كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
قوله : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } هذه العلامة الثانية لقيام القيامة ، والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل ، فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثم يموتون ، وهذا قول الأكثرين . وقال الحسن : الصور هو الصوَر ، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد ، فتحيا الأجساد . قوله : { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } قال : « فَفَزَعَ » بلفظ الماضي ولم يقل فيفزع لتحققه وثبوته وأنه كائن لا محالة ، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل ، كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] . والمعنى : يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا ، قيل : ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعف ، ونفخة القيام لرب العالمين .
قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } فالمراد إلا من ثبّت الله قلبه من الملائكة ، قالوا : وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وجاء في الحديث : أنهم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش ، قال سعيد بن جبير وعطاء عن ابن عباس هم الشهداء ، لأنهم أحياء عند ربهم . وعن الضحاك : هم رضوان والحور وخزنة النار وحملة العرش . و « كُلٌّ أَتَوْهُ » أي الذين أُحْيُوا بعد الموت . قوله : « أَتَوْهُ » قرأ حمزة وحفص : « أَتَوْهُ » فعلاً ماضياً ومفعوله الهاء ، والباقون : « آتوه » : اسم فاعل مضافاً للهاء ، وهذا حمل على معنى « كُلّ » وهي مضافة تقديراً ، أي : وكلهم . وقرأ قتادة : « أتَاهُ » ماضياً مسنداً لضمير « كلّ » على اللفظ ، ثم حمل على معناها ، فقرأ « دَاخِرِين » ، والحسن والأعرج « دَخِرِينَ » بغير ألف أي : صاغرين :
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
قوله : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا } هذه العلامة الثالثة لقيام القيامة ، وهي قوله تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } [ الكهف : 47 ] « جَامِدَةً » قائمة واقعة ، و « تَحْسَبُهَا جَامِدَةً » هذه الجملة حالية من فاعل « تَرَى » أو من مفعوله ، لأن الرؤية بصرية .
قوله : « وَهِيَ تَمُرُّ » الجملة حالية أيضاً ، وهكذا الأجرام العظيمة تراها واقفة وهي مارة قال النابغة الجعدي يصف جيشاً كثيفاً :
3973 - بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسِبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ
و « مَرَّ السَّحَابِ » : مصدر تشبيهي ، قوله : « صُنْعَ اللَّهِ » مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة عامله مضمر ، أي : صنع الله ذلك صنعاً ، ثم أضيف بعد حذف عامله ، وجعله الزمخشري مؤكداً للعامل في { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } [ النمل : 87 ] وقدره : ويوم ينفخ وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المسيئين في كلام طويل جرياً على مذهبه ، وقيل منصوب على الإغراء ، أي : انظروا صنع الله وعليكم به . والإتقان : الإتيان بالشيء على أكمل حالاته ، وهو من قولهم : تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة ، وأرض تقنة ، والتقن فعل ذلك بها ، والتقن أيضاً : ما رمي به في الغدير من ذلك أو الأرض ، ومعنى { أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أحكمه . { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالغيبة جرياً على قوله « وَكُلٌّ أَتَوْهُ » ، والباقون بالخطاب جرياً على قوله « وتَرَى » ، لأن المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته .
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
قوله : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } في « خَيْر » وجهان :
أحدهما : أنها للتفصيل باعتبار زعمهم ، أو على حذف مضاف ، أي : خير من قدرها واستحقاقها « مِنْهَا » في محل نصب ، وألا يكون للتفصيل ، فيكون ( مِنْهَا ) في موضع رفع صفة لها . قوله { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } قرأ أهل الكوفة « مِنْ فَزَع » بالتنوين ، « يَوْمَئِذٍ » بفتح الميم ، وقرأ الآخرون بالإضافة ، لأنه أعم فإنه يقتضي الأمن من جمع فزع ذلك اليوم وبالتنوين كأنه فزع دون فزع ، ويفتح أهل المدينة الميم من « يومَئذ » وتقدم في هود فتح « يَوْم » وجره و « إِذْ » مضافة للجملة حذفت وعوض عنها التنوين ، والأحسن أن تقدر يومئذ جاء بالحسنة ، وقيل : يومئذ ترى الجبال ، وقيل : يومئذ ينفخ في الصور ، والأولى أولى ، لقرب ما قدر منه .
فصل
لما تكلم في علامات القيامة شرح - بعد ذلك - أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكوم مطيعاً أو عاصيا ، أما ( المطيع ، فهو ) الذي جاء بالحسنة وهي كلمة الإخلاص قال أبو معشر يحلف ما ساتثنى : إنّ الحسنة لا إله إلا الله وقيل : كل طاعة . { فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } ، قال ابن عباس : يعني له من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو : الأمن من العذاب ، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان ، فإنه ليس شيء خيراً من قوله لا إله إلا الله ، وقيل : خير منها يعني رضوان الله ، قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، وقال محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد : خير منها يعني الأضعاف ، أعطاه الله بالواحد عشراً ، فصاعداً ، وهذا حسن ، لأن للأضعاف خصائص وقيل : إن الثواب خير من العمل ، لأن الثواب دائم والعمل منقض ، ولأن العمل فعل العبد ، والثواب فعل الله . { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } أي : آمنون من كل فزع ، فإن قيل : أليس قال - في أول الآية - { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } ؟ [ النمل : 87 ] فكيف نفى الفزع ههنا؟ فالجواب : أن الفزع الأول ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تقع أو هول يفجأ ، وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه ، وأما الثاني : فهو الخوف من العذاب .
وأما من قرأ « مِنْ فَزَع » بالتنوين ، فهو محتمل معنيين : من فزع واحد ، وهو خوف العذاب ، وإما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدته ، فلا ينفك عند أحد . فإن قيل : الحسنة لفظة مفردة معرفة ، وقد ثبت أنها لا تفيد العموم ، بل يكفي في تحققها حصول فرد من أفرادها ، وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً ، وأعلاها درجة وهو الإيمان ، ولهذا قال ابن عباس : الحسنة كلمة الشهادة ، وهذا يوجب القطع بأنه لا يعاقب أهل الإيمان ، فالجواب : ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً . و « أمن » يتعدى بالجار وبنفسه ، كقوله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } [ الأعراف : 99 ] .
قوله : { وَمَن جَآءَ بالسيئة } يعني الإشراك { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } ، يجوز أن يكون ذكر الوجه إيذاناً بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكبين ، يقال : كببت الرجل إذا ألقيته على وجهه فأكب وانكب .
قوله : « هَلْ تُجْزُوْنَ » على إضمار قول ، وهذا القول حال مما قبله ، أي كُبَّتْ وجوههم مقولاً لهم ذلك القول .
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
قوله : « إِنَّمَا أُمِرْتُ » أي : قل يا محمد إنما أمرت ( أي : أمرت ) أن اخص الله وحده بالعبادة ، ثم إنه تعالى وصف نفسه بأمرين :
أحدهما : أنه رب هذه البلدة ، والمراد مكة ، وإنما خصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها احب بلاده ليه وأكرمها ، عليه ، وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها وطن نبيه ومهبط وحيه .
قوله : « الَّذِي حَرَّمَهَا » هذه قراءة الجمهور صفة للربِّ ، وابن مسعود وابن عباس « الَّتِي » صفة للبلدة ، والسياق إنما هو للرب لا للبلدة ، فلذلك كانت قراءة العامة واضحة . والمعنى : جعلها الله حرماً آمناً لا سفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصطاد صيدها ولا يختلأ خلاؤها ، وله كل شيء خلقاً وملكاً ، وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة ، وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله فكأنه قال : لما علمت وعلمتهم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليّ أن أخصه بالعبادات ، و { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } لله .
قوله : { وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن } العامة على إثبات الواو بعد اللام ، وفيها تأويلان :
أظهرهما : أنه من التلاوة وهي القراءة ، وما بعده يلائمه .
والثاني : من التلو وهو الاتباع كقوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } [ يونس : 109 ] ، وقرأ عبد الله : « وَأَنِ اتْلُ » أمراً له عليه السلام ، ف « أنْ » يجوز أن تكون المفسرة وأن تكون المصدرية ، وصلت بالأمر ، وتقدم ما فيه .
فصل
المعنى : وأمرت أن أتلوَ القرآن ، ولقد قام بذلك صلوات الله عليه وسلامه أتم قيام « فَمَن اهْتَدَى » فيما تقدم من المسائل ، وهي التوحيد والحشر والنبوة ، { فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } ، أي منفعة اهتدائه راجعة إليه ، « ومَنْ ضَلَّ » عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى ، { إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين } المخوفين فليس عليَّ إلا البلاغ ، نسختها آية القتال .
قوله : « وَمَنْ ضَلَّ » يجوز أن يكون الجواب قوله : { فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ } ، ولا بد من حذفِ عائدٍ على اسم الشرط أي : مِنَ المُنْذِرينَ لهُ ، لما تقدم في البقرة وأن يكون الجواب محذوفاً أي : فَوَبَالُ ضَلاَلِهِ عليه .
قوله : { وَقُلِ الحمد للَّهِ } على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة ، أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار ، « سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ » القاهرة ، « فَتَعْرِفُونَهَا » يعني يوم بدر من القتل والسبي ، وضرب الملائكة وجوههم وأديارهم ، نظيره قوله تعالى : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [ الأنبياء : 37 ] . وقال مجاهد : { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ في السَّماواتِ والأَرْضِ وَفِي أَنْفُسِكُم } ، كما قال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] « فتعرفونها » أي تعرفون الآيات والدلالات ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرىء بالتاء والياء ، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم .
روى أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ طس النمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان ، وكذب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم عليهم السلام ، ويخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلا الله »
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى : « نَتْلُوا عَلَيْكَ » يجوز أن يكون مفعول « نَتْلُو » محذوفاً دَلَّت عليه صفته وهي : { مِنْ نَّبَإِ موسى } ( تقديره : نَتْلُو عَلَيْكَ شَيْئاً مِنْ نَبَأ مُوسَى ، ويجوز أن تكونَ « مِنْ » مزيدة على رأي الأخفش أي : نتلو عليك نبأ موسى ) .
قوله : « بِالحَقِّ » يجوز أن يكون حالاً من فاعل « نَتْلُو » ، أو من مفعوله ، أي نَتْلُو عَلَيْكَ بَعْضَ خبرها مُتلبسين أو مُتَلبساً بالحق أو متعلقاً بنفس « نَتْلُو » بمعنى : نَتْلُوه بسبب الحق و « لِقَوْم » متعلق بفعل التلاوة أي : لأجل هؤلاء : و « يُؤْمِنُونَ » يصدقون ، وخَصَّهُمْ بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا .
قوله : « إِنَّ فِرْعْونَ » هذا هو المتلُوّ جيء به في جملة مستأنفة مؤكدة .
وقرىء « فِرْعَونَ » بضم الفاء وكسرها ، والكسر أحسن وهو الفسطاط ، { عَلاَ فِي الأرض } استكبر وتجبَّر { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير ، يتبعونه على ما يريد ويطيعونه .
قوله : يَسْتَضْعِفُ يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مستأنفٌ بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً .
الثاني : أنه حال من فاعل « جَعَلَ » أي : جعلهم كذا حال كونه مستضعفاً طائفة منهم .
الثالث : أنه صفة ل « طَائِفَةٍ » .
قوله : « يُذْبِّحُ » يجوز فيه الثلاثة الأوجه : الاستئناف تفسيراً ل « يَسْتَضْعِف » . أو الحال من فاعله أو صفة ثانية ل « طَائِفَة » . والعامة على التشديد في « يُذَبِّح » للتكثير . وأبو حيوة وابن محيصن « يَذْبَح » مفتوح الياء والباء مضارع « ذَبَحَ » مخففاً .
فصل
المراد بالطائفة بنو إسرائيل ، ثم فسَّرَ الاستضعاف فقال : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } ، سمَّى هذا استضعافاً؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم ، { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } ذكروا في سبب ذبح الأبناء وجوهاً :
قيل : إنَّ كاهناً قال له يُولَدُ مَوْلُود في بني إسرائيل في ليلة كذا ( يذهب ملكك ) على يده ، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً ، فقتلهم وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة . قال وهب : قتل القبط في طلب موسى تسعين ألفاً من بني إسرائيل . وقال السدي : إنَّ فرعون رأى في منامه أنَّ ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل . فسأل عن رؤياه فقيل له : يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يده ، فأمر بقتل الذكور ، وقيل : إن الإنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه فسمع فرعون بذلك فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل .
قوله : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطفٌ على قوله : « إِنَّ فِرْعَوْنَ » عطفُ عليه على اسمية ، لأن كلتيهما تفسير للنبأ .
الثاني : أنه حالٌ من فاعل « يَسْتَضْعِفُ » وفيه ضعف من حيث الصناعة ومن حيث المعنى ، أما الصناعة فلكونه ( مضارعاً ) مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله ، أي : ونحن نريك ، كقوله :
3974 - نَجَوْتُ وأَرْهَنهم مَالِكا ... وهذا تكلُّفٌ لا حاجة إليه . وأما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون ، وإرادة المنّة من الله ، لأنه متى مَنَّ اللَّهُ عليهم تعذَّر استضعاف فرعون إياهم .
وقد أجيب عن ذلك بأنه لما كانت المِنَّةُ بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع جعل إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم .
قوله : « وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً » قال مجاهد : دعاة إلى الخير ، وقال قتادة : ولاة وملوكاً كقوله تعالى : « وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً » ، وقيل : يهتدى بهم في الخير ، « وَنَجْعَلَهُمْ الوَارِثِينَ » يعني لملك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم .
قوله : « وَنُمَكِّنَ » العامة على ذلك من غير لام علَّة ، والأعمش : وَلِنُمَكَّنَ « بلام العلة ومتعلقها محذوف ، أي : ولنمكن فعلنا ذلك ، والمعنى : نوطىء لهم في أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم مكاناً يستقرون فيه ، وننفذ أمرهم ونطلق أيديهم ، يقال : مكَّن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه وأوطأه ومهده .
قوله : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا } قرأ الأخوان : » وَيَرَى « بفتح الياء والراء مضارع ( رأى ) مسنداً إلى » فِرْعَوْنَ « وما عطف عليه فلذلك رفعوا ، والباقون بضم النون وكسر الراء مضارع ( أَرَى ) ، فلذلك نصب » فِرْعَونَ « وما عطف عليه مفعولاً أول ، » وَمَا كَانُوا « هو الثاني . و » مِنْهُم « متعلق بفعل الرُّؤية أو الإرادة ، لا ب » يَحْذَرُونَ « لأَنَّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله ، ولا ضرورة بنا إلى أَنْ نقولَ اتسع فيه ، والحذر هو التوقي من الضَّرر ، والمعنى : وما كانوا خائفين منه .
قوله : » أَنْ أَرْضِعِيهِ « يجوز أن تكون المفسرة والمصدرية ، وقرأ عمر بن عبد العزيز وعمر بن عبد الواحد بكسر النون على التقاء الساكنين ، وكأنه حذف همزة القطع على غير قياس فالتقى ساكنان ، فكسر أولهما .
فصل
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، واسمها يوخابز ، وقيل أيادخا ، وقيل أيارخت قاله ابن كثير ، بنت لاوي بن يعقوب ، « أَنْ أَرْضِعِيْهِ » قيل : أرضعته ثمانية أشهر ، وقيل أربعة أشهر ، وقيل ثلاثة أشهر ، كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرك . { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } يعني من الذبح ، { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } ، واليم البحر وأراد هنا النيل ، { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } قيل : ولا تخافي عليه من الغرق وقيل : من الضيعة ، « ولا تحزني » على فراقه ، ف { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } لتكوني أنت المرضعة { وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } إلى أهل مصر والشام . قال المفسرون : إنها لما خافت عليه من الذبح ، وضعته في تابوت ، وألقته في النيل ليلاً . قال ابن كثير : وقيل إنها ربطت التابوت في حبل وكانت دارها على حافة النيل ، فكانت ترضعه ، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر ، وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا ذهبوا استرجعته إليها ، وكان لفرعونَ قوابل معهم رجال يطوفون على الحوامل ، فمن وضعت ذكراً ذبحوه ، فأرسلت أم موسى التابوت يوماً . وذهلت عن ربطه فذهب مع النيل . وقال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان برص شديد ، فقال له الأطباء : أيها الملك إنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس ، فيؤخذ من من ريقه فيلطخ به برصها ، فتبرأ من ذلك ، وذلك يوم كذا وساعة كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون من مجلس له كان على شفيرة النيل ، ومعه آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق ، وهي امرأة فرعون .
وقيل : كانت من بني إسرائيل من سبط موسى ، وقيل : كانت عمته؛ حكاه الهسيلي؛ وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل ، إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج ، فتعلق بجرة ، فقال فرعون : ائتوني به ، فابتدروا بالسفن من كل جانب فوضعوه بين يديه ، فعالجوا فتحه ، فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت ولم يره غيرهان فعالجته ففتحته ، فإذا هو بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه ، فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمتدت ابنة فرعون إلى ريقه ، فلطخت به برصها ، فبرأت ، فقالت الغواة من قوم فرعون : إنَّا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه ، رُمِيَ في البحر فرقاً منك فاقتله ، فهمّ فرعون قتله ، فاستوهبته امرأة فرعون فترك قتله .
وقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ } أي : جواريه .
قوله : « لِيَكُونَ } في اللام الوجهان المشهوران : العلية المجازية بمعنى أن ذلك لما كانت نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعله الفاعل الفعل لأجله ، أو الصيرورة .
قووله : « وَحَزَناً » قرأ العامة بفتح الحاء والزاي ، وهي لغة قريش ، والأخوان بضم وسكون وهما لغتان بمعنى واحد كالعَدَمَ والعُدْمِ : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } العامة على الهمز ، مأخوذٌ من الخطأ ضد الصواب ، وقراء بياء دون هَمْزٍ ، فاحتمل أن يكون كالأول ، ولكن خُفِّفَ ، وأن يكون من خَطَا يَخْطُوا أي : تَجاوز الصَّوابَ .
قوله : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هُو قُرَّة عينٍ .
الثاني - وهو بعيد جداً - أن يكون مبتدأ والخبر « لاَ تَقْتُلُوهُ » . وكان هذا القائل حقه أن لا يُذكِّر ، فيقول : « لاَ تَقْتُلُوها » ، إلا أنه لما كان المراد مذكر ساغ ذلك ، والعامة من القراء والمفسرين وأهل العلم يقفون على « ولَكَ » . ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وقف على « لاَ » أي : هو « قُرَّةُ عَيْنٍ لِي » فقط ، « وَلَكَ لاَ » ، أي : ليس هو لك قرة عين ، ثم يبتدىء بقوله « تَقْتُلُوه » ، وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عنه ، وكيف يبقى « تَقْتُلُوه » من غير نون رفع ، ولا مُقْتَضى لحذفها؟ ولذلك قال الفراء : هو لن .
قوله : { عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } . كانت لا تلدن فاستوهبت موسى من فرعون ، فوهبه لها ، وقال فرعون : أَمَّا أنا فلا حاجة لي به ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لَكِ ، لهداه الله كما هداها » وقال لآسية سميه ، قالت : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر ، ( فَمُو هو الماء ، و ( شا ) هو البحر ، فذلك قوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ } . والالتقاط : هو وجود الشيء ) .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية ، وهل هي من كلام الباري تعالى وهو الظاهر ، أو من كلام امرأة فرعون؟ كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله ، قالت له كذا؛ أي : أفعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه - قال الكلبي ، وجعل الزمخشري الجملة من قوله : { وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ } معطوفة على « فَالتَقَطَهُ » والجملة من قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } إلى « خَاطِئِينَ » مُعترضة بين المتعاطفين ، وجعل متعلق الشعور من جنس الجملة المعترضة أي : لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه ، أو أن هلاكهم على يديه ، قال أبو حيان : ومتى أمكن حَمْلُ الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن .
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً } ( قال الحسن : فَارِغاً ) من كل همٍّ إِلاَّ همَّ موسى . وقال أبو مسلم : فراغ الفؤاد هو الخوف والإشغاف ، كقوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [ إبراهيم : 43 ] .
وقال الزمخشري : فارغاً صفراً من العقل ، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف . وقال الحسن ومحمد بن إسحاق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن { فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجراً وثواباً ، وتوليت أنتِ قتله ، فألقيته في البحر ، وأغرقتيه ، ولمَّا أتاها خبر موسى أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها . وقال أبو عبيدة : فراغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل ، اعتماداً على تكفل الله بمصلحته . قال ابن قتيبة : وهذا من العجائب ، كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن ، والله تعالى يقول : { لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } ؟ وهل يُرْبَط إلا على قلب الجازع المحزون؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله جاز عندها إظهار عدم الحزن ، وأيقنت إنها - وإن أظهرت ذلك - فإنه يسلم لأجل ذل الوعد . إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار ( يضر فربط ) الله على قلبها . قال المعربون : « فارغاً » خبر أصبح أي : فارغاً من العقل ، أو من الصبر ، أو من الحزن ، وهو أبعدها ، ويردُّه قراءاتٌ تُخَالفُه . فقرأ فضالة والحسن « فَزِعاً » بالزاي من الفزع ، وابن عباس « قَرِعاً » بالقاف وكسر الراء وسكونها ، من قَرَعَ رأسهُ إذا انحسر شعرُهُ ، ( والمعنى : خلا من كُلِّ شيء ، وانحَسَرَ عنهُ كُلُّ شَيءٍ إلا ذِكر موسى ، وقيل : الساكن الراء مصدر قَرَعَ يَقْرَع ، أي : أُصيب ، وقرىء « فِرغاً » بكسر الفاء وسكون الراء ، والغين معجمة أي : هدراً ، كقوله ) :
3975 - فَإِنْ يَكُ قَتْلَى قَدْ أُصِيبَتْ نُفُوسًهُمْ ... فَلَنْ يَذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ
فِرْغاً حال من « بِقَتْلِ » ، وقرأ الخليل « فُرُغاً » بضم الفاء وإعجام الغين من هذا المعنى ، ومنه قولهم دماهم بينهم فرغ أي : هدر .
قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } « إِنْ » إما مخففة ، وإما نافية ، واللام إمَّا فارقة وإمَّا بمعنى إلاَّ والباء في « بِهِ ( مزيدة في المفعول ، أي : لتُظْهِرَهُ ، وقيل : ليست زائدة بل سببية ، والمفعول محذوف ، أي : لتُبْدِي القَولَ بسبب موسى أو بسبب الوحي . فالهاء يجوز أن تكون ) راجعة إلى موسى ، أي : إن كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها : وقال عكرمة عن ابن عباس : كادت تقول : واابناه حين رأت الموج يرفع التابوت ويضعه .
وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون : إنه ابن فرعون .
وقال السدي : لما أُخِذ من الماء كادت تقول : هو ابني ، فعصهما الله .
وقال بعضهم : الهاء عائدة إلى الوحي ، أي كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أنه يرُدُّهُ عليها . قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } جوابها محذوف ، أي لأبدت ، كقوله : { وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] والمعنى : لولا أن ربطنا على قلبها بالعصمة والصبر والتثبت . { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } متعلق ب « رَبَطْنَا » ، والمعنى : لتكون من المؤمنين المصدِّقين بوعد الله ، وهو قوله : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] .
قوله : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : قُصِّي أثر موسى ، تتبَّعي أمره حتى تعلمي خبره : وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم . قال « فَبَصُرَتْ بِهِ » أي : أبصرتهُ ، وقرأ قتادة « بَصَرَتْ » بفتح الصاد وعيسى بكسرها . قال المبرد : أبصرته وبصرت به بمعنى ، وتقدم معناه في طه . و « عَنْ جُنُبٍ » في موضع الحال إمَّا من الفاعل أي : بصرت به مُسْتَخفيةً كائنةً عن جُنُبٍ ، وإمَّا من المجرور أي : بعيداً منها .
وقرأ العامة « جُنُبٍ » بضمين وهو صفة لمحذوف ، أي : عن مكان بعيد ، وقال أبو عمرو بن العلاء : أي : عن شوقٍ ، وهي لغة جُذَامٍ ، يقولون : جَنَبْتُ إليك أي : اشتقت .
( وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيم وسكون النون ) ، وعن قتادة أيضاً بفتحهما ، وعن الحسن « جُنْب » بالضم والسكون ، وعن النعمان بن سالم « عَنْ جَانِبٍ » وكلها بمعنى واحد . ومثله الجِنَاب والجَنَابَة .
{ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية ، ومتعلق الشعور محذوف أي : أنها تَقُصُّه ، أو أنه سيكُونَ لهم عدواً وحزناً ، أو أنها أخته ، أو أنها ترقبه .
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } قيل : يجوز أن يكون جمع مُرْضِع وهي المرأة ، وقيل : جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد ، ثم جَوَّزوا فيه أن يكون مكاناً أي : مكان الإِرضاع وهو الثَّدي وأن يكون مصدراً أي : الإرْضَاعاتُ ، أن : أنواعها ، و « مِنْ قَبْلُ » أي : من قبل قصِّهَا أَثرهُ ، أو من قبل مجيء أخته ، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا . والمراد من التحريم المنع ، لأن التحريم بالنهي تعبّد وذلك لا يصح ، فلا بُدَّ من فِعْل سواه ، فيحتمل أن - تعالى - غيَّر طبعه عن لبن سائر النساء ، فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهن طعماً ينفر عنه طبعه ، أو وضع في لبن أمه لذة تعود بها ، فكان يكره لبن غيرها .
فصل
قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همَّها من الدنيا أن تجد له مرضعة ، فكل ما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها؛ فذلك قوله عزَّ وجلَّ { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } ، فلمَّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ } أي : يرضعونه لكم ويضمنونه ، وهي امرأة قد قُتِلَ ولدها فأحبُّ شيءٍ إليها أن تجد صغيراً ترضعه .
قوله : { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } الظاهر أنه ضمير موسى ، وقيل لفرعون ، قال ابن جُريج والسُّديّ : لما قالت أخت موسى { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } استنكروا حالها وتفرّسوا أنها قرابتُه ، فقالت : إنَّمَا أَرَدْتُ وهم للملك ناصِحُونَ ، فتخلَّصَت منهم ، وهذا يُسمى عند أهل البيان الكلام الموجَّه ومثله : لما سُئِل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحب عليّاً دون غيره ، وبعضهم أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان ، فقيل له : أيهم أحبّ إلى رسول الله؟ فقال : من كانت ابنته تحته . وقيل لما تفرّسوا أنه قرابتُهُ قالت : إنما قللت هذا رغبة في سرور الملك أمي . قالوا : ولأمك ابن؟ قالت : نعم ، هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها . قالوا : صدقت ، فائتينا بها ، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها بحال ابنها ، وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل تديثها وجعل يمصّه حتى امتلأ جنباه ريّاً .
والنصح : إخلاص العمل من سائر الفساد .
قوله : { فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بردِّ موسى إليها ، « وَلاَ تَحْزَنَ » عطف على « تَقَرَّ » ، ودمعةُ الفرح قارّةٌ ، ودمعةُ التَّرَح حارَّةٌ ، قال أبو تمام :
3976 - فَأَمَّا عُيُونُ العَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ ... وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
وتقدم تحقيق هذا في مريم .
{ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } بردّه إليها كانت عالمة بذلك ولكن ليس المخبَر كالمعاين فتحققت بوجود الموعود ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله وعدها ردّه إليها . قال الضحاك : لمّا قَبلَ ثديها قال هامان : إنك لأمه ، قالت : لا ، قال : فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت : أيها الملك ، إني أمرأة طيبة الريح ، حلوة اللبن ، فما شم ريحي صبيّ إلا أقبل على ثديي . قالوا : صدقت . فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها أتحفها بالذهب والجواهر .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } تقدم الكلام عليه ، « وَاسْتَوَى » أي : بلغ أربعين سنة - ( قال ابن عباس - ) وقيل : استوى : انتهى شبابه ، { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } أي : الفقه والعقل والعلم في الدين ، فعلم موسى وحكم قبل أَنْ يبعث نبياً ، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } ، وهذا يدل على أنه ليس المراد بالحكم النبوة ، لأنه جعل إيتاءه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه ، والنبوة لا تكون جزاء على العمل .
قوله : « وَدَخَلَ المَدِينَة » أي : ودخل موسى المدينة . قال السدي : مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : قرية تدعى حانين على ( رأس ) فرسخين من مصر ، وقيل : عين شمس ، قوله : { على حِينِ غَفْلَةٍ } في موضع الحال إمّا من الفاعل أي : كائناً على حين غَفْلَة ، أي : مُستخفياً ، وإِمَّا من المفعول ، وقرأ أبو طالب القارىء « عَلَى حِينَ » بفتح النون ، وتكلَّفَ أبو حيان تخريجها على أنه حمل المصدر على الفعل في أنه إذا أضيف الظرف إليه جاز بناؤه على الفتح ، كقوله :
3977 - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... و « مِنْ أَهْلِهَا » صفة ل « غَفْلَةٍ » ، أي : صادرة من أهلها .
فصل
اختلفوا في السبب الذي لأجله دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها ، فقال السُّدِّي : إن موسى كان يسمى ابن فرعون ، فكان يركب في مراكب فرعون ، ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره ، فأدركه المقيل بأرض منف ، فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحدن فذلك { على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } . وقال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق فارق فرعون وقومه وخالفهم في دينهم حتى ذكر ذلك منه ، وأخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً .
وقال ابن زيد : إِنَّ موسى ضرب رأس فرعون ونتف لحيته ، فأراد فرعون قتله ، فقالت امرأته : هو صغير ، جِىءْ بجمرة فأخذها فطرحها في فيه ، فبها عقد لسانه ، فقال فرعون : لا أقتله ، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد ، فأخرج ولم يدخل عليها حتى كبر ، فدخل { على حِينِ غَفْلَةٍ } .
قوله « يَقْتتلانِ » صفة ل « رَجُلَيْنِ » ، وقال ابن عطية : حالٌ منهما ، وسيبويه - وإن كان جوَّزها من النكرة مطلقاً - إلاَّ أَنَّ الأكثر يشترطون فيها ما يُسوِّغُ الابتداء بها .
