرة ومصر بأن النصارى واليهود لا يمرون في القاهرة إلا مشاة، غير ركاب، وإذا ركبوا خارج القاهرة، فليركبوا الحمير عرضاً، ولا يلبسوا إلا عمائم صغيرة الحجم، وثياباً ضيقة الأكمام، ومن دخل منهم الحمام فليكن في عنقه جرس، وأن تلبس نساء النصارى الأزر الزرق، ونساء اليهود الأزر الصفر، فضاقوا بذلك، واشتد الأمر عليهم، فسعوا في إبطاله سعياً كبيراً، فلم ينالوا غرضاً، وكبست عليهم الحمامات، وضرب جماعة منهم لمخالفته، فامتنع كثير منهم عن دخول الحمام، وعن إظهار النساء في الأسواق.
وفيه أحضر إلى السلطان ما قدم به الأمير أبو بكر الأستادار من أموال هوارة، وهو مائتا فرس، وألف جمل، وستمائة رأس جاموس، وألف وخمسمائة رأس بقر، وخمسة عشر ألف رأس من الغنم الضأن، وذلك سوى ما تفرق في الأيدي، وسوى ما هلك واستهلك، وهو كثير جداً، وقد اختل بهذه النهبات إقليم مصر خللاً فاحشاً، فإن الصعيد بكماله قد أقفر من المواشي، وإذا أخذت منه رميت على أهل الوجه البحري بأغلى الأثمان، فتجحف بهم.
وفي هذه الأيام: كثر تسخير الناس في العمل بحوش العرب تحت القلعة وتتبعهم أعوان الوالي في الطرفات، حتى قل سعي الناس في الطرقات ليلاً. وفيه شرع السلطان في حفر صهريج بجوار خانكاه بيبرس.
وفي ثالث عشره: درس الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر بالجامع المؤيدي.
وفيه تشاجر الصاحب بدر الدين بن نصر الله، والأمير أبو بكر الأستادار بين يدي السلطان، وتفاحشا، فكثر الإرجاف بهما.
وفي نصفه: رسم أن لا يسخر أحد من العامة في العمل بحوش العرب، فاعفوا وخلص كثير من العمامة.
وفي تاسع عشره: خلع على الوزير والأستادار، بعدما ألتزما أن يحملا مائة ألف دينار، فلما نزلا، وزعا ذلك على من تحت أيديهما، فعمت هذه البلية جماعة كثيرة بالقاهرة والأرياف.
وفي ثالث عشرينه: لم يشهد السلطان الجمعة، لانتقاض ألم رجله، ولزم الفراش.

وفي رابع عشرينه: وصل محمد بن بشارة شيخ بلاد صفد في الحديد وكان قد خرج عن طاعة السلطان، فتطلبه زماناً، وأزعجه من بلاد صفد إلى أن ترامي بدمشق على الأمير ناصر الدين محمد بن منجك أحد خواص السلطان وقدم عليه في سابع صفر، وقد بعث إليه بأمان السلطان، وخلع عليه، وأنزله فلما ظن أنه أمن، تصرف في أشغاله، وركب في أرجاء دمشق. فبينما هو في ذات يوم قد وقف بسوق الخيل - هو وابن منجك - إذ دعاه إلى الدخول على الأمير نكباي نائب الغيبة بدمشق، فدخل معه إليه، ووقف أصحابه - وهم نحو العشرين - على خيولهم، خارج باب السعادة، فما هو إلا أن استقر بابن بشارة المجلس، أشار ابن منجك إلى نكباي بطرفه أن اقبضه، فأحيط به، فأخذ ليدفع عن نفسه، وسل سيفه، فقبض عليه، فسل خنجره، وجرح به من تقدم إليه، فتكاثرت السيوف على رأسه، وأخذ، وقيد، وقبض على العشرين من أصحابه، ووسط منهم أربعة عشر، واعتقل أربعة مع ابن بشارة، ثم حمل محتفظاً به، فاعتقل.
وفي سابع عشره: أخذ قاع النيل فجاء أربعة أذرع، تنقص إصبعين. ونودي بزيادة ثلاثة أصابع. وقدم الخبر بأن ابن السلطان وصل إلى نكدة في ثامن عشر شهر ربيع الآخر، فتلقاه أهلها، وقد عصت عليه قلعتها، فنزل عليها وحصرها، وركب عليها المنجنيق، وعمل النقابون فيها، وأن محمد بن قرمان تسحب من مدينة نكدة في مائة وعشرين فارساً، هو وولده مصطفى.
وفي سلخه: رسم للأمير التاج الشويكي أن يتوجه إلى البلاد الشامية، مبشراً بولادة الأمير أحمد ابن السلطان، فسار من غده.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: أهل والسلطان ملازم الفراش، وقد تزايد ألمه، والأسعار مرتفعة، والخبز يعز وجوده بالأسواق أحياناً، لكثرة اختزان الغلال، طلباً للزيادة في أسعارها.
وفي خامسه: أفرج عن شمس الدين محمد الهروي، ونزل إلى داره في هيئة جميلة.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر بأن ابن السلطان حاصر قلعة نكدة سبعة وعشرين يوماً، إلى أن أخذها عنوة، في رابع عشر جمادى الأولى، وقبض على من فيها وقيدهم، وهم مائة وثلاثة عشر رجلاً، ثم توجه في سادس عشره إلى مدينة لارندة.
وفي سادس عشره: استدعى قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي - محتسب القاهرة - صدر الدين أحمد بن العجمي طلباً مزعجاً، لما بلغه أنه انتقص عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأوقفه بين يديه، وادعى عليه مدع أنه قال: وإيش هو عبد الله بن عباس بالنسبة إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فأمر به فسجن بالمدرسة الصالحية حتى تقام عليه البينة بذلك، وكان سبب هذا أن السلطان لما اشتد به المرض، أفتاه بعض الفقهاء أن يجمع بين كل صلاتين ما دام مريضاً، فلما فعل ذلك أنكره صدر الدين على مقتضى مذهبه، وهو المنع من الجمع بين الصلاتين في المرض والسفر، وقال للسلطان: مذهبك حنفي، ولا يجوز تقليدك غير مذهب أبي حنيفة، فناظره بعض من هناك على جواز الجمع، وأنه ثبت في صحيح مسلم وغيره، وقد ذهب عبد الله بن عباس إلى الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر، واختار طائفة من أهل العلم الجمع في حال المرض، فلم يحسن الرد، وقال في مسلم عدة أحاديث غير صحيحة، وأخذ في تفصيل أبي حنفية بما نسبوه فيه إلى غضه من ابن عباس وترجيح أبي حنيفة عليه، فشنعوا عليه ذلك، وقد حرك منهم أحقاداً في أنفسهم أنتجها جرأته وإقدامه، حتى رسم السلطان بإمضاء حكم الشرع فيه، فكان ما ذكر.
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان من القلعة، يريد النزول بدار ابن البارزي على النيل فلم يطق حركة الفرس لما به من الألم، فركب المحفة إلى البحر وحمل منها على الأعناق حتى وضع على فراشه، ونقل حرمه معه، ونزل الأمراء في عدة من دور الناس التي حوله، وصارت الطبلخاناه تدق هناك، وتمد الأسمطة، وتعمل الخدمة على ما جرت به العادة في القلعة، ولم نعهد بمصر نظير هذا.
وفي تاسع عشره: طلب صدر الدين المحتسب من الصالحية إلى بيت ابن الديري، ليعزره، فسار ماشياً ومعه من العامة خلائق لا يحصى عددها إلا الذي خلقها، وقد تعصبوا له، وجهروا بسب من يعاديه ويعانده، حتى دخل إلى بيت الديري، فأدبه بما اقتضاه رأيه من غير إقامة بينه عليه. ثم أفرج عنه، فترك الحكم، والنظر في أمر الحسبة إلى أن خلع عليه في ثالث عشرينه ببيت كاتب السر بين يدي السلطان، فسر الناس به سروراً كبيراً.
شهر رجب، أوله الثلاثاء:

أهل والسلطان في بيت ابن البارزي كاتب السر، وينتقل منه وهو محمول على الأعناق، تارة إلى الحمام التي بالحكر، وتارة حتى يوضع بالحراقة، ويسير فيها على النيل إلى رباط الآثار النبوية، ثم يحمل من الحراقة إلى الرباط، وتارة يسير فيها إلى القصر من بحر منبابة. وتارة يقيم بالحراقة وهي بوسط النيل نهاره.
ووافى أول مسرى، والنيل على عشر أذرع وستة عشر إصبعاً، والقمح من مائتين وخمسين درهماً الأردب إلى دونها، والشعير بمائة وثمانين الأردب فما دونها. والشعير والفول بمائة وسبعين وما دونها كل أردب.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر بأن ابن السلطان لما تسلم نكدة، استناب بها على باك ابن قرمان، ثم توجه بالعساكر إلى مدينة أركلي ومدينة لارندة في سادس عشر جمادى الأولى، فوصل إلى أركلي في ثامن عشره، ثم سار منها إلى لارندة فقدمها في ثامن عشرينه. وبعث الأمير يشبك اليوسفي نائب حلب، فأوقع بطائفة من التراكمين، وأخذ أغنامهم وجمالهم وخيولهم وموجودهم. وعاد فبعث الأمير ططر والأمير سودن القاضي نائب طرابلس، والأمير شاهين الزردكاش نائب حماة، والأمير مراد خجا نائب صفد، والأمير أينال الأزعري، والأمير جلبان رأس نوبة، وجماعة من التركمان، فكبسوا على محمد بن قرمان بجبال لارندة في ليلة الجمعة سادس جمادى الآخرة، ففر منهم وأخذ جميع ما في وطاقه من خيل وجمال وأغنام وأثقال، وعادوا. فتوجه يريد حلب في تاسعه، فجهز السلطان إليه ستة آلاف دينار ليفرقها على الأمراء، ويقيم بحلب لعمارة سورها.
وفي رابع عشره: تحول السلطان من بيت ابن البارزي إلى بيت نور الدين الخروبي التاجر بساحل الجيزة تجاه المقياس. وكان في مدة إقامته ببيت ابن البارزي قد أحضر الحراريق من ساحل مصر إلى ساحل بولاق، وزينت بأفخر زينة وأحسنها. وصار السلطان يركب في الحراقة الذهبية، وبقية الحراريق سائرة معه، مقلعة ومنحدرة، وتلعب بين يديه أحياناً. والناس على اختلاف طبقاتهم مجتمعون للتفرج، فلا ينكر على أحد منهم، ثم تقدم إلى المماليك السلطانية بلعب الرمح بكر الأيام على شاطئ النيل، وهو يشاهدها، ومع ذلك فإنه لا ينهض أن يقوم، بل يحمل على الأعناق، فمرت للناس ببولاق في تلك الأيام والليالي أوقات لم نسمع بمثلها. ولم يكن فيها - بحمد الله - شيء مما ينكر، كالخمور ونحوها، لإعراض السلطان عنها. فلما نزل بالخروبية أرست الحراريق بساحل مصر - كما هي عادتها - إلى أن كان يوم الوفاء، في سادس عشره، ركب السلطان من الخروبية في الحراقة على النيل إلى المقياس، ثم إلى الخليج، حتى فتح على العادة. وتوجه على فرسه في الموكب إلى القلعة، فكانت غيبته عنها في تنزهه ثلاثين يوماً. وبلغ مقدار ما حمله الأمير أبو بكر الأستادار إلى السلطان منذ باشر إلى آخر هذا الشهر مائة ألف دينار، وستة وعشرين ألف دينار، كلها من مظالم العباد، ما منها دينار إلا وتلف بأخذه عشرة، وتخرب بجبايته من أرض مصر ما يعجز القوم عن عمارته. ولو شاء ربك ما فعلوه.
وقدم الخبر بوصول ابن السلطان إلى حلب في ثالث رجب، وأن الأمير تنبك ميق العلائي نائب الشام واقع مصطفى بن محمد بن قرمان، وإبراهيم بن رمضان، على أذنه، فانهزما منه، وأن يشبك الدوادار - الفار من المدينة النبوية - أقام ببغداد، عند شاه محمد بن قرا يوسف، منذ قدم عليه، ثم فر منه ولحق بقرا يوسف، لما بينه وبين ابنه شاه محمد من التنكر.
وقدم الخبر من الإسكندرية بتجمع العامة في سادس عشرينه، وأنهم أخذوا السلاح والأحجار وكسروا للفرنج ثلثمائة بنية خمر، ثمنها عندهم أربعة آلاف دينار. ثم مالوا على جميع بيوتهم ومخازنهم، فأراقوا ما فيها من الخمر ونهبوها. وتعرضوا لنهب بيوت القزازين، وأراقوا ما وجدوا فيها من الخمر، فكان يوماً مشهوداً. ولم يعلم لهذه الفتنة سبب.
شهر شعبان. أوله الأربعاء.

في ثامنه: كان نوروز القبط. والنيل على ثمانية عشر ذراعاً تنقص إصبعا، فلما فتح بحر أبي المنجا، فقص النيل عشر أصابع. وارتفعت الأسعار فبلغ القمح ثلاثمائة درهم الأردب، وزاد سعر اللحم وغيره. وسببه قلة الغلال بالوجه القبلي من خسة وقوعها بعد حصادها، ثم كثرة قطاع الطريق في النيل وأخذهم المراكب الموسقة بالغلال ونحوها، مع كثرة ما حمل من الغلال إلى الحجاز، لشدة الغلاء به، وشره أهل الدولة وأتباعهم في الفوائد، واختزانهم الغلال طلبا للزيادة في أسعارها.
فلما كان يوم الخميس سادس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين بعد رد النقص، فسكن بعض قلق الناس، وتيسر وجود الأخباز بالأسواق.
وفي عشرينه: قدم الأمير التاج الشويكي من الشام. وفيه تزايد ألم السلطان، ولم يحمل إلى القصر، واستمر به المرض واشتد.
وفي ثالث عشرينه: خلع على الأمير التاج، واستقر أمير الحاج.
وفي خامس عشرينه: برز مرسوم السلطان ألا يصرف لأحد من غلمان البيوتات السلطانية، ولا غلمان الأمراء جراية من الخبز. ورسم لجميع مباشري الأمراء بذلك، فألتزموه. وكان يصرف قديماً مستمراً عادة لكل غلام رغيفان في اليوم. ورسم أيضاً أن تكون جامكية السايس على الفرسين ثلاثمائة درهم في الشهر، وجامكية على الفرسين والبغل ثلاثمائة وخمسين، من غير جراية خبز. وفيه ابتدأ نقص النيل، وهو ثامن عشر توت، وقد انتهت زيادته إلى ثمانية عشر ذراعاً ونصف.
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان سحراً ومعه الأمراء والمماليك، ووقف بهم تحت قبة النصر. وقد بعث أربعين فرساً إلى بركة الحجاج فأجريت منها، وأتته ضحى النهار، فعاد من موقفه بقبة النصر إلى تربة الظاهر برقوق، ووقف قريباً منها دون ساعة. ثم بعث المماليك والجنائب والشطفة إلى القلعة، وتوجه إلى خليج الزعفران، فنزل بخاصته، ثم عاد من آخر النهار إلى القلعة.
وفي سلخه: ركب أيضاً إلى بركة الحبش، وسابق بالهجن. ونظر في عليق الجمال، واستكثره، فرسم أن يصرف نصف عليقة لكل جمل.
وفي هذا الشهر: سرق الفرنج البنادقة من الإسكندرية رأس مرقص الإنجيلي - أحد من كتب الإنجيل - فغضب اليعاقبة من النصارى وأكبروا ذلك، وعدوه وهناً في دينهم. وذلك أنهم لا يولون بطركاً إلا ويمضي إلى الإسكندرية، وتوضع هذه الرأس في حجره، زعماً منهم أن البطركية لا تتم بدون ذلك، وقد اقتصصت في تاريخ مصر الكبير المقفي أخبار المرقص هذا، فانظره في حرف الميم، تجده.
شهر رمضان، أوله الخميس.
أهل هذا الشهر والناس في قلق، لنقص النيل قبل أوانه. وأسعار الغلال مرتفعة. والسلطان بحاله من المرض، إلا أنه تناقص. وقدم الخبر بأن ابن السلطان رحل من حلب في رابع عشرين شهر شعبان. وأن محمد بن قرمان، وولده مصطفى، وإبراهيم بن رمضان، وصلوا إلى قيسارية، في سادس عشر شعبان، وحصروا الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائبها، فقاتلهم، وكسرهم، ونهب ما معهم. وقتل مصطفى، وحملت رأسه، وقبض على أبيه محمد بن قرمان، فسجن. وقدم رأس مصطفى بن محمد بك بن قرمان إلى القاهرة في يوم الجمعة، سادس عشر شهر رمضان، وطيف به ثم علق على باب النصر. وكانت العادة أن تعلق الرءوس على باب زويلة. فلما أنشأ السلطان الملك المؤيد الجامع بجوار باب زويلة، منع من تعليق الرءوس هناك، فعلقت على باب النصر. ودقت البشائر عند قدوم الرأس. وكان من خبره أن الأمير ناصر الدين محمد بك بن علي بك بن قرمان، اقتتل مع الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب مدينة أبلستين، فكاده ابن دلغادر بأن تأخر عن بيوته، فنهبها أبن قرمان. فرد عليه ابن دلغادر، وقتل ابنه الأمير مصطفى، بعدما عورت عينه، ففر ناصر الدين إلى مغارة، ومعه بعض من يثق به، فدل عليه رجل نصراني. فأخذه ابن دلغادر وبعث به، وبرأس ابنه مصطفى. ومر إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن قرمان، إلى بلاده.
وفيه قدم الخبر بمسير ابن السلطان من حلب، وقدومه دمشق في خامسه.

وفي سابع عشرينه: ركب السلطان إلى لقاء ولده، وقد وصل قطيا. فاصطاد ببركة الحاج، ومضى إلى بلبيس. فقدم الخبر بنزول الابن الصالحية. فتقدم الأمراء وأهل الدولة، فوافوه بالخطارة. فلما عاين ابن البارزي كاتب السر، نزل له، وتعانقا. ولم ينزل لأحد من الأمراء غيره، لما يعلم من تمكنه عند أبيه. ثم عادوا معه إلى العكرشة، والسلطان على فرسه. فنزل الأمراء وقبلوا الأرض. ثم نزل المقام الصارمي، وقبل الأرض. ثم قام ومشى حتى قبل الركاب، فبكي السلطان من فرحه به، وبكي الناس لبكائه، فكانت ساعة عظيمة. ثم ساروا بموكبيهما إلى المنزلة من سرياقوس وباتا بها ليلة الخميس تاسع عشرينه. وتقدمت الآطلاب، والأثقال، وزين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقي، ناظر الخزانة. ودخلوا القاهرة. وركب السلطان آخر الليل، ورمي الطير بالبركة. فقدم الخبر بكرة يوم الخميس بوصول الأمير تنبك ميق نائب الشام. وكان قد طلب، فوافى ضحى، فركب في الموكب. ودخل السلطان من باب النصر، وشق القاهرة، وقد زينت، والأمراء قد لبسوا التشاريف الجليلة. وأركبوا الخيول المسومة بقماش الذهب والمقام الصارمي بتشريف عظيم، وخلفه الأسرى الذين أخذوا من قلعة نكدة وغيرها في الأغلال والقيود، وهم نحو المائتين، كلهم مشاة، إلا أربعة، فإنهم على خيول، منهم نائب نكدة، وثلاثة من أمراء ابن قرمان، وكلهم في الحديد. ومضى حتى صعد القلعة، فكان يوماً مشهوداً، أذن بانقضاء الأمر فإنها غاية لم ينلها أحد من ملوك مصر، وعند التناهي يقصر المتطلول.
شهر شوال، أوله السبت.
فيه صلى السلطان العيد بالقصر، لعجزه عن المضي إلى الجامع من شدة ألم رجله، وامتناعه من النهوض على قدميه. وصلى به وخطب قاضي القضاة جلال الدين البلقيني على عادته، ثم أنشد تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي - على عادته - قصيداً، أبدع فيها ما شاء.
وفي ثالثه: خلع على الأمير جقمق الدوادار، واستقر في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير تنبك ميق. وخلع الأمير مقبل الدوادار الثاني، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن جقمق. وأنعم بإقطاع جقمق وإمرته على الأمير تنبك ميق العلاي.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير قطلوبغا التنمي، أحد أمراء الألوف، واستقر في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير مراد خجا. ورسم بنفي مراد خجا إلى القدس. وأنعم بإقطاع التنمي على الأمير جلبان أمير أخور ثاني.
وفي سابع عشره: رحل الأمير جقمق سائراً إلى دمشق، بعدما خلفه كاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي على العادة، فأركبه فرساً بسرج ذهب وكنبوش ذهب، كما جرت به العادة.
وفي عشرينه: برز الأمير التاج بالمحمل إلى الريدانية ظاهر القاهرة، بعدما خلع عليه خلعة سنية. وتتابع خروج الحاج.
وفي يوم الجمعة حادي عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه، وقد هيئت المطاعم والمشارب، فمد سماط عظيم، وملئت البركة التي بصحنه سكراً قد أذيب بالماء، وأحضرت الحلاوات، لإجلاس قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي على سجادة مشيخة الصوفية، وتدريس الحنفية، وخطابة القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر. فعرض السلطان الفقهاء، وقرر منهم عند المدرسين السبعة من اختار، ثم أكل على السماط، وتناهبه الناس، وشربوا السكر المذاب، وأكلوا الحلوى. ثم استدعي الديري وألبس خلعة، واستقر في المشيخة وتدريس الحنفية. وجلس بالمحراب، والسلطان وولده عن يساره، والقضاة عن يمينه، ويليهم مشايخ العلم وأمراء الدولة، فألقى درساً تجاذب فيه أهل العلم أذيال المناظرة، حتى قرب وقت الصلاة، ثم انفضوا. فلما حان وقت الصلاة صعد ابن البارزي المنبر، وخطب خطبة من إنشائه، بلغ فيها الغاية من البلاغة، ثم نزل فصلى. فلما انقضت الصلاة، خلع عليه، واستقر في الخطابة، وخزانة الكتب. ثم ركب السلطان، وعدى النيل إلى الجيزة، فأقام إلى يوم الأحد ثالث عشرينه، وعاد إلى القلعة.
وفيه رحل ركب الحاج الأول من بركة الحاج، ورحل التاج بالمحمل من الغد.
وفيه سرح السلطان إلى ناحية شيبين القصر، وعاد إلى القلعة من الغد.
وقدم الخبر أن الغلاء اشتد بمكة، فعدمت بها الأقوات، وأكلت القطط والكلاب، حتى نفدت، فأكل بعض الناس الآدميين، وكثر الخوف منهم، حتى امتنع الكثير من البروز إلى ظاهر مكة خشية أن يؤكلوا.

شهر ذي القعدة، أوله الأحد: فيه ركب السلطان للصيد.
وفي ثالثه: سار الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي، والأمير طوغان أمير أخور للحج، على الرواحل.
وفي يوم الجمعة سادسه: خلع على زين الدين عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن التفهني، واستقر في وظيفة قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن شمس الدين محمد بن الديري، المستقر في مشيخة الجامع المؤيدي. وكان له من حادي عشرين شوال قد انجمع عن الحكم بين الناس ونوابه تقضي.
وفيه عدى السلطان النيل، يريد سرحة البحيرة. وجعل نائب الغيبة الأمير أينال الأزعري.
وفي هذا الشهر: تزايد سعر الغلال، فبلغ القمح إلى ثلاثمائة وخمسين درهماً الأردب، والشعير إلى مائتين وخمسين، والفول إلى مائتين وعشرة. وذلك أن فصل الخريف مضى ولم يقع مطر بالوجه البحري، فلم ينجب الزرع، وأتلفت الدودة كثيراً من البرسيم المزروع، حتى أنه تلف بها من ناحية طهرمس وقرية بجانبها ألف وستمائة فدان. وتلف بعض القمح أيضاً. هذا وقد شمل الخراب قرى أرض مصر. ومع ذلك فالأحوال متوقفة، والأسواق كاسدة، والمكاسب قليلة، والشكاية عامة، لا تكاد تجد أحداً إلا ويشكو سوء زمانه. وقد فشت الأمراض من الحميات، وبلغ عدد من يرد الديوان من الأموات نحو الثلاثين في اليوم. والظلم كثير، لا يتركه إلا من عجز عنه. والعمل بمعاصي الله مستمر. ولله عاقبة الأمور.
وفي هذا الشهر: قدم مهنا بن عيسى، وولي إمرة جرم، عوضاً عن علي بن أبي بكر بعد قتله. وعاد إلى أرضه. وكان لبسه من المخيم السلطاني.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: أهل والسلطان بعسكره نازل على تروجة. وفيه منع صدر الدين بن العجمي محتسب القاهرة النساء من عبور الجامع الحاكمي والمرور فيه. وألزم الناس كافة ألا يمروا فيه بنعالهم، فامتثل ذلك، واستمره وتطهر المسجد - ولله الحمد - من قبائح كانت به بين النساء والرجال، ومن لعب الصبيان فيه، بحيث كان لا يشبه المساجد، فصانه الله بهذا ورفعه.
وفي خامسه: وردت هدية الأمير علي باك بن قرمان - نائب السلطنة بنكدة ولارندة ولؤلؤة. وقدم الخبر بقبض الأمير جقمق نائب الشام على نكباي الحاجب بدمشق، واعتقاله. وانتهى السلطان في مسيره إلى مريوط. وعاد فأدركه الأضحى بمنزلة الطرانة. وصلى به العيد وخطب ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر. وارتحل من الغد، فنزل منبابة بكرة الأحد ثالث عشره. وعدى النيل من الغد إلى بيت كاتب السر المطل على النيل، وبات به. ودخل الحمام التي أنشأها كاتب السر إلى جانب داره، وهي بديعة الزي. ثم عاد في يوم الاثنين رابع عشره إلى القلعة، وخلع على الأمراء والمباشرين خلعهم على العادة.
وفي ثامن عشره: قرئ تقليد قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي بالجامع المؤيدي، على ما استقر عليه الحال. وحضر عنده القضاة والأعيان على العادة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: صلى السلطان الجمعة بالجامع المؤيدي، وخطب به كاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي، وصلى. ثم أكل طعاماً أعده له شيخ الشيوخ شمس الدين محمد الديري وركب إلى الصيد، وفي سابع عشرينه: وصل الأمير بكتمر السعدي، وقد قدم بالأمير شمس الدين محمد باك بن الأمير علاء الدين على باك بن قرمان، صاحب قيسارية وقونية ونكدة ولارندة، وغيرها من البلاد القرمانية، وهو مقيد، محتفظ به، فأنزل في دار الأمير مقبل الدوادار، ووكل به.
وفي هذا الشهر: زلزلت مدينة اصطنبول، وعدة مواضع هناك، حتى كثر اضطراب البحر، وتزايد تزايداً غير المعهود.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالأمير سيف الدين كزل الأرغون شاوي، نائب الكرك، بعدما عزل، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة بدمشق. فمات في خامس عشرين المحرم قبل توجهه من مرض طال به مدة.

ومات الأمير شرف الدين يحيى بن بركة بن محمد بن لاقي الدمشقي، في يوم الأربعاء حادي عشر صفر، قريباً من غزة، فحمل ودفن بغزة، يوم الجمعة ثالث عشره. وكان أبوه من أمراء دمشق، ونشأ بها في نعمة، وصار من أمرائها. وقدم القاهرة مراراً، آخرها في خدمة السلطان الملك المؤيد، وصار من أعيان الدولة بالقاهرة. واستقر مهمنداراً، وأستادار النواحي التي أفردها السلطان لعمل غذائه وعشائه. فعرف بأستادار الحلال إلى أن تنكر عليه الأمير جقمق الدوادار، بسبب كلام نقله عنه للسلطان لبين الأمر بخلافه، فرسم السلطان بنفيه من القاهرة، وولي الأمير خرز مهمندار عوضه، وأخرج من القاهرة على حمار، فمات - كما ذكر - غريباً طريداً.
ومات إبراهيم بن خليل بن علوة، برهان الدين بن غرس الدين الإسكندري، رئيس الأطباء، ابن رئيسها، في يوم الاثنين آخر صفر، وكان عارفاً بالطب.
ومات الشيخ محمد بن محمود الصوفي، أحد طلبة الحنفية وفضلائهم، في ثامن عشرين شهر ربيع الأول. وكان لا يكترث بملبس ولا زي، بل يطرح التكلف، ومتهم بحشيشة الفقراء.
ومات أخي، ناصر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محيي الدين عبد القادر بن محمد بن إبراهيم المقريزي، يوم السبت ثالث شهر ربيع الآخر. ومولده يوم الأحد ثالث جمادى الآخرة، سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد ابن كاتب السر ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن البارزي الحموي. يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر، وصلى عليه السلطان.
ومات مجد الدين فضل الله بن الوزير فخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، في يوم الأحد خامس عشرين ربيع الآخر. ومولده في رابع عشر شهر شعبان سنة سبع - أو تسع - وستين وسبعمائة، على الشك منه. وكان يقول الشعر ويترسل، كتب في الإنشاء مدة.
ومات الخواجا نظام الدين مسعود بن محمود الكججاني العجمي، ناظر الأوقاف، في يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الأولى، وكان قدم إلى دمشق في زي فقراء العجم المتصوفة، وأقام بها، وصار يلي المدرسة الكججانية التي بالشرف الأعلى، خارج دمشق. فلما قدمها الطاغية تيمورلنك اتصل به، فبعثه في الرسالة إلى القاهرة، وعاد إليه، وقد أثرى وحسنت حاله، فلم يجد منه إقبالاً، وتنكر له، فعاد إلى دمشق، وتوجه إلى بلاد الروم، واتصل بالأمير محمد باك بن قرمان، وأقام عنده. ثم قدم القاهرة في الأيام المؤيدية. واتصل بالسلطان، فولاه نظر الأوقاف في سنة إحدى وعشرين، وقد تزيا بزي الأجناد، وصار يخاطب بالأمير، فساءت سيرته، وقبحت الأحدوثة عنه، بأخذه الأموال، حتى ولي الهروي القضاء أخذ منه مالاً، وكف يده عن الأوقاف، فشق عليه ذلك، وأطلق لسانه في الهروي، ورماه بعظائم. ووضع منه بعد ما كان مبالغ في إطرائه، ويتجاوز الحد في تعظيمه. ومات على ذلك، بعد مرض طويل.
ومات عز الدين عبد العزيز بن أبي بكر بن مظفر بن نصير البلقيني، أحد خلفاء الحكم بالقاهرة، في يوم الجمعة ثالث عشرين جمادى الأولى. كان فقيهاً شافعياً. عارفاً بالفقه والأصول والعربية، رضى الخلق، ناب في الحكم من سنة إحدى وتسعين وسبع مائة.
ومات علي بن أمير جرم، ببلاد المقدس، في وقعة بينه وبين محمد بن عبد القادر شيخ جبل نابلس، في رابع عشر شوال. وكان كثير الفساد.
وقتل أيضاً صدقة بن رمضان، أحد أمراء التركمان، قريباً من سيس، في شوال.
وقتل بالقاهرة محمد بن بشارة، شيخ جبال صفد، في يوم السبت آخر شوال.
ومات الأمير سودن القاضي، نائب طرابلس، في رابع عشر ذي القعدة، ومات الأمير أبو المعالي محمد ابن السلطان، في عاشر ذي الحجة. ودفن بالجامع المؤيدي.
ومات خصر بن موسى، شيخ عربان البحيرة، في يوم عيد الفطر. وسطه الأمير طوغان التاجي نائب البحيرة.
ومات أحمد بن بدر شيخ عربان البحيرة، في تاسع شعبان.
ومات بالنحريرية الشيخ المعتقد أبو الحسن علي بن محمد ابن الشيخ كمال الدين عبد الوهاب، في المحرم.
//سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة

أهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحجاز والروم، السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، والأمير الكبير ألطنبغا القرمشي. وأتابك العساكر المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان. وأمير أخور الأمير طوغان. والدوادار الأمير مقبل، من أمراء الطبلخاناه. وأمير سلاح الأمير قجقار القردمي. وأمير مجلس الأمير ططر. ورأس نوبة الأمير ألطنبغا من عبد الواحد، المعروف بالصغير، وحاجب الحجاب الأمير ألطنبغا المرقبي. ونائب الشام الأمير جقمق. ونائب حلب الأمير يشبك اليوسفي. ونائب حماة الأمير شاهين الزرد كاش. ونائب صفد الأمير قطلوبغا التنمي. ونائب غزة الأمير أينال السيفي نوروز. ونائب الأبلستين وقيسارية الروم ونكدة ولارندة ولؤلؤة الأمير على باك بن قرمان. ونائب سيس الأمير بردبك العجمي.
ونائب طرسوس الأمير بيكي باك التركماني، ونائب أياس الأمير في درمش. ونائب دوركي ناصر الدين محمد بن شهري. ونائب مالطية الأمير منكلى بغا الأرغن شاوي. ونائب كختا الأمير أكزل بغا. ونائب قلعة الروم الأمير أق فجا. ونائب البيرة الأمير ألطنبغا الصفوي. ونائب الرها الأمير طور علي ابن الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرايلك. ونائب جعبر الأمير عمر الجعبري. ونائب الرحبة الأمير أرغون شاه الشرفي. وأمير مكة المشرفة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزيز بن هيازع. وأمير ينبع الشريف مقبل بن نخبار الحسني. ونائب الإسكندرية الأمير ناصر الدين محمد بن العطار.
شهر الله المحرم، أوله الأربعاء: أهل والسلطان في الصيد، فقدم إلى القلعة. وجلس من الغد - يوم الخميس - بالإيوان المعروف بدار العدل. وحضر الأمراء والقضاة وسائر أرباب الدولة. وأوقفت العساكر من المماليك السلطانية. وأجناد الحلقة، والنقباء، والأوجاقية، صفوفاً من تحت القلعة إلى باب الإيوان. وأحضر بالأمير محمد بن قرمان - وهو مقيد - ومعه داود بن دلغادر، فمرا في العساكر، ثم في الطبردارية، والسلاح دارية، وبأيديهم السلاح، حتى دخلا، فمثلاً قائمين بين يدي السلطان، وقد جلس على تخت الملك. فأمر بإيقاف الأمير دواوين بن دلغادر مع الأمراء، وتأخير ابن قرمان. ثم نهض السلطان قائماً إلى القصر، وأحضر ابن قرمان وأنعم على داود، وأركب هو ومملوك أبيه قانباي بالقماش الذهب. ورتب له ما يليق به. ثم أمر بابن قرمان فجلس، ولامه السلطان على تعرضه لطرسوس، وشرهه لما أوجب وقوعه في الأسر. ووبخه على قبيح سيرته، وتعرضه لأخذ أموال رعيته، وعلى خيانته لكرشجي بن عثمان متملك برصا، وإحراقه بعض بلاده، بعد ما من عليه وأطلقه. فسأل العفو. ثم قال: لمن يعطي مولانا السلطان البلاد؟ فضحك منه، وقال له: وما أنت والبلاد؟. ثم أمر به فأخرج إلى الاعتقال، فسجن بالقلعة. وأمر السلطان بأن يكتب ابن قرمان إلى نوابه بالبلاد القرمانية أن يسلموا ما بقى بأيديهم منها إلى نواب السلطان، وأعلم أنهم متى لم يسلموا ما قد بقي بأيديهم منها إلى نواب السلطان وإلا قتل، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة.
وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بأن الوقفة بعرفة كانت يوم الأربعاء بخلاف ما كانت بمصر. وأخبروا بأن حاج العراق لم يأتوا. وأن الغلاء شديد بمكة، وأن الغرارة القمح أبيعت بخمسة وعشرين ديناراً، وهي سبع ويبات مصرية. ثم انحطت لما قدم الحاج إلى عشر دينارا. وأن السمن والعسل واللحم في غاية القلة، لعدم المطر. وأن مسجدي مكة والمدينة قد تشعثا، ويخاف خرابهما. وأن الجانب الشامي من الكعبة قد آل إلى السقوط.
وفي ثالثه: قدم الأميران ألطنبغا القرمشي وطوغان أمير أخور كبير من الحجاز، فكانت مدة غيبتهما تسعة وخمسين يوماً.
وفي رابعه: ركب السلطان للصيد، وعاد من يومه.
وقدم على بار - أحد الأمراء الأينالية من التركمان - فأكرمه السلطان، وأنعم عليه. وجهز الأمير قجقار القردمي رسولا إلى ابن عثمان متملك برصا، وعلى يده كتاب يتضمن القبض على ابن قرمان واعتقاله.

