كتاب : الإحكام في أصول القرآن
المؤلف : ابن حزم
ومنها قوله في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً.
ومنها قوله في حق شهداء أحد " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك " ومنها قوله في الهرة " إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " وقوله: " إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده " وقوله في الصيد: " فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله " وأيضاً قوله: " أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء وذلك هو القياس إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها النازل جملتها منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحاداً.
فإن قيل: أما حيث معاذ فإنه مرسل وخبر واحد ورد في إثبات كون القياس حجةً وهو مما تعم به البلوى والمرسل ليس بحجة عند الشافعي وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة عند أبي حنيفة فالإجماع من الفريقين على أنه ليس بحجة والذي يدل على ضعفه أن النبي عليه السلام كان قد ولاه القضاء وذلك لا يكون إلا بعد معرفة اشتمال معاذ على معرفه ما به يقضي فالسؤال عما علم لا معنى له وأيضاً فإنه وقف العمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة ووقف العمل بالسنة على عدم وجدان الكتاب.
والأول على خلاف قوله تعالى : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وعلى خلاف قوله : " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 والثاني على خلاف الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة.
سلمنا صحته وأنه حجة غير أن اجتهاد الرأي أعم من القياس وذلك لأن اجتهاد الرأي كما يكون بالقياس قد يكون بالاجتهاد في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة وطلب الحكم فيهما على التمسك بالبراءة الأصلية ولفظه غير عام في كل رأي فلا يكون حمله على اجتهاد الرأي بالقياس أولى من غيره.
سلمنا أن المراد به اجتهاد الرأي بالقياس غير أن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة أو مومى إليها وإلى ما علته مستنبطة بالرأي واللفظ أيضاً مطلق وقد عملنا به في القياس الذي علته منصوصة على ما قاله النظام.
سلمنا أنه حجة مطلقاً في كل قياس ولكن قبل إكمال الدين أو بعده؟ على ما قال تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " المائدة 3 الأول مسلم والثاني ممنوع وذلك أن إكمال الدين إنما يكون باشتمال الكتاب والسنة على تعريف كل ما لا بد من معرفته.
وعلى هذا فالقياس لا حاجة إليه بعد ذلك وبتقدير كونه حجة مطلقا لكن فيما تعبد في إثباته بالظن لا باليقين والقياس ليس من هذا الباب.
وبهذا يكون الاعتراض على حديث ابن مسعود أيضاً.
وأما حديث الجارية الخثعمية فالورود عليه من جملة الأسئلة الواردة على حديث معاذ أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى وأنه ظني فلا يتمسك به في مسائل الأصول وهما عامان في جميع ما ذكر من الأخبار ويخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر دين الآدمي بطريق التقريب إلى فهم الجارية في حصول نفع القضاء أما أن يكون ذلك بطريق القياس فلا.
وأما حديث أم سلمة فيدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة متبعة أما أن يكون ذلك بطريق القياس على فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلا.
وأما حديث سعد بن معاذ فليس فيه أيضاً ما يدل على صحة القياس فإن أمره له بأن يحكم في بني قريظة برأيه لا يخص القياس لما تقدم من أن اجتهاد الرأي أعم من القياس فلعله أمره أن يحكم باجتهاد رأيه في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة ولذلك قال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله.
وأما خبر تحريم الشحوم على اليهود فليس فيه ما يدل على تحريم البيع بالقياس على تحريم الأكل فإن تحريم الشيء أعم من تحريم أكله فإن تحريم الشيء تحريم للتصرف فيه مطلقاً وبتقدير أن يكون تحريم الأكل مصرحا به فالمراد به تحريم التصرف مطلقاً بدليل قوله تعالى : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " البقرة 188 وقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم " وقوله : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " النساء 2 والمراد به المنع من التصرف في ذلك بغير حق.
وأما الأخبار الدالة على تعليل الأحكام فليس يلزم من تعليل الحكم المنصوص عليه بعلة إلحاق غير المنصوص به لاشتراكهما في تلك العلة إذ هو محل النزاع وليس في الأخبار ما يدل على الإلحاق بل التعليل إنما كان لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ولهذا أمكن التنصيص على العلة القاصرة ولا قياس عنها وبتقدير دلالتها على الإلحاق فالعلل فيها منصوصة ومومى إليها ونحن نقول بهذا النوع من القياس كما قاله النظام وقوله عليه السلام : " إني أحكم بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " فهو على خلاف قوله تعالى : " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وبتقدير أن يكون حكمه بالرأي فلا يلزم أن يكون ذلك بالقياس لما تقدم وبتقدير أن يكون بالقياس فلا يلزم من جواز التمسك بالقياس للنبي عليه السلام مع كونه معصوماً عن الخطإ مسدداً في أحكامه جواز ذلك لغيره.
والجواب عن السؤال الأول على خبر معاذ أنا قد بينا أن المرسل وخبر الواحد فيما تعم به البلوى حجة وأما سؤال معاذ عما به يقضي فإنما كان قبل توليه القضاء ليعلم صلاحيته لذلك وإن كان ذلك بعد توليه القضاء فإنما كان ذلك بطريق التأكيد أو بأعلام الغير بأهليته للقضاء وأما توقيفه للعمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة فغير مخالف لقوله تعالى : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 إذ المراد منه إنما هو عدم التفريط فيما ورد من الكتاب لا أن المراد به بيان كل شيء فإنا نعلم عدم اشتماله على بيان العلوم العقلية من الهندسية والحسابية وكثير من الأحكام الشرعية وبتقدير أن يكون المراد به بيان كل شيء لكن لا بطريق الصريح بل بمعنى أنه أصل لبيان كل شيء فإنه أصل لبيان صدق الرسول في قوله وقوله بيان للقياس وغيره وبه يخرج الجواب عن الآية الأخرى وأما توقيفه العمل بالسنة على عدم الكتاب فالمراد به الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ ويجب تنزيله على ذلك ضرورة الجمع بين تقرير النبي عليه السلام له على ذلك وبين الدليل الدال على نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة.
وعن السؤال الثاني: أنه يمتنع حمل اجتهاد الرأي على الاجتهاد في الاستدلال بخفي نصوص الكتاب والسنة لأن قوله فإن لم تجد عام في الجلي والخفي بدليل صحة الاستثناء وورود الاستفهام فتخصيص ذلك بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع والتمسك بالبراءة الأصلية في نفي الأحكام الشرعية ليس بحجة على ما يأتي فلا يكون اجتهاد الرأي فيه مستنداً للحكم وبتقدير أن يكون حجة فذلك معلوم لكل عاقل فلا يكون مفتقراً إلى اجتهاد الرأي.
وعن السؤال الثالث: أنا لا نسلم أن ما كانت علته منصوصة يكون قياس على ما سيأتي وإن سلمنا أنه قياس فما ذكرناه وإن لم يكن حجة على النظام فهو حجة على غيره.
وعن الرابع: أن إكمال الدين إنما يكون ببيان كل شيء إما بلا واسطة أو بواسطة على ما بيناه وعلى هذا فلا يمتنع العمل بالقياس بعد إكمال الدين لكونه من جملة الوسائط.
وعن الخامس: ما سبق من أن المسألة ظنية غير قطعية وعلى هذا فلا يخفى الجواب عما يعترض به على خبر ابن مسعود.
وكذلك جواب كل ما يعترض به من هذه الأسئلة على باقي الأخبار.
وما ذكروه على خبر الجارية الخثعمية فبعيد أيضاً فإنه لو لم يكن مدرك الحكم فيما سألت عنه القياس على دين الآدمي لما كان التعرض لذكره مفيداً بل كان يجب الاقتصار على قوله نعم.
وما ذكروه على حديث أم سلمة فغير صحيح وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسي به لما كان حكم فعله ثابتاً في حقنا ولا معنى للقياس سوى ذلك.
وما ذكروه على حديث سعد بن معاذ باطل أيضاً لأن حكمه لو كان مستنداً إلى الكتاب أو السنة لما كان ذلك برأيه وقد قال أحكم فيهم برأيك وقوله عليه السلام: " لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " لا منافاة بينه وبين الحكم بالقياس فإنه إذا كان القياس من طرق الشرع فالحكم المستند إليه يكون حكماً لله ولرسوله.
وما ذكروه على خبر الشحوم مندفع من حيث إن الظاهر من إضافة التحريم إلى المأكول إنما هو تحريم الأكل وكذلك التحريم المضاف إلى النساء إنما هو تحريم الوطء وإلى الدابة تحريم الركوب وإلى الدار تحريم السكنى وكذلك في كل شيء على حسبه وهو المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه فتحريم البيع لا يكون مأخوذاً من مطلق التحريم المضاف إلى أكل الشحوم فلم يبق إلا أن يكون بطريق الإلحاق به وهو معنى القياس.
وما ذكروه على الأخبار الدالة على التعليل بالعلل المذكورة من أن ذلك لا يدل على التعدية فحق غير أن ما ذكروه بتقدير تسليم التعدية على مذهب النظام فقد سبق جوابه.
وأما الإجماع وهو أقوى الحجج في هذه المسألة فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم : فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف.
ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان الكلالة ما عدا الوالد والولد.
ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأةً من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأةً لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى التشريك بينهما في السدس.
ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهم.
ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة.
ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك.
ومن ذلك قول عمر أقضي في الجد برائي وأقول فيه برائي وقضى فيه بآراء مختلفة.
ومن ذلك قوله لما سمع حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا.
ومن ذلك أنه لما قيل له في مسألة المشركة هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم.
ومن ذلك أنه لما قيل لعمر إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها قال: قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها قاس الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها.
ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة حيث لم يكمل نصاب الشهادة بالقياس على القاذف وإن كان شاهداً لا قاذفاً.
ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة إن تتبع رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي كان ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما.
ومن ذلك أنه ورث المبتوتة بالرأي.
ومن ذلك قول علي عليه السلام في حد شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترين قاس حد الشارب على القاذف.
ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة فقال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم ؟ قال: نعم.
قال: فكذلك وهو قياس للقتل على السرقة.
ومن ذلك ما روي عن علي أنه قال في أمهات الأولاد اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن حتى قال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك.
ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها أما المأثم فأرجو أن يكون منحطاً عنك ورأى عليك الدية فقال له: عزمت عليك أن لا تبرح حتى تضربها على بني عدي يعني قومه وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب وقالا: إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك.
ومن ذلك قول ابن عباس لما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال له زيد: أقول برأيي وتقول برأيك.
ومن ذلك قوله في مسألة الجد ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا.
ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا وأنه كان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم تجد شيئا من ذلك فاجتهد رأيك.
ومن ذلك اختلاف الصحابة في الجد حتى ألحقه بعضهم بالأب في إسقاط الأخوة وألحقه بعضهم بالأخوة.
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته أنت علي حرام حتى قال أبو بكر وعمر: هو يمين وقال علي وزيد: هو طلاق ثلاث وقال ابن مسعود هو طلقة واحدة وقال ابن عباس هو ظهار إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس.
ومن لم يوجد منه الحكم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار فكان إجماعاً سكوتياً وهو حجة مغلبة على الظن لما سبق تقريره في مسائل الإجماع وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور وذلك لا بد لهم فيها من مستند وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل وهو ممتنع وذلك المستند يمتنع أن يكون نصاً وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص إقامة لعذره ورداً لغيره عن الخطإ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم ولو أظهروا تلك النصوص واحتجوا بها لكانت العادة تحيل عدم نقلها فحيث لم تنقل دل على عدمها وإذا لم يكن نصاً تعين أن يكون قياساً واستنباطاً.
فإن قيل: لا نسلم أن أحداً من الصحابة عمل بالقياس وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص وترجيح أحد النصين على الآخر والنظر في تقرير النفي الأصلي ودلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وأدلة الخطاب وتحقيق المناط وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية.
قولكم: لو كان ثم نص لظهر قلنا: ولو كانوا قائسين لتلك الصور على غيرها لأظهروا العلل الجامعة فيها وصرحوا بها كما في النصوص ولو أظهروها واحتجوا بها لنقلت أيضاً فعدم نقلها يدل على عدمها وإذا لم يكن قياس واستنباط تعين أن يكون المستند إنما هو النص وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وما نقل عن الصحابة من التصريح بالعمل بالرأي في الوقائع المذكورة لا يلزم أن يكون قياساً فإن اجتهاد الرأي أعم من اجتهاد الرأي بالقياس على ما تقرر ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص.
سلمنا أنهم عملوا بالقياس غير أنا لا نسلم عمل الكل به فإنه لم ينقل ذلك إلا عن جماعة يسيرة لا تقوم الحجة بقولهم.
قولكم إنه لم يوجد من غيرهم نكير عليهم لا نسلم ذلك وبيان وجود الإنكار ما روي عن أبي بكر أنه لما سئل عن الكلالة قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وأيضاً ما روي عن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال: إياكم والمكايلة فسئل عن ذلك فقال: المقايسة وروي عن شريح أنه قال كتب إلي عمر اقض بما في كتاب الله فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر في مسألة الجنين إن اجتهدوا فقد أخطؤوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوك وروي عن عثمان وعلي أنهما قالا لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله وقال: إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه وروي عن ابن عمر أنه قال: السنة ما سنة رسول الله لا تجعلوا الرأي سنة وقال أيضاً إن قوماً يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون وقال أيضاً: اتهموا الرأي على الدين فإنه منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم الله وحرمتم كثيراً مما حلل الله وقال أيضاً: قراؤكم صلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤوسا جهالاً يقيسون ما لم يكن بما كان وقالت عائشة أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة وقد أنكر التابعون ذلك أيضاً حتى قال الشعبي ما أخبروك عن أصحاب محمد فاقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش وقال مسروق لا أقيس شيئاً بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم المقاييس ويقول أول من قاس إبليس.
ومع هذه الإنكارات من الصحابة والتابعين فلا إجماع.
سلمنا أنه لم يظهر النكير في ذلك لكن لا يلزم منه أن يكون سكوت الباقين عن موافقة لما ذكر في الإجماع سلمنا أنه عن موافقة لكنه لا حجة في إجماع الصحابة وكيف يقال بذلك وقد عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم الفاسدة حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب وتألبوا على أهل البيت وكتموا النص على علي رضي الله عنه غصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة إرثها من أبيها المنصوص عليه في كتاب الله برواية انفرد بها أبو بكر وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص الدالة على جميع الأحكام الشرعية إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز معها الاحتجاج بأقوالهم وهذا السؤال مما أورده الرافضة.
سلمنا أن قول البعض بالقياس وسكوت الباقين حجة لكنها حجة ظنية على ما سبق في الإجماع وكون القياس حجةً أمر قد تعبدنا فيه بالعلم فلا يكون مستفاداً من الدليل الظني سلمنا صحة الاحتجاج به ولكن ما المانع أن يكون عملهم بالقياس المنصوص على علته ونحن نقول به كما قاله النظام والقاشاني والنهرواني سلمنا عملهم بكل قياس لكن لم قلتم إنه إذا جاز العمل بالقياس للصحابة جاز ذلك لمن بعدهم وذلك لأن الصحابة لما كانوا عليه من شدة اليقين والصلابة في الدين ومشاهدة الوحي والتنزيل وكثرة التحفظ في أمور دينهم حتى نقل عنهم قتل الأباء والأبناء وبذل الأنفس والأموال ومهاجرة الأهل والأوطان في نصرة الدين حتى ورد في حقهم من التفضيل والتعظيم في الكتاب والسنة ما لم يرد مثله في حق غيرهم على ما ذكر في الإجماع وعند ذلك فلا يلزم من جواز عملهم بالقياس جوازه لغيرهم.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة القياس وأنا متعبدون به لكنه معارض بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " الحجرات 1 والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله لأنه حكم بغير قوليهما وقوله تعالى : " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " البقرة 169 وقوله تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 والحكم بالقياس قول بما لا يعلم وقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وقوله تعالى: " إن بعض الظن إثم " الحجرات 12 وقوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله.
وقوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله تعالى: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 والحكم بالقياس لا يكون حكماً لله ولا مردوداً إليه وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وقوله تعالى: " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 وذلك يدل على أنه لا حاجة إلى القياس.
وأما من جهة السنة فما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستفترق أمتي فرقاً أعظمها فتنةً الذين يقيسون الأمور بالرأي وأيضاً ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تعمل هذه الأمة برهةً بكتاب الله وبرهةً بسنة رسول الله وبرهةً بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا وذلك يدل على أن القياس والعمل بالرأي غير صحيح.
والجواب قولهم لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس قلنا: دليله ما ذكرناه.
قولهم: يحتمل أن يكون عملهم بدلالات النصوص الخفية قلنا لو كان كذلك لظهر المستند واشتهر على ما قررناه.
قولهم: ولو كان ذلك لمحض القياس لأظهروا العلل الجامعة وصرحوا بها كما في النصوص قلنا: منهم من صرح كتصريح أبي بكر في التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم وهو قوله إنما الدنيا بلاغ وتصريح علي في قياسه حد شارب الخمر على حد القاذف بواسطة الاشتراك في الافتراء وتصريح عثمان وعبد الرحمن بن عوف في إلحاقهم عمر في صورة المرأة التي أجهضت الجنين بالمؤدب بواسطة التأديب.
ومنهم من اعتمد في التنبيه عليها بفتواه وجري العادة بفهم المستمع وجه المأخذ والشبه بين محل النزاع ومحل الإجماع ولهذا فإن العادة جارية من بعض الملوك بقتل الجاسوس إذا ظفر به زجراً له ولغيره عن التجسس عليه وعادة البعض الإحسان إليه لاستمالته له حتى يدله على أحوال عدوه فإذا رأينا ملكاً قد قتل جاسوساً أو أحسن إليه ولم نعهد من عادته قبل ذلك شيئاً كان ذلك كافياً في التنبيه على رعاية العلة الموجبة للقتل أو الإحسان في محل الوفاق ولا كذلك النصوص فإن الأذهان غير مستقلة بمعرفتها فدعت الحاجة إلى التصريح بها.
وعلى هذا فمن قال منهم في قوله: أنت علي حرام إنه طلاق ثلاث نبه على أن مطلق التحريم يقتضي نهاية التحريم وذلك مشترك بينه وبين الطلاق الثلاث فلذلك عدى الطلاق الثلاث إليه ومن جعله طلقةً واحدةً نبه على أنه اعتبر فيه أقل ما يثبت معه التحريم فلذلك ألحقه بالطلقة الواحدة ومن جعله ظهاراً ألحقه بالظهار من حيث إنه يفيد التحريم بلفظ ليس هو لفظ الطلاق ولا لفظ الإيلاء ومن شرك بين الجد وابن الابن نبه على أن العلة في ذلك استواؤهما في الإدلاء إلى الميت في طرفي العلو والسفل ولهذا شبههما بغصني شجرة وجدولي نهر.
ومن ذلك تنبيه عمر في قياسه الخمور على الشحوم على أن العلة في تحريم أثمانها تحريمها.
ومن ذلك التنبيه في التشريك بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم على أن العلة الاشتراك في جهة الأمومة إلى غير ذلك من التنبيهات ويدل على ما ذكرناه تصريح أكثر الصحابة فيما عملوا به بالرأي.
قولهم: اجتهاد الرأي أعم من القياس قلنا: وإن كان الأمر على ما قيل غير أنا قد بينا أنه لم يكن ذلك مستنداً إلى النصوص فتعين استناده إلى القياس والاستنباط.
قولهم: لا نسلم عمل الكل بالقياس قلنا: وإن عمل به البعض فقد بينا أنه لم يوجد من الباقين في ذلك نكير فكان إجماعاً.
قولهم: قد وجد الإنكار لا نسلم ذلك وما ذكروه من صور الإنكار فهي منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس فلا بد من التوفيق بين النقلين لاستحالة الجمع بينهما والعمل بأحدهما من غير أولوية وعند ذلك فيجب حمل ما نقل عنهم من إنكار العمل بالرأي والقياس على ما كان من ذلك صادراً عن الجهال ومن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفاً للنص وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار وما كان على خلاف القواعد الشرعية وما استعمل من ذلك فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن جمعاً بين النقلين.
هذا من جهة الإجمال وأما من جهة التفصيل: أما قول أبي بكر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ولا شك أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه لكونه مستنداً إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية.
وأما قول عمر إياكم وأصحاب الرأي الخبر إلى آخره فإنما قصد به ذم من ترك الأحاديث وحفظ ما وجد منها وعدل إلى الرأي مع أن العمل مشروط بعدم النصوص.
وقوله: إياكم والمكايلة أي المقايسة فالمراد به المقايسة الباطلة لما ذكرناه.
وأما قوله لأبي موسى الأشعري فإنما يفيد أن لو لم يكن القياس مما أجمع عليه أهل العلم وإلا فبتقدير أن يكون واجداً له فلا.
وقول علي لعمر في مسألة الجنين لا يدل على أن كل اجتهاد خطأ ونحن لا ننكر الخطأ في بعض الاجتهادات كما سبق تعريفه.
وأما قول عثمان وعلي لو كان الدين بالقياس ...الخبر.فيجب حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ويكون المقصود منه أنه ليس كل ما أتت به السنن على ما يقتضيه القياس.
وأما قول ابن عباس إن الله قال لنبيه الخبر ليس فيه ما يدل على عدم الحكم بالقياس إلا بمفهومه وليس بحجة على ما سبق بيانه.
وقوله: إياكم والمقاييس يجب حمله على المقاييس الفاسدة كالمقاييس التي عبدت بها الشمس والقمر وغير ذلك مما بيناه لما سلف من الجمع بين النقلين.
وقوله: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه يجب حمله على الرأي المجرد عن اعتبار الشارع له لما سبق.
وأما قول ابن عمر السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما ينفع أن لو كان القياس ليس مما سنه الرسول.
وقوله لا تجعلوا الرأي سنة أراد به الرأي الذي لا اعتبار له وإلا فالرأي المعتبر من السنة لا يكون خارجاً عن السنة.
وقوله: إن قوماً يفتون بآرائهم ...الخبر ليس فيه ما يدل على أن كل من أفتى برأيه يكون كذلك ونحن لا ننكر أن بعض الآراء باطل.
وقوله اتهموا الرأي على الدين غايته الدلالة على احتمال الخطإ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله.
وقوله: " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 المراد به استعمال الظن في مواضع اليقين لا أن المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة.
وأما قول ابن مسعود: إذا قلتم في دينكم بالقياس ...الخبر يجب حمله على القياس الفاسد لما سبق.
وقوله ويتخذ الناس رؤوسا جهالاً... إلى آخره فالمراد به أيضا القياس الباطل ولهذا وصفهم بكونهم جهالاً وعلى ذلك يجب حمل قول عائشة في حق زيد بن أرقم وكذلك قول الشعبي ومسروق وابن سيرين جمعاً بين النقلين كما سبق تقريره.
قولهم: لا نسلم أن السكوت يدل على الموافقة قلنا: دليله ما سبق في مسائل الإجماع.
قولهم: لا نسلم أن إجماع الصحابة حجة قد دللنا عليه في مسائل الإجماع أيضاً.
وما ذكروه من القوادح في الصحابة فمن أقوال المبتدعة الزائغين كالنظام ومن تابعه من الرافضة الضلال وقد أبطلنا ذلك كله في كتاب أبكار الأفكار في المواضع اللائقة بذلك.
قولهم: إنه حجة ظنية قلنا: والمسألة أيضاً عندنا ظنية.
قولهم: ما المانع أن يكون عملهم بالأقيسة المنصوص على عللها عنه أجوبة ثلاثة : الأول: أنه لو كان ثم نص لنقل كما ذكرناه في النصوص الدالة على الأحكام.
الثاني: أنه إذا كانت العلة منصوصةً فإن لم يرد التعبد بإثبات الحكم بها في غير محل النص فيمتنع إثباته لما يأتي في المسألة التي بعدها وإن ورد الشرع بذلك فالحكم يكون في الفرع ثابتاً بالاستدلال أي بعلة منصوصة لا بالقياس على ما يأتي تقريره وعلى هذا فلا يكونون عاملين بالقياس.
الثالث: أن ذلك يكون حجةً على من أنكر القياس مطلقاً وإن لم يكن حجة على النظام والقائلين بقوله.
قولهم: لا يلزم أن يكون القياس حجةً بالنسبة إلى غير الصحابة قلنا: القائل قائلان: قائل يقول بالقياس مطلقاً بالنسبة إلى الكل وقائل بنفيه مطلقاً بالنسبة إلى الكل وقد اتفق الفريقان على نفي التفصيل كيف وإنه حجة على من قال بنفيه مطلقاً.
وما ذكروه من المعارضة أما الآية الأولى فإنما تفيد أن لو لم يكن القياس مما عرف التعبد به من الله تعالى ورسوله وعند ذلك فيتوقف كون العمل بالقياس تقدماً بين يدي الله ورسوله على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله وذلك متوقف على كون الحكم به تقدماً بين يدي الله ورسوله فلا يكون حجةً.
وأما الآية الثانية والثالثة فجوابهما من ثلاثة أوجه : الأول: أنا نقول بموجب الآيتين وذلك لأنا إذا حكمنا بمقتضى القياس عند ظننا به فحكمنا به يكون معلوم الوجوب لنا بالإجماع لا أنه غير معلوم.
الثاني: أنه يجب حمل الآيتين على النهي عن القول بما ليس بمعلوم على ما تعبدنا فيه بالعلم جمعاً بينهما وبين ما ذكرناه من الأدلة.
الثالث: أن الآيتين حجة على الخصوم في القول بإبطال القياس إذا هو غير معلوم لهم لكون المسألة غير علمية فكانت مشتركة الدلالة.
وبمثل هذه الأجوبة يكون الجواب عن قوله تعالى : " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وقوله : " إن بعض الظن إثم " الحجرات 12 وأما قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 فنحن نقول بموجبه فإن من حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل كيف وأن ذلك خطاب مع الرسول ولا يلزم من امتناع ذلك في حق الرسول لإمكان تعرفه أحكام الوقائع بالوحي امتناع ذلك في حق غيره.
وقوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله: " فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 غير مانع من القياس لأن العمل بالمستنبط من قول الله وقول الرسول حكم من الله ورد إليه وإلى الرسول وأما من قال بإبطال القياس فلم يعمل بقول الله وقول الرسول ولا بما استنبط منهما فكان ذلك حجةً عليه لا له.
وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وقوله : " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 فالمراد به أن الكتاب بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة وإما بواسطة الاستنباط منه أو دلالته على السنة والإجماع الدالين على اعتبار القياس فالعمل بالقياس يكون عملا بما بينه الكتاب لا أنه خارج عنه كيف وإنه مخصوص بالإجماع فإنا نعلم عدم اشتماله على تعريف العلوم الرياضية من الهندسية والحسابية بل وكثير من الأحكام الشرعية كمسائل الجد والإخوة وأنت علي حرام والمفوضة ومسائل العول ونحوه وعند ذلك فيجب حمله على أن ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام المبينة به لا تفريط فيها حذراً من مخالفة عموم اللفظ.
وأما ما ذكروه من السنة في ذم الرأي فيجب حمله على الرأي الباطل كما ذكرناه جمعاً بين الأدلة.
المسألة الثالثة إذا نص الشارع على علة الحكم هل يكفي ذلك في تعدية الحكم بها إلى غير محل الحكم المنصوص دون ورود التعبد بالقياس بها ؟اختلفوا فيه : فقال أبو إسحاق الاسفرايني وأكثر أصحاب الشافعي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر: لا يكفي ذلك.
وقال أحمد بن حنبل والنظام والقاشاني والنهرواني وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة والكرخي: يكفي ذلك في إثبات الحكم بها أين وجدت وإن لم يتعبد بالقياس بها.
وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت العلة المنصوص عليها علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافياً في تحريم الفعل بها أين وجدت وإن كانت علة لوجوب الفعل أو ندبه لم يكن ذلك كافيا في إيجاب الفعل بها ولا في ندبه أين وجدت دون ورود التعبد بالقياس لأن من تصدق على فقير لفقره بدرهم لا يجب أن يتصدق على كل فقير ومن أكل شيئاً من السكر لأنه حلو لا يجب عليه أن يأكل كل سكر وهذا بخلاف من ترك أكل رمانة لحموضتها فإنه يجب عليه أن يترك كل رمانة حامضة.
والمختار هو القول الأول لأنه إذا قال الشارع حرمت الخمر لأنه مسكر ولم يرد التعبد بإثبات التحريم بالمسكر في غير الخمر فالقضاء بالتحريم في غير الخمر كالنبيذ إما أن يكون ذلك لأن اللفظ اقتضى بعمومه تحريم كل مسكر وأن قوله: حرمت الخمر لأنه مسكر نازل منزلة قوله: حرمت كل مسكر كما قاله النظام ومن قال بمقالته وإما لوجود العلة في غير الخمر لعدم إمكان قسم ثالث.
فإن كان الأول: فهو ممتنع من حيث إن قوله: حرمت الخمر لإسكاره لا دلالة له من جهة اللغة على تحريم كل مسكر كدلالة قوله: حرمت كل مسكر ولهذا فإنه لو قال: أعتقت عبيدي السودان عتق كل عبد أسود له ولو قال: أعتقت سالماً لسواده فإنه لا يعتق كل عبد له أسود وإن كان أشد سواداً من سالم وكذلك إذا قال لوكيله: بع سالما لسوء خلقه لم يكن له التصرف في غيره من العبيد بالبيع وإن كان أسوأ خلقاً من سالم.
وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين: الأول أنه لو كان وجود ما نص على عليته كافياً في إثبات الحكم أينما وجدت العلة دون التعبد بالقياس للزم من قوله:أعتقت سالماً لسواده عتق غانم إذا كان مشاركاً له في السواد وهو ممتنع.
الثاني: أنه من الجائز أن يكون ما وقع التنصيص عليه هو عموم الإسكار ومن الجائز أن يكون خصوص إسكار الخمر لما علم الله فيه من المفسدة الخاصة به التي لا وجود لها في غير الخمر وإذا احتمل واحتمل فالتعدية به تكون ممتنعةً إلا أن يرد التعبد بالتعدية.
فإن قيل: لم قلتم إن اللفظ لا يقتضي بعمومه تحريم كل مسكر وقوله: أعتقت عبدي سالماً لسواده دال على عتق غانم أيضاً إذا كان أسود ولهذا فإن أهل اللسان وكل عاقل يناقضه في ذلك عند عدم إعتاقه ويقول له: فغانم أيضاً أسود فلم خصصت سالماً بالعتق ؟ وكذلك القول في قوله لوكيله: بع سالماً لسواده.
هذا بالنظر إلى المفهوم من اللفظة لغةً وحيث لم يقع العتق بغير سالم ولا جاز بيعه شرعاً فإنما كان لأن اللفظ وإن كان له على ذلك دلالة لكنها غير صريحة فالشارع قيد التصرف في أملاك العبيد بصريح القول نظراً لهم في عاقبة الأمر لجواز طرو الندم والبداء عليهم بخلاف تصرف الشارع في الأحكام الشرعية.