وقرأ نعيمُ بن ميسرة « يقتلان » بالإدغام ، نقل فتحة التاء الأولى إلى القاف وأدغم . قوله { هذا مِن شِيعَتِهِ } مبتدأ وخبر في موضع الصفة ل « رَجُلَيْنِ » ، أو الحال من الضمير في « يَقْتتلانِ » وهو بعيدٌ لعدمِ انتِقالهَا .
وقوله : « هذَا » و « هذا » على حكاية الحال الماضية ، فكأنهما حاضران ، أي : إذا نظر الناظر إليهما ، قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه . وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب ، وأنشد لجرير :
3978 - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة ... لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا
( فصل )
{ هذا مِن شِيعَتِهِ } من بني إسرائيل ، { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } من القبط . قال مقاتل : كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل ، لقول موسى عليه السلام له { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 18 ] . والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً ، قيل : إنه السامري ، والقبطي طبَّاخ فرعون . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع . وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم .
قوله « فَاسْتَغَاثَهُ » هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره ، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة . قال ابن عطية : هي تصحيف وقال ابن جبارة صاحب الكامل : الاختيار قراءة ابن مقسم ، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى في هذا الباب قال شهاب الدين : نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة ( كما أن تغالي ) الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود .
قوله : « فَوَكَزَهُ » أي : دفعه بجميع كَفِّه ، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ : أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني : بأطراف الأصابع ، وقيل بالعكس ، وقيل : اللكز في الصدر ، والوكز في الظهر ، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال :
3979 - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي ... لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ
وقرأ ابن مسعود « فَلَكَزَهُ » و « فَنَكَزَهُ » باللام والنون .
قوله : « فَقَضَى » أي : موسى ، أو الله تعالى ، أو ضمير الفعل أي : الوكز « فَقَضَى عَلَيْهِ » أي : أماته ، وقتله ، وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ، فندم موسى ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل ، و { قَالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } فقوله : « هذَا » إشارة إلى القتل الصادر منه ، و { مِنْ عَمَلِ الشيطان } أي : من وسوسته وتسويله .
فصل
احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه :
أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك ، فإن استحق القتل فلم قال : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ؟ ولم قال : { ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } ؟ وقال في سورة أخرى { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] . وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً .
وثانيها : أنَّ قوله : { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } يدل على أنه كان كافراً حربياً ، فكان دمه مباحاً ، فَلِمَ استغفر عنه؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً .
وثالثها : أَنَّ الوكز لا يحصل عنه القتل ظاهراً . فكان ذلك قتل خطأ ، فَلِمَ استغفر منه؟
والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال إنه لكفره مباح الدم؟ وأما قوله { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ففيه وجوه :
الأول : أنَّ الله تعالى وإن أباح قتل الكفار ، إلاَّ أنه كان الأَولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر ، فلما قتل ترك ذلك المندوب؛ وهو قوله : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } .
الثاني : أنَّ قوله : « هذَا » إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه .
( الثالث : أنَّ قوله : « هذَا » إشارة إلى المتقول ) . ( يعني أنه من حزب الشيطان ) وجنده ، يقال : فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه . وأما قوله { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي } ( فعلى نهج قول آدم عليه السلام ) { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] والمراد أحد وجهين : إما على سبيل الانقطاع إلى الله ، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإِنْ لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب .
وأما قوله « فَاغْفِرْ لِي » أي : فاغفر لي ترك هذا المندوب . وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون المراد { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } حيث قتلت هذا الملعون ، فإنَّ فرعون لو عرف ذلك لقتلني به ، « فَاغْفِرْ ليْ » ، فاستره عليَّ ولا توصل خبره إلى فرعون ، « فَغَفَرَ لَهُ » أي : ستره عن الوصول إلى فرعون ، ويدل على هذا قوله { رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } فلو كانت إعانة المؤمن هنا سبباً للمعصية لما قال ذلك ، وأما قوله { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً ، بل اعترف أنه كان ضالاً أي : متحيراً لا يدري ما يجب عليه .
وأما قوله : إنْ كان كافراً حربياً فَلِمَ استغفر من قتله؟ قلنا : كون الكافر مباح الدم أم يختلف باختلاف الشرائع ، فلعلّ قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت ، أو كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررناه .
وأما قوله : كان قتل خطأ ، قلنا : لا نسلم ، فلعل الرجل إن كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة فوكزه كان قاتلاً قطعاً ، ثم إن سلمنا ذلك ولكنه - عليه السلام - كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون الوكز الذي كان الأولى تركه ، فلهذا أقدم على الاستغفار . على أَنَّا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية ، لكنَّا بيَّنَّا أَنهُ لا دلالة البتة فيه ، لأنه لم يكن رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك قبل النبوة لا نزاع فيه .
فصل
قال المعتزلة : الآية تدل على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله ، لأنه - عليه السلام - قال : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } ، فلو كانت بخلق الله لكانت من الله لا من الشطيان ، وهو كقول يوسف - عليه السلام -
{ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي } [ يوسف : 100 ] ، وقول فتى موسى { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] ، وقوله تعالى : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة } [ الأعراف : 27 ] ، وتقدم الكلام على ذلك .
قوله : « بِمَا أَنْعَمْتَ » يجوز في الباء أن تكون ( قسماً و ) الجواب مقدراً : لأَتوبنَّ ، وتفسيره : فَلأنْ أكُونَ ، قال القفال : كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً ، أي : بنعمتك عليَّ ، وأنْ تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية ، أي : اعصمني بسبب ما أَنعمتَ به عليَّ ، ويترتب عليه قوله : { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً } ، و « مَا » مصدرية أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، وقوله : « فَلَنْ » نفيٌ على حقيقته ، وهذا يدل على أنه قال : لِمَ أنعمت عليَّ بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين ، وهذا يدلّ على أَنَّ ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية ، إذ لو كان معصية لنزل الكلام منزلة قوله : « إنك لمَّا أنعمت عليَّ بقبول توبتي من تلك المعصية .
وقال الكسائي والفراء : إنه خبر ومعناه الدعاء ، وإنَّ » لَنْ « واقعة موقع » لا « ، كأنه قال : ولا تجعلني ظهيراً ، قال الفراء : في حرف عبد الله { وَلاَ تَجْعَلْنِي ظَهِيراً } قال الشاعر :
3980 - لَنْ تَزَالُوا كَذلكُم ثُمَّ لا زلْ ... تَ لَهُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ
قال شهاب الدين : وليس في الآي والبيت دلالة على وقوع » لن « موقع » لا « ، لظهور النفي فيهما من غير تقدير دعاء .
فصل
قال ابن عباس : { بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } بالمغفرة ، { فَلَنْ أَكُوْنَ ظَهِيراً } عوناً » لِلْمُجْرِمينَ « . أي : للكافرين وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً ، وهو قول مقاتل ، وقال قتادة : لن أعين بعدها على خطيئة .
قال ابن عباس : لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني : ( وهذا ضعيف ، لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة ، وإنما خاف منه ذلك العدو ، فقال : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً } [ القصص : 19 ] إلاّ أنه لم يقع منه ) .
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قوله : { فَأَصْبَحَ فِي المدينة } التي قتل فيها القبطي « خَائِفاً » الظاهر أنه خبر « أصبح » ، و « فِي المَدِينَةِ » مفعول به ، ويجوز أن يكون حالاً ، والخبر « فِي المَدِينَةِ » ، ويضعف تمام « أَصْبَحَ » أي : دخل في الصباح .
قوله : « يَتَرَقَّبُ » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً ثانيةً ، وأن يكون بدلاً من الحال ( الأولى ) ، أو الخبر الأول ، أو حالاً من الضمير في « خَائفاً » فتكون متداخلة ، ومفعول « يَتَرَقَّبُ » محذوف ، أي : يترقب المكروه ، أو الفرج ، أو الخبر : هل وصل لفرعون أم لا؟ قوله : « فَإِذَا » « إِذَا » فجائية ، و « الَّذِي » مبتدأ وخبره إمَّا « إذَا » ف « يَسْتَصْرِخُهُ » حال ، وإمَّا « يَسْتَصْرِخُهُ » ف « إِذَا » فضله على بابها ، و « بِالأَمْسِ » معرب ، لأنه متى دخلت عليه « أل » أوأضيف أعرب ، ومتى عَرِيَ منها فحاله معروفٌ ، الحجاز يبنونه ، والتميميون يمنعونه الصرف ، كقوله :
3981 - لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسَا ... على أنه قد بُنِيَ مع « ال » ندوراً ، كقوله :
3982 - وَإِنِّي حُبِسْتُ اليَوْمَ والأَمْسِ قَبْلَهُ ... إِلَى الشَّمْسِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
يورى بكسر السين .
قوله : { قَالَ لَهُ موسى } الضمير قيل للإسرائيلي ، لأنه كان سبباً في الفتنة الأولى ، وقيل للقبطي ، وذلك أنَّ موسى لما أصبح خائفاً من قتل القبطي « يَتَرَقَّب » ينتظر سوءاً ، والترقب انتظار المكروه . قال الكلبي : ينتظر متى يؤخذ به ، { فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ } يستغيثه ويصيح به من بعد ، قال ابن عباس : أتى فرعون فقيل له : إنَّ بني إسرائيل قتلوا مِنَّا رجلاً فخذ لنا بحقنا ، فقالوا ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه ( فلا تنسبوني أن أقضي ) بغير بينة ، فبينما هم يطوفون لا يجدون بيّنة إذ مَرَّ مُوسَى من الد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً ، فاستغاثه على الفرعوني ، فصادق موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ، فقال موسى للإسرائيلي : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } ( أي : ظاهر الغواية ) . قال أهل اللغة : « لَغَوِيٌّ » يجوز أن يكون فَعِيلاً بمعنى مفعل ، أي : إنَّك لمغويّ ، فإنِّي وقعتُ بالأمس فيما وقعت فيه بسببك ، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي : قاتلت رجلاً بالأمس فقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر ، وتستغيثني عليه ، وقيل : إنما قال موسى للفرعوني : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } بظلمك ، والأكثرون على الأول .
قوله : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ } الظاهر أنَّ الضميرين لموسى ، وقيل للإسرائيلي ، والعدو : هو القبطي ، والضمير في { قَالَ ياموسى } للإسرائيلي ، كأنه توهم من موسى مخاشنة ، فَمِنْ ثمَّ قال ذلك ، وبهذا فشا خبره وكان مشكوكاً في قاتله .
و « أَنْ » تطرد زيادتها في موضعين :
أحدهما : بعد لمَّا كهذه .
والثاني : قبل « لَوْ » مسبوقة بقسم كقوله :
3983 - أَمَا وَاللَّهِ َنْ لَوْ كُنْتُ حُراً ... 3983م - فَأُقُسِمُ أَنْ لَوْ التَقَيْنَا وَأَنْتُمُ ... لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِم
والعامة على « يَبْطِش » بالكسر ، وضمَّها أبو جعفر ، وقيل : إن القائل « يَا مُوسَى » هو القبطي ، وكان قد عرف القصة من الإسرائيلي . قال ابن الخطيب : وهذا هو الظاهر ، لقوله : { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ ياموسى } ، فهذا القول منه لا من غيره ، وأيضاً قوله : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } لا يليق إلا بقول الكافر ، والجبار : هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم ، ولا ينظر في العواقب ، وقيل : المتعظم ، { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } ، قال المفسرون : فلما سمع القبطي قول الإسرائيلي علم أَنَّ موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني : فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك ، وأمر فرعون بقتل موسى . قال ابن عباس : أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم . قوله : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } ، أي : من آخر المدينة اسمه : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وقيل اسمه شمعون ، وقيل : ( شمعان ) : « يَسْعَى » قال الزمخشري : « يَسْعَى » يجوز ارتفاعه وصفاً ل « رَجُلٌ » وانتصابه حالاً عنه ، لأنه قد تخصص بالوصف بقوله : { مِّنْ أَقْصَى المدينة } ، فإن جعلت « مِنْ أَقْصَى » متعلقاً ب « جَاءَ » ف « يَسْعَى » صفة ليس إلا . وهذا بناء منه على مذهب الجمهور ، وقد تقدَّم أَنَّ سيبويه يجيز ذلك من غير شَرْط .
وفي آية يس قدَّمَ « مِنْ أَقْصَى » على « رَجُل » ، لأنه لم يكن من أقصاها وما جاء منها وهنا وصفه بأنه من أقصاها ، وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان .
( قوله ) « يَأْتَمِرُونَ » أي : يتآمرون بمعنى يتشاورون ، كقول النمر بن تولب :
3984 - أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شبهَةً ... وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ مُؤْتَمَرْ
وعن ابن قتيبة : يأمر بعضهم بعضاً . أخذه من قوله تعالى : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } [ الطلاق : 6 ] . ( قوله ) « فَاخْرُجْ » أي : من المدينة ، { إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } في الأمر بالخروج ، فقوله « لَكَ » ، يجوز أن يتعلق بما يدلُّ « النَّاصِحِينَ » عليه ، أي؛ ناصحٌ لك من الناصحين ، أو بنفس « النَّاصِحِينَ » للاتساع في الظرف ، أو على جهة البيان أي : أعني لك . « فَخَرَجَ مِنْهَا » موسى « خَائِفاً يَتَرَقَّبُ » هِدَايَتَهُ وغَوْثَ الله إيَّاهُ ، { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } أي؛ لاكافرين وهذا يدلُّ على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذبناً وإلا لكان هو الظالم لهم ، وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم له ليقتلوه قصاصاً .
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قوله : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي : قصد نحوها ماضياً إليها ، يقال : داره تلقاه دار فلان ، إذا كانت محاذيتها وأصله من اللقاء ، قال الزجاج : أي : سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها . قال ابن عباس : خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله ومشى من غير معرفة فأسلمه الله إلى مدين ، وقيل : وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة؛ لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل ، سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على الله ، وقيل : جاءه جبريل عليه السلام ، وعلمه الطريق .
قال ابن إسحاق : خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر . { قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } ، أي : قصد الطريق إلى مدين .
قوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } وهو الماء الذي ستقبون منه وهو بئر ، ووروده : مجيئه ، والوصول إليه ، « وَجَدَ عليه » أي : على شفيره ( « أمَّةً » جماعة كثيفة العدد « مِنَ النَّاسِ » مختلفين « يَسْقُونَ منها مواشيهم ) ، { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي : سوى الجماعة ، وقيل : في مكان أسفل من مكانهم .
قوله : » امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ « ف » تذودوان « صفة ل » امْرَأَتِيْنِ « لا مفعول ثاني ، لأَنَّ » وَجَدَ « بمعنى : لقي ، والذَّودُ ، الطرد والدفع ، قال :
3985 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وقيل : حبس : ومفعوله محذوف ، أي : يَذُودانِ النَّاسَ عن غَنمهما ، أو عن مزاحمة الناس ، وقال الزمخشري : لم ترك المفعول غير مذكور في » يَسْقُونَ « و » تَذُودَانِ « و » لاَ نَسْقِي « ، قُلتُ : لأنَّ الغرض هو الفعل لا المفعول ، وكذلك قَوْلهُمَا : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء } المقصود منه السَّقي لا المَسْقِيّ .
( فصل
واختلفوا في السبب المقتضي لذلك الحبس ، فقال الزجاج : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، وقيل : لئلا يختلطن بالرجال ، وقيل : كانتا تذودان عن وجوههما نظر الرجال لتسترهما ، وقيل : تذودان الناس عن غنمهما ، وقال الفراء : يحبسانها لئلا تتفرق وتتسرب ، وقيل : تذودان أي : معهما قطيع من الغنم ، والقطيع من الغنم يسمى : ذوداً ، وكذلك قطيع البقرب وقطيع الإبل . قال عليه السلام : » لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ دَوْدٍ صَدَقَة « وقال الشاعر :
3986 - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ ، وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
قوله : » مَا خَطْبكُمَا « تقدم في طه ، وقال الزمخشري : هنا حقيقته : مَا مخطُوبُكما؟ أي : ما مطلُوبُكُمَا من الذياد؟ فسمي المخطُوب خطباً كما سمي المشئُونُ شأْناً في قولك : ما شأنُكَ؟ يقال : شَأنْتُ شَأْنَهُ ، أي : قَصَدْتُ قَصْدَه . وقال ابن عطية : السؤال بالخطب إنما هو في مُصَاب أو مُضطهد أو مَنْ يُشْلإقُ عليه أو يأتي بمنكر من الأمر .
وقرأ شَمِر « خِطْبَكُمَا » بالكسر أي : ما زوجكما؟ أي : لِمَ تَسْقِيَانِ وَلَمْ يَسْقِ زَوْجُكُمَا؟ وهي شاذة جداً .
قوله : { حتى يُصْدِرَ الرعآء } قرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صَدَرَ يَصْدُرُ وهو قاصر ، أي : حتى يرجع الرعاء : أي : يرجعون بمواشيهم والباقون بضم الياء وكسر الدال مضارع أَصدرَ مُعدًّى بالهمزة ، والمفعول محذوف ، أي : يُصدرُونَ مواشِيهم ، والعامة على كسر الراء من « الرِّعَاء » ، وهو جمع تكسير غير مقيس لأنَّ فاعلاً الوصف المعتل اللام كقاضٍ قياسه ( فُعَلَة ) نحة قُضَاة ورُمَاة .
وقال الزمخشري : وأما الرِّعَاء بالكسر فقياس كصِيام وقِيام . وليس كما ذكر ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ ) . وقرأ أبو عمرو - في رواية - بفتح الراء . قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع أو على حذف مضاف ، وقرىء بضمها ، وهو اسم جمع كرخال وثُنَاء . وقرأ ابن مصرف « لا نُسْقِي » بضم النون من أَسْقَى ، وتقدم الفرق بين سَقَى وأَسْقَى في النحل ، والمعنى لا نسقي حتى يرجع الرّعاء عن الماء ، والرّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجَار ، أي : نحن امرأتان لا نطيق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض ، و { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } لا يقدر أن يسقي مواشيه ولذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم .
فصل
قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : أبوهما هو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم . ( وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام ، وتزوج بابنته ) . وقال وهب وسعيد بن جبير : هو يثرون ابن أخي شعيب ( وكان شعيب ) قد مات بعد ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب . قالوا : فلما سمع قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس ، وقال ابن إسحاق : إنَّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين . وروي أن القوم لمَّا رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشر نفر ، فجاء موسى فرفع الحجر وحده ، وسقى غنمهما ، ويقال : إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة فروي منه جميع الغنم .
قوله : « فَسَقَى لَهُمَا » مفعوله محذوف أي : غنمهما لأجلهما ، { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } أي : إلى ظل شجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع . قال الضحاك : لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض .
فصل
« لِمَا أَنْزَلْتَ » متعلق ب « فَقير » قال الزمخشري : عُدِّي فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلتَ إِليَّ من خير الدين ، وهو النجاة من الظالمين .
يعني أن افتقر يتعدى ب « مِنْ » ، فإمَّا أن نجعله من باب التضمين ، وإمّا أَنَّ متعلقه محذوف و « أَنْزَلْتَ » قيل ماض على أصله ، ويعني بالخير ما تقدم من خير الدين ، وقيل : بمعنى المستقبل . قال أهل اللغة : اللام بمعنى إلى ، يقال : فقير له ، وفقير إليه ، فإنْ قيل : كيف ساغ بنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه السعي بالماشية فالجواب : أنَّ الناس اختلفوا فيه : هل هو شعيب أو غيره كما تقدم ، وإن سلمنا أنه شعيب لكن لا مفسدة فيه ، لأن الدين لا يأباه ، وأحوال أهل البادية يغر أحوال أهل الحضر سيما إذا كانت الحال حالة ضرورة .
فصل
قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه . قال الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة ، وقال سعيد بن جبير : قال ابن عباس : لقد قال { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلي شق تمرة ، وقيل : إنما قال ذلك في نفسه مع ربه ، وهو اللائق بموسى عليه السلام فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حُفّل بِطَان قال لهما : ما أعجلكما : قالتا : وجدنا رجُلاً صالِحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، قوله « فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا » قرأ ابن محيصن : « فَجَاءَتْهُ حُدَاهمَا » بحذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس ، كقوله : يا با فلان ، وقوله :
3987 - يَا بَا المُغيرة رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتهُ بِالنُّكْرِ عَنِّي وَالدَّهَا
وَوَيْلُمِّه أي : ويلٌ لأُمِّهِ . قال :
3988 - وَيْلُمِّهَا حَالُه لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ ... و « تَمْشِي » حال ، و « اسْتِحْيَاءٍ » حال أخرى ، إما من « جَاءَتْ » وإما من « تَمْشِي » .
فصل
قال عمر بن الخطاب : ليست بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة ، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء . { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } صرحت بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها ، وقيل : ماشية على بُعْد ، مائلة عن الرجال . وقال عبد العزيز بن أبي حازم : على إجلال له ، ومنهم من يقف على قوله « تَمْشِي » ، ثم يبتدىء { عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } أي : إنها على استحياء قالت هذا القول ، لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة . قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا ، وقيل ليا ، وقال غيره : صَفُورا وصَفِيرا . وقال الضحاك : صافُورا ، قال الأكثرون : التي جاءت إلى موسى الكبرى . وقال الكلبي : هي الصغرى . قال ابن الخطيب : وفي الآية إشكالات .
أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة ، ( وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا ) وهي أجنبية ، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة؟ وقال صلى الله عليه وسلم : « اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم » .
وثانيها : أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى ، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه ، وذلك غير جائز في الشريعة؟ .
وثالثها : أنه عرف فقرَهُنَّ ، وفَقْرَ أبيهنّ ، وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي ، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة؟
ورابعها : كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟
والجواب عن الأول : أما العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى ، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها .
وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع .
وعن الثاني : أن المرأة لما قالت ذلك ، فموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طالباً للأجر ، بل للتبرك بذلك الشيخ ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذُ بالله ، فقال شُعَيْب : ولم ذلك؟ ألست بجائع؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا ، وفي رواية : لا نبيع ديننا بالدُّنيا ، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً . فقال شُعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى ، فأكل . وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله ، فقبل ذلك اضطراراً ، وهو الجواب عن الثالث ، فإن الضرورات تبيح المحظورات .
وعن الرابع : لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها ، فكان يعتمد عليها .
فصل
قال عمر بن الخطاب : فقام يمشي والجارية أمامه ، فعبثت الريح ، فوصفت ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال موسى عليه السلام : إني من عنصر إبراهيم ، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك ، فأرى ما لا يَحِل ، وفي رواية : كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى ، لأن صوت المرأة عورة .
فإن قيل : لِمَ خشي موسى - عليه السلام - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله ، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] ؟
فالجواب : أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز ، وأما الاستئجار ابتداء ( ف ) غير مكروه . قوله : { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } مصدر كالعلل سمي به المقصوص ، قال الضَّحاك : قال له : مَنْ أنت يا عبد الله؟ قال له : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب ، وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي ، وأنهم يطلبوه فيقتلوه ، فقال شعيب عليه السلام : { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } أي : لا سلطان له بأرضنا ، فإن قيل إن المفسرين قالوا : إن فرعون يوم ركب خلف موسى ، ركب في ألف ألف وستمائه ، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته؟ فالجواب : هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال .
قوله : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره } اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } أي : خير من استعملت مَنْ قَوي على العمل ، وأداء الأمانة ، وإنما جعل { خَيْرَ مَنِ استأجرت } اسماُ و « القَوِيُّ الأَمِينُ » خبراً مع أن العكس أولى ، لأن العناية سبب اللتقديم . فإن قيل : القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما العطية والكتابة ، فلم أهمَل أمرَ الكتابة؟ فالجواب أنهما داخِلان في الأمانة .
قال ابن مسعود : أفرسُ الناس ثلاثة : بنتُ شعيب ، ( وصاحب يوسف ) ، وأبو بكر في عمر .
فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت : أما قوتُه ، فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة ، وقيل : إلا أربعون ، وأمَّا أمانته ، فإنه قال لي : امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك . قال شعيب عند ذلك : { إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ } . قال أكثر المفسرين : إنه زوجه الصغير منهما ، وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورة . قوله : { أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى } روي عن أبي عمرو « أنْكِحَكَ حدى » بحذف همزة « إحدَى » ، وهذه تشبه قراءة ابن محيصن « فَجَاءَتْهُ حْدَاهُما » ، وتقدم التشديد في نون « هَاتَيْنِ » في سورة النساء .
قوله { على أَن تَأْجُرَنِي } في محل نصب على الحال ، إما من الفاعل أو من المفعول ، أي : مشروطاً على أو عليك ذلك . و « تَأْجُرَنِي » مضارع أَجَرْتُه ، كنتُ له أجيراً ، ومفعوله الثاني محذوف ، أي : وتأجُرنِي نفسَك ، و « ثَمَانِيَ حِجَجٍ » ظرف له . ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني . قال شهاب الدين الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه ، وإنّضام جعلها مفعولاً ثانياً على وجه آخر ، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف ، وهذا نصه ليتبين لك ، قال : « تَأْجُرَنِي » ، من أجرته إذا كنت له أجيراً ، كقولك : أبوته إذا كنت له أَباً ، و « ثَمَانِيَ حِجَجٍ » ظفر ، أو مِنْ أجرته إذا أثبته ، ومنه تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آجركُم اللَّهُ ورحِمَكُمْ » و ثماني حججٍ « مفعول به ، ومعناه رعية ثماني حجج . فنقل الشيخ عنه الوجه الأول من المعنيين المذكورين في » تأجُرنِي « فقط ، وحكى عنه أنه أعرب » ثَمَاني حِجَجٍ « مفعولاً به ، وكيف يستقيم ذلك أو يتجه؟ وانظر إلى الزمخشري كيف قدر مضافاً ليصح المعنى به ، أي : رَعْيُ ثَمَانِي حِجَجٍ ، لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا نفس الزمان ، فكيف يوجه الإجارة على الزمان؟
( قوله ) » فَمِنْ عِنْدِكَ « يجوز أن يكون في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فهي من عندك ، أو نصب أي : فقد زدتها أو تفضلت بها من عندك .
فصل
معنى الآية : أريدُ أن أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تكون أجيراً لي ثمانِ سنين قال الفراء : أي تجعل ثوابي من تزويجها أنْ ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : أَجَرَكَ اللَّه بأجْرِكَ ، أي : أثابك والحِجَج : السِّنُون ، واحدها حجَّة .
{ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً } أي : عشر سنين « فَمِنْ عِنْدِك » أي : ذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك . واعلم أن هذا اللفظ - وإن كان على الترديد - فلا شبهة أنه عند التزيوج عين ، ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين ، والزيادة كالتبرع . ودلت الآيية على أنَّ العمل قد يكون مهراً كالمال ، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمَّن جائز ، ولكنه شرع من قبلنا ، ودلَّت أيضاً على أنه يجوز أن يشرط الوليُّ ، وعلى أنَّ عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد . ( واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على صحة بيع أحد هذين العبدين ، أو الثوبين ، وفيه نظر ، لأأنها مراضاة لا معاقدة . ودلت الآية أيضاً على صحة الإجارة بالطعمة والكسوة ، كما جرت به العادة ، ويؤيده قوله عليه السلام : « إنَّ مُوسَى أَجَّر نَفْسه ثَمَانِيَ سينَ أوْ عَشْرَة على عفة فرجه وطعام بطنه » وهو مذهب الحنابلة قاله ابن كثير .
فصل
قال النووي : الإجارة بكسر الهمزة هو المشهور ، وحكى الرافعي أن الجياني حكى في الشامل أيضاً ضم الهمزة ، قال أهل اللغة : وأصل الأجر الثواب ، يقال : أجرت فلاناً عن عمله كذا أي : أثبته ، والله يأجر العبد أي؛ يثيبه ، والمستأجر يثيب المأجور عوضاً عن بذل المنافع . قال الواحدي : قال المبرد : يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود ، وآجرت ممدود قال المبرد : والأول أكثر ) .
قوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } أي؛ ألزمك تمام العشر . وأَنْ أَشُقَّ ، مفعول « أريد » وحقيقة قولهم : شَقَّ عليه أي : شقَّ ظنَّه نصفين فتارة يقول أطيق ، وتارة لا أطيق ، وهو من أحسن مجاز .
قوله { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } قال عمر : أي في حسن الصحبة والوفاء ولين الجانب . وقيل : أراد الصلاح على العموم ، وإنما قال { إِن شَاءَ اللَّهُ } للاتكال على توفيقه ومعونته ، فإنْ قيل : كيف ينعقد العقدُ بهذا الشَّرط ، ولو قلت أنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الله لا تطلَّق؟ فالجواب : هذا ما يختلف بالشرائع .
قوله : « ذَلِكَ » مبتدأ ، والإشارة به إلى ما تعاقد عليه ، والظرف خبره ، وأضيفت « بَيْنَ » لمفرد لتكررها عطفاً بالواو ، فإن قلت : المالُ بَيْن زيد فعمرو لم يجز ، وأما قوله :
3989 - بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ... فكان الأصمعي يأباها ، ويوري « وحوامل » بالواو ، والصحيح بالفاء ، وول البيت على أن الدَّخُول وحَوْمَل مكانان كل منهما مشتمل على أماكن ، نحو قولك : دارِي بين مصر ، لأنه يريد به المكان الجامع ، والأصل ذلك بيننا ففرق بالعطف .
قوله : « أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ » أي شرطية وجوابها « فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ » . وفي « مَا » هذه قولان :
أشهرهما : أنها زائدة ، كزيادتها في أخواتها من أدوات الشرط .
والثاني : أنها نكرة ، و « الأَجَلَيْنِ » بدل منها .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية « أَيْمَا » بتخفيف الياء كقوله :
3990 - تَنَظَّرْتُ نَسْراً والسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا ... عَلَيَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه
وقرأ عبد الله { أيَّ الأَجَلَيَْ مَا قَضَيْت } بإقحام « مَا » بين « الأَجَلَيْن » و « قَضَيْتُ » .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين موقع زيادة « مَا » في القراءتين؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ، « أَيْ » زيادة في شياعها ، وفي الشاذة تأكيداً للقضاء كأنَّه قال : أي الأجلين صمَّمْت على قضائه وجرَّدتُ عزيمتي له .
