كتاب : الإحكام في أصول القرآن
المؤلف : ابن حزم
منهم من قال بأن ذلك دليل العلم بصدقه فيما أخبر به فإنه لو كان كاذباً لأنكر النبي عليه السلام عليه وإلا كان مقراً له على الكذب مع كونه محرماً وذلك محال في حق النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير صحيح فإنه من الجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير سامع له بل هو ذاهل عنه وإن غلب على الظن السماع وعدم الغفلة وبتقدير أن يعلم سماعه له وعدم غفلته عنه فمن الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول وإن غلب على الظن فهمه له وبتقدير أن يكون فاهماً له فلا يخلو إما أن يكون ما أخبر به متعلقاً بالدين أو الدنيا فإن كان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه فيحتمل أن يكون قد بينه له وعلم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه فلم ير في الإنكار عليه فائدة ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر وبتقدير عدم ذلك كله احتمل أن يكون كذبه في ذلك صغيرة وعدم الإنكار عليه في ذلك غايته أن يكون صغيرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وانتفاء الصغائر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مقطوع به على ما بيناه في كتبنا الكلامية.
هذا إن كان إخباره بأمر ديني وأما إن كان إخباره بأمر دنيوي فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بكونه كاذباً فيما أخبر به وإن ظن علمه به وبتقدير أن يكون عالماً بكذبه فيحتمل أنه امتنع من الإنكار لمانع أو لعلمه بأنه لا فائدة في إنكاره وبتقدير عدم ذلك كله فيحتمل أن يكون ذلك من الصغائر والصغائر غير ممتنعة على الأنبياء كما علم وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً وإن دل عليه ظناً.
المسألة الثالثة إذا أخبر واحد بخبر عن أمر محس بين يدي جماعة عظيمة وسكتوا عن تكذيبه قال قوم: علم من ذلك صدقه لأنه يمتنع عادة أن لا يطلع واحد منهم على كذبه وبتقدير الاطلاع يمتنع عادة سكوت الجمع العظيم عن التكذيب مع اختلاف أمزجتهم وطباعهم واختلاف دواعيهم فحيث سكتوا عن التكذيب دل على صدقه وليس بحق لأنه من الجائز أن لا يكون لهم اطلاع على ما أخبر به ولا يعلمون كونه صادقاً ولا كاذباً ولا واحد منهم ولا العادة مما تحيل اطلاع بعض الناس على أمر لم يطلع عليه غيره وبتقدير أن يعلم واحد منهم أو اثنان كذبه فالعادة لا تحيل سكوت الواحد والاثنين عن تكذيبه وبتقدير أن يعلم الكل بكذبه فيحتمل أن مانعاً منعهم من تكذيبه ومع هذه الاحتمالات يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً.
المسألة الرابعة إذا روى واحد خبراً ورأينا الأمة مجمعة على العمل بمقتضاه قال جماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إن ذلك يدل على صدقه قطعاً وإلا كان عملهم بمقتضاه خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وهو باطل وذلك لأنه من المحتمل أنهم لم يعملوا به بل بغيره من الأدلة أو بعضهم به وبعضهم بغيره وبتقدير عمل الكل به فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً لأنه إذا كان مظنون الصدق فالأمة مكلفة بالعمل بموجبه وعملهم بموجبه مع تكليفهم بذلك لا يكون خطأ لأن خطأهم إنما يكون بتركهم لما كلفوا به أو العمل بما نهوا عنه ومع هذه الاحتمالات فصدقه لا يكون مقطوعاً وإن كان مظنوناً وعلى هذا لو روى واحد خبراً واتفق أهل الإجماع فيه على قولين فطائفة عملت بمقتضاه وطائفة اشتغلت بتأويله فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً وذلك لأن الطائفة التي عملت بمقتضاه لعلها لم تعمل به بل بغيره كما سبق وبتقدير أن تكون عاملة به فاتفاقهم على قبوله لا يوجب كونه صادقاً قطعاً لما ذكرناه من تكليفهم باتباع الظني.
المسألة الخامسة
اختلفوا فيما لو وجد شيء بمشهد من الخلق الكثير لتوفرت الدواعي على نقله إذا انفرد الواحد بروايته عن باقي الخلق كما إذا أخبر بأن الخليفة ببغداد قتل في وسط الجامع يوم الجمعة بمشهد من الخلق ولم يخبر بذلك أحد سواه فذهب الكل إلى أن ذلك يدل على كذبه خلافاً للشيعة وهو الحق وذلك لأن الله تعالى قد ركز في طباع الخلق من توفير الدواعي على نقل ما علموه والتحدث بما عرفوه حتى إن العادة لتحيل كتمان ما لا يؤبه له مما جرى من صغار الأمور على الجمع القليل فكيف على الجمع الكثير فيما هو من عظائم الأمور ومهماتها والنفوس مشرئبة إلى معرفته وفي نقله صلاح للخلق بل السكوت عن نقل ذلك وإشاعته في إحالة العادة له أشد من إحالة العادة لسكوتهم وتواطيهم على عدم نقل وجود مكة وبغداد فلو جاز كتمان ذلك لجاز أن يوجد مثل مصر وبغداد ولم يخبر أحد عنهما وذلك محال عادة وبمثل هذا عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن والتنصيص على إمام بعينه من حيث إنه لو وجد ذلك لشاع وتوفرت الدواعي على نقله.
فإن قيل: العادة إنما تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما جرى بمشهد منهم من الأمور العظيمة إذا لم يتحقق الداعي إلى الكتمان معارضا لداعي الإظهار ولا بعد في ذلك إما لغرض واحد يعم الكل نظراً إلى مصلحة تتعلق بالكل في أمر الولاية وإصلاح المعيشة أو خوف ورهبة من عدو غالب وملك قاهر أو لأغراض متعددة كل غرض لواحد ويدل على ذلك الوقوع وهو أن النصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن الحصر لم ينقلوا كلام المسيح في المهد مع أنه من أعجب حادث حدث في الأرض ومن أعظم ما تتوفر الدواعي على نقله وإشاعته ونقلوا ما دون ذلك من معجزاته وأيضاً فإن الناس نقلوا أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب وغيره من الرسل وأيضاً فإن آحاد المسلمين قد انفردوا بنقل ما تتوفر الدواعي على نقله مع شيوعه فيما بين الصحابة والجمع الكثير كنقل ما عدا القرآن من معجزاته كانشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع إليه وتسليم الغزالة عليه وكدخول مكة عنوة أو صلحاً وتثنية الإقامة وإفرادها وإفراده في الحج وقرانه ونكاحه لميمونة وهو حرام وقبوله لشهادة الأعرابي وحده في هلال رمضان ورفع اليدين في الصلاة والجهر بالتسمية إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى.
قلنا: قد بينا أن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما يجري بينهم من الوقائع العظيمة.
قولهم ذلك إنما يصح أن لو لم يوجد الداعي إلى الكتمان قلنا: والكلام فيه وذلك أن العادة أيضاً تحيل اشتراك الخلق الكثير في الداعي إلى الكتمان كما يستحيل اشتراكهم في الداعي إلى الكذب وإلى أكل طعام واحد في يوم واحد وما ذكروه من صور الاستشهاد.
أما كلام عيسى في المهد فإنما تولى نقله الآحاد لأنه لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير حيث لم يكن أمره قد ظهر ولا شأنه قد اشتهر ولا عرف برسالة ولا نبوة وذلك بخلاف إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص فإنه كان وقت اشتهاره ودعواه الرسالة مستدلاً بذلك على صدقه وتطلع الناس إليه وامتداد الأعين إلى ما يدعيه فلذلك لم يقع اتفاقهم على كتمانه.
وأما أعلام شعيب وغيره من الأنبياء فإنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى يستدلوا عليها بالمعجزات ولا كان لهم شريعة انفردوا بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم من الرسل كدعوى غيرهم من الأئمة وآحاد العلماء.
وأما نقل باقي معجزات الرسول غير القرآن فإنما تولاه الآحاد لأنه لم يوجد شيء من ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منهم بحضور طائفة يسيرة ولا سيما انشقاق القمر فإنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل في لمح البصر ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى رؤيته ولا نبههم على ذلك سوى من رآه من النفر اليسير ولهذا فإنه كم من أمر مهول يقع في الليل من زلزلة أو صاعقة أو ريح عاصف أو انقضاض شهاب عظيم ولا يشعر به سوى الآحاد وهذا بخلاف القرآن فإنه كان صلى الله عليه وسلم يردده بين الخلق في جميع عمره فلم يبق أحد من الجمع العظيم في زمانه إلا وقد علمه وشاهده فلذلك استحال تواطؤهم على عدم نقله.
وأما دخول مكة فقد نقله الجمع الكثير وهو مستفيض مشهور أنه دخلها عنوة متسلحاً بالألوية والأعلام على سبيل القهر والغلبة مع بذل الأمان لمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة ودار أبي سفيان وإنما خالف بعض الفقهاء لما اشتبه عليه ذلك بأداء دية من قتله خالد بن الوليد ولا يبعد ظن ذلك من الآحاد.
وأما تثنية الإقامة وإفرادها فإنما اختلفوا فيه لاحتمال أن المؤذن كان يفرد تارة ويثني أخرى فنقل كل بعض ما سمعه وأهمل الباقي لعلمه بأنه من الفروع المتسامح فيها وهو الجواب عن الجهر بالتسمية ورفع اليدين في الصلاة.
وأما إفراد النبي وقرانه في الحج فإنما نقله الآحاد لأن ذلك مما يتعلق بالنية وليس ذلك مما يجب ظهوره ومناداة النبي صلى الله عليه وسلم به.
وأما نكاحه ميمونة وهو حرام فليس ذلك أيضاً مما يجب إظهاره بل جاز أن يكون قد وقع ذلك بمحضر جماعة يسيرة فلذلك انفرد به الآحاد وهو الجواب عن قبول شهادة الأعرابي وحده.
المسألة السادسة مذهب الأكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلاً خلافاً للجبائي وجماعة من المتكلمين ودليل جوازه عقلاً أنا لو فرضنا ورود الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال كونه كاذباً أو مخطئاً وذلك لا يمنع من التعبد به بدليل اتفاقنا على التعبد بالعمل بقول المفتي والعمل بقول الشاهدين مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا به.
فإن قيل: وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع بذلك لم يلزم عنه لذاته محال وأنه ليس محالاً لذاته عقلاً لكنه محال عقلاً باعتبار أمر خارج عن ذاته وذلك لأن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به فإذا أخبر بخبر عن رسول الله بسفك دم واستحلال بضع محرم مع احتمال كونه كاذباً فلا يكون في العمل بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة وهو خلاف وضع الشرع ولهذا امتنع ورود التعبد بالعمل بخبر الفاسق والصبي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعاً وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين فالفرق بين الشهادة والخبر من ثلاثة أوجه: الأول أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ولا كذلك الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد.
الثاني أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة.
الثالث هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع والشهادة شرط لا مثبت بخلاف خبر الواحد فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة المنقول والمعقول.
أما المنقول فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " وقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " البقرة 169 " وقوله تعالى: " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " وأما المعقول فمن أربعة أوجه: الأول أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول عند ظننا بصدقه لاحتمال كونه مصلحة لجاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية وذلك دون اقتران المعجزة بقوله محال.
الثاني أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع لجاز ورود التعبد به في الأصول وليس كذلك.
الثالث أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن وهو محال.
الرابع أن أخبار الآحاد قد تتعارض فلو ورد التعبد بالعمل بها لكان وارداً بالعمل بما لا يكن العمل به ضرورة التعارض وهو ممتنع على الشارع.
والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات الثاني أن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود وقول المفتي وما ذكروه من الفروق فباطلة.
أما الفرق الأول فمن وجهين: الأول أنه لا يطرد في الأخبار المتعلقة بأنواع المعاملات الثاني أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه الصلح كالدماء والفروج.
وأما الفرق الثاني فمن جهة أن الخبر كما يستلزم إثبات أمر شرعي كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك يستلزم إثبات أمر شرعي وهو وجوب القتل والقطع.
وأما الثالث فمن جهة أنه لا فرق بين الخبر والشهادة من حيث إنه لا بد عند الشهادة من دليل يوجب العمل بها كما في العمل بالخبر.
وأما المعارضة بالآيات فجوابها من وجهين: الأول أنا نقول بموجبها وذلك أن العمل بخبر الواحد ووجوب اتباعه إنما هو بدليل مقطوع به مفيد للعلم بذلك وهو الإجماع الثاني أنه لازم على الخصوم في اعتقادهم امتناع التعبد بخبر الواحد إذ هو غير معلوم بدليل قاطع بل غايته أن يكون مظنوناً لهم فالآيات مشتركة الدلالة فكما تدل على امتناع اتباع خبر الواحد تدل على امتناع القول بعدم اتباعه وإذا تعارضت جهات الدلالة فيها امتنع العمل بها وسلم لنا ما ذكرناه وعلى هذا نقول بجواز ورود التعبد بقبول خبر الفاسق والصبي عقلاً إذا غلب على الظن صدقه وإن كان ذلك غير واقع.
وما ذكروه من المعارضات العقلية فجوابها من وجهين: أحدهما عام للكل والثاني خاص بكل واحد منها.
أما العام فهو أن ما ذكروه إلزاماً علينا في خبر الواحد فهو لازم عليهم في ورود التعبد بقبول قول الشاهدين والمفتي فما هو جوابهم عنه يكون جواباً لنا في خبر الواحد.
وأما ما يخص كل معارضة: أما الأولى فالجواب عنها من وجهين: الأول هو أن دعوى الواحد للرسالة ونزول الوحي إليه من أندر الأشياء فإذا لم يقترن بدعواه ما يوجب القطع بصدقه فلا يتصور حصول الظن بصدقه بل الذي يجزم به إنما هو كذبه ونحن وإن قلنا بجواز ورود التعبد بخبر من يغلب على الظن صدقه فقد لا نسلم جواز ورود التعبد بقول من غلب على الظن كذبه الثاني هو أنا إذا جوزنا ورود التعبد بخبر الواحد فوجوب العمل به لا بد وأن يستند إلى دليل قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع ولا كذلك المدعي للرسالة إذا لم تقترن بقوله معجزة تدل على وجوب العمل بقوله.
فإن قيل فلو بعث رسول وظهرت المعجزة القاطعة الدالة على صدقه ثم قال مهما أخبركم إنسان بأن الله تعالى أرسله بشريعة وظننتم صدقه فاعملوا بقوله فقد استند وجوب العمل بقوله إلى دليل قاطع وهو قول النبي الصادق ومع ذلك فإنه لا يجوز.
قلنا: لا نسلم مع فرض هذا التقدير أنه لا يجوز الأخذ بقوله ثم الفرق بين الأمرين هو أن المفسدة اللازمة من قبول قول المدعي للرسالة من غير معجزة أعظم من مفسدة قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية وذلك لأن رئاسة النبوة أعظم من كل رئاسة ورتبتها أعلى من كل رتبة فلو ورد التعبد باتباع كل مدع للرسالة إذا غلب على الظن صدقه من غير معجزة دالة على صدقه فما من أحد من الناس إلا وقد يسلك المسالك المغلبة على الظن صدقه ويتوخى من الأفعال والأقوال ما تظهر به عدالته طمعا في نيل مثل هذه الرئاسة العظمى بمجرد دعواه وذلك يفضي إلى أن كل واحد يدعي نسخ شريعة الآخر ورفعها على قرب من الزمان ولا يخفى ما في ذلك من المفسدة التي لا تحقق لمثلها في خبر الواحد.
وأما المعارضة الثانية فجوابها أن المعتبر في الأصول القطع واليقين ولا قطع في خبر الواحد بخلاف الفروع فإنها مبنية على الظنون.
وأما المعارضة الثالثة فجوابها أن القرآن معجزة الرسول الدالة على صدقه ولا بد وأن يكون طريق إثباته قاطعاً وخبر الواحد ليس بقاطع بخلاف أحكام الشرع فإن ما يثبت منها بخبر الواحد ظنية غير قطعية.
وأما المعارضة الرابعة فجوابها أن التعارض بين الخبرين لا يمنع من العمل بما يرجح منها وبتقدير عدم الترجيح مطلقاً فقد يمكن أن يقال التخيير بينهما على ما هو مذهب الشافعي وبتقدير امتناع التخيير فغايته امتناع ورود التعبد بمثل الأخبار التي لا يمكن العمل بها ولا يلزم منه امتناع ورود التعبد بما أمكن العمل بمقتضاه.
المسألة السابعة الذين قالوا بجواز التعبد بخبر الواحد عقلاً اختلفوا في وجوب العمل به: فمنهم من نفاه كالقاساني والرافضة وابن داود ومنهم من أثبته.
والقائلون بثبوته اتفقوا على أن أدلة السمع دلت عليه واختلفوا في وجوب وقوعه بدليل العقل: فأثبته أحمد بن حنبل والقفال وابن سريج من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وجماعة كثيرة ونفاه الباقون وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة وما لا يسقط بها فمنع منه في الأول وجوزه في الثاني.
فأما من قال بكونه حجة فقد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: من جهة المعقول وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة وهي أنهم قالوا: العقلاء يعلمون وجوب العلم بخبر الواحد في العقليات ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ولا علة لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل وبيان ذلك أنه قد علم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني وأن لا نفصد وأن لا نقوم من تحت حائط مستهدم فقد ظننا تفصيلا لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن المضار.
وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجوداً وعدماً وذلك بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات فوجب العمل به وذلك لأنا قد علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنا فإذا ظننا بخبر الواحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة فوجب العمل به.
ولقائل أن يقول: أما أولاً: فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات بل غايته إذا ظننا صدقه أن يكون العمل بخبره أولى من تركه وكون الفعل أولى من الترك أمر أعم من الواجب لشموله للمندوب فلا يلزم منه الوجوب سلمنا أن العمل بخبره واجب في العقليات ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه وما ذكرتموه من الدوران فلا يدل على أن المدار علة للدائر لجواز أن تكون علة الوجوب غير ما ذكرتموه من ظن تفصيل جملة معلومة بالعقل وذلك بأن تكون العلة معنى ملازماً لما ذكرتموه لا نفس ما ذكرتموه ولا يلزم من التلازم بينهما في العقليات التلازم بينهما في الشرعيات بجواز أن يكون ذلك التلازم في العقليات اتفاقياً وإن سلمنا أن علة الوجوب ما ذكرتموه لكن لا يلزم أن يكون ذلك علة في الشرعيات لجواز أن يكون خصوص ما ظن تفصيل جملته في العقليات داخلاً في التعليل وتلك الخصوصية غير محققة في الشرعيات سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه علة بجهة عمومه لكن قطعاً أو ظناً الأول ممنوع والثاني مسلم غير أنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه فإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع متحقق فيه وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب العمل به في الشرعيات سلمنا عدم الانتقاض لكن غاية ما ذكرتموه أنه استعمال لقياس ظني في إفادة كون خبر الواحد حجة في الشرعيات مع كونه أصلاً من أصول الفقه وإنما يصح ذلك أن لو لم يكن التعبد في إثبات مثل ذلك بالطرق اليقينية وهو غير مسلم.
الحجة الثانية أنهم قالوا: صدق الواحد في خبره ممكن فلو لم يعمل به لكنا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط.
ولقائل أن يقول: صدق الراوي وإن كان ممكناً وراجحاً فلم قلتم بوجوب العمل به والاحتياط بالأخذ بقوله وإن كان مناسباً ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار ولا شاهد له سوى خبر التواتر وقول الواحد في الفتوى والشهادة ولا يمكن القياس على الأول لأن ذلك مفيد للعلم ولا يلزم من إفادته للوجوب إفادة الخبر الظني له ولا يمكن قياسه على الثاني وذلك لأن براءة الذمة معلومة وهي الأصل وغاية قول الشاهد والمفتي إذا غلب على الظن صدقه مخالفة البراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد ولا يلزم من العمل بخبر الشاهد والمفتي مع مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الناس وإن سلمنا صحة القياس فغايته أنه مفيد لظن الإلحاق وهو غير معتبر في إثبات الأصول كما تقدم في الحجة التي قبلها كيف وأنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه.
الحجة الثالثة: أنهم قالوا إذا وقعت واقعة ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع وذلك ممتنع.
ولقائل أن يقول: خلو الواقعة عن الحكم الشرعي إنما يمتنع مع وجود دليله وأما مع عدم الدليل فلا ولهذا فإنه لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة الأصلية وعلى هذا فامتناع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي عند الظفر بخبر الواحد يتوقف على كون خبر الواحد حجة ودليلاً وكونه حجة يتوقف على امتناع خلو الواقعة مع وجوده عن الحكم وهو دور ممتنع كيف وإنا لا نسلم خلو الواقعة عن الحكم الشرعي فإن حكم الله تعالى في حق المكلف عند عدم الأدلة المقتضية لإثبات الحكم الشرعي نفى ذلك الحكم ومدركه شرعي فإن انتفاء مدارك الشرع بعد ورود الشرع مدرك شرعي لنفي الحكم.
الحجة الرابعة: أنه لو لم يكن خبر الواحد واجب القبول لتعذر تحقيق بعثة الرسول إلى كل أهل عصره وذلك ممتنع وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل ولا سبيل له إلى المشافهة للكل لتعذره والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد والتواتر إلى كل أحد متعذر فلو لم يكن خبر الواحد مقبولاً لما تحقق معنى التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به وهو محال مخالف لقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " .
ولقائل أن يقول: إنما يمتنع ذلك أن لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجباً وأن كل من في عصره مكلف بما بعث به وليس كذلك بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه إما بالمشافهة أو بخبر التواتر وكذلك كل واحد من الأمة إنما كلف بما أرسل به الرسول إذا علمه وإما مع عدم علمه به فلا ولهذا فإن من كان في زمن الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة ولا سبيل إلى إعلامه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفاً بتبليغه ولا ذلك الشخص كان مكلفاً بما أرسل به.
الحجة الخامسة: قالوا قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول وغلب على الظن صدقه فإما أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معاً أو تركهما معاً أو العمل بالمرجوح دون الراجح أو بالعكس: لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث لأنه محال فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب.
ولقائل أن يقول: ما المانع من القول بأنه لا يجب العمل بقوله ولا يجب تركه بل هو جائز الترك؟ والقول بأن مخالفة أمر الرسول موجبة لاستحقاق العقاب مسلم فيما علم فيه أمر الرسول وأما مع عدم العلم به فهو محل النزاع هذا ما قيل من الحجج العقلية.
وأما ما قيل من الحجج النقلية الواهية فمنها قوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى: " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " " التوبة 122 " أمر بالإنذار والإنذار هو الإخبار والأمر للوجوب وإنما أمر بالإنذار طلباً للحذر بدليل قوله تعالى: " لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " ولعل ظاهرة في الترجي وهو مستحيل في حق الله تعالى فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي وهو الطلب فكان الأمر بالإنذار طلباً للتحذير فكان أمراً بالتحذير فكان الحذر واجباً وإذا ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر فالمراد من لفظ الطائفة إنما هو العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول أن لفظ الطائفة قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر كالاثنين والثلاثة وعلى العدد المنتهي إلى حد التواتر والأصل في الإطلاق الحقيقة ويجب اعتقاد اتحاد المسمى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ والقدر المشترك لا يخرج عن العدد القليل وما لازمه فكان هو المسمى.
الثاني أن الثلاثة فرقة فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان.
الثالث أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ الطائفة التي وجب عليها الخروج للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر أو ما دونه لا جائز أن يقال بالأول وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة إذا كان ما دونهم لا ينتهون إلى حد التواتر أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار وذلك لا قائل به في عصر النبي ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة لزم أن يكون حجة في غيرها ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه وصيغة قوله لينذروا لا نسلم أنها للأمر وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي سلمنا أنها للوجوب ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من فعل شيء أو تركه بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة والتخويف خارج عن الإخبار سلمنا أن المراد به الإخبار ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق الفتوى في الفروع والأصول ونحن نقول به سلمنا أن المراد به الإخبار عن الرسول بما سمع عنه ومنه ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك إيجاب الحذر على من أخبر.
قولكم يجب حمل قوله تعالى " لعل " على طلب الحذر لكونه ملازماً للترجي قلنا: الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى والثاني ممنوع وإذا لم يكن الحذر مأموراً به لا يكون واجباً ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في الشرعيات غير خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول والخصم مانع لصحته.
ومنها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " " الحجرات 6 " ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين: الأول أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق فدل على أن خبر غير الفاسق بخلافه وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله لا جائز أن يقال الأول وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق وهو محال فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب الثاني أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعياً إلى قوم فعاد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا وأرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم وقتلهم وذلك حكم شرعي وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ولو لم يكن جائزاً لما أراده ولا نكره الله تعالى عليه.
وهذه الحجة أيضاً ضعيفة: أما الوجه الأول فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة وسنبين أنه ليس بحجة وإن كان حجة لكنه حجة ظنية فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول.
وأما الوجه الثاني فمن وجهين الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم بخبر الوليد بن عقبة فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبت في أمرهم فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد بن الوليد ورأى ما يعجبه منهم فرجع إلى النبي وأخبره بذلك.
الثاني أن ما ذكروه من سبب النزول من أخبار الآحاد فلا يكون حجة في الأصول ومنها قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " ووجه الحجة من ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ولا يجوز أن يجعله الله شاهداً على الناس وهو غير مقبول القول.
ولقائل أن يقول: الآية خطاب مع الأمة لا مع الآحاد فلا تكون حجة في محل النزاع ومنها قوله تعالى: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " " البقرة 159 " الآية ووجه الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى وذلك يدل على إيجاب إظهار الهدى وما يسمعه الواحد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الهدى فيجب عليه إظهاره فلو لم يجب علينا قبوله لكان الإظهار كعدمه فلا يجب.
ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون المراد من قوله: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " " البقرة 159 " العدد الذي تقوم به الحجة ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك وبتقدير إرادة ما دون ذلك فيحتمل أن يكون المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول حتى السنة فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول على من سمعه وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على لسان الآحاد ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه وإن كان لا يجب على سامعه قبوله وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل واحد واحد حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم ومع ذلك كله فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية فلا تكون حجة في الأصول لما سبق.
ومنها قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " " النحل 43 " أمر بسؤال أهل الذكر والأمر للوجوب ولم يفرق بين المجتهد وغيره وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمعه دون الفتوى ولو لم يكن القبول واجباً لما كان السؤال واجباً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله " فاسألوا " صيغة أمر وإن كانت أمرا فلا نسلم أنها للوجوب كما يأتي وإن كانت للوجوب فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم وأن يكون المراد من المسؤول عنه الفتوى وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر فيحتمل أن يكون المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر وذلك لأنه أوجب السؤال عند عدم العلم فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال لكان السؤال واجباً بعد حصول خبر الواحد لعدم حصول العلم بخبره فإنه لا يفيد غير الظن وذلك يدل على أن العمل بخبر الواحد غير واجب لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال فذلك إنما يتم بخبر التواتر لا بما دونه وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق فلا يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجباً بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول لكنها دلالة ظنية فلا يحتج بها في الأصول.
ومنها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " " النساء 135 " أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله والأمر للوجوب ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه فقد قام بالقسط وشهد لله فكان ذلك واجباً عليه وإنما يكون ذلك واجباً إن لو كان القبول واجباً وإلا كان وجود الشهادة كعدمها وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا أسلم دلالة الآية على وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي وإن سلمنا دلالتها على وجوب ذلك غير أنا نقول بموجب الآية فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون فيما يجوز العمل به وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياماً بالقسط ولا شهادة لله وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد على أنه قام بالقسط وأنه شاهد لله وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف عل قبول خبره وجواز العمل به وهو دور ممتنع وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ولكن لا نسلم أنه واجب القبول ودليله ما سبق وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول ولكن لجهة الظن فلا يصح.
ومنها ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد بالدعاء إلى الإسلام وتبليغ الأخبار والأحكام وفصل الخصومات وقبض الزكوات ونحو ذلك مع علمنا بتكليف المبعوث إليه بالطاعة والانقياد لقبول قول المبعوث إليهم والعمل بمقتضى ما يقول مع كون المنفذ من الآحاد ولو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان كذلك.