ولهذا فإنه لو قال الشارعً حرمت الخمر لإسكاره وقيسوا عليه كل مسكر لزم منه تحريم كل مسكر ولو قال لوكيله: بع سالماً لسواده وقس عليه كل أسود فإنه لا ينفذ تصرفه بذلك وإن سلمنا أنه لا عموم في اللفظ ولكن لم قلتم إنه يمتنع إثبات الحكم لوجود العلة ؟ وما ذكرتموه من ً الأول: فالعذر عنه ما ذكرناه من تقييد الشارع التصرف في أملاك العبيد بصريح القول دون غيره.
وما ذكرتموه من الوجه الثاني: فغير صحيح لستة أوجه: الأول: أن العرف شاهد بأن الأب إذا قال لولده: لا تأكل هذا فإنه مسموم وكل هذا لأنه غذاء نافع فإنه يفهم منه المنع من أكل كل طعام مسموم وجواز أكل كل غذاء نافع ولو أمكن أن يكون لخصوص الإضافة تأثير أو احتمل أن تكون داخلةً في التعليل لما تبادر إلى الفهم التعميم من ذلك والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وفق التصرفات العرفية.
الثاني: أن الغالب من العلة المنصوص عليها أن تكون مناسبةً للحكم حتى تخرج عن التعبد ولا مناسبة في خصوص إضافة الإسكار إلى الخمر بل المناسبة في كونه مسكراً لا غير.
الثالث: أنه لو لم يكن الوصف المنصوص عليه علةً بعمومه بحيث يثبت به الحكم في موضع آخر بل العلة خصوص إضافة ذلك الوصف إلى محله لم يكن للتنصيص عليه فائدة وذلك لأن اختصاص الخمر بوصف الإسكار ملازم له غير مفارق فكان يكفيه أن يقول: حرمت الخمر لا غير.
الرابع: أن أخذ خصوص إضافة الوصف المنصوص على عليته في التعليل على خلاف الظاهر في جميع التعاليل ولهذا فإن عقلاء العرب ما نطقوا بعلة إلا وطردوها في غير المحل الذي أضافوها إليه ولهذا فإنهم إذا قالوا: اضرب هذا الأسود لكونه سارقاً فإنهم يلغون خصوص إضافة السرقة إلى الأسود حتى إن السرقة لو وجدت من أبيض كانت مقتضيةً لضربه.
الخامس: أنه لو أمكن أخذ خصوص إضافة الصفة إلى محلها في التعليل لما صح قياس أصلاً وذلك ممتنع.
السادس: أنه إذا قال الشارع: حرمت التأفيف للوالدين فإنه يفهم منه كل عاقل تحريم ضربهما لما كان الشارع مومياً إلى العلة وهي كف الأذى عنهما فإذا صرح بالعلة ونص عليها كان ذلك أولى بالتعدية ولو كان لخصوص الأذى بالتأفيف مدخل في التعليل لما فهم تحريم الضرب سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع التعدية فيما إذا قال: حرمت الخمر لكونها مسكرةً لكنه غير مطرد فيما إذا قال: علة تحريم الخمر الإسكار حيث إنه لا إضافة.
والجواب: قولهم: لم قلتم إن اللفظ بعمومه لا يقتضي ذلك قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: إن قوله: أعتقت سالماً لسواده مقتض بلفظه عتق غيره من العبيد السودان غير صحيح فإن اللفظ الدال على العتق إنما هو قوله: أعتقت سالماً وذلك لا دلالة له على غيره وإن قيل إنه يدل عليه من جهة التعليل فهو عود إلى الوجه الثاني.
قولهم إن العقلاء يناقضونه في ذلك بغانم قلنا: ليس ذلك بناء على عموم لفظ العتق لهما وإنما ذلك منهم طلباً لفائدة التخصيص لسالم بالعتق مع ظنهم عموم العلة التي علل بها وإذا بطل القول بتعميم اللفظ فالعتق يكون منتفياً في غانم لعدم دلالة اللفظ على عتقه لا لما ذكروه كيف وإنه يجب اعتقاد ذلك حتى لا يلزم منه نفي العتق مع وجود دليله في حق غانم لأنه لو دل اللفظ عليه لكان الأصل اعتبار لفظه في مدلوله نظراً إلى تحصيل مصلحة العاقل التي دل لفظه عليها.
قولهم إنه لو قال لوكيله: بع سالماً لسواده وقس عليه كل أسود من عبيدي لا ينفذ تصرفه في غير سالم لا نسلم ذلك فإنه لو قال له: مهما ظهر لك من إرادتي ورضائي بشيء بالاستدلال دون صريح المقال فافعله فله فعله فإذا قال: أعتق سالما لسواده وقس عليه غيره فإذا ظهر أن العلة السواد الجامع بين سالم وغانم وأنه لا فارق بينهما فقد ظهر له إرادته لعتق غانم فكان له عتقه.
قولهم: لم قلتم بامتناع الحكم لوجود العلة ؟ قلنا: لما ذكرناه من الوجهين وما ذكروه على الوجه الأول فإنما يصح أن لو كان ما ذكروه من العلة موجباً للحكم في غير محل النص ويجب اعتقاد انتفاء الحكم لانتفاء العلة حذراً من التعارض فإنه على خلاف الأصل والجواب عما ذكروه على الوجه الثاني من الإشكال الأول أنا إنما قضينا فيما ذكروه بالتعميم نظراً إلى قرينة حال الآباء مع الأبناء وأنهم لا يفرقون في حقهم بين سم وسم وغذاء نافع وما في معناه من الأغذية النافعة وهذا بخلاف ما إذا حرم الله شيئاً أو أوجبه فإن العادة الشرعية مطردة بإباحة مثل ما حرم وتحريم مثل ما أوجب حتى أنه يوجب الصوم في نهار رمضان ويحرمه في يوم العيد ويبيح شرب الخمر في زمان ويحرمه في زمان ويوجب الغسل من بول الصبية والرش من بول الغلام ويوجب الغسل من المني دون البول والمذي مع اتحاد مخرجهما ويوجب الحائض قضاء الصوم دون الصلاة ويبيح النظر إلى وجه الرقيقة الحسناء دون الحرة العجوز الشوهاء إلى غير ذلك مما ذكرناه فيما تقدم من التفرقة بين المتماثلات وعلى عكسه الجمع بين المختلفات وذلك لما علمه الله تعالى من اختصاص أحد المثلين بمصلحة مقارنة لزمانه لا وجود لها في مثله إذ ليست المصالح والمفاسد من الأمور التابعة لذوات الأوصاف وطباعها حتى تكون لازمة لها بل ذلك مختلف باختلاف الأوقات هذا كله إن قلنا بوجوب رعاية المصالح وإلا فلله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وعن الإشكال الثاني: أن النظر في التعليل إلى مناسبة القدر المشترك وإلغاء ما به الافتراق من الخصوصية إما أن يكون دالاً على وجوب الاشتراك بين الأصل والفرع أو لا يكون موجبا له: فإن كان موجباً فهو دليل التعبد بالقياس والتنصيص على العلة دونه لا يكون كافياً في تعدية الحكم وهو المطلوب وإن لم يكن موجباً للتعدية فلا أثر لإيراده.
وعن الإشكال الثالث: بأن فائدة التنصيص على العلة أن تعلم حتى يكون الحكم معقول المعنى إن كان الوصف مناسباً للحكم فإنه يكون أسرع في الانقياد وأدعى إلى القبول وأن ينتفي الحكم في محل التنصيص عند انتفائها ولمثل هذه الفائدة يكون التنصيص على الوصف وإن لم يكن مناسباً للحكم.
وعن الإشكال الرابع: ما ذكرناه في حل الإشكال الأول.
وعن الإشكال الخامس: أنه لا يلزم من إمكان أخذ خصوص المحل في التعليل إبطال القياس لجواز أن يقوم الدليل على إبطال أخذه في التعليل في آحاد الصور ومهما لم يقم الدليل على ذلك فالقياس يكون متعذراً.
وعن السادس: أنه إنما فهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم التأفيف لهما نظراً إلى القرينة الدالة على ذلك من إنشاء الكلام وسياقه لقصد إكرام الوالدين ودفع الأذى عنهما ولا يخفى أن اقتضاء ذلك لتحريم الضرب أشد منه لتحريم التأفيف ولذلك كان سابقاً إلى الفهم من تحريم التأفيف والتنبيه بالأدنى على الأعلى أما أن يكون ذلك مستفاداً من نفس اللفظ والتنصيص على العلة بمجرده فلا.
وعن الإشكال الأخير أنه مهما قال: جعلت شرب المسكر علةً للتحريم فالحكم يكون ثابتاً في كل صورة وجد فيها شرب المسكر بالعلة المنصوص عليها بجهة العموم حتى في الخمر وذلك من باب الاستدلال لا من باب القياس فإنه ليس قياس بعض المسكر هاهنا على البعض أولى من العكس لتساوي نسبة العلة المنصوصة إلى الكل ولا كذلك فيما نحن فيه وعلى هذا فلا معنى لما ذكره أبو عبد الله البصري من التفصيل بين الفعل والترك وذلك لأنه لا مانع ولا بعد في تحريم الخمر لشدة الخمر خاصة دون غيره من المسكرات ولعلم الله باختصاصه بالحكمة الداعية إلى التحريم وأن يشرك بين المتماثلات في إيجاب الفعل أو تركه أو ندبه لعلمه باشتراكها في الحكمة الداعية إلى الإيجاب والندب وأما من أكل سكراً فلم يأكله لمجرد حلاوته بل لحلاوته وصدق شهوته عند فراغ معدته فإذا زالت الشهوة بالأكل وامتلأت المعدة وتبدلت الحالة الأولى إلى مقابلها امتنع لزوم الأكل لكل سكر مرة بعد مرة حتى إنه لو لم تتبدل الحال لعم ذلك كل سكر وحلو.
المسألة الرابعة مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الناس جواز إثبات الحدود والكفارات بالقياس خلافاً لأصحاب أبي حنيفة.
ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول.
أما النص فتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في قوله " اجتهد رأيي " مطلقاً من غير تفصيل وهو دليل الجواز وإلا لوجب التفصيل لأنه في مظنة الحاجة إليه وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة لما اشتوروا في حد شارب الخمر قال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري.
قاسه على حد المفتري ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك نكير فكان إجماعاً.
وأما المعقول فهو أنه مغلب على الظن فجاز إثبات الحد والكفارة به لقوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وقياساً على خبر الواحد.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدلائل ظنية والمسألة أصولية قطعية فلا يسوغ التمسك بالظن فيها سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ولكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك من ثلاثة أوجه : الأول: أن الحدود والكفارات من الأمور المقدرة التي لا يمكن تعقل المعنى الموجب لتقديرها والقياس فرع تعقل علة حكم الأصل فما لا تعقل له من الأحكام علة فالقياس فيه متعذر كما في أعداد الركعات وأنصبة الزكاة ونحوها .
الثاني: أن الحدود عقوبات وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة والقياس مما يدخله احتمال الخطإ وذلك شبهة والعقوبات مما تدرأ بالشبهات لقوله عليه السلام: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " .
الثالث: أن الشارع قد أوجب حد القطع بالسرقة ولم يوجبه بمكاتبة الكفار مع أنه أولى بالقطع وأوجب الكفارة بالظهار لكونه منكراً وزوراً ولم يوجبها في الردة مع أنها أشد في المنكر وقول الزور فحيث لم يوجب ذلك فيما هو أولى دل على امتناع جريان القياس فيه.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن المسألة قطعية.
وعن المعارضة الأولى: أن الحكم المعدى من الأصل إلى الفرع إنما هو وجوب الحد والكفارة من حيث هو وجوب وذلك معقول بما علم في مسائل الخلاف لا أنه مجهول.
وعن الثانية: لا نسلم احتمال الخطإ في القياس على قولنا إن كل مجتهد مصيب وإن سلمنا احتمال الخطإ فيه لكن لا نسلم أن ذلك يكون شبهةً مع ظهور الظن الغالب بدليل جواز إثبات الحدود والكفارات بخبر الواحد مع احتمال الخطإ فيه لما كان الظن فيه غالباً.
وعن الثالثة من وجهين: الأول أن غاية ما يقدر أن الشارع قد منع من إجراء القياس في بعض صور وجوب الحد والكفارة وذلك لا يدل على المنع مطلقاً بل يجب اعتقاد اختصاص تلك الصور بمعنى لا وجود له في غيرها تقليلاً لمخالفة ما ذكرناه من الأدلة.
الثاني الفرق.وذلك أما بين السرقة ومكاتبة الكفار فلأن داعية الأراذل وهم الأكثرون متحققة بالنسبة إليها فلولا شرع القطع لكانت مفسدة السرقة مما تقع غالباً ولا كذلك في مكاتبة الكفار.
وأما بين الظهار والردة فهو أن الحاجة إلى شرع الكفارة في الردة دون الحاجة إلى شرعها في الظهار وذلك لما ترتب على الردة من شرع القتل الوازع عنها بخلاف الظهار وربما أورد الأصحاب مناقضة على أصحاب أبي حنيفة في منعهم من إيجاب الكفارة بالقياس بإيجاب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان بالقياس على المجامع وهو غير لازم على من قال منهم بذلك وذلك لأن العلة عندهم في حق المجامع لإيجاب الكفارة مومى إليها في قصة الأعرابي وهي عموم الأفساد فالحكم في الأكل والشرب يكون ثابتاً بالاستدلال أي بعلة مومى إليها لا بالقياس وذلك لأن القياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل إذ هو أحد أركان القياس لضرورة اعتبار العلة الجامعة.
والعلة إذا كانت منصوصة أو مومى إليها فقد ثبت اعتبارها بالنص لا بحكم الأصل ومهما كان الحكم في الأصل غير ملتفت إليه في اعتبار العلة لاستقلال النص باعتبارها فلا يكون الحكم في الفرع ثابتاً بالقياس لأن العمل بالقياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل.
وقد قيل إنه لا نظر إليه بل غايته أن النص قد دل في الوقاع على الحكم وعلى العلة فالحكم في الفرع إذا كان ثابتاً بالعلة المنصوصة لا يكون حكماً بالقياس ولا بالنص لعدم دلالة النص عليه وإن دل على العلة.
ولا إجماع لوقوع الخلاف فيه وما كان ثابتاً لا بنص ولا إجماع ولا قياس فالذي ثبت به هو المعبر عنه بالاستدلال.
المسألة الخامسة ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى جواز إجراء القياس في الأسباب ومنع من ذلك أبو زيد الدبوسي وأصحاب أبي حنيفة وهو المختار.
وصورته إثبات كون اللواط سبباً للحد بالقياس على الزنا.ودليل ذلك أن الحكمة وهي كونه إيلاج فرج في فرج محرم مشتهى طبعاً التي يكون الوصف سبباً بها وهي الحكمة التي لأجلها يكون الحكم المرتب على الوصف ثابتاً وعند ذلك فقياس أحد الوصفين على الآخر في حكم السببية لا بد وأن يكون لاشتراكهما في حكمة الحكم بالسببية.
وتلك الحكمة إما أن تكون منضبطةً بنفسها ظاهرةً جليةً غير مضطربة وإما أن تكون خفيةً مضطربةً.
فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يقال بأن الحكمة إذا كانت منضبطةً بنفسها يصح تعليل الحكم بها أو لا يصح؟ إذ الاختلاف في ذلك واقع فإن قيل بالأول كانت مستقلة بإثبات الحكم وهو الحد المرتب على الوصف ولا حاجة إلى الوصف المحكوم عليه بكونه سبباً للاستغناء عنه وإن كان الثاني فقد امتنع التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها.
وأما إن كانت خفيةً مضطربةً فإما أن تكون مضبوطة بضابط أو لا فإن كانت مضبوطة بضابط فذلك الضابط لها هو السبب وهو القدر المشترك بين الأصل والفرع ولا حاجة إلى النظر إلى خصوص كل واحد من الوصفين المختلفين وهما الزنا واللواط هنا المقتضي على أحدهما بالأصالة والآخر بالفرعية.
وإن لم تكن مضبوطة بضابط فالجمع بها يكون ممتنعاً إجماعاً لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع فإن الحكم مما يختلف باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال.
فإن قيل: ما المانع أن يكون الوصف الجامع بينهما هو الحكمة؟ وما ذكرتموه من كون الحكمة إذا كانت خفيةً مضطربة يمتنع الجمع بها لاحتمال التفاوت فيها قلنا: احتمال التفاوت وإن كان قائماً غير أن احتمال التساوي راجح وذلك لأنه يحتمل أن تكون الحكمة التي في الفرع مساوية لما في الأصل ويحتمل أن تكون راجحةً ويحتمل أن تكون مرجوحةً: وعلى التقديرين الأولين فالمساواة حاصلة وزيادة على التقدير الثاني منهما وإنما تكون مرجوحة على التقدير الثالث وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب وقوعاً من احتمال واحد بعينه فكان الجمع أولى ثم كيف وقد جعلتم القتل بالمثقل سبباً لوجوب القصاص بالقياس على القتل بالمحدد وجعلتم اللواط سبباً للحد بالقياس على الزنا وجعلتم النية في الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بالقياس على نية التيمم.
والجواب: أما ما ذكروه من دليل ظهور التساوي في الحكمة فلا يخلو إما أن يكون ذلك كافياً في الجمع أو لا يكون كافياً: فإن كان كافياً فليجمع بين الأصل والفرع في الحكم المرتب على السبب ولا حاجة إلى الجمع بالسبب وإن لم يكن ذلك كافياً فهو المطلوب.
وما ذكروه من الإلزامات فلا وجه لها.
أما قياس القتل بالثقل على المحدد فلم يكن ذلك في السببية وإنما ذلك في إيجاب القصاص بجامع القتل العمد العدوان وهو السبب لا غير.
وأما قياس اللواط على الزنا فإنما كان ذلك في وجوب الحد بجامع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً وذلك هو السبب مع قطع النظر عن خصوصية الزنا واللواط.
وأما قياس الضوء على التيمم فإنما هو في اعتبار النية بجامع الطهارة المقصودة للصلاة وذلك هو السبب لا أن القياس في الاشتراط.
وعلى هذا النحو كل ما يرد من هذا القبيل.
المسألة السادسة اختلفوا في جواز إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية فأثبته بعض الشذوذ مصيراً منه إلى أن جميع الأحكام الشرعية من جنس واحد ولهذا تدخل جميعها تحت حد واحد وهو حد الحكم الشرعي وتشترك فيه وقد جاز على بعضها أن يكون ثابتاً بالقياس وما جاز على بعض المتماثلات كان جائزاً على الباقي وهو غير صحيح.
وذلك أنه وإن دخلت جميع الأحكام الشرعية تحت حد الحكم الشرعي وكان الحكم الشرعي من حيث هو حكم شرعي جنساً لها غير أنها متنوعة ومتمايزة بأمور موجبة لتنوعها.
وعلى هذا فلا مانع أن يكون ما جاز على بعضها وثبت له أن يكون ذلك له باعتبار خصوصيته وتعينه لا باعتبار ما به الاشتراك وهو عام لها.
كيف وإن ذلك مما يمتنع لثلاثة أوجه.
الأول: أنا قد بينا امتناع إجراء القياس في الأسباب والشروط وبينا أن حكم الشارع على الوصف بكونه سبباً وشرطاً حكم شرعي.
الثاني: أن ذلك مما يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً وبيان لزوم ذلك أن كل قياس لا بد له من أصل يستند إليه على ما علم فلو كان كل حكم يثبت بالقياس لكان حكم أصل القياس ثابتاً بالقياس وكذلك حكم أصل أصله فإن تسلسل الأمر إلى غير النهاية امتنع وجود قياس ما لتوقفه على أصول لا نهاية لها وإن انتهى إلى أصل لا يتوقف على القياس على أصل آخر فهو خلاف الفرض.
الثالث: أن من الأحكام ما ثبت غير معقول المعنى كضرب الدية على العاقلة ونحوه وما كان كذلك فإجراء القياس فيه متعذر وذلك لأن القياس فرع تعقل علة حكم الأصل وتعديتها إلى الفرع فما لا يعقل له علة فإثباته بالقياس يكون ممتنعاً.
خاتمة لهذا الباب
القياس مأمور به لقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر2 كما سبق تقريره وهو منقسم إلى واجب ومندوب.والواجب منه منقسم إلى ما هو واجب على بعض الأعيان وذلك في حق كل من نزلت به نازلة من القضاة والمجتهدين ولا يقوم غيره فيها مقامه مع ضيق الوقت وإلى ما هو واجب على الكفاية وذلك بأن يكون كل واحد من المجتهدين يقوم مقام غيره في تعريف حكم ما حدث من الواقعة بالقياس.
وأما المندوب وهو القياس فيما يجوز حدوثه من الوقائع ولم يحدث بعد فإن المكلف قد يندب إليه ليكون حكمه معداً لوقت الحاجة وهل يوصف القياس بكونه ديناً لله تعالى فذلك مما وصفه به القاضي عبد الجبار مطلقاً ومنع منه أبو الهذيل وفصل الجبائي بين الواجب والمندوب منه فوصف الواجب بذلك دون المندوب.
والمختار أن يقال: إن عني بالدين ما كان من الأحكام المقصودة بحكم الأصالة كوجوب الفعل وحرمته ونحوه فالقياس واعتباره ليس بدين فإنه غير مقصود لنفسه بل لغيره.
وإن عني بالدين ما تعبدنا به كان مقصودا أصلياً أو تابعاً فالقياس من الدين لأنا متعبدون به على ما سبق.وبالجملة فالمسألة لفظية.
الباب الخامس في الاعتراضات الواردة على القياس وجهات الانفصال عنها أما الاعتراضات الواردة على قياس العلة فخمسة وعشرون اعتراضاً الاعتراض الأول: الاستفسار وهو طلب شرح دلالة اللفظ المذكور وإنما يحسن ذلك إذا كان اللفظ مجملاً متردداً بين محامل على السوية أو غريباً لا يعرفه السامع المخاطب فعلى السائل بيان كونه مجملا أو غريباً لأن الاستفسار عن الواضح عناد أو جهل.
ولهذا قال القاضي أبو بكر: ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام ولذلك وجب أن يكون سؤال الاستفسار أولاً وما سواه متأخرا عنه لكونه فرعاً على فهم معنى اللفظ.
وصيغه متعددة : فمنها الهمزة كقوله أعندك زيد؟ وهي الأصل في الاستفسار إذ لا ترد لغيره بخلاف غيرها من الأسئلة فإنها قد ترد لغير الاستفهام.
فمن ذلك هل وهي تلي الهمزة في الرتبة إذ هي أصل في الاستفهام كقولك هل زيد موجود ؟ ولكنها قد ترد نادراً للتأكيد كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " الإنسان1 والمراد به: قد أتى.
ومن ذلك ما فإنها قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك ما عندك؟ ولكنها قد ترد للنفي كقولك ما رأيت أحداً وللتعجب كقولك ما أحسن زيداً! إلى معان أخر ولذلك كانت متأخرة في الرتبة عن هل.
ومن ذلك من وهي قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك من عندك؟ وقد ترد بمعنى الشرط والجزاء كقوله عليه السلام: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " وقد ترد بمعنى الخبر كقولك جاءني من أحبه وهي مختصة بمن يعقل دون ما لا يعقل وهي متأخرة في الرتبة عن ما لأن ما قد ترد لما لا يعقل ولمن يعقل كقوله تعالى: " والسماء وما بناها " الشمس 5 أي: ومن بناها.
ومن ذلك أين وهي سؤال عن المكان.
ومتى عن الزمان.
وكيف عن الكيفية.
و كم عن الكمية.
و أي عن التمييز.
والهمزة تقوم مقام الكل في السؤال.
وإذا ثبت أن شرط قبول الاستفسار كون اللفظ مجملاً أو غريباً فيجب على السائل بيان ذلك لصحة سؤاله.
فإن قيل: لا خفاء بأن ظهور الدليل شرط في صحة الدليل كما سبق وإنما يتم الظهور أن لو لم يكن اللفظ مجملاً فنفي الإجمال إذاً شرط في الدليل وبيان شرط الدليل على المستدل لا على المعترض.
قلنا: ظهور الدليل وإن كان متوقفاً على نفي الإجمال غير أن الأصل عدم الإجمال.
وسؤال الاستفسار يستدعي الإجمال المخالف للأصل فكان بيانه على المستفهم ولا تقبل منه دعوى الإجمال بجهة الاشتراك أو الغرابة بناء على أنه لم يفهم منه شيئا فيما كان ظاهراً مشهوراً في ألسنة أهل اللغة والشرع لانتسابه إلى العناد لعدم خفائه عليه في الغالب لكن إن بين الإجمال بجهة الغرابة بطريقة أو بجهة الاشتراك بسبب تردده بين احتمالين كفاه ذلك من غير احتياج إلى بيان التسوية بينهما لأن الأصل عدم الترجيح ولعدم قدرته على بيان التسوية وقدرة المستدل على الترجيح وطريق المستدل في جواب دفع الإجمال بجهة الغرابة التفسير إن عجز عن إبطال غرابته وفي جواب دفع الإجمال بجهة الاشتراك منع تعدد محامل اللفظ إن أمكن أو بيان الظهور في أحد الاحتمالين وله فيه طريق تفصيلي بالنقل عن أهل الوضع أو الشرع أو ببيان أنه مشهور فيه والشهرة دليل الظهور والحقيقة غالباً وطريق إجمالي وهو أن يقول الإجمال على خلاف الأصل لإخلاله بالتفاهم فيجب اعتقاد ظهوره في أحد الاحتمالين نفياً للإجمال عن الكلام وهو وإن لزم منه التجوز في أحدهما وهو خلاف الأصل أيضاً غير أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز كما سبق تقريره.
وإن تعذر عليه بيان ذلك فقد يقدر على دفع الإجمال أيضاً بدعوى كون اللفظ متواطئا فيهما لموافقته لنفي الإجمال والتجوز أو أن يفسر لفظه بما أراد منهما.
الاعتراض الثاني: فساد الاعتبار
ومعناه أن ما ذكرته من القياس لا يمكن اعتباره في بناء الحكم عليه لا لفساد في وضع القياس وتركيبه وذلك كما إذا كان القياس مخالفاً للنص فهو فاسد الاعتبار لعدم صحة الاحتجاج به مع النص المخالف له.
وقد مثل ذلك أيضاً بقياس الكافر على المسلم في صحة الطهارة وبقياس الصبي على البالغ في إيجاب الزكاة من جهة الظهور الفرق بين الأصل والفرع.
وعلى هذا النحو كل قياس ظهر الفارق في بين الأصل والفرع وأقرب هذه الأمثلة إنما هو المثال الأول لأنه مهما ثبت أن القياس مخالف للنص كان باطلاً لما سبق تقريره.
وأما باقي الأمثلة فحاصلها يرجع إلى إبداء الفرق بين الأصل والفرع وهو سؤال آخر غير سؤال فساد الاعتبار وسيأتي الكلام عليه.
وجوابه إما بالطعن في سند النص إن أمكن أو بمنع الظهور أو التأويل أو القول بالموجب أو المعارضة بنص آخر ليسلم له القياس أو أن يبين أن القياس من قبيل ما يجب ترجيحه على النص المعارض له بوجه من وجوه الترجيحات المساعدة له.
الاعتراض الثالث: فساد الوضع واعلم أن صحة وضع القياس أن يكون على هيئة صالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه وفساد الوضع لا يكون على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه.
وقد مثله الفقهاء بما تلقي الحكم فيه من مقابله كتلقي التضييق من التوسيع والتخفيف من التغليظ والإثبات من النفي وبالعكس وأن يكون ما جعله علة للحكم مشعراً بنقيض الحكم المرتب عليه وذلك كقولهم في النكاح بلفظ الهبة لفظ ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كلفظ الإجارة فإنه من حيث إنه ينعقد به غير النكاح يقتضي انعقاد النكاح به لا عدم الانعقاد لأن الاعتبار يقتضي الاعتبار لا عدم الاعتبار.
وعلى هذا فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار وليس كل فاسد الاعتبار يكون فاسد الوضع لأن القياس قد يكون صحيح الوضع وإن كان اعتباره فاسداً بالنظر إلى أمر خارج كما سبق تقريره ولهذا وجب تقديم سؤال فساد الاعتبار على سؤال فساد الوضع لأن النظر في الأعم يجب أن يتقدم على النظر في الأخص لكون الأخص مشتملاً على ما اشتمل عليه الأعم وزيادة.
وإذا عرف ما قررناه في سؤال فساد الوضع فلقائل أن يقول اقتضاء الوصف لنقيض الحكم المرتب عليه أما أن يدعي أنه يراد به اقتضاؤه له أنه مناسب نقيض الحكم على ما هو إشعار اللفظ وأما اعتبار الوصف في نقيض الحكم في صوره كما قاله بعض المتأخرين فإن كان الأول فإما أن يدعي أنه مناسب لنقيض الحكم من الجهة التي تمسك بها المستدل أو من جهة أخرى.
فإن كان ذلك من الجهة التي تمسك بها المستدل فيلزم منه أن يكون وصف المستدل غير مناسب لحكمه ضرورة أن الوصف الواحد لا يناسب حكمين متقابلين من جهة واحدة ولكن يرجع حاصله إلى القدح في المناسبة وعدم التأثير لا أنه سؤال آخر.
وإن كان ذلك من جهة أخرى فلا يمتنع مناسبة وصف المستدل لحكمه من الجهة التي تمسك بها.
ثم لا يخلو إما أن تكون جهة المناسبة لنقيض الحكم معتبرة في صوره أو غير معتبرة فإن لم تكن معتبرة كان ما يبديه المستدل من جهة المناسبة كافياً في دفع السؤال ضرورة كونها معتبرة ومناسبة المعترض غير معتبرة.
وإن كانت مناسبة المعترض معتبرة فإن أورد المعترض ما ذكره في معرض المعارضة فقد انتقل عن سؤاله الأول إلى سؤال المعارضة ووجب على المستدل الترجيح لما ذكره ضرورة التساوي في المناسبة والاعتبار وإن لم يورد ذلك في معرض المعارضة وبقي مصرا على السؤال الأول فلا يحتاج المستدل إلى الترجيح لكونه خاصاً بالمعارضة.
وهذا من مستحسنات صناعة الجدل فليتأمل.
الاعتراض الرابع: منع حكم الأصل ولما كان منع حكم الأصل من قبيل النظر في تفصيل القياس كان متأخراً عما قبله لكون ما قبله نظرا في القياس من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
والنظر في الجملة يتقدم على النظر في التفصيل.ومثاله ما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة مثلاً: مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن.
فقال الحنفي: لا أسلم الحكم في الأصل فإن الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة.
وقد اختلف الفقهاء في انقطاع المستدل بتوجيه منع حكم الأصل عليه: فمنهم من قال بانقطاعه لأنه أنشأ الكلام للدلالة على حكم الفرع لا على حكم الأصل فإذا منع حكم الأصل فإما أن يشرع في الدلالة عليه أولاً يشرع: فإن لم يشرع في الدلالة عليه لم يتم دليله على مقصوده وهو انقطاع وإن شرع في الدلالة عليه فقد ترك ما كان بصدد الدلالة عليه أولاً وعدل عما أنشأه من الدليل على حكم الفرع إلى الدلالة على حكم الأصل ولا معنى للانقطاع سوى هذا.