وقرأ أبو حيوة وابن ٌطَيب « عِدْوانَ » . قال الزمخشري : فإن قلت : تصوُّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصرهما ، وهو المطالب بتتمة العشر ، فما معنى تعلق العدوان بهما جميعاً؟ قلت : معناه : كما أني إن طولبت بالزيادة على العَشْر ( كان عدواناً ) لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني ، أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأنَّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا ، ويكون اختيار الأقل والزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحدهمَا عليه إجبار ، ثم قال : وقيل : معناه فلا أكون متعدِّياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه كقولك : لا إثم عليَّ ولا تبعة .
قال أبو حيان : وجوابه الأول فيه تكثير . قال شهاب الدين : كأنه أعجبه الثاني . والثاني لم يرتضه الزمخشري ، لأنه ليس جواباً في الحقيقة ، فإن السؤال باق أيضاً ، ولذلك نقله عن غيره ، وقال المبرد : وقد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ، ولكن جمعهما ليجعل الأول كالأَتَمِّ في الوفاء .
فصل
قال المفسرون : المعنى « أيّ الأَجَلَيْن قَضَيْتُ » أتممتُ وفرغت منه الثماني أو العشر ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قال مقاتل : شهيد فيما بيني وبينك ، وقيل : حفيظ ، ولما استعمل الوكيل بمعنى الشاهد عُدِّي ب ( عَلَى ) قال سعيد بن جبير : سألني يهودي من أهل الحيرة : أيَّ الأَجلينِ قَضَى مُوسَى؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله ، فقدمتُ فسألتُ ابن عباس فقال : قَضَى أكثرها وأطيبهما ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل .
وروي عن أبي ذر مرفوعاً « إذَا سُئِلْتَ أَيَّ الأَجَلينِ قَضَى مُوسَى؟ فقل خيرهُما وأبرَّهما ، وإذا سئلت أيَّ المرأتين تزوَّج موسى؟ فقل الصغرى منهما ، وهي التي جاءت فقالت : { ياأبت استأجره } فتزوج صغراهما ، وقضى أوفاهما » وقال وهب : أنكَحَه الكُبْرى . ولمَّا تعاقد العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا .
فقال عكرمة : عرج بها آدم من الجنة ، فأخذها جبريل بعد موت آدم ، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً ، فدفعها إليه ، قيل : كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة ، فتوراثتها الأنبياء ، وكان لا يأخذها غير نبي ، فصارت من آدم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى ، وقال السُّدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا ، فدخلت فأخذت العصا فأتته بها ، فلما رآها شعيب قال لها : رُدِّي هذه العصا ، وأتيه بغيرها ، فدخلت وألقتها ، وأرادت أن تأخذ غيرها ، فلا تقع في يدها إلا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات ، فأعطاها موسى ، وأخرجها موسى معه ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يرد العصا ، فأبى موسى أن يعطيه وقال : { هِيَ عَصَايَ } [ طه : 18 ] ، فرضي أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فلقيهما ملك في صورة رجل ، فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها ، فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده ، فرعفها فتركها له الشيخ ثم إن موسى لم أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه ، قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك ( عند صهره عشراً ) أخرى فأقام عنده عشرين سنة ، ثم استأذنه في العود إلى مصر ، فأذن له فخرج بأهله إلى جانب الطور .
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
« آنسَ » أي : أبصر « { مِن جَانِبِ الطور نَاراً } وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلقُ ، فقال { لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } عن الطريق لأنه اكن قد أخطأ الطريق .
قوله » أَوْ جُذْوَةٍ « قرأ حمزة بضم الجيم ، وعاصم بالفتح ، والباقون بالكسر وهي لغات في العُود الذي في رأسه نار ، هذا هو المشهور ، قال السُّلَمي :
3991 - حَمَا حُبُّ هذي النَّارِ حُبَّ خَلِيلَتِي ... وَحُبُّ الغَوَانِي فهو دُونَ الحُبَاحِبِ
وَبُدِّلْتُ بعدَ المِسْك وَالبَانِ شِقْوَةً ... دُخَان الجذَا في رأْسِ أَشْمَطَ شَاحِبِ
وقيده بعضهم فقال : في رأسه نار من غير لهب ، قال ابن مُقبل :
3992 - بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمسن لَهَا ... جِزَالَ الجِذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلاَ دَعِرِ
الخوَّار الذي يتقصف ، والدَّعِرُ الذي فيه لهب . وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه ، قال الشاعر :
3993 - وَأَلْقَى عَلَى قَبسٍ من النار جُذْوَةً ... شديداً عَلَيْها حَرُّها والتِهَابُهَا
وقيل : الجذوة : العودُ الغليظُ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن ، وليس المراد هنا إلا ما يكون في رأسه نارٌ .
قوله » مِنَ النَّارِ « صفة ل » جَذْوَة « ولا يجوز تعلقها ب » آتِيكُم « ، كما تعلق بها » مِنْهَا « ، لأن هذه النار ليست النار المذكورة ، والعرب إذا تقدَّمت نكرة وأرادت إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً أو معرَّفةً بأل العهدية ، وقد جُمِعَ الأمران هنا . » لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ « تستدفئون .
قوله » مِنْ شَاطِىءِ « » مِنْ « لابتداء الغاية ، و » الأَيْمَنِ « صفة للشاطىء أو للوادي ، والأَيْمَنُ من اليُمْنِ ، وهو البَرَكة ، أو مِنَ اليمين المعادل لليسار من العضوين ، ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى ، أي : الَّذي على يمينك دون يسارِك ، والشطاىء ضفة الوادي والنهر أي : حافته وطرفه ، وكذلك الشَّطُّ والسيف والساحل كلها بمعنى ، وجمع الشاطىء » أَشْطاءٌ « قاله الراغب ، وشاطأت فلاناً : ماشيته على الشاطىء .
قوله : طفِي البُقْعَة » متعلق ( « نُودِيَ » أي ) بمحذوف على أنه حال من الشاطىء ، وقرأ العامة بضم الباء ، وهي اللغة الغالبة ، وقرأ مسلمة والأشهب العقيلي بفتحها وهي لغة حكاها أبو زيد قال : سمعتهم يقولون : هذه بقعةٌ طيبة ، ( ووصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة ، وتكليم الله تعالى إياه ) .
قوله : « مِنَ الشَّجَرَةِ » هذا بدل من « شَاطِىء » بإعادة العامل ، وهو بدل اشتمال ، لأن الشجرة كانت ثابتة على الشاطىء كقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] .
قوله : { أَن ياموسى } هي المفسرة ، وجوِّز فيها أن تكون في المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النداء مفسرة له ، وفيه بُعد .
قوله { إني أَنَا الله } العامة على الكسر على إضمار القول ، أو على تضمين النداء معناه ، وقرىء بالفتح ، وفيه إشكال ، لأَنَّهُ إنْ جعلت « أَنْ » تفسيرية ، وجب كسر « إنِّي » للاستئناف المفسر للنداء بماذا كان ، وإن جعلتها مخففة لزم تقدير « أَنِّي » بمصدر ، والمصدر مفرد ، وضمير الشأن لا يفسر بمفرد ، والذي ينبغي أن تُخرَّج عليه هذه القراءة أن تكون « أَنْ » تفسيرية و « أَنِّي » معمولة لفعل مضمر تقديره أَنْ موسى اعلم أَنِّي أنا الله ، واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل { نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] وقال ها هنا : نُودِي أَنِّي أنا اللَّه ربُّ العالمين ، وقال في سورة طه { نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 11 - 12 ] ، ولا منافاة بين هذه الأشياء ، فهو تعالى ذكر الكلّ إلا أنه تعالى حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه بعض ذلك النداء .
قوله : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } تقدم الكلام على ذلك .
وقوله : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : إحداها هذه ، وثانيها { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } ، وثالثها { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ النمل : 12 ] قوله « مِنَ الرَّهْبِ » متعلق بأحد أربعة أشياء ، إمّا ب « وَلَّى » ، وإمَّا ب « مُدْبراً » ، وإمَّا ب « اضمم » ، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ ، وإمّا بمحذوف أي : تسكن من الرهب وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء . والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان ، والباقون بفتحتين ، والحسن وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين وكلها لغات بمعنى الخوف وقيل هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة ، قال الزمخشري « هُومن بدِع التفاسير » قال : وليست شعري كيف صحته في اللغة ، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم ، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية ، وكيف تطبيقه المفضل كسائر كلمات التنزيل ، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة من صُوفٍ لا كُمّ لها .
الزُّرمانقة : المدرعةُ . قال أبو حيان : هذا مروي عن الأصمعي ، وهو ثقة ، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ ، وأما قوله : كيف موقعه؟ فقالوا : معناه : أخرج يدكّ من كُمِّكَ .
قال سهاب الدين : كيف يستقيم هذا التفسير ، يُفَسِّرُون « اضْمُمْ » بمعنى أَخْرِج .
وقال الزمخشري : فإن قُلْتَ : قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً ، وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] فما التوفيق بينهما؟ قلت : المراد بالجناح المضموم : هو اليد اليمنى ، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح .
فصل
قال الزمشخري : في { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } معنيان :
أحدهما : أنّ موسى عليه السلام لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنَّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتنا وقد انقلبت حية فأدخل يدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما منه غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد ، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه .
( الثاني : أن يراد بضم جناح ة تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب ) ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحية وأرخاهُما ، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله « مِنَ الرَّهْب » أي : من أجل الرهب إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ( ومعنى { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } ) وقوله « اسْلُكْ يَدَكَ » على أحد التفسيرين واحد ، وإنما خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى لاختلاف الغرضين ، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب . قال البغوي : المعنى إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها ، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى ، والجناح اليد كلها وقيل : العضد . وقال عطاء عن ابن عباس : مره الله ( أن يَضُمَّ ) يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية . وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه .
وقال مجاهد : كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع ، وقيل : المراد من ضم الجناح السكون ، أي : سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك ، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه ، ومثله قوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل } [ الإسراء : 24 ] يريد : المرفق ، وقوله : { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك } [ الشعراء : 215 ] أي : أرفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم ، وقال الفراء : أراد بالجناح العصا ، معناه : واضمُمْ إليك عَصَاك .
قوله : « فَذانك » تقدم قراءة التخفيف والتثقيل في النساء ، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياء بعد نون مكسورة ، وهي لغة هذيل ، وقيل تميم ، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة ، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية ، كقوله :
3994 - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً ... فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ
والياء بدل من إحدى النونين ( كَتَظَنَّيْتُ ) .
وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها ، ونسبت لهذيل . قال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها ، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 37 ] . « ذَانِكَ » إشارة إلى العصا واليد ، وهما مؤنثتان ، وإنما ذكَّر ما أشير به إليهما لتذكير خبرهما وهو « بُرْهَانَان » ، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة { إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] فيمن أَنَّثَ ونثب « فِتْنَتُهُمْ » وكذا قوله :
3995 - وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ الغَدْرُ ... وتقدم إيضاح هذا في الأنعام . والبرهان تقدم اشتقاقه ، وهو الحجة ، وقال الزمخشري هنا : فإنت قُلتَ : لم سميت الحجةُ برهاناً؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم ( للمرأة البياض ) برهرهة ، بتكرير العين واللام ، والدليل على زيادة النون قولهم أَبْره الرجلُ إذا جاء بالبرهان ، ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السَّليط وهو الزيت لإنارتها .
قوله « إلَى فِرْعَوْنَ » متعلق بمحذوف ، فقدره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون ، وغيره : اذْهَب إلى فرعون ، وهذا المقدر ينبغي أن يكون حالاً من « بُرْهَانَانِ » أي : مرسلاً بهما إلى فرعون ، والعامل في هذه الحال ما في اسم الإشارة .
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } اعلم أنه تعالى لمَّا قال : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ القصص : 32 ] تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه ، فعند ذلك طلب من يقوِّي قلبه فقال : { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } ، لأنه كان في لسانه حبسة إما في أصل الخلقة وإما لأنه وضع الجمرة في فيه عندما ( نتف لحية ) فرعون .
قوله « هُوَ أَفْصَحُ » الفصاحة لغةً الخلوصُ ، ومنه : فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ ، أي : خلُصَ من الرِّغوة ، ومنه قولهم :
3996 - وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ ... ومنه : فصُحَ الرَّجُلُ جادت لغته ، وأفصح : تكلَّم بالعربية ، وقيل : بالعكس ، وقيل : الفصيح ، الذي ينطق ، والأعجم : الذي لا ينطق ، ومنهذا استعير أَفصحَ الصُّبحُ ، أي : بَدَا ضوؤُهُ ، وأفصح النصراني : دنا فصحُه بكسر الفاء ، وهو يعد لهم .
وأما في اصطلاح أهل البيان ، فهو خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف ، كقوله : تَرَعَى الهُعْخُعَ ، ومن الغرابة كقوله :
3997 - وَمَرْسِناً مُسَرَّجَا ... ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله :
3998 - العَلِيِّ الأَجْلَلِ ... وخلوص الكلام منن ضعف التأليف كقوله :
3999 - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ... ومن تنافر الكلمات كقوله :
4000 - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ ... وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
ومن التعقيد وهو إما إخلال نظم الكلامفلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه ، كقوله :
4001 - وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً ... أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه
وإما عدم انتقال الذهب من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله :
4002 - سَأَطْلُبُ بَعْدَ الدَّارَ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ... وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا
وخلوص ( المتكلم من ) النطق بجميع ذلك ، فصارت الفصاحة يوصف بها ثلاثة أشياء : الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ ، بخلاف البلاغة فإنه لا يوصف بها إلا الأخيران ، وهذا ليس ( موضع ) إيضاحه وإنما ذكرناه تنبيهاً على أصله ، ولساناً : تمييز .
قوله « رَِدْءاً » ( منصوب ) على الحال ، والرِّدْءُ : العَوْنُ وهو فعل بمعنى مفعول كالدِّفْ بمعنى المدفوء به ، وَرَدَأتُهُ على عدوه أي : أَعنتُهُ عليه ، وردأْتُ الحائط : دعمتُهُ خشبةٍ لِئلاً يسقط ، وقال النحاس : يقال : رَدَأْتُهُ وَأَرْدَأْتُهُ ، وقال سلامة بن جندل :
4003 - وَرِدْئِي كل أَبْيَضَ مَشْرَفيٍّ ... شَحِيذَ الحدِّ أبيض ذِي فُلُولِ
وقال آخر :
4004 - ألم تر أنَّ َصْرَمَ كان رِدْئِي ... وَخَيْرُ النَّاسِ في قُلٍّ ومَالِ
وقرأ نافع بغير همزة « رِداً » بالنقل ، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينوِّنْه ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ونافع ليس من قاعدته النقل في كلمة إلاَّ هُنا ، وقيل : ليس نَقْلٌ وإنما هو من أردى على كذا ، أي : زَادَ ، قال :
4005 - وَأَسْمَرَ خَطِّيّاً كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعاً على العَشْرِ
أي : زاد ، وأنشده الجوهري ( قد أَرْبَى ) ، وهو بمعناه .
قوله : « يُصَدِّقُنِي » قرأ حمزة وعاصم بالرفع على الاستئناف أو الصفة ل « رِدْءاً » أو الحال من ( هاء ) « أَرْسِلْهُ » ، أو من الضمير في « رِدْءاً » ، أي : مصدِّقاً ، والباقون بالجزم جواباً للأمر ، وزيد بن علي وأُبيّ « يُصَدِّقُونِي » ، أي : فرعون وملأه ، قال ابن خالويه : هذا شاهد لِمَنْ جزم ، لأنه لو كان رفعاً ، لقال : « يُصَدِّقُونَنِي » . يعني بنونين ، وهذا سهو من ابن خالويه ، لأنه متى اجتمعت نون الرفع مع نون الوقاية جازت أوجه : أحدها : الحذف ، فهذا يجوز أن يكون مرفوعاً ، وحذفت نونه ، فمن رفع القاف فالتقدير ردءاً يصدقين ، ومن جزم كان على معنى الجزاء ، يعني : إن أرسلته صدَّقني ، ونظيره : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5 - 6 ] ، وروى السُّدِّي عن بعض شيوخه : { رداءاً كَيْمَا يُصَدِّقني } .
والتصديق لهارون في قول الجميع ، وقال مقاتل : لكي يُصدِّقنِي فرعون { إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } يعني فرعون وقومه ، وقال ابن الخطيب : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول الناس : صَدَقَ مُوسَى ، وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوه الدلائلِ ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ } ، وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا مجرد قوله : « صَدقت » .
فصل
قال السُّدِّيّ : إنَّ نبيَّيْن وآيتين أقوى من نبيٍّ واحدٍ وآية واحدة قال القاضي : والذي قاله من جهة العادة أقوى ، فأمَّا مِنْ حيث الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين .
قوله « عَضُدَكَ » العامة على فتح العين وضم الضاد ، والحسن وزيد بن علي ( بضمهما ) وعن الحسن بضمة وسكون ، وعيسى بفتحهما ، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد ، وفيه لغة سادسة فتح العين وسكون الضاد ، وهذا كناية عن التقوية له بأخيه وكان هارون يومئذ بمصر .
قوله { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي : حُجَّةً وبرهاناً { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } . فإن قيل : بيَّن تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات ، أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة؟ فإن كانت هذه الآيات ظاهرة فالجواب : أن الآية التي هي قلب العصا حيَّة كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون ، لأنهم علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة ، وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهُم ذلك عن الإقدام عليها ، فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة وجمعت بين الأمرين ، وأما صلب السَّحرة ففيه خلاف ، فقيل : إنهم ما صُلِبوا ، وليس في القرآن ما يدل على ذلك ، وإن سلم فوصول الضرر لغيرهما لا يقدح في عدم الوصول إليهما .
قوله : « بآياتِنَا » يجوز فيه أوجه أن يتعلق ب « نَجْعَلُ » أو ب « يَصِلُونَ » أو بمحذوف أي : اذهبا ، أو على البيان فيتعلق بمحذوف أيضاً ، أو ب « الغَالِبُونَ » على أن ( أل ) ليس موصولة أو موصُولة ، واتِّسع فيه ما لا يتسع في غيره ، أو قسمٌ وجوابه متقدم ، وهو « فَلاَ يَصِلُونَ » ، أو من لغو القسم ، قالهما الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن جواب القسم لا تدخله الفاء عند الجمهور . ويريد : بلغو القسم أن جوابه محذوف أي : وحقّ آياتِنَا لَتَغْلِبُنَّ ، ثم قال : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } أي : لكما ولأتباعكما الغلبة .
قوله : { فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } واضحات وقد تقدم كيفية إطلاق لفظ الآيات - وهو جمع - على العصا واليد في سورة طه . { قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } مختلق ، ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم ، وهو قولهم { وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } أي : ما حُدِّثنا بهذا الذي تدعونا إليه .
قوله : « وقَالَ مُوسَى » هذه قراءة العامة بإثبات واو العطف ، وابن كثير حذفها . وكل وافق مصحفه ، فإنها ثابتة في المصاحف غير مصحف مكة؛ وإثباتها وحذفها واضحان ، وهو الذي يسميه أهل البيان : الوَصْلُ والفَصْلُ . قوله { ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ } بالمحق من المبطل .
قوله : « وَمَنْ تَكُونُ » قرأ العامة « تكون » بالتأنيث ، و « لَهُ » خبرها ، و « عَاقِبَةُ » اسمها ، ويجوز أن يكون اسمها ضمير القصة ، والتأنيث لأجل ذلك .
و { لَهُ عَاقِبَةُ الدار } جملة في موضع الخبر ، وقرىء بالياء من تحت على أن تكون « عَاقِبَةُ » اسمها ، والتذكير للفصل ، ولأنه تأنيث مجازي ، ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن ، والجملة خبر كما تقدم ، ويجوزُ أن تكون تامة وفيها ضمير يرجع إلى « مَنْ » والجملة في موضع الحال ، ويجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير « مَنْ » والجملة خبرها ، والمعنى : « مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ » أي : العاقبة المحمودة في الدار الآخرة لقوله تعالى : { أولئك لَهُمْ عقبى الدار جَنَّاتٌ عَدْنٍ } [ الرعد : 22 - 23 ] ، والمراد من الدار : الدُّنيا . وعاقبتها وعقباها أنْ يُخْتَم للعبد بالرحمة والرضوان ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } ، أي : الكافرون .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
قوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } فتضمن كلامه نفي إلهيَّة غيره وإثبات إلهية نفسه ، { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين } فاطبخ لي الآجُرَّ ، قيل : إنَّه أول من اتخذ الآجُرَّ وبنَى به ، { فاجعل لِّي صَرْحاً } أي : قصراً عالياً . وقيل : منارة ، واختلفوا في ذلك فقيل : إنه بَنَاه حتى بلغ ما لَمْ يبلغه بنيان أحد من الخلق ، وإنه صَعدَ وَرَمَى بسهم وأن السهم عاد إليه ملطخاً بدم ، وبعث الله جبريل عليه السلام فضربه بجناحة فقطعه ثلاث قطع ، وقيل : إنه لم يَبْن الصرح لأنه يبعد في العقل أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأنّ مَنْ عَلاَ أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها وهو في قرار الأرض ، ومن شكَّ في ذلك خرج عن حد العقل ، وهذا القول في أنه رمى السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من الخائبين ، ولا يليق بالعقل ، وإنما قال ذلك على سبيل التهكم .
قوله : { لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى } أنظر إليه . والطُّلوع والاطِّلاع واحد ، يقال طَلَعَ الجبل واطَّلَعَ واحد ، « وَإِنِّي لأَظنُّهُ » يعني موسى « من الكاذبين » في زعمه أنَّ للأرض والخلق إلهاً غيري وأنه رسوله . { واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } واعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى ، وهو المتكبر في الحقيقة ، قال عليه السلام فيما حكاه عن ربه « الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي والعَظَمَةُ إزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي واحداً مِنْهُمَا ألقيته في النَّار » وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق .
قوله : « بِغَيْرِ الحَقِّ » جحال ، أي : استكبروا متلبسين بغير الحق ، { وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } قرأ نافع والأخوان ويعقوب « يَرْجِعُونَ » مبنياً للفاعل ، والباقون للمفعول .
قوله : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } وهذا من الكلام المفحم الذي يدل على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه ، شبههم - استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم - وإن كانوا الجم الغفير - كحصيات أخذهن آخذ في كفه وطرحهُنَّ في البحر ، ونحو ذلك قوله { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } [ المرسلات : 27 ] { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [ الحاقة : 14 ] { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] . وليس الغرض منها إلا تصوير أنَّ كلَّ مقدور وإن عظم فهو حقير بالنسبة إلى قدرته { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين } . قوله : « وَجَعَلْنَاهُمْ » أي : صيَّرَنَاهُم وقال الزمخشري : دعوناهم ، كأن فر من نسبة ذلك إلى الله تعالى ، أعني : التصيير لأنه لا يوافق مذهبه ، ويدعون صفة ل « أَئِمَّة » وقال الجبائي : وجعلناهم : أي بيَّنا ذلك من حالهم وسميناهم به ، ومنه قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم ، فلما عجَّلل الله لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من الكافرين .
ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة ، وإنما جعلهم الله أئمةً في هذا الباب ، لأنهم بلغوا في هذا الباب إلى أقصى النهايات ومن كان كذلك استحق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب .
قوله : { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } لا يمنعون من العذاب ، كما تنصر الأئمة الدعاة إلى الجنة ، { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } خزياً وعذاباً .
قوله : « وَيَوْمَ القِيَامَةِ » فيه أوجه :
أحدها : أن تتعلق ب « المَقْبُوحِينَ » على أن ( أل ) ليست موصولة أو موصولة واتسَّع فيه ، وأن تتعلق بمحذوف يفسره « المَقْبُوحِينَ » ، كأنه قيل : « وقبِّحُوا يوم القيامة ، نحو : { لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء : 168 ] ، أو يعطف على موضع » في الدُّنْيَا « ، أي : أتبعناهم لعنة يوم القيامة . أو معطوفة على » لَعْنَة « على حذف مضاف ، أي : ولعنتةً يوم القيامة .
والوجه الثاني أظهرهما : والمَقْبُوحُ ، المطرود قبحه الله : طرده ، قال :
4006 - أَلاَ قَبَّحَ اللَّهُ الَراجِمَ كُلَّهَا ... وَجَدَّعَ يَرْبُوعاً وَعَفَّرَ دَارِمَا
وسُمِّي ضد الحسن قبحاً لأنَّ العين تنبو عنه ، فكأنها تطرده ، يقال : قبح قباحةً ، وقيل : » مِنْ المَقْبُوحِينَ « : من الموسومين بعلامة منكرة ، كزرقة العيون وسواد الوجوه ، قاله ابن عباس ، يقال : قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه ، إذا جعله قبيحاً ، قال الليث : قَبَحَهُ المرفق ، وقال أبو عبيدة : » مِنَ المَقْبُوحِينَ « من المهلكين .
قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والمراد بالكتاب : التوراة ، بيَّن تعالى أنَّ الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى ، ووصفه بأنه بصائر للنَّاس من حيث يستبصر به في باب الدين .
قوله : » بَصَائر « يجوز أن يكون مفعولاً له ، وأن يكون حالاً إما على حذف مضاف أي : ذا بصائر ، أو على المبالغة ، و » هُدًى « من حيث يستدل به ، ومن حيث أن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب ، ووصفه بأنه » رَحْمَةً ، لأنه من نعم الله على من تعبد به .
روى أبو سعيد الخدري « عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما أهلك الله قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها الله قردةً » وقوله « لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ » بما فيه من المواعظ والبصائر .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي } ( قال قتادة والسدي : وما كنت بجانب الجبل الغربي ) فيكون من حذف الموصوف ، وإقامة صفته قيامه أو أن يكون من إضافة الموصوف لصفته ، وهو مذهب الكوفيين ، ومثله : بَقْلَةُ الحَمْقَاءِ ، وَمَسْجِدُ الجَامِع .
قوله : { إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } أي : عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه ، والمعنى : وما كنت الحاضر المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على الوحي إليه وهم نقباؤه الذي اختارهم للميقات . فإن قيل : لمَّا قال : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي } ثبت أنه لم يكن شاهداً ، لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً فما الفائدة في إعادة قوله : { وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } .
فالجواب : قال ابن عباس التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع ، فإنه يجوز أن يكون هناك ، ولا يشهد ولا يرى .
قوله : { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً } وجه الاستدراك أن المعنى : وَمَا كُنْتَ شَاهِداً لموسى وما جرى عليه ولكِنَّا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاراته ، فإن هذا الاستدراك هو شبيه بالاستداركين بعده ، قاله الزمخشري ، وهذا تنبيه على المعجز ، كأنه قال : إن في إخبارك بهذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالةً ظاهرةً على نبوتك كقوله : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى } [ طه : 133 ] ؟
قوله : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } أي : مقيماً ، يقال : ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً وثُوِياً ، فهو ثاوٍ ومثويّ ، قال ذو الرمة .
4007 - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُه ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأْمُ سائِمُ
وقال :
4008 - طَالَ الثَّوَاءُ عَلَى رَسُولِ المَنْزِلِ ... وقال العجاج :
4009 - وَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ ... يعني الضيف المقيم .
قوله : « تَتْلُوا » يجوز أن يكون حالاً من الضمير في « ثَاوِياً » ، وأن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون هو الخبر ، و « ثَاوِياً » حال وجعله الفراء منقطاً مما قبله . أي : مستأنفاً كأنَّه قيل : وها أنت تتلو على أمَّتك ، وفيه بعد .
فصل
المعنى : { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً } خلقنا أمماً من بعد موسى { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر } أي : طالبت عليهم المهملة ، فنسوا عهد الله وتركوا أمره ، وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عوداً في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون من بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها ، « وَمَا كُنْتَ » مقيماً { في أَهْلِ مَدْيَنَ } كمقام موسى وشعيب فيهم { تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } تذكرهم بالوعد والوعيد .
قال مقاتل : يقول لم شتهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } في كل زمان رسولاً يعني : أرسلناك رسولاً ، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ، ولم تخبرهم بها ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور } بناحية الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى « إذْ نَادَيْنَا » أي : نادينا موسى : خذ الكتاب بقوَّةٍ .
وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم : ( يا أمة محمدٍ أجبتكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل تستغفروني ) ، قال : وإنما قال ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه . وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد قال موسى : يا رب أرني محمداً ، قال : إنك لن تصل إلى ذلك ، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا رب ، قال الله تعالى : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب آبائهم .
قوله : { ولكن رَّحْمَةً } أي : أَرْسَلْنَاكَ رَحْمَةً ، أو أعلمناك بذلك رحمةً ، أو لكن رحمناك رحمة بإرسالك وبالوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك .
وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة : « رَحْمَةٌ » بالرفع ، أي : أنت رحمة .
قوله : { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } في موضع الصفة ل « قَوْماً » ، والمعنى : لتنذر أقواماً ما أتاهم من نذير من قبلك ، يعني أهل مكة ، « لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ » .
قوله : { ولولاا أَن تُصِيبَهُم } هي الامتناعية ، و ( أنْ ) وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء ، أي : ولولا أصابتهم مصيبة ، وجوابها محذوف ، فقدره الزجاج : ما أرسلنا إليهم رسلاً . يعني أن الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول ، فهو كقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] ، وقدره ابن عطية : لعاجلناهم ، ولا معنى لهذا . « فَيَقُولُوا » عطف على « تصيبهم » و « لَوْلاً » الثانية تحضيض ، و « فنتبع » جوابه ، فلذلك نصب بإضمار « أَنْ » .
قال الزمخشري : فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب ، لا القول لدخول حرف الامتناع عليه دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها ( لولا ) ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السبب ، ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم عاينوا ما الجئوا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لما يقولوا : لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً . بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقال لا غير التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم ، وهو كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
قوله : « فَلَمَّا جَاءَهُمْ » يعني محمداً الحق من عندنا قالوا يعني كفار مكة ( لَوْلاَ ) هلاَّ « أُوتِيَ مُحَمَّدٌ » مثل ما أُوتِيَ موسى من الآيات كاليد البيضاء ، والعصا ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وانفجار الحجر بالماء والمنِّ والسَّلْوَى وكلام الله وغيرها .