وفيه استقر الأمير شاهين الزردكاش نائب حماة في نيابة طرابلس. واستقر في نيابة حماة عوضه الأمير أينال السيفي نائب غزة. واستقر عوضه في نيابة غزة الأمير أركماس الجلباني أحد الأمراء مقدمي الألوف بديار مصر. وأفرج عن الأمير نكباي من سجنه بقلعة دمشق، واستقر في نيابة طرسوس، وإحضار نائبها الأمير تاني بك إلى حلب.
واستقر الأمير خليل الجشاري أحد أمراء الألوف بدمشق في الحجوبية بدمشق، عوضاً عن نكباي المذكور. واستقر الأمير سنقر المؤيدي نائب قلعة دمشق في الحجوبية بطرابلس، عوضاً عن الأمير سودن بن علي شاه بعد وفاته. واستقر الأمير كمشبغا التنمي في نيابة قلعة دمشق. واستقر الأمير أقبغا الأسندمري - الذي كان نائب سيس وحمص - حاجباً بحماة، وكان بطالاً بالقدس، عوضاً عن الأمير سودن السيفي علان، بحكم عزله واعتقاله .
وفي سادس عشره: نقل عز الدين عبد العزيز البغدادي من تدريس الحنابلة بالجامع المؤيدي إلى قضاء الحنابلة بدمشق، واستقر عوضه في التدريس محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، وخلع عليهما.
وفي عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج. وقدم الأمير التاج بالمحمل من الغد. وكتب بالإفراج عن الأمير برسباي الدقماقي الظاهري من قلعة المرقب، واستقراره في جملة الأمراء الألوف بدمشق.
وفي هدا الشهر: أغاث الله الزروع في الوجه البحري، وأسقاها، فأخصبت بعد ما كانت جافة، فانحل السعر قليلاً.
وفيه عز وجود القمح بالوجه القبلي، وبلغ الأردب المصري إلى دينارين، واقتاتوا بالذرة، وأكثروا من زراعتها، لسوء حالهم، وبوار أرضهم، وخراب قراهم، وقلة المواشي عندهم، حتى لقد صار اللبن عندهم طرفة من الطرف، فسبحان مزيل النعم.
وفيه قدم الخبر بفتنة كانت في شهر رمضان ببلاد اليمن، ثار فيها حسين بن الأشرف على أخيه الناصر أحمد، وأنه عم بلاد اليمن جراد عظيم، أهلك زروعهم، فاشتد الغلاء عندهم.
وفيه انتقض على السلطان ألم رجله، وتزايد، فلزم فراشه.
شهر صفر، أوله الخميس: فيه عدى السلطان النيل، ونزل بناحية أوسيم على العادة في كل سنة، فقدم عليه بها في ثامنه رسول الأمير على باك بن قرمان، نائب لارندة، ونكدة، وقوينا، ومعه هدية وكتاب، يتضمن أنه أخذ مدينة قونيا، وأقام فيها الخطبة باسم السلطان، وضرب الصكة المؤيدية، وأنه محاصر قلعتها.
وفي عشرينه: عدى السلطان النيل عائداً من سرحة أوسيم، فنزل في بيت كاتب السر على النيل، وبات به، وعمل الوقيد في ليلة الخميس ثاني عشرينه على ما تقدم. وأكثر فيه من النفط وإشعال النيران، فكانت ليلة مشهودة. وركب بكرة الخميس إلى القلعة. فقدم بالخبر بأن عذراً بن علي بن نعير بن حيار احتال حتى قبض الأمير أرغون شاه نائب الرحبة، وحمل إلى عانة. وأن قرا يوسف نادى في عسكره بالتأهب إلى المسير للشام.
وفي سادس عشرينه: نزل السلطان إلى بيت الأمير أبو بكر الأستادار، يعوده وقد مرض، فقدم له تقدمة سنية.
وفي ثامن عشرينه: عملت خدمة الإيوان بدار العدل، وأحضر برسل الأمير محمد كرجي بن عثمان صاحب برصا وهديته.
وفيه سخط السلطان على صدر الدين بن العجمي المحتسب، لكلام نقل له عنه، فأخرجه من القاهرة إلى صفد، وكتب لوقيعه بكتابة السر بها، فخرج بعد الظهر، ونزل بتربة خارج باب النصر، ثم سار في يوم الجمعة آخره، وقد أزعج إزعاجاً غير لائق.
شهر ربيع الأول، أوله السبت:

فيه أمر السلطان برد صدر الدين بن العجمي فأعيد إلى القاهرة، وأنزل عند الأمير مقبل الدوادار إلى يوم الاثنين ثالثه، أصعد إلى القلعة، فرسم له بخلعة، فلبسها، واستقر في كتابة سر صفد. ونزل إلى بيت الأمير مقبل الدوادار، فشفع فيه ألطنبغا الصغير رأس نوبة، فقبل السلطان شفاعته. واستمر في حسبة القاهرة على عادته، ففرح الناس به فرحاً كبيراً لمحبتهم إياه، وبالغوا في إظهار السرور به، وكان السلطان قد تنكر على كاتب السر من أجل إخراج ابن العجمي من القاهرة بغير خلعة، ولم يمهله حتى يأخذ عياله معه. وبالغ في الإنكار عليه بسبب ذلك، وأسعه مكروهاً كبيراً، فنزل في يوم السبت إلى داره. وكانت عادته دائماً أن يبيت ليلة الأحد وليلة الأربعاء عند السلطان، فأشيع عزله، وركب الأعيان إليه يتزعمون له. فلما كان يوم الاثنين المذكور، ركب إلى القلعة، وباشر وظيفة كتابة السر، ونزل وفي ظنه أن ابن العجمي إنما لبس خلعة بكتابة سر صفد. فعندما رأى حوانيت الباعة بالقاهرة وقد أشعلوا الحوانيت بالقناديل والشموع فيمر ابن العجمي بخلعته عليهم، فرحا بأنه قد عاد إلى الحسبة، غضب ابن البارزي من ذلك، وأسمعهم مكروهاً. ومالت مماليكه على القناديل، فكسروا بعضها، وسبوا ولعنوا. فما كاد ابن البارزي يصل إلى بيته حتى شفع الأمير ألطنبغا الصغير في ابن العجمي، واستقر في الحسبة، وشق القاهرة وعليه الخلعة، فتزايد كلام الغوغاء في ابن البارزي، وجهروا مما يقبح ذكره.
وفي يوم الثلاثاء رابعه: قدم شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد بن الفنري الحنفي قاضي مملكة الأمير محمد كرشجي بن عثمان ببلاد الروم. وكان قد قدم دمشق في السنة الماضية، يريد الحج. فلما حج وعاد استدعاه السلطان ليستفهم منه أحوال البلاد الرومية، فتمثل بين يدي السلطان، فأكرمه وأنزله عند القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة، وأجريت عليه الإنعامات. وأمر أهل الدولة بإكرامه، فبعثوا إليه ما يليق به من الهدايا.
وفي خامسه: ركب الأمير أبو بكر الأستادار إلى السلطان، وهو في شدة المرض بحيث لا يستطع القيام، ومعه خيول وسلاح وغير ذلك، مما تبلغ قيمته نحو ثلاثين ألف دينار، فخلع عليه، ونزل وقد اشتد به مرضه، فمات بعد أربعة أيام.
وفي سادسه: خلع على ابن البارزي كاملية صوف بفرو سمور خلعة الرضا.
وفي ليلة الجمعة سابعه: عمل المولد النبوي عند السلطان على عادته. وحضر الأمراء والقضاة ومشايخ العلم وأهل الدولة، ورسل ابن عثمان، وابن الفنري، وكان وقتاً جليلاً.
وفي يوم الجمعة: أعيد داود ابن الأمير ناصر الدين محمد بك بن دلغادر بهدية إلى أبيه، وقصاد على باك بن قرمان، ومعهم فرس بقماش ذهب، وعدة تعابي في ثياب سكندري، وغيرها. وتوجه معه محمود العينتابي ناظر الأحباس، لتحليف نواب قلاع البلاد القرمانية وبلادها. وكتب إلى نواب الممالك، وإلى العربان والتراكمين، بالتهيؤ إلى ملاقاة السلطان، فإنه عزم على المسير لحرب قرا يوسف. وسبب ذلك قدوم كتاب قرا يوسف يتضمن أن السلطان يجهز إليه الجواهر - التي أخذها منه وهو مسجون بدمشق - كما هي، وإلا سار إليه وخرب البلاد وأخذها.
وفي عاشره: توجه شمس الدين محمد الهروي إلى القدس، على ما كان عليه من تدريس الصلاحية فقط، دون نظر القدس والخليل.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: خلع على الأمير يشبك أينالي المؤيدي، واستقر في الأستادارية، عوضاً عن الأمير أبي بكر بعد وفاته، وكان قد استقر قبلها في كشف الجسور بالغربية، وعزل عنها، وخلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله خلعة الاستمرار في الوزارة ونظر الخاص.
وفي سابع عشره: أضيف إلى صاحب بدر الدين بن نصر الله أستادارية المقام العالي الصارمي إبراهيم ابن السلطان، وخلع عليه عوضاً عن الأمير أبي بكر المتوفي. وأنعم على ولده الأمير صلاح الدين محمد الحاجب بإمرة طبلخاناه.
وفي ثاني عشرينه: سافر ابن الفنري قاضي الروم بلاده، بعد ما ألقى عدة دروس في الفقه والأصول بالجامع الباسطي من القاهرة، وجهزه السلطان وأهل الدولة جهازاً جليلاً، فسار بتجمل كبير.
وفي رابع عشرينه: قدم قاصد الأمير شاه رخ أمير زه بن تيمورلنك.

وفي سابع عشرينه: نزل السلطان إلى جامعة بجوار باب زويلة، وحضر دروس المشياخ كلهم، فكان يجلس في كل حلقة قليلاً، والمدرس يلقى درسه. ثم يقوم إلى الحلقة الأخرى، حتى طاف الحلق السبع، وعاد إلى القلعة.
وفي هذا الشهر: عزم السلطان على السفر لقتال قرا يوسف. وأخذ في الأهبة لذلك، وأمر الأمراء به فشرعوا في ذلك.
شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين: فيه وقع الشروع في بناء منظرة على الخمس وجوه بجوار التاج خارج القاهرة ، لينشئ السلطان حولها بستاناً جليلاً، ويجعل ذلك عوضاً عن قصور سريا قوس، ويسرح إليها كما كانت سرحة سريا قوس.
وفي خامسه: سافر قاضي القضاة علاء الدين علي بن مغلي الحنبلي إلى مدينته لينظر في أحواله، واستخلف على قضاء القضاة بعض ثقاته.
وفي ثالث عشره: ابتدأ بالسلطان ألم تجدد له من حبس الإراقة، مع ما يعتريه من ألم رجله.
وفي سابع عشره: صرف الصاحب بدر الدين بن نصر الله من أستادارية ابن السلطان. وأقيم بدله جمال الدين يوسف بن خضر بن صاروجا المعروف بالحجازي، وأصله من الأكراد، وقدم القاهرة، وترقى حتى عمل أستادارية الأمراء في الأيام الناصرية فرج. وتمكن عند الأمير طوغان الحسني الدوادار تمكناً زائداً، فعظم قدره. ثم لما قبض على طوغان فر إلى مكة، وأقام بها مدة. ثم حضر إلى القاهرة وباشر الدواليب السلطانية بالوجه القبلي زماناً، فنكبه الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج، وعاقبه وصادره، ثم أفرج عنه فلزم داره حتى الأمير أبو بكر الأستادار، سعى جمال الدين يوسف في الأستادارية، فأخرق به الصاحب بدر الدين بن نصر الله، وأراد القبض عليه، فلم يمكنه السلطان منه، وعنى به، ثم ولاه بعد ذلك أستادارية ولده.
وفي ثاني عشرينه: اشتد بالسلطان الألم وتزايد به إلى يوم الأربعاء رابع عشرينه، نودي في القاهرة بإبطال مكس الفاكهة البلدية والمجلوبة، وهو في كل سنة نحو ستة آلاف دينار سوى ما يأخذه القبط الكنبة والأعوان - ويقارب ذلك - فبطل، ونقش ذلك على باب الجامع المؤيدي.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بالإسكندرية والبحيرة، وكثر الإرجاف بحركة قرا يوسف إلى جهة البلاد الشامية.
شهر جمادى الأولى، أوله الأربعاء: وفي ثانيه: ركب السلطان - وقد أبل من مرضه - إلى خارج القاهرة وعبر من باب النصر، وقد زينت المدينة فرحاً بعافيته، وأشعلت الشموع والقناديل، فمر إلى القلعة.
وفي هذه الأيام: مرض المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان، فركب في يوم الثلاثاء رابع عشره من القلعة في محفة، لعجزه عن ركوب الفرس، ونزل إلى بيت زين الدين عبد الباسط المطل على البحر، وأقام به. ثم ركب النيل في غده إلى الخروبية بالجيزة وأقام بها: وقد تزايد مرضه.
وفي ثان عشرينه: ركب السلطان إلى الخمس وجوه، فشاهد ما عمل هناك ورتب ما اقتضاه نظره من كيفية البناء، وعاد إلى بيت صلاح الدين خليل بن الكوب ناظر الديوان المفرد، المطل على بركة الرطلي خارج باب الشعرية، فأقام عنده نهاره وعاد من آخره إلى القلعة، وقدم له ابن الكويز تقدمة تليق به سوى ما أعده له من المآكل والمشارب.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: خلع على الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي شيخ الخانكاة الناصرية فرج، بتربة أبيه الظاهر برقوق خارج باب النصر، واستقر قاضي القضاة المالكية بالقاهرة ومصر، بعد وفاة جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي، فاقتصر من نواب الحكم على أربعة، ثم زادهم بعد ذلك.
وفي يوم الأربعاء آخره: نزل السلطان إلى الميدان الكبير الناصري. بموردة الجبس. وكان قد خرب وأهمل أمره، منذ أبطل السلطان الملك الظاهر برقوق الركوب إلي ولعب الكرة فيه، وتشعثت قصوره وجدرانه، وصار منزلاً لركب المغاربة الحجاج فرسم السلطان لصاحب بدر الدين بن نصر الله بعمارته في هذا الشهر، فعمره أحسن عمارة. فعندما شاهده السلطان أعجب به، ومضى منه إلى بيت ابن البارزي كاتب السر المطل على النيل، ونزل به، وقد تحول المقام الصارمي من الحروبية بالجيزة إلى المنظرة الحجازية، وهو بحاله من المرض، فزاره السلطان غير مرة، وأنزل بالحريم إلى بيت كاتب السر، فأقاموا به عنده.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة:

فيه صلى السلطان الجمعة بجامع ابن البارزي، الذي جدد عمارته، تجاه بيته. وكان يعرف قبل ذلك بجامع الأسيوطي. وخطب به وصلى شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وركب من الغد إلى الميدان، فعمل به الخدمة، وتوجه إلى القلعة.
وفيه نودي أن لا يتحدث في الأمور الشرعية إلا القضاة، ولا يشكو أحد غريمه على دين لأحد من الحجاب. وسبب ذلك أن القاضي زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي رفع على رجل في مجلسه من أجل دين لزمه، فاحتمى ببيت الأمير ألطنبغا المرقبي - حاجب الحجاب - وامتنع عن الحضور إلى بيت القاضي. وضرب الحاجب رسوله ضرباً مبرحاً. فلما أعلم القاضي بهذا السلطان، أنكر على المرقبي. ووبخه على ما فعل ونادى. مما تقدم ذكره؛ فسعى الأمراء في نقض ذلك حتى نودي في يوم الاثنين رابعه - بعد يومين - بعود الحكم إلى الحجاب، وضرب من جهر بالنداء.
وفي سادسه: نزل السلطان إلى بيت كاتب السر على النيل، وأقام به.
وفي سابعه: أخذ قاع النيل، فكان ثلاثة أذرع سواء، ونودي عليه من الغد.
وفي يوم السبت تاسعه: ركب السلطان إلى الميدان وعمل به الخدمة، وصعد إلى القلعة.
وفي حادي عشره: ضرب الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي والي القاهرة بالمقارع، بين يدي السلطان. ونزل وهو عاري البدن على حمار إلى بيت شاد الدواوين، ليستخلص منه مالاً. وخلع على ناصر الدين محمد بن أمير أخور واستقر والي القاهرة ومصر وقليوب.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشره: حمل المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان على الأكتاف من الحجازية إلى القلعة، لعجزه عن ركوب المحفة، فمات ليلة الجمعة خامس عشره. ودفن من الغد باب مع المؤيدي. وشهد السلطان دفنه، مع عدم نهضته للقيام، وإنما يحمل على الأكتاف حتى يركب، ثم يحمل حتى ينزل، وأقام السلطان بالجامع إلى أن صلى الجمعة، فصلى به ابن البارزي، وخطب خطة بليغة. ثم عاد إلى القلعة. وأقام القراء يقرأون القرآن على قبره سبع ليال.
وفي ثامن عشره: توقف النيل عن الزيادة، وتمادى على ذلك أياماً. فارتفع سعر الغلال، وأمسك أربابها أيديهم عن بيعها، وكثر قلق الناس، ثم نودي فيهم أن يتركوا العمل. بمعاصي الله، وأن يلتزموا الخير. ثم نودي في ثاني عشرينه أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرجوا إلى الصحراء، فأصبح كثير من الناس صائماً، وصام السلطان أيضاً. فنودي بزيادة إصبع مما نقصه، ثم نودي من يوم الأحد غده أن يخرجوا غداً إلى الجبل وهم صائمون، فبكر في يوم الاثنين خامس عشرينه شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وسار من منزله راكباً بثياب جلوسه في طائفة، حتى جلس عند فم الوادي، قريباً من قبة النصر، وقد نصب هناك منبر، فقرأ سورة الأنعام، وأقبل الناس أفواجاً من كل جهة، حتى كثر الجمع، ومضى من شروق الشمس نحو ساعتين أقبل السلطان. بمفرده على فرس، وقد تزيا بزي أهل التصوف، فاعتم. بمئزر صوف لطيف، ولبس ثوب صوف أبيض، وعلى عنقه شملة صوف مرخاة، وليس في سرجه - ولا شيء من قماش فرسه - ذهب ولا حرير، فأنزل عن الفرس، وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجادة، مما يلي يسار المنبر، فصلى قاضي القضاة جلال الدين ركعتين كهيئة صلاة العيد، والناس من ورائه يصلون بصلاته. ثم رقي المنبر، فخطب خطبتين، حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار، وأعمال البر، وفعل الخير، وحذرهم، ونهاهم. وتحول فوق المنبر فاستقبل القبلة، ودعا فأطال الدعاء، والسلطان في ذلك يبكي وينتحب، وقد باشر في سجوده التراب بجهته. فلما انقضت الخطبة انفض الناس، وركب السلطان فرسه، وسار والعامة محيطة به من أربع جهاته، يدعون له، حتى صعد القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وجمعًا موفورًا.
وفي مشاهدة جبار الأرض على ما وصفت، ما تخشع منه القلوب، ويرجى رحمة جبار السماء، سبحانه. ومن أحسن ما نقل عنه في هذا اليوم. أن بعض العامة دعا له، حالة الاستسقاء أن ينصره الله، فقال: اسألوا فإنما أنا واحد منكم،. فلله دره، لو كان قد أيد بوزر أصدق وبطانة خير، لما قصر عن الأفعال الجميلة بل إنما اقترن به فاجر جريء، أو خب شقي.
وفي غده، يوم الثلاثاء: نودي على النيل بزيادته اثني عشر إصبعا، بعدما رد

النقص وهو قريب من سبع وعشرين إصبعاً، فتباشر الناس باستجابة دعائهم، ورجوا رحمة الله وقدم الخبر بنزول قرا يوسف على بغداد، وقد عصاه ولده شاه محمد فحاصره ثلاثة أيام، حتى خرج إليه، فأمسكه واستصفى أمواله، وولى عوضه ابنه أصبهان أمير زاة ثم عاد إلى تبريز لحركة شاه رخ بن تمرلنك عليه.
وفي تاسع عشرينه: خلع على الأمير مقبل الدوادار، والقاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، بنظر الجامع المؤيدي، فنزلا إليه، وتفقدا أحواله.
شهر رجب، أوله السبت: في ثالث عشره: أدير محمل الحاج على عادته، وفي نصفه: استدعى السلطان بخلعة لكاتب سر صفد، وبعثها إلى الأمير مقبل الدوادار، وأمر أن يطلب صدر الدين أحمد بن العجمي محتسب القاهرة إلى داره، ويلبسه الخلعة، ويخرجه إلى صفد، فأحضره في الحال، وألبسه الخلعة، وأمره بالتوجه من القاهرة إلى صفد، فتوجه إلى داره، وانجمع عن التحدث في الحسبة، وأخذ يسعى في الإقامة في القاهرة بطالاً. فرسم السلطان أن يخرج إلى القدس بطالا، فسار في يوم الثلاثاء ثامن عشره.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: نزل السلطان إلى بيت كاتب السر المطل على النيل، ليقيم به على عادته، ونزل الأمراء بالدور من حوله. وصارت الخدمة تعمل هناك.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: سبح السلطان في النيل مع خاصته، من بيت كاتب السر إلى منية السيرج، ثم عاد في الحراقة، وكثر التعجب من قوة سبحه مع زمانة رجله، وعجزه عن القيام، لكنه يحمل على الأكتاف، ويمشي به، أو يوضع على ظهر الفرس، ثم يحمل، وينزل عنها. ولما أراد السباحة أقعد في تخت من خشب، وأرخي من أعلا الدار بحبال إلى الماء، فلما عاد رفع به في التخت كذلك، حتى جلس على مرتبته. فنودي من الغد يوم الخميس، بزيادة ثلاثين إصبعاً، و لم يزد في هذه السنة مثلها جملة، فتيامن الناس بعوم السلطان، وعدوا ذلك من حملة سعادته. ومن صحة عقيدته أنه لما بلغه قول العوام أن النيل زاد هذه الزيادة البالغة لكونه سبح فيه، فقال: لو علمت أن ذلك يقع لما سبحت فيه، لئلا يضل العوام بذلك.
وفي عشرينه: خلع على صارم الدين إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام الصقري بوظيفة حسبة القاهرة، عوضاً عن صدر الدين بن العجمي فباشرها وهو يتزيا بزي الجند، وقد التزم بحمل ألف دينار، يجبيها من الباعة ونحوهم، فلم تحمد مباشرته.
وفي يوم الجمعة حادي عشرينه: ركب السلطان النيل للنزهة به، فزار الآثار النبوية، وبر من هناك من الفقراء بمال، ثم توجه إلى المقياس بالروضة، فصلى الجمعة بجامع المقياس، ورسم بهدمه وبنائه، وتوسعته، وترميم بناء رباط الآثار النبوية أيضاً. ثم ركب من الجزيرة الوسطى إلى الميدان الناصري، وبات به. وركب من الغد يوم السبت إلى القلعة.
وفيه قدم البدر محمود العينتابي ناظر الأحباس من بلاد ابن قرمان، فخلع عليه.
وفي ثالث عشرينه: وجد بكرة النهار خارج القاهرة فرسان، فقيدا إلى بيت الأمير يشبك الأستادار، فعرفا أنهما من خيل ابن العجمي المحتسب، وذلك أنه نزل بلبيس يوم السبت أمسه، وفقد منها عشاء. فارتجت القاهرة بأنه قتل وخرج نساءه مسبيات يصحن صعدن القلعة إلى السلطان، ووجهوا التهمة بقتله إلى ابن البارزي كاتب السر، فأنكر السلطان أن يكون قتل، وقال: هذه حيلة عملها، وقد اختفي بالمدينة، ثم بعث للكشف عن قتله من أرباب الأدراك فلم يوقف به على خبر. ونودي في سابع عشرينه بتهديد من أخفاه عنده، وترغيب من أحضره. فظهر في آخر النهار أنه بعث إلى أهله كتاباً يتضمن أنه من خوفه على نفسه مضى على وجهه. فطلب زوج ابنته، وعوقب على إحضاره، ثم سجن.
وفيه قدم الخبر بأن الأمير علمان بن طر علي قرايلك كبس على بير عمر، حاكم أرزنكان من قبل قرا يوسف، وأمسكه وقيده، هو وأربعة وعشرين من أهلة وأولاده، وقتل ستين رجلاً، وغنم شيئاً كثيراً.
شهر شعبان المكرم، أوله الاثنين:

فيه وصل رأس بير عمر حاكم أرزنكان، وكان السلطان قد كتب محاضر وفتاوي بكفر قرا يوسف وولده حاكم بغداد، فأفتى مشايخ العلم بوجوب قتاله. ورسم للأمراء بالتهيؤ للسفر، وحملت إليهم النفقات، فوقع الشروع في تجهيز أمور السفر. ونودي في رابعه، وقد ركب الخليفة والقضاة الأربع بنوابهم، وبين يديهم بدر الدين حسن البرديني أحد نواب الحكم الشافعية، وهو راكب يقرأ من ورقة استنفار الناس لقتال قرا يوسف، وتعداد قبائحه ومساوئه، فاضطرب الناس، وكثر جزعهم.
وفيه ادعى على الأمير ناصر الدين محمد بن أمير أخور والي القاهرة بأنه قتل رجلا وسطه بالسيف نصفين بغير موجب شرعي. وأقيمت البينة بذلك بحضرة القضاة، وهم بين يدي السلطان، فحكم بقتله، فأخذ ووسط في الموضع الذي وسط فيه المذكور.
وخلع فيه على الأمير ناصر الدين محمد، ويعرف ببكلمش بن فرى نائب الوجه البحري وابن والي العرب، واستقر والي القاهرة، عوضاً عن ابن أمير أخور، على مال كبير التزم بحمله مما يجبيه من مظالم العباد، فباشر مباشرة سيئة، وركبته الديون، وهان أمره على العامة، لعدم حرمته، حتى كان أحد المقدمين أحشم منه. وصار الناس يلقبونه قندوري؛ لأنه أراد أن يقول قباي فغلط وقال قندوري، فنقبت عليه، وهو بزي النساء أشبه منه بالرجال.
وفي يوم الاثنين ثامنه - وخامس عشرين مسرى - : كان وفاء النيل، فركب السلطان إلى المقياس، وفتح الخليج على العادة، ثم عاد إلى قلعة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: عقد للأمير الكبير ألطنبغا القرمشي على خوند ستيتة - ابنة السلطان - بصداق مبلغه خمسة عشر ألف دينار هرجة، بالجامع المؤيدي، بحضرة القضاة والأمراء والأعيان.
وفي يوم السبت ثالث عشره: برز الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي إلى الربدانية خارج القاهرة، ومعه من الأمراء ألطنبغا الصغير رأس نوبة، وطوغان أمير أخو، وجلبان المؤيدي أحد مقدمي الألوف، وألطنبغا المرقي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وأقبلاط السيفي دمرداش، وأزدمر الناصري من مقدمي الألوف، ليتوجهوا إلى حلب، خشية حركة قرا يوسف.
وفيه نزل السلطان إلى بيت كاتب السر على النيل، فأقام به يوم الثلاثاء سادس عشره، توجه إلى الميدان لعرض المماليك السلطانية الرماحة. وعاد من آخره على ظهر النيل. ثم ركب إلى الميدان نهار السبت، وبات به. وتوجه نهار الأحد، فزار الآثار النبوية، وكشف عمارة جامع المقياس بالروضة. وعاد إلى الميدان، فبات به. وعرض الرماحة في يوم الاثنين. ثم راجع زيارة الآثار النبوية في يوم الثلاثاء. وعاد إلى مخيمه بالجزيرة الوسطى، فأقام يومه ومعه الأمراء ومباشروه، فأكلوا وشربوا القمز. وعاد إلى الميدان، فبات به ليلتين ثم رجع إلى بيت كاتب السر في يوم الخميس، فبات به وصلى الجمعة بجامع كاتب السر. ثم توجه إلى الميدان، فبات به، وركب إلى القلعة بكرة السبت سابع عشرينه. وكان صائماً في رجب وشعبان، لم يفطر فيهما إلا نحو عشرة أيام.
شهر رمضان المعظم، أوله الثلاثاء: أهل، وقد انتفض على السلطان ألم رجله.
وفي رابع عشره: خلع السلطان على الصاحب تاج الدين عبد الرازق الهيضم واستقر في نظر الديوان المفرد، بعد موت صلاح الدين خليل بن الكويز.
وقدم الخبر من غزة أن في ليلة الأربعاء ثالثه ذبح جمل بسوق الجزارين، وعلق لحمه في داخل بيت الجزار، فأضاء اللحم كما يضيء الشمع إذا أشعل فيه النار، فأخذ منه قطعة فأضاءت. بمفردها، فقطعوه قطعاً فأضاءت كل قطعة منه، فأخذوه بجملته ودفنوه من غير أن يأكل أحد منه شيئاً، إلا أن رجلاً قطع منه قطعة لحم وهي تضيء، وتركها عنده إلى أن أصبح وألقاها لكلب. فلم يأكلها وتركها. وكان لحم هذا الجمل بحيث لو أخذ منه زنة درهم لأضاءت كأنها النجم. وشاهد هذا جماعة لا يحصى عددهم.
وانتهت زيادة النيل في ثالث بابة إلى ثمانية عشر ذراعاً وثلاثة أصابع، وابتدأ النقص من خامس بابة.
وفي هذا الشهر: ابتدأ مرض القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، كاتب السر.
شهر شوال، أوله الأربعاء: فيه صلى السلطان صلاة العيد بالقصر الكبير من القلعة، عجزاً عن المضي إلى الجامع.
وفي رابعه: ركب السلطان في المحفة إلى منظرة الخمس وجوه التي استجدها، وقد كملت، ثم عاد من يومه.