ولقائل أن يقول: وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها وذلك محل النزاع سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار الدالة على الأحكام الشرعية وتعريفهم إياها ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على كون خبر الواحد في ذلك حجة بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم للمبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر غير ذلك الواحد إليه ومع هذه الاحتمالات فلا يثبت كون خبر الواحد حجة فيما نحن فيه.
وقد أورد على هذه الحجة سؤالان آخران لا وجه لهما الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى وتعريف الرسالة فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع.
الثاني أن من الجائز أن يكون تنفيذ الآحاد بالإخبار عن أحكام شرعية كانت معلومة للمبعوث لهم قبل إرسال ذلك الواحد بها كما أنهم علموا وجوب العمل بخبر الواحد قبل إرسال ذلك الواحد إليهم على أصلكم.
والجواب: عن الأول أن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول لكونه خبر واحد بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية ويعرفهم من الدلائل اليقينية التي تشهد بصحتها عقولهم ولا كذلك فيما يخبر به من الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية.
وعن الثاني أنهم لو كانوا عالمين بالأحكام الشرعية التي دل عليها خبر الواحد لما احتيج إلى إرساله لتعريفهم لما قد عرفوه لما فيه من تحصيل الحاصل كيف وإن تعريف المعلوم بالخبر المظنون محال وهذا بخلاف ما إذا علم كون خبر الواحد مما يجب العمل به في الجملة فإن تنفيذ الواحد لا يعرف وجوب العمل بقوله بل إنما يعرف المخبر به على ما هو عليه وذلك لم يكن معروفاً قبل خبره فكان تنفيذه لتعريف ذلك مفيداً.
والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة ويدل على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والحصر المتفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب العمل به فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة أن النبي أطعمها السدس فجعل لها السدس ومن ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وعمل أيضاً بخبر حمل ابن مالك في الجنين وهو قوله كنت بين جاريتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة فقال عمر: لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا وروي عنه أنه قال: كدنا نقضي فيه برأينا وأيضاً فإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه وأيضاً فإنه كان يرى في الأصابع نصف الدية ويفاضل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشرة ثم رجع إلى خبر عمرو بن جزم أن في كل إصبع عشرة.
ومن ذلك عمل عثمان وعلي رضي الله عنهما بخبر فريعة بنت مالك في اعتداد المتوفي عنها زوجها في منزل زوجها وهو أنها قالت: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة فقال صلى الله عليه وسلم: امكثي حتى تنقضي عدتك.
ومن ذلك ما اشتهر من عمل علي عليه السلام بخبر الواحد وقوله: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته.
ومن ذلك عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة.
ومن ذلك عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وأبي بن كعب شراباً من فضيخ التمر إذ أتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها قال فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
ومن ذلك عمل أهل قبا في التحول من القبلة بخبر الواحد أن القبلة قد نسخت فالتفتوا إلى الكعبة بخبره ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه بلغه عن رجل أنه قال إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس: كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل وسماه عدواً لله ومن ذلك ما روي أنه لما باع معاوية شيئاً من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية: لا أرى بذلك بأساً فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبداً ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه أبو بكر الصديق من قوله: الأئمة من قريش ومن قوله الأنبياء يدفنون حيث يموتون ومن قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وعملهم بأجمعهم في الرجوع عن سقوط فرض الغسل بالتقاء الختانين بقول عائشة فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا وعمل جميعهم بخبر رافع بن خديج في المخابرة وذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا وإلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عدداً وكان ذلك شائعاً ذائعاً فيما بينهم من غير نكير وعلى هذا جرت سنة التابعين كعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع ابن جبير وخارجة بن زيد وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وطاوس وعطاء بن مجاهد وسعيد بن المسيب وفقهاء الحرمين والمصرين يعني الكوفة والبصرة إلى حين ظهور المخالفين.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون خبر الواحد حجة أخبار آحاد وذلك يتوقف على كونها حجة وهو دور ممتنع سلمنا عدم الدور ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس أو قرائن الأحوال أو غير ذلك من الأسباب سلمنا أنهم عملوا بها لا غير لكن كل الصحابة أو بعضهم الأول ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه والثاني مسلم لكن لا حجة فيه.
قولكم لم يوجد له نكير لا نسلم ذلك وبيانه من وجوه منها رد أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة ومنها رد أبي بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص ومنها رد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستيذان وهو قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف " حتى روى معه أبو سعيد الخدري ومنها رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر ومنها رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه.
سلمنا عدم الرد والإنكار ظاهراً غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة لما سبق في مسائل الإجماع سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه بالقبول وعملوا بموجبه أو مطلقاً في كل خبر الأول مسلم وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل على صحته قطعاً نفياً للخطأ عن الإجماع والثاني ممنوع وعلى هذا فيمتنع الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد حجة لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة وبيانه من جهة المعقول والمنقول: أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " وقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " البقرة 169 " وقوله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن " " النجم 28 " ذكر ذلك في معرض الذم والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن فكان ممتنعاً.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين وهو قوله: " أقصرت الصلاة أم نسيت " حتى أخبر أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه فأتم وسجد للسهو وأما المعقول فمن وجوه.
الأول أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع لجاز ذلك في الرسالة والأصول وهو ممتنع.
الثاني أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق وهو مقطوع به فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنوناً.
الثالث أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له.
الرابع أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد فلا يجوز للمجتهد ذلك كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر.
والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار وإن كانت آحادها آحاداً فهي متواترة من جهة الجملة كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنترة.
وعن الثاني أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية لكانت العادة تحيل تواطؤهم على عدم نقله ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر من الأخبار كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا وقول ابن عمر حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر عائشة في التقاء الختانين إلى غير ذلك وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع الوقائع دليل العمل بها.
وعن الثالث أن عمل بعض الصحابة بل الأكثر من المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك كما سبق تقريره في مسائل الإجماع وما رووه من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها مع كونهم متفقين على العمل بها ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها.
وعن الرابع أن اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه أن لو لم يكونوا متعبدين باتباع الظن وليس كذلك بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة المتواترة والعمل بالقياس على ما يأتي وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد لكونه ظنياً مضبوطاً بالعدالة كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولاً بها ضرورة بالاتفاق عليه من تلك الجهة وذلك يعم خبر كل عدل.
وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً.
وعن السنة أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين وعمل بموجب خبره كيف وإن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر وهو موضع النزاع وفي تسليمه تسليم المطلوب.
وعن المعارضة الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة كيف والفرق حاصل وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي فلم يكن الدليل الظني معتبراً فيها بخلاف الفروع وعن الثانية من وجهين: الأول أن براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون رفع مقطوع بمظنون الثاني أنه منتقض بالشهادة والفتوى.
وعن الثالث أن تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به وإلا لما ساغ التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة لأنه ما من واحد منها إلا ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له ولما ساغ أيضاً للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ولا للعامي الأخذ بفتوى المجتهد له لجواز وجود ما يعارضه وذلك خلاف الإجماع.
وعن الرابع أنه إنما لم يجز تقليد العالم للعالم لاستوائهما في درجة الاجتهاد وليس تقليد أحدهما للآخر أولى من العكس ولا كذلك المجتهد مع الراوي فإنهما لم يستويا في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما رواه.
وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك.
وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة والله أعلم بالصواب.
القسم الثاني
في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد
وما يتشعب عنها من المسائل
أما الشروط فمنها ما لا بد منها ومنها ما ظن أنها شروط وليست كذلك أما الشروط المعتبرة فهي أربعة.الشرط الأول أن يكون الراوي مكلفاً.
وذلك لأن من لا يكون مكلفاً إما أن يكون بحيث لا يقدر على الضبط والاحتراز فيما يتحمله ويؤديه كالمجنون والصبي غير المميز فلا تقبل روايته لتمكن الخلل فيها وإما أن يكون بحيث يقدر على الضبط والمعرفة كالصبي المميز والمراهق الذي لم يبق بينه وبين البلوغ سوى الزمان اليسير فلا تقبل روايته لا لعدم ضبطه فإنه قادر عليه متمكن منه ولا لما قيل من أنه لا يقبل إقراره على نفسه فلا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى لأنه منتقض بالعبد وبالمحجور عليه فإنه لا يقبل إقراره على نفسه وروايته مقبولة بالإجماع بل لأنا أجمعنا على عدم قبول رواية الفاسق لاحتمال كذبه مع أنه يخاف الله تعالى لكونه مكلفاً فاحتمال الكذب من الصبي مع أنه لا يخاف الله تعالى لعدم تكليفه يكون أظهر من احتمال الكذب في حق الفاسق فكان أولى بالرد ولا يلزم من قبول قوله في إخباره أنه متطهر حتى إنه يصح الاقتداء به في الصلاة مع أن الظن بكونه متطهراً شرط في صحة الاقتداء به وقبول روايته لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الاقتداء به في الصلاة ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند ظن طهارته ولا تقبل روايته وإن ظن صدقه ومن قال بقبول شهادة الصبيان فيما يجري بينهم من الجنايات.
فإنما كان اعتماده في ذلك على أن الجنايات فيما بينهم مما تكثر وأن الحاجة ماسة إلى معرفة ذلك بالقرائن وهي شهادتهم مع كثرتهم قبل تفرقهم وليس ذلك جارياً على منهاج الشهادة ولا الرواية وهذا بخلاف ما إذا تحمل الرواية قبل البلوغ وكان ضابطاً لها وأداها بعد البلوغ وظهور رشده في دينه فإنها تكون مقبولة لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول روايته الإجماع والمعقول أما الإجماع فمن وجهين: الأول أن الصحابة أجمعت على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة مطلقاً من غير فرق بين ما تحملوه في حالة الصغر وبعد البلوغ.
الثاني إجماع السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث وقبول روايتهم لما تحملوه في حالة الصبا بعد البلوغ.
وأما المعقول فهو أن التحرز في أمر الشهادة أكثر منه في الرواية ولهذا اختلف في قبول شهادة العبد والأكثر على ردها ولم يختلف في قبول رواية العبد واعتبر العدد في الشهادة بالإجماع واختلف في اعتباره في الرواية وقد أجمعنا على أن ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به بعد البلوغ قبلت شهادته فالرواية أولى بالقبول.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً.
وذلك لأن الكافر إما أن لا يكون منتمياً إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني ونحوه أو هو منتم إليها كالمجسم.
فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع قبول روايته لا لما قيل من أن الكفر أعظم أنواع الفسق والفاسق غير مقبول الرواية فالكافر أولى وذلك لأن الفاسق إنما لم تقبل روايته لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها وهذا المعنى غير متحقق في حق الكافر إذا كان مترهباً عدلاً في دينه معتقداً لتحريم الكذب ممتنعاً منه حسب امتناع العدل المسلم وإنما الاعتماد في امتناع قبول روايته على إجماع الأمة الإسلامية على ردها سلباً لأهلية هذا المنصب الشريف عنه لخسته.
وإن كان الثاني فقد اختلفوا فيه فمذهب أكثر أصحابنا كالقاضي أبي بكر والغزالي والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنه مردود الرواية وقال أبو الحسين البصري: إن كان ذلك فيمن اشتهر بالكذب والتدين به لنصرة مذهبه فلا تقبل روايته لعدم الوثوق بصدقه وإن كان متحرجاً في مذهبه متحرزاً عن الكذب حسب احتراز العدل عنه فهو مقبول الرواية لأن صدقه ظاهر مظنون والمختار رده لا لما قيل من إجماع الأمة على رده ولا لقياسه على الكافر الخارج عن الملة بواسطة اشتراكهما في الكفر المناسب لسلب أهلية هذا المنصب عنه إذلالاً له.
أما الأول فلأن للخصم منع اتفاق الأمة على رد قول الكافر مطلقاً ولا سبيل إلى الدلالة عليه والقياس على الكافر الخارج عن الملة متعذر من جهة أن كفره أشد وأغلظ وأظهر من كفر من هو من أهل القبلة لكثرة مخالفته للقاعدة الإسلامية أصولاً وفروعاً بالنسبة إلى مخالفة المتأول لها.
فكان إذلاله بسلب هذا المنصب عنه أولى ومع هذه الأولوية فلا قياس بل الواجب الاعتماد في ذلك على قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة " " الحجرات 6 " أمر بالتثبت عند إخبار الفاسق والكافر فاسق لأن الكفر أعلى درجات الفسق وإذا كان فاسقاً فالآية إن كانت عامة بلفظها في كل فاسق فالكافر داخل تحتها وإن لم تكن عامة بلفظها في كل فاسق فهي عامة بالنظر إلى المعنى المومي إليه وهو الفسق من حيث إنه رتب رد الخبر على كون الآتي به فاسقاً مطلقاً في كلام الشارع مع مناسبته له فكان ذلك علة للرد وهو متحقق فيما نحن فيه.
فإن قيل المرتب عليه رد الأخبار إنما هو مسمى الفاسق وهو في عرف الشرع خاص بمن هو مسلم صدرت منه كبيرة أو واظب على صغيرة فلا يكون متناولاً للكافر وإن سلمنا تناوله للكافر غير أنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والكافر المتأول إذا كان متحرزاً عن الكذب فقد ظهر صدقه فوجب العمل به للخبر.
والجواب عن السؤال الأول بمنع اختصاص اسم الفاسق في الشرع بالمسلم وإن كان ذلك عرفاً للمتأخرين من الفقهاء وكلام الشارع إنما ينزل على عرفه لا على ما صار عرفاً للفقهاء كيف وإن حمل الآية على الفاسق المسلم مما يوهم قبول خبر الفاسق الكافر على الإطلاق نظراً إلى قضية المفهوم وهو خلاف الإجماع ولا يخفى أن حمل اللفظ على ما يلزم منه مخالفة دليل أو ما اختلف في كونه دليلاً على خلاف الأصل.
وعن السؤال الثاني أن العمل بما ذكرناه أولى لتواتره وخصوصه بالفاسق وأنه غير متفق على تخصيصه ومخالفته وما ذكروه آحاد وهو متناول للكافر بعموم كون خبره ظاهراً أو هو مخالف لخبر الكافر الخارج عن الملة والفاسق إذا ظن صدقه فإن خبره لا يكون مقبولاً بالإجماع.
الشرط الثالث: أن يكون ضبطه لما يسمعه أرجح من عدم ضبطه وذكره له أرجح من سهوه لحصول غلبة الظن بصدقه فيما يرويه.
وإلا فبتقدير رجحان مقابل كل واحد من الأمرين عليه أو معادلته له فروايته لا تكون مقبولة لعدم حصول الظن بصدقه أما على أحد التقديرين فلكون صدقه مرجوحاً وأما على التقدير الآخر فلضرورة التساوي وإن جهل حال الراوي في ذلك كان الاعتماد على ما هو الأغلب من حال الرواة وإن لم يعلم الأغلب من ذلك فلا بد من الاختبار والامتحان.
فإن قيل إنه وإن غلب السهو على الذكر أو تعادلاً فالراوي عدل والظاهر منه أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بذكره له وضبطه ولهذا فإن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته حتى قالت عائشة رضي الله عنها رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهزاراً في حديث المهراس ومع ذلك قبلوا أخباره لما كان الظاهر من حاله أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بضبطه وذكره وأيضا فإن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فتساوي الضبط والاختلال والذكر والنسيان غايته أنه موجب للشك في الصحة والشك في ذلك لا يقدح في الأصل كما إذا كان متطهراً ثم شك بعد ذلك أنه محدث أو طاهر فإن الأصل هاهنا لا يترك بهذا الشك.
قلنا: إذا كان الغرض إنما هو غلبة السهو أو التعادل فالراوي وإن كان الغالب من حاله أنه لا يروي إلا ما يظن أنه ذاكر له فذلك لا يوجب حصول الظن بصحة روايته لأن من شأنه النسيان يظن أنه ما نسي وإن كان ناسياً وأما إنكار الصحابة على أبي هريرة كثرة الرواية فلم يكن ذلك لاختلال ضبطه وغلبة النسيان عليه بل لأن الإكثار مما لا يؤمن معه اختلال الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته وإن كان ذلك بعيداً.
وما قيل من أن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فلا يترك بالشك قلنا إنما يكون دليلاً والأصل فيه الصحة إذا كان مغلباً على الظن ومع عدم ترجيح ذكر الراوي على نسيانه لا يكون مغلباً على الظن فلا يكون دليلاً لوقوع التردد في كونه دليلاً لا في أمر خارج عنه ولا كذلك فيما إذا شك في الحديث ثم تيقن سابقة الطهارة فإن تيقن الطهارة السابقة لا يقدح فيه الشك الطارئ وبالنظر إليه يترجح إليه أحد الاحتمالين فلا يبقى معه الشك في الدوام حتى إنه لو بقي الشك مع النظر إلى الأصل لما حكم بالطهارة.
الشرط الرابع: أن يكون الراوي متصفاً بصفة العدالة وذلك يتوقف على معرفة العدل لغة وشرعاً.
أما العدل في اللغة فهو عبارة عن المتوسط في الأمور من غير إفراط في طرفي الزيادة والنقصان ومنه قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " أي عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد وقد يطلق في اللغة ويراد به المصدر المقابل للجور وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب له وترك ما لا يجب والجور في مقابلته وقد يطلق ويراد به ما كان من الأفعال الحسنة يتعدى الفاعل إلى غيره ومنه يقال للملك المحسن إلى رعيته: عادل.
وأما في لسان المتشرعة فقد يطلق ويراد به أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الغزالي في معنى هذه الأهلية إنها عبارة عن استقامة السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه.
وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات أما الكبائر فقد روى ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الكبائر تسع: الشرك بالله تعالى وقتل النفس المؤمنة وقذف المحصنة والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد بالبيت الحرام " .
وروى أبو هريرة مع ذلك: أكل الربا والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة وروي عن علي عليه السلام أنه أضاف إلى ذلك السرقة وشرب الخمر.
وأما بعض الصغائر فما يدل فعله على نقض الدين وعدم الترفع عن الكذب وذلك كسرقة لقمة والتطفيف بحبة واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث ونحوه.
وأما بعض المباحات فما يدل على نقص المروءة ودناءة الهمة كالأكل في السوق والبول في الشوارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ونحو ذلك مما يدل على سرعة الإقدام على الكذب وعدم الاكتراث به.
ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى أن لا يجتنب الكذب فلا يكون موثوقاً بقوله ولا خلاف أيضاً في اشتراط هذه الأمور الأربعة في الشهادة.
وتختص الشهادة بشروط أخر: كالحرية والذكورة والعدد والبصر وعدم القرابة والعداوة.
وإذ أتينا على تحقيق شروط الرواية فلا بد من الإشارة إلى ذكر مسائل متشعبة عن شروط العدالة جرت العادة بذكرها وهي ثمان مسائل: المسألة الأولى مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له.
وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً. وقد احتج النافون بحجج الأولى: أن الدليل بنفي قبول خبر الفاسق وهو قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " " الحجرات 6 " غير أنا خالفناه فيمن ظهرت عدالته بالاختبار بمعنى لا وجود له في محل النزاع وهو ما اختص به من زيادة ظهور الثقة بقوله فوجب أن لا يقبل ولقائل أن يقول: الآية إنما دلت على امتناع قبول خبر الفاسق ومن ظهر إسلامه وسلم من الفسق ظاهراً لا نسلم أنه فاسق حتى يندرج تحت عموم الآية واحتمال وجود الفسق فيه لا يوجب كونه فاسقاً بدليل العدل المتفق على عدالته.
الحجة الثانية: أنه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية دفعاً لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات ولقائل أن يقول: وإن كان احتمال الكذب قائماً ظاهراً غير أن احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أظهر من احتمال الكذب ومع ذلك فاحتمال القبول يكون أولى من احتمال الرد ولا يمكن القياس على الشهادة لأن الاحتياط في باب الشهادة أتم منه في باب الرواية ولهذا كان العدد والحرية مشترطاً في الشهادة دون الرواية ومتعبداً فيها بألفاظ خاصة غير معتبرة في الرواية حتى إنه لو قال أعلم بدل قوله أشهد لم يكن مقبولاً وعلى هذا فلا يلزم من اشتراط ظهور العدالة في الشهادة بالخبرة الباطنة اشتراط ذلك في الرواية.
الحجة الثالثة قالوا: أجمعنا على أن العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار فلا تقبل أخباره دفعاً للمفسدة اللازمة من فوات الشرط كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنه لا يجب على المقلد اتباعه إجماعاً.
ولقائل أن يقول: المجمع على اشتراطه في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أو بمعنى آخر والأول مسلم غير أن ما هو الشرط متحقق فيما نحن فيه والثاني ممنوع كيف وإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق في الحجة المتقدمة وبتقدير ظهور مناسبة الوصف الجامع فالاعتبار بالمفتي غير ممكن وذلك لأن بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ولهذا كانت العدالة أغلب وقوعاً من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية وعند ذلك فاحتمال عدم صفة الاجتهاد يكون أغلب من عدم صفة العدالة فلا يلزم من عدم قبول قول المفتي مع الجهل بحاله القول بعدم قبول الراوي مع الجهل بحاله.
الحجة الرابعة أن عدم الفسق شرط في قبول الرواية فاعتبر فيه الخبرة الباطنية مبالغة في دفع الضرر كما في عدم الصبي والرق والكفر في قبول الشهادة.
ولقائل أن يقول ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق تقريره في الحجة الثانية وبتقدير مناسبته فالقياس على الشهادة غير ممكن لما تقدم.
الحجة الخامسة قالوا: رد عمر رواية فاطمة بنت قيس لما كانت مجهولة الحال وعلي عليه السلام رد قول الأشجعي في المفوضة واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً.
ولقائل أن يقول: أما رد عمر لخبر فاطمة إنما كان لأنه لم يظهر صدقها ولهذا قال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وما نحن فيه ليس كذلك فإن من ظهر إسلامه وسلامته من الفسق ظاهراً فاحتمال صدقه لا محالة أظهر من احتمال كذبه وأما رد علي عليه السلام لخبر الأشجعي فإنما كان أيضاً لعدم ظهور صدقه عنده ولهذا وصفه بكونه بوالاً على عقبيه أي غير محترز في أمور دينه ويجب أن يكون كذلك وإلا كان مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلم " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " .
والمعتمد في المسألة أنا نقول: القول بوجوب قبول رواية مجهول الحال يستدعي دليلاً والأصل عدم ذلك الدليل والمسألة اجتهادية ظنية فكان ذلك كافياً فيها فإن قيل بيان وجود الدليل من جهة النص والإجماع والمعقول: أما النص فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا " " الحجرات 6 " أمر بالتثبت مشروطاً بالفسق فما لم يظهر الفسق لا يجب التثبت فيه.
وأما السنة فمن وجهين: الأول قوله عليه السلام: " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وما نحن فيه فالظاهر من حاله الصدق فكان داخلاً تحت عموم الخبر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الأعرابي وقال أشهد أن لا إله إلا الله وشهد برؤية الهلال عنده قبل شهادته وأمر بالنداء بالصوم لما ثبت عنده إسلامه ولم يعلم منه ما يوجب فسقاً فالرواية أولى.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا متفقين على قبول أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من الفسق ظاهراً.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق فكان خبره مقبولاً كإخباره بكون اللحم لحم مذكي وكون الماء طاهراً أو نجساً وكون الجارية المبيعة رقيقة وكونه متطهراً عن الحدثين حتى يصح الاقتداء به ونحوه والثاني أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبراً من غير مهلة فمع ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه يمتنع رد روايته وإذا قبلت روايته حال إسلامه فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده.
والجواب عن الآية أن العمل بموجبها نفياً وإثباتاً متوقف على معرفة كونه فاسقاً أو ليس فاسقاً لا على عدم علمنا بفسقه وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله وعن الخبر الأول من ثلاثة أوجه: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف الحكم بالظاهر إلى نفسه ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه لا بنفس النص المذكور والقياس عليه ممتنع لأن ما للنبي صلى الله عليه وسلم من الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية غير متحقق في حق غيره.
الثاني أنه رتب الحكم على الظاهر وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة.
الثالث المعارضة بقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس " وليس العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر بل العمل بالآية أولى لأنها متواترة وما ذكروه آحاد.
وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام.
وعن الإجماع لا نسلم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا ردوا رواية من جهلوه كرد عمر شهادة فاطمة بنت قيس ورد علي شهادة الأعرابي.
وعن الوجه الأول من المعقول بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع وذلك من وجهين: الأول أن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى رتبة وأشرف منصباً من الإخبار فيما ذكروه من الصور فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما الثاني أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور الفسق ولا كذلك فيما نحن فيه.
وعن الوجه الثاني من المعقول بمنع قبول روايته دون الخبرة بحاله لاحتمال أن يكون كذوباً وهو باق على طبعه وإن قلنا: روايته في مبدأ إسلامه فلا يلزم ذلك في حالة دوامه لما بين ابتداء الإسلام ودوامه من رقة القلب وشدة الأخذ بموجباته والحرص على امتثال مأموراته واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في أمر محبوب والتزمه فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه.
المسألة الثانية الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو إما أن يكون فسقه مظنوناً أو مقطوعاً به.
فإن كان مظنوناً كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ فالأظهر قبول روايته وشهادته وقد قال الشافعي رضي الله عنه: إذا شرب الحنفي النبيذ أحده وأقبل شهادته.
وإن كان فسقه مقطوعاً به فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فلا نعرف خلافاً في امتناع قبول شهادته كالخطائية من الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقهم في المذهب وإن كان الثاني كفسق الخوارج الذين استباحوا الدار وقتلوا الأطفال والنسوان فهو موضع الخلاف: فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء أن روايته وشهادته مقبولة وهو اختيار الغزالي وأبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته وهو المختار.
وقد احتج النافون بحجة ضعيفة وذلك أنهم قالوا: أجمعنا على أن الفاسق المفروض لو كان عالماً بفسقه لم يقبل خبره فإذا كان جاهلاً بفسقه معتقداً أنه ليس بفاسق فقد انضم إلى فسقه فسق آخر وخطيئة أخرى وهو اعتقاده في الفسق أنه ليس بفسق فكان أولى أن لا يقبل خبره.
ولقائل أن يقول: إذا لم يعتقد أنه فاسق وكان متحرجاً محترزاً في دينه عن الكذب وارتكاب المعصية فكان إخباره مغلباً على الظن صدقه بخلاف ما إذا علم أن ما يأتي به فسقاً فذلك يدل على قلة مبالاته بالمعصية وعدم تحرزه عن الكذب فافترقا والمعتمد في ذلك النص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا " " الحجرات 6 " أمر برد نبأ الفاسق والخلاف إنما هو فيمن قطع بفسقه فكان مندرجاً تحت عموم الآية غير أنا خالفناه فيمن كان فسقه مظنوناً وما نحن فيه مقطوع بفسقه فلا يكون في معنى صورة المخالفة وأيضا قوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " غير أنا خالفناه في خبر من ظهرت عدالته وفيمن كان فسقه مظنوناً فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
وأما المعقول فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلاً والأصل عدمه فإن قيل: بيان وجود الدليل النص والإجماع والقياس: أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والفاسق فيما نحن فيه محترز عن الكذب متدين بتحريمه فكان صدقه في خبره ظاهراً فكان مندرجاً تحت عموم الخبر.
وأما الإجماع فهو أن علياً عليه السلام والصحابة قبلوا أقوال قتلة عثمان والخوارج مع فسقهم ولم ينكر ذلك منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما القياس فهو أن الظن بصدقه موجود فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده قياساً على العدل والمظنون فسقه والجواب: عن الخبر ما سبق في المسألة التي قبلها.
وعن الإجماع: أنا لا نسلم أن كل من قبل شهادة الخوارج وقتلة عثمان كانوا يعتقدون فسقهم فإن الخوارج من جملة المسلمين والصحابة ولم يكونوا معتقدين فسق أنفسهم ومع عدم اعتقاد الجميع لفسقهم وإن قبلوا شهادتهم فلا يتحقق انعقاد الإجماع على قبول خبر الفاسق.
وعن القياس بالفرق في الأصول المستشهد بها أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة والرواية وذلك يناسب قبوله إعظاماً له وإجلالاً بخلاف الفاسق وأما في مظنون الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان فسقه مقطوعاً به فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا.
المسألة الثالثة اختلفوا في الجرح والتعديل: هل يثبت بقول الواحد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا بد في التعديل والجرح من اعتبار العدد في الرواية والشهادة وذهب آخرون إلى الاكتفاء بالواحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر.