ومنهم من قال: لا يكون منقطعاً لأنه إنما أنشأ الدليل على حكم الفرع إنشآء من يحاول تمشيته وتقريره وبالدلالة على حكم الأصل يحصل هذا المقصود لا أنه تارك لما شرع فيه أولاً ولا منع من ذلك فإن الحكم في الفرع كما يتوقف على وجود علة الأصل في الأصل وكونها علة فيه وعلى وجودها في الفرع يتوقف علي ثبوت حكم الأصل وكل ذلك من أركان القياس ولم يمنع أحد من محاولة تقرير القياس عند منع وجود علة الأصل ومنع كونها علة فيه ومنع وجودها في الفرع من الدلالة على محل المنع فكذلك حكم الأصل ضرورة التساوي بين الكل في افتقار صحة القياس إليه.
ومنهم من فصل بين أن يكون المنع خفياً وبين أن يكون ظاهراً فحكم بانقطاعه عند ظهور المنع وبعدم انقطاعه عند خفائه لظهور عذره وهذا هو اختيار الاستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني .
ومنهم من قال: يجب اتباع عرف المكان الذي هو فيه ومصطلح أهله في ذلك وهذا هو اختيار الغزالي.
والمختار أنه لا يعد منقطعا إذا دل على موقع المنع لما قررناه فيما تقدم وقد بينا شرط الدلالة على حكم الأصل في أركان القياس.
وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: لا يفتقر إلى الدلالة على محل المنع بل له أن يقول: إنما قست على أصلي ولا وجه لذلك فإنه إن قصد إثبات الحكم على أصل نفسه فالخصم غير منازع له في ثبوت حكم الفرع على أصله ولا وجه للمناظرة بينهما في ذلك.
وإن قصد إثبات الحكم في الفرع بالنسبة إلى الخصم بحيث يوجب الانقياد إليه فذلك متعذر مع منع حكم الأصل وعدم ثبوته بالدلالة وإنما يتصور الاستغناء عن الدلالة على حكم الأصل إذا كان اللفظ الدال على حكم الأصل عاماً وهو منقسم إلى ممنوع وغير ممنوع كالدهن فإنه وإن منع الحكم في الطاهر منه فهو غير ممنوع في الدهن النجس وعند ذلك فله أن يقول: إنما قست على الدهن النجس دون الطاهر وإن كان قياسي عليهما فغايته القياس على أصلين وقد بطل التمسك بأحدهما فيبقى التمسك بالآخر.
وإذا ذكر الدليل على موقع المنع فمنهم من حكم بانقطاع المعترض لتبين فساد المنع وتعذر الاعتراض منه على دليل المستدل لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي في أول النظر ومنهم من قال لا يعد منقطعاً ولا يمنع من الاعتراض على دليل المنع ولا يكتفي من المستدل بما يدعيه دليلاً وإلا لما كان لقبول المنع معنى بل الانقطاع إنما يتحقق في حق كل واحد بعجزه عما يحاوله نفياً وإثباتاً وهذا هو المختار.
الاعتراض الخامس :التقسيم وهو في عرف الفقهاء عبارة عن ترديد اللفظ بين احتمالين أحدهما ممنوع والآخر مسلم غير أن المطالبة متوجهة ببناء الغرض عليه إما أنه لا بد من ترديده بين احتمالين لأنه لو لم يكن محتملاً لأمرين لم يكن للترديد والتقسيم معنى بل كان يجب حمل اللفظ على ما هو دليل عليه وإما أنه لا بد وأن يكون احتمال اللفظ لهما على السوية لأنه لو كان ظاهراً في أحدهما لم يكن للتقسيم أيضاً وجه بل كان يجب تنزيل اللفظ على ما هو ظاهر فيه كان ممنوعاً أو مسلماً.
وذلك كما لو قال المستدل في البيع بشرط الخيار وجد سبب ثبوت الملك للمشتري فوجب أن يثبت وبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل من المحل فقال المعترض :السبب هو مطلق بيعٍ أو البيع المطلق أي الذي لا شرط فيه :الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بوجوده.
ولقائلٍ أن يقول: التقسيم وإن كان من شرطه تردد اللفظ بين احتمالين على السوية فليس من شرطه أن يكون أحد الإحتمالين ممنوعاً والآخر مسلماً بل كما يجوز أن يكون كذلك يجوز أن يشترك الاحتمالان في التسليم ولكن بشرط أن يختلفا باعتبار ما يرد على كل واحد منهما من الاعتراضات القادحة فيه وإلا فلو اتحدا فيما يرد عليهما من الاعتراضات مع التساوي في التسليم لم يكن للتقسيم معنى بل كان يجب تسليم المدلول وإيراد ما يختص به.
ولا خلاف أنهما لو اشتركا في المنع أن التقسيم لا يكون مفيداً وعلى هذا فلو أراد المعترض تصحيح تقسيمه فيكفيه بيان إطلاق اللفظ بإزاء الاحتمالين من غير تكليف ببيان التساوي بينهما في دلالة اللفظ عليهما بجهة التفصيل لأن ذلك مما يعسر من جهة أن ما من وجه يبين التساوي فيه إلا وللمستدل أن يقول ولم قلت بعدم التفاوت من وجه آخر؟ بلى لو قيل إنه يكلف التساوي بينهما من جهة الإجمال وهو أن يقول: التفاوت يستدعي ترجح أحدهما على الآخر وزيادته عليه والأصل عدم تلك الزيادة لم يكن ذلك شاقاً وكان وافياً بالدلالة على شرط التقسيم ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما كما لو قال المستدل في مسألة الالتجاء إلى الحرم: وجد سبب استيفاء القصاص فيجب استيفاؤه وبين وجود السبب بالقتل العمل العدوان فقال المعترض متى يمكن القول بالاستيفاء إذا وجد المانع أو إذا لم يوجد؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
ولكن لم قلت إنه لم يوجد وبيان وجوده أن الحرم مانع وبينه بطريقة لم يخل إما أن يورد ذلك بناء على أن لفظ المستدل متردد بين الاحتمالين المذكورين أو على دعواه الملازمة بين الحكم ودليله:فإن كان الأول فهو باطل لعدم تردد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين وإن كان الثاني فإن اقتصر على المطالبة ببيان انتفاء المانع فهو غير مقبول لما تقرر في الاصطلاح من حط مؤنة ذلك عن المناظر في الموانع والمعارضات المختلف فيها وإن أضاف إلى ذلك الدلالة على وجود المعارض فحاصل السؤال يرجع إلى المعارضة ولا حاجة إلى التقسيم وإذا اتجه سؤال التقسيم على التفسير الأول.
فجوابه من جهة الجدل من ستة أوجه: الأول: أن يعين المستدل بعض محامل لفظه ويبين أن اللفظ موضوع بإزائه حقيقة في لغة العرب إما بالنفل عن أهل الوضع أو الشارع الصادق أو ببيان كونه مشهوراً به في الاستعمال فيكون حقيقة لأنه الغالب وبما يساعد من الأدلة ومع بيان ذلك فالتقسيم يكون مردوداً لتبين فوات شرطه من التساوي في الدلالة.
الثاني: أن يقول إنه وإن لم يكن ظاهراً بحكم الوضع فيما عينته من الاحتمال غير أنه ظاهر بعرف الاستعمال كما في لفظ الغائط ونحوه.
الثالث: أنه وإن لم يكن ظاهرا بالأمرين إلا أنه ظاهر في عرف الشرع كلفظ الصلاة والصوم ونحوه.
الرابع: أنه وإن تعذر كونه ظاهراً بأحد الأنحاء المذكورة لكنه ظاهر بحكم ما اقترن به من القرائن المساعدة له في كل مسألة.
الخامس: أنه وإن تعذر بيان الظهورية بأحد الطرق المفصلة فله دفع التقسيم بوجه إجمالي وهو أن يقول: الإجمال على خلاف الأصل فيجب اعتقاد ظهور اللفظ في بعض احتمالاته ضرورة نفي الإجمال عن اللفظ ومع ذلك فالتقسيم لا يكون وارداً.
وقد يقدر على بيان كون اللفظ ظاهراً فيما عينه بهذا الطريق الإجمالي وهو أن يقول: إذا ثبت أنه لا بد وأن يكون اللفظ ظاهراً في بعض محامله نفياً للإجمال عن الكلام فيجب اعتقاد ظهوره فيما عينه المستدل ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما عداه أما عند المعترض فلضرورة دعواه الإجمال في اللفظ وأما عند المستدل فلضرورة دعواه أنه ظاهر فيما ادعاه دون غيره.
السادس: أن يبين أن اللفظ له احتمال آخر غير ما تعرض له المعترض بالمنع والتسليم وأنه مراده إلا أن يحترز المعترض عن ذلك بأن يعين مجملاً ويقول إن أردت هذا فمسلم ولكن لم قلت ببناء الغرض عليه وإن أردت ما عداه فممنوع فما مثل هذا الجواب لا يكون متجهاً وإن أراد المستدل الجواب الفقهي فإن كان قادراً على تنزيل كلامه على أحد القسمين فالأولى في الاصطلاح تنزيله على أحدهما حذراً من التطويل وليكن منزلا على أسهلهما في التمشية والقرب إلى المقصود إن أمكن وإن كان الجمع جائزاً شرعاً وإن لم يقدر على شيء من ذلك كان منقطعاً.
وأما موقع سؤال التقسيم فيجب أن يكون بعد منع حكم الأصل لكونه متعلقاً بالوصف المتفرع عن حكم الأصل وأن يكون مقدما على منع وجود الوصف لدلالة منع الوجود على تعيين الوصف والتقسيم على الترديد وإن يكون مقدماً على سؤال المطالبة بتأثير الوصف المدعي علة لكونه مشعراً بترديد لفظ المستدل بين أمرين والمطالبة بتأثير الوصف مشعرة بتسليم كونه مدلولاً للفظ لا غير ضرورة تخصيصه بالكلام عليه وإلا كان التخصيص به غير مفيد وإيراد ما يشعر بالترديد بعد ما يشعر بتسليم اتحاد المدلول يكون متناقضاً.
وقد علل ذلك بعض أرباب الاصطلاح بأن المطالبة بتأثير الوصف تستدعي تسليم وجود الوصف والتقسيم مشتمل على منع الوجود ومنع الوجود بعد تسليم الوجود لا يكون مقبولاً لما فيه من التناقض وهو غير صحيح لوجهين: الأول أن ما ذكره إنما هو مبني على أن أحد القسمين لا بد وأن يكون ممنوع الوجود وليس كذلك لما سبق في مبدأ السؤال وبتقدير أن يكون أحد القسمين ممنوع الوجود فإنما يلزم التناقض والمنع بعد التسليم أن لو كان ما أورد عليه سؤال المطالبة أو لا هو نفس القسم الذي منع وجوده في التقسيم وبتقدير أن يكون غيره فلا وبالجملة فيمتنع أيضاً قبول سؤال التقسيم بعد سؤال الاستفسار لأن المسؤول إن كان قد دفع سؤال الاستفسار جدلاً بنفي الإجمال فالتقسيم بعده لا يرد ضرورة توقفه على الإجمال وقد انتفى وإن أجاب عنه بتعيين ما قصده بكلامه فبعد التعيين لا حاجة إلى التقسيم بل يجب ورود الاعتراض على عينه دون غيره.
الاعتراض السادس: منع وجود العلة في الأصل ولكون النظر في علة الأصل متفرعاً عن حكم الأصل وجب تأخيره عن النظر في حكم الأصل وعن التقسيم لما ذكرناه في السؤال الذي قبله.
ومثاله ما لو قال الشافعي في مسألة جلد الكلب مثلاً: حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعاً فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير فيقول الخصم لا أسلم وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعاً.
وجوابه بذكر ما يدل على وجوده من العقل أو الحس أو الشرع على حسب حال الوصف في كل مسألة أو أن يفسر لفظه بما لا يمكن الخصم منعه وإن كان احتمال اللفظ له بعيداً وذلك كما لو قال في المثال المذكور أعني به ما إذا لم يغلب على ظنه الطهارة.
وإن فسر لفظه بما له وجود في الأصل غير أن لفظه لا يحتمله لغة فالمختار أنه لا يقبل وإن ذهب إلى قبوله بعض المتأخرين وذلك لأن وضع اللفظ إنما كان لقصد تحصيل المعنى منه وأن يعرف كل أحد ما في ضميره لغيره بواسطة اللفظ المستعمل وذلك مشروط بضبط الوضع ضبطاً يمتنع معه دخول الزيادة والنقصان وإذا قبل من كل أحد تفسير لفظه بما لا يحتمله لغة حالة عجزه عن تقرير كلامه أفضى ذلك إلى اضطراب اللغة وإبطال فائدة وضعها كيف وإن إطلاقه لذلك اللفظ دليل ظاهر على إرادة مدلوله وعدوله عند المنع مشعر بالانقطاع في تقريره.
الاعتراض السابع: منع كون الوصف المدعى علة ولما كانت العلية صفة للوصف المذكور ومتوفقةً على وجوده وجب أن يكون النظر فيها نفياً وإثباتاً متأخراً عن النظر في وجود الوصف وهذا هو أعظم الأسئلة الواردة على القياس لعموم وروده على كل ما يدعى كونه علة واتساع طرق إثباته وتشعب مسالكه كما تقدم تقريره وقد اختلف العلماء في قبوله نفيا وإثباتا والمختار لزوم قبوله.
وذلك لأن إثبات الحكم في الفرع مما لا يمكن إسناده إلى مجرد إثبات حكم الأصل دون جامع بينهما والجامع يجب أن يكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة على ما سبق تقريره والوصف الطردي لا يصلح أن يكون باعثاً فيمتنع التمسك به في القياس فلو لم يقبل منع تأثير الوصف والمطالبة بتأثيره أفضى ذلك إلى التمسك بالأوصاف الطردية ثقة من المتكلم بامتناع مطالبته بالتأثير ولا يخفى وجه فساده.
وأيضاً فإن الأصل عدم الدليل الدال على جواز التمسك بالقياس غير أنا استثنينا منه ما كانت علة القياس فيه مخيلة أو شبهية لإجماع الصحابة عليه ولم ينقل عنهم أنهم تمسكوا بقياس علته طردية فبقينا فيه على حكم الأصل فلذلك وجب قبول سؤال منع التأثير وبيان كون الوصف مؤثراً وعند هذا فلا بد من ذكر شبه الرادين له وتحقيق جوابها.
وقد احتجوا بشبه.
الأولى: أنه لو قبل سؤال منع التأثير فما من دليل يذكره المستدل على كون الوصف علةً إلا وهذا السؤال وارد عليه إلى ما لا يتناهى فيجب رده حفظاً للكلام عن الخبط والنشر.
الثانية: أنه لا معنى للقياس سوى رد الفرع إلى الأصل بجامع وقد أتى به المستدل وخرج عن وظيفته فعلى المعترض القدح فيه.
الثالثة: أن الأصل أن كل ما ثبت الحكم عقيبه في الأصل أن يكون علةً فمن ادعى أن الوصف الجامع ليس بعلة احتاج إلى بيانه.
الرابعة: أنا بحثنا فلم نجد سوى هذه العلة فعلى المعترض القدح فيها أو إبداء غيرها.
الخامسة: أنهم قالوا عجز المعترض عن الاعتراض على الوصف المذكور دليل صحته كالمعجزة فالمنع من الصحة مع وجود دليل الصحة لا يكون مقبولاً السادسة: قولهم حاصل هذا السؤال يرجع إلى المنازعة في علة الأصل ويجب أن يكون متنازعاً فيها ليتصور الخلاف في الفرع.
السابعة: أن حاصل القياس يرجع إلى تشبيه الفرع بالأصل والشبه حجة وقد تحقق ذلك بما ذكر من الوصف الجامع فلا حاجة إلى إبداء غيره.
الثامنة: قولهم: هذا الوصف مطرد لم يتخلف حكمه عنه في صورة فكان صحيحاً والجواب عن الأولى: أن التسلسل منقطع بذكر ما يفيد أدنى ظن بالتعليل من الطرق التي بيناها قبل فإن المطالبة بعلية ما غلب على الظن كونه علةً بعد ذلك يكون عناداً وهو مردود إجماعاً.
وعن الثانية: بمنع تحقق القياس بجامع لا يغلب على الظن كونه علة.
وعن الثالثة: بمنع أن الأصل علية كل ما ثبت الحكم معه من الأوصاف.
وعن الرابعة: أن البحث مع عدم الاطلاع على غير الوصف المذكور طريق من طرق إثبات العلة كما سبق فكان ذلك جواباً عن سؤال المطالبة وقبولاً له لا أنه رد له.
وعن الخامسة: أنه لو كان عجز المعترض عن الاعتراض دليل صحة العلة لكان عجز المستدل عن تصحيح العلة دليل فسادها ولا أولوية ولكان عجز المعترض عن الاعتراض على إبطال ما ادعى من الحكم في الفتوى دليلاً على ثبوت الحكم ولم يقل به قائل.
وعن السادسة: أن علة الأصل وإن كانت متنازعاً فيها فلا بد من دليل ظني يدل على كونها علة كما في الحكم المختلف فيه.
وعن :السابعة أن إثبات الحكم في الفرع متوقف على ظن إثباته ولا نسلم أن مطلق المشابهة بين الأصل والفرع في مطلق وصف مفيد للظن.
وعن الثامنة: أن حاصلها يرجع إلى الاكتفاء بالوصف الطردي لكونه غير منتقض وهو باطل بما سبق في طرق إثبات العلة.
وإذا علم أنه لا بد من قبول سؤال المطالبة بالتأثير وأنه لا بد من الدلالة على كون الوصف علةً وطريق إثبات ذلك ما يساعد من الأدلة التي قررناها قبل.
الاعتراض الثامن: سؤال عدم التأثير وهو إبداء وصف في الدليل مستغنى عنه في إثبات الحكم أو نفيه وقد قسمه الجدليون أربعة أقسام: الأول: عدم التأثير في الوصف وذلك بأن يكون الوصف المأخوذ في الدليل طردياً لا مناسبة فيه ولا شبه وذلك كما يقال في صلاة الصبح صلاة لا يجوز قصرها فلا تقدم في الأداء على وقتها كالمغرب فإن عدم القصر وصف طردي بالنسبة إلى الحكم المذكور.
الثاني: عدم التأثير في الأصل وهو أن يكون الوصف قد استغني عنه في إثبات الحكم في الأصل المقيس عليه بغيره وذلك كما إذا قال المستدل في بيع الغائب مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء والسمك في الماء فإن ما وجد في الأصل من العجز عن التسليم مستقل بالحكم.
وهذا النوع مما اختلف فيه فرده الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني ومن تابعه مصيراً منهم إلى أنه إشارة إلى علة أخرى في الأصل ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلتين ومنهم من قبله مصيراً منهم إلى امتناع تعليل الحكم بعلتين وقد سبق تقرير كل واحد من المأخذين وما هو المختار منهما.
الثالث: عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفاً لا تأثير له في الحكم المعلل وذلك كما لو قال المستدل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان بتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فإن الإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان ضرورة الاستواء في الحكم عندهم بين الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام وحاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور إن كان طردياً أو إلى سؤال الإلغاء إن كان مؤثراً.
الرابع: عدم التأثير في محل النزاع وهو أن يكون الوصف المذكور في الدليل لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسباً وذلك كما لو قال المستدل في مسألة ولاية المرأة: زوجت نفسها من غير كفوء فلا يصح نكاحها وذلك من حيث إن النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها من الكفء وغير الكفء وهذا أيضاً مما اختلف في قبوله فرده قوم مصيراً منهم إلى منع جواز الفرض في الدليل وقبله من لم يمنع من ذلك وهو المختار على ما عرفناه في كتاب الجدل.
وإذا بطل القسم الرابع وهو عدم التأثير في محل النزاع ورجع حاصل القسم الثالث وهو عدم التأثير في الحكم إلى عدم التأثير في الوصف أو الإلغاء فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وعدم التأثير في الأصل.
وعدم التأثير في الوصف راجع إلى بيان انتفاء مناسبة الوصف وسؤال المطالبة يغني عنه وجوابه جوابه فلا يجتمعان وعدم التأثير في الأصل فحاصله يرجع إلى المعارضة في الأصل لا أنه غيره.
وجوابه جوابه كما يأتي ومع ذلك كله فقد يكون أخذ الوصف الذي لا يناسب الحكم في الدليل مفيداً بأن يكون مشيراً إلى نفي المانع الموجود في صورة النقض أو وجود الشرط الفائت فيها لقصد دفع النقض أو مشيراً إلى قصد الفرض في الدليل في بعض صور النزاع كما ذكر من مثال أخذ الإتلاف في دار الحرب في مسألة المرتدين ولا يكون عديم التأثير إذ هو غير مستغنى عنه في إثبات الحكم إما لقصد دفع النقض أو لقصد الفرض.
الاعتراض التاسع: القدح في مناسبة الوصف المعلل به وذلك بما يلزم من ترتيب الحكم على وفقه لتحصيل المصلحة المطلوبة منه وجود مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها وقد بينا وجه الاختلاف فيه وأن المختار إبطاله لا أن يبين ترجيح المصلحة على المفسدة إما بطريق إجمالي أو تفصيلي كما بيناه فيما سبق .
الاعتراض العاشر القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى ما علل به من المقصود.
وذلك كما لو عللت حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء إلى سد باب الفجور بالحرمة المؤبدة وعلم الرجل امتناع وصوله إلى الأنثى على الوجه المشروع حتى ينسد عليه باب الطمع في مقدمات الهم بها والنظر إليها فإن للمعترض أن يقول: هذا الحكم غير صالح لإفضائه إلى هذا المقصود من حيث إن سد باب النكاح أدعى إلى محذور الوقوع في الزنا.
وجوابه أن الحرمة المؤبدة مما تمنع من النظر إلى المرأة بشهوة عادة والامتناع العادي على مر الزمان يلتحق بالامتناع الطبعي وبه يتحقق انسداد باب الفجور.
الاعتراض الحادي عشر أن يكون الوصف المعلل به باطناً خفياً.
وذلك لو علل بالرضا أو القصد فإنه قد يقال القصد والرضا من الأوصاف الباطنة الخفية التي لا يطلع عليها بأنفسها فلا تكون علة للحكم الشرعي الخفي ولا معرفةً له.
وجوابه أن يبين ضبط الرضا بما يدل عليه من الصيغ الظاهرة وضبط القصد بما يدل عليه من الأفعال الظاهرة.وكل ذلك معلوم في الخلافيات.
الاعتراض الثاني عشر أن يكون الوصف المعلل به مضطرباً غير منضبط كالتعليل بالحكم والمقاصد مثل التعليل بالحرج والمشقة والزجر والردع ونحوه.
فإنه قد يقال: مثل هذه الأوصاف مما تضطرب وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال.وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر والحرج عن الناس في البحث عنها ومنعاً للاضطراب في الأحكام عند اختلاف الصور بسبب الاختلاف في هذه الأوصاف بالزيادة والنقصان.
وجوابه إما ببيان كون ما علل به مضبوطاً بنفسه أو بضابطه كضبط الحرج والمشقة بالسفر ونحوه.
الاعتراض الثالث عشر: النقض وهو عبارة عن تخلف الحكم مع وجود ما ادعى كونه علةً له وقد أومأنا في مسألة تخصيص العلة إلى وجه دلالة ذلك على إبطالها ووجه الانفصال عنه فيما إذا كانت العلة منصوصةً أو مجمعاً عليها أو مستنبطة وفي صورة النقض مانع أو فوات شرط بالاستقصاء التام المفصل والذي يختص بما نحن فيه هاهنا وجوه أخر في الجواب الأول منع وجود العلة في صورة النقض إن أمكن.
وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة زكاة الحلي مال غير نام فلا تجب فيه الزكاة كثياب البذلة فقال المعترض: هذا ينتقض بالحلي المحظور فإنه غير نام ومع ذلك فإن الزكاة تجب فيه.
فقال المستدل: لا أسلم أن الحلي المحظور غير نام وإنما كان منع وجود العلة في صورة النقض دافعاً للنقض لأن النقض وجود العلة ولا حكم فإذا لم توجد العلة في صورة النقض فلا نقض لكن اختلفوا في المعترض هل له الدلالة على وجود العلة في صورة النقض عند منع المستدل لوجودها؟ فمنهم من قال: له ذلك إذ به يتحقق انتقاضها وهدم كلام المستدل فكان له ذلك كغيره من الاعتراضات.
ومنهم من منع من ذلك لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً.
والواجب إنما هو التفصيل وهو أنه إن تعين ذلك طريقاً للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تحققاً لفائدة المناظرة وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا نعم لو كان المستدل قد دل على وجود العلة في محل التعليل بدليل هو موجود في صورة النقض فإذا منع وجود العلة فإن قال المعترض فقد انتقض الدليل الذي دللت به على وجود العلة لا يكون مسموعاً لكونه انتقالاً من النقض على نفس العلة إلى النقض على دليلها.
وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تبييت النية وتعيينها أي بمسمى الصوم فوجب أن يصح كما في محل الوفاق ودل على وجود الصوم بقوله إن الصوم عبارة في الإمساك مع النية وهو موجود فيما نحن فيه.
فقال المعترض: هذا منتقض بما إذا نوى بعد الزوال. وإن قال المعترض للمستدل ابتداء أمرك لا يخلو من حالين إما أن تعتقد وجود الصوم في صورة النقض أو لا تعتقده.
فإن كان الأول فقد انتقضت علتك وإن كان الثاني فقد انتقض ما ذكرته من الدليل على وجود العلة كان متجهاً.
وإن أورد ذلك لا في معرض نقض دليل وجود العلة بل في معرض الدلالة به على وجود العلة ي صورة النقض فالحكم فيه على ما سبق في الدلالة على نفي الحكم في صورة النقض فهو غير مسموع على ما يأتي: الثاني: منع تخلف الحكم وإنما كان ذلك دافعاً للنقض لما ذكرناه في منع وجود العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إخبارها كالثيب البالغ فقال المعترض هذا منقوض: بالثييب المجنونة فإنه يجوز إجبارها.
فقال المستدل: لا نسلم صحة إجبار الثيب المجنونة.والكلام في تمكين المعترض من الاستدلال على تخلف الحكم في صورة النقض كالكلام في دلالته على وجود العلة وقد عرف ما فيه.
الثالث: أن يكون النقض على أصل المستدل خاصةً وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الرطب بالتمر: باع مال الربا بجنسه متفاضلاً فلا يصح كما لو باع صاعاً بصاعين فقال الحنفي: هذا منتقض على أصلك بالعرايا فإنه يصح وإن باع مال الربا بجنسه متفاضلاً.
وجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن يبين في صورة النقض مناسباً يقتضي النفي من مانع أو فوات شرط مع قران الحكم به على أصله.
الثاني أن يقول: النقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل العلة فتخلف الحكم عن العلة إنما هو على مذهب أحد الفريقين وثبوت الحكم على وفق العلة المعلل بها بالاتفاق ولا مساواة بين المتفق عليه والمختلف فيه فلا يقع في معارضة دليل العلة.
الثالث: أن يبين أن تخلف الحكم عن العلة في معرض الاستثناء والمستثنى لا يقاس عليه ولا يناقض به كما في صورة العرايا المذكورة.
الرابع: أن يكون إبداء النقض على أصل المعترض لا غير وتوجيهه أن يقول المعترض: هذا الوصف مما لم يطرد على أصلي فلا يلزمني الانقياد إليه.
وجوابه أن يقول المستدل: ما ذكرته حجة عليك في الصورتين إذ هي محل النزاع ومذهبك في صورة النقض لا يكون حجة في درء الاحتجاج وإلا كان حجة في محل النزاع وهو محال.
وهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله عن النقض؟ اختلفوا: فمنهم من قال بوجوبه لقربه من الضبط وبعده عن النشر والخبط ولأن ما أشار إليه المستدل من الوصف المعلل به إذا كان منتقضاً فإما أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لا لمعارض أو لمعارض: فإن كان الأول فلا يكون الوصف علةً لما سبق تقريره في مسألة تخصيص العلة.
وإن كان الثاني فقد ثبت أن للعلة معارضاً متفقاً عليه فلا بد من نفيه في الدليل لأن المناظر تلو الناظر وليس للناظر الجزم بالحكم عند ظهور سببه دون ظهور انتفاء معارضه فكذلك المناظر غير أنا أسقطنا عنه كلفة نفي المعارض المختلف فيه لعسر نفيه فبقينا فيما عداه على حكم الأصل.
ومنهم من لم يوجبه تمسكاً منه بأن ما يقع به الاحتراز عن النقض إما أن يكون من جملة أجزاء العلة أو خارجاً عنها: فإن كان الأول فالعلة لا تكون علةً دونه وما مثل هذا لا خلاف في وجوب ذكره في العلة لعدم تمام العلة دونه ومن نازع فيه فقد نازع في أنه: هل يجب على المستدل ذكر العلة أو لا وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون مشيراً إلى نفي المعارض أو لا يكون كذلك فإن كان الأول.
فقد تعرض لما لم يسأل عنه لكونه مسؤولاً بعد الفتوى عن الدليل المقتضي للحكم وانتفاء المعارض ليس من الدليل ولو قيل إنه من الدليل كان خلاف الغرض في هذا القسم.
وإن كان الثاني فالنقض غير مندفع به لأن النقض عبارة عن وجود العلة ولا حكم فإذا كان المذكور خارجاً عن العلة ولا فيه إشارة إلى نفي المعارض فالعلة ما دونه وقد وجدت في صورة النقض ولا معارض فكان النقض متجهاً.
وإن قيل إن الوصف المأخوذ للاحتراز من جملة العلة لتعلق فائدة دفع النقض به وإن لم يكن مناسباً فقد سبق إبطاله في تخصيص العلة.
الاعتراض الرابع عشر: الكسر وهو النقض على المعنى. وقد ذكرنا طريق إيراده ووجه الانفصال عنه في شروط العلة.
ويخصه من الأجوبة هاهنا منع وجود المعنى المشار إليه في صورة النقض ومنع تخلف الحكم عنه وباقي الأجوبة التي أوردناها في سؤال النقض قبله.
الاعتراض الخامس عشر المعارضة في الأصل بمعنى وراء ما علل به المستدل وسواء كان مستقلاً بالتعليل كمعارضة من علل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم أو بالكيل أو بالقوت أو غير مستقل بالتعليل على وجه يكون داخلاً في التعليل وجزءا من العلة وذلك كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل ونحوه.
وقد اختلف الجدليون في قبوله فمنهم من رده بناء منه على أنه لا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين كما سبق تقريره ولهذا فإنا لو قدرنا انفراد ما ذكر المستدل مجرداً عن المعارض صح التعليل به إجماعاً وإنما صح التعليل به لصلاحية فيه لا لعدم المعارض فإن العدم لا يكون علةً ولا داخلاً فيها لما سبق تقريره.
فإذا صح التعليل به مع عدم المعارض صح مع وجوده ولأنه لا معنى للعلة إلا ما يثبت الحكم عقيبها وهذا المعنى موجود في الوصفين فكان كل واحد علةً.