وفي يوم الأربعاء خامس عشره: تنكر السلطان على الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وضربه ببين يديه ضرباً مبرحاً. ثم أمر به فنزل إلى داره على وظائفه. هذا والسلطان مريض.
وفي يوم الاثنين عشرينه: أرجف بموت السلطان، فاضطرب الناس، ونقلوا ثيابهم خوفاً من الفتنة أن تثور ثم أفاق فسكنوا.
وفيه خرج محمل الحاج إلى الريدانية، والحجاج على تخوف من النهب.
وفيه طلب القضاة والأمراء، وجلس السلطان، فعهد إلى ولده الأمير أحمد بالسلطة من بعد. ومولده في ثاني جمادى الأولى من السنة الماضية، وله من العمر سبعة عشر شهراً وخمسة أيام، وجعل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي القائم بأمره، وأن يقوم بتدبير الدولة حتى يحضر القرمشي من حلب الأمراء الثلاثة وهم: قجقار القردمي، وتنبك ميق، وططر. وحلف الأمراء على ذلك، ثم حلف المماليك من الغد.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: خلع على كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي، واستقر في كتابة السر، بعد وفاة أبيه، على مبلغ أربعين ألف دينار، يحملها، وكان صدر الدين أحمد بن العجمي لم يزل مختفياً حتى مات ناصر الدين محمد بن البارزي، فظهر، وعند جمهور الناس أن ابن البارزي ناصر الدين محمد كاتب السر هو الذي قتله، فشفع فيه بعض الأمراء، وكان السلطان في شغل بمرضه عنه، فقبل شفاعته، ورسم أن يقيم بداره من القاهرة، فلزم داره، وظهرت براءة ابن البارزي.
وفي سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي، ناظر الإصطبل، واستقر في نيابة كتابة السر، عوضاً عن كمال الدين بن البارزي المنتقل لكتابة السر.
وفي تاسع عشرينه: دخل السلطان الحمام، وقد تناقص ما به من الأمراض فنودي بالزينة، فزينت القاهرة ومصر، وفرق مال في الناس من الفقهاء والفقراء.
وفي هذا الشهر: أعاد قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي نواب الحكم الذين كانوا يلون عمن قبله، واستناب زيادة عليهم عدة من إلزامه.
شهر ذي القعدة أوله الجمعة: فيه ظهرت دخيرة لناصر الدين محمد بن البارزي، فيها نحو من سبعين ألف دينار، أخذها السلطان.
وفي رابعه: ركب السلطان وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة فنزل بمنظرة الخمس الوجوه إلى يوم الأربعاء سابعه عاد من باب القنطرة، وشق القاهرة بثياب جلوسه، حتى صعد القلعة.
وفي تاسعه: ركب السلطان إلى المنظرة أيضاً، وبات بها، وتصيد من الغد ببر الجيزة، وأقام هناك.
وفيه نزل زين الدين عبد الباسط، ومرجان الهندي الخازندار إلى بيت الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وقد لزم الفراش من يوم ضرب، وأخذا منه خزانة الخاص وسلمت للطراشي مرجان المذكور، فتحدث في نظر الخاص عن السلطان من غير أن يخلع عليه، ولا كتب له توقيع، وأنفق من غده عن كسوة المماليك السلطانية نحو ثمانية آلاف دينار.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشره: عاد السلطان في المحفة إلى القلعة.
وفي رابع عشره: خلع على الصاحب بدر الدين بن نصر الله خلعة الرضا، واستمراره في الوزارة والإمرية. وفيه قرئ توقيع كمال الدين محمد بن البارزي بكتابه السر في الجامع المؤيدي بحضرة الأمراء والقضاة وأرباب الدولة والأعيان. ولم يقرأ قبله توقيع كاتب السر.
وفي خامس عشره: ركب السلطان إلى منظرة الخمس الوجوه، وأقام بها إلى سابع عشره، ثم عاد إلى القلعة، وركب في يوم الأربعاء عشرينه بثياب جلوسه، وعبر من باب زويلة، وشق القاهرة حتى خرج من باب القنطرة إلى المنظرة، فأقام بها إلى يوم الجمعة، وعدى النيل إلى الجيزة، يريد صرحة البحيرة. وخرج الناس على عادتهم بعد ما نزل في يوم الجمعة هذا بدار على شاطئ نيل مصر، وعبر الحمام بجوار الجامع الجديد. ثم خرج إلى الجامع المذكور وصلى به الجمعة. ثم ركب النيل، وهو في هذا كله يحمل على الأكتاف.
وفي هذا الشهر: فقد لحم الضأن من أسواق القاهرة عدة أيام، وعز وجرد لحم البقر، ثم أبيع لحم الضأن بعشرة دراهم الرطل، بعد سبعة، ثم أبيع بتسعة.
وفيه قتل العربان كاشف البهنسي، لكثرة ظلمه وفسقه، وشدة تعديه وعتوه، فلم يؤخذ له بثأر.
شهر ذي الحجة، أوله السبت:

في ثامنه: عاد السلطان من السرحة، بعد ما انتهى إلى الطرانة. وقد اشتد به المرض، وأفرط الإسهال، فارجف بموته، وكادت تكون فتنة. ثم ركب النيل منها عجزاً عن الركوب في المحفة، حتى نزل منبابة، فأقام بها حتى نحر قليلا من ضحاياه، ثم ركب النيل آخر يوم النحر إلى بيت كاتب السر المطل على النيل، وبات به. ثم صعد القلعة في المحفة يوم الثلاثاء حادي عشره، وهو شديد المرض من الإسهال، والزحير والحصاة، والحمى، والصداع، والمفاصل.
وفي ثامن عشره: قدم كتاب سليمان صاحب حصن كيفا، يتضمن موت قرا يوسف في رابع عشر ذي القعدة، مسموماً، فيما بين السلطانية وتوريز، وهو متوجه إلى قتال شاه رخ بن تيمورلنك.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: أرجف بموت السلطان.
وفيه أثبت عهد الأمير أحمد ابن السلطان، على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي، بالسلطنة. ثم نفذ على بقية القضاة، فكثر الاضطراب في الناس، وتوقعوا الفتنة، واشتد خوف خواص السلطان، ونقلوا ما في دورهم.
ومات في هذه السنه ممن له ذكرشرف الدين محمد بن علي الحبري، في ثاني عشرين ربيع الأول. وقد ولي حسبة القاهرة ومصر غير مرة، بعد ما كان من شرار العامة، بتمعش بنيابة الحكم عند المالكية بمصر. ثم وقع في كفر في سنة ست وتسعين، فأريد قتله، ثم حقن دمه وعزر بالضرب والحبس. ثم صار بتمعش ببيع السكر في حانوت بالقاهرة. ويشهر بقبائح من السخف، والمجون، وسوء السيرة.
ومات صاحبنا ناصر الدين محمد بن مبارك الطازي، أخو الخليفة المستعين بالله لأمه. ونعم الرجل كان.
ومات محب الدين محمد بن الخضري الأسلمي، أحد كتاب القبط، في عاشر ربيع الآخرة. وكان نصرانياً، وأسلم عن قريب، على يد الأمير فخر الدين الأستادار، فسماه محمداً كما تقدم، ولقبه محب الدين.
ومات قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي المالكي، في رابع عشر جمادى الأولى عن نحو ثمانين سنة - وقد ولى قضاء القضاة المالكية مرتين، الأولى في الأيام الناصرية فرج، بعد موت نور الدين علي بن يوسف بن جلال، في ثالث عشر جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثمانمائة، فأقام أربعة أشهر وعشرة أيام، وصرف في ثالث عشرين شهر رمضان بابن خلدون. ثم ولي ثانياً، فأقام خمس سنين وثمانية أشهر ويومين، ومات وهو قاض، وكان فقيهاً، بارعاً في الفقه. أخذ عن الشيخ خليل. وناب في الحكم عن العلم سليمان البساطي من سنة ثمان وسبعين وسبعمائة إلى أن استبد بالقضاء. ودرس بالقمحية وغيرها. وعرف بالستر والصيانة وصار المعول على فتاويه مدة سنين.
ومات شمس الدين محمد بن محمد بن حسين البرقي الحنفي، أحد نواب الحكم الحنفية، في سابع جمادى الآخرة. وكانت سيرته ذميمة.
ومات الشيخ علي كهنفوش: صاحب الزاوية تحت الجبل الأحمر. وكان مشكور السيرة، محمود الطريقة، له حظ من الأتراك.
ومات صلاح الدين خليل بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، ناظر الديوان المفرد، في عاشر رمضان.
ومات ناصر الدين محمد بن كمال الدين محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم ابن إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منظور بن أحمد بن البارزي، الجهني، الحموي، الشافعي، الفقيه، الأديب، النحوي، كاتب السر، في يوم الأربعاء ثامن شوال، ودفن على ولده الشهابي أحمد تجاه قبر الإمام الشافعي بالقرافة.
ومات الصاحب كريم الدين عبد الله بن شاكر بن عبد الله بن غنام، في سابع عشرين شوال، وقد أناف على المائة، وحواسه سليمة، وزر مرتين، وأنشأ مدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة.
ومات قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا، صاحب بغداد وتبريز، في رابع عشر ذي القعدة.

وقتل ملك المغرب صاحب فاس، السلطان أبو سعيد عثمان ابن السلطان أبي العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب ابن عبد الحق المريني، في ليلة الثالث عشر من شوال، قتله وزيره عبد العزيز اللباني، وأقام عوضه ابنه أبا عبد الله محمد. وكانت مدته ثلاثاً وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، وأياماً، خربت فيها فاس وأعمالها، وذلت بنو مرين، واتضع ملكها، وتلاشى، وفي ذي الحجة سار أبو زيان محمد بن أبي طريق محمد ابن السلطان أبي عنان من تازي. وكان ابن الأحمر قد بعث به من الأندلس لأخذ فاس، فنزل عليها وبايعه الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر بمدينة فاس، بمن اجتمع معه من أهل البلد، وقاتلوا اللباني أربعة أشهر.
سنة أربع وعشرين وثمانمائةأهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. والسلطان بديار مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وهو مريض، ومعظم عسكر مصر بمدينة حلب صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرماشي أتابك العساكر، ومعه من الأمراء طوغان أمير أخور، وألطنبغا من عبد الواحد - المعروف بالصغير - رأس نوبة النوب، وألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وغيرهم. وعند السلطان من الأمراء قجقار القردمي أمير سلاح، وططر أمير مجلس، وتنبك ميق العلاي، ومقبل الدوادار. والوزير يومئذ الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ووظيفة نظر الخاص ليست بيد أحد، وإنما يتحدث فيها عن السلطان الطواشي مرجان الهندي الخازندار. وأستادار الأمير يشبك أينالي. وكاتب السر كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي، وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكية بديار مصر شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنابلة علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن العطار. ونائب غزة أركماس الجلباني. ونائب الشام جقمق الدوادار. ونائب حلب يشبك اليوسفي، ونائب قيصرية الروم محمد بك بن دلغادر التركماني. ونائب صفد قطلوبغا التنمي. ونائب طرابلس اسنبغا الزردكاش. ونائب حماة أق بلاط. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزير بن هيازع، ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل. ومتملك بلاد الشرق شاه رخ بن تيمور كركان، ومتملك بلاد الروم سلطان محمد كرشجي بن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان. ومحتسب القاهرة إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام. ووالي القاهرة بكلمش ابن فري. وكاشف الوجه القبلي دمرداش. وكاشف الوجه البحري حسين الكردي ابن الشيخ عمر، وكان مشكور السيرة على تقوى، كما ذكر.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأحد: أهل والقمح بمائتي وثمانين درهماً الأردب فما دونها، والشعير كل أردب بمائة وسبعين. والفول كل أردب بمائة وستين، وذلك سوى كلفه، ولحم الضأن بتسعة دراهم الرطل، ولحم البقر بستة دراهم ونصف كل رطل. والدينار المشخص بمائتين وعشرة دراهم فلوساً. والمثقال الهرجة بمائتين وثلاثين درهماً، وهو قليل الوجود بأيدي الناس. والدراهم المؤيدية كل مؤيدي بسبعة دراهم فلوساً، وهي كثيرة بأيدي الناس، وقد أتلف أهل الفساد وزنها ونقصوها بهرشها، حتى خفت، وضربوا على مثالها نحاساً يخالطه يسير من الفضة، فعن قليل تنكشف ويظهر زيفها. والفلوس كل رطل بستة دراهم، وقد فسدت، فإنه صار يخلط مع الفلوس من المسامير الحديد المكسورة، ومن نعال الخيل الحديد، ونحوها من قطع النحاس وقطع الرصاص شيء كثير، بحيث لا يكاد يوجد في القنطار من الفلوس إلا دون ربعه فلوساً وباقيه حديد ونحاس ورصاص.
هذا والناس في القاهرة على تخوف وقوع الفتنة بموت السلطان. وقد كثر عبث المفسدين وقطاع الطريق ببلاد الصعيد. وفحش قتل الأنفس، وأخذ الأموال هناك. ومع ذلك فالأسواق كاسدة، والبضائع بأيدي التجار بايرة، والأحوال واقفة، والشكاية قد عمت، فلا تجد إلا شاكياً وقوف حاله، وقلة مكسبه. وجور الولاة والحكام وأتباعهم متزايد، فتسأل الله حسن العاقبة.

وفي يوم الخميس خامسه: صعد الأمراء قلعة الجبل، وجلسوا على باب الدار، فخرج إليهم الطواشي واعتذر لهم عن دخولهم، فانصرفوا، وكانوا على هذا منذ أيام. والإرجاف يقوي، فإن السلطان أفرط به الإسهال مع تنوع الأسقام، وتزايد الآلام، بحيث قال لي طبيبه: لم يبق مرض من الأمراض حتى حصل له. وقد افترق الأمراء فرقا، فطلب الأمراء الذين في القلعة - وكبيرهم ططر - الأمير التاج الشويكي، وخلعوا عليه في بعض دور القلعة، وجعلوه والي القاهرة، وشقها في تجمل زائد، أرهب به من كان يخاف منه أن يمد يده إلى النهب من مفسدي العامة. وما برح الإرجاف بالسلطان في كل يوم، حتى مات قبيل الظهر من يوم الاثنين تاسعه، فارتج الناس ساعة، ثم سكنوا. فطلب القضاة والخليفة لإقامة ابن السلطان، فأقيم في السلطنة. وأخذ في جهاز المؤيد، وصلى عليه خارج باب القلة، وحمل إلى الجامع المؤيدي، فدفن بالقبة قبيل العصر، ولم يشهد دفنه كثير أحد من الأمراء والمماليك، لتأخرهم بالقلعة، فيما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
واتفق في أمر المؤيد موعظة فيها أعظم عبرة، وهو أنه لما غسل لم يوجد له منشفة ينشف بها، فنشف بمنديل بعض من حضر غسله. ولا وجد له مئزر تسر به عورته، حتى آخذ له مئنر رصوف صعيدي من فوق رأس بعض جواريه فستر به ولا وجد له حتى أخذ له طاسة يصب عليه بها الماء وهو يغسل مع كثرة ما خلفه من أنواع الأموال.
ومات وقد أناف على الخمسين، وكانت مدة ملكه ثماني سنين، وخمسة أشهر، وثمانية أيام. وكان شجاعاً، مقداماً، يحب أهل العلم، ويجالسهم، ويجل الشرع النبوي، ويذعن له، ولا ينكر على من طلبه منه إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع، بل يعجبه ذلك. وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم. وكان غير مائل إلى شيء من البدع. وله قيام في الليل إلى التهجد أحياناً. إلا أنه كان بخيلاً، مسيكاً يشح حتى بالأكل، لجوجاً، غضوباً، نكداً، حسوداً، معياناً، يتظاهر بأنواع المنكرات، فحاشاً، سباباً بذيا شديد المهابة، حافظاً لأصحابه، غير مفرط فيهم، ولا مضيعاً لهم، وهو أكثر أسباب خراب مصر والشام، لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق. ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد، وتسليط أتباعه على الناس، يسومونهم الذلة، ويأخذون ما قدروا عليه، بغير وازع من عقل، ولا ناه من دين.
السلطان أبو السعادات أحمد بن المؤيدالسلطان الملك المظفر أبو السعادات أحمد بن المؤيد شيخ أقيم في السلطة يوم مات أبوه، على مضى خمس درج من نصف نهار الاثنين، تاسع المحرم سنة أربع وعشرين وثماني مائة، وعمره سنة واحدة، وثمانية أشهر، وسبعة أيام. وأركب على فرس من باب الستارة، فبكى. وساروا به وهو يبكي إلى القصر، حيث الأمراء والقضاة والخليفة، فقبلوا له الأرض، ولقبوه بالملك المظفر أبي السعادات. وأمر في الحال، فنودي في القلعة والقاهرة أن يترحم الناس على الملك المؤيد، ويدعوا للملك المظفر ولده. وأخذ في جهاز المؤيد ودفنه. وقبض على الأمير قجقار القردمي أمير سلاح قبل دفن المؤيد، وأحيط بمباشريه وحواصله، بإشارة الأمير ططر، وبات بالقلعة والناس على تخوف.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: عملت الخدمة بالقصر، وعرض على الأمير تنبك ميق أن يتحدث في أمور الدولة، رفيقاً للأمير ططر، فامتنع من ذلك أشد امتناع، فقام الأمير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا للسلطان وكافله. وخلع على الأمير تنبك ميق هذا، والمظفر قد أجلس وهم حوله. فلما انقضت الخدمة أعيد إلى أمه. واستقر سكني الأمير ططر بالأشرفية من القلعة، ووقف الأمراء ومباشرو الدولة بين يديه.

وفي يوم الأربعاء حادي عشره: قبض على الأمير جلبان والأمير شاهين الفارسي، وهما من أمراء الألوف. وطلب قضاة القضاة الأربع إلى القلعة، وختم بحضورهم على حواصل المؤيد بعد ما أخرج منها أربعمائة ألف دينار، برسم النفقة على العسكر. فلما كان عشاء، اضطرب الناس ولبس الأمراء والمماليك للحرب، فخرج الأمير مقبل الدوادار في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات ومن المماليك والأتباع، وسروا إلى جهة الشام، فاجتمع الأمراء بكرة الخميس بالقلعة. ونودي بأبطال المغارم التي حدثت على الجراريف وعمل الجسور بأعمال مصر. ونودي باجتماع المماليك السلطانية للنفقة فيهم، فأخذ كل واحد منهم مائة دينار. ونودي ثالث مرة بحضور أجناد الحلقة، ليرد عليهم ما أخذ منهم المؤيد من المال في سنة اثنين وعشرين، فسروا بذلك سروراً زائداً وفيه أخذ الأمير الكبير ططر بيد المظفر، وفيها القلم حتى علم على المناشير ونحوها، بحضرة الأمراء وأرباب الدولة، واستمر ذلك أحياناً.
وفي يوم الجمعة ثالث عشره: حمل قجقار القردمي وجلبان وشاهين الفارسي في القيود إلى سجن الإسكندرية.
وفيه أنفق في بقية المماليك السلطانية أيضاً كما تقدم.
وفي يوم السبت رابع عشره: خلع على الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وأعيد إليه نظر الخاص. وخلع على صدر الدين أحمد بن العجمي وأعيد إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن الصارم إبراهيم بن الحسام، وأنعم عليه بصره فيها ثمانون ديناراً. وأضيف إليه حسبة مصر، ورتب له على ديوان الجوالي في كل يوم دينار.
وفيه أنفق في بقية المماليك أيضاً، وأفرج عن جماعة سجنهم المؤيد.
وفي يوم الاثنين سادس عشره: خلع على الأمير الكبير ططر، واستقر نظام الملك، كافل المماليك. وخلع على الأمير تنبك ميق العلاي، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن الأمير ططر. وخلع على الأمير تغري بردي من قصروه، أحد رءوس النوب الطبلخاناه، واستقر أمير أخور، وأنعم عليه بتقدمة، عوضاً عن طوغان أحد المجردين بحلب. وخلع على الأمير أق قجا الأحمدي أحد الطبلخاناه، واستقر أمير مائة. وخلع على الأمير قشتمر أحد العشرات، واستقر في نيابة الإسكندرية عوضاً عن ابن العطار. وخلع على الأمير جانبك الصوفي، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير قجقار القردمي. وأنعم عليه بخبز أق بلاط الدمرداشي. وخلع على الأمير أينال أحد الطبلخاناه، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير ألطنبغا الصغير أحد المجردين بحلب. وخلع على الأمير يشبك أستادار، خلعة الاستمرار، وخلع على التاج باستمراره في ولاية القاهرة، وأن يكون حاجباً.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: توجهت القصاد بتشاريف نواب الشام وتقاليدهم المظفرية باستقرارهم على عاداتهم في كفالاتهم. وكتب الأمير نظام الملك ططر العلامة على الأمثلة ونحوها، كما يكتب السلطان.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: ابتدئ بالنفقة في أجناد الحلقة، ورد على كل أحد منهم ما أخذ منه. وتولى ذلك الأمير نظام الملك بنفسه.
وفيه نودي بكف الناس عن المنكرات كلها، فكثر الدعاء لناظم الملك، وتمشت أحوال الناس، وكثر البيع والشراء، فراجت البضائع وربحت التجار لتوسع أهل الدولة، مما صار إليهم من الأموال.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خلع على قضاة القضاة الأربع، وبقية أرباب الدولة باستمرارهم على عوائدهم في وظائفهم. وخلع على شرف الدين محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله موقع الأمير نظام الملك. واستقر في نظر أوقاف الأشراف. كان يليه الأمير ططر منذ مات ناصر الدين محمد بن البارزي .
وفيه استعفي علم الدين داود بن الكويز من مباشرة نظر الجيش، فأعفي. وخلع عليه جبة بفرو سمور، ونزل إلى داره.
وفيه قدم الخبر بوصول الأمير مقبل الدوادار إلى قطيا، ومضيه إلى الطينة وركوبه البحر في غراب قد أعده.
وفي يوم الجمعة عشرينه: نودي بأن الأمير الكبير نظام الملك ططر يجلس للحكم بين الناس، فجلس بعد الصلاة بالمقعد من الاصطبل، كما كان المؤيد يجلس، إلا أنه قعد عن يسار الكرسي، و لم يرقه. وحضر الأمراء على العادة، وقعد كاتب السر على الدكة، فقرأ عليه القصص، كما كان يقرأ في الأيام المؤيدية. ووقف نقيب الجيش والي القاهرة بين يديه، كما كانا يقفان بين يدي المؤيد، فنظر في ظلامات الناس.

وفي يوم السبت حادي عشرينه: تنكر الأمير الكبير على الصاحب تاج الدين بن الهيصم، وعزله عن نظر الديوان المفرد.
وفي يوم الأحد المبارك ثاني عشرينه: فرق الأمير الكبير نظام الملك ططر في بقية أجناد الحلقة ما أخذ منهم. وفيه قدم ركب الحاج الأول.
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: قدم محمل الحاج ببقية الحجاج. وفيه طلب تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين عبد الله، المعروف بابن كاتب المناخات، مستوفي الديوان المفرد، وخلع عليه بوظيفة نظر الديوان المفرد، عوضاً عن ابن الهيصم. وخرج من بين يدي الأمير الكبير، حتى توسط الدهليز طلب ونزعت عنه الخلعة، وأفيض عليه تشريف الوزارة وهو يمتنع، فلم يلتفت إليه ومضى إليه في داره. وكان ذلك برغبة ابن نصر الله عن الوزارة، وتعيينه لها عوضه. وطلب ابن الهيصم، وخلع عليه وأعيد إلى نظر الديوان المفرد. وخلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره في نظر الخاص. وخلع على الأمير يشبك باستقراره ملك الأمراء كاشف الكشاف بالوجهين القبلي والبحري، مضافاً للأستادارية.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: خلع علي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر، واستقر في نظر الجيمق، عوضاً عن علم الدين داود بن الكويز.
وفي يوم الجمعة سابع عشرينه: جلس الأمير الكبير ططر بالمقعد السلطاني من الاصطبل بعد صلاة العصر، للحكم بين الناس. وأخرج المسجونين وعرضهم، فعزل من عليه دين منهم ليصالح غرماءهم عن ديونهم.
وفي يوم السبت ثامن عشرينه: توجه الأمير يشبك أستادار، وكاشف الكشاف، إلى الوجه القبلي، في عدة من الأجناد.
وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على القاضي علم الدين داود بن الكويز، واستقر في نظر ديوان الإنشاء كاتب السر عوضاً عن كمال الدين محمد بن البارزي، فتسلم القوس غير راميها، ووسدت الأمور إلى غير أهليها.
وفيه خلع أيضاً على عدة من موقعي الدست، خلع الاستمرار.
شهر صفر: أهل بيوم الثلاثاء: والإرجاف متزايد بأن أهل الشام قد امتنعوا من طاعة الأمير ططر.
وفي يوم الجمعة رابعه: جلس الأمير ططر للحكم على العادة.
وفي سابعه: قدم الخبر بأن الأمير جقمق نائب الشام أخذ قلعة دمشق واستولى على ما فيها من الأموال وغيرها، وكان بها نحو المائة ألف دينار، فاضطرب أهل الدولة.
وفي عاشره: جمع الأمير الكبير ططر عنده بالأشرفية من القلعة قضاة القضاة وأمراء الدولة ومباشريها، وكثيراً من المماليك السلطانية، وأعلمهم بأن نواب الشام والأمير ألطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء المجردين لم يرضوا بما عمل بعد موت المؤيد، ولا بد للناس من حاكم يتولى تدبير أمورهم، ولا بد أن يعينوا رجلاً ترضونه ليقوم بأعباء المملكة ويستبد بالسلطنة. فقال الجميع قد رضينا بك. وكان الخليفة حاضراً فيهم، فأشهد عليه أنه فوض جميع أمور الرعية إلى الأمير الكبير ططر، وجعل إليه ولاية من يرى ولايته، وعزل من يريد عزله من سائر الناس، وأن يعطي من شاء ما شاء ويمنع من يختار من العطاء، ما عدا اللقب السلطاني، والدعاء له على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، فإن هذه الثلاثة أشياء باقية على ما هي عليه للملك المظفر. وأثبت قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني هذا الإشهاد، وحكم بصحته. ونفذ حكمه قضاة القضاة الثلاثة. ثم حلف الأمراء للأمير الكبير يمينهم المعهودة. وكان سبب هذا أن بعض فقهاء الحنفية تقرب إلى الأمير الكبير بنقل أخرجه إليه من فروع مذهبه أن السلطان إذا كان صغيراً وأجمع أهل الشوكة على إقامة رجل ليتحدث عنه حتى يبلغ رشده نفذت أحكامه، وأقام أياماً يحسن له ذلك، فاتفق ورود الخير باستيلاء جقمق على قلعة دمشق. ثم ردفه خبر آخر، بأنه جهز عدة أمراء إلى غزة، فعمل ما تقدم ذكره ليكون فيه تقوية لقلوب العسكر، وأنهم على حق، ومن يخالفهم على باطل.
وفي يوم الاثنين رابع عشره: خلع علي عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني ابن أبي الفرج، واستقر في كشف الشرقية وولاية قطيا، وله من العمر خمسة عشر سنة أو أكثر منها، فتحكم في دماء الخليقة وأبشارها من لم يجعل الله له تحكماً فيما يرثه من أبيه، لعدم رشده.
وفي ليلة الثلاثاء سادس عشره: خسف جميع جرم القمر.

وفي يوم الثلاثاء هذا: قدم سيف نائب حلب الأمير يشبك اليوسفي المؤيدي، وقد قتل. وكان من خبره أنه لما ورد خبر موت المؤيد علي الأمير ألطنبغا القرمشي وهو بحلب، جمع الأمراء وفيهم الأمير يشبك نائب حلب، وحلفهم للسلطان الملك المظفر، وأخذ في رحيله بمن معه، فلم يتكامل رحليهم حتى ركب يشبك في جمع من التركمان، وهجم عليهم وهم في جدران المدينة، فقاتلوه وقد مالت معهم العامة، فتقنطر عن فرسه، فأخذ وقتل، وذلك في يوم الثلاثاء ثالث عشرين المحرم. وكان من شرار خلق الله، لما هو عليه من الفجور والجرأة على الفسوق، والتهور في سفك الدماء، وأخذ الأموال. وكان المؤيد قد استوحش منه لما يبلغه من أخذه في أسباب الخروج عليه، وأسر للأمير ألطنبغا القرمشي إعمال الحيلة في القبض عليه، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وأخذه أخذاً وبيلاً، و لله الحمد.
وفي يوم الخميس سابع عشره: قدم الأمير قجق العيسوي حاجب الحجاب، والأمير بيبغا المظفري وقد أفرج عنهما من سجن الإسكندرية. وقدم يشبك الساقي الأعرج وكان قد نفاه المؤيد من دمشق إلى مكة. وقد حضر إليه من حلب في حصاره الأمير نوروز بحيلة دبرها عليه، حتى استنزله من قلعة حلب. فلما ظفر بنوروز أراد قتله فيمن قتل من أصحابه، فشفع فيه الأمير ططر فأخرجه إلى مكة فأقام بها سنين. ثم نقله إلى القدس، فلم تطل إقامته بها حتى مات المؤيد وتحكم الأمير ططر، فاستدعاه. وكان له منذ خرج من القاهرة نحو العشرين سنة، فإنه خرج في نوبة بركة الحبش من سنة أربع وثماني مائة.
وفيه أيضاً قدم سودن الأعرج من قوص، وقد نفي إليها من سنين عديدة وفيه أفرج عن الأمير ناصر الدين محمد باك بن علي باك بن قرمان، وخلع عليه، ورسم بتجهيزه ليعود إلى مملكته. وأنعم عليه بمال وثياب وخيول وغير ذلك، فسار في النيل يوم السبت سادس عشرينه إلى جهة رشيد، ليتوجه منها.
شهر ربيع الأول، أوله الأربعاء: فيه ورد كتاب الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي من حلب، يتضمن أنه لما قتل الأمير يشبك نائب حلب، ولي عوضه نيابة حلب الأمير ألطنبغا الصغير، وأنه عند ما ورد عليه خبر موت السلطان بعد ما عهد بالسلطنة من بعده لابنه، وأن يكون القائم بأمور الدولة ألطنبغا القرمشي، وأنه قد أقيم في السلطنة الملك المظفر كما عهد، أخذ في الرحيل إلى مصر كما رسم له به. فكان من أمر يشبك ما كان، فاشتغل عن المسير. ثم ورد عليه الخير باستقرار نواب المماليك الشامية على عوائدهم فيما بأيديهم، وتحليفهم للسلطان الملك المظفر، وللأمير الكبير ططر، فحمل الأمر في ذلك على أنه غلط من الكاتب، وسال أن يفصح له عن ذلك، فأجيب بأنه بعد ما عهد المؤيد لابنه، وأقيم من بعده في السلطة طلب الأمراء والخاصكية والمماليك السلطانية أن يكون المتحدث في أمور الدولة كلها الأمير ططر، ورغبوا إليه في ذلك، ففوض إليه الخليفة جميع أمور المملكة، ما عدا اللقب السلطاني والخطبة والسكة، فليحضر الأمير ومن معه ليكونوا على إمرياتهم. وأنكر عليه استقرار ألطنبغا الصغير في نيابة حلب من غير استئذان.
وفيه أيضاً قدم الخبر بأن علي بن بشارة قاتل الأمير قطلوبغا التنمي نائب صفد، فامتنع بالمدينة، فحصروه حتى فر إلى دمشق. وأن الأمير جقمق استعد بدمشق، واستخدم جماعة، وسكن قلعة دمشق.

وفي تاسعه: خلع على الأمير تنبك ميق العلاي، واستقر أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير ألطنبغا القرمشي. وأنعم عليه بإقطاعه. وأنعم بإقطاع تنبك ميق على الأمير أينال الأزعري. وأنعم بإقطاع أينال الأزعري على الأمير قجق العيسوي. وأنعم بإقطاع الأمير طوغان أمير أخور - أحد المجردين - على الأمير تغري بردي الأقبغاوي، المعروف بأخي قصروه. وأنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير رأس كوبة المستقر في نيابة حلب، على سودن العلاي. وأنعم بإقطاع سودن العلاي على قطج من تمرار. وأنعم بإقطاع الأمير أزدمر الناصري - أحد المجردين - على الأمير بيبغا المظفري. وأنعم بإقطاع الأمير جرباش من عبد الكريم على تمربيه من قرمش. وبإقطاع على أركماس اليوسفي. وبإقطاع أركماس علي سودن الحموي. وبإقطاع سودن الحموي على شاهين الحسمي وتغري بردي المحمدي قسم بينهما. وأنعم بإقطاع الأمير جلبان المؤيدي أمير أخور على ألي بيه من علم شيخ الدوادار. وأنعم بإقطاع ألي بيه على الديوان المفرد، زيادة فيه. وأنعم بإقطاع الأمير مقبل الدوادار على جقمق الخازندار. وأنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب على قصروه التمرازي. وأنعم بإقطاع جانجك من حمزة على قانبيه الحمزاوي. وأنعم بإقطاع قصروه على مغلباي البوبكري.
وفي يوم الأحد حادي عشره: عوق القاضي كمال الدين محمد بن البارزي ناظر الجيق، وحموه الأمير ناصر الدين محمد بن العطار نائب الإسكندرية بالقلعة، على مال يقومان به. ثم أفرج عنهما من الغد يوم الاثنين، وخلع على كمال الدين خلعة الاستمرار، ليقوم بمال، ورسم على ابن العطار.
وفيه قدم الأمير يشبك استادار من الوجه القبلي، فخلع عليه في يوم الثلاثاء حادي عشرينه، واستقر كاشف الكشاف، وفوض إليه عزل الولاة بالأعمال وولايتهم، عوناً له على كلف الديوان المفرد. بما يأخذه منهم من البراطيل.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه: فرق الأمير الكبير ططر على الأمراء والمماليك أربع مائة فرس برسم السفر إلى الشام ورسم بالتجهيز للسفر.
وفيه قدم قصاد عديدة، من الأمراء المجردين بالشام، في طلب جمالهم وأموالهم، فمنعوا منها. وكتب إلى الأمير ألطنبغا القرمشي بأن الجمال فرقها السلطان، وقد عزم على السفر وأنك مخير بين أن تحضر على ما كنت عليه، وبين أن تستقر في نيابة الشام، عوضاً عن جقمق. وكثر الاهتمام بأمر السفر.
وفي يوم الاثنين سابع عشرينه: خلع الأمير صلاح الدين محمد ابن الوزير الصاحب ناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله أحد الحجاب، واستقر أستادارا عوضاً عن الأمير يشبك بعد عزله من يوم الجمعة. وأنعم على الأمير صلاح الدين بإمرة مائة تقدمة ألف.
وفي هذا الشهر والذي قبله: نودي أن لا يسافر أحد من الناس كافة إلى البلاد الشامية، وهدد من وجد مسافراً إليها بأشد العقوبة. وكان القصد بذلك تعمية الأخبار عن المخالفين.
شهر ربيع الآخر: أهل بيوم الجمعة: والعسكر في أهبة السفر.
وفي يوم الاثنين رابعه: ركب الأمير الكبير نظام الملك ططر من القلعة، ومعه الأمراء والمماليك السلطانية. ودخل إلى القاهرة من باب النصر، وخرج من باب زويلة إلى القلعه، فكان في موكب سلطاني لم يفقد فيه إلا الجاويشية والعصابة. وهذا أول موكب ركبه، فإنه منذ مات المؤيد شيخ لم يركب سوى يومه هذا.
وفي سادسه: نودي من قبل الأمير الكبير نظام الملك ططر في سائر المماليك السلطانية باجتماعهم لتنفق عليهم النفقة.
وفي يوم الخميس سابعه. جلس الأمير الكبير نظام الملك ططر بالقلعة، وأنفق في المماليك نفقة السفر، لكل واحد منهم مائة دينار أفرنتية.
وفيه خلع على شمس الدين محمد ابن قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني واستقر قاضي العسكر. وكان قضاء العسكر قد شغر منذ أعوام.
وفي تاسعه: أنفق في الأمراء والمماليك أيضاً، فحمل إلى الأمير تنبك العلاي ميق خمسة آلاف دينار.
وفي عاشره: أخرج بولدي الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق من القلعة، ونفيا إلى الإسكندرية.
وفي رابع عشره: نصب المخيم السلطاني خارج القاهرة.
وفيه وسط الأمير راشد بن أحمد بن بقر، خارج باب النصر، ظلماً.