والذي عليه الأكثر إنما هو الاكتفاء بالواحد في باب الرواية دون الشهادة وهو الأشبه وذلك لأنه لا نص ولا إجماع في هذه المسألة يدل على تعيين أحد هذه المذاهب فلم يبق غير التشبيه والقياس.
ولا يخفى أن العدالة شرط في قبول الشهادة والرواية والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه فكان إلحاق الشرط بالمشروط في طريق إثباته أولى من إلحاقه بغيره وقد اعتبر العدد في قبول الشهادة دون قبول الرواية فكان الحكم في شرط كل واحد منهما ما هو الحكم في مشروطه.
فإن قيل: التزكية والتعديل شهادة فكان العدد معتبراً فيهما كالشهادة على الحقوق قلنا: ليس ذلك أولى من قول القائل بأنها إخبار فلا يعتبر العدد في قبولها كنفس الرواية فإن قيل: إلا أن ما ذكرناه أولى لما فيه من زيادة الاحتياط.
قلنا: بل ما يقوله الخصم أولى حذراً من تضييع أوامر الله تعالى ونواهيه كيف وأن اعتبار قول الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه ولا يخفى أن ما يلزم منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته.
المسألة الرابعة اختلفوا في قبول الجرح والتعديل دون ذكر سببهما: فقال قوم: لا بد من ذكر السبب فيهما أما في الجرح فلاختلاف الناس فيما يجرح به فلعله اعتقده جارحاً وغيره لا يراه جارحاً وأما في العدالة فلأن مطلق التعديل لا يكون محصلاً للثقة بالعدالة لجري العادة بتسارع الناس إلى ذلك بناء على الظاهر.
وقال قوم: لا حاجة إلى ذلك فيهما اكتفاء ببصيرة المزكي والجارح وهو اختيار القاضي أبي بكر.
وقال الشافعي رضي الله عنه لا بد من ذكر سبب الجرح لاختلاف الناس فيما يجرح به بخلاف العدالة فإن سببها واحد لا اختلاف فيه ومنهم من عكس الحال واعتبر ذكر سبب العدالة دون الجرح.
والمختار إنما هو مذهب القاضي أبي بكر وذلك لأنه إما أن يكون المزكي والجارح عدلاً بصيراً بما يجرح به ويعدل أو لا يكون كذلك فإن لم يكن عدلاً أو كان عدلاً وليس بصيراً فلا اعتبار بقوله وإن كان عدلاً بصيراً وجب الاكتفاء بمطلق جرحه وتعديله إذا الغالب مع كونه عدلاً بصيراً أنه ما أخبر بالعدالة والجرح إلا وهو صادق في مقاله فلا معنى لاشتراط إظهار السبب مع ذلك.
والقول بأن الناس قد اختلفوا فيما يجرح به وإن كان حقاً إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بجهات الجرح والتعديل أنه أيضاً يكون عارفاً بمواقع الخلاف في ذلك والظاهر أنه لا يطلق الجرح إلا في صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلساً ملبساً بما يوهم الجرح على من لا يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة والدين وبمثل هذا يظهر أنه ما أطلق التعديل إلا بعد الخبرة الباطنة والإحاطة بسريرة المخبر عنه ومعرفة اشتماله على سبب العدالة دون البناء على ظاهر الحال.
المسألة الخامسة إذا تعارض الجرح والتعديل فلا يخلو إما أن يكون الجارح قد عين السبب أو لم يعينه: فإن لم يعينه فقول الجارح يكون مقدماً لاطلاعه على ما لم يعرفه العدل ولا نفاه لامتناع الشهادة على النفي وإن عين السبب بأن يقول تقديراً: رأيته وقد قتل فلاناً فلا يخلو إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك أو يتعرض لنفيه.
فإن كان الأول فقول الجارح يكون مقدماً لما سبق وإن تعرض لنفيه بأن قال: رأيت فلاناً المدعي قتله حياً بعد ذلك فهاهنا يتعارضان ويصح ترجيح أحدهما على الآخر بكثرة العدد وشدة الورع والتحفظ وزيادة البصيرة إلى غير ذلك مما ترجح به إحدى الروايتين على الأخرى كما سيأتي تحقيقه.
المسألة السادسة في طرق الجرح والتعديل. أما طرق التعديل فمتفاوتة في القوة والضعف وذلك لأنه لا يخلو إما أن يصرح المزكي بالتعديل قولاً أو لا يصرح به فإن صرح به بأن يقول هو عدل رضاً فإما أن يذكر مع ذلك السبب بأن يقول لأني عرفت منه كذا وكذا أو لا يذكر السبب فإن كان الأول فهو تعديل متفق عليه وإن كان الثاني فمختلف فيه والأظهر منه التعديل كما سبق في المسألة المتقدمة فهذا الطريق مرجوح بالنسبة إلى الأول للاختلاف فيه ولنقصان البيان فيه بخلاف الأول.
وأما إن لم يصرح بالتعديل قولاً لكن حكم بشهادته أو عمل بروايته أو روى عنه خبراً.
فإن حكم بشهادته فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان الحاكم فاسقاً بشهادة من ليس بعدل عنده وهذه الطريق أعلى من التزكية بالقول من غير ذكر سبب لتفاوتهما في الاتفاق والاختلاف اللهم إلا أن يكون الحاكم ممن يرى الحكم بشهادة الفاسق وأما بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب فالأشبه التعادل بينهما لاستوائهما في الاتفاق عليهما والأول وإن اختص بذكر السبب فهذا مختص بإلزام الغير بقبول الشاهد بخلاف الأول.
وأما إن عمل بروايته على وجه علم أنه لا مستند له في العمل سواها ولا يكون ذلك من باب الاحتياط فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان عمله برواية من ليس بعدل فسقاً وهذا الطريق وإن احتمل أن يكون العمل فيه مستنداً إلى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً كما في التعديل بالقول من غير ذكر السبب فهو راجح على التعديل بالقول من غير ذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في ذلك ومرجوح بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب وبالنسبة إلى الحكم بالشهادة لأن باب الشهادة أعلى من باب الرواية ولذلك اشترط فيه ما لم يشترط في باب الرواية كما سيأتي تعريفه فكان الاحتياط والاحتراز فيها أتم وأوفى وأما إن روى عنه فهذا مما اختلف فيه هل هو تعديل أو لا.
ومنهم من فصل وقال: إن عرف من قول المزكي أو عادته أنه لا يروي إلا عن العدل فهو تعديل وإلا فلا وهو المختار وذلك لأن العادة جارية بالرواية عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها ولا يلزم من روايته عنه مع عدم معرفته بعدالته أن يكون ملبساً مدلساً في الدين كما قيل لأنه إنما يكون كذلك إن لو أوجبت روايته عنه على الغير العمل بها وليس كذلك بل غايته أنه قال سمعته يقول كذا فعلى السامع بالكشف عن حال المروي عنه إن رام العمل بمقتضى روايته وإلا كان مقصراً وهذا الطريق يشبه أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى باقي الطرق.
أما بالنسبة إلى التصريح بالتعديل فظاهر ولا سيما إن اقترن بذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في هذا الطريق ولهذا يكون مرجوحاً بالنسبة إلى الحكم بالشهادة للاتفاق عليه ولاختصاص الشهادة بما ذكرناه قبل.
وأما بالنسبة إلى العمل بالرواية فلاشتراكهما في أصل الرواية واختصاص أحدهما بالعمل بها.
وأما طرق الجرح فهو أن يصرح بكونه مجروحاً ويذكر مع ذلك سبب الجرح وإن لم يذكر معه سبب الجرح فهو جرح كما سبق في المسألة المتقدمة لكنه دون الأول للاختلاف فيه وللاتفاق على الأول وليس من الجرح ترك العمل بروايته والحكم بشهادته لجواز أن يكون ذلك بسبب غير الجرح وذلك إما لمعارض وإما لأنه غير ضابط أو لغلبة النسيان والغفلة عليه ونحوه ولا الشهادة بالزنا وكل ما يوجب الحد على المشهود عليه إذا لم يكمل نصاب الشهادة لأنه لم يأت بصريح القذف وإنما جاء ذلك محيي الشهادة ولا بما يسوغ فيه الاجتهاد وقد قال به بعض الأئمة المجتهدين كاللعب بالشطرنج وشرب النبيذ ونحوه ولا بالتدليس وذلك كقول من لم يعاصر الزهري مثلاً ولكنه روى عمن لقيه قولاً يوهم أنه لقيه ولقوله: حدثنا فلان وراء النهر موهماً أنه يريد جيحان وإنما يشير به إلى نهر عيسى مثلاً لأنه ليس بكذب وإنما هو من المعاريض المغنية عن الكذب.
المسألة السابعة اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة وقال قوم إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية ومنهم من قال إنهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع من الاختلاف والفتن فيما بينهم وبعد ذلك فلا بد من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة ومنهم من قال بأن كل من قاتل علياً عالماً منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة لخروجهم عن الإمام الحق ومنهم من قال برد رواية الكل وشهادتهم لأن أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معين ومنهم من قال بقبول رواية كل واحد منهم وشهادته إذا انفرد لأن الأصل فيه العدالة وقد شككنا في فسقه ولا يقبل ذلك منه مع مخالفة التحقق فسق أحدهما من غير تعيين.
والمختار إنما هو مذهب الجمهور من الأئمة وذلك بما تحقق من الأدلة الدالة على عدالتهم ونزاهتهم وتخييرهم على من بعدهم فمن ذلك قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " أي عدولاً وقوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " " آل عمران 110 " وهو خطاب مع الصحابة الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " والاهتداء بغير عدل محال وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اختار لي أصحاباً وأصهاراً وأنصاراً " واختيار الله تعالى لا يكون لمن ليس بعدل ومنها ما ظهر واشتهر بالنقل المتواتر الذي لا مراء فيه من مناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور الدين وإقامة القوانين والتشدد في امتثال أوامر الشرع ونواهيه والقيام بحدوده ومراسيمه حتى إنهم قتلوا الأهل والأولاد حتى قام الدين واستقام ولا أدل على العدالة أكثر من ذلك.
وعند ذلك فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة أما بتقدير الإصابة فظاهر وأما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع وإذ أتينا على ما أردناه من بيان عدالة الصحابة فلا بد من الإشارة إلى بيان من يقع عليه اسم الصحابي.
المسألة الثامنة اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته وذهب آخرون إلى أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه وذهب عمر بن يحيى إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه العلم.
والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلاً إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول
ويدل على ذلك ثلاثة أمور.
الأول أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر من ذلك وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام.
فإن قيل: إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال: أصحاب القرية وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك وأصحاب الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم ويدل على ذلك أيضاً أنه يصح أن يقال فلان لم يصحب فلاناً لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله.
والأصل في النفي أن يكون محمولاً على حقيقته بل ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة من أخذ العلم والرواية عنه ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحباً أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما طويلاً ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما.
والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة نظراً إلى ما وقع به الاشتراك نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ وصحة النفي إنما كان لأن الصاحب في أصل الوضع وإن كان لمن قلت صحبته أو كثرت غير أنه في عرف الاستعمال لمن طالت صحبته فإن أريد نفي الصحبة بالمعنى العرفي فحق وإن أريد نفيها بالمعنى الأصلي فلا يصح.
وهذا هو الجواب عما قيل من اشتراط أخذ العلم والرواية عنه أيضاً.
وإذا عرف ذلك فلو قال من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه بحق.
هذا ما أردناه من الشروط المعتبرة وأما الشروط التي ظن أنها شروط وليست كذلك فشروط منها أنه ليس من شرط قبول الخبر العدد بل يكفي في القبول خبر العدل الواحد خلافاً للجبائي فإنه قال: لا يقبل إلا أن يضاف إليه خبر عدل آخر أو موافقة ظاهراً وإن يكون منتشراً فيما بين الصحابة أو عمل به بعض الصحابة ونقل عنه أيضاً أنه لا يقبل الخبر في الزنا إلا من أربعة والوجه في الاحتجاج والانفصال ما سبق في مسألة وجوب التعبد بخبر الواحد وأيضاً فليس من شرطه الذكورة لما اشتهر من أخذ الصحابة بأخبار النساء كما سبق بيانه ولا البصر بل يجوز قبول رواية الضرير إذا كان حافظاً لما يسمعه وله آلة إدائه ولهذا كانت الصحابة تروي عن عائشة ما تسمعه من صوتها مع أنهم لا يرون شخصها ولا عدم القرابة بل تجوز رواية الولد عن الوالد وبالعكس لاتفاق الصحابة على ذلك ولا عدم العداوة لأن حكم الرواية عام فلا يختص بواحد معين حتى تكون العداوة مؤثرة فيه ولا الحرية بل هذه الأمور إنما تشترط في الشهادة ولا يشترط أيضاً في الراوي أن يكون مكثراً من سماع الأحاديث مشهور النسب لاتفاق الصحابة على قبول رواية من لم يرو سوى خبر واحد وعلى قبول رواية من لا يعرف نسبه إذا كان مشتملاً على الشرائط المعتبرة ولا يشترط أيضاً أن يكون فقيهاً عالماً بالعربية وبمعنى الخبر وسواء كانت روايته موافقة للقياس أو مخالفة خلافاً لأبي حنيفة فيما يخالف القياس لقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " إلى قوله " فرب حامل فقه ليس بفقيه " دعا له وأقره على الرواية ولو لم يكن مقبول القول لما كان كذلك ولأن الصحابة سمعوا أخبار آحاد لم يكونوا فقهاء كما ذكرناه فيما تقدم ولأن الاعتماد على خبر النبي صلى الله عليه وسلم والظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديناً أنه لا يروي إلا ما يتحققه على الوجه الذي سمعه.
القسم الثالث
في مستندات الراوي وكيفية روايته
الراوي لا يخلو إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي فإن كان صحابياً فقد اتفقوا على أنه إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني رسول الله بكذا فهو خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب القبول واختلفوا في مسائل.
المسألة الأولى إذا قال الصحابي: قال رسول الله كذا اختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة من غير خلاف وقال القاضي أبو بكر: لا يحكم بذلك بل هو متردد بين أن يكون قد سمعه من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه من غيره وبتقدير أن يكون قد سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فمن قال بعدالة جميع الصحابة فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال بأن حكم الراوي من الصحابة حكم غيرهم في وجوب الكشف عن حال الراوي منهم فحكمه حكم مراسيل تابع التابعين وسيأتي تفصيل القول فيه.
والظاهر أن ذلك محمول على سماعه من غير واسطة مع إمكان سماعه من الواسطة لأن قوله قال يوهم السماع من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة إيهاماً ظاهراً والظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة أنه لا يأتي بلفظ يوهم معنى ويريد غيره.
المسألة الثانية إذا قال الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكذا أو ينهى عن كذا اختلفوا في كونه حجة فذهب قوم إلى أنه ليس بحجة لأن الاحتجاج إنما هو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي سمعته يأمر وينهي لا يدل على وجود الأمر والنهي من النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فلعله سمع صيغة اعتقد أنها أمر أو نهي وليست كذلك عند غيره ويحتمل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو ينهى عن شيء وهو ممن يعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده وأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فنقل الأمر والنهي وليس بأمر ولا نهي عند غيره.
والذي عليه اعتماد الأكثرين أنه حجة وهو الأظهر وذلك لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً بمواقع الخلاف والوفاق وعند ذلك فالظاهر من حاله أنه لا ينقل إلا ما تحقق أنه أمر أو نهي من غير خلاف نفياً للتدليس والتلبيس عنه بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً ولا نهياً.
المسألة الثالثة إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وأوجب علينا كذا وحرم علينا كذا أو أبيح لنا كذا فمذهب الشافعي وأكثر الأئمة أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي عليه السلام وذهب جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة إلى المنع من ذلك مصيراً منهم إلى أن ذلك متردد بين كونه مضافاً إلى النبي عليه السلام وبين كونه مضافاً إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع.
وإذا احتمل واحتمل لا يكون مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا يكون حجة والظاهر مذهب الشافعي وذلك لأن من كان مقدماً على جماعة وهم بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا قال الواحد منهم: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا: كان الظاهر منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه ولا يمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه لأنه لو كان كذلك لكان ظاهراً للكل فلا يختص بمعرفته الواحد منهم ولا على أمر الأمة ونهيها لأن قول الصحابي: أمرنا ونهينا قول الأمة وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم ولا على أمر الواحد من الصحابة إذ ليس أمر البعض للبعض أولى من العكس كيف وإن الظاهر من الصحابي أنه إنما يقصد بذلك تعريف الشرع وذلك لا يكون ثابتاً بأمر الواحد من الصحابة ونهيه ولا أن يكون ذلك بناء على ما قيل من القياس والاستنباط لوجهين: الأول أن قول الصحابي: أمرنا ونهينا خطاب مع الجماعة وما ظهر لبعض المجتهدين من القياس وإن كان مأموراً باتباع حكمه فذلك غير موجب للأمر باتباع من لم يظهر له ذلك القياس.
الثاني أن قوله: أمرنا ونهينا بكذا عن كذا إنما يفهم منه مطلق الأمر والنهي لا الأمر باتباع حكم القياس.
المسألة الرابعة اختلفوا في قول الصحابي: من السنة كذا فذهب الأكثرون إلى أن ذلك محمول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لأبي الحسن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة والمختار مذهب الأكثرين وذلك لما ذكرناه في المسألة المتقدمة.
فإن قيل: اسم السنة متردد بين سنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين على ما قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وإذا كان اللفظ متردداً بين احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما دون الآخر أولى من العكس.
قلنا: وإن سلمنا صحة إطلاق السنة على ما ذكروه غير أن احتمال إرادة سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى لوجهين: الأول أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومقصود الصحابي إنما هو بيان الشرعية ولا يخفى أن إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع.
الثاني أن ذلك هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ السنة في كلام الصحابي لما ذكرناه في المسألة المتقدمة فكان الحمل عليه أولى.
المسألة الخامسة إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وذلك كقول عائشة كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وكقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم خلافاً لبعض الأصوليين ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد ذلك في معرض الاحتجاج وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستنداً إلى فعل الجميع لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ولا على غيرهم.
فإن قيل لو كان ذلك مستنداً إلى فعل الجميع لكان إجماعاً ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد فيه وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل.
قلنا: تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظناً لا قطعاً وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان طريق اتباعه ظنياً وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع.
وأما إن كان الراوي غير صحابي فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ لما يرويه عنه أو القراءة على الشيخ أو إجازة الشيخ له أو أن يكتب له كتاباً بما يرويه عنه أو يناوله الكتاب الذي يرويه عنه أو أن يرى خطاً يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا.
فإن كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع غيره فهذا هو أعلى الرتب في الرواية وللراوي عنه أن يقول: حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول كذا وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول: حدثنا وأخبرنا لأنه يكون كاذباً في ذلك بل له أن يقول: قال فلان كذا وسمعته يقول كذا ويحدث بكذا ويخبر بكذا.
وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من غير ما يوجب السكوت عن الإنكار من إكراه أو غفلة أو غير ذلك فقد اتفقوا على وجوب العمل به خلافاً لبعض أهل الظاهر لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقاً لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح وذلك بعيد عن العدل المتدين ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على قوله: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه واختلفوا في جواز قوله حدثنا وأخبرنا مطلقاً والأظهر امتناعه لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ وذلك من غير نطق منه كذب.
وأما إجازة الشيخ وذلك بأن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي فقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة: فجوزه أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر المحدثين واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على قوله: أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة واختلفوا في قوله: حدثني وأخبرني مطلقاً والذي عليه الأكثر وهو الأظهر أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقاً وقال أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة إنه إن كان المجيز والمجاز له قد علماً ما في الكتاب الذي أجاز روايته جازت روايته بقوله: أخبرني وحدثني وذلك كما لو كتب إنسان صكاً والشهود يرونه ثم قال لهم اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك الكتاب وإلا فلا والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة وذلك لأن المجيز عدل ثقة والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقاً وهو بعيد عن العدل وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته جازت الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت.
فإن قيل إنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله فلم يجز أن يقول الراوي عنه: أخبرني ولا حدثني لأنه يكون كذباً ولأنه قادر على أن يحدث به فحيث لم يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده.
قلنا: هذا باطل بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ولا ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ومع ذلك فإنه يجوز للراوي أن يقول: أخبرني وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث وعلى ما ذكرناه من الخلاف في الإجازة والخريف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتاباً فيه حديث هو سماعه وقال له قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه وله أن يقول: ناولني فلان كذا وأخبرني وحدثني مناولة وكذلك الحكم أيضاً إذا كتب إليه بحديث وقال: أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ويسلط الراوي على أن يقول كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة ولو اقتصر على المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة لم تجز له الرواية إذ ليس في الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه.
وأما رؤية خط الشيخ بأني سمعت من فلان كذا فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه وسواء قال: هذا خطي أو لم يقل لأنه قد يكتب ما سمعه ثم يشكك فيه فلا بد من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقة إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته إجماعاً وعلى هذا فلو روى كتاباً عن بعض المحدثين وشك في حديث واحد منه غير معين لم تجز له رواية شيء منه لأنه ما من واحد ومن تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه وكذلك لو روى عن جماعة حديثاً وشك في روايته عن بعضهم من غير تعيين فليس له الرواية عن واحد منهم لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك في الرواية عنه والرواية مع الشك ممتنعة نعم لو غلب على ظنه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فهذا مما اختلف فيه فقال أبو حنيفة: لا تجوز روايته ولا العمل به لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: تجوز له الرواية والعمل به لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته ولهذا فإن آحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون كتب الرسول إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنها من كتب الرسول وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ولا المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن ولا كذلك في الشهادة لأنه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية كما ذكرناه فيما تقدم وعلى هذا فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث إنه صحيح فالحكم في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه مع الاتفاق على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه.
القسم الرابع
فيما اختلف في رد خبر الواحد به
وفيه عشر مسائل: المسألة الأولىاختلفوا في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى دون اللفظ والذي عليه اتفاق الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن البصري وأكثر الأئمة أنه يحرم ذلك على الناقل إذا كان غير عارف بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها وإن كان عالماً بذلك فالأولى له النقل بنفس اللفظ إذ هو أبعد عن التغيير والتبديل وسوء التأويل وإن نقله بالمعنى من غير زيادة في المعنى ولا نقصان منه فهو جائز.
ونقل عن ابن سيرين وجماعة من السلف وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم من فصل وقال بجواز إبدال اللفظ بما يرادفه ولا يشتبه الحال فيه ولا يجوز بما عدا ذلك والمختار مذهب الجمهور ويدل عليه النص والإجماع والأثر والمعقول.
أما النص فما روي ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه فقال صلى الله عليه وسلم " إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث " وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد في إبلاغ أوامره ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو دليل الجواز.
وأما الإجماع فما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أو نحوه ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً.
وأما الأثر فما روي عن مكحول أنه قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع فقلنا حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم ولا تأخير فغضب وقال لا بأس إذا قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الإجماع منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم وإذا جاز الإبدال بغير العربية في تفهيم المعنى فالعربية أولى الثاني هو أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود لذاته ونفسه ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى في الكرات المتعددة بألفاظ مختلفة بل المقصود إنما هو المعنى ومع حصول المعنى فلا أثر لاختلاف اللفظ.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول: أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن العلماء بالعربية وأهل الاجتهاد قد يختلفون في معنى اللفظ الوارد مع اتحاده حتى إن كل واحد منهم قد يتنبه منه على ما لا يتنبه عليه الآخر وعند ذلك فالراوي وإن كان عالماً بالعربية واختلاف دلالات الألفاظ فقد يحمل اللفظ على معنى فهمه من الحديث مع الغفلة عن غير ذلك فإذا أتى بلفظ يؤدي المعنى الذي فهمه من اللفظ النبوي دون غيره مع احتمال أن يكون ما أخل به هو المقصود أو بعض المقصود فلا يكون وافياً بالغرض من اللفظ وربما اختل المقصود من اللفظ بالكلية بتقدير تعدد النقلة بأن ينقل كل واحد ما سمعه من الراوي الذي قبله بألفاظ غير ألفاظه على حسب ما يعقله من لفظه مع التفاوت اليسير في المعنى حتى ينتهي المعنى الأخير إلى مخالفة المعنى المقصود باللفظ النبوي بالكلية وهو ممتنع.
الثاني أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم قول تعبدنا باتباعه فلا يجوز تبديله بغيره كالقرآن وكلمات الأذان والتشهد والتكبير والجواب عن النص من وجهين: الأول القول بموجبه وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن يقال أدى ما سمع كما سمع ولهذا يقال لمن ترجم لغة إلى لغة ولم يغير المعنى أدى ما سمع كما سمع ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون اللفظ ما ذكره من التعليل وهو اختلاف الناس في الفقه إذ هو المؤثر في اختلاف المعنى وأما الألفاظ التي لا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضها مقام بعض فذلك مما يستوي فيه الفقيه والأفقه ومن ليس بفقيه ولا يكون مؤثراً في تغيير المعنى.
الثاني أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر بالمعنى دون اللفظ وذلك لأن الظاهر أن الخبر المروي حديث واحد والأصل عدم تكرره من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد روي بألفاظ مختلفة فإنه قد روي نضر الله امرأ ورحم الله امرأ ورب حامل فقه غير فقيه وروي لا فقه له.
وعن المعنى الأول من المعقول أن الكلام إنما هو مفروض في نقل المعنى من غير زيادة ولا نقصان حتى إنه لو ظهرت فيه الزيادة والنقصان لم يكن جائزاً وعن الثاني بالفرق بين ما نحن فيه وما ذكروه من الأصول المقيس عليها.
أما القرآن فلأن المقصود من ألفاظه الإعجاز فتغييره مما يخرجه عن الإعجاز فلا يجوز ولا كذلك الخبر فإن المقصود منه المعنى دون اللفظ ولهذا فإنه لا يجوز التقديم والتأخير في القرآن وإن لم يختلف المعنى كما لو قال بدل اسجدي واركعي اركعي واسجدي ولا كذلك في الخبر.
وأما كلمات الآذان والتشهد والتكبير فالمقصود منها إنما هو التعبد بها وذلك لا يحصل بمعناها والمقصود من الخبر هو المعنى دون اللفظ كيف وأنه ليس قياس الخبر على ما ذكروه أولى من قياسه على الشهادة حيث تجوز الشهادة على شهادة الغير مع اتحاد المعنى وإن كان اللفظ مختلفاً.
المسألة الثانية إذا أنكر الشيخ رواية الفرع عنه فلا يخلو إما أن يكون إنكاره لذلك إنكار جحود وتكذيب للفرع أو إنكار نسيان وتوقف.
فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه ولا بد من كذب أحدهما وهو موجب للقدح في الحديث غير أن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين لأن كل واحد منهما عدل وقد وقع الشك في كذبه والأصل العدالة فلا تترك بالشك وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر.
وأما إن كان الثاني فقد اختلفوا في قبول ذلك الخبر والعمل به: فذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه وأكثر المتكلمين إلى وجوب العمل به خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ولأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى عنه ودليله الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فما روي أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد ثم نسيه سهيل فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه هكذا ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك فكان إجماعاً منهم على جوازه.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الفرع عدل وهو جازم بروايته عن الأصل والأصل غير مكذب له وهما عدلان فوجب قبول الرواية والعمل بها الثاني أن نسيان الأصل للرواية لا تزيد على موته وجنونه ولو مات أو جن كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً فكذلك إذا نسي.
فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة فلا حجة فيه لاحتمال أن سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة ثم هو معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الأبل فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما يكفيك أن تضرب بيديك " فلم يقبل عمر من عمار ما رواه مع كونه عدلاً عنده لما كان ناسياً له.
وأما ما ذكرتموه من المعقول فالأصل وإن لم يكن مكذباً للفرع غير أن نسيانه لما نسب إليه يجب أن يكون مانعاً من العمل به كما لو ادعى مدع أن الحاكم حكم له بشيء فقال الحاكم: لا أذكر ذلك فأقام المدعي شاهدين شهداً بذلك فإنه لا يقبل وكذلك إذا أنكر شاهد الأصل شهادة الفرع عليه على سبيل النسيان فإن الشهادة لا تقبل.
والجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية قلنا: لو كان كذلك لانطوى ذكر ربيعة وكان يروي عن شيخه كما لو نسي ثم تذكر بنفسه وأما رد عمر لرواية عمار عند نسيانه فليس نظيراً لما نحن فيه فإن عماراً لم يكن راوياً عن عمر بل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيث لم يعمل عمر بروايته فلعله كان شاكاً في روايته أو كأن ذلك كان مذهباً له فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين على ما سيأتي تقريره.
وأما الحاكم إذا نسي ما حكم به وشهد شاهدان بحكمه فقد قال مالك وأبو يوسف: يلزمه الحكم بشهادتهما وعندنا وإن لم يجب عليه ذلك فهو واجب على غيره من القضاة.
وأما القياس على الشهادة فلا يصح لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية وقد اعتبر فيها من الشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية وذلك كاعتبار العدد والحرية والذكورة ولا يقبل فيها العنعنة ولا تصح الشهادة على الشهادة من وراء حجاب ولو قال أعلم بدل قوله أشهد لا يصح ولا كذلك في الرواية فامتنع القياس.
المسألة الثالثة إذا روى جماعة من الثقات حديثاً وانفرد واحد منهم بزيادة في الحديث لا تخالف المزيد عليه كما لو روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت وانفرد واحد منهم بزيادة فقال: دخل البيت وصلى فلا يخلو إما أن يكون مجلس الرواية مختلفاً بأن يكون المنفرد بالزيادة روايته عن مجلس غير مجلس الباقين أو أن مجلس الرواية متحد أو يجهل الأمران.
فإن كان المجلس مختلفاً فلا نعرف خلافاً في قبول الزيادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل الزيادة في أحد المجلسين دون الآخر والراوي عدل ثقة ولم يوجد ما يقدح في روايته فكانت روايته مقبولة ولهذا فإنه لو روى حديثاً لم ينقله غيره مع عدم حضوره لم يقدح ذلك في روايته وكذلك لو شهد اثنان على شخص بألفي درهم لزيد في مجلس وشهدت بينة أخرى عليه في مجلس آخر بألف لا يكون ذلك قادحاً في الألف الزائدة مع أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية كما قررنا.
وأما إن اتحد المجلس فإن كان من لم يرو الزيادة قد انتهوا إلى عدد لا يتصور في العادة غفلة مثلهم عن سماع تلك الزيادة وفهمها فلا يخفى أن تطرق الغلط والسهو إلى الواحد فيما نقله من الزيادة يكون أولى من تطرق ذلك إلى العدد المفروض فيجب ردها وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فقد اتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على وجوب قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ودليل ذلك أن الراوي عدل ثقة وقد جزم بالرواية وعدم نقل الغير لها فلاحتمال أن يكون من لم ينقل الزيادة قد دخل في أثناء المجلس وسمع بعض الحديث أو خرج في أثناء المجلس لطارئ أوجب له الخروج قبل سماع الزيادة وبتقدير أن يكون حاضراً من أول المجلس إلى آخره فلاحتمال أن يكون قد طرأ ما شغله عن سماع الزيادة وفهمها من سهو أو ألم أو جوع أو عطش مفرط أو فكرة في أمر مهم أو اشتغال بحديث مع غيره والتفات إليه أو أنه نسيها بعد ما سمعها ومع تطرق هذه الاحتمالات وجزم العدل بالرواية لا يكون عدم نقل غيره للزيادة قادحاً في روايته.
فإن قيل: هذه الاحتمالات وإن كانت منقدحة في حق من لم يرو الزيادة فاحتمال الغلط والسهو على الناقل للزيادة أيضاً منقدح وذلك بأن يتوهم أنه سمع تلك الزيادة ولم يكن قد سمعها أو أنه سمعها من غير الرسول وتوهم سماعها من الرسول أو أنه ذكرها على سبيل التفسير والتأويل فظن السامع أنها زيادة في الحديث المروي وذلك كما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام إلا كالطعام فأدرجه بعض الرواة في الحديث وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة " فظن الراوي أن الاستئناف إعادة للفرض الأول في المائة الأولى فقال: في كل خمس شاة وأدرج ذلك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومع تعارض الاحتمالات فليس العمل بالزيادة أولى من تركها بل الترجيح بجانب الترك لوجهين: الأول أن احتمال تطرق الغلط والسهو على الواحد أكثر من احتمال تطرقه إلى الجماعة الثاني أن الترك على وفق النفي الأصلي والإثبات على خلافه فكان أولى ولهذا فإنه لو اجتمع المقومون على قيمة متلف وخالفهم واحد بزيادة في تقويمه في القيمة فإن الزيادة تلغي بالإجماع.
والجواب عما عارضوا به من السهو في حق راوي الزيادة أنه وإن كان منقدحاً غير أن ما ذكرناه من الاحتمالات في حق من لم يرو الزيادة أكثر ولأن سهو الإنسان عما سمعه يكون أكثر من سهوه فيما لم يسمعه أنه سمعه.
وما ذكروه من الزيادة بناء على احتمال التفسير والتأويل وإن كان قائماً غير أنه في غاية البعد إذ الظاهر من حال العدل الثقة أنه لا يدرج في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه لما فيه من التدليس والتلبيس ولو جوز مثل ذلك فما من حديث إلا ويمكن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال ويلزم من ذلك إبطال جميع الأحاديث.
وما ذكروه من الترجيح الأول فغير مطرد فيما إذا كان عدد الناقل للزيادة مساوياً لعدد الآخرين وهو من جملة صور النزاع وبتقدير أن يكون أكثر فقد بينا أن الترجيح بجانب الواحد.
وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بما إذا كانت الزيادة مقتضية لنفي حكم لولاها لثبت.
وأما التقويم فحاصله يرجع إلى ظن وتخمين بطريق الاجتهاد ولا يخفى أن تطرق الخطأ في ذلك إلى الواحد أكثر من تطرقه إلى الجمع بخلاف الرواية فإنها لا تكون إلا بنقل ما هو محسوس بالسمع وتطرق الخطأ إليه بعيد.
وأما إن جهل الحال في أن الرواية عن مجلس واحد أو مجالس مختلفة فالحكم على ما سبق فيما إذا اتحد المجلس وقبول الزيادة فيه أولى نظراً إلى احتمال اختلاف مجلس الرواية هذا كله فيما إذا لم تكن الزيادة مخالفة للمزيد عليه.
وأما إن كانت مخالفة له بحيث لا يمكن الجمع بينهما فالظاهر التعارض خلافاً لبعض المعتزلة.
وعلى هذا لو روى الواحد الزيادة مرة وأهملها مرة في حديث واحد فالتفصيل والحكم على ما تقدم فيما إذا تعددت الرواة فعليك بالاعتبار.
وكذلك الخلاف فيما إذا أسند الخبر واحد وأرسله الباقون أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوقفه الباقون على بعض الصحابة.
المسألة الرابعة إذا سمع الراوي خبراً وأراد نقل بعضه وحذف بعضه فلا يخلو إما أن يكون الخبر متضمناً لأحكام لا يتعلق بعضها ببعض أو يتعلق بعضها ببعض.
فإن كان الأول كقوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم فلا نعرف خلافاً في جواز نقل البعض وترك البعض فإن ذلك بمنزلة أخبار متعددة ومن سمع أخباراً متعددة فله رواية البعض دون البعض وإن كان الأولى إنما هو نقل الخبر بتمامه لقوله صلى الله عليه وسلم " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها " .
وإن كان الثاني وذلك بأن يكون الخبر مشتملاً على ذكر غاية كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى تحوزه التجار إلى رحالهم وكنهيه عن بيع الثمار حتى تزهى أو شرط: كقوله: " من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة " أو استثناء: كقوله " لا تبيعوا البر بالبر إلى قوله إلا سواء بسواء " مثلاً بمثل فإذا ذكر بعض الخبر وقطعه عن الغاية أو الشرط أو الاستثناء فهو غير جائز لما فيه من تغيير الحكم وتبديل الشرع.
المسألة الخامسة خبر الواحد إذا ورد موجباً للعمل فيما تعم به البلوى كخبر ابن مسعود في نقض الوضوء بمس الذكر وخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل وخبره في رفع اليدين في الركوع والأكل في الصوم ناسياً ونحوه مقبول عند الأكثرين خلافا للكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول والإلزام: أما النص فقوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين وإن كانت آحادا وهو مطلق فيما تعم به البلوى وما لا تعم ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة وتقريره كما سبق.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة اتفقت على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فمن ذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا ومن ذلك رجوع الصحابة بعد اختلافهم في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر عائشة وهو قولها إذا التقى الختانان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا ومن ذلك رجوع أبي بكر وعمر في سدس الجدة لما قال لها لا أجد لك في كتاب الله شيئاً إلى خبر المغيرة وهو قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس وصار ذلك إجماعاً.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي عدل ثقة وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه وذلك يغلب على الظن صدقه فوجب تصديقه كخبره فيما لا تعم به البلوى الثاني أنه يغلب على الظن فكان واجب الاتباع كالقياس والمسألة ظنية فكان الظن فيها حجة.
وأما الإلزام فهو أن الوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها فمن قبيل ما تعم به البلوى ومع ذلك فقد أثبتها الخصوم بأخبار الآحاد.
فإن قيل لا نسلم إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فإن أبا بكر رد خبر المغيرة في الجدة.
وما ذكرتموه من المعقول فمبني على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مظنون وليس كذلك وبيانه من وجهين.
الأول أن ما تعم به البلوى كخروج الخارج من السبيلين ومس الذكر مما يتكرر في كل وقت فلو كانت الطهارة مما تنتقض به لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم إشاعته وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته حتى لا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الخلق وهم لا يشعرون فحيث لم ينقله سوى الواحد دل على كذبه.
الثاني أن ذلك مما يكثر السؤال عنه والجواب والدواعي متوفرة على نقله فحيث انفرد به الواحد دل على كذبه كانفراد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق وطروء حادثة منعت الناس من صلاة الجمعة وإن الخطيب سب الله ورسوله على رأس المنبر إلى غير ذلك من الوقائع ولهذا فإنه لما كان القرآن مما تعم به البلوى بمعرفته امتنع إثباته بخبر الواحد.
وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير مساوية في عموم البلوى لمس الذكر فلا تكون في معناه.
والجواب عن رد أبي بكر بخبر المغيرة في الجدة أنه لم يكن مطلقاً ولهذا عمل به لما تابعه على ذلك محمد بن مسلمة وخبرهما غير خارج عن الآحاد وما ذكروه في الوجه الأول من التكذيب فإنما يصح أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفاً بالإشاعة على لسان أهل التواتر وهو غير مسلم قولهم إنه يلزم من عدم ذلك إبطال صلاة أكثر الخلق لا نسلم فإن من لم يبلغه ذلك فالنقض غير ثابت في حقه ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل.
وما ذكروه في الوجه الثاني فإنما يلزم توفر الدواعي على نقله إن لو كان لا طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر وأما إذا كان طريق معرفة ذلك إنما هو الظن فخبر الواحد كاف فيه ولهذا جاز إثباته بالقياس إجماعاً وما استشهدوا به من الوقائع فغير مناظرة لما نحن فيه إذ الطباع مما تتوفر على نقلها وإشاعتها عادة فانفراد الواحد يدل على كذبه.
ثم ما ذكروه من الوجهين منتقض عليهم حيث عملوا بأخبار الآحاد فيما ذكرناه من صور الإلزام ومس الذكر وإن كان أعم في الوقوع من تلك الصور فذلك لا يخرج تلك الصورة عن كونها واقعة في عموم البلوى.
وأما القرآن فإنما امتنع إثباته بخبر الواحد لا لأنه مما تعم به البلوى بل لأنه المعجز في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وطريق معرفته متوقف على القطع ولذلك وجب على النبي إشاعته وإلغاؤه على عدد التواتر ولا كذلك ما نحن فيه فإن الظن كاف فيه ولذلك يجوز إثباته بالقياس وما عدا القرآن مما أشيع إشاعة اشترك فيها الخاص والعام كالعبادات الخمس وأصول المعاملات كالبيع والنكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك من الأحكام مما كان يجوز أن لا يشيع فذلك إما بحكم الاتفاق وإما لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبداً بإشاعته والله أعلم.
المسألة السادسة إذا روى الصحابي خبراً فلا يخلو إما أن يكون مجملاً أو ظاهراً أو نصاً قاطعاً في متنه.
فإن كان مجملاً مشتركاً بين محامل على السوية كلفظ القروء ونحوه فإن حمله الراوي على بعض محامله فإن قلنا إن اللفظ المشترك ظاهر العموم في جميع محامله كما سيأتي تقريره فهو القسم الثاني وسيأتي الكلام فيه وإن قلنا بامتناع حمله على جميع محامله فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الأحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره فوجب الحمل عليه ولا يبعد أن يقال بأن تعيينه لا يكون حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال وجب عليه اتباعه وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح فيجب اتباعه.
وأما إن كان اللفظ ظاهراً في معنى وحمله الراوي على غيره فمذهب الشافعي وأبي الحسين الكرخي وأكثر الفقهاء أنه يجب الحمل على ظاهر الخبر دون تأويل الراوي ولهذا قال الشافعي كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث؟ وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم إلى وجوب العمل بمذهب الراوي وقال القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس وجب النظر إلى ذلك الدليل فإن كان مقتضياً لما ذهب إليه وجب المصير إليه وإلا فلا وهذا اختيار أبي الحسين البصري.
والمختار أنه إن علم مأخذه في المخالفة وكان ذلك مما يوجب حمل الخبر على ما ذهب إليه الراوي وجب اتباع ذلك الدليل لا لأن الراوي عمل به فإنه ليس عمل أحد المجتهدين حجة على الآخر وإن جهل مأخذه فالواجب العمل بظاهر اللفظ وذلك لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل في وجوب العمل بالخبر ومخالفة الراوي له فيحتمل أنه كان لنسيان طرأ عليه ويحتمل أنه كان لدليل اجتهد فيه وهو مخطئ فيه أو هو مما يقول به دون غيره من المجتهدين كما عرف من مخالفة مالك لخبر خيار المجلس بما رآه من إجماع أهل المدينة على خلافه ويحتمل أنه علم ذلك علماً لا مراء فيه من قصد النبي له وإذا تردد بين هذه الاحتمالات فالظاهر لا يترك بالشك والاحتمال وعلى كل تقدير فبمخالفته للخبر لا يكون فاسقاً حتى يمتنع العمل بروايته وبهذا يندفع قول الخصم إنه إن أحسن الظن بالراوي وجب حمل الخبر على ما حمله عليه وإن أسيء به الظن امتنع العمل بروايته.
وأما إن كان الخبر نصاً في دلالته غير محتمل للتأويل والمخالفة فلا وجه لمخالفة الراوي له سوى احتمال اطلاعه على ناسخ ولعله يكون ناسخاً في نظره ولا يكون ناسخاً عند غيره من المجتهدين وما ظهر في نظره لا يكون حجة على غيره وإذا كان ذلك محتملاً فلا يترك النص الذي لا احتمال فيه لأمر يحتمل.
المسألة السابعة خبر الواحد العدل إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بخلافه فلا يرد له الخبر إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت عمومه أو كان داخلاً تحت عمومه لكنه قام الدليل على أن ما فعله من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد وإن لم يكن من خواصه فيجب العمل بالراجح من الفعل أو الخبر إن تعذر تخصيص أحدهما بالآخر وإن عمل بخلافه أكثر الأمة فهم بعض الأمة فلا يرد الخبر بذلك إجماعاً وإن خالف باقي الحفاظ للراوي فيما نقله.
فالمختار الوقف في ذلك نظراً إلى أن تطرق السهو والخطأ إلى الجماعة وإن كان أبعد من تطرقه إلى الواحد غير أن تطرق السهو إلى ما لم يسمع أنه سمع أبعد من تطرق السهو إلى ما سمع أنه لم يسمع.
المسألة الثامنة
اتفقت الشافعية والحنابلة وأبو يوسف وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد وفي كل ما يسقط بالشبهة خلافاً لأبي عبد الله البصري والكرخي ودليل ذلك أنه يغلب على الظن فوجب قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن بدليل ثبوته بالشهادة وبظاهر الكتاب فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام الظنية والمسألة ظنية فكان الظن كافياً فيها وسقوطه بالشبهة لو كان لكان مانعاً من الأعمال والأصل عدم ذلك وعلى من يدعيه بيانه.
فإن قيل: خبر الواحد مما يدخله احتمال الكذب فكان ذلك شبهة في درء الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " فهو باطل بإثباته بالشهادة فإنها محتملة للكذب ومع ذلك يثبت بها.
المسألة التاسعة خبر الواحد إذا خالف القياس فإما أن يتعارضا من كل وجه بأن يكون أحدهما مثبتاً لما نفاه الآخر أو من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما مخصصاً للآخر.
فإن كان الأول فقد قال الشافعي رضي الله عنه وأحمد بن حنبل والكرخي وكثير من الفقهاء أن الخبر مقدم على القياس وقال أصحاب مالك: يقدم القياس وقال عيسى بن أبان: إن كان الراوي ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه قدم خبره على القياس وإلا فهو موضع اجتهاد.
وفضل أبو الحسين البصري فقال: علة القياس الجامعة أن تكون منصوصة أو مستنبطة: فإن كانت منصوصة فالنص عليها إما أن يكون مقطوعاً به أو غير مقطوع: فإن كان مقطوعاً به وتعذر الجمع بينهما وجب العمل بالعلة لأن النص على العلة كالنص على حكمها وهو مقطوع به وخبر الواحد مظنون فكانت مقدمة.
وإن لم يكن النص على العلة مقطوعاً به ولا حكمها في الأصل مقطوعاً به فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة بخلاف النص الدال على العلة فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة وإن كان حكمها ثابتاً قطعاً فذلك موضع الاجتهاد.
وإن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل إما أن يكون ثابتاً بخبر واحد أو بدليل مقطوع به فإن كان ثابتاً بخبر واحد فالأخذ بالخبر أولى وإن كان ثابتاً قطعاً قال فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس ومختاره أنه مجتهد فيه وقال القاضي أبو بكر بالوقف.
والمختار في ذلك أن يقال: إما أن يكون متن خبر الواحد قطعياً أو ظنياً فإن كان متنه قطعياً فعلة القياس إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة فإن كانت منصوصة وقلنا إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس فالنص الدال عليها إما أن يكون مساوياً في الدلالة لخبر الواحد أو راجحاً عليه أو مرجوحاً: فإن كان مساوياً فخبر الواحد أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة ودلالة نص العلة على حكمها بواسطة.
وإن كان مرجوحاً فخبر الواحد أولى مع دلالته على الحكم من غير واسطة وإن كان راجحاً على خبر الواحد فوجود العلة في الفزع إما أن يكون مقطوعاً به أو مظنوناً فإن كان مقطوعاً فالمصير إلى القياس أولى وإن كان وجودها فيه مظنوناً فالظاهر الوقف لأن نص العلة وإن كان في دلالته على العلة راجحاً غير أنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة وخبر الواحد لا بواسطة فاعتدلا.
وأما إن كانت العلة مستنبطة فالخبر مقدم على القياس مطلقاً ودليله النص والإجماع والمعقول.
أما النص فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ حيث بعثه إلى اليمن قاضياً بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو أخر العمل بالقياس عن السنة من غير تفصيل بين المتواتر والآحاد والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله.
وإما الإجماع فهو أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في الجنين لخبر حمل ابن مالك وقال لولا هذا لقضينا فيه برأينا وأيضاً ما روي عنه أنه ترك القياس في تفريق دية الأصابع على قدر منافعها بخبر الواحد الذي روى في كل إصبع عشر من الإبل وترك اجتهاده وأيضاً فإنه ترك اجتهاده في منع ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الواحد وقال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وكان ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً.
وأما المعقول فهو أن خبر الواحد راجح على القياس وأغلب على الظن فكان مقدماً عليه وبيان ذلك أن الاجتهاد في الخبر واحتمال الخطأ فيه أقل من القياس لأن خبر الواحد لا يخرج الاجتهاد فيه عن عدالة الراوي وعن دلالته على الحكم وعن كونه حجة معمولاً بها فهذه ثلاثة أمور.
وأما القياس فإنه إن كان حكم أصله ثابتاً بخبر الواحد فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة وبتقدير أن يكون ثابتاً بدليل مقطوع به فيفتقر إلى الاجتهاد في كون الحكم في الأصل مما يمكن تعليله أو لا وبتقدير إمكان تعليله فيفتقر إلى الاجتهاد في إظهار وصف صالح للتعليل وبتقدير ظهور وصف صالح يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض له في الأصل وبتقدير سلامته عن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد في وجوده في الفرع وبتقدير وجوده فيه يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض في الفرع من وجود مانع أو فوات شرط وبتقدير انتفاء ذلك يحتاج إلى النظر في كونه حجة.
فهذه سبعة أمور لا بد من النظر فيها وما يفتقر في دلالته إلى بيان ثلاثة أمور لا غير فاحتمال الخطأ فيه يكون أقل احتمالاً من احتمال الخطأ فيما يفتقر في بيانه إلى سبعة أمور فكان خبر الواحد أولى.
وربما قيل في ترجيح خبر الواحد هاهنا وجوه أخر واهية آثرنا الإعراض عن ذكرها لظهور فسادها بأول نظر.
فإن قيل: أما ما ذكرتموه من خبر معاذ فقد خالفتموه فيما إذا كانت العلة الجامعة في القياس مقطوعاً بعليتها وبوجودها في الفرع كما تقدم.
وما ذكرتموه من الإجماع على تقديم خبر الواحد على القياس فغير مسلم فإن ابن عباس قد خالف في ذلك حيث إنه لم يقبل خبر أبي هريرة فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً " لكونه مخالفاً للقياس وأيضاً فإنه رد خبر أبي هريرة في التوضي مما مست النار بالقياس وقال ألسنا نتوضأ بماء الحميم فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ؟.
وأما ما ذكرتموه من الترجيح فهو معارض لما يتطرق إلى الخبر من احتمال كذب الراوي وأن يكون في نفسه كافراً أو فاسقاً أو مخطئاً واحتمال الإجمال في دلالة الخبر والتجوز والإضمار والنسخ وكل ذلك غير متطرق إلى القياس وأيضاً فإن القياس يجوز به تخصيص عموم الكتاب وهو أقوى من خبر الواحد فكان ترك خبر الواحد بالقياس أولى وأيضاً فإن الظن بالقياس يحصل للمجتهد من جهة نفسه واجتهاده والظن الحاصل من خبر الواحد يحصل له من جهة غيره وثقة الإنسان بنفسه أتم من ثقته بغيره وأيضاً فإن خبر الواحد بتقدير إكذاب المخبر لنفسه يخرج الخبر عن كونه شرعياً ولا كذلك القياس.
والجواب: قولهم إنكم خالفتم خبر معاذ قلنا: غايته أنا خصصناه في صورة لمعنى لم يوجد فيما نحن فيه فبقينا عاملين بعمومه فيما عدا تلك الصورة.
قولهم إن ابن عباس قد رد خبر أبي هريرة بالقياس فيما ذكروه ليس كذلك أما رده لخبر غسل اليدين فإنما يمكن الاحتجاج به أن لو كان قد رده لمخالفة القياس المقتضي لجواز غسل اليدين من ذلك الإناء وليس كذلك.
أما أولاً فلأنا لا نسلم وجود القياس المقتضي لذلك وبتقدير تسليمه فهو إنما رده لا للقياس بل لأنه لا يمكن الأخذ به ولهذا قال ابن عباس فماذا تصنع بالمهراس والمهراس كان حجراً عظيماً يصب فيه الماء لأجل الوضوء فاستبعد الأخذ بالخبر لاستبعاده صب الماء من المهراس على اليد وقد وافق ابن عباس على ما تخيله من الاستبعاد عائشة حيث قالت: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهذاراً فماذا يصنع بالمهراس؟.
وأما تركه لخبر التوضي مما مست النار فلم يكن بالقياس بل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة مصلية وصلى ولم يتوضأ ثم ذكر القياس بعد معارضته بالخبر وأما ما ذكروه من ترجيحات القياس على خبر الواحد فمندفعة.
أما تطرق احتمال الكذب والكفر والفسق والخطأ إلى الراوي وإن كان منقدحاً فمثله متطرق إلى دليل حكم الأصل إذا كان ثابتاً بخبر الواحد وهو من جملة صور النزاع وبتقدير ثبوته بدليل مقطوع به فلا يخفى أن تطرق ذلك إلى من ظهرت عدالته وإسلامه أبعد من تطرق الخطأ إلى القياس في اجتهاده فيما ذكرناه من احتمالات الخطأ في القياس لكونه معاقباً على الكذب والكفر والفسق بخلاف الخطأ في الاجتهاد فإنه غير معاقب عليه بل مثاب.
وما ذكروه من تطرق التجوز والاشتراك والنسخ إلى خبر الواحد فذلك مما لا يوجب ترجيح القياس عليه بدليل الظاهر من الكتاب والسنة المتواترة فإن جميع ذلك متطرق إليه وهو مقدم على القياس.
قولهم إن القياس يجوز تخصيص عموم الكتاب به قلنا وكذلك خبر الواحد فلا ترجيح من هذه الجهة كيف وإنه لا يلزم من تخصيص الكتاب بالقياس مع أنه غير معطل للكتاب أن يكون معطلاً لخبر الواحد بالكلية إذ الكلام مفروض فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما.
وقولهم إن الظن من القياس يحصل له من جهة نفسه بخلاف خبر الواحد قلنا: إلا أن تطرق الخطأ إليه أقرب من تطرقه إلى خبر الواحد لما سبق تقريره.
وقولهم إن الخبر يخرج عن كونه شرعياً بإكذاب المخبر لنفسه بخلاف القياس قلنا: وبتقدير الخطأ في القياس يخرج عن كونه قياسياً شرعياً فاستويا كيف وإن الترجيح للخبر من جهات أخرى غير ما ذكرناها أولا وهو أنه مستند إلى كلام المعصوم بخلاف القياس فإنه مستند إلى اجتهاد المجتهد وهو غير معصوم وأيضاً فإن القياس مفتقر إلى جنس النص في إثبات حكم الأصل وفي كونه حجة وخبر الواحد يصير قطعياً بما يعتضد به من جنسه حتى يصير متواتراً ولا كذلك القياس فإنه لا ينتهي إلى القطع بما يعتضد به من جنس الأقيسة أصلاً فكان أولى هذا كله فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما.
وأما إن كان أحدهما أعم من الآخر فإن كان الخبر هو الأعم جاز أن يكون القياس مخصصاً له على ما سيأتي في تخصيص العموم وإن كان القياس أعم من خبر الواحد فإن قلنا إن العلة لا تبطل بتقدير تخصيصها وجب العمل بخبر الواحد فيما دل عليه وبالقياس فيما عدا ذلك جمعاً بينهما وإن قلنا بأن العلة تبطل بتقدير تخصيصها فالحكم فيها على ما عرف فيما إذا تعذر الجمع بين القياس وخبر الواحد.
المسألة العاشرة اختلفوا في قبول الخبر المرسل وصورته ما إذا قال من لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدلا قال رسول الله.
فقبله أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل في أشهر الروايتين عنه وجماهير المعتزلة كأبي هاشم وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقاً دون من عدا هؤلاء وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه قال: إن كان المرسل من مراسيل الصحابة أو مرسلاً قد أسنده غير مرسله أو أرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول أو عضده قول صحابي أو قول أكثر أهل العلم أو أن يكون المرسل قد عرف من حاله أنه لا يرسل عمن فيه علة من جهالة أو غيرها كمراسيل ابن المسيب فهو مقبول وإلا فلا ووافقه على ذلك أكثر أصحابه والقاضي أبو بكر وجماعة من الفقهاء والمختار قبول مراسيل العدل مطلقاً ودليله الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على قبول المراسيل من العدل: أما الصحابة فإنهم قبلوا أخبار عبد الله بن عباس مع كثرة روايته وقد قيل إنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما الربا في النسيئة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة قال في الخبر الأول لما روجع فيه أخبرني به أسامة بن زيد وقال في الخبر الثاني أخبرني به أخي الفضل بن عباس وأيضاً ما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صلى على جنازة فله قيراط " وأسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة وأيضاً ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أصبح جنباً في رمضان فلا صوم له " وقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما روجع فيه قال حدثني به الفضل بن عباس وأيضاً ما روي عن البراء بن عازب أنه قال: ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه.
وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي إذا حدثتني فأسند فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني جماعة عنه وأيضاً ما روي عن الحسن أنه روى حديثاً فلما روجع فيه قال: أخبرني به سبعون بدرياً ويدل على ذلك ما اشتهر من إرسال ابن المسيب والشعبي وغيرهما ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعاً.
وأما المعقول فهو أن العدل الثقة إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا مظهراً للجزم بذلك فالظاهر من حاله أنه لا يستجيز ذلك إلا وهو عالم أو ظان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإنه لو كان ظاناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله أو كان شاكاً فيه لما استجاز في دينه النقل الجازم عنه لما فيه من الكذب والتدليس على المستمعين وذلك يستلزم تعديل من روى عنه وإلا لما كان عالماً ولا ظاناً بصدقه في خبره فإن قيل: لا نسلم الإجماع ودليله من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المسألة اجتهادية والإجماع قاطع فلا يساعد في مسائل الاجتهاد وأما من جهة التفصيل فهو أن غاية ما ذكر مصير بعض الصحابة أو التابعين إلى الإرسال وليس في ذلك ما يدل على إجماع الكل.
قولكم: لم ينكر ذلك منكر لا نسلم ذلك ولهذا باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة في ذلك حتى أسند كل واحد ما أخبر به وقال ابن سيرين: لا نأخذ بمراسيل الحسن وأبي العالية وإن سلمنا عدم النكير فغايته أنهم سكتوا والسكوت لا يدل على الموافقة لما سبق تقريره في مسائل الإجماع سلمنا الموافقة غير أن الإرسال المحتج بوقوعه إنما وقع من الصحابة والتابعين ونحن نقول بذلك لأن الصحابي والتابعي إنما يروي عن الصحابي والصحابة عدول على ما سبق تحقيقه.
وأما ما ذكرتموه من المعقول فلا نسلم أن قول الراوي قال رسول الله تعديل للمروي عنه وذلك لأنه قد يروي الشخص عمن لو سئل عنه لجرحه أو توقف فيه فالراوي ساكت عن التعديل والجرح والسكوت عن الجرح لا يكون تعديلاً وإلا كان السكوت عن التعديل جرحاً ولهذا فإن شاهد الفرع لو أرسل شهادة الأصل فإنه لا يكون تعديلا لشاهد الأصل لما ذكرناه.
قولكم: لو لم يكن ظاناً لعدالة المروي عنه أو عالماً بها لما جاز له أن يجزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: قد بينا إمكان الرواية عن الكاذب والجزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مع تجويز كذب الراوي وذلك قادح في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا تعذر الجزم فليس حمل قوله قال على معنى أظن أنه قال أولى من حمله على أني سمعت أنه قال ولو حمل على أني سمعت أنه قال لم يكن ذلك تعديلاً وعلى هذا فلا يكون بروايته مدلساً ولا ملبساً.
سلمنا أن الإرسال تعديل للمروي عنه ولكن لا نسلم أن مطلق التعديل مع قطع النظر عن ذكر أسباب العدالة كاف في التعديل كما سبق.
سلمنا أن مطلق التعديل كاف لكن إذا عين المروي عنه ولم يعرف بفسق وأما إذا لم يعينه فلعله اعتقده عدلاً في نظره ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يطلع المعدل عليه ولهذا لم يقبل تعديل شاهد الفرع لشاهد الأصل مع عدم تعيينه.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على التعديل لكنه معارض بما يدل على عدم التعديل وبيانه من ستة أوجه.
الأول أن الجهالة بعين الراوي آكد من الجهل بصفته وذلك لأن من جهلت ذاته فقد جهلت صفته ولا كذلك بالعكس ولو كان معلوم العين مجهول الصفة لم يكن خبره مقبولاً فإذا كان مجهول العين والصفة أولى أن لا يكون خبره مقبولاً.
الثاني أن من شرط قبول الرواية المعرفة بعدالة الراوي والمرسل لا يعرف عدالة الراوي له فلا يكون خبره مقبولاً لفوات الشرط.
الثالث هو أن الخبر كالشهادة في اعتبار العدالة وقد ثبت أن الإرسال في الشهادة مانع من قبولها فكذلك الخبر.
الرابع أنه لو جاز العمل بالمراسيل لم يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم معنى.
الخامس أنه لو وجب العمل بالمراسيل لزم في عصرنا هذا أن يعمل بقول الإنسان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وإن لم يذكر الرواة وهو ممتنع.
السادس أن الخبر خبران: تواتر وآحاد ولو قال الراوي: أخبرني من لا أحصيهم عدداً لا يقبل قوله في التواتر فكذلك في الآحاد.
والجواب قولهم: الإجماع لا يساعد في مسائل الاجتهاد قلنا: الذي لا يساعد إنما هو الإجماع القاطع في متنه وسنده وما ذكرناه من الإجماع السكوتي فظني فلا يمتنع التمسك به في مسائل الاجتهاد كالظاهر من الكتاب والسنة قولهم: لا نسلم عدم الإنكار قلنا: الأصل عدمه.
قولهم: إنهم باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة قلنا: المراجعة في ذلك لا تدل على إنكار الإرسال بل غايته طلب زيادة علم لم تكن حاصلة بالإرسال وقول ابن سيرين ليس إنكاراً للإرسال مطلقاً بل إرسال الحسن وأبي العالية لا غير لظنه أنهما لم يلتزما في ذلك تعديل المروي عنه ولهذا قال فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث منه لا على الإرسال.
قولهم: السكوت لا يدل على الموافقة قلنا: وإن لم يدل عليها قطعاً فهو دليل عليها ظناً كما سبق تقريره في الإجماع.
قولهم: نحن لا ننكر أن إرسال الصحابة والتابعين حجة قلنا إنما يصح ذلك أن لو كانوا لا يروون إلا عن الصحابي العدل وليس كذلك ولهذا قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله: حدثني به بعض الحرسية.
قولهم: لا نسلم أن قول الراوي قال رسول الله تعديل للمروي عنه قلنا: دليله ما سبق.
قولهم إن الراوي قد يروي عمن لو سئل عنه لجرحه أو عدله قلنا: ذلك إنما يكون فيما إذا كان قد عين الراوي ووكل النظر فيه إلى المجتهدين ولم يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا بل غايته أنه قال: قال فلان إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وأما إذا لم يعين فالظاهر أنه لا يجزم بقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علم أو ظن عدالة الراوي على ما سبق.
وأما إرسال الشهادة فلا يلزم من عدم قبولها عدم قبول الإرسال في الرواية لأن الشهادة قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر في الرواية كما سبق تقريره.
قولهم: إن الجزم مع تجويز كذب من روي عنه كذب قلنا إنما يكون كذباً إن لو ظن أو علم أنه كاذب وأما إذا قال ذلك مع ظن الصدق فلا يكون كاذباً وإن احتمل في نفس الأمر أن يكون المروي عنه كاذباً كما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العنعنة.
قولهم: سلمنا أن الإرسال من الراوي تعديل للمروي عنه لكنه تعديل مطلق فلا يكون حجة موجبة للعمل به على الغير قلنا: قد بينا أن التعديل المطلق دون تعيين سببه كاف فيما تقدم.
قولهم: لعله اعتقده عدلاً ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يعرفه المعدل قلنا: وإن كان ذلك محتملاً غير أن الظاهر عدمه ولا سيما مع تعديل العدل العالم بأحوال الجرح والتعديل وعدم الظفر بما يوجب الجرح وأما اعتبار الرواية بالشهادة فقد عرف وجه الفارق فيهما.
وما ذكروه من المعارضة الأولى فإنما يصح أن لو كان يلزم من الجهل بعين الراوي الجهل بصفته مطلقاً وليس كذلك مما بيناه من أن الإرسال يدل على تعديله من جهة الجملة وإن جهلت عينه وبهذا يبطل ما ذكروه من المعارضة الثانية.
وأما المعارضة الثالثة فقد عرف جوابها بالفرق بين الرواية والشهادة.
وأما المعارضة الرابعة فجوابها ببيان فائدة ذكر الراوي وذلك من وجهين: الأول أن الراوي قد يشتبه عليه حال المروي عنه فيعينه ليكل النظر في أمره إلى المجتهد بخلاف ما إذا أرسل.
الثاني أنه إذا عين الراوي فالظن الحاصل للمجتهد بفحصه بنفسه عن حاله يكون أقوى من الظن الحاصل له بفحص غيره.
وأما المعارضة الخامسة فمندفعة أيضاً فإنه مهما كان المرسل للخبر في زماننا عدلاً ولم يكذبه الحفاظ فهو حجة.
وأما المعارضة السادسة فإنما لم يصر الخبر بقول الواحد متواتراً لأن المتواتر يشترط فيه استواء طرفيه ووسطه والواحد ليس كذلك فلا يحصل بخبره التواتر.
وإذا عرف أن المرسل مقبول من العدل فمن لم يقل به كالشافعي فقد قيل إنه لا معنى لقوله إنه يكون مقبولاً إذا أسنده غير المرسل أو أسنده المرسل مرة لأن الاعتماد في ذلك إنما هو على الإسناد لا على الإرسال ولا معنى لقوله إنه يكون مقبولاً إذا أرسله اثنان وكانت مشايخها مختلفة لأن ضم الباطل إلى الباطل غير موجب للقبول وليس بحق لأن الظن الحاصل بصدق الراوي من الإرسال مع هذه الأمور أقوى منه عند عدمها.
وعلى هذا فلا يلزم من عدم الاحتجاج بأضعف الظنين عدم الاحتجاج بأقواهما.
وإذا عرف الخبر المقبول وغير المقبول فإذا تعارض خبران مقبولان فالعمل بأحدهما متوقف على الترجيح وسيأتي في قاعدة الترجيحات بأقصى الممكن إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني فيما يتعلق بالنظر في المتن وفيه بابان: أولهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع وثانيهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة.
الباب الأول
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع
وكل واحد من هذه الأصول الثلاثة إما أن يدل على المطلوب بمنظومه أو لا بمنظومه فلنفرض في كل واحد منها قسماً.القسم الأول في دلالات المنظوم وهي تسعة أصناف. الصنف الأول في الأمر وفيه أربعة أبحاث: أولها فيما يدل اسم الأمر عليه حقيقة وثانيها في حد الأمر الحقيقي وثالثها في صيغة الأمر الدالة عليه ورابعها في مقتضاه.
البحث الأول: فيما يطلق عليه اسم الأمر حقيقة. فنقول اتفق الأصوليون على أن اسم الأمر حقيقة في القول المخصوص وهو قسم من أقسام الكلام ولذلك قسمت العرب الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ونداء وسواء قلنا إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس أو العبارة الدالة بالوضع والاصطلاح على اختلاف المذاهب والكلام القديم النفساني عندنا وإن كان صفة واحدة لا تعدد فيه في ذاته غير أنه يسمى أمراً ونهياً وخبراً إلى غير ذلك من أقسام الكلام بسبب اختلاف تعلقاته ومتعلقاته كما سبق تقريره في أبكار الأفكار فلا يمتنع أن يكون الأمر قسماً من أقسامه بهذا التفسير وإنما وقع الخلاف بينهم في إطلاق اسم الأمر على الفعل هل هو حقيقة أولاً؟ والأكثرون على أنه مجاز واختيار أبي الحسين البصري أنه مشترك بين الشيء والصفة وبين جملة الشأن والطرائق ووافق على أنه ليس حقيقة في نفس الفعل من حيث هو فعل بل من حيث هو شيء.
وها نحن نذكر حجج كل فريق وننبه على ما فيها ونذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما حجة أبي الحسين البصري على ما ذهب إليه أن الإنسان إذا قال هذا أمر لم يدر السامع مراده من قوله إلا بقرينة وهو غير صحيح لكونه مصادراً بدعوى التردد في إطلاق اسم الأمر ولا يخفى ظهور المنع من مدعي الحقيقة في القول المخصوص وأنه مهما أطلق اسم الأمر عنده كان المتبادر إلى فهمه القول المخصوص وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة ولا يخفى امتناع تقرير التردد مع هذا المنع.
وأما حجج القائلين بكونه مجازاً في الفعل فكثيرة الأولى منها أنه لو كان حقيقة في الفعل مع كونه حقيقة في القول لزم منه الاشتراك في اللفظ وهو خلاف الأصل لكونه مخلاً بالتفاهم لاحتياجه في فهم المدلول المعين منه إلى قرينة وعلى تقدير خفائها لا يحصل المقصود من الكلام.
الثانية أنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل إذ هو لازم الحقيقة ولهذا فإنه لما كان إطلاق اسم العالم على من قام به العلم حقيقة اطرد في كل من قام به العلم ولما كان قوله: " واسأل القرية " " يوسف 82 " مجازاً عن أهلها لما بينهما من المجاورة لم يصح التجوز بلفظ السؤال للبساط والكوز عن صاحبه وإن كانت الملازمة بينهما أشد وهو غير مطرد إذ لا يقال للأكل والشرب أمر.
الثالثة أنه لو كان حقيقة في الفعل لاشتق لمن قام به منه اسم الآمر كما في القول المخصوص إذ هو الأصل إلا أن يمنع مانع من جهة أهل اللغة كما اشتقوا اسم القارورة للزجاجة المخصوصة من قرار المائع فيها ومنعوا من ذلك في الجرة والكوز ولم يرد مثله فيما نحن فيه.
الرابعة أن جمع الأمر الحقيقي في القول المخصوص بأوامر وهو لازم له لنفس الأمر لا للمسمى وهو غير متحقق في الفعل بل إن جمع فإنما يجمع بأمور.
الخامسة أن الأمر الحقيقي له متعلق وهو المأمور وهو غير متحقق في الفعل فإنه وإن سمي أمراً فلا يقال له مأمور ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
السادسة أن من لوازم الأمر الحقيقي وصفه بكونه مطاعاً أو مخالفاً ولا كذلك الفعل.
وفي هذه الحجج نظر: أما الأولى فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في الفعل أن يكون مشتركاً إذا أمكن أن يكون حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بين القول المخصوص والفعل فيكون متواطئاً فإن قيل: الأصل عدم ذلك المسمى المشترك فلا تواطئ قيل: لا خفاء باشتراكهما في صفات وافتراقهما في صفات فأمكن أن يكون بعض الصفات المشتركة هو المسمى كيف وإن الأصل أن لا يكون اللفظ مشتركاً ولا مجازاً لما فيه من الافتقار إلى القرينة المخلة بالتفاهم وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: ما وقع به الاشتراك لا يخرج عن الموجود والصفة والشيئية وغير ذلك وأي أمر قدر الاشتراك فيه فهو متحقق في النهي وسائر أقسام الكلام ولا يسمى أمراً والقول بأنه متواطئ ممتنع كيف وإن القائل قائلان: قائل إنه مشترك وقائل إنه مجاز في الفعل فإحداث قول ثالث يكون خرقاً للإجماع وهو ممتنع.
قلنا: أما الأول فغير صحيح وذلك أن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة وكل ما صدق عليه ذلك كان نهياً أو غيره؟ فإنه يسمى أمراً حقيقة وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة مدلولاً لاسم الأمر فمن جملة ما قيل وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى الاشتراك ولكن لم قيل بامتناعه والقول بأنه مجاز بالتفاهم لافتقاره إلى القرينة وإنما يصح أن لو لم يكن اللفظ المشترك عند إطلاقه محمولاً على جميع محامله وليس كذلك على ما سيأتي تقديره في مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر سلمنا أنه خلاف الأصل غير أن التجوز أيضاً خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: إلا أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز فكان المجاز أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المجاز أغلب في لغة العرب من الاشتراك ولولا أنه أوفى بتحصيل مقصود الوضع لما كذلك.
وأما التفصيل فمن وجهين: الأول أن المحذور اللازم من الاشتراك بافتقاره إلى القرينة لازم له أبداً بخلاف المجاز فإن المحذور إنما يلزمه بتقدير إرادة جهة المجاز وهو احتمال نادر إذ الغالب إنما هو إرادة جهة الحقيقة.
الثاني أن المحذور لازم في المشترك في كل محمل من محامله لافتقاره إلى القرينة في كل واحد منها بخلاف المجاز فإنه إنما يفتقر إلى القرينة بتقدير إرادة جهة المجاز لا بتقدير إرادة جهة الحقيقة.
قيل هذا معارض من عشرة أوجه: الأول أن المشترك لكونه حقيقة في كل واحد من مسمياته مما يطرد بخلاف المجاز كما سبق وما يطرد أولى لقلة اضطرابه.
الثاني أنه يصح منه الاشتقاق لكونه حقيقة بخلاف المجاز فكان أوسع في اللغة وأكثر فائدة.
الثالث أنه لكونه حقيقياً مما يصح التجوز به في غير محله الحقيقي بخلاف المجاز فكان أولى لكثرة فائدته.
الرابع أنه وإن افتقر إلى قرينة لكن يكفي أن يكون أدنى ما يغلب على الظن بخلاف المجاز لافتقاره إلى قرينة مغلبة على الظن وأن تكون راجحة على جهة ظهور اللفظ في حقيقته فكان تمكن الخلل منه لذلك أكثر.
الخامس أن المجاز لا بد فيه من علاقة بينه وبين محل الحقيقة تكون مصححة للتجوز باللفظ على ما سلف بخلاف المشترك.
السادس أن المجاز لا يتم فهمه دون فهم محل الحقيقة ضرورة كونه مستعاراً منه وفهم كل واحد من مدلولات اللفظ المشترك غير متوقف على فهم غيره فكان أولى.
السابع أن المجاز متوقف على تصرف من قبلنا في تحقيق العلاقة التي هي شرط في التجوز وربما وقع الخطأ فيه بخلاف اللفظ المشترك.
الثامن أنه يلزم من العمل باللفظ في جهة المجاز مخالفة الظهور في جهة الحقيقة بخلاف اللفظ المشترك إذ لا يلزم من العمل به في أحد مدلوليه مخالفة ظاهر أصلاً التاسع أن المجاز تابع للحقيقة ولا عكس فكان المشترك أولى.
العاشر أن السامع للمجاز بتقدير عدم معرفته بالقرينة الصارفة إلى المجاز إذا كان هو مراد المتكلم فقد يبادر إلى العمل بالحقيقة ويلزم منه ترك المراد وفعل ما ليس بمراد بخلاف المشترك فإنه بتقدير عدم ظهور القرينة مطلقاً لا يفعل شيئاً فلا يلزم سوى عدم المقصود.
فإن قيل: إلا أن المجاز يتعلق به فوائد فإنه ربما كان أبلغ وأوجز وأوقف في بديع الكلام ونظمه ونثره للسجع والمطابقة والمجانسة واتحاد الروي في الشعر إلى غير ذلك.
قلنا: ومثل هذا الاحتمال أيضاً منقدح في اللفظ المشترك مع كونه حقيقة فكان اللفظ المشترك أولى وإن لم يكن أولى فلا أقل من المساواة وهي كافية في مقام المعارضة.
وأما الحجة الثانية فلا نسلم امتناع إطلاق الأمر على الأكل والشرب وإن سلم ذلك فعدم اطراده في كل وقت مما يمنع من كونه حقيقة في القول المخصوص وهو غير مطرد في كل قول على ما لا يخفى وإن كان لا يمنع من ذلك في القول فكذلك في الفعل.
فإن قيل: إنما يجب إطراد الاسم في المعنى الذي كان الاسم حقيقة فيه لا في غيره والأمر إنما كان حقيقة في القول المخصوص لا في مطلق قول وذلك مطرد في ذلك القول فمثله لازم في الأفعال إذ للخصم أن يقول: إنما هو حقيقة في بعض الأفعال لا في كل فعل.
أما الحجة الثالثة أنه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل.
فإن قيل: ولو لم يكن على وفق الأصل لكان الاشتقاق في صور الاشتقاق على خلاف الأصل والمحذور اللازم منه أكثر لأن صور الاشتقاق أغلب وأكثر من صور عدم الاشتقاق قيل: لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل لجواز أن يكون الاشتقاق وعدمه لا على وفق أصل فيقتضيه بل هما تابعان للنقل والوضع.
كيف وإنه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة جاز أن يكون من توابع بعض المسميات وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وعلى هذا فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسميات الاشتقاق في غيره لعدم الاشتراك في ذلك المسمى وبهذا يندفع ما ذكروه من الحجة الرابعة والخامسة والسادسة.
كيف وقد قيل في الحجة الرابعة إن أوامر ليست جمع أمر بل جمع إمرة وأما القائلون بكونه مشتركاً بين القول المخصوص والفعل فقد احتجوا بثلاث حجج.
الأولى أن المسمى في نفسه مختلف وكما قد أطلق اسم الأمر على القول المخصوص فقد أطلق على الفعل والأصل في الإطلاق الحقيقة ويدل على الإطلاق قول العرب: أمر فلان بكذا مستقيم أي عمله وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " أي فعلنا " وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " .
الحجة الثانية: أن اسم الأمر في الفعل قد جمع بأمور والجمع علامة الحقيقة.
والحجة الثالثة: أنه لو كان اسم الأمر في الفعل مجازاً لم يخل إما أن يكون مجازاً بالزيادة أو بالنقصان أو لمشابهته لمحل الحقيقة أو لمجاوز له أو لأنه كان عليه أو سيؤل إليه ولم يتحقق شيء من ذلك في الفعل وإذا لم يكن مجازاً كان حقيقة وهذه الحجج ضعيفة أيضاً.
أما الحجة الأولى: فلقائل أن يقول لا نسلم صحة إطلاق اسم الأمر على الفعل وقولهم أمر فلان مستقيم ليس مسماه الفعل بل شأنه وصفته وهو المراد من قوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " ومن قوله: " وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " .
وأما الحجة الثانية: فلا نسلم أن الجمع دليل الحقيقة بدليل قولهم في جمع من سمي حماراً لبلادته حمر وهو مجاز وإن سلمنا بأن الجمع يدل على الحقيقة ولكن لا نسلم أن أمور جمع أمر بل الأمر والأمور كل واحد منهما يقع موقع الآخر وليس أحدهما جمعاً للآخر ولهذا يقال: أمر فلان مستقيم فيفهم منه ما يفهم من قولهم: أمور فلان مستقيمة.
وأما الحجة الثالثة: فهو أنه لا يلزم من كون الأمر ليس مجازاً في الفعل أن يكون حقيقة فيه من حيث هو فعل وإنما هو حقيقة فيه من جهة ما اشتمل عليه من معنى الشأن والصفة كما سبق.
وعلى هذا فالمختار إنما هو كون الاسم اسم الأمر متواطئاً في القول المخصوص والفعل لا أنه مشترك ولا مجاز في أحدهما.
البحث الثاني: في حد الأمر وقد اختلفت المعتزلة فيه بناء على إنكارهم لكلام النفس: فذهب البلخي وأكثر المعتزلة إلى أن الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه وأراد بقوله: يقوم مقامه أي في الدلالة على مدلوله وقصد بذلك إدراج صيغة الأمر من غير العربي في الحد وهو فاسد من ثلاثة أوجه.
الأول: أن مثل ذلك قد يوجد فيما ليس بأمر بالاتفاق كالتهديد في قوله تعالى: " اعملوا ما شئتم " فصلت 40 " والإباحة في قوله: " وإذا حللتم فاصطادوا " " المائدة 2 " والإرشاد في قوله: " فاستشهدوا " " النساء 15 " والامتنان كقوله: " كلوا مما رزقكم الله " " الأنعام 142 " والإكرام كقوله: " ادخلوها بسلام آمنين " " الحجر 46 " والتسخير والتعجيز إلى غير ذلك من المحامل التي يأتي ذكرها.
الثاني: أنه يلزم من ذلك أن تكون صيغة افعل الواردة من النبي صلى الله عليه وسلم نحونا أمراً حقيقة لتحقق ما ذكروه من شروط الأمر فيها ويلزم من ذلك أن يكون هو الآمر لنا بها ويخرج بذلك عن كونه رسولاً لأنه لا معنى للرسول غير المبلغ لكلام المرسل لا أن يكون هو الآمر والناهي كالسيد إذا أمر عبده وسواء كانت صيغته مخلوقة له كما هو مذهبهم أو لله تعالى كما هو مذهبنا.
الثالث: أنه قد يرد مثل هذه الصيغة من الأعلى نحو الأدنى ولا يكون أمراً بأن يكون ذلك على سبيل التضرع والخضوع وقد يرد من الأدنى نحو الأعلى ويكون أمراً إذا كانت على سبيل الاستعلاء لا على سبيل الخضوع والتذلل ولذلك يوصف قائلها بالجهل والحمق بأمره لمن هو أعلى رتبة منه.
ومنهم من قال: الأمر صيغة افعل على تجردها من القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى التهديد وما عداه من المحامل.
وهو أيضاً فاسد من حيث إنه أخذ الأمر في تعريف الأمر وتعريف الشيء بنفسه محال وإن اقتصروا في التحديد على القول بأن الأمر صيغة افعل المجردة عن القرائن لا غير وزعموا أن صيغة افعل فيما ليس بأمر لا تكون مجردة عن القرائن فليس ما ذكروه أولى من قول القائل: التهديد عبارة عن صيغة افعل المجردة عن القرائن إلا أن يدل عليه دليل من جهة السمع وهو غير متحقق.
ومنهم من قال: الأمر صيغة افعل بشرط إرادات ثلاث إرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بها على الأمر وإرادة الامتثال: فإرادة إحداث الصيغة احتراز عن النائم إذا وجدت هذه الصيغة منه وإرادة الدلالة بها على الأمر احتراز عما إذا أريد بها التهديد أو ما سواه من المحامل وإرادة الامتثال احتراز عن الرسول الحاكي المبلغ فإنه وإن أراد إحداث الصيغة والدلالة بها على الأمر فقد لا يريد بها الامتثال وهو أيضاً فاسد من وجهين: الأول: أنه أخذ الأمر في حد الأمر وتعريف الشيء بنفسه محال ممتنع الثاني: هو أن الأمر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير الصيغة فإن كان هو نفس الصيغة كان الكلام متهافتاً من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة والدال غير المدلول وإن كان هو غير الصيغة فيمتنع أن يكون الأمر هو الصيغة وقد قال بأن الأمر هو صيغة افعل بشرط الدلالة على الأمر فإن الشرط غير المشروط وإذا كان الأمر غير الصيغة فلا بد من تعريفه والكشف عنه إذ هو المقصود في هذا المقام.
ولما انحسمت عليهم طرق التعريف قال قائلون منهم: الأمر هو إرادة الفعل وقد احتج الأصحاب على إبطاله بأن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا اعتذر عن ذلك قصد إظهار أمره وأمره بين يدي السلطان قصداً لإظهار مخالفته لبسط عذره والخلاص من عقاب السلطان له فإنه يعد آمراً والعبد مأموراً ومطيعاً بتقدير الامتثال وعاصياً بتقدير المخالفة مع علمنا بأنه لا يريد منه الامتثال لما فيه من ظهور كذبه وتحقيق عقاب السلطان له والعاقل لا يقصد ذلك غير أن مثل هذا لازم على أصحابنا إن كان صحيحاً في تفسيرهم الأمر بطلب الفعل من جهة أن السيد أيضاً آمر في مثل هذه الصورة لعبده مع علمنا بأنه يستحيل منه طلب الفعل من عبده لما فيه من تحقيق عقابه وكذبه والعاقل لا يطلب ما فيه مضرته وإظهار كذبه وعند ذلك فما هو جواب أصحابنا في تفسير الأمر بالطلب يكون جواباً للخصم في تفسيره بالإرادة.
وإن زعم بعض أصحابنا أن الأمر ليس هو الطلب بل الإخبار باستحقاق الثواب على الفعل فيلزمه أن يكون الآمر لعبده مما يصح تصديقه وتكذيبه في أمره لعبده ضرورة كون الأمر خبراً وهو ممتنع كيف وإنه على خلاف تقسيم أهل اللغة الكلام إلى أمر وخبر والحق في ذلك أن يقال أجمع المسلمون من غير مخالفة من الخصوم على أن من علم الله تعالى أنه يموت على كفره أنه مأمور بالإيمان وليس الإيمان منه مراد الله تعالى لأنه لا معنى لكونه مراداً لله تعالى سوى تعلق الإرادة به ولا معنى لتعلق الإرادة بالفعل سوى تخصيصها له بحالة حدوثه فلا يعقل تعلقها به دون تخصيصها له بحالة حدوثه وما لم يوجد لم تكن الإرادة مخصصة له بحالة حدوثه فلا تكون متعلقة به وليقنع بهذا هاهنا عما استقصيناه من الوجوه الكثيرة في علم الكلام.