ومنهم من قبله وأوجب جوابه على المستدل وهو المختار.وذلك لأنه إذا وجد في الأصل وصفان فإما أن يكون كل واحد علةً مستقلةً أو لا يكون كذلك لا جائز أن يكون كل واحد علةً مستقلةً لما سبق تقريره في امتناع ذلك سواء كانت العلة بمعنى الأمارة أو الباعث.
وإن كان القسم الثاني فإما أن يكون الحكم ثابتاً لما ذكره المستدل لا غير أو لما ذكره المعترض لا غير أو لهما جميعاً بحيث تكون العلة مجموع الوصفين وكل واحد منهما جزؤها. لا جائز أن يقال بالأول ولا بالثاني.فإنه ليس تعيين أحدهما للتعليل وإلغاء الآخر مع تساويهما في الاقتضاء أولى من الآخر فلم يبق غير الثالث.
ويلزم منه امتناع تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع.
وبتقدير تساوي الاحتمالات الثلاثة فلا يخفى أن التعدية تمتنع بتقدير أن تكون العلة ما ذكره المعترض.وبتقدير أن تكون العلة هي الهيئة الاجتماعية من الوصفين.
وإنما يصح بتقدير التعليل بما ذكره المستدل لا غير.ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
ومع ذلك فالتعدية تكون ممتنعةً لكن بشرط أن يكون ما أبداه المعترض صالحاً للتعليل أو لدخوله فيه عند كون ما أبداه المستدل صالحاً وإلا فلا معارضة وهل يجب على المعترض نفي ما أبداه معارضاً في الأصل عن الفرع اختفوا فيه: فمنهم من قال: لا يجب عليه ذلك فإنه إن كان موجوداً في الفرع فيفتقر المستدل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق.
وإن لم يبين ذلك فقد انقطع الجمع.ومنهم من قال لا بد له من نفيه عن الفرع لأن مقصوده الفرق.وذلك لا يتم دون نفيه عن الفرع.
والمختار أنه إن قصد المعترض الفرق فلا بد له من نفيه وإن لم يقصد الفرق بأن يقول: هذا الوصف قد ثبت أنه لا بد من إدراجه في التعليل لما دل عليه من الدليل فإن كان غير موجود في الفرع فقد ثبت الفرق وإن كان موجوداً في الفرع فالحكم يكون ثابتاً في الفرع بمجموع الوصفين ونتبين أن المستدل لم يكن ذاكراً للعلة في الابتداء بل لبعضها. وأي الأمرين قدر فالإشكال لازم.
هذا كله فيما إذا كان المقيس عليه أصلاً واحداً.وإن كان المقيس عليه أصولاً متعددةً فمنهم من منع من ذلك لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بالواحد منها ومنهم من جوز ذلك لكونه أقوى في إفادة الظن.
ومن جوز ذلك اختلفوا في جواز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد فمنهم من جوزه لأن المستدل قصد إلحاق الفرع بجميع الأصول فإذا وقع الفرق بين الفرع وبعض الأصول فقد تم مقصود المعترض من إبطال غرض المستدل ومنهم من قال: لا بد من المعارضة في كل أصل لأنه إذا عارض في البعض دون البعض فقد بقي قياس المستدل صحيحاً على الأصل الذي لم يعارض فيه وبه يتم المقصود من إثبات الحكم أو نفيه والذين أوجبوا المعارضة في جميع الأصول منهم من أوجب اتحاد المعارض في الكل دفعاً لانتشار الكلام ولأن يكون مقابلاً في اتحاده لاتحاد وصف المستدل ومنهم من جوز المعارضة في كل أصل بغير ما في الأصل الآخر لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة.
ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال يجوز للمستدل الاقتصار في الجواب على أصل واحد إذ به يتم مقصوده ومنهم من لم يجوز ذلك حيث إن المستدل التزم صحة القياس على الكل وعلى هذا يقع الخلاف فيما لو عارض في بعض الأصول هل يجب على المستدل الجواب أو لا ؟ والوجه في الجواب من ستة أوجه : الأول: منع وجود الوصف المعارض به في الأصل.
الثاني: المطالبة بتأثير الوصف إن كان طريق إثبات العلة من جانب المستدل المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم.
الثالث: أن يبين كونه ملغى في جنس الأحكام كالطول والقصر ونحوه.
الرابع: أن يبين أنه ملغى في جنس الحكم المعلل وإن كان مناسباً وذلك كالذكورة في باب العتق.
الخامس: أن يبين أنه قد استقل بالحكم في صورة دون الوصف المعارض به وعند ذلك فيمتنع أن يكون علةً مستقلةً في محل التعليل لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل ويمتنع أن يكون داخلاً في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع مع استقلاله لفوات ما لم يثبت استقلاله وهو ممتنع.
فإن عارض المعترض في صورة الإلغاء بوصف آخر غير ما عارض به في الأصل فلا بد من إبطاله وإلا فالقياس متعذر ولا يمكن أن يقال في جوابه إن كل وصف اختص بصورة فهو ملغى بالصورة الأخرى.
وهذا هو المسمى في الاصطلاح بتعدد الوضع.فإن للمعترض أن يقول العكس غير لازم في العلل الشرعية لجواز ثبوت الحكم في كل صورة بعلة غير علة الصورة الأخرى وإذا جاز ثبوت الحكم في صورتين بعلتين مختلفتين فلا يلزم من إثبات الحكم في كل صورة بعلة مع عدم علة الصورة الأخرى فيها إلغاء ما وجد في تلك الصورة.
السادس: أن يبين رجحان ما ذكره على ما عارض به المعترض بوجه من وجوه الترجيحات التي يأتي ذكرها وعند ذلك.فيمتنع جعل ما عارض به المعترض علة مستقلة في محل التعليل لما فيه من إهمال الراجح واعتبار المرجوح ويمتنع أن يكون داخلاً في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع بتخلف الحكم عنه مع رجحانه ضرورة إنتفاء الوصف المرجوح.
وهاهنا ترجيح آخر وهو أن يكون أحد الوصفين في الأصل المستنبط منه متعديا والآخر قاصراً وذلك لا يخلو إما أن يكون في طرف الإثبات أو النفي: فإن كان في طرف الإثبات فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي جزءاً من العلة أو خارجاً عنها بأن يكون المعارض في الأصل بالوصف القاصر لا غير فإن كان خارجاً عنها فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي مساوياً للقاصر في جهة اقتضائه أو أن الترجيح لأحدهما فإن كان مساوياً للقاصر من جهة الاقتضاء فالتعليل بالمتعدي أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فهو أن التعليل بالمتعدي متفق عليه بخلاف التعليل بالقاصر والتعليل بالمتفق عليه أولى.
وأما التفصيل فهو أن فائدة المتعدي أكثر من القاصر لأن فائدة القاصر إنما هي في ظهور الحكمة الباعثة في الأصل لسرعة الانقياد وسهولة القبول والمتعدي مشارك للقاصر في هذا المعنى وزيادة التعريف للحكم في الفرع وهو أعظم فوائد العلة عند الأكثرين وهو وإن لزم من التعليل به إهمال المناسب القاصر فمقابل بمثله حيث إنه يلزم من التعليل بالقاصر إهمال المناسب المتعدي مع كونه راجحاً.
والتعليل بالقاصر وإن كان على وفق النفي الأصلي في الفرع والتعليل بالمتعدي على خلافه إلا أنه مخالفة لما وقعت مخالفته في الأصل بما لم تظهر مخالفته ولو عملنا بالقاصر لموافقة النفي الأصلي لكان فيه العمل بموافقة ما وقع الاتفاق على مخالفته ومخالفة ما لم يقع الاتفاق على مخالفته وهو الوصف المتعدي فكان مرجوحاً.
فإن قيل: إلا أن التعليل بالوصف المتعدي يلزم منه مخالفة ما لم يتفق على مخالفته من الوصف القاصر وما اتفق على مخالفته من النفي الأصلي فكان فيه مخالفة ظاهرين: أحدهما متفق على مخالفته والآخر عير متفق على مخالفته.
والتعليل بالوصف القاصر يلزم منه العمل بهذين الظاهرين ومخالفة ظاهر واحد وهو الوصف المعتدي.
قلنا: هذا مقابل بمثله فإنه بعد أن ثبت الحكم في الأصل لمعنى وإن كان قاصراً فالأصل أن يثبت في الفرع بما وجد مساوياً لوصف الأصل في الاقتضاء نظراً إلى تماثل مقصود الشارع والمحافظة على هذا الأصل أولى من المحافظة على النفي الأصلي لكون النفي الأصلي مخالفاً في الأصل بمثل ما قيل باقتضائه للحكم في الفرع.
وعند ذلك فيترجح ما ذكرناه من جهة أن العمل بالوصف المتعدي عمل به وبأصل مترجح على النفي الأصلي والعمل بالقاصر عمل به وبأصل مرجوح بالنظر إلى الأصل المعمول به من جانبنا فكان ما ذكرناه أولى.
فإن قيل ربما كان المانع للحكم قائماً مطلقاً وعند ذلك فالتعليل بالقاصر أولى لما فيه من موافقة الدليل الشرعي النافي وموافقة النفي الأصل بخلاف المتعدي.
قلنا: المانع في الفرع بستدعي وجود المقتضي وإلا فالحكم يكون فيه منتفياً لانتفاء ما يقتضيه لا لوجود منافيه فدعوى وجود المانع في الفرع مع وجوب قصور العلة المقتضية للإثبات على الأصل تناقض لا حاصل له كيف وإن ما مثل هذا المانع مرجوح عند الخصم بالنسبة إلى الوصف القاصر والمتعدي على ما وقع به الفرض في ابتداء الكلام مساو للقاصر في المقصود فكان مرجوحاً بالنسبة إلى المتعدي أيضاً فكان المتعدي أولى كما بيناه في النفي الأصلي.
فإن قيل: كما أن المتعدية قد تعرف إثبات الحكم في الفرع فالقاصرة تعرف نفيه عن الفرع وكما أن معرفة ثبوت الحكم في الفرع مقصود للشارع فمعرفة انتفائه أيضاً عنه مقصود له.
قلنا: هذا إنما يستقيم أن لو لم يوجد في الفرع ما هو مساو للعلة القاصرة في الأصل فيما يرجع إلى جهة الاقتضاء.
والمقصود المطلوب للشارع من إثبات الحكم لأن تعريف العلة القاصرة لنفي الحكم في الفرع إنما هو بناء على انتفاء مقصود الحكم ولن يتصور ذلك مع وجود ما هو مساو في الطلب والاقتضاء لما هو المقصود في الأصل فلا ينتهض الوصف القاصر في الأصل علامةً على انتفاء الحكم في الفرع مع وجود الوصف المتعدي فيه ومساواته للقاصر في الاقتضاء على ما وقع به الفرض كيف وإن العلة القاصرة غير مستقلة بتعريف انتفاء الحكم في الفرع إلا مع ضميمة انتفاء علة غيرها وانتفاء النص والإجماع بخلاف العلة المتعدية في طرف الإثبات فما استقل بالتعريف يكون أولى مما لا يستقل.
نعم قد يتوقف العمل بالعلة المثبتة على انتفاء المعارض لا أن انتفاء المعارض من جملة المعرف ولا الداعي بخلاف ما تتوقف عليه العلة القاصرة في تعريفها نفي الحكم في الفرع.
والعمل بما هو معرف بنفسه من غير توقف في تعريفه على غيره أولى.
وعلى هذا يكون الحكم إن كان الوصف المتعدي راجحاً في جهة اقتضائه أولى والوصف المتعدي وإن توقف استقلاله على إخراج القاصر عن التعليل فليس إخراج القاصر موقوفاً على استقلال المتعدي ليلزم الدور لجواز اتفاقهما في إخراجهما عن التعليل كيف وإنه مقابل بدور آخر حيث إنه يتوقف إدخال القاصر في التعليل على عدم استقلال المتعدي وكذلك بالعكس.
وأما إن كان المتعدي مرجوحاً في جهة اقتضائه بالنسبة إلى الوصف القاصر فالوصف القاصر أولى نظراً إلى المحافظة على زيادة المناسبة المعتبرة بثبوت الحكم على وفقها والنظر إليها وإن أوجب إهمال فائدة المتعدية أولى لما فيه من زيادة المصلحة وصلاح المكلف وما يتعلق به من زيادة التعقل وسرعة الانقياد في ابتداء ثبوت الحكم لأنه الأصل في كون الحكم معللاً.
وفائدة التعدية إنما تعرف بعد تعرف تعليل الحكم بما علل به بنظر ثان متأخر عن النظر فيما علل به الحكم في الأصل ولا شك أن ما هو أشد مناسبة للحكم يكون أسبق إلى الفهم بالتعليل للحكم الثابت في الأصل فكان التعليل به أولى.
وإن كانت جهة التساوي والأرجحية غير معلومة ولا ظاهرة فالتعليل بالمتعدي أولى نظراً إلى أن العمل به أولى على تقدير أن يكون مساوياً وعلى تقدير أن يكون راجحاً.
وإنما يمتنع العمل به على تقدير أن يكون مرجوحاً في نفس الأمر.ولا يخفى أن العمل بما العمل به يتم على تقدير من التقديرين أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه.
وعلى ما فصلناه في طرف الإثبات يكون الحكم في طرف النفي.
هذا كله إن كان الوصف المتعدي خارجاً عن العلة القاصرة وأما إن كان داخلاً فيها بأن كان المعارض معللاً بمجموع الوصفين: الوصف القاصر والمتعدي معاً فالقاصر أولى وسواء كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي وسواء كان المتعدي راجحاً على القاصر أو مرجوحاً أو مساوياً.
أما في طرف الإثبات فلأن التعليل بالعلة المتعدية يلزم منه إهمال الوصف القاصر وتعطيله ولا كذلك بالعكس.ولايخفى أن الجمع أولى من التعطيل.
فإن قيل: إلا أنه على تقدير أن يكون الوصف المتعدي راجحاً لو جعلنا الوصف القاصر داخلاً في التعليل فيلزم منه أن يتخلف الحكم في الفرع عن الوصف المتعدي الراجح رعاية لما فات من الوصف المرجوح وهو ممتنع.
قلنا: هذا إنما يستقيم علي تقدير أن يكون رجحانه ظاهراً ولا يستقيم على تقدير أن يكون مرجوحاً أو مساوياً.
ولا يخفى أن احتمال وقوع العمل بما يتم على تقدير من تقديرين أولى من العمل بما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه.
كيف وإن العمل بالقاصر وإن كان يفضي إلى إهمال الوصف المتعدي في الفرع إلا إنه لا يلزم منه إهماله مطلقاً إذ هو داخل في العلة ولو عملنا بالوصف المتعدي فقط يلزم منه إهمال القاصر وتعطيله مطلقاً فالعمل بالقاصر يكون أولى وعلى هذا يكون الحكم إن كان ذلك في طرف النفي أيضاً بل أولى لما فيه من تقليل مخالفة المقتضي للإثبات.
هذا إن ظهر الترجيح وأما إن تحققت المعارضة من غير ترجيح بعد البحث التام فعلى مقتضى ما أسلفناه من القول بالتخيير عند التعارض مع التنافي فلا مانع من الجري على تلك القاعدة هاهنا.
الاعتراض السادس عشر: سؤال التركيب وهو الوارد على القياس المركب.وقد بينا معنى القياس المركب وأقسامه ووجه تسميته بذلك والسؤال الوارد عليه وجوابه في شرط حكم الأصل.
الاعتراض السابع عشر: سؤال التعدية وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل: ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فالذي عللت به أيضاً قد تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر.
وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إجبار البكر البالغ: بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة فعارضه الحنفي بالصغر وقال: البكارة وإن تعدت إلى البكر البالغة فالصغر متعدً إلى الثيب الصغيرة.
وهذا أيضاً مما اختلف فيه والحق أنه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية.
وجوابه بإبطال ما عارض به المعترض وحذفه عن درجة الاعتبار بما أسلفناه في سؤال المعارضة في الأصل.
ومهما حقق شيء من تلك الطرق فقد اندفع ولا أثر لما أشير إليه من التسوية خلافاً للداركي.
الاعتراض الثامن عشر: منع وجود الوصف المعلل به في الفرع وجوابه كجواب منع وجوده في الأصل وقد عرف.
الاعتراض التاسع عشر المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم المستدل إما بنص أو إجماع ظاهر أو بوجود مانع الحكم أو بفوات شرط الحكم.
ولا بد من بيان تحققه وطريق كونه مانعاً أو شرطاً على نحو طريق إثبات المستدل كون الوصف الذي علل به من التأثير أو الاستنباط.
وقد اختلف في قبوله فمنع منه قوم تمسكاً منهم بأن المعارضة استدلال وبناء وحق المعترض أن يكون هادماً لا بانياً.
وقبله الأكثرون وهو المختار إذ يلزم منه هدم ما بناه المستدل لمقاومة دليله لدليله ولا حجر عليه في سلوك طرق الهدم ولا سيما إذا تعين ذلك طريقاً في الهدم بأن لم يكن له هادم سواه فلو لم يقبل منه لبطل مقصود المناظرة واختلت فائدة البحث والاجتهاد.
والوجه في جوابه عند توجهه أن يقدح فيه المستدل بكل ما للمعترض أن يقدح به فيه أن لو كان المستدل متمسكاً به وإن عجز عن جميع ذلك فقد اختلفوا في جواز دفعه بالترجيح: فمنهم من لم يجوز ذلك اعتماداً منهم على أن ما ذكره المعترض وإن كان مرجوحا بالنسبة إلى ما ذكره المستدل فلا يخرج بذلك عن كونه اعتراضاً.
ومنهم من جوزه وهو المختار لأنه مهما ترجح ما ذكره المستدل بوجه من وجوه الترجيحات الآتية كان العمل به متعيناً.
وهل يجب على المستدل أن يذكر في دليله ما يومىء إلى الترجيح منهم من أوجبه لتوقف العمل بالدليل عليه فكان من الدليل فلو لم يذكره لم يكن ذاكراً للدليل أولا بل لبعضه ومنهم من لم يوجبه لما في التكليف به من الحرج والمشقة.
والمختار أن يقال: إما أن يكون ما به الترجيح يرجع إلى العلة بأن يكون وصفاً من أوصافها أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فلا بد من ذكره في الدليل أولاً ليكون ذاكراً للدليل.
وإن كان الثاني فلا لأنه مسؤول عن الدليل وقد أتى بمسماه حقيقة والترجيح بأمر خارج عن الدليل إنما هو من توابع ورود المعارضة فذكره بعد المعارضة وإن توقف عليه إعمال الدليل بدفع المعارض لا يوجب أن يكون داخلاً في مسمى الدليل حتى يقال إنه لم يكن ذاكرا للدليل أولاً.
الاعتراض العشرون: الفرق واعلم أن سؤال الفرق عند أبناء زماننا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع إلا أنه عند بعض المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى إنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً ولهذا اختلفوا فمنهم من قال: إنه غير مقبول لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة وهي المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع.
ومنهم من قال بقبوله واختلفوا مع ذلك في كونه سؤالين أو سؤالاً واحداً.فقال ابن سريج إنه سؤالان جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق.
وقال غيره: بل هو سؤال واحد لاتحاد مقصوده وهو الفرق وإن اختلفت صيغته.ومن المتقدمين من قال: ليس سؤال الفرق هو هذا وإنما هو عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخل في التعليل ولا وجود له في الفرع فيرجع حاصله إلى بيان انتفاء علة الأصل في الفرع وبه ينقطع الجمع.
وجوابه على كل تقدير لا يخرج عما ذكرناه في جواب المعارضة في الأصل والفرع.
الاعتراض الحادي والعشرون إذا اختلف الضابط بين الأصل والفرع واتحدت الحكمة.
كما لو قيل في شهود القصاص: تسببوا في القتل عمداً عدواناً فلزمهم القصاص زجراً لهم عن التسبب كالمكره.
فللمعترض أن يقول: ضابط الحكمة في الأصل إنما هو الإكراه وفي الفرع الشهادة والمقصود منهما وإن كان متحداً وهو الزجر فلا يمكن تعدية الحكم به وحده وما جعل ضابطا له في الأصل غير موجود في الفرع والضابط في الفرع يحتمل أن لا يكون مساوياً لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود فامتنع الإلحاق.
وجوابه إما بأن يبين أن التعليل إنما هو بعموم ما اشترك فيه الضابط من التسبب المضبوط عرفاً أو بأن يبين أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود أكثر من إفضاء ضابط الأصل فكان أولى بالثبوت.
وذلك كما لو كان أصله في مثل هذه المسألة المغرى للحيوان من حيث إن انبعاث الولي للتشفي والانتقام في الفرع لغلبة إقدام المكره بالإكراه على القتل طلبا لخلاص نفسه أغلب من إقدام الحيوان بالإغراء على الآدمي بسبب غلبة نفرته عنه وبالجملة فيبين الغلبة بما يساعد في آحاد المسائل.
الاعتراض الثاني والعشرون إذا اتحد الضابط بين الأصل والفرع واختلف جنس المصلحة كما لو قال الشافعي في مسألة اللواط أولج فرجاً في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً فوجب به الحد كالزنا.
فللمعترض أن يقول: الضابط وإن كان متحداً غير أن الحكمة التي في الفرع وهي صيانة النفس عن رذيلة اللياطة مخالفة لحكمة الأصل وهي دفع محذور اختلاط المياه واشتباه الأنساب المفضي إلى تضييع المولود وانقطاع نسل جنس الإنسان.
وعند ذلك فلا يلزم من اعتبار الضابط في الأصل لما لزمه من الحكمة اعتباره في الفرع لغير تلك الحكمة لجواز أن لا تكون قائمةً مقامها في نظر الشارع.
وجوابه أن يقال: التعليل إنما وقع بالضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع والتعرض لحذف خصوص ما اختص به الأصل من الزنى ومقصوده اللازم عنه وحذفه بطريق من طرق الحذف التي سبق بيانها في السبر والتقسيم.
الاعتراض الثالث والعشرون أن يقال حكم الفرع مخالف الأصل فلا قياس لأن القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة الجامع بينهما ومع اختلاف الحكم فحكم الأصل لا يكون متعديا إلى الفرع فلا قياس.
وجوابه ببيان اتحاد الحكم إما عيناً وذلك كما في قياس وجوب الصوم على وجوب الصلاة وقياس صحة البيع على صحة النكاح وأن الاختلاف إنما هو عائد إلى المحل وهو غير قادح في صحة القياس لكونه شرطاً فيه وإما جنساً كما في قياس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قتل الأنفس بالنفس الواحدة وأن الاختلاف إنما هو في عين الحكم فكان إما ملائماً إن كان الاشتراك في جنس العلة أو مؤثراً إن كان الاشتراك في عينها على ما سبق تحقيقه وذلك غير مبطل للقياس عند القائلين به.
وأما إن كان الحكم مختلفا جنساً ونوعاً كما في إلحاق الإثبات بالنفي أو الوجوب بالتحريم وبالعكس فقد بينا وجه الاختلاف في صحته وأن المختار إبطاله.
الاعتراض الرابع والعشرون :سؤال القلب وهو قسمان: الأول قلب الدعوى والآخر قلب الدليل.
أما قلب الدعوى فضربان وذلك لأن الدعوى إما أن يكون الدليل مضمراً فيها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فهو كما لو قال الأشعري أعلم بالضرورة أن كل موجود مرئي فهذه دعوى فيها إضمار الدليل وتقديره لأنه موجود إذ الوجود هو المصحح للرؤية عنده فقال المعتزلي: أعلم بالضرورة أن كل ما ليس في جهة لا يكون مرئياً.
فهذه الدعوى مقابلة للأولى من جهة أن الموجود ينقسم إلى ما هو في جهة وإلى ما ليس في جهة فالقول بأن ما ليس في جهة لا يكون مرئيا يقابل قول القائل: كل موجود مرئي ودليلها مضمر فيها وتقديره أن انتفاء الجهة مانع من الرؤية.
وأما إن لم يكن الدليل مضمراً فيها فكما لو قال القائل في مسألة إفضاء النظر إلى العلم أو في مسألة التحسين والتقبيح مثلاً: أعلم بالضرورة أن النظر لا يفضي إلى العلم وأن الكفر قبيح لعينه والشكر حسن لعينه.
فقال المعترض أعلم بالضرورة أن النظر يفضي إلى العلم وأن الكفر ليس قبيحاً لعينه ولا الشكر حسناً لعينه وهذا هو عين مقابلة بالفاسد والمقصود منه استنطاق المدعي باستحالة دعوى الضرورة من خصمه في محل الخلاف فيقال: وهذا لازم لك أيضاً وقد أورد الجدليون في هذا الباب قلب الاستبعاد في الدعوى وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إلحاق الولد بأحد الأبوين المدعيين تحكيم الولد في ذلك تحكم بلا دليل فقال الحنفي: وتحكيم القائف في ذلك أيضاً تحكم بلا دليل.
قالوا والمقصود منه أيضاً استنطاق المدعي بأن ما ذكره ليس بتحكم بل له مأخذ صحيح فيقول المعترض: وكذلك ما ذكرته وهو في غاية البعد فإنه إما أن يعترف المدعى بأن ما ذهب إليه تحكم أو أن يبين مأخذه فيه فإن كان تحكماً فلا تغني معارضته بتحكمه في مذهبه في إبطال دعواه التحكم في مذهب خصمه وإن بين له مأخذاً فلا يلزم منه أن يكون ما استبعده من مذهب خصمه كذلك وإن تعرض المعترض لبيان المأخذ فيما استبعده المدعي فهو الجواب ولا حاجة إلى القلب.
وأما قلب الدليل وهو عبارة عن بيان كون ما ذكره المستدل يدل عليه ثم لا يخلو إما أن يسلم المعترض أن ما ذكره المستدل من الدليل يدل له من وجه أو يبين أنه لا دلالة له على مذهب المستدل ولا من وجه فإن بين أن ما ذكره لا يدل له وهو دليل عليه فهذا قلما يوجد له مثال في غير المنصوص وذلك كما لو استدل في توريث الخال بقوله عليه السلام: " الخال وارث من لا وارث له " فقال المعترض: المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له معناه نفي كون الجوع زاداً والصبر حيلة.
ويدل على إرادة هذا الاحتمال أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من قوله: " لا وارث له " نفي كل وارث فتوريث الخال لا يتوقف عند من يراه وارثاً على نفي جميع الوراث لإرثه مع الزوج والزوجة وإما نفي من عداه من الوراث بجهة العصوبة فتخصيص الخال بالذكر لا يكون مفيداً لأن من عداه من ذوي الأرحام كذلك وهذا النوع من القلب وإن دل على مذهب المعترض فهو شبيه بفساد الوضع من حيث إنه لا يدل على مذهب المستدل.
وإن سلم أن ما ذكره المستدل يدل له من وجه فهذا النوع من القلب ثلاثة أقسام وذلك لأن المعترض إما أن يتعرض في القلب لتصحيح مذهبه أو لإبطال مذهب المستدل: وإن تعرض لإبطال مذهب المستدل فإما أن يتعرض له صريحاً بأن يجعله حكماً للدليل بلا واسطة أو لا بصريحه بل بطريق الالتزام بأن يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل.
فإن كان من القسم الأول فهو كما لو قال الحنفي مثلاً في مسألة الاعتكاف لبث محض فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة فقال المعترض لبث محض فلا يشترط الصوم في صحته كالوقوف بعرفة فكل واحد منهما قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه غير أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحاً وعند التحقيق فتعليل المستدل في هذا المثال لنفي القربة ليس تعليلاً بمناسب يقتضي نفي القربة بل بانتفاء المناسب من حيث إن اللبث المحض لا يناسب ولا يشم منه رائحة المناسبة للقرابة وتعليل المعترض بأمر طردي فإنه لا مناسبة في اللبث المحض لنفي اشتراط الصوم وقد يتفق أن يكون المستدل قد تعرض لتصحيح مذهبه صريحا والمعترض كذلك كما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فقال المعترض: طهارة تراد لأجل الصلاة فتصبح بغير الماء كطهارة الحدث فكل واحد منهما متعرض في الدليل لتصحيح مذهبه صريحاً والعلة في الطرفين شبهية.
وإن كان من القسم الثاني: وهو أن يتعرض المعترض في القلب لإبطال مذهب المستدل صريحاً فمثاله ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس: عضو من أعضاء الوضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء.
فقال الشافعي: عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر بالربع كسائر الأعضاء فكل واحد منهما قد صرح في دليله بإبطال مذهب خصمه وليس في ذلك ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه ليس يلزم من إبطال مذهب كل واحد منهما تصحيح مذهب الآخر لجواز أن يكون الصحيح هو مذهب مالك وهو وجوب الاستيعاب.
نعم لو كان القائل في المسألة قائلان والاتفاق منهما واقع على نفي قول ثالث فإنه يلزم من تعرض كل واحد منهما لإبطال مذهب الآخر تصحيح مذهبه ضرورة الاجتماع على إبطال قول ثالث وذلك كالحكم بالأولوية في مسألة التخلي للعبادة.
وإن كان من القسم الثالث: فهو كما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب: عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح فقال الشافعي: عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فإن المعترض في هذا المثال لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل في القول بالصحة صريحاً بل بطريق الالتزام.
وذلك أن من قال بالصحة فقد قال بخيار الرؤية فخيار الرؤية لازم الصحة فإذا بطل خيار الرؤية فقد انتفى اللازم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
ويلتحق بأذيال هذا القسم الثالث قلب التسوية ومثاله قول الحنفي في مسألة إزالة النجاسة بالخل: مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتحصل به الطهارة كالماء فيقول الشافعي: مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتستوي فيه طهارة الحدث والخبث كالماء فإنه يلزم من القول بالتسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث عدم حصول الطهارة بالخل في الخبث لعدم حصولها به في الحدث والحكم بالتسوية.
واعلم أن أعلى مراتب أنواع القلب ما بين فيه أنه يدل على المستدل ولا يدل له ثم يليه النوع الثاني وهو ما بين فيه أنه يدل له وعليه وأعلى مراتب هذا النوع ما صرح فيه بإثبات مذهب المعترض وهو القسم الأول منه ثم ما صرح فيه بإبطال مذهب المستدل فإنه دون ما قبله من حيث إنه لا يلزم منه تصحيح مذهبه على ما تقدم وهو القسم الثاني منه ثم القسم الثالث فإنه وإن شارك ما قبله من القسم الثاني في إبطال مذهب المستدل إلا أنه يدل عليه بطريق الالتزام وما قبله بصريحه وهذا النوع من القلب لا تعرض فيه لدلالة المستدل بالقدح بل غايته بيان دلالة أخرى منه تدل على نقيض مطلوبه فكان شبيهاً بالمعارضة وإن فارقها من جهة أنه معارضة نشأت من نفس دليل المستدل.
وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق معنى القلب وأقسامه فقد اختلف في قبوله: فقبله قوم من حيث إنه يشير إلى ضعف الدليل لدلالته على نقيض مذهب المستدل ورده آخرون من حيث إن المعترض إما أن يتعرض في دليله لنقيض حكم المستدل أو إلى غيره: فإن كان الأول فقد تعذر عليه القياس على أصل المستدل لاستحالة اجتماع حكمين متقابلين مجمع عليهما في صورة واحدة وإن كان الثاني فلا يكون ذلك اعتراضاً على الدليل.
والحق في ذلك أنه وإن تعرض في الدليل لحكم يقابل حكم المستدل صريحاً فقد لا يمتنع الجمع بينهما في أصل واحد كما ذكرناه من مثال إزالة النجاسة في القسم الأول وإن تعرض لغيره فيصح القلب إذا كان ذلك لازماً عما ذكره المعترض كما ذكرناه من المثال في القسم الثاني من النوع الثاني من التمثيل في مسألة بيع الغائب ومن التمثيل بقلب التسوية في إزالة النجاسة وإنما يمتنع قبوله لأن ما ذكره المستدل إما أن يكون مقصود الشارع من الحكم المرتب عليه ملازماً له أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فتعليل المعترض به لمقابل حكم المستدل إما أن يكون بحيث يلزمه مقصود من مقابل الحكم أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فإما أن يكون ذلك من جهة ما علل به المستدل أو من غيرها: فإن كان الأول فمحال أن يكون الوصف الواحد من جهة واحدة يناسب الحكم ومقابله وإن كان الثاني فما ذكره ليس بقلب إذ القلب لا بد فيه من اتحاد العلة في القياسين بل هو معارضة بدليل آخر وإن كان بحيث لا يلازمه المقصود فهو بالنسبة إلى حكم المعترض طردي ووصف المستدل مناسب أو شبهي فلا يكون قادحاً فيه وإن كان ما ذكره المستدل طردياً بالنسبة إلى ما رتبه عليه فهو باطل في نفسه لتعذر التعليل بالطردي المحض ولا حاجة إلى شيء من الاعتراضات.
الاعتراض الخامس والعشرون: سؤال القول بالموجب وحاصله يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكماً لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه ومهما توجه على هذا الوجه كان المستدل منقطعاً لتبين أن ما نصه من الدليل لم يكن متعلقاً بمحل النزاع وهو منحصر في قسمين وذلك لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه وما نقل عن إمامه من الحكم أو على إبطال ما يظنه مدركاً لمذهب خصمه.
فإن كان الأول: فهو كما لو قال الشافعي في الملتجىء إلى الحرم وجد سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزاً فقال الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن استيفاء القصاص عندي جائز.وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم.
وإن كان الثاني فهو كما لو قال الشافعي في مسألة استيلاد الأب جارية ابنه: وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين أو قال في مسألة القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه.
فقال الخصم: أقول بموجب هذا الدليل وأن وجوب القيمة لا يمنع من وجوب المهر والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه والنزاع إنما هو في وجوب المهر ووجوب القصاص ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب المهر والقصاص لجواز انتفاء المقتضي لذلك أو وجود مانع آخر أو فوات شرط.
وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب في المناظرات من ورود النوع الأول من جهة أن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام لكثرة المدارك وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف الأحكام فإنه قلما يتفق الذهول عنها.
ولهذا قد يشترك في معرفة الحكم المنقول عن الإمام الخواص والعوام دون معرفة المدارك فكان احتمال الخطإ في اعتقاد كون المدرك المعين هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطإ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه.
وقد اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع فقال بعضهم: لا بد من تكليفه بذلك لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده فإذا علم أنه لا يكلف بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب فقد يقول بذلك عناداً قصداً لإيقاف كلام خصمه ولا كذلك إذا وظف عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى.
وقال آخرون: لا وجه لتكليفه بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب وهو استبقاء محل النزاع وهو الأظهر لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ إمامه فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه فوجب تصديقه كيف وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ فإن مكنا المستدل من إبطاله والاعتراض عليه يلزم منه قلب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً ولا يخفى ما فيه من الخبط.
وإن لم يمكن من ذلك فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما يصلح للتعليل ترويحاً لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه وللمستدل في دفع القول بالموجب بالاعتبار الأول طرق.
الأول أن يقول: المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرض فيه الكلام إن أمكن والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه.
الثاني: أن يبين أن محل النزاع لازم فيما فرض الكلام فيه وذلك كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي فقال المعترض: هو عندي غير جائز بل واجب فيقول المستدل المعنى بعدم الجواز لزوم التبعة بفعله ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعة بفعل الواجب.
الثالث: أن يقول المستدل القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره فلا يكون قولاً بموجبه وذلك كما لو كان المستدل قد قال في زكاة الخيل: حيوان تجوز المسابقة عليه فوجبت فيه الزكاة قياساً على الإبل.
فقال المعترض: عندي تجب فيه زكاة التجارة والنزاع إنما هو في زكاة العين فيقول المستدل إذا كان النزاع في زكاة العين فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود وأيضاً فإن لفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة وهو غير متجه لأن موجب الدليل التعميم فالقول ببعض الموجب لا يكون قولاً بالموجب بل ببعضه.
وكذلك إذا قال في مسألة إزالة النجاسة: مائع لا يزيل الحدث فلا يزيل الخبث كالمرقة فقال المعترض: أقول به فإن الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث فيقول المستدل: ظاهر كلامي إنما هو الخل الطاهر ضرورة وقوع النزاع فيه وإيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره لا يكون قولاً بمدلوله وموجبه بل بغيره فلا يكون مقبولاً وله في دفع القول بالموجب بالاعتبار الثاني أيضاً طرق الأول: أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولاً لدليله وفرض المعترض الكلام معه فيه وطالبه بالدليل عليه فإذا قال بالموجب بعد ذلك فقد سلم ما وقع النزاع فيه وأفسد على نفسه القول بالموجب بالمطالبة بالدليل عليه أولاً.
وبمثل هذا يمكن أن يجاب عن القول بالاعتبار الأول أيضاً الثاني: أن يبين لقب المسألة مشهور بذلك بين النظار كما سبق تقريره أولاً.
الثالث: أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله إن أمكن وذلك بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضي لوجوب القصاص وكانت الموانع التي يوافق المستدل عليها منتفيةً والشروط متحققة.فإذا أبطل كون المانع المذكور مانعاً فيلزم منه الحكم المتنازع فيه ظاهراً.
وأما قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل فيرد عليهما كل ما كان وارداً على قياس العلة سوى الأسئلة المتعلقة بمناسبة الوصف الجامع فإنها لا ترد عليهما أما قياس الدلالة فلأن الوصف الجامع فيه ليس بعلة وأما القياس في معنى الأصل فلعدم ذكر الجامع فيه.
والأسئلة الواردة على نفس الوصف الجامع لا ترد على القياس في معنى الأصل لعدم ذكر الجامع فيه ويختص قياس الدلالة بسؤال آخر وهو عند ما إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل كما إذا قال القائل في مسألة الأيدي باليد الواحدة أحد موجبي الأصل فالطرف المعصوم يساوي النفس فيه دليله الموجب الثاني وقرره بأن الدية أحد الموجبين في الأصل وهي واجبة في الفرع على الكل ويلزم من وجود أحد الموجبين في الفرع وجود الموجب الآخر وذلك لأن علة الموجبين في الأصل إما أن تكون واحدةً أو متعددةً :فإن كانت واحدةً فيلزم من وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها فيه ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل.
وإن كانت متعددةً فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين وعند ذلك فيلزم من وجود أحد الحكمين في الفرع وجود علته التي وجد بها في الأصل ويلزم من وجود علته وجود علة الحكم الآخر.
والسؤال الوارد عليه أن يقال: لا يلزم من وجود أحد حكمي الأصل في الفرع وجود الحكم الآخر سواء اتحدت علتهما في الأصل أو تعددت أما إذا اتحدت فلأنه لا يمتنع عند تعدد المحال وإن اتحد نوع الحكم أن يكون الحكم الثابت في الفرع ثابتاً بغير علة الأصل وهو الأولى لما فيه من تكثير مدارك الحكم فإنه أفضى إلى اقتناص مقصود الشارع من الحكم مما إذا اتحد المدرك وإذا كان كذلك فلا يلزم منه وجود الحكم الآخر لجواز أن لا تكون علة الفرع مستقلةً بإثبات الحكم الآخر كاستقلال علة الأصل.
وأما إذا تعددت العلة فإن وقع التلازم بينهما فلجواز أن تكون علة الحكم الثابت في الفرع غير علته في الأصل لما ذكرناه وعند ذلك فلا يلزم منها وجود العلة الأخرى في الفرع فإنه لا يلزم من التلازم بين علة ذلك الحكم وعلة الحكم الآخر في الأصل التلازم بين علته في الفرع وعلة الحكم الآخر وعلى هذا لا يكون الحكم الآخر لازماً في الفرع.
وجوابه أن يقال: ثبوت أحد الحكمين في الفرع يدل ظاهراً على وجود علته التي ثبت بها في الأصل وإن جاز ثبوته في الفرع بغيرها لأن الأصل عدم وجود علة أخرى غير علته في الأصل.
والقول بأن تعدد المدارك أولى معارض بأن الاتحاد أولى لما فيه من التعليل بعلة مطردة منعكسة وما ذكروه وإن كانت العلة فيه مطردةً إلا أنها غير منعكسة والتعليل بالعلة المطردة المنعكسة متفق عليه بخلاف غير المنعكسة فكانت أولى.
فإن قيل: وكما أن الأصل عدم علة أخرى في الفرع غير علة الأصل فالأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر.
قلنا: بل العمل بما ذكرناه أولى لأن العلة فيه تكون متعدية وهي متفق على صحة التعليل بها وما ذكروه يلزم منه أن تكون العلة في الأصل قاصرة لأن الأصل عدم وجودها في صورة أخرى وهي مختلف في صحة التعليل بها فكان ما ذكرناه أولى.
خاتمة لهذا الباب في ترتيب الأسئلة الواردة على القياس والاعتراضات الواردة على القياس أما أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في الأصل أو في الفرع وإما أن تكون من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة ونحوها.
فإن كان الأول فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معاً إذ لا يلزم منها تناقض ولا نزول عن سؤال إلى سؤال.
وإن كان الثاني فلا يخلو: إما أن تكون الأسئلة غير مرتبة أو مرتبة: فإن كانت غير مرتبة فقد أجمع الجدليون على جواز الجمع بينهما سوى أهل سمرقند فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط.
ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المتعددة من جنس واحد فإنها وإن أفضت إلى النشر فالجمع بينها مقبول من غير خلاف بين الجدليين وإن كانت مرتبةً فقد منع منه أكثر الجدليين من حيث إن المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجوده نزول عن المنع ومشعر بتسليم وجوده لأنه لو بقي مصراً على منع وجود الوصف فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال.
وعند ذلك فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير من الأسئلة ومنهم من لم يمنع منه وذلك بأن يورد المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجود الوصف مقدراً لتسليم وجود الوصف وذلك بأن يقول: وإن سلم عن المنع تقديراً فلا يسلم عن المطالبة وغيرها ولا شك أنه أولى لعدم إشعاره بالمناقضة والعود إلى منع ما سلم وجوده أولا كمنع وجود الوصف بعد المطالبة بتأثيره المشعر بتسليم وجوده وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وهو المختار.
وإذا كان لا بد من رعاية الترتيب في الأسئلة فأول ما تجب البداية به سؤال الاستفسار لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه.
ثم بعده سؤال فساد الاعتبار لأنه نظر في فساده من جهة الجملة قبل النظر في تفصيله ثم سؤال فساد الوضع لأنه أخص من سؤال فساد الاعتبار كما سبق تقريره والنظر في الأعم يجب أن يكون قبل النظر في الأخص.
ثم بعده منع الحكم في الأصل ويجب أن يكون مقدماً على ما يتعلق بالنظر في العلة لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي فرع عليه والكلام في الفرع يجب تأخيره عن الكلام في أصله ثم بعده منع وجود العلة في الأصل.
ثم بعده النظر فيما يتعلق بعلية الوصف كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود منه.
ثم بعده النقض والكسر لكونه معارضاً لدليل العلية ثم بعده المعارضة في الأصل لأنه معارضة لنفس العلة فكان متأخراً عن المعارض لدليل العلية والتعدية والتركيب لأن حاصلهما يرجع إلى المعارضة في الأصل كما سبق تقريره.
ثم بعده ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب.
ثم بعد ذلك القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له من تحقيق شروطه وانتفاء القوادح فيه وهذا آخر الأصل الخامس.
الأصل السادس
في معنى الاستدلال وأنواعه
أما معناه في اللغة فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب.وأما في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارةً بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو غيره ويطلق تارةً على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا.
وهي عبارة عن دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً.
فإن قيل: تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسب حقيقة الاستدلال عنه.
قلنا: إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق وتعريف الأخفى بالأظهر جائز دون العكس.
وإذا عرف معنى الاستدلال فهو على أنواع منها قولهم: وجد السبب فثبت الحكم ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم فإنه دليل من حيث إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعاً أو ظاهراً ولا يخفى لزوم المطلوب من ثبوت ما ذكرناه فكان دليلاً وليس هو نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً فكان استدلالاً.
فإن قيل: تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم المطلوب تعريف للدليل بالمدلول والمدلول لا يعرف إلا بدليله فكان دوراً ممتنعاً وإن سلمنا صحة الحد ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل الأمر إلى إثبات المدعى كان مفتقراً إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى للقياس سوى هذا.
قلنا: أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف وليس كذلك وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور لا من جهة حقيقته لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا دليل وجوده والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من جهة وجوده في آحاد الصور.
وإذا اختلفت الجهة فلا دور وما ذكروه في تحقيق كونه قياساً فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا يكون إلا بما ذكروه وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصاً ولا إجماعاً كما تقرر قبل والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية.
ومنها نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم: الحكم يستدعي دليلاً ولا دليل فلا حكم أما أنه يستدعي دليلاً فبالضرورة وأما أنه لا دليل فلا يدل عليه سوى البحث والسبر وإن الأصل في الأشياء كلها العدم وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح دليلاً من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال.
وجوابه بالقدح في الدليل المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى وقد ترد عليه أسئلة كثيرة أوردناها في كتاب المؤاخذات وقررناها اعتراضاً وانفصالاً فعليك بالالتفات إليها.
ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر.وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل أو هو مذكور فيه.
فإن كان الأول فيسمى اقترانياً وأقل ما يتركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما.وكل مقدمة تشتمل على مفردين الواحد منهما مكرر في المقدمتين ويسمى حداً أوسط والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في المطلوب حداً أكبر وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى حداً أصغر والمقدمة التي فيها الحد الأكبر كبرى والتي فيها الحد الأصغر صغرى.
ثم هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى شكلاً وهيئته في النسبة إما بكونه محمولاً على الحد الأصغر وموضوعاً للحد الأكبر ويسمى الشكل الأول وإما بكونه محمولاً عليهما ويسمى الشكل الثاني وإما بكونه موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث وإما بكونه موضوعاً للأصغر ومحمولاً على الأكبر ويسمى الشكل الرابع.
وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة.
أما الشكل الأول منها: فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه عليه وهو منتج للمطالب الأربعة الكلي موجباً وسالباً والجزئي موجباً وسالباً.
وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه.
وضروبه المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل وضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية. واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية.
الضرب الثاني: من كلية صغرى موجبة كلية كبرى سالبة كقولنا: كل وضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية.
الضرب الثالث: بعض الوضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية واللازم بعض الوضوء يفتقر إلى النية.
الضرب الرابع: بعض الوضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية.
الشكل الثاني: وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية وكلية كبراه.
وضروبه المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين الصغرى موجبة والكبرى سالبة كقولنا كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ولا شيء مما يصح بيعه صفات المبيع فيه مجهولة واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح.
الضرب الثاني: من كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا لا شيء من بيع الغائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله.
الضرب الثالث: من جزئية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة كقولنا بعض بيع الغائب مجهول الصفات ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ولازمه بعض بيع الغائب لا يصح.
الضرب الرابع: من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا ليس كل بيع غائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح معلوم الصفات ولازمه كلازم الذي قبله.
والإنتاج في هذا الشكل غير بين بنفسه بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس الكبرى من الأول وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ثم تستنتج وتعكس النتيجة فيعود إلى عين المطلوب وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى بحالها فأنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الكبرى منه عادت جزئية ولا قياس عن جزئيتين والصغرى فلا عكس لها.
وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك الضرب فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال وليس لزوم المحال عن نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها صادقةً فكان لازماً عن نقيض المطلوب فكان محالاً وإلا لما لزم عنه المحال وإذا كان نقيض المطلوب محالاً كان المطلوب الأول هو الصادق.
الشكل الثالث: وشرط إنتاجه إيجاب صغراه أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى مقدميته ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب.وضروبه المنتجة ستة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل برً مطعوم وكل برً ربوي ولازمه بعض المطعوم ربوي.
الضرب الثاني: من جزئية صغرى موجبة وكلية موجبة كبرى كقولنا: بعض البر مطعوم وكل برً ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب الثالث: من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب الرابع: من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: كل بر مطعوم ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه لا شيء من المطعوم يصح بيعه يجنسه متفاضلاً.
الضرب الخامس: من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب السادس: من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله.
وإنتاج هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الكبرى من الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب.
وأما السادس منه فلا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزيئتين والكبرى فلا عكس لها.
وإن شئت بينت بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع ضروبه فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ويلزم من ذلك كذب النقيض لما بيناه في الشكل الثاني.ويلزمه صدق المطلوب الأول.
وأما إن كان القسم الثاني وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائياً.
ولا بد فيه من قضيتين إحداهما استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزئين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب.
والنسبة الإيجابية بينهما إما أن تكون باللزوم والاتصال وفي حالة السلب برفعه أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه.
فإن كان الأول فتسمى تلك القضية شرطيةً متصلةً وأحد جزئيها وهو ما دخل عليه حرف الشرط مقدماً والثاني وهو ما دخل عليه حرف الجزاء تالياً وما هي مقدمة فيه يسمى قياساً شرطياً متصلاً.
وإن كان الثاني فتسمى منفصلة وما هي مقدمة فيه يسمى قياساً منفصلاً أما الشرطي المتصل فشرط إنتاجه أن تكون النسبة بين المقدم والتالي كليةً أي دائمةً وأن يكون الاستثناء إما بعين المقدم منها أو نقيض التالي وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو مساوياً له.
ولا يجوز أن يكون أخص منه وإلا كانت القضية كاذبة.وعند ذلك فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو مساوياً له.
واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم.وأما استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولا من وجود الأعم وجود الأخص.
وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج لازماً لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة وذلك كما في قولنا: دائماً إن كان هذا الشيء إنساناً فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان أو لكنه ليس بحيوان فيلزمه أنه ليس إنساناً.
وأما المنفصل فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معاً أو مانعة الجمع دون الخلو أو مانعة الخلو دون الجمع.
فإن كان الأول فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزئين نقيض الآخر ومن استثناء نقيضه عين الآخر وذلك كما في قولنا: دائماً إما أن يكون العدد زوجاً وإما أن يكون فرداً لكنه زوج فليس بفرد أو لكنه فرد ليس بزوج أو لكنه ليس بزوج فهو فرد أو لكنه ليس بفرد فهو زوج.
وإن كان الثاني فاستثناء عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كقولنا: دائماً إما أن يكون الجسم جماداً وإما حيواناً لكنه حيوان فليس بجماد أو لكنه جماد.
فليس بحيوان ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
وإن كان الثالث فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كما إذا قلنا: دائماً إما أن يكون المحل لا أسود وإما لا أبيض.
فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
فهذه جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال لخصناها في أوجز عبارة.ومن أراد الاطلاع على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن.
ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها وكذلك الجواب عنها.
ومن أنواع الاستدلال استصحاب الحال وفيه مسألتان : المسألة الأولى في الاستدلال باستصحاب الحال وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه.ومن هؤلاء من جوز به الترجيح لا غير.
وذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالمزني والصيرفي والغزالي وغيرهم من المحققين إلى صحة الاحتجاج به وهو المختار وسواء كان ذلك الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي أو عقلي أو شرعي وذلك لأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه والظن حجة متبعة في الشرعيات على ما سبق تحقيقه.وإنما قلنا إنه يستلزم ظن بقائه لأربعة أوجه.
الأول: أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ولو لم يكن الأصل في كل متحققاً دوامه للزم إما جواز الصلاة في الصورة الأولى أو عدم الجواز في الصورة الثانية وهو خلاف الإجماع.
وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل.
إما أن يكون الراجح عدم الاستصحاب أو أن الاستصحاب وعدمه سيان فإن كان الأول فيلزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية لظن فوات الطهارة وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون استواء الطرفين مما تجوز معه الصلاة أو لا تجوز فإن كان الأول فيلزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى وإن كان الثاني فيلزمه عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية وكل ذلك ممتنع.
الوجه الثاني: أن العقلاء وأهل العرف إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام خاصة به فإنهم يسوغون القضاء والحكم بها في المستقبل من زمان ذلك الوجود أو العدم حتى إنهم يجيزون مراسلة من عرفوا وجوده قبل ذلك بمدد متطاولة وإنفاذ الودائع إليه ويشهدون في الحالة الراهنة بالدين على من أقر به قبل تلك الحالة ولولا أن الأصل بقاء ما كان على على ما كان لما ساغ لهم ذلك.
الثالث: أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير وذلك لأن الباقي لا يتوقف على أكثر من وجود الزمان المستقبل ومقابل ذلك الباقي له كان وجوداً أو عدماً.
وأما التغير فمتوقف على ثلاثة أمور: وجود الزمان المستقبل وتبدل الوجود بالعدم أو العدم بالوجود ومقارنة ذلك الوجود أو العدم لذلك الزمان.
ولا يخفى أن تحقق ما يتوقف على أمرين لا غير أغلب مما يتوقف على ذينك الأمرين وثالث غيرهما.
الوجه الرابع: إذا وقع العرض فيما هو باق بنفسه الجوهر فقد يقال: غلبة الظن بدوامه أكثر من تغيره فكان دوامه أولى.
وذلك لأن بقاءه مستغن عن المؤثر حالة بقائه لأنه لو افتقر إلى المؤثر فإما أن يصدر عن ذلك المؤثر أثر أو لا يصدر عنه أثر فإن صدر عنه أثر فإما أن يكون هو عين ما كان ثابتاً أو شيئاً متجدداً: الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني فعلى خلاف الفرض.
وإن لم يصدر عنه أثر فلا معنى لكونه مؤثراً وإذا كان مستغنيا في بقائه عن المؤثر فتغيره لا بد وأن يكون بمؤثر وإلا كان منعدما بنفسه وهو محال وإلا لما بقي وإذا كان البقاء غير مفتقر إلى مؤثر وتغيره مفتقر إلى المؤثر فعدم الباقي لا يكون إلا بمانع يمنع منه.
وأما المتجدد سواء كان عدماً أو وجوداً فإنه قد ينتفي تارةً لعدم مقتضيه وتارةً لمانعه وما يكون عدمه بأمرين يكون أغلب مما عدمه بأمر واحد.
وعلى هذا فالأصل في جميع الأحكام الشرعية إنما هو العدم وبقاء ما كان على ما كان إلا ما ورد الشارع.
بخالفته فإنا نحكم به ونبقى فيما عداه عاملين بقضية النفي الأصلي كوجوب صوم شوال وصلاة سادسة ونحوه.
فإن قيل: لا نسلم أن كل ما تحقق وجوده في حالة من الأحوال أو عدمه فهو مظنون البقاء وما ذكرتموه من الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه.
الأول: أنا نسلم انعقاد الإجماع على الفرق في الحكم فيما ذكرتموه من الصورتين فإن مذهب مالك وجماعة من الفقهاء إنما هو التسوية بينهما في عدم الصحة وإن سلمنا ذلك وسلمنا أنه لو لم يكن الأصل البقاء في كل متحقق للزم رجحان الطهارة أو المساواة في الصورة الأولى ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية.
ولكن لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جوز الصلاة بدليل امتناع الصلاة بعد النوم والإغماء والمس على الطهارة وإن كان وجود الطهارة راجحاً.
ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية حيث قلتم بأن ظن الحدث لا يلحق بتيقين الحدث.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في الطهارة والحدث البقاء ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كل متحقق سواهما البقاء لا بد لهذا من دليل.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل البقاء في كل شيء.لكنه منقوض بالزمان والحركات من حيث إن الأصل فيهما التقضي دون البقاء والاستمرار.
وما ذكرتموه من الوجه الثاني فليس فيه ما يدل على ظن البقاء بل إنما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه وذلك كاستحسان الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرةً بل مرجوحة أو مساوية.
وما ذكرتموه من الوجه الثالث لا نسلم أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير.
وما ذكرتموه من زيادة توقف التغير على تبدل الوجود بالعدم أو بالعكس معارض بما يتوقف عليه البقاء من تجدد مثل السابق وإن سلمنا أن ما يتوقف عليه التغير أكثر لكن لا نسلم أنه يدل على غلبة البقاء على التغير لجواز أن تكون الأشياء المتعددة التي يتوقف عليها التغير أغلب في الوجود من الأعداد القليلة التي يتوقف عليها البقاء أو مساويةً لها.
وإن سلمنا أن البقاء أغلب من التغير ولكن لا نسلم كونه غالباً على الظن لجواز أن يكون الشيء أغلب من غيره وإن غلب على الظن عدمه في نفسه.
سلمنا دلالة ذلك على الأغلبية لكن فيما هو قابل للبقاء أو فيما ليس قابلاً له؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
فلم قلتم بأن الأعراض التي وقع النزاع في بقائها قابلة للبقاء؟ كيف وإنها غير قابلة لما علم في الكلاميات.
وما ذكرتموه من الوجه الرابع لا نسلم أن الباقي لا يفتقر إلى مؤثر.وما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وذلك لأن الباقي في حالة بقائه إما أن يكون واجباً لذاته أو ممكناً لذاته الأول محال وإلا لما تصور عليه العدم وإن كان ممكناً فلا بد له من مؤثر وإلا لانسد علينا باب إثبات واجب الوجود.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في كل متحقق دوامه لكنه معارض بما يدل على عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول: أنه لو كان الأصل في كل شيء استمراره ودوامه لكان حدوث جميع الحوادث على خلاف الدليل المقتضي لاستمرار عدمها وهو خلاف الأصل.
الثاني: أن الإجماع منعقد على أن بينة الإثبات تقدم على بينة النفي ولو كان الأصل في كل متحقق دوامه لكانت بينة النفي لاعتضادها بهذا الأصل أولى بالتقدم.
الثالث: أن مذهب الشافعي أنه لا يجزي عتق العبد الذي انقطع خبره عن الكفارة ولو كان الأصل بقاءه لأجزأ.
سلمنا أن الأصل هو البقاء والاستمرار ولكن متى يمكن التمسك به في الأحكام الشرعية إذا كان محصلاً لأصل الظن أو غلبة الظن؟ الأول ممتنع وإلا كانت شهادة العبيد والنساء المتمحضات والفساق مقبولةً لحصول أصل الظن بها.
والثاني مسلم ولكن لا نسلم أن مثل هذا الأصل يفيد غلبة الظن وذلك لأن الأصل عدم هذه الزيادة بنفس ما ذكرتم.
سلمنا كون ذلك مغلبا على الظن لكن قبل ورود الشرع أو بعده؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وبيانه أن قبل ورود الشرع قد أمنا الدليل المغير فكان الاستصحاب لذلك مغلباً وبعد ورود الشرع لم نأمن التغير وورود الدليل المغير فلا يبقى مغلبا على الظن.
والجواب عن منع الإجماع على التفرقة فيما ذكرناه من الصورتين أن المراد به إنما هو الإجماع بين الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الأئمة فكان ما ذكرناه حجة على الموافق دون المخالف.
وعن السؤال الأول على الوجه الأول أنه يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى صحة الصلاة تحصيلا لمصلحة الصلاة مع ظن الطهارة كالصورة الثانية.
وأما النوم فإنما امتنعت معه الصلاة لكونه سبباً ظاهراً لوجود الخارج الناقض للطهارة لتيسر خروج الخارج معه باسترخاء المفاصل على ما قال عليه السلام: " العينان وكاء السته " .
وقال: " إذا نامت العينان انطلق الوكاء " وإذا كان النوم مظنة الخارج المحتمل وجب إدارة الحكم عليه كما هو الغالب من تصرفات الشارع لا على حقيقه الخروج دفعاً للعسر والحرج عن المكلفين.وبه يقع الجواب عن الإغماء والمس.
ويلزم من رجحان الحدث في الصورة الثانية امتناع صحة الصلاة زجرا له عن التقرب إلى الله تعالى والوقوف بين يديه مع ظن الحدث فإنه قبيح عقلاً وشرعاً ولذلك نهي عنه والشاهد له بالاعتبار الصورة الأولى.
قولهم إنه لا تأثير للحدث المظنون عندكم قلنا: إنما لا يكون مؤثراً بتقدير أن لا نقول باستصحاب الحال كالتقدير الذي نحن فيه وإلا فلا.
وعن السؤال الثاني: أنه لو لم يكن الاستصحاب والاستمرار مقتضى الدليل في كل متحقق لكان الاستمرار في هاتين الصورتين على خلاف حكم الأعم أغلب إن كان عدم الاستمرار هو الأغلب أو أن يكون عدم الاستمرار على خلاف الغالب إن كان الاستمرار هو الأغلب وهو على خلاف الأصل وإن تساوى الطرفان فهو احتمال من ثلاثة احتمالات ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من احتمال واحد بعينه.
وعن السؤال الثالث: أنا إنما ندعي أن الأصل البقاء فيما يمكن بقاؤه إما بنفسه كالجواهر أو بتجدد أمثاله كالأعراض وعليه بناء الأدلة المذكورة وعلى هذا فالأصل في الزمان بقاؤه بتجدد أمثاله.
وأما الحركات فإما أن تكون من قبيل ما يمكن بقاؤه واستمراره أو لا من هذا القبيل فإن كان الأول فهو من جملة صور النزاع وإن كان الثاني فالنقض به يكون مندفعاً.
وعما ذكروه على الوجه الثاني أن الإقدام على الفعل لغرض موهوم غير ظاهر إنما يكون فيما لا خطر في فعله ولا مشقة كما ذكروه من المثال.
وأما ما يلزم الخطر والمشقة في فعله فلا بد وأن يكون لغرض ظاهر راجح على خطر ذلك الفعل ومشقته على ما تشهد به تصرفات العقلاء وأهل العرف من ركوب البحار ومعاناة المشاق من الأسفار فإنهم لا يرتكبون ذلك إلا مع ظهور المصلحة لهم في ذلك ومن فعل ذلك لا مع ظهور المصلحة في نظره عد سفيهاً مخبطاً في عقله وما وقع به الاستشهاد من تنفيذ الودائع وإرسال الرسل إلى من بعدت مدة غيبته والشهادة بالدين على من تقدم إفراره من هذا القبيل فكان الاستصحاب فيه ظاهراً.
وعما ذكروه على الوجه الثالث أولاً فجوابه بزيادة افتقار التغير إلى تجدد علة موجبة للتغير بخلاف البقاء لإمكان اتحاد علة المتجددات.
وما ذكروه ثانياً فجوابه من وجهين : الأول: أن الشيء إذا كان موقوفاً على شيء واحد والآخر على شيئين فما يتوقف على شيء واحد لا يتحقق عدمه إلا بتقدير عدم ذلك الشيء وما يتوقف تحققه على أمرين يتم عدمه بعدم كل واحد من ذينك الأمرين.
ولايخفى أن ما يقع عدمه على تقديرين يكون عدمه أغلب من عدم ما لا يتحقق عدمه إلا بتقدير واحد.وما كان عدمه أغلب كان تحققه أندر وبالعكس مقابله.
فإن قيل عدم الواحد المعين إما أن يكون مساوياً في الوقوع لعدم الواحد من الشيئين أو غالباً أو مغلوباً ولا تتحقق غلبة الظن فيما ذكرتموه بتقدير غلبة الواحد المعين ومساواته وإنما يتحقق ذلك بتقدير كونه مغلوباً.
ولا يخفى أن وقوع أحد أمرين لا بعينه أغلب من وقوع الواحد المعين كما ذكرتموه.
قلنا: إذا نسبنا أحد الشيئين لا بعينه إلى ذلك الواحد المعين فإما أن يكون عدمه أغلب من ذلك المعين أو مساوياً له أو مغلوباً فإن كان الأول لزم ما ذكرناه وإن كان الثاني فكذلك أيضاً لترجحه بضم عدم الوصف الآخر إليه وإن كان مغلوباً فنسبة الوصف الآخر إليه لا تخلو من الأقسام الثلاثة ويترجح ما ذكرناه بتقديرين آخرين منها وإنما لا يترجح ما ذكرناه بتقدير أن يكون كل واحد من الوصفين مرجوحاً فإذا ما ذكرناه يتم على تقديرات أربعة ولا يتم على تقدير واحد وفيه دقة فليتأمل.
الوجه الثاني: أن العاقل إذا عن له مقصودان متساويان وكانت المقدمات الموصلة إلى أحدهما أكثر من مقدمات الآخر فإنه يبادر إلى مقدماته أقل ولولا أن ذلك أفضى إلى مقصوده وأغلب لما كان إقدامه عليه أغلب لخلوه عن الفائدة المطلوبة من تصرفات العقلاء.
قولهم وإن كان البقاء أغلب من التغير فلا يلزم أن يكون غالباً على الظن قلنا إذا كان البقاء أغلب من مقابله فهو أغلب على الظن منه ويجب المصير إليه نظراً إلى أن المجتهد مؤاخد بما هو الأظهر عنده.
قولهم: إنما يدل ما ذكرتموه على غلبة الظن فيما هو قابل للبقاء.قلنا: الأعراض إن كانت باقية فلا إشكال وإن لم تكن باقية بأنفسها فممكنة البقاء بطريق التجدد كسواد الغراب وبياض الثلج.
وعلى كل تقدير فالكلام إنما هو واقع فيما هو ممكن التجدد من الأعراض لا فيما هو غير ممكن.
وعما ذكروه على الوجه الرابع أن يقال: مجرد الإمكان غير محوج إلى المؤثر بل المحوج إليه إنما هو الإمكان المشروط بالحدوث أو الحدوث المشروط بالإمكان.
وعن المعارضات أما الحوادث فإنما خالفنا فيها الأصل لوجود السبب الموجب للحدوث ونفي حكم الدليل مع وجوده لمعارض أولى من إخراجه عن الدلالة وإبطاله بالكلية مع ظهور دلالته.
وأما تقديم الشهادة المثبتة على النافية وإن كانت معتضدة بأصل براءة الذمة فإنما كان لاطلاع المثبت على السبب الموجب لمخالفة براءة الذمة وعدم اطلاع النافي عليه لإمكان حدوثه حالة غيبة النافي عن المنكر وتعذر صحبته له واطلاعه على أحواله في سائر الأوقات.
وأما مسألة العبد فهي ممنوعة وبتقدير تسليمها فلأن الذمة مشغولة بالكفارة يقيناً ولا تحصل البراءة منها إلا بيقين وجود العبد ولا يقين.فمن ادعى وجود مثل ذلك فيما نحن فيه فعليه الدليل.
قولهم إنما يمكن التمسك به في الأحكام الشرعية إذا كان مفيدا لغلبة الظن لا نسلم ذلك بل أصل الظن كاف وبه يظهر الشيء على مقابله وأما رد الشهادة في الصور المذكورة فلم يكن لعدم صلاحيتها بل لعدم اعتبارها في الشرع بخلاف ما نحن فيه من استصحاب الحال فإنه معتبر بدليل ما ذكرناه من صورة الشاك في الطهارة والحدث.
قولهم إنه مغلب على الظن قبل ورود الشرع لا بعده ليس كذلك فإنا بعد ورود الشرع إذا لم نظفر بدليل يخالف الأصل بقي ذلك الأصل مغلباً على الظن.
نعم غايته أنه قبل ورود الشرع أغلب على الظن لتيقن عدم المعارض منه بعد ورود الشرع لظن عدم المعارض.
المسألة الثانية اختلفوا في جواز استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف فنفاه جماعة من الأصوليين كالغزالي وغيره وأثبته آخرون وهو المختار.
وصورته ما لو قال الشافعي مثلا في مسألة الخارج النجس من غير السبيلين إذا تطهر ثم خرج منه خارج من غير السبيلين فهو بعد الخروج متطهر ولو صلى فصلاته صحيحة لأن الإجماع منعقد على هذين الحكمين قبل الخارج والأصل في كل متحقق دوامه لما تحقق في المسألة التي قبلها إلا أن يوجد المعارض النافي والأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل.
فإن قيل القول بثبوت الطهارة وصحة الصلاة في محل النزاع إما أن يكون لدليل أو لا لدليل: لا جائز أن يكون لا لدليل فإنه خلاف الإجماع وإن كان لدليل فإما نص أو قياس أو إجماع فإن كان بنص أو قياس فلا بد من إظهاره ولو ظهر لم يكن إثبات الحكم في محل الخلاف بناء على الاستصحاب بل بناء على ما ظهر من النص أو القياس.
وإن كان بالإجماع فلا إجماع في محل الخلاف وإن كان الإجماع قبل خروج الخارج ثابتاً.
قلنا: متى يفتقر الحكم في بقائه إلى دليل إذا قيل بنزوله منزلة الجواهر أو الأعراض؟ الأول ممنوع بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع لا بدليل لما سبق تقريره في المسألة المتقدمة والثاني مسلم ولكن لم قلتم إنه نازل منزلة الأعراض؟ سلمنا أنه نازل منزلة الأعراض وأنه لا بد له من دليل ولكن لا نسلم انحصار الدليل المبقى فيما ذكروه من النص والإجماع والقياس إلا أن يبينوا أن الاستصحاب ليس بدليل وهو موضوع النزاع.
سلمنا أن الاستصحاب بنفسه لا يكون دليلا على الحكم الباقي بنفسه ولكنه دليل الدليل على الحكم وذلك لأنا بينا في المسألة المتقدمة وجود غلبة الظن ببقاء كل ما كان متحققا على حاله وذلك يدل من جهة الإجمال على دليل موجب لذلك الظن.
القسم الثاني
فيما ظن أنه دليل صحيح وليس كذلك
وهو أربعة أنواع : النوع الاول شرع من قبلنا. وفيه مسألتان : المسألة الأولى : اختلفوا في النبي عليه السلام قبل بعثته هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله ؟ فمنهم من نفى ذلك كأبي الحسين البصري وغيره ومنهم من أثبته ثم اختلف المثبتون فمنهم من نسبه إلى شرع نوح ومنهم من نسبه إلى شرع ابراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى.ومن الأصوليين من قضى بالجواز وتوقف في الوقوع كالغزالي والقاضي عبد الجبار وغيرهما من المحققين وهو المختار.
أما الجواز فثابت وذلك لأنه لو امتنع إما أن يمتنع لذاته أو لعدم المصلحة في ذلك أو لمعنى آخر الأول ممتنع فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته في العقل محال.
والثاني فمبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وبتقدير رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى فغير بعيد أن يعلم الله تعالى أن مصلحة الشخص قبل نبوته في تكليفه بشريعة من قبله.
والثالث فلا بد من إثباته إذ الأصل عدمه.
وأما الوقوع فيستدعي دليلاً والأصل عدمه وما يتخيل من الأدلة الدالة على الوقوع وعدمه فمع عدم دلالتها في أنفسها متعارضة كما يأتي وليس التمسك بالبعض منها أولى من البعض.
فإن قيل الدليل على أنه لم يكن قبل البعثة متعبداً بشريعة أحد قبله أنه لو كان متعبداً بشريعة من الشرائع السالفة لنقل عنه فعل ما تعبد به واشتهر تلبسه بتلك الشريعة ومخالطة أهلها كما هو الجاري من عادة كل متشرع بشريعة وقد عرفت أحواله قبل البعثة ولم ينقل عنه شيء من ذلك.
وأيضاً فإنه لو كان متعبدا ببعض الشرائع السالفة لافتخر أهل تلك الشريعة بعد بعثته واشتهاره وعلو شأنه بنسبته إليهم وإلى شرعهم.ولم ينقل شيء من ذلك.
سلمنا أنه لا دليل يدل على عدم تعبده بشرع من قبله ولكن لا نسلم عدم الدليل الدال على تعبده بشرع من قبله ويدل على ذلك أمران.
الأول: أن كل من سبق من المرسلين كان داعيا إلى اتباع شرعه كل المكلفين وكان النبي عليه السلام داخلا في ذلك العموم.
الثاني: أنه عليه السلام قبل البعثة كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت ويعظمه ويذكي ويأكل اللحم ويركب البهائم ويستسخرها ويتجنب الميتة وذلك كله مما لا يرشد إليه العقل ولا يحسن بغير الشرع.
والجواب عن الاعتراض الأول أنه مقابل بأنه لو لم يكن على شريعة من الشرائع ولا متعبداً بشيء منها لظهر منه التلبس بخلاف ما أهل تلك الشرائع متلبسون به.
واشتهرت مخالفته لهم في ذلك وكانت الدواعي متوفرةً على نقله ولم ينقل عنه شيء من ذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
وعن الاعتراض الأول للمذهب الثاني بمنع دعوة من سبق من الأنبياء لكافة المكلفين إلى اتباعه فإنه لم ينقل في ذلك لفظ يدل على التعميم ليحكم به.
وبتقدير نقله فيحتمل أن يكون زمان نبينا عليه السلام زمان اندراس الشرائع المتقدمة وتعذر التكليف بها لعدم نقلها وتفصيلها ولذلك بعث في ذلك الزمان.
وعن الاعتراض الثاني أنا لا نسلم ثبوت شيء مما ذكروه بنقل يوثق به وبتقدير ثبوته لا يدل ذلك على أنه كان متعبداً به شرعاً لاحتمال أن تكون صلاته وحجته وعمرته وتعظيمه للبيت بطريق التبرك بفعل مثل ما نقل جملته عن أفعال الأنبياء المتقدمين واندرس تفصيله.
وأما أكل اللحم وذبح الحيوان واستسخاره للبهائم فإنما كان بناء منه على أنه لا تحريم قبل ورود الشرع.
وأما تركه للميتة بناء على عيافة نفسه لها كعيافته لحم الضب أما أن يكون متعبداً بذلك شرعاً فلا.
المسألة الثانية اختلفوا في النبي عليه السلام وأمته بعد البعث هل هم متعبدون بشرع من تقدم ؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد في إحدى الراويتين عنه وعن بعض أصحاب الشافعي أن النبي عليه السلام كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها.
ومذهب الأشاعرة والمعتزلة المنع من ذلك وهو المختار ويدل على ذلك أمور أربعة.
الأول: أن النبي عليه السلام لما بعث معاذاً إلى اليمن قاضياً قال له: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله.قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي " ولم يذكر شيئاً من كتب الأنبياء الأولين وسننهم والنبي عليه السلام أقره على ذلك ودعا له وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " ولو كانت من مدارك الأحكام الشرعية لجرت مجرى الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها ولم يجز العدول عنها إلى اجتهاد الرأي إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها.
الثاني: أنه لو كان النبي عليه السلام متعبداً بشريعة من قبله وكذلك أمته لكان تعلمها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على النبي عليه السلام مراجعتها وأن لا يتوقف على نزول الوحي في أحكام الوقائع التي لا خلو للشرائع الماضية عنها ولوجب أيضاً على الصحابة بعد النبي عليه السلام مراجعتها والبحث عنها والسؤال لناقليها عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم كمسألة الجد والعول وبيع أم الولد والمفوضة وحد الشرب وغير ذلك على نحو بحثهم عن الأخبار النبوية في ذلك وحيث لم ينقل شيء من ذلك علم أن شريعة من تقدم غير متعبد بها لهم.
الثالث: أنه لو كان متعبداً باتباع شرع من قبله إما في الكل أو البعض لما نسب شيء من شرعنا إليه على التقدير الأول ولا كل الشرع إليه على التقدير الثاني كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى من هو متعبد بشرعه من أمته وهو خلاف الإجماع من المسلمين.
الرابع: أن إجماع المسلمين على أن شريعة النبي عليه السلام ناسخة لشريعة من تقدم فلو كان متعبداً بها لكان مقرراً لها ومخبراً عنها لا ناسخاً لها ولا مشرعاً وهو محال.
فإن قيل على الحجة الأولى: إنما لم يتعرض معاذ لذكر التوراة والإنجيل إكتفاء منه بآيات في الكتاب تدل على اتباعهما على ما يأتي ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل لكونهما من الكتب المنزلة.
وأما الحجة الثانية: لا نسلم أن تعلم ما قيل بالتعبد به من الشرائع ليس من فروض الكفايات ولا نسلم عدم مراجعة النبي عليه السلام لها.
ولهذا نقل عنه مراجعة التوارة في مسألة الرجم وما لم يراجع فيه شرع من تقدم إما لأن تلك الشرائع لم تكن مبينة له أو لأنه ما كان متعبداً باتباع الشريعة السالفة إلا بطريق الوحي ولم يوح اليه به.
وأما عدم بحث الصحابة عنها فإنما كان لأن ما تواتر منها كان معلوما لهم وغير محتاج إلى بحث عنه وما كان منها منقولاً على لسان الآحاد من الكفار لم يكونوا متعبدين به.
وأما الحجة الثالثة: فإنما ينسب إليه ما كان متعبداً به من الشرائع بأنه من شرعه بطريق التجوز لكونه معلوما لنا بواسطته وإن لم يكن هو الشارع له.
وأما الحجة الرابعة فنحن نقول بها وأن ما كان من شرعه مخالفاً لشرع من تقدم فهو ناسخ له وما لم يكن من شرعه بل هو متعبد فيه باتباع شرع من تقدم فلا.
ولهذا فإنه لا يوصف شرعه بأنه ناسخ لبعض ما كان مشروعاً قبله كوجوب الإيمان وتحريم الكفران والزنى والقتل والسرقة وغير ذلك مما شرعنا فيه موافق لشرع من تقدم.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على مطلوبكم لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة الكتاب والسنة.
أما من جهة الكتاب فآيات.
الأولى: قوله تعالى في حق الأنبياء: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الأنعام90 أمره باقتدائه بهداهم وشرعهم من هداهم فوجب عليه اتباعه.
الثانية: قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 وقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى13 فدل على وجوب اتباعه لشريعة نوح.
الثالثة: قوله تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " النحل 123 أمره باتباع ملة ابراهيم والأمر للوجوب.
الرابعة: قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " المائدة 44 والنبي عليه السلام من جملة النبيين فوجب عليه الحكم بها.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى التوراة في رجم اليهودي وأيضاً ما روي عنه عندما طلب منه القصاص في سن كسرت فقال: " كتاب الله يقضي بالقصاص " وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة وهو قوله تعالى فيها: " السن بالسن " المائدة 45 وأيضاً ما روي عنه أنه قال: " من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها " وتلا قوله تعالى: " أقم الصلاة لذكري طه 14 وهو خطاب مع موسى عليه السلام.
والجواب قولهم: إنما لم يذكر معاذ التوراة والإنجيل لدلالة القرآن عليهما لا نسلم ذلك وما يذكرونه في ذلك فسيأتي الكلام عليه.
وإن سلمنا ذلك لكن لا يكون ذلك كافياً عن ذكرهما كما لو لم يكن ما في القرآن من ذكر السنة والقياس على ما بيناه كافيا عن ذكرهما أو أن لا يكون إلى ذكر السنة والقياس في خبر معاذ حاجة وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل.
قولهم: إن الكتب السالفة مندرجة في لفظ الكتاب ليس كذلك لأن المتبادر من إطلاق لفظ الكتاب في شرعنا عند قول القائل: قرأت كتاب الله وحكمت بكتاب الله ليس غير القرآن.
وذلك لما علم من معاناة المسلمين لحفظ القرآن ودراسته والعمل بموجباته دون غيره من الكتب السالفة.
قولهم لا نسلم أن تعلم ما تعبد به من الشرائع الماضية ليس فرضاً على الكفاية قلنا لأن إجماع المسلمين قبل ظهور المخالفين على أنه لا تأثيم بترك النظر على كافة المجتهدين في ذلك وأما مراجعة النبي عليه السلام التوراة فإنما كان لإظهار صدقه فيما كان قد أخبر به من أن الرجم مذكور في التوراة وإنكاره اليهود ذلك لا لأن يستفيد حكم الرجم منها ولذلك فإنه لم يرجع إليها فيما سوى ذلك.
وما ذكروه في امتناع بحث الصحابة عن ذلك فغير صحيح لأن ما نقل من ذلك متواتراً إنما يعرفه من خالط النقلة له وكان فاحصاً عنه ولم ينقل عن أحد من الصحابة شيء من ذلك كيف وإنه قد كان يمكن معرفة ذلك ممن أسلم من أحبار اليهود وهو ثقة مأمون كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ولم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الأمة السؤال لهم عن ذلك.
وما ذكروه على الحجة الثالثة فترك للظاهر المشهور المتبادر إلى الفهم من غير دليل فلا يسمع.
وما ذكروه على الحجة الرابعة فمندفع وذلك لأن إطلاق الأمة أن شرع النبي عليه السلام ناسخ للشرائع السالفة بينهم يفهم منه أمران أحدهما رفع أحكامها والثاني أنه غير متعبد بها.
فما لم يثبت رفعه من تلك الأحكام بشرعه ضرورة استمراره فلا يكون ناسخا له فيبقى المفهوم الآخر وهو عدم تعبده به.
ولا يلزم من مخالفة دلالة الدليل على أحد مدلوليه مخالفته بالنظر إلى المدلول الآخر.
والجواب عن المعارضة بالآية الأولى أنه إنما أمره باتباع هدى مضاف إلى جميعهم مشترك بينهم دون ما وقع به الخلاف فيما بينهم والناسخ والمنسوخ منه لاستحالة اتباعه وامتثاله والهدى المشترك فيما بينهم إنما هو التوحيد والأدلة العقلية الهادية إليه وليس ذلك من شرعهم في شيء.
ولهذا قال: " فبهداهم اقتده " الأنعام 90 ولم يقل بهم وبتقدير أن يكون المراد من الهدي المشترك ما اتفقوا فيه من الشرائع دون ما اختلفوا فيه فاتباعه له إنما كان بوحي إليه وأمر مجدد لا أنه بطريق الاقتداء بهم.
وعن قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 أنه لا دلالة له على أنه موحى إليه بعين ما أوحي به إلى نوح والنبيين من بعده حتى يقال باتباعه لشريعتهم بل غايته أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين قطعا لاستبعاد ذلك وإنكاره.
وبتقدير أن يكون المراد به أنه أوحى إليه بما أوحى به إلى غيره من النبيين فغايته أنه أوحى إليه بمثل شريعة من قبله بوحي مبتدإ لا بطريق الاتباع لغيره.
وعن قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى 13 أن المراد من الدين إنما هو أصل التوحيد لا ما اندرس من شريعته.
ولهذا لم ينقل عن النبي عليه السلام البحث عن شريعة نوح وذلك مع التعبد بها في حقه ممتنع وحيث خصص نوحاً بالذكر مع اشتراك جميع الأنبياء في الوصية بالتوحيد كان تشريفاً له وتكريما كما خصص روح عيسى بالإضافة إليه والمؤمنين بلفظ العباد وعن قوله تعالى : " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " النحل 123 أن المراد بلفظ الملة إنما هو أصول التوحيد وإجلال الله تعالى بالعبادة دون الفروع الشرعية ويدل على ذلك أربعة أوجه الأول أن لفظ الملة لا يطلق على الفروع الشرعية بدليل أنه لا يقال ملة الشافعي وملة أبي حنيفة لمذهبيهما في الفروع الشرعية.
الثاني: أنه قال عقيب ذلك وما كان من المشركين ذكر ذلك في مقابلة الدين ومقابل الشرك إنما هو التوحيد.
الثالث: أنه قال: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة 130 ولو كان المراد من الدين الأحكام الفرعية لكان من خالفه فيها من الأنبياء سفيها وهو محال.
الرابع: أنه لو كان المراد من الدين فروع الشريعة لوجب على النبي عليه السلام البحث عنها لكونه مأموراً بها وذلك مع اندراسها ممتنع ثم وإن سلمنا أن المراد بالملة الفروع الشرعية غير أنه إنما وجب عليه اتباعها بما أوحى ولهذا قال: ثم أوحينا إليك.
وعن قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة " المائدة 44 الاية أن قوله : " يحكم بها النبيون صيغة إخبار لا صيغة أمر وذلك لا يدل على وجوب اتباعها وبتقدير أن يكون ذلك أمراً فيجب حمله على ما هو مشترك الوجوب بين جميع الأنبياء وهو التوحيد دون الفروع الشرعية المختلف فيها فيما بينهم لإمكان تنزيل لفظ النبيين على عمومه بخلاف التنزيل على الفروع الشرعية كيف وإن هذه الآيات متعارضةً والعمل بجميعها ممتنع وليس العمل بالبعض أولى من البعض.
وعن الخبر الأول: وهو رجوع النبي عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهودي ما سبق.
وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن بالسن ودليله قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " البقرة 194 وهو عام في السن وغيره.
وعن الخبر الثالث: أنه لم يذكر الخطاب مع موسى لكونه موجباً لقضاء الصلاة عند النوم والنسيان وإنما أوجب ذلك بما أوحى إليه ونبه على أن أمته مأمورة بذلك كما أمر موسى عليه السلام.
ثم ما ذكرتموه من النقل معارض بقوله عليه السلام: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وكل نبي بعث إلى قومه والنبي عليه السلام لم يكن من أقوام الأنبياء المتقدمين فلا يكون متعبداً بشرعهم وبما روي عنه عليه السلام أنه رأى مع عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال ألم آت بها بيضاء نقية لو أدركني أخي موسى لما وسعه إلا اتباعي أخبر بأن موسى لو كان حياً لما وسعه إلا اتباعه فلأن لا يكون النبي عليه السلام متبعاً لموسى بعد موته أولى وربما عورض أيضاً بقوله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " المائدة 48 والشرعة الشريعة والمنهاج الطريق وذلك يدل على عدم اتباع الأخير لمن تقدم من الأنبياء لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من اختص بها دون التابع لها ولا حجة فيه فإن الشرائع وإن اشتركت في شيء فمختلفة في أشياء.
وباعتبار ما به الاختلاف بينها كانت شرائع مختلفةً وذلك كما يقال لكل إمام مذهب باعتبار اختلاف الأئمة في بعض الأحكام وإن وقع الاتفاق بينهم في كثير منها.
وربما أورد النفاة في ذلك طرقاً أخرى شتى ضعيفةً آثرنا الإعراض عن ذكرها.
وكما أن النبي عليه السلام لم يكن متعبداً بشريعة من تقدم إلا بوحي مجدد لم يكن قبل بعثته على ما كان قومه عليه بل كان متجنباً لأصنامهم معرضاً عن أزلامهم ولا يأكل من ذبائحهم على النصب هذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأئمة المسلمين.
ومن الأصوليين من قال بالوقف وهو بعيد.
النوع الثاني: مذهب الصحابي وفيه مسألتان : المسألة الأولى اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجةً على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً.
واختلفوا في كونه حجةً على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين: فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحجة وذهب مالك بن انس والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد بن حنبل في رواية له إلى أنه حجة مقدمة على القياس وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما.
والمختار أنه ليس بحجة مطلقاً.
وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك.
الحجة الأولى قوله تعالى : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول فالرد إلى مذهب الصحابي يكون تركاً للواجب وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله تعالى: " فردوه إلى الله والرسول " يدل على الوجوب على ما سبق تقريره فالرد إلى مذهب الصحابي لا يكون تركاً للواجب.
وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند إمكان الرد وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبيناً في الكتاب أو السنة: وأما بتقدير أن لا يكون مبيناً فيهما فلا ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة.
الحجة الثانية قالوا: أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر ولو كان مذهب الصحابي حجةً لما كان كذلك وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال.
ولقائل أن يقول: الخلاف إنما هو في كون مذهب الصحابي حجةً على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم لا مجتهدة الصحابة فلم يكن الإجماع دليلاً على محل النزاع.
الحجة الثالثة: أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من امتناع وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله امتناع وجوب عمل التابعي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم.
الحجة الرابعة: أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر كما في مسائل الجد مع الأخوة وقوله: أنت علي حرام كما سبق تعريفه فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفةً متناقضةً ولم يكن اتباع التابعي للبعض أولى من البعض.
ولقائل أن يقول: اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها عن كونها حججاً في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ويكون العمل بالواحد منها متوققاً على الترجيح ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب الوقف أو التخيير كما عرف فيما تقدم.
الحجة الخامسة: أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ فلا يقدم على القياس كالتابعي.
ولقائل أن يقول: اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على القياس كخبر الواحد ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس امتناع ذلك في مذهب الصحابي لما بيناه من الفرق بينهما.
الحجة السادسة: أن التابعي المجتهد متمكن من تحصيل الحكم بطريقه فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول.
ولقائل أن يقول: اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليداً له إن لو لم يكن قوله حجةً متبعةً وهو محل النزاع وخرج عليه الأصول فإن القطع واليقين معتبر فيها ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة فكان اتباعه في مذهبه تقليداً من غير دليل وذلك لا يجوز
والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " أوجب الاعتبار وأراد به القياس كما سبق تقريره في إثبات كون القياس حجةً وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي وتقديمه على القياس.
فإن قيل: لا نسلم دلالة على وجوب اتباع القياس وقد سبق تقريره من وجوه سلمنا دلالته على ذلك لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف " آل عمران 110 وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف والأمر بالمعروف واجب القبول.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله عليه السلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ولا يمكن حمل ذلك على مخاطبة العامة والمقلدين لهم لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ولما فيه من إبطال فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير الصحابة من المجتهدين فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم.
وأما الإجماع فهو أن عبد الرحمن بن عوف ولي علياً رضي الله عنه الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً.
وأما المعقول فمن وجوه.
الأول: أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال مستند أو يكون: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلاً في الشريعة بحكم لا دليل عليه وهو محرم وحال الصحابي العدل ينافي ذلك وإن كان الثاني فلا مستند وراء القياس سوى النقل فكان حجةً متبعة.
الثاني: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجةً فكان حجةً مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام.
الثالث: أن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد فإن كان الأول كان حجةً وإن كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده لترجحه بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي فوجب اتباعه له.
والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه.
وعن القوادح ما سبق.
وعن المعارضة بالكتاب أنه لا دلالة فيه لما سبق في إثبات الإجماع وإن كان دالا فهو خطاب مع جملة الصحابة ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجةً أن يكون قول الواحد والاثنين حجةً.
وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضاً لما سبق في الإجماع ولأن الخبر الأول وإن كان عاماً في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه.
وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني.
وعن الإجماع أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على عبد الرحمن وعثمان ذلك لأنهم حملوا لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجةً على غيره من الصحابي المجتهدين كيف وإنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما فالقائل بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم اتباعه على غيره من المجتهدين ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار إما على علي حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجباً وإما على عثمان وعبد الرحمن بن عوف إن كان الاقتداء بالشيخين محرماً وذلك ممتنع.
عن المعارضة الأولى: من المعقول أنها منتقضة بمذهب التابعي فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق.
وعن الثانية: أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر أيكون ذلك إجماعاً أم لا يكون إجماعاً فإن كان الأول فالحجة في الإجماع لا في مذهب الصحابي وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر وإن كان الثاني فلا حجة فيه مطلقاً كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجةً ولا يكون حجةً بتقدير عدم انتشاره إجماعاً.
وعن الثالثة: لا نسلم أن مستنده النقل لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه لأنه من العلوم النافعة
وقد قال عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار " وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند ذلك فلا يكون حجةً على غيره من المجتهدين بعده لجواز أن يكون دون غيره في الاجتهاد وإن كان متميزاً بما ذكروه من الصحبة ولوازمها.
ولهذا قال عليه السلام: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ثم هو منتقض بمذهب التابعي فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين وإن كانت نسبته إلى تابعي التابعين كنسبة الصحابي إليه.
المسألة الثانية إذا ثبت أن مذهب الصحابي ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده ؟ أما العامي فيجوز له ذلك من غير خلاف وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم فيجوز له تقليده إن جوزنا تقليد العالم للعالم وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول الشافعي في جواز تقليد العالم من التابعين للعالم من الصحابة فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في القديم غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارةً والمختار امتناع ذلك مطلقاً لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث: الاستحسان وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأنكره الباقون حتى نقل عن الشافعي أنه قال من استحسن فقد شرع.
ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول.
الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازاً وامتناعاً لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18 وقوله تعالى: " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الأعراف 145 وأما السنة فقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " وأما الإطلاق فما نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل ولا تقدير مدة السكون فيها وتقدير أجرته واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه.
وقد نقل عن الشافعي أنه قال: أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهماً وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة وقال في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا تقطع.
فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته ولا شك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره وهو في اللغة استفعال من الحسن وليس ذلك هو محز الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع الله تعالى بشهواته وهواه من غير دليل شرعي وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك.
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في تعريفه بحده: فمنهم من قال إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه.
والوجه في الكلام عليه أنه إن تردد فيه بين أن يكون دليلاً محققاً ووهماً فاسداً فلا خلاف في امتناع التمسك به وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به أيضاً وإن كان ذلك في غاية البعد وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ولا حاصل للنزاع اللفظي.
ومنهم من قال إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب أو السنة أو العادة.
أما الكتاب فكما في قول القائل: مالي صدقة فإن القياس لزوم التصدق بكل مال له وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " التوبة 103 ولم يرد به سوى مال الزكاة.
وأما السنة فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار رمضان والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسياً الله أطعمك وسقاك.
وأما العادة فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء المستعمل في الحمام وتقدير السكنى فيها ومقدار الأجرة كما ذكرناه فيما تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك.
ومنهم من قال إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة وقد عرف ما فيه.
وقال الكرخي: الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل المخصص والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس باستحسان عندهم.