وقيل : مثل ما أُوتي موسى كتاباً جملةً واحدةً . قال الله عزّ وجلّ : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } ، واختلفوا في الضمير في قوله : أَوَ لَمْ يَكْفُرَوا ، فقيل : إن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أُوتِيَ مُوسَى - عليه السلام - فقال تعالى : « أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا » هؤلاء اليهود { بِمَآ أُوتِيَ موسى } بجميع تلك الآيات الباهرة؟ وقيل : إنّ الذين اقترحوا هذا هم كفار مكة ، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمن موسى إلاَّ أنه تعالى جعله كالشيء الواحد ، لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد . وقال الكلبي : إنَّ مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة يسألونهم عن محمد وشأنه ، فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجع الرَّهط وأخبروهم بقول اليهود ، وقالوا : إنَّه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر ، فقال تعالى في حقهم : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } .
وقال الحسن : كان للعرب أصل في أيام موسى - عليه السلام - فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم ، وقالوا : موسى وهارون ساحران ، وقال قتادة : أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد فقالوا ساحران ، وقيل : إن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول معجزات موسى - عليه السلام - قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } ، بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل ، أي : لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت ، ثم حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى ، وهو قولهم « سَاحِرَانِ تَظَاهَرا » .
قوله : « مِن قَبْلُ » إمَّا أن يتعلق ب « يَكْفُرُوا » ، أو ب « أُوتِيَ » أي من قبل ظهورك .
قوله : « سَاحِرَانِ » قرأ الكوفيون « سِحْرَان » أي هما ، أي : القرآن والتوراة ، أو موسى وهارون ، وذلك على المبالغة ، جعلوهما نفس السحر ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوا سِحْرَين ، ولو صحَّ هذا لكان ينبغي أن يفرد سحر ، ولكنَّه ثني تنبيهاً على التنويع ، وقيل المراد : موسى ومحمد - عليهما السلام - أو التوراة والإنجيل ، والباقون : « سَاحِرانِ » أي : موسى وهارون أو موسى ومحمد كما تقدم .
قوله : « تَظَاهَرَا » العامة على تخفيف الظاء فعلاً ماضياً صفة ل « سِحْرَان » أو « سَاحِرَانِ » أي : تعاوَنَا .
وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذَّمَّاري وأبو حيوة واليزيدي بتشديدها ، وقد لحنهم الناس ، قال ابن خالويه تشديده لحن ، لأنه فعل ماض ، وإنَّما يُشَدَّد في المضارع ، وقال الهذلي : لا معنى له ، وقال أبو الفضل : لا أعرف وجهه . وهذا عجيب من هؤلاء ، وقد حذفت نون الرفع في مواضع حتى في الفصيح كقوله عليه السلام : « لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابّوا » ولا فرق بين كونها بعد واو ، أو ألف ، أو ياء ، فهذا أصله تتظاهر أن فأدغم وحذفت نونه تخفيفاً ، وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبد الله « اظَّاهَرا » بهمزة وصل وشد الظاء وأصلها تظاهرا كقراءة العامة ، فلما أريد الإدغام سُكِّن الأول فاجتلبت همزة الوصل ، واختار أبو عبيدة القراءة بالألف ، لأن المظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منها بأن المراد الكتابين ، لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا ، كما يقال : تظاهرت الأخبار .
قوله : { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء ، وهذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين إلا باليهود ، ثم قال : قل لهم يا محمد : { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ } يعني من التوراة والقرآن ، وهو مؤيد لقراءة « سِحْرَانِ » أو من كتابيهما على حذف مضاف ، وهو مؤيد لقراءة « سَاحِرَان » ، « أتَّبِعْهُ » ، وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله .
قوله : « أتَّبِعْهُ » جواب للأمر وهو : « فَأْتُوا » ، وقرأ زيد بن علي أَتَّبِعُهُ بالرفع استئنافاً ، أي : فأنا أتبعه .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } استجاب بمعنى أجاب ، قال ابن عباس : يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج ، وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما ، وهذا أشبه بالآية ، قال الزمخشري : فإن قلت ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية وبينه في قوله :
4010 - فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ... حيث عدِّي بغير لام؟ قلت : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب ، فيقال : استجاب الله دعاءه أو : استجاب به ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه ، وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاءه على حذف المضاف . وقد تقدم تقرير هذا في البقرة ، وأنَّ استجاب بمعنى أجاب ، والبيت الذي أشار إليه هو :
4011 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يجِيبُ إلى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
والناس ينشدونه على تعدِّيه بنفسه ، فإن قيل : الاستجابة تقتضي دعاء ، فأين الدعاء هنا؟ قيل : « فَأتُوا بِكِتَابٍ » أمر ، والأمر دعاء إلى الفعل ، وقال : { فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } أي صاروا ملتزمين طريقه ، ولم يبق شيء إلا اتباع الهوى ، ثم زيّف طريقهم بقوله : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى } وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول } العامة على تشديد « وَصّلْنَا » إما من الوصل ضد القطع أي : تابعنا بعضه ببعض . قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً ، وأصله من وصل الحبل ، قال :
4012 - فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ ما بَالُ ذِمَّتِي ... بِحَبْلٍ ضَعيفٍ لاَ يَزَالُ يُوصَّلُ
وإمّا : جعلناه أوصالاً أي : أنواعاً من المعاني - قاله مجاهد - وقرأ الحسن بتخفيف الصاد وهو قريب مما تقدم ، قال ابن عباس ومقاتل : وَصَّلْنَا : بيَّنا لكفار مكة - بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية - كيف عذبوا بتكذيبهم ، وقال ابن زيد : وصلنا لهم القول : خبر الدنيا بخبر الآخرة ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا « لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ » ، ثم لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } .
قوله : « الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ » مبتدأ و « هُمْ » مبتدأ ثان و « يُؤْمِنُونَ » خبره ، والجملة خبر الأول ، و « بِهِ » متعلق ب « يُؤْمِنُونَ » ، وقد يُعَكِّرُ على الزمخشري وغيره من أهل البيان ، حيث قالوا : التقديم يفيد الاختصاص وهنا لا يتأتى ذلك ، لأنهم لم خصُّوا إيمانهم بهذا الكتاب فقط لزم كفرهم بما عداه وهو عكس المراد وقد أبدى أهل البيان هذا في قوله : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] فقالوا : لو قدِّم « به » لأوهم الاختصاص بالإيمان بالله وحده دون ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وهذا بعينه جارٍ هنا ، والجواب : أن الإيمان بغيره معلوم فانصبَّ الغرض إلى الإيمان بهذا .
فصل
قوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ } أي من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل : من قبل القرآن { هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } ، قال قتادة : نزلت في ( أناسٍ من ) أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مقاتل : هم أصحاب السفينة الذين قدموا من الحبشة أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال سعيد بن جبير : قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله الله عليه وسلم لما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبيَّ الله إن لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } إلى قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ، وعن ابن عباس قال : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ، وقال رفاعه : نزلت في عشرة أنا أحدهم : وصفهم الله فقال : { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } يعني : القرآن ، قالوا : { قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } ، وذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، أي كنا من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله التوحيد مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي حق .
قوله : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } منصوب على المصدر ، و « بِمَا صَبَرُوا » ما مصدرية والباء متعلق ب « يؤتون ( أَوْ بنفس الأجر . ومعنى » مَرَّتَيْنِ « أي : بإيمانهم بمحمد قيل بعثته ، وقيل : يُؤْتَوْن أَجْرَهُمْ ) مرتين لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، وقيل : لإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل محمد - عليه السلام - ومرَّة بإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال مقاتل : لما آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - شتمهم المشركون ، فصفحوا عنهم فلهم أجران ، أجر على الصفح وأجر على الإيمان ، وقوله » بِمَا صبَرُوا « أي على دينهم ، قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسْلَمُوا فأوذُوا .
قوله : { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } أي بالطاعة المعصية المتقدمة ، قال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، وقال مقاتل : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو ، وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون ، في الطاعة . قوله : وإذا سمعوا اللَّغو وهو القبيح من القول أعرضوا عنه ، وذلك أن المشركين كانوا يسبُّون مؤمني أهل الكتاب ، ويقولون تبّاً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردّون عليهم ، { وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } ، لنا ديننا ولكم دينكم ، { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } ، ليس المراد سلام التحية ولكنه سلام المتارك ، ومعناه : سَلِمْتُمْ مِنَّا لا نعارِضُكُمْ بالشتم والقبح ، ونظيره { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . ثم أكد ذلك تعالى بقوله حاكياً عنهم { لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } ، أي : دين الجاهلين ، أي : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه ، وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه ، قيل : نسخ ذلك بالأمر بالقتال ، وهو بعيد ، لأن ترك المسافهة مندوب ، وإن كان القتال ( واجباً ) . والله أعلم .
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : أحببت هدايته ، وقيل : أحببته لقرابته ، قال المفسرون : « نزلت في أبي طالب قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قل : لا إلَه إلاَّ الله أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لولا أن تعيِّرني قريش ، تقول : إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك » ، فأنزل الله هذه الآية .
فصل
قال في هذه الآية : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } ، وقال في آية أخرى { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، ولا تنافي فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة ، والذي نفاه عنه هداية التوفيق وشرح الصدور ، وهو نور يقذف في القلب فيجيء به القلب كما قال سبحانه { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } [ الأنعام : 122 ] . :
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال ، فقالوا : قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من الهداية في قوله { إنَّكَ لاَ تَهْدِي } شيئاً ، وفي قوله : { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } شيئاً آخر لاختلّ النظم ، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الأدلة والدعوة إلى الجنة ، أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة على سبيل الإلجاء ، ( أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء ) لا جائز أن يكون المراد ( بيان الأدلة ، لأأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير ) الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة ، وأما الهداية بمعنى تعريف الجنة فهي أيضاً غير مرادة ، لأنه تعالى علَّق هذه الهداية على المشيئة . فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يقول أعطي عشرة دنانير إن شئت ، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز . لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف ، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان ، ومستلزم المحال محال ، فذلك محال من الله والمحال لا يجوز تعليقه على المشيئة ، ولما بطلب الأقسام لم يبق إلاَّ أن المراد أنه تعالى يخصُّ البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الانبياء : 3 ] وإذا أورد الكلام على هذا الوجه سقط ما أورد القاضي عذرا عن ذلك .
قوله : { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي ومن لا يهتدي ، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم : إن نَتَّبع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أرْضِنَا ، قال المبرد : الخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّا لنعلم أنَّ الذي تقوله حقٌّ ولكنا إن اتَّبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة ، فأجاب الله عنه من وجوه الأول : قوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } ، أي أعطاكم مسكناً لا خوف لكم فيه ، إما لأن العرب يحترمون الحرم ولم يتعرضوا لسكانه ، فإنه يروى أن العرب خارجة الحرم كانوا لا يتعرَّضون لساكن الحرم .
قوله : « نُتَخَطَّفُ » العامة على الجزم جواباً للشرط ، والمنقريّ بالرفع ، على حذف الفاء ، كقوله :
4013 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وكقراءة « يُدْرِكُكُمْ » بالرفع ، أو على التقديم وهو مذهب سيبويه .
قوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } قال أبو البقاء عدَّاه بنفسه لأنه بمعنى « جَعَل » وقد صرحَّ به في قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] و « مَكَّنَ » متعد بنفسه من غير أن يضمَّن معنى « جَعَلَ » كقوله « مَكَّنَّاهُمْ » ، وتقدم تحقيقه في الأنعام وآمنا قيل بمعنى مؤمن أي : يؤمن من دخله ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : آمناً أهله ، وقيل فاعل بمعنى النسب أي ، ذا أمن .
قوله : « يُجْبَى » قرأ نافع بتاء التأنيث مراعاة للفظ ثمرات ، والباقون بالياء للفصل ولأن تأنيثه مجازي والجملة صفة ل « حَرَماً » أيضاً ، وقرأ العامة « ثَمَرَاتُ » بفتحتين وأبان بضمتين جمع ثُمُر بضمتين ، وبعضهم بفتح وسكون .
قوله : « رِزقاً » إن جعلته مصدراً جاز انتصابه على المصدر المؤكِّد ، لأن معنى « يُجبَى إليه » يرزقهم وأن ينتصب على المفعول له ، والعامل محذوف ، أي يسوقه إليه رزقاً ، وأن يكون في موضع الحال من « ثَمَراتٍ » لتخصصها بالإضافة ، ( كما ينتصب عن النكرة المخصصة ) ، وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من « ثَمَرات » ومعنى « يُجْبَى » ، أي يجلب ويجمع ، يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته قال مقاتل : يحمل إلى الحرم { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ما نقوله حق .
قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } أي : من أهل قرية « بَطِرَتْ معيشتها » ، قال الزمخشري : البطر سوء احتمال الغنى ، وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى ، وانتصب « مَعِيشَتهَا » إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، أو بتقدير حذف ظرف الزمان ، أصله : بطرت أيَّام معيشتها ، وإما بتضمين « بَطِرَتْ » معنى كفرت أو خسرت أو على التمييز أو على التشبيه بالمفعول به ، وهو قريب من « سَفِهَ نَفْسَه » . قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله ، وعبدوا غيره .
قوله : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } قال ابن عباس لم يسكنها إلا المسافرون ، ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة .
معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً يسيراً قليلاً ، وقيل : لم يعمَّر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، فقوله : « لَمْ تُسْكَنْ » جملة حالية ، والعامل فيها معنى تلك ، يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، و « إلا قليلاً » أي : إلا سكنى قليلاً ، أو إلا زماناً قليلاً ، أو إلا مكاناً قليلاً . { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } . كقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] .
قوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ } يعني القرى الكافرة أهلها حتى نبعث في أمِّها رسولاً ، أي في أكثرها وأعظمها رسولاً ينذرهم وخصّ الأعظم ببعثة الرسول فيها لأن الرسول يبعث إلى الأشراف ، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما حونلها ، وهذا بيان لقطع عذرهم ، لأن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم ، فوجب ألا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة .
وقوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : يؤدّي ويلِّبغ ، قال مقاتل : يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا ، { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } : مشركون أي : أهلكهم بظلمهم ، وأهل مكة ليسوا كذلك ، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم قد علم الله منهم أنَّهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يؤمن .
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
قوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا } ، أي فهو متاع ، وقرىء فمتاعاً الحياة بنصب « مَتَاعاً » على المصدر ، أي : يتمتَّعون متاعاً ، « والحَيَاةَ » نصب على الظرف ، والمعنى : يتمتعون بها أيام حياتهم ثم هي إلى فناء وانقضاء { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى } ، هذا جواب عن شبهتهم فإنهم إن قالوا تركنا الدِّين لئلا تفوتنا الدنيا ، فبيَّن تعالى أن ذلك خطأ عظيم ، لأن ما عند الله خيرٌ وأبقى ( أمَّا أنَّه خير ) فلوجهين : الأول : أن المنافع هناك أعظم ، والثاني : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار ، بل المضار فيها أكثر ، وأما أنَّها أبقى ، فلأنها دائمة غير منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بذلك أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة ، فلا جرم نبه على ذلك فقال : « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » أن الباقي خيرٌ من الفاني يعني أن من لا يرجح الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ، ورحم الله الشافعي حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله - تعالى - لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلين بالطاعة ، فكأنه رحمه الله إنما أخذه من هذه الآية . وقرأ أبو عمرو « أَفَلاَ يَعْقِلُونَ » بالياء من تحت التفاتاً ، والباقون بالخطاب جرياً على ما تقدم .
قوله : « َفَمَنْ وَعَدْنَاهُ » قرأ طلحة « أَمَنْ وَعَدْنَاهُ » بغير فاء « وَعْداً حَسَناً » يعني الجنة « فَهُوَ لاَقِيهِ » مصيبة ومدركه وصائرٌ إليه { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا } وتزول عن قريب { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } النار ، وقرأ الكسائي وقالون : « ثُمَّ هُوَ » بسكون الهاء إجراءً لها مجرى الواو والفاء ، والباقون بالضم على الأصل ، وتخصيص لفظ « المُحْضَرِينَ » بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن ، قال تعالى { لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 57 ] { فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 127 ] وفي اللفظ إشعار به ، لأن الإحضار يشعر بالتكليف والإلزام ، وذلك لا يليق بمجالس اللذة ، وإنما يليق بمجالس الضرر والمكاره . قوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } في الدنيا أنهم شركائي وتزعمون أنها تشفع فتخلصكم من هذا الذي نزل بكم ، وتزعمون مفعولاه محذوفان أي : ( تزعمونهم شركاءه ) ، { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي : وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة وقيل : الشياطين .
أحدهما : أن هؤلاء مبتدأ ، والَّذِينَ أَغْوَيْنَا صفته والعائد محذوف ، أي أغويناهم ، والخبر « أَغْوَيْنَاهم » ، و « كَمَا غَوَيْنَا » نعت لمصدر محذفو ، ذلك المصدر مطاوع لهذا الفعل أي فغووا غيّاً كما غوينا ، قاله الزمخشري ، وهذا الوجه منعه أبو علي ، قال : لأنه ليس في الخبر زيادة فائدة على ما في صفته ، قال : فإن قلت : قد أوصل بقوله كما غوينا وفيه زيادة ، قلت : الزيادة في الظرف لا يصيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظرف صلاتٌ ، ثم أعرب هو « هَؤُلاَء » مبتدأ و « الَّذِينَ أَغوَيْنَا » خبره ، و « أغْوَيَنْاهم » مستأنف ، وأجاب أبو البقاء وغيره عن الأول بأن الظرف قد يلزم كقولك زيدٌ عمرو في داره .
فصل
المعنى : هؤلاء الذين دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أضللناهم كما ضلننا « تَبَرَّأنَا إلَيْكَ » منهم .
قوله : { مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } إيَّانَا مفعول « يَعْبُدونُ » قُدِّم لأجل الفاصلة وفي « ما » وجهان :
أحدهما : هي نافية ( أي تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ) .
والثاني : مصدرية ولا بدَّ من تقدير حرف جرٍّ أي : تبرأنا مما كانوا أي من عبادتهم إيانا ، وفيه بعدٌ .
قوله : { وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ } أي : وقيل للكافلين ادعوا شركاءكم ، أي : الأصنام لتخلصكم من العذاب « فَدَعَوْهُمْ » ( فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا ) لَهُمْ لم يجيبوهم ، والأقرب أن هذا على سبيل التقريع ، لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم .
قوله : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ } جوابها محذوف أي : لما رأوا العذاب ، أو لدفعوه ، قال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروا في الآخرة ، وقيل : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أنَّ العذاب حق ، وقيل : لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب . وقيل قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قول { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ الشعراء : 201 ] قال ابن الخطيب : وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقديره وجوه :
أحدها : أن الله تعالى لما خاطبهم بقوله { ادعوا شُرَكَآءَكُمْ } فهاهنا يشتد الخوف عليهم ويصيرون بحيث لا يرون شيئاً ، فقال تعالى : { وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } شيئاً ولما صاروا من شدة الخوف لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب .
وثانيها : أن الله تعالى لما ذكر عن الشركاء وهم الأصنام الذين لا يجيبون الذين دعوهم ، قال في حقهم : { وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } مشاهدين العذاب ، وكانوا من الأحياء لاهتدوا ، ولكنها ليست كذلك ، فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل : قوله : « ورأوا العَذَابَ » ضمير لا يليق إلا بالعقلاء ، وكيف يصح عوده للأصنام ، قلنا : هذا كقوله : { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ، وإنما أورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا هاهنا .
وثالثها : أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب ، أي : والكفار علموا حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون ، قال : وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب « لو » محذوف ، فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية .
قوله : « وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ » أي : يسأل الله الكفار { مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } ، فعميت ، العامة على تخفيفها ، وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم ، وتقدمت القراءتان للسبعة في هود ، والمعنى : خفيت واشتبهت « عَلَيْهِم الأَنْبَاءُ » وهي الأخبار والأعذار ، وقال مجاهد : الحجج يومئذ فلا يكون لهم عذر ولا حجة ، فهم لا يستاءلون لا يجيبون وقال قتادة : لا يحتجون ، وقيل : يسكتون لا يسأل بعضهم بعضاً وقرأ طلحة « لا يسّاءلون » بتشديد السين على إدغام التاء في السين ، كقراءة { تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] .
فصل
قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان قول الجبرية ، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله ويجب وقوعه بالقدر والإرادة لما عميت عليهم الأنبا ولقالوا إنَّما كذَّبنا الرسل من جهة خلقك فينا بتكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى ظاهرة وكذلك القول فيما تقدم ، لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك فيّ الغواية ، والجواب : أنَّ علم الله بعدم الإيمان مع وجود الإيمان متنافيان لذاتهما ، فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمرنا بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمرنا بالجمع بين الضِّدين ، واعلم أنَّ القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والعقاب إلا يعيد استدلاله بها ، كما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف ، فكذا وجه جوابنا حرف واحد ، وهو كما ذكرنا .
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قوله : { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين } لمّا بيَّن حال المعذبين أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة ، وزجراً عن الثبات على الكفر ، وفي « عَسَى » وجوه :
أحدها : أنه من الكرام حقيق ، والله أكرم الأكرمين .
وثانيها : أنَّها للترجي للتائب وطمعه ، كأنه قال : فليطمع في الفلاح .
وثالثها : عسى أن يكونوا كذلك إذا داموا على التوبة والإيمان ، لجواز أن لا يدوموا .
قوله : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، يعني الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم .
قوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } فيه وجوه :
أحدها : أنَّ ما نافية ، فالوقف على « يَخْتَارُ » .
والثاني : ما مصدرية أي يختار اختيارهم ، والمصدر واقع موقع المفعول ، أي مختارهم .
الثالث : ان يكون بمعنى « الذي » والعائد محذوف ، أي ما كان لهم الخيرة فيه كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي منه ، وجوَّز ابن عطية أن تكون كان تامة ، ولهم الخيرة جملة مستأنفة ، قال : ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدَّرنا كان التامة ، أي : إن الله يختار كلَّ كائن ، ولهم الخيرة مستأنف معناه : تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا . وجعل بعضهم في كان ضمير الشأن ، وأنشد :
4014 - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ ... لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْم مَعْرُوفُ
ولو كان ذا اسمها لقال معروفاً ، وابن عطية منع ذلك في الآية ، قال : لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف ، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزيئها إلا أنَّ في هذا نظراً إن أراده ، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحداً يمنع : هو السلطان في البلد ، وهي الدار ، والخيرة : من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر ، وقال الزمخشري { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } بيان لقوله « وَيَخْتَارُ » ، لأن معناه : ويختار ما يشاء ولهذا لم يدخل العاطف ، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه .
قال شهاب الدين : لم يزل الناس يقولون : إن الوقف على « يَخْتَار » والابتداء بما على أنها نافية هو مذهب أهل السنة ، ونقل ذلك عن جماعة كأُبيٍّ وغيره ، وأن كونها موصولة متصلة « يَخْتَارُ » غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة ، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهراً وإن كان لا يريده ، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية ، قال : لئلا يكون المعنى : أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل ، وأيضاً فلم يتقدم نفي ، وهذا الذي قاله ابن جرير مرويّ عن ابن عباس ، وقال بعضهم : ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل ف « ما » على هذا واقعة على العقلاء .
فصل
إن قيل : « ما » للإثبات فمعناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير ، وإن قيل : ما للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] ثم قال منزِّهاً نفسه سبحانه وتعالى « عَمَّا يُشْرِكُونَ » أي : إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه { يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم « وَمَا يُعْلِنُونَ » من مطاعنهم فيه ، وقولهم : هلا اختير غيره في النبوة ، . ولما بيَّن علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال : { وَهُوَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة } ، وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات { لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة } وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة لأن الثواب غير واجب عليه بل يعطيه فضلاً وإحساناً ، و { لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة } ويؤكد قول أهل الجنة { الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] . { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] « ولَهُ الحُكْمُ » وفصل القضاء بين الخلق ، قال ابن عباس : حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء « وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ » أي : إلى حكمه وقضائه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً } الآية ، لما بيَّن بقوله { وَهُوَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه بما لا يقدر عليه سواه ، فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً } ، نبَّه بذلك على كون الليل والنهار نعمتان متعاقبتان على الزمان ، ووجهه أن المرء في الدنيا مضطرٌّ إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم ذلك إلا براحة وسكون بالليل ولا بد منها والحالة هذه ، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب ولا حاجة بهم إلى الليل ، ولذلك يدوم لهم الضياء واللذات ، فبيَّن بذلك أن القادر على ذلك ليس إلاّ الله فقال : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ » أخبروني يا أهل مكة { إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً } دائماً { إلى يَوْمِ القيامة } لا نهار معه { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } بنهار تطلبون فيه المعيشة « أَفَلاَ تَسْمَعُون » سماع فهم وقبول؟
قوله : أَرَأَيْتُم ، وجعل تنازعاً في « اللَّيْل » وأعمل الثاني ومفعول « أَرَأَيْتُمْ » هي جملة الاستفهم بعده والعائد منها على الليل محذوف تقديره : بضياء بعده ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدم تحرير هذا في الأنعام ، وسرمداً مفعول ثان إن كان الجعل تصييراً ، أو حال إن كان خلقاً وإنشاء ، والسَّرمد : الدائم الذي لا ينقطع قال طرفة :
4015 - لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ
والظاهر أن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل كجعفر ، وقيل : هي زائدة واشتقاقه من السَّرد ، وهو تتابع الشيء على الشيء ، إلا أنَّ زيادة الميم وسطاً وآخراً لا تنقاس نحو : دُلاَمِ ، وزُرْقُم ، من الدلاً والزُّرقة .
قوله : « إلَى يَوْمِ » متعلق ب « يَجْعَلَ » أو ب « سَرْمَداً » أو بمحذوف على أنه صفة ل « سَرْمَداً » وإنما قال : « أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » ، « أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » ، لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر ، فلما لم ينتفعوا أنزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر ، قال المفسِّرون : « أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » سماع فهم « أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » ما أنتم عليه من الخطأ والضلال .
وقال الزمخشري : فإن قيل هلاَّ قيل بنهار يتصرَّلإون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه ، قلنا : ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق بها متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ، وإنما قرن بالضياء « أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » لنَّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل « أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » لن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه .
قوله : « لِتَسْكُنُوا فِيهِ » أي في الليل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي : في النهار وهذا من باب اللف والنشر ومنه :
4016 - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيَابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العِنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
قوله : « لَعَلَّكُمْ تَشْكرون » أي : نعم الله ، وقيل : أراد الشكر على المنفعتين معاً ، وعالم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً ( وابتغاء فضل الله بالليل ممكناً ) إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى ، فلهذا خصه به ، وقوله : « وَيَوْمَ يُنَادِيِهمْ » كرَّر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ .
قوله : « وَنَزَعْنَا » أخرجنا { مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } يعني رسولهم الذي أرسل إليهم ، كما قال : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] أي : يشهد عليهم بأنهم بلغوا القوم الدلائل ، وأوضحوها لهم ليعلم أن التقصير منهم ، فيزيد ذلك في غمهم ، وقيل المراد الشهداء الذي يشهدون على الناس ، ويدخل في جملتهم الأنبياء { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } حجتكم بأن معي شريكاً « فَعَلِمُوا » حينئذ « أَنَّ الحَقَّ » التوحيد « لِلَّهِ » ، « وَضَلَّ عَنْهُمْ » غاب عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الباطل والكذب .
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى } الآية ، قال المفسرون كان ابن عمه ، لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى ابنُ عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السَّامري وكان يسمى المنوَّر لحسن صورته .
وقال ابن عباس : إنه كان ابن خالته ، فبغى عليهم ، وقيل : كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل ، وكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : « بَغَى عَلَيْهِمْ » بكثرة المال ( ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء ) .
وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك ، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده ، وقال ابن عباس : تكبّر عليهم وتجبر ، وقال الكلبي : حسد هارون على الحبورة ، وروي أن موسى عليه السلام لما قطع الله له البحر ، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة ، فوجد قارون لذلك في نفسه ، وقال يا موسى لك الرسالة لهارون الحبورة ، ولست في شيء ، لا أصبر أنا على هذا ، فقال موسى : والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له : فوالله لا أصدِّقك أبداً حتى تأتيني بآية يعرف بها أن جعل ذلك لهارون ، قال : فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل ان يجيء كلُّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها ، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك ، فباتوا يحرسون عصيهم ، فأصحبت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى لقارون : ألا ترى ما صنع الله لهارون ، فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، فاعتزل قارون ومعه ناس كثيرة وولي هارون الحبوة والمذبح والقربان ، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهَدَايَاهُمْ إلى هارون فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتَّبَع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « إنَّ قارُونَ كانَ من السَّبْعِينَ المُخْتَارَة الَّذِينَ سَمِعُوا كلامَ اللَّه »
قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ } ما موصولة بمعنى الذي صلتها ( إنَّ ) وما في حيّزها ولهذا كسرت ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنَّ وكان يستقبح ذلك عنهم ، يعني لوجوده في القرآن ، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه خزائنه كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] أي : خزائنه .
قوله : « لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ » فيها وجهان :
أحدهما : بأن الباء للتعدية ، كالهمزة ولا قلب في الكلام ، والمعنى : لتُنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول : أَجَأْتُهُ وَجئْتُ به ، وأَذْهَبْتُه وَذَهَبْتُ به ، ومعنى ناء بكذا : نهض به بثقل ، قال :
4017 - تَنُوءُ بِأُخْرَاهَا فَلأْياً قِيَامُهَا ... وَتَمْشي الهَوَيْنَا عن قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ
وقال أبو زيد : نُؤْتُ بالعمل أي : نهضت به ، قال :
4018 - إذَا وَجَدْنَا خَلْفاً بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْداً إذَا مَا نَاءَ بالحِمْلِ وَقَفْ
وفسره الزمخشري بالأثقال ، قال : يقال : ناء به الحمل حتى أثقله وأماله ، وعليه ينطبق المعنى أي : لتثقل المفاتح العصبة .