وفي ثامن عشرة: قدم الخبر بأن عساكر دمشق برزت منها، وأنها نزلت باللجون، فركب الأمير ططر في يوم الثلاثاء تاسع عشره من قلعة الجبل ة ومعه السلطان الملك المظفر والأمراء، يريد السفر إلى الشام. ونزل بهم في المخيم ظاهر القاهرة، وخرج الناس أفواجاً، في إثره، وأصبح يوم الأربعاء الأمير تنبك ميق راحلاً، ومعه عدة من الأمراء وغيرهم ثم استقل الأمير ططر بالمسير ومعه السلطان والخليفة وبقية العسكر في يوم الجمعة ثاني عشرينه. وقد جعل نائب الغيبة الأمير قانبيه الحمزاوي - وهو يومئذ غائب ببلاد الصعيد - وأن ينوب عنه حتى يحضر الأمير جقمق أخو جركس المصارع، وتأخر عن السفر الوزير وأستادار.
شهر جمادى الأولى أوله الأحد: في ثانية: دخل الأمير ططر بالسلطان إلى غزة، فقدم إليه طائعاً كثير ممن خرج من عسكر دمشق، منهم الأمير جلبان أمير أخور أحد المجردين إلى حلب في أيام المؤيد، والأمير أينال نائب حماة، فسر بهم، وأنعم عليهم، وفر ممن كان معهم الأمير مقبل الدوادار في طائفة يريد دمشق. وقدم الخبر بذلك إلى القاهرة في تاسعه، فدقت البشائر بالقلعة، وخلع على القادم.
وفي سادس عشره: قدم الخبر بنزول الأمير ططر ومن معه على بيسان في يوم الثلاثاء عاشره، وأنه ورد عليه الخبر من دمشق أن الأمير في مقبل لما دخل دمشق وأخبر بدخول الأميرين جلبان أمير أخور وأينال نائب حماة في الطاعة، شق ذلك على الأمير جقمق نائب الشام، وعلى الأمير ألطنبغا القرمشي، واختلفا، فاقتضي رأي القرمشي أن يدخل في الطاعة، وامتنع جقمق من ذلك، وصاروا حزبين.
فلما كان في يوم الاثنين ثالثه: بلغ القرمشي عن جقمق بأنه يريد أن يقبض عليه، فبادر إلى محاربته، وركب في جماعته بآلة الحرب، ووقف بهم تجاه القلعة، وقد رفع الصنجق السلطاني، فأتاه جماعة عديدة راغبين في الطاعة. وكانت بينه وبين جقمق وقعة طول النهار. فانكسر جقمق ومضى هو والأمير طوغان أمير أخور والأمير مقبل الدوادار في نحو الخمسين فارساً إلى جهة صرخد. وأن القرمشي استولى على مدينة دمشق وتقدم إلى القضاة والأعيان أن يتوجهوا إلى ملاقاة السلطان. فقدموا إلى العسكر، فدقت البشائر بقلعة الجبل، وخلع على الذي قدم بذلك.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: قدم الأمير قانبيه الحمزاوي من بلاد الصعيد، وحكم في نيابة الغيبة، فانكفت يد جقمق عن الحكم، وكانت سيرته في الناس جيدة وفيه نودي على النيل ثلاثة أصابع، وجاء القاع أربعة أذرع وأربعة وعشرين إصبعاً.
وفي تاسع عشرينه: قدم الخبر بأن الأمير ططر لما نزل. ممن معه اللجون، أتاه الأمير أزدمر الناصري، وعلى يده كتاب الأمير ألطنبغا القر ومضمونه أن جقمق نائب الشام ركب عليه في يوم الثلاثاء ثالثه بعسكر دمشق، ووقف عند باب النصر. وأنه ركب. ممن معه، ووقف عند جامع يلبغا. وكانت بينهما حرب من قبل الظهر إلى بعد العصر، فانكسر من جقمق إلى سويقة صاروجاً ثم قوى وعاد، وقد نصب الصنجق السلطاني ونادى من كان في طاعة السلطان فليقف تحت الصنجق فأتاه كثير ممن مع جقمق، فلم يجد بداً من الفرار، فتوجه نحو صرخد ومعه الأميران مقبل وطوغان فسر الأمير ططر سروراً زائداً. وأنه قدم أيضاً الأمير قطلوبغا التنمي نائب صفد، فخلع عليه. وسار الأمير ططر، ممن معه إلى دمشق، فدخلها بكرة يوم الأحد، خامس عشره، وقد تلقاه الأمير ألطنبغا القرمشي والأمير ألطنبغا المرقبي والأمير جرباش قاشق، فخلع على القرمشي ونزل الأمير ططر بالقلعة مع السلطان. وأول ما بدأ به أن قبض على القرمشي والمرقبي وجرباش، وعلى الأمير أردبغا من أمراء الألوف بدمشق، وعلى الأمير بدر الدير حسن بن محب الدين أستادار المؤيد.

وأصبح يوم الاثنين سادس عشره: وقد جلس للخدمة بالقلة. وخلع على الأمير تنبك العلاي ميق، واستقر به نائب الشام عوضاً عن جقمق. وخلع على الأمير أينال الجكمي رأس نوبة النوب، وأستقر به نائب حلب. وخلع على الأمير يونس الأتابك بدمشق، واستقر نائب غزة، عوضاً عن أركماس الجلباني. وخلع على الأمير جانبك الصوفي أمير سلاح واستقر أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير تنبك ميق. وبعث في طلب الأمير جقمق الأمير بيبغا المظفري والأمير أينال الأزعري، والأمير يشبك أينالي، والأمير سودن اللكاشي ومعهم مائتا مملوك. فدقت البشائر بقلعه الجبل مدة ثلاثة أيام. وزينت القاهرة عشرة أيام.
شهر جمادى الآخرة أوله الثلاثاء: في ثامن عشره: قدم إلى دمشق جماعة من المماليك الظاهرية برقوق الذين فروا من الملك المؤيد منذ سنين، منهم الأمير طرباي نائب غزة، والأمير سودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، والأمير يشبك الدوادار، والأمير جانبك الحمزاوي نائب طرسوس فخلع عليهم الأمير ططر. وأنعم عليهم بالمال والخيل والسلاح والقماش. وحمل إليهم الأمراء عدة تقادم على قدر رتبهم.
وفي تاسع عشرينه: توقفت زيادة ماء النيل، ونقص خمسة أصابع. وقد بلغ خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً.
وفيه قدم الخبر بتوجه الأمير ططر. ممن معه من السلطان والعساكر إلى جهة حلب، في خامس عشرينه.
شهر رجب، أوله الأربعاء: أهل والناس في قلق لتوقف ماء النيل عن الزيادة، وقد نقص بضع عشرة إصبعا، ثم أن الله أغاث عباده، ونودي عليه في رابعه بزيادة إصبع، واستمرت زيادته.
وفي سادسه: دخل الأمير ططر. ممن معه إلى حلب، فقدم عليه بها الأمير مقبل الحسامي الدوادار طائعاً، وقد فارق جقمق بصرخد، فخلع عليه، وعفي عنه. وخلع على الأمير تغري بردي من قصروه أمير أخور، واستقر في نيابة حلب، عوضا عن أينال الجكمي وخلع على أينال، واستقر أمير سلاح.
شهر شعبان، أوله الجمعة: في يوم الاثنين حادي عشره - الموافق لثامن عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليح على العادة. وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس - كان - بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور. فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما. وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشره، وأنه قدم بهم إلى دمشق في ثالث عشرينه، فقتل جقمق نائب الشام ونفى طوغان إلى القدس بطالا. وأنه قبض في ثامن عشرينه على كثير من الأمراء منهم سبعة من أمراء الألوف بمصر، وهم أينال الأزعري حاجب الحجاب وأينال الجكمي نائب حلب، وأمير سلاح، وسودن اللكاشي، وجلبان أمير أخور، وألي بيه الدوادار، ويشبك أينالي أستادار، وأزدمر الناصري. وقبض على الطواشي مرجان الخازندار، ثم أفرج عنه. وعزم على خلع المظفر من السلطنة، وخلعه في تاسع عشرينه فكانت مدته سبعه أشهر وعشرين يوماً.
السلطان سيف الدين أبو الفتح ططرالسلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر جلس على تخت الملك بقلعة دمشق في يوم الجمعة تاسع عشرين شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة، الموافق له يوم نوروز القبط بمصر، وتلقب بالملك الظاهر. وخطب له من يومه على منابر دمشق وكتب إلى مصر وحلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد وغزة بذلك.
شهر رمضان، أوله السبت: نودي على النيل ثلاثة أصابع، لتتمه ثمانية عشر ذراعاً وإصبعين. فلما فتح بحر أبي المنجا نقص النيل اثني عشر إصبعا، ثم إنه تراجعها قليلا قليلا في عدة أيام.

وفي يوم الاثنين ثالثه: خلع السلطان الملك الظاهر ططر بقلعة دمشق على الأمير طرباي الذي كان نائب غزة، وفر من الملك المؤيد، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن أينال الأزعري. وخلع على الأمير برسباي الدقماقي، واستقر به دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير ألي بيه. وبرسباي هذا بعث به الأمير دقماق نائب ملطية إلى الظاهر برقوق، فنزل بالطباق من القلعة إلى أن أخرج له خيلاً، وصار يركب وينزل، فلما مات الظاهر انتمى إلى الأمير جركس المصارع، وتقلبت به الأحوال في تلك الأيام إلى أن خرج من القاهرة فاراً إلى الشام. وصار من جماعة الأمير نوروز الحافظي. ثم انتقل عنه هو وأخوه ططر إلى الأمير شيخ المحمودي وما زالا معه حتى قتل الملك الناصر فرج بن برقوق، وقدم الأمير شيخ إلى مصر، وتسلطن، أنعم على برسباي بإمرة، وعمله كاشف الجسور. ثم ولاه نيابة طرابلس، فواقع التركمان فكسروه. فتنكر عليه الملك المزيد شيخ وسجنه بالمرقب مدة، ثم أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة في دمشق، فمات المؤيد، وهو من جملة أمراء دمشق فقبض عليه الأمير جقمق نائب الشام، وسجنه من أجل أنه معروف بينهما قرابة قريبة. فلم يزل مسجوناً بقلعة دمشق، حتى ثار الأمير ألطنبغا على جقمق نائب الشام، وهزمه. فأفرج عن برسباي. ودخل عقيب ذلك الأمير ططر إلى دمشق، فتوجه معه إلى حلب وبعثه منها حتى أحضر جقمق من صرخد. فلما تسلطن ططر عمله دواداراً كبيراً. وسيظهر لك فائدة التعريف بحال برسباي هذا عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وخلع في هذا اليوم أيضاً على الأمير يشبك الدوادار الذي فر من الحجاز إلى قرا يوسف في الأيام المؤيدية، واستقر أمير أخور، عوضاً عن الأمير تغري بردي من قصروه.
وفي يوم الأربعاء خامسه: خلع على قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطي، بين يدي الأمير قانبيه الحمزاوي، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي، ونزل في موكب جليل إلى داره. وكان سبب ولايته أنه طالت عطلته سنين، فلما استبد الظاهر ططر بالسلطنة، تذكره لصحبة بينهما، فكتب إلى الأمير قانبيه بطلبه، وعرض الحسبة عليه فإن قبلها ولاه، فلم يمتنع من قبولها لرغبته في الحكم.
وفي ثامنه: قدم الخبر بسلطنة الأمير ططر، فنودي بذلك في القاهرة، ودقت البشائر بقلعة الجبل.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: برز السلطان من دمشق عائداً إلى مصر، بعد ما أثر بدمشق آثاراً جميلة، منها أن نائب الشام كان له محتسب دمشق في كل سنة نحو الألف وخمسمائة دينار يحملها إليه، ويتعوضها بزيادة من مظالم العباد، فعوض السلطان نائب الشام عن هذا المبلغ بلد أربل، ويتحصل له منها في السنة نحو الألفين وخمسمائة دينار، وولى حسبة دمشق لرجل بغير مال، ونادى إن طلب منكم المحتسب يا أهل دمشق شيئاً فارجموه. ونقش بإبطال هذه الحادثة - وما كان منه فيها - على حجر بجامع بني أمية.
ثم مر السلطان في طريقة بمدينة القدس، فرفع إليه أن من عادة نائبها أن يجبي كل سنة من فلاحي الضياع نحو أربعة آلاف دينار، وبسبب ذلك خربت معاملة القدس، فعوض النائب عن ذلك. ونادى بإبطال هذه المغارم، ونقشه على حجر بالمسجد، فتباشر الناس بأيامه، ورجوا أن يزيل الله عنهم به ما هم فيه من الجور.
شهر شوال، أوله الاثنين، الموافق له ثاني بابة: وفيه بلغت زيادة النيل تسعة عشر ذراعاً، وإصبع واحد.
وفيه نزل السلطان بالصالحية، فخرج الناس إلى لقائه، وقد تزايد السرور به، فصعد قلعة الجبل في يوم الخميس رابعه، وأنزل المظفر مع أمه في بعض دور القلعة.
وفي يوم الجمعة خامسه: خلع على الطواشي مرجان الهندي، واستقر زمام الدار، عوضاً عن الطواشي كافور الشبلي.
وفي يوم الاثنين: ابتدأ السلطان بعرض مماليك الطباق، وأنزل منهم عدة، فسكنوا في الصليبة وغيرها.

وفي يوم الاثنين خامس عشره: استدعى السلطان الشيخ ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العرامي الشافعي، وخلع عليه، وفوض إليه قضاء القضاة بديار مصر، بعد وفاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني. فنزل في موكب عظيم من الأمراء والقضاة والأعيان، بعد ما اشترط أن لا يقبل شفاعة أمير في يوم الحكم. فسر الناس بولايته لكفاءته، وتمنكه من علوم الحديث والفقه وغير ذلك، مع جميل طريقته وحسن سيرته، وتصديه للإفتاء والتدريس عدة سنين، وتنزهه عن الترداد لأبواب الأمراء ونحوهم، وسعة ذات يده، وغير هذا من الصفات المحمودة.
وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه: أصبح السلطان مريضاً فلزم الفراش إلى آخر الشهر.
وفي هذا الشهر أنعم على كل من الأمير سودن الأشقر والأمير كزل العجمي بإمرة. وكانا منفيين، فأعادهما السلطان إلى القاهرة.
وفيه انحل سعر الغلال عما كان.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: فيه أبل السلطان من مرضه، ودخل الحمام، وخلع على الأطباء وأنعم عليهم.
وفي ثالثه: خلع على فارس دوادار السلطان وهو أمير، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن قشتمر، وقد أحضر من الثغر.
وفيه قبض على قشتمر المذكور، وعلى الأمير قانبيه الحمزاوي نائب الغيبة، وحملا مقيدين إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفي يوم الاثنين رابعه: خلع على زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقي، واستقر ناظر الجيوش، عوضا عن كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي الحموي. وخلع على شرف الدين محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، واستقر في نظر وقف الأشراف، وفي نظر الخزانة، ونظر كسوة الكعبة عوضاً عن عبد الباسط.
وفي عاشرينه: انتكس السلطان، ولزم الفراش.
وفي خامس عشرينه: عزل قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة نفسه لمعارضة بعض الأمراء له في ولاية القضاء ببعض الأعمال.
وفي سادس عشرينه: رسم بالإفراج عن أمير المؤمنين أبي الفضل العباس بن محمد من سجنه بالبرج في الإسكندريه، وأن يسكن بقاعة في المدينة، ويخرج لصلاة الجمعة بالجامع، ويركب حيث شاء. وجهز إليه بفرس عليه سرج ذهب وكنفوش زركش وبقجة قماش تليق بمقامه، ورتب له على الثغر في كل يوم مائة درهم من نقد القاهرة وفي يوم الأحد سابع عشرينه: درس علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني بالزاوية المعروفة بالخشابية التي بجامع عمرو بن العاص بمدينة مصر، عوضاً عن أخيه قاضي القضاة القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني.
شهر ذي الحجة، أوله يوم الخميس.
أهل والسلطان مرضه متزايد، والإرجاف به كبيره وفي يوم الجمعة - ثانيه - : استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا، فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد.
وفيه أذن لقاضي القضاة ولي الدين بن العراقي أن يحكم، وأعيد إلى القضاء. وكان من حين عزل نفسه قد انكف هو ونوابه عن الحكم، فصلى بالناس الجمعة، بعد ما خطب في جامع القلعة، ونزل من غير أن يخلع عليه، شغلا. فمرض السلطان.

وفيه أخذ الناس في توزيع أمتعتهم من الدور والحوانيت خوفاً من الفتنة، فلما كانت ضحوة نهار الأحد رابعه، توفي السلطان، فاضطرب الناس ساعة، ثم غسل وأخرج من باب السلسة، وليس معه إلا نحو العشرين وجلا، حتى دفن بجوار الليث بن سعد من القرافة. فكانت مدة تحكمه منذ مات المؤيد أحد عشر شهراً تنقص خمسة أيام، منها مدة سلطنته أربعة وتسعين يوماً. وكان جركسي الجنس، رباه بعض التجار، وعلمه شيئاً من القرآن وفقه الحنفية. وقدم به القاهرة في سنة إحدى وثمانمائة، وهو صبي، فدل عليه الأمير قانبيه العلاي لقرابته به، فسأل السلطان الملك الظاهر فيه حتى أخذه من تاجره. ومات السلطان قبل أن يصرف ثمنه. فوزن الأمير الكبير أيتمش ثمنه اثني عشر ألف درهم. ونزله في جملة مماليك الطباق، فنشأ بينهم، وكان الملك الناصر فرج اعتقه، فلم يزل في مماليك الطاق، حتى عاد الناصر إلى السلطة بعد أخيه المنصور عبد العزيز، فأخرج له الخيل، وأعطاه إقطاعاً في الحلقة، فانضم إلى الأمير نوروز الحافظي، وتقلب معه في بحار تلك الفتن، وفر إليه بالشام، ثم صار منه إلى جماعة الأمير شيخ. وما زال معه حتى قتل الناصر، وقدم إلى مصر، وتسلطن، فأمره، وتنقل حتى صار سلطاناً، فلم يتهن. وكان أولا كالمحجور عليه مع ألي بيه الدوادار، وتغري بردي من قصروه أمير أخور. ثم تعلل منذ خرج من حلب، فلم يقم بقلعة الجبل سوى ثمانية عشر يوماً. وألجأه تعلله إلى لزوم الفراش، حتى مات. وكان يميل إلى تدين، وفيه لين، وإعصاء، وكرم، مع طيش، وخفة. وكان شديد التعصب لمذهب الحنفية. يريد أن لا يدع أحداً من الفقهاء غير الحنفية. وأتلف في مدته - مع قلتها - أموالا عظيمة، وحمل الدولة كلفا كثيرة، أتعب بها من بعده. ولم تطل أيامه حتى تشكر أفعاله أو تدم.
السلطان ناصر الدين محمد بن الظاهر ططرالسلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر

أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه. في يوم الأحد رابع ذي الحجة، سنة أربع وعشرين وثمانمائة قد اجتمع الأمراء بالقلعة، إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقبوه بالملك الصالح. ونودي في القاهرة أن يترحموا على الملك الظاهر، ويدعوا للملك الصالح وسكن الأمير جانبك الصوفي بالحراقة من باب السلسة، وانضم إليه معظم الأمراء والمماليك. وأقام الأمير برسباي الدقماقي بالقلعة، في عدة من الأمراء والمماليك، منهم الأمير طرباي حاجب الحجاب، والأمير قصروه رأس نوبة، والأمير جقمق، وباتوا بأجمعهم مستعدين. وأصبحوا يوم الإثنين خامسه وقد تجمع المماليك يطلبون النفقة عليهم، والأضحية، وأغلظوا في القول، حتى كادت الحرب أن تكون. فترضاهم الأمراء حتى تفرق جمعهم. وبات العسكر على أهبة القتال. وأصبحوا يوم الثلاثاء سادسه في تفرقة الأضاحي، فأخذ كل مملوك رأسان من الضأن. وتجمعوا تحت القلعة لطلب النفقة، فطال النزاع بينهم وبين الأمير جانبك الصوفي، حتى تراضوا أن ينفق فيهم بعد عشرة أيام من غير أن يعين لهم مقدار ما ينفقه فيهم، فانفضوا وبعث الأمير جانبك إلى الأمير برسباي أن ينزل من القلعة هو والأمير طرباي والأمير قصروه، وأن يسكنوا في دورهم ويقيم الأمير جقمق عند السلطان. فنزل الأمير طرباي مظهرًا أنه في طاعة الأمير جانبك وهو في الباطن بخلاف ذلك، فإنه أخذ في تدبير أمره وإحكام الأمر للأمير برسباي. واستمال كثير من المماليك، وأصبح في يوم الأربعاء ثامنه الأمير جانبك الصوفي متوعكاً، وقد أشيع أنه قصد بذلك مكيدة فتمادى الحال إلى يوم الخميس تاسعه. وأصبح يوم الجمعة عاشره، وهو يوم النحر، وقد أخرج الأمير برسباي بالسلطان من قصره إلى الجامع بالقلعة، ومعه الأمير قصروه، فصلى بهم قاضي القضاة ولي الدين العراقي صلاة العيد، وخطب على العادة. ثم مضى الأميران بالسلطان إلى باب الستارة، فذبح السلطان هناك طائفة من غنم الأضحية، وذبح الأمير برسباي ما هنالك من البقر وبقية الغنم. وبينما هم في ذلك إذ رمى المماليك بالنشاب من أعلا القلعة على الأمير جانبك، وهو بالحراقة من باب السلسلة، فاضطرب الناس وللحال أغلق باب القلعة، ودقت الكوسات حربيا، فخرج الأمير طرباي من داره في عسكر كبير، وقد لبسوا جميعهم لامة الحرب. وطلع ومعه الأمير قجق إلى الأمير جانبك الصوفي بالحراقة، وأخذ يلومه على تأخره عن الطلوع لصلاة العيد، ومازال يخدعه حتى انخدع له، وركب معه ليشتروا في بيت الأمير بيبغا المظفري على ما يعمل. وكان بيبغا قد تأخر عن الركوب، وأقام في داره. ومضوا وقد ركب مع جانبك الأمير يشبك أمير أخور. فما هو إلا أن صاروا في داخل بيت بيبغا المظفري إذا بباب الدار قد أغلق، وأحيط بجانبك الصوفي، ويشبك أمير أخور وقيدا، وأخذا أسيرين إلى القلعة، ونودي بالنفقة في المماليك مائة دينار لكل واحد، فكأنها جمرة طفيت. وللحال سكنت الفتنة، كأن لم تكن، فلم تنتطح فيها عنزان. ونودي في القاهرة بالأمان، فقد قبض على أعداء السلطان، ففتحت أبواب القاهرة، بعد ما أغلقت. واطمأن الناس بعد ما كان في ظنهم أن الفتنة تطول. وكل ذلك في ضحى النهار، فسبحان من بيده الأمر كله.
وفي يوم السبت حادي عشره: استدعى الأمير أرغون شاه أستادار الأمير نوروز الحافظي. وكان قد قدم من دمشق في خدمة الظاهر ططر، فصعد القلعة، وخلع عليه الأمير برسباي، واستقر استادارا، عوضاً عن الأمير صلاح الدين محمد بن نصر الله.
وفيه حمل الأمير جانبك الصوفي والأمير يشبك مقيدين من القلعة إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: أعيد الصاحب تاج الدين بن الهيصم إلى نظر الديوان المفرد. وكان قد عزل عنه بدمشق في شهر رمضان. وعاد إلى القاهرة بطالاً.
وفي يوم الاثنين ثالث عشره: خلع على الأمير آق قجا، واستقر في كشف الوجه القبلي، وكان قد وليه في الأيام الظاهرية ططر. وساءت سيرته حتى أشيع أنه افتض مائة بكر غصباً، إلى غير ذلك.

وفي يوم الخميس سادس عشره: اجتمع الأمراء بالخدمة في القصر. وقد أخرج السلطان من عند أمه وأجلس ثم خلع على الأمير برسباي الدقماقي الدوادار، واستقر نظام الملك، كما كان الظاهر ططر قبل أن يتسلطن. وكان الأمير برسباي منذ اشتد مرض الظاهر مقيماً بالقلعة، لم ينزل منها طول هذه المدة.
وفيه فوض الخليفة إلى الأمير الكبير نظام الملك برسباي أمور المملكة بأسرها، ليقوم بها إلى أن يبلغ السلطان رشده. وحكم بصحة ذلك قاضي القضاة الحنفي.
وفيه خلع على الأمير سودن من عبد الرحمن، واستقر دوادارا كبيراً، عوضاً عن الأمير الكبير نظام الملك برسباي. وخلع على الأمير طرباي حاجب الحجاب. واستقر أميراً كبيراً عن جانبك الصوفي. وتقرر الحال على أن يكون تدبير الدولة وسائر أمور المملكة بيد الأمير برسباي والأمير طرباي شركة. وأن يسكن طرباي بداره تحت القلعة تجاه باب السلسلة، ويحضر الخدمة عند الأمير برسباي بالأشرفية. وخلع على الأمير جقمق نائب القلعة، واستقر حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير طرباي. وخلع على الأمير قصروه رأس نوبة، واستقر أمير أخور، عوضاً عن يشبك. وخلع على الأمير أزبك، واستمر رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن قصروه. وخرج جميع الأمراء وسائر أهل الدولة من الخدمة السلطانية بالقصر مشاة في خدمة الأمير نظام الملك برسباي، حتى دخل الأشرفية التي هي سكنه، وعملت بها الخدمة بين يديه. وصرف أمور الدولة على حسب أخياره، ومقتضى رأيه، واستمر الأمر على هذا.
وفي السبت ثامن عشره: ورد الخبر بأن الأمير تغري بردي من قصروه نائب حلب استدعى جمائع التركمان إلى حلب، وقبض على الأمراء الحلبيين، وخرج عن الطاعة. وسبب ذلك أن الظاهر ططر كان قد كتب بولاية الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس في نيابة حلب، وعزل تغري بردي. فلما بلغه ذلك كان منه ما ذكر.
وفي ثالث عشرينه: خلع على صدر الدين أحمد بن محمود العجمي، وأعيد إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن جمال الدين يوسف البساطي.
وفيه نودي بمنع النساء من الخروج إلى الترب، وتشدد الأمير جقمق الحاجب في ذلك. وكان قد كثر في هذا الشهر مرض الناس. ومات عدة منهم، فصارت النساء يترددن إلى الترب في أيام الجمع، ويقمن بها المآتم والعزاء.
وقدم الخبر بعظم الفناء ببلاد الفرنج - سيما رودس - وبشدة الغلاء ببلد العلايا، ونحوها من بر التركية.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: ابتدأ الأمير نظام الملك برسباي في نفقة المماليك، وهو والأمراء على تخوف منهم أن يمتنعوا من أخذها. وذلك أنهم وعدوا في نوبة جانبك الصوفي. بمائة دينار لكل واحد، فلم يصرف لكل واحد منهم سوى خمسين ديناراً من أجل قلة المال، فإن الظاهر ططر أتلف المال الذي كان خلفه المؤيد شيخ حتى لم يبق منه غير ستين ألف دينار. ومع ذلك فإنه زاد في نفقة المماليك المقررة بالديوان المفرد كل شهر ما ينيف على عشرة آلاف دينار. فأحسن الأمير صلاح الدين محمد الأستادار بالعجز واستعفى؛ على أنه قام هو وأبوه الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص بعشرة آلاف دينار عن ثمن الأضحية، وبعشرين ألف دينار في نفقة المماليك. وتسلم منهما الأمير أرغون شاه عشرين ألف أردب شعيراً. وعندما استقر أرغون شاه أستادارا، وهب الناس واشتد عليهم، وخشن جانبه، حتى غلقت أسواق القاهرة ومصر عدة أيام خوفاً من بطشه. وكتب يطلب متدركي النواحي ليصادرهم. وقرر على مباشري الدولة بأسرهم أموالاً يحملونها إليه، فقرر على الوزير الصاحب تاج الدين بن كلاب المناخ ستة آلاف دينار، وعلى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص عشرة آلاف دينار، وعلى من دونهما بحسب ما سولت له نفسه، حتى اجتمع من ذلك نفقة المماليك، فأنفق في ثلاثة آلاف ومائتي مملوك مبلغ مائة وستين ألف دينار، فأخذوا النفقة، وانفضوا بغير شر، ولله الحمد.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامتهم، وأنهم وقفوا بعرفة يوم الجمعة، وأنه لم يرد حاج من العراق ولا من اليمن.
وفي هذه السنة: كانت حروب مثيرة بين طوائف الفرنج، اقتتل فيها طائفة الكتيلان مع الفنش، فهزموه، وقتل بينهم عشرة آلاف فأقل ما قيل أن عدة قتلاهم ثمانون ألفاً.

وفيها كانت حرب بمدينة فاس من بلاد المغرب بين أبي زيان محمد بن أبي طريق بن أبي عنان - وقد قام بأمره الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر على الوزير الحاجب عبد العزيز اللباني لقتله السلطان أبي سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد وثلاثة عشر أميراً من إخوته وأولاده وبني أخوته - وبين اللباني، وكان قد استنصر بالشاوية، وبعث إليهم بمال كبير، فأتوه، فلم يطق الحلفاوي مقاومتهم، فأدخله مدينة فاس بجموعه، وألويته منشورة على رأسه، وأنزله دار الحرة آمنة بنت السلطان أبي العباس أحمد، فرحل الشاوية عن المدينة. وقبض على اللباني. وأسلم إلى الحلفاوي. فدخل السلطان أبو زيان فاس الجديد في ربيع الآخر، وبعث بالسلطان أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد إلى الأندلس. فما كان سوى شهر حتى ثار بنو مرين على أبي زيان، وحصروه، وطلبوا الوزير أبا البقاء صالح بن صالح أن يحمل أبا عبد الله محمد المتوكل ابن السلطان أبي سعيد، فقدم الوزير به، واستمرت الحرب أربعة أشهر إلى أن فر أبو زيان ووزيره فارح. وأخذ بنو مرين البلد الجديد، وطلبوا من ابن الأحمر أن يبعث بالسلطان الكبير أبي عبد الله محمد المستنصر بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، فبعثه إليهم، فملكوه وأطاعوه. وفيها - كما تقدم - كان تغير دول مصر، فبلغت عدة من قتل وسجن من أمراء مصر والشام زيادة على أربعين أميراً.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالسلطان الملك المؤيد شيخ الحموي - أحد مماليك الملك الظاهر برقوق في يوم الاثنين ثامن المحرم، وقد أناف على الخميس سنة.
ومات عبد الرحمن بن السمسار، في ثالث صفر، وله شهرة في طائفته، ومال جم. ومات الأمير مرج بن سكربيه، أحد الأمراء العشرات، في رابع صفر. وكان من خواص المؤيد، الجمال صورته.
ومات بهاء الدين محمد بن بدر الدين حسن بن عبد الله، المعروف بابن البرجي، عن ثلاث وسبعين سنة، في يوم الخميس عاشر صفر. وقد ولي حسبة القاهرة غير مرة. وولى وكالة بيت المال ونظر كسوة الكعبة وباشر نظر عمارة الجامع المؤيدي. وكان أبوه يلي قضاء المحلة.
وقتل الأمير سيف الدين يشبك اليوسفي نائب حلب، أحد المماليك المؤيدية، في يوم الثلاثاء ثالث عشرين المحرم. وكان من شرار الخلق.
ومات علم الدين سليمان بن جنيبة رئيس الأطباء، وقد أناف على ثمانين سنة، في سادس عشر صفر. كان أبوه يهودياً، ونشأ سليمان هذا مسلماً، يتكسب بصناعة الطب، ويعاشر الأعيان، فصار من مشهوري الأطباء عدة سنين، وعرف بحسن العلاج. ثم ولي رياسة الأطباء في سنة ثلاث عشرة. وكان فاضلاً في علم الطب، هشاً، جميل المعاشرة، يكتب الخط الجيد. تردد إلى سنين، وما علمت عليه إلا خيراً.
ومات تاج الدين عبد الوهاب بن الجباس، الذي ولي حسبة القاهرة في سنة سبع وثمانمائة. وكان عامياً في هيئة فقيه. توفي يوم السبت سادس عشر ربيع الآخر.
وقتل الأمير ألطنبغا القرمشي في خامس عشرين جمادى الأولى بقلعة دمشق. وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق الذين فروا إلى الشام، وصار من جملة الأمير شيخ. وما برح يرقيه على ما تقدم ذكره.
ومات الأمير الوزير المشير الأستادار بدر الدين محمد بن محب الدين عبد الله الطرابلسي. كان أبوه من مسالمة نصارى طرابلس. وبها نشأ البدر هذا وولي بها كتابة سرها، وولي شد الدواوين بها. وتعلق بخدمة الأمير شيخ أيام تلك الفتن. وعمل أستادارا عنده. فلما قدم مصر باشر به أستادار، ثم عزله وولاه الوزارة. ثم عزله كما تقدم. وكان يكتب الخط المنسوب، ويتظاهر بقبائح المعاصي، وينوع الظلم في أخذ الأموال، فعاقبه الله بيد ناصره المؤيد شيخ أشد عقوبة، ثم قبض عليه الظاهر ططر وعاقبه حتى هلك تحت الضرب. وضرب ميتاً. فأراح الله منه عباده. وذلك في سابع عشر جمادى الآخرة بدمشق.
ومات بحلب الأمير كردي بن كندر. أحد أمراء التركمان، مقتولاً في شهر رجب. ومات متملك بلاد الروم بمدينة برصا، غياث الدين أبو الفتح محمد كرشجي بن بايزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان، وملك برصا بعده ابنه خوند كار مراد شلبي محمد كرشجي بن بايزيد خوند كار، وذلك في شهر رجب.
وقتل الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير، في واقعة مع التركمان بمعاملة حلب، في تاسع شعبان. وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق الذين أنشأهم المؤيد شيخ، وجعله أمير مائة مقدم ألف.

وقتل الأمير قجقار القردمي بسجن الإسكندرية، في سادس عشرين شعبان. وهو أحد من أنشأه المؤيد شيخ، حتى صار أمير مائة مقدم ألف، أمير سلاح.
وقتل الأمير جقمق نائب الشام بعد عقوبة شديدة، في ليلة الأربعاء سابع عشرين شهر شعبان. وكان ممن أنشأه المؤيد شيخ، وعمله أمير مائة مقدم ألف، وأعطاه نيابة الشام. وكان فاجراً ظالماً غشوماً، لا يكف عن قبيح.
وتوفي قاضي القضاة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سراج الدين أبي حفص عمر البلقيني الشافعي، في ليلة الخميس حادي عشره، عن ثلاث وستين سنة. وصلى عليه بالجامع الحاكمي. ودفن على قبر أبيه وأخيه، بمدرستهم من حارة بهاء الدين، فكان جمعاً موفوراً، ومشهداً جليلاً حافلاً مذكوراً. وانتاب الناس قبره مدة. و لم يختلف بعد مثله في كثرة علمه بالفقه وأصوله، وبالحديث والتفسير والعربية، مع العفة والنزاهة عما يرمي به قضاة السوء، وجمال الصورة، وفصاحة العبارة وبالجملة فلقد كان ممن يتجمل به الوقت.
ومات السلطان الملك الظاهر ططر، في يوم الأحد رابع ذي الحجة. وقد تقدم التعريف به.
سنة خمس وعشرين وثمانمائةأهلت وسلطان مصر والشام الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر. والقائم بأمور الدولة الأمير الكبير نظام الملك برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك طرباي. والدوادار الأمير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح بيبغا المظفري. وأمير مجلس الأمير قجق. وأمير أخور الأمير قصروه. ورأس نوبة الأمير أزبك. والوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر علم الدين داود بن الكويز. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وأستادار الأمير أرغون شاه. وقاضي القضاة الشافعي ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي. وباقيهم كما تقدم في السنة الخالية. وكاشف الوجه القبلي الأمير أقجا ونائب الإسكندرية الأمير فارس. ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق. ونائب حلب الأمير تغري بردي من قصروه، وقد أظهر الخلاف. ونائب طرابلس الأمير تنبك البجاسي ونائب حماه الأمير شارقطلوا. ونائب صفد الأمير أينال. وبلاد الصعيد قد عاث بها العربان، وكثر فسادهم.
شهر الله المحرم، أوله الجمعة.
في ثالث عشره: قدم الخبر بفرار الأمير تغري بردي نائب حلب منها، بعد وقعة كانت بينه وبين الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس. وقد كتب له باستقراره في نيابة حلب ومحاربة المذكور، فسار إليه وحاربه، فانهزم منه وتسلم تنبك حلب، فدقت البشائر بقلعة الجبل أياماً.
وفي تاسع عشره: خلع على بلبان الجمالي، واستقر كاشف الوجه القبلي، بعد موت أقجا.
وفي ثالث عشرينه: قد الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل ببفية الحاج في عده صحبة الأمير تمر بيه اليوسفي، أحد الأمراء الألوف. وقد كثر ثناء الحجاج عليه لحسن سيرته فيهم، فقبض عليه في ثامن عشرينه.
وفي هذا الشهر: دخل شخص يعرف بالشيخ سعد، لم يزل يعرف بالفقر، ويقبل من الناس صدقتهم، ويقرئ الأطفال بالأجرة، إلى الجامع الأزهر، وتصدق بمائتين وسبعين ديناراً إفرنتية، وبستة وعشرين ديناراً هرجة، وبأربعة آلاف وخمسمائة درهم وفيه قبض على الأمير قرمش أحد الأمراء الألوف، وأخرج هو وتمربيه إلى دمياط. وأنعم على يشبك الساقي الأعرج بإقطاع قرمش وإمرته.
وفيه وقع برد بناحية قصر عفرا من بلاد حوران بالشام، فكان فيه شبه خنافس وعقارب وضفادع.
شهر صفر، أوله الأحد: في ثانيه. قبص على الأمير أيتمش الخضري، ونفي بطالا إلى القدس.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: جمعت الصيارف بالاصطبل للنظر في الدراهم المؤيدية، فإنه كثر هرش الجيد منها. ومعنى الهرش أن يبرد من الدرهم حتى يجف وزنه، ويصير نحو ربع درهم. فاستقرت المعاملة بها وزناً لا عدداً. ورسم أن يكون كل درهم وزناً بعشرين درهماً فلوساً. وأن يكون الدينار الإفرنتي بمائتين وعشرين فلوسا، وبأحد عشر درهما فضة، وازنة عنها من المؤيدية اثنان وعشرون عدداً، زنة كل مؤيدي نصف درهم، فنزل بالناس من ذلك شدة لخسارتهم. وذلك أن المؤيدي الذي كان بسبعة دراهم فلوساً صار بخمسة دراهم، وفيها ما لا يبلغ الخمسة. وكثر مع ذلك الاختلاف في أسعار المبيعات، وقيم الأعمال، أجر المستأجرات، فذهب معظم مال الناس.
وفي هدا الشهر: عز وجود لحم الضان في الأسواق، لقلة الأغنام.

وفيه كثر فساد لهانة وهوارة ببلاد الصعيد، وقطعهم الطرقات على المسافرين، وشنهم الغارات على البلاد، وإحراقهم عدة نواحي بما فيها. هذا مع ما ببلاد الصعيد من قلة وجود القمح عندهم، بحيث صار يحمل إليهم من القاهرة، وذلك لخراب بلاد الصعيد ودثور أكثر بلادها، بحيث العشرة أيام ببلاد الصعيد لا يوجد فيها أحد، ولا تزع أراضيها، فقلت الأغنام عندهم. وصار أهلها إلى فقر وبؤس، حتى أن غالب قوت أهلها إنما هو الذرة. ومع ذلك كله، فجور الولاة فيهم لا يمكن وصفه. ولعل هذا إن تمادى أن تهلك بلاد الصعيد كلها.
وفيه تنكر الحال بين الأمير طرباي والأمير نظام الملك برسباي. وخرج طرباي إلى بر الجيزة في هيئة متنزه، والإرجاف يقوى حتى انسلخ الشهر.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: في ثانيه: قدم الأمير طرباي من بر الجيزة.
وفي ثالثه: قبض الأمير برسباي على الأمير سودن الحموي، أحد أمراء الألوف، وعلى الأمير قانصوه أحد أمراء الطبلخاناة، وكانا من أصحاب الأمير طرباي، فكثرت القالة، وبات طرباي ليلة الخميس وجماعته يحذرونه الطلوع إلى القلعة، وهو لا يصغي لقولهم، وفي ظنه أن الأمير برسباي لا يفاجئه بسوء، لأنه في ابتداء الأمر كان طرباي متميزاً عليه منذ مات الظاهر برقوق، وفي أخر الأمر كان هو استمال المماليك للأمير برسباي، وفخذهم عن جانبك الصوفي، ثم خدع جانبك حتى نزل من الاصطبل ثم قبض عليه، فكان يرى أنه هو الذي أقام الأمير برسباي فيما هو فيه، وأصبح يوم الخميس مركب طرباي إلى الخدمة بالقلعة، مما هو إلا أن استقر جلوسه، أشار الأمير برسباي بالقبض عليه، فجذب سيفه ليدفع عن نفسه، وقام، فبدره الجماعة وعاقوه عن النهوض وغافصه الأمير برسباي بالسيف، وضربه ضربة جاءت في يده كادت أن تبينها. وأخذ إلى السجن، وقد تضمخ بدمه فوقعت هجة بالقصر، ثم سكنت من ساعتها. و لم يتحرك أحد لنصرة طرباي. ونودي بالأمان والبيع والشراء، وأن لا يتحدث أحد فيما لا يعنيه. وأخرج من الغد بطرباي مقيداً إلى الإسكندرية ليسجن بها. فكان في هذا عبرة لأولي الأبصار، وهو أن طرباي مكر بجانبك الصوفي، وخدعه حتى أنزله من الحراقة بباب السلسله، وقبض عليه بحيلة دبرها، وحمله مقيدا إلى الإسكندرية، حتى سجن بها وظن أنه قدم صفا له الوقت، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وخدعه الأمير برسباي حتى صعد إليه، بعد ما امتنع ببر الجيزه أياماً، والإرجاف قوي بوقوع الحرب، إلى أن مشى لحتفه بقدميه، حتى قبض عليه، وسجن بالإسكندرية لتجزي كل نفس ما كسبت.
وفيه أخرج الأمير سودن الحموي منفياً إلى دمياط، وتوجه الأمير ناصر الدين محمد ابن منجك إلى دمشق ليحضر بالأمير تنبك ميق من الشام وقد تحدث بأمر سيظهر بمجيء نائب الشام. ورسم بإحضار أيتمش الخضري من القدس.
وفي خامس عشره: قبض على الطواشي مرجان الهندي زمام الدار، وسلم للأمير أرغون شاه، أستادار، ليستخلص منه مالاً.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الطواشي كافور الشلبي، واستقر زمام الدار على عادته.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير أيتمش الخضري من القدس، فلزم داره.
شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء: في ثانيه: أفرج عن الطواشي مرجان الهندي بعد ما أخذ منه عشرون ألف دينار، وضمنه جماعة في عشرة آلاف دينار أخرى.
وفي سادسه: قدم الأمير تنبك العلاي ميق نائب الشام، بعد ما تلقاه عامة أهل الدولة، فخلع عليه واستقر على عادته في نيابة الشام. وتحدث معه في سلطنة الأمير برسباي، فوافق على ذلك.
وخلع الملك الصالح في يوم الأربعاء ثامنه، فكانت مدته أربعة أشهر وثلاثة أيام.
السلطان أبو النصر برسبايالسلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقمقاي الظاهري الجركسي.

تقدم التعريف به. ومازال قائماً بتدبير أمر الدولة. ثم أحب أن يطلق عليه اسم السلطان، لما خلا له الجو، فأخذ طرباي وسجنه، تم بموافقة نائب الشام على ذلك، فاستدعى الخليفة والقضاة، وقد جمع الأمراء وأرباب الدولة، فبايعه الخليفة في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ولقب بالملك الأشرف أبي العز، ونودي بذلك في القاهرة ومصر. وكان في هذا موعظة وذكرى لأولي الألباب، فإن الملك المؤيد أنشأ ططر وآواه، بعد ما كان من أقل المماليك الناصرية الهاربين من الملك الناصر فرج. وما زال يرقية حتى صار من أكبر أمراء مصر، وائتمنه على ملكه. فقام بعد موت المؤيد بكفالة ولده أحمد المظفر. وما زال يحكم الأمر لنفسه إلى أن خلع ابن المؤيد، وتسلطن، وأودع ابن المؤيد وأمه ببعض دور القلعة في صورة معتقل. فلما أشفي ططر على الموت، عهد إلى ابنه محمد، واستأمن برسباي - لقرابة بينهما - على ولده، بعد ما كان برسباي مقيماً بدمشق من جملة أمرائها وجل مناه أن يبقى المؤيد عليه مهجته، فآواه ططر، وجعله من أكبر أمراء مصر، فقام بأمر ابنه الملك الصالح قليلاً، واقتدى بأخيه ططر في أخذ الملك لنفسه. فلما أخذ طرباي، كما قبض ططر على الأمراء بدمشق، و لم يبق من يخشاه إلا نائب الشام، بعث يخيره بين أن يكون الأمير الكبير بديار مصر مكان طرباي وبين أن يستمر على نيابة الشام، فرغب في السلامة، وأتى إلى بين يديه، فأمن برسباي عند ذلك، وتسلطن، وأودع الصالح محمد بن ططر وأمه في دار بالقلعة. من يعمل سوءاً يجز به.
وفي يوم الخميس تاسعه خلع على الأمير بيبعا المظفري أمير سلاح، واستقر الأمير الكبير الأتابك، عوضاً عن طرباي. وخلع على الأمير قجق أمير مجلس واستقر أمير سلاح عوضاً عن بيبغا المظفري. وخلع على الأمير أقبغا التمرازي من مقدمي الألوف، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن قجق. وخلع على حسن الكردي، واستقر نائب الوجه البحري على عادته. وأفرج عن جماعه كانوا مسجونين بالقلعة من أمراء العشرات قبض عليهم فيما تقدم. وكان أول ما بدأ به السلطان أن منع الناس كافة من تقبيل الأرض له، فامتنعوا. وجرت العادة عند ملوك مصر، منذ قدم أمير المؤمنين الإمام المعز لدين الله أبو تميم معد الفاطمي إلى مصر، أن كل من تمثل بين يدي الخليفة ثم بين يدي السلطان أن يخر وهو قائم حتى يقبل الأرض. فلم يعف من ذلك أمير، ولو بلغ الغاية، ولا مملوك، ولا وزير ولا صاحب قلم، ولا رسول ملك من ملوك الأقطار، إذا قدم برسالة، ولا أحد من سائر الناس على اختلافهم، إلا قضاة الشرع، وجميع أهل العلم وأهل الصلاح وأشراف الحجاز من بني حسن وبني حسين، فإن هؤلاء أدركناهم ولا يقبل أحد منهم الأرض، إجلالاً لهم عن ذلك. وكذلك إذا ورد مرسوم السلطان على نائب مملكة أو والي عمل، فإنه يقوم عند وروده عليه، ويقبل الأرض. فأبطل السلطان برسباي ذلك كله، وجعل بدله إما تقبيل يده لمن عظم قدره، أو يقف فقط. فكان هذا حسناً لو دام، لكنه بطل عن قليل، وعاد الأمر كما تقدم ذكره.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع على الأمير تنبك ميق نائب الشام قباء السفر، وتوجه إلى دمشق، فخرج عظماء الدولة لوداعه، بعد ما قدموا له عدة تقادم، ما بين خيول وقماش وغير ذلك.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: توجه الأمير سودن الحاجب، ومعه مال برسم حفر خليج سكندريه مما أجدي شيئاً.
وفي هذا الشهر: أجدبت أراضي بلاد حوران والكرك والقدس والرملة وغزة، لعدم نزول المطر في أوانه، ونزح كثير من سكان هذه البلاد عن أوطانهم، وقلت المياه عندهم. ومع هذا ففي بلاد حلب وحماة ودمشق وبلاد الساحل كلها رخاء من كثرة الأمطار التي عندهم، فسبحان الفعال لما يريد.
وفيه عظم الخطب، واشتد البلاء ببلاد الصعيد، من كثرة الفتن، ونهب البلاد.
وفيه قتل، وادي قوص، تعذر أخذ الخراج.

وفيه عمل المارستان المؤيدي الذي بالصوة تحت القلعة جامعاً، تقام به الجمعة والجماعة، ورتب له إمام وخطيب ومؤذنون وبواب وقومة. وجعل جهة مصرف ذلك من وقف الجامع المؤيدي. وأن المؤيد قد جعل هذا الموضع مارستان، ونزل به المرضى. فلما مات لم يوجد في كتاب الوقف المؤيدي له جهة تصرف، فأخرجت المرضى منه، وأغلق، وصار منزلا للرسل الواردين من ملوك الشرق، فبقي حانة خمار برسم شرب المسكرات، وشرب الطنابير، وعمل الفواحش. ومع ذلك تربط به الخيول. فكان هذا منذ مات المؤيد إلى هذا الوقت، فطهره الله من تلك الأرجاس، وجعله محل عبادة.
وفيه وقع الشروع في هدم المنظرة التي استجدها المؤيد فوق الخمس الوجوه. ثم انتفض ذلك، فبقي بناؤها مشعثاً، وسكنها بعض فقراء العجم.
شهر جمادى الأول، أوله الأربعاء: في سابعه: سارات تجريدة إلى بلاد الصعيد.
وفي ثامنه: نودي أن لا يخدم أحد من اليهود والنصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء، فلم يتم ذلك.
وفي يوم الجمعة تاسعه: جددت خطبة بمدرسة شمس الدين شاكر بن البقري بالجوانية، جددها علم الدين داود بن الكويز كاتب السر، لقربها من داره التي يسكنها.
وفيه قدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص، فهلكت خلائق.
وفيه أقيمت الجمعة بالمارستان المؤيدي، يوم الجمعة سلخه.
وفيه رسم أن لا تباع الثياب التي تجلب من بغداد أو الموصل وبلاد الشام والإسكندرية إلا بالنقد. وكانت العادة إذا ورد التاجر بشيء من القماش، تسلمته السماسرة وباعته على التجار إلى أجل، ثم جبت الثمن في مدة أشهر، فمن أجل بيعها نسيئة يزداد ثمنها عما تباع في النداء الحراج زيادة كبيرة، فإذا باعها التاجر أخذ ربحاً آخر، فتغبن الناس دائماً فيما يشتروه من التجار، سيماإذا باعوا ذلك في النداء فإنه ربما ثلث الثمن. فامتنع التجار مدة من الشراء نسيمة، ثم عادوا لما نهوا عنه.
وقدم الخبر إلى العراق وشدة الغلاء. وسبب ذلك أن شاه محمد بن قرا يوسف متملك بغداد خاف من قدوم شاه رخ بن تيمورلنك، فمنع الناس من الزرع، وطرد ضعفاء الناس، فنزحوا عن العراق، وقدم منهم كثير إلى بلاد الشام. وجمع أهل القوة عنده ببغداد، فكان القحط والغلاء عقوبة من الله لهم مما هم عليه من القبيح.
شهر جمادى الآخرة، أوله السبت: في تاسعه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم بن عدنان الحسيني كاتب السر بدمشق ونقيب الأشراف إلى بلده. وكان قد طلب من دمشق، مقدم القاهرة في ثالث عشر جمادى الأولى، وسجن في بعض المدارس، وألزم بحمل عشرين ألف دينار. وكتب باستقرار بعض مسالمة السمرة - ويقال له حسين عوضه - في كتابة السر بدمشق. وكان حسين هذا قد قدم إلى القاهرة في الأيام الناصرية فرج، وخدم من حملة كتاب الأمير بكتمر شلق، ثم عاد إلى دمشق. واتفق أنه تزوج مملوك يقال له أزبك بابنة امرأة حسين. وكان أزبك هذا ممن أنشأه ططر، وصار أمير مائة مقدم ألف، فتحدث لحسين هذا في استقراره ناظر الجيش بدمشق، فأجيب إلى ذلك. واستقر حسين في نظر الجيش، عوضاً عن قاضي القضاة الحنفية شهاب الدين أحمد من الكشك. ثم أضيف إليه كتابة السر، مع نظر الجيش ولم يتفق مثل ذلك في هذه الدول. وما زال السيد محبوساً حتى تقرر عليه عشرة آلاف دينار، فخلع عليه في رابع جمادى الآخرة، هذا وتوجه إلى بلده لحمل ما ألزم به. وسبب ذلك تنكر السلطان عليه لأمور بدت منه في حقه، وهو أمير بدمشق والسيد كاتب السر.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: قدم قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي من القدس.
وفي رابع عشره: نودي بسفر الناس في رجب إلى مكة، فكثرت المسرات بذلك، لبعد العهد بسفر الرجبية. ثم انتقض ذلك.
ونودي في سابع عشرينه لا يسافر أحد الرجبية.
وفي هذا الشهر: قدم الخبر بغلاء مدينة توريز، وأن المطر تأخر نزوله ببلاد إفريقية.
وفيه عزم تغري بردي الجكمي - الذي قتل ابن كبك - على الفتك بالأمير تنبك ميق نائب الشام، ففطن به وقتله.
وفيه جلس السلطان للحكم بين الناس، كما كان المؤيد ومن قبله، وصار يحكم يومي الثلاثاء والسبت بالمقعد من الاصطبل السلطاني.
شهر رجب، أوله الأحد:

فيه نودي على النيل ثلاثة أصابع. وقد جاء القاع خمسة أذرع وسبعة أصابع. واستمر يزيد في كل يوم عدة أصابع، بحيث نودي عليه في يوم خمسة عشر إصبعاً. وقل ما عهد مثل هذا شهر أبيب.
وفي خامس عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس، بعد ما أهدى للسلطان هدية بنحو خمسمائة دينار، سوى ما أهداه للأمراء. وكان أن يلي القضاء على أنه يقوم في كل سنة بثمانين ألف دينار. ويثبت في جهة جلال الدين بن البلقيني زيادة على ثمانين ألف دينار. ويحمل معجلاً خمسة آلاف دينار، فألزم أن يكتب خطة بذلك كله، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك، فانحل أمره، ورده الله خائباً، ولله الحمد.
وفيه زينت القاهرة ومصر لإدارة محمل الحاج على العادة، فمنع صدر الدين أحمد بن العجمي المحتسب النساء من الجلوس على حوانيت الباعة، وتشدد في ذلك، فامتنعن. وكانت العادة أن تجلس النساء صدراً من النهار، ويبتن بالحوانيت حتى ينظرن المحمل من الغد فيختلطن بالرجال في مده يومين وليلة، وتقع أمور غير مرضية، فعد منعهن من جميل ما صنع، لكنه لم يتم، وعدن فيما بعد كما كن لإهمال أمرهن.
وفي يوم الاثنين سادس عشره: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر على ما جرت به العادة. وقد كثر الاعتناء بأمره، وعملت كسوة الكعبة في غاية الحسن، بحيث لم يعمل مثلها فيما أدركناه. وولي عملها شرف الدين أبو الطيب محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله ناظر الكسوة، لحسن مباشرته وعفته.
وفي هذا الشهر: نزل الأمير تنبك البجاسي نائب حلب بعساكرها على مدينة بهسني. وحضر الأمير تغري بردي بن قصروه.
وفيه خرج الأمير أينال الظاهري نائب صفد عن الطاعة، وذلك أنه كان من جملة مماليك الظاهر ططر، رباه صغيراً، ثم ولاه نيابة قلعة صفد، لما خرج بالمظفر إلى دمشق لحفظ ذخيرة حملها إلى القلعة صفد. فلما قام السلطان برسباي بالأمر بعد ططر، ولي أينال نيابة صفد، فشق عليه خلع ابن أستاذه من السلطة، وأخذ في تدبير أمره، حتى أظهر ذلك، وأخرج من كان مسجوناً بقلعة صفد، وهم الأمير يشبك أينالي استادار، والأمير أينال الجكمي نائب حلب، والأمير جلبان أمير أخور. وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها. فكتب السلطان إلى الأمير مقبل الحسامي المؤيدي حاجب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمر إقطاع الحجوبية بيده، حتى يتسلم صفد، وكتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بالعسكر إلى قتال أينال بصفد.
وفيه كانت وقعة بين الأمير يونس نائب غزة وبين عرب جرم، هزموه فيها، وقتلوا عدة من عسكره.
وفيه كثرت الحروب والفتن والغارات والنهب والتخريب ببلاد الصعيد من عربانها.
وفي خامس عشرينه: قدم كتاب نائب الشام بمجيء أينال الجكمي ويشبك أينالي وجلبان من صفد إلى دمشق طائعين، فدقت البشائر بقلعة الجبل.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير فارس نائب الإسكندرية باستدعاء، فخلع عليه، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألفاً. وخلع على الأمير أسندمر النوري أحد مقدمي الألوف، واستقر في نيابة الإسكندرية.
وفي سلخه: نودي من كانت له ظلامة فعليه بالاصطبل. وكان السلطان قد شرك جلوسه للحكم منذ قدم خبر صفد، معاد للجلوس للنظر في محاكمات المتخاصمين، على عادته.
شهر شعبان، أوله الاثنين.
فيه تكرر النداء بجلوس السلطان للحكم.
وفي ثانيه: جلس للحكم، واستدعى مدرسي المدرسة القمحية بمصر، وأوقفهم بين يديه، وألزمهم بعمل حساب أوقافها وعمارتها، مما تناولوه من ريعها فيما سلف، وأخرج وقفها - وهو ضيعتان بالفيوم يقال لهما الأعلام والحنبوشية - لمملوكين من مماليكه، ليأكلوها إقطاعاً بينهما. وندب الأمير أزبك رأس نوبة للكشف عن المدرسة، فوجد الخراب قد أحاط بها من جوانبها، وصار ما هنالك كيمان تراب، وهي قائمة بمفردها ليس بجانبها عامر ولا بها ساكن، سوى رجل يحرسها، فطلب السلطان مدرسيها الخمسة، وأوقفهم بين يديه بالاصطبل، وألزمهم بعمل حسابها، والقيام بما استأدوه من العلوم، فخرجوا في الترسيم.
وفيه نظر السلطان في أمر جامع عمرو بن العاص، وأخذ الناس في تتبع عورات القضاة والفقهاء لميل ولاة الشوكة إلى معرفة ذلك، فإن الأحدوثة عنهم قبحت، والقالة فيهم شنعت:
وكنا نستطب إذا مرضنا ... فجاء الداء من قبل الطبيب

وفي يوم الخميس رابعه - الموافق له تاسع عشرين أبيب - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وهذا من النوادر، مع أن زيادته في هذا العام كانت مما يتعجب له، وذلك أن العادة التي عهدت أن زيادة النيل في شهر أبيب تكود قليلة، حتى أنه ليقال قديما في أبيب، يدب الماء دبيب. وأما مسرى فأيام الزيادة الكثيرة، ويقال لها عرس النيل وهي مظنة الوفاء حتى يقال إذا لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى هذه عادة الله التي أجراها بين خلقه في أمر نيل مصر، وربما وقع الأمر في النيل بخلاف ذلك، فيعد نادراً. واتفق في هذه السنة أنه منذ ابتدأت الزيادة لم تزل زيادته كبيرة بحيث نودي عليه في يوم بزيادة خمسين إصبعاً، فكثر تعجب الناس لذلك، ثم ازدادوا تعجباً لوفائه قبل مسرى، و لله الحمد. وتولى تخليق المقياس وفتح الخليج الأمير الكبير بيبغا المظفري.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: أخرج بالمظفر أحمد بن المؤيد شيح وأخيه من ظ قلمة الجبل نهاراً، وحملا في النيل إلى الإسكندرية، فكانت هذه موعظة، فإن المؤيد أخرج بأولاد ابن أستاذه الملك الناصر فرج إلى الإسكندرية، فعومل بمثل ذلك، وأخرج ابنيه إلى الإسكندرية، كما يدين الفتى يدان.
وفي ثاني عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي ناظر الأحباس، وأعيد حسبة القاهرة، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي.
وفي هذا الشهر: كثر عبث الفرنج بالسواحل، وهجم في الليل غرابان، فيهما طائفة من الفرنج، على ميناء الإسكندرية فوجدوا فيها مركباً للتجار فيه بضائع بنحو مائة ألف دينار، فاقتتلوا معهم عامة الليل، فخرج الناس من المدينة، فلم يقدروا على الوصول إليهم، لعدم المراكب الحربية عندهم، ولا وصلت سهامهم إلى الفرفج، بل كانت تسقط في البحر، فلما طال الحرب بين الفرنج والتجار المسلمين، واحترقت مركب التجار، نجوا في القوارب إلى البر، فأتت نار الفرنج على سائر ما في المركب من البضائع، حتى تلف بأجمعها، ومضى الفرنج نحو برقة، فأخذوا ما قدروا عليه، ثم عادوا إلى الإسكندرية، ومضوا إلى نحو الشام.
وفيه قدم رسول اسكندر بن قرا يوسف، ومعه رأسان، زعم أنهما رأس متملك السلطانية نيابة عن شاه رخ بن تيمور لنك، ورأس نائبه بشيراز.
شهر رمضان، أوله الأربعاء: في تاسعه: أعيد الآذان بمأذنتي مدرسة السلطان حسن بسوق الخيل.
وفي حادي عشره: كان نوروز القبط بمصر، والنيل قد بلغ تسعة عشر ذراعاً وستة أصابع، فعم به النفع عامة أراضي مصر إلا أن الجسور لم يعتن بها لسوء سيرة متوليها، فقطع ماء النيل منها عدة مقاطع، أفسدت أكثر الزراعات الصيفية كالسمسم والبطيخ ونحوه، فكان بلوغ النيل هذا القدر في النوروز عجب آخر.
وفيه اتضع سعر الغلال، حتى أبيع الأردب القمح بمائة وخمسين درهماً من الفلوس، وعنها يومئذ سبعة دراهم وربع فضة أشرفية، وأبيع الشعير بخمسة وثمانين درهماً الأردب عنها أربعة دراهم وربع فضة، وأبيع الفول بثمانين درهمًا الأردب، عنها أربعة دراهم فضة.
وفيه فتح باب مدرسة السلطان حسن، الذي سده الظاهر برقوق، وهدم درجه.
وفي يوم الاثنين عشرينه: جلس السلطان بدار العدل وعمل به الخدمة، وأحضرت رسل الفرنج الفرنسيس بهدية. وهذا أول جلوس جلسه السلطان بدار العدل.
وفي حادي عشرينه: خلع على الأمير أيتمش الخضري، واستقر أستادار عوضاً عن الأمير أرغون شاه.
وفي ثالث عشرينه: خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في نظر الجوالي.
وفي سابع عشرينه: نودي أن السلطان رسم أن لا ينزل أحد من الفقهاء عن وظيفته في وقف من الأوقاف، وهددمن نزل منهم عن وظيفته، فامتنعوا عن النزول، ثم عادوا كما كانوا، ينزل هذا عن وظيفته من الطلب في الدروس، أو التصوف في الخوانك، أو القراءة أو المباشرة بالمال، فيلي الوظائف غير أهلها، ويحرمها مستحقوها، فإن الوظائف المذكورة صارت بأيدي من هي بيده، ينزلها منزلة الأموال المملوكة، فيبيعها إذا شاء ويسمى بيعها نزولا عنها، ويرثها من بعده صغار ولده. وسرى ذلك حتى في التداريس الجليلة، والأنظار المعتبرة، وفي ولاية القضاء بالأعمال يليه الصغير من بعد موت أبيه ويستناب عنه كما يستناب في تدريس الفقه والحديث النبوي، وفي نظر الجوامع ومشيخة التصوف، فيا نفس جدي إن دهرك هازل!!.

وفيه خلع على الأمير أرغون شاه أحد أمراء دمشق، واستقر كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن بلبان الجمالي.
وفيه أغلقت كنيسة قمامة بالقدس عن أمر السلطان.
وفي سلخه: نودي بمنع النساء من الخروج إلى الترب في أيام العيد، وهددن بالعقوبة إن خرجن، فامتنع كثير منهن عن الخروج إليها.
وفيه ارتفع سعر الشيرج، حتى أبيع الرطل بثمانية عشر درهما من الفلوس و لم يعهد مثل ذلك، وسببه غرق السمسم، فقل وجوده.
شهر شوال، أوله الجمعة: فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة.
وفي رابعه: رفعت يد قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي عن وقف الطرحاء، ثم أعيد إليه بعد أيام، وكان لما رفعت يده عنه نودي من مات له ميت وعجز عن كفنه فعليه بمصلى المؤمني تحت القلعة.
وفيه رفعت يد قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي الشافعي عن وقف قراقوش، وفوض السلطان أمره إلى التاج الشويكي والي القاهرة، واستمر كذلك، فلم يعد إلى القضاة، فكان هذا مما يستشنع، وكثرت الشناعات بمقت السلطان للقضاة والفقهاء، وأنه يريد الكشف عما بأيديهم من الأوقاف.
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى عشرين ذراعاً ونصف ذراع، وابتدأ نقصه من الغد، وهو رابع عشرين توت.
وفي هذه الأيام: ابتدئ بعمل الخربة - التي بخط الركن المخلق من القاهرة - وكالة، وهذه الخربة موضعها الآن داخل الدرب الأصفر، حيث كان يعرف قديماً بالمنحر، وبابها من وسط سوق الركن المخلق، عملته خوند بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون أعوام بضع وسبعين وسبعمائة ليكون داخله قاعة، بجوار القيسارية التي أنشأتها، وعملت برسم بيع الجلود، فماتت قبل عمارتها، وقد فرغت واجهة الباب فقط، فتعطلت دهرا إلى أن أخذ الأمير جمال الدين يوسف - أستادار القيسارية المذكورة - من وقف أم السلطان على مدرستها بخط التبانة قريباً من قلعة الجبل، وصيرها من جملة أوقافه على مدرسته التي أنشأها بخط رحبة باب العيد، وضع يده أيضاً على هذه الخربة، ومات قبل أن يعمل فيها شيئاً، فلم تزل معطلة حتى وقع اختيار السلطان في هذا الوقت على عملها وكالة فابتدئ بعملها.
وفي يوم السبت تاسع هذا الشهر: رسم بإعادة مكس دار التفاح الذي أبطله الملك المؤيد شيخ، فأعيد بسفارة الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كلاب المناخ وطول سعيه فيه، عامله الله بعدله، فإنه جدد مظلمة يتلف فيها من أموال الناس بنهب الظلمة الفساق ما شاء الله. " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " .
وفي يوم الاثنين رابع عشره: برز محمل الحاج بكسوة الكعبة صحبة الطواشي افتخار الدين ياقوت - مقدم المماليك السلطانية - ونزل خارج القاهرة، ثم توجه إلى بركة الحاج على العادة.
وفي سابع عشرينه: قدم من صفد ثلاثون رجلاً، ممن أسر من أصحاب الأمير أينال، فقطعت أيدي الجميع إلا واحداً، فإنه وسط بالسيف نصفين، وأخرج الذين قطعت أيديهم من يومهم إلى بلاد الشام، فمات عدة منهم بالرمل. وكان من خبر صفد، أن الأمير مقبل لم يزل على حصارها إلى يوم الاثنين رابع شوال هذا، فنزل إليه أينال بمن معه، فتسلم أعوان السلطان القلعة، وعندما نزل أينال أمر أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميراً بطرابلس، وكان قد وعد بذلك، وترددت الرسل بينه وبينهم مراراً، حتى استقر الأمر على أن يكون من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أماناً ونسخة يمين، فانخدع البائس ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام ليلبس الخلعة، وإذا هم أحاطوا به وقيدوه وعاقبوه أشد عقوبة. ثم قتلوه، وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلقوهم بأعلاها.
وفي هذا الشهر: تسلم الأمير نلغري بردي بن قصروه قلعة بهسني، ونزل بأمان، فقيد وسجن بقلعة حلب، فأمن السلطان بعد تخوفه من جهة صفد وتغري بردي.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في ثانيه: ركب السلطان من القلعة إلى مطعم الطير تجاه الريدانية خارج القاهرة، وألبس الأمراء الأقبية الصوف لملابس الشتاء كما كان المؤيد يفعل، ثم عبر القاهرة من باب النصر، ودخل عمارتها بخط الركن المخلق، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، ونثر عليه الدنانير والدراهم وهذه أول ركبة ركبها في سلطته

وفي خامسه: عزل الأمير أيتمش الخضري، وأعيد الأمير أرغون شاه أستادارا، ولم تشكر سيرة أيتمش لعتوه وشدة ظلمه، مع عجزه عن القيام بما وليه.
وفي سابعه: ركب السلطان إلى جهة بركة الحجاج، وعاد.
شهر ذي الحجة، أوله الاثنين.
في رابعه: اختفي الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، فخلع على الأمير أرغون شاه، وأضيفت إليه الوزارة، فصار وزيراً أستادار، وذلك في يوم الاثنين ثامنه، فظهر ابن كلاب المناخ في عاشره، وصعد إلى القلعة فعفي عنه، ولزم بيته بطالاً على حمل مال قام ببعضه.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وفوض إليه قضاء القضاة، عوضاً عن ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي، بمال كثير.
وفي سابع عشرينه: نزل الحاج بينبع، وقد استعد من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل متولي ينبع، وقد قدم عقيل بن وبير الحسني من القاهرة صحبتهم، بعد ما خلع عليه بها، في شوال، واستقر أمير ينبع، شريكاً لعمه مقبل، بمال التزم للدولة، فلما علم مقبل بذلك، نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها. ودخل الحاج إلى ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها، أن يستقر عقيل شريكاً له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان بذلك. ومهما ورد المرسوم به اعتمده. ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجهوا نجابا إلى السلطان بكتبهم، وتركوا عقيلاً بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظفر به عمه، وقيده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعد الأمير جانبك - كما قلنا - وركب في جمع من المماليك وغيرهم، ليلة الأحد ثامن عشرين ذي الحجة هذا، وطرق مقبل على حين غفلة، فكانت بينه وبين مقبل وقعة قتل فيها جماعة من الأشراف بني حسن، وجرح كثير من العربان والعبيد، وانهزم مقبل، فمدت المماليك أيديها، وانتهبت ما قدرت عليه، وسلبت النساء الشريفات ما عليهن، وساقوا خمسمائة وخمسين رجلاً، وثلاثين فرساً، وأمتعة كثيرة، ومالا جزيلا، وعادوا من يومهم إلى ينبع، ومعهم عقيل قد خلصوه من الأسر ورحلوا، وقد أقام عقيل بينبع أميراً، فلم يكن إلا ليال حتى عاد مقبل، واحترب مع عقيل، فانهزم مقبل، وقتل بينهما جماعة، كل ذلك بسوء الطبع والطمع في القليل.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج.
وفي هذا الشهر: اتفقت نادرة فيها عبرة لذوي النهي والأبصار، وهو أن رجلاً من فقراء الناس الذين لا يكادون يجدون القوت، له امرأة وبنات منها، يسكنون بخرابات الحسينية، ظاهر القاهرة، فلما كان يوم عيد النحر، ذبح أرباب اليسار ضحاياهم واشتووا لحومها، فهاجت شهوات بنات هذا الرجل لأكل اللحم، وطلبن منه فلم يجد سبيلاً إلى قضاء شهواتهن، وأخذ يعللهن، وهن يتصايحن وينتحبن بالبكاء، وقلبه يتقطع عليهن حسرات طول نهار العيد حتى جنة الليل، ورقدن. فكان يسمع في الليل حركة تتوالى طول ليلته، وهو وأم أولاده لشدة الحزن قد ذهب نومهما، حتى أصبحا فإذا كوم كبير من اللحم في دارهم قد باتت العرس تنقله طول ليلها، لا يدرون من أين أتت به، فسرا بذلك سروراً كبيراً، وأيقظ بناته فاشتووا من ذلك اللحم، فأكلوا حتى شبعوا، وطبخوا منه وقد درا باقيه، فكافهم عدة أيام. " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " " آل عمران، 37 " .
وفي هذه السنة: كثرت الأمطار بأرض الحجاز وبلاد الشام، وسقط بقرية تسمى حداثا من جبال صفد برد لم يعهدوا مثله، بلغ وزن بردة واحدة سبعة أرطال ونصف بالدمشقي، عنها ثلاثون رطلاً مصرية، ووجدت بردة على باب دار قدر الثور. وكان سقوط هذا البرد ليلة السبت سادس ذي الحجة هذا.

وفيها كانت حروب ببلاد الروم بين أهل حصنين بالقرب من مدينة برصا، في أحدهما طائفة من الروم المسلمين، وفي الأخرى طائفة من النصارى، فامتدت الحرب عاماً، حتى كان بعض الليالي، إذا هم بصيحة من حصن النصارى، كادت تنخلع منها قلوب المسلمين، فلما أصبحوا إذا بجميع من في الحصن من النصارى قد هلكوا هم ودوابهم، فتسلموا ما في الحصن بلا مانع. وفيها فشت الأمراض بالقاهرة والوجه البحري، عند انحطاط ماء النيل في فصل الخريف.
وفيها انحل سعر الغلال، ورخت رخاءاً زائداً.
وفيها سار مراد بن محمد كوشجي بن عثمان في شهر رجب من برصا إلى اسطنبول وهي قسطنطينية - ونزل عليها أول شعبان، وقطع عامة أشجارها، ومنع عنها الميرة، حتى فرغ شهر رمضان من غير حرب، سوى مرة واحدة في يوم الجمعة ثالث رمضان، فإنه زحف على المدينة فكان بينه وبين أهلها حرب شديدة، فتخلى عنه عسكره، وبينما هو في ذلك إذ جاءه أخوه مصطفى، وكان في مملكة محمد باك بن قرمان، فتفرق عن مراد عسكره، وكانوا نحو مائة وخمسين ألفاً، حتى بقي في زهاء عشرين ألفاً، والتجأ مصطفى إلى اسطنبول، وواقف مراد نحو شهر، وقد عجز عنه مراد لمخالفة عسكره عليه.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرعلاء الدين علي ابن قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيري، ليلة الأحد ثالث المحرم، وقد أناف على الستين. وكان يعرف الفرائض والحساب، ويشارك في الفقه، وناب في الحكم بالقاهرة، ودرس في عدة مدارس.
ومات بدر الدين محمود بن شمس الدين محمد الأقصراي الحنفي، ليلة الثلاثاء خامس المحرم، و لم يبلغ ثلاثين سنة، وكان يعرف طرفاً من الفقة، ويشارك في غيره، وتحرك له حظ في دولة المؤيد، وصار يحضر مجلسه فيمن يحضر من الفقهاء، فلما قام ططر بعد المؤيد اختص به، معظم قدره، وتردد الناس لبابه، وتحدثوا برقيه إلى العليا، فلم يمهل وعوجل ومات الأمير أق قجا، كاشف الوجه القبلي، في العشرين من المحرم، فأراح الله منه.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن معالي الحبتي الدمشقي الحنبلي يوم الخميس ثامن عشرين المحرم وكان من فقهاء الحنابلة، وأحد المحدثين، ناب في الحكم عن القضاة سنتين، واتصل بالمؤيد، وكان يحضر عنده في جملة الفقهاء، ويقرأ عنده صحيح البخاري كل سنة، وولاه مشيخة الخروبية التي استجدها بالجيزة.
ومات الأمير حسن بن سودن الفقيه الجركسي، خال الصالح بن ططر، يوم الجمعة ثالث عشر صفر، وكان قد صار أمير مائة مقدم ألف في أيام ابن أخته الصالح محمد بن ططر، بعد ما عمله زوج أخته الظاهر ططر أمير طبلخاناه، فلم يتهن بالنعمة، وطال مرضه حتى مات.
ومات الشريف عزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن شيحة أمير المدينة النبوي، في ربي الأول، وهو مسجون بالقلعة، وقد أخذ من المدينة مقيداً في موسم السنة الخالية، وولي عوضه عجلان بن نعير.
ومات شمس الدين محمد بن علي بن أحمد المعروف بالزراتيتي، المقرئ الحنفي، إمام الخمس بالمدرسة الظاهرية برقوق، في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، وقد تجاوز السبعين، وكف بصره وصار شيخ الإقراء بالقاهرة.
ومات برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن علي البيجوري، الفقيه الشافعي، يوم السبت رابع عشر رجب، وقد أناف على السبعين، وتصدى للأشغال عدة سنين، ولم يخلف بعده أحفظ منه لفروع الفقه، مع إطراح التكلف، وقلة الاكتراث بالملبس، والإعراض عن الرياسة التي عرضت عليه فأباها.
ومات مقدم العشير بجبال صفد، بدر الدين حسن بن أحمد بن بشارة، في سابع ذي الحجة
؟؟

سنة ست وعشرين وثمانمائة
أهلت وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري، والدوادار الكبير الأمير سودن بن عبد الرحمن، وأمير سلاح الأمير قجق، وأمير مجلس الأمير أقبغا التمرازي، وأمير أخور الأمير قصروه، نوبة النوب الأمير أزبك، والوزير أستادار الأمير أرغون شاه، وكاتب السر علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله وقاضي القضاة الشافعي علم الدين صالح بن البلقيني، ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق، ونائب حلب الأمير تنبك البجاسي، ونائب طرابلس الأمير أينال النورزي ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار ونائب، حماة شار قطلوا.
شهر الله الحرام، أوله الأربعاء:

في ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج وقدم المحمل ببقية الحاج من وكانت سنة مشقة إلى الغاية، توالت فيها الأمطار الخارجة عن الحد، زيادة على يوماً، وأتت سيول مهولة مع غلاء الأسعار بمكة، فأبيع الحمل الدقيق بخمسة وثلاثين ديناراً، وأبيعت ويبة شعير في الأزلم بخمسين مؤيديا، فيكون الأردب الشعير على ذلك بألفين ومائة درهم من نقد القاهرة، وكثر موت الجمال، ومشت النساء والصغار عدة مراحل، ومات كثير من الناس، واشتد الحر، ثم اشتد البرد، ومع هذا كله كثرة الخوف.
وفي ثامن عشرينه: أعيد زين قاسم بن البلقيني إلى نظر الجوالي، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي على مال التزم به.
وفيه أنعم على الأمير جانبك الخازندار بإمرة طبلخاناه من جملة إقطاع الأمير فارس نائب الإسكندرية، كان.
شهر صفر، أوله الخميس: في ثامن عشره: جمع السلطان الأمراء والقضاة ومباشريه، وأحضر جماعة من التجار، وأنكر حال الفلوس، وذلك أنها كما تقدم غير مرة أنها هي النقد الرائج بأرض مصر، فينسب إليها أثمان المبيعات وقيم الأعمال، ثم لما ضرب الملك المؤيد شيخ الدراهم المؤيدية رسم أن تنسب قيم الأعمال وأثمان المبيعات إليها، فعمل بذلك مدة من أيامه حتى مات، فعادت قيم الأعمال وأثمان المبيعات تنسب إلى الفلوس، كما كانت قبل المؤيدية، وحدث في الفلوس مع ذلك ما لم يكن يعهد منذ ضربت، وهو أنه خلط فيها قطع الحديد وقطع النحاس وقطع الرصاص، من أجل أنها تؤخذ وزناً لا عدداً، وتغافل الحكام عن إنكار ذلك فتمادى الحال على هذا من بعد موت المؤيد، حتى صارت القفة من الفلوس التي وزنها مائة رطل لا يكاد يوجد فيها قدر عشرين رطلاً من الفلوس، وإنها هي - كما قدم - ذكره ما بين نحاس وحديد ورصاص وانفتح للصيارفة ونحوهم من ذلك باب ربح، وهو أنهم صاروا ينقون الفلوس ويبيعونها لمن يحملها إلى الحجاز واليمن وبلاد المغرب، كل قنطار بسبعمائة درهم، فلما بلغ السلطان ذاك أراد أن يضرب فلوساً، فاختلفوا عليه في مقدار وزنها، فأشار بعضهم أن يكون كل ستين فلساً بدرهم أشرفي، وأشار أخرون أن تكون أوزانها مختلفة، فيها ما زنته مثقال، وفيها ما زنته غير ذلك، فجمع الناس كما تقدم ليقوي عزمه على ما يمضيه، فما زالوا به حتى رجع عن تغيير المعاملة بالفلوس التي بأيدي الناس، خوفاً من وقوف أحوال الأسواق، لعنت العامة، فاستقر الرأي على أن نودي بأن يكون سعر الفلوس المنقاة من الحديد والرصاص والنحاس، بسبعه دراهم كل رطل، ويكون سعر هذه القطع بخمسة دراهم الرطل، فامتثل الناس ذلك، وصارت الفلوس صنفين بسعرين مختلفين، ومشى الحال على هذا.
وفيه أبيع الرغيف بنصف درهم فلوساً، بعد ما كان بدرهم لرخاء الأسعار.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير أينال النوروزي نائب طرابلس باستدعاء، فأكرمه السلطان، وأنزله بدار، ثم طلب الأمير قصروه أمير أخور، وخلع عليه بنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير أينال المذكور، وأنعم على أينال هذا بإقطاع قصروه.
في هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، حتى أبيع القمح كل خمسة أرادب بدينار، ولهذا أسباب: أحدها النيل في وقت زيادته، حتى شمل الري عامة أراضي مصر. ثانيها غزارة الأمطار في فصل الشتاء وتواليها أياماً فأخصبت الزروع والمراعي. ثالثها رخاء الأسعار ببلاد الشام وأرض الحجاز فاستغنت العربان عن شراء الغلال، وترك التجار في الحجاز، فتوفرت بديار مصر. رابعها أن الأمير الوزير شمس الدين أرغون شاه أستادار خرج إلى نواحي الغربية والبحيرة وعسف المزارعين والمتدركين، حتى ألجأتهم الضرورة إلى أن يبيعوا غلالهم ويقوموا له. مما ألزموا به من المال، فلذلك كثرت الغلال، فاتضعت ولله الحمد. ومع هذا فقد ناس كثير من الغلال بالوجه البحري، فتسارع خزانها إلى بيعها خوفاً عليها من التلف، ولله عاقبة الأمور.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: وفي ثانيه: قدم الأمير الوزير أرغون شاه من الوجه البحري، بما جمعه من الأموال التي جباها.

وفي ليلة الجمعة سابعه: عمل المولد السلطاني على العادة، في كل سنة وحضر الأمراء وقضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم وجمع كبير من القراء والمنشدين، فاستدعى قاضي القضاة ولي الدين أحمد بن العراقي ليحضر، فامتنع من الحضور، فتكرر استدعاؤه حتى جاء فأجلس عن يسار السلطان حيث كان قاضي القضاة زين الدين التفهني جالساً، وقام التفهني فجلس عن يمين السلطان، فيما يلي قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني.
وفي ثاني عشره: توجه الأمير قصروه نائب طرابلس إلى محل كفالته.
وفي هذه الأيام: وجدت ورقة بالقصر، فيها شناعات علي علم الدين بن الكويز كاتب السر، منها أنه يريد إقامة ابن الملك المؤيد شيخ في السلطنة، فعرف من ألقاها، فدل على الذي كتبها، وهو رجل من الفقراء يقال له حسن العليمي، يخدم قبر الشيخ علي بن عليم بالساحل، فاعترف أنه كتبها نصيحة للسلطان، فبعث به السلطان إلى ابن الكويز، فثبت على قوله وفاجأه بما لا يحب، فنفاه إلى بلاد الصعيد.
وفي خامس عشره: سار الأمير أرغون شاه إلى بلاد الصعيد ليجبي أهلها، كما جبى الوجه البحري.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: ثارت ريح مريسية طول النهار، فلما كان قبل الغروب بنحو ساعة، ظهر في السماء صفرة من قبل مغرب الشمس، كست الجدران والأرض بالصفرة، ثم أظلم الجو حتى صار النهار مثل وقت العتمة، فكنت أمد يدي فلا أراها لشدة الظلام، فما بقي أحد بمصر إلا واشتد فزعه، فلما كان بعد ساعة وقت الغروب أخذ الظلام ينجلي قليلاً قليلاً، وعقبه ريح عاصف كادت المباني تتساقط وتمادي طول ليلة الأربعاء، فرأى الناس أمراً مهولاً من شدة هبوب رياح عاصفة، وظلمة في النهار والليل لم يعهد مثلها، بحيث كان جماعة في هذه الليلة مسافرين وسائرين خارج القاهرة فتاهوا من شدة الظلام طول ليلتهم حتى طلع الفجر، وعمت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحري وبعض بلاد الصعيد، ورأى بعض من يظن به الخير في منامه كان قائلاً يقول ما معناه: لو لا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس، لكنه شفع فيهم، فحصل اللطف.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق.
وفيه أضيفت ولاية مصر وحسبتها إلى الأمير تاج الدين الشويكي وإلى القاهرة.
وفيه رسم بمصادرة نجم الدين عمر بن حجي قاضي القضاة الشافعي بدمشق، وشهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك قاضي القضاة الحنفي بها، وعدة من تجارها، فصودروا.
وفيه رسم بإيقاع الحوطة على خيول أهل الوجه البحري من الغربية والبحيرة ونحوها فأخذت.
وفيه قدم إلى المدينة النبوية جراد عظيم أتلف عامة زروعها وأشجارها، حتى أكل الأسابيط من فوق النخل فأمحلت ونزح كثير من أهلها، فمات معظم الفقراء النازحين جوعاً وعطشاً، ولا قوة إلا بالله.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: في ثانيه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وأقام بناحية وسيم في أمرائه ومماليكه يتنزه، ثم عاد.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، فخلع عليه، ورتب له ما يليق به، وقدم له الأمراء على مقدارهم.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق.
وفيه قدم الخبر أن مدينة الكرك تلاشى أمرها، وخربت قراها وتشتت أهلها، وأنها آيلة إلى الدثور.
وفيه عدى مصطفى بن عثمان من اسطنبول إلى أزنيك وملكها بعد ما حاصرها مدة، فسار إليه أخوه مراد بعساكره وقاتله، فظفربه وقتله، وعاد إلى برصا، وقد صفا له الجو.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في ثالثه: توجه الأمير تنبك البجاسي إلى حلب على نيابته.
وفيه أبيع الخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم من الفلوس، وأبيع الأردب القمح بثمانين درهماً، فيكون كل ثلاثة أرادب بمثقال ذهب، وكل أردب بأربعة دراهم فضة، وكل ستين رغيفاً بدرهم فضة، ولم يعهد مثل هذا الرخاء في هذه الأزمنة، ومع ذلك فالرخاء عام بالشام والحجاز، فالله يحسن العاقبة.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير جقمق، واستقر أمير أخور، عوضاً عن قصروه نائب طرابلس، وكانت في هذه المدة شاغرة.

وفي يوم السبت تاسع عشر: أمطرت السماء مطراً كثيراً من أول يوم الجمعة أمسه، حتى مضى السبت، وكانت عامة في معظم أرض مصر قبليها وبحريها، فسألت الأودية، وظهرت في النيل زيادة نحو ذراع، ودثرت مقابر كثرة وسقط ببلاد البحرة برد كبار جداً، يتعجب من كبرها وكان الزمان ربيعاً.
وفي شهر بشنس، وفي نصف نهار السبت هذا: هبت رياح قوية ألقت مباني عديدة وعم هبوبها في أكثر أرض مصر، فسقط في ناحية أبيار ألف ومائتا نخلة، وسقط كثير من شجر السنط والسدر والجميز وكانت الشجرة تقتلع من أصلها وسقط كثير من طير السماء واحتملت الريح أشياء ثقيلة من أماكنها وألقتها ببعد وشملت مضرة هذا المطر وهذه الريح أشياء عديدة.
وفي هذا الشهر: انتشر ببلاد الصعيد من الطير التي يقال لها الزرازير أمة لا يحصى عددها إلا الله خالقها سبحانه، فأهلكها هذا الريح، حتى صار منها عدة كيمان يمر الفارس فيها بفرسه مدة ثلاثة أيام، ولو لا هلكت لرعت الزروع.
وفيه جاء من ناحية الحجاز جراد يخرج عن الحد في الكثرة، فلما وافى الطور يريد دخول أرض مصر كان هذا المطر، فهلك عن آخره، كفايه من الله.
وفيه تلفت زروع عدة بلاد من نواحي أرض مصر لكثرة المطر والبرد بحيث وجد في البرد ما وزن الواحدة منه عدة أواقي، وتلفت أشجار كثيرة ونخيل كثير بالقرى من الريح، وسقط من طير السماء فيما بين الإسكندرية وبرقة شيء كثير جداً من قوة الريح.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء: في هذا الشهر: عظم الوباء بدمشق، وفشا في البلاد إلى غزة.
وفيه تحرك سعر الغلال بأرض مصر، فارتفع الأردب القمح من مائة إلى مائة وأربعين، والشعير من سبعين درهماً الأردب إلى مائة درهم.
وفي سابع عشره: قدم الأمير أرغون شاه من بلاد الصعيد، وقد وصل إلى مدينة هو، فجبى الأموال، وما عف ولا كف، وأحضر معه من الأغنام والأبقار والخيول ومن القند والسكر والعسل شيء كثير، فخرب في حركتيه المذكورتين إقليم مصر، أعلاه وأسفله، ثم شرع في رمى ما أحضره على الناس بأغلى الأثمان والعسف في الطلب.
شهر رجب، أوله الخميس: فيه كملت الوكالة وعلوها بخط الركتن المخلق على يد عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش، ولم يعسف العمال فيها، ولا بخسوا شيئاً من أجرهم، فجاءت من أحسن المواضع وكثر النفع بها.
وفيه ابتدئ بهدم الحوانيت والفنادق، التي فيما بين المدرسة السيوفية وسوق العنبريين لعمل موضعها مدرسة للسلطان، وكانت موقوفة على المدرسة القطبية وغيرها، فاستبدل بها أملاك أخر من غير إجبار المستحقين. وجعل الاختبار لهم فيما يستبدل به حتى تراضوا، و لم يشق عليهم. وتولى ذلك زين الدين عبد الباسط.
وفيه انحل سعر الغلال ومد أبيعت الغلال الجديدة.
وفيه قدم عدة من الفرنج الكيتلان، لزيارة القدس مستخفين، فعسر على نحو المائة منهم، وسجنوا.
وفي ثاني عشره: ابتدأت المناداة بزيادة النيل، وقد جاءت القاعدة ثمانية أذرع وعشر أصابع. وهذا مما يندر مثله.
وفيه أدير محمل الحاج على العادة.
وفيه كتب بعزل قاضي القضاة الشافعي بدمشق، نجم الدين عمر بن حجي وسجنه، والكشف عنه، واستقرار شمس الدين محمد بن زيد قاضي بعلبك عوضه في قضاء دمشق. وسبب ذلك تنكر الأمير تنبك ميق نائب الشام عليه، وتغير كاتب السر علم الدين داود بن الكويز وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وبدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل ونائب كاتب السر، فإنه أطرح جانبهم، وصار يبلغهم عنه ما يوغر صدورهم، من استخفافه بهم لمعرفته إياهم قبل ارتفاعهم في الأيام المؤيدية. واغتر بكثرة من يساعده من الأمراء لما له عليهم من الأفضال المستمر، فأخذ الجماعة في مكايدته، حتى أوقعوا بينه وبين السلطان، فلم يفده مساعدة الأمراء له.
وفي يوم السبت سابع عشره: اتفقت حادثة فيها موعظة، وهي أن الأمير أرغون شاه جمع الجزارين لأخذ شيء من الأبقار التي أحضرها، ورسم على كل منهم رسولا من الأعوان الظلمة، حتى يمضي إلى بر منبابة حيث الأبقار، ويأخذ منهم ما ألزم به منها، فوافوا ساحل بولاق بكره، ونزلوا في مركب، ونزل معهم أناس آخرون.

وأخذوا يدعون الله على أنفسهم أن يغرقهم ولا يحييهم حتى يأخذوا هذه الأبقار ليستريحوا مما هم فيه من الغرامات والخسارات وتحكم الظلمة فيهم بالضرب والسب والإهانة. وقرأ واحد منهم فاتحة الكتاب، ودعا بذلك، وهم يؤمنون على دعائه، فما هو إلا أن توسطوا النيل وتجاوزوه حتى كادوا أن يصلوا إلى بر منبابة. وإذا بمركبهم انقلبت، فغرقوا بأجمعهم، إلا قليلا منهم، فإنهم نجوا. وكانت عدة الغرقى عشرين رجلاً وأربع نسوة، فارتجت القاهرة بعويل أهاليهن عليهن، وكثرت الشناعة على الأمير أرغون شاه، وذهب الغرقى بلا قاتل ولا قود.
وفي ثالث عشرينه: رسم السلطان أن لا يكون لقاضي القضاة الشافعي إلا عشرة نواب، وأن يكون للحنفي ثمانية نواب وللمالكي ستة وللحنبلي أربعة. فعمل ذلك مديدة، ثم أعيد من عزل منهم بزيادة. وقد ساءت قالة العامة فيهم، وأكثروا من التشنيع بما يغرمه المتداعيان في أبوابهم، حتى اتضعت نواب القضاة في أعين الكافة، وانحطت أقداراهم عند أهل الدولة، وجهروا بالسوء من القول فيهم.
واتفق في هذه السنة ما لم نعهده وهو انتشار الحمرة عند طلوع الفجر إلى شروق الشمس في جميع الجهة الشمالية، التي يسميها المصريون وجه بحري؛ وانتشار الحمرة في الجهة الشمالية أيضاً بعد غروب الشمس حتى يمضي من الليل ساعة، وتصير الأرض والجدران وغير ذلك في هذين الوقتين كأنها صبغت بالحمرة. وتمادى هذا الحال أربعة أشهر، وانقضى شهر رجب هذا والأمر على ذلك.
وفيه تناقص الوباء ببلاد الشام، بعد ما عم كورة دمشق وفلسطين والساحل. وبلغت عدة من مات بصالحية دمشق زيادة على خمسة عشر ألف إنسان. وأحصي من ورد ديوان دمشق من الموتى فكانوا نحو الثمانين ألفاً، وكان يموت من غزة في كل يوم مائة إنسان وأزيد، وكان معظم من مات الصغار والخدم والنساء، فخلت الدور منهم إلا قليلاً وفيه وقع الوباء ببلاد الخليل عليه السلام.
شهر شعبان، أوله السبت: في يوم الجمعة سابعه: ورد الخبر بأن الأمير جانبك الصوفي فر من السجن بالإسكندرية، فلم يقدر عليه، فقبض بسببه على جماعة وعوقبوا عقوبات كثيرة.
وقدم الخبر بوقوع الوباء بدمياط.
وفي يوم الخميس عشرينه: خلع على الأمير جرباش قاشق، واستقر حاجب الحجاب. وكانت شاغرة منذ انتقل جقمق عنها، وصار أمير أخور.
وفيه كتب باستقرار الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، في نيابة الشام، بعد موت تنبك ميق. واستقر شارقطلوا نائب حماة في نيابة حلب، عوضاً عن تنبك البجاسي، واستقر جلبان - أمير أخور الملك المؤيد شيخ - في نيابة حماة. وقد كان من جملة أمراء دمشق. وتوجه الأمير جانبك الخازندار في ثامن عشرينه بتقاليد المذكورين وتشاريفهم. وفيه رسم بإعادة نجم الدين عمر بن حجي إلى قضاء القضاة بدمشق، وحمل تقليده وتشريفه.
وفيه جرى الماء في خليج الإسكندرية، وعبرت فيه السفن، وذلك أنه غلب الرمل على أشتوم بحيرة الإسكندرية حتى جف ماؤها، وصارت الريح تسفي الرمال على الخليج، إلى أن علت أرضه، وجف ماؤه من بعد سنة سبعين وسبعمائة، وصار الماء لا يدخل إليه إلا أيام الزيادة، فإذا نقص ماء النيل جف الخليج. ولذلك خرجت أكثر بساتين الإسكندرية وضياعها التي على الخليج. وصار شرب أهلها من الماء المخزون بالصهاريج. وحاول السلاطين حفر هذا الخليج مراراً، فلم ينجح عملهم، لقلة المعرفة بأمره، ثم إن السلطان ندب الأمير جرباش قاشق - أحد مقدمي الأولوف - لعمل هذا الخليج، فجمع من النواحي ثمانمائة، وخمسة وسبعين رجلاً، وابتدأ في حفره من حادي عشر جمادى الأولى من حنى فم النيل. وصار كلما حفر منه شيئاً أرسل الماء عليه من الفم، حتى انتهى حفره في حادي عشر شعبان هذا لتمام تسعين يوماً، وعبر الماء في اليوم المذكور إلى الإسكندرية، وقد خرج الناس لرؤيته، وسروا به سروراً كبيراً. وكانت كلفة الحفر مما جبى من النواحي التي تسقى من الخليج، ومن بساتين الإسكندرية.
شهر رمضان، أوله الأحد: في ثانيه - الموافق له سادس مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان، حتى خلق عمود المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وفيه قبض على الأمير سودن الأشقر أحد مقدمي الألوف، ونفي بطالاً إلى القدس. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق، فتوجه إليها.

وفيه خرج عدة من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط ورشيد، وقد ورد الخبر بحركة الفرنج، فتكامل توجههم في سابعه.
وفي ثامن عشرينه: جمع السلطان التجار والصيارف بسبب الفلوس، فإنها من حين نودي عليها في صفر أن تكون المضروبة بسبعة دراهم الرطل، والقطع بخمسة الرطل، قلت حتى لم تكد توجد. وسبب ذلك أن التجار كثرت تجارتهم فيها، وشدوا أحمالاً كثيرة من الفلوس المنقاة، وقد بلغ القنطار منها ثمانمائة درهم، وبعثوا منها إلى الحجاز واليمن والهند وبلاد المغرب بشيء لا يدخل تحت حصر، لما لهم فيها من الفوائد. وضرب آخرون منها الأواني النحاس كالقدور ونحوها، وباعوها بثلاثين درهماً الرطل. وتصدى جماعة لقطع الحديد والنحاس والرصاص والقصدير، فأفرزوا كل صنف على حدة، واستعملوه فيما يصلح له، فربحوا فيها كثيراً. ومع ذلك فمن عنده شيء منها شح بإخراجه في المعاملة. وتصدت جماعة لجمعها، فعزت حتى لم يقدر عليها. وتوقفت أحوال الناس في معايشهم، لفقدها. فلما اجتمع الناس عند السلطان، استقر الرأي على أن تكون الفلوس المنقاة بتسعة دراهم الرطل، وأن لا يتعامل أحد بشيء من القطع النحاس والحديد والرصاص والقصدير، ونودي بذلك، وهدد من خالف وسافر بشيء منها إلى البلاد.
شهر شوال، أوله الثلاثاء: في سادسه: ابتدأ الهدم في الحوانيت والرباع التي علوها فيما بين الصنادقيين ورأس الخراطين، لتبنى وكالة وربعا، تجاه العمارة الأشرفية.
وفي سابعه: قدم قاضي القضاة الحنفية بدمشق، شهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك، باستدعاء.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر كاتب السر بعد موت علم الدين داود بن الكويز، فأذكرتني ولايته بعد ابن الكويز قول أبي القاسم خلف بن فرج الألبيري - المعروف بالسميسر - وقد هلك وزير يهودي لباديس بن حبوس الحميدي أمير غرناطة من بلاد الأندلس، فاستوزر بعد اليهودي وزيراً نصرانيا:
كل يوم إلى ورا ... بدل البول بالخرا
فزمانا تهودا ... وزماناً تنصرا
وسيصبو إلى المجو ... س إذا الشيخ عمرا
وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك، وتظاهر بالإسلام في واقعة كانت للنصارى، هو وأبو العلم داود بن الكويز، وخدم كاتباً عند قاضي الكرك عماد الدين أحمد المقيري. فلما قدم إلى القاهرة. وصل في خدمته وأقام ببابه، حتى مات وهو بائس فقير، لم يزل دنس الثياب، مقتم الشكل، وابنه هذا معه في مثل حاله. ثم خدم عند التاجر برهان الدين إبراهيم المحلى كاتباً لدخله وخرجه، فحسنت حاله، وركب الحمار. ثم سار بعد المحلى إلى بلاد الشام، وخدم بالكتابة هناك، حتى كانت أيام الملك المؤيد شيخ، ولاه ابن الكويز نظر الجيش بطرابلس، فكثر ماله بها. ثم قدم في أخر أيام ابن الكويز إلى القاهرة، فلما مات وعد بمال كثير حتى ولى كتابة السر، فكانت ولايته أقبح حادثة رأيناها.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أسندمر نائب الإسكندرية باستدعاء، فقبض عليه، ونفي إلى دمياط بطالاً. واستقر الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس عوضه في نيابة الإسكندرية.
وفي سادس عشره - الموافق له رابع عشرين توت - : انتهت زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وابتدأ نقصه من الغد.
وفي تاسع عشره: خرج محمل الحاج صحبة الطواشي افتخار الدين مثقال مقدم المماليك، ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه، وقد تقدمه الركب الأول صحبة الأمير أينال الششماني أحد أمراء العشرات وفي رابع عشرينه: خلع علي نقيب الأشراف، السيد الشريف بدر الدين حسن بن الشريف النقيب علي، وأضيف إليه نظر وقف الأشراف، عوضاً عن شرف الدين محمد ابن عبد الوهاب بن نصر الله. وكان قد باشر وقف الأشراف بعفة ونهضة، وأنفق للأشراف في كل سنة أزيد مما كانت عادتهم.
وفي سادس عشرينه: نزل السلطان إلى عمارته.
وفيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في نظر الكسوة، عوضاً عن شرف الدين المذكور، وفي نظر الجوالي عوضاً عن قاسم بن البلقيني وخلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، واستقر كاشف الشرقية. وكان الكشف بيد الأمير أرغون شاه أستادار.

وفي سابع عشرينه: قبض على أرغون شاه المذكور لعجزه - مع ظلمه وعسفه - عن جامكية المماليك، فإن مصروف الديوان المفرد عظم، وصارت البلاد المفردة له - مع مظالم العباد - لا تفي به.
وفي ثامن عشرينه: خلع على ناصر الدين محمد بن شمس الدين محمد بن موسى المرداوي، المعروف بابن أبي وافي، واستقر أستادارا، عوضاً عن أرغون شاه. وعوقب أرغون شاه بين يدي السلطان. ومن خبر ابن أبي والي هذا أن أباه من تجار القدس، وتزيا هو بزي الأجناد، وخدم أستادار الأمير جقمق الدوادار في أيام المؤيد بديار مصر مدة، ثم صادره وصرفه، فخدم أستادار نائب الشام مدة. وكثر ماله، فأحضر من دمشق إلى القاهرة في هذا الشهر، وألزم بحمل عشرين ألف دينار، فوعد أن يحمل في هذا اليوم ثلاثة آلاف دينار. فلما قبض على أرغون شاه، سولت له نفسه وزين له شيطانه أن يكون أستادارا، ويسد المبلغ الذي ألزم به منها، فاستقر.
وفيه خلع أيضاً على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، واستقر في الوزارة، عوضاً عن أرغون شاه.
وفي تاسع عشرينه: سلم أرغون شاه إلى الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار ليستخلص منه ستين ألف دينار، فنزل من القلعة مع أعوان الوالي حتى دخل داره التي كان يسكنها أرغون شاه وقد سكنها ابن أبي والي، فعندما دخلها بكى، وكان في بلائه هذا أعظم عبرة. وذلك أن ابن والي في ابتداء حاله كان من جملة أجناد أرغون شاه الذين يخدمونه أيام عمله وهو أستادار نوروز الحافظي، فدارت الدوائر حتى صار ابن أبي والي أستادار عوضاً عن أرغون شاه، وسكن في داره بالقاهرة التي كان بالأمس يتردد إليه فيها. ويجلس حتى يستأذن له عليه. ثم أخذ ليعلقه في هذه الدار، يحضره من كان يخدمه بها. أعاذنا الله تعالى من سوء العاقبة وزوال نعمه، ورزقنا العافية بمنه وكرمه.
وفيه خلع على الأمير إينال النوروزي الذي كان نائباً بطرابلس، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن أقبغا التمرازي نائب الإسكندرية.
شهر ذي القعدة، أوله يوم الخميس: فيه قدم للسلطان إخوان من بلاد الجركس في ستين من الجراكسة، فخرج الأمراء إلى لقائهم.
وفيه توجه الأمير قجق أمير سلاح، والأمير أركماس الظاهري أحد مقدمي الألوف، والقاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش إلى مكة، على الرواحل حاجين.
وفي رابعه: تقرر على أرغون شاه عشرة آلاف دينار حالة يقوم بها، ويمهل في مبلغ عشرين ألف دينار مدة، فأفرج عنه.
وفي سادسه: وصلت هدية الأمير قصروه نائب طرابلس، وهي مائة وخمسون فرساً، وكثير من القماش والفرو.
وفي هذه الأيام: هبط ماء النيل سريعاً مع فساد جسور النواحي، من سوء سيرة ولاة عملها، فانقطعت منها مقاطع كثيرة، شرق بسببها عدة أراضي بالوجه القبلي وبالوجه البحري وبالجيزة، فنسأل الله اللطف. هذا، والغلال رخيصة، فالقمح بمائة وأربعين درهماً من الفلوس كل أردب، والشعير والفول بسبعين درهماً الأردب.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره - الموافق له ثاني عشرين بابه - : والشمس في الدرجة الخامسة من برج العقرب، حدث في السماء راعد شديد وبرق، ثم مطر كثير جداً، لم تعهد مثله في مثل هذا الزمان. ومع ذلك فالحر موجود، فسبحان الفعال لما يريده.
وفي سادس عشره: قدم الأمير جانبك الخازندار من الشام، وقد قلد النواب، فخلع عليه، واستقر دوادارا ثانياً، عوضاً عن الأمير قرقماس المتوجه إلى الحجاز، بحكم انتقاله إلى تقدمة ألف. وجانبك هذا رباه السلطان صغيراً، فحفظ حق التربية، بحيث أن جقمق نائب الشام لما ثار بعد موت المؤيد وقبض على السلطان، وهو يومئذ من أمراء دمشق، وسجنه، بذل الرغائب لجانبك هذا، فلم تستمله الدنيا، وثبت على خدمة أستاذه حتى خلصه الله، فوفى السلطان له بذلك، وأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم إمرة طبلخاناة، وبعثه لتقليد نواب الشام فأثرى. ولما قدم، صار دواداراً. وفي الحقيقة هو صاحب التدبير في الدولة نقضاً وإبراماً، لكثرة اختصاصه بالسلطان، ومزيد قربه منه.
وفي سادس عشرينه: ثارت المماليك بأستادار لعجزه عن تكملة النفقة، وضربوه، ففر حتى التجأ إلى بيت بعض الأمراء.

وفي ثامن عشرينه: ختم على مطابخ السكر، وألزم من يدولب طبخ السكر ألا يتعرض أحد منهم لعمله، ومنعت باعة السكر وباعة الحلوى من شراء السكر إلا من سكر السلطان. وعمل لذلك ديوان، وأقيم له جماعة ليدولبوا السكر، فامتنع كل أحد من بيع السكر، إلا السلطان، ومن شراه إلا من سكر السلطان، فضاق الناس ذرعاً بذلك، وتضرر به جماعة عديدة.
شهر ذي الحجة، أوله الجمعة: في ثالثه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان للسرحة في عدة من الأمراء حتى اصطاد، ودخل القاهرة من باب النصر، وصعد القلعة من باب زويلة. ومولده في سنة تسع عشرة. وركب أيضاً في سادسه.
وفي هذه الأيام: اشتد الفحص عن الأمير جانبك الصوفي، وعوقب بعض الممالك حتى هلك بسببه. وقبض على أصهاره وعوقب بعضهم، وأخذت له أشياء وجدت له. وفيها تحرك سعر الغلال، وفشت الأمراض في الناس من الحميات.
وفي ليلة السبت سادس عشره: زلزلت القاهرة زلزلة كلمح البصر، ثم زلزلت كذلك في ليلة الأحد.
وفي حادي عشرينه: ألزم الناس أن لا يتعاملوا بالذهب الإفرنتي المشخص، إلا من حساب كل دينار بمائتين وعشرين فلوساً، وكان آخر ما استقر عليه الحال أن الدينار بمائتين وخمسة وعشرين، فلم يتغير صرفه عن ذلك مدة إلى أثناء هذه السنة، زادت العامة في صرفه حتى بلغ مائتين وثلاثين، فأنكر السلطان ذلك عندما بلغه، ورسم أن ينقص كل دينار عشرة دراهم، حتى يبقي بمائتين وعشرين درهماً، فخسر الناس مالاً كثيراً.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا برخاء الأسعار، وكثرة الأمطار، وأن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح عن مكة، لما بلغه من الإرجاف بمسكه، فنودي من يومه بعرض الأجناد البطالين، ليجهزوا إلى التجريدة بعد النفقة عليهم لغزو مكة، فاستشنع ذلك.
وفيه كبست عدة أماكن بسبب جانبك الصوفي فلم يوجد.
وفي هذه السنة: اشتد غضب متملك الحبشة وهو أبرم - ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أركد - بسبب غلق كنيسة قمامة بالقدس، وقتل عامة من في بلاده من الرجال المسلمين، واسترق نساءهم وأولادهم، وعذبهم عذاباً شديداً، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم وقتل عامة من فيها، وسبى نساءهم وذراريهم، وهدم مساجدهم، فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة جداً لا يحصى عدد من قتل فيها.
وفي هذه السنة: حدث أمر الناس في غفلة عنه معرضون، وهو أنه أخبرني من لا أتهم في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. أن الأرضية التي من طبعها إفساد الكتب والثياب الصوف، أكلت له بناحية مرج الزيات - ظاهر القاهرة - ألفا وخمسمائة قتة دريس وهذا الدريس يحمله خمسة عشر جملاً وأكثر. فكثر تعجبي من ذلك، وما زلت أفحص عنه على عادتي في الفحص عن أحوال العالم حتى وقفت على أن ضرر الأرضة تعدى بناحية مرج الزيات، فأتلفت الأخشاب والثياب عندهم، وقوى ضررها حتى شاهدت تلك الأعوام حوائط البساتين التي بناحية المطرية وقد جددت الأرضية فيها أخاديد طوالاً. ثم لما كان بعد سنة عشرين وثمانمائة كثر عبث الأرضة بالحسينية خارج القاهرة، حتى صارت أخشاب سقوف الدور ترى مجوفة من داخلها، فشرع أربابها في الهدم حتى أتوا على معظم تلك الديار، والأرضة ضررها يفحش، إلى أن وصلت الدور التي بباب النصر. وقد كثر ضررها أيضاً بالمدينة النبوية. وحدثت في هذه الأعوام بمكة أيضاً، وفي سقف الكعبة. ولقد مر بي قديماً في كتب الحدثان مما أنذر بوقوعه في هذا الزمان، أن يسلط على الناس الحيوان الرديء، فكنت أفكر في ذلك زماناً وأقول كيف يسلط الحيوان على الناس وأحسب ذلك من جملة ما رمزوه، حتى كان من أمر الأرضة ما كان، فعلمت أنها هي الحيوان المعني، ولعمري هذا أمر له ما بعده.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرتاج الدين فضل الله بن الرملي ناظر الدولة، في حادي عشرين صفر وباشر نظر الدولة عدة سنين، وأناف على الثمانين، وسئل بالوزارة غير مرة فامتنع. وكان من ظلمه الكتاب الأقباط وفساقهم.
وقتل ناصر الدين عبد الرحمن بن محمد بن صالح قاضي المدينة النبوية، ليلة السبت رابع عشرين صفر.
وقتل ناصر الدين محمد باك بن علي باك بن قرمان متملك بلاد قرمان في صفر بحجر مدفع أصابه في حرب مع عساكر مراد بن كرشجي متملك برصا. وقد ذكرنا قدومه أسيراً في الأيام المؤيدية شيخ ثم أفرج عنه بعد موته.

ومات الأمير قطلوبغا التنمي أحد أمراء الألوف في الأيام المؤيدية شيخ، وهو بطال بدمشق. في ليلة السبت سابع عشرين ربيع الأول.
وماتت خوند زينب ابنة الظاهر برقوق في ليلة السبت ثامن عشرين ربيع الآخر وهي آخر من بقي من أولاد الظاهر، لصلبه.
وماتت ابنتي فاطمة يوم الأربعاء ثالث عشرين ربيع الأول، وهي آخر من بقي من أولادي، عن سبع وعشرين سنة وستة أشهر.
ومات الأمير غرس الدين خليل الجشاري، نائب الإسكندرية - كان - وهو من حملة أمراء دمشق في شهر رجب.
ومات الأمير تنبك ميق العلاي نائب الشام، في يوم الاثنين ثامن عشر شعبان. وكان مع ظلمه سخيفاً ماجناً متجاهراً. وهو من جملة المماليك الذين أثاروا الفتن. وفر من الناصر فرج، ولحق بشيخ المحمودي وهو ببلاد الشام، فلزمه حتى تسلطن، فرقاه كما تقدم.
ومات قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة أحمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في يوم الخميس سابع عشرينه، عن خمس وستين سنة. وقد نشأ على أجمل طريقة، وبرع في الحديث الشريف والفقه، وشارك في فنون، وناب في الحكم بالقاهرة عن العماد أحمد بن عيسى الكركي، ومن بعده. ثم ترفع عن ذلك، وتصدى للإفتاء والتدريس، حتى وفي القضاء ثم صرف عنه كما تقدم.
ومات علم الدين داود بن زين عبد الرحمن بن الكويز الكركي، كاتب السر، في يوم الاثنين سلخه، و لم يبلغ الخمسين سنة. ودفن خارج القاهرة. وكان الجمع في جنازته موفوراً. وقد كان أبوه من كتاب الكرك النصارى، يقال له جرجس، فأظهر الإسلام، وتسمى عبد الرحمن، وباشر عدة جهات بالكرك ودمشق والقاهرة، آخرها نظر الدولة. وخدم ابنه داود هذا في الجيزة، ثم لحق بالشام، وباشر نظر جيش طرابلس. واتصل بالمؤيد شيخ المحمودي - هو وأخوه صلاح الدين خليل فولاه نظر الجيش بدمشق. وعمل أخاه صلاح الدين في ديوانه فقبض عليهما في سنة اثنتي عشرة، وحملا إلى القاهرة على حمارين في أسوأ حال. ثم أفرج عنهما ففرا إلى دمشق. وما زالا في خدمة شيخ حتى قدم بهما إلى مصر وتسلطن، فولي داود هذا نظر الجيش، ثم ولاه ططر كتابة السر. وكانت تؤثر عنه فضائل، منها أنه يلازم الصلاة، وصيام أيام البيض من كل شهر، ويتنزه عن القاذورات المحرمة كالخمر واللواط والزنا، ويتصدق كل يوم على الفقراء، إلا أنه كان متعاظماً، صاحب حجاب وإعجاب، مع بعد عن جميع العلوم. ولكنه في الألفاظ ذو شح زائد، وحفظت عليه ألفاظ تكلم بها سخر الناس منها زماناً، وهم يتناقلونها، وكان مهاباً إلى الغاية متمكناً في الدولة، موثوقاً به فيها، بحيث مات ولا أحد أعلا رتبة منه.
ومات قاضي القضاة مجد الدين سالم بن سالم بن أحمد المقدسي الحنبلي، يوم الخميس تاسع عشرين ذي القعدة، وقد بلغ الثمانين، وابتلى بالزمانة والعطلة عدة سنين وكان يعد من نبهاء الحنابلة وخيارهم. وباشر القضاء.
سنة سبع وعشرين وثمانمائةأهلت هذه السنة وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف أبو العز برسباي والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري. والدوادار الكبير سودن بن عبد الرحمن. وأمير سلاح قجق. وأمير مجلس أينال النوروزي. وأمير أخور جقمق. ورأس نوبة أزبك. وحاجب الحجاب جرباش قاشق. والوزير كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن محمد ابن كاتب المناخ. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وكاتب السر جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي. وأستادار ناصر الدين محمد بن محمد بن أبي والي القدسي. ونائب الشام تنبك البجاسي. ونائب حلب شارقطلوا. ونائب حماة جلبان ونائب طرابلس قصروه. ونائب صفد مقبل. ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي. والسلطان في قلق من جانبك الصوفي، وهو حثيث الطلب له، والفحص عنه. والناس في تخوف من ذلك، فما بين الواحد وبين هلاكه، إلا أن يقول عدو له: جانبك الصوفي عند فلان فيؤخذ ويعاقب حتى يهلك.
ومع ذلك فالناس في ضيق من الحجر على السكر، والامتناع من بيعه إلا للسلطان بأربعة آلاف درهم القنطار، ولا يشتريه أحد إلا من الحوانيت التي يباع منها سكر السلطان.
شهر الله المحرم، أوله الأحد: في ثانيه: قدم الأمير مقبل نائب صفد باستدعاء، فأكرمه السلطان، وخلع عليه خلعة الاستمرار .

وفي رابعه: ركب السلطان في طائفة يسيرة، وعبر من باب زويلة، حتى شاهد عمارته. ومضى عائدا إلى القلعة من باب النصر، وهو بثياب جلوسه، كآحاد الأجناد، من غير شعار المملكة.
وفي ثامنه: قدم الأمير قجق، والأمير أركماس، والقاضي زين الدين عبد الباسط من الحجاز على الرواحل، فخلع عليهم. وقدم معهم الشريف مقبل أمير ينبع، راغباً في الطاعة، فخلع عليه وفي رابع عشره: توجه الأمير مقبل عائدا إلى صفد، على عادته.
وفي حادي عشرينه: قدم الركب الأولى من الحجاج. وقدم من الغد المحمل ببقية الحاج. وتأخر الأمير قرقماس الدوادار في ينبع، وطلب عسكرًا ليقاتل به الشريف حسن بن عجلان، ويستقر عوضه في إمارة مكة، فأجيب إلى! ذلك. ونودي في الأجناد البطالين بالعرض، كما تقدم. وعين منهم ومن المماليك السلطانية جماعة ليسافروا صحبة حسين الكردي الكاشف.
وفي ثالث عشرينه: خلع على الأمير سودن بن عبد الرحمن الدوادار، واستقر نائب الشام، عوضاً عن تنبك البجاسي، ونزل من القلعة سائراً إلى دمشق، من غير أن يدخل داره، في عدة من مماليكه على خيولهم بغير أثقال. وكان قد تحدث منذ أيام بمخامرة تنبك.
وفي سادس عشرينه: قدمت رسل مراد بن عثمان صاحب برصا بهدية.
وفيه خلع على الشريف علي بن عنان بن مغامس، واستقر في إمارة مكة شريكاً للأمير قرقماس.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الشيخ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر، مفتي دار العدل، واستقر في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح بن البلقيني.
وفي هذا الشهر: كثرت الأمطار بالقاهرة والوجه البحري كثرة زائدة. واشتد البرد إلى غاية لم نعهد مثلها، حتى جمد الماء في بعض الأواني، وتجلد الطل في الأسحار على الأرض وعلى الزروع. وهلكت دواب كثيرة بالأرياف من البرد، وسقطت دور كثيرة بها من الأمطار، ورؤى الثلج على جبل المقطم.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: في عاشره: قدم شمس الدين محمد الهروي من القدس، متعرضاً بعودة إلى القضاء وغير ذلك من المناصب.
وفي رابع عشره: قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق. وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجعة رابعه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السر، وقد لبس السلاح في جمع من مماليكه. فثار إليه الأمراء واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد.
وفي تاسع عشره: خلع على نور الدين السفطي - أحد مباشري دواوين الأمراء - واستقر في وكالة بيت المال، بعد موت شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني.
وفي ثاني عشرينه: نودي بأن يمكن الناس من طبخ السكر وبيعه وشرائه، وارتفع تحريكه، وتضمين بيعه، فسر الناس بذلك.

وقدم الخبر بأن الأمير سودن بن عبد الرحمن لما نزل على صفد تلقاه الأمير مقبل نائبها، ونزل معه على جسر يعقوب. خرج تنبك البجاسي من دمشق بعدما تقدم ذكره من محاربة الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة حادي عشره، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسر فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت ثاني عشره يترامون نهارهم كله حتى حجز الليل بينهم، فباتوا ليلة الأحد على تعبيتهم. وأصبح تنبك يوم الأحد ثالث عشره راحلاً إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقوية له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس. وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء سادس عشره، فتمكن من القلعة. فللحال أدركهم تنبك، وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية، وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربة أصابت كتفه، حتى خلته فتكاثروا عليه، وجروه إلى القلع ومعه نحو عشرين من أصحابه. وكتب بذلك للسلطان، فقدم الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرينه، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأحضرت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدقت البشائر، وكتب بقتل تنبك، وحمل رأسه إلي مصر، وتتبع من كان معه. وبطلت حركة السفر.
وفيه ابتدئ بهدم المأذنة التي أنشأها الملك المؤيد شيخ على باب الجامع الأزهر، من أجل أنها مالت حتى قرب سقوطها.
وفي رابع عشرينه: خلع على الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن فارس الخلاطي المعروف بقارئ الهداية. واستقر في مشيخة خانقاه شيخو، عوضاً عن شرف الدين يعقوب بن التباني.
وفي سابع عشرينه: نودي على جانبك الصوفي، ووعد من أحضره بألف دينار، وإن كان جندياً بإمرة عشرة وهدد من أخفاه وظهر عنده، بإحراق الحارة التي هو ساكن بها، وحلف المنادي على كل واحدة مما ذكر يميناً عن السلطان.
شهر ربيع الأول، أوله الخميس: فيه خلع على ولي الدين محمد السفلي الشافعي، واستقر في إفتاء دار العدل، لا عن أحد وفي ثانيه: نودي بالخروج إلى حرب مكة، فاستشنع ذلك. وكان قد بطل أمر التجويده إلى مكة، شغلاً بخبر تنبك البجاسي. فلما تفرغ قلب السلطان اشتغل بأمر مكة.
وفي رابعه: أنفق في المجردين مبلغ أربعين ديناراً، لكل واحد.
وفي حادي عشره: قدم رأس تنبك البجاسي وعلق على باب النصر.
وفي يوم الخميس خامس عشره: رسم بفتح كنيسة قمامة بالقدس، ففتحت.
وفي سابع عشره: ركب السلطان حتى عبر من باب زويلة وشاهد عمارته ومضى من باب النصر إلى القلعة، وهو بثياب جلوسه، من غير شارة الملك.
وفي ثامن عشره: خرجت التجريدة إلى مكة، صحبة الشريف علي بن عنان.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خلع على شمس الدين محمد بن عبد الدايم البرماوي، واستقر في تدريس الفقه للشافعية بالجامع المؤيدي، وكان بيد قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر. وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أزبك رأس نوبة، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن. الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وكانت شاغرة هذه المدة. وخلع على الأمير تغري بردي المحمودي واستقر رأس نوبة، عوضاً عن الأمير أزبك.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في ثانيه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، وأعيد إلى تدريس الجامع المؤيدي. وخلع على البرماوي واستقر نائباً عن حفيد قاضي القضاة ولي الدين أبي زرعة بن العراقي فيما باسمه من وظائف جده، حتى يتأهل لمباشرتها.
وفي تاسعه: خلع على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن الجمال يوسف بن الصفي. ونزل في موكب جليل ومعه عدة من الأمراء والأعيان.
وفي هذا الشهر: تحرك سعر الغلال، وأبيع القمح بمائتي درهم الأردب، بعد مائة وأربعين. وقل وجوده.
وفي سابع عشره: ختن السلطان ولده الأمير ناصر الدين محمد، وعمل لختانه مهما حضره الأمراء، ثم خلع عليهم، وأركبهم خيولاً بقماش ذهب، وما منهم إلا من نقط عند الختان بمبلغ ذهب، فجمع النقوط وصرف للمزين منه مائة دينار، وحمل البقية إلى الخزانة.

وفي هذه الأيام: عثر بعض الناس بجماعة قد خزنوا من رمم بني أدم شيئاً كثيراً، فحملوا إلى الوالي، فما زال بهم حتى أقروا أنهم ينبشون الأموات من قبورهم، ثم يغلون الميت في الماء بنار شديدة، حتى ينهري لحمه، ويجمعون ما يعلو الماء من الدهن، ثم يبيعونه للفرنج بخمسة وعشرين دينار القنطار، فحبسوا، ونسي خبرهم بعد ما شاهد الناس رمم الموتى عندهم والأواني التي بها الدهن، وحملت إلى السلطان حتى رآها وشق بها القاهرة.
وفي خامس عشرينه: حضر السلطان نفقة جامكية المماليك، وقطع عدة ممن له إقطاع بالحلقة.
شهر جمادى الأول، أوله السبت: في ثالثه: خلع على زين الدين عبد الرحيم الحموي الواعظ، واستقر خطيباً بالجامع الأشرفي.
وفي رابعه: نودي من نزل عن وظيفة تصوف بخانكاة أو غير تصوف ضرب بالمقارع. وسبب ذلك أن جماعة ممن له تصوف بخانكاة سعيد السعداء، وخانكاة بيبرس والظاهرية المستجدة بين القصرين، وبخانكاة شيخو، وبالجامع المؤيدي، أخذوا في النزول عما باسمهم من التصوف بمال حتى يتشفعوا بمن له جاه، ويستقروا في عمارة السلطان من جملة صوفيتها، كما فعل جماعة عند ما أنشأ الملك المؤيد شيخ الجامع بجوار باب زويلة، وجعل فيه صوفية، فوشى بذلك للسلطان، فمنع من ذلك ليستقر في جامعه من ليس له وظيفة من فقراء أهل العلم.
وفي يوم الجمعة سابعه: أقيمت الخطبة بالجامع الأشرفي، و لم يكمل منه سوى الإيوان القبلي.
وفي خامس عشره: قدم قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي من دمشقي، وقد طب الحضور.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن العطار الحموي الذي كان نائب الإسكندرية، واستقر ناظر القدس والخليل عليه السلام، عوضاً عن الأمير حسام الدين حسن نائب القدس.
وفي هذا الشهر: صودر أعيان دمشق، وهي ثالث مصادرة.
وفي تاسع عشرينه: قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار، وعلى ناظر الديوان المفرد كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم، وعوقاً بالقلعة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: في ثانيه: خلع على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وأعيد أستاداراً عوضاً عن ابن أبي والي، وأضيف إليه كشف الوجه البحري، فنزل في موكب جليل، ومعه أكثر الأمراء الأكابر، وعامة الأعيان.
وفيه قدم الخبر بوصول الشريف علي بن عنان إلى ينبع بمن معه من المماليك المجردين. وتوجه الأمير قرقماس معه إلى مكة، فدخلوها يوم الخميس سادس جمادى الأولى، بغير حرب. وأن الشريف حسن بن عجلان سار إلى حلي بنى يعقوب من بلاد اليمن. وأن الوباء. بمكة ابتدأ من نصف ذي الحجة، واستمر إلى آخر شهر ربيع الآخر، فمات بها نحو ثلاثة آلاف نفس. وأنه كان يموت في اليوم خمسون إنساناً عدة أيام، وأن الوباء تناقص من أوائل جمادى الأولى. وأنه جاء في ثالث جمادى الأولى سيل عظيم، حتى صار المسجد الحرام بحراً، ووصل الماء إلى قريب من الحجر الأسود، وصار في المسجد أوساخ، وخرق كثيرة، جاء بها السيل، وأن الخطبة أعيدت بمكة لصاحب اليمن في سابع جمادى الأولى، بعد ما ترك اسمه والدعاء له من أيام الموسم.
وفي يوم الأربعاء رابعه: جمع القضاة وأهل العلم، وقد رسم بأخذ زكوات أموال الناس للسلطان، فاتفقوا على أنه ليس له أخذها في هذا الزمان، فإن النقود من الذهب والفضة، والناس مأمونون فيها على إخراج زكاتها. وأما العروض من القماش ونحوه مما هو بأيدي التجار، فإن المكوس أخذت منهم في الأصل على أنها زكاة، ثم تضاعفت المكوس المأخوذة منهم، حتى جرى فيها ما جرى. وأما البهائم من الإبل والغنم، فإن أرض مصر لا ترعى فيها سائماً، وإنما هي تعلف بالمال، فلا زكاة فيها. وأما الخضروات والزروع، فإن الفلاحين في حال من المغارم معروفة. وانفضوا على ذلك، فبطل ما كانوا يعملون.
وفي ثاني عشره: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وأضيف إليه نظر الديوان المفرد، رفيقاً للأمير صلاح الدين أستادار، عوضاً عن كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب جكم واستقر ابن كاتب جكم على ما بيده من أستادار ابن السلطان.
وفي تاسع عشره: توجه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك عائداً إلى دمشق على قضاء الحنفية بها، بعد ما أخذ منه نحو عشرة آلاف دينار.

وفيه قدم الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن برهان الدين إبراهيم، نقيب الأشراف بدمشق، وقد طلب الحضور.
وفيه اتفقت نادرة، وهي أن زوجة السلطان لما ماتت، عمل لها ختم عند قبرها في الجامع الأشرفي، ونزل ابنها الأمير ناصر الدين محمد من القلعة لحضور الختم، وقد ركب في خدمته الملك الصالح محمد بن ططر، فشق القاهرة من باب زويلة وهو في خدمة ابن السلطان، بعد ما كان في الأمس سلطاناً. وصار جالساً بجانبه في ذلك الجامع، وقائماً في خدمته إذا قام، فكان في ذلك موعظة لمن اتعظ.
وفي يوم السبت المبارك حادي عشرينه: خلع على قاضي القضاة نجم الدين عمر ابن حجي، واستقر كاتب السر، عوضاً عن شمس الدين محمد الهروي. ونزل على فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، في موكب جليل إلى الغاية، فكان يوماً مشهوداً. وقد ظهر نقص الهروي وعجزه، فإنه باشر بتعاظم زائد، مع طمع شديد وجهل. مما وسد إليه، حيث كان لا يحسن قراءة القصص ولا الكتب الواردة فتولى قراءة ذلك بدر الدين محمد بن مزهر نائب كاتب السر وصار يحضر الخدمة، ويقف على قدميه، وابن مزهر هو الذي يتولى القراءة على السلطان.
وفي رابع عشرينه: ابتدئ بهدم ربع الحلزون تجاه قبو الخرنفش. وكان وقفاً على فكاك الأسرى ببلاد الفرنج، وعلى الحرمين. وقد خلق من قدم السنين، فعوض بدله مسمط تجاه مصبغة الأزرق، وصار من حملة الأملاك السلطانية.
وفي سلخه: خلع على الشريف شهاب الدين أحمد نقيب الأشراف بدمشق، واستقر قاضي القضاة بدمشق، عوضاً عن القاضي نجم الدين عمر بن حجي كاتب السر، على مال كبير. شهر رجب، أوله الاثنين: في رابعه: خلع على شخص قدم من بلاد الروم عن قرب، يقال له علاء الدين علي، واستقر في مشيخة التصوف، وتدريس الفقه، على مذهب الحنفية بالجامع الأشرفي.
وقدم الخير بأخذ الفرنج مركبين قريباً من دمياط، فيها بضائع كثيرة، وعدة أناس، يزيدون على مائة رجل، فكتب بإيقاع الحوطة على أموال التجار التي ببلاد الشام والإسكندرية ودمياط، والختم عليها، وتعويقهم عن السفر إلى بلادهم.
وفي عشرينه: توجه قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري - شيخ المؤيدية لزيارة القدس.
وفي يوم الأحد حادي عشرينه: نزل السلطان إلى الجامع الذي أنشأه، وجلس به قليلا. ثم ركب عائداً إلى القلعة.
وفيه قدم الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن الجزري الدمشقي ، وقد غاب عن مصر والشام نحوا من ثلاثين سنة، فإنه فر من ضائقة نزلت به إلى مدينة برصا، فأكرمه أبو يزيد بن عثمان ونوه به، حتى حاربه تيمورلنك وأسره، فتحول ابن الجزري من بلاد الروم إلى سمرقند في خدمة تيمور، وأقام ببلادهم حتى قدم في هذه الأيام.
وفي رابع عشرينه: نودي على النيل، وقد جاءت القاعدة ستة أذرع وعشرين إصبعاً.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه تتبعت البغايا وألزمن بالزواج، وأن لا يزاد في مهورهن على أربعمائة درهم من الفلوس، تعجل منها مائتان وتؤجل مائتان. ونودي بذلك، فلم يتم منه شيء.
وفيه ابتدئ بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان، وحضرة القضاة، ومشايخ العلم، والهروي، وابن الجزري، وكاتب السر نجم الدين بن حجي، ونائبه بدر الدين محمد بن مزهر، وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، والفقهاء الذين رتبهم المؤيد. فاستجد في هذه السنة حضور كاتب السر ونائبه وحضور ناظر الجيش. وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان بن حسين أن يبدأ بقراءة البخاري أول يوم من شهر رمضان، ويحضر قاضي القضاة الشافعي، والشيخ سراج الدين عمر البلقيني، وطائفة قليلة العدد لسماع الحديث فقط. ويختم في سابع عشرينه، ويخلع على قاضي القضاة، ويركب بغلة رائعة بزناري تخرج له من الاصطبل السلطاني ولم يزل الأمر على هذا حتى لسلطن المؤيد شيخ، فابتدأ القراءة من أول شهر شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان. وطلب قضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم، وقرر عدة من الطلبة يحضرون أيضاً، فكانت تقع بينهم بحوث يسيء بعضهم على بعض فيها إساءات منكرة، فجرى السلطان الأشرف برسباي على هذا، واستجد كما ذكرنا حضور المباشرين، وكثر الجمع. وصار المجلس جميعه صياحاً ومخاصمات، يسخر منها الأمراء وأتباعهم.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمياط، فمات عدد كثير.
شهر رمضان، أوله الخميس:

وفي رابعه: أخرج الأمير أرغون شاه أستادار والأمير ناصر الدين محمد بن أبي وافي، من القاهرة إلى دمشق، بطالين.
وفي تاسعه: سار غائبان من ساحل بولاق خارج القاهرة، وقد قدما منذ أيام، أحدهما من الإسكندرية، والآخر من دمياط، وأشحنا بالمقاتلة والأسلحة. وأنزل فيهما ثمانون مملوكاً، وأمروا أن يشيروا في بحر الملح من جهة طرابلس، ويأخذوا من سواحل الشام عدة أغربة، عسى أن يجدوا من يتجرم في البحر من الفرنج.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين لتتمة خمسة عشر ذراعاً وأربعة عشر لإصبعاً ثن نقص من آخر النهار نحو أربعة أصابع فأصبح الناس في قلق، وطلبوا القمح ليشتروه، فأمسك من عنده شيء منه يده عن البيع، وضن به فاشتد طلبه، إلا أن الله فرج، وزاد في آخر يوم الأحد. ونودي عليه يوم الاثنين تاسع عشره برد ما نقص، وزيادة إصبع. واستمرت الزيادة حتى كان الوفاء في يوم الأربعاء المبارك حادي عشرينه، وهو ثالث عشر من مسرى، ففتح الخليج على العادة.
وفي هذا الشهر: سار مقاتل في بحر القلزم إلى مكة المشرفة.
شهر شوال، أوله السبت: في رابعه: ابتدئ بحفر صهريج بوسط الجامع الأزهر، فوجدت فيه أثار فسقية قديمة، فلما أزيلت، وجد - بعد ما حفر - عدة أموات.
وفيه قدم الخير بأن أبا فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد - صاحب تونس وبلاد إفريقية - جهز ابنه المعتمد أبا عبد الله محمداً، من بجاية في عسكر إلى مدينة تلمسان، فحارب ملكها أبا عبد الله عبد الواحد بن أبي محمد عبد الله بن أبي حمو موسى حروباً كثيرة، حتى ملكها في جمادى الآخرة، وخطب لنفسه ولأبيه، فزالت دولة بني عبد الواد من تلمسان بعد ما ملكت مائة وثمانين سنة.
وانتهت زيادة النيل إلى سبعة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً. ووقفت الزيادة خامسه، ونقص إلى يوم الأحد تاسعه، زاد إلى يوم الأربعاء ثاني عشره، فبلغ سبعة عشر إصبعاً من ثمانية عشر إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً. ونقص في يوم الخميس ثالث عشره وكان قد تأخر فتح سد بحر أبي المنجا عن عادته، هو وغيره مما يفتح في يوم النوروز، لتأخر وفاء النيل. فلما فتحت نقص الماء، وقلق الناس من ذلك، وطلبوا القمح ليشتروه فزاد سعر الأردب عشرة دراهم.
وفي خامس عشره: ابتدئ بهدم الربع المعروف بوقف الشهباني، تجاه الجامع الأشرفي، برأس الخراطين. وقد استبدل به لتشعث بنائه، وخوف سقوطه.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى جهة بركة الحجاج، صحبة الأمير قرا سنقر كاشف الجيزة. ورحل الركب الأول في ثاني عشرينه، وتبعه المحمل ببقية الحجاج في ثالث عشرينه.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: حضر الأمراء الخدمة السلطانية على العادة، ونزلوا إلى دورهم، فاستدعى السلطان جماعة منهم لطعام عمله، منهم الأمير الكبير بيبغا المظفري فلما صار بالقلعة قبض عليه وقيد، وأنزل في النيل، حتى سجن بالإسكندرية. وقد كانت الإشاعة منذ أيام، بتنكر ما بينه وبين السلطان وأنه صار له حزب.
وفي هذا الشهر: كان أوان جذاذ النخل، فلم يثمر كبير شيء وأمحل النخل أيضاً ببلاد الصعيد، حتى عز وجود التمر هناك. وتلف الموز في هذه السنة بدمياط، وقل وجوده بأسواق القاهرة، أو فقد.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: في رابعه: خلع الأمير قجق أمير سلاح. واستقر أميراً كبيراً، عوضاً عن بيبغا المظفري. وخلع على الأمير إينال النوروزي أمير مجلس، واستقر أمير سلاح عوضاً عن قجق. وأنعم بإقطاع بيبغا المظفري - ومتحصله في السنة مبلغ ستين ألف دينار - على تغري برمش نائب القلعة وعلى أينال الجكمي وهو بطال بالقدس، وكتب بإحضاره. وتغري برمش هذا من جملة تركمان بهسني، اسمه حسين، خدم بحلب في الأيام الظاهرية برقوق، بباب نائبها الأمير تغري برمش. وتنقل في الخدم حتى صار في الأيام المؤيدية شيخ دوادار الأمير جقمق الدوادار. فلما تسلطن الملك الأشرف برسباي اختص به، وجعله من جملة الأمراء.

وفي يوم الاثنين ثامنه: خلع على شمس الدين محمد الهروي، واستقر قاضي القضاة، عوضاً عن الشيخ الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، فغير زيه. وهذه المرة الرابعة في تغيير زيه، فإنه كان أولاً يتزيا بزي العجم، فيلبس عمامة عوجاء بعذبة عن يساره. فلما ولي قضاء القضاة لبس الجبة، وجعل العمامة كبيرة، وأرخى العذبة من بين كتفيه. فلما ولي كتابة السر تزيا بزي الكتاب، وترك زي القضاة، فضيق كمه، وجعل عمامته صغيرة مدورة، ذات أضلاع، وترك العذبة، وصار على عنقه طوق، ولبس الذهب الحرير، ولم يخش الله، ولا استخفى من الناس. فلما أعيد إلى القضاء ثانياً خلع زي الكتاب، وتزيا - بزي القضاة وكان ضخماً، بطيناً، ألحي، فأشبه في حالاته هذه الصفاعتة من المخايلين، الذين يضحكون أهل المجانة والهزو، وماذا بمصر من المضحكات!!.
وفي يوم الاثنين: قدم الأمير أينال الجكمي من القدس، فخلع عليه واستقر أمير مجلس، عوضاً عن أينال النوروزي. وهذا الجكمي من جملة مماليك الأمير جكم، وانتقل إلى الأمير سودن بقجة. ثم صار إلى الأمير شيخ المحمودي. فلما تسلطن، عمله من جملة المماليك الخاصكية. ثم غضب عليه ونفاه، ثم أعاده من النفي لبراءته مما رمى به، فرقاه ططر حتى صار من الأمراء المقدمين. ثم قبض عليه، ونفي حتى أعاده السلطان في يوم تاريخه إلى الإمرة.
وفي يوم السبت عشرينه: وصل الغرابان بالأسرى والغنيمة. وذلك أنهما لما مرا بدمياط، تبعهما قوم من المطوعة في سلورة، حتى مروا بطرابلس سار معهم غربان إلي الماغوصة، فأضافهم متملكها، فلم يتعرضوا لبلاده، ومضوا عنه إلى بلاد يقال لها اللمسون من جزيرة قبرس، وقد استعد أهلها وأبعدوا عيالهم، وخرجوا في سبعين فارساً وثلاثمائة راجل، فقاتلهم المسلمون، وهزموهم وقتلوا منهم فارساً واحداً وعدة رجال، وحرقوا ثلاثة أغربة، وغرقوا ثلاثة أغربة، وعاثوا فيما وجدوه من ظروف العسل والسمن وغير ذلك. وأسروا ثلاثة وعشرين رجلاً، وغنموا جوخاً كثيراً، رفع للسلطان منه مائة وثلاث قطع، طرحت على التجار ولم يعط المجاهدون منها شيئاً.
وفي تاسع عشرينه: نودي بخروج أهل الريف من القاهرة ومصر إلى بلادهم فلم عمل بذلك.
وفي هذا الشهر: هبط ماء النيل، وشرق أكثر النواحي بالصعيد والوجه البحري. ومع ذلك فالأسعار رخيصة، القمح بمائة وثمانين درهماً الأردب، والشعير بخمسة وثمانين الأردب، والفول بثمانين درهماً الأردب.
وفيه كثرت الفتن، وتعددت بالوجه القبلي والبحري.
وفيه فتحت كنيسة قمامة بالقدس، وكان قد تأخر فتحها بعد ما رسم به.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: في يوم النحر رمى بعض المماليك من أعلا الطباق بالحجارة، والسلطان يذبح الأضاحي، والمماليك تنهب لحومها، بخلاف العادة، فأصيب بعض الأمراء بحجر. ودخل السلطان داخل الدور، وكثر الكلام. وسبب ذلك أنه لم يفرق الأضاحي في المماليك، وأعطى كل واحد منهم ديناراً، فلم يرضهم هذا، و لم يكن منهم سوى ما ذكر. وسكن أمرهم.
وفي ثالث عشره: قبض على الأمير كمشبغا الفيسي، أحد أمراء الناصر فرج.
وفي ثامن عشره: خلع على سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري، واستقر في مشيخة الجامع المؤيدي، بعد موت أبيه بالقدس.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرشرف الدين يعقوب بن الجلال رسولا بن أحمد بن يوسف التباني الحنفي في يوم الأربعاء سادس عشر صفر. وكان يعرف الفقه والعربية، وله همة ومكارم ووصلة كبيرة بالأمراء واختص بالمؤيد شيخ اختصاصاً كبيراً. وأفتى ودرس وولي نظر الكسوة، ووكالة بيت المال، ومشيخة خانكاة شيخو.
وقتل بدمشق الأمير تنبك البجاسي في أول ربيع الأول، وهو أحد المماليك الذين مروا من الناصر فرج، ولحق بشيخ المحمودي، فرقاه في سلطته، وولي نيابة حماة وحلب ودمشق، وشكرت سيرته، لتنزهه عن قاذورات المعاصي، كالخمر والزنا، مع إظهار العدل وفعل الخير.

ومات الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرازق بن شمس الدين عبد الله ابن كاتب المناخ، في يوم الجمعة حادي عشرين جمادى الأول، وهو متعطل، وابنه كريم الدين عبد الكريم يلي الوزارة. وباشر جده أو جد أبيه النصرانية، وترقى في الخدم بالكتابة، وأثرى منها، حتى ولي الوزارة. وكان سيوسا، لينا، ضابطا، همه بطنه وفرجه. واستجد مكس الفاكهة بعد إبطاله، فما تهني به، وصرف عن الوزارة، فكان كما يقال حتى وصلها غيري، وحملت عارها.
ومات الأمير سودن الأشقر - بدمشق في جمادى الأولى، وهو أحد المماليك الذين أنشأهم الناصر فرج. وكان عيباً كله. لشدة بخله، وكثرة فسقه وظلمه.
وتوفي بمكة قاضيها محب الدين أحمد ابن قاضيها جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة الشافعي، في ثامن عشر ربيع الآخر. وكان مشكوراً في عمله وسيرته، له معرفة جيدة بالفقه والفرائض والحساب، ومشاركة في غير ذلك.
وتوفي خطيب مكة جمال الدين أبو الفضل ابن قاضي مكة محب الدين أحمد بن قاضي مكة أبي الفضل محمد النوبري الشافعي، في ربيع الأول.
وتوفي إمام مقام المالكية بمكة شهاب الدين أحمد بن علي النوبري. في ربيع الآخر. وماتت خوند زوجة السلطان، وأم ابنه الأمير ناصر الدين محمد، في خامس عشر جمادى الآخرة. ودفنت بالقبة من الجامع الأشرفي. وكان لها تحكم وتصرف في الأمور ومات الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يحيى بن المنصور عمر بن علي بن محمد بن رسول متملك زبيد وعدن وتعز وجبلة وحرض والمهجم، والمحالب، والمنصورة، والدملوة، والجوه، والشحر، وقوارير، من بلاد اليمن، في سادس جمادى الآخرة، بصاعقة سقطت على حصنة قوارير خارج مدينة زبيد، فارتاع، وأقام أيام لما به. وأقيم من بعده في مملكة اليمن ابنه المنصور عبد الله، وكان من شرار ملوك الأرض، فسقاً وظلماً وطمعاً.
ومات ملك المغرب صاحب فاس السلطان المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي إسحق المريني، في شهر رجب. وأقيم بعده ابن أخيه أبو زيد عبد الرحمن.
وتوفي الشيخ الملك أبو عبد الله المعروف بالعطار، في ثامن عشرين المحرم، بمدينة النحريرية، وهو آخر من بقي من أصحاب الشيخ يوسف العجمي.
وتوفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عبد الله بن سعد العبسي، القدسي، الديري، الحنفي، بالقدس. وقد توجه إليه زائراً في يوم عرفه. ومولده سنة أربع وأربعين وسبعمائة تخميناً. وله معرفة بالفقه والأصول والتفسير والعربية، وفيه شهامة وقوة. نشأ بالقدس، وولي قضاء الحنفية بديار مصر، فاشتد فيه، وأجرى أموره على السداد بحسب الوقت. ثم نقل من القضاء إلى مشيخة الجامع المؤيدي، رحمه الله.
وتوفي زاهد الوقت أبي بكر بن عمر بن محمد الطريني الفقيه المالكي، في يوم النحر، بمدينة المحلة. وكان قد ترك أكل اللحم مدة أعوام؛ تورعاً لما حدث من نهب البلاد وغارتها، وقنع بما يقيم به أوده من أرض يزرعها، فكان يقتصر في قوته وملبسه على ما لا يطيقه سواه. ولو قبل من الناس ما يحبوه به لكنز قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، لكنه أعرض عن زينة الحياة الدنيا ولذاتها، حتى لعله مات من قلة الغذاء، مع ما اشتمل عليه مع ذلك من آثار جميلة، وأيادي مشكورة، وعلم وعمل مرضي، رفع الله درجاته في عليين.
ومات صاحب حصن كيفا الملك العادل فخر الدين أبو المفاخر سليمان بن الكامل شهاب الدين غازي بن العادل مجير الدين محمد بن الكامل سيف الدين أبي بكر بن شادي.
وقتل محمد بن الموحد تقي الدين عبد الله بن المعظم غياث الدين تورانشاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن محمد الكامل بن أبي بكر العادل بن نجم الدين أيوب بن شادي، وأقيم بعده ابنه الأشرف أحمد.
سنة ثمان وعشرين وثمانمائةأهلت و خليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داو بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد وليس له من الخلافة إلا مجرد الاسم بلا زيادة. وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك قجق. والدوادار الكبير أزبك - وهو اسم - معناه الأمير جانبك، فهر صاحب الأمر والنهي في الدوادارية، بل في سائر أمور الدولة وأمير سلاح أينال النوروزي. وأمير مجلس أينال الجكمي. وأمير أخور جقمق.

ورأس نوبة تغري بردي المحمودي. وحاجب الحجاب جرباش قاشق. وأستادار صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر نجم الدين عمر بن حجي الدمشقي.
ناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل. وليس لأحد في الدولة تصرف غير، والأمير جانبك الدوادار. وقاضي القضاة الشافعي شمس الدين محمد الهروي. وقاضي الحنفي زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي وقاضي الحنبلي علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الشام سودن من عبد الرحمن. ونائب حلب شار قطلوا. ونائب حماة جلبان أمير أخور. ونائب طرابلس قصروه ونائب صفد مقبل الدوادار. ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي. وبمكة الشريف علي بن عنان والأمير قرقماس. وأسواق القاهرة ومصر ودمشق في كساد. وظلم ولاة الأمر من الكشاف والولاة فاش. ونواب القضاة قد شنعت قالة العامة فيهم من تهافتهم. وأرض مصر أكثرها بغير زراعة، لقصور مد النيل في أوانه، وقلة العناية يعمل الجسور، فإن كشافها، إنما دأبهم إذا خرجوا لعملها أن يجمعوا مال النواحي لأنفسهم وأعوانهم. والطرقات .بمصر والشام مخوفة من كثرة عبث العربان والعشير. والناس على اختلاف طبقاتهم قد غلب عليهم الفقر. واستولى عليهم الشح والطمع، فلا تكاد تجد إلا شاكياَ مهتماً لدنياه وأصبح الدين غريباً لا ناصر له. وسعر القمح بمائتي درهم الأردب.
والشعير بمائة وعشرة. والفول بنحو ذلك. ولحم الضأن السليخ كل رطل بسبعة دراهم ونصف ولحم البقر كل رطل بخمسة دراهم. والفلوس كل رطل بتسعة دراهم، وهي النقد الذي ينسب إليه ثمن ما يباع، وقيمة ما يعمل. والفضة كل درهم وزنا بعشرين درهماً من الفلوس والذهب الإفرنجي، المشخص بمائتي وخمسة وعشرين درهماً.
شهر المحرم، أوله الخميس: في ثانيه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامتهم، ورخاء الأسعار. بمكة، وأنه لم يقدم من العراق حاج.
وفي رابع عشرينه: قدم الركب الأول. ثم قدم من الغد المحمل ببقية الحاج، ومعهم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد، وقد قبض عليه الأمير قرقماس. بمكة.
وفي هذه الأيام: رسم بتجهيز عسكر يتوجه إلى مكة، ونودي بذلك في القاهرة.
وفي تاسع عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه، وكشف عمائره، ودخل الجامع الأزهر لرؤية الصهريج وزار به الشيخ خليفة والشيخ سعيد، وهما من المغاربة، لهما بالجامع الأزهر عدة سنين، وشهرًا بالخير. ثم خرج من الجامع إلى دار رجل يعرف بالشيخ محمد بن سلطان، فزاره، وعاد إلى القلعة.
وفي هذا الشهر: وقع الشروع في عمل مراكب حربية لغزو بلاد الفرنج.
وفيه صرف صدر الدين أحمد بن المحجمي عن نظر الجوالي، وأضيف نظرها إلى القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش. وكانت الجوالي قد كثر المرتب عليها للناس من أهل العلم وغيرهم، حتى لم تف بمالهم.
شهر صفر، أوله السبت: في حادي عشرينه: ركب السلطان في طائفة يسيرة بثياب جلوسه، كما قد صارت عادته. وكشف الطريدة الحربية التي تعمل بساحل بولاق وسار وقد تلاحق به بعض أهل الدولة حتى مر على جزيرة الفيل إلى التاج. ونزل بالمنظرة التي أنشأها المؤيد شيخ فوق الخمس وجوه. ثم سار في أرض الخندق إلى خليج الزعفران، وتوجه إلى القلعة.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه: خلع على الشيخ محب الدين أحمد بن الشيخ جلال الدين نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر التستري البغدادي الحنبلي. واستقر قاضي القضاة الحنابلة بعد موت علاء الدين علي بن مغلي. ومحب الدين هذا قدم من بغداد بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فسمع الحديث، وقرأ بنفسه على مشايخ الوقت، ولازم الاشتغال حتى برع في الفقه وغيره. وقدم أبوه من بغداد باستدعائه، فنزله الظاهر برقوق في تدريس الحنابلة. بمدرسته بين القصرين. ثم نزل ابنه محب الدين هذا يدرس الحديث فيها ثم انتقل إلى تدريس الفقه بعد أبيه، وكتب على الفتوى وناب في الحكم عن ابن مغلي. وصار ممن يحضر من الفقهاء مجلس المؤيد في كل أسبوع.

وفي ليلة الأربعاء سادس عشرينه: غرقت امرأة لها ولزوجها شهرة، لقالة سيئة عنها. وفيه صرف صدر الدين أحمد بن العجمي عن نظرة الكسوة، وأضيفت أيضاً إلى القاضي زين الدين عبد الباسط، فعنى بها، حتى لم ندرك كسوة عملت للكعبة مثلها.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: في ليلة الجمعة خامسه: عمل المولد السلطاني، كما هي العادة في عمله كل سنة.
وفي سابعه: سار الأمير أرم بغا - أحد أمراء العشرات - تجريدة إلى مكة، ومعه. مائة مملوك وتوجه سعد الدين إبراهيم بن المرة - أحد الكتاب - لأخذ مكوس المراكب الواصلة من الهند إلى جدة. وجرت العادة من القديم أن مراكب تجار الهند ترد إلى عدن ولم يعرف قط أنها تعدت بندر عدن. فلما كان سنة خمس وعشرين، خرج من مدينة كاليكوت ناخذاه اسمه إبراهيم. فلما مر على باب المندب جور إلى جدة بطراده ،حنقًا من صاحب اليمن؛ لسوء معاملته للتجار، فاستولى الشريف حسن بن عجلان ما معه من البضائع، وطرحها على التجار بمكة. فقدم إبراهيم المذكور في سنة ست وعشرين على المندب، ولم يعبر عدن، وتعدى جدة وأرسى بمدينة سواكن ثم بجزيرة دهلك فعامله صاحباها أسوأ معاملة. فعاد في سنة سبع وعشرين وجور عن عدن، ومر بجدة يريد ينبع. وكان بمكة الأمير قرقمامن، فمازال يتلطف لإبراهيم حتى أرسى على جده. بمركبين، فجامله أحسن مجاملة، حتى قويت رغبته، ومضى شاكراً ثانياً. وعاد في سنة ثمان وعشرين، ومعه أربعة عشر مركباً موسوقة بضائع. وقد بلغ السلطان خبره، فأحب أخذ مكوسها لنفسه، وبعث ابن المرة لذلك، فصارت جدة من حينئذ بندرًا عظيماً إلى الغاية وبطل بندر عدن إلا قليلا. ولم تكن جدة مرسي إلا من سنة ست وعشرين من الهجرة، فإن عثمان رضي الله عنه اعتمر فيها، فكلمه مواليه أن يحول الساحل إلى جدة، وكان في الشعيبة في الجاهلية فحوله إلى جدة، ومن كان وراء قديد يحملون من الجار والأبواء، وكان ما يحمل إلى هذه المواضع قوت أهل الحرمين وعيشهم.
وفي تاسعه: عدي السلطان النيل في الحراقه، ونزل بناحية وسيم، وعاد إلى القلعة في سادس عشره.
وفي هذا الشهر: كمل الصهريج الذي عمله السلطان بصحن الجامع الأزهر، وبنيت بأعلاه مصطبة، فوقها قبة برسم تسبيل الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات نارنج فلم تفلح، وهلكت من الذباب.
وفيه أيضاً كملت الزيادة التي تولى عمارتها الأمير تاج الدين الشويكي. بميضات الجامع الأزهر، فعظم النفع بها.
شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء: في سابع عشره: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشمام فخلع عليه وجاءته تقادم الأمراء، وتوجه إلى نيابته في سادس عشرينه.
وفي هذا الشهر: الشهر ابتدئ بعمل طريدتين حربيتين، لتتمة أربع طرائد، وأنشئت بساحل بولاق فيما انحسر ماء النيل عنه تجاه جامع الخطيري، وأخذت لها أخشاب كثيرة من قصور سرياقوس التي كان ينزل بها السلاطين أيام السرحة بسرياقوس.
وفيه أيضًا كمل بناء الحوانيت والربع فوقها، والتربيعة التي زيدت في الوراقين. وفتح لها باب كبير من آخر سوق المهامزيين. وقام بعمارة ذلك الأمير جانبك، فجاء من أحسن العمائر. وكمل أيضًا بناء الحوانيت وعلوها تجاه باب المدرسة الصالحية بجوار الصاغة وهي من العمائر السلطانية.
وفيه وقع الهدم في قصر الأمير صرغتمش المجاور لبير الوطاويط بالصليبة، خارج القاهرة وفيه كملت عمارة برج حربي بالقرب من الطينة على بحر الملح، فجاء مربع الشكل، مساحة كل ربع منه ثلاثون ذراعًا، وشحن بالأسلحة، وأقيم فيه خمسة وعشرون مقاتلاً فيهم عشرة فرسان. وأنزل حوله جماعة من عرب الطينة " فانتفع الناس به. وذلك أن الفرنج كانت تقبل في مراكبها إلى بر الطينة، وتتخطف الناس من هناك في مرورهم من قطيا إلى جهة العريش. وتولى عمارة هذا البرج الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغنى بن أبي الفرج. وأخذ الآجر الذي بناه به من خراب مدينة الفرما وأحرق حجارة الجير مما أخذه من الفرما، فسبحان محيل الأحوال.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس:

في عاشره: خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر أستاداراً، !عوضاً عن ولده الأمير صلاح الدين محمد وخلع في ثاني عشره على كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم واستقر في نظر الدولة، عوضًا عن ابن كاتب جكم.
وفي هذه الأيام: كثرت الإشاعات بحركة الفرنج، فخرج عدة من الأمراء والمماليك لحراسة الثغور.
وفيه كان بدمياط حريق شنيع، ابتدأ يوم الجمعة تاسعه، ذهبت فيه بيوت عديدة، وهلكت جماعة من الناس.
وفيه قدمت طائفة من الفرنج إلى صور من معاملة صفد، فحاربهم المسلمون، وقتلوا كثيراً منهم، واستشهد من المسلمين نحو الخمسين رجلاً.
وفي ثالث عشره: خلع على زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج، واستقر شاد الخاص، وأستادار الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان.
وفي هذا الشهر: أصيبت عامة فواكه بلاد الشام بأسرها - من دمشق إلى حلب - في ليلة واحدة. من شدة البرد، وكانت الشمس حينئذ في برج الحمل، فتلفت الأعناب ونحوها.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في عاشره: قبض على نجم الدين عمر بن حجي، كاتب السر، وسلم إلى الأمير جانبك الدوادار، فسجنه في برج بالقلعة، وأحيط بداره، وسبب ذلك أنه التزم عن ولايته كتابة السر، حتى وليها بعشرة آلاف دينار، ثم تسلم ما كان جارياً في إقطاع الدين داود بن الكويز باشر معه نيابة كتابة السر، وقام بأمر ديوان الإنشاء، لبعد ابن الكويز عن ذلك. فتمشت به الأحوال. ولم يزل قائماً بأمور كنابة السر، لعجز من وليها في هذه المدد، من الجمال يوسف بن الصفي ومن الهروي وغيره، حتى ولي كتابة السر، فكان أنسب الموجودين.
وفيه خلع على تاج الدين عبد الوهاب المعروف بالخطير، واستقر في نظر الاصطبل. وهذا الخطير - من سنين قريبة - أسلم، وكان يباشر بديوان السلطان وهو أمير، فرقاه في سلطنته إلى هنا.
وفيه كتب بالإفراج عن نجم الدين عمر بن حجي وإطلاقه من الحديد، وإقامته بدمشق، على أن يحمل مبلغاً ذكر له.
وفي ثامن عشرينه: قبض على السيد الشريف مقبل أمير ينبع، وسجن.
وفي هذا الشهر: عرض السلطان المماليك الذين عينهم لغزو الفرنج في البحر. وتقدم إلى كل من الأمراء الألوف بتجهيز عشرة مماليك من مماليكه.
وفيه خرج الأمير قرقماس من مكة بمن معه في طلب الشريف حسن بن عجلان حتى بلغ حلي من أطراف اليمن، فلم يقابله ابن عجلان مع قوته وكثرة من معه، بل تركه وتوجه نحو نجد تنزهاً عن الشر، وكراهة الفتنة، فعاد قرقماس وقدم مكة في العشرين منه.
شهر رجب، أوله السبت: في ثالثه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن محمد الهروي، لسوء سيرته، وقبح سريرته، وفساد طويته، وبعده عن كل خير، واشتماله على جملة الشر.
وفي رابعه: حمل الشريف مقبل أمير ينبع والشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد إلى الإسكندرية، وسجنا بها.
وفي هذه الأيام: ارتفع سعر الفول من تسعين درهماً الأردب إلى مائة وخمسين. وارتفعت أسعار الغلال بدمشق.
وفيها وقع الاجتهاد في عمل الأغربة. ولم تحسن سيرة من ولي عملها فإنه أخذ الأخشاب ظلماً، وقطع من أشجار الجميز والحور بغير رضاء أربابها، وسخر الناس في عملها، فأشبه هذا الغزو، من صلى لغير القبلة بغير وضوء عمداً.
وفيها توقفت أحوال الديوان المفرد، وتأخرت نفقة المماليك.
وفي عاشره: أدير محمل الحاج على العادة، وعرضت كسوة الكعبة على السلطان. وقد اجتهد القاضي زين الدين عبد الباسط في تأنقها، حتى جاءت في غاية من الحسن، بحيث لم يعمل فيما أدركناه مثلها.
وفي هذا الشهر: كان قطاف عسل النحل، فلم يوجد منه كبير شيء، فارتفع سعره، بلغ سعر الفول مائتي درهم الأردب.
وفيه اعتبر متحصل الديوان المفرد ومصروفه، فعجز في كل سنة مائة ألف وعشرين ألف دينار، يجبيها أستادار من النواحي بعد ما عليها من المستقر والحادث، ويتنوع في مظالم العباد، ويبالغ في العسف، حتى يسدها. ويأخذ المباشرون وأعوانه نحواً منها. فلذلك خرب إقليم مصر وآلت أحوال الناس إلى التلاشي.

وفي ثالث عشره: أنفق في الغزاة، وهم ستمائة رجل، مبلغ عشرين ديناراً لكل واحد، وجهز الأمراء ثلاثمائة رجل. ونودي من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة.
وفي عشرينه: سارت الخيول في البر إلى طرابلس. وعدتها ثلاثمائة فرس، لتحمل الغزاة من طرابلس في البحر.
وفي هذا الشهر: خرج مركب من اللاذقية، قد شحن بمجاديف، حتى يحضرها إلى مصر برسم الأغربة التي أنشئت صحبة الريس فاضل. فلما حاذت جزيرة أرواد خرج طائفة من الفرنج يريدون أخذها، فقاتلهم المسلمون حتى قتلوا عن آخرهم وعدتهم خمسون رجلاً. وأفلت منهم رحل واحد. وأخذ الفرنج المجاديف وغيرها، وحرقوا المركب. وفاضل هذا من أهل مدينة أياس، فقدم إلى السلطان في السنة الخالية، وحسن له غزو الفرنج، ووعده بغنيمة أموال عظيمة، حتى كان من غزوة اللمسون ما كان، فأخذ في التعبئة لغزوهم ثانياً، أيده الله تعالى بنصره عليهم.
وفي شنع الوباء بدمياط وفارسكور، وكان ابتداؤه عندهم من جمادى الأولى.
وفي حادي عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس على وظيفة التدريس بالصالحية.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: ركب السلطان بعد صلاة الجمعة بثياب جلوسه كما هي عادته، حتى شاهد الأغربة بساحل بولاق، وعاد.
وفي ثالث عشرينه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان والأمير جانبك، حتى شاهد توجه الأغربة. وقد أقام في دار القاضي زين الدين عبد الباسط المطلة على النيل، فانحدر في النيل أربعة أغربة بكل غراب أمير، ومقدم الجميع الأمير جرباش حاجب الحجاب، فكان يوماً مشهوداً، حشر فيه الناس من كل جهة لمشاهدة ذلك. ثم انحدر في يوم الاثنين غراب واحد، وانحدر في يوم الثلاثاء غرابان، وفي يوم الخميس سادس عشرينه غراب.
وفي هذا الشهر: قطع السلطان جرايات المباشرين من القمح، وهي خمسة آلاف أردب، فتوفرت للسلطان.
شهر شعبان، أوله الاثنين: في ثالثه: أنحدر غراب ثامن. وفيه جاء قاع النيل خمسة أذرع وعشر أصابع، ونودي علمه من الغد خمسة أصابع. وهي ابتداء النداء على النيل.
وفي يوم السبت سادسه: حدث عند شروق الشمس زلزلة قدر ما يقرأ الإنسان سورة الإخلاص، ثم زلزلت ثانياً مثل ذلك، ثم زلزلت مرة ثالثة، فلو لا أن الله لطف بسكونها، لسقطت الدور، فإن الأرض مادت، وتحركت المباني وغيرها حركة مرعبة، بحيث شاهدت حائطا خرج عن مكانه ثم عاد. وأخبرني من لا أتهم أنه كان وقت الزلزلة راكباً فرسه فخرع عن السرج حتى كاد يسقط.
وفي غده: نودي - عن أمر السلطان - بصوم الناس ثلاثة أيام من أجل الزلزلة، فما أنابوا ولا سعوا.
وفي ثامنه: نودي بأن لا يباع السكر إلا للسلطان ولا يشترى إلا منه، فعاد الأمر كما كان.
وفي ليلة الخميس ثامن عشره: وقع الحريق بثلاثة أماكن فما طفئ إلا بعد جهد.
وفي هذا الشهر: بلغ الفول ديناراً لكل أردب، بعد ما كان كل ثلاثة أرادب ونصف بدينار. وتجاوز القمح المائتين بعد مائة وخمسين. وقل وجود الغلال، وطلبها الناس، فشحت أنفس أربابها وخزنتها، هذا مع توالي زيادة النيل.
وفي هذا الشهر: اتفقت حادثتان غريبتان إحداهما أن رجلاً مر في سفره ببلاد الغربية على أتان له، وتحته خرح فيه قماش، فخرج عليه بعض قطاع الطريق وألف إلى الأرض ليذبحه، فقال له: بالله اسقني شربة ماء قبل أن تذبحني فألقى الله تعالى في قلبه عليه رحمة، لما يريده به. وفتح خرج الرجل وتناول منه إناء وعبر في الماء حتى يغترف في الإناء منه، فاختطفه تمساح، وذهب في الماء فكسره، وأكله، والرجل يراه وهو مكتوف، وأتانه واقف مع فرس قاطع الطريق، قائمان قريباً منه. فأقام كذلك حتى مر به أناس عن بعد، فصاح بهم إلى أن أتوه، فأعلمهم بما جرى له، وما كان من هلاك عدوه، فحلوا أكتافه وأتوا به وبالفرس والأتان، والخرج، إلى الوالي، فقص عليه قصته فأخذ الفرس وخلاه لسبيله. فمضى بأتانه وخرجه، فكان في هذا موعظة لمن اتعظ وكفي بالله نصيراً.

والثانية: أن متولي الحرب بتلك النواحي وسط سبعة رجالة من قطاع الطريق وعلقهم على ممر المسافرين، كما هي عادتهم في ذلك. وأكد على الخفراء أرباب الدرك في حراستهم طول الليل، خوفاً من مجيء أهاليهم وأخذهم إياهم، وحلف بأيمانه لئن فقد أحد منهم ليوسطن الجميع فباتوا يحرسونهم حتى كاد الليل يذهب، أخذهم النوم ثم أنتبهوا في السحر، فإذا بعدة الموسطين قد نقصت واحد. فمن شدة خوفهم أن يطلع النهار ويبلغ الوالي أن الموسطين قد أخذ منهم واحد فيوسطهم بدله، مروا في الدرس المسلوك ليأخذوا من انفرد من المسافرين، يوسطوه ويعلقوه بدل الذي نقص من العدة فإذا هم برجل على حمار وتحته قفتين، فأخذوه، ووسطوه، وعلقوه مع الموسطين. فلما طلع النهار جاءهم مقدم الوالي لكشف حال الموسطين، فإذا عدتهم قد زادت واحداً فأنكر على الخفراء وأحضرهم إلى الوالي، وأعلمه الخير، فلم يجدوا بداً من الصدق وأخبروه أنهم ناموا آخر الليل، وانتبهوا سحراً فرأوا العدة قد نقصوا واحداً فما شكوا في أنه أخذه أهله، فأخذوا رجلاً على حمار من المارة ووسطوه وعلقوه مكان الذي نقص. وحلفوا أيماناً عديدة أنهم ما رأوهم إلا ناقصين واحداً. فأمر بفتح القفتين اللتين كانتا على حمار المقتول، فإذا في كل قفة نصف امرأة قد نقشت، فعلم الوالي ومن حضره أنه كان قد قتل هذه المرأة وسرى بها سحراً حتى يواريها، فقتله الله بها. وكان في هذه تذكرة لمن وعي أن الجزاء واقع.
وفي آخر هذا الشهر: أفرج عن الأمير طرباي من سجن الإسكندرية، ونقل إلى القدس ليقيم به غير مضيق عليه، وأنعم عليه بألف دينار.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: أهل هذا الشهر وقد انحل سعر الغلال، وكثرت في العراص والساحل من غير سبب يظهر في ارتفاعها أولا، ثم في انحطاطها، إن الله على كل شيء قدير، وبالناس لرءوف رحيم.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: قبض على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله أستادار، وعلى ولده الأمير صلاح الدين محمد، وعوقا بالقلعة.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج. واستقر أستادارا عوضاً عن الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله.
وفي ثاني عشره: أفرج عن الصاحب بدر الدين، ونزل إلى داره، وقد ألزم بحمل نفقة الشهر وعليقه، وذلك نحو ثلاثين ألف دينار. وترك ابنه الأمير صلاح الدين بالقلعة رهينة على المال، فأخذ في بيع أملاكه وخيوله وثيابه وأثاثه.
وفي رابع عشره: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن بدر الدين حسن.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرينه - الموافق له رابع عشر مسرى - : أوفي النيل ستة عشر ذراعاً. ونزل الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان ففتح الخليج على العادة بعد تخليق المقياس، وركب في خدمته الصالح بن ططر.
وفي يوم الأربعاء - صبيحة الوفاء - : نودي على النيل بزيادة عشر أصباع. ونودي في يوم الخميس بزيادة عشر أصابع. وهذا من نوادر زيادات النيل.
وفي هدا الشهر: عز وجود اللحم بالأسواق.
شهر شوال، أوله الأربعاء:

في تاسعه: ورد الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج، فدقت البشائر بالقلعة، وجمع القضاة والأعيان بالجامع الأشرفي، وقرئ عليهم الكتاب ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا. ثم قرئ الكتاب من الغد بجامع عمرو بن العاص. وكتبت البشائر إلى الإسكندرية والبحيرة والوجه القبلي. وبينما الناس مستبشرين بنصر الله على أعدائه إذ قدم الخبر في يوم الاثنين ثالث عشره بوصول الغزاة إلى الطينة، فكثر القلق. وكان من خيرهم أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق، مروا على دمياط إلى طرابلس، وتوجهوا منها في بضع وأربعين مركباً إلى جزيرة الماغوصة، فخيموا في برها الغربي، وقد خاف متملكها، وبعث بطاعته للسلطان، فبلغهم تهيؤ صاحب قبرس للقائهم، واستعداداً لمحاربتهم، فباتوا بمخيمهم على الماغوصة ليلة الأحد العشرين من شهر رمضان. وشنو من الغد - يوم الأحد - الغارات على ما في غربي قبرس من الضياع، وعادوا بغنائم كثيرة، بعد ما قتلوا وأسروا وحرقوا. ثم أقلعوا ليلة الأربعاء يريدون الملاحة، وتركوا في البر أربعمائة من الرجال، يسيرون بحذائهم، فقتلوا وأسروا وحرقوا. ثم ركبوا البحر وقد وافاهم صباحا الفرنج في عشرة أغربة وقرقورة، فلم يثبتوا وانهزموا من غير حرب. فأرسى المسلمون بساحل الملاحة. وللحال كرت أغربة الفرنج راجعة إليهم، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً، وهزموهم. وباءوا ليلة الجمعة خامس عشرينه، فأقبل بكرة يوه الجمعة خامس عشرينه عسكر قبرس، وعليهم أخو الملك، فقاتله نصف العسكر الإسلامي أشد قتال وهزموه بعد ما كادوا أن يؤخذوا، وقتلوا من الفرنج مقتلة كبيرة وأخرجوا الخيول من المركب إلى البر في ليلة السبت وساروا بكرة يوم السبت يقتلون ويأسرون ويحرقون القرى، حتى ضاقت مراكبهم عن حمل الأسرى، وامتلأت أيديها بالغنائم، فكتب الأمير جرباش الكريمي - حاجب الحجاب ومقدم العساكر المجاهدة - إلى الأمير قصروه نائب طرابلس بذلك، صحبة قاصد، بعثة من الغزاة ليأتيه بخبرهم فكتب الأمير قصروه كتاباً إلى السلطان وفي طيه كتاب حرباش إليه، فقرئ كما تقدم ذكره. ثم إن العسكر خاف من متملك قبرس، فإنه قد جمع واستعد، فرأى جرباش أن يعود بهم، فسار حتى أرسى على الطينة قريباً من قطيا، ومن دمياط.
وفي ثالث عشره: أفرج عن الأمير بيبغا المظفري، ونقل من سجن الإسكندرية إلى دمياط، وجهز إليه فرس ليركبه هناك.
وفي رابع عشره: نودي بالقاهرة من أراد الجهاد فعليه بالنفقة، فكثر قلق الناس.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: كان نوروز القبط بمصر، وماء النيل على ثمانية عشر ذراعاً وثمانية إصبعا. وهذا مما يستعظم قدره في هذا الوقت.
وفي خامس عشرينه: قدم الغزاة بألف وستين أسيراً، فباتوا بساحل بولاق، وصعدوا بكرة يوم الأحد سادس عشرينه إلى القلعة، وبين أيديهم الأسرى والغنائم وهب على مائة وسبعين حمالاً، وأربعين بغلاً وعشرة جمال ما بين خرج، وصناديق، وحديد، وآلات حربية، وأواني، فعرض الجميع على السلطان، فكان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله في الدولة التركية والجركسية، فرسم ببيع الأسرى وتقويم الأصناف، فابتدئ في البيع من يوم الاثنين سابع عشرينه بحضرة الأمير جقمق العلاي أمير أخور. وتوفي البيع عن السلطان الأمير أينال الششماني، فاشتراهم الناس على اختلاف طبقاتهم. ورسم أن لا يفرق بين الأولاد وآبائهم، ولا بين قريب وقريبه، فكانوا يشترونهم جميعاً. وأنفق السلطان في طائفة من الغزاة ثلاثة دنانير ونصف لكل واحد، وفي طائفة سبعة دنانير لكل واحد.
وفي هذا الشهر: تعذر وجود اللحم بالأسواق أياماً، وإن وجد فإنه قليل جداً، وغلت أسعار أكثر الأقوات إلا القمح.
وفيه أنشأ زين الدين عبد الباسط، بناحية بركة الحاج بستاناً وساقية ماء، وعمر فسقية كبيرة تملأ بالماء ليردها الحجاج، فعظم الانتفاع بها.
شهر ذي القعدة، أوله الجمعة: ويوافقه عيد الصليب. كان ماء النيل على عشرين ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وقل ما عهد مثل هذا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21