وقال أبو الحسين البصري: هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارىء على الأول وقصد بقوله: غير شامل شمول الألفاظ الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس لكونه لفظاً شاملاً وبقوله: وهو في حكم الطارىء الاحتراز عن قولهم: تركنا الاستحسان بالقياس فإنه ليس استحساناً من حيث إن القياس الذي ترك له الاستحسان ليس في حكم الطارىء بل هو الأصل وذلك كما لو قرأ أية سجدة في آخر سورة فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزىء بالركوع ومقتضى القياس أن يجتزىء بالركوع فإنهم قالوا بالعدول هاهنا عن الاستحسان إلى القياس.
وهذا الحد وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعاً مانعاً غير أن حاصله يرجع إلى تفسير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارىء عليه أقوى منه من نص أو إجماع أو غيره ولا نزاع في صحة الاحتجاج به.
وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ولا حاصل له وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة وهو أن يقال: إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأمة من أهل الحل والعقد فهو حق وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع.
وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به.
وإذا تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها القائلون بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجةً مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه والإشارة إلى جهة ضعفها.
وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18 وقوله تعالى: " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " الزمر 55.
ووجه الاحتجاج بالآية الأولى ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ولولا أنه حجة لما كان كذلك.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسناً.
وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة.
والجواب عن الآية الأولى أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول وهو محل النزاع.
وعن الآية الثانية: أنه لا دلالة أيضاً فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل فضلاً عن كونه أحسن ما أنزل.
وعن الخبر كذلك أيضاً فإن قوله: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " إشارة إلى إجماع المسلمين والإجماع حجة ولا يكون الا عن دليل وليس فيه دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسناً أنه حسن عند الله وإلا كان ما رآه آحاد العوام من المسلمين حسناً أن يكون حسناً عند الله وهو ممتنع.
وعن الإجماع على استحسان ما ذكروه لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على صحته بل الدليل ما دل على استحسانهم له وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك.
النوع الرابع: المصالح المرسلة وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها وانقسامها باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة وملغاة وإلى ما لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ولم يبق غير القسم الثالث وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل وهذا أوان النظر فيه.
وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ولعل النقل إن صح عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعاً لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ولا وقوعه قطعي وذلك كما لو تترس الكفار بجماعة من المسلمين بحيث لو كففنا عنهم لغلب الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ولو رمينا الترس وقتلناهم اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعاً غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا جريمة له.
فهذا القتل وإن كان مناسباً في هذه الصورة والمصلحة ضرورية كلية قطعية غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة.
وإذا عرف ذلك فالمصالح على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى.
فإن قيل: ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل وهو غير متصور وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في بعض الأحكام وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر وكان من قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم وقد قلتم به قلنا وكما أنه من جنس المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة فإن كان يلزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس المصالح الملغاة وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبراً ملغى بالنظر إلى حكم واحد وهو محال.
وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبراً بالجنس القريب منه لنأمن إلغاءه والكلام فيما إذا لم يكن كذلك.
القاعدة الثالثة
في المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين
وتشتمل على بابين:الباب الأول
في المجتهدين
ويشتمل على مقدمة ومسائل.أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.
أما الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال اجتهد في حمل خردلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
فقولنا: استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات وغيرها.
وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهاداً معتبراً.
وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان.
الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محققاً.
ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها.
وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأن يكون عارفاً بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الإحكامية عالما باللغة والنحو ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي وفي النحو كسيبويه والخليل بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمين والالتزام والمفرد والمركب والكلي منها والجزئي والحقيقة والمجاز والتواطىء والاشتراك والترادف والتباين والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله.
وذلك كله أيضاً إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه.
وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في المسائل المتكثرة بالغاً رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلاً ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها.
فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألةً فقال في ست وثلاثين منها لا أدري.
وأما ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فقولنا: من الأحكام الشرعية تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها.
وقولنا: دليله ظني تمييز له عما كان دليله منها قطعياً كالعبادات الخمس ونحوها فإنها ليست محلاً للاجتهاد فيها لأن المخطىء فيها يعد آثماً والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطىء فيها باجتهاده آثماً.
هذا ما أردناه من بيان المقدمة وأما المسائل فاثنتا عشرة مسألة.
المسألة الاولى اختلفوا في أن النبي عليه السلام هل كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف إنه كان متعبداً به وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إنه لم يكن متعبداً به.
وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري ومن الناس من قال إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب دون الأحكام الشرعية.
والمختار جواز ذلك عقلاً ووقوعه سمعاً.
أما الجواز العقلي فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك وقال له: حكمي عليك أن تجتهد وتقيس لم يلزم عنه لذاته محال عقلا ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار على العموم لأهل البصائر والنبي عليه السلام أجلهم في ذلك فكان داخلاً في العموم وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس على ما سبق تقريره في إثبات القياس على منكريه.
وأيضاً قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 وما أراه يعم الحكم بالنص والاستنباط من النصوص وأيضاً قوله تعالى: " وشاورهم في الأمر " آل عمران 159 والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي.
وأيضاً قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام في أسارى بدر وقد أطلقهم: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " الأنفال 67 فقال عليه السلام: لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلا عمر لأنه كان قد أشار بقتلهم وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد لا بالوحي.
وأيضا قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطإ وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي فلم يبق سوى الاجتهاد وليس ذلك خاصاً بالنبي عليه السلام بل كان غيره أيضاً من الأنبياء متعبداً بذلك.
ويدل عليه قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " الأنبياء 78 الآية وقوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي.
وأما السنة فما روى الشعبي أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به فيترك ما قضى به على حاله ويستقبل ما نزل به القرآن والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد.
وأيضاً ما روي عنه أنه قال في مكة لا يختلا خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس: إلا الأذخر فقال عليه السلام: إلا الأذخر ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد.
وأيضاً ما روى عنه عليه السلام أنه قال: " العلماء ورثة الأنبياء " وذلك يدل على أنه كان متعبداً بالاجتهاد والا لما كانت علماء أمته وارثة لذلك عنه وهو خلاف الخبر.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بدلالة النص لظهوره وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب لقوله عليه السلام لعائشة: " ثوابك على قدر نصبك " وقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمدها " أي أشقها فلو لم يكن النبي عليه السلام عاملاً بالاجتهاد مع عمل أمته به لزم اختصاصهم بفضيلة لم توجد له وهو ممتنع فإن آحاد أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أفضل من النبي في شيء أصلاً.
الثاني: أن القياس هو النظر في ملاحظة المعنى المستنبط من الحكم المنصوص عليه وإلحاق نظير المنصوص به بواسطة المعنى المستبنط والنبي عليه السلام أولى بمعرفة ذلك من غيره لسلامة نظره وبعده عن الخطإ والإقرار عليه.
وإذا عرف ذلك فقد ترجح في نظره إثبات الحكم في الفرع ضرورة فلو لم يقض به لكان تاركاً لما ظنه حكماً لله تعالى على بصيرة منه وهو حرام بالإجماع.
فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان الجواز العقلي فالاعتراض عليه يأتي فيما نذكره من المعقول.
وأما الآية الأولى: فقد سبق الاعتراض عليها فيما تقدم.
وأما قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 أي بما أنزل إليك.
وأما الآية الثالثة فالمراد منها المشاورة في أمور الحروب والدنيا وكذلك العتاب في قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 وأما عتابه في أسارى بدر فلعله كان مخيراً بالوحي بين قتل الكل أو إطلاق الكل أو فداء الكل فأشار بعض الأصحاب بإطلاق البعض دون البعض فنزل العتاب للذين عينوا لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه ورد بصيغة الجمع في قوله تريدون عرض الدنيا والمراد به أولئك خاصة.
وأما الخبر الأول: فهو مرسل ولا حجة في المراسيل كما سبق وإن كان حجة غير أنه يحتمل أنه كان يقضي بالوحي والوحي الثاني يكون ناسخاً للأول.
أما الخبر الثاني: فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريدا لاستثناء الإذخر فسبقه به العباس.
وأما الخبر الثالث: فيدل على أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء ولا نسلم أن الاجتهاد كان للأنبياء حتى يكون موروثاً عنهم كيف ويحتمل أنه أراد به الإرث في تبليغ أحكام الشرع إلى العامة كما كان الأنبياء مبلغين للمبعوث إليهم ويحتمل أنه أراد به الإرث فيما كان للأنبياء في حفظ قواعد الشريعة.
وأما الوجه الأول: من المعقول فالثواب فيما عظمت مشقته وإن كان أكثر ولكن لا يلزم منه ثبوته للنبي عليه السلام وإلا لما ساغ له الحكم إلا بالاجتهاد تحصيلاً لزيادة الثواب وهو ممتنع واختصاص علماء الأمة بذلك دون النبي عليه السلام لا يوجب كونهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم مع اختصاصه بمنصب الرسالة ورتبة النبؤة وتشريفه بالبعثة وهداية الخلق بعد الضلالة على جهة العموم.
وأما الوجه الثاني: وإن كان النبي عليه السلام أشد علماً من غيره بمعرفة القياس وجهات الاستنباط إلا أن وجوب العمل به في حقه مشروط بعدم معرفة الحكم بالوحي وهذا الشرط مما لم يتبين في حقه عليه السلام فلا مشروط وهذا بخلاف علماء أمته فافترقا.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعبده بالقياس والاجتهاد غير أنه معارض بما يدل على عدمه.
وبيانه من جهة الكتاب والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وقوله تعالى: " ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وذلك ينفي أن يكون الحكم الصادر عنه بالاجتهاد.
وأما المعقول فمن عشرة أوجه:
الأول: أن النبي عليه السلام نزل منزلاً فقيل له: إن كان ذلك عن وحي فالسمع والطاعة وإن كان ذلك عن رأي فليس ذلك منزل مكيدة فقال: بل هو بالرأي فدل على أنه تجوز مراجعته في الرأي وقد علم أنه لا تجوز مراجعته في الأحكام الشرعية فلا تكون عن رأي.
الثاني: أنه لو كان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاد لجاز أن لا يجعل أصلاً لغيره وأن يخالف فيه وأن لا يكفر مخالفه لأن جميع ذلك من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد.
الثالث: لو كان متعبداً بالاجتهاد لأظهره ولما توقف على الوحي فيما كان يتوفق فيه في بعض الوقائع لما فيه من ترك ما وجب عليه من الاجتهاد واللازم ممتنع.
الرابع: أن الاجتهاد لا يفيد سوى الظن والنبي عليه السلام كان قادرا على تلقي الأحكام من الوحي القاطع والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له الاجتهاد فيها.
الخامس: أن الأمور الشرعية مبنية على المصالح التي لا علم للخلق بها فلو قيل للنبي عليه السلام احكم بما ترى كان ذلك تفويضاً إلى من لا علم له بالأصلح وذلك مما يوجب اختلال المصالح الدينية والأحكام الشرعية.
السادس: أن لنا صواباً في الرأي وصدقاً في الخبر وقد أجمعنا على أن النبي عليه السلام ليس له أن يخبر بما لا يعلم كونه صدقاً فكذلك لا يجوز له الحكم بما لا علم له بصوابه.
السابع: أنه لو جاز أن يكون متعبداً بالاجتهاد لجاز أن يرسل الله رسولاً ويجعل له أن يشرع شريعة برأيه وأن ينسخ ما تقدمه من الشرائع المنزلة من الله تعالى وأن ينسخ أحكاما أنزلها الله تعالى عليه برأيه وذلك ممتنع.
الثامن: أنه لو جاز صدور الأحكام الشرعية عن رأيه واجتهاده فربما أورث ذلك تهمة في حقه وأنه هو الواضع للشريعة من تلقاء نفسه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو ممتنع.
التاسع: أن الاجتهاد عرضة للخطإ فوجب صيانة النبي عليه السلام عنه.
العاشر: أن الاجتهاد مشروط بعدم النص وهذا الشرط غير متحقق في حق النبي عليه السلام لأن الوحي متوقع في حقه في كل حالة.
والجواب عما ذكروه على الآية الأولى قد سبق فيما تقدم أيضاً.
وعما ذكروه على الآية الثانية من وجهين: الأول: أن الحكم بما استنبط من المنزل يكون حكماً بالمنزل لأنه حكم بمعناه ولهذا قال في آخر الآية: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 الثاني: أن حكمه بالاجتهاد حكم بما أراه الله فتقييده بالمنزل خلاف الإطلاق وعما ذكروه على الآية الثالثة: أنه إنما أمر بالمشاورة في أمر الفداء وهو من أحكام الدين لتعلقه بأعظم مصالح العبادات وبتقدير أن يكون كما ذكروه فهو حجة على من خالف فيه وبه دفع ما ذكروا على الآية الرابعة.
وعما ذكروه على العتاب في أسارى بدر فهو على خلاف عموم الخطاب الوارد في الآية وتخصيص من غير دليل فلا يصح.
وعما ذكروه على الخبر الأول من السنة بما بيناه فيما سبق من أن المرسل حجة.
وقولهم: يحتمل أنه كان يحكم بالوحي والوحي الثاني ناسخ له قلنا: النسخ خلاف الأصل لما فيه من تعطليل الدليل المنسوخ وذلك وإن كان نسخاً لما حكم به النبي عليه السلام غير أن تعطيل دليل الاجتهاد بنسخ حكمه أولى من تعطيل القرآن.
وعما ذكروه على الخبر الثاني أنه لو كان الإذخر مستثنىً فيما نزل إليه لكان تأخيره إلى ما بعد قول العباس تأخيراً للاستثناء عن المستثنى منه مع دعو الحاجة إلى اتصاله به حذراً من التلبيس خلاف الأصل.
وعما ذكروه على الخبر الثالث أن الظاهر من قوله: " العلماء ورثة الأنبياء " فيما اختصوا به من العلم مطلقاً فلو لم تكن علومهم الاجتهادية موروثة عن الأنبياء لكان ذلك تقييداً للمطلق وتخصيصاً للعام من غير ضرورة وهو ممتنع وبه يبطل ما ذكروه من التأويلات.
وعما ذكروه على الوجه الأول من المعقول إنما يصح أن لو كان ذلك ممكناً في جميع الأحكام وليس كذلك فان الاجتهاد بالقياس يستدعي أصلاً ثابتاً لا بالاجتهاد قطعاً للتسلسل.
قولهم: إنه قد اختص بمنصب الرسالة فلا يكون أحد أفضل منه قلنا: وإن كان كذلك غير أن زيادة الثواب بزيادة المشقة نوع فضيلة فيبعد اختصاص أحد من أمته بفضيلة لا تكون موجودة في حق النبي عليه السلام وإلا كان أفضل منه من تلك الجهة وهو بعيد.
وعما ذكروه على الثاني من المعقول أنه باطل باجتهاد أهل عصره فإنه كان واقعاً بدليل تقريره لمعاذ على قوله: أجتهد رأيي ولم يكن احتمال معرفة الحكم بورود الوحي إلى النبي عليه السلام مانعا من الاجتهاد في حقه وإنما المانع وجود النص لاحتمال وجوده.
وعن المعارضة بالآية الأولى أنها إنما تتناول ما ينطق به واجتهاده من فعله لا من نطقه والخلاف إنما هو في الاجتهاد لا في النطق.
فإن قيل فإذا اجتهد فلا بد وأن ينطق بحكم اجتهاده والإخبار عما ظنه من الحكم فتكون الآية متناولةً له ومن المعلوم أن ما ينطق به إذا كان مستنده الاجتهاد فليس عن وحي وإن لم يكن عن هوى.
قلنا: إذا كان متعبداً بالاجتهاد من قبل الشارع وقيل له مهما ظننت باجتهادك حكما فهو حكم الشرع فنطقه بذلك يكون عن وحي لا عن هوىً.
وعن الآية الثانية: أنها إنما تدل على أن تبديله للقرآن ليس من تلقاء نفسه وإنما هو بالوحي والنزاع إنما وقع في الاجتهاد والاجتهاد وإن وقع في دلالة القرآن فذلك تأويل لا تبديل.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول أن المراجعة إنما كانت في أمر دنيوي متعلق بالحروب وليس ذلك من المراجعة في أحكام الشرع في شيء.
وعن الثانية: لا نسلم أن ما ذكروه من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد بدليل إجماع الأمة على الاجتهاد واجتهاد النبي عليه السلام لا يتقاصر عن اجتهاد الأمة الذين ثبتت عصمتهم بقول الرسول إن لم يكن مترجحاً عليه.
وعن الثالثة: أنه لا مانع أن يكون متعبداً بالاجتهاد وإن لم يظهره صريحاً لمعرفة ذلك لما ذكرناه من الأدلة.وأما تأخره عن جواب بعض ما كان يسأل عنه فلاحتمال انتظار النص الذي لا يجوز معه الاجتهاد إلى حين اليأس منه أو لأنه كان في مهلة النظر في الاجتهاد فيما سئل عنه فأن زمان الاجتهاد في الأحكام الشرعية غير مقدر.
وعن الرابعة: النقض بما وقع الإجماع عليه من تعبد النبي عليه السلام بالحكم بقول الشهود حتى قال: إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض مع إمكان انتظاره في ذلك لنزول الوحي الذي لا ريب فيه.
وعن الخامسة: أنها مبنية على وجوب اعتبار المصالح وهو غير مسلم على ما عرفناه في علم الكلام وإن سلمنا ذلك فلا مانع من إلهام الله تعالى له بالصواب فيما يجتهد فيه من الحوادث كيف وإن ما ذكروه منتقض بتعبد غيره بالاجتهاد.
وعن السادسة من ثلاثة أوجه: الأول: أنها تمثيل من غير جامع صحيح فلا تكون حجةً.
الثاني: الفرق وهو أن الإخبار بما لا يعلم كونه صادقاً قد لا نأمن فيه الكذب وهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك مما لا يجوز لأحد الإقدام عليه.
وأما الاجتهاد فعلى قولنا بأن كل مجتهد مصيب فالنبي أولى أن يكون مصيباً في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد مبني على أن الحكم عند الله تعالى واحد في كل واقعة في نفس الأمر وليس كذلك بل الحكم عند الله في كل واقعة ما أدى إليه نظر المجتهد على ما يأتي تقريره.
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بإجماع الأمة إذا كان عن اجتهاد.
وعن السابعة: أنها أيضاً تمثيل من غير جامع صحيح كيف وإنا لا نمنع من إرسال رسول بما وصفوه لا عقلاً ولا شرعاً فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ولا سيما إذا قلنا بأن المصالح غير معتبرة في أفعاله تعالى وإن قلنا إنها معتبرة فلا يبعد أن يعلم الله تعالى المصلحة للمكلفين في إرسال رسول بهذه المثابة ويعصمه عن الخطإ في اجتهاده كما في إجماع الأمة.
وعن الثامنة: أن التهمة منفية عنه في وضع الشريعة برأيه بما دل على صدقه فيما يدعيه من تبليغ الأحكام بجهة الرسالة من المعجزة القاطعة.
وعن التاسعة: أنا لا نسلم أن كل اجتهاد في الأحكام الشرعية عرضة للخطإ بدليل إجماع الصحابة على الاجتهاد.
واجتهاد النبي عليه السلام غير متقاصر عن اجتهاد أهل الإجماع فكان معصوما فيه عن الخطإ.
وعن العاشرة: أن المانع من الاجتهاد دائماً هو وجود النص لا إمكان وجود النص ثم ما ذكروه منتقض باجتهاد الصحابة في زمن النبي عليه السلام.
المسألة الثانية اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد النبي عليه السلام واختلفوا في جواز الاجتهاد لمن عاصره فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلاً ومنع منه الأقلون.
ثم اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أمور :
الأول: منهم من جوز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ومنهم من جوزه مطلقاً.
الثاني: أن منهم من قال بجواز ذلك مطلقاً إذا لم يوجد من ذلك منع ومنهم من قال لا يكتفي في ذلك بمجرد عدم المنع بل لا بد من الإذن في ذلك ومنهم من قال السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف.
الثالث: اختلفوا في وقوع التعبد به سمعاً: فمنهم من قال إنه كان متعبدا به ومنهم من توقف في ذلك مطلقاً كالجبائي ومنهم من توقف في حق من حضر دون من غاب كالقاضي عبد الجبار.
والمختار جواز ذلك مطلقاً وأن ذلك مما وقع مع حضوره وغيبته ظناً لا قطعاً.
أما الجواز العقلي فيدل عليه ما دللنا به على جواز ذلك في حق النبي عليه السلام في المسألة المتقدمة.
وأما بيان الوقوع: أما في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر رضي الله عنه في حق أبي قتادة حيث قتل رجلاً من المشركين فأخذ سلبه غيره لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه.فقال النبي عليه السلام: " صدق وصدق في فتواه " ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد.
وأيضاً ما روي عن النبي عليه السلام أنه حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي فقال عليه السلام: " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " .
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين وقال لهما: " إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة " وأما في غيبته فيدل عليه قصة معاذ وعتاب بن أسيد حين بعثهما قاضيين إلى اليمن.
فإن قيل: الموجود في عصر النبي عليه السلام قادر على معرفة الحكم بالنص وبالرسول عليه السلام.
والقادر على التوصل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ إذا عدل إلى الاجتهاد الذي لا يؤمن فيه الخطأ كان قبيحاً والقبيح لا يكون جائزاً.
وأيضاً فإن الحكم بالرأي في حضرة النبي عليه السلام من باب التعاطي والافتيات على النبي عليه السلام وهو قبيح فلا يكون جائزاً وهذا بخلاف ما بعد النبي عليه السلام.وأيضاً فإن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي عليه السلام ولو كان الاجتهاد جائزاً لهم لم يرجعوا إليه.
وأما ما ذكرتموه من أدلة الوقوع فهي أخبار آحاد لا تقوم الحجة بها في المسائل القطعية وبتقدير أن تكون حجةً فلعلها خاصة بمن وردت في حقه غير عامة.
والجواب عن السؤال الأول ما مر في جواز اجتهاد النبي عليه السلام.
وعن الثاني أن ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه فيكون ذلك من باب امتثال أمره لا من باب التعاطي والافتيات عليه.
وعن قولهم: إن الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي عليه السلام يمكن أن يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد وإن ظهر غير أن القادر على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى الآخر ولا يخفى أنه إذا كان الاجتهاد طريقاً يتوصل به إلى الحكم فالرجوع إلى النبي عليه السلام أيضاً طريق آخر.
وما ذكروه من أن الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد فهو كذلك غير أن المدعي إنما هو حصول الظن بذلك دون القطع.
قولهم يحتمل أن يكون ذلك خاصاً بمن وردت تلك الأخبار في حقه قلنا :المقصود من الأخبار المذكورة إنما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي عليه السلام ممن عاصره لا بيان وقوع الاجتهاد من كل من عاصره.
المسألة الثالثة مذهب الجمهور من المسلمين أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً وأن الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم ينظر.
وقال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة بحط الإثم عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد فأداه اجتهاده إلى معتقده وأنه معذور بخلاف المعاند.
وزاد عبيد الله بن الحسن العنبري بأن قال: كل مجتهد في العقليات مصيب وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر حقا عند اختلاف الاجتهاد وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد وهو من أمحل المحالات وما أظن عاقلا يذهب إلى ذلك.
وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنه معذور في المخالفة غير آثم فهو ما ذهب إليه الجاحظ وهو أبعد عن الأول في القبح.
ولا شك أنه غير محال عقلاً وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعاً.
وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار: ص 27 وقوله: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فصلت23 وقوله تعالى: " ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون " المجادلة 18 ووجه الاحتجاج بهذه الآيات أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ولو كانوا معذورين فيه لما كان كذلك.
وأما السنة فما علم منه عليه السلام علماً لا مراء فيه تكليفه للكفار من اليهود والنصاري بتصديقه واعتقاد رسالته وذمهم على معتقداتهم وقتله لمن ظفر بهم وتعذيبه على ذلك منهم مع العلم الضروري بأن كل من قاتله وقتله لم يكن معانداً بعد ظهور الحق له بدليله فان ذلك مما تحيله العادة.ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ ذلك منه.
وأما الإجماع فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا أيضاً على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ولو كانوا معذورين في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ.
فإن قيل: أما الآية الأولى فغاية ما فيها ذم الكفار وذلك غير متحقق في محل النزاع لأن الكفر في اللغة مأخوذ من الستر والتغطية ومنه يقال: لليل كافر لأنه ساتر للحوادث وللحارث كافر لسترة الحب وذلك غير متصور إلا في حق المعاند العارف بالدليل مع إنكاره لمقتضاه كيف وإنه يجب حمل هذه الآية والآيتين بعدها على المعاند دون غيره جمعاً بينه وبين ما سنذكره من الدليل.
وأما ما ذكرتموه من قتل النبي عليه السلام الكفار فلا نسلم أنه كان على ما اعتقدوه عن اجتهادهم بل على إصرارهم على ذلك وإهمالهم لترك البحث عما دعوا إليه والكشف عنه مع إمكانه.
وأما الإجماع فلا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف كيف وإنه يمكن حمل فعل أهل الإجماع على ما حمل عليه فعل النبي عليه السلام.
ودليل هذه التأويلات أن تكليفهم باعتقاد نقيض معتقدهم الذي أدى إليه اجتهادهم واستفرغوا الوسع فيه تكليف بما لا يطاق وهو ممتنع للنص والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة 286.
وأما المعقول فهو أن الله تعالى رؤوف بعباده رحيم لهم فلا يليق به تعذيبهم على ما لا قدرة لهم عليه.
ولهذا كان الإثم مرتفعاً عن المجتهدين في الأحكام الشرعية مع اختلاف اعتقاداتهم فيها بناء على اجتهاداتهم المؤدية إليها كيف وقد نقل عن بعض المعتزلة أنهم أولوا قول الجاحظ وابن العنبري بالحمل على المسائل الكلامية المختلف فيها بين المسلمين ولا تكفير فيها كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن ونحو ذلك لأن الأدلة فيها ظنية متعارضة.
الجواب عما ذكروه على الآية أنه خلاف الإجماع في صحة إطلاق اسم الكافر على من اعتقد نقيض الحق وإن كان عن اجتهاد.
وقولهم إن الكفر في اللغة مأخوذ من التغطية مسلم ولكن لا نسلم انتفاء التغطية فيما نحن فيه وذلك لأنه باعتقاده لنقيض الحق بناء على اجتهاده مغط للحق وهو غير متوقف على علمه بذلك.
وما ذكروه من التأويل ففيه ترك الظاهر من غير دليل وما يذكرونه من الدليل فسيأتي الكلام عليه.
وما ذكروه على السنة فبعيد أيضاً وذلك لأنه إن تعذر قتلهم وذمهم على ما كانوا قد اعتقدوه عن اجتهادهم واستفراغ وسعهم فهو لازم أيضاً على تعذر قتلهم وذمهم على عدم تصديقه فيما دعاهم إليه لأن الكلام إنما هو مفروض فيمن أفرغ وسعه وبذل جهده في التوصل إلى معرفة ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه وتعذر عليه الوصول إليه.
وما ذكروه في امتناع التمسك بالإجماع في محل الخلاف إنما يصح فيما كان من الإجماع بعد الخلاف أو حالة الخلاف وأما الإجماع السابق على الخلاف فهو حجة على المخالف وقد بينا سبقه.
وما ذكروه من التأويل فجوابه كما تقدم.قولهم إن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق لا نسلم ذلك فإن الوصول إلى معرفة الحق ممكن بالأدلة المنصوبة عليه ووجود العقل الهادي وغايته امتناع الوقوع باعتبار أمر خارج وذلك لا يمنع من التكليف به وإنما يمتنع التكليف بما لا يكون ممكناً في نفسه كما سبق تقريره في موضعه.
وما ذكروه فقد سبق تخريجه أيضاً في مسألة تكليف ما لا يطاق.
وأما رفع الإثم في المجتهدات الفقهية فإنما كان لأن المقصود منها إنما هو الظن بها وقد حصل بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب فيها ليس هو الظن بل العلم ولم يحصل.
وما ذكروه من التأويل إن صح أنه المراد من كلام الجاحظ وابن العنبري ففيه رفع الخلاف والعود إلى الحق ولا نزاع فيه.
المسألة الرابعة اتفق أهل الحق من المسلمين على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية وذهب بشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم ونفاة القياس كالظاهرية.
والإمامية إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق.
وحجة أهل الحق في ذلك ما نقل نقلاً متواتراً لا يدخله ريبة ولا شك وعلم علماً ضروريا من اختلاف الصحابة فيما بينهم في المسائل الفقهية كما بيناه فيما تقدم مع استمرارهم على الاختلاف إلى انقراض عصرهم ولم يصدر من أحد منهم نكير ولا تأثيم لأحد لا على سبيل الإبهام ولا التعيين مع علمنا بأنه لو خالف أحد في وجوب العبادات الخمس وتحريم الزنى والقتل لبادروا إلى تخطئته وتأثيمه.
فلو كانت المسائل الاجتهادية نازلة منزلة هذه المسائل في كونها قطعية ومأثوماً على المخالفة فيها لبالغوا في الإنكار والتأثيم حسب مبالغتهم في الإنكار على من خالف في وجوب العبادات الخمس وفي تأثيمه لاستحالة تواطئهم على الخطإ ودلالة النصوص النازلة منزلة التواتر على عصمتهم عنه كما سبق تقريره في مسائل الإجماع.
فإن قيل: فقد وقع الإنكار من بعضهم على بعض في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهية كما ذكرناه في إثبات القياس على منكريه ومع الإنكار فلا إجماع.
وإن سلمنا عدم نقل إنكارهم لذلك فيحتمل أنهم أنكروا ولم ينقل إلينا.وبتقدير عدم صدور الإنكار منهم ظاهرا فيحتمل أنهم أضمروا الإنكار والتأثيم تقية وخوفاً من ثوران فتنة وهجوم آفة.
قلنا: أما السؤال الأول فقد أجبنا عنه فيما تقدم.وأما الثاني فهو خلاف مقتضى العادة فإنه لو وجد الإنكار لتوفرت الدواعي على نقله واستحال في العادة كتمانه كما نقل عنهم الإنكار على الخوارج ومانعي الزكاة وغير ذلك وبمثل هذا يندفع أيضا ما ذكروه من السؤال الثالث.
المسألة الخامسة المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص أو لا يكون : فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها :فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب وإن حكم الله فيها لا يكون واحداً بل هو تابع لظن المجتهد فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه.
وقال آخرون: المصيب فيها واحد ومن عداه مخطىء لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معيناً لأن الطالب يستدعي مطلوباً وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر بحيث لو نزل نص لكان نصا عليه.
لكن منهم من قال بأنه لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يظفر به حالة الاجتهاد بحكم الاتفاق فمن ظفر به فهو مصيب ومن لم يصبه فهو مخطىء.
ومنهم من قال عليه دليل لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال إنه قطعي ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال بتأثيم المجتهد بتقدير عدم الظفر به ونقض حكمه كأبي بكر الأصم وابن علية وبشر المريسي ومنهم من قال بعدم التأثيم لخفاء الدليل وغموضه فكان معذوراً ومنهم من قال إنه ظني فمن ظفر به فهو مصيب وله أجران ومن لم يصبه فهو مخطىء وله أجر واحد وهذا هو مذهب ابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني.