والثاني : قال أبو عبيدة إنَّ في الكلام قلباً ، والأصل : لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها لقولهم : عرضت لناقة على الحوض ، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب ، وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء بالياء من تحت والتذكير ، لأنه راعى المضاف المحذوف ، إذ التقدير حملها أو ثثقلها ، وقيل الضمير في « مَفَاتِحَه » ل « قَارُونَ » فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير ، كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، قاله الزمخشري؛ يعني كما اكتسب « أَهْل » التأنيث اكتسب هذا التذكير ، و « العُصْبَةُ » : الجماعة الكثيرة ، والعصابة مثلها ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى الأربعين؛ لقول إخوة يوسف { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل : أربعون رجلاً وقيل سبعون روي عن ابن عباس : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال ، وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز ، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول : انَّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح ، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح؟ الثاني : أن المكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح .
وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس ( العروض لا من جسن النقد ) جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد ، وأيضاً أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن ، فلا تقبل هذه الرواية ، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس المال وهذا أبين ، قثال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء ، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة ، كقوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] والمراد : آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها .
قوله : « إذْ قَالَ » فيه أوجه : أن يكون معمولاً ل « تَنُوءُ » قاله الزمخشري ، أو ل « بَغَى » قاله ابن عطية ، وردَّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت أو ل « آتَيْنَاهُ » قاله أبو البقاء وردَّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت .
أو لمحذوف ، فقدَّره ، أبو البقاء : بغى عليهم وهذا ينبغي أن يردّ بما ردَّ به قول ابن عطية . وقدَّره الطبري : اذكر وقدره أبو حيان أظهر الفرح وهو مناسب ، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور :
أحدها : قوله : لاَ تَفْرَح إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ ، وقرى الفارحين - حكاها عيسى الحجازي - والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة ، قال بعضهم : إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها ، وأمَّا من يعلم أنَّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح . وما أحسن قول المتنبي :
4019 - أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
( وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى ) { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركاً ، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى .
وثانيها : قوله : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ } يجوز أن يتعلق « فِيمَا آتَاكَ » ب « ابْتَغِ » ، وإن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أَي : متقلباً « فِيمَا آتاكَ » . و « مَا » مصدرية أو بمعنى الذي . والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ، والظاهر أنه كان مقرّاً بالآخرة .
وثالثها : قوله : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } قال مجاهد وابن زيد لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة وقال السُّدِّي : بالصدقة وصلة الرحم وقال علي ألاَّ تنسى صحتك وقوة شبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة ، « قال عليه السلام لرجل وهو يعظه : » اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِك ، وصحَّتك قبل سَقَمِكَ ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وفَرَاغك قَبْلَ شُغْلِكَ ، وحَيَاتكَ قَبْلَ مَوْتِكَ «
قوله : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } : أي : إحساناً كإحسانه إليك ، أي : أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته ، وقيل : أحسن إلى الله إليك ، وقيل إنه لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً ، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء .
قوله : { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض } ولا تطلب الفساد في الأرض ، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ، وقيل المراد ماكان عليه من الظلم والبغي ، و » في الأَرْض « يجوز أن يتعلق ب » تَبْغ « أو ب » الفَسَادِ « أو بمحذوف على أنه حال وهو بعيد . ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } ، قيل : إن هذا القائل هو موسى عليه السلام؛ وقيل : بل مؤمنو قومه .
وقوله : » عِنْدي « إما ظرف ل » أُوتِيته « ، وإما صفة للعلم .
فصل
قال قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا } أي : على فضلٍ وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره ، وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كان موسى عليه السلام يعلم عليم الكيمياء ( أنزل الله عليه علمه من السماء ) فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقناء ثلثه وعلم قارون ثلث ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه . وكان ذلك سبب أمواله .
وقيل : { على عِلْمٍ عنديا } بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب ثم أجاب الله عن كلامه بقوله : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون } الكافرة { مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } للأموال أو أكثر جماعة وعدداً . فقوله { أَوَلَمْ يَعْلَمْ } يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قرأه في التوراة وأخبر به موسى وسمعه من حفاظ التواريخ؛ كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته . ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك لأنه لما قال : { أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا } فتصلف بالعلم وتعظم به قيل مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه . والمعنى أنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً .
قوله : { مَنْ هُوَ أَشَدُّ } من موصولة أو نكرة موصوفة وهو في موضع المفعول ب « أهلك » ، و « مِنْ قَبْلِهِ » متعلق به ، و « مِنَ القُرُونِ » يجوز فيه ذلك ويجوز أن يكون حالاً من { مَنْ هُوَ أَشَدُّ } .
قوله : « وَلاَ يُسْأَلُ » هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت ، ورفع الفعل ، وقرأ ابو جعفر « وَلاَ تُسْأَل » بالتاء من فوق والجزم وابن سيرين وأبو العالية كذلك إلا أنه مبني للفاعل وهو المخاطب ، قال ابن أبي إسحاق : لا يجوز ذلك حتى ينصب « المُجْرِمِين » ، قال صاحب اللوامح : هذا هو الظاهر إلاَّ أنَّه لم يبلغني فيه شيء ، فإن تركها مرفوعاً فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون « المُجْرِمُونَ » خبر مبتدأ محذوف أي هم المجرمون .
الثاني : أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في « ذُنُبوبِهِمْ » لأنهما مرفوعاً المحل ، يعني أن « ذُنُوباً » مصدر مضاف لفاعله ، قال فحمل المجرمون على الأصل كما تقدم في قراءة { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةٍ } بجر بعوضة ، وكان قد خرجها على أن الأصل : يضرب مثل بعوضةٍ ، وهذا تعسف كثير فلا ينبغي أن يقرأ ابن سيرين وأبو العالية إلا « المُجْرِمِينَ » بالياء فقط وإنما ترك نقلها لظهوره .
قوله : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال ، وقال مجاهد يعني لا تسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم ، وقال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ، وقيل : إن المراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكنيتها ، لأن الله تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى لاسؤال ، فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] فالجواب : يحمل ذلك على وقتين كما قررناه .
وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة ، وقد يكون للتقريع والتوبيخ ، وقد يكون للاستعتاب ، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ النحل : 84 ] { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 ، 36 ] .
قوله : « فِي زينَتِهِ » إما متعلق ب « خَرَج » ، وإما بمحذوف على أنه حال من فاعل خرج .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
دلت الآية على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها ، وليس في القرآن إلا هذا القدر والناس ذكروا وجوهاً مختلفة ، والأولى ترك هذه التقديرات لأنها متعارضة ، ثم إن الناس لمَّا رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } من الحال ، وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار ، وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبُّون الدنيا ، فأمّا الذين أوتوا العلم - وهم أهل الدين - قال ابن عباس : يعني الأحبار من بني إسرائيل ، وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة . فقالوا للذين تمنوا : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ } من هذه النعم ، أي : ما عند الله من الجزاء والثواب { خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ } وصدَّق بتوحيد الله وعمل صالحاً ، لأن للثواب منافع عظيمة خالصة عن شوائب المضار دائمة ، وهذه النِّعم على الضد في هذه الصفات .
قوله : « وَيْلَكُمْ » : منصوب بمحذوف ، أي : « ألْزَمَكُمْ اللَّهُ وَيْلَكُمْ » ، قال الزمخشري : ويلك أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والرَّدع والبعث على ترك ما يضر .
قوله : « وَلاَ يُلَقَّاهَا » أي : هذه الخصلة وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله . وقيل : الضمير يعود إلى ما دل عليه قوله : { آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصَّابرون ( وقال الزجاج : ولا يُلَقَّى هذه الكلمة وهي قولهم : { ثَوَابُ الله خَيْرٌ } إلا الصَّابرُونَ ) على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات ، وعلى الرِّضا بضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار .
قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } المشهور كسر هاء الكناية في بِهِ وبِدَارِهِ لأجل كسر ما قبلها . وقرىء بضمها وقد تقدم أنها الأصل ، وهي لغة الحجاز .
فصل
قيل : لما أشر وبطر وعتا خصف الله به وبداره الأرض جزاءً على عتوه وبطره ، والفاء تدل على ذلك ، لأن الفاء تشعر بالعلية . وقيل : إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل وقال إنّ موسى يريد أن يأخذ أخوالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال : ائتوا بفلانة البغيّ فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعوها فجعل لها قارون شطتاً من ذهب مملوءاً ذهباً ، وقال لها : إن أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ، ثم أتى موسى فقال إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فيهم فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة ، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ، ( ومن زنى وله ) امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت : فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وناشهدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصطق فتداركها الله فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله ، فقالت : لا ، كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجداً يبكي ، وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله إليه ان مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك ، قال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون .
فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فلعتزل ، فاعتزلوا جميعاً ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرَّحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ، ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأوحى الله إلى موسى : ما أفظَّك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم ، أما وعزتي لو دعوني مرة واحدة لوجودني قريباً مجيباً ، فأصحبت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف الله بداره وأمواله الأرض ، ثم إن قارون يخسف به كل يوم قامة .
قال القاضي : إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك ، وإن كان لا يمتنع على وجه المبالغة في الزجر ، وأما قولهم : إنه - تعالى - قال : لو استغاثوا بي لأغثتهم ، فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة ، فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف ، لأن موسى ما فعله إلا عن إذن فبعيد ، وقولهم إنهم يتجلجلون في الأرض فبعيد ، لأنه لا بد له من نهاية ، وكذا القول فيما ذكر من عدو القامات والذي عنده في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة عملية حتى يكفي فيها الظنّ ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب .
قوله : « مِنْ فِئَةٍ » يجوز أن يكون اسم كان إن كانت ناقصة ، و « له » الخبر أو « يَنْصُرُونَهُ » وأن تكون فاعلة إن كان تامة و « يَنْصُرُونَهُ » صفة ل « فِئَةٍ » فيحكم على موضعها بالجر لفظاً وبالرفع معنى ، لأن « مِنْ » مزيدة فيها ، ثم قال : { وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين } أي الممتنعين مما نزل من الخسف ، يقالك نصره من عدوه فانتصر أي : منعه فامتنع .
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
قوله : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ } أي : صار أولئك الذين تمنوا ما رُزق من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني ، والعرب تعبِّر عن الصيرورة بأصبح وأمسى وأضحى ، تقول : أصبح فلانٌ عالماً ، وأضحى معدماً ، وأمسى حزيناً ، والمعنى صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى وداعياً إلى الرضا بقضاء الله وقسمته .
قوله : { وَيْكَأَنَّ الله وَيْكَأَنَّ } فيه مذاهب منها : أن وَيْ كلمة رأسها وهي اسم فعلٍ معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل ، و « أنْ » وما في حيّزها مجرورة بها ، أي : أعجب لأنَّه لا يفلح الكافرون ، وسمع كما أنَّه لا يعلم غفر الله له ، وقياس هذا القول أن يوقف على « وَيْ » وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائي ، إلا أنه ينقل عنه أنه يعتقد في الكلمة أن أصلها « وَيْلَكَ » كما سيأتي ، وهذا ينافي وقفه ، وأنشد سيبويه :
4020 - وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرٍّ
الثاني : قال بعضهم « كَأَنَّ » هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه ، وصارت للخبر والتقين ، وأنشد :
4021 - كَأَنَّنِي حِينَ أُمْسِي لاَ يُكَلِّمُنِي ... مُتَيَّمٌ يَشْتَهِي مَا لَيْسَ مَوْجُودا
وهذا أيضاً يناسبه الوقف على « وَيْ » .
الثالث : أن « وَيْكَ » كلمة برأسها والكاف حرف خطاب ، وأنَّ معمولة لمحذوف ، أي : اعلم أنَّه لا يفلح ، قال الأخفش ، وعليه قوله :
4022 - وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِيَ وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
وحقه أن تقف على « وَيْكَ » وقد فعله أبو عمرو بن العلاء .
الرابع : أن أصلها « وَيْلَكَ » فَحُذِفَ ، وإليه ذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم ، وحقهم أن يقفوا على الكاف كما فعل أبو عمرو ، ومن قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين ، فإنه يحتمل أن يكون الأصل فيهما « وَيْلَكَ » فحذف ولم يرسم في القرآن إلا « وَيْكَأَنَّ » « وَيْكَأَنَّهُ » متصلة في الموضعين . فعامَّة القرَّاء اتبعوا الرسم ، والكسائي وقف على « وَيْ » وأبو عمرو على « وَيْكَ » وهذا كله في وقف الاختيار دون الاختبار كنظائر تقدمت .
الخامس : أنَّ وَيْكَأَنَّ كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها « أَلَمْ تَرَ » . وربَّما نقل ذلك عن ابن عباس ، ونقل الكسائي والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صنع الله ، قال الفراء : هي كلمة تقرير ، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك؟ قال : وَيْ كأنَّه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت ، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رحمة لك في لغة حمير .
قوله : { لولاا أَن مَّنَّ الله } قرأ الأعمش « لَوْلاَ مَنَّ » بحذف « أنْ » وهي مرادة ، لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ ، وعنه « مَنُّ » برفع لانون وجر الجلالة ، وهي واضحة .
قوله : لَخِسَفَ « قرأ حفص : » لَخَسَفَ « مبنياً للفاعل أي الله تعالى ، والباقون ببنائه للمفعول ، و » بِنَا « هو القائم مقام الفاعل ، وعبد الله وطلحة لا نُخُسِفَ بِنَا أي : المكان ، وقيل : » بِنَا « هو القائم مقام الفاعل كقولك : انقطع بنا ، وهي عبارة رديئة وقيل : الفاعل : ضمير المصدر أي : لا نخفسف الانخساف وهي عنه أيضاً ، وعن عبد الله » لَتُخُسِّفَ « بتاء من فوق وتشديد السين مبنياً للمفعول ، وبنا قائم مقامه .
قوله : » وَيْكَأَنَّ « كلمة مستعملة عند التنبيه للخطاب وإظهار التندم ، فلما قالوا : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ } [ القصص : 79 ] ثم شاهدوا لاخسف تنبهوا لخطئهم ، ثم قالوا : كأنه { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيِّق عليه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة ، قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الحرف ، فقال : » وَيْ « مفصولة من » كَأَنَّ « وأن القو تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم .
قوله تعالى : » تِلْكَ الدَّارُ « مبتدأ وصفته ، و » نَجْعَلُهَا « هو الخبر ، ويجوز أن يكون » الدَّارُ « هو الخبر » نجعَلُهَا « خبراً آخر ، وحال والأولى أحسن ، وهذا تعظيم لها وتفخيم لشأنها ، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها { لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً } ليفيد أن كلاً منها مستقل في بابه لا مجموعهما ، { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } .
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قوله : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَاَ } ، لمَّا بيَّن أن الدار الآخرة ليست إلا للمتقين بيَّن بعد ذلك ما يحصل لهم فقال : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } ، والمعنى : أنهم يزادون على ثوابهم ، وقوله : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وظاهره أنهم لا يزادون على ما يستحقون .
فقوله : { فَلاَ يُجْزَى الذين } من إقامة الظاهر مقام المضمر تشنيعاً عليهم ، وقوله : { إِلاَّ مَا كَانُواْ } أي : إلاَّ مثل ما كانوا ، قال الزمخشري : إنما كرر ذكر السيئات ، لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى السامعين ، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، ويجزي بالحسنة بعشر أمثالها .
فإن قيل : قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة ، ( وفي هذه الآية كرر الإساءة واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة ) فما السبب؟
والجواب : أن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة ، وأما الآية الأخرى فهي في شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى . فإن قيل : كيف لا تجزى السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد؟ فالجواب : لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه .
قوله : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن } قال أبو علي : فرض عليك أحكامه وفرائضه « لَرَادُّكَ » بعد الموت « إلَى مَعَادٍ » وتنكير المعاد لتعظيمه ، كأنه قال : مَعَادٍ وأي معاد ، أي ليس لغيرك من البشر مثله ، وقيل : المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح ، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معاداً لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها ، وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفرة ، والسورة مكية ، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها ، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً ، وقال مقاتل : « إنَّه صلى الله عليه وسلم خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نَعَمْ « فقال جبريل إنَّ الله يقول : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } » يعني مكة ظاهراً عليهم قال المحققون : وهذا حد ما يدل على نبوته ، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزاً .
قوله : { مَن جَآءَ بالهدى } منصوب بمضمر ، أي : يَعْلَمْ أو « أَعْلَم » إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله ، ووجه تعلقه بما قبله أنَّ الله تعالى لما وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - الرد إلى معاد قال : قل للمشركين { ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى } يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم .
قوله : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب } أي : يوحى إليك القرآن { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } قال الفراء هذا استثناء منقطع ، أي : لكن رحمة من ربك فأعطاك القرآن وقيل : متصل . قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة . فيكون استثناء من الأحوال ومن المفعول له ، { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } أي : معيناً لهم على دينهم ، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه .
قوله : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله } قرأ العامة بفتح الياء وضم الصاد ، من : صدَّه يصُدُّه ، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد ، من : أصده بمعنى صَدَّه ، حكاها أبو زيد عن كلب . قال الشاعر :
4023 - أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُم ... صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوف الحَوَائِمِ
وأصل « يَصُدُّنكَ » « يَصُدُّونَنَّكَ » ، ففعل فيه ما فعل في { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [ هود : 8 ] ، والمعنى لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله يعني القرآن . { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وادع إلى رَبِّكَ } أي : إلى دين ربك وإلى معرفته وتوحيده { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } قال ابن عباس : الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به : أهل دينه ، أي : لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم ومثله : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } وهذا وإن كان واجباً على الكلِّ إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل ( التعليم ) ، فإن قيل : الرسول كان معلوماً منه أنه لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة ، فما فائدة ذلك النهي؟ فالجواب : أنَّ الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك ، فإن وثق بغير الله فكأنَّه لم يكمل طريقه في التوحيد ، ثم بيَّن أنه لا إله إلاَّ هو أي : لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلاَّ هو كقوله : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] فلا يجوز اتخاذ إلهٍ سواه .
قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } من جعل شيئاً يطلق على الباري تعالى - وهو الصحيح - قال : هذا استثناء متصل ، والمراد بالوجه الذات ، وإنَّما جرى على عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة ، ومن لم يطلق عليه جعله متصلاً أيضاً ، وجعل الوجه ما عمل لأجله أو الجاه الذي بين الناس ، أو يجعله منقطعاً أي : لكن هو تعالى لم يهلك .
فصل
استدلت المعتزلة على أن الجنة والنار غير مخلوقتين بأنَّ هذه الآية تقتضي فناء الكل ، فلو كانتا مخلوقتين لكان هذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } [ الرعد : 35 ] ، والجواب : هذا معارض بقوله تعالى ( في صفة الجنة ) { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] وفي صفة النار : { وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 24 ] ثم إما أن يحمل قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } على الأكثر كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 24 ] أو يحمل على الفناء القليل كقوله : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } [ الرعد : 35 ] على أن فناءها لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها لا جرم أطلق لفظ الدوام عليها .
قوله : « وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » أي : في الآخرة ، والعامة على بنائه للمفعول ، وعيسى على بنائه للفاعل ، روى الثعالبي في تفسير عن أُبَيِّ بن كعب قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » من قَرَأَ طسم القصص لم يبق في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنَّه كان مصدِّقًا أن كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهه له الحكم وإليه ترجعون «
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف ، فإنها مشاق في الحال ، ولا فائدةَ لها في المآل؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها بين أن الأمر ليس على ما حسبوه ، بل ( حسن التكليف ) ، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور ، فقال : { أحسب الناس أن يتركوا } غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم .
فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ بحروف التَّهَجِّي
ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف .
اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة ، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب ( إليه ) بسببه ، ويقبل بقلبه عليه ، ثم يشرع في المقصود .
واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام ( المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً ، كقول القائل : « زَيْدٌ ، ويَا زَيْدُ » و « أَلاَ زَيْدُ » .
وقد يكون المقدم صوتاً ) غير مفهوم ، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير افم ، كتصفيق الإنسان بيده ، ليقبل السامع عليه .
ثم إن توقع الغفلة ( كلما كان أتم ، والكلام المقصود كان أهم ) ، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب « بالهمزة » فيقال : « أَزَيْدُ » ، والبعيد ب « يَا » ، فيقال : « يَا زَيْدُ » ، والغافل ينبه أولاً ، فيقال : « أَلاَ يَا زَيْدُ » .
إذا تقرر هذا فنقول : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات .
وتلك الحروف إذا لم يفم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة ، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى ، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و « لا » كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره ، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود .
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة .
فإن قيلَ : فما الحكمة في اختصاص بعض السورة بهذه الحروف؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : عقل البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها ، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول : كل سورة في أوائلها ( حروف التهجي فإن في أوائلها ) ذكر الكتاب أو التنزيل ، أو القرآن كقوله تعالى : { الم ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 1 - 2 ] ،
{ الم الله لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ آل عمران : 1 - 3 ] ، { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ } [ الأعراف : 1 - 2 ] ، { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1 - 2 ] ، { الم تَنزِيلُ الكتاب } [ السجدة : 1 - 2 ] ، { حمتَنزِيلُ } [ غافر : 1 - 2 ] { ق والقرآن المجيد } [ ق : 1 - 2 ] . { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 - 2 ] ( إلا ثلاثَ سُوَرٍ ) { كهيعص } [ مريم : 1 ] { الم أَحَسِبَ الناس } [ العنكبوت : 1 - 2 ] { الم غُلِبَتِ الروم } [ الروم : 1 - 2 ] .
والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف ( و ) هي أن القرآن عظيم ، والإنزال له أثقل ، كما قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] ، فكذلك قدم عليها تنبيه يُوجِبُ ثبات المخاطب لاستماعه .
لا يُقالُ : كل سورة قرآن ، واستماعها استماع للقرآن ، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة ( منبه ) ، وأيضاً فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال ، والكتاب ، وليس فيها حروف ، كقوله تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] لأنا نقول جواباً عن الأول : ( لا ريب ) في أن كل سورة من القرآن ، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب - مع أنهما من القرآن - فيها تنبيه على كل القرآن ، فإن قوله تعالى : { طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 1 - 2 ] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن ، فيصير مثاله كتاب يَردُ من مَلِكٍ على مملوكه فيه شُغْلٌ ما ، وكتاب آخر يدر منه عليه فيه : « إنَّا كَتبنا إليك كتاباً فيه أمرُنا فامتثلْه » فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلاً من الأول .
وعن الثاني : أن قوله : « الحمد لله ، وتبارك الذي » تسبيحات مقصودة ، وتسبيح الله لا يَغْفَلُ عنه العبد ، فلا يحتاج إلى منبه ، بخلاف الأوامر والنواهي ، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمةِ مَنْ له التسبيح ، و « سورة أنزلناها » قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها ، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل .
وأما قوله تعالى : « إنا أنزلناه » فهذا ليس وُرُداً على مشغول القلب بشيء غيره ، بدليل أنه ذكر الكتاب فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان منبهاً له فلم يُنَبَّهْ .
واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها ، كقوله تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] ، وقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] ، { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ } [ التحريم : 1 ] لأنها أشياء هائلة عظيمة ، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها .
وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن ، وذلك لأن ثِقَلَ القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد ، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا « يعني لا يتركون بمجرد ذلك ، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف ، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر يها القرآن المشتمل على الأومر والنواهي .
فإن قيل : فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 1 ] ولم يقدم عليه حروف التهجي! .
فالجواب : أن هذا ابتداء كلام ، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة ، فقال : » أَحَسِبَ « ، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاماً ، والتنبيه ( يكون ) في أول الكلام ، لا في أثنائه .
وأما { الم غُلِبَتِ الروم } فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا } .
قوله : » أن يتركوا « سد مفعولي » حسب « عند الجمهور ، ومسد أحدهما عند الأخفش .
قوله : » أن يقولوا « فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من » أن يتركوا « ، أبدل مصدراً مؤولاً من مثله .
الثاني : أنها على إسقاط الخافض ، وهو الباء واللام ، أي : بأن يقولوا ، أو لأنْ يَقُولُوا .
قال ابن عطية وأبو البقاء : إذا قدرت الباء كان حالاً .
قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء ، كما تقول : تركت زيداً بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي : أحسبوا أنَّ إيمانهم علةٌ للترك انتهى .
وهذا تفسير معنى ، ولو فسر الإعراب لقال : أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان ( في الآية ) ؟
قلت : هو في قوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مَفْتُونِينَ لقولهم : آمنا ، فالترك أولى مفعولي » حسب « ، وقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
2024 - فَتَركْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ..
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : ( تركهم ) غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام .
فإن قلت : أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟
قلت : كما تقول : خُرُوجُه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت ( مخافة ) الشر وضربته تأديباً تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لِمَخَافَةِ الشَّرِّ ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كام جعلتهما مبتدأ وخبراً .
قال أبو حيان : وهذا كلام فيه اضطراب ، ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه حال ، لأنه سَبَك ذلك من قوله : { وهم لا يفتنون } وهي جملة حالية ، ثم ذكر » أن يتركوا « هنا من الترك الذي هو تصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول » صير « الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذا يصير التقدير : أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ .
وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون « جزر السباع » مفعولاً ثانياً لترك - بمعنى صير - بخلاف ما قدر في الآية .
وأما تقديره : تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا مفعول ثان .
وأما قوله : فإن قلت : أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضله ( فهم ) ، وذلك أن قوله : أن يقولوا هو علة تركهم ، فليس كذلك ، لأنه لو كان علة لكان به متعلِّقاً كما يتعلق بالفِعْل ، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن ، والخبر غير المبتدأ ، ولو كان « لقولهم » علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر .
وأما قوله : كما تقول : خروجه لمخافة الشرِّ ، فلِمَخَافَةِ ليس علةً للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن انتهى .
قال شهاب الدين : « ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى ، وكلامه عليه صحيح .
وأما قوله : ليس علة للخروج ونحو ذلك ، يعني في اللفظ ، فأما في المعنى فهو علة قطعاً ، ولولا خوف الخروج فات المقصود »
فصل
معنى الآية : أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا { وهم لا يفتنون } وهم لا يُبْتَلَوْنَ في أموالهم وأنفسهم ، كلا لنختبرنهم ، ليتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب .
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، قال الشعبي : نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فقتل بعضهم ونجا بعضهم ، فأنزل الله هاتين الآيتين .
وقال ابن عباس : نزلت في الذين آمنوا بمكة ، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر وغيرهم .
وقال مقاتل : « نزلت في مهجع بن عبد الله ، مولى عمر بن الخطاب ، كان أولى قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - » سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهْجَع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة « ، فجزع أبواه وامرأته ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، وقيل : وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي ، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية .
ثم عزاهم فقال : { ولقد فتنا الذين من قبلهم } يعني الأنبياء والمؤمنين ، فمنهم من نُشِرَ بِمنْشَارٍ ، ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون ، فكان يسومُهُمْ سوء العذاب .
قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } العامة على فتح الياء مضارع « عِلَم » المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف ، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى ، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط ، دون ما عليه من الأحوال .
وقرأ عليٌّ وجَعْفَرُ بنُ مُحمّد بضم الياء مضارع « أعلم » ، ( ويحتمل أن يكون من علم بمعنى عرف ، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها فمعولاً آخر ، فحذف .
ثم هذا المفعول ) يحتمل أن يكون هو الأول ، أي ليعلمن اللَّهُ النَّاسَ الصَّادِقِينَ وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة يعرف لها هؤلاء من هؤلاء ، وأن يكون الثاني ، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم ، وهؤلاء منازلهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون من العلامة ، وهي السِّيمَا ، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها .
وقرأ الزُّهْرِيُّ الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة .
فصل
المعنى : فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم : آمَنَّا ، وليعلمن الكاذبين .
قال المفسرون : ظاهر الآية يدل على تجدد العلم ، والله تعال عالم بهم قبل الاختبار . ومعنى الآية : فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه .
وقال مقاتل : فليُرِيَنَّ الله . وقيل : ليميز الله ، كقوله : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } [ الأنفال : 37 ] .
وقال ابن الخطيب : الية محملة على ظاهرها ، وذلك أن علم الله صِفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع ، فَقَبْلَ التكليف كان الله تعالى يعلم أنَّ زَيْداً مثلاً سيُطِيعُ وعَمْراً سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع ، والآخر عصى ، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال ، وإنما المتغير المعلوم .
ومثال ذلك في الحِسِّيَّاتِ أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع ، وقوبل بوجهها جهة ( ولم تحرك ) ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض ، وإذا عبر عليها « عمرو » في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك . فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت ، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت ، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات .
فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال ، فإن المرآة ممكنة التغيير ، وعلم الله غي ممكن التغيير ، فقوله : « فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ » من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم .
وليعلمن الكاذبين ، يعني من قال : أنا مؤمن ، وكان كذاباً فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم .
وفي قوله : « الَّذِينَ صَدَقُوا » بصيغة الفعل ، وفي قوله : « الكَاذِبِينَ » فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه ، والفعل الماضي لا يَدُلُّ عليه ، كما يقال : فُلاَن شَرِبَ الخَمْرَ ، وفلانٌ شَارِبٌ الخَمْرَ ، وفلان نفذ أَمْرُهُ ، وفلان نافذ أمره ، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول : وقت نزول الآية كانت الحكاية في قومٍ قرباءِ العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف ، وعن قوم قديمين في الكفر ، مستمرين فيه . فقال في حق المؤمنين : « الذين صدقوا » بصيغة الفعل أي وُجِدَ منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا : « الكاذبين » بالصيغة المفهمة للثبات والدوام ، فلهذا قال : { يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] بلفظ اسم الفاعل ، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات } « أم » هذه منقطعة ، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور ، والإضراب انتقال لا إبطال .
قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : « أحسب » وكأنه عزّ وجلّ قرر الفريقين ، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله .
قال أبو حيان : « ليست معادلة » ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة ، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين :
أحدهما : أن ما بعدها ليس مفرداً ، ولا ما في قوته .
والثاني : أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء .
وجوز الزمخشري في « حسب » هذه أن تتعدى لاثنين ، وجعل « أن » وما في خبرها سادةً مسدهما ، كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] ، وأن تتعدى لواحدٍ على أنها مضمنة معنى « قدر » ، إلا أن التضمين لا ينقاس
قوله : « ساء ما يحكمون } يجوز أن تكون » ساء « بمعنى بئس فتكون » ما « إما موصولة بمعنى الذي ، و » يحكمون « صلتها ، وهي فاعل ساء ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم .
ويجوز أن تكون » ما « تمييزاً ، و » يحكمون « صفتها ، والفاعل مضمر يفسره » ما « والمخصوص أيضاً محذوف .
ويجوز أن تكون ساء بمعنى قَبُحَ ، فيجوز في » ما « أن تكون مصدرية ، وبمعنى الذي ، ونكرة موصوفة ، وجيء ب » يحكمون « دون » حكموا « إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة .
ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كَيْسَانَ فعلى هذا يكون التمييز محذوفاً ، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكماً حكمُهُمْ .
وقد تقدم حكم » ما « إذا اتصلت ببئس مشبعاً في البقرة .
فصل
لما بين حسن التكليف بقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب ، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ، ولا يفوت الله شيء . في الحال ولا في المآل .
فقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات } يعني الشرك » أن يسبقونا « أي يعجزونا ويفوتونا ، فلا نقدرعلى الانتقام منهم { ساء ما يحكمون } بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك .
قوله : { مَن كَانَ يَرْجُو } يجوز أن تكون من شرطية ، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية .
فإن قيل : المعلق بالشرط عُدِمَ عَدَم الشرط ، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له ، وهذا باطل ، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط؟
فالجواب : أن قوله : { فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ } ليس بجواب ، بل الجواب محذوف ، أي فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً كما قد صرح به .
وقال ابن الخطيب : المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآتٍ بثواب الله ، أي يُثَابُ على طاعته ، ومن لا يرجو لقاء الله آتياً له على وجه الثواب .
فصل
قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب . والرجاء بمعنى الخوف . وقال سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب .
وقال مقاتل : يعني أن يوم القيامة لكائن والمعنى : أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له ، وليعمل لذلك اليوم ، كقوله { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً } [ الكهف : 110 ] الآية كما تقدم .
{ وهو السميع العليم } ولم يذكر صفة غيرهما ، لأنه سبق القول في قوله : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا } وسبق القول بقوله : { وهم لا يفتنون } وبقوله : { فليعلمن الله الذين صدقوا } وقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات } ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر ، ومنه ما لا يدرك به ، والعلم يشملهما ، فقال : { وَهُوَ السميع العليم } أي يسمع ما قالوه ، ويعلم من صدق فيما قال ، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب .
قوله : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي له ثوابه ، والجهاد هو الصبر على الشدة ، ويكون ذلك في الحرب ، وقد يكون على مخالفة النفس .
فإن قيل : هذه الآية على أن الجزاء على العمل واجب ، فإن قوله : { فإنما يجاهد لنفسه } يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح .
فالجواب : هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق .
فإن قيل : قوله « فإنما » يقتضي الحصر ، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك ، فإن من جاهد ينتفع به هو ، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به .
فالجواب : أن ذلك نفع له ، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب ، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ، ويدل عليه قوله : { إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين } أي عن أعمالهم وعبادتهم .
قوله : « والَّذِينَ آمنُوا » يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي : والله لنكفرن . ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر عل الاشتغال ، أي : وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم .
والتكفير : إذهاب السيئة بالحسنة ، والمعنى : لنُذْهِبَنَّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل .
فإن قيل : قوله : فلنكفرن ( عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، « والذين آمنوا عملوا الصالحات » بأسرها من أين يكون ) لهم سيئة؟
فالجواب : ما من مكلف إلا وله سيئة ، أما غير الأنبياء فظاهر ، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ، ولهذا قال تعالى :
{ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] .
قوله : { أَحْسَنَ الذي كَانُواْ } ، قيل : على حذف مضاف ، أي : ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف .
قيل : لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتاً عنه ، وهذا ليس بشيء ، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى .
قال المفسرون : يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة .
وقيل : يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن ، كما قال : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] قوله : « حُسْناً » فيه أوجه :
أحدها : أنه نعت مصدر محذوف أي ( إيصَاءً ) حسناً ، إما على المبالغة جعل نفس الحسن ، وإما على حذف مضاف ( أي : ذا حُسنٍ ) .
الثاني : أنه مفعول به ، قال ابن عطية : « وفي ذلك تجوز » ، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه ، ونظير ذلك قول الشاعر :
4025 - عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إذْ تَشْكُونَا ... وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إذْ يُوصينا
خَيْراً بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا ... ومنه قول الحطيئة :
4026 - ( وَصَّيْتَ مِنْ بَرَّةَ قَلْباً حَرَّا ... بِالْكَلْبِ خَيْراً وبِالحَمَاةِ شَرَّا
وعلىهذا فيكون الأصل : وصيناه بحسن في بر والديه ، ثم جر « الوالدين » بالهاء فانتصب حسناً وكذلك البيتان . والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية .
الثالث : أن « بوالديه » هو المفعول الثاني ، فنصب « حسناً » بإضمار فعل ، أي يحْسُن حسناً ، فيكون مصدراً مؤكداً كذا قيل .
وفيه نظر ، لأَنَّ عامل الؤكد لا يحذف .
الرابع : أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسناً .
الخامس : أنه على إسقاط الخافض أي « بحُسْنٍ » .
وعبر صاحب التحرير عن ذلك بالقطع .
السادس : أن ( بعض ) الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً . وفيه حذف « أن » وصلتها ، وإبقاء معمولها ، ولا يجوز عند البصريين .
السابع : أن التقدير : وصيناه بإيتاء والديه حسناً . وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز
الثامن : أنه منصوب انتصاب « زيداً » في قولك لمن رأيته متهيئاً للضرب « زَيْداً » أي اضرب زيداً ، والتقدير هنا : أَوْلهما حسناً ، أو افعل بهما حسناً . قالهما الزمخشري .
وقرأ عيسى والجحدري : « حَسَناً » وهما لغتان ، كالبُخْل والبَخَل . وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة .
وقرىء : إحساناً ، من قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] .
فصل
معنى حسناً أي برّاً بهما ، وعطفاً عليهما ، والمعنى : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن . نزلت هذه الآية ، والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص ، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حثمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس ، لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأمه ، قالت أمه : ما هذا الدين الذي أَحْدَثْتَ؟ والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى ترجعُ إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، ويقال : يا قاتل أمِّهِ .
ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ( ولم تَسْتَظِلَّ فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوماً آخر لم تأكل ولم تشرب ) فجاء « سعد » إيلها ، وقال يا أُمَّاهُ : لو كانت مائة نفس ( فخرجت نفسا ) نفساً ما تركت ديني فكُلِي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلست وشربت فأنزل الله هذه الآية ، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما .
واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة ، والله تعالى بسبب له في الحقيقة بالإرادة ، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة ، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله ( معه ) .
قوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } .
قال عليه ( الصلاة ) والسلام : « لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في معصية الله » ثم أوعد بالمصير إليه ، فقال : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول : لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي ، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه .
قوله : « والذين آمَنُوا » يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والنصب على الاشتغال .
وقوله : { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين } أي نجعلهم منهم ، وندخلهم في أعدادهم ، كما يقال : الفقيه داخل في العلماء . والمعنى : نجعلهم من جملة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء . وقيل : في مَدْخَل الصالحين وهو الجنة .
فإن قيل : ما الفائدة في إعادة { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ؟
فالجواب : أنه ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولاً ، لبيان حال المهتدي وثانياً ، لبيان حال الهادي لأنه قال أولاً : { لنكفرن عنهم سيئاتهم .
وقال ثانياً : { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين } والصالحين هم الهداة ، لأنها مرتبة الأنبياء ، ولهذا قال إبراهيم - عليه ( الصلالة ) والسلام : « والحقني بالصَّالِحينَ » .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله } المكلفون ثلاثة أقسام : مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده ، وكافر مجاهر بكفره ، وعناده ، ومذبذب بينهما ويظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر ، فالله تعالى لما بين القسمين الأولين بقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات } إلى قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } بين القسم الثالث وهو المنافق فقال : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله } أصابه بلاء من الناس افتتن ، { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه ، قال السدي ، ابن زيد هذا ( في ) المنافق إذا أوذي في الله رَجَعَ عن الدين وكفر .
واعلم أنه قال : « فتنة الناس » ولم يقل : « عذاب الناس » ؛ لأن فعل العبد ابتلاه من الله ، والفتنة تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فبين منزلته ، كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً ، وهذا إشارة ( إلى ) أن الصبر على البلية الصادرة ( من الإنسان ) كالصبر ( على العبادات ) فإن قيل : هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه - احْتِرازاً عن العذيب العاجل - يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله .
فالجواب : ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في بطنه الإيمان . قوله : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ } أي فتح ودولة للمؤمنين « ليقُولُّنَّ » يعني هؤلاء المنافقين للمؤمنين { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } على عدوكم ، وقال : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ } ولم يقل : « ولئن جَاءَكُمْ » « ولئن جاءك » والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إنا معكم ، وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين : « إنّا معكم » إذا جاء النصر لا يجيء إلا للمؤمنين كما قال تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } [ الروم : 47 ] ، ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر ، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة ، بدليل أن أحد الجيشين إذا انهزم في الحال ثم ذكر المهزوم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم النصر إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين ، اولنصر لهم في الحقيقة . فإن قيل : { ولئن جاء نصر من ربك } ولم يقل : « من الله » من أن ما تقدم كله يذكر الله كقوله : { أُوذِيَ فِي الله } ، وقوله : « كعذاب الله » فما الحكمة في ذلك؟
فالجواب : لأن - « الرب » - اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة ، و « الله » اسم مدلوله الهيبة والعظمة ، فعند النصر ذكر الاسم الدال على الرحمة والشفقة ، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة .
قوله : « لَيَقُولُنَّ » العامة على ضم اللام ، أسند الفعل لضمير جماعة ، حملاً على معنى « مَنْ » بعد أن حمل على لفظها ، ونقل أبو معاذ النحوي أنه قراىء : ليقولّنَّ بالفتح ، جرياً على مراعاة لفظها أيضاً ، وقراءة العامة أحسن لقوله : « إنَّا كُنَّا » .
فصل
المعنى : إن المنافقين لما قالوا إنا كنا معكم ، أي على عدوكم وكنا مسلمين ، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فكبهم ( الله ) وقال : { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين } من الإيمان والنِّفاق ولما بين أنه علم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم ، والمنافق وإن لم يتكلم فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ } صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء ، « وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ » بترك الإسلام عند البلاء ، وتقدم الكلام على ( نظر ) ذلك . ( قال عكرمة ) عن ابن عباس إنها نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى « بدر » ، وهم الذين نزلت فيهم : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } ، وقال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس ، أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا ، وقال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا } قال مجاهد : هذا قول كفار مكة لمن آمن منهم وذلك أن الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل ، وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فيجيبه المؤمن بأن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطئية فعلينا .
قوله : « وَلْنَحْمِلْ » أمر في معنى الجنس ، قال الزمخشري : وهو في معنى من يريد اجتماع أمرين في الوجهين فيقول : ليكن منك العطاء ، ومني الدعاء .
فقوله : « ولنحمل » أي ليكن منا الحِمْل ، وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب وقرأ الحَسَن وعيسى بكسر لام الأمر ، وهو لغة الحجاز قال الزمخشري : « وَهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن ، ولا أنتم ، فإن عيسى كان ذلك فإنا نتحمل ( عنكم الإثم ) . قال أبو حيان : » هذا تركيب عجمي من جهة إدخال حرف الشرط وهي جامدة واستعمالها من غير اسم ، ولا خبر ، وإيلائها كان « . وقرأ العامة » خطاياكم « ، وداود بن هند : » من خطيئاتهم « جمع سلامة ، وعند أيضاً : » خطيئتهم « بالتوحيد والمراد الجنس ، وهذا شبيه بقراءتي : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } و » خطيئاته « وعنه أيضاً : » خطَئهم « - بفتح الطاء وكسر الياء ، يعني بكسر الهمزة القريبة من الياء لأجل تمهيدها بين بين ، و » من شيء « وهو مفعول بحاملين و » من خطاياهم « لما تقدم عليه انتصب حالاً .
فصل
معنى الآية اتبعوا سبيلنا أي ديننا وملة آبائنا ، ونحن الكفلاء بكل تبعية من الله تصيبكم وهو قوله : » ولنحمل خطاياكم « ، نظير هذه الصيغة : { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } ثم أكذبهم الله تعالى فقال : { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فيما قالوا .
فإن قيل : قال : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } وقال بعده : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } فنفى الحمل أولاً ، وأثبت الحمل ثانياً فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب : أن قول القائل في » حمل فلان وعن فلان « يريد : أن حمل فلان خف ، فإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل عنه شيئاً ، فقوله : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } يعني ( لا يرحمون ) ولا يرفعون عنهم خطيئة ، بل يحملون أوزار أنفسهم ، وأوزاراً بسبب إضلالهم ( لهم ) ، كقوله ( عليه الصلاة ) والسلام : » مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا منْ غَيْرِ أن يَنْقُصَ من وِزِرْهِ شَيْء « ، والمعنى : وليحملن أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم ، » أثقالاً مع أثقالهم « أو أوزاراً مثل أوزار من أضلوا مع أوزارهم ، كقوله : { وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } .
قوله : { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } سؤال توبيخ وتقريع ، وذلك الافتراء يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : قولهم : « ولنحمل خطاياكم » كان لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك ، فيسألون عن ذلك الافتراء .
وثانيها : أن قولهم « ولنحمل خطاياكم » كان لاعتقادهم أن لا حشر ، فإذا جاء يوم القيامة ظهر خلاف ذلك ، فيسألون يوقول لهم : أما قلتم : أن لا حشر .
وثالثها : أنهم لما قالوا : نحمل خطاياكم يوم القيامة ، يقال لهم : فاحملوا خطايهم ، فلا يحملون ويسألون فيقال لهم : فَلَمَ افتريتم .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه . . . } لما بين التكليف ، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم ، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم فكأنه قال : هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى : { ولقد فتنا الذين من قبلهم } ، فذكر من الذين كلفوا قبله نوح عليه ( الصلاة و ) السلام وقومه ، وإبراهيم عليه ( الصلاة و ) السلام وغيرهما .
قوله : « ألْفَ سَنَةٍ » منصوب على الظرف { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } منصوب على الاستثناء . وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف . وللمانعين عنه جواب عن هذه الآية ، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة ، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول « سنة » ، وفي « الثاني » عاماً ، لئلا يثقل اللفظ ، ثم إنه خص لفظ العام بالخميس إيذاناً بأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما استراح منهم بقي في زمن حسن ، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام ، وعن الجَدْب بالسنة .
فصل
قال بعضهم : إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي ، فإذا قال القائل : لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال : عليّ سبعة ، إذا علم هذا فقوله : { ألف سنة إلا خمسين عاماً } كقوله : تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان ، إحداهما : أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب ، فإن من قال : عاش فلان ألفَ سنة ( يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة ) تقريباً لا تخفيفاً ، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ، وقد يفهم منه التحقيق . الفائدة الثانية : هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه ( الصلاة و ) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه ( الصلاة و ) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ ( دُعَائِهِ ) .
قوله : « فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ » فغرقوا « وَهُمْ ظَالِمُونَ » قال ابن عباس : مشركون . وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ، فقوله : « وهم ظالمون » يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم .
قوله : { فَأَخَذَهُمُ الطوفان } يعني من الغرق ، « وجعلناها » يعني السفينة « آية للعالمين » أي عبرة ، وفي كونها آية وجوه :
أحدُها : كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة .
وثانيها : أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه ، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد ( نُضُوبَه ) . ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة .
وثالثها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية ، ولولا ذلك لما حصل النجاة ، وقيل : « الهاء » في « جَعَلْنَاهَا » راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق .
فصل
قال ابن عباس بُعِثَ نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسينَ عاماً ، وعاش بعد الطُّوفَان ستينَ سنة حتى كثر الناس وفَشَوْا ، وكان عمره ألفاً وخَمْسِينَ سنةً ، وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة ، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة ، فإذا كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة ، وأما قبره عليه ( الصلاة و ) السلام بالمسجد الحرام . وقيل : ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك ، والأول أقوى وأثبت .
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
قوله تعالى : « وَإِبْرَاهِيمَ » أي « وأرْسَلْنَا إبْرَاهِيم » ، والعامة على نصبه عطفاً على « نوحاً » ، أو بإضمار « اذكر » ، أو عطفاً على « هاء » « أنجيناه » ، والنخعي ، وأبو جعفر ، وأبو حنيفة : « وإبْرِاهيمُ » رفعاً على الابتداء ، والخبر مقدر أي ومن المرسلين إبراهيم ، وقوله : « إذْ قَالَ » بدل من « إبْرَاهِيمَ » بدل اشتمال ، فإن قلنا : هو ظرف « أرْسَلْنَا » أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه ، ففيه إشكال ، لأن قوله لقومه « اعبدوا الله » دعوة ، والإرسال يكون قبل الدعوة ، فكيف يفهم من قوله : وأرْسَلْنَا إبراهيم حِينَ قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبل ذلك؟
فالجواب : هذا كقول القائل : « وَقَفْتُ للأَمِير إذْ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ » ، وقد يكون الوقوف قبل الخروج لكن لما كان الوقوف يمتد إلى ذلك الوقت صح ذلك .
فصل
معنى { اعبدوا الله واتّقوه } أطيعوا الله وخافوه ، وقيل : « اعبدوا الله » إشارة إلى الإتيان بالواجبات « واتّقوه » إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ، { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي عباد الله وتقواه خير ، لأن خلاف عبادالله تعطيل ، وخلاف تقواه شرك ، وكلاهما شر ، { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً } أصناماً ، فلا تستحق العبادة لكونها أصناماً منحوتة لا شرف لها .
قوله : « وَتَخْلُقُونَ إفْكاً » العامة على فتح التاء ، وسكون الخاء ، ورفع اللام مضارع « خلق » و « إفْكاً » بكسر الهمزة وسكون الفاء ، أي وتختلقون كذباً ، أو تنحتون أصناماً ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن علي والسُّلَيْميّ ، وقتادةُ بفتح الحاء واللام مشددة ، وهو مضارع « تَخَلَّقَ » والأصل : « تَتَخَلقونَ » بتاءين فحذفت إحداهما « كَتَنَزَّلَ » ونحوه ، روي عن « زيد بن علي » أيضاً تُخَلُقون بضم التاء وتشديد اللام مكسورة مضارع « خلّق » مضعفاً ، وقرأ ابن الزبير ، وفُضَيْل بن زَرْقَانِ إفكاً - بفتح الهمزة وكسرها - وهو مصدر كالكذب معنى ووزناً ، وجوز الزمخشري في الإفْكِ - بالكسر والسكون - وجهين :
أحدهما : أن يكون مخففاً من الأَفِك بالفتح والكسر كالكَذِب واللَّعِب ، وأصلها : ( الكِذْب واللّعْب ) وأن يكون صفة على « فِعْلِ » أي خلقاً إفْكاً أي « ذَا إفْكٍ » .
قال شهاب الدين : وتقديره مضافاً قبل « إفك » مع جعله له صفة غيرُ مُحْتَاجٍ إليه ( وإنما كان يُحْتَاجُ إليه ) لو جعله مصدراً .
قوله : { إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } لا يقدرون أن يرزقوكم ، وهذا إشارة إلى عدم المنفعة في الحال والمآل . قوله : « رزقاً » يجوز أن يكون منصوباً على المصدر ، وناصبه « لا يملكون » ؛ لأنه في معناه ، وعلى أصول الكوفيين يجوز أن يكون الأصل : لا يملكون أن يَرْزُقُوكُمْ رزقاً ، فإن « يرزقوكم » هو مفعول « يملكون » ، ويجوز أن يكون بمعنى « المرزوق » فينتصب مفعولاً به ، « فابْتَغُوا » فاطلبوا « عند الله الرزق » ( و ) هذا إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته .
فإن قيل : قال : { لا يملكون لكم رزقاً } نكّر الرزق وقال : { فابتغوا عند الله الرِّزْقَ } فعرفه ، فما الفائدة؟ قال الزمخشري نكره في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً ، وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه . وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] والرزق من الأوثان غير معلوم ، فقال : { لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } لعدم حصول العلم به ، وقال : { فابتغوا عِندَ الله الرزق } أي الموعود به ، ثم قال : { واعبدوه واشكروا لَهُ } اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته ، فاشكروا له لكونه سائق النعم إلى الخلق « وإليه ترجعون » أي اعبدوه ، لكونه مرجاً منه يتوقع الخير لا من غيره . قوله : { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } في المخاطب بهذه الآية وجهان :
الأول : أنه قوم إبراهيم؛ لأن القصة لإبراهيم ، فكأن إبراهيم قال لقومه : إن تكذبوا فقد كَذَّب أُمَمٌ من قبلكم وأنا أتيت بما عليّ من التبليغ ، فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان . فإن قيل : إن إبراهيم لم يسبقه إلا قومُ نوح ، وهم أمة واحدة .
فالجواب : إن قبل نوح أيضاً كان أقوام كقوم « إدْرِيسَ » ، وقوم « شِيتَ » ، وآدَمَ ، وأيضاً فإن نوحاً عاش أكثر من ألف سنة ، وكان القرن يموت ، ويحيا أولاده ، والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الأتْبَاعِ ، فكفى بقوم نوحٍ أمماً .
الثاني : أن الآية خطاب مع قوم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذه القصص أكثرُها المقصودُ معه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا عن التكذيب ، ويرتدعوا خوفاً من التعذيب ، فقال في أثناء حكاياتهم : يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا ، فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم .
وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين .
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ } قرأ الأخوان وأبو بكر بالخطاب ، على خطاب « إبراهيم » لقومه بذلك ، والباقون بالغيبة ، ردّاً على الأمم المكذبة .
قوله : « كَيْفَ يُبْدِىءُ » ، العامة على ضم الياء من « أَبْدَأَ » والزُّبَيْرِيُّ ، وعيسى ، وأبو عمرو بخلاف عنه يَبْدَأُ مضارع بَدَأَ . وقد صرح بماضيه هنا حيث قال : { كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } ، وقرأ الزهري : « كيف يبدأ » بألف ( صريحة وهو تخفيف على غير قياس ، وقياسه بين بين وهو في الشذوذ كقوله :
4027 - ... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ
فصل
المعنى : أو لم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقه ، ثم مضغة .
فإن قيل : متى رأى الإنسان بَدْءَ الخلق ، حتى يقال : { أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق } ؟
فالجواب : إن المراد بالرؤية العلم الواضح الذي كالرؤية ، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق ، وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول ، فهو من الله ، هذا غن قلنا : إن المراد إتيان نفس الخلق وغطن قلنا : إن المراد بالمبتدأ خلق الآدمي أولاً ، وبالإعادة خلقه ثانياً ، فنقول : العاقل لا يخفى عليه أن خلق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام ، والخلقة من نظفة في غاية الإتقان والإحام فذاك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر ، فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية ، وقال : { أو لم يروا } أي أو لم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً كيف يبدأ الله الخلق وهو من غذاءٍ هو من ماءٍ وتراب يجمعه فكذلك يجمع أجزاءه من التراب وينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسب إليكم فإن من نحت حجارة حتى صارت أصناماً ثم كسرها وفرقها فإن وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل ، لأن الحجارة منحوته معلومة .
فإن قيل : علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق ، ولم يقل : أو لم يروا أن الله خلق او بدأ الخلق والكيفية غير معلومة .
فالجواب : هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يك شيئاً مذكوراً ، وأنه خلقه من نطفة من غذاء هو من ماء وتراب ، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة .
فإن قيل : قال : « ثم يعيده » « إن ذلك على الله يسير » أبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل : إن ذلك عَلَيْهِ يسير كما قال : « ثم يعيده » من غير إبراز .
فالجواب : أنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه ، فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكَوْنِ ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ « الله » وفهم معناه أنه الحَيُّ القادر بقُدْرَةٍ كاملة لا يعجزه شيء محيط بذرات كل جسم نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة .
قوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق } أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم .
فإن قيل : أبرز اسم « الله » في الآية الأولى عند البدء ، فقال : { كيف يبدىء الله } وأضمره عند الإعادة ، وهاهنا أضمره عند البداء ، وأبرزه عند الإعادة فقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } .
فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال : { كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده } ، كقول : ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ، ولا يحتاج إلى إظهار اسم « زيد » اكتفاء الأول .
وفي الثانية : كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به ، ولم يبرزه ، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً ، فقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ } مع أنه كان يكفي أن يقول : « ثم ينشىء » النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه ، حتى يفهم المسمى به صفات كماله ، ونعوت جلاله ، فيقطع بجواز الإعادة فقال : « ثم الله » مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمالل قدرته ، وشمول علمه ، ونفوذ إرادته ، فيعترف بوقوع بدئه ، وجواز إعادته ، فإن قيل : فلم لم يقل : « ثُم اللَّهُ يعيده » بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين .
أحدهما : أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله : « يبدىء الله الخلق » ، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق ، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره .
وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس ، كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ففي الآية الأولى أشار إلى الديل الحاصل للإنسان من نفسه ، وفي الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق ، لقوله : { سيروا في الأرض } وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه ، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل : { ثم الله يعيده } فإن قيل : قال في الأولى : { أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق } بلفظ المستقبل وهاهنا قال : { فانظروا كيف بدأ } بلفظ الماضي ، فما الحكمة؟
فالجواب : أن الدليل الأول النفسي الموجب للعلم ، وهو يوجب العلم ببدء الخلق ( وأما الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق ) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً ، وتحصل من هذا القدر بأنه « ينشىء » فإن قيل : قال في هذه الآية : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وقال في الأولى : { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } ( فما فائدته ) .
فالجواب : فيه فائدتان :
أحدهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام ، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إيه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده ( منه ) فتم علمه ( ب ) أن الله على كل شيء قدير ، أن كل شيء من الله ، فقال عند تمام الدليل : إن الله على كل شيء قدير ، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة .
الفائدة الثانية : أن العلم الأول أتم ، وإن ( كان ) الثاني أعم ، وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً به ، بدليل قولك لمن يحمل مائة مَنٍّ أنه قادر عليه ، ولا يقول : إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشر ( أمنات ) يقول ذلك سهل يسير ، فنقول كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور ، وفنس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة .
قوله : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة } ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو النَّشَاءةَ ، بالمد هنا ، والنجم ، والواقعة والباقون بالقص ، وهما لغتان كالرأفة والرآفة ، وانتصابهما على المصدر المحذوف الزوائد والأصل : الإنشاءة ، أو على حذف العامل ، أي ينشىء فتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ ، وهي مرسومة بالألف وهو يقوي قراءة المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثُها مبتدئاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً .
وقوله : « ثم يُعِيدُه » ، { ثم الله ينشىء } مستأنفات من إخبار الله تعالى ، فليس الأول داخلاً في حيز الرؤية ، ولا الثاني في حيز النظر ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
قوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } ، قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه ( الصلاة و ) السلام عنه تعالى : « سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي » ؛ لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب يسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد ، وعقبه بالرحمة فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده ، وهذا يحقق قوله عليه ( الصلاة و ) السلام عنه : « سبقت رحمتي غضبي » ، وذلك ان الله تعالى حيث كان المقصود ذكر العذاب ، لم يخصه بالذكرن بل ذكر الرحمة معه ، فإن قيل : إن كان ذكر هذه الآية لتخويف العاصي ، وتفريح المؤمن ، فلو قال : يعذب الكافر ويرحم المؤمن لَكَانَ أدخل في تحصيل المقصود .
وقوله : { يعذب من يشاء } لا يرهب الكافر ، لجواز أن يقول : لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابي .
فالجواب : هذا أبلغ في التخويف لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته ، وأنه إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه إذا شاء تعذيب الكافر فلزم منه الخوف العام بخلاف ما لو قال : يعذب العَاصي ، فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يبعد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه ، وإذا لم يبعد هذا فنقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن ( لا ) يحصل في صولة أخرى .
ومثاله إذا قيل : إن الملك يقدر على ضرب المخالفين ، ولا يقدر على ضرب المطيع فإذا قال : من خالفني أضربه يقع في وهم المخطاب أنه لا يقدر على ضرب المطيع ، فلا يقدر أيضاً عليّ ( لكوني مثله ) ، وفيه فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً .
قوله : « وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ » أي تُرَدُّونَ ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء ، قال الفراء معناه : ولا من في السماء بمعجز ( أنْ عَصَى ) كقول حَسَّانَ :
4028 - فَمَنْ يَهْجُوا رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... ويَمْدحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أراد : ومن يمدحه وينصره ، فأضمر « مَن » يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض ، ولا أهل السماء في السماء يعني ( على ) أن { من في السموات } عطف على « أنتم » على أصله ، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ ، ويبقى صفته .
قال قطرب : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها ، كقول القائل : ( لا ) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض } [ الرحمن : 33 ] ، أي على تقدير أن يكونوا فيها ، وأبعد من ذلك من قدره موصولين محذوفين؛ أي ) وما أنتم مبعجزين من في الأرض من الجن والإنس ، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها ( و ) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أين فائتين ما يريد الله بكم .
فصل
اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه ، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال : { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } ، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء ، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض ( لم ) تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ - ، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب ، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب ، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه ، وكلاهما محال فلهذا قال : { وما لكم من دون الله من ولي } يشفع { ولا نصير } يدفع . فإن قيل : ما الحكمة في قوله : { وما أنتم بمعجزين } ولم يقل : « ولا تعجزن » بصيغة الفعل؟
فالجواب : لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحة فإن من قال : إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه انه ليس بخائط ، وقدم « الأرض » على « السماء » ، و « الولي » على « النصير » ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض ، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض ، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة ، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملكن وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك قدم الأرض على السماء ، والولي على النَّصِير .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ } أي بالقرآن وبالبعث { أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } يوم القيامة فإن قيل : هلا اكتفي بقوله : « أَولَئكَ » مرة واحدة؟
فالجواب : أن لك لِفائدة وهو أنه لو قال أولئك يئسوا وهم في عذاب أليم ذهب ( ذاهب ) إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم ، فلا يوجد المجموع إلا فيهم . ( و ) أضاف الرحمة إلى نفسه في قوله تعالى : { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } وأضاف اليأس إليهم بقوله : « يَئٍسُوا » إعلاماً لعباده بعُمُومِ رحمته .