وأما أصحابنا فمنهم من قال: الأمر عبارة عن الخبر على الثواب على الفعل تارة والعقاب على الترك تارة وهو فاسد لما سبق من امتناع تصديق الآمر وتكذيبه ولأنه يلزم منه لزوم الثواب على فعل ما أمر به والعقاب على تركه من جهة الشارع حذراً من الخلف في خبر الصادق وليس كذلك بالإجماع أما الثواب فلجواز إحباط العمل بالردة وأما العقاب فلجواز العفو والشفاعة ويمكن أن يحترز عن هذا الإشكال بأن يقال: هو الإخبار باستحقاق الثواب والعقاب غير أنه يبقى عليه الإشكال الأول من غير دافع.
ومنهم من قال: وهم الأكثرون كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم: الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به فقولهم: القول كالجنس للأمر وغيره من أقسام الكلام وقولهم: المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به للفصل بين الأمر وغيره من أقسام الكلام ولفصل الأمر عن الدعاء والسؤال.
ومنهم من زاد في الحد بنفسه احترازاً عن الصيغة فإنها لا تقتضي الطاعة بنفسها بل بالتوقيف والاصطلاح وعلى كل تقدير فهو باطل لما فيه من تعريف الأمر بالمأمور والمأمور به وهما مشتقان من الأمر والمشتق من الشيء أخفى من ذلك الشيء وتعريف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفة ذلك الشيء محال.
ومنهم من قال: الأمر هو طلب الفعل على وجه يعد فاعله مطيعاً وهو أيضاً باطل لما فيه من تعريف الأمر بالطاعة المتعلقة بالفعل والطاعة المتعلقة بالفعل لا تعرف إلا بموافقة الأمر وهو دور ممتنع كيف وإن فعل الرب تعالى لما طلبه العبد منه بالسؤال يقال له باعتبار موافقة طلب للعبد مطيعاً بدليل قوله عليه السلام: " إن أطعت الله أطاعك " أي إن فعلت ما أراد فعل ما تريد وليس طلب العبد من الله تعالى بجهة السؤال لله أمراً إذ الأمر لله قبيح شرعاً بخلاف السؤال ويمكن الاحتراز عنه بما يعد فاعله مطيعاً في العرف العام والباري تعالى ليس كذلك.
والأقرب في ذلك إنما هو القول الجاري على قاعدة الأصحاب وهو أن يقال: الأمر طلب الفعل على جهة الاستعلاء.
فقولنا: طلب الفعل احتراز عن النهي وغيره من أقسام الكلام وقولنا على جهة الاستعلاء احتراز عن الطلب بجهة الدعاء والالتماس.
فإن قيل قولكم: الأمر هو طلب الفعل إن أردتم به الإرادة فهو مذهب المعتزلة وليس مذهباً لكم وإن أردتم غيره فلا بد من تصويره وإلا كان فيه تعريف الأمر بما هو أخفى من الأمر.
قلنا: إجماع العقلاء منعقد على أن الأمر قسم من أقسام الكلام وأنه واقع موجود لا ريب فيه وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والإرادة بما سبق فما وراء ذلك هو المعني بالطلب والنزاع في تسميته بالطلب بعد الموافقة على وجوده فآيل إلى خلاف لفظي.
؟البحث الثالث: في الصيغة الدالة على الأمر وقد اختلف القائلون بكلام النفس: هل للأمر صيغة تخصه وتدل عليه دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن رحمه الله ومن تابعه إلى النفي وذهب من عداهم إلى الإثبات.
قال إمام الحرمين والغزالي: والذي نراه أن هذه الترجمة عن الأشعري خطأ فإن قول القائل لغيره: أمرتك وأنت مأمور صيغة خاصة بالأمر من غير منازعة وإنما الخلاف في أن صيغة افعل هل هي خاصة بالأمر أو لا لكونها مترددة في اللغة بين محامل كثيرة يأتي ذكرها.
واعلم أنه لا وجه لاستبعاد هذا الخلاف وقول القائل: أمرتك وأنت مأمور لا يرفع هذا الخلاف إذ الخلاف إنما هو في صيغة الأمر الموضوعة للإنشاء وما مثل هذه الصيغ أمكن أن يقال إنها إخبارات عن الأمر لا إنشاآت وإن كان الظاهر صحة استعمالها للإنشاء فإنه لا مانع من استعمال صيغة الخبر للإنشاء كما في قوله طلقت وبعت واشتريت ونحوه.
وبيانه أنه إذا قال لزوجته: طلقتك فإن الطلاق يقع عليه إجماعاً ولو كان إخباراً لكان إخباراً عن الماضي أو الحال لعدم صلاحية هذه الصيغة للاستقبال ولو كان كذلك لم يخل إما أن يكون قد وجد منه الطلاق أو لم يوجد: فإن كان الأول امتنع تعليقه بالشرط في قوله: إن دخلت الدار لأن تعليق وجود ما وجد على وجود ما لم يوجد محال وإن كان الثاني وجب أن يعد كاذباً وأن لا يقع الطلاق عليه وهو خلاف الإجماع.
وإن قدر أنه إخبار عن المستقبل مع الإحالة فيجب أيضاً أن لا يقع به الطلاق كما لو صرح بذلك وقال لها: ستصيرين طالقاً في المستقبل فإنه لا يقع به الطلاق مع أنه صريح إخبار عن وقوع الطلاق في المستقبل فما ليس بصريح أولى.
وإذا بطل كونه إخباراً تعين أن يكون إنشاء إذ الإجماع منعقد على امتناع الخلو منهما فإذا بطل أحدهما تعين الآخر.
البحث الرابع: في مقتضى صيغة الأمر وفيه اثنتا عشرة مسألة.
المسألة الأولى فيما ذا صيغة الأمر حقيقة فيه إذا وردت مطلقة عرية عن القرائن وقد اتفق الأصوليون على إطلاقها بازاء خمسة عشر اعتبار الوجوب كقوله " أقم الصلاة " " الإسراء 78 " والندب كقوله: " فكاتبوهم " " النور 33 " والإرشاد كقوله تعالى: " فاستشهدوا " " النساء 15 " وهو قريب من الندب لاشتراكهما في طلب تحصيل المصلحة غير أن الندب لمصلحة أخروية والإرشاد لمصلحة دنيوية والإباحة كقوله " فاصطادوا " " المائدة 2 " والتأديب وهو داخل في الندب كقوله: " كل مما يليك " والامتنان كقوله: " كلوا مما رزقكم الله " " الأنعام 142 " والإكرام كقوله: " ادخلوها بسلام " " الحجر 46 " والتهديد كقوله: " اعملوا ما شئتم " " فصلت 40 " والإنذار كقوله: " تمتعوا " " إبراهيم 30 " وهو في معنى التهديد والتسخير كقوله: " كونوا قردة خاسئين " " البقرة 65 " والتعجيز كقوله: " كونوا حجارة " " الإسراء 50 " والإهانة كقوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز " " الدخان 49 " والتسوية كقوله: " فاصبروا أو لا تصبروا " " الطور 16 " والدعاء كقوله: " اغفر لي " " نوح 28 " والتمني كقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى
وكمال القدرة كقوله: " كن فيكون " " يس 82 " .
وقد اتفقوا على أنها مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة غير أنهم اختلفوا: فمنهم من قال إنها مشتركة كاشتراك لفظ القرء بين الطلب للفعل وبين للتهديد المستدعي لترك الفعل وبين الإباحة المخيرة بين الفعل والترك ومنهم من قال إنها حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها.
ومنهم من قال إنها حقيقة في الطلب ومجاز فيما سواه وهذا هو الأصح وذلك لأنا إذا سمعنا أن أحداً قال لغيره: افعل كذا وتجرد ذلك عن جميع القرائن وفرضناه كذلك فإنه يسبق إلى الإفهام منه طلب الفعل واقتضاؤه من غير توقف على أمر خارج دون التهديد المستدعي لترك الفعل والإباحة المخيرة بين الفعل والترك ولو كان مشتركاً أو ظاهراً في الإباحة لما كان كذلك وإذا كان الطلب هو السابق إلى الفهم عند عدم القرائن مطلقاً دل ذلك على كون صيغة افعل ظاهرة فيه.
فإن قيل: يحتمل أن يكون ذلك بناء عل عرف طارئ على الوضع اللغوي كما في لفظ الغائط والدابة وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على الظهور في الطلب غير أنه معارض بما يدل على ظهوره في الإباحة لكونها أقل الدرجات فكانت مستيقنة.
قلنا: جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ وبقاء الوضع الأصلي بحاله وجواب الثاني لا نسلم أن الإباحة متيقنة إذ هي مقابلة للطلب والتهديد لكونها غير مستدعية للفعل ولا للترك والطلب مستدع للفعل والتهديد مستدع لترك الفعل فلا تيقن لواحد منهما.
المسألة الثانية إذا ثبت أن صيغة افعل ظاهرة في الطلب والاقتضاء فالفعل المطلوب لا بد وأن يكون فعله راجحاً على تركه فإن كان ممتنع الترك كان واجباً وإن لم يكن ممتنع الترك فإما أن يكون ترجحه لمصلحة أخروية فهو المندوب وإما لمصلحة دنيوية فهو الإرشاد.
وقد اختلف الأصوليون: فمنهم من قال إنه مشترك بين الكل وهو مذهب الشيعة ومنهم من قال إنه لا دلالة له على الوجوب والندب بخصوصه وإنما هو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح الفعل على الترك ومنهم من قال إنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وهو قول الجباشي في أحد قوليه ومنهم من قال إنه حقيقة من الندب وهو مذهب أبي هاشم وكثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وجماعة من الفقهاء وهو أيضاً منقول عن الشافعي رحمه الله تعالى.
ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعري رحمه الله ومن تابعه من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما وهو الأصح وذلك لأن وضعه مشتركاً أو حقيقة في البعض مجازاً في البعض إما أن يكون مدركه عقلياً أو نقلياً: الأول محال إذ العقول لا مدخل لها في المنقول لا ضرورة ولا نظراً والثاني فإما أن يكون قطعياً أو ظنياً: والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه والظني إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة مما يقنع فيه بالظن وهو غير مسلم فلم يبق غير التوقف.
فإن قيل: ما ذكرتموه مبني على أن مدار مثل هذه المسألة على القطع وهو غير مسلم ولا في شيء من اللغات وإن سلمنا ذلك لكن ما المانع أن يكون المدرك لا عقلياً محضاً ولا نقلياً محضاً بل هو مركب منهما كما يأتي تحقيقه وإن سلمنا الحصر فيما ذكرتموه غير أنه لازم عليكم في القول بالوقف أيضاً فإن العقل لا يقتضيه والنقل القطعي غير متحقق فيه والظن إنما يكتفى به أن لو كانت المسألة ظنية فما هو جوابكم عنه في القول بالوقف يكون جواباً لخصومكم فيما ذهبوا إليه على اختلاف مذاهبهم قلت: أما إنكار القطع في اللغات على الإطلاق فمما يفضي إلى إنكار القطع في جميع الأحكام الشرعية لأن مبناها على الخطاب بالألفاظ اللغوية ومعقولها وذلك كفر صراح والقول بأن ما ذكرتموه مبني على أن مدار ما نحن فيه على القطع.
قلنا: نحن في هذه المسألة غير متعرضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقفون فمن رام إثبات اللغة فيما نحن فيه بطريق ظني أمكن أن يقال له متى يكتفى بذلك فيما نحن فيه أإذا كان شرط إثباته القطع أم لا؟ ولا بد عند توجه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع أو المسلم وكل واحد منهما متعذر لما سبق.
قولهم: ما المانع من كونه مركباً من العقل والنقل؟ قلنا: لأن ما ذكرناه من التقسيم في النقلي ثابت هاهنا كان مستقلاً أو غير مستقل والقطع لا سبيل إليه وإن كان ظنياً فالمركب منه ومن العقلي يكون ظنياً سواء كان العقلي ظنياً أو قطعياً.
قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الوقف قلنا: ليس كذلك لأن الواقف غير حاكم بل هو ساكت عن الحكم والساكت عن الحكم لا يفتقر إلى دليل فلا يكون ما ذكروه لازماً علينا شبه القائلين بالوجوب.
وقد ذكر أبو الحسين البصري في ذلك ما يناهز ثلاثين شبهة دائرة بين غث وثمين وها نحن نلخص حاصلها ونأتي على المعتمد من جملتها مع حذف الزيادات العرية عن الفائدة ونشير إلى جهة الانفصال عنها ثم نذكر بعد ذلك شبه القائلين بالندب وطرق تخريجها إن شاء الله تعالى فإما شبه القائلين بالوجوب فشرعية ولغوية وعقلية.
أما الشرعية فمنها ما يرجع إلى الكتاب ومنها ما يرجع إلى السنة ومنها ما يرجع إلى الإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " " النور 54 " ثم هدد عليه بقوله: " فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " " النور 54 " والتهديد على المخالفة دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " " النور 63 " ووجه الاستدلال به ما سبق في الآية التي قبلها وأيضاً قوله تعالى لإبليس: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " " الأعراف 12 " أو رد ذلك في معرض الذم بالمخالفة لا في معرض الاستفهام اتفاقاً وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " " المرسلات 48 " ذمهم على المخالفة وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم " " الأحزاب 36 " والمراد من قوله قضي أي ألزم ومن قوله أمراً أي مأموراً وما لا خيرة فيه من المأمورات لا يكون إلا واجباً وأيضاً قوله تعالى: " أفعصيت أمري " " طه 93 " وقوله: " لا يعصون الله ما أمرهم " " التحريم 6 " وقوله: " لا أعصي لك أمراً " " الكهف 69 " وصف مخالف الأمر بالعصيان وهو اسم ذم وذلك لا يكون في غير الوجوب وأيضاً قوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت " " النساء 65 " أي أمرت ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله فقال: لا إنما أنا شافع فقالت: لا حاجة لي فيه فقد عقلت أنه لو كان أمراً لكان واجباً والنبي صلى الله عليه وسلم قررها عليه وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " وهو دليل الوجوب وإلا فلو كان الأمر للندب فالسواك مندوب وأيضاً قوله لأبي سعيد الخدري حيث لم يجب دعاءه وهو في الصلاة أما سمعت الله تعالى يقول: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " " الأنفال 24 " وبخه على مخالفة أمره وهو دليل الوجوب وأيضاً فإنه لما سأله الأقرع بن حابس: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد قال صلى الله عليه وسلم: " بل للأبد ولو قلت نعم لوجب " وذلك دليل على أن أوامره للوجوب.
وأما الإجماع فهو أن الأمة في كل عصر لم تزل راجعة في إيجاب العبادات إلى الأوامر من قوله تعالى: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " " البقرة 110 " إلى غير ذلك من غير توقف وما كانوا يعدلون إلى غير الوجوب إلا لمعارض وأيضاً فإن أبا بكر رضي الله عنه استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله " وآتوا الزكاة " " البقرة 110 " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً.
وأما من جهة اللغة فمن وجوه: الأول وصف أهل اللغة من خالف الأمر بكونه عاصياً ومنه قولهم أمرتك فعصيتني وقوله تعالى: " أفعصيت أمري " " طه 93 " وقول الشاعر:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني
والعصيان اسم ذم وذلك في غير الوجوب ممتنع وأيضاً فإن السيد إذا أمر عبده بأمر فخالفه حسن الحكم من أهل اللغة بذمه واستحقاقه للعقاب ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك.
وأما من جهة العقل فمن وجوه: الأول أن الإيجاب من المهمات في مخاطبة أهل اللغة فلو لم يكن الأمر للوجوب لخلا الوجوب عن لفظ يدل عليه وهو ممتنع مع دعو الحاجة إليه وأيضاً فإنه قد ثبت أن الطلب لا يخرج عن الوجوب والندب ويمتنع أن يكون حقيقة في الندب لا بجهة الاشتراك ولا التعيين ولا بطريق التخيير لأن حمل الطلب على الندب معناه: افعل إن شئت وهذا الشرط غير مذكور في الطلب فيمتنع حمل الطلب عليه بوجه من هذه الوجوه ويلزم من ذلك أن يكون حقيقة في الوجوب وأيضاً فإن الأمر مقابل للنهي والنهي يقتضي ترك الفعل والامتناع من الفعل جزماً فالأمر يجب أن يكون مقتضياً للفعل ومانعاً من الترك جزماً وأيضاً فإن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده مما يمنع من فعلها وذلك غير متصور دون فعل المأمور به فكان واجباً وأيضاً فإن حمل الأمر على الوجوب أحوط للمكلف لأنه إن كان للوجوب فقد حصل المقصود الراجح وأمنا من ضرر تركه وإن كان للندب فحمله على الوجوب يكون أيضاً نافعاً غير مضر ولو حملناه على الندب لم نأمن من الضرر بتقدير كونه واجباً لفوات المقصود الراجح وأيضاً فإن المندوب داخل في الواجب من غير عكس فحمل الأمر على الوجوب لا يفوت معه المقصود من الندب بخلاف الحمل على الندب فكان حمله على الوجوب أولى وأيضاً فإن الأمر موضوع لإفادة معنى وهو إيجاد الفعل فكان مانعاً من نقيضه كالخبر وأيضاً فإن الأمر بالفعل يفيد رجحان وجود الفعل على عدمه وإلا كان مرجوحاً أو مساوياً ولو كان مرجوحاً لما أمر به لما فيه من الإخلال بالمصلحة الزائدة في الترك والتزام المفسدة الراجحة في الفعل وهو قبيح ولو كان مساوياً لم يكن الأمر به أولى من النهي عنه وذلك أيضاً قبيح وإذا كان راجحاً فلو جاز تركه لزم منه الإخلال بأرجح المقصودين وهو قبيح فلا يرد به الشرع فتعين الامتناع من الترك وهو معنى الوجوب.
والجواب من جهة الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فهو أن جميع ما ذكروه لا خروج له عن الظن وإنما يكون مفيداً فيما يطلب فيه الظن فقط وهو غير مسلم فيما نحن فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن نحكم بالظاهر " فظني والكلام في صحة الاحتجاج به فيما نحن فيه فعلى ما تقدم وأما من جهة التفصيل فإنا نخص كل شبهة بجواب.
أما قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " " النور 54 " فهو أمر والخلاف في اقتضائه للوجوب بحاله وقوله: " فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " " النور 54 " فإما أن لا يكون للتهديد بل للإخبار بأن الرسول عليه ما حمل من التبليغ وعليكم ما حملتم من القبول وليس في ذلك ما يدل على كون الأمر للوجوب وإن كان للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به على ما سيأتي وليس مهدداً على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصياً وبه دفع أكثر ما ذكروه من الآيات.
ويخص قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " " النور 63 " بأنه غير عام في كل أمر بصيغته وإن قيل بالتعميم بالنظر إلى معقوله من جهة أنه مناسب رتب التحذير على مخالفته فإنما يصح أن لو لم يتخلف الحكم عنه في أمر الندب وقد تخلف فلا يكون حجة وأيضاً فإن غايته أنه حذر من مخالفة أمره ومخالفة أمره أن لا يعتقد موجبه وأن لا يفعل على ما هو عليه من إيجاب أو ندب ونحن نقول به وليس فيه ما يدل على أن كل أمر للوجوب.
ويخص قوله لإبليس: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " " الأعراف 12 " بأنه غير عام في كل أمر.
ويخص قوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة " " الأحزاب 36 " الآية بأن المراد من قوله أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أي في اعتقاد وجوب المأمور به أو ندبه وفعله على ما هو عليه إن كان واجباً فواجب وإن كان ندباً فندب.
ويخص قوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك " " النساء 65 " الآية بأنه لا حجة فيها وقوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت " " النساء 65 " أي حكمت به من الوجوب والندب والإباحة والتحريم ونحوه وليس فيه ما يدل على أن كل ما يقضي به يكون واجباً.
وأما حديث بريرة فلا حجة فيه فإنها إنما سألت عن الأمر طلباً للثواب بطاعته والثواب والطاعة قد يكون بفعل المندوب وليس في ذلك ما يدل على أنها فهمت من الأمر الوجوب فحيث لم يكن أمراً لمصلحة أخروية لا بجهة الوجوب ولا بجهة الندب قالت: لا حاجة لي فيه.
فإن قيل: فإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها فإذا لم يكن مأموراً بها تعين أن يكون الأمر للوجوب.
قلنا: إذا سلم أن الشفاعة في صورة بريرة غير مأمور بإجابتها فلا نسلم أنها كانت في تلك الصورة مندوبة ضرورة أن المندوب عندنا لا بد وأن يكون مأموراً به.
وأما خبر السواك ففيه ما يدل على أنه أراد بالأمر أمر الوجوب بدليل أنه قرن به المشقة والمشقة لا تكون إلا في فعل الواجب لكونه متحتماً بخلاف المندوب لكونه في محل الخيرة بين الفعل والترك ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة ودخول حرف لولا على مطلق الأمر لا يمنع من هذا التأويل.
وأما خبر أبي سعيد الخدري فلا حجة فيه أيضاً فإن قوله تعالى: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " " الأنفال 24 " إنما كان محمولاً على وجوب إجابة النداء تعظيماً لله تعالى ولرسوله في إجابة دعائه ونفياً للإهانة عنه والتحقير له بالإعراض عن إجابة دعائه لما فيه من هضمه في النفوس وإفضاء ذلك إلى الإخلال بمقصود البعثة ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة.
وأما خبر الحج فلا دلالة فيه وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ولو قلت نعم لوجب " ليس أمراً ليكون للوجوب بل لأنه يكون بياناً لقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت " " آل عمران 97 " فإنه مقتض للوجوب غير أنه متردد بين التكرار والمرة الواحدة فقوله: لو قلت نعم لوجب أي تكرره لأنه يكون بياناً لما أوجبه الله تعالى لا أنه يكون موجباً.
وأما ما ذكروه من الإجماع فإن أريد به أن الأمة كانت ترجع في الوجوب إلى مطلق الأوامر فهو غير مسلم وليس هو أولى من قول القائل: إنهم كانوا يرجعون في الندب إلى مطلق الأوامر مع أن أكثر الأوامر للمندوبات وإن أريد به أنهم كانوا يرجعون في الوجوب إلى الأوامر المقترنة بالقرائن فلا حجة فيه.
وأما قصة أبي بكر فلا حجة في احتجاجه بقوله تعالى: " أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة " " البقرة 110 " على أن الأمر بمطلقه للوجوب وذلك لأنهم لم يكونوا منكرين لأصل الوجوب حتى يستدل على الوجوب بالآية بل إنما أنكروا التكرار والاستدلال على تكرار ما وجب لا يكون استدلالاً على نفس اقتضاء الأمر بمطلقه للوجوب.
وأما قولهم: إن أهل اللغة يصفون من خالف الأمر المطلق بالعصيان ويحكمون عليه باستحقاق الذم والتوبيخ ليس كذلك فإنه ليس القول بملازمة هذه الأمور للأمر المطلق وملازمة انتفائها للأمر المقيد بالقرينة في المندوبات أولى من العكس.
فإن قيل: بل تقييد المندوب بالقرينة أولى من تقييد الواجب بها فإنها بتقدير خفائها تحمل على الوجوب وهو نافع غير مضر وبتقدير تقييد الواجب بها يلزم الإضرار بترك الواجب بتقدير خفائها لفوات المقصود الأعظم منه فهو معارض بأن الأوامر الواردة في المندوبات أكثر منها في الواجبات فإنه ما من واجب إلا ويتبعه مندوبات والواجب غير لازم للمندوب ولا يخفى أن المحذور في تقييد الأعم بالقرينة لاحتمال خفائها أعظم من محذور ذلك في الأخص وأما الشبه العقلية قولهم: إن الوجوب من المهمات.
قلنا والندب من المهمات وليس إخلاء أحد الأمرين من لفظ يدل عليه أولى من الآخر وإن قيل بأن المندوب له لفظ يدل عليه وهو قول القائل: ندبت ورغبت فللوجوب أيضاً لفظ يدل عليه وهو قوله: أوجبت وألزمت وحتمت.
قولهم أنه يمتنع أن يكون الأمر حقيقة في الندب لما ذكروه فهو مقابل بمثله فإن حمل الطلب على الوجوب معناه: افعل وأنت ممنوع من الترك وهو غير مذكور في الطلب فلا يكون حمله على أحدهما أولى من الآخر.
قولهم إن النهي يقتضي المنع من الفعل فيجب أن يكون الأمر مقتضياً للمنع من الترك.
قلنا: لا نسلم أن مطلق النهي يقتضي المنع من الفعل إلا أن يدل عليه دليل كما ذكرناه في الأمر وإن صح ذلك في النهي فحاصل ما ذكروه راجع إلى القياس في اللغة وهو باطل بما سبق.
قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي وإن سلم ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن أضداده مانعاً من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع.
قولهم إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر.
قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره.
قولهم إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعاً من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق.
فإن قيل: لا يلزم من مخالفة الدليل في المندوب المخالفة مطلقاً قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه المخالفة في المندوب.
وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب وأما شبه القائلين بالندب فمنها نقلية وعقلية.
أما النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا " فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو دليل الندبية.
وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه وهو داخل في الواجب فكل واجب مندوب وليس كل مندوب واجباً لأن الواجب ما يلام على تركه والمندوب ليس كذلك فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقناً.
وجوابهما من جهة الإجمال فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب ومن جهة التفصيل: عن الأولى أنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصية للندب فإن كل واجب كذلك.
وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ثم لو كان تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازماً لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل أولى لكونه متيقناً بخلاف المندوب فإنه متميز بكون الفعل مترجحاً على الترك وهو غير متيقن.
المسألة الثالثة اختلف الأصوليون في الأمر العري عن القرائن: فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين ومنهم من توقف في الزيادة ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية.
والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافياً والدليل على ذلك أنه إذا قال له: صل أو صم فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً وقع به لما كان تفسيراً للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث فإذا قال: صل فقد أمره بإيقاع المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة العدد حمل عليه وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية ولهذا فإنه لو أمر عبده أن يتصدق صدقة أو يشتري خبزاً أو لحماً فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة وشراء واحد ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصارفة إليه وإن كان اللفظ محتملاً له وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقاً وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضاً والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب الخصوم فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه.
الأولى: منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار فدل على إشعار الأمر به.
الثانية: أن قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " يعم كل مشرك فقوله: صم وصل ينبغي أن يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.
الثالثة: أن قوله صم كقوله لا تصم ومقتضى النهي الترك أبداً فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل أبداً لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب.
الرابعة: أن الأمر اقتضى فعل الصوم واقتضى اعتقاد وجوبه والعزم عليه أبدا فكذلك الموجب الآخر.
الخامسة: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فليس حمله على البعض أولى من البعض فوجب التعميم.
السادسة: أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه لاستحالة الاستثناء من المرة الواحدة ولا تطرق النسخ إليه لأن ذلك يدل على البدا وهو محال على الله تعالى ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار ولكان قول الآمر لغيره صل مرة واحدة غير مفيد وكان قوله صل مراراً تناقضاً ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت محتاجاً في فعله ثانياً إلى دليل وهو ممتنع.
السابعة: أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف لأنه إن كان للتكرار فقد حصل المقصود ولا ضرر وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضراً.
الثامنة: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به.
التاسعة: قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم وذلك يقتضي وجوب التكرار.
العاشرة: أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح وقال: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: " نعم " ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " " المائدة 6 " لما كان للسؤال معنى.
الحادية عشرة: أنه إذا قال الرجل لغيره: أحسن عشرة فلان فإنه يفهم منه التكرار والدوام.
وأما شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار فأولها أن من قال لغيره ادخل الدار يعد ممتثلاً بالدخول مرة واحدة كما أنه يصير ممتثلاً لقوله اضرب رجلاً بضرب رجل واحد ولذلك فإنه لا يلام بترك التكرار بل يلام من لامه عليه.
وثانيها: أنه لو قال القائل صام زيد صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر.
وثالثها: أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد وعد آتياً بما التزمه فكذلك في الالتزام بالأمر.
ورابعها: أنه لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي لم يملك أكثر من تطليقة واحدة.
وخامسها: أنه لو كان الأمر للتكرار لكان قوله صل مراراً غير مفيد وكان قوله صل مرة واحدة نقصاً وليس كذلك.
وسادسها: أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن الجمع بينهما إما تكليفاً بما لا يطاق أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضاً للأمر بالأخرى وهو ممتنع.
وأما شبه القائلين بالوقف فأولها أن الأمر بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ولا في التكرار ولهذا فإنه يحسن أن يستفهم من الآمر عند قوله اضرب ويقال له مرة واحدة أو مراراً ولو كان ظاهراً في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام.