ومنهم من نقل عنه القولان التخطئة والتصويب كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والأشعري.
وأما إن كان في المسألة نص فإن قصر في طلبه فهو مخطىء آثم لتقصيره فيما كلف به من الطلب.
وإن لم يقصر فيه وأفرغ الوسع في طلبه لكن تعذر عليه الوصول إليه إما لبعد المسافة أو لإخفاء الراوي له وعدم تبليغه فلا إثم لعدم تقصيره وهل هو مخطىء أو مصيب؟ ففيه من الخلاف ما سبق.
والمختار إنما هو امتناع التصويب لكل مجتهد غير أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: من جهة الكتاب قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان " الأنبياء 78 - 79.
ووجه الاحتجاج به أنه خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة وذلك يدل على عدم فهم داود له وإلا لما كان التخصيص مفيداً وهو دليل اتحاد حكم الله في الواقعة وأن المصيب واحد وأيضا قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 ولولا أن في محل الاستنباط حكماً معيناً لما كان كذلك وأيضاً قوله تعالى: " ولا تفرقوا فيه " الشورى 13 " ولا تنازعوا فتفشلوا " الأنفال 46 " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 وذلك أيضاً يدل على اتحاد الحق في كل واقعة.
ولقائل أن يقول على الآية الأولى: غاية ما فيها تخصيص سليمان بالفهم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود إلا بطريق المفهوم وليس بحجة على ما تقرر في مسائل المفهوم.
وان سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما في تلك القضية بالنص حكماً واحداً ثم نسخ الله الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه.
والذي يدل على هذا قوله تعالى: " وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان قد أتي في تلك الواقعة حكماً وعلماً.
وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفاً لكن يحتمل أنهما حكماً بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان بسبب ذلك.
وإن سلمنا أن داود كان مخطئاً في تلك الواقعة غير أنه يحتمل أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص.
وعلى الآية الثانية والثالثة: أنه يجب حملهما على الأمور القطعية دون الاجتهادية.
ودليله قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 والقضايا الاجتهادية لا علم فيها وإن سلمنا أن المراد بهما القضايا الاجتهادية فقوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 يدل على تصويب المستنبطين والراسخين في العلم وليس فيه ما يدل على تصويب البعض منهم دون البعض بل غايته الدلالة بمفهومه على عدم ذلك في حق العوام ومن ليس من أهل الاستنباط والرسوخ في العلم.
وعلى الآيات الدالة على النهي عن التفرق أن المراد منها إنما هو التفرق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظن.
ويدل على ذلك أن القائلين بجواز الاجتهاد مجمعون على أن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومنهي عن مخالفته وهو أمر بالاختلاف ونهي عن الاتفاق في المجتهدات.
الحجة الثانية: من جهة السنة قوله عليه السلام: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد " وذلك صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطإ وصواب.
ولقائل أن يقول: نحن نقول بموجب الخبر وأن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر واحد غير أن الخطأ عندنا في ذلك إنما يتصور فيما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي وخفي عليه بعد البحث التام عنه وذلك غير متحقق في محل النزاع أو فيما إذا أخطأ في مطلوبه من رد المال إلى مستحقه بسبب ظنه صدق الشهود وهم كاذبون أو مغالطة الخصم لكونه أخصم من خصمه وألحن بحجته لا فيما وجب عليه من حكم الله تعالى.
ولهذا قال عليه السلام " إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بمجته من صاحبه فمن حكمت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " .
الحجة الثالثة: من جهة الإجماع أن الصحابة أجمعوا على إطلاق لفظ الخطإ في الاجتهاد فمن ذلك ما روى عن أبي بكر أنه قال أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان ومن ذلك ما روي عن عمر أنه حكم بحكم فقال رجل حضره هذا والله! الحق.فقال عمر أن عمر لا يدري أنه أصاب الحق لكنه لم يأل جهداً وروي عنه أنه قال لكاتبه: اكتب هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمنه وإن يكن صواباً فمن الله وأيضاً قوله في جواب المرأة التي ردت عليه النهي عن المبالغة في المهر أصابت امرأة وأخطأ عمر ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ وإن لم يجتهدا فقد غشاك أرى عليك الدية ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ومن ذلك ما روي أن عليا وابن مسعود وزيداً رضي الله عنهم خطؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول وأنكر عليهم ابن عباس قولهم بالعول بقوله من شاء أن يباهلني باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً هذان نصفان ذهباً بالمال فأين موضع الثلث ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا إلى غير ذلك من الوقائع ولم ينكر بعضهم على بعض في التخطئة فكان ذلك إجماعاً على أن الحق من أقاويلهم ليس إلا واحداً.
ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر وقوع الخطإ في الاجتهاد لكن فيما إذا لم يكن المجتهد أهلاً للاجتهاد أو كان أهلا لكنه قصر في اجتهاده أو إن لم يقصر لكنه خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو في مطلوبه دون ما وجب عليه من حكم الله كما سبق تقريره في جواب السنة وأما ما تم فيه الاجتهاد من أهله ولم يوجد له معارض مبطل فليس فيما ذكروه من قضايا الصحابة ما يدل على وقوع الخطإ فيه.
الحجة الرابعة: من جهة المعقول من ستة أوجه : الأول: أن الاجتهاد مكلف به بالإجماع فعند اختلاف المجتهدين في حكم الحادثة ومصير كل واحد إلى مناقضة الآخر إما أن يكون اجتهاد كل واحد منهما مستنداً إلى دليل أو لا دليل لواحد منهما أو أن الدليل مستند أحدهما دون الآخر فإن كان الأول فالدليلان المتقابلان إما أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر أو هما متساويان فإن كان أحدهما راجحاً فالذاهب إليه مصيب ومخالفه مخطىء.
وإن كان الثاني فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجازم بالنفي أو الإثبات يكون مخطئاً.وإن كان لا دليل لواحد منهما فهما مخطئان.
وإن كان الدليل لأحدهما دون الآخر فأحدهما مصيب والآخر مخطىء لا محالة.
الثاني: أن القول بتصويب المجتهدين يفضي عند اختلاف المجتهدين بالنفي والإثبات أو الحل والحرمة في مسألة واحدة إلى الجمع بين النقيضين وهو محال وما أفضى إلى المحال يكون محالاً.
الثالث: أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين المجتهدين ولو كان كل واحد مصيباً فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة وذلك لأن كل واحد يعتقد أن ما صار إليه مخالفه حق وأنه مصيب فيه.
والمناظرة: إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب أو لرده عنه فإن كان الأول ففيه تحصيل الحاصل.
وإن كان الثاني فقصد كل واحد لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراماً.
الرابع: أن المجتهد في حال اجتهاده إما أن يكون له مطلوب أو يكون فإن كان الأول فهو محال إذ المجتهد طالب وطالب لا مطلوب له محال.
وإن كان الثاني فمطلوبه متقدم على اجتهاده ونظره وذلك مع عدم تعين المطلوب في نفسه محال.
الخامس: أنه لو صح تصويب كل واحد من المجتهدين لوجب عند الاختلاف في الآنية بالطهارة والنجاسة أن يقضى بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر لاعتقاد المأموم صحة صلاة إمامه.
السادس: أن القول بتصويب المجتهدين يلزم منه أمور ممتنعة فيمتنع.
الأول: أنه إذا تزوج شافعي بحنفية وكانا مجتهدين وقال لها أنت بائن فإنه بالنظر إلى ما يعتقده الزوج من جواز الرجعة تجوز له المراجعة والمرأة بالنظر إلى ما تعتقده من امتناع الرجعة يحرم عليها تسليم نفسها إليه وذلك مما يفضي إلى منازعة بينهما لا سبيل إلى رفعها شرعاً وهو محال.
الثاني: أنه إذا نكح واحد امرأةً بغير ولي ونكحها آخر بعده بولي فيلزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين وهو محال.
الثالث: أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم فإما أن يعمل بقوليهما وهو محال أو بقول أحدهما ولا أولوية وإما لا بقول واحد منهما فيكون متحيراً وهو ممتنع ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن المختار إنما هو القسم الأول من أقسامه.
قولهم: الدليلان إما أن يتساويا أو يترجح أحدهما على الآخر قلنا في نفس الأمر أو في نظر الناظر الأول ممنوع وذلك لأن الأدلة في مسائل الظنون ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر متساوية في جهة دلالتها أو متفاوتة وإن كان في نظر الناظر فلا نسلم صحة هذه القسمة بل كل واحد منهما راجح في نظر الناظر الذي صار إليه وذلك لأن الأدلة الظنية مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية كما أن ما وافق غرض زيد فهو حسن بالنسبة إليه وإن كان قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه وعلى هذا فلا تخطئة على ما ذكروه.
وإن سلمنا أن الدليلين في نفسيهما لا يخرجان عن المساواة أو الترجيح لأحدهما على الآخر غير أن النزاع إنما هو في الخطإ بمعنى عدم الإصابة لحكم الله في الواقعة لا بمعنى عدم الظفر بالدليل الراجح ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل الراجح عدم الظفر بحكم الله في الواقعة لأن حكم الله تعالى عندنا عبارة عما أدى إليه نظر المجتهد وظنه لا ما أدى إليه الدليل الراجح في نفس الأمر.
وعلى الوجه الثاني أن التناقض إنما يلزم أن لو اجتمع النفي والإثبات والحل والحرمة في حق شخص واحد من جهة واحدة أما بالنظر إلى شخصين فلا.
ولهذا فإن الميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره وإفطار رمضان مباح للمريض والمسافر ومن له عذر دون غيره.
وفيما نحن فيه كذلك فأن من وجب عليه الحكم بالحل الذي أداه نظره إليه غير من وجب عليه الحكم بالتحريم الذي أداه نظره إليه.
ثم لو كان ذلك ممتنعاً لما وجب على كل واحد من المجتهدين في القبلة إذا أدى اجتهاده إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر التوجه إلى الجهة التي غلب على ظنه أنها جهة القبلة كتحريم التوجه إليها بالنسبة إلى الآخر ولما حرم على كل واحد ما وجب على الآخر وهو ممتنع.
وعلى الثالث: أن فائدة المناظرة غير منحصرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر تجب المناظرة لها أو تستحب.
فالأولى: كالمناظرة لتعرف انتفاء الدليل القاطع الذي لا يجوز معه الاجتهاد أو لطلب تعرف الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد حتى يجزم بالنفي أو الإثبات أو يحل له الوقف أو التخيير لكونه مشروطاً بعدم الترجيح.
والثانية: كالمناظرة التي يطلب بها تذليل طرق الاجتهاد والقوة على استثمار الأحكام من الأدلة واستنباطها منها وشحذ الخاطر وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام ومآخذها لتحريك دواعيهم إلى طلب رتبة الاجتهاد لنيل الثواب الجزيل وحفظ قواعد الشريعة.
وعلى الرابع: أن مطلوب المجتهد ما يؤدي إليه نظره واجتهاده لا غير وذلك غير معين لا عنده ولا عند الله تعالى.
وعلى الخامس: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كان القضاء بصحة صلاة المأموم مطلقاً وليس كذلك وإنما هي صحيحة بالنسبة إليه غير صحيحة بالنسبة إلى مخالفه.
وشرط صحة اقتداء المأموم بالإمام اعتقاد صحة صلاة إمامه بالنسبة إليه.
وعلى السادس: أما الإلزام الأول فلا نسلم إفضاء ذلك إلى منازعة لا ترتفع لأنه يمكن رفعها فيما فرضوه من الصورة برفع الأمر إلى حاكم من حكام المسلمين أو محكم منهم فما حكم به وجب اتباعه كيف وإن ما ذكروه لم يكن لازما من القول بتصويب المجتهدين بل إنما كان لازماً من القول بأنه يجب على كل مجتهد اتباع ما أوجبه ظنه وسواء كان مخطئاً أو مصيباً لأن المصيب غير معين وذلك متفق عليه فما هو جواب لهم ها هنا فهو جواب الخصم في قوله بالتصويب.
وإما الإلزام الثاني فنقول أي النكاحين وجد من معتقد صحته أولاً فهو صحيح والنكاح الثاني باطل لكونه نكاحاً لزوجة الغير وإن صدر الأول ممن لا يعتقد صحته كالنكاح بلا ولي من الشافعي فهو باطل والثاني صحيح.
وأما الإلزام الثالث فنقول: حكم العامي عند تعارض الفتاوى في حقه حكم تعارض الدليلين في حق المجتهد من غير ترجيح.
وحكم المجتهد في ذلك إما التوقف أو التخيير على ما يأتي والأقرب في ذلك أن يقال الأصل عدم التصويب والأصل في كل متحقق دوامه إلا ما دل الدليل على مخالفته.
والأصل عدم الدليل المخالف فيما نحن فيه فيبقى فيه على حكم الأصل.
غير أنا خالفناه في تصويب واحد غير معين للإجماع ولا إجماع فيما نحن فيه فوجب القضاء بنفيه.
فإن قيل: وإن كان الأصل عدم الدليل المخالف للنفي الأصلي إلا أنه قد وجد ودليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى في حق داود وسليمان: " وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان ما صار إليه حكماً لله ولا علماً.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ووجه الاحتجاج به أنه عليه السلام جعل الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى مع اختلافهم في الأحكام نفياً وإثباتاً كما بيناه قبل.فلو كان فيهم مخطىء لما كان الاقتداء به هدى بل ضلالة.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة اتفقوا على تسويغ خلاف بعضهم لبعض من غير نكير منهم على ذلك بل ونعلم أن الخلفاء منهم كانوا يولون القضاة والحكام مع علمهم بمخالفتهم لهم في الأحكام ولم ينكر عليهم منكر.
ولو تصور الخطأ في الاجتهاد لما ساغ ذلك من الصحابة كما لم يسوغوا ترك الإنكار على مانعي الزكاة وكل منكر أنكروه.
وأما من جهة المعقول فمن سبعة أوجه : الأول: أنه لو كان الحق متعيناً في باب الاجتهاد في كل مسألة لنصب الله تعالى عليه دليلاً قاطعاً دفعاً للإشكال وقطعا لحجة المحتج كما هو المألوف من عادة الشارع في كل ما دعا إليه ومنه قوله تعالى: " رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء 165 وقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم 4 وقوله تعالى: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً " طه 134 ولو كان عليه دليل قاطع لوجب الحكم على مخالفه بالفسق والتأثيم كالمخالف في العقليات.
الثاني: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما ساغ لأحد من العامة تقليد أحد من العلماء إلا بعد الاجتهاد والتحري فيمن يقلده وليس كذلك.
وحيث خير في التقليد دل على التساوي بين المجتهدين فإن الشرع لا يخير إلا في حالة التساوي.
الثالث: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لوجب نقض كل حكم خالفه كما قاله بشر المريسي والأصم.وحيث لم ينقض دل على التساوي.
الرابع: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما وجب على كل واحد من المجتهدين اتباع ما أوجبه ظنه ولا كان مأموراً به لأن الشارع لا يأمر بالخطإ وحيث كان مأموراً باتباعه دل على كونه صواباً.
الخامس: أنه لا خلاف في ترجيح الأدلة المتقابلة في المجتهدات بما لا يستقل بإثبات أصل الحكم ولا نفيه فدل على أن الدليل من الجانبين ما هو خارج عن الترجيح فالدليل على كل واحد من الحكمين قائم فكان حقاً.
السادس: أن حصر الحق في جهة واحدة مما يفضي إلى الضيق والحرج وهو منفي بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185.
السابع: أنه لو كان المجتهد مخطئا لما علم كونه مغفوراً له واللازم ممتنع وبيان الملازمة أنه لو كان مخطئاً فلا يخلو إما أن لا يجوز كونه مخطئاً أو يجوز كونه مخطئاً الأول محال فإن من قال بالتخطئة لم يعين الخطأ في واحد بل أمكن أن يكون قائلاً بالنفي أو الإثبات.
والثاني فلا يخلو: إما أن يعلم مع تجويز كونه مخطئاً أنه قد انتهى في النظر إلى الرتبة التي يغفر له بترك ما بعدها أو لا يعلم ذلك الأول محال فإن المجتهد لا يميز ما بين الرتبتين.
وإن كان الثاني فهو مجوز لترك النظر الذي إذا أخل به بعد النظر الذي انتهى إليه لا يكون مغفوراً له وذلك ممتنع مخالف لإجماع الأمة على ثواب كل مجتهد وغفران ما أخل به من النظر.
والجواب عن الآية أن غايتها الدلالة على أن كل واحد منهما أوتي حكماً وعلماً وهو نكرة في سياق الإثبات فيخص وليس فيه ما يدل على أنه أوتي حكما وعلما فيما حكم به.
وقد أمكن حمل ذلك على أنه أوتي حكما وعلما بمعرفة دلالات الأدلة على مدلولاتها وطرق الاستنباط فلا يبقى حجة في غيره.
وعن السنة أن الخبر وإن كان عاما في الأصحاب والمقتدين بهم غير أن ما فيه الاقتداء غير عام ولا يلزم من العموم في الأشخاص العموم في الأحوال.
وعلى هذا فقد أمكن حمله على الاقتداء في الرواية عن النبي عليه السلام لا في الرأي والاجتهاد.
وقد عمل به فيه فلا يبقى حجة فيما عداه ضرورة إطلاقه.
وعن الإجماع أنه إنما لم ينكر بعض الصحابة على بعض المخالفة لأن المخطىء غير معين ومع ذلك فهو مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومثاب عليه.
والذي يجب إنكاره من الخطإ ما كان مخطئه معينا وهو منهي عنه وما نحن فيه ليس كذلك.
وعن الشبهة الأولى من المعقول: لا نسلم أنه لو كان الحكم في الواقعة معيناً لنصب الله عليه دليلاً قاطعاً إذ هو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وإن سلمنا وجوب رعاية الحكمة ولكن لا مانع أن تكون الحكمة طلب الظن بذلك الحكم بناء على الأدلة الظنية لا طلب العلم به لنيل ثواب النظر والاجتهاد.
فإن ثوابه لزيادة المشقة فيه أزيد على ما قال عليه السلام: " ثوابك على قدر نصبك " وإن لم تظهر فيه حكمة فلا مانع من اختصاصه بحكمة لا يعلمها سوى الرب تعالى.
وعن الثانية أنه إنما خير العامي في التقليد لمن شاء لكونه لا يقدر على معرفة الأعلم دون معرفة مأخذ المجتهدين ووجه الترجيج فيه وذلك مما يخرجه عن العامية ويمنعه من جواز الاستفتاء بل غاية ما يقدر على معرفته كون كل واحد منهما عالماً أهلاً للاجتهاد ومن هذه الجهة قد استويا في نظره فلذلك كان مخيراً حتى إنه لو قدر على معرفة الأعلم ولو بإخبار العلماء بذلك لم يجز له تقليد غيره.
وعن الثالثة: أنه إنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفة الصواب من الخطإ.
وعن الرابعة: أنها منقوضة بما إذا كان في المسألة نص أو إجماع ولم يعلم به المجتهد بعد البحث التام فان الحكم فيها معين ومع ذلك فالمجتهد مأمور باتباع ما أوجبه ظنه.
وعن الخامسة: أنا وإن سلمنا أن الترجيح قد يكون بما لا يستقل بالحكم فلا يمنع ذلك من اعتباره جزءاً من الدليل وعلى هذا فالمرجوح لا يكون دليلاً وإن كان دليلاً لكن لا نسلم جواز ترتب الحكم على المرجوح مع وجود الراجح في نفس الأمر.
وعن السادسة: أن الحرج إنما يلزم من تعيين الحق أن لو وجب على المجتهدين اتباعه قطعاً أما إذا كان ذلك مفوضاً إلى ظنونهم واجتهاداتهم فلا كيف ويلزم على ما ذكروه ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع فإن الحكم فيها يكون معيناً وإن لزم منه الحرج.
وعن السابعة: بمنع ما ذكروه من الملازمة وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا علم المجتهد من نفسه انتهاءه في الاجتهاد واستفراغ الوسع إلى حد يقطع بانتفاء قدرته على المزيد عليه وذلك هو ضابط العلم بكونه مغفوراً له ما وراءه.
المسألة السادسة اتفقوا في الأدلة العقلية المتقابلة بالنفي والإثبات على استحالة التعادل بينها.
وذلك لأن دلالة الدليل العقلي يجب أن يكون مدلولها حاصلاً فلو تعادل الدليلان في نفسيهما لزم من ذلك حصول مدلوليهما كالدليل الدال على حدوث العالم والدال على قدمه ويلزم من ذلك اجتماع النقيضين وهو محال.
واختلفوا في تعادل الأمارات الظنية فذهب أحمد بن حنبل والكرخي إلى المنع من ذلك وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وابنه وأكثر الفقهاء إلى جوازه وهو المختار.
وذلك لأنه لو استحال تعادل الأمارتين في نفسيهما فإما أن يكون ذلك محالاً في ذاته أو لدليل خارج: الأول ممتنع فإنا لو قدرنا ذلك لم يلزم عنه لذاته محال عقلاً وإن كان الدليل من خارج عقلياً كان أو شرعياً فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: إذا قيل بتعادل الأمارتين فإما أن يعمل بكل واحدة منهما: أو بأحديهما دون الأخرى أو لا يعمل ولا بواحدة منهما الأول محال لما فيه من الجمع بين النقيضين والثاني محال لأنه إما أن يعمل بواحدة منهما على طريق التعيين أو الإبهام: فإن كان على طريق التعيين فلا أولوية مع التساوي وإن كان على سبيل التخيير فهو ممتنع لوجوه ثلاثة.
الأول: أن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلفين في مسائل الاجتهاد.
الثاني: أن التخيير إباحة للفعل والترك وهو عمل بأمارة الإباحة وهو ممتنع لما سبق.
الثالث: أنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للمتخاصمين وكذلك المفتي للعامي بين الحكم ونقيضه وأن يحكم لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه وأن يحكم في يوم بحكم وفي الغد بنقيضه وذلك محال والثالث أيضا محال لما فيه من الجمع بين النقيضين ولأن وضع الأمارتين يكون عبثاً والعبث في تصرفات الشارع ممتنع وأيضاً فإن الحكم عند الله تعالى في الواقعة لا يكون إلا واحداً على ما سبق تقريره في المسألة المتقدمة وهو الذي وقع عليه اختياركم فلو تعادلت الأمارتان لزم من ذلك التضليل والحيرة في إصابة الحق وهو ممتنع على الشارع الحكيم.
والجواب عن الشبهة الأولى بمنع الحصر فيما ذكروه إذ قد أمكن قسم ثالث وهو العمل بمجموعهما بأن يكونا كالدليل الواحد ومقتضاهما الوقف أو التخيير وإن سلمنا امتناع ذلك فما المانع من العمل بإحداهما على طريق التخيير بأن يعمل المكلف بما شاء منهما إن شاء أثبت وإن شاء نفي.
قولهم: إن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلف في مسائل الاجتهاد قلنا: متى إذا ترجح في نظره إحدى الأمارتين أو إذا تعادلتا الأول مسلم والثاني ممنوع ولا بعد في التخيير عند التعارض مع التساوي نازلاً منزلة ورود التخيير من الشارع بلفظ التخيير كما في خصال الكفارة أو كما في التخيير بين إخراج الحقاق وبنات اللبون عندما إذا اجتمع في ماله مائتان من الإبل بقوله عليه السلام: " في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حق " فإنه إن أخرج أربع حقاق فقد عمل بالنص وإن أخرج خمس بنات لبون فقد عمل بالنص.
قولهم: إن التخيير إباحة للفعل والترك وهو عمل بأمارة الإباحة وترك للأمارة الوجوب قلنا: إنما يلزم ذلك أن لو كان التخيير بين الفعل والترك مطلقاً وليس كذلك.
وإنما هو تخيير في العمل بأحد الحكمين مشروطا بقصد العمل بدليله كما في التخيير بين القصر في السفر والإتمام بشرط قصد العمل بدليل الرخصة أو دليل الإتمام.
قولهم إنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للخصمين والمفتي للعامي بين الحكمين المتناقضين ليس كذلك بل التخيير إنما هو للحاكم والمفتي في العمل بإحدى الأمارتين عند الحكم والفتوى فلا بد من تعين ما اختاره دفعاً للنزاع بين الخصوم وللتحير عن المستفتى.
وأما حكمه لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه فغير ممتنع كما لو تغير اجتهاده وكذلك الحكم في يوم وبنقيضه في الغد وإنما يمتنع ذلك أن لو كان المحكوم عليه واحداً لما فيه من إضرار المحكوم عليه بالحكم له بحل النكاح والانتفاع بالملك في وقت وتحريمه عليه في وقت آخر وإن سلمنا امتناع التخيير فما المانع من ترك العمل بهما والقول بتساقطهما.
قولهم إنه يلزم منه الجمع بين النقيضين إنما يلزم ذلك أن لو اعتقد نفي الحل والإباحة وأما إذا لم يعتقد شيئا من ذلك فلا.
قولهم إن وضع الأمارتين يكون عبثاً فهو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في مواضعه وبتقدير التسليم فلا يمتنع استلزام ذلك لحكمة استأثر الله تعالى بالعلم بها دون المخلوقين كيف وقد أمكن أن تكون الحكمة فيه إيقاف المجتهد عن الجزم بالنفي أو الإثبات.
وعن الشبهة الثانية: أنا وإن سلمنا أن الحكم في المسألة لا يكون إلا واحداً ولكن ما المانع من تعادل الأمارات.
قولهم يلزم منه التحير والتضليل إنما يلزم ذلك أن لو كان مكلفاً بإصابة ما هو الحكم عند الله تعالى وليس كذلك وإنما هو مكلف بما أوجبه ظنه على ما سبق فإن لم يغلب على ظنه شيء ضرورة التعادل كان الواجب التخيير أو التوقف أو التساقط.
المسألة السابعة فيما يصح نسبته من الأقوال إلى المجتهد وما لا يصح
ولا خلاف في صحة اعتقاد الوجوب والتحريم أو النفي والإثبات معاً في مسألتين مختلفتين كوجوب الصلاة وتحريم الزنى وفي اعتقاد الجمع بين الأحكام المختلفة التي لا تقابل بينها في شيء واحد كالتحريم ووجوب الحد ونحوه وفي اعتقاد وجوب فعلين متضادين على البدل كالاعتداد بالأطهار والحيض أو فعلين غير متضادين كخصال الكفارة.
وأما اعتقاد حكمين متقابلين في شيء واحد على سبيل البدل فقد اختلفوا فيه وبينا مأخذ القولين في المسألة المتقدمة وما هو المختار في ذلك.
وأما ما يقال في هذه المسألة: للمجتهد الفلاني قولان فلا يخلو إما أن يكونا منصوصين في تلك المسألة أو أحدهما منصوص عليه والآخر منقول فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون التنصيص عليهما في وقتين أو في وقت واحد فإن كان ذلك في وقتين فلا يخلو إما أن يكون التاريخ معلوماً أو غير معلوم: فإن كان الأول فالقول الثاني ناسخ للأول وهو الذي يجب إسناده إليه دون الأول لكونه مرجوعاً عنه.
وإن قيل إن الأول قوله فليس إلا بمعنى أنه كان قولاً له لا بمعنى انه الآن قوله ومعتقده وإن كان الثاني فيجب اعتقاد نسبة أحدهما إليه والرجوع عن الآخر وإن لم يكن ذلك معلوماً ولا معيناً.
وعلى هذا فيمتنع العمل بأحدهما قبل التبيين لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المرجوع عنه وهذا كما إذا وجدنا نصين وعلمنا أن أحدهما ناسخ للآخر ولم يتبين لنا الناسخ من المنسوخ فإنه يمتنع العمل بكل واحد منهما لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المنسوخ وكذلك الراوي فإنه إذا سمع كتاباً من الأخبار سوى خبر واحد منه وأشكل عليه ما سمعه عن غيره فإنه لا يجوز له رواية شيء منه لاحتمال أن يكون ذلك ما لم يروه.
وأما إن كان التنصيص عليهما في وقت واحد فإما أن ينص على الراجح منهما بأن يقول: وهذا القول أولى أو يفرع عليه دون الآخر فيظهر من ذلك أن قوله وما يجب أن يكون معتقداً له هو الراجح دون المرجوح.
وأما أن لا يوجد منه ما يدل على الترجيح كما نقل عن الشافعي ذلك في سبع عشرة مسألة فلا يخلو إما أنه ذكر ذلك بطريق الحكاية لأقوال من تقدم فلا تكون أقوالاً له وإما أن يكون ذلك بمعنى اعتقاده للقولين وهو محال.
وذلك لأن دليلي القولين إما أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر في نظره أو هما متساويان فإن كان الأول فاعتقاده لحكم الدليل المرجوح ممتنع وإن كان الثاني فاعتقاده للتحريم والإباحة معاً في شيء واحد من جهة واحدة محال.
وإن كان معنى القولين التخيير بين الحكمين أو التردد والشك كتردد الشافعي في التسمية هل هي آية من أول كل سورة ؟فذلك مما لا يصح معه نسبة القولين إليه ولهذا فإن من قال بالتخيير بين خصال الكفارة لا يقال إن له في الكفارة أقوالاً.
وكذلك من شك في شيء وتردد فيه لا يقال له فيه أقوال وإنما يمكن تصحيح ذلك بأن يحمل قوله: في المسألة قولان على أنه قد وجد فيها دليلين متعارضين ولا موجود سواهما إما نصان أو استصحابان كما إذا أعتق عن كفارته عبداً غائباً منقطع الخبر.
فإن الأصل بقاء حياته والأصل بقاء اشتغال الذمة أو أصلان مختلفان والمسألة مشابهة لكل واحد من الأصلين على السوية ويمكن أن يقول بكل واحد منهما قائل فقوله بوجود هذا الاحتمال وهذا الاحتمال قولان لكنه ليس قولا بحكم شرعي.
وأما إن كان منصوصاً عليه والآخر منقولاً فذلك إنما يتصور في صورتين متناظرتين وعند ذلك فلا يخلو إما أن يظهر بين الصورتين فارق أو لا يظهر: فإن ظهر بينهما فارق فالنقل يكون ممتنعاً وإن لم يظهر بينهما فارق وكان الإمام قد نص على حكم الصورتين فلا يخلو إما أن يكون قد نص عليهما في وقتين أو في وقت واحد.
فإن كان في وقتين: فإما أن يكون التاريخ معلوماً أو غير معلوم فإن كان معلوماً فتنصيصه على الحكم الأخير يستلزم ثبوت مثله في الصورة المنصوص عليها أولا ضرورة عدم الفرق ويلزم من ذلك رجوعه عن الحكم المنصوص عليه أولاً.
وإن لم يكن التاريخ معلوماً فيجب اعتقاد اشتراك الصورتين في أحد الحكمين وهو ما نص عليه آخراً وإن لم يكن معلوماً بعينه وعلى هذا فلا يمكن العمل بأحدهما على سبيل التعيين لجواز أن يكون هو المرجوع عنه كما أسلفناه وأما إن نص على حكمي الصورتين في وقت واحد فهو كما لو نص عليهما في صورة واحدة وقد عرف ما فيه.
المسألة الثامنة