قوله تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } العامة على نصبه والحسن وسالم الأفْطَس برفعه وتقدم تحقيق هذا . هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة « إبراهيم » صلوات الله عليه ، ثم عاد إلى قصة « إبراهيم » فقال تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } . لما أقام إبراهيم صلوات الله عليه بالبرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم { اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } فإن قيل : كيف سمى قولهم : اقتلوه جواباً مع أنه ليس بجواب؟
فالجواب عند من وجهين :
أحدهما : أنه خرج مَخْرَجَ كلام متكبر ، كما يقول المَلِكُ لرسول خَصْمِهِ : جوابكُمُ السيفُ ، مع أن السيفَ ليس بجوابِهِ وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف .
وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان ( ضلالتهم ) وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جوابٌ أصلا ، وذلك أن من لا يجيبُ غيره ويسكت لا يعلم ( أنه لا يقدر أم لا ) لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات ، وأما إذا أجاب بجوابٍ فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه .
فصل
« أو » تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول ، كما يقال : « زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ » ، ويقال : هذا إنسان أو حيوان ، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان ، ولايصح أن يقال : « هذا حيوان أو إنسان » إذ يفهم منه أن يقول : هذا حيوان ، فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان ، وهذا فاسد ، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل على القتل ، فقوله : « اقتلوه أو حرقوه » كقولك : هذا إنسان أو حيوان .
فالجواب عن هذا من وَجْهَيْنِ .
أحَدهمَا : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك : أعطه ديناراً أو دينَارَيْنِ .
قال تعالى : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [ المزمل : 2 - 4 ] فكذا هاهنا قال : اقتلوه أو زيدواعلى القتل لأن التحريق قتلٌ وزيادة .
الثاني : سلمنا ما ذكرتم ، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض إلى القتل ، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال : احترق فلانٌ ، وأحرق وما مات .
فكذلك هاهنا قال : اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعَذَّبُوه بالنار ، فإن ترك مقالته فخلو سبيله وإن أصرَّ فاتركوه في النار .
قوله تعالى : { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } ، قيل : بردت النار وقيل : خلق في إبراهيم صلوات الله ( وسلامه ) عليه كيفية اسْتَبْرَدَتِ النارَ . وقيل : ترك إبراهيم ( على ) ما كان عليه ( والنار على ما كانت عليه ) وَمنع أذى النار عنه ، والْكُلّ ممكنٌ والله قادر عليه .
قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك « آية للعالمين » في إنجاء نوح صلوات الله ( وسلامه ) عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع ، فما الحكمة؟
فالجواب : إن إنجاء السفينة شيء يتسع له العقول ، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان السفينة عن المهلكات كالرياح ، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا : « آيةٌ لِلْعَالِمِينَ » وقال هنا « لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » فخص الآيات بالمؤمنين؟
فالجواب : أن السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد ، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر ( لمن بعده ) إلا بطريق الإيمان والتصديق ، وفيه لطيفة ( وهو ) أن الله تعالى لما بَرَّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه ، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم ، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة ، فقال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، فإن قيل : لم قال هناك : « جَعَلْنَاها » ، ( وقال هنا جَعَلْنَاهُ ) ؟
فالجواب : لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ، ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح ( سفهاً ) فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية ، وأما تبريد النار فهو في نفسه ( آية ) إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آيةً .
قوله : « إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ » في « ما » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، و « أَوْثَانًا » مفعول ثان ، والخبر « مَوَدَّةُ » في قراءة من رفع كما سيأتي ، والتقدير : إنْ الذي اتَّخَذْتُمُوهُ أوْثَاناً مودةٌ أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب « مَوَدَّةً » أي الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا تنفكم ، أو يكون « عليكم » لدلالة قوله : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } .
والثاني : أن تجعل « ما » كافة ، و « أوثاناً » مفعول به ، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد أو لاثنين والثاني هو { مِّن دُونِ الله } فمن رفع « مودة » كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة ، أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة « لأوثاناً » ، أو مستأنفة ، ومن نصب كانت مفعولاً به ، أو بإضمار « أعْنِي » .
الثالث : أن تجعل « ما » مصدرية ، وحينئذ يجوز أن تقدر مضافاً من الأول أي أن سبب اتخاذكم أوثاناً من دون الله ( مودة فيمن رفع مودة ، ويجوزأن لا يقدر بل يجعل نفس الاتحاد ) هو المودة مبالغة ( و ) في قراءة من نصب يكون الخبر محذوفاً على ما مَرَّ في الوجْهِ الأوّل .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع « مَوَدَّةُ » غير منونة ، وجر « بَيْنِكُمْ » ، ونافع وابن عامِرٍ وأبو بكر بنصب « مَوَدَّةً » ( منونة ونصب « بَيْنَكُمْ » وحمزة وحفص بنصب « مودةً » ) غير منونة وجر بَيْنِكُمْ ، فالرفع قد تقدم ، والنصب أيضاً تقدم فيه وجهان . ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً على المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف كقولهم : « يا سارقَ الليلةَ أهْل الدَّارِ » من صبه فعلى أصله ، ونقل عن عاصم أنه رفع « مودة » غير منونة ، ونصب بينكم وخرجت إضافة « مودة » للظرف ، وإنما بني لإضافته إلي غير متمكن كقراءة : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } بالفتح إذا جعلنا ( بَيْنَكُمْ ) فاعلاً ، وأما « في الحياة » ففيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه هو وبينكم متعلقان « بمودة » إذا نونت جاز تعلقها بعامل واحد لاختلافهما .
الثاني : أن يتعلقا بمحذوف على أنهما صفتان ل « المودة » .
الثالث : أن يتعلق « بَيْنِكُمْ » « بِمودّة » و « في الحياة » صفة لمودة ، ولا يجوز العكس لئلا يلزم إعمال المصدر الموصوف ، والفرق بينه وبين الأول عمل فيه المصدر قبل أن يوصف ، وهذا عمل فيه بعد أن وصف ، على أن ابن عطية جوز ذلك هو وغيره ، وكأنهم اتسعوا في الظرف ، فهذا وجه رابع .
الخامس : أن يتعلق « في الحياة » بنفس « بينكم » لأنه بمعنى الفعل ، ( إذ ) التقدير : اجتماعكم ووصلكم .
السادس : أن يكون حالاً من نفس « دينكم » .
السابع : أن يكون « بيْنكم » صفة المودة و « في الحياة » ، حال من الضمير المستكن فيه .
الثامن : أن يتعلق « في الحياة » « باتخذتم » على أن يكون « ما » كافة و « مودة » منصوبة ، قال أبو البقاء : لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة ( بالخبر ) .
قوله : « وقال » يعني إبراهيم { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم } ، فعلى قراءة رفع « مودة » وخفض « بينكم » بالإضافة يكون المعنى : اتخذتم من دون الله أوثاناً وهي مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة ، ومن خفض « مودة » من غير تنوين على الإضافة لوقوع الاتخاذ عليها ، ومن نصب « مودة » ونونها ونصب « بينكم » فالمعنى : إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتوادُّونَ على عبادتها ، وتتواصلون عليها في الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ } تتبرأ الأوثان من عبادة عباديها وتتبرأ السادة من الأتباع ، ويلعن الأتباع القادة .
ومأواكم النار جميعاً ، العابدون والمعبودون { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .
فإن قيل : ( قال قبل هذا ) ومأواكم النار ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير على لفظ الواحد .
وقال هنا : { وما لكم من ناصرين } على لفظ الجمع فما الحكمة فيه؟
فالجواب : أنهم لما أرادوا إحراق إبراهِيمَ عليه ( الصلاة و ) السلام ، قالوا : نحن ننصر آلهتنا ، كما قال تعالى ( عنهم ) : حَرِّقُوه وانصروا آلهتكم ، فقال : أنتم ادَّعَيْتُم أن لهؤلاء ناصرينَ فما لكم كلكم أي الأوثان وعبدتهما من ناصرين ، وأما هناك فلم يسبق منهم دعوى النصر فنفى الجنس بقوله : « ولا نصير » .
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قوله تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي صدقه ، وهو أول من صدق إبراهيم ، وكان ابن أخيه وقال إبراهيم : { إني مُهَاجر إلى ربي } إلى حيث أمرني ربي بالتوجه إليه من « كوثا » وهو من سواد الكوفة إلى « حران ثم إلى الشام ومعه » لوط « وامرأته » سارة « وهو أول من هاجر » . وقال مقاتل : هاجر إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) وهو ابن خَمْسٍ وسبعينَ سنةً . ثم قال : { إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعونه ، و « حكيم » لا يأمرني إلا بما يوافق الحكمة .
( فإن قيل ) : قوله { فآمن له لوط } أي بعد ما رأى منه العجز القاهر ، ودرجة لوط كانت عالية فبقاؤه إلى هذه الوقت مما ينقص من الدرجة ، ألا ترى إلى أبي بكر - رضي الله عنه - لما قبل دين محمد - صلى الله عليه وسلم - كان قبوله قبل الكل من غير سماع تكلم الخصَى ، ولا رُؤية انْشِقَاق القَمَر .
فالجواب : أن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته ، وأما بالوحدانية فآمن مِن حيث سمع مقالته ، ولهذا قال : { فآمن لوط } ، ولم يقل : « فآمن لوط » .
فإن قيل : ما وجه تعلق قوله : { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } بما تقدم؟
فنقول : لما بالغ إبراهيم في الإرشاد ، ولم يهتدِ قومه وحصل اليأس الكلي ، ورأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة ، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسد ، لأنه إذا دام على الإرشاد كان اشتغالاً بما لا ينتفع في علمه ، فيصير كمن يقول للحجر صدق ، وهو عبث والسكوت دليل الرضا فيقال : إنه صار منا ، ورضي بأفعالنا ، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } ولم يقل : « مهاجر إلى حيثُ أمرني ربي } مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة .
فالجواب : أن قوله { إلى ربي } ليس في الإخلاص ، كقوله : » إلَى رَبِّي « لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى موضع ثم إن واحداً منهم عاد إلى ذلك الموضع لغرض ( في ) نفسه يصيبه ، فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه ، وقال : { مهاجر إلى ربي } يعني : توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة ، إنما طلب لله .
قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة } ، قِيلَ : إن الله لم يبعث نبياً بعد » براهيم « إلا من نَسْلِهِ ، { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا } وهو الثناء الحسن ، وكل الأديان يقولون به ، وقال السدي : هو الولد الصالح ، وقيل : إنه رأى مكانه في الجنة { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس : » مثل آدم ، ونوح « وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيداً فريداً ، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته ، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم » آزر « بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين ، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب ، وكان أولاً لا جاه له ، ولا مال ، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدَدَهُ حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلبٍ حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار ( بحيث تقرن ) الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة ، وصار معروفاً وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم :
{ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] ، هذا الكلام لا يقال إلا في مخمول من الناس .
فإن قيل : إنَّ إسماعيلَ كان من أولاده الصالحين ( وكان قد ) سلم لأمر الله بالذبح ، وانْقَادَ لحكم الله ولم يذكر .
فالجواب : هو مذكور في قوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } ( و ) لكن لم يصرح باسْمِهِ؛ لأنه كان بين فضله معه بهبته الأولاد والأحفاد ، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر ، ومن الأحفاد واحداً كما يقال القائل : إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء ، والملك الفلاني ، والأمير الفلاني ، ولا يعدد الكل لأنه ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصه ، ولولا ذكر غيره لفهم منه التعديد ، واستيعاب الكل فيُظَنّ أنه ليس معه غير المذكور .
فإن قيل : إن الله تعالى لما جعل في ذريته النبوة أجابه لدعائه ، والوالد يجب أن يسوي بين ولده فكيف صارت النبوة في ولد « إسحاق » أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل؟ فالجواب : أن الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى ( يوم ) القيامة قسمين والناس أجمعين ، فالقِسْم الأول من الزمان بعث الله تعالى ( فيه ) أنبياء فيهم فضائلُ جمّة ، وجاءوا تترى واحداً بعد واحد ، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام ، ( ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده إسماعيل واحداً اجتمع فيه ما كان فيه وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد عليه السلام ) وجعله خاتم النبيين ، وقد دام الخلق على دين إسماعيل أكثر من أربعة آلاف سنة ، ولا يَبْعُدُ أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
قوله تعالى : « وَلوطاً » إعرابه كإعراب إبراهيم { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ } قرأ أبو عمرو ، وحمزة والكسائي وأبو بكر « أَئِنَّكُم » بالاستفهام ، وقرأ الباقون بلا استفهام ، واتفقوا على استفهام الثانية « لَتَأتُونَ الفاحشة » وهو إتيان الرجال ، { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } يجوز أن تكون استثنافية جواباً لمن سأل عن ذلك وأن تكون حالية أي مبتدعين لها .
فإن قيل : قال إبراهيم لقومه : « اعْبدُو اللَّهَ » ، وقال لوطٌ لقومه هاهنا : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة } ولم يأمرهم بالتوحيد ، فما الحكمة؟
فالجواب : انه لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم كان لوط في زمن إبراهيم فلم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع الرسول لا بدّ أن يقول ذلك فحكاية لوط وغيرها هاهنا ذكرها الله على سبيل الاخْتِصَار فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة ، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد ، وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال : { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } [ هود : 61 ] ؛ لأن ذلك قدأتى به إبراهيم ، وسبقه فصار كالمختصِّ به ، وأما المنعُ من علم قوم « لوط » فكان مختصاً « بلوط » فذكر كل واحد بما اختص به ، وسبق به غَيْرَهُ .
فصل
دلت الآية على وجوب الحد في اللّواطة ، لأنه سماها فاحشةً ، وقد ثبت أن إتيان الفاحشة يوجب الحدّ ، وأيضاً أن الله تعالى جعل عذاب من أتاها إمطارَ الحجارة عليهم عاجلاً وهو الرَّجْمُ . وتقدم الككلام على قوله : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ } .
قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل } ، قيل : كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم ، وقيل : يقطعون سبيل النسل بإتيان الرجال ، كقوله : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء } [ الأعراف : 81 ] [ النمل : 55 ] ، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } قال أبو العباس المَقَّرِيّ . ورد لفظ النادي في القرآن بإزاء معنيين :
الأول : النادي مجلس القوم المحدد فيه لهذه الآية .
والثاني : بمعنى الناصر ، كقوله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } [ العلق : 17 ] ، أي ناصره يعني أبا جهل .
واعلم أن النادي ( والنَّديّ ) والمُنْتَدَى مجلس القوم ومُتَحَدَّثُهُمْ ، روى أبو صالح مولى أُمِّ هانىء بنت أبي طالب « قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : { وتأتون في ناديكم المنكر } قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال : كانوا يخذُفُونَ أهلَ الطرق ، ويسخرون منهم . » وروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى ، فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفُوه فأيهم أصابه كان أولى به . وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثةَ دراهم ، ولهم قاضي بذلك ، وقال القاسم بن محمد : كانوا يتضارطون في مجالسهم .
وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم .
وعن عبد الله بن سلام : يَبْزُقُ بعضُهم على بَعْض . وعن مكحول قال : من أخلاق قوم لوط مضغ العِلْكِ ، وتطريق الأصابع بالحِنَّاء ، وحل الإزار ، والصَّفيرُ ، والخَذْفُ ، واللُّوطِيَّةُ .
( قوله ) : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } ، لما أنكر عليهم « لوط » ما يأتون به من القبائح إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء { ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط : { رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين } بتحقيق قولي في العذاب .
فإن قيلَ : قال قوم « إبراهيم » اقتلوه أو حرّقوه ، وقال قوم لوط { ائتنا بعذاب الله } وما هددوه ( مع ) أن « إبْرَاهِيمَ » كان أعظم من « لوط » فإن لوطاً كان من قومه .
فالجوابُ : أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله : « لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ ، ولا تُغْنِي » ، والقدح في الدين صعب ، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق ، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم ، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا : إنك تقول : إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول : لا نعذب فإن كنت صادقاً فتِنَا بالعذَابِ . ؟
فإن قيل : إن الله قال في موضع آخر : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ } [ النمل : 56 ] .
وقال هنا : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا } فكيف الجمع؟
فالجوابُ : أن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا ( أولاً ) ائتنا ( ثم ) لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا : « أخرجوا » . ثم إنَّ لوطاً لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله وذكرهم بما لا يحب الله فقال « رب انصرني على القوم المفسدين } ( فإن الله لا يحب المفسدين ) حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ .
واعلم أن كُلَّ نبي من الأنبياء ما طلب هلاكٌ قَوْمه إلا إذا علم أن عدمَهُمْ خيرٌ من وجودهم ، كما قال نوحٌ { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] ، يعني : أن المصلحة إما أن تكون فيهم حالاً ، أو بسببها مآلاً ولا مصلحة فيهما ، فإنهم ضالون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون أولادهم من صغرهم بالامتناع عن الأَتباع وكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال ، واشتغلوا بما لا يُرْجَى منهم ولد صالح يعبد الله فطلب المصلحة حالاً ومآلاً ، فعدمهم صار خيراً ، وطلب العذاب .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قوله ( تعالى ) : { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } من الله بإسحاقَ ويعقوبَ { قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية } يعني قوم لوطِ { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } . « قَالَ » إبْراهيم { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } ، قالت الملائكة : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا } ويأتي بقية الكلام على ذلك .
قوله : { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ } تقدم نظيرها إلا أن هنا زيدت « أن » وهو مطّرد تأكيداً .
اعلم أنه لما دعا لوطٌ على قومه بقوله : « رب انصرني » استجاب الله دعاءه ، وأمره ملائكته بإهلاكهم وأرلهم مبشرين ومنذرين فجاءوا إبراهيم وبشَّرُوه بذرية طيبة وقالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية يعني أهل سَدُومَ .
« إحداهما » : أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين لكن البشارة إثْرَ الرحمة والإنذار بالهلاك إثْرَ الغضب ، ورحمته سبقت غضبه فقدم البشارة على الإنذار ، وقال : { جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } ثم قال : « إنَّا مُهْلِكُوا » ، « والثانية » : حين ذكروا البشرى ما هلكوا وقالوا : إنا نبشرك بأنك رسول ، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل ، وحين ذكروا الإهلاك هَلَكُوا ، وقالوا : إن أهلها كانوا ظالمين لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض ، والعادل لا يكون عذابه إلا على جُرْمٍ .
فإن قيل : قال في قوم نوح : { فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ العنكبوت : 14 ] ( وقيل : إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل : وهم ظَالِمُونَ ) .
فالجواب : لا فرق في الموضعين في كونهما مُهْلَكِينَ وهم مصرّون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله عن الماضي حيث قال : « فأخذهم » وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وهاهنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا : إنا مهلكوا أهل هذه القرية ، والملائكة ذكرواما يحتاجون إليه في ( إبانة ) حسن الأمر من الله بالإهلاك فقالوا : { إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية } ؛ لأن الله أمرنا؛ وحال ( ما ) أمرنا كانُوا ظالمين فحسن أمر الله عند كل أحد وأما نحن فلا تخبر بما لا حاجة لنا إليه فإن الكلام في الملك بغيْر إذْنِهِ سوءُ أدب فنحن ما احتجنا إلا إلى هذه القَدْر وهو أنهم كانوا ظالمين في وقتنا هذا : وكونهم يَبْقُونَ كذلك فلا حاجة لنا إليه ، ثم إن إبراهيم لما سمع كلامهم قال لهم : { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } إشفاقاً عليه لِيعْلم حاله ، قالت الملائكة : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ } قرأ حمزة والكسائيّ ويعقوبُ « لنُنْجِيَنهُ » - بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد { وأهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرينَ } أي الباقين في العذاب . وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان؛ لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي ، وفي الباقي يقال : فِيمَا غَبَر من الزَّمَانِ أي فيما مضى وقال عليه ( الصلاة و ) السلام « لما سئل عن الماء من السباع فقال : » ولنا ماءٌ غير طهور «
أي بقي فعلى الأول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم : إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ، ثم جرى ( ذكر ) لوط . وقول الملائكة : إنها من الغابرين أي الماضين ذكرهم لا من الذين نحْنُ مِنْهُمْ ، أو نقول المهلك يفنى بمضي زمانه ، والناجي هو الباقي ، ( ف ) قالوا { إنها من الغابرين } أي من الرائحين الماضين ، لا من الباقين المستمرِّينَ وأما على الثاني لما قضى الله على القوم بالهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ينجى منه ، فقالوا : إنا نُنَجِّي لوطاً وأهله ، وأما امْرَأَتُهُ فهي من الباقين في الهَلاَكِ .
قوله : { وَلَمَّآ ( أَن ) جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً } أي إنهم من عند غبراهيم جاءوا إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا في أحسن صورة والقوم كما عرف حالهم « سِيءَ بِهِمْ » أي جاءه ما ساءه وخاف ، ثم عجز عن تدبيرهم فحزن { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } كناية عن العجز في تدبيرهم قال الزمخشري : يقال : طال ذَرْعُهُ وذراعه للقادر ، وضاق للعاجز ، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً آخر معقولاً وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ، ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان فكأن الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق ، ويُقال في الحزين ضاق ذَرْعُهُ والغضب والفرح يوجبان انبساط الرُّوحِ فيبسط مكانه وهو القلب ، ويتسع فيقال : طال ذرْعه ، ثم إن الملائكة لما رأوا أول الأمر ، وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا : لا تخف من قومك علينا ولا تحزن بإهلاكنا إياهم { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } ، وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه بطول رَوْعه .
قوله : « إنَّا مُنَجُّوكَ » في الكاف وما أشبهها مذهب ، مذهب سيبويه : أنها في محل جر ، ومذهب الأخفش وهِشام أنها في محل نصب . وحذف النون والتنوين لشدة اتّصال الضَّمير .
وقد تقدمت قراءتا التخفيف والتثقيل في « لننجينه » مُنَجُّوك « في الحِجْرِ » .
قوله : إنَّا مُنْزِلُونَ « ، قرأ ابن عامر بالتشديدن والآخرون بالتخفيف ، وقرأ ابن مُحَيْصِن » رُجزاً « بضم الراء ، والأعمش وأبو حيوة » يَفْسِقُونَ « بالكسر .
( فإن قيل ) : قال هنا : » إنَّا مُنَجُّوكَ « وقال لإبراهيم : » لنُنَجِّيَنَّهُ « - بصيغة الفعل فما الحكمة؟
فالجواب : ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ، ولا تصل إلى أكثرها ، وما أوتي البشر من العلم إلا القليل ، والذي يظهر ( هاهنا ) أن هانك لما قال لهم إبراهيم : { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم ، وهاهنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة ( قالوا ) إنَّا مُنَجُّوكَ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى : » إنَّكَ مَيِّتٌ « لضرورة وقوعه .
فإن قيل : ما مناسبة قوله : « إنا منجوك » لقوله : { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ } فإن خوفه ما كان على نفسه .
فالجواب : أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا : لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنّنا ملائكة . ثم قالوا له يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابل حزنك نزيل حزنك ، ولا نتركك تفجع في أهلك ، فقالوا : { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } .
فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك . فكيف كانت من الغابرين معهم؟
فالجواب : أن الدالّ على الشر كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله ، وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم ، ثم إنهم بعد بشارة « لوط » بالتنجية ذكروا أنهم مُنْزِلُونَ على أهل هذه القرية العذاب .
واختلفوا في ذلك ، فقيل : حجارة ، وقيل : نار ، وقيل : خَسْف ، وعلى هذا يكون قولهم : { رِجْزاً مِّنَ السمآء } بمعنى أن الأمر من السماء بالخسف والقضاء به من السماء ، واعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على ( نمط ) كلامهم مع إبراهيم ، فقدموا البشارة على إنزال العذاب ، فقالوا : « إنا منجوك » ثم قالوا : « إنا مُنْزِلُونَ » ولم يعللوا التنجية ، فلم يقولوا : إنا منجوك لأنك نبي أو عابدٌ ، وعللو الإهلاك ، فقالوا : { بما كانوا يفسقون } كقولهم هناك : { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } .
قوله : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَة } فيها وجهان :
أحدهما : أن بعضها « باقٍ » وهو آية باقية إلى اليوم ، والمعنى تركنا من قريات ( قوم ) لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة .
الثاني : أن « من » مزيدة ، وإليه نحا الفراء أي تركناها أية كقوله :
-4029 أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسَا ... أي أمهرتها ، وهذا يجيء على رأي الأخفش ، أي ولقد تركنا القرية . والقربة معلومة ، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك .
فإن قيل : كيف جعل الآية في « نوح » و « إبراهيم » بالنجاة فقال : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 15 ] . وقال : { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار ( إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } [ العنكبوت : 24 ] ، وجعل ههنا الهلاك آية .
فالجواب : أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنفي ذلك الوقت لم يكن إهلاك ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى الجبال بأسرها أمر عجيب غلهي وما به النجاة وهو السفقينة كان باقياً ، والغَرَقُ لم يبق لمن بعده أثره ، فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة « لوط » لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد ، فجعل الآية ههنا البلاد ، وهنا السفينة ، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره موجودة في الإنجاء والإهلاك ، فذكر من كل باب آية ، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة ، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ، ورحمته سابقة .
فإن قيل : اما الحكمة في قوله في السفينة « جعلناها آية » ، ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة؟
فالجواب : أنّ الأإنجاء بالسفينة أمر يسع له كل العقل وقد يقع في ذهن جاهل أن الإنجاء لا يفتقر إلى أمر آخرَ ، وأما الآية ههنا الخَسْفُ ، وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها ، وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر مخصصة بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل ، أن يقول هذا أمر يكون كذلك ، وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك ، فيقال له : فلو دام الماء حتى ينفذ زادهم كيف كان حصل لهم النجاة؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصبة ، وكيف تكون أحوالهم؟
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك : « لِلْعَالِينَ » ، وفي قوله ههنا : « لِقَوْم يَعْقِلُونَ » ؟
فالجواب : أن السفينة ( موجودة ) معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حال نوح ، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ، فلا يثق أحدٌ بمجرد السفينة ، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله طالباً النجاة ، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليها إلا من مرّ بها ، ويصل إليها وويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله فإرادته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان ، قال ابن عباس : الآية البينة : آثار منازلهم الخربة . وقال قتادة : هي الحدارة التي أهلكوا بها أبقاها الله ( تعالى ) حتى أدركها أوائل هذه الأمة . وقال مجاهد : هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
قوله تعالى : « وإلَى مَدْيَنَ » أي وأرسلنا ، أو بعثنا إلى مدين أخاهم « شعيباً » بدل ، أو بيان ، أو بإضمار : أعني ، قيل : مدين : اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة ، كتَمِيم ، وقيسٍ وغيرهما ، وقيل : اسم ما نسب القوم إليه فاشتهر في القوم ، والأول أظهر ، لأن الله تعالى أضافه إلى مدين بقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } ولو كان اسم الماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية فالأصل في الإضافة التغاير حقيقة وقوله : « أخاهم » ، قيل : لأن شعيباً كان منهم نسباً .
فإن قيل : قال الله ( تعالى ) في « نوح » : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } [ العنكبوت : 14 ] فقدم نوحاً في الذِّكْرِ وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ، ولوط ، وههنا ذكر القوم أولاً ، وأضاف إليهم أخاهم « شعيباً » فما الحكمة؟
فالجواب : أن الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن الرسل لا تبعث إلا غير معينين ، وإنما تبعث الرسلإلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل إليهم من يختاره ، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها ، فعرفوا بالنبي ، فقيل : قوم نوح ، وقوم لوط ، وأما قوم « شعيب » و « هود » و « صالح » فكان لهم نسبٌ معلوم اشترهوا به عند الناس فجرى الكلام على أصله ، وقال الله : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } ، { وإلى عاد أخاهم هوداً } فإن قيل : لم يذكر عن « لوط » أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد ، وذكر عن شعيب ذلك .
فالجواب قد تقدم وهو أن « لوطاً » كان من قوم « إبْرَاهِيمَ » ، وفي زمانه ، وكان إبْراهيمُ سبقه بذلك ، واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق عن « إبراهيم » فلم يحتج « لوطٌ » إلى ذكره ، وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها ، وإن كان هو بدأ يأمر بالتوحيد ، ( إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلاماً في التوحيد ، وأما « شعيب » فكان بعد انقراض ذلك الزمان ، وذلك القوم ، فكان هو أصلاً في التوحيد ) فبدأ به وقال اعبدوا الله .
قوله : { وارجوا اليوم الآخر } ، قال الزمشخري : معناه افعلوا فعل من يَرْجُو اليومَ الآخر؛ إذ يقول القائل لغيره : كن عاقلاً ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً ، فقوله : { وارجوا اليوم آلآخِرَ } بعد قوله : « واعْبُدُوا اللَّهَ » يدل علي التفضل لا على الوجوب .
قوله : { وارجوا اليوم الآخر } ، تقدم الكلام عليه ، ونصب « مفسدين » على المصدر ، كقول القائل : اجلس قعوداً .
قوله : { فكذبوه فأخذتهم الرجفة } .
فإن قيل : ( ما الحكمة ) فيما حكاه الله عن شعيب من أمر ونهي ، فالأمر لا يكذب ، ولا يصدق ، فإن قال لغيره اعبد الله لا يقال له : كذبت؟
فالجواب : كان شعيب يقول : الله واحد فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرم فلا تقربوه ، وهذه فيها إخبارات ، فكذبوه بما أخبر به .
( فإن قيل هنا ) قال في الأعراف : « فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ » وقال في هود : « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ » والحكاية واحدة .
( فالحواب ) : لا تعارض بينهما ، فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة ، قيل : إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ، فرجفت قلوبهم ، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه حخيث قال : « فأخذتهم الصَّيْحَةُ » قال : « في دِيَارِهِمْ » وحيث قال : « فأخذتهم الرجفة » قال في « دَارِهِمْ » ؟
فالجواب : أنّ المراد من الدارِ هو الديار ، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع ، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمِنَ ( مِنَ ) الالْتِباسِ ، وإنما اختلف اللفظ لِلطيفة وهي أن اللطيفة هائلة في نفسها ، فلم يحتج إلى تهول بها ، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها ولكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى يعلم هيئتها ، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يُحْتَجْ إلى معظِّمٍ لأمرها ، وقيل : إن الصيحة كانت أعظم حيث عمت الأرض والجو والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هنا ، وهذا ضعيف لأن لادار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم أو دارهم .