وثانيها: أنه لو كان ظاهراً في المرة الواحدة لكان قول الآمر اضرب مرة واحدة تكراراً أو مراراً تناقضاً وكذلك لو كان ظاهراً في التكرار.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر وإن كانت متكررة على التكرار لا يدل على استفادة ذلك من ظاهرها وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة كالحج ونحوه مستفاداً من ظاهر الأمر ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولوية وهو محال.
فإن قيل: اعتقاد الظهور في التكرار أولى لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول على المرة الواحدة وعند ذلك فلو جعلناه ظاهراً في المرة الواحدة لكان المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من جعله ظاهراً في التكرار عند حمله على المرة الواحدة.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين وليس كذلك بل الأمر عندنا إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل والمرة الواحدة من ضروراته لا أن الأمر ظاهر فيها وكذلك في التكرار فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة الظاهر في الآخر لعدم تحققه فيه.
وعن الثانية: وإن سلمنا أن العموم في قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " أنه يتناول كل مشرك فليس ذلك إلا لعموم اللفظ ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله صم بالنسبة إلى جميع الأزمان بل لو قال صم في جميع الأزمان كان نظيراً لقوله اقتلوا المشركين.
وعن الثالثة: لا نسلم أن النهي المطلق للدوام وإنما يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه كما في الأمر وإن سلمنا اقتضاءه للدوام لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات وقد أبطلناه وإن سلمنا صحة ذلك غير أنا نفرق وبيانه من وجهين: الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره بإيقاع مصدره وهو الضرب فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال: وجد الضرب وإذا قال له لا تضرب فمقتضاه عدم إيقام الضرب فإذا انتهى في بعض الأوقات دون البعض يصح أن يقال: لم يعدم الضرب.
الثاني: إن حمل الأمر على التكرار مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقاً.
وعن الرابعة: أنها غير متجهة وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفاداً من نفس الأمر وإنما هو من أحكام الإيمان فتركه يكون كفراً والكفر منهي عنه دائماً ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائماً في الأوامر المقيدة.
وأما العزم فلا نسلم وجوبه ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم لا يجب على من حضره إنباهه ولو كان العزم واجباً في ذلك الوقت لوجب عليه كما لو ضاق وقت العبادة وهو نائم وإن سلمنا وجوب العزم لكن لا نسلم وجوبه دائماً بل هو تبع لوجوب المأمور به وإن سلمنا وجوبه دائماً فلا نسلم كونه مستفاداً من نفس الأمر ليلزم ما قيل بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة.
وعن الخامسة: أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان وإنما الزمان من ضرورات وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم كالمكان.
وعن السادسة: وهي قولهم لو كان الأمر للمرة الواحدة لما دخله النسخ ليس كذلك عندنا فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة جاز نسخه عندنا قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي وإنما ذلك لازم على المعتزلة وأما دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ومن أوجبه على التراخي فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها وأما حسن الاستفهام فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيداً فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة وبه يخرج الجواب عن قوله صل مرة وحدة وقوله صل مراراً غير متناقض بل غايته دلالة الدليل على إرادة التكرار المحتمل وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في ثاني الحال.
وعن السابعة: ما سبق في الواجب والمندوب.
وعن الثامنة: لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده وإن سلم ذلك ولكن اقتضاء النهي للأضداد بصفة الدوام فرع كون الأمر مقتضياً للفعل على الدوام وهو محل النزاع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر " الحديث إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأموراً به وليس كذلك.
وأما حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر الصلاة بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك لإزاحة الإشكال بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم سهواً أو لا للتكرار إن كان فعله عمداً كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ولو كان للتكرار لما أعرض عنه وله الترجيح.
وأما الشبهة الأخيرة فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن العشرة للأزمان لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم وذلك يستدعي استحقاق المأمور بإكرامه للإكرام وهو سبب الأمر فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام المسبب فكان الدوام مستفاداً من هذه القرينة لا من مطلق الأمر.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ولا يلزم منه امتناع احتماله له ولهذا فإنه لو قال ادخل الدار مراراً بطريق التفسير فإنه يصح ويلزم ولو عدم الاحتمال لما صح التفسير.
وعن الثانية: أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح وبه دفع الشبهة الثالثة وإذا قال لوكيله طلق زوجتي إنما لم يملك ما زاد على الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم الاحتمال لغة ولهذا لو قال طلقها ثلاثاً على التفسير صح.
وعن الخامسة: ما سبق.
وعن السادسة: أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار إما أن لا يكون منافياً له أو يكون منافياً: فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه وإن كان الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج فيلون ذلك قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم.
المسألة الرابعة الأمر المعلق بشرط كقوله: " إذا زالت الشمس فصلوا " أو صفة كقوله: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " " النور 2 " هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟ فمن قال إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار اختلفوا هاهنا فمنهم من أوجبه ومنهم من نفاه.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة إما أن يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم في الزنا فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره نظراً إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة مهم وجدت فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر وإن كان الثاني فهو محل الخلاف والمختار أنه لا تكرار.
وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها وعلى ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى أنهم قالوا: أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي تكرار المخبر عنه كما لو قال: إن جاء زيد جاء عمرو فإنه لا يلزم تكرر مجيء عمرو في تكرر مجيء زيد فكذلك في الأمر وهي باطلة فإن حاصلها يرجع إلى القياس في اللغة وقد أبطلناه.
الثانية أنه لو قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول فكذلك في قوله إذا " زالت الشمس فصلوا " وهو أيضاً من جنس ما تقدم لما فيه من قياس الأمر على إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر.
الثالثة أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على تعليق شيء بشيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة أو في صورة واحدة والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعراً بالأخص وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء التكرار بتكرر الشرط أو الصفة وهو عين محل النزاع وإنما الواجب أن يقال إنه مشعر بالأعم والأصل عدم إشعاره بالأخص والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع الأمرين: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ولا بالثاني لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في انتفاء المشروط عند انتفائه وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله: أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجباً للطلاق مطلقاً وهو محال ولا جائز أن يقال بالثالث لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده: إذا دخلت السوق فاشتر لحماً أنه لا يقتضي التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق الموجب للتكرار أو لا مع تحققه لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء التكرار إما لمعارض أو لا لمعارض: والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل الدليل عن أعماله وهو خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لما فيه من مخالفة الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من وجوه: الأول: أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط وصفات وهي متكررة بتكررها كقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " " المائدة 6 " الآية وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " " والزانية والزاني " " النور 2 " الآية ولو لم يكن ذلك مقتضياً للتكرار لما كان متكرراً.
الثاني: أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعاً والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.
الثالث: أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له بالموجود الأول منها دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع وجود الشرط ثانياً وثالثاً انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية: والأول خلاف الإجماع والثاني هو المطلوب.
الرابع: أنه لو لم يكن الأمر مقتضياً لتعليق الحكم بجميع الشروط بل بالأول منها فليزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع.
الخامس: أن النهي المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهماً والأمر ضد النهي فكان مشاركاً له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب والاقتضاء.
السادس: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور به بدوامه كما لو قال: إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائماً بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائماً.
والجواب عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض للتكرار فحيث قضي بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له: فإن كان الأول فالتكرار إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب اعتقاد كونه متكرراً لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما ذكرناه من عدم اقتضائه كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.
وعن الثالث: أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض وأما إن لم يغلب على الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع أيضاً.
وعن الخامس: أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة وهو باطل بما سبق كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط ثانياً أو لم يتجدد.
وعن السادس: أن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر بتكرر الشرط في محل النزاع.
المسألة الخامسة اختلفوا في الأمر المطلق هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به؟ فذهبت الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل وذهبت الشافعية والقاضي أبو بكر وجماعة من الأشاعرة والجبائي وابنه وأبو الحسين البصري إلى التراخي وجواز التأخير عن أول وقت الإمكان وأما الواقفية فقد توقفوا: لكن منهم من قال: التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعاً لكن هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام الحرمين ومنهم من لم يؤثمه ومنهم من توقف في المبادر أيضاً وخالف في ذلك إجماع السلف.
والمختار أنه مهما فعل كان مقدماً أو مؤخراً كان ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان مقدماً أو مؤخراً كان آتياً بمدلول الأمر فيكون ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتياً بما أمر به على الوجه الذي أمر به وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان: الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم أن يكون داخلاً في مدلول الأمر فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه ولا أن يكون متعيناً كما لا تتعين الآلة في الضرب ولا الشخص المضروب وإن كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب.
الوجه الثاني: أنه يجوز ورود الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في الصورتين والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل لأن الأصل عدم ما سواه فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به الاقتران من الزمان وغيره نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من خمسة وجوه: الأول: أنه إذا قال السيد لعبده: اسقني ماء فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل عدم القرينة.
الثاني: هو أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل في أقرب زمان كالمكان وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور في أقرب زمان.
الثالث: أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب والنهي مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك.
الرابع: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداد المأمور به مقتض للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور فكان الأمر مقتضياً له على الفور.
الخامس: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " " الأعراف 12 " ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضياً له في الحال لما حسن توبيخه عليه ولكان تلك عذراً لإبليس في تأخيره.
سلمنا عدم دلالة الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظاً لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزماً له بواسطة دلالته على أصل الوجوب؟ وبيان ذلك من وجوه أربعة: الأول: أن الأمر إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور مع أن ذلك لم يكن مقتضى للأمر بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى لإصالته.
الثاني: أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ولا إجماع في المؤخر فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى.
الثالث: أن الفعل واجب بالاتفاق فلو جاز تأخيره إما أن يجوز إلى غاية معينة أو لا إلى غاية.
فإن جاز تأخيره إلى غاية معينة فإما أن تكون معلومة للمأمور أو لا تكون معلومة له فإن كانت معلومة له فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له: إلى عشرة أيام مثلاً أو موصوفة الأول خلاف الفرض إذ الفرض فيما إذا كان أمراً مطلقاً غير مقيد بوقت في الذكر وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه وهي الإجماع غير خارجة عن المرض المرجو وعلو السن وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف فإنه قد يموت قبل ذلك أو يعيش بعده فلا يعتمد عليه وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له التأخير عنها كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق وهو ممتنع وهذا كله فيما إذا جاز التأخير إلى غاية.
وإن كان التأخير لا إلى غاية فإما أن يجوز ذلك ببدل أو لا ببدل: فإن كان ببدل فذلك البدل إما أن يكون واجباً أو غير واجب: لا جائز أن لا يكون واجباً وإلا لما كان بدلاً عن الواجب بالإجماع وإن كان واجباً فهو ممتنع لوجوه أربعة: الأول أنه لو كان واجباً لوجب أنباه المأمور حالة ورود الأمر نحوه على من حضره حذراً من فوات الواجب الذي هو البدل كما لو ضاق عليه الوقت وكان نائماً الثاني هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب البدل والأصل عدم دليل آخر ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه الثالث أن البدل لو كان واجباً لكان قائماً مقام المبدل ومحصلاً لمقصوده وإلا لما كان بدلاً لما فيه من فوات مقصود الأصل ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده وهو محال الرابع أنه لو كان البدل واجباً لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني من ورود الأمر أو لا يجوز: فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فهو أيضاً ممتنع لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل وإن جاز التأخير أبداً لا ببدل ففيه إخراج الواجب عن حقيقته وهو محال.
الرابع: من الوجوه الأول أن امتثال المأمور به من الخيرات وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " " البقرة 148 " وقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض " " آل عمران 133 " أمر بالمسارعة والمسابقة وهي التعجيل والأمر للوجوب.
والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال إذ الظاهر أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن حاجته إليه داعية في الحال لما فهم من أمره التعجيل ولا حسن ذم العبد بالتأخير.
فإن قيل: أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر ويقولون في معرض الذم خالف أمر سيده وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي للتعجيل دون غيره.
قلنا: إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة دون المطلق والأمر فيما نحن فيه مقيد ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر العبد بقوله إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعو حاجته إليه في الحال وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وعن الثاني من وجهين: الأول: لا نسلم تعين أقرب الأماكن ولا نسلم أن قوله: أنت طالق وأنت حر يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه له لغة بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر موضوعاً للفور.
الثاني: أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع كما سبق.
وعن الثالث والرابع: ما سبق في المسألة المتقدمة.
وعن الخامس: أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر " " البقرة 34 " ولتخيره على آدم بقوله: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " " ص 76 " ولا يمكن إضافة التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب كما سبق تقريره ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعاً ولو كان التوبيخ على مطلق الأمر لكان أمر الاستحباب موبخاً على مخالفته فلم يبق إلا أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور وأمر إيجاب على التراخي كما إذا قال: أوجبت عليك متراخياً ولا يلزم منه أن يكون مطلق الأمر للإيجاب حالاً وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقاً بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة لحمله على الفور وهي قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب وهي مقتضية للسجود عقبها على الفور من غير مهلة.
قولهم: لم قلتم بأنه لا يكون مستلزماً للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل؟ قلنا: الأصل عدم ذلك.
قولهم إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل.
قولهم إنه من لوازم وجوب الفعل قلنا من لوازم وجوب تقديم الفعل أو من لوازم وجوب الفعل الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل بدليل ما لو أوجب الفعل مصرحاً بتأخيره فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه وإن لم يكن وجوب الفعل على الفور.
قولهم القول بالتعجيل أحوط للمكلف قلنا الاحتياط إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه: فإن ظن الفور وجب عليه اتباعه وإن ظن التراخي وجب عليه اتباعه وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه يكون حراماً وارتكاب المحرم يكون إضراراً فلا يكون احتياطاً.
قولهم: لو جاز التأخير إما أن يكون إلى غاية أو لا إلى غاية إلى آخره فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير فإن كل ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه مع جواز تأخيره وما ذكروه من الآيتين الأخيرتين فهو غير دال على وجوب تعجيل الفعل المأمور به فإنهما بمنطوقهما يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة والمراد به إنما هو المسارعة إلى سبب ذلك ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء والاقتضاء لا عموم له على ما يأتي تقريره فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات والمغفرة فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ولا يعم كل فعل مأمور به.
المسألة السادسة الأمر بالشيء على التعيين هل هو نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب: أما أصحابنا فالأمر عندهم هو الطلب القائم بالنفس وقد اختلفوا: فمنهم من قال الأمر بالشيء بعينه نهي عن أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلب ترك أضداده وهو قول القاضي أبي بكر في أول أقواله ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد لا أن الأمر هو عين المنهي وهو آخر ما اختاره القاضي في أخر أقواله ومنهم من منع من ذلك مطلقاً وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي.
وأما المعتزلة فالأمر عندهم نفس صيغة افعل وقد اتفقوا على أن عين صيغة افعل لا تكون نهياً لأن صيغة النهي لا تفعل وليس إحداهما عين الأخرى وإنما اختلفوا في أن الآمر بالشيء هل يكون نهياً عن أضداده من جهة المعنى: فذهب القدماء من مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضي وأبي الحسين البصري وغيرهما من المعتبرين منهم ومعنى كونه نهياً عن الأضداد من جهة المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهياً عن أضداده ومقبحاً لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب ولهذا فإن أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه.
والمختار إنما هو التفصيل وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق أو لا يقول به: فإن قلنا بجوازه على ما هو مذهب الشيخ أبي الحسن رحمة الله عليه كما سبق تقريره فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهياً عن أضداده ولا مستلزماً للنهي عنها بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة فضلاً عن كونه لا يكون منهياً عنه وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشيء يكون مستلزماً للنهي عن أضداده لا أن يكون عين الأمر هو عين النهي عن الضد وسواء كان الأمر أمر إيجاب أو ندب أما أنه مستلزم للنهي عن الأضداد فلأن فعل المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب على ما سبق تقريره وهو معنى كونه منهياً عنه غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم وعن أضداد المندوب نهي كراهة وتنزيه وأما أنه لا يكون عين الأمر هو عين النهي.
فإذا قلنا إن الأمر هو صيغة افعل فظاهر على ما سبق وأما على قولنا إن الأمر هو الطلب القائم بالنفس فلأنا إذا فرضنا الكلام في الطلب النفساني القديم فهو وإن اتحد على أصلنا فإنما يكون أمراً بسبب تعلقه بإيجاد الفعل وهو من هذه الجهة لا يكون نهياً لأنه إنما يكون نهياً بسبب تعلقه بترك الفعل وهما بسبب التغاير في التعلق والمتعلق متغايران وإن فرضنا الكلام في الطلب القائم بالمخلوق فهو وإن تعدد فالأمر منه أيضاً إنما هو الطلب المتعلق بإيجاد الفعل والنهي منه هو الطلب المتعلق بتركه وهما غيران.
فإن قيل: لو كان الأمر بالفعل مستلزماً للنهي عن أضداده لكان الأمر بالعبادة مستلزماً للنهي عن جميع المباحات المضادة لها ويلزم من ذلك أن تكون حراماً إن كان النهي نهي تحريم أو مكروهة إن كان النهي نهي تنزيه وخرج المباح عن كونه مباحاً كما ذهب إليه الكعبي من المعتزلة بل ويلزم منه أن يكون ما عدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهياً عنها ومحرمة أو مكروهة وهو محال كيف وإن الآمر بالفعل قد يكون غافلاً عن أضداده والغافل عن الشيء لا يكون ناهياً عنه لأن النهي عن الشيء يستدعي العلم به والعلم بالشيء مع الذهول عنه محال سلمنا أنه مستلزم للنهي عن أضداده لكن يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر بل يجب أن يكون هو هو بعينه كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم من الأمر بالفعل النهي عن أضداده فذلك النهي إن كان هو غير الأمر فإما أن يكون ضداً له أو مثلاً أو خلافاً: لا جائز أن يقال بالمضادة وإلا لما اجتمعا وقد اجتمعا ولا جائز أن يكون مثلاً لأن المتماثلات أضداد على ما عرف في الكلاميات ولا جائز أن يكون خلافاً وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر كما في العلم والإرادة ونحوهما ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر كما يوجد العلم بالشيء مع الكراهة المضادة لإرادته ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة المضادة للسكون إذا كان النهي عن السكون مخالفاً للأمر بالحركة أن يجتمع الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهي عنه وفيه الأمر بالضدين معاً وهو ممتنع على ما وقع به الفرض وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد وعلى هذا فالحركة عين ترك السكون وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريغه لغيره وعين القرب من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب فطلب أحدهما بعينه طلب الآخر لاتحاد المطلوب.
والجواب: عن السؤال الأول أنا لا نمنع من كون المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به لا في ذاتها كما نقول في فعل الصلاة في الدار المغصوبة فإنه في ذاته غير منهي عنه وإن كان منهياً عنه من جهة ما يتعلق به من شغل ملك الغير كما سبق ذكره ولا التفات إلى ما يهول به من خروج المباحات عن كونها مباحة فإن ذلك إنما يلزم إن لو قيل بكونها منهياً عنها في ذواتها وأما إذا قيل بكونها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به فلا.
قولهم إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده قلنا لا نسلم أن الآمر بالشيء عند كونه آمراً به يتصور أن يكون غافلاً عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من جهة الجملة وإن كان غافلاً عن تفصيله ونحن إنما نريد بقولنا إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
قولهم إنه يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر قلنا: دليله ما سبق.
وما ذكره القاضي أبو بكر من الدليل فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ولا يلزم من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات المتلازمة كما في المتضايفات وكل متلازمين من الطرفين وبه يمتنع الجمع بين وجود أحدهما وضد الآخر ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في الباقي وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبني عليه.
المسألة السابعة مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء خلافاً للقاضي عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه فإنه قال لا يدل على الإجزاء.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تحقيق معنى الإجزاء ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول: كون الفعل مجزئاً قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر عندما إذا أتي به على الوجه الذي أمر به وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء وإذا علم معنى كون الفعل مجزئاً فقد اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يكون مجزئاً بمعنى كونه امتثالاً للأمر وذلك مما لا خلاف فيه وإنما خالف القاضي عبد الجبار في كونه مجزئاً بالاعتبار الآخر وهو أنه لا يسقط القضاء ولا يمتنع مع فعله من الأمر بالقضاء وهو مصرح به في عمده.
وعلى هذا فكل من استدل من أصحابنا كإمام الحرمين وغيره من القائلين بالإجزاء على كون الفعل امتثالاً وخروجاً عن عهدة الأمر الأول فقد استدل على محل الوفاق وحاد عن موضع النزاع لكن قد أورد أبو الحسين البصري إشكالاً على تفسير أجزاء الفعل بكونه مسقطاً للقضاء وقال لو أمر بالصلاة مع الطهارة فأتى بها من غير طهارة ومات عقيب الصلاة فإنه لا يكون فعله مجزئاً وإن كان القضاء ساقطاً وربما زاد عليه بعض الأصحاب وقال يمتنع تفسير الإجزاء بسقوط القضاء لأنا نعلل وجوب القضاء بكون الفعل الأول لم يكن مجزئاً والعلة لا بد وأن تكون مغايرة للمعلول.
والوجه في إبطالهما أن يقال: أما الأول فلأن الإجزاء ليس هو نفس سقوط القضاء مطلقاً ليلزم ما قيل بل سقوط القضاء بالفعل في حق من يتصور في حقه وجوب القضاء وذلك غير متصور في حق الميت.
وأما الثاني: فلأن علة صحة وجوب القضاء إنما هو استدراك ما فات من مصلحة أصل العبادة أو صفتها أو مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع لا ما قيل.
وإذا تنقح محل النزاع فنعود إلى المقصود فنقول: الفعل المأمور به لا يخلو إما أن يكون قد أتى به المأمور على نحو ما أمر به من غير خلل ولا نقص في صفته وشرطه أو أتى به على نوع من الخلل.
والقسم الثاني: أنه لا نزاع في كونه غير مجزئ ولا مسقط للقضاء وإنما النزاع في القسم الأول وليس النزاع فيه أيضاً من جهة أنه يمتنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت بفعل مثل ما أمر به أولاً وإنما النزاع في ورود الأمر بالفعل متصفاً بصفة القضاء والحق نفيه لأن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة صفته أو شرطه وإذا كان المأمور به قد فعل على جهة الكمال والتمام من غير نقص ولا خلل فوجوب القضاء استدراكاً لما قد حصل تحصيل للحاصل وهو محال ومن ينفي القضاء إنما ينفيه بهذا التفسير وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه وإن كان لا ينكر إمكان ورود الأمر خارج الوقت بمثل ما فعل أولاً غير أنه لا يسميه قضاء ومن سماه قضاء فحاصل النزاع معه آيل إلى اللفظ دون المعنى.
شبه الخصوم: الأولى أن من صلى وهو يظن أنه متطهر ولم يكن متطهراً مأمور بالصلاة فإن كان مأموراً بها مع الطهارة حقيقة فهو عاص آثم بصلاته حيث لم يكن متطهراً وإن كان مأموراً بالصلاة على حسب حاله فقد أتى بما أمر به على الوجه الذي أمر به ومع ذلك يجب عليه القضاء إذ لم يكن متطهراً وكذلك المفسد للحج مأمور بمضيه في حجة الفاسد ويجب عليه القضاء.
الثانية: أن الأمر لا يدل على غير طلب الفعل ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به فلا يكون مقتضياً له.
الثالثة: أن الأمر مثل النهي في الطلب والنهي لا دلالة فيه على فساد المنهي عنه فالأمر لا يدل على كون المأمور به مجزئاً.
وجواب الأولى: أنا لا نسلم وجوب القضاء فيما إذا صلى على ظن الطهارة ثم علم أنه لم يكن متطهراً على قول لنا وإن سلمنا وجوب القضاء لكنه ليس واجباً عما أمر به من الصلاة المظنون طهارتها ولا عما أمر به من المضي في الحج الفاسد لأنه قد أتى بما أمر به على النحو الذي أمر به وإنما القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أولاً من الصلاة مع الطهارة والحج العري عن الفساد.
وعن الثانية: أنا لا نمنع من ورود أمر يدل على مثل ما فعل أولاً وإنما المدعي أنه إذا أتى المأمور بفعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء بما ذكرناه من التفسير.
وعن الثالثة: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه وإن سلم صحته غير أنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب القضاء بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء على ما تقرر وفرق بين الأمرين.
المسألة الثامنة إذا وردت صيغة افعل بعد الحظر فمن قال إنها للوجوب قبل الحظر اختلفوا فمنهم من أجراها على الوجوب ولم يجعل لسبق الحظر تأثيراً كالمعتزلة ومنهم من قال بأنها للإباحة ورفع الحجر لا غير وهم أكثر الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمين وغيره.
والمختار أنها وإن كانت ظاهرة في الطلب والاقتضاء وموقوفة بالنسبة إلى الوجوب والندب على ما سبق تقرير كل واحد من الأمرين إلا أنها محتملة للإباحة والإذن في الفعل كما تقدم فإذا وردت بعد الحظر احتمل أن تكون مصروفة إلى الإباحة ورفع الحجر كما في قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " " المائدة 2 " " وإذا طعمتم فانتشروا " " الأحزاب 53 " " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا " " الجمعة 10 " وقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا " واحتمل أن تكون مصروفة إلى الوجوب كما لو قيل للحائض والنفساء: إذا زال عنك الحيض فصلي وصومي.
وعند هذا فإما أن يقال بتساوي الاحتمالين أو بترجيح أحدهما على الآخر.
فإن قيل بالتساوي امتنع الجزم بأحدهما ووجب التوقف وإن قيل بوجوب الترجيح وامتناع التعارض من كل وجه فليس اختصاص الوجوب به أولى من الإباحة إلا أن يقوم الدليل على التخصيص والأصل عدمه وعلى هذا أيضاً فيجب التوقف كيف وأن احتمال الحمل على الإباحة أرجح نظراً إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون الوجوب وعلى كل تقدير فيمتنع الصرف إلى الوجوب.
وبالجملة فهذه المسألة مستمدة من مسألة أن صيغة افعل إذا وردت مطلقة هل هي ظاهرة في الوجوب أو الندب أو موقوفة وقد تقرر مأخذ كل فريق وما هو المختار فيه والله أعلم.
المسألة التاسعة إذا ورد الأمر بعبادة في وقت مقدر فلم تفعل فيه لعذر أو لغير عذر أو فعلت فيه على نوع من الخلل اختلفوا في وجوب قضائها بعد ذلك الوقت هل هو بالأمر الأول أو بأمر مجدد: الأول هو مذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء والثاني هو مذهب المحققين من أصحابنا والمعتزلة.
ونقل عن أبي زيد الدبوسي أنه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع.
وإن ورد مطلقاً غير مقيد بوقت فمن قال بحمله على الفور اختلفوا فيما إذا وقع الإخلال به في أول وقت الإمكان هل يجب قضاؤه بنفس ذلك الأمر أو بأمر مجدد.
والمختار أنه مهما قيد الأمر بوقت فالقضاء بعده لا يكون إلا بأمر مجدد وبيانه من وجوه.
الأول أنه لو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان مشعراً به وهو غير مشعر به فإنه إذا قال صم في يوم الخميس أو صل في وقت الزوال فإنه لا إشعار له بإيقاع الفعل في غير ذلك الوقت لغة.
الثاني: أنه إذا علق الفعل بوقت معين فلا بد وأن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى المكلف إذ هو الأصل في شرع الأحكام.
وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر وتلك الحكمة إما أن تكون حاصلة من الفعل في غير ذلك الوقت أو غير حاصلة وليست حاصلة لثلاثة أوجه: الأول أنه يحتمل أن يكون ويحتمل أن لا يكون والأصل العدم.
الثاني: أنها لو كانت حاصلة فإما أن تكون مثلاً لها في الوقت الأول أو أزيد لا جائز أن تكون أزيد وإلا كان الحث على إيجاد الفعل بعد فوات وقته أولى من فعله في الوقت وهو محال وإن كانت مثلاً فهو ممتنع وإلا لما كان تخصيص أحد الوقتين بالذكر أولى من الآخر.
الثالث: أن الفعل في الوقت موصوف بكونه أداء وقد قال عليه السلام: " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " .
وإذا لم تكن حاصلة في الوقت الثاني حسب حصولها في الوقت الأول فلا يلزم من اقتضاء الأمر للفعل في الوقت الأول أن يكون مقتضياً له فيما بعده وصار هذا كما لو أمر الطبيب بشرب الدواء في وقت فإنه لا يكون متناولاً لغير ذلك الوقت.
وكذلك إذا علق الأمر بشرط معين كاستقبال جهة معينة أو بمكان معين كالأمر بالوقوف بعرفة فإنه لا يكون متناولاً لغيره.
الوجه الثالث من الوجوه الأول أن العبادات المأمور بها منقسمة إلى ما يجب قضاؤه كالصوم والصلاة وإلى ما لا يجب كالجمعة والجهاد فلو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان القول بعدم القضاء فيما فرض من الصور على خلاف الدليل وهو ممتنع.
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " أمر بالقضاء ولو كان مأموراً به بالأمر الأول لكانت فائدة الخبر التأكيد ولو لم يكن مأموراً به لكانت فائدته التأسيس وهو أولى لعظم فائدته.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من خمسة أوجه: الأول قوله: صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ومن فاته الوقت الأول فهو مستطيع للفعل في الوقت الثاني.
الثاني: أن الأمر إنما يدل على طلب الفعل وهو مقتضاه لا غير وأما الزمان فلا يكون مطلوباً بالأمر إذ ليس هو من فعل المكلف وإنما وقع ذلك ضرورة كونه ظرفاً للفعل فاختلاله لا يؤثر في مقتضى الأمر وهو الفعل.
الثالث: أن الغالب من المأمورات في الشرع إنما هو القضاء بتقدير فوات أوقاتها المعينة ولا بد لذلك من مقتض والأصل عدم كل ما سوى الأمر السابق فكان هو المقتضي.
الرابع: أنه لو وجب القضاء بأمر مجدد لكان أداء كما في الأمر الأول ولما كان لتسميته قضاء معنى.
الخامس: أن العبادة حق لله تعالى والوقت المفروض كالأجل لها ففوات أجلها لا يوجب سقوطها كما في الدين للآدمي ولأنه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط المأثم لأنه من أحكام وجوب الفعل ولأن الأصل بقاء الوجوب فالقول بالسقوط بفوات الأجل على خلاف مقتضى الأصل.
والجواب: عن المعارضة الأولى أن الخبر دليل وجوب الإتيان بما أستطيع من المأمور به وإنما يفيد أن لو كان الفعل في الوقت الثاني داخلاً تحت الأمر الأول وهو محل النزاع.
وعن الثاني: أن الأمر اقتضى مطلق الفعل أو فعلاً مخصوصاً بصفة وقوعه في وقت معين؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وعن الثالث: أن القضاء فيما قيل بقضائه إنما كان بناء على أدلة أخرى لا بالأمر الأول.
قولهم الأصل عدم ما سوى الأمر الأول قلنا: والأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه كيف وقد بينا عدم دلالته.
وعن الرابع أنه إنما سمي قضاء لكونه مستدركاً لما فات من مصلحة الفعل المأمور به أولاً أو مصلحة وصفه كما تقدم تحقيقه.
وعن الخامس: بمنع كون الوقت أجلاً للفعل المأمور به إذ الأجل عبارة عن وقت مهلة وتأخير المطالبة بالواجب من أوله إلى آخره كما في الحول بالنسبة إلى وجوب الزكاة ولذلك لا يأثم بإخراج وقت الأجل عن قضاء الدين وإخراج الحول عن أداء الزكاة فيه ولا كذلك الوقت المقدر للصلاة بل هو صفة الفعل الواجب ومن وجب عليه فعل بصفة لا يكون مؤدياً له دون تلك الصفة.
وعلى هذا فلا يخفى الكلام في الأمر المطلق إذا كان محمولاً على الفور ولم يؤت بالمأمور به في أول وقت الإمكان.
المسألة العاشرة الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال لا يكون أمراً لذلك الغير بذلك الفعل وبيانه من وجهين:
الأول أنه لو كان أمراً لذلك الغير لكان ذلك مقتضاه لغة ولو كان كذلك لكان أمره صلى الله عليه وسلم لأولياء الصبيان بقوله: " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " أمراً للصبيان بالصلاة من الشارع وليس كذلك لوجهين: الأول أن الأمر الموجه نحو الأولياء أمر تكليف ولذلك يذم الولي بتركه شرعاً فلو كان ذلك أيضاً أمراً للصبيان لكانوا مكلفين بأمر الشارع وخاصة ذلك لحوق الذم بالمخالفة شرعاً وهو غير متصور في حق الصبيان لعدم فهمهم لخطاب الشارع ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ " الخبر ويمكن أن يقال فيه: الأمر للولي والصبي وإن كان واحداً غير أن نسبته إليهما مختلفة فلا يمتنع اختلافهما في الذم بسبب ذلك.
الثاني: أنه لو كان أمراً للصبي لم يخل إما أن يكون أهلاً لفهم خطاب الشارع أو لا يكون أهلاً له فإن كان الأول فلا حاجة إلى أمر الولي له أو أن يكون أحد الأمرين تأكيداً والأصل في إفادة الألفاظ لمعانيها إنما هو التأسيس وإن لم يكن أهلاً له فأمره وخطابه ممتنع بالإجماع وإذا لم يكن أمر الولي بأمر الصبيان أمراً للصبيان فإما أن يكون ذلك لعدم اقتضائه لذلك لغة أو لمعارض والمعارضة يلزم منها تعطيل أحد الدليلين عن إعماله وهو خلاف الأصل فلم يبق إلا أن يكون ذلك لعدم اقتضائه له لغة وهو المطلوب.
الثاني: من الوجهين الأولين أنه يحسن أن يقول السيد لعبده سالم مر غانماً بكذا ويقول لغانم: لا تطعه ولا يعد ذلك مناقضة في كلامه ولو كان ذلك أمراً لغانم لكان كأنه قال: أوجبت عليك طاعتي ولا تطعني وهو تناقض.
وعلى هذا لو أوجب الآمر على المأمور أن يأخذ من غيره مالاً لا يكون ذلك إيجاباً للإعطاء على ذلك الغير كما في قوله تعالى لنبيه: " خذ من أموالهم صدقة " " التوبة 103 " فإن ذلك لا يدل على إيجاب إعطاء الصدقة على الأمة بنفس ذلك الإيجاب بل إن وجب فإنما يجب بدليل آخر موجب لطاعة الرسول فيما يحكم به تعظيماً له ونفياً لما يلزم من مخالفته من تحقيره وهضمه في أعين الناس المبعوث إليهم المفضي إلى الإخلال بمقصود البعثة وإلا فلا يبعد أن يقول السيد لأحد عبديه أوجبت عليك أن تأخذ من العبد الآخر كذا ويقول للآخر: حرمت عليك موافقته من غير مناقضة فيما أوجبه ولو كان إيجاب ذلك على أحد العبدين إيجاباً على العبد الآخر لكان تناقضاً فإن قيل: وجوب الأخذ إنما يتم بالإعطاء وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا: إن كان الوجوب متعلقاً بنفس الطلب فهو غير متوقف على الإعطاء وإن كان متعلقاً بنفس الأخذ وإن كان لا يتم ذلك دون الإعطاء فليس كل ما يتوقف عليه الواجب يكون واجباً إلا أن يكون ذلك مقدوراً لمن وجب عليه الأخذ وإعطاء الغير غير مقدور لمن وجب عليه الأخذ فلا يكون واجباً.
المسألة الحادية عشرة إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقاً غير مقيد في اللفظ بقيد خاص قال بعض أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمراً بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من الأمرين فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقاً بالأخص اللهم إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين.
قال: ولذلك قلنا إن الوكيل في البيع المطلق لا يملك البيع بالغبن الفاحش وهو غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجوداً في جزئياته ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك وهو محال.
وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي هو أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر: طلب إيقاع الفعل على ما تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصوراً في نفس الطالب على ما تقدم تقريره وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصوراً في نفس الطالب فلا يكون أمراً به ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق ومن أمر بالفعل مطلقاً لا يقال إنه مكلف بما لا يطاق فإذا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالمعنى الكلي وبطل ما ذكره.
ثم وإن سلم أن الأمر متعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به الموكل فيه فوجب أن يصح نظراً إلى مقتضى صيغة الأمر المطلق بالبيع وإن قيل بالبطلان فلا يكون ذلك لعدم دلالة الأمر به بل لدليل معارض.
المسألة الثانية عشرة الأمران المتعاقبان إما أن لا يكون الثاني معطوفاً على الأول أو يكون معطوفاً: فإن كان الأول فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل: فإن اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم أم لا يمكن الجمع كالصلاة في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة وإن تماثل فإما أن يكون المأمور به قابلاً للتكرار أو لا يكون قابلاً له: فإن لم يكن قابلاً له كقوله: صم يوم الجمعة صم يوم الجمعة فإنه للتأكيد المحض وإن كان قابلاً للتكرار فإن كانت العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده: اسقني ماء اسقني ماء أو كان الثاني منهما معرفاً كقوله: أعط زيداً درهماً أعط زيداً الدرهم فلا خلاف أيضاً في كون الثاني مؤكداً للأول.
وإنما الخلاف فيما لم تكن العادة مانعة من التكرار والثاني غير معرف كقوله: صل ركعتين صل ركعتين فقال القاضي عبد الجبار: إن الثاني يفيد غير ما أفاده الأول ويلزم الإتيان بأربع ركعات مصيراً منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين فكذلك إذا تقدمه أمر آخر لأن الاقتضاء لا يختلف وخالفه أبو الحسين البصري بالذهاب إلى الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول والأظهر أنه إذا لم تكون العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف أن مقتضى الثاني غير مقتضى الأول.
وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو موقوف بين الوجوب والندب كما سبق لأنه لو كان مقتضياً عين ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأكيد ولو كان مقتضياً غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأسيس والتأسيس أصل والتأكيد فرع وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى.
فإن قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفي الأصلي ودليل براءة الذمة من القدر الزائد وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فهو معارض بما يلزم من التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر فإنه إما أن يكون ظاهراً في الوجوب أو الندب أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما ذكرناه أولاً كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر وفي تركه محذور فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد ولا يخفى أن تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى.
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفاً على الأول فإن كان المأمور به مختلفاً فلا نزاع أيضاً في اقتضائهما للمأمورين أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن وإن تماثلاً فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف كقوله: صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة وإن كان قابلاً للتكرار فإن لم تكن العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم يكن حرف عطف ويزيد ترجيح آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف وذلك كقوله: صل ركعتين وصل ركعتين وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار أو كان الثاني معرفاً كقوله: اسقني ماء واسقني ماء وكقوله: صل ركعتين وصل ركعتين فقد تعارض الظاهر من حروف العطف مع اللام المعرف أو مع منع العادة من التكرار ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ولا ثم تعريف ولا عادة مانعة من التكرار وقد عرف ما فيه.
وأما إن اجتمع التعريف والعادة المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله: اسقني ماء واسقني الماء فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة العادة المانعة من التكرار ولام التعريف ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات أخر.
الصنف الثاني في النهي: أعلم أنه لما كان النهي مقابلاً للأمر فكل ما قيل في حد الأمر على أصولنا وأصول المعتزلة من المزيف والمختار فقد قيل مقابله في حد النهي ولا يخفى وجه الكلام فيه.
والكلام في أن النهي على أصول أصحابنا هل له صيغة تخصه وتدل عليه؟ فعلى ما سبق في الأمر أيضاً وأن صيغة لا تفعل وإن ترددت بين سبعة محامل وهي التحريم والكراهة والتحقير كقوله تعالى: " ولا تمدن عينيك " " طه 131 " وبيان العاقبة كقوله: " ولا تحسبن الله غافلاً " " إبراهيم 42 " والدعاء كقوله: " لا تكلنا إلى أنفسنا " واليأس كقوله: " لا تعتذروا اليوم " " التحريم 7 " والإرشاد كقوله: " لا تسألوا عن أشياء " فهي حقيقة في طلب الترك واقتضائه ومجاز فيما عداه وأنها هل هي حقية في التحريم أو الكراهة أو مشتركة بينهما أو موقوفة؟ فعلى ما سبق في الأمر من الزيف والمختار والخلاف في أكثر مسائله فعلى وزان الخلاف في مقابلاتها من مسائل الأمر ومأخذها كمأخذها فعلى الناظر بالنقل والاعتبار.
غير أنه لا بد من الإشارة إلى ما تدعو الحاجة إلى معرفته من المسائل الخاصة بالنهي لاختصاصها بمأخذ لا تحقق له في مقابلاتها من مسائل الأمر وهي ثلاث مسائل.
المسألة الأولى اختلفوا في أن النهي عن التصرفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع والنكاح ونحوهما هل يقتضي فسادها أو لا؟ فذهب جماهير الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وجميع أهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى فسادها لكن اختلفوا في جهة الفساد: فمنهم من قال إن ذلك من جهة اللغة ومنهم من قال إنه من جهة الشرع دون اللغة ومنهم من لم يقل بالفساد وهو اختيار المحققين من أصحابنا كالقفال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من الحنفية وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم ولا نعرف خلافاً في أن ما نهى عنه لغيره أنه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة إلا ما نقل عن مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والمختار أن ما نهي عنه لعينه فالنهي لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى.
أما أنه لا يدل على الفساد من جهة اللغة فلأنه لا معنى لكون التصرف فاسداً سوى انتفاء أحكامه وثمراته المقصودة منه وخروجه عن كونه سبباً مفيداً لها والنهي هو طلب ترك الفعل ولا إشعار له بسلب أحكامه وثمراته وإخراجه عن كونه سبباً مفيداً لها.
ولهذا فإنه لو قال: نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير إذنه لعينه ولكن إن فعلت حلت الذبيحة وكان ذلك سبباً للحل ونهيتك عن استيلاد جارية الابن لعينه وإن فعلت ملكتها ونهيتك عن بيع مال الربا بجنسه متفاضلاً لعينه وإن فعلت ثبت الملك وكان البيع سببا له فإنه لا يكون متناقضاً ولو كان النهي عن التصرف لعينه مقتضياً لفساده لكان ذلك متناقضاً.
وأما أنه يدل على الفساد من جهة المعنى فذلك لأن النهي طلب ترك الفعل وهو إما أن يكون لمقصود دعا الشارع إلى طلب ترك الفعل أو لا لمقصود: لا جائز أن يقال إنه لا لمقصود.
أما على أصول المعتزلة فلأنه عبث والعبث قبيح والقبيح لا يصدر من الشارع.
وأما على أصولنا فإنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد غير أنا نعتقد أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومقصود راجع إلى العبد لكن لا بطريق الوجوب بل بحكم الوقوع فالإجماع إذاً منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحكم وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر وبتقدير تسليم خلو بعض الأحكام عن الحكمة إلا أنه نادر والغالب عدم الخلو وعند ذلك فإدراج ما وقع فيه النزاع تحت الغالب يكون أغلب.
وإذا بطل أن يكون ذلك لا لمقصود تعين أن يكون لمقصود وإذا كان لمقصود فلو صح التصرف وكان سبباً لحكمه المطلوب منه فإما أن يكون مقصود النهي راجحاً على مقصود الصحة أو مساوياً أو مرجوحاً لا جائز أن يكون مرجوحاً إذ المرجوح لا يكون مقصوداً مطلوباً في نظر العقلاء والغالب من الشارع إنما هو التقرير لا التغيير.
وما لا يكون مقصوداً فلا يرد طلب الترك لأجله وإلا كان الطلب خلياً عن الحكمة وهو ممتنع لما سبق.
وبمثل ذلك يتبين أنه لا يكون مساوياً فلم يبق إلا أن يكون راجحاً على مقصود الصحة ويلزم من ذلك امتناع الصحة وامتناع انعقاد التصرف لإفادة أحكامه وإلا كان الحكم بالصحة خلياً عن حكمة ومقصود ضرورة كون مقصودها مرجوحاً على ما تقدم تقريره وإثبات الحكم خلياً عن الحكمة في نفس الأمر ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع وهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه من كون النهي لا يدل على الفساد لغة معارض بما يدل عليه وبيانه من جهة النص والإجماع والمعنى.
أما من جهة النص فقوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي رواية " أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " والمردود ما ليس بصحيح ولا مقبول ولا يخفى أن المنهي ليس بمأمور ولا هو من الدين فكان مردوداً.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي فمن ذلك احتجاج ابن عمر على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات " " البقرة 221 " ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً ومنها احتجاج الصحابة على فساد عقود الربا بقوله تعالى: " وذروا ما بقي من الربا " " البقرة 278 " وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق " الحديث إلى آخره.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنا أجمعنا على حمل بعض المناهي على الفساد كالنهي عن بيع الجزء المجهول ولو لم يكن ذلك مقتضى النهي ويلزم منه الفساد حيث وجد وإلا كان فيه نفي المدلول مع تحقق دليله وهو ممتنع مخالف للأصل.
الثاني النهي مشارك للأمر في الطلب والاقتضاء ومخالف له في طلب الترك والأمر دليل الصحة فليكن النهي دليل الفساد المقابل للصحة ضرورة كون النهي مقابلاً للأمر وأنه يجب أن يكون حكم أحد المتقابلين مقابلاً لحكم الآخر.
ثم ما ذكرتموه منقوض بالنهي عن العبادة لعينها فإنا أجمعنا على أنها لا تصح ولو صرح الناهي بالصحة لكان متناقضاً وإن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لغة ولكن لا نسلم دلالته على الفساد من جهة المعنى وما ذكرتموه من وجوب ترجيح مقصود النهي على مقصود الصحة فغايته أنه يناسب نفي الصحة وليس يلزم من ذلك نفي الصحة إلا أن يتبين له شاهد بالاعتبار ولو بينتم له شاهداً بالاعتبار كان الفساد لازماً من القياس لا من نفس النهي ولا من معناه.
والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن الفعل المأتي به من حيث إنه سبب لترتب أحكامه عليه ليس من الدين حتى يكون مروداً.
الثاني: أنه أراد به الفاعل وتقديره: من أدخل في ديننا ما ليس منه فالفاعل رد أي مردود ومعنى كونه مردوداً أنه غير مثاب عليه ونحن نقول به فإن قيل: عود الضمير إلى الفعل أولى إذ هو أقرب مذكور قلنا إلا أنه يلزم منه المعارضة بينه وبين ما ذكرناه من الدليل ولا كذلك فيما إذا عاد إلى نفس الفاعل فكان عوده إلى الفاعل أولى.
الثالث: أنه وإن عاد إلى نفس الفعل المنهي عنه إلا أن معنى كونه رداً أنه مردود بمعنى أنه غير مقبول وما لا يكون مقبولاً هو الذي لا يكون مثاباً عليه ولا يلزم من كونه غير مثاب عليه أن لا يكون سبباً لترتب أحكامه الخاصة به عليه وهو عين محل النزاع.
وعن الحديث الآخر ما ذكرناه من الوجه الثاني والثالث ثم وإن سلمنا دلالتهما على الفساد فليس في ذلك ما يدل على أن الفساد من مقتضيات النهي بل من دليل آخر وهو قوله فهو رد ونحن لا ننكر ذلك.
وعن الإجماع لا نسلم صحة احتجاجهم بدلالة النهي لغة على الفساد بل إن صح ذلك فإنما يصح بالنظر إلى دلالة الالتزام على ما قررنا ويجب الحمل عليه جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول من المعنى.
وعن الثاني: من المعنى أن النهي وإن كان مقابلاً للأمر فلا نسلم أن الأمر مقتض للصحة حتى يكون النهي مقتضياً للفساد وإن سلمنا اقتضاء الأمر للصحة وأن النهي مقابل له فلا نسلم لزوم اختلاف حكميها لجواز اشتراك المتقابلات في لازم واحد وإن سلم أنه يلزم من ذلك تقابل حكميهما فيلزم أن لا يكون النهي مقتضياً للصحة أما أن يكون مقتضياً للفساد فلا وأما النقض بالنهي عن العبادة فمندفع لأنه مهما كان النهي عن الفعل لعينه فلا يتصور أن يكون عبادة مأموراً بها وما لم يكن عبادة فلا يتصور صحته عبادة وإن قيل بفساده من جهة خروجه عن كونه سبباً لترتيب الأحكام الخاصة به عليه فهو محل النزاع.
وعن الاعتراض الأخير أنا لا نقضي بالفساد لوجود مناسب الفساد ليفتقر إلى شاهد بالاعتبار وإنما قضينا بالفساد لعدم المناسب المعتبر بما بيناه من استلزام النهي لذلك.
المسألة الثانية اتفق أصحابنا على أن النهي عن الفعل لا يدل على صحته ونقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنهما قالا: يدل على صحته والمختار مذهب أصحابنا لوجهين: الأول: أن النهي لو دل على الصحة فإما أن يدل عليها بلفظه أو بمعناه إذ الأصل عدم ما سوى ذلك واللازم ممتنع.
وبيان امتناع دلالته على الصحة بلفظه أن صحة الفعل لا معنى لها سوى ترتب أحكامه الخاصة به عليه والنهي لغة لا يزيد على طلب ترك الفعل ولا إشعار له بغير ذلك نفياً ولا إثباتاً.
وبيان امتناع دلالته على الصحة بمعناه ما بيناه من أن النهي بمعناه يدل على الفساد في المسألة المتقدمة فلا يكون ذلك مفيداً لنقيضه وهو الصحة.
الوجه الثاني: أنا أجمعنا على وجود النهي حيث لا صحة كالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين وبيع حبل الحبلة وكالنهي عن الصلاة في أيام الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام إقرائك " والنهي عن نكاح ما نكح الأباء بقوله تعالى: " ولا تنحكوا ما نكح آباؤكم من النساء " " النساء 22 " ولو كان النهي مقتضياً للصحة لكان تخلف الصحة مع وجود النهي على خلاف الدليل وهو خلاف الأصل وسواء كان لمعارض أو لا لمعارض.
فإن قيل: إذا نهى الشرع عن صوم يوم النحر وعن الصلاة في الأوقات والأماكن المكروهة وعن بيع الربا فالأصل تنزيل لفظ الصلاة والصوم والبيع على عرف الشارع وعرف الشارع في ذلك إنما هو الفعل المعتبر في حكمه شرعاً فلو لم يكن التصرف المنهي عنه كذلك لما كان هو التصرف الشرعي وهو ممتنع.
قلنا: أولاً لا نسلم وجود عرف الشرع في هذه الأسماء لما سبق وإن سلمنا أن له عرفاً لكن في طرف الأوامر أو النواهي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فالنهي إنما هو عن التصرف اللغوي دون الشرعي وإن سلمنا عرف الشارع في هذه الأسماء ولكن لا نسلم أن عرفه فيها ما ذكروه بل ما هو بحال يصح ويمكن صحته ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة ولا يلزم من كون التصرف ممكن الصحة وقوع الصحة كيف وإن ما ذكروه منتقض بما ذكرناه من المناهي مع انتفاء الصحة عن منهياتها.
المسألة الثالثة اتفق العقلاء على أن النهي عن الفعل يقتضي الانتهاء عنه دائماً خلافاً لبعض الشاذين ودليل ذلك أنه لو قال السيد لعبده: لا تفعل كذا وقدرنا نهيه مجرداً عن جميع القرائن فإن العبد لو فعل ذلك في أي وقت قدر يعد مخالفاً لنهي سيده ومستحقاً للذم في عرف العقلاء وأهل اللغة ولو لم يكن النهي مقتضياً للتكرار والدوام لما كان كذلك.
فإن قيل: لا خفاء بأن النهي قد يرد ويراد به الدوام كما في النهي عن الربا وشرب الخمر ونحوه وقد يرد ولا يراد به الدوام كما في نهي الحائض عن الصوم والصلاة ونحوه والصورتان مشتركتان في طلب ترك الفعل لا غير ومفترقتان في دوامه في إحدى الصورتين وعدم دوامه في الأخرى والأصل أن يكون اللفظ حقيقة فيهما من غير اشتراك ولا تجوز والدال على القدر المشترك لا يكون دالاً على ما اختص بكل واحد من الطرفين المختلفين وأيضاً فإنه لو كان النهي مقتضياً للدوام لكان عدم الدوام في بعض صور النهي على خلاف الدليل وهو ممتنع.
قلنا: النهي حيث ورد غير مراد به الدوام يجب أن يكون ذلك لقرينة نظراً إلى ما ذكرناه من الدليل وما قيل: إن ذلك يلزم منه الاشتراك أو التجوز قلنا: وإن لزم منه التجوز وهو على خلاف الدليل لافتقاره إلى القرينة الصارفة غير أن جعله حقيقة في المرة الواحدة مما يوجب جعله مجازاً في الدوام والتكرار لاختلاف حقيقيتهما وليس القول بجعله مجازاً في التكرار وحقيقة في المرة الواحدة أولى من العكس بل جعله حقيقة في التكرار أولى لإمكان التجوز به عن البعض لكونه مستلزماً له ولو جعلناه حقيقة في البعض لما أمكن التجوز به عن التكرار لعدم استلزامه له وبه يندفع ما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً.
الصنف الثالث في معنى العام والخاص ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي بيان معنى العام والخاص وصيغ العموم أما العام فقد قال أبو الحسين البصري: العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ووافقه على ذلك بعض أصحابنا وهو فاسد من وجهين: الأول أنه عرف العام بالمستغرق وهما لفظان مترادفان وليس المقصود هاهنا من التحديد شرح اسم العام حتى يكون الحد لفظياً بل شرح المسمى إما بالحد الحقيقي أو الرسمي وما ذكره خارج عن القسمين.
الثاني: أنه غير مانع لأنه يدخل فيه قول القائل ضرب زيد عمراً فإنه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له وليس بعام.
وقال الغزالي إنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً وهو غير جامع فإن لفظ المعدوم والمستحيل من الألفاظ العامة ولا دلالة له على شيئين فصاعداً إذ المعدوم ليس بشيء عنده وعند أهل الحق من أصحابنا والمستحيل بالإجماع وإن كان جامعاً إلا أنه غير مانع فإن قولنا عشرة ومائة ليس من الألفاظ العامة وإن كان مع اتحاده دالاً على شيئين فصاعداً وهي الآحاد الداخلة فيها والحق في ذلك أن يقال العام: هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعداً مطلقاً معاً.
فقولنا اللفظ وإن كان كالجنس للعام والخاص ففيه فائدة تقييد العموم بالألفاظ لكونه من العوارض الحقيقية لها دون غيرها عند أصحابنا وجمهور الأئمة كما يأتي تعريفه وقولنا الواحد احتراز عن قولنا ضرب زيد عمراً وقولنا الدال على مسميين ليندرج فيه الموجود والمعدوم وفيه أيضاً احتراز عن الألفاظ المطلقة كقولنا رجل ودرهم وإن كانت صالحة لكل واحد من آحاد الرجال وآحاد الدراهم فلا يتناولها مقابل على سبيل البدل وقولنا فصاعداً احتراز عن لفظ اثنين وقولنا مطلقاً احتراز عن قولنا عشرة ومائة ونحوه من الأعداد المقيدة ولا حاجة بنا إلى قولنا من جهة واحدة احتراز عن الألفاظ المشتركة والمجازية.
أما عند من يعتقد كونها من الألفاظ العامة كما يأتي تحقيقه فالحد لا يكون مع أخذ هذا القيد جامعاً وأما عند من لا يقول بالتعميم فلا حاجة به إلى هذا القيد أيضاً إذ اللفظ المشترك غير دال على مسمياته معاً بل على طريق البدل وكذلك الحكم في اللفظ الدال على جهة الحقيقة والمجاز وفي الحد المذكور ما يدرأ النقض بذلك وهو قولنا الدال على مسميين معاً.
وأما الخاص فقد قيل فيه: هو كل ما ليس بعام وهو غير مانع لدخول الألفاظ المهملة فيه فإنها لعدم دلالتها لا توصف بعموم ولا بخصوص ثم فيه تعريف الخاص بسلب العام عنه ولا يخلو إما أن يكون بينهما واسطة أو لا فإن كان الأول فلا يلزم من سلب العام تعين الخاص وإن كان الثاني فليس تعريف أحدهما بسلب حقيقة الآخر عنه أولى من العكس وأيضاً فإن اللفظ قد يكون خاصاً كلفظ الإنسان فإنه خاص بالنسبة إلى لفظ الحيوان وما خرج عن كونه عاماً بالنسبة إلى ما تحته.
وإن قيل إنه ليس بعام من جهة ما هو خاص ففيه تعريف الخاص بالخاص وهو ممتنع.