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قوله تعالى : « وَعَاداً وَثمُوداً » نصب « بأَهْلَكْنَا » مقدراً ، أو عطف على مفعول « فَأَخَذَتْهُمْ » أو على منصوب « ولقد فتنا » أول السورة ، وهو قول الكسائي . وفيه بعد كثير وتقدم تنوين « ثمود » ، وعدمه في هود ، وقرأ ابن وثاب : « وعادٍ وَثُمُودٍ » بالخفض عطفاً على « مَدْيَنَ » عطف لمجرد الدلالة ، وإلا يلزم أن يكون شعيبٌ مرسلاً إليهما ، وليس كذلك .
قوله : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } أي ما حلَّ بهم وقرأ الأعمش : « مَسَاكِنُهُم » بالرفع على الفاعلية بحذف « من » . ثم ( بين ) سبب ( ما ) جرى عليهم فقال : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } أي عن سبيل الحق ، وهو عابدة الله « وكَانُوا مُسْتَبصْرِينَ » قال مقاتل والكلبي وقتادة كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى ، وكانوا على الباطل ، والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين وقال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر . وقيل : كانوا مستبصرين بواسطة الرسل ، يعني لم يكن لهم في ذلك عذر لأن الرسل أوضحوا السبل .
قوله : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } عطف على « عاداً وثموداً » أو على مفعول : « فصدهم » ، أو بإضمار : اذكروا ، { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات } بالدلالات كما قال في عاد وثمود « وكانوا مستبصرين » أي بالرسل . { فاستكبروا فِي الأرض } أي عن عبادة الله ، فقوله « في الأَرْضِ » إشارة إلى قلة عقلهم فاسْتكبارهم ، لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين ، ومن في السماء أقواهم ، ثم إن « من في السماء » لا يستكبرون على الله بالعبادة فكيف { من في الأرض } ، { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } أي فائتين من عقابنا .
قوله : « فَكُلاًّ » منصوب « بأخذنا » و « بذَنْبِه » أي بسببه أو مصاحباً لذنبه ، { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } وهم قوم لوط والحاصب : الريح التي تحمل الحصباء وهي الحصا الصِّغَارُ وقيل : انت حجارة مَحْمِيَّة تقع على واحد منهم وتَنْفُذُ من الجانب الآخر ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } يعني ثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } وهم « قارون » وأصحابه ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } يعني قوم نوح وفرعون وقومه .
وقوله : « مَنْ أَغْرَفْنَا » عائده محذوف لأجل سنة الفاصلة ، ثم قال : { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } يعني لم يظلمهم بالهلاك وإنما ظلموا أنفسهم بالإشراك .
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
قوله ( تعالى ) : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله ( أَوْلِيَآءَ ) } يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها { كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } لنفسها « بَيْتاً » تأوي إليه ، وإن بيتها في غاية الضعف والوهي لا يدفع عنها حراً ولا برداً كذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفاً ولا ضرّاً { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت ( لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . واعلم أنه تعالى مثل اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذِ العنكبوت ) نسجه بيتاً ولم يمثل « نسجه » لأن « نسجه » له فائدة لولاه لما حصل ، وهو اصطيادها الذباب من غير أن يفوته ما ( هو ) أعظم منها واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة ( التي ) هي خير وأبقى ، فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت . وقوله : { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك ، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يَخْرُبُ بأدنى شيء ، ولا يبقى منه عينٌ ولا أثر ، فذلك عملهم ، { لو كانوا يعلمون } . ( وَ ) العنكبوت معروف ، ونونه أصلية ، . والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعه على « عناكب » وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث ، فمن التأنيث قوله : « اتخذت بيتاً » ومن التذكير قوله :
4030 - عَلَى هَطَّالِهِمْ مِنْهُمْ بُيُوتٌ ... كَأَنَّ العَنْكبُوت هو ابْتَنَاهَا
وهذا مطرد في أسماء الأجناس يذكر ويؤنث .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابه محذوف أي لما اتخذوا من يضرب له بهذه الأمثال لِحَقَارَتِهِ ومتعلق يعلمون لا يجوز أن يكون من جنس قوله : { وإنّ أوهنَ البيوت } لأن كل أحد يعلم ذلك ، وإنما متعلَّقَهُ مقدر من جنس ما يدل عليه السياق أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم .
قوله : { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ } ، قرأ أبو عمرو وعاصم « يَدْعُون » بياء الغيبة ، والباقون بالخطاب . و « ما » يجوز أن تكون موصولة منصوبة ب « يَعْلَمُ » أي يعلم الذين يدعونهم ويعلم أحوالهم ، و « من شيء » مصدر ، وأن تكون استفهامية ، ويحينئذ يجوز فيها وجهان أن تكون هي وما عملت فيها معترضاً بين قوله : « يَعْلَمُ » وبين قوله : { وَهُوَ العزيز الحكيم } كأنه قيل : أَيُّ شيءٍ تدعون من دون الله .
والثاني : ان تكون متعلقة « لِيَعْلَمَ » فتكون في موضع نصب بها ، وإليه ذهب الفارسي وأن تكون نافية و « مِنْ » في « مِنْ شَيْءٍ » مزيدة في المفعول به كأنه قيل : ما تدعون من دون الله ما يستحق أن يطلق عليه شيء .
قال الزمخشري : هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء يعني ما يدعون ليس بشيء ، وهو عزيز حكيم ، فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً وهذا يفهم منه أنه جعل « ما » نافية ، والوجه فيه حينئذ أن تكون الجملة معترضة كالأول من وجهي الاستفهامية ، وأن تكون مصدرية ، قال أبو البقاء : و « شيء » مصدر ، وفي هذا نظر ، إذ يصير التقدير يعلم دعاءكم في شيء من الدعاء .
قوله : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } يجوز أن يكون « نضربها » خبر « تلك الأمثال » و « الأمثال » نعت أو بدل ، أو عطف بيان ، وأن يكون « الأمثال » خبراً ، و « نضربها » حال ، وأن يكون خبراً ثانياً .
فصل
وتلك الأمثال : الأشباه ، والمَثَل : كلام سائغ يتضمن تشبيه الآخر بالأول ، يريد امثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة « نضربها » تَنْبِيهاً للناس ، قال مقاتل : لكفار مكة { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } أي ما يعقل الأمْثَالَ إلا العلماءُ الذين يعقلون عن الله . روى جابر « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } قال : » العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته ، واجتنب سَخَطَهُ «
فصل
روي أن الكفار قالوا : كيف يضرب خالقُ الأرض والسموات الأمثال بالهوامُ والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فقيل : الأمثال تضربها للناس إذْ لم يَكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نُفْرَتَكُمْ مما أنتم فيه لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل ، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب ( بالغيبة ) كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل الغائب وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيبك كمن يقع في ميت يأكل كما ينفر إذا قال له : إنك توجب العقاب ويورث العتاب .
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
قوله تعالى : { خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق } بالحق وإظهار الحق { إِنَّ فِي ذَلِكَ } إن في خلقها « لآيَة لِلْمُؤْمِنِينَ » على قدرته وتوحيده ، فإن قال قائل كيف خص الآية في خلق السماوات والأرض بالمؤمنين مع أَن في خَلْقِهَا آية لكل عاقل كما قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ الزمر : 38 ] وقال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . . لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 4 ] .
فالجواب : خلق السموات والأرض آية لكل عاقل ، وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب ويدل عليه النقل والنقل ، أما النقل فقوله تعالى : { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الدخان : 39 ] أخرج أكثر الناس عن العلم بكونه خلقهما بالحق مع أنه أثبت للكل بأنه خلقهما بقوله : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وأما العقل فَ ( هُوَ أَنَّ ) العاقل أَول ما ينظر إلى خلق السماوات والأرض يعلم أن لها خالقاً وهو الله ، ثم ( من ) يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك بل يقول : إنه خلقهما متقناً محماً وهو المراد من قوله : « بالحق » لأن ما لا يكون محكماً يفسد ويبطل فيكون باطلاً ، وإذا علم أن خالقهما متقناً يقول : إنه قادرٌ كاملٌ ، حيث خلق ، فأحكم ، وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } [ سبأ : 3 ] ولا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ، ولا يعجز عن جمعهما كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات فيجوز بعث مَن في القبور ، وبعثه الرسل ، وهما بالخلق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه الله على أحسن نظامه .
قوله تعالى : { اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } يعني القرآن لتعلم أن « نوحاً » و « لوطاً » وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسلة ، وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة ، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ( وشرّف وكرّم ) .
قوله : { وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } الفحشاء : ما قَبُحَ من الأعمال ، والمنكر ما لا يُعْرَف في الشرع . قال ابو مسعود ، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تهه عن النمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعداً ، وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وَبَالٌ عليه ، ورُوِيَ عن أنس بن مالك قال : « كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ثم ( لا ) يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حالُه فقال : » إنَّ صلاته تهاهُ يوماً « فلم يلبث أن تاب وحَسُنَ حاله »
، وقال ابن عون : معنى الآية : إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء وةالمنكر ما دام فيها ، وقيل : المراد بالصلاة القرآن كما قال : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به } [ الإسراء : 110 ] ، أي بقراءتك ، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة ، فالقرآن يَنْهَاهُ عن الفحشاء والمنكر .
قوله : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي ذكر الله أفضل الصناعات ، قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بخيرِ أَعْمَالِكُمْ وأزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وأرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ وخَيْرٍ منْ إعَطاءٍ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأن تَلْقوا عَدُوَّكُمْ فَتَضْربُوا أعْنَاقَهُمْ ويَضْرِبُوا أعْنَاقَكُمْ » قالوا : ماذا يا رسول الله؟ قال : ذِكْرُ الله وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيذ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال : الذَّاكِرُونَ الله كثيراً ، قالوا يا رسول الله : ومِنَ الغازي في سبيل الله ، فقال : لو ضرب بسيفه الكفارَ والمشركين حتى ينكسر أو يَخْتَضِبَ دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منهُ « وروي أبو هريرة قال : » كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طرق مكة مرَّ على جَبلٍ يقال له : حَمْدَان ، فقال : سيروا هذا حَمْدان . سبق المُفْرَدُونَ ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات «
قيل : معنى قوله : { ولذكر الله أكبر } أي ذكر الله إياكم أفضلُ من ذكركم إياه رُوِيَ ذلك عن عبد الله ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويروى مرفوعاً عن موسى بن عُقْبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عطاء في قوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } من أن يَبْقَى معه معصية { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } قال عطاء : لا يخفى لعيه شيء .
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
قوله تعالى : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } أي لا تخاصمهم إلا بالتي هي أحسن أي بالدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه ، وأراد من قبل الجزية منهم لما بين طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب .
قوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء متصل ، وفيه مَعْنَيَانِ .
أحدهما : إلا الظلمة فلا تجادلوهم ألبتة بل جاهدوهم بالسسيف حتى يسلموا أو يُعْطُوا الجزية .
ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر .
والثاني : جادلوهم بغير التي هي أحسن أي أغلظوا لهم كما أغلظوا عليكم ، قال سعيد بن جبير : أهل الحرب ، ومن لا عهد له ، وقال قتادة ومقاتل : نُسِخَتْ بقولِهِ : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] ، وقرأ بن عباس « أَلاَ » حرف تنبيه أي فجادلوهم .
قوله : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } وهذا تبين لمجادلتهم بالتي هي أحسن يريد إذا أخبركم واحٌ منهم ممن قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عله ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ، روى أبو هريرة قال : « كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعِبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تصدقوهم ولا تكذبهم وقولوا : آمنا بالله وما نزل إلينا . . . الآية » وروى معمر عن الزهري أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة فقالك يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الله ) أعلم فقال اليهودي : إنها تتكلم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما حدثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقُوهُم ولا تكذِّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه »
قوله : « وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا » أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب { فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعنى ( مُؤْمِني ) أهل الكتاب عبد الله بن سلام ، ( وأصحابه ) « ومِنْ هَؤُلاَءِ » يعني أهل مكة { مَنْ يُؤْمِنُونُ بِهِ } وهم مؤمنوا أهل مكة { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون } وذلك أن اليهود عرفوا أن محمداً نبي ، والقرآن حق ، فجحدوا ، وقال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني إنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة ، وبإنكارها تلتحقون بهم ، وتبطلون مزاياكم ، فإن الجاحد بآية يكون كافراً .
قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ } أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب .
قوله : « مِنْ كِتَابٍ » مفعول « تتلو » و « من » زائدة و « من قبله » حال من « كتاب » أو متعلق بنفس « تتلو » و « تخطّه بيمينك » أي ولا تكتبه أي لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي قوله : « إذاً لاَرْتاب » جواب وجزاء ، أي لو تلوت كتاباً قبل القرآن أو كنت ممن يكتب لارتاب المبطلون ولشكّ ( المشركون من ) أهل مكة ، وقالوا : إنه يقرأه من كتب الأولين وينسخه منها ، وقال قتادة ومقاتل : المبطلون هم اليهود والمعنى : لشكوا فيك واتهموك ، وقالوا : من الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت .
قَوْلُهُ : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } قرأ قتادة « آيَةٌ » بالتوحيد ، قال الحسن : يعني القرآن ( « آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ » } ، يعني : « المؤمنين » الذين حملوا القرآن ، وقال ابن عباس وقتادة : ( « بل هو » ) يعني : محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون } .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : « الظالمون » ومن قبل قال : الكافرون؟
فالجواب : أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم : إن لكم المزايا فلا تُبْطِلُوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هانك أبلغ فمنعهم عن ذلك لاستنكافهم عن الكفر ، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآيات لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلحقوا في أول الأمر بالمشركين حكماً ، وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين ، كما قال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] فهذا اللفظ هنا أبلغ .
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
وله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } كما أنزل على الأنبياء من قبل .
وقرأ الأخوانِ وابنُ كثير ، وأبو بكر بالإفراد؛ لأن غالب ما جاء في القرآن كذلك والباقون « آيات » بالجمع لأن بعده { قُلْ إِنَّمَا الآيات } بالجمع إجماعاً ، والرسم يَحْتَمِلُهُ .
فصل
اعلم أنهم قالوا : إنك تقول : إنك أنزل إليك الكتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى ، وليس كذلك؛ لأن موسى أُوتِيَ تسع آيات بينات علم بها كون الكتاب من عند الله ، وأنت ما أوتيت شيئاً منها ثم إنه تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها .
قوله : « أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ » هذا جواب لقولهم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } قل : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } ، ففاعل « يكفهم » هو قوله : « أنا أنزلنا » والمعنى : إن كان إنزال الآيات شرطاً في الرسالة فلا يشترط إلا إنْزَالُ « آيةٍ » وقد أنزل القرآن ، وهو آية معجزة ظاهرة كافية . وقوله : « أولم يكفهم » عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية وبيانه أن القرآن أتم من كل معجزة لِوُجُوهٍ :
أحدها : أن تلك المعجزات وجدت وما دامت ، فإن قلب العصا ثُعْبَاناً ، وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر ، فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب ، وأما القرآن فهو باقٍ لو أنكره واحد فيقال له : فَأتِ بآيةٍ من مثله .
الثاني : أن قلب العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان ، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل واحده ، وهنا لطيفه هي أن آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أشياء لا تختص بمكان دونَ مكان ، لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخوف إذا وقع عم ، وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر . وغاص بحر « ساوَةَ » في قطر ، وسقط إيوان كسرى في قطر ( وانْهَدَّت ) الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عاماً .
الثالث : أن غير هذه المعجزة يقول الكفار المعاند هذا سحر ( وعمل بدواء ) والقرآن لا يمكن هذا القول فيه . ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً } أي في إنزال القرآن { لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي تذكير وعظمة لمن آمن وعمل به .
قَوْلُهُ ( تعالى ) : { قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أني رسوله ، وهذا القرآن كتابه ، وهذا كما يقول الصادق إذا كذب ، وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدقه المعاند : « الله يعلمُ صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينك » ، كل ذلك إنذار وتهديد ثم بين كونه كافياً ، بكونه عالماً بجميع الأشياء ، فقال : { يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض } .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه أخر شهادة أهل الكتاب في آخر الوعد في قوله : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] وهنا قدم شهادة أهل الكتاب ، فقال : { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ( ومن هؤلاء من يؤمن به « } [ العنكبوت : 47 ] أي من الكتاب؟
فالجواب : أن الكلام هناك مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ( ثم ) إن شهادة الله أقوى ( في ألزمهم ) من شهادة غير الله ، وهاهنا الكلام مع أهل الكتاب فشهادة الله على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم ، ثم ( إنه ) تعالى لما بين الطريقتين في إرشاد الفرريقين المشركين وأهل الكتاب عاد الكلام الشامل لهما والإنكار العام فقال : { والذين آمَنُواْ بالباطل } ، قال ابن عباس : بغير الله { وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون } .
فإن قيل : قوله { أولئك هم الخاسرون } يقتضي الحصر ، أي من أتى بالإيمان ( بالباطل ) والكفر ( بالله ) فهو الخاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً .
فالجواب : أنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأن المؤمن بما سوى الله مشرك ، لأنه جعل غير الله مثله ، وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله كذلك ، ومن كفر بالله وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجود فوجود العالم من نفسه فيكون قائلاً : بأن العالم واجب الوجود ، والواجب إله ( فَيَكُون قائلاً ) بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به .
فإن قيل : إذا كان الإيما بما سواه كفراً ( به ) فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة ( غير التأكيد ) الذي في قوله القائل ( قم ولا تقعد و » واقتربْ مني ولا تَبْعُدْ « ؟
فالجواب : فيه فائدة ) غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل : أتقولُ بالباطل وتترك الحلق لشأ أن القول بالباطل قيبح .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قوله : « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ » نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } [ القمر : 46 ] وقيل : يوم بدر . ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته { لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } يعني العذاب . وقيل : الأجل بغتة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانه ، وقوله : { وهم لا يشعرون } يحتمل وجهين :
أحدهما : معنى تأكيد قوله : « بغتة » ، كما يقول القائل : أتيته على غفلة منه بحث لم يدرِ .
فقوله : { بحيث لم يدر } أكد معنى الغفلة .
والثاني : أنه يفيد فائدة مستقلة وهي أن العذاب يأتيهم بغتة { وهم لا يشعرون } هذا الأمر ، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً .
قوله : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } ذكر هذا للتعجب ، لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطْمةٍ أو لكمة فيرى في نفسه الجلد ويقول : بسم الله هات ، وأما من توعد بإغراقٍ أو إحراقٍ ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له : هات ما توعدني به فقال ههنا « يستعجلونك بالعذاب » والعذاب بنار جهنم المحيطة ( بهم ) فقوله ( « يستعجلونك بالعذاب » ) أولاً : إخباراً عنهم ، وثانياً : تعجباً منهم .
وقيل : أعادَهُ تأكيداً ، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم فقال : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } .
فإن قيل : لم يخص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلفَ وقُدَّام؟
فالجواب : أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ، ( ونار ) الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإن من دخلها تكون الشعلة قدامَهُ وخلفَه ويمينَه ويَسَارَه ، فأمّا النار من فوق لا تنزل وإنما تصعد من أسفلَ في العادة وتحت الأقدام ، ولا تبقى الشعلة بل تنطفىء الشعلة التي تحت القدم ، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ولم يقل : من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم « ولا من تحتهم » بل ذكر المضاف إليه عند ذكر « تحت » ولم يذكره عند ذكر « فوق » ؟
فالجواب : أن نزول النار من « فوق » سواء كان من ( سميت ) الرأس أو موضع آخر عجيب فلهذا لم يخصه بالرؤوس وأما بقاء النار تحت القدم فهو عجيبن وإلا فمن جوابن القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدّوس . وأما « فوق » فعلى الإطلاق .
قوله : « وَيَقُولُ ذُوقُوا » قرأ نافع وأهل الكوفة « ويقول » بياء الغيبة أي الله تعالى ، أو الملك الموكل بعذابهم ، وباقي السبعة بالنون أي جماعة الملائكة ، أو نون العظمة لله تعالى ، وأبو البَرَهْشَم بالتاء من فوق أي جهنم كقوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وعبد الله وابن أبي عَبْلَةَ : « ويُقَالُ » مبنياً للمفعول ، وقوله : { مَا كُنْتُمْ تَعْمَلَونَ } أي جزاء ما كنتم تعملون لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق إطلاق اسم المُسبَّب على السَّبَب ، فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال .
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
قوله ( تعالى ) : { ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } لما ذكر حال المشركين على حدة ، وحال أهل الكتاب على حدةٍ وجمعهما في الإنذار ، وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم ، وزاد فسادهم ، وسعوا في إيذاء المؤمنين ، ومنعهم من العبادة ، قال مقاتل والكلبي : ( نزلت في ضعفاء ) مسلمي مكة يقول : إن كنتم في ضَيْقٍ بمكة من إظهار الإيمان فاخْرُجُوا منها إلى أرضٍ واسعة ، آمنة ، قال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها ، وقال سعيد بن جبير : إذا عُمِلَ في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة ، وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا ( فإن ) أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تُهَيَّأُ له العبادة ، وقيل : نزلت في قولم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا تخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله هذه الآية ولم يَعْذرهم بتركَ الخروج ، وقال مطرف بن عبد الله : أرضي واسعة : رزقي لكم واسع فاخرجوا .
فصل
قوله : « يا عبادي » لا يدخل فيه الكافر لوجوه :
أحدها : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] والكافر يحب سلطانة الشيطان فلا يدخل في قوله : « يا عبادي » .
وثانيها : قوله تعالى : { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] .
وثالثها : أن العباد مأخوذ من العِبَادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله : « عبادي » وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه .
ورابعها : الإضافة بين الله والعبد بقول العبد إلهي ، وقول الله عبدي .
فإن قيل : إذا كانت « عباده » لا تتناول إلا المؤمنين فما الفادئة في قوله : « الذين آمنوا » مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال : يا أيها المكلفون المؤمنون ، يا أيها الرجلاء العقلاء تتمييزاً بين الكافر والجاهل؟
فالجواب : أن الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال : الأنبياءُ المُكَرَّمُونَ والملائكة المطهَّرُونَ ، مع أن كل نبي مكرمٌ ، وكل ملك مطهرٌ ، فإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرامَ والطهارة ، ومثله قولنا : الله الله العظيم فهاهنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون .
فإن قيل : قوله : « يا عبادي » يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة بالأمر بالعبادة بقوله : « فَاعْبُدُونِ » ؟
فالجواب : فيه فائدتان :
أحدهما : المداومة أي يا من عَبَدْتُمُونِي في الماضي فاعْبُدُوني في المستقبل .
والثانية : الإخلاص أي يا من يعبدني أَخْلِص العمل ولا تَقْبَلْ غيري .
فإن قيل : الفاء في قوله : « فَإِيَّايَ » يدل على أنه جواب لشرطٍ فما ذاك؟
فالجواب : قوله : { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال : إذا كان لا مانع من عبادتي فإياي فاعبدون فهو لترتيب المقتضَى على المقتضي كما يقال : هذا عالمٌ فأكرموه .
فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله : « فَإيَّايَ » وهو لنفسه مستق العبادة ، فقال : « فَاعْبُدُونِ » . قال الزمخشري : « هذا جواب شرط مقدر ، وجعل تقديم المفعول عوضاً من حذفه مع إفادته للاختصاص » . وقد تقدم مُنَازَعُه أبي حيان له في نظيره .
قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } قرأه بالغيبة أبو بكر ، وكذا في الروم في قوله : { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } وافقه أبو عمرو في الروم فقط والباقون بالخطاب فيها . وقرىء يَرْجعثون مبيناً للفاعل .
فصل
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه ، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم بأعمالكم ، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي إذا كانت ( معلقة ) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت } [ الدخان : 56 ] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره ، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } و { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ( يريح من الموت ) فقال تعالى : « فإياي فاعبدون » أي تعلقوا بي ، ولا تتبعوا النفس ، فإنها ذائقة الموت { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام : « المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار » .
قوله ( تعالى ) : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الوجهان المشهوران الابتداء ، والاشتغال ، وقوله : « لَنُبَوِّئَنَّهُمْ » ، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون ، وياء مفتوحة بعد الواو من الثَّوَاءِ وهو الإقامة ، يقال : ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ ، مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي الإنزال أي لنبوئنهم من الجنة غرَفاً .
قوله : « غُرَافاً » على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين « أَثْوَى » أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين؛ لأنَّ « » ثوى « قاصرٌ ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ ، وإما ( على ) تشبيه الظرف المختص بالمبهم كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ . وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ؛ لأن » بوأ « يتعدى لاثنين قال تعالى : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] ، ويتعدى باللام ، قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 26 ] .
وقرىء « لنثوينّهم » بالتشديد مع الثاء المثلثة ، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة ، و « تجري » صفة « لِغُرَفاً » { خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين } وهذا في مقابلة قوله للكفار : { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 55 ]
قوله : « الَّذِينَ صَبَرُوا » يجوز فيه الجر والنصب والرفع كنظائر له تقدمت ، والمعنى : الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعتمدون . قوله : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } جوز أبو البقاء في « كأين » وجهين :
أحدهما : أنها مبتدأ و « لا تحمل » صفتها و « الله يرزقها » خبره و « من دابة » تبيين .
والثاني : أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره « يرزقها » ويقدر بعد « كأين » يعني لأن لها صدر الكلام ، وفي الثاني نظر؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله ، لأن الخبر ( متى كان ) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ . وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة « هود » عند قوله : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] .
فصل
لما ذكر الله { الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ ، ويأتيها رزقها كل يوم .
واعلم أن ( في ) كأين ( أربع لغات غير هذه كائن على وزن راعٍ ، وكَأَى على وزن رَعَى « وكِيءَ » على وزن « رِيعَ » و « كَا » على وزن « رع » ولم يُقْرأ إلا كائن و « كا » قراءة ابن كثير .
فصل
« كأين » كلمة ) مركبة من « كاف التشبيه » و « أن » التي تستعمل استعمال « مَن » و « ما » ركبتا ، وجعل المركّب بمعنى « كم » ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن « كأيّ » مستعمل غير مركب كما يقول القائل : « رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ » ( فقد حذف المضاف إليه ، ويقال : رأيت رجلاً لا كأي رجل ) وحينئذ لا يكون « كي » مركباً . فإذا كان « كأي » ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز ، ( كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ وبَعْلَبَكَّ ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين ( ثَمَّتَ ) .
فصل
روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة . فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال؟ فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ } وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و { لا تحمل رزقها } لضَعفها ، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } حيث ما كنتم « وهو السَّمِيعُ » لأقوالكم : ما نجد ما ننفق بالمدينة ، { العَلِيمُ بما في قلوبكم } .
قال سفيان : ليس شيء مما خلق الله نَجْباً إلا الإنسان والفأرة والنَّمْلَة روى بن عمر قال : « دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطاً من حوائط الأنصار فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقط الرُّطَبَ بيده ويأكل ، فقال : كُلْ يا ابن عمر ، ( قلت : لا أشتهيها يا رسول الله قال : لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده ) فقلت : إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر : لو سألت ربي لأعطاني مثل ملْكِ كِسْرَى وقَيْصَرَ أضعافاً مضاعفة ولكني أجوعُ يوماً وأَشْبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عَمَّرْتَ وبَقِيتَ في أمر الناس يُخْبِّئُونَ رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت : { وكأين من دابة لا تحمل رقها } الآية ، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام » لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّله لَرَزَقكُمْ كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِمَاصاً ، وتروحُ بِطَاناً «
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
قوله تعالى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ » يعني كفار مكة { مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } أي هم يعتقدون هذا فكيف يصدفون عن عبادة الله مع أن من عُلِمَ عظمُتُه وَجَب خدمَتُهُ ولا عظم فوق السماوات والأرض ، ولا حاقرة فوق حقارة الجَمَاد؛ لأن الجمادَ دونَ الحيوان والحيوانَ دونَ الإنسان ، والإنسان دون سكان السماواتِ فكيف يتركون عبادة أعظمِ الموجوداتِ ويشتغلون بعبادة أخسّ الموجودات؟
فصل
لما بين أمر المشرِك مخاطباً معه ، ( ولم ينتفع به ، وأعرض عنه ، وخاطب المؤمنين بقوله : « يا عبادي » وأتم الكلام معه ذكر معه ) ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن ، فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان ولدان ، وأحدهما رشيد ، والآخر مفسد ينصح أولاً المفسد فإن لم يسمع يلتفت إلى الرشيد ويعرض عن المفسد ، ويقول : إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا يكن منك هذا المفسد فيتضمن هذا الكلام نصيحة الرشيد ، وزجر المفسد ، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب الموجب نكاية في قلبه ، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إنَ هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف فيه الفساد من الصلاح ، وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضاً داعياً إلى الرشاد ومانعاً له من الفساد فكذلك قال الله للؤمِنِ العجب منهم إنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله ثم لا يُؤْمِنُونَ .
فصل
ذرك في السماوات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير ، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقةً بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل ولا النهار ، ولا الصيف ولا الشتاء فإذن الحكمة في تحريكهما ( وتسخيرهما ) . واعلم أن في لفظ التسخير دون التحريك فائدة وهي أن التحريك يدل على مجرد الحركة ، وليست مجرد الحركة كافية؛ لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك في ألُوف من السنين ، فالحكمة في تسخيرها تحريكها في قدر ما ينتقل الإنسان آلافاً من الفراسخ ، ثم لم يجعل لها حركةً واحدة ، بل حركات .
إحداها : حركة من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة ، والأخرى : حركتها من المغرب إلى المشرق ويدل عليها أن الهلال يرى في جانب ( المغرب ) على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منها غلى جانب المشرق حتى يُرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشَّمْس ، والشمس على أفق المغرب ، والقمر على أفق المشرق وأيضاً حركة الأوج ، وحركة المائل والتدوير في القمر ، ولